الرجل ولأقطعن من مَاله مَالا عَظِيما فَأقبل إِلَيْهِ فَقَالَ يَا لُقْمَان ذكر لي مَعْرُوفك وَأَنا رجل أسكن كَذَا وَكَذَا من سَاحل الْبَحْر وتجارتي فِيهِ فَإِن رَأَيْت أَن تقرضني قرضا أصبت فِيهِ ثمَّ أؤديه إِلَيْك فعلت قَالَ نعم وَكم تُرِيدُ فَسمى لَهُ فَأكْثر قَالَ نعم أما أَنِّي لست أَسأَلك جميلا حميلا وَلَا آخذ مِنْك رهنا أتأخذه بأمانة الله أَن تُؤَدِّيه إِلَى عَام قَابل فِي هَذَا الْيَوْم قَالَ نعم فَدفع إِلَيْهِ مَا سمى وَكتب عِنْده اسْمه وَاسم أَبِيه ومنزله الَّذِي سمى
فَذهب بِالْمَالِ فَوضع يَده فِيهِ وخلطه بِمَالِه وعزم أَن لَا يُؤَدِّيه إِلَيْهِ وَأدْركَ ابْن للقمان فَقَالَ يَا أَبَت إِنِّي أُرِيد أَرض كَذَا وَكَذَا وَإِن رَأَيْت أَن تَأذن لي فعلت قَالَ نعم يَا بني إذهب فاحمل على دوابك وَشد عَلَيْك ثِيَابك ثمَّ ائْتِنِي أوصيك بوصيتي فَفعل ذَلِك ابْنه ثمَّ أَتَاهُ فَقَالَ قد فعلت يَا أَبَت قد حملت على ظَهْري وشددت عَليّ ثِيَابِي فأوصني قَالَ نعم يَا بني إِن فِي طريقك مفازة فأبكر فِيهَا الدلجة فَإِنَّهُ ستعرض لَك شَجَرَة وَاسِعَة الظل تحتهَا عين فَلَا أعلمن مَا قربت الشَّجَرَة وَلَا نزلت تحتهَا يَا بني إِنِّي أَرْجُو أَن يخْرجك الله مِنْهَا سالما فتأتي حَيّ بني فلَان وهم لنا أصدقاء قد أعلم أَنهم سيكرمونك يَا بني وَفِيهِمْ امْرَأَة شَابة كَرِيمَة الْحسب كَثِيرَة المَال وَقد أعلم أَنهم سيعرضونها عَلَيْك فَلَا أعلمن نكحتها وَلَا ضمنت لشَيْء من أمرهَا يَا بني أَرْجُو أَن يسلمك الله مِنْهَا وَإِن رجلا يسكن سَاحل كَذَا وَكَذَا وَقد أَتَانِي مُنْذُ حِين فاقتطع من مَالِي كَذَا وَكَذَا وَهَذَا اسْمه وَاسم أَبِيه فأته فاقبض مَا عَلَيْهِ وَلَا تبت عِنْده(3/164)
لَيْلَة يَا بني أنظر الَّذِي أوصيك بِهِ فافعله قَالَ الْفَتى نعم قَالَ يَا بني إِن من أفضل مَا أوصيك بِهِ إِن صحبك فِي طريقك هَذَا رجل أكبر مِنْك فَلَا تعصه حَتَّى ترجع إِلَيّ قَالَ أفعل
فَسَار ابْن لُقْمَان حَتَّى انْتهى إِلَى الْمَفَازَة بكر فِيهَا الدلجة فَإِذا هُوَ أبعد من ذَلِك واسحق فَقَامَ قَائِم الظهيرة وَاشْتَدَّ الْحر وَهُوَ فِي وسط مِنْهَا فَبينا هُوَ يسير إِذْ عرضت لَهُ الشَّجَرَة فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا عرفهَا بنعت أَبِيه فَإِذا تحتهَا شيخ جَالس فَعدل إِلَيْهَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ مَا الَّذِي تُرِيدُ يَا فَتى قَالَ أُرِيد أَن أَسِير قَالَ فَلَا تفعل فقد قَامَ قَائِم الظهيرة وتوقد الْحر وَلَكِن انْزِلْ فاستظل فِي ظلّ هَذِه الشَّجَرَة وضع عَن دوابك واشرب من المَاء فَإِذا أبردت فارتحل قَالَ الْفَتى فِي نَفسه هَذِه الشَّجَرَة الَّتِي نهاني عَنْهَا أبي مَا أُرِيد أَن أفعل قَالَ أَقْسَمت عَلَيْك لتنزلن قَالَ وَوَافَقَ ذَاك مِنْهُ هَوَاهُ وَذكر أَن أَبَاهُ قَالَ إِن صحبك رجل هُوَ أكبر مِنْك فَلَا تعصه
فَنزل الْفَتى فَوضع عَن دوابه واستظل وَأكل وَشرب ثمَّ رقد وأبى الشَّيْخ أَن ينَام فَلَمَّا اسْتلْقى ابْن لُقْمَان انحطت حَيَّة من رَأس الشَّجَرَة فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا الشَّيْخ رَمَاهَا فَقَتلهَا ثمَّ قطع رَأسهَا فَجعله فِي قرَابه وغيب لَحمهَا حَتَّى إِذا برد النَّهَار وَأَيْقَظَ ابْن لُقْمَان فَقَامَ فَلم يستنكر من نَفسه شَيْئا فَحمل على دوابه وَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَيْن تُرِيدُ قَالَ أُرِيد أَرض كَذَا وَكَذَا قَالَ أَنا أريدها فَهَل لَك فِي صَحَابَتِي قَالَ ابْن لُقْمَان أحب صَاحب فَلَمَّا نزلُوا بالحي الَّذِي سماهم لَهُ لُقْمَان قَالُوا ابْن لُقْمَان فأنزلوه وأكرموه
فَبينا هم يَأْكُلُون عِنْده وَيَشْرَبُونَ إِذْ قَالَ لَهُ رجل مِنْهُم يَا ابْن لُقْمَان هَل لَك فِي امْرَأَة شَابة كَرِيمَة الْحسب كَثِيرَة المَال تنكحها قَالَ ابْن لُقْمَان فِي نَفسه هَذِه الَّتِي منعنيها أبي مَا لي حَاجَة بِالنِّكَاحِ قَالَ الشَّيْخ مَا تعرضون عَلَيْهِ قَالُوا نعرض عَلَيْهِ امْرَأَة شَابة جميلَة كَبِيرَة(3/165)
الْحسب كَثِيرَة المَال قَالَ الشَّيْخ أشباب وجمال وَمَال مَا يتْرك هَذَا أحدا نَكَحَهَا قَالَ ابْن لُقْمَان مَا أُرِيد النِّكَاح يَا عَم وَإِنِّي لعَلي رحلي قَالَ أَقْسَمت عَلَيْك لتفعلن فَوَافَقَ ذَلِك مِنْهُ هَوَاهُ وَذكر الَّذِي عوفي فِي الشَّجَرَة وَأَن أَبَاهُ قَالَ إِن صَحِبت رجلا هُوَ أكبر مِنْك فَلَا تعصه فنكحها
فَلَمَّا ملك عصمتها أَتَاهُ بعض صديق أَبِيه قَالَ مَا صنعت هَذِه امْرَأَة قد نكحت تِسْعَة لَيْسَ مِنْهُم رجل إِلَّا يصبح مَيتا على فراشها وَأَنت الْعَاشِر فَدخل الشَّيْخ على ابْن لُقْمَان وَهُوَ مهموم حَزِين قَالَ مَا يحزنك قَالَ الْمَرْأَة الَّتِي أَمرتنِي أَن أنْكحهَا نكحت قبلي تِسْعَة لَيْسَ مِنْهُم رجل إِلَّا يصبح مَيتا على فراشها وَأَنا الْعَاشِر وَأَنا أكره الْمَوْت قَالَ انْظُر الَّذِي آمُرك بِهِ فافعله فَإِذا أدخلت عَلَيْك فَلَا تَقربهَا حَتَّى تَأتِينِي
فَأَقْبَلُوا بهَا إِلَيْهِ حَتَّى أدخلوها عَلَيْهِ وَكَانَ من خلق أَهلهَا وغلمانها أَنَّهَا إِذا أدخلوها على الزَّوْج حفوا بِالْبَيْتِ فَإِذا صَاح كَانَت عَلامَة مَوته دخلُوا فاحتملوا صاحبتهم وَمَا مَعهَا وتركوه فحفوا بِالْبَيْتِ كَمَا كَانُوا يصنعون وَقَالَ ابْن لُقْمَان للْمَرْأَة إِن لي حَاجَة فَخرج إِلَى الشَّيْخ فَقَالَ الْمَرْأَة فِي الْبَيْت وَأَنا عنْدك قَالَ ائْتِنِي بمجمرة فِيهَا جمر فَأَتَاهُ بهَا ابْن لُقْمَان فَعمد إِلَى رَأس الْحَيَّة الَّتِي قتل عِنْد الشَّجَرَة فَجَعلهَا على المجمرة ثمَّ قَالَ انْطلق بهَا فاجعلها تَحت الْمَرْأَة فَإِذا برد فائتني بهَا فَفعل بهَا ابْن لُقْمَان فَقَالَ اجعلي هَذَا تَحْتك فَفعلت فَلَمَّا طفئ الْجَمْرَة أخرجهَا فَذهب ابْن لُقْمَان بهَا إِلَى الشَّيْخ فَإِذا شبه الدودة محترقة فِي المجمرة فَقَالَ إذهب إِلَى أهلك فَلَا بَأْس عَلَيْك فَإِن هَذِه الَّتِي كَانَت تقتل الرِّجَال فَانْطَلق إِلَى أَهله فَأصْبح قرير عين وأصبحت فرحة وتفرق الَّذين كَانُوا حفوا بِالْبَيْتِ فَلَمَّا أَرَادَ ابْن لُقْمَان أَن يرتحل قَالَ لَهُ الشَّيْخ أَيْن تُرِيدُ قَالَ غريما لنا فِي سَاحل بَحر(3/166)
كَذَا وَكَذَا أُرِيد أَن آتيه فأقبض حَقنا قبله قَالَ فَهَل لَك فِي صَحَابَتِي قَالَ أحب صَاحب
فَانْطَلق مَعَه حَتَّى إِذا قدما السَّاحِل سَأَلَا عَن غريمهما فَقَالَ أهل الْبَلَد ذَاك لص ملط فَاجر وَكَانَ قد عمد إِلَى قصر فبناه على سَاحل الْبَحْر يمد الْبَحْر حِين يمد فَلَا يتْرك حول الْقصر شَيْئا إِلَّا احتمله لَا يخلص إِلَى الْقصر وَلَا إِلَى من فِيهِ فَأَتَاهُ ابْن لُقْمَان وَقَالَ لَهُ حَقنا عَلَيْك فَقَالَ مرْحَبًا بَيْتا اللَّيْلَة ثمَّ اغدوا على مالكما فَقَالَ ابْن لُقْمَان فِي نَفسه هَذَا الَّذِي مَنَعَنِي عَنهُ أبي مَا أُرِيد أَن أَبيت اللَّيْلَة قَالَ الشَّيْخ مَا تعرض عَلَيْهِ قَالَ أعرض عَلَيْكُمَا أَن تبيتا اللَّيْلَة ثمَّ تغدوا على مالكما قَالَ افْعَل يَا بني قَالَ مَا أُرِيد ذَاك قَالَ أَقْسَمت عَلَيْك لتفعلن قد أنسأته أطول من لَيْلَة فَلَا تنسئه لَيْلَة فَوَافَقَ ابْن لُقْمَان هَوَاهُ وَذكر الَّذِي عوفي من الشَّجَرَة وَالْمَرْأَة فباتا
فَلَمَّا فرغ من عشائهما عمد إِلَى وطاء تَحت الْقصر ففرش لَهما على سريرين وَقد علم أَن المَاء إِذا جَاءَ احتملهما وَعمد إِلَى ابْن لَهُ فأضجعه على سَرِير فَوْقهمَا فِي مَكَان قد علم أَن المَاء لَا يبلغهُ فرقد ابْن لُقْمَان وأبى الشَّيْخ أَن ينَام
فَلَمَّا كَانَ فِي جَوف اللَّيْل أقبل الْبَحْر فَلَمَّا رَآهُ الشَّيْخ أيقظ ابْن لُقْمَان فاحتملا سريرهما فجعلاه مَكَان سَرِير الْغُلَام وحملا سَرِير الْغُلَام وَهُوَ نَائِم فوضعاه مَوضِع سريرهما وَأَقْبل الْبَحْر فَاحْتمل الْغُلَام بسريره فَذهب بِهِ وَلم يخلص إِلَيْهِمَا
فَلَمَّا أصبحا اطلع صَاحب الْقصر ينظر مَا فعل غريماه فَإِذا هما نائمان وَإِذا ابْنه قد ذهب فناداهما فَقَالَ مكرت بكما وحاق بِي الْمَكْر فاغدوا على مالكما فَغَدوْا على مَالهمَا فانتقداه ثمَّ انصرفا إِلَى الْمَرْأَة فَأمرهَا ابْن لُقْمَان بالرحيل فارتحلت فَإِذا أَكثر مَال قَومهَا لَهَا(3/167)
مِمَّا كَانَت تصيب من الْأزْوَاج فارتحلت بِمَال عَظِيم من أَصْنَاف المَال وَأَقْبل مَعَه الشَّيْخ حَتَّى إِذا شارفا منزل لُقْمَان قَالَ الشَّيْخ لِابْنِ لُقْمَان أَي صَاحب وجدتني فِي سفرك قَالَ خير صَاحب كف الله بك ورزق قَالَ أفما لي فِيمَا أصبت نصيب قَالَ بلَى نصفه لَك طيبَة لَك بِهِ نَفسِي قَالَ فإمَّا أَن تقسم وتخيرني وَإِمَّا أَن أقسم وأخيرك قَالَ ابْن لُقْمَان لَا بل اقْسمْ وخيرني فَعرف الشَّيْخ هوى ابْن لُقْمَان فِي الْمَرْأَة فَعمد إِلَيْهَا وَإِلَى شَيْء يسير من مَالهَا فَعَزله وَعمد إِلَى عَظِيم المَال فَتَركه
ثمَّ قَالَ لِابْنِ لُقْمَان اختر قَالَ ابْن لُقْمَان أما إِنَّك عدلت وأنصفت حِين خيرت فَإِن كنت فعلت مَا فعلت أخْتَار الْمَرْأَة وَمَا مَعهَا فارتحل ابْن لُقْمَان بِالْمَرْأَةِ وَمَا مَعهَا وَقَامَ الشَّيْخ فِي عَظِيم المَال
فَلَمَّا سَار ابْن لُقْمَان وَكَاد أَن يتغيب عَن الشَّيْخ أدْركهُ فَقَالَ أَعْطَيْتنِي مَالك فَبِمَ ذَاك لَعَلَّك تخوفت مني شَيْئا قَالَ ابْن لُقْمَان وَمَا عَسَيْت أَن أَتَخَوَّف مِنْك وَلَكِن لَا يذكر صَاحب من صَاحب أفضل مِمَّا أذكر مِنْك وَسَأَلتنِي قَالَ أتعطيني ذَاك طيبَة بِهِ نَفسك قَالَ نعم قَالَ فَاذْهَبْ فلك أهلك وَمَالك بَارك الله فِيك لست من الْبشر أَنا أَمَانَة أَبِيك الَّذِي كَانَ يأتمن بهَا النَّاس بَعَثَنِي الله لأصحبك فِي طريقك ثمَّ أردك إِلَى أَبِيك صَالحا فاطمئن فِي مَالك مُبَارَكًا لَك فِيهِ فَصَاحب الْأَمَانَة المحافظ عَلَيْهَا فِي أَمَان الله حَيْثُ مَا انْقَلب
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أول مَا يرفع من النَّاس الْأَمَانَة)
فالأمانة من الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الْقلب من الْجَسَد فَإِذا مَال الْقلب إِلَى(3/168)
شَيْء مَال الْجَسَد إِلَى مَا مَال إِلَيْهِ الْقلب فالإيمان يشدد عقد الْقلب ويؤكد عزمه وَيُقَوِّي ضَمِيره وَالْأَمَانَة فِي الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الْعِمَاد فَإِذا وَهن الْعِمَاد يتضع صَاحبه بسقم الْإِيمَان وَذهب بقوته فَإِذا جَاءَت الْخِيَانَة رفعت الْأَمَانَة لِأَنَّهَا ضدها وَلنْ يجتمعا وَإِذا رفعت الْأَمَانَة سقم الْإِيمَان
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا سُلَيْمَان قل اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك صِحَة فِي إِيمَان وإيمانا فِي حسن خلق ونجاحا يتبعهُ فلاح)
وَالْإِيمَان عَطِيَّة من الْمِنَّة وَالْأَمَانَة فِي الْإِيمَان هَدِيَّة من الْجُود فَإِذا ضَاعَت الْهَدِيَّة ذهب بهاء الْعَطِيَّة افْتقدَ صَاحبه زينته وحلاوته ولذاذته وذبلت النَّفس واستراحت وَإِذا ذهب بهَا الشَّيْء وثقلت عَن الْمُحَافظَة عَلَيْهَا وَذهب قُوَّة الْقلب لذبول النَّفس وثقلها فَحلت الْخِيَانَة محلهَا والخيانة فِي اللُّغَة كل شَيْء يعْمل من وَرَاء وَهِي مكر النَّفس فَإِنَّهَا لما لم تقدر على أَن تسْتَقْبل الْقلب صبرا بِالَّذِي هويت من الْمعْصِيَة أسرته من الْقلب والتمست الْغرَّة والغفلة من الْقلب فأوجدته اللَّذَّة الَّتِي وجدت فاستولت على الْقلب بسُلْطَان اللَّذَّة فِي وَقت غفلته عَن الله تَعَالَى وَانْقِطَاع المدد من رأفة الله تَعَالَى وإقباله عَلَيْهِ بِأَسْبَاب الْعِصْمَة فأمكنته أسره إِيَّاهَا لِأَن الْقلب أَضْعَف مَا يكون فِي وَقت الْغَفْلَة فتوجده شرا ومكرا تخادعه بهَا وتزين لَهُ وتموه عَلَيْهِ
وَالْأَمَانَة قرينها الْيَقِين وَإِنَّمَا ضَاعَت من قبل النَّفس وَلَيْسَ شَيْء أعز من الْيَقِين وَلَا أقل مِنْهُ وَإِذا عز الْيَقِين وَقل كثر الشَّك وتذبذب الْقلب وإرتحلت الْأَمَانَة إِلَى المبدأ وحلت الْخِيَانَة محلهَا فَكيف ينْتَفع العَبْد بِإِيمَان فِي جَوْفه الْخِيَانَة مَكَان الْأَمَانَة كَمَا كَانَ الْيَقِين علاوته فَمَا ظَنك(3/169)
بِشَيْء ذهب علاوته وبجسد قطع رَأسه أَلَيْسَ قد ذهبت حواسه فَلَا يبصر وَلَا يسمع وَلَا ينْطق وَلَا يجد الروائح فَكَذَا من إفتقد الْيَقِين لم يسمع عَن الله مَا خاطبه وَلَا أبْصر مَا كشف لَهُ وَأرَاهُ وَلَا ينْطق عَن الله بِحِكْمَتِهِ وَلَا وجد الرّيح الطّيب الَّذِي طيبه الله بِهِ وبذهاب الْيَقِين يَمُوت الْقلب عَن الله تَعَالَى وَلم يمت عَن توحيده وَلذَلِك تَجدهُ مخلطا يعْمل عمل الْمُوَحِّدين وَالْمُشْرِكين والموقنين والشاكرين والجادين واللاعبين يعْمل عمل الْجد بِقُوَّة الْيَقِين الَّذِي فِي التَّوْحِيد فَأَما الْيَقِين الَّذِي هُوَ عماد الْقلب وَهِي الْأَمَانَة فِي جَوف الْإِيمَان فقد فَاتَهُ فَلذَلِك صَار مخلطا
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خير مَا ألقِي فِي الْقلب الْيَقِين)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن عِيسَى كَانَ يمشي على المَاء وَلَو ازْدَادَ يَقِينا لمشى فِي الْهَوَاء)
وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (مَا أعطي أحد من الْيَقِين مَا أَعْطَيْت أمتِي)
قَالَ (وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول مَا أنزل فِي الأَرْض شَيْء أقل من الْيَقِين)
وَأتي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام بِصَحِيفَة مختومة بِالذَّهَب من السَّمَاء فِيهَا عشر مسَائِل وَأمر أَن يسْأَل وَلَده مِنْهَا فَمن أَجَابَهُ بِمَا فِيهَا فَهُوَ الْخَلِيفَة فَدَعَا سُلَيْمَان من بَين أَوْلَاده فَسَأَلَهُ أَي شَيْء أقل فِي الأَرْض
قَالَ الْيَقِين
قَالَ فَأَي شَيْء أَكثر(3/170)
قَالَ الشَّك
قَالَ فَأَي شَيْء آنس
قَالَ الرّوح فِي الْجَسَد
قَالَ فَأَي شَيْء أوحش
قَالَ الْجَسَد إِذا خرج مِنْهُ الرّوح
قَالَ فَأَي شَيْء أحسن
قَالَ الْإِيمَان بعد الْكفْر
قَالَ فَأَي شَيْء أقبح
قَالَ الْكفْر بعد الْإِيمَان
قَالَ فَأَي شَيْء أَمر
قَالَ الْفقر
قَالَ فَأَي شَيْء أقرب
قَالَ الْآخِرَة إِذْ هُوَ آتٍ
قَالَ فَأَي شَيْء أبعد
قَالَ الدُّنْيَا إِذا زَالَت عَنْك
قَالَ فَأَي شَيْء أشر
قَالَ الْمَرْأَة السوء
ففك دَاوُد خَاتم الصَّحِيفَة فَنظر فَإِذا هُوَ بتفسيرها فِي الْكتاب لم يُغَادر مِنْهُ حرفا فاستخلصه
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (سلوا الله الْيَقِين والعافية فَإِن النَّاس لم يُعْطوا شَيْئا خيرا من الْيَقِين والعافية)(3/171)
وَمر عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ بمصاب فَقَرَأَ عَلَيْهِ فبرأ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا قَرَأت) قَالَ قَرَأت {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} الْآيَة فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو قَرَأَهَا موقن على جبل لزال)
فأوفر النَّاس حظا من الْيَقِين أوفرهم حظا من الْأَمَانَة وأشدهم لَهُ حفظا وحراسة
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْمُؤمن العَبْد حَتَّى يَأْمَن النَّاس بوائقه)
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (الْمُؤمن الَّذِي يأمنه النَّاس)
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْمُؤمن فِي الدُّنْيَا على ثَلَاثَة أَجزَاء الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله ثمَّ الَّذِي يأمنه النَّاس على أَمْوَالهم وأنفسهم ثمَّ الَّذِي إِذا أشرف على طمع تَركه لله تَعَالَى
فَهَذِهِ ثَلَاثَة منَازِل للْإيمَان الْمنزلَة الأولى نزلها صنف آمنُوا بِاللَّه(3/172)
إِيمَان طمأنينة لَا ريب فِيهِ وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله بأَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمَحَارِم إِلَّا أَن الرَّغْبَة فيهم بَاقِيَة وَمن كَانَت الرَّغْبَة فيهم بَاقِيَة فالخيانة فيهم كائنة فَإِن الله تَعَالَى أعْطى الْخلق الْأَرْوَاح بِمَا فِيهَا من الْحَيَاة عَارِية وَأَعْطَاهُمْ الدُّنْيَا عَارِية ووضعها ممرا للعباد ومتزودا فَمن اشْتغل قلبه بالتمتع صيره كالمستقر وَإِنَّمَا جعلهَا للزوال والانتقال عَنْهَا فَمن تشبث بِالْحَيَاةِ وَلَا يُرِيد مفارقتها وفر من الْمَوْت فقد خَان لِأَن الْعَارِية إِذا امْتنع صَاحبهَا من الْخُرُوج مِنْهَا إِلَى مَالِكهَا قهر وسلب وَسمي بامتناعه خائنا فَكَذَا الدُّنْيَا وضعت ممرا ومتزودا فَمن صيرها مُسْتَقرًّا سلب يَوْم الْخُرُوج مِنْهَا وَهُوَ خائن وَهُوَ مَعَ هَذِه الْخِيَانَة يقوم بأَدَاء الْفَرَائِض بِلَا توفير وباجتناب الْمَحَارِم بِلَا تقوى وصيانة إِنَّمَا التَّقْوَى إِذا خرجت شَهْوَة تِلْكَ الْأَشْيَاء من قلبه وَإِنَّمَا اجْتنب من خوف الْعقَاب غَدا من غير أَن يلْتَفت إِلَى صِيَانة الْمعرفَة الَّتِي فِي قُلُوبهم فَإِن قَالَ لَهُ علام الغيوب غَدا إِن معرفتي كَانَت خلعتي على قَلْبك فاجتنب محارمي شَفَقَة على جِلْدك ولحمك وَلم تلْتَفت إِلَى خلعتي فتخاف عَلَيْهَا الدنس وَالْغُبَار وَقد عظم عنْدك شَأْن جسدك وَجل قدره فباليت بِهِ واجتنبت الْمَحَارِم توقيا عَلَيْهِ لَا على خلعتي الَّتِي بهَا طَابَ جسدك فَمَاذَا يَقُول هَذَا العَبْد فَهَذَا من دناءة الْمنزلَة
الْمنزلَة الثَّانِيَة من الْإِيمَان صنف زَالَت عَنْهُم رغبتهم فاشتاقوا إِلَى دَار الله فاطمأنت نُفُوسهم وَطَابَتْ أروحهم فَأَمنَهُمْ الْخلق على أَمْوَالهم وأنفسهم وَلم يأمنوا على أديانهم فَلَا تقبل الْقُلُوب مِنْهُم مواعظهم وإشارتهم إِلَى الله وَإِنَّمَا أَمنهم النَّاس للأمانة الَّتِي فِي جَوف إِيمَانهم وَلِأَن أَرْوَاح يَتَعَارَفُونَ بِمَا تضمنه من روح الْإِيمَان فَإِذا عاينوا الْحق فِي فعل عَامل بِهِ إستنارت لَهُ قُلُوبهم وَعرفُوا أَنه الْحق فأمنت قُلُوب الْخلق واطمأنت نُفُوسهم إِلَى مَا عِنْدهم قد أمنُوا على النُّفُوس وَالْأَمْوَال وَلم يأمنوا مِنْهُ على الدّين(3/173)
والمنزلة الثَّالِثَة من الْإِيمَان فهم قوم بلغُوا ذرْوَة الْإِيمَان وَسَماهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذرْوَة لِأَنَّهُ شبه الْإِيمَان بِالْجَبَلِ وَالنَّفس كريشة طياشة تهب بهَا الرّيح فَكلما كَانَ الْجَبَل أثقل كَانَت الريشة أسكن حَتَّى إِذا بلغ العَبْد ذرْوَة الْإِيمَان كَانَ كَأَنَّهُ على قلَّة جبل وَالنَّفس تَحْتَهُ مضغوطة لَا يقدر على التحرك فَلَا يزَال كَذَلِك تَحت أثقال الْمعرفَة حَتَّى تصفو من عصارتها وتسيل مِنْهَا تِلْكَ الفضول وتيبس عَن رُطُوبَة الشَّهَوَات كَمَا يبس الْكسْب الَّذِي قد عصر تَحت الأثقال حَتَّى سَالَ دهنه وَبَقِي ثفله يَابسا فَعِنْدَ ذَلِك تجدها قد مَاتَت شهواتها وخمدت نيرانها خمودا افْتقدَ حرهَا
فَهَذَا الَّذِي قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا أشرف على طمع تَركه لله) وَإِنَّمَا قدر على ذَلِك بِقُوَّة مَا فِيهِ من الْغنى بِاللَّه فالغنى بِاللَّه فِي ذرْوَة الْجَبَل وَهُوَ أَعلَى الْإِيمَان أُولَئِكَ الَّذين يأمنهم الْخلق على دينهم فَتقبل الْقُلُوب مواعظهم وإشارتهم إِلَى الله تَعَالَى لأَنهم يَسِيرُونَ إِلَى الله وَقُلُوبهمْ بَين يَدي نور الْإِيمَان ووقاره فَإِذا نطق أحدهم استنارت الْقُلُوب لنُور مقَالَته وَإِذا شخصت أَبْصَارهم إِلَيْهِ توقرت النُّفُوس لوقاره وهدأت الْأَركان وسكنت مِنْهُم الْأَصْوَات
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما صعدت إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة إِذْ هُوَ بِرَجُل أشمط جَالس على كرْسِي عِنْد بَاب الْجنَّة وَعِنْده قوم جُلُوس بيض الْوُجُوه أَمْثَال الْقَرَاطِيس وَقوم فِي ألوانهم شَيْء فَقَامَ هَؤُلَاءِ الَّذين فِي ألوانهم شَيْء فَدَخَلُوا نَهرا فاغتسلوا فِيهِ فَخَرجُوا وَقد خلص من ألوانهم شَيْء ثمَّ دخلُوا نَهرا آخر فَخَرجُوا وَقد خلصت ألوانهم فَصَارَت مثل ألوان أَصْحَابهم فَقلت يَا جبرئيل من هَذَا الأشمط وَمن هَؤُلَاءِ وَمن هَؤُلَاءِ وَمَا هَذِه الْأَنْهَار الَّتِي دخلوها قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا(3/174)
أَبوك إِبْرَاهِيم أول من شمط على الأَرْض وَأما هَؤُلَاءِ الْبيض الْوُجُوه فقوم لم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم وَأما هَؤُلَاءِ الَّذين فِي ألوانهم شَيْء فقد خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا فتابوا فَتَابَ الله عَلَيْهِم وَأما الْأَنْهَار فأدناها رَحْمَة الله وَالثَّانِي نعْمَة الله وَالثَّالِث وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا
قَوْله وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ فالدين اسْم جَامع مُنْتَظم لجَمِيع الْإِسْلَام إِلَّا أَن الْإِسْلَام هُوَ تَسْلِيم النَّفس إِلَى الله عبودة وترجمة الدّين هُوَ الخضوع وَأَن تجْعَل نَفسك دون أمره وَمن قبله فشرطه مَعَ الله أَن يكون كل أمره غَالِبا على قلبه وَنَفسه وشهواته وإرادته كلهَا فَمن وفى بهَا فِي جَمِيع الْأَوْقَات فَهُوَ صَادِق مُطِيع وَقد وفى لله بِمَا قبل مِنْهُ وَمن وفى بَعْضًا وضيع بَعْضًا فدينه مَنْقُوص وعَلى حسب ذَلِك يقبض الْجَزَاء من ديان يَوْم الدّين يَوْم لَيْسَ فِيهِ لأحد أَمر ليَوْم اتملك نفس لنَفس شَيْئا وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله
وَأما الْعَهْد فَهُوَ تذكرة الله الَّذِي وَضعه فِيمَا بَينه وَبَين الْعباد يَوْم أَخذهم للعبودة قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَلَمَّا خَرجُوا إِلَى الدُّنْيَا نَسيَه الْأَعْدَاء وَحفظه الموحدون ثمَّ غلب الْمُوَحِّدين غَفلَة على ذَلِك الْحِفْظ فوهلوا فأوفرهم حظا من الْحِفْظ أوفرهم حظا من الذّكر فالأعداء فِي غَفلَة وَمن الْغَفْلَة النسْيَان والأحباب فِي غَفلَة وَمن الْغَفْلَة الوهلة وَمن الوهلة الْخَطَايَا وَنقض الْعَهْد ودروس ذكر الْعَهْد فأوفرهم حظا من الْعَهْد أوفرهم حظا من الدّين وأشدهم انقيادا فالكافر ينسى(3/175)
وَالْمُؤمن يغْفل فالكافر نَاس لرَبه وَنَفسه من أَيْن وَإِلَى أَيْن وَالْمُؤمن يتَرَدَّد بَين الغفلات وَالذكر فالمؤمن أَمِين الله فِي أرضه ائتمنه على مَعْرفَته وَوَضعه فِي قلبه وَجعل قلبه خزانَة لَهُ وأمنه عَلَيْهَا بِمَا فِيهَا من كنوز الْمعرفَة ووكله بحراستها من النَّفس الأمارة بالسوء وَمن الْعَدو الْحَاسِد الْقَائِم فِي ظلّ النَّفس يَرْمِي بالشَّيْء بعد الشَّيْء إِلَى النَّفس ينْتَظر مَتى يفترض النَّفس فرصتها من الْقلب وَلَيْسَ أحد أعز على الْملك وَلَا أصفى حبا لَهُ من أَمِينه الَّذِي ائتمنه على جَمِيع الْأَشْيَاء فَإِذا قَامَ العَبْد بِحِفْظ الْأَمَانَة فَهُوَ أَمِين الله فِي أرضه وَإِذا وفى بِالْقيامِ وَصدق الله فِيهِ فعين الله ترعاه وَهُوَ الْمُسْتَحق لاسم الْإِيمَان
قَالَ تَعَالَى {إِن الْمُتَّقِينَ فِي مقَام أَمِين} فَهُوَ وَاحِد الله فِي أرضه فِي كل وَقت وَإِنَّمَا سمي جبرئيل أَمِين الله قَالَ تَعَالَى {عِنْد ذِي الْعَرْش مكين مُطَاع ثمَّ أَمِين}
فَقَالَ أهل التَّفْسِير حل من الْأَمَانَة محلا أَن يدْخل سبعين ألف حجاب من نور بِغَيْر إِذن وائتمنه الله على وحيه فبرز اسْمه فِي السَّمَوَات بِأَنَّهُ أَمِين وَاسْتحق دُخُول الْحجب بِلَا إِذن وَفِي كل حجاب سر وَلذَلِك تَجِد مُلُوك الدُّنْيَا لَا يُطلق الدُّخُول لأحد بِغَيْر إِذن مَتى شَاءَ إِلَّا لمن ائْتمن على أسرار مَا فِي وَرَاء الْحجاب(3/176)
- الأَصْل الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان
-
فِي فَضِيلَة غض الْبَصَر
عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من نظر إِلَى محَاسِن امْرَأَة فغض طرفه فِي أول نظرة رزقه الله تَعَالَى عبَادَة يجد حلاوتها فِي قلبه)
فمحاسن الْمَرْأَة مجَالِس الشَّيْطَان وَمَوْضِع زينته الَّتِي قَالَ تَعَالَى {رب بِمَا أغويتني لأزينن لَهُم فِي الأَرْض}
فَتلك الزِّينَة يلقيها على المحاسن فَإِن وجد العَبْد فِي النظرة على غَفلَة عملت الزِّينَة الَّتِي بِيَدِهِ على عين النَّاظر عملا ينفذ إِلَى الْقلب فَيَأْخُذ الْقلب بِمَنْزِلَة السهْم المسموم إِذا خلص إِلَى الْجَسَد فقد سمه من طرف السهْم فدب فِي جَمِيع الْجَسَد فَتلك الزِّينَة الَّتِي بيد الْعَدو لَهَا سم فَإِذا أَلْقَاهَا على محَاسِن الْمَرْأَة فَإِنَّمَا يلقيها ليهيج نفوس الْآدَمِيّين(3/177)
الَّتِي هِيَ سَاكِنة فَإِذا نظرت الْعين وحظها من الدُّنْيَا زِينَة الْأَشْيَاء وألوانها فَإِذا أخذت الزِّينَة وألوانها على غَفلَة وتخطى إِلَى مَا لم يُؤذن لَهُ فِي النّظر إِلَيْهَا أَو فِيمَا أذن لَهُ وَهُوَ غير ذَاكر لله خلصت تِلْكَ الزِّينَة الَّتِي بيد الْعَدو إِلَى النَّفس فهيجتها فَصَارَت بِمَنْزِلَة السم يدب فِي جَمِيع الْجَسَد فَإِذا تأدت إِلَى الْقلب خالطت حلاوة الْإِيمَان وحرارته فتكدر الْإِيمَان وانكسفت الْمعرفَة فَصَارَت بِمَنْزِلَة شمس صَارَت فِي كسوف فعلق الْقلب بِتِلْكَ النظرة بالمنظور إِلَيْهَا وَصَارَت كجراحة مَسْمُومَة وَالَّذِي حل بِدَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا كَانَ من نظرة وَاحِدَة وَالْعَبْد أعْطى جفون الناظرين حجَّة عَلَيْهِ وقطعا لعذره وإخراسا لِلِسَانِهِ
وَفِي الْخَبَر أَن الله تَعَالَى يَقُول يَا (ابْن آدم إِن نازعتك عَيْنك فأطبق فقد جعلت لَهما طبقًا وَإِن نازعك لسَانك فأطبق فقد أَعطيتك طبقًا وَإِن نازعك فرجك فأطبق فقد أَعطيتك طبقًا) يُرِيد بِهِ الفخذين فَهَذَا من الله تأييد لعَبْدِهِ فَإِذا اسْتقْبل زِينَة الشَّيْطَان الَّتِي أعدهَا لغوايته بهَا بتأييده الَّذِي أيده بِهِ جَاءَت الْعِصْمَة بعد التأييد وسكنت النَّفس وَبَطل كيد الْعَدو وأثابه الله فِي عَاجل الدُّنْيَا ثَوابًا أَن رزقه عبَادَة يجد حلاوتها مَعَ مَا يدّخر لَهُ من ثَوَاب الْأَجَل
وَفِي الْخَبَر (مَا ترك العَبْد شَيْئا من الدُّنْيَا لله إِلَّا آتَاهُ الله خيرا مِنْهُ وَأفضل)
وَقَالَ تَعَالَى فِي قصَّة سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام {نعم العَبْد إِنَّه أواب} إِلَى قَوْله {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب}
أخرجت لَهُ خُيُول من الْبَحْر منقوشة ذَوَات أَجْنِحَة فشغلته عَن صَلَاة الْعَصْر حَتَّى غربت الشَّمْس فَدخلت عَلَيْهِ حرقة الْفَوْت وَوجد من(3/178)
ذَلِك وجدا شَدِيدا فَسخرَ لَهُ الرّيح ثَوابًا لعاجله ثمَّ أعد لَهُ ثَوَاب الْأَجَل فَقَالَ {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب}
فَمن غض بَصَره فقد رد حلاوة هَاجَتْ مِنْهُ حِين أحست نَفسه بالنظرة الأولى الَّتِي كَانَت لَهُ فَرد تِلْكَ الْحَلَاوَة على النَّفس فَرَجَعت النَّفس قهقرى على عقبيها وَبقيت خزانَة الله مصونة فأعقبه الله تَعَالَى فِي عَاجل دُنْيَاهُ بِمَا صان خزانته فأهاج من الخزانة من شرارات الْمعرفَة حلاوة عبَادَة طرية وخلصه من وبال النظرة وَجعل تِلْكَ الْعِبَادَة حصنه وَتلك الْعِبَادَة زَاد قلبه يقطع بهَا مَسَافَة العبودة أَيَّام الْحَيَاة وحلاوة الْعِبَادَة تحفة من الله تَعَالَى وَأَصلهَا من هيجان الْمعرفَة فالعبادة كَثِيرَة وحلاوته عزيزة لَا تنَال إِلَّا من طَرِيق التحف فَهِيَ زَاد قُلُوب العابدين وبالزاد يقطع الْأَسْفَار أسفار الملكوت
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أحب الْعُيُون إِلَى الله تَعَالَى عينان عين غضت عَن محارم الله وَعين حرست فِي سَبِيل الله) وَقَالَ تَعَالَى {قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم}
فَخرجت مخرج النَّصِيحَة والعطف والتأييد وَقَالَ فِي سَائِر الْأَشْيَاء افعلوا وَلَا تَفعلُوا وَبَين الْأَمر وَالْقَوْل بون بعيد فَوجدَ السَّابِق سَبِيلا إِلَى صفاء الِانْتِهَاء والمقصد سَبِيلا إِلَى الِانْتِهَاء مَعَ التَّنَازُع قَالَ تَعَالَى {يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور}(3/179)
والمقصد حَظه مِنْهُ مَا يتَخَلَّص من خِيَانَة الْعين وَمَا فِي الصُّدُور بَاقٍ
وَكَانَت أم سَلمَة ومَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهُمَا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدخل عَلَيْهِ ابْن أم كتوم فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احتجبا مِنْهُ فَقَالَتَا يَا رَسُول الله أَلَيْسَ هُوَ أعمى لَا يُبصرنَا وَلَا يعرفنا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أفعمياوان أَنْتُمَا ألستما تبصرانه)
وَقَالَ تَعَالَى وَإِذ سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب ثمَّ قَالَ {ذَلِكُم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}
اعْلَم أَن المبتغى مِنْهُم طَهَارَة الْقُلُوب وَإِنَّمَا تطهر الْقُلُوب بِحِفْظ الْحَواس المؤدية الْأَخْبَار إِلَى الْبَاطِن وَقد حذر الله عباده شَأْن الزناة وعظمه وَبَين عُقُوبَته وَبَين الرَّسُول أَن لكل جارحة مِنْهُ حظا
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْعين تَزني وَالْيَد تَزني وَالرجل تَزني والسمع يَزْنِي وَيصدق ذَلِك كُله ويكذبه الْفرج)(3/180)
فتكذيب الْفرج إياهن أَن لَا يُوجب حدا فَأَما الأدناس والآثام فقد أَصَابَت الْجَوَارِح وحلت بِهِ
قَالَ خَالِد بن عمرَان لَا تتبعن الْبَصَر وَالنَّظَر فَرُبمَا نظر العَبْد نظرة ينفل فِيهَا قلبه كَمَا ينفل الْأَدِيم فِي الدّباغ فَلَا ينْتَفع بِهِ
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (النّظر إِلَى محَاسِن الْمَرْأَة سهم من سِهَام إِبْلِيس مَسْمُوم فَمن صرف بَصَره عَنْهَا رزقه الله تَعَالَى عبَادَة يجد حلاوتها)
وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إياك والزناء فَإِنَّهُ من غضب الرب وَإِنَّمَا يثيره النّظر والشهوة واتباعهما وَلَا تكونن حَدِيد النّظر إِلَى مَا لَيْسَ لَك فَإِنَّهُ لن يَزْنِي فرجك مَا حفظت عَيْنك وَإِن اسْتَطَعْت أَن لَا تنظر إِلَى ثوب الْمَرْأَة الَّتِي لَا تحل لَك فافعل وَلَا تَسْتَطِيع ذَلِك إِلَّا بِاللَّه
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن لَك من الْجنَّة كنزا وَإنَّك ذُو قرنيها فَلَا تتبعن من النظرة النظرة فَإِن لَك الأولى وَلَيْسَت لَك الْأُخْرَى)
فَمَعْنَى الْكَنْز فَاطِمَة وقرنيها الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم صيرها بِمَنْزِلَة الْكَنْز لِأَن الْكَنْز مَوْضُوع مَسْتُور إِلَيْهِ الموبل وَسَائِر المَال ظَاهر يذهب وَيَجِيء والكنز أصل المَال فَشبه فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا من نعيم الْجنَّة بالكنز من المَال ثمَّ قَالَ وَأَنت ذُو قرنيها نسب(3/181)
القرنين إِلَى فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا وَمَعْنَاهُ أَن الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا قرناها وَإنَّك يَا عَليّ ذُو القرنين أَي تَجِد الْحسن وَالْحُسَيْن وهما سيد أهل الْجنَّة لَك ولدا
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَربع نسَاء سيد نسَاء الْعَالمين مَرْيَم وآسية وَخَدِيجَة وَفَاطِمَة)
وَقَالَ (إِنَّمَا فَاطِمَة بضعَة مني) وَقَالَ لَهَا عِنْد مَوته (إِنَّك أسْرع النَّاس لُحُوقا بِي) فَضَحكت
فبشر عليا رَضِي الله عَنهُ بِأَنَّهَا لَك فِي الْجنَّة ثمَّ أوصاه على أثر الْبُشْرَى وَصِيَّة الرُّسُل على التلطف يحذرهُ إتباع النظرة النظرة لِئَلَّا يطمس وَجه الْكَنْز وَلَا يُغير مَا بِهِ من نعْمَة الله فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى التَّطْهِير فِي شَأْن الْوُصُول إِلَى الْكَنْز وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خص أحدا من أَصْحَابه بموعظة وتحذير فَإِنَّمَا يقْصد قصد النكبة الَّتِي يخَاف عَلَيْهِ مِنْهَا وَكَانَ الْغَالِب على قلب عَليّ كرم الله وَجهه محبَّة الله والمحبة تسير إِلَى الله فِي ميدان السعَة والتشجيع فِي الْأُمُور والمحبة لَهَا حلاوة(3/182)
وحرارة تهيج الشَّهْوَة وتذيب مَاء الصلب فحذره عَلَيْهِ السَّلَام مَا كَانَ يخَاف عَلَيْهِ فبشره بالكنز والقرنين ثمَّ أتبعه الْوَصِيَّة وحذره كي يشفق على مَا بشره لَهُ فِي الْجنَّة وَيكون عونا على غض بَصَره ورد نَفسه
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَأُعْطيَن رايتي غَدا لرجل يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله)
فَشهد لَهُ الرَّسُول بحب الله إِيَّاه وبحب الله والمرء ينْسب إِلَى مَا يكون الْغَالِب عَلَيْهِ من الْأُمُور والأعمال فَكَذَلِك من الحظوظ إِنَّمَا ينْسب أَصْحَاب الْقُلُوب كل إِلَى مَا وفر لَهُ من الْحَظ من ذَلِك الشَّيْء فَأَبُو بكر مَنْسُوب إِلَى الرَّحْمَة وَعمر مَنْسُوب إِلَى الْحق وَعُثْمَان مَنْسُوب إِلَى الْحيَاء وَعلي مَنْسُوب إِلَى الْمحبَّة وَإِنَّمَا نسب كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى مَا هُوَ الْغَالِب عَلَيْهِ وَكَانَ عَليّ كرم الله وَجهه ظَاهر الْأَمر من بَين الْأَصْحَاب فِي شَأْن الثَّنَاء على الله تَعَالَى وَذكر الصِّفَات وَهَذَا علم المحبين وَكَانَ مَعْرُوفا بالانبساط والانطلاق والهشاشة إِلَى الْخلق والمزاح حَتَّى قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي حَقه إِنَّه رجل تلعابة وَقَالَ مرّة أُخْرَى بِهِ دعابة
وَهَذَا لمن الْغَالِب على قلب محبَّة الله تَعَالَى لِأَن الْقلب ينبسط عِنْد الْمحبَّة وينقبض عِنْد المخافة فَإِذا غلبت الْمحبَّة على الْخَوْف انبسط وَإِذا غلب الْخَوْف على الْمحبَّة انقبض لِأَنَّهُ يُلَاحظ العظمة وَفِي وَقت الانبساط يُلَاحظ جوده وَكَرمه فَكَانَ انبساط عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى الْخلق ومعاملته إيَّاهُم حسب ذَلِك من السعَة والبشر(3/183)
والهشاشة وبتلك الْقُوَّة أمكنته الْمُحَاربَة وتشجع فِيهِ وَمن كَانَت هَذِه صفته كَانَت شَهْوَته هائجة وَكَانَ قرما فِي أَمر النِّسَاء وَكَانَ يَقُول كنت رجلا مذاء فَكنت أَغْتَسِل فِي الْيَوْم مَرَّات حَتَّى شجئت وَكنت أستحيي أَن أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أجل ابْنَته فَأمرت الْمِقْدَاد أَن يسْأَله فَسَأَلَهُ فَقَالَ يجْزِيك الْوضُوء
وَكَانَ قد هم أَن يتَزَوَّج عَليّ فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا حَتَّى خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر فَقَالَ إِن بني الْمُغيرَة استأذنوني فِي أَن ينكحوا ابنتهم من عَليّ وَإِن فَاطِمَة بضعَة مني يُؤْذِينِي مَا آذاها أَلا فَإِنِّي لَا آذن ثمَّ لَا آذن
وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ يُرِيد أَن يخْطب العوراء بنت أبي جهل فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَمَا كَانَ لعَلي أَن يجمع بَين ابْنة نَبِي الله وَابْنَة عَدو الله وَإِن فَاطِمَة بضعَة مني يغضبني مَا أغضبها)
وَوَقعت فِي سَهْمه يَوْم فتح مَكَّة جَارِيَة من سبي هوزان فَذهب بهَا مستعجلا إِلَى أُخْته أم هَانِئ لتزينها فهم فِي ذَلِك إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلوا عَن السبايا فَبَقيَ على قَارِعَة الطَّرِيق وَدخلت أم أَيمن على فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا فرأت فِي وَجههَا شَيْئا أنكرته فسألتها فَأَبت أَن تخبرها فَقَالَت إِن أَبَاك كَانَ لَا يكتمني شَيْئا فَقَالَت جَارِيَة وَهبهَا أَبُو بكر لعَلي فَخرجت أم أَيمن فنادت أما لرَسُول الله حق أَن يحفظ من أَهله فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَا هَذَا فَقَالُوا لَهُ أم أَيمن تَقول كَذَا فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ الْجَارِيَة لفاطمة رَضِي الله عَنْهَا وَمَات يَوْم مَاتَ عَن سبع عشرَة من بَين حرَّة وَأم ولد وَكَانَ هَذَا كُله من غَلَبَة مَا ذكرنَا على قلبه(3/184)
وَقد حذره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النكبة الَّتِي عرفهَا فِيهِ وعرفه خطرها ووبالها
وَكَانَ من شَأْنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا عرف من رجل شَيْئا يخَاف عَلَيْهِ مِنْهُ وعظه من ذَلِك الْبَاب وَلِهَذَا أَخذ بِطرف عِمَامَة الزبير وَقَالَ (يَا زبير إِنِّي رَسُول الله إِلَيْك خَاصَّة وَإِلَى النَّاس عَامَّة يَا زبير إِن الله تَعَالَى يَقُول أنْفق أنْفق عَلَيْك وَلَا تصر فأصر عَلَيْك)
هُوَ إِنَّمَا قَصده بِهَذَا لِأَن الزبير كَانَ يزن ببخل وَبلغ من إِمْسَاكه أَنه كَانَ يُوصي إِلَيْهِ أفاضل أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمْوَالهم لعلمهم بإمساكه(3/185)
- الأَصْل الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان
-
فِي فَضِيلَة صَوْم شهر رَمَضَان
عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِن شهر رَمَضَان شهر فرض الله على الْمُسلمين صِيَامه وسننت لكم قِيَامه فَمن صَامَهُ وقامه إِيمَانًا واحتسابا خرج من الذُّنُوب كَيَوْم وَلدته أمه)
(صَامَهُ إِيمَانًا) أَي آمن بِمَا افْترض الله عَلَيْهِ ثمَّ صَامَهُ على تِلْكَ النِّيَّة وَالصَّوْم والعزم عَن الْكَفّ عَن كل شَيْء يطعم وَيشْرب وَعَن إتْيَان النِّسَاء وَهَذَا الْعَزْم عَن الْكَفّ عَن كل شَيْء يطعم وَيشْرب وَعَن إتْيَان النِّسَاء وَهَذَا الْعَزْم بَين العَبْد وَبَين ربه لَا يطلع عَلَيْهِ أحد فَهُوَ فِي كل سَاعَة من يَوْمه إِذا اعترضت لَهُ شَهْوَة فَإِنَّمَا يمْتَنع مِنْهَا لإيمانه بِأَن الله تَعَالَى مطلع على سره وإضماره فَذَاك مِنْهُ إِيمَان فِي كل وَقت(3/186)
وَسَاعَة فِي رد كل شَهْوَة مَعَ طمأنينة نَفسه بإن الله تَعَالَى يعلم عزمه وضميره فِي هَذَا الْكَفّ فيستقر لذَلِك قلبه ويعظم أمله هَذَا أكله إِيمَان
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِيمَانًا واحتسابا) فَكل عمل ابْن آدم إِنَّمَا يقوم بِالنِّيَّةِ والحسبة وَالنِّيَّة قربتان تجريان فِي الْأَعْمَال مَعًا فَإِذا انْقَطَعت النِّيَّة انْقَطَعت الْحِسْبَة وَالنِّيَّة نهوض الْقلب إِلَى الله تَعَالَى وبدؤها الخاطرة ثمَّ الْمَشِيئَة ثمَّ الْإِرَادَة ثمَّ النهوض ثمَّ اللحوق إِلَى الله تَعَالَى بعقله وَعلمه وذهنه وهمته وعزمه وإضماره فههنا تتمّ النِّيَّة وَمن هَهُنَا يخرج إِلَى الْأَركان فَيظْهر على الْجَوَارِح فعله فمبدأ النِّيَّة نهوض الْقلب ومنتهاه عزمه ثمَّ الارتحال يُقَال ناء ينوء أَي نَهَضَ والعزم عقد الْقلب وَلَا يكون نِيَّة إِلَّا بِالْعقدِ فَإِذا صَحَّ الْعَزْم خرج الرِّيَاء وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء من جَمِيع أَعماله
ثمَّ النَّاس بعد ذَلِك على طَبَقَات فالعامة لَا بُد لَهُم من أَن يَأْتُوا بِهَذِهِ الصّفة فِي كل عمل يَلْتَمِسُونَ ثَوَابه غَدا وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْعَامَّة من الْمُوَحِّدين فِي كل عمل أخلصوه لله تَعَالَى فَهَذِهِ الْخِصَال مَوْجُودَة فِي ذَلِك الْعَمَل إِلَّا أَنه لَا يحسن أَن يُمَيّز هَذَا الِاسْم ويطالعه بِقَلْبِه فِي صَدره لِأَن الصَّدْر مشحون بِأَفْعَال النَّفس وفتنها ووساوس شهواتها فَمن أَيْن يبصر فِي صَدره الخواطر والمشيئآت والإرادات والنهوض والإرتحال إِلَّا أَن الله لما رحم الْمُوَحِّدين وَمن عَلَيْهِم بِالتَّوْحِيدِ ضمن هَذِه الْأَشْيَاء توحيدهم وأودعها قُلُوبهم فهم بِتِلْكَ الْقُوَّة يعْملُونَ أَعمال الْبر فَرُبمَا أَخْلصُوا وَرُبمَا خلطوا وَرُبمَا إطمأنوا وَرُبمَا نافقوا وَلذَلِك وَقع الْحساب فِي الْموقف لتخلط الْإِيمَان بالنفاق والصدق بِالْكَذِبِ وَالْإِخْلَاص بشرك الْأَسْبَاب
وَإِنَّمَا يستبين مَا وَصفنَا لقلب أجرد أَزْهَر فِي صدر فسيح قد شَرحه الله لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه رطب بِذكر الله قد لَان بِلُطْفِهِ(3/187)
وَرطب برحمته وصلبت بآلائه وَبِذَلِك وَصفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (قلب الْمُؤمن أجرد أَزْهَر)
فصدره كمفازة جرداء فِيهَا شموس تزهر وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن لله فِي الأَرْض أواني أَلا وَهِي الْقُلُوب فَخَيرهَا أصفاها وأرقها وأصلبها)
فأصفاها من كدورة الْأَخْلَاق وأرقها للإخوان وأصلبها فِي ذَات الله تَعَالَى
فَأَما النَّاس فِي النِّيَّة على طَبَقَات فنية الْعَامَّة ارتحالهم إِلَى الله بِهَذَا الْعقل وَالْعلم والذهن والهمة والإضمار والعزم ومبلغ ارتحالهم الجو إِذْ لَيْسَ لقُلُوبِهِمْ من الْقُوَّة مَا يرتحلون ويطيرون لِأَنَّهُ لَا ريش لقُلُوبِهِمْ فيطيرون والجو مسدود لِأَن الْقُلُوب لما مَالَتْ إِلَى النُّفُوس فأطاعتها انسد طريقها إِلَى رَبهَا لِأَن الْقُلُوب إِنَّمَا أَعْطَيْت معرفَة التَّوْحِيد وَمن عَلَيْهَا بذلك لتمد النَّفس بِمَا فِيهَا من الشَّهَوَات إِلَى الله فتطيعه فتمت حجَّة الله على الْقلب بِمَا أعْطى من الْقُوَّة الْبَالِغَة فَلَمَّا ضعف وَلم يتشمر لأمر الله بِمَا أعطي من الْجنُود وَلم يُجَاهد النَّفس حَتَّى يغلبها ويأسرها بِجَمِيعِ مَا فِيهَا من الشَّهَوَات فيذلها وَقَالَ تَعَالَى {وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده هُوَ اجتباكم}
أَي رفعكم من بَين الْأَعْدَاد جباية مِنْهُ لكم ليتخذكم أحبابا وَوضع(3/188)
فِي قُلُوبكُمْ التَّوْحِيد بحلاوته كي إِذا جَاءَت النَّفس بحلاوة شهواتها إِلَى الْقلب ضربت بِتِلْكَ الْحَلَاوَة وَجههَا وردهَا بِقُوَّة هَذِه الْحَلَاوَة الْمَمْنُون عَلَيْهِ فَإِذا لم يُجَاهد وانخدع لنَفسِهِ وَبِمَا تَأتي بِهِ تحيرت الْجَوَارِح وتعطلت الْأَعْمَال الَّتِي بهَا وكلوا
فهناك تَجدهُ لَا يلتذ بِطَاعَة وَلَا يستروح إِلَى ذكر إِذْ لَا يجد رَائِحَة الذّكر لِأَنَّهُ يخرج من صدر كالمزابل محشو بالخبث والخيانة وَالظُّلم والعدوان وَالرَّغْبَة والتجبر والتعزز والتكبر والاستبداد والحقد والغلو وَحب الْأَشْيَاء الَّتِي يضاهي الله بهَا وينازع رِدَاءَهُ فيرجو صَاحبه أَن يلتذ بِطَاعَة أَو يستروح إِلَى ذكر أَو يُجَاوز قلبه فِي عمله فَإِن اجْتهد فأخلص فِي شَيْء وَأخذ بِحرْمَة ذَلِك التَّوْحِيد وقوته فبجهد شَدِيد وَلَا يُجَاوز قلبه الجو فَهَذَا شَأْن الْعَامَّة
وَأما الصادقون وهم الْعباد والزهاد والقراء فنياتهم صاعدة عَن هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي ذكرنَا من الْعقل وَالْعلم والفهم والهمة والعزم والإضمار فَإِذا بلغ الْمحل الَّذِي هُنَاكَ اسْتَقر الْقَرار فِي بَيت الْعِزَّة فِي سَمَاء الدُّنْيَا وضعفوا عَن تجَاوز ذَلِك إِلَى مَا فَوْقه لِأَنَّهُ لَا يقدر قلبه على الطيران إِلَى العلى وعَلى قدر علمه وعقله وذهنه واستعماله ذَلِك يُمكنهُ أَن يطير فتحظى تِلْكَ النُّفُوس من ذَلِك الْمحل وَيَأْخُذ قوتها وَيسْتَمر فِي الطَّاعَة
وَأما العارفون وهم الصديقون فَإِن نياتهم قد صَارَت كلهَا نِيَّة وَاحِدَة لِأَن الْقلب قد ارتحل إِلَى الله تَعَالَى بِمرَّة وَوجد الطَّرِيق واشتغل بِالنَّفسِ بِمَا فِيهَا من الشَّهَوَات لينَة منقادة قد تحولت من الْخِيَانَة إِلَى الْأَمَانَة وانقادت للقلب فالقلب أَمِير وَالنَّفس أَسِير فارتحال قُلُوبهم إِلَى المعسكر عِنْد ذِي الْعَرْش وَلَهُم مطاف وأعمالهم معروضة على الله فِي كل معرج وَينظر إِلَيْهَا الرب ويتقبلها ثمَّ تُوضَع بعد الْقبُول فِي الخزائن الْخَاصَّة(3/189)
وَأما العارفون حكماء الله فهم الَّذين أطلعوا على بَدو الربوبية وَمحل الْقُدْرَة فهم خَاصَّة الله من بحور الله يعْملُونَ جَمِيع الْأَعْمَال والأعمال غَائِبَة عَن الْقُلُوب لِأَن الله تَعَالَى نصب أَعينهم فِي مجْلِس الْملك فأجمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر النِّيَّة فَقَالَ (الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى) يعلمك إِن للنِّيَّة دَرَجَات كل على دَرَجَته ينَال ثَمَرَتهَا
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لاعمل لمن لَا نِيَّة لَهُ وَلَا أجر لمن لَا حسبَة لَهُ)
والحسبة أَن يحْتَسب على الله تَعَالَى من العبودة الَّتِي قبل مِنْهُ لِأَن العَبْد فِي رق الْعُبُودِيَّة إِلَى يَوْم خُرُوجه من الدُّنْيَا لِأَنَّهُ خلقه ليعبده ثمَّ وعده أَن يحرره يَوْم الْقِيَامَة إِذا أَتَاهُ بالعبودة فيقعده ملكا فِي دَار السَّلَام قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون}
فَنحْن نسعى فِي هَذَا الرّقّ إِلَى يَوْم خُرُوج الرّوح وَقبض النَّفس عَن الدُّنْيَا فَمن أَرَادَ الْآخِرَة وسعى لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك كَانَ سَعْيهمْ مشكورا شكر الله لَهُم بمغفرة الذُّنُوب والرضاء عَنْهُم(3/190)
وتمليكهم الْجنان وَقَضَاء المنى والشهوات على التأييد ورضوان من الله أكبر وَإِذا آمن العَبْد بربه ألْقى بيدَيْهِ سلما إِلَيْهِ وَقبل أمره وعبودته قبله الله وَأَقْبل عَلَيْهِ بالعون قَالَ تَعَالَى {إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا} أَي من العون والنصرة
وَإِذا أعرض مغترا بخدائع النَّفس وأمانيها وأكاذيبها فَأقبل على النَّفس وَقبل مِنْهَا مَا تَأتي بِهِ فقد أعرض عَن الله تَعَالَى وَمَال عَنهُ وَأعْرض الله عَنهُ وعذب قلبه وَانْقطع المدد والعون فَإِذا تَابَ إِلَى الله وفزع وأدركه رَحْمَة الله وغوثه بِأَن فتح بَاب الرَّحْمَة نظرا مِنْهُ لمنته وأياديه الَّتِي كَانَت لَهُ عِنْد العَبْد فَوجدَ الْقلب خلاصا وَعَاد العون والمدد فَلم يزل العَبْد يترقى دَرَجَة دَرَجَة وتفضل الله عَلَيْهِ بِالْكَرمِ وجاد بالإقبال فانتعش بعد النكس وحيى بعد الْمَوْت حَتَّى توردت بساتين توحيده وانفطر مَكْنُون جواهره كانفطار الْيَنَابِيع وانغلاق الْحُبُوب عَن بذرها وازدهرت وأينعت وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فالق الْحبّ والنوى} و {فالق الإصباح} و {يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت}
فَأخذ العَبْد يسْعَى فِي الرّقّ والعبودية فَكلما عمل برا من الْأَعْمَال احتسب بِهِ على الله فِي العبودة الَّتِي قبل مِنْهُ كمن عَلَيْهِ دين فِي عُنُقه فَهُوَ يفك رقبته بِأَدَائِهِ شَيْئا بعد شَيْء وكل شَيْء يُؤَدِّيه إِلَى صَاحب الدّين احتسب عَلَيْهِ فِي قَضَاء الدّين الَّذِي فِي عُنُقه فَهَذَا العَبْد يحْتَسب فِي نَفسه وَفِي ذَاته بِهَذَا الْفِعْل يحسبه على الله تَعَالَى فِي قَضَاء دينه وَهُوَ العبودة الَّتِي لَهَا خلق الَّتِي قبلهَا فَإِذا نوى واحتسب فقد أخْلص(3/191)
قَالَ الله تَعَالَى {ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} فَيكْتب لَهُ أجر العبودة وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا أجر لمن لَا حسبَة لَهُ)
فَرب رجل يعْمل أَعمال الْبر على الْعَادة لَا على يقظة العبودة فَلَا يكون لَهُ احتساب وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَمن غشيانك أهلك صَدَقَة) قَالُوا يَا رَسُول الله نأتي شهواتنا ونؤجر قَالَ (أَرَأَيْت لَو وَضَعتهَا فِي حرَام أَكنت توزر) قَالُوا نعم قَالَ (فتحتسبون بِالشَّرِّ وَلَا تحتسبون بِالْخَيرِ)
مَعْنَاهُ إِذا زنى إِنَّمَا قصد قَضَاء الشَّهْوَة فاحتسب على النَّفس بإعطائها منيتها وقضائها شهوتها فَإِذا وَضعهَا فِي حَلَال وَأَرَادَ الْعِفَّة عَن الْحَرَام احتسب بهَا قَضَاء عَن العبودة فَصَارَ ذَلِك مِنْهُ صَدَقَة على أَهله وَلذَلِك قَالَ معَاذ لأبي مُوسَى أَنا أَنَام نصف اللَّيْل وأقوم نصفه فأحتسب نومتي كَمَا أحتسب قومتي فَإِذا نَام العَبْد تلذذا وأتى أَهله تلذذا لم يحتسبها قَضَاء على العبودة بَطل أجره وَبقيت العبودة فِي عُنُقه فلقي الله وَقد خسر أجر العبودة فِي ذَلِك الْوَقْت الَّذِي عطله وَإِذا مَال بِهَذِهِ الشَّهْوَة إِلَى الْحَرَام فَإِنَّمَا يقْضِي عبودة النَّفس وَقد خلقه الله تَعَالَى ليعبده فَقبل مِنْهُ ثمَّ ذهب فَصَبر نَفسه عبدا لنَفسِهِ وشهواته وَذهب بعبودة الله إِلَيْهَا وَلِهَذَا اسْتوْجبَ اللَّعْنَة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ(3/192)
(لعن عبد الدِّينَار لعن عبد الدِّرْهَم لعن عبد الخميصة وشيك فَلَا انتقش حبذا عبد الله وَعبيد الله)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لكل امْرِئ مَا احتسب وَعَلِيهِ مَا اكْتسب والمرء مَعَ من أحب وَمن مَاتَ على ذنابى طَرِيق فَهُوَ من أَهله)
مَعْنَاهُ مَا ذكرنَا أَن مَا احتسب قَضَاء عَن العبودة فَهُوَ لَهُ وَمَا لم يحْتَسب وَلَكِن اكْتسب فَهُوَ عَلَيْهِ
وَقَالَ تَعَالَى {لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} لِأَن الْكسْب فعل الْأَركان والاكتساب فعل الذَّات يكْتَسب إتباع الْهوى فِيمَا تقضي النَّفس من مناها وشهواتها ولذاتها فَذَاك عَلَيْهِ وَإِذا جَاءَ الاحتساب من قُوَّة الْقلب بِذكر العبودة مَعَ النِّيَّة الصادقة فَتلك النِّيَّة تحول الْعَمَل فَصَارَ للنِّيَّة لَا للهوى فيحتسب بِهِ على الله قَضَاء العبودة لَا قَضَاء الفهمة والشهوة فَإِذا صَامَ رَمَضَان إِيمَانًا بِمَا كتبه الله عَلَيْهِ وَبِأَنَّهُ يطلع على عزمه فِي صَوْمه ورد شهواته فِي سَاعَات يَوْمه فَذَاك كُله إِيمَان يَتَجَدَّد عَلَيْهِ كل سَاعَة وَهُوَ سر بَينه وَبَين ربه لَا يطلع عَلَيْهِ ملك مقرب وَلَا نَبِي مُرْسل وَلذَلِك قَالَ (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ)(3/193)
لِأَنَّهُ فِي مَا بَينه وَبَينه فَفِي كل ردة من العَبْد لشهوته تعرض لَهُ جَزَاء من ربه وَهُوَ لَا تُدْرِكهُ الْحفظَة والكتبة(3/194)
- الأَصْل الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان
-
فِي فَضِيلَة الْأُمُور الثَّلَاثَة
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ أَوْصَانِي حَبِيبِي أَبُو الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بصيام ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر وَأَن لَا أَنَام إِلَّا على وتر وركعتي الضُّحَى)
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا عُوَيْمِر حَافظ على أَن لَا تبيت إِلَّا على وتر وركعتي الضُّحَى مُقيما أَو مُسَافِرًا وَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر تستكمل الزَّمَان كُله أَو قَالَ تستكمل الدَّهْر كُله)
العَبْد مَحْسُوب عَلَيْهِ عمره مَعْدُود لَهُ أنفاسه مُقْتَضى مِنْهُ العبودة فِي كل نفس من عمره فَأمر بِشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَقبُول مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول من عِنْده على صدق الِاعْتِقَاد من قلبه ثمَّ اقْتضى مَا قبل من الله تَعَالَى مُجملا فِي جَمِيع عمره فَمِنْهُ مَا اقْتضى من وَقت دون وَقت وَهُوَ الْفَرَائِض وَمِنْه مَا اقْتضى(3/195)
من الْأَوْقَات كلهَا وَهُوَ العبودة فِي كل نفس فأجمل الله تَعَالَى بعطفه وَكَرمه للعباد أمرا أجمل بِهِ العبودة كي إِذا فَعَلُوهَا استكملوا الدَّهْر كُله عبودة فدلهم لعبودتهم فِي النَّهَار على رَكْعَتي الضُّحَى بعد أَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمَحَارِم فَإِذا أدّى الْمَفْرُوضَة من صَلَاة الْفجْر انْتظر طُلُوع الشَّمْس وَتَحْلِيل الصَّلَاة فَإِذا أضحت صلى رَكْعَتَيْنِ على سَبْعَة أَجزَاء بِسبع جوارح مقسومة هَذِه الْأَجْزَاء بِمَا ضمنت وحشيت على ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ جُزْءا ليخرج إِلَى الله من صَدَقَة النَّفس
وَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن على كل آدَمِيّ ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ سلامى على كل سلامى مِنْهَا صَدَقَة وركعتي الضُّحَى تجزيك من هَذَا كُله)
فَهَذَا صَلَاة يَوْمه للعبودة
وَأما صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر فالحسنة بِعشْرَة أَمْثَالهَا فصوم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر يعدل ثَلَاثِينَ يَوْمًا فقد صَار العَبْد بِهَذَا صَائِما فِي جَمِيع عمره وبركعتي الضُّحَى قَائِما بِهَذَا فِي نَهَاره كُله
فَأَما فِي ليله فالفوز بِصَلَاة الْوتر فَإِذا كَانَ صَائِما قَائِما فِي نَهَاره وبوتره فائزا فقد اسْتكْمل الزَّمَان كُله فَهَذِهِ دلَالَة الله لأهل السَّعَادَة على مَا بِهِ يستكملون العبودة بعد أَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمَحَارِم فَمن داوم على هَذَا كَانَ اسْمه فِي ديوَان الصائمين القائمين الفائزين وَهُوَ طاعم وشارب ونائم ليعلم يسر الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة وَرفع الْحَرج عَنْهُم فِي دينه وسماحته فِيمَا اقتضاهم مِمَّا لَهُ خلقهمْ فالوتر مَحْبُوب الله تَعَالَى فِيمَا خلق من الْأَشْيَاء وَقد كتب عَلَيْهِم الْخمس المفروضات(3/196)
غياثا لَهُم ليطفئوا بهَا حريقهم وَمَا من صَلَاة يدْخل وَقتهَا إِلَّا قَالَ أهل السَّمَاء يَا بني آدم قومُوا إِلَى نيرانكم فأطفئوها فصرن هَذِه الْخمس مكتوبات والعهد فِي الْكتاب فَإِذا أَوْفوا بالعهود أوجب لَهُم الْجنَّة ثمَّ كَانَ من عطفه أَن زادهم صَلَاة الْوتر على لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فالصلوات الْخمس تَكْفِير لسيئآتهم وَفِي ذَلِك الْموقف من الْوتر نوال تملأ مِنْهُ رغبتهم ومركز يَجدونَ مِنْهَا معاذاتهم فالنوم بعد النوال أفضل من أَن يؤخرها إِلَى آخر اللَّيْل فَإِذا أوتر أول اللَّيْل عرجت نَفسه إِلَى الله فِي منامها مَعَ الْفَوْز بالنوال والمعاذ فَلذَلِك أوصاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا ينَام إِلَّا على وتر فَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يُوتر قبل أَن ينَام فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَتى توتر يَا أَبَا بكر) قَالَ فِي أول اللَّيْل قَالَ أخذت بالحزم وَقَالَ لعمر رَضِي الله عَنهُ مَتى توتر يَا عمر قَالَ آخر اللَّيْل قَالَ (أخذت بِالْقُوَّةِ)
فالحزم احْتِيَاط وثقة وَالْقُوَّة ملكة النَّفس وَأَبُو بكر لاحظ كنه الْوتر وَلِهَذَا قَالَ أحرزت نهى وابتغي النَّوَافِل مَعْنَاهُ أَن فِي موقف الْوتر نثار الله وغنمه فينتهبه ويبتغي فِيمَا بَقِي من اللَّيْل نوافل الرب وَعمر لاحظ السَّاعَة الَّتِي يُؤَدِّي فِيهَا الْوتر من سَاعَات اللَّيْل وَهِي السَّاعَة الَّتِي آثرها الله فهبط إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا واطلع على عباده وناداهم وَهِي سَاعَة اهتز لَهَا الْعَرْش واشتغلت الْمَلَائِكَة فِي صفوفها وانقطعت صلَاتهم لما رَأَوْا من هبوط الرب إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا سَمَاء العبيد واطلع عَلَيْهِم وناداهم وَقد جعل الله تَعَالَى للعباد موقفين موقف فِي كل سنة من تَاسِع ذِي الْحجَّة وَهُوَ موقف الْحَج وموقف فِي كل لَيْلَة بعد صَلَاة الْعشَاء فِي الرَّكْعَة الَّتِي وسمها بالوترية تِلْكَ رَكْعَة عَلَيْهَا(3/197)
سمة الله تَعَالَى بِأَن فَضلهَا على الْأَعْمَال فموقف الْحَج نطق بِهِ الْكتاب وموقف الْوتر نطق بِهِ لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وللعباد فِي هذَيْن الموقفين من الله نوال وقرات أعين لَا يخْطر على قلب بشر فموقف الْحَج موقف المباهاة موقف الْإِسْلَام أَلا ترى أَنه يُقَال حجَّة الْإِسْلَام وقف العَبْد ليسلم إِلَيْهِ رقبته عبودة ليتخذه عبدا فباهى الله بِهِ فِي سمائه وَهَبَطَ إِلَى سمائه العبيد ليطلع إِلَيْهِم ويباهي بهم مَلَائكَته والمباهاة أَن يُرِيهم بهاء الْإِسْلَام الَّذِي على عبيده فِي تسليمهم النُّفُوس إِلَيْهِ معتذرين منعرضين ملقين بِأَيْدِيهِم إِلَيْهِ سلما رافعي أَيْديهم إِلَيْهِ طَمَعا فَيَقُول للْمَلَائكَة انْظُرُوا إِلَى عَبِيدِي فَتلك المباهاة وموقف الْوتر موقف هَدَايَا الْمعرفَة للأولياء والأصفياء وَحُرْمَة الْإِسْلَام للصادقين الْمُجْتَهدين وَالرَّحْمَة الْعَامَّة الْمُوَحِّدين فَيدْخل من ذَلِك الْموقف على الله بِالتَّكْبِيرِ وَيقف بَين يَدَيْهِ فِي الْقُنُوت يرفع إِلَيْهِ رغباته وَيعْتَذر إِلَيْهِ من عمل نَهَاره من تَقْصِيره وتفريطه ويفتقر إِلَى الله تَعَالَى ويتباءس ويتمسكن ويتخشع ويتضع ويتعوذ من الْأَهْوَال والأخطار الَّذِي هُوَ عَلَيْهَا وَيخرج مِنْهُ ثَنَاؤُهُ على ربه ومحامده لَهُ وَذكر آلائه وَبث مننه وَنشر صنائعه واعتراف بمساوئه واعتذار وتوبة إِلَيْهِ وقربة إِلَيْهِ وتنصل بالاستغفار وترض وملق وتضرع واستعاذة بالمعاذ وتختيم بِالْكَلِمَةِ الَّتِي بهَا يُسْتَجَاب وَيخَاف مِمَّا خص الله تَعَالَى هَذِه الْأمة
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرنِي جِبْرِيل ولقاني عِنْد فراغي من فَاتِحَة الْكتاب وَعند الدُّعَاء آمين وَقَالَ إِنَّه كالطابع على الْكتاب(3/198)
وَإِذا ختم العَبْد الدُّعَاء بآمين صَار الدُّعَاء مطويا بِالْكتاب مصونا عَن الْآفَات وَعَن تنَاوله وإطلاع مَا فِيهِ وَإِنَّمَا ختم الْكتاب لِئَلَّا ينشره أحد وَلَا يطلع عَلَيْهِ فَإِذا ختم العَبْد الدُّعَاء بآمين صانه عَن أَن يطلع فِيهِ وَصعد إِلَى الله بالختم مطويا مصونا عَن الْآفَات فَيُجِيبهُ الله تَعَالَى لِأَنَّهُ قد سبق مِنْهُ القَوْل بالخصوصية لأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم}
وَفِيهِمْ مَا فيهم من قلَّة الشُّكْر وَالْوَفَاء وَكَثْرَة التَّخْلِيط وَالِاسْتِخْفَاف بِأَمْر الله والإعراض عَن حق الله فَلَو لم يعطهم الْخَتْم حَتَّى يختموا دعاءهم آمين فَيصير الْخَتْم مَانِعا لجَمِيع الْخلق بَين العَبْد وَبَين الله من الْهَوَاء إِلَى الْعَرْش فَكَانَ ممر دعائنا إِلَى الْعَرْش مَحل الدُّعَاء ومعدن الْإِجَابَة وَالْقَضَاء لَكَانَ لَا يَخْلُو من أَن يتَعَرَّض متعرض لإفساد ذَلِك حمية لله تَعَالَى فَإِن الْخلق كلهم مطيعون فَإِذا مرت عَلَيْهِم دَعْوَة العصاة لم يُؤمن أَن يرموا فِيهَا شَيْئا يكون فِيهِ فَسَادًا
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن على أَبْوَاب السَّمَاء حِجَابا يردون أَعمال أهل الْكبر والحسد والغيبة
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن العَبْد ليقول يَا رب اغْفِر لي وَقد أذْنب فَتَقول الْمَلَائِكَة يَا رب إِنَّه لَيْسَ لذَلِك بِأَهْل قَالَ الله تَعَالَى لكني أهل أَن أَغفر لَهُ
فقد أعْطى الله تَعَالَى هَذِه الْأمة كلمة الْخَتْم وَهِي آمين ليصعد دعوتهم إِلَيْهِ مختومة لَا يطلع على مَا فِيهَا أحد حَتَّى لَا يَجدوا سَبِيلا(3/199)
إِلَى الطعْن فِيهَا وَدُعَاء كل رجل يخرج على قدر مَا عِنْده من قُوَّة الْقلب فِي الدُّعَاء فَرب دُعَاء دَاع يخرج من نور وافر بِمَنْزِلَة شمس تطلع وَدُعَاء يخرج مَعَ تَقْصِير فنوره بِمَنْزِلَة قمر يطلع وَدُعَاء يخرج مَعَ تَقْصِير كثير فنوره بِمَنْزِلَة كَوْكَب وَإِنَّمَا تفَاوت الدُّعَاء لاخْتِلَاف مخارجها من الْمَعَادِن
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْقُلُوب أوعية وَبَعضهَا أوعى من بعض فَإِذا دعوتم الله تَعَالَى فَادعوهُ وَأَنْتُم موقنون بالاستجابة فَإِن الله تَعَالَى لن يستجيب دُعَاء عَن ظهر قلب غافل
فَظهر الْقلب دُعَاء قد تعلمه العَبْد يدبر الْكَلِمَات بمضغة لِسَانه فِي حنكه ولهاثه وَلَيْسَ عِنْده وَرَاء ذَلِك شَيْء إِلَّا تِلْكَ الْإِرَادَة الَّتِي من الْقلب يَبْتَغِي خيرا من عِنْد ربه وَهُوَ لَا يدْرِي ذَلِك الْخَيْر وَهُوَ عِنْده كالجزاف غير مفتقر إِلَى تِلْكَ الْحَاجة فَهُوَ كصبي نطق من غير عقل وَلَيْسَ لكَلَام الصَّبِي قدر عِنْد الْخلق إِلَّا أَن الْكَرِيم لما علم إِرَادَة الْخَيْر من الدَّاعِي أعطَاهُ على ذَلِك أجرا إِذا دَعَا على رَجَاء أَن ينَال مِنْهُ مَعْرُوفا فَأَما الاستجابة فَهُوَ بعيد مِنْهَا لِأَنَّهُ لم يخرج مِنْهُ الدُّعَاء على الْجد وَالِاجْتِهَاد وَلَو كَانَ ذَلِك مِنْهُ جدا لترك الْإِبَاق من ربه بِالذنُوبِ والمعاصي والبطالات والإكباب على الدُّنْيَا وَالِاسْتِخْفَاف بِحَق الله وَبِدَارِهِ وبيوم الْحساب وبوعده ووعيده ومواعظه وَمَوته فَإِن الْآبِق من مَوْلَاهُ فِي الدُّنْيَا إِذا دَعَاهُ فِي حَال اباقه ويراسله يسْتَوْجب بذلك المقت من مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ فِي صُورَة المستهزئ بِهِ فَمن أثقل ظَهره من الْخَبَائِث فَصَارَ كسلان لَحْمًا ودما ملقى على الأَرْض وخيما جلفا جَافيا فتعلم الْأَدْعِيَة عَن أَلْسِنَة النَّاس ملتمسا بهَا نوالا لَا عَن فاقة وافتقار خرجت من جَوْفه تِلْكَ الْكَلِمَات وَلَا علم لَهُ(3/200)
بِمَا سَأَلَ وَإِن كَانَ أعلم النَّاس باللغة فَهُوَ عَالم بِالْكَلِمَةِ من طَرِيق اللُّغَة جَاهِل بغور الْكَلِمَة ومعدنها ووقتها وموضعها فَهُوَ جَاهِل بِالْمَعْنَى أعمى عَن حشوه فَصَاحب لَا يُصِيب فِي دُعَائِهِ جدا وَلَا اجْتِهَادًا وَإِنَّمَا يَدْعُو عَن ظهر قلب فَهَذَا عبد يُجَاب وَلَا يُسْتَجَاب وَإِنَّمَا يُجَاب لِأَنَّهُ مُؤمن فالإجابة للْمُؤْمِنين والاستجابة للجادين الْمُجْتَهدين المفتقرين المرتعنين المتبائسين المتخشعين الموقنين إِلَّا أَن الله هُوَ الْكَرِيم الْجواد أوسع لعبيده فجاد عَلَيْهِم بالمعرفة الَّتِي هِيَ أعظم الْأَشْيَاء استحيى أَن يتْرك هَذَا العَبْد خَالِيا صفر الْيَدَيْنِ إِذا مد يَده إِلَيْهِ حَتَّى يأجره على ذَلِك فَيكون ذَلِك إِجَابَة لَا استجابة
قَالَ عبد الرَّحْمَن بن غنم بَيْنَمَا نَحن جُلُوس يَوْمًا عِنْد معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ إِذْ دَعَا بِدُعَاء لم أسمع دَاعيا يَدْعُو مثل دُعَائِهِ فَقلت لَهُ رَحِمك الله يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن لَو علمتني بعض مَا تَدْعُو بِهِ فَقَالَ لَو كنت أعلم لَك فِيهِ خيرا كنت علمتك فَقلت سُبْحَانَ الله لم لَا تعلم لي فِيهِ خيرا قَالَ لِأَن رَسُول الله كَانَ يَدْعُو بِالدُّعَاءِ الْكَبِير الْحسن الْجَمِيل الَّذِي لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يَقُول مثله فَقلت لَهُ يَوْمًا يَا رَسُول الله لَو علمتني بعض مَا تَدْعُو بِهِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كنت أعلم لَك فِيهِ خيرا لعلمتك فَقلت سُبْحَانَ الله يَا رَسُول الله لم لَا تعلم لي فِيهِ خيرا قَالَ لِأَن أفضل الدُّعَاء مَا خرج من الْقلب بجد واجتهاد فَذَاك الَّذِي يسمع ويستجاب وَإِن قل
فالجد أَن يقف العَبْد بِقَلْبِه فِي مَحل الدُّعَاء وَالِاجْتِهَاد مفتقر الْقلب إِلَى الله متبائس النَّفس
وَقَوله تَعَالَى {أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان} أَرَادَ إِجَابَة تَلْبِيَة على مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/201)
إِذا قَالَ العَبْد يَا رب قَالَ الله تَعَالَى لبيْك يَا عَبدِي
وَأما الاستجابة فَقَالَ تَعَالَى ادْعُونِي أستجيب لكم ثمَّ بَين فِي آيَة أُخْرَى لمن الاستجابة فَقَالَ {ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات}
وَيَنْبَغِي أَن يكون الدُّعَاء على هَيْئَة وأدب فَإِن لكل أدب ثَمَرَة وَلكُل هَيْئَة زِينَة يبْدَأ بمدائحه ثمَّ الثَّنَاء عَلَيْهِ والتنزيه لَهُ ثمَّ محامده وَذكر آلائه وَبث مننه وَنشر صنائعه وَالِاعْتِرَاف بالمساوئ وَالتَّوْبَة إِلَيْهِ والاعتذار والتنصل وَالِاسْتِغْفَار والتضرع والاستعاذة والاختتام بآمين وَالله أعلم وَأحكم(3/202)
- الأَصْل الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان
-
فِي بَيَان أَقسَام الْقُرْآن
عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنزل الْقُرْآن الْعَظِيم على عشرَة بشيرا وَنَذِيرا وناسخا ومنسوخا ومحكما ومتشابها وعظة ومثلا وحلالا وحراما فَمن ابتشر ببشيره وانتذر بنذيره وَعمل بناسخه وآمن بمنسوخه وَاقْتصر على محكمه ورد علم متشابهه إِلَى عالمه واتعظ بعظته وَاعْتبر بِمثلِهِ وَأحل حَلَاله وَحرم حرَامه فَأُولَئِك هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم الدَّرَجَات العلى مَعَ النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا وَهُوَ وارثي ووارث الْأَنْبِيَاء من قبلي وَلَوْلَا قسم أَنه لَا نَبِي بعدِي لَكَانَ نَبيا من أَنْبيَاء الله تَعَالَى وَلَا يزَال فِي ضَمَان الله تَعَالَى وَكَيف وَحَيْثُ مَا تَلا الْقُرْآن غَشيته الرَّحْمَة وتنزلت عَلَيْهِ السكينَة وَكَانَ بِعَين الله منورا لَهُ قلبه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ويحشر يَوْم الْقِيَامَة فِي زمرتي وَتَحْت لِوَائِي ولوائي أَبيض الْعود أَخْضَر الرقعة أفيح الرّيح لَهُ لسانان لِسَان يرى بالمشرق ولسان يرى بالمغرب يظل حَملَة الْقُرْآن والمتحابين فِي الله وَمن ضيع وَاحِدَة مِنْهُنَّ فقد ضيع كُلهنَّ ويلقى الله غَدا ظمآن محول(3/203)
الْقلب نادم الْقلب مرتعد الْفُؤَاد حاسر الْقدَم مستحييا من الرب مغْفُور لَهُ أَو معذب
قَوْله ابتشر ببشيره الْبُشْرَى خبر عَن الْغَيْب فَإِن العَبْد فِي دَار المحنة والبلوى متعرض للآفات ممزوج بهَا مسئول عَن الشُّكْر عَلَيْهَا وَمُقْتَضى لِلْبَصَرِ على مزاجها من الْآفَات وَهُوَ فِيمَا بَين ذَلِك لَا يدْرِي مَا يظْهر لَهُ من غيب الله غَدا وَالْخَيْر كائنه فأيد الله الْمُؤمنِينَ بخطاه وبشرهم بِخَبَر نفى حيرتهم حَتَّى قويت الْقُلُوب واطمأنت النُّفُوس وتخلص الْقلب من وساوسها وَصَارَ حرا مَالِكًا قوي الْقلب وانتشر السرُور فِي الصَّدْر فنضرت الْوُجُوه وَتلك النضرة تورث الْبشر قَالَ الله تَعَالَى {ولقاهم نَضرة وسرورا} نَضرة فِي الْوُجُوه وسرورا فِي الْقلب
فالسرور يفِيض الْقلب من الْفَرح الَّذِي حل بِالنَّفسِ فالفرح فِي النَّفس وَالسُّرُور تولده فِي الْقلب وانتشاره فِي الصَّدْر ثمَّ يتَأَدَّى ذَلِك من مجمع الْعُرُوق الَّذِي على الْقلب إِلَى الْعُرُوق الَّتِي فِي الْوُجُوه فَتَشرب جلده الْوُجُوه من ذَلِك بِمَنْزِلَة شَجَرَة شربت عروقها من المَاء فِي أَصْلهَا فأدت عروقها إِلَى الأوراق فنضرت فَإِذا كَانَ كَذَلِك على أَن فِي الْبَاطِن خَبرا سارا فَعمل ذَلِك الْكَلَام فِي قلبه وصدره حَتَّى اخْتَلَط بِذَاتِهِ فاختلط بسمعه وَشمه وبصره ومخه وَجَمِيع جوارحه وَهَذَا لمن اسْتمع قلبه إِلَى خطابه بأذني قلبه فاستقر فِيهِ علم ذَلِك وَورد الْعقل على قلبه بنهاء ذَلِك الْخطاب والفهم بمكنون لطائفه والفطنة بكشف الغطاء عَن صور تِلْكَ اللطائف فطابت النَّفس بذلك وازدهرت وأينعت عَن الذبول والخمول فَمن كَانَ بِهَذِهِ الصّفة فقد ابتشر بالبشرى(3/204)
وَقَوله انتذر بنذيره فَإِن العَبْد قد شرهت نَفسه من الْفَرح بأحوالها وبسبب نمائها فقطرت فَإِذا جاءها الْوَعيد من الله تَعَالَى ذبلت وَسكن تلظي تِلْكَ الأفراح فتنغصت عَلَيْهِ حلاوتها وتكدر عَلَيْهِ صفو النعم فَظهر فِي صَدره من كدورة دُخان الْوَعيد ومرارة التنغص فتأدى ذَلِك إِلَى الْوَجْه فأورثه العبوس فتجده مرّة ذَا بشر ونضرة وَمرَّة ذَا عبوس وكسوف وَإِذا ورد عَلَيْهِ الْبشر أقرّ وَجهه بذلك النضرة وَظهر الْبشر وَزَالَ عَنهُ الْكُسُوف وَإِذا ورد عَلَيْهِ الْوَعيد انكسف الْقَمَر الَّذِي بِوَجْهِهِ وانعبس فَمن ابتشر ببشير الله وانتذر بنذيره فَإِنَّمَا يفعل ذَلِك بقلب عَامر ومحال أَن تَجِد أَحدهمَا وتفقد الآخر لِأَن ذَلِك فعل الْقلب
قَوْله وَعمل بناسخه وآمن بمنسوخه فالناسخ آيَة قد أَمر الله بِالْعَمَلِ بهَا وَقد كَانَ قبل ذَلِك أَمر بِغَيْر ذَلِك فِي آيَة نزلت قبلهَا والناسخ والمنسوخ بلوى من الله لعَبْدِهِ لينْظر أيعبد الله ظَاهرا وَبَاطنا أم يعبده فِي الظَّاهِر ويعبد هَوَاهُ فِي الْبَاطِن
قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم من يتبع الرَّسُول مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ}
وَقَالَ تَعَالَى {ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ}
مَعْنَاهُ حَتَّى نعلم من يُجَاهد نَفسه فِي ذاتي ويصبر عَمَّا حرمت عَلَيْهِ وعَلى مَا افترضت عَلَيْهِ وعَلى مَا حكمت عَلَيْهِ من الْأَحْوَال الْمَكْرُوهَة مثل الْفقر والذل والبؤس وَالْمَرَض
ثمَّ قَالَ ونبلوا أخباركم أَي أَنْتُم مني مَعَ هَذِه المجاهدة وَالصَّبْر أَعلَى طيب النُّفُوس أم على خبثها وترددها فَإِذا آمن بالمنسوخ وَعمل بالناسخ فَهَذَا عبد منقاد لرَبه قد ألْقى بيدَيْهِ سلما(3/205)
قَوْله (اقْتصر على محكمه ورد علم متشابهة إِلَى عالمه) فالمحكم مَا خرج إِلَى الْعباد من الْحِكْمَة الْبَالِغَة مثل قَوْله تَعَالَى {قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم} وَقَوله {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} إِلَى قَوْله {ذَلِك مِمَّا أوحى إِلَيْك رَبك من الْحِكْمَة}
فَأعْلم الْعباد أَنه لم يَأْمر بِشَيْء وَلَا نهى عَن شَيْء جزَافا أَمرهم ونهاهم بالحكمة الْبَالِغَة
وَقد قَالَ قوم من الْعلمَاء لَيْسَ لأَمره وَنَهْيه عِلّة وَإِنَّمَا هُوَ تعبد وَلَيْسَ كَمَا زعم فَإِنَّهُ تعبد لزم الْعباد الْعَمَل بِهِ وَلَكِن تَيَقّن أَن الله تَعَالَى لم ينْه عَن شَيْء وَلَا أَمر بِشَيْء إِلَّا بالحكمة تَعَالَى الله عَن الْجزَاف المهمل عَن التَّدْبِير وَالتَّقْدِير فتطلب تِلْكَ الْحِكْمَة فِي معادنها فَإِنَّهَا تبعثك على إِقَامَة الْأَمر وَالنَّهْي
وَنحن نذْكر صُورَة نستدل بهَا وَهُوَ أَن الله تَعَالَى افْترض الصَّلَاة على عباده فَرجل أَدَّاهَا تعبدا وَآخر طالع الْحِكْمَة ببصيرته فَوجدَ العَبْد موكلا لحفظ الْجَوَارِح السَّبع السّمع وَالْبَصَر وَاللِّسَان والبطن والفرج وَالْيَدَانِ وَالرجلَانِ بِمَنْزِلَة عبد وكل بسبعة أَغْنَام لكل شَاة مِنْهَا مرعى على حِدة فَأمر بِأَن يرعاها فِي مراعيها وَمَتى تردى وَاحِد فِي جرف تبادر بِإِخْرَاجِهِ فَإِن عني بشأنهن ورعايتهن نَالَ الْكَرَامَة وَإِن أهمل مَا اكْتسب بِفِعْلِهِ إِلَّا مقتا وبعدا فَهَذَا الْمُؤمن فِي غفلاته كَالرَّاعِي فِي نفشائه وَإِنَّمَا سمي مُؤمنا لِأَنَّهُ إطمأن إِلَى الله عبودة لَهُ وَاسْتقر قلبه وَسمي مُسلما لتسليم جوارححه إِلَيْهِ فِي أمره وَنَهْيه وَعَلِيهِ الْوَفَاء بذلك إِلَى يَوْم لِقَائِه فَمَتَى مَا ضيع شَيْئا من أمره وَنَهْيه دخل فِي وَفَاء تَسْلِيمه نقص بِقدر مَا ضيع(3/206)
وَقد علم الله من الْعباد أَنهم سيخلطون هَذَا التَّسْلِيم بتضييع أُمُوره فافترض عَلَيْهِم الْقيام بَين يَدَيْهِ عبودة وتذللا معتذرين مِمَّا ضيعوا فقد قَامَ العَبْد مقَاما جمع جوارحه المنتشرة فِي مراعيها بَين يَدَيْهِ قد أَزَال سَمعه عَن الْأُمُور وَالنَّاس وبصره عَن النّظر إِلَيْهِم وَلسَانه عَن خطاب الْخلق وَيَده عَن الْقَبْض والبسط وَرجله عَن الْمَشْي وبطنه عَن الطَّعَام وفرجه عَن الاعتمال فَهَذَا من العَبْد تَسْلِيم إِلَى الله مُسْتَقْبلا معتذرا بالثناء وَالرُّكُوع وَالسُّجُود مترضيا لَهُ حَتَّى يرجع من عِنْده على تَجْدِيد إِسْلَامه ومزيد من فضل الله وَرَحمته فعبد أدّى فَرَائِضه على هَذِه الصّفة من المطالعة وَالْعلم واليقظة والانتباه وَآخر أَدَّاهَا تعبدا وَهَذَا كُله مَسْتُور عَنهُ فَمَتَى يلْحق هَذَا ذَاك
وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الرجلَيْن ليكونان فِي صَلَاة وَاحِدَة فِي سقف وَاحِد وكما بَين صلاتيهما أبعد مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض
فالحكمة مَوْجُودَة فِي جَمِيع الْأَعْمَال وعللها قَائِمَة لَا يعلمهَا إِلَّا أَهلهَا وهم قوم تخلصت قُلُوبهم من ظلمَة الشَّهَوَات وَخَرجُوا إِلَى الْبُرْهَان الْعَظِيم وَإِلَى النُّور الْأَعْظَم
وَأما الْمُتَشَابه فأسرار الله الَّتِي طواها عَن الْعباد وأسرار الرُّسُل الَّتِي أفضاها إِلَيْهِم وطواها عَن الْعباد وأسرار الْأَوْلِيَاء الَّتِي أفضاها إِلَيْهِم وطواها عَن سَائِر الْمُوَحِّدين فَهَذِهِ أَشْيَاء قد اشْتبهَ على الْخلق لعجزهم عَن احتمالها فالمقتصر على محكمه لَا يتَعَدَّى إِلَى مَا شبه عَلَيْهِ بل يقْتَصر عَنهُ على الْمُحكم فَإِن الْحَاجة بِهِ إِلَى الْمُحكم والمتشابه زِينَة الْمُحكم طواها الله عَن الْعباد لعجزهم عَن احتمالها حَتَّى إِذا انْكَشَفَ(3/207)
الغطاء وتبحبحوا فِي دَار الْملك وَزَالَ عَنْهُم رق العبودة وَصَارَ الْأَمر جَهرا وزاروا الله فِي دَاره طرقهم النّظر إِلَيْهِ وَاحْتِمَال لَذَّة كَلَامه أفْضى إِلَيْهِم الْأَسْرَار الَّتِي طواها عَنْهُم قَالَ ابْن عَبَّاس (رَضِي الله عَنْهُمَا) : تَلا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الْآيَة: {قَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} فَقَالَ:
(قَالَ يَا مُوسَى إِنَّه لَا يراني حَيّ إِلَّا مَاتَ وَلَا يَابِس إِلَّا تدهده وَلَا رطب إِلَّا تفاق إِنَّمَا يراني أهل الْجنَّة الَّذين لَا تَمُوت أَعينهم وَلَا تبلى أَجْسَادهم) فقد أعلمك سَبَب عدم الرُّؤْيَة فِي دارالفناء وَألقى عذره إِلَى مُوسَى حَيْثُ قَالَ {وَلَكِن انْظُر إِلَى الْجَبَل فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني}
فَحل بمُوسَى من الصَّعق مَا حل بِالْجَبَلِ من الدك مَا حل يُعلمهُ أَنه لَا يطيقه احْتِمَاله وَلذَلِك قَالَ (تبت إِلَيْك) لِأَنَّهُ سَأَلَهُ ذَلِك من دَار فانية قذرت بالشرك والمعاصي لشفوفه بربه وزلة عقله فلطف الله لَهُ إِلَى أَن ألْقى إِلَيْهِ عذره فِي ترك إجَابَته وألجأه إِلَى التَّوْبَة إِذْ تبين لَهُ حَتَّى فزع إِلَى التَّنْزِيه لَهُ وَإِلَى التَّوْبَة
وَذهب قوم من الغلاة المعطلة إِلَى أَن الله تَعَالَى لَا يرى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} وَزَعَمت أَن هَذِه صفة من صِفَاته فَلَا تنسخ وَلَا تَتَغَيَّر صفته فَيكون فِي الدُّنْيَا بِخِلَاف مَا فِي الْآخِرَة
فَلَمَّا قيل لَهُم فَمن عطل صفة من صِفَاته أَلَيْسَ قد انْقَطع نظام توحيده لِأَن الْعباد وحدوا رَبًّا بِجَمِيعِ صِفَاته فَإِذا عطلت صفة فقد(3/208)
خرجت من توحيده أفتزعمون أَنه حِين سَأَلَ الرُّؤْيَة انْقَطع النظام وعطل صفة من صِفَاته
ففزعوا من هَذَا القَوْل والتجأوا إِلَى أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يسْأَل رُؤْيَة الْعين وَإِنَّمَا سَأَلَ مُشَاهدَة الْقلب فَلَمَّا قيل لَهُم إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ {رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} وَلم يقل قلبِي ينظر إِلَيْك وَإِن كَانَ هَذَا السُّؤَال للقلب فَلم تجلى للجبل قَالُوا إِنَّمَا جعل فِي الْجَبَل آيَة من آيَاته فتجلت الْآيَة للجبل يُقَال لَهُ يَقُول الله تَعَالَى {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل} وَأَنت تَقول آيَة من آيَاته كفى لَهُ بِهَذَا خزيا(3/209)
- الأَصْل الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان
-
فِي التَّعَوُّذ من النِّفَاق
عَن مَالك بن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ خَطَبنَا أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تعوذوا بِاللَّه من خشوع النِّفَاق) قيل يَا رَسُول الله وَمَا خشوع النِّفَاق قَالَ (خشوع الْبدن ونفاق الْقلب)
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يعبث بلحيته فِي الصَّلَاة فَقَالَ (لَو خشع قلبه لخشعت جوارحه)
قَالَ أَبُو عبد الله فخشوع الْقلب من الْمعرفَة فَكلما كَانَ أوفر حظا من الْعلم بِاللَّه والمعرفة بآلائه كَانَ أخشع فأثقال الْمعرفَة حلت بِالْقَلْبِ فأدت الْقلب إِلَى ثَلَاث خشعة وخضعة وذلة فالذلة الحذر والخضعة اللين والخشعة الانكسار والانحناء فَهَذِهِ صفة الْقلب
وَأما صفة النَّفس تَحت أثقال الْقلب فلهَا الخمود مَكَان ذلة الْقلب(3/210)
والانثناء مَكَان الخضعة والتهافت والتهاتر كالرمل مَكَان الخشعة كَمَا وصف الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْجبَال فَقَالَ {وَكَانَت الْجبَال كثيبا مهيلا} أَي رملا ينهار ويتساقط
فَإِذا صَارَت النَّفس هَكَذَا فَصَارَ الْقلب كَمَا وَصفنَا بدءا فقد لزمَه اسْم الْخُشُوع على الْحَقِيقَة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وخشعت الْأَصْوَات للرحمن فَلَا تسمع إِلَّا همسا}
ذهب الصَّوْت وَقُوَّة ذرو الْكَلَام وَقَالَ تَعَالَى {وَمن آيَاته أَنَّك ترى الأَرْض خاشعة} أَي سَاقِطَة هامدة
فَمن لم يكن فِي قلبه تراكم أثقال الْمعرفَة فتخشع بأركانه فَذَاك نفاق لِأَنَّهُ تماوت وَهُوَ حَيّ فالتماوت مراءاة والرياء نفاق مرّة يرائي الله تَعَالَى فيبتغي عِنْده بذلك جاها ومدحا وَمرَّة يرائي عبيده يَبْتَغِي عِنْدهم جاها ومدحا فيتخشع وَلَيْسَ بخاشع أَلا ترى إِلَى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِذا قَامَ العَبْد بَين يَدي الله لَا يتفرغ للعبث فِي الصَّلَاة وَإنَّهُ كَمَا انتصب لله جسده فِي الظَّاهِر فقد انتصب قلبه فِي الْبَاطِن وكما رمى ببصره فِي الظَّاهِر حَيْثُ يَقع من الْخلقَة فَكَذَلِك رمى ببصر قلبه إِلَى الْمقَام الَّذِي رتب لَهُ إِن كَانَ من أهل الْمرتبَة وَإِلَّا فِي متعبده إِن لم يكن من أهل الْمرتبَة
قَالَ لَهُ قَائِل وَأَيْنَ الْمَرَاتِب
قَالَ الصديقون مَرَاتِبهمْ من الْعَرْش على أصنافهم عَسْكَر دون الْعَرْش(3/211)
وعسكر على الْعَرْش وعسكر فِي الملكوت والخاصة فِي ملك الْملك بَين يَدَيْهِ فأبصار قُلُوبهم هُنَاكَ وأبصار وُجُوههم فِي مواقع الْخلقَة
قيل لَهُ وَمَا مواقع الْخلقَة
قَالَ إِن العَبْد إِذا أَقَامَ على الْخلقَة ثمَّ رمى ببصره على الْخلقَة فَأَما يَقع من الأَرْض بمَكَان لَو خر سَاجِدا لوقعت جَبهته على تِلْكَ الْبقْعَة الَّتِي لَو كَانَ قَائِما فَرمى ببصره لم يَتَعَدَّ تِلْكَ الْبقْعَة وَلم يقصر عَنْهَا وَإِذا ركع فَرمى ببصره على الْخلقَة فَإِنَّمَا يَقع على مَوضِع الْقَدَمَيْنِ وَإِذا سجد فَرمى ببصره فَإِنَّمَا يَقع على مَوضِع الصَّدْر مِنْهُ وَإِذا قعد للتَّشَهُّد فَرمى ببصره فَإِنَّمَا يَقع على رَأس رُكْبَتَيْهِ وطرف فَخذيهِ فَهَذَا كُله رمى ببصره حَيْثُ وَقع لَيْسَ فِيهِ تكلّف وَلَا اسْتِعْمَال لِلْبَصَرِ وَإِنَّمَا الِاسْتِعْمَال فِي وَقت النّظر فَهَذَا رمي خرج من سُلْطَان الْبَصَر وَلَيْسَ بِنَظَر وَالْقلب رام ببصره حَيْثُ وَصفنَا من العلى فِي مَرَاتِبهمْ مَرَاتِب الْأَوْلِيَاء وَالصديقين وَمن لم يكن من أهل الْمَرَاتِب فَفِي متعبده بَين الْعِزَّة حَيْثُ اسْتَقر الْقُرْآن فِي وَقت نُزُوله جملَة فِي شهر رَمَضَان فِي السَّمَاء الدُّنْيَا فَذَاك مَحل المتعبد فَمِنْهَا قبلوا الْقُرْآن بِمَا فِيهِ من العبودة علم الْعباد هَذِه الصّفة أَو لم يعلمُوا فَإِنَّهُم داخلون فِي هَذَا الْبَاب كَمَا تَجِد الْمُسلمين كلهم قد دخلُوا فِي الْمِيثَاق يَوْم استخرجهم من الأصلاب علمُوا أَو لم يعلمُوا فَإِنَّمَا يجزون وتجزى أَرْوَاحهم ويحقق لَهُم بذلك الْأَشْيَاء من التَّقَرُّب
وَوجدنَا للصَّلَاة ثَلَاث مَرَاتِب عَلَيْهَا رتب أهل الصَّلَاة وَقد ذكرهم الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله فحافظون ومداومون وخاشعون
قَالَ تَعَالَى {الَّذين هم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ} الَّذين(3/212)
هم على صلَاتهم دائمون) وعدهم عَلَيْهَا الْكَرَامَة فِي الْجنَّة فَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ فِي جنَّات مكرمون}
وَقَالَ {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون} فَوَعَدَهُمْ على ذَلِك الْفَلاح
والفلاح اسْم يَنْتَظِم الْكَرَامَة والترقي فِي الدَّرَجَات وَالْأَخْذ من الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب والأثرة فِي ذَات الله والمحافظة على الْوَقْت والمداومة على اسْتِعْمَال الْأَركان بحدودها فِي الصَّلَاة وَهُوَ أَن لَا يلْتَفت فِي وَقت الانتصاب وَلَا يتمايل ويسكن أَطْرَافه وَلَا يسْتَعْمل مِنْهَا شَيْئا إِلَّا لضَرُورَة وَعلة مثل الترواح على إِحْدَى الْقَدَمَيْنِ وَمثل حل شَيْء من جسده لذباب يُؤْذِي أَو بعوضة تشغله عَن الصَّلَاة فَتلك ضَرُورَة أَو بزاق أَو مخاط فَهَذِهِ كلهَا علل يعْذر فِيهَا وَإِذا ركع سوى ظَهره لركوعه فَيكون مقدمه كمؤخره وَإِذا سجد خوى وجخى التخوية إِعْطَاء كل مفصل وعضو حَظه من الانتكاس للسُّجُود والتجخية توقيا للانبساط ليَكُون كَهَيئَةِ الساجدين لَا كَهَيئَةِ المنبطحين على الأَرْض ببطونهم وصدورهم فَإِن تِلْكَ ضجعة أهل النَّار على وُجُوههم فَإِذا جخى توقى تِلْكَ الْهَيْئَة وَإِذا خوى أَرَادَ تركيب السُّجُود بَعْضًا على بعض وَإِنَّمَا سمي سجودا لتركيب الْأَعْضَاء بَعْضهَا على بعض وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع لم ينحط حَتَّى يفصل الرُّكُوع من السُّجُود بِقِيَام كل عُضْو مِنْهُ إِلَى مَكَانَهُ وَإِذا سجد فَرفع رَأسه لم يعد إِلَى السَّجْدَة الْأُخْرَى حَتَّى يعود قَاعِدا كَمَا كَانَ وَيرجع كل عُضْو مِنْهُ إِلَى مَكَانَهُ فَذَاك إتْمَام الرُّكُوع وَالسُّجُود وَإِذا قعد جثا على رُكْبَتَيْهِ(3/213)
وَنصب الْيُمْنَى مِنْهُ وافترش الْيُسْرَى مُعْتَمدًا بجلسته عَلَيْهَا فالمداومة على الصَّلَاة مَا وَصفنَا
وَأما الْخُشُوع فَهُوَ على الْقلب وَمن عِنْده يَبْتَغِي فَإِذا لم يكن هُنَاكَ فَلَيْسَ بخشوع إِنَّمَا هُوَ مداومة فالمحافظة من الخشية والمداومة من الْخَوْف والخشعة من التجلي فَإِذا خشِي الْقلب حَافظ وَإِذا خَافَ داوم وَإِذا خشع فالأركان مستعملة فِي القبضة ثمَّ يتَحَوَّل صِفَات الخشعة على اخْتِلَاف صور الْأَفْعَال فِيهَا فأولها خشعة فِي صُورَة الْأسر ثمَّ من بعْدهَا خشعة الْخدمَة ثمَّ من بعْدهَا خشعة العبودة ثمَّ من بعْدهَا خشعة الرّقّ ثمَّ من بعْدهَا خشعة الْحَمد ثمَّ من بعْدهَا خشعة التَّعَلُّق ثمَّ من بعْدهَا خشعة التضرع والملق من الأمل الفسيح فِي خشعته لِأَنَّهُ قد جعل إِلَى ذَلِك سَبِيلا للأحباب وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم}
عَن الْمطلب بن أبي ودَاعَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الصَّلَاة مثنى مثنى وَتشهد فِي كل رَكْعَتَيْنِ وتباؤس وتمسكن وَتَقَع بيديك وَتقول اللَّهُمَّ اللَّهُمَّ فَمن لم يفعل ذَلِك فَهُوَ خداج قَوْله تباؤس مَأْخُوذ من الْبُؤْس وَهُوَ أَن تفْتَقر إِلَى رَبك افتقار من كَانَ تُرَابا فخلق بشرا وَالتَّبَاؤُس والتخشع قريب أَحدهمَا من الآخر وَالله أعلم وَأحكم(3/214)
- الأَصْل السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان
-
فِي مَا يُقَال عِنْد النّوم
عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا آوى إِلَى فرَاشه كل لَيْلَة جمع كفيه ثمَّ نفث فيهمَا فَقَرَأَ فيهمَا قل هُوَ الله أحد وَقل أعوذ بِرَبّ الفلق وَقل أعوذ بِرَبّ النَّاس وَيمْسَح بهما مَا اسْتَطَاعَ من جسده وَيبدأ بهما على رَأسه وَوَجهه وَمَا أقبل من جسده وَيفْعل ذَلِك ثَلَاث مَرَّات
وروى مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا اشْتَكَى قَرَأَ على نَفسه المعوذات(3/215)
وينفث فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعه كنت أَقرَأ عَلَيْهِ وأمسح عَلَيْهِ بِيَدِهِ رَجَاء بركتها
عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا آوى إِلَى فرَاشه نفث بكفيه بقل هُوَ الله أحد والمعوذتين ثمَّ يمسح بهما وَجهه وعضده وصدره حَيْثُ مَا بلغت من جسده فَلَمَّا اشْتَكَى أَمرنِي أَن أفعل ذَلِك بِهِ فَكنت أَقُول أَعْطِنِي كفيك أَمسَح بهما ببركتهما
قَالَ يُونُس فَكنت أرى ابْن شهَاب يفعل ذَاك إِذا آوى إِلَى فرَاشه
عَن زِيَاد بن سعد أَن ابْن شهَاب حَدثهُ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنهُ قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اشْتَكَى نفث على نَفسه بالمعوذات فَمسح بيدَيْهِ فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعه الَّذِي قبض فِيهِ طفقت أنفث عَلَيْهِ بالمعوذات وأمسح عَلَيْهِ بيدَيْهِ
قَالَ أَبُو عبد الله فَفِي حَدِيث عقيل يخبر أَنه بَدَأَ فنفث فَقَرَأَ كَأَنَّهُ دلّ على أَن النفث كَانَ قبل الْقِرَاءَة وَفِي حَدِيث مَالك بَدَأَ بِذكر الْقِرَاءَة ثمَّ النفث
وَفِي حَدِيث يُونُس بَدَأَ بِذكر النفث بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ قَالَ نفث بقل هُوَ الله أحد فَلَا يكون هَذَا النفث إِلَّا بعد الْقِرَاءَة وَإِذا فعل الشَّيْء بالشَّيْء كَانَ ذَلِك الشَّيْء مقدما حَتَّى يَأْتِي الشَّيْء الثَّانِي فَقَالَ فِي حَدِيث يُونُس نفث بقل هُوَ الله أحد دلّ على أَن الْقِرَاءَة مُقَدّمَة ثمَّ نفث ببركتها لِأَنَّهُ يَبْتَغِي من قِرَاءَة هَذِه السُّور أَن يصل إِلَى الْجَسَد(3/216)
نورها وبركتها وَلَا يقدر على الإيصال إِلَّا بِمثل هَذَا وَذَلِكَ أَن العَبْد إِذا قَرَأَ استنار صَدره بِنور ذَلِك الْكَلَام الَّذِي يتلوه كل قَارِئ على قدره فَإِذا نفث فَإِنَّمَا ينفث من الصَّدْر فالنفث من الرّوح والنفخ من النَّفس
وعلامة ذَلِك أَن الرّوح بَارِد وَالنَّفس حَار وَإِذا قَالَ بف خرجت الرّيح بَارِدَة فَذَاك من برد الرّوح وَإِذا قَالَ هاه خرجت الرّيح حارة فَتلك من النَّفس فَالْأولى نفثة وَهَذِه الثَّانِيَة نفخة وَإِنَّمَا صَار هَكَذَا لِأَن الرّوح مَسْكَنهَا فِي الرَّأْس ثمَّ هِيَ منفث فِي جَمِيع الْجَسَد وَالنَّفس مَسْكَنهَا فِي الْبَطن ثمَّ هِيَ منفشة فِي جَمِيع الْجَسَد وَفِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا حَيَاة بهَا يسْتَعْمل الْجَسَد بالحركات فالروح سماوي وَالنَّفس أرضية وَالروح عَادَتهَا الطَّاعَة وَالنَّفس عَادَتهَا الشَّهَوَات فَإِذا ضم شَفَتَيْه اعتصرت الرّوح فِي مَسْكَنهَا فَإِذا قصد لإرسالها خرجت على شَفَتَيْه مَعَ الْبرد فَذَاك النفث وَإِذا فتح فَاه فاعتصرت النَّفس فَإِذا أرْسلت خرجت ريح حارة وَإِنَّمَا جَاءَ الْخَبَر بالنفث لِأَن الرّوح أسْرع نهوضا إِلَى نور تِلْكَ الْكَلِمَات وأوفر حظا من النَّفس وَالنَّفس ثَقيلَة بطيئة عاجزة فَأدى الرّوح إِلَى الْكَفَّيْنِ بذلك النفث ريحًا قد باشرت أنوار الصَّدْر الَّتِي أنارتها تِلْكَ الْكَلِمَات وأشعلتها بِمَا جَاءَ من الْمَزِيد فَإِن فِي كل كلمة مِنْهَا نورا وَفِي كل حرف من تِلْكَ الْكَلِمَة نورا فَإِذا صَارَت الرّيح إِلَى الْكَفَّيْنِ بالنفث مسح بهما وَجهه وَمَا أقبل من جسده ثمَّ بعد ذَلِك حَيْثُ مَا بلغ من جسده لِأَن الْحق للْوَجْه لِأَن الصُّورَة فِيهِ ثمَّ الْحق من بعد ذَلِك لما أقبل من الْجَسَد لِأَن قبالة الْمُؤمن حَيْثُ مَا كَانَ فَهُوَ لقبالة الله وَكَذَلِكَ قلبه فِي الْبَاطِن فَالْحق لَهُ فِي النفث أَن يبْدَأ بِالْوَجْهِ ثمَّ بِمَا أقبل من جسده وتفاوت النغثات من أَهلهَا على قدر نور قُلُوبهم وعلمهم بِتِلْكَ الْكَلِمَات فَإِذا فعل ذَلِك بجسده عِنْد إيوائه إِلَى فرَاشه كَانَ كمن اغْتسل بِأَطْهَرَ مَاء وأطيبه(3/217)
فَمَا ظَنك بِمن يغْتَسل بأنوار كَلِمَات الله تَعَالَى وَكَانَ ذَلِك أَيْضا كَثوب نفض من غباره وخلص من شوكه وتباعد من الزهومات فَعَاد طريا طيبا فَخرجت نَفسه إِلَى الله فِي مَنَامه كَذَلِك هَذَا سوى الاسْتِغْفَار وَالتَّوْبَة وَالتَّسْبِيح وَالدُّعَاء الَّذِي أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْأمة عِنْد منامهم وَإِنَّمَا اخْتَار هَذِه القلات الثَّلَاث لِأَن فِي إِحْدَاهُنَّ مِدْحَة الله تَعَالَى ونعته فبه يطهر وينزه ويطيب وبالمعوذتين يتَخَلَّص من الشّرك وَلِأَن على ابْن آدم عدوين عظيمي الْمُؤْنَة النَّفس والشيطان يأتيان بِالشَّكِّ والشرك فِي الْيَقَظَة ويأتيان بِالْعينِ الحاسدة الَّتِي تهدم أَرْكَان النِّعْمَة
وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعين حق وَأكْثر من يَمُوت من أمتِي بعد قَضَاء الله بِالنَّفسِ وَإِنَّمَا صَار هَكَذَا لِأَن هَذِه الْأمة أيدت بِالْيَقِينِ وفضلت بِهِ وطريقهم إِلَى الله تَعَالَى وَاسِعَة فطولبوا بِمَا فضلوا أَن ينسبوا كل شَيْء يستحسنونه إِلَى خالقه ويبركوا فيقولوا تبَارك الله فَإِذا تركُوا ذَلِك إعجابا بذلك الشَّيْء تهافت ذَلِك الشَّيْء وَذهب حسنه وَهلك
وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ سبق نَاقَة الاعرابي نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ استبقا فَقَالَ حق على الله أَن لَا يرفع النَّاس أَعينهم إِلَى شَيْء إِلَّا وَضعه الله(3/218)
وَإِنَّمَا ذمّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ الْعُيُون الغافلة عَن الله تَعَالَى فسماها حاسدة فَقَالَ {وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد}
فَإِنَّمَا سمي حَاسِدًا لِأَنَّهُ يحصد الْأَشْيَاء حصدا ويستأصلها بِسوء نظرته العاجزة عَن الله تَعَالَى وَالسِّين وَالصَّاد يعتقبان يُجزئ أَحدهَا عَن الآخر كَقَوْلِك صِرَاط وسراط
فَإِن قَالَ قَائِل فَإِن كَانَ هَذَا النَّاظر بغفلته هُوَ الْجَانِي فَمَا بَال المنظور إِلَيْهِ لحقته الْعقُوبَة قيل لَيْسَ لَهُ ذَا عُقُوبَة وَلَكِن هَذَا تَدْبِير الله تَعَالَى فِي عباده أَلا يرى أَن السَّاحر يسحر بأخذته فيخلص الضَّرَر إِلَى من سحره حَتَّى يعالج
وَكَذَلِكَ فعل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أنزلت عَلَيْهِ المعوذتان فَكَانَ جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام يقْرَأ كل آيَة وَيحل عقدَة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد}
فالساحر يعْقد وينفث فَيُؤْخَذ بهَا أَعْضَاء من يَقْصِدهُ بذلك فَكَذَلِك هَذَا يخلص إِلَيْهِ ضَرَر نظرته المشوبة بالإعجاب حَتَّى يَأْخُذهُ
عدنا إِلَى حَدِيث يُونُس عَن الزُّهْرِيّ قُلْنَا فَمن اتخذ هَذَا الْفِعْل عِنْدَمَا يأوي إِلَى فرَاشه عَادَة رأى النَّفْع الظَّاهِر فِي جسده وَسَائِر أُمُوره لِأَن النَّفس تعرج إِلَى الله فِي منامها مَعَ الْبركَة وَالطَّهَارَة والنزاهة والتخلص من الشّرك بِقِرَاءَة هَذِه السُّورَة فتسجد تَحت الْعَرْش وَهِي بِهَذِهِ الصّفة قد اغْتَسَلت بِهَذِهِ الْأَشْيَاء فتنال من حباء الله وكرامته مَا ترجع بِهِ إِلَى الْجَسَد بِالْخَيرِ الْكثير والمزيد الشافي وَإِذا عرجت إِلَى الله تَعَالَى بِغَيْر هَذِه الصّفة سجدت وَهِي خَالِيَة عَن هَذِه الْأَشْيَاء فينال من الحباء والكرامة على قدره(3/219)
عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ تعرج الْأَرْوَاح إِلَى الله تَعَالَى فِي منامها فَمَا كَانَ طَاهِرا يسْجد تَحت الْعَرْش وَمَا لم يكن طَاهِرا يسْجد قاصيا فَلذَلِك يسْتَحبّ أَن لَا ينَام الرجل إِلَّا وَهُوَ طَاهِر
قَالَ أَبُو عبد الله فَإِنَّمَا ذكر عبد الله بن عَمْرو فِي حَدِيثه الْأَرْوَاح وَإِنَّمَا هِيَ النُّفُوس وَقد يُسَمِّي الشَّيْء باسم قرينه كَمَا قيل قلب وفؤاد فالقلب مَا بطن والفؤاد مَا ظهر وَفِيه العينان والأذنان وَالْخُرُوج من منامها للنفوس وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى}
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِن النُّفُوس تعرج إِلَى الله تَعَالَى فِي منامها فَمَا كَانَ طَاهِرا سجد تَحت الْعَرْش وَمَا كَانَ غير طَاهِر تبَاعد فِي سُجُوده وَمَا كَانَ جنبا لم يُؤذن لَهَا فِي السُّجُود
قَالَ أَبُو عبد الله فَإِذا كَانَ بِطَهَارَة الْوضُوء ينَال الْقرْبَة تَحت الْعَرْش حَتَّى يسْجد هُنَاكَ فَكيف إِذا أَتَى بِطَهَارَة وَتَوَضَّأ ونزه وطاب وطهر بأنوار كَلَام الله تَعَالَى الَّتِي ترددت فِي صَدره وَنَفث مِنْهَا على جسده إِن هَذِه لسجدة لَهَا عِنْد الله خطر عَظِيم(3/220)
- الأَصْل السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان
-
فِي حسن الْخلق
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن العَبْد ليبلغ بِحسن خلقه دَرَجَة الصَّوْم وَالصَّلَاة
فدرجة الصَّوْم دَرَجَة الصابرين ودرجة الصَّلَاة دَرَجَة الشَّاكِرِينَ فَإِذا وصل العَبْد إِلَى دَرَجَة الشَّاكِرِينَ وَالصَّابِرِينَ فقد جمع الْإِيمَان كُله وَذَلِكَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِيمَان نِصْفَانِ نصف للشكر وَنصف للصبر
وَإِذا جمع العَبْد الْإِيمَان كُله انْقَطع بِقُوَّة هَذَا الْإِيمَان إِلَى الله تَعَالَى وَإِذا انْقَطع إِلَى الله نجا من شرور النَّفس وخدعها وأمانيها وَصَارَ فِي معَاذ الله من وساوسها(3/221)
روى عمرَان بن حُصَيْن عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (من انْقَطع إِلَى الله كَفاهُ مُؤْنَته ورزقه من حَيْثُ لَا يحْتَسب)
وَبِذَلِك أَمر الله تَعَالَى نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ {وَاذْكُر اسْم رَبك وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا}
فَمن تمسك بِهَذِهِ الْآيَة عَاشَ حرا كَرِيمًا وَمَات حرا كَرِيمًا وَلَقي الله تَعَالَى عبدا صافيا خَالِصا
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي حَدِيث الرُّؤْيَا وَرَأَيْت رجلا من أمتِي بَينه وَبَين الله حجاب فَجَاءَهُ حسن خلقه فَأدْخلهُ على الله تَعَالَى
فَهَذَا يُحَقّق مَا قُلْنَا بدءا إِن حسن الْخلق يُؤَدِّيه إِلَى الله انْقِطَاعًا عَن النَّفس وفتنتها وَحسن الْخلق على ثَلَاث منَازِل أول منزلَة مِنْهَا أَن يحسن خلقه مَعَ أمره وَنَهْيه وَيَأْمُر يأتمر وَيَنْتَهِي عَن مناهيه فَإِذا أحكم هَذَا تخطى إِلَى الْمنزلَة الثَّانِيَة وَهُوَ أَن يحسن خلقه مَعَ جَمِيع خلقه على سَبِيل المساعدة والمقاربة والمساهلة واللين والرفق والمواتاة والمواراة ومعاشرة الْجَمِيل فَإِذا حكم هَذَا تخطى إِلَى الْمنزلَة الثَّالِثَة وَهُوَ أَن يحسن خلقه مَعَ تَدْبِير الله تَعَالَى فِي كل أُمُوره فَلَا يُرِيد إِلَّا مَا يُرِيد الله وَلَا يَشَاء إِلَّا مَا يَشَاء الله
فعينه مَادَّة إِلَى مَا يبرز لَهُ سَاعَة فساعة من حجاب الملكوت من تِلْكَ الغيوب من تَدْبيره فيتلقاه مهتشا رَاضِيا وَقد ائْتمن الله على نَفسه وَأَحْوَالهَا فَهَذَا رجل قد اسْتكْمل حسن الْخلق واستراح قلبه واطمأنت نَفسه واستقامت جوارحه وَألقى إِلَى الله بيدَيْهِ سلما وَوَجَدته كَافِيا كَرِيمًا حسنا مولى وناصرا فَنعم الْمولى وَنعم النصير(3/222)
وَإِذا قَالَ حِينَئِذٍ حسبي الله صدقه على عَرْشه وَإِذا قَالَ كفى بِاللَّه وَكيلا كَفاهُ الله وَإِذا توكل على الله هيأه لَهُ وَإِذا اتكل على كرمه وفى لَهُ بِمَا هُوَ سَأَلَهُ وَلَو كَانَ ذَلِك طي الأَرْض وَالْمَشْي فِي الْهَوَاء وَلَو سَأَلَهُ يَوْم الْقِيَامَة أمة لشفعه فيهم وَكَانَ مَسْكَنه فِي أَعلَى الْجنان يُحَقّق مَا قُلْنَاهُ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ترك الْكَذِب وَهُوَ بَاطِل بني لَهُ فِي ربض الْجنَّة وَمن ترك المراء وَهُوَ محق بني لَهُ فِي وَسطهَا وَمن حسن خلقه بني لَهُ فِي أَعْلَاهَا
فَالَّذِي قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ إِن العَبْد ليبلغ بِحسن خلقه دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم وَهُوَ عندنَا دَرَجَة المعاشرة مَعَ خلقه مَعَ الائتمار بأَمْره والتناهي عَمَّا نهى عَنهُ فَهَذَا عبد نزل من حسن الْخلق دَرَجَتَيْنِ فَصَارَ كمن صَامَ نَهَاره وَقَامَ ليله فَهُوَ صابر شَاكر وَإِنَّمَا بقيت الدرجَة الْعليا فَتلك دَرَجَة المنفردين خَاصَّة الله(3/223)
- الأَصْل الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان
-
فِي الصَّبْر عِنْد الْمَرَض
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مرض لَيْلَة فَصَبر وَرَضي بهَا عَن الله خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه
قَالَ أَبُو عبد الله جاد العَبْد بِنَفسِهِ على الله لَيْلَة وَاحِدَة فجاد الله عَلَيْهِ بمغفرة طهرته من جَمِيع الذُّنُوب فَصَارَ كمن لَا ذَنْب لَهُ فَهَكَذَا شَأْن الْكَرِيم مَعَ الْمُؤمنِينَ هَذَا فِيمَن جاد عَلَيْهِ بليلة فَكيف بِمن جاد عَلَيْهِ فِي جَمِيع عمره بِمَاذَا يجود عَلَيْهِ يجود عَلَيْهِ غَدا بِوَجْهِهِ الْكَرِيم حَتَّى يصير بِالصّفةِ الَّتِي ذكرهَا فِي تَنْزِيله عِنْدَمَا ذكر لظى نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا {وسيجنبها الأتقى الَّذِي يُؤْتِي مَاله يتزكى} إِلَى قَوْله {ولسوف يرضى} أَي ابْتغى بِهَذَا التَّقْوَى والصفاء(3/224)
وَالْإِخْلَاص أَن يلقى وَجهه الْكَرِيم قلبا ويلقاه غَدا فِي الْموقف رُؤْيَة ويلقاه فِي الفردوس نظرا وَذَلِكَ مُنْتَهى المنى
وَالنَّظَر أَكثر من الرُّؤْيَة لِأَنَّهُ يرَاهُ فِي الْموقف رُؤْيَة الديَّان عرضا وقبولا وَجَزَاء وَفِي الفردوس رُؤْيَة الحنان نظرا وبهجة وسرورا وَلَذَّة ثمَّ خَتمه بقوله {ولسوف يرضى} أَي يعْطى حَتَّى يرضى وَإِنَّمَا يعْطى مَا يعقل العَبْد ثمَّ بَين وَرَاء ذَلِك مَا لم يعقله
عَن جَابر بن عبد الله أَظُنهُ رَفعه قَالَ يَقُول الله تَعَالَى يَا أهل الْجنان بَقِي لكم شَيْء لم تنالوه فَيَقُولُونَ وَمَا هُوَ يَا رَبنَا فَيَقُول رِضْوَانِي
فالرضوان آخر مَا ينَال أهل الْجنَّة لَا شَيْء أكبر مِنْهُ ذكر الله جنَّات عدن فِي تَنْزِيله ثمَّ قَالَ {ورضوان من الله أكبر}
فَكل عبد من أهل الْجنَّة حَظه من الرضْوَان هُنَاكَ فِيهَا على قدر جوده بِنَفسِهِ على الله فِي الدُّنْيَا أَلا ترى إِلَى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة حَيْثُ بَايعُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمَوْت وَكَانَت الْبيعَة تَحت الشَّجَرَة فِي ذَلِك الْوَادي أنزل الله تَعَالَى {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة فَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وأثابهم فتحا قَرِيبا} الْآيَة
أوجب لَهُم الرضاء فِي بذلة وَاحِدَة بذلوا نُفُوسهم لله تَعَالَى مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف بِمن بذل نَفسه فِي جَمِيع عمره لله فَمن أوجب الله لَهُ الرضاء عَنهُ فِي الدُّنْيَا فحظه فِي الْجنَّة الرضْوَان كُله(3/225)
- الأَصْل التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان
-
فِي مَسْأَلَة التثبيت للْمَيت عِنْد الدّفن
عَن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دفن مَيتا وقف وَسَأَلَ لَهُ التثبيت وَكَانَ يَقُول مَا يسْتَقْبل الْمُؤمن من هول الْآخِرَة إِلَّا والقبر أفظع مِنْهُ
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله فالوقوف على الْقَبْر وسؤال التثبيت لِلْمُؤمنِ فِي وَقت دَفنه مدد للْمَيت بعد الصَّلَاة لِأَن الصَّلَاة بِجَمَاعَة الْمُؤمنِينَ كالعسكر لَهُ قد اجْتَمعُوا بِبَاب الْملك فيشفعون لَهُ وَالْوُقُوف على الْقَبْر لسؤال التثبيت مدد الْعَسْكَر وَتلك سَاعَة شغل الْمُؤمن لِأَنَّهُ يستقبله هول المطلع وسؤال وفتنة فتاني الْقَبْر مُنكر وَنَكِير فَإِنَّمَا سميا فتاني الْقَبْر لِأَن فِي سؤالهما انتهارا وَفِي خلقهما صعوبة أَلا ترى أَنَّهُمَا سميا مُنْكرا ونكيرا فَإِنَّمَا سميا بذلك لِأَن خلقهما لَا يشبه خلق الْآدَمِيّين وَلَا خلق الْمَلَائِكَة وَلَا خلق طير وَلَا خلق الْبَهَائِم وَلَا خلق(3/226)
الْهَوَام بل هما خلق بديع وَلَيْسَ فِي خلقهما أنس للناظرين إِلَيْهِمَا خلقهما الله تَعَالَى مكرمَة للْمُؤْمِنين وتبصرة وهتكا لستر الْمُنَافِق فِي البرزخ من قبل أَن يبْعَث حَتَّى يحل عَلَيْهِ الْعَذَاب وَإِنَّمَا صَارَت مكرمَة لِلْمُؤمنِ لِأَن الْعَدو لم يَنْقَطِع طمعه بعد فَهُوَ يَتَخَلَّل السَّبِيل إِلَى أَن يحيره فِي البرزخ
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا روى سعيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ قَالَ حضرت عبد الله بن عمر فِي جَنَازَة فَلَمَّا وَضعه فِي اللَّحْد قَالَ بِسم الله وَفِي سَبِيل الله وعَلى مِلَّة رَسُول الله فَلَمَّا أَخذ فِي تَسْوِيَة اللَّحْد قَالَ اللَّهُمَّ أجره من الشَّيْطَان وَمن عَذَاب الْقَبْر وَمن عَذَاب النَّار فَلَمَّا سوى الْكَثِيب عَلَيْهِ قَامَ جَانب الْقَبْر ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ جَاف الأَرْض من كثيبها وَصعد روحه ولقه مِنْك رضوانا فَقلت لِابْنِ عمر أشيئا سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم شَيْئا قلته من تِلْقَاء نَفسك قَالَ إِنِّي إِذا لقادر على القَوْل بل سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن عَمْرو بن مرّة قَالَ كَانُوا يستحبون إِذا وضع الْمَيِّت فِي اللَّحْد أَن يُقَال اللَّهُمَّ أعذه من الشَّيْطَان الرَّجِيم فَإِنَّمَا كَانُوا يتخوفون من فتْنَة الفتانين من قبل الْعَدو وَأَنه يشبه على من كَانَ فِي قلبه زيغ أَيَّام الْحَيَاة فَروِيَ عَن سُفْيَان الثورى أَنه قَالَ إِذا سُئِلَ الْمَيِّت من رَبك ترَاءى لَهُ الشَّيْطَان فِي صُورَة فيشير إِلَى نَفسه أَي أَنا رَبك فَهَذِهِ فتْنَة عَظِيمَة جعلهَا الله مكرمَة لِلْمُؤمنِ إِذا ثبته ولقنه الْجَواب فَلذَلِك كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو بالثبات يَقُول اللَّهُمَّ ثَبت عِنْد الْمسَائِل مَنْطِقه وَافْتَحْ أَبْوَاب السَّمَاء لروحه
فَلَو لم يكن للشَّيْطَان هُنَاكَ سَبِيل مَا كَانَ ليدعو لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يجيره من الشَّيْطَان وَإِنَّمَا سُؤال الْمَيِّت فِي هَذِه الْأمة خَاصَّة لِأَن الْأُمَم قبلهَا كَانَت الرُّسُل تأتيهم بالرسالة فَإِذا أَبَوا كفت الرُّسُل فاعتزلت(3/227)
وعوجلوا بِالْعَذَابِ فَلَمَّا بعث الله مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعثه بِالرَّحْمَةِ وأمانا لِلْخلقِ فَقَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين}
فَأمْسك عَنْهُم الْعَذَاب وَأعْطى السَّيْف حَتَّى يدْخل فِي الْإِسْلَام من دخل لمهابة السَّيْف ثمَّ يرسخ فِي قلبه فأمهلوا فَمن هَهُنَا ظهر أَمر النِّفَاق فَكَانُوا يسرون الْكفْر ويعلنون الْإِيمَان فَكَانُوا بَين الْمُسلمين فِي ستر فَلَمَّا مَاتُوا قيض لَهُم فتانا الْقَبْر ليستخرجا سرهم بالسؤال فَروِيَ فِي الحَدِيث أَنه إِذا سُئِلَ عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا أَدْرِي فَيضْرب بالمقامع فَيُقَال لَهُ لَا دَريت و {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة}
عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الْأمة تبتلى فِي قبورها
وَأما قَوْله مَا يسْتَقْبل الْمُؤمن من هول الْآخِرَة إِلَّا والقبر أفظع مِنْهُ فَهَذَا لِلْمُؤمنِ خَاصَّة وَأما الْكَافِر فَمَا يستقبله من شَيْء إِلَّا وَهُوَ أفظع من مَا مضى لِأَن الْمُؤمن كلما قرب من ربه تيَسّر عَلَيْهِ الْأَمر وَكَانَ أقرب إِلَى الرَّحْمَة فَإِنَّمَا يُحَاسب الْمُؤمن فِي الْقَبْر ليَكُون أَهْون عَلَيْهِ غَدا إِذا وقف بَين يَدَيْهِ لِأَن الله تَعَالَى أنزل عَبده الْمُؤمن من نَفسه أَنه يستحيي مِنْهُ وَأَنه أوجب لَهُ محبته وَرَحمته ورأفته فَإِذا كَانَت(3/228)
هَذِه مَنْزِلَته مِنْهُ وَكَانَ من العَبْد جفَاء وانتهاك شَيْء حرمه الله أَو اغترار بقول الْعَدو ويستوجب بذلك الْعقُوبَة ليرضى الْحق أناله ذَلِك فِي الْقَبْر ليمحصه فَيخرج من الْقَبْر وَقد اقْتصّ مِنْهُ وأرضى الْحق
عَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ فِي الْقَبْر حِسَاب وَفِي الْآخِرَة حِسَاب فَمن حُوسِبَ فِي الْقَبْر نجا وَمن حُوسِبَ فِي الْقِيَامَة عذب وَلذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أهل التَّوْحِيد الَّذين تأخذهم النَّار يميتهم الله إماتة حَتَّى تحرق النَّار مِنْهُم مَا تحرق ثمَّ يحييهم فينجيهم
عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فَلَا نعلم الإماتة سَببا أكشف عَن الْمَعْنى من الَّذِي ذكرنَا أَن الله تَعَالَى بَعْدَمَا أوجب لعَبْدِهِ محبته ورأفته وَرَحمته وَبِذَلِك جعله أَهلا للكلمة الْعليا لَا إِلَه إِلَّا الله وَكَانَ مِمَّن دخل اسْمه فِي الْآيَة فِي التَّنْزِيل حَيْثُ يَقُول {وألزمهم كلمة التَّقْوَى} ثمَّ قَالَ {وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا}
فَمن دخل اسْمه فِي هَذَا المديح وَفِي مثل هَذِه الْمرتبَة ثمَّ حَبسه فِي النَّار حُقُوق الله تَعَالَى حَتَّى يَحْتَرِق مِنْهَا مَا يُرْضِي الْحق كَانَ غير مَدْفُوع أَن الله عز وَجل يستحيي من العَبْد فيميته فِي تِلْكَ النَّار حَتَّى يقْضِي للحق مَا وَجب لَهُ ويرضيه ثمَّ إِذا أَحْيَاهُ أَنْجَاهُ
أَلا ترى إِلَى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله يستحيي من عَبده وَأمته أَن يشيبا فِي الْإِسْلَام شيبَة فيعذبهما بالنَّار وَفِي حَدِيث(3/229)
آخر إِن الله تَعَالَى ليستحيي من عَبده إِذا رفع يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَن يردهما صفرا(3/230)
- الأَصْل المائتان وَالْخَمْسُونَ
-
فِي بر الْوَالِدين
عَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم وَنحن فِي مَسْجِد الْمَدِينَة فَقَالَ إِنِّي رَأَيْت البارحة عجبا رَأَيْت رجلا من أمتِي جَاءَهُ ملك الْمَوْت ليقْبض روحه فَجَاءَهُ بره بِوَالِديهِ فَرده عَنهُ
قَالَ أَبُو عبد الله فبر الْوَالِدين شكر لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى {أَن اشكر لي ولوالديك إِلَيّ الْمصير} فَإِذا برهما فقد شكرهما وَقد قَالَ فِي تَنْزِيله {لَئِن شكرتم لأزيدنكم}
فَإِنَّمَا وجد العَبْد الْعُمر من ربه فِي وَقت انْفِصَاله من أمه وَقد كَانَ فِي الْبَطن حَيَاة وَلم يكن عمر فَلَمَّا خرج أعْطى الْعُمر بِمِقْدَار(3/231)
فَإِذا وصل وَالِديهِ ببر كَانَ قد وصل الرَّحِم الَّذِي مِنْهُ خرج والصلب الَّذِي مِنْهُ جرى وَكَانَ فِي فعله ذَلِك شاكرا فزيد من ذَلِك الْعُمر الَّذِي شكر من أَجله فَرد عَنهُ ملك الْمَوْت يوهمك فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْعباد إِذا وصلوا أرحامهم زيد فِي أعمارهم لأَنهم بالصلة صَارُوا شاكرين فَشكر الله لَهُم ووفى لَهُم بِمَا وعد فِي تَنْزِيله فَقَالَ {لَئِن شكرتم لأزيدنكم} فَزَاد فِي أعمارهم
عَن ثَوْبَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يزِيد فِي الْعُمر إِلَّا الْبر وَلَا يرد الْقَضَاء إِلَّا الدُّعَاء وَإِن الرجل ليحرم الرزق بالذنب الَّذِي يُصِيبهُ
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد بسط عَلَيْهِ عَذَاب الْقَبْر فَجَاءَهُ وضوءه فاستنقذه من ذَلِك
قَالَ أَبُو عبد الله فعذاب الْقَبْر من الْبَوْل والنجاسات
كَذَلِك رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر من الْبَوْل والنميمة
وَإِنَّمَا صَار كَذَلِك لِأَن الْبَوْل من مَعْدن إِبْلِيس من جَوف الْآدَمِيّ فَإِذا لم يتنزه العَبْد من ذَلِك دخل قَبره بنجاسات الْعَدو فعذب فِي(3/232)
الْقَبْر وَعَذَاب الْمُؤمنِينَ فِي البرزخ وَعَذَاب الْكفَّار فِي الْقِيَامَة جعل الله هَذَا المَاء طهُورا يطهر نجاسات الدُّنْيَا وأدناس الذُّنُوب فَإِذا كَانَ العَبْد مداوما على الْوضُوء فَهُوَ أبدا فِي إِزَالَة الأدناس ونفض الْغُبَار عَن دينه وَإِذا كَانَ يَوْم البرزخ وَجَاء الْعَذَاب عَذَاب الأدناس الَّتِي اكتسبها بالسيئات جَاءَهُ وضوءه فاستنقذه من الْعَذَاب
عَن مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا إِنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله أَفْتِنَا عَن عَذَاب الْقَبْر قَالَ من أثر الْبَوْل فَمن أَصَابَهُ مِنْهُ شَيْء فليغسله بِمَاء فَإِن لم يصبهُ أَو يجده فليمسحه بِتُرَاب طيب
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله فالغسل لما يُعلمهُ فَإِذا خَفِي عَلَيْهِ أَن يكون أَصَابَهُ شَيْء وَخَافَ من حَيْثُ لَا يدْرِي وهابه مَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شَأْن عَذَاب الْقَبْر دله على التَّيَمُّم وَذَلِكَ أَن الْجَهْل بِهِ ضَرُورَة وفقد المَاء ضَرُورَة وَقد تفضل الله عز وَجل على عبيده عِنْد فقد المَاء بِالتَّيَمُّمِ فصير طهُورا فَكَذَلِك فِي حَال الشَّك والتخوف
عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما توفّي سعد بن معَاذ رَضِي الله عَنهُ وَوضع فِي حفرته سبح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسبح الْقَوْم ثمَّ كبر وَكبر الْقَوْم مَعَه فَقَالُوا يَا رَسُول الله مِم سبحت قَالَ هَذَا العَبْد الصَّالح لقد تضايق عَلَيْهِ قَبره حَتَّى فرجه الله عَنهُ فَسئلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ كَانَ يقصر فِي بعض الطّهُور من الْبَوْل(3/233)
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد احتوشته الشَّيَاطِين فَجَاءَهُ ذكر الله فخلصه من بَينهم
قَالَ أَبُو عبد الله فالشيطان وَجُنُوده قد أعْطوا السَّبِيل إِلَى فتْنَة الْآدَمِيّ وتزيين مَا فِي الأَرْض لَهُ طَمَعا فِي غوايته وَقد قَالَ {بِمَا أغويتني لأزينن لَهُم فِي الأَرْض ولأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين}
فَلَو لم يَجْعَل بِيَدِهِ شَيْء مَا قدر على أَن يزين وَلَكِن قد أعطي سُلْطَانا بِتِلْكَ الزِّينَة الَّتِي أعطيها حَتَّى يوصلها إِلَى النُّفُوس ويهيجها تهييجا يزعزع أَرْكَان الْبدن ويستفز الْقلب حَتَّى يزعجه عَن مستقره فَلَا يعتصم الْآدَمِيّ بِشَيْء أوثق وَلَا أحصن من الذّكر لِأَنَّهُ إِذا هاج الذّكر من الْقلب هَاجَتْ الْأَنْوَار فاشتعل الصَّدْر بِنَار الْأَنْوَار وهيج الْعَدو من نَفسه نَار الشَّهَوَات بنفثه ونفخه ونار الْأَنْوَار تحرق نَار الشَّهَوَات وَتحرق الْعَدو فَإِذا رأى الْعَدو هيج الذّكر من الْقلب ولى هَارِبا وَيتْرك النفخ والنفث وخمدت نَار الشَّهْوَة وامتلأ الصَّدْر نورا فَبَطل كَيده وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن وَحده ولوا على أدبارهم نفورا}
وَقَالَ جلّ اسْمه فِي التَّنْزِيل {إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بزينة الْكَوَاكِب وحفظا من كل شَيْطَان مارد} وَقَالَ {إِلَّا من خطف الْخَطفَة فَأتبعهُ شهَاب ثاقب}
فَهَذِهِ قصَّة السَّمَاء حرسها بشهب الْكَوَاكِب ثمَّ جعل صُدُور الْمُؤمنِينَ(3/234)
كَذَلِك فَجعل قلب الْمُؤمنِينَ خزانَة لكنوز مَعْرفَته وَجعل أَعْلَام الْكُنُوز فِي الصَّدْر مَرْفُوعَة لعين الْفُؤَاد حَتَّى يؤم عين الْفُؤَاد الْعلم الَّذِي رفع لَهُ فِي كل وَقت علم لِأَن الْكُنُوز أَنْوَاع وَلكُل نوع علم فَإِنَّمَا يرفع الْعلم فِي الصَّدْر لعين الْفُؤَاد حَتَّى يتبع الْعلم فالأعلام زِينَة الصَّدْر ومصابيحه فَهَؤُلَاءِ حراس السَّمَاء يَحْرُسُونَ أَخْبَار السَّمَاء حَتَّى لَا يسترق الْعَدو سمع مَا فِي السَّمَاء فَإِذا دنوا للسمع رموا بشهب الْكَوَاكِب وَهَؤُلَاء حراس الخزنة يَحْرُسُونَ كنوز الْمعرفَة حَتَّى لَا يسترق الْعَدو سمع مَا فِي الصَّدْر ترَاءى لعين الْفُؤَاد وتدبير ذَات الصُّدُور فَإِذا هاج الذّكر فَإِنَّمَا يهيج من هَذِه الْأَعْلَام الَّتِي فِي الصَّدْر من تِلْكَ الْكُنُوز الَّتِي فِي الْقلب فاشتعل الْقلب نورا وَلكُل شعلة حريق فَإِن ترَاءى الْعَدو فِي ذَلِك الْوَقْت أحرقته تِلْكَ الشعلة يَرْمِي بشعاعها ويهرب الْعَدو ويتخلص العَبْد فَعلم الْعَدو أَن لله عبادا قد امتحنهم للتقوى واستخلصهم للكرامة واستثناهم فَقَالَ {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين}
فَإِنَّمَا استخلصهم الله بِالذكر فأصفاهم ذكرا وأطيبهم معدنا للذّكر أقواهم على الْعَدو والعدو أَشد نفارا مِنْهُم
وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الشَّيْطَان ليفر من حس عمر وَمَا رأى الشَّيْطَان عمر إِلَّا خر لوجهه
وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {الوسواس الخناس}
فَإِنَّمَا سَمَّاهُ خناسا لِأَنَّهُ إِذا جَاءَ الذّكر انخنس وَذَهَبت قوته وَإِن تعرض فِي ذَلِك الْوَقْت احْتَرَقَ
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام(3/235)
أَمر بِأَن يَأْمر قومه بِخمْس خِصَال وَيضْرب لَهُم مثلا فَقَالَ رجل أَتَى الْعَدو من نَاحيَة فقاتله فَلَمَّا رأى أَنهم أَتَوْهُ من النواحي دخل الْحصن وأغلق بَابه فاستقر آمنا فِي الْحصن وَبَقِي الْعَدو خَارِجا
فَالْعَبْد إِذا قَاتل الشَّيْطَان بِنَوْع من أَنْوَاع الْبر جَاءَهُ من نوع آخر فَإِذا جَاءَ الذّكر هرب وَتَركه لِأَن للذّكر نورا يحرق وَلَيْسَ لأعمال الْبر تِلْكَ الْقُوَّة الَّتِي يَحْتَرِق مِنْهَا الْعَدو
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد احتوشته مَلَائِكَة الْعَذَاب فَجَاءَتْهُ صلَاته فاستنقذته من أَيْديهم
قَالَ فالعذاب إِنَّمَا يقْصد العبيد الاباق الَّذين هربوا وذهبوا برقابهم من الله وَأهل الصَّلَاة كلما أَبقوا عَادوا إِلَى الله فِي وَقت كل صَلَاة فوقفوا بَين يَدَيْهِ تَائِبين نادمين معتذرين مُسلمين نُفُوسهم مجددين لإسلامهم يقرضونه بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيح والتحميد والتهليل وَالرُّكُوع وَالسُّجُود وَالرَّغْبَة والضرع إِلَى الله فِي التَّشَهُّد فَسَقَطت عَنْهُم عُيُوب إباقهم وهربهم وزالت عَنْهُم الْعُقُوبَات الَّتِي استوجبوها
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي يَلْهَث عطشا كلما ورد حوضا منع فَجَاءَهُ صِيَامه فَسَقَاهُ وأرواه
قَالَ أَبُو عبد الله فَهَذَا عبد اتبع هَوَاهُ وأمعن فِي شهواته حَتَّى بعد من الرَّحْمَة فَإِذا بعد الْقلب من الرَّحْمَة عَطش وَإِذا عَطش يبس وَإِذا يبس قسا وَلذَلِك قَالَ {فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله} وَقَالَ {ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد قسوة}(3/236)
فبالرحمة يرطب الْقلب ويروى وببعده من الرَّحْمَة يعطش فأورثه عَطش الْقلب عَطش يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى رَآهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنَامه فِي الْقِيَامَة فِي تِلْكَ الْحَالة فَإِذا ترك العَبْد إتباع الْهوى وَامْتنع من الشَّهَوَات عَادَتْ الرَّحْمَة إِلَيْهِ فَروِيَ لِأَن برد الرَّحْمَة يسكن حرارة الشَّهْوَة الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْعَطش وَالصِّيَام هُوَ ترك الشَّهَوَات والمنى ورفض الْهوى وَإِنَّمَا جعل الْحَوْض حَوْض الرَّسُول غياثا لأهل الْموقف لأَنهم يقومُونَ عطاشا من قُبُورهم لأَنهم دخلوها مَعَ الْهوى والشهوات لم يفارقوها إِلَّا بمفارقة الرّوح وَخُرُوج النَّفس فَخَرجُوا من الدُّنْيَا عطاشا فاحتاجوا إِلَى الْحَوْض وَمن خرج من الدُّنْيَا وَفَارق الْهوى والشهوات سكن عطشه وَرُوِيَ برحمة الله من قرب الله فَدخل الْقَبْر رَيَّان وَخرج مِنْهَا إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة رَيَّان من كل مَاء عطشان إِلَى الله فَأُولَئِك الَّذين يسقون قبل دُخُول الْجنَّة حَتَّى يرووا من حَيْثُ عطشوا
رُوِيَ عَن مَالك بن دِينَار أَنه قَالَ يُنَادي مُنَاد يَوْم الْقِيَامَة أَيْن أهل الْعَطش فَأول من يقوم دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام فيسقي على رُؤُوس الْخَلَائق فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب}
وَإِنَّمَا خص دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام بذلك لِأَن الْخَطِيئَة عطشه فَهُوَ وَإِن تَابَ وَقبلت تَوْبَته وَغفر الله لَهُ فَذَلِك الْعَطش بَاقٍ إِلَى ذَلِك الْيَوْم
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي والنبيون قعُود حلقا حلقا لما دنا إِلَى حَلقَة طرد فَجَاءَهُ اغتساله من الْجَنَابَة فَأخذ بِيَدِهِ فأقعده إِلَى جَنْبي
قَالَ أَبُو عبد الله فالجنابة إِنَّمَا سميت جَنَابَة لِأَن المَاء الَّذِي جرى من صلبه قد كَانَ جاور فِي الأَصْل مياه الْأَعْدَاء فِي ظهر آدم عَلَيْهِ(3/237)
السَّلَام) فأصابته زهومة تِلْكَ الْمِيَاه بجواره وممره من الصلب إِلَى مُسْتَقر الْعَدو فِي الْجوف ومستقره من الْمعدة إِلَى مَوضِع الْحَدث هُوَ كُله معدنه وَإِذا خرج من العَبْد فِي يقظته أوجب غسلا وَإِذا خرج فِي مَنَامه حلما أوجب غسلا وَإِذا أخرج مِنْهُ عِنْد خُرُوج الرّوح مِنْهُ يَوْم الْمَوْت أوجب غسلا بعد الْمَوْت وَلذَلِك يغسل الْمَيِّت وَلَا يصلى عَلَيْهِ حَتَّى يغسل كَمَا كَانَ الْحَيّ لَا يجْزِيه الصَّلَاة إِلَّا بعد الْغسْل وَالْغسْل تَطْهِير من أثر الْعَدو وَالْجنب مَمْنُوع من قِرَاءَة الْقُرْآن وَمن أَن يمسهُ بِيَدِهِ وَمن أَن يتَّخذ الْمَسَاجِد مَجْلِسا لِأَن الطَّهَارَة مفقودة وآثار الْعَدو مَوْجُودَة فَإِذا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ مَمْنُوع من حلق النَّبِيين ومجالسهم فِي الْموقف لِأَن حلقهم فِي الْموقف على مَرَاتِب فالرسل مَرَاتِبهمْ مَعْلُومَة والأنبياء دونهم كل صنف على مرتبته فَهَذَا الْجنب لَو لم يكن يغْتَسل فِي الدُّنْيَا لمَنعه فقد طَهَارَته عَنْهُم فَلَمَّا اغْتسل فِي الدُّنْيَا صَارَت مَنْزِلَته بِطَهَارَتِهِ بِحَيْثُ صلح وَجَاز أَن يقْعد إِلَى سيد الرُّسُل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلما كَانَ أصل الْجَنَابَة من الْفرج وجد المغتسل السَّبِيل إِلَى أصل الْفرج وَهُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي من بَين يَدَيْهِ ظلمَة وَعَن يَمِينه ظلمَة وَعَن شِمَاله ظلمَة وَمن فَوْقه ظلمَة وَمن تَحْتَهُ ظلمَة وَهُوَ متحير فِيهَا فَجَاءَهُ حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمَة وأدخلاه النُّور
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله قد وعد الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله فِي شَأْن الْحَج حط الآثام عَنهُ فَقَالَ {فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ}
أَي يرجع مغفورا لَهُ قد سقط عَنهُ الآثام فَتلك الظُّلُمَات كَانَت آثام العَبْد فَإِذا قضى حجه وفى الله لَهُ بِمَا وعد(3/238)
وَأما الْعمرَة فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ الْعمرَة الْحَج الْأَصْغَر
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي يكلم النَّاس وَلَا يكلمونه فَجَاءَتْهُ صلَة الرَّحِم وَقَالَت يَا معاشر الْمُسلمين كَلمُوهُ فكلموه
قَالَ أَبُو عبد الله فالرحم أصل الْمُؤمنِينَ كلهم فَمن تمسك بصلته فقد أرْضى الْمُؤمنِينَ كلهم مَا بَينه وَبَين آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَمن تهَيَّأ لَهُ صلَة الرَّحِم تهَيَّأ لَهُ إرضاء الْمُؤمنِينَ كلهم وَمن كَانَ قَاطعا للرحم آيس الْمُؤْمِنُونَ من خَيره وَلذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الرَّحْمَة لَا تنزل على قوم فيهم قَاطع رحم
قَالَ وَإِنَّمَا صَار هَكَذَا لِأَن الرَّحْمَة مُنْقَطِعَة عَنهُ وَهُوَ فِي سخط الله وَإِن الله خلق الرَّحِم بِيَدِهِ وشق لَهَا اسْما من اسْمه فَقَالَ أَنا الرَّحْمَن وَأَنت الرَّحِم خلقتك بيَدي وشققت لَك اسْما من اسْمِي
ثمَّ أرسل حَوَاشِي قَمِيص الرَّحْمَة من الْعَرْش ليتعلق الْخلق بهَا فَمن وصل الرَّحِم فقد تعلق بحاشية الْقَمِيص وَمن قطعهَا قصرت يَده عَن حَاشِيَة الْقَمِيص فَانْقَطع عَن رَحْمَة الله وَلم يبْق لَهُ إِلَّا رَحْمَة التَّوْحِيد فَهَذَا الْوَاصِل للرحم كَانَ رجلا قد عمل السَّيِّئَات الْكَثِيرَة وضيع الْحُقُوق وَحسن سيرته فِي هَذِه الْخصْلَة الْوَاحِدَة فَلَمَّا وصل الرَّحِم نَالَتْ يَده حَوَاشِي الْقَمِيص فَتعلق بهَا فنال الرَّحْمَة فَجَاءَتْهُ الصِّلَة فَأخْبرت الْمُؤمنِينَ فِي الْقِيَامَة كَلمُوهُ مَعْنَاهُ أَنه دخل فِي رَحْمَة الله الَّتِي يرحم بهَا الْمُؤمنِينَ وصاروا كلهم لَهُ بعد أَن كَانُوا عَلَيْهِ(3/239)
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي يَتَّقِي وهج النَّار وشررها بِيَدِهِ عَن وَجهه فَجَاءَتْهُ صدقته فَصَارَت سترا على وَجهه وظلا على رَأسه
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله فالصدقة إِنَّمَا صَارَت سترا للْمُؤْمِنين من النَّار لِأَنَّهُ إِذا تصدق فَإِنَّمَا يفْدي نَفسه ويفل غَرَامَة جِنَايَته
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام أَمر قومه بِالصَّدَقَةِ فَضرب لَهَا مثلا فَقَالَ كَمثل رجل قتل قَتِيلا ثمَّ هرب فَسَأَلَهُ أولياؤه أَن يجْعَلُوا دِيَة الْقَتِيل عَلَيْهِ نجوما فَفَعَلُوا لوا فأداها نجما نجما ففك رقبته وَصَارَ إِلَى أَهله مطمئنا فَالنَّار إِنَّمَا تطلب وُجُوه الجفاة فِي الْموقف لتلفحها فَإِذا أدّى الْجَانِي غرمه صَار الْأَدَاء سترا على الْوَجْه وظلا على الرَّأْس وَهَكَذَا شَأْن الْفِدْيَة تَأْخُذ بالحذاء وَمن فَوق فتقيك بِنَفسِهَا من كل نَاحيَة
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد أَخَذته الزَّبَانِيَة من كل مَكَان فَجَاءَهُ أمره بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيه عَن الْمُنكر فاستنقذاه من أَيْديهم فأدخلاه مَعَ مَلَائِكَة الرَّحْمَة
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله فالزبانية شَرط الْمَلَائِكَة وَالشّرط لمن جاهر بِالْمَعَاصِي من أهل الريب يلتمسونهم فِي الطّرق والمسالك ليأخذوهم فَمن استتر بستر الله وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر فَهُوَ وَإِن اسْتعْمل أَعمال أهل الريب بعد أَن يكون مَسْتُورا لَا ينتهك فَالشَّرْط فِي الدُّنْيَا مُنْتَهُونَ عَن أَخذه غير ملتمسين أشباه هَؤُلَاءِ لحُرْمَة ذَلِك السّتْر فَكَذَلِك فِي الْآخِرَة إِذا طلبت الزَّبَانِيَة فِي عَرصَة الْقِيَامَة أهل المجاهرة بِالْمَعَاصِي فَوَقع هَذَا المستور فِي أَيْديهم نَفعه ذَلِك النَّهْي(3/240)
عَن الْمُنكر وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وكل من عمل الْمعاصِي فِي الدُّنْيَا سرا لَا يُجَاهر بِهِ فكائن مِنْهُ أَن ينْهَى عَن الْمُنكر إِذا لقِيه وَإِذا فعل ذَلِك كَانَت مَلَائِكَة الرَّحْمَة أَحَق بِهِ من مَلَائِكَة الْعَذَاب وَمن استحقته مَلَائِكَة الرَّحْمَة من الْموقف فقد نجا
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي جاثيا على رُكْبَتَيْهِ بَينه وَبَين الله حجاب فَجَاءَهُ حسن خلقه فَأخذ بِيَدِهِ فَأدْخلهُ على الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله ينبئك فِي هَذَا القَوْل أَن العَبْد تحجبه ذنُوبه عَن الله فِي الدُّنْيَا قلبا وَفِي الْموقف غَدا بدنا وَإِن حسن الْخلق منيحة من الله لعَبْدِهِ لِأَن الْأَخْلَاق فِي الخزائن فَإِذا أحب الله عبدا منحه خلقا مِنْهَا ليدر عَلَيْهِ ذَلِك الْخلق كرائم الْأَفْعَال ومحاسن الْأُمُور فَيظْهر ذَلِك على جوارحه فَيَزْدَاد العَبْد بذلك محبَّة توصله إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قلبا وَفِي الْآخِرَة بدنا وَحب الله عَبده يمحق الذُّنُوب محقا ويتركه من آثامه عطلا وَإِذا أحب الله عبدا أهْدى إِلَيْهِ خلقا من أخلاقه وَإِذا رحم الله عبدا أذن لَهُ فِي عمل من أَعمال الْبر فَهَذِهِ ثَمَرَة الرَّحْمَة وَتلك ثَمَرَة الْمحبَّة
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد هوت صَحِيفَته من قبل شِمَاله فَجَاءَهُ خَوفه من الله فَأخذ صَحِيفَته فَجَعلهَا فِي يَمِينه
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله فأعظم الْأَهْوَال فِي الْقِيَامَة فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن عِنْد تطاير الصُّحُف وَعند الْمِيزَان وَعند الصِّرَاط وَذَلِكَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ لَا يذكر أحد أحدا فِي هَذِه المواطن فَإِذا وَقعت الصَّحِيفَة بِيَمِينِهِ أَمن وَبَانَتْ سعادته قَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا وينقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا}(3/241)
عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ ربكُم تبَارك وَتَعَالَى لن أجمع على عَبدِي خوفين وَلنْ أجمع أمنين من أخفته فِي الدُّنْيَا أمنته فِي الْآخِرَة
فَمن قاسى خَوفه فِي الدُّنْيَا أوجب لَهُ الْأَمْن يَوْم الْقِيَامَة فَإِذا جَاءَهُ الهول عِنْد تطاير الصُّحُف جَاءَهُ ذَلِك الْخَوْف فنفعه بِأَن جعل صَحِيفَته فِي يَمِينه حَتَّى يَأْمَن
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد خف مِيزَانه فَجَاءَتْهُ إفراطه فثقلوا مِيزَانه
قَالَ أَبُو عبد الله فالأفراط أَوْلَاده الْأَطْفَال الَّذين لم يبلغُوا الْحلم فَإِنَّمَا ثقل مِيزَانه لأَنهم أَطْفَال موحد قدمُوا على رَبهم بِلَا شرك وَلَا ذَنْب فدبر الله خلقهمْ من صلب موحد فبهم صَار من أهل رَحْمَة الله وَإِنَّمَا يثقل الموازين بِالرَّحْمَةِ
وَقَالَ فِي حَدِيث آخر من مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة أَوْلَاد لم يبلغُوا الْحلم أدخلهُ الله الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم
والموازين تثقل بِالْحَسَنَاتِ وَمن أحسن الْحَسَنَات ذُرِّيَّة يُخرجهَا الله من صلب موحد ثمَّ يقبضهم لم يتدنسوا بِمَعْصِيَة
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قَائِما على شَفير جَهَنَّم فَجَاءَهُ وجله من الله فاستنقذه من ذَلِك وَمضى
قَالَ أَبُو عبد الله الوجل هُوَ فِي وَقت انكشاف الغطاء لقلب الْمُؤمن وَهُوَ خشيَة العَبْد وَإِن جَهَنَّم حائلة بَين الْعباد وَبَين الْجنَّة حَتَّى يضْرب(3/242)
الجسور ويهيأ القناطر فَعندهَا يستبين الصِّرَاط وَهُوَ الطَّرِيق لأَهله فالخلق كلهم على شَفير جَهَنَّم وقُوف هائبون لَهَا فوجل الْعباد يَجْعَل لَهُم السَّبِيل ليقطعوها لِأَن الخشية ثَوَابهَا الْمَغْفِرَة قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ لَهُم مغْفرَة}
وَالْمَغْفِرَة نورها سَاطِع وَهُوَ نور الرأفة فَإِذا جَاءَت الرأفة وَجل العَبْد قلبا وَذَهَبت الْحيرَة وتشجعت النَّفس فمضت
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد هوى فِي النَّار فَجَاءَتْهُ دُمُوعه الَّتِي بَكَى من خشيَة الله فِي الدُّنْيَا فاستخرجته من النَّار
قَالَ أَبُو عبد الله هَذَا عبد اسْتوْجبَ النَّار بِعَمَلِهِ فَأَدْرَكته رَحْمَة الله ببكائه من الخشية فأنقذته لِأَن دمعة الخشية تُطْفِئ بحورا من النيرَان
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قَائِما على الصِّرَاط يرعد كَمَا ترْعد السعفة فَجَاءَهُ حسن ظَنّه بِاللَّه فسكن رعدته وَمضى
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله حسن الظَّن من الْمعرفَة بِاللَّه وَعظم رَجَاء العَبْد وأمله لرَبه من الْمعرفَة فَلم يضيع الله معرفَة العَبْد لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي من عَلَيْهِ بهَا فَلم يرتجع فِي مِنْهُ ووفى لَهُ بِأَن أعطَاهُ حسن الظَّن فِي الدُّنْيَا من تِلْكَ الْمعرفَة الْمَمْنُون بهَا عَلَيْهِ ثمَّ حقق ظَنّه فِي ذَلِك الْموقف أَي كَمَا عَرفتنِي ثمَّ ظَنَنْت من معرفتك أَنِّي أنجيك فلك النجَاة والأمان فسكن رعدته
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي يرجع أَحْيَانًا ويحبو أَحْيَانًا وَيتَعَلَّق أَحْيَانًا فَجَاءَتْهُ صلَاته عَليّ فَأَخَذته فأقامته وَمضى على الصِّرَاط
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله الصَّلَاة على الرَّسُول من العَبْد بنوة(3/243)
لِأَبِيهِ يُرِيد أَن يرى أَبَاهُ مقَام الْوَلَد للْأَب وَلذَلِك أَمر الله الْعباد أَن يصلوا عَلَيْهِ فَذَاك حق للرسول يقضونها بِمَنْزِلَة الْأَوْلَاد يقضون حُقُوق آبَائِهِم وَإِذا كَانَ الْوَلَد هَكَذَا فَمن شَأْن الْوَالِد أَن يَأْخُذ بيد الْوَلَد فِي وَقت عثراته فيقيمه فَصَارَت صلوَات الْعباد للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَنْزِلَة ذَلِك
وَرَأَيْت رجلا من أمتِي انْتهى إِلَى أَبْوَاب الْجنَّة فغلقت الْأَبْوَاب دونه فَجَاءَتْهُ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ففتحت لَهُ الْأَبْوَاب وأدخلته الْجنَّة
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله فَهَذِهِ كلمة جعلت مفتاحا لأبواب الْجنَّة وَإِنَّمَا غلقت دون هَذَا العَبْد كَأَنَّهُ جَاءَ بمفتاح لَيْسَ لَهُ أَسْنَان وَقد نجد فِي الدُّنْيَا أَن يجِئ الرجل بمفتاح الْبَاب وَقد ضَاعَ بعض أَسْنَانه فَلَا يزَال يردده ويحركه حَتَّى يَفْتَحهُ وَإِذا لم يكن بِيَدِهِ مِفْتَاح لم يفتح فَهَذَا عبد قد ضيع الْأَسْنَان فأغاثه الله بِمَا جَاءَ بِهِ
وَقد جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْمُؤمنِينَ يدعونَ من أَبْوَاب الْجنَّة وَأَن أَبْوَابهَا مقسومة على أَعمال الْبر فباب للصَّلَاة وَبَاب للصيام وَبَاب للصدقة وَبَاب لِلْحَجِّ وَبَاب للْجِهَاد وَبَاب للأرحام وَبَاب لمظالم الْعباد وَهُوَ آخرهَا فَهَذِهِ سَبْعَة أَبْوَاب مقسومة على أَعمال الْعباد برا وَكَذَلِكَ أَبْوَاب النيرَان مقسومة على أَعمال أَهلهَا لكل بَاب مِنْهُم جُزْء مقسوم وَبَاب للجنة زَائِد لأهل الشَّهَادَة يُسمى بَاب التَّوْبَة فَأرى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنَامه هَذِه الرُّؤْيَا ليعلم الْعباد قُوَّة هَذِه الْأَفْعَال الَّتِي ذكرهَا من العبيد أَيَّام الدُّنْيَا مَاذَا لكل نوع من هَذِه الْأَعْمَال من الْقُوَّة هُنَاكَ فِي الْموقف وَفِي أَي موطن وَيُؤَيِّدهُ ليعلم الْعباد أَجنَاس هَذِه الْأَفْعَال ليكْثر مِنْهَا كي إِذا استقبله أهوال الْقِيَامَة وتارات الْموقف نَسْأَلهُ عونها وقوتها(3/244)
- الأَصْل الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ والمائتان
-
فِي وصف مشي الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا مَشى تقلع كَأَنَّمَا يمشي فِي صبب
وَعَن هِنْد بن أبي هَالة الْكِنْدِيّ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخطو تكفئا إِذا مَشى كَأَنَّمَا يخط من صبب
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا مَشى كَأَنَّمَا يتَوَكَّأ على شَيْء
قَالَ أَبُو عبد الله فالمشي بِالْقَلْبِ وَمن الْقلب يتَأَدَّى قُوَّة الْمَشْي إِلَى السَّاقَيْن أَلا ترى أَن الْقلب إِذا فزع وارتاع وَقع الْقَائِم وَذَهَبت رِجْلَاهُ والسكران إِذا غَابَ ذهنه وعقله عَن قلبه استرخت رِجْلَاهُ فاختلفتا وَرُبمَا وَقع فَإِذا ثاب إِلَيْهِ عقله وذهنه قوي ذَلِك لتعلم أَن قُوَّة جَمِيع(3/245)
الْأَركان بِالْقَلْبِ إِذا كَانَ الذِّهْن وَالْعقل مَعَه فَكَانَ قلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مشحونا بكنوز الْمعرفَة شحن السَّفِينَة إِذا أثقلت حَتَّى غَابَتْ فِي المَاء إِلَى منطقتها وَكَانَت كنوزه على صنفين عَن الْيَمين أسرار الله وَعَن الْيَسَار سمات الله فالرحمة مَعَ الْأَسْرَار وَالْحق مَعَ السمات وَحب الله أَمَامه جؤجؤ السَّفِينَة وشوق الله لَهُ شراع سفينته وفرحه بِهِ ريَاح الأفراح فَكَانَ إِذا مَشى مَالَتْ بِهِ الصنفات فَمرَّة أثقال أسرار الله تميل بِهِ وَمرَّة أثقال سمات الله تميل بِهِ فَإِذا اسْتَقر قَائِما على الْمِنْبَر أَو قَاعِدا فِي مجْلِس اسْتَقَرَّتْ بِهِ أثقال الْحبّ وَإِذا هبت ريَاح الأفراح وهاج الشوق قَامَ إِلَى الصَّلَاة فقرت عينه فَذَلِك قَوْله (حبب إِلَيّ الصَّلَاة وَقيل لي خُذ مِنْهَا مَا شِئْت وَإِن الله جعل قُرَّة عَيْني فِي الصَّلَاة)
فأثقال الْأَسْرَار مطوية عَن الْخلق إِلَّا عَن أهل جذبت الله الَّذين أدرجهم بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجعلهم قُرَّة عينه فَسَار بهم على طَرِيقه وَجعل سقياهم من مشربه ومرعاهم من ملك الْملك بَين يَدَيْهِ على مائدته تِلْكَ ضِيَافَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقرة عينه فِي عرس الله وَهُوَ بَدْء الربوبية وبدء التَّدْبِير وَتلك حِكْمَة الله وأثقال السمات حَشْو مَا فِي الْأَمْثَال الْعليا والأسماء الْحسنى فَتلك حِكْمَة الْخلق وَالْحق مُوكل بِهَذِهِ وَالرَّحْمَة الْعُظْمَى منهضة بِتِلْكَ فَصَارَ هَذَا الْقلب كسفينة موقرة من كنوز الْمعرفَة مشحونة بِعلم الله محفوفة بآلاء الله تجْرِي فِي بَحر غيب الله وَهُوَ بَحر الذّكر وَهُوَ ذَلِك الْبَحْر الَّذِي من شرب مِنْهُ شربة نسي نَفسه وَلم يلْتَفت إِلَيْهَا إِلَى يَوْم اللِّقَاء وهبوب ريَاح أفراح(3/246)
الله قد هبت فِي شوق الله إِلَى عَبده وَرفعت السَّفِينَة بِمَا فِيهَا من الْكُنُوز وميلانها مرّة هَكَذَا وَمرَّة هَكَذَا فَالْحق يمْسِكهَا عَن الانقلاب من جَانِبه وَالرَّحْمَة تمسكها عَن الانقلاب من جَانبهَا وَالْعدْل على كوثل السَّفِينَة يَسْتَقِيم بسيرها بمجدافها ومجدافه مَشِيئَة الله تَعَالَى فلولا المجداف لَكَانَ الشراع ورياحها تطير بهَا فَتضْرب بهَا صَخْرَة حَتَّى تنكسر وتغرق أَو تقذف بهَا إِلَى جَزِيرَة يابسة فتلقيها على الأَرْض لوحا لوحا وَلَكِن المجداف الْمُوكل بِهِ على كوثلها يَسْتَقِيم بصدرها وَالْحب غَالب على الْأَشْيَاء الَّتِي فِي قلب الْمُؤمن فلولا الثَّبَات من الله تَعَالَى بِالْمَشِيئَةِ لطار الْحبّ بِهِ كل مطير وَرمى بِهِ فِي وَاد قعير أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إِلَيْهِم شَيْئا قَلِيلا إِذا لأذقناك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات}
فَانْظُر أَي وَعِيد هَذَا فَإِنَّمَا هاج من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك الْحبّ لله حَتَّى حرصه على دُخُولهمْ فِي الْإِسْلَام فَأَجَابُوهُ إِلَى الدُّخُول فِي الْإِسْلَام على شريطة أَن لَا يركعوا فِي صلَاتهم وَأَن يتركهم حَتَّى يتمتعوا بِاللات سنة فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكَاد يَحْتَرِق من الْحبّ لله فيحرص على دُخُولهمْ فِي الْإِسْلَام فَلَمَّا جَاءُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَة وهم ثَقِيف أهل الطَّائِف وجد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذِه الْكَلِمَة وجدا شَدِيدا واشتعل نَارا ودعا بوضوئه كالمتبرد حَتَّى قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أحرقتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرق الله أكبادكم
وَإِنَّمَا احْتَرَقَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أجل أَنهم طمعوا فِيهِ أَن يُجِيبهُمْ إِلَى ذَلِك لما رَأَوْا من رفقه وَعطفه وسروره بمجيئهم بعد أَن كَانَ قد حَاصَرَهُمْ شهرا فهال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طمعهم فِيهِ وَخَافَ أَن(3/247)
يكون قد أفرط فِي تَعْظِيم مجيئهم وَأنزل الله تَعَالَى {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَن الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك لتفتري علينا غَيره وَإِذا لاتخذوك خَلِيلًا وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إِلَيْهِم}
فَلم ينْسبهُ إِلَى أَنه هم بالركون أَو مَال إِلَيْهِم بل أعلمهُ أَن الثَّبَات هُوَ الَّذِي عصمه يُعلمهُ أَن حبه هَذَا يهيج حرصه حَتَّى تَجِد النَّفس السَّبِيل إِلَى الْقلب فيشاركه فِي الْمحبَّة لِأَن الْحبّ فِي الْقلب والحرص فِي النَّفس فلولا التثبيت لأفتتن فَأعلمهُ الْمِنَّة عَلَيْهِ بالعصمة وَإِن خطر الْحبّ عَظِيم وَأَنه يسبي الْقلب فَإِذا لم يكن لَهُ ثبات ذهبت قُوَّة الْقلب فطارت بِهِ لغَلَبَة الْفَرح الَّذِي فِي الْحبّ بِمَنْزِلَة السَّفِينَة الَّتِي طارت فصدمت بهَا جبلا فتكسرت قِطْعَة قِطْعَة وتبددت كنوزه فِي بَحر الْغَيْب غرقا فَلَا حق بَقِي وَلَا رَحْمَة(3/248)
- الأَصْل الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ والمائتان
-
فِي أَن الْأَشْرِبَة من خمس
عَن النُّعْمَان بن بشير قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْأَشْرِبَة من خمس من الْحِنْطَة وَالشعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب وَالْعَسَل فَمَا خمر فَهُوَ خمر)
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله قَوْله (الْأَشْرِبَة من خمس) أَي هَذِه أَشْيَاء ينْبذ عَلَيْهَا المَاء فيستخرج بِالْمَاءِ مَا فِيهِنَّ من الْقُوَّة
قَوْله فَمَا (خمر فَهُوَ خمر) يَعْنِي إِذا تركته نيا على هَيئته الَّتِي خرج فَلم تَأْخُذ قوته بالنَّار فَشَربته خالطت الْقُوَّة الَّتِي فِيهَا قُوَّة الْعَدو الَّتِي أعطي فَإِنَّهُ مُوكل بِمَا أعطي من هَذِه الْأَشْرِبَة فَإِذا تركتهَا بقوتها جَاءَ الْعَدو بِمَا بِيَدِهِ فخلطه بهَا ثمَّ وجد السَّبِيل إِلَى الْمعدة بِنَصِيبِهِ فَإِذا دخل الْجوف خمر الْقلب أَي غطاه وَحَال بَين الْقلب وَالْعقل لِأَن الْعقل فِي الرَّأْس وشعاعه فِي الصَّدْر وَالتَّدْبِير لِلْعَقْلِ مَعَ الْقلب(3/249)
فِي الصَّدْر لِأَن عين الْفُؤَاد فِي الصَّدْر وشعاع الْعقل يشرق من الصَّدْر فبذلك الْإِشْرَاق يَهْتَدِي الْقلب إِلَى مَا حسن وقبح وَإِنَّمَا نزل الْقُرْآن بِتَحْرِيم الْخمر وَالْخمر اسْم لما خمر الْفُؤَاد أَي يغطيه ويحول بَينه وَبَين شُعَاع الْعقل وكل شراب كَانَت فِيهِ هَذِه الصّفة فقد لزمَه اسْم الْخمر وَلَزِمَه التَّحْرِيم
وَلذَلِك قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ الْخمر مَا خمر الْعقل أَي غطاه وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كل مُسكر خمر وكل خمر حرَام) الْمُسكر هُوَ المفعل للسكر وَالسكر سد الْعقل وَمِنْه يُقَال لسد النَّهر سكر وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {سكرت أبصارنا} أَي سدت
فالماء جَار فِي النَّهر فَإِذا ألقيت فِي بعض طَرِيقه كيسا من التُّرَاب وَغَيره بَقِي المَاء إِلَى حَيْثُ انْتهى فَصَارَ مَا سفل من الْكيس فِي بطن النَّهر خَالِيا فَكَذَلِك الْعقل قراره فِي الدِّمَاغ ثمَّ شعاعه جَار إِلَى الصَّدْر إِلَى عَيْني الْفُؤَاد لتدبير الْأُمُور وتمييز الْحسن والقبيح والضر والنفع فَإِذا شرب هَذَا الشَّرَاب وَلم يكن أَخذ قوته بالطبخ فالعدو مِنْهُ بِنَصِيبِهِ يخلص إِلَى الصَّدْر برجاسته ونجاسته فَإِذا وَقعت هَذِه النَّجَاسَة والظلمة فِي هَذَا الطَّرِيق بَين عَيْني الْفُؤَاد وَالرَّأْس صَار سدا فَيبقى الصَّدْر مظلما وَمَا وَرَاء السد مَا يَلِي الرَّأْس مضيئا مشرقا لَا ينْتَفع بذلك عينا الْفُؤَاد فَيبقى الصَّدْر خَالِيا كَمَا بَقِي النَّهر وَيبقى عينا الْفُؤَاد فِي ظلمَة مَا جَاءَ بِهِ الْعَدو فَسمى ذَلِك فِي النَّهر سكرا بِفَتْح السِّين(3/250)
وسمى هَذَا سكرا بِضَم السِّين فَمن أجَاز طَلَاق السَّكْرَان وَفرق بَينه وَبَين الْمَعْتُوه وَالْمَجْنُون وَالصَّبِيّ فَلِأَن السكر سد وَالْعقل وَرَاء السد قَائِم وَهُوَ حجَّة الله تَعَالَى على العَبْد لوُجُوب الْأَحْكَام عَلَيْهِ وَالصَّبِيّ لم يُعْط عقل الْحجَّة وَهُوَ تَمام العقد الَّذِي بِهِ يقوم حجَّة الله وعلامته أَنه إِذا تمّ فحرارة ذَلِك النُّور تُؤدِّي إِلَى الصلب فَيخرج مِنْهُ المَاء الَّذِي يُوجب الْغسْل إِمَّا بحلم أَو بجماع فَلذَلِك صيروا الْحلم عَلامَة الْإِدْرَاك وَجرى الحكم عَلَيْهِ لِأَن الْعقل قد تمّ وَقبل ذَلِك كَانَ صَغِيرا لَا يحْتَمل دماغه ذَلِك الْعقل وَأما العتاهة فَهُوَ التحير وَهُوَ أَن يهيج من الْمرة مَا يتَأَدَّى إِلَى الدِّمَاغ فَيفْسد الْعقل ويخالطه فَلَيْسَ هُنَاكَ عقل يقدر أَن يعْمل شَيْئا لِأَنَّهُ قد خالطه وَكَذَلِكَ الْجُنُون هُوَ من الْمرة فَكل مَا ستر الْعقل من دَاء فَذَاك يخالط الْعقل ويفده وَمَا كَانَ من شراب فَإِن ذَاك سد ظلمَة من رجاسة الْعَدو وَالْعقل من وَرَائه على هَيئته لم يخالطه شَيْء إِلَّا أَنه مُتَمَكن لانسداد الطَّرِيق وَقد يكون هَذَا السد سدا رَقِيقا وسدا كثيفا فَرُبمَا عمل بعض عقله من خلال ذَلِك السد أَلا ترى أَنه يعقل شَيْئا وَلَا يعقل شَيْئا لِأَن الْعقل بمكانه لم يخالطه شَيْء وَفِي حَال الْجُنُون خالط الْعقل ذَلِك الدَّاء لِأَنَّهُ خلص إِلَى الدِّمَاغ وَأما الصَّبِي فَإِنَّهُ لم يُعْط تَمامًا وَهُوَ يُزَاد قَلِيلا قَلِيلا باللطف حَتَّى يبلغ من السن مَا يحْتَمل ذَلِك وجد الْعقل مَكَانا يَنْفَسِخ فَالَّذِي فرق بَين طَلَاق السَّكْرَان وَطَلَاق الْمَعْتُوه وَالْمَجْنُون وَالصَّبِيّ إِنَّمَا فرق لهَذَا وَأما اللَّذين لم يجيزوا طَلَاقه فَإِنَّمَا نظرُوا إِلَى افتقاد الْقلب الْعقل فَإِذا افتقده لم يلزموه شَيْئا من الْأَحْكَام لِأَنَّهُ إِنَّمَا تقوم الْحجَّة بِالْعقلِ(3/251)
- الأَصْل الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ والمائتان
-
فِي أَن الْقُرْآن مثله كجراب فِيهِ مسك
عَن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ قَالَ بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثا وَأمر عَلَيْهِم أَمِيرا مِنْهُم هُوَ أَصْغَرهم فَلم يَسِيرُوا فلقي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا مِنْهُم فَقَالَ يَا فلَان مَا لَك أما انطلقتم قَالَ يَا رَسُول الله أميرنا يشتكي رجله فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو بعث إِلَيْهِ فَقَالَ (بِسم الله وَبِاللَّهِ وَأَعُوذ بعزة الله وبقدرته من شَرّ مَا فِيهَا) سبع مَرَّات فَبَدَأَ الرجل فَقَالُوا لَهُ يَا رَسُول الله أتؤمره علينا وَهُوَ أصغرنا فَذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِرَاءَته لِلْقُرْآنِ فَقَالَ يَا رَسُول الله لَوْلَا أَنِّي أَخَاف أَن لَا أقوم بِهِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْقُرْآن مثله كجراب فِيهِ مسك قد ربط فِيهِ فَإِن فَتحته فاح ريح الْمسك وَإِن تركته كَانَ مسكا مَوْضُوعا مثل الْقُرْآن إِن قرأته وَإِلَّا فَهُوَ فِي صدرك(3/252)
عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ لَا تغرنكم هَذِه الْمَصَاحِف الْمُعَلقَة إِن الله تَعَالَى لَا يعذب قلبا وعى الْقُرْآن)
عَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو كَانَ الْقُرْآن فِي إهَاب مَا مَسّه النَّار)
قَالَ أَبُو عبد الله من حُرْمَة الْقُرْآن أَن لَا تمسه إِلَّا طَاهِرا وَأَن تَقْرَأهُ وَأَنت على طَهَارَة وَأَن تستاك وَأَن تتخلل وتطيب فَإِن هَذَا طَرِيقه وَأَن تستوي قَاعِدا إِن كنت فِي غير صَلَاة وَلَا تكون مُتكئا وَأَن تتلبس لَهُ كَمَا تتلبس للدخول على الْأَمِير لِأَنَّك مناج وَأَن تسْتَقْبل الْقبْلَة بقرَاءَته كَانَ أَبُو الْعَالِيَة إِذا قَرَأَ اعتم وَلبس وارتدى واستقبل الْقبْلَة وَأَن تتمضمض كلما تنخع
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كَانَ يكون بَين يَدَيْهِ ثَوْر إِذا تنخع تمضمض وَأخذ فِي الذّكر وَأَن يمسك عَن الْقِرَاءَة إِذا تثاوب فَإِن التثاؤب من الشَّيْطَان وَأَن يستعيذ بِاللَّه وَيبدأ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَإِذا أَخذ فِي سُورَة لم يشْتَغل بِشَيْء حَتَّى يفرغ مِنْهَا إِلَّا من ضَرُورَة وَإِذا أَخذ فِي الْقِرَاءَة لم يقطعهَا سَاعَة بساعة بِشَيْء من كَلَام الْآدَمِيّين من غير ضَرُورَة وَأَن يَخْلُو بقرَاءَته حَتَّى لَا يقطع عَلَيْهِ أحد بِكَلَامِهِ فيخلطه بجوابه لِأَنَّهُ إِذا فعل ذَلِك زَالَ عَنهُ سُلْطَان الِاسْتِعَاذَة فِي البدء وَأَن يقرأه على تؤدة وَترسل وترتيل وَأَن يشْتَغل بِهِ ذهنه وفهمه حَتَّى يعقل مَا بِهِ يُخَاطب وَأَن يقف على آيَة الْوَعْد فيرتغب إِلَى الله تَعَالَى ويسأله من فَضله وَأَن يقف على آيَة الْوَعيد فيستجير(3/253)
بِاللَّه مِنْهُ وَأَن يقف على أَمْثَاله فيمتثلها وَأَن يلْتَمس أعرابه وَأَن يُؤَدِّي لكل حرف حَقه من الْأَدَاء حَتَّى يبرز الْكَلَام باللطف تَمامًا فَإِن لكل حرف عشر حَسَنَات وَإِذا انْتَهَت قِرَاءَته أَن يصدق ربه وَيشْهد بالبلاغ للرسل صلوَات الله عَلَيْهِم وَيشْهد على ذَلِك أَنه حق فَيَقُول صدقت رَبنَا وَبَلغت رسلك وَنحن على ذَلِك من الشَّاهِدين اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا من شُهَدَاء الْحق القائمين بِالْقِسْطِ ثمَّ يَدْعُو بدعواته وَأَن لَا يلتقط الْآي من كل سُورَة فيقرأها فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه مر ببلال وَهُوَ يقْرَأ من كل سُورَة شَيْئا فَأمره أَن يقْرَأ السُّور كلهَا أَو كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَمن حرمته إِذا وضع الصَّحِيفَة أَن لَا يتْركهُ منشورا وَأَن لَا يضع فَوْقه شَيْئا من الْكتب حَتَّى يكون أبدا عَالِيا على سَائِر الْكتب وَأَن يَضَعهُ فِي حجره إِذا قَرَأَهُ أَو على شَيْء بَين يَدَيْهِ وَلَا يَضَعهُ بِالْأَرْضِ وَأَن لَا يمحوه من اللَّوْح بالبزاق وَلَكِن يغسلهُ بِالْمَاءِ وَإِذا غسله بِالْمَاءِ أَن يتوقى النَّجَاسَات من الْمَوَاضِع والمواضع الَّتِي تُوطأ فَإِن لتِلْك الغسالة حُرْمَة وَأَن من كَانَ قبلنَا من السّلف مِنْهُم من يستشفي بغسالته وَأَن لَا يتَّخذ الصَّحِيفَة إِذا بليت ودرست وقاية للكتب فَإِن ذَلِك جفَاء عَظِيم وَلَكِن يمحوها بِالْمَاءِ وَأَن لَا يخلي يَوْمًا من أَيَّامه من النّظر فِي الْمُصحف مرّة كَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يَقُول إِنِّي لأَسْتَحي أَن لَا أنظر كل يَوْم فِي عهد رَبِّي مرّة وَأَن يُعْطي عينه حظها مِنْهُ فَإِذا الْعين تُؤدِّي إِلَى النَّفس وَبَين النَّفس والصدر حجاب وَالْقُرْآن فِي الصَّدْر فَإِذا قَرَأَهُ عَن ظهر قلب فَإِنَّمَا يسمع أُذُنه فَيُؤَدِّي إِلَى النَّفس وَإِذا نظر فِي الْحَظ كَانَت الْعين وَالْأُذن قد اشْتَركَا فِي الْأَدَاء وَذَلِكَ أوفر للْأَدَاء وَكَانَ قد أخذت الْعين بحظها كالأذن
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أعْطوا أعينكُم حظها من الْعِبَادَة) قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا(3/254)
حظها من الْعِبَادَة قَالَ (النّظر فِي الْمُصحف والتفكر فِيهِ وَالِاعْتِبَار عِنْد عجائبه)
عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أفضل عبَادَة أمتِي قِرَاءَة الْقُرْآن)
وَمن حرمته أَن لَا يتأوله عِنْدَمَا يعرض لَهُ من أَمر الدُّنْيَا والتأول مثل قَوْلك للرجل إِذا جَاءَك {جِئْت على قدر يَا مُوسَى} وَمثل قَوْلك {كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أسلفتم فِي الْأَيَّام الخالية} عِنْد حُضُور الطَّعَام وَأَشْبَاه هَذَا وَمن حرمته أَن لَا يُقَال سُورَة كَذَا كَقَوْلِك سُورَة الْبَقَرَة وَسورَة النِّسَاء وَسورَة النَّحْل وَلَكِن يُقَال السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا كَذَا وَمن حرمته أَن لَا يُتْلَى منكوسا كَفعل معلمي الصّبيان يلْتَمس أحدهم بذلك أَن يرى الحذق من نَفسه والمهارة فَإِن تِلْكَ مجانة مِنْهُم وَمن حرمته أَن لَا يقرأه بألحان الْغناء كلحون أهل الْعِشْق وَلَا بترجيع النَّصَارَى وَلَا نوح الرهبانية فَإِن ذَلِك كُله زيغ
عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اقرأوا الْقُرْآن بِلُحُونِ الْعَرَب وَأَصْوَاتهَا وَإِيَّاكُم وَلُحُون أهل الْعِشْق وَأهل الْكِتَابَيْنِ فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ قوم من بعدِي يرجعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيع الْغناء والرهبانية وَالنوح لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ)
وَمن حرمته أَن تجلل تخطيطه إِذا خططته عَن أبي حليمة أَنه كَانَ(3/255)
يكْتب الْمَصَاحِف بِالْكُوفَةِ فَمر عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَنظر إِلَى كِتَابه فَقَالَ لَهُ أجلل قلمك فَأخذت الْقَلَم فقططت من طرفه قطا ثمَّ كتبت وَعلي رَضِي الله عَنهُ قَائِم ينظر إِلَى كتابتي فَقَالَ هَكَذَا نوره كَمَا نوره الله تَعَالَى
وَمن حرمته أَن لَا يجْهر بعض على بعض فِي الْقِرَاءَة فَيفْسد عَلَيْهِ حَتَّى يبغض إِلَيْهِ مَا يسمع وَيكون كَهَيئَةِ المغالبة وَمن حرمته أَن لَا يُمَارِي وَلَا يُجَادِل فِيهِ من الْقِرَاءَة وَلَا يَقُول لصَاحبه لَيْسَ كَذَا فَلَعَلَّ تِلْكَ الْقِرَاءَة صَحِيحَة بَين الْقُرَّاء فَيكون قد جحد كتاب الله تَعَالَى وَمن حرمته أَن لَا يقرأه فِي الْأَسْوَاق وَلَا فِي مَوَاطِن اللَّغط واللغو وَمجمع السُّفَهَاء قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} هَذَا إِذا مر بِنَفسِهِ فَكيف إِذا مر بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم
وَمن حرمته أَن لَا يتوسد الْمُصحف وَلَا يعْتَمد عَلَيْهِ وَلَا يَرْمِي بِهِ إِلَى صَاحبه إِذا أَرَادَ أَن يناوله وَمن حرمته أَن لَا يصغر الْمُصحف
عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَا تصغر الْمُصحف
وَمن حرمته أَن لَا يخلط بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَمن حرمته أَن لَا يحلى بِالذَّهَب وَلَا يكْتب بِالذَّهَب فيخلط بِهِ زِينَة الدُّنْيَا
عَن أبي عوَانَة عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ يكره أَن يحلى الْمُصحف أَو يكْتب بِالذَّهَب أَو يعلم عِنْد رُؤُوس الْآي أَو يصغر
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا زخرفتم مَسَاجِدكُمْ وحليتم مصافحكم فالدمار عَلَيْكُم)(3/256)
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهَا أَنه رأى مُصحفا قد زين بِفِضَّة قَالَ تغرون بِهِ السَّارِق وزينته فِي جَوْفه
وَمن حرمته أَن لَا يكْتب على الأَرْض وَلَا على حَائِط كَمَا يفعل بِهِ فِي الْمَسَاجِد المحدثة
عَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله قَالَ مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكِتَاب فِي أَرض فَقَالَ لشاب من هُذَيْل مَا هَذَا قَالَ من كتاب الله كتبه يَهُودِيّ قَالَ لعن الله من فعل هَذَا لَا تضعوا كتاب الله إِلَّا فِي موَاضعه
وَرَأى عمر بن عبد الْعَزِيز ابْنا لَهُ يكْتب الْقُرْآن على حَائِط فَضَربهُ وَمن حرمته أَنه إِذا اغْتسل بكتابه مستشفيا من سقم أَن لَا يصبهُ على كناسَة أَو فِي مَوضِع نَجَاسَة وَلَا على مَوضِع يُوطأ وَلَكِن نَاحيَة من الأَرْض فِي بقْعَة لَا يَطَأهَا النَّاس أَو يحْفر حُفْرَة فِي مَوضِع طَاهِر حَتَّى ينصب من جسده فِي تِلْكَ الحفير ثمَّ يكبسها أَو فِي نهر يخْتَلط بمائه فَيجْرِي
وَمن حرمته أَن يفتتحه كلما خَتمه حَتَّى لَا يكون كَهَيئَةِ المهجور وَلذَلِك كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ختم يقْرَأ من أول الْقُرْآن قدر خمس آيَات لِئَلَّا يكون فِي هَيْئَة المهجور
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ جَاءَ رجل فَقَالَ يَا رَسُول الله أَي الْعَمَل أفضل فَقَالَ عَلَيْك بِالْحَال المرتحل قَالَ وَمَا الْحَال المرتحل قَالَ صَاحب الْقُرْآن يضْرب فِي أَوله حَتَّى يبلغ آخِره ثمَّ يضْرب فِي أَوله كلما حل ارتحل
وَمن حرمته أَن لَا يكْتب المعاذ مِنْهُ تدْخلهَا الْخَلَاء إِلَّا أَن يكون فِي غلاف من آدم أَو فضَّة أَو غَيرهمَا فَيكون كَأَنَّهَا فِي صدرك(3/257)
وَمن حرمته إِذا كتبه وشربه سمى الله على كل نفس وَعظم النِّيَّة فِيهِ فَإِن الله يؤتيه على قدر نِيَّته
عَن مُحَمَّد بن مَرْوَان عَن أبي جَعْفَر قَالَ من وجد فِي قلبه سوءة فليكتب يس فِي جَام بزعفران ثمَّ يشربه
عَن مُجَاهِد قَالَ لَا بَأْس أَن يكْتب الْقُرْآن ثمَّ يغسلهُ ويسقى الْمَرِيض
عَن هِلَال بن الصَّلْت أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُورَة يس تدعى فِي التَّوْرَاة المعمة قيل وَمَا المعمة قَالَ تعم صَاحبهَا خير الدُّنْيَا وتكابد عَنهُ بلوى الدُّنْيَا وتدفع عَنهُ أهاويل الْآخِرَة وتدعى المدافعة القاضية تدفع عَن صَاحبهَا كل شَيْء وتقضي لَهُ كل حَاجَة وَمن قَرَأَهَا عدلت لَهُ عشْرين حجَّة وَمن سَمعهَا عدلت لَهُ ألف دِينَار فِي سَبِيل الله وَمن كتبهَا ثمَّ شربهَا أدخلت جَوْفه ألف دَوَاء وَألف نور وَألف يَقِين وَألف بركَة وَألف رَحْمَة وَنزع من كل غل وداء
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل شَيْء قلب وقلب الْقُرْآن يس وَمن قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآن عشر مَرَّات
فالقلب أَمِير على الْجَسَد وَكَذَلِكَ يس أَمِير على سَائِر السُّور مُشْتَمل على جَمِيع الْقُرْآن(3/258)
عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الله تَعَالَى من شغله ذكري وَقِرَاءَة الْقُرْآن عَن مَسْأَلَتي أَعْطيته أفضل مَا أعطي السَّائِلين وَفضل كَلَام الله تَعَالَى على سَائِر الْكَلَام كفضل الله تَعَالَى على خلقه
فَهَذَا فضل لَا يحاط بكنهه إِذْ كَانَ لَا يحاط بِفضل الله على جَمِيع خلقه وَإِنَّمَا صَار هَكَذَا لِأَنَّهُ كَلَامه مِنْهُ خرج
عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ أدْركْت سبعين رجلا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُونَ الله الْخَالِق وَمَا سواهُ الْمَخْلُوق غير الْكَلَام فَإِنَّهُ مِنْهُ خرج وَإِلَيْهِ يعود
عَن طَاوُوس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا رد الْعباد إِلَى الله شَيْئا أحب إِلَيْهِ من كَلَامه
عَن سُفْيَان الثَّوْريّ رَضِي الله عَنهُ يَقُول سَمِعت أَن قِرَاءَة الْقُرْآن أفضل من الذّكر وجاد مَا غاص قَائِل هَذَا القَوْل لِأَن الذّكر هُوَ شَيْء يبتدعه العَبْد من تِلْقَاء قلبه من علمه بربه وَالْقُرْآن قد تكلم بِهِ الرب فَإِذا تلاه العَبْد فَإِنَّمَا يتَكَلَّم بِشَيْء قد كَانَ عِنْد الرب وَلم يخلق وَلَا يتدنس فَهُوَ على طراءته وطيبه وَأَيْضًا لَيْسَ تأليف العَبْد كتأليف الله تَعَالَى قَالَ تَعَالَى {لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ وَلَو كَانَ بَعضهم لبَعض ظهيرا}
أَلا ترى إِلَى قَول الْوَلِيد بن الْمُغيرَة حَيْثُ اسْتمع إِلَى الْقُرْآن وتحير فِيهِ فَقَالَ قد عرضته على رجز الشّعْر وهزجه وقريضه فَلم يُشبههُ(3/259)
وَلَيْسَ بِسحر وَلَا كهَانَة وَإِن عَلَيْهِ لطلاوة وَإِن لَهُ لحلاوة وَإِن أَسْفَله لمغدق وَإِن أَعْلَاهُ لمثمر
عَن مُحَمَّد بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُرْآن أفضل من كل شَيْء دون الله تَعَالَى وَفضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام كفضل الله على خلقه فَمن وقر الْقُرْآن فقد وقر الله وَمن لم يوقر الْقُرْآن لم يوقر الله وَحُرْمَة الْقُرْآن عِنْد الله تَعَالَى كَحُرْمَةِ الْوَالِد على وَلَده الْقُرْآن شَافِع مُشَفع وَمَا حل مُصدق فَمن شفع لَهُ الْقُرْآن شفع وَمن مَحل بِهِ الْقُرْآن صدق وَمن جعله أَمَامه قَادَهُ إِلَى الْجنَّة وَمن جعله خَلفه سَاقه إِلَى النَّار حَملَة الْقُرْآن هم المحفوفون برحمة الله الملبسون نور الله المعلمون كَلَام الله وَمن والاهم فقد والى الله وَمن عاداهم فقد عادى الله يَقُول الله تبَارك اسْمه يَا حَملَة الْقُرْآن اسْتجِيبُوا لربكم بتوقير كِتَابه يزدكم حبا ويحببكم إِلَى عباده يرفع عَن مستمع الْقُرْآن بلوى الدُّنْيَا وَيدْفَع عَن تالي الْقُرْآن شَرّ الْآخِرَة وَمن اسْتمع آيَة من كتاب الله كَانَ لَهُ خيرا من صَبر ذَهَبا وَمن قَرَأَ آيَة من كتاب الله كَانَ أفضل مِمَّا تَحت الْعَرْش إِلَى التخوم وَإِن فِي كتاب الله لسورة تدعى العزيزة يدعى صَاحبهَا الشريف يَوْم الْقِيَامَة تشفع لصَاحِبهَا أَكثر من ربيعَة وَمُضر وَهِي سُورَة يس(3/260)
- الأَصْل الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ والمائتان
-
فِي سر كلمة التَّقْوَى
عَن الطُّفَيْل بن أبي بن كَعْب عَن أَبِيه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول وألزمهم كلمة التَّقْوَى لَا إِلَه إِلَّا الله
قَالَ أَبُو عبد الله إِنَّمَا سميت كلمة التَّقْوَى لِأَن العَبْد إِذا نطق بهَا إِنَّمَا ينْطق عَن نور التَّوْحِيد الَّذِي فِي قلبه فَإِذا انْتهى إِلَى الصِّرَاط صَار ذَلِك النُّور لَهُ وقاية من النَّار وَذَلِكَ النُّور برد يخمد لَهب النَّار لِأَن ذَلِك النُّور نور الرَّحْمَة وَتلك الرَّحْمَة هِيَ حَظّ الْمُؤمن من ربه فَإِذا نَالَ العَبْد تِلْكَ الرَّحْمَة أشرق الْقلب بِنور التَّوْحِيد وأضاء الصَّدْر من ذَلِك الْإِشْرَاق ونطق اللِّسَان عَن نور وضوء فَإِذا انْتهى إِلَى الصِّرَاط صَار ذَلِك النُّور والضوء وقاية فالنور يخمد مَا تَحت قَدَمَيْهِ والضوء يضيء لَهُ أَمَامه وينفرج لَهُ الطَّرِيق عَن تِلْكَ الظلمَة الَّتِي على الصِّرَاط(3/261)
من سَواد النَّار فَلذَلِك قيل كلمة التَّقْوَى لِأَنَّهُ بهَا يَتَّقِي من النَّار فكلمة لَا إِلَه إِلَّا الله أَولهَا نفي الشّرك وَآخِرهَا تعلق بِاللَّه فَلَا يقدر العَبْد أَن يتَعَلَّق بِاللَّه حَتَّى يلْزمه الله وَإِنَّمَا يلْزمه الله بَعْدَمَا يَجْعَل لَهُ إِلَيْهِ سَبِيلا فَإِذا رحم عبدا فتح لَهُ من قلبه الطَّرِيق إِلَيْهِ حَتَّى إِذا صَار الْقلب مَحل التَّوْحِيد فهناك يلْزمه الله نور الْكَلِمَة فيصدر الْقلب عَن الله بتوحيده إِلَى النَّفس حَتَّى تطمئِن النَّفس وتسكن إِلَى ذَلِك وتستقر عَن التَّرَدُّد والجولان فِي طلب معبود سواهُ فيستقر الْقلب وَالنَّفس جَمِيعًا للعبودة لَهُ لما يَأْمر وَينْهى فَصَارَ تعلقهَا جَمِيعًا بِهِ فِي العبودة وَهُوَ قَوْله {فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا}
فَهَذِهِ عقدَة الْقلب وطمأنينة النَّفس ثمَّ بعد ذَلِك تمْضِي النَّفس فِي شهواتها حلا وحراما وَهِي مَعَ ذَلِك بِاللَّه مطمئنة أَنه معبوده على إِضْمَار أَنَّهَا تقضي شهواتها وتعود إِلَى مَكَانهَا ثَانِيَة وَأما الْقلب فَهُوَ مُنكر لذَلِك مستمسك بعروته مقهور فِي سُلْطَان النَّفس حَتَّى إِذا أقبل الله على العَبْد بِالرَّحْمَةِ وَأَعْطَاهُ سُلْطَان التَّوْبَة خمدت نَار الشَّهْوَة وَخرج الْقلب من آثَار النَّفس فالعروة الوثقى هِيَ ذَلِك النُّور الَّذِي ألزم الله قلب العَبْد فَاسْتَمْسك بِهِ وَقَوي لَا انفصام لَهَا فَإِذا انْتهى إِلَى الصِّرَاط صَار ذَلِك النُّور وقاية لَهُ من تَحت قدمه وَصَارَ الضَّوْء أَمَامه يطْرق لَهُ فِي الظلمَة حَتَّى يجوزها
وَقد قُلْنَا بدءا أَن كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله أَولهَا نفي الشّرك وَآخِرهَا تعلق بِاللَّه وَإِنَّمَا يتَعَلَّق بِاللَّه إِذا اسْتكْمل التَّقْوَى وَذَلِكَ أَن الشّرك على ضَرْبَيْنِ شرك عبودة وشرك الْأَسْبَاب وَكِلَاهُمَا علاقَة وَهُوَ مُشْتَقّ من الشّرك الَّذِي ينصب فَيتَعَلَّق بِهِ الصَّيْد فَإِنَّمَا ينصب الشّرك ويلقى هُنَاكَ حبوب ينخدع الطَّائِر لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا حَتَّى يَقع فِيهِ فَيتَعَلَّق وَكَذَلِكَ(3/262)
السّمك إِنَّمَا يَقع فِي حبالته لشَهْوَة بَطْنه وَكَذَلِكَ الْآدَمِيّ إِنَّمَا يَقع فِي حبالة الْعَدو حَتَّى يتَوَلَّى دون الله إِلَهًا ويتخذه معبودا لشَهْوَة نَفسه يَشْتَهِي أَن يعاين معبوده فيلتذ بِالْعبَادَة فَطلب معبوده فَلَمَّا لم يجده مده الْعَدو إِلَى شَيْء وَصَوت لَهُ من جَوْفه وزينه لَهُ فالتذ بِصَوْتِهِ فعبده فَهُوَ يعبد الشَّيْطَان وَلَا يدْرِي بِحَيْثُ أَنه يعبد ذَلِك الوثن وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى لَهُم يَوْم الْقِيَامَة ألم أَعهد إِلَيْكُم يَا بني آدم أَلا تعبدوا الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين وَقَالَ واستنفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك واجلب
قَالَ لَهُ قَائِل مَا ذَلِك الصَّوْت قَالَ ذَلِك صَوت أعْطى الْعَدو ليفتن بِهِ الْآدَمِيّين أَي يهيج الحرقة الَّتِي فِي جَوف الْآدَمِيّ قَالَ الْقَائِل وَمَا تِلْكَ الحرقة قَالَ تِلْكَ حرقة الْفَرح الَّذِي خلق من النَّار فَوضع بِبَاب النَّار وحفت النَّار بِهِ وَهُوَ الشَّهَوَات فَمن سَمعهَا من المخذولين فقد سباه وَمن سَمعهَا من الْمُوَحِّدين لم يقدر أَن يسبيه لِأَن الله تَعَالَى من عَلَيْهِ بِالرشد وَمن من عَلَيْهِ بِالرشد فقد كره إِلَيْهِ الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد آتَيْنَا إِبْرَاهِيم رشده من قبل}
فَمن أُوتِيَ الرشد لم يتلذذ بذلك الصَّوْت وَمن وجد قلبه خَالِيا عَن ذَلِك سباه أَلا ترى أَن الْمُوَحِّدين لما سمعُوا صَوته فِي المزامير وَالْمَعَازِف افتتنوا بِهِ وَلَوْلَا أَنه يمازج بِصَوْتِهِ ذَلِك الصَّوْت من المعازف مَا التذوا بِهِ وَقد كره الله الْكفْر إِلَى الْمُؤمن وَلم يكن إِلَيْهِ المعازف وَأمره بالمجاهدة فَإِذا جَاهد فتح لَهُ فِي الْغَيْب فنال من الْأَنْوَار مَا لَا تَجِد لَهُ هَذِه المعازف إِلَيْهِ سَبِيلا لِأَن الَّذِي فِي جَوْفه من الشَّهْوَة(3/263)
قد مَاتَ فَلم يجد الْعَدو إِلَيْهِ سَبِيلا وَقبل ذَلِك إِنَّمَا كَانَ يلتذ بِصَوْت المعازف الممازج لصوت الْعَدو والمهيج لما فِي جَوْفه فَلَمَّا وَقع فِي منَازِل الْقرْبَة مَاتَت شَهْوَته وخشع قلبه من جلال الله تَعَالَى لم يجد الْعَدو إِلَيْهِ سَبِيلا فَصَارَت لَذَّة قلبه فِي حبه فدقت حلاوة جَمِيع الْأَشْيَاء عِنْده وَصَارَت جَمِيع الْأَشْيَاء مرفوضة
وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الْقلب بِاللَّه إِذا نجا من تعلقه بالشهوات والمشيآت والإرادات فَهَذِهِ كلهَا شرك الْأَسْبَاب فَإِذا تخلص من هَذَا الشّرك لم يبْق لَهُ مُتَعَلق الْقلب بِاللَّه فَعندهَا صدق الله فِي مقَالَته لَا إِلَه إِلَّا الله وَتلك الْمقَالة تملأ الكفة من الْمِيزَان حَتَّى تستميل بالسموات وَالْأَرْض وَمن فيهمَا من الْخلق
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام رب عَلمنِي شَيْئا أذكرك بِهِ وأدعوك بِهِ قَالَ قل يَا مُوسَى لَا إِلَه إِلَّا الله قَالَ كل عِبَادك يَقُول هَكَذَا قَالَ قل لَا إِلَه إِلَّا الله قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله إِنَّمَا أُرِيد شَيْئا تخصني بِهِ قَالَ يَا مُوسَى لَو أَن السَّمَوَات السَّبع وعمارهن وَالْأَرضين السَّبع فِي كفة وَلَا إِلَه إِلَّا الله فِي كفة لمالت بِهن لَا إِلَه إِلَّا الله(3/264)
- الأَصْل الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ والمائتان
-
فِي آيَة الْكُرْسِيّ وَمَا يحرس بِهِ
عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا الْمُنْذر أَيَّة آيَة مَعَك من كتاب الله أعظم قلت {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم} قَالَ فَضرب فِي صَدْرِي فَقَالَ لِيهن لَك الْعلم أَبَا الْمُنْذر فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ إِن لهَذِهِ الْآيَة للسانا وشفتين تقدس الْملك عِنْد سَاق الْعَرْش
أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَجعل ثَوَابهَا لِقَارِئِهَا عَاجلا وآجلا أما فِي العاجل فَهِيَ تحرس من قَرَأَهَا من الْآفَات فَإِن الله تَعَالَى خلق آدم فَأحْسن خلقه وَقَالَ فِي تَنْزِيله {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم} فَمن ذَا يقدر على صفة حسن تَقْدِيره وَقَالَ {الَّذِي خلقك فسواك فعدلك فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك}(3/265)
فَأخْرج تقويمه وتسويته وتعديله من بَاب الرَّحْمَة وَأخرج تركيب الصُّورَة من بَاب الْمَشِيئَة ثمَّ فَضله بِالروحِ وقرنه بِالنَّفسِ وَجعل فيهمَا الْحَيَاة للحراك للعبودة ثمَّ جعل تِلْكَ الْبضْعَة الجوفاء خزانته وَهِي الْقلب وَجعل لَهَا عينين تبصران الْغَيْب وأذنين يستمعان وحيه وَكَلَامه وَجعل لَهَا بَابا إِلَى الصَّدْر للسراج المتوقد شعاعه فِي الصَّدْر وَجعل تِلْكَ الْبضْعَة معدنا لجواهر التَّوْحِيد من الحكم الْبَالِغَة والعلوم الْعَالِيَة ثمَّ خلق الْآفَات فِي ذَلِك الْيَوْم الَّذِي خلقه وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة ليقابل كل شَيْء من صنعه الْجَمِيل فِي آدم وَولده فِي الظَّاهِر مِنْهُ وَالْبَاطِن آفَة ذَلِك الشَّيْء ليَكُون الْآدَمِيّ حامدا لَهُ شاكرا يرتبط الصنع الْجَمِيل بِالْحَمْد وَالشُّكْر ويحذر من الآفة
وَلما صَار للْعَبد هفوات وغفلات من نزغات الْعَدو ونفثاته ونفخاته من أجل الشَّهْوَة المركبة فِيهِ والهوا الهفافة فِيهَا لَا هبوب تِلْكَ الشَّهَوَات وهما سلَاح الْعَدو وسبيله إِلَى الْآدَمِيّ جعل كلمة الله الْعليا وَهِي كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله وَهِي كلمة التَّقْوَى تقيه آفَات الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِنَّمَا تدخل الْآفَات من التَّقْصِير فِي الشُّكْر قَالَ تَعَالَى {ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم}
وَجَاء فِي الْخَبَر عَن الله تَعَالَى من قَوْله لبني إِسْرَائِيل إِنِّي أبتدئ عبَادي بنعمتي فَإِن قبلوا أتممت وَإِن شكروا زِدْت وَإِن غيروا نقلت وَإِن بدلُوا غضِبت
قَالَ نوف الْبكالِي آيَة الْكُرْسِيّ تدعى فِي التَّوْرَاة ولية الله وتدعى قَارِئهَا فِي ملكوت السَّمَوَات عَزِيزًا وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ إِذا دخل بَيته قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ فِي زَوَايَا بَيته الْأَرْبَع كَأَنَّهُ(3/266)
يلْتَمس بذلك أَن يكون لَهَا حارسا من جوانبه الْأَرْبَعَة وَأَن يَنْفِي الشَّيْطَان من زَوَايَا بَيته
وَرُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه صارع جنيا فصرعه عمر فَقَالَ لَهُ الجني خل عني أعلمك مَا تمتنعون بِهِ منا فَقَالَ إِنَّكُم تمتنعون منا بِآيَة الْكُرْسِيّ وَقَالَ الله تَعَالَى من قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ فِي دبر كل صَلَاة أَعْطيته ثَوَاب الْأَنْبِيَاء
مَعْنَاهُ ثَوَاب عمل الْأَنْبِيَاء فَأَما ثَوَاب النُّبُوَّة فَلَيْسَ لأحد إِلَّا للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام
وَقَالَ جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِن رَبك يَقُول من قَالَ فِي دبر كل صَلَاة مَكْتُوبَة مرّة وَاحِدَة اللَّهُمَّ إِنِّي أقدم إِلَيْك بَين يَدي كل نفس ولمحة ولحظة وطرفة يطرف بهَا أهل السَّمَوَات وَأهل الأَرْض وكل شَيْء هُوَ من علمك كَائِن أَو قد كَانَ أقدم إِلَيْك بَين يَدي ذَلِك كُله الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم إِلَى آخرهَا فَإِن اللَّيْل وَالنَّهَار أَربع وَعِشْرُونَ سَاعَة لَيْسَ مِنْهَا سَاعَة إِلَّا يصعد إِلَيّ مِنْهُ سَبْعُونَ ألف ألف حَسَنَة حَتَّى ينْفخ فِي الصُّور وتشتغل الْمَلَائِكَة
وَلما عجز عَن إحصاء هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي أجمل ذكرهَا على الِانْفِرَاد وَقَالَ أقدم بَين هَذِه الْأَشْيَاء أَنه الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ كَأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ إِلَى أَنه قديم لم يزل حَيّ حييت بِهِ الْأَشْيَاء فتحركت قيوم قَامَت بِهِ الْأَشْيَاء فاستقرت الشفع ضم الشَّيْء إِلَى الشَّيْء يُقَال شفع إِلَيْهِ أَي رفع إِلَيْهِ شخصه وَحَاجته وَكَانَ فِي البدء وترا وكل الْأَشْيَاء لَا تكون إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِنَّمَا يخص الدُّعَاء لِأَن الله تَعَالَى أذن فِيهِ فَقَالَ {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} وَقَالَ فِي سَائِر الْأَعْمَال إِنَّمَا يتَقَبَّل(3/267)
الله من الْمُتَّقِينَ) {مَا بَين أَيْديهم} الْآخِرَة و {مَا خَلفهم} الدُّنْيَا وَقيل بِالْعَكْسِ عَن ذَلِك
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي علمه مَعْنَاهُ وسع ذَلِك الْعلم الَّذِي عِنْد الْكُرْسِيّ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِنَّمَا وضع الله علمه بحركات الْخلق هُنَاكَ ثمَّ قرن الْحِفْظ بذلك الْعلم فَكَمَا لَا يؤوده علم الحركات لَا يؤوده حفظهما
أما قَوْله إِن لَهَا لِسَانا وشفتين مَعْنَاهُ أَن قِرَاءَة الْقَارئ بهَا يصعد إِلَى الرَّحْمَن فتقدس مليكه عِنْد سَاق الْعَرْش وَالتَّقْدِيس سُؤال الحراسة لِقَارِئِهَا لِأَن القدوس بِهِ يتقدس الْأَشْيَاء فَإِذا تقدست بقيت على هيئتها وتحصنت من الْآفَات فقراءة العَبْد الْآيَة اعْتِرَاف بِمَا تَضَمَّنت بِهِ من صِفَاته وتجديد الْإِيمَان بِهِ فَيَقَع لقرَاءَته حُرْمَة تَنْتَهِي إِلَى سَاق الْعَرْش فتقدس فَجعل ثَوَاب التَّقْدِيس حراسة العَبْد لكل مَا هيأ الله لَهُ من الْحَال المحمودة والموعود فِيهَا وَالله أعلم(3/268)
- الأَصْل السَّادِس وَالْخَمْسُونَ والمائتان
-
فِي زَمْزَم واشتقاقه وَهِي من الْجنَّة
عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَمْزَم لما شربت لَهُ
زَمْزَم بِئْر إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام أنبطه الله لَهُ غياثا فِي وَقت الِاضْطِرَار والإشراف على الْمَوْت بَعْدَمَا كَانَ يتمايل عطشا فَبعث الله تَعَالَى جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام فأدار بِطرف جنَاحه على تِلْكَ الْبقْعَة ثمَّ دَفعهَا بعقبه دفْعَة فانفتقت عَن المَاء من عين من الْجنَّة من قبل الرُّكْن الَّذِي يستلمه النَّاس الْيَوْم وزمزم هزمة جِبْرَائِيل عَلَيْهِ(3/269)
السَّلَام بعقبه اشْتقت من الهزمة والهزمة الدفعة وَمِنْه الْهَزِيمَة وَقَوله {فهزموهم بِإِذن الله} أَي دفعوهم وكسروهم
عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ بَيْنَمَا عبد الْمطلب نَائِم فِي الْحجر إِذْ أَتَى فَقيل لَهُ احْفِرْ برة قَالَ وَمَا برة ثمَّ ذهب عَنهُ حَتَّى إِذا كَانَ الْغَد نَام إِلَى مضجعه ذَلِك فَأتى فَقيل لَهُ أحفر مضنونة قَالَ وَمَا مضنونة ثمَّ ذهب عَنهُ حَتَّى إِذا كَانَ الْغَد نَام فِي مضجعه فَأتى فَقيل لَهُ احْفِرْ طيبَة ثمَّ ذهب عَنهُ فَلَمَّا كَانَ الْغَد عَاد لمضجعه فَنَامَ فِيهِ فَأتى فَقيل لَهُ أحفر زَمْزَم قَالَ وَمَا زَمْزَم قَالَ لَا تنزف وَلَا تذم ثمَّ نعت لَهُ موضعهَا فَقَامَ فحفر حَيْثُ نعت لَهُ فَقَالَت لَهُ قُرَيْش مَا هَذَا يَا عبد الْمطلب قَالَ أمرت بِحَفر زَمْزَم فَلَمَّا كشف عَنهُ وَأبْصر الطوى قَالُوا يَا عبد الْمطلب إِن لنا حَقًا فِيهَا مَعَك إِنَّهَا بِئْر أَبينَا إِسْمَاعِيل قَالَ مَا هِيَ لكم لقد خصصت بهَا دونكم فحفرها
فَهَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي ذكرت لعبد الْمطلب فِي مَنَامه دليلة على مَا فِيهَا
فَأَما قَوْله برة فَمَعْنَاه أَنَّهَا تعطيك الصدْق من نَفسهَا لِأَنَّهَا من الْجنَّة وكل شَيْء من الْجنَّة فَإِن الْأَشْيَاء المشتهات كائنة جَمِيعهَا فِي الْوَاحِد مِنْهَا وَذَلِكَ قَوْله وهم فِيمَا اشتهت أنفسهم خَالدُونَ وَقَالَ {فِيهَا مَا تشْتَهي أَنفسكُم}(3/270)
وكل شَيْء من الْجنَّة مَوْجُود فِي وَاحِد مِنْهَا جَمِيع الشَّهَوَات أَلا ترى الْعَينَيْنِ النضاختين المذكورتين فِي الْقُرْآن تنضخان بألوان الْأَشْيَاء إِن اشْتهى ولي الله من تِلْكَ الْعين طَعَاما نضخت وَإِن اشْتهى شرابًا نضخت وَإِن اشْتهى جواري نضخت وَإِن اشْتهى دَوَاب نضخت مسرجة ملجمة وَبِذَلِك جَاءَ الْخَبَر
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَيْضا أَن السحابة تقف على رؤوسهم فينطق مَاؤُهَا فتمطر عَلَيْهِم مَا يشتهون وَإِن الْأَشْجَار تنطق والأقداح تطير فتغترف بِمِقْدَار شَهْوَة الشَّارِب وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قدروها تَقْديرا} أَي لَا يفضل عَن الرّيّ وَلَا ينقص مِنْهُ
وَإِن الرجل مِنْهُم ليمشي فِي بيوتاته ويصعد إِلَى قصوره وَبِيَدِهِ قضيب فيشير بِهِ إِلَى المَاء فَيجْرِي مَعَه حَيْثُ مَا دَار فِي مَنَازِله على مستوى الأَرْض فِي غير أخدُود ويصعد حَيْثُ مَا صعد من أَعلَى قصوره وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يشرب بهَا عباد الله يفجرونها تفجيرا}
وَإِن الثَّوْب الَّذِي يلْبسهُ ولي الله يَتلون عَلَيْهِ فِي الْيَوْم الْوَاحِد سبعين لونا كلما خطر بِبَالِهِ لون تغير لِبَاسه وتلون عَلَيْهِ بِمَا اشتهت نَفسه وَكَذَلِكَ فِيمَا يطعم وَيشْرب كلما تمنى أَو خطر بِبَالِهِ شَيْء تغير ذَلِك الشَّيْء الَّذِي فِي فِيهِ يمضغه إِلَى طعم مَا خطر بِبَالِهِ
فَهَذَا كُله وَفَاء رَبنَا لعَبْدِهِ حَيْثُ قَالَ وهم فِيمَا اشتهت أنفسهم خَالدُونَ لأَنهم ردوا شهوات نُفُوسهم فِي الدُّنْيَا فَشكر الله لَهُم فِي دَاره فَكلما تناولوا بِشَهْوَة من طَعَام أَو شراب أَو لِبَاس أَو مركب(3/271)
أَو شَيْء من الْأَشْيَاء فخطر ببالهم فِي ذَلِك الشَّيْء شَهْوَة غَيرهَا تحول ذَلِك الشَّيْء إِلَى مَا اشتهت أنفسهم لِئَلَّا يتنغص عَلَيْهِم عيشهم وَلَا يتكدر عَلَيْهِم عَطاء رَبهم لِأَن الله تَعَالَى وعد فِي تَنْزِيله أَن الْجنَّة عَطاء غير مجذوذ أَي غير مُنْقَطع
وَلَو كَانَ إِذا خطر بِبَالِهِ شَيْء احْتج إِلَى مُدَّة ومهلة حَتَّى يَنَالهُ لم يكن فِي ذَلِك وَفَاء بالوعد فَجعل الله الْجنَّة وَنَعِيمهَا لَهُ نهمة كلما خطرت بِبَالِهِ شَهْوَة فِي شَيْء تحولت لَهُ تِلْكَ فِي أسْرع من طرفَة عين إِلَى الشَّهْوَة الْأُخْرَى وَفَاء لَهُ بِمَا وعد ليَكُون عَطاء غير مجذوذ دَائِما أبدا أَلا يرى أَنه يَأْتِي زَوجته وَهِي بكر فَإِذا قضى مِنْهَا شَهْوَته عَادَتْ بكرا على حَالهَا فَهَكَذَا شَأْن الْجنَّة فَإِذا خرجت من الْجنَّة إِلَى الدُّنْيَا تِلْكَ الْأَشْيَاء تَغَيَّرت أحوالها لِأَن الْجنَّة مُحرمَة على الْآدَمِيّين حَتَّى يَذُوقُوا الْمَوْت أَلا ترى أَن الْحجر الْأسود فِي الرُّكْن كَانَ يضيء كَالشَّمْسِ فاسود لأدناس الْآدَمِيّين وسترت زينته عَنْهُم فَهُوَ فِي الْبَاطِن كَهَيْئَته وَلكنه مَسْتُور وَلَو دق فَصَارَ رضيضا لم تَجدهُ إِلَّا أسود فِي رَأْي الْعين وَهُوَ فِي الْبَاطِن على هَيئته
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلَا مَا ضيع من الرُّكْن من أنجاس الْجَاهِلِيَّة وأرجاسها وأيدي الظلمَة والأثمة لاستشفى بِهِ من كل عاهة ولألفاه الْيَوْم كَهَيْئَته يَوْم خلقه الله وَإِنَّمَا غَيره الله بِالسَّوَادِ لِئَلَّا ينظر أهل الدُّنْيَا إِلَى زِينَة الْجنَّة وَإِنَّهَا لياقوتة بَيْضَاء من ياقوت الْجنَّة وَضعه الله لآدَم حِين أنزلهُ فِي مَوضِع الْكَعْبَة قبل أَن تكون وَالْأَرْض يَوْمئِذٍ طَاهِرَة لم يعْمل عَلَيْهَا شَيْء من الْمعاصِي وَلَيْسَ لَهَا أهل ينجسونها وَوضع لَهَا صفا من الْمَلَائِكَة على أَطْرَاف الْحرم يحرسونه من جَان الأَرْض وسكانها يَوْمئِذٍ الْجِنّ وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُم أَن ينْظرُوا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ شَيْء من الْجنَّة وَمن نظر إِلَى الْجنَّة دَخلهَا(3/272)
وهم على أَطْرَاف الْحرم حَيْثُ أَعْلَامه الْيَوْم محدقون بِهِ من كل جَانب فَلذَلِك حرم وَسمي الْحرم
وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ كَانَ الرُّكْن كرسيا لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام يجلس عَلَيْهِ فالركن حجر من الفردوس بَعثه الله يَوْم أَخذ الْمِيثَاق فَوَضعه بَينه وَبَين الْعباد ليبايعوه على ذَلِك الْحجر فيمسحونه بأيدهم بيعَة لله وَلذَلِك أَمر باستلامه
عَن أبي وليد الْقرشِي قَالَ سَمِعت فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا تَقول لما أَخذ الله مِيثَاق الْعباد جعله فِي الْحجر فَمن الْوَفَاء لله بالعهد استلام الْحجر فَكَذَلِك مَاء زَمْزَم هُوَ بهيئته على مَا فِي الْجنَّة من حلاوته ولذته ولونه إِلَّا أَنه مُمْتَنع أَن يُوجد للشاربين تِلْكَ الْهَيْئَة الَّتِي فِيهِ من الْجنَّة لإغاثة ولد خَلِيل الله عَلَيْهِمَا السَّلَام لِأَن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ لما ولى نادته هَاجر يَا إِبْرَاهِيم إِلَى من تكلنا قَالَ إِلَى الله تَعَالَى فَكَانَ خَلِيل الله صَادِقا فِي قَوْله فوفى الله لَهُ بصدقه وأغاث وَلَده فِي وَقت الِاضْطِرَار وَبَقِي ذَلِك الغياث لمن بعده
وَذَلِكَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَمْزَم لما شربت لَهُ فالغياث أَمر جَامع ينعكس ويطرد من جَمِيع الْأُمُور فَإِذا نَاب العَبْد نائبة كائنة مَا كَانَت فنواه وقصده وجد ذَلِك الْغَوْث فِيهِ مَوْجُودا وَإِنَّمَا يَنَالهُ العَبْد على قدر نِيَّته
قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ رَحمَه الله إِنَّمَا الرقي وَالدُّعَاء بِالنِّيَّةِ فالنية تبلغ العَبْد عناصر الْأَشْيَاء والنيات على قدر طَهَارَة الْقُلُوب وسعيها إِلَى رَبهَا فِي تِلْكَ الْمَرَاتِب وَتَفْسِير النِّيَّة النهوض يُقَال ناء ينوء أَي نَهَضَ ينْهض فالنية نهوض الْقلب بعقله ومعرفته إِلَى الله فعلى قدر(3/273)
الْعقل والمعرفة يقدر الْقلب على السَّعْي والطيران إِلَى الله فالشارب لزمزم إِن شرب لشبع أشبعه الله وَإِن شربه لري أرواه الله وَإِن شربه لشفاء شفَاه الله وَإِن شربه لسوء خلق حسنه الله وَإِن شربه لضيق صدر شَرحه الله وَإِن شرب لانفلاق ظلمات الصَّدْر فلقه الله وَإِن شربه لغنى النَّفس أغناه الله وَإِن شربه لحَاجَة قَضَاهَا الله وَإِن شربه لأمر نابه كَفاهُ الله وَإِن شربه للكربة كشفها الله وَإِن شربه لنصرة نَصره الله وبأية نِيَّة شربهَا من أَبْوَاب الْخَيْر وَالصَّلَاح وفى الله لَهُ بذلك لِأَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِمَا أظهره الله تَعَالَى من جنته غياثا
فَأَما قَوْله مضنونة فَإِنَّمَا سميت لِأَنَّهَا قد ضن بهَا عَمَّن قبله من الْآدَمِيّين فجاد الله بهَا على أَب الْعَرَب إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام لتبقى مكرمتها فِي وَلَده مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي أمته وَأما قَوْله طيبَة فَإِنَّهَا طابت بِذَات الله خلقهَا بِيَدِهِ ثمَّ طابت بجود الله وبعطفه على ولد خَلِيله صلوَات الله عَلَيْهِمَا(3/274)
- الأَصْل السَّابِع وَالْخَمْسُونَ والمائتان
-
فِي سر الدُّعَاء عِنْد المضجع
عَن أبي رمثة الْأَنمَارِي قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَخذ مضجعه قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذَنبي واخسأ شيطاني وَفك رهاني وَثقل ميزاني واجعلني فِي النداء الْأَعْلَى
أَمر بالاستغفار فَقَالَ فِي تَنْزِيله {واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات}
فالمغفرة دَرَجَات بَعْضهَا أَعلَى من بعض فمغفرة الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام أَعلَى من مغْفرَة من دونهم ومغفرة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْلَاهَا أَلا ترى أَنه جَاءَ عَنهُ أَنه قَالَ إِن لي دَعْوَة أخرتها إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَإِن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ليرغب إِلَيّ فِي ذَلِك الْيَوْم
وَقَالَ إِذا زفرت النَّار على أهل الْموقف قَالَ الْأَنْبِيَاء وَالرسل عَلَيْهِم السَّلَام نَفسِي نَفسِي وَقَالَ نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمتِي أمتِي(3/275)
فَهَذَا لعلو دَرَجَته فِي الْمَغْفِرَة أَمر أَن يسْتَغْفر فَلم يزل ذَلِك دأبه بعد مَا بشره الله تَعَالَى فِي سُورَة الْفَتْح بقوله {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} فَنزلت عَلَيْهِ فِي آخر أمره {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} إِلَى آخر السُّورَة
وَإِنَّمَا نزلت هَذِه بعد فتح مَكَّة والبشرى بالمغفرة فِي سُورَة إِنَّا فتحنا قبل ذَلِك بِنَحْوِ من سِنِين وَذَلِكَ عِنْد فتح خَيْبَر فَلم يزل ذَلِك دأبه وَلم يُفَارق الاسْتِغْفَار إِلَى أَن قَبضه الله إِلَيْهِ وَمن يُحِيط بالمغفرة إِلَّا الله فَكلما استكثر العَبْد من سؤالها كَانَ مِنْهَا أوفر حظا
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر الْمَأْثُور أَن الاسْتِغْفَار يخرج يَوْم الْقِيَامَة يُنَادي يَا رب حَقي فَيَقُول خُذ حَقك فيحتفل أَهله ويجتحفهم
وَرُوِيَ أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام خرج يَسْتَسْقِي فَلَمَّا انْتهى إِلَى الْبر إِذْ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لنا وَرجع فَمَا تنام آخر النَّاس حَتَّى رَجَعَ أَوَّلهمْ فكأنهم استقلوا ذَلِك مِنْهُ فَأوحى إِلَيْهِ أَن قل لقَوْمك إِنِّي من أَغفر لَهُ مغْفرَة وَاحِدَة أصلح لَهُ بهَا أَمر دُنْيَاهُ وآخرته
قَوْله أخسأ شيطاني فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد وكل بِهِ قرينه من الشَّيْطَان قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن الله أعانني عَلَيْهِ فَأسلم
ثمَّ تَأَول بَعضهم هَذِه الْكَلِمَة فَقَالَ أَي أسلم من كَيده ودواهيه وَنَفر أَن يحمل مَعْنَاهُ على الْإِسْلَام وَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح لِأَن قَوْله أسلم مَفْتُوح الْمِيم مَعْنَاهُ انْقَادَ وَأعْطى بيدَيْهِ سلما كَقَوْلِه تَعَالَى(3/276)
{قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} أَي أعطينا بِأَيْدِينَا سلما كَقَوْلِه تَعَالَى {وألقوا إِلَى الله يَوْمئِذٍ السّلم} أَي أعْطوا بِأَيْدِيهِم وألقوا إِلَى الله أنفسهم تَسْلِيمًا
فَقَوله أخسأ شيطاني أَي أَنَّك إِذا أخسأته خسئ فَلم يبْق مَعَه شَرّ وَلَا كيد والخسأ فِي لُغَة الْعَرَب الْفَرد والزكا الزَّوْج وكل شَيْء انْضَمَّ إِلَيْهِ شَيْء فزواجه فَهُوَ زكا وَمِنْه سميت الزَّكَاة فِي المَال زَكَاة يُقَال زكى الزَّرْع وَقَوله ذَلِك أزكى لكم وَقَوله مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدا وَمِنْه قَوْله وويل للْمُشْرِكين اللَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة أَي لَا يُؤْتونَ كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله فيخسئون من نورها فهم خسا أَي فَرد خَال عَن النُّور وَالْخَيْر فَيَقُول الله لَهُم فِي النَّار إخسأوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون أَي كونُوا فِي خلاء مني وَمن رَحْمَتي وعطفي فَعندهَا يَنْقَطِع الْكَلَام والنداء ويطبق عَلَيْهِم فَلَا يبْقى لَهُم من الرب شَيْء فَذَلِك الْحَال أخلى خلاء فَقَوله أخسأ شيطاني أَي أخله من جَمِيع الشَّرّ حَتَّى لَا يكيدني بِشَيْء
قَوْله فك رهاني فَإِن النُّفُوس حظها من الدُّنْيَا النِّعْمَة نعْمَة الْبَصَر ونعمة السّمع ونعمة اللِّسَان ونعمة سَائِر الْجَوَارِح وَسَائِر النَّعيم الَّتِي تربى بهَا الْجَوَارِح وحظها من رَبهَا الْحَيَاة وَالْعلم والذهن والمعرفة وَالْعقل وَالْحِفْظ والفطنة وَالْقُوَّة فالنفوس مرتهنة بِالنعَم وَإِنَّمَا يفكها الشُّكْر فَعلم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْعباد لَا يبلغون كنه الشُّكْر فَفَزعَ إِلَى(3/277)
ربه أَن يتَوَلَّى فك رهانه بجوده وفضله وَقَالَ فِي تَنْزِيله {كل امْرِئ بِمَا كسب رهين} وَقَالَ {كل نفس بِمَا كسبت رهينة إِلَّا أَصْحَاب الْيَمين}
فأصحاب الْيَمين هم الموحدون وحدوا الله بقلوبهم ثمَّ أبرزوا ذَلِك التَّوْحِيد على ألسنتهم فنطقوا بِلَا إِلَه إِلَّا الله فَاقْتضى الله عباده الْوَفَاء بصدقها وصدقها مَسْتُور عَن الْخلق وَعند الله ظَاهر فاقتضاهم حفظ الْجَوَارِح السَّبع عَن المناهي وَأَدَاء الْفَرَائِض ليبرز صدق الصَّادِق وَكذب الْكَاذِب وكل الْمُوَحِّدين قد أخذُوا بِسَهْم من سِهَام يمن الْيَمين كل على قدر صدقه فَأول أَصْحَاب الْيَمين الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَآخرهمْ من أَتَى الله بِكَلِمَة التَّوْحِيد نطقا بهَا لَيْسَ مَعَه وَرَاء ذَلِك شَيْء وَأَصْحَاب الدَّرَجَات فِيمَا بَين ذَلِك وكل من أَتَى الله مَعَ هَذِه الْكَلِمَة بِشَيْء من أَعمال الْبر من حفظ جارحة وَأَدَاء فَرِيضَة وَاحِدَة فقد أَتَى بِسَهْم من الشُّكْر وعَلى قدر ذَلِك الشُّكْر فك رهانه وَبقيت سَائِر السِّهَام عَلَيْهِ غرما وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى {إِن عَذَابهَا كَانَ غراما}
فأوفرهم حظا من حفظ الْجَوَارِح وَأَدَاء الْفَرَائِض أوفرهم حظا من الشُّكْر وهم الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وهم مَعَ هَذَا مقصرون عَن أنفسهم فِي الشُّكْر قَالَ الله تَعَالَى {كلا لما يقْض مَا أمره} أَي لن يبلغ أحد أَن يقْضِي أمره على كنهه
وَكَيف يقدر آدَمِيّ على أَن يخرج من لَحْمه وَدَمه الَّذِي أَصله من التُّرَاب وَمَعَهُ شهوات نَفسه ووساوسها أَن يبلغ بِهِ كنه أمره الَّذِي هُوَ أَهله هَيْهَات فالآدميون عجزوا عَن ذَلِك فَلذَلِك فزع إِلَى ربه فَقَالَ(3/278)
فك رهاني حَتَّى يكون الَّذِي عجز عَنهُ الآدميون هُوَ الَّذِي يفكه بجوده فينجو من رهائن الشُّكْر أَلا ترى إِلَى قَول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَا رب أسبغت عَليّ النعم فشكرتك عَلَيْهَا فَكيف لي بشكر شكرك قَالَ يَا مُوسَى تعلمت الْعلم الَّذِي لَا يفوقه علم بحسبك أَن تعلم أَن ذَلِك من عِنْدِي فَهَذَا مَوضِع الْعَجز فَإِذا بلغ العَبْد مَوضِع الْعَجز فزع إِلَى الله حَتَّى يجود عَلَيْهِ بِمَا بَقِي عَلَيْهِ من الشُّكْر ففكه من رَهنه
قَوْله ثقل ميزاني فالرسل فِي ستر الله الْأَعْظَم فَإِذا نصبت الموازين امْتَلَأت الكفتان من ورع أَعمال النُّبُوَّة وأفعال الرسَالَة والصدق لِسَان موازينهم فَأهل الْموقف فِي أَشد الْأَهْوَال فِي ذَلِك الْوَقْت لِأَن الرَّحْمَة لم تخرج بعد من الْحجب إِلَيْهِم والرب غَضْبَان أسفا محتجب عَن خلقه لشرك الْمُشْركين وَعبادَة الْأَوْثَان وفرية المفترين فَإِذا نصبت مَوَازِين الرُّسُل وطارت أنوار أَعْمَالهم من الْمِيزَان إِلَى الله تَعَالَى سكن الْغَضَب وَرَضي عَنْهُم الرب وَخرجت الرَّحْمَة من الْحجب إِلَى أهل التَّوْحِيد فأحاطت بهم فَصَارَ الموحدون فِي سرادقها فَعندهَا يُوزن أَفعَال الْعباد إِنَّمَا قَالَ ثقل ميزاني أَي وفر عَليّ أنوار النُّبُوَّة والرسالة حَتَّى أكون أعظمهم نورا وأشدهم صدقا حَتَّى يكون عَمَلي هُوَ الَّذِي يسكن غضبك على خلقك وَيخرج الرَّحْمَة إِلَى الْمُوَحِّدين
قَوْله واجعلني فِي النداء الْأَعْلَى فَإِن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي الْموقف لَهُم مَرَاتِب على نَحْو مقاماتهم بقلوبهم فَمن كَانَ أقرب منزلَة بِقَلْبِه فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَعلَى مرتبَة هُنَاكَ فأعلى البداء هم السَّابِقُونَ الَّذِي يبْدَأ بهم فَكَانَ هَذَا دعاؤه حَتَّى بشر بالْمقَام الْمَحْمُود
قَالَ مُجَاهِد {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} قَالَ يجلسه على عَرْشه(3/279)
4 -(4/1)
- الأَصْل الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ والمائتان
-
فِي أَخْلَاق الْمعرفَة
عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ من لم يحفظ هَذَا الحَدِيث كَانَ نقصا من مروءته وعقله قُلْنَا وَمَا ذَاك يَا أَبَا سعيد قَالَ فَبكى وَأَنْشَأَ يحدثنا فَقَالَ لَو أَن رجلا من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين اطلع من بَاب مَسْجِدكُمْ هَذَا مَا أدْرك شَيْئا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مَا أَنْتُم عَلَيْهِ إِلَّا قبلتكم هَذِه ثمَّ قَالَ هلك النَّاس ثَلَاثًا قَول وَلَا فعل وَمَعْرِفَة وَلَا صَبر وَنَفس وَلَا صدق مَا لي أرى رجَالًا وَلَا أرى عقولا وَأرى أجسادا وَلَا أرى قلوبا دخلُوا فِي الدّين ثمَّ خَرجُوا وحرموا ثمَّ استحلوا وَعرفُوا ثمَّ أَنْكَرُوا وَإِنَّمَا دين أحدهم على لِسَانه وَلَئِن سَأَلته هَل تؤمن بِيَوْم الْحساب قَالَ نعم كذب وَمَالك يَوْم الدّين إِن من أَخْلَاق الْمُؤمن قُوَّة فِي دين وحزما فِي لين وإيمانا فِي يَقِين وحرصا فِي علم وشفقة فِي معة وحلما فِي علم وقصدا فِي غنى وتحملا فِي فاقه وتخرجا فِي طمع وكسبا من حَلَال(4/1)
وَبرا فِي استقامة ونشاطا فِي هدى ونهيا عَن شَهْوَة وَرَحْمَة لمجهود وَإِن الْمُؤمن عياذا لله لَا يَحِيف على من يبغض وَلَا يَأْثَم فِيمَن يحب وَلَا يضيع مَا استودع وَلَا يحْسد وَلَا يطعن وَلَا يلعن ويعترف بِالْحَقِّ وَإِن لم يشْهد عَلَيْهِ وَلَا يتنابز بِالْأَلْقَابِ فِي الصَّلَاة متخشعا إِلَى الزَّكَاة مسرعا فِي الزلازل وقورا فِي الرخَاء شكُورًا قانعا بِالَّذِي لَهُ لَا يَدعِي مَا لَيْسَ لَهُ لَا يجمع فِي القنط وَلَا يغلبه الشُّح عَن مَعْرُوف يُريدهُ يخالط النَّاس كي يعلم ويناطق النَّاس كي يفهم وَإِن ظلم أَو بغى عَلَيْهِ صَبر حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي ينتصر لَهُ ثمَّ قَالَ الْحسن وعظني بِهَذَا الحَدِيث جُنْدُب بن عبد الله وَقَالَ جُنْدُب وعظني بِهَذَا الحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ حق على كل مُسلم حفظه وتعلمه
هَذِه الْخِصَال كلهَا من أَخْلَاق الْمعرفَة فَمن ترقى فِي دَرَجَات الْمعرفَة احتظى فِي كل دَرَجَة بِخلق من أخلاقها
قَوْله قُوَّة فِي دين فالدين خضوع الْقلب وذبول النَّفس وكل شَيْء اتضع لشَيْء فقد دَان لَهُ وَمِنْه سمي الدون فَقيل هَذَا دون ذَاك أَي تَحْتَهُ وأوضع مِنْهُ فانقياد الْقلب وتوضيع النَّفس للحق وَهُوَ الدّين فَقلب الْآدَمِيّ كثيف غليظ وَنَفسه صفيقة ممتنعة بِمَا فِيهَا من الْكبر فَإِذا جَاءَت الْمعرفَة بأنوارها ذَابَتْ تِلْكَ الكثافة وانتشفت الصفاقة والفظاظة لَان الْقلب ورق الْفُؤَاد وَلذَلِك قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَتَاكُم أهل الْيمن أَلين قلوبا وأرق أَفْئِدَة(4/2)
وَإِنَّمَا تلين الْقُلُوب لرطوبة الرَّحْمَة الَّتِي جَاءَت مَعَ الْمعرفَة لِأَن الْمعرفَة لَا ينالها العَبْد إِلَّا برحمة الله فَإِذا لَان الْقلب برطوبة الرَّحْمَة ورق الْفُؤَاد بحرارة النُّور ضعف الْقلب وذبلت النَّفس فَاحْتَاجَ إِلَى صلابة فَكَانَ من صنع الله تَعَالَى للْعَبد أَن أعطَاهُ من هَذِه الْأَنْوَار الثَّلَاثَة حَتَّى دَان الْقلب لله وَهُوَ نور الرَّحْمَة وَنور الْحَيَاة وَنور العظمة فبنور الرَّحْمَة يلين الْقلب وينقاد بِنور الْحَيَاة ينصب لله عبودة وبنور العظمة يتصلب وَيثبت إِذا جَاءَتْهُ أمواج الشَّهَوَات ليزيله عَن مركزه ومقامه لِأَن العَبْد دعِي إِلَى العبودة فَمن أجَاب ولان قلبه فَإِنَّمَا لَان وَأجَاب بِنور الرَّحْمَة الَّذِي ناله وَالَّذِي لم ينله ذَلِك قسا قلبه أَي يبس بِمَنْزِلَة غُصْن شَجَرَة يابسة إِذا مددته انْكَسَرَ فَإِذا كَانَ الْقلب رطبا فمددته انْقَادَ وانمال ثمَّ لما أَمر هَذَا العَبْد أَن يكون منتصبا بَين يَدي خالقه لعبودته أيد بِالْحَيَاةِ فِي كبده حَتَّى يتكبد ويقوى للانتصاب وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي كبد}
قَالَ منتصبا فقوة الْحَيَاة فِي الكبد وَمن تِلْكَ الْقُوَّة ينْتَصب قلبه لله تَعَالَى ثمَّ يحْتَاج إِلَى ثبات عِنْد الزلازل لِأَن الشَّهَوَات إِذا هَاجَتْ بأمواجها وهبوب رياحها فِي عروق النَّفس وَقعت الرجفة فِي النَّفس والزلزلة فِي الْقلب بِمَنْزِلَة سفينة فِي بَحر قد علت أمواجه فَصَارَت السَّفِينَة تتكفأ بِمَا فِيهَا فَكَذَلِك يصير الْقلب وَإِذا صَار هَكَذَا وَهن وذل فَيحْتَاج هَذَا الْقلب إِلَى ثبات فَإِذا أيد بِنور العظمة صلب وَثَبت
وَلذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا رزق عبد شَيْئا أفضل من إِيمَان صلب
وَعَن سهل بن سعد قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لله فِي الأَرْض أواني(4/3)
أَلا وَهِي الْقُلُوب وأحبها إِلَى الله أرقاها وأصفاها وأصلبها
أرقاها للإخوان وأصفاها من الذُّنُوب وأصلبها فِي ذَات الله تَعَالَى
قَوْله وحزما فِي لين فَإِن اللين يظْهر على الْأَركان فَإِذا كَانَ أَصله من الْقلب كَانَ من السكينَة وَإِذا كَانَ أَصله من النَّفس كَانَ من الكسل فَإِذا كَانَ من الكسل انتشرت أُمُور دينه ودنياه وتبددت وضاعت وَإِذا كَانَ من السكينَة ثقل الْقلب بثقل السكينَة فسكنت الْجَوَارِح وَإِذا سكنت الْجَوَارِح من ثقل الْقلب ظهر الحزم فِي الْأُمُور والحزم هُوَ اجْتِمَاع الْأُمُور فَيرى أَمر دينه ودنياه كلهَا محكمَة قد جمعت حزمة حزمة
قَوْله وإيمانا فِي يَقِين فَإِن الْمُوَحِّدين من الله عَلَيْهِم بِنور التَّوْحِيد فوحدوه ثمَّ للنَّفس فِي الْأَسْبَاب مرتع فَإِذا تعلّقت بِسَبَب من الْأَسْبَاب لم تنْتَقض عقدَة التَّوْحِيد لِأَنَّهَا معقودة بالعقدة الْعُظْمَى وَهِي العروة الوثقى الَّتِي لَا انفصام لَهَا وَلَكِن دخل النَّقْص فِي نوره الْمشرق فِي صدر فَصَارَ محجوبا عَن الله وَبَقِي مَعَ الْأَسْبَاب فتراه الدَّهْر من خوف الرزق مضطربا وَمن خشيَة الْخلق ذاهلا وَمن الطمع فِيمَا لديهم أَسِيرًا وَلَا يعْمل لله إِلَّا كأجير السوء فَهَذَا موحد دني سفل وَلَا يقدر على الْوَفَاء والتوفير لما نطق لِسَانه يَقُول الْحَمد لله على نعْمَته ثمَّ ترَاهُ كفورا فِي الْفِعْل وَيَقُول الله أكبر ثمَّ يتكبر على حق الله وَيَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله ثمَّ توله قلبه إِلَى الْأَسْبَاب فتراه عيير أهل الدُّنْيَا وَيَقُول لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه ثمَّ يقتدر فِي الْأُمُور وَيَقُول صلى الله على مُحَمَّد ثمَّ يوهن عرى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالسيرة المذمومة وَالْأَفْعَال السَّيئَة وَيَقُول يَا رب ثمَّ ينازعه فِي تَدْبيره فِي ربوبيته(4/4)
وَيَقُول توكلت على الله ثمَّ يتَّخذ من دونه أَوْلِيَاء فَيتَعَلَّق بهم لنوائبه وحوائجه وَيَقُول فوضت أَمْرِي إِلَى الله ثمَّ يعرض عَن تَدْبيره ويشتغل بتدبير نَفسه وَيَقُول اللَّهُمَّ خر لي فَإِذا خار تسخط وتلوى وَيَقُول حسبي الله ثمَّ ترَاهُ يركن إِلَى كل ظلوم قَالَ الله تَعَالَى وَلَا تركنوا إِلَى الَّذين ظلمُوا فتمسكم النَّار
فَهَذَا مَعَ هَذِه العقارب قد يُسمى باسم الْإِيمَان باعترافه وتوحيده وقبوله الْإِسْلَام وَلَكِن الْحساب طَوِيل وَالْعَذَاب أَلِيم فِي الْقَبْر وَالْقِيَامَة وعَلى الجسر فَيحْتَاج مَعَ هَذَا الْإِيمَان إِلَى يَقِين فَإِذا نَالَ الْيَقِين تخلص من هَذِه العقارب وَصَارَ موحدا شاكرا لله خَالِصا متواضعا والها إِلَيْهِ فِي كل حَاجَة مفوضا ملقيا نَفسه بيدَيْهِ سلما فيتولى الله ويتولاه الله قد عز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووقره وَنَصره وَاتبع النُّور الَّذِي أنزل مَعَه أُولَئِكَ هم المفلحون
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَضِي الله عَنهُ إِن عمر رَضِي الله عَنهُ لم يغلب النَّاس بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَلَكِن بالزهد وَالْيَقِين
وَقَالَ بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لم يفضل النَّاس بِكَثْرَة صَوْم وَلَا صَلَاة وَإِنَّمَا فَضلهمْ بِشَيْء كَانَ فِي قلبه
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير مَا ألقِي فِي الْقلب الْيَقِين
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أَعْطَيْت أمة من الْيَقِين مَا أَعْطَيْت أمتِي
وَقَالَ صَلَاح أول هَذِه الْأمة بالزهد وَالْيَقِين وَفَسَاد آخرهَا بالبخل(4/5)
والأمل وَلَا يظْهر الْبُخْل والأمل إِلَّا من فقد الْيَقِين سَاءَ ظنهم برَبهمْ فبخلوا وتلذذوا بشهوات الدُّنْيَا فَحَدثُوا أنفسهم بالأماني الكاذبة
قَوْله حرصا فِي علم قد اتجه على وَجْهَيْن وَجه مِنْهُمَا أَن الْعلم بَحر فَإِذا دخله طَالبه فتوسطه فَلم ير لَهُ ساحلا وَلَا مُنْتَهى وسأم فَيحْتَاج إِلَى حرص يُعينهُ على ذَلِك وَيذْهب بملالته والحرص إِنَّمَا صَار مذموما فِي أَمر الدُّنْيَا لِأَن النَّفس كلما أَعْطَيْت دَرَجَة من الدُّنْيَا نزعت إِلَى أَعلَى مِنْهَا وَهُوَ فِي طلب الدُّنْيَا مَذْمُوم وَلِأَنَّهُ لَا يقنع بِمَا قدر لَهُ فِي اللَّوْح من الرزق الَّذِي قد فرغ الله مِنْهُ لكل نفس والحرص فِي طلب الْعلم مَحْمُود لِأَنَّهُ يترقى بِعِلْمِهِ بِقَلْبِه إِلَى علام الغيوب فَكلما نَالَ دَرَجه قربت مَنْزِلَته عِنْد ربه قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات}
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن يَوْمًا لَا أزداد فِيهِ علما يقربنِي إِلَى الله تَعَالَى لَا بورك لي فِي طُلُوع شمس ذَلِك الْيَوْم
فالحرص فِي طلب الْعلم يرقى بِصَاحِبِهِ والحرص فِي طلب الدُّنْيَا يحط بِصَاحِبِهِ
وَالْوَجْه الآخر من الْحِرْص أَنه يحرص على الْبر وَالتَّقوى فَيحْتَاج ذَلِك الْحِرْص إِلَى الْعلم لِئَلَّا يتَعَدَّى بِهِ حرصه فِي بره وتقواه إِلَى السُّقُوط فِي التَّهْلُكَة فيبر بِمَا يصير عقوقا وَيَتَّقِي بِمَا يصير وَسْوَسَة وَيعْمل الْبر غير مُصِيب للحق كَمَا فعل جريج الراهب فِي بره وكما فعلت بَنو إِسْرَائِيل فِي تقواهم
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن جريج(4/6)
الراهب كَانَ متعبدا فِي صومعة زمن بني إِسْرَائِيل وَكَانَت لَهُ أم تَأتيه فتناديه فَتَقول يَا جريج فَيقطع صلَاته فيكلمها فَأَتَتْهُ يَوْمًا فَجعلت تناديه يَا جريج فَجعل لَا يكلمها وَلَا يقطع صلَاته وَيَقُول يَا رب أُمِّي وصلاتك فَلَا يكلمها فَلَمَّا رَأَتْ الْعَجُوز ذَلِك جزعت وَقَالَت اللَّهُمَّ إِن كَانَ جريج يسمع كَلَامي وَلَا يكلمني فَلَا تمته حَتَّى ينظر فِي أَمِين المومسات وَكَانَت راعية وراع يأويان إِلَى ديره فَوَقع بهَا الرَّاعِي فَحملت وَكَانَت أهل الْقرْيَة يعظمون الزناء إعظاما شَدِيدا فَلَمَّا ولدت أخذوها فَقَالُوا مِمَّن ولدت قَالَت من جريج الراهب نزل فَوَقع بِي فَحملت فَأَتَاهُ قومه فَنَادَوْهُ يَا جريج فَجعل يَقُول يَا رب قومِي وصلاتك وَجعل لَا يكلمهم فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك ضربوا صومعته بالفئوس فَلَمَّا رأى ذَلِك نزل إِلَيْهِم فَقَالَ مَا لكم قَالُوا ذكرت هَذِه أَنَّهَا ولدت مِنْك فَضَحِك ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ وضع يَده على رَأس الْمَوْلُود فَقَالَ من أَبوك فَقَالَ الرَّاعِي الَّذِي كَانَ يأوي مَعهَا إِلَى ديرك فَلَمَّا رأى قومه ذَلِك جزعوا مِمَّا صَنَعُوا بِهِ وَقَالُوا دَعْنَا نَبْنِي لَك صومعتك ونعيدها لَك من ذهب وَفِضة فَقَالَ لَا أعيدوها على مَا كَانَت فَقَالَ لَهُ قومه لم ضحِكت وَنحن نُرِيد مَا نُرِيد من الْقَتْل والشتم قَالَ ذكرت دَعْوَة والدتي أَلا أَمُوت حَتَّى أنظر فِي أعين المومسات فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو دعت الله أَن يخزيه لأخزاه وَلكنهَا دعت أَن ينظر فَنظر
قَالَ مُجَاهِد كَانَ الْمَوْلُود أحد الثَّلَاثَة الَّذين تكلمُوا فِي المهد
عَن يزِيد بن حَوْشَب الفِهري عَن أَبِيه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(4/7)
يَقُول لَو كَانَ جريج الراهب فَقِيها عَالما لعلم أَن إِجَابَة أمه من عبَادَة ربه
عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ جَاءَ عُثْمَان بن مَظْعُون إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله غلبني حَدِيث النَّفس فَلم أحب أَن أحدث شَيْئا حَتَّى أذكر ذَلِك لَك فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا تحدثك بِهِ نَفسك يَا عُثْمَان قَالَ تُحَدِّثنِي نَفسِي أَن أختصي فَقَالَ مهلا يَا عُثْمَان فَإِن خصاء أمتِي الصّيام قَالَ يَا رَسُول الله فَإِن نَفسِي تُحَدِّثنِي بِأَن أترهب فِي رُؤُوس الْجبَال قَالَ مهلا يَا عُثْمَان فَإِن ترهب أمتِي الْجُلُوس فِي الْمَسَاجِد انتظارا للصَّلَاة قَالَ يَا رَسُول الله فَإِن نَفسِي تُحَدِّثنِي أَن أسيح فِي الْجبَال قَالَ مهلا يَا عُثْمَان فَإِن سياحة أمتِي الْغَزْو فِي سَبِيل الله وَالْعمْرَة وَالْحج قَالَ يَا رَسُول الله فَإِن نَفسِي تُحَدِّثنِي بِأَن أخرج من مَالِي كُله قَالَ مهلا يَا عُثْمَان فَإِن صدقتك يَوْمًا بِيَوْم وتكف نَفسك وَعِيَالك وترحم الْمِسْكِين واليتيم فتطعمه أفضل من ذَلِك قَالَ يَا رَسُول الله فَإِن نَفسِي تُحَدِّثنِي بِأَن أطلق خَوْلَة امْرَأَتي قَالَ مهلا يَا عُثْمَان فَإِن الْهِجْرَة فِي أمتِي من هجر مَا حرم الله عَلَيْهِ أَو هَاجر إِلَيّ فِي حَياتِي أَو زار قَبْرِي بعد موتِي أَو مَاتَ لَهُ امْرَأَتَانِ وَثَلَاث وَأَرْبع قَالَ يَا رَسُول الله فَإِن نهيتني أَن أطلقها فَإِن نَفسِي تُحَدِّثنِي بِأَن لَا أغشاها قَالَ مهلا يَا عُثْمَان فَإِن الرجل الْمُسلم إِذا غشي أَهله أَو مَا ملكت يَمِينه فَلم يكن من وقعته تِلْكَ ولد كَانَ لَهُ وصيف فِي الْجنَّة وَإِن كَانَ من وقعته ولد فَمَاتَ قبله كَانَ لَهُ فرطا وشفيعا يَوْم الْقِيَامَة وَإِن مَاتَ بعده كَانَ لَهُ نورا يَوْم الْقِيَامَة قَالَ يَا رَسُول الله فَإِن نَفسِي تُحَدِّثنِي بِأَن لَا آكل اللَّحْم قَالَ مهلا يَا عُثْمَان فَإِنِّي(4/8)
أحب اللَّحْم ولآكله إِذا وجدته وَلَو سَأَلت رَبِّي أَن يطعمنيه فِي كل يَوْم لأطعمنيه قَالَ يَا رَسُول الله فَإِن نَفسِي تُحَدِّثنِي بِأَن لَا أمس الطّيب قَالَ مهلا يَا عُثْمَان فَإِن جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَانِي بالطيب غبا وَقَالَ يَوْم الْجُمُعَة لَا مترك لَهُ يَا عُثْمَان لَا ترغب عَن سنتي وَمن رغب عَن سنتي فَمَاتَ قبل أَن يَتُوب ضربت الْمَلَائِكَة وَجهه عَن حَوْضِي يَوْم الْقِيَامَة
وَأما تقوى بني إِسْرَائِيل فَروِيَ عَن جَامع بن شَدَّاد قَالَ أتيت أَبَا بكر ابْن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بِمَكَّة فَقلت يَرْحَمك الله إِذا خرجنَا فَأكل بَعْضنَا الْخبز وَتَركه بَعْضنَا كَرَاهِيَة لَهُ فَكيف ترى فَقَالَ أَيهَا النَّاس لَا تغلوا فِي دينكُمْ مرَّتَيْنِ حَدثنِي أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام ندب قومه بِخبْز وَلحم وشراب ثمَّ أرسل إِلَيْهِم فَدَعَاهُمْ فَأَقْبَلُوا يمسحون أَيْديهم بملاء الْكَتَّان باغين فَقَالُوا لَا نَأْكُل من هَذَا اللَّحْم لِأَن كبشه رضع من كَلْبه وَلَا نَأْكُل من هَذَا الْخبز لِأَن سنبله نَبتَت فِي مزبلة وَلَا نشرب من هَذَا الشَّرَاب لِأَن حبله نَبتَت فِي مَقْبرَة قَالَ فَلم ترهم يَا ابْن أخي حبب إِلَيْهِم اللَّحْم حَتَّى أَنهم ليأكلون الْخصي من حبهم اللَّحْم وَإِن الفويسقة تقع فِي إِنَاء أحدهم فيخرجها وَيشْرب من حبه الشَّرَاب وَإنَّهُ لَا يصلح لَهُ شَيْء إِلَّا بمزبلة ثمَّ الْتفت إِلَى مولى لَهُ فَقَالَ وَلم يكن من أحب زادنا إِلَيْنَا الْخبز
عَن أبي قلَابَة قَالَ بلغ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَن أُنَاسًا من أَصْحَابه احتموا النِّسَاء وَاللَّحم فأوعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ وَعدا شَدِيدا حَتَّى ذكر الْقَتْل فَقَالَ لَو تقدّمت فِيهِ لقتلت ثمَّ قَالَ إِنِّي لم أرسل بالرهبانية إِن خير الدّين عِنْد الله الحنيفية السمحة وَإِنَّمَا هَلَكت من قبلكُمْ من أهل الْكتاب بِالتَّشْدِيدِ فَتلك بقاياهم فِي الصوامع والديار اعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ(4/9)
شَيْئا وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم لكم
فمحتاج الْحَرِيص على الْبر وَالتَّقوى إِلَى الْعلم حَتَّى يمسك حرصه عَن التَّعَدِّي وَذَلِكَ صدق الْحِرْص الَّذِي قَالَ عبد الله بن مَسْعُود لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن فِي هَذِه الْأمة من يبلغ عمله فِي الْمِيزَان مَا يكون عمل يَوْم وَلَيْلَة أثقل من سبع سموات فَقَالَ بِمَ ذَلِك يَا ابْن أم عبد قَالَ بِصدق الْيَقِين وبصدق الْوَرع وبصدق الْحِرْص على الْبر وَالتَّقوى
قَوْله شَفَقَة فِي معة فالشفقة تَحَنن الرأفة والإكباب على من يشفق عَلَيْهِ والمعة هِيَ الحاوية مُشْتَقَّة من المعاء معاء الْبَطن فَإِذا كَانَت الشَّفَقَة بِغَيْر معة انتشرت وفسدت وَإِذا كَانَت فِي معة كَانَت الشَّفَقَة فِي حصن فَلم ينتشر وَلم يفْسد لِأَن هُنَاكَ شَيْئا يحويها قَالَ لَهُ قَائِل وَمَا ذَلِك الشَّيْء قَالَ تَعْظِيم حق الله فَإِذا أشفقت على حق الله تَعَالَى كَانَت تِلْكَ الشَّفَقَة حاوية لهَذِهِ الشَّفَقَة فَلَا ينتشر وَلَا ينبثق وَلَا يتَعَدَّى إِلَى الْفساد أَلا يرى أَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جزعوا عِنْد الْحُدُود فِي مُبْتَدأ أَمرهم فَأنْزل الله تَعَالَى {لَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر}
وَجلد عمر رَضِي الله عَنهُ ابْنه فَقَالَ يَا أَبَت قتلتني فَقَالَ إِذا لقِيت رَبك فاخبره أَنا نُقِيم الْحُدُود
وكلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي فَاطِمَة المخزومية حَيْثُ أَرَادَ قطعهَا فِي سَرقَة(4/10)
فَغَضب فَقَالَ وَالله لَو كَانَت فَاطِمَة بنت مُحَمَّد لقطعتها ثمَّ نزل من الْمِنْبَر فقطعها
قَوْله حلما فِي علم فالحلم سَعَة الْخلق وَإِذا توسع الْمَرْء فِي أخلاقه وَلم يكن لَهُ علم افْتقدَ الْهدى وضل لِأَن توسعه يَرْمِي بِهِ إِلَى نهمات النَّفس فَيحْتَاج إِلَى علم يقف بِهِ على الْحُدُود وَإِذا كَانَ لَهُ علم وَلم يكن هُنَاكَ حلم سَاءَ خلقه وتكبر بِعِلْمِهِ لِأَن الْعلم لَهُ حلاوة وَلكُل حلاوة شَره فيضيق أخلاقه وَيَرْمِي بِهِ ضيق إِلَى شَره النَّفس وحدتها فَيكون صَاحب عنف وخرق فِي الْأُمُور فيضيع علمه
قَالَ الشّعبِيّ مَا أضيف شَيْء إِلَى شَيْء أزين من حلم إِلَى علم
وَقيل الْحلم أرفع من الْعقل لِأَن الله تَعَالَى تسمى بالحلم وَلم يتسم بِالْعقلِ
عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ مَا سَمِعت الله نحل عباده شَيْئا أقل من الْحلم قَالَ {إِن إِبْرَاهِيم لحليم} وَقَالَ {فبشرناه بِغُلَام حَلِيم}
فالحلم سَعَة الْخلق وَالْعقل عقال عَن التَّعَدِّي فِي أخلاقه والواسع فِي(4/11)
أخلاقه حر عَن رق النَّفس وَلذَلِك قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لبني إِسْرَائِيل لَا عبيد أنقياء وَلَا أَحْرَار كرماء
فالحليم كريم أَيْنَمَا انْقَادَ والحليم يحْتَمل أثقال الْأَمر وَالنَّهْي بِلَا كبد وَلَا مجاهدة فَكَانَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام مِمَّن احْتمل الأثقال ابْتُلِيَ بالنَّار وابتلي بِالْهِجْرَةِ والغربة وابتلي بسارة وابتلي بالختان وابتلي بِذبح الْوَلَد فجاد بِنَفسِهِ وَولده فَقَالَ الله تَعَالَى {إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب}
قَوْله قصدا فِي غنى الْقَصْد الْقسْط إِلَّا أَن الْقَصْد فِي الْأَفْعَال والأعمال والقسط فِي الأوزان قَالَ الله تَعَالَى {واقصد فِي مشيك} أَي الْمَشْي الْوسط لَا الوهن الكسلان وَلَا السَّرِيع العجلان
وَرُوِيَ أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَهُ ضيف فَبَيْنَمَا هُوَ قَاعد عِنْده إِذْ جَاءَهُ الرَّاعِي على يَده بهمة قد وَلَدهَا فَقَالَ لَهُ اذْبَحْ شَاة ثمَّ قَالَ للضيف لَا تحسبن أَنا من أَجلك ذبحنا وَلَكِن لنا شِيَاه مائَة فَإِذا ولد الرَّاعِي بهمة ذبحنا مَكَانهَا شَاة فَهَكَذَا الْقَصْد إِن الله إِذا رزقه اقتصد قَالَ الله تَعَالَى {فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق بالخيرات}
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا} من كَانَ فِيهِ ثَلَاث خِصَال فقد أُوتِيَ مَا أُوتِيَ آل دَاوُد خشيَة الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْقَصْد فِي الْغنى والفقر وَالْعدْل فِي الْغَضَب والرضاء(4/12)
قَوْله تجملا فِي فاقة رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا ثائرا شعره فَقَالَ لم يشوه أحدكُم نَفسه وَرَأى آخر فِي ثِيَاب وسخة فَقَالَ أما يملك هَذَا مَا يغسل ثِيَابه وَقَالَ إِن الله نظيف يحب النَّظَافَة وَقَالَ نظفوا أفنيتكم فَإِن الْيَهُود لَا ينظفون
فالفقير صَاحب الْفَاقَة إِذا كَانَ حَيّ الْقلب صَاحب تقوى وجدته فِي نظافة وهيئة من نظر إِلَيْهِ لم يوحشه وَمن جالسه لم يثقل عَلَيْهِ وَلم يتأذ بِهِ يَأْخُذ شعره ويقلم أظافره وَيغسل أدرانه ويبيض أثوابه ويتطيب وينظف مَجْلِسه ويكنس بَيته وَلَيْسَ لذَلِك كثير مُؤنَة وَإِنَّمَا يهملها من يهملها لنذالة النَّفس ودناءتها لَا لِأَنَّهُ لَا يجد وَالْقلب إِذا مَاتَ لم يلْتَمس النظافات والطهارات
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرْبط الْحجر على بَطْنه من الْجُوع وَلَا يتْرك الطّيب ويعاهد أَحْوَال نَفسه
وَكَانَ لَا تُفَارِقهُ الْمرْآة والسواك والمقراض فِي السّفر والحضر
وَكَانَ إِذا أَرَادَ أَن يخرج إِلَى النَّاس نظر فِي ركوة فِيهَا مَاء فيسوي من لحيته وَشعر رَأسه وَيَقُول إِن الله جميل يحب الْجمال
عَن مَكْحُول عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَمن أغفل ذَلِك وَرفع البال عَن نَفسه سَاءَ منظره ووحشت هَيئته فَأدْخل على إخوانه من الْمُؤمنِينَ الْغم والهم من أَجله وَكَانَ ذَلِك كالشكوى إِلَى الْعباد من ربه وَإِذا تجمل فِي فاقته كَانَ كالكاتم مصيبته الشاكر لرَبه المتحمد إِلَى خلقه(4/13)
وَرُوِيَ عَن عمرَان بن الْحصين رَضِي الله عَنهُ أَنه لبس الْخَزّ فَقيل لَهُ تلبس الْخَزّ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِذا أنعم الله على عَبده أحب أَن يرى أثر ذَلِك عَلَيْهِ
وَقد لبس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثوبا جَدِيدا فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي كساني مَا أواري بِهِ عورتي وأتجمل بِهِ فِي النَّاس
فَهَذَا التجمل فِي النَّاس لَا للنَّاس إِنَّمَا هُوَ لله شكرا لَهُ ونشرا للجميل عَنهُ وَإِذا أَصَابَته مُصِيبَة سترهَا وكتمها
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من كتم مصيبته أَرْبَعِينَ يَوْمًا يخرج من الذُّنُوب كَيَوْم وَلدته أمه
وَرُوِيَ عَن عَليّ بن الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ أَنه لدغته عقرب فَصَبر فِي ذَلِك الوجع ليلته إِلَى الصَّباح كَاتِما لَهُ لِئَلَّا يعلم بِهِ أحد فَلَمَّا أصبح أعتق رَقَبَة شكرا لله أَن أعطَاهُ الصَّبْر حَتَّى قدر على كِتْمَانه
وَالْعَبْد الْحَيّ الْقلب إِذا أنعم الله تَعَالَى عَلَيْهِ نعْمَة نشرها عِنْد خلقه قولا وفعلا وَإِذا نكب نكبة سترهَا وكتمها لِئَلَّا يرى الْعباد من أَحْوَال نَفسه مَا يتحير الْعباد فِيهِ من سوء الْحَال لِأَن الله تَعَالَى مَعْرُوف بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا رَأَوْا سوءا(4/14)
تحيروا حَتَّى يرجِعوا إِلَى إِيمَانهم بِهِ أَنه عدل لَا يظلم وَلَا يجور وَلذَلِك اسْترْجع أهل الْمُصِيبَة لأَنهم عِنْدَمَا يصابون تأخذهم الْحيرَة فِي أول الصدمة وَإِذا ذكرُوا رَبهم استرجعوا معنى قَوْلهم {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} أَي رَجعْنَا إِلَيْك من حيرتنا وَعلمنَا أَن ذَلِك لَك وَأَن فعلك هَذَا بِنَا خير كُله
قَوْله تحرجا عَن الطمع فالطمع فِيمَا فِي أَيدي الْخلق هُوَ انْقِطَاع عَن الله والمنقطع عَن الله مخذول خائب لِأَنَّهُ عبد بَطْنه وفرجه وشهواته والطمع والرجاء مقترنان إِلَّا أَن الرَّجَاء صفة فعله أَن يمد الْقلب عُنُقه إِلَى شَيْء والطمع وجود الْقلب طعم ذَلِك الشَّيْء الَّذِي رجاه فَهَذَا فتْنَة
وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَعُوذ بِاللَّه من طمع يهدي إِلَى طبع
فالطمع إِذا عمل فِي الْقلب وَتمكن فِيهِ طبع على قلبه لِأَنَّهُ يوله قلبه إِلَى الْخلق عَن الله فتراه يتملق لهَذَا ويمدح ذَاك فِي وَجهه وَيتبع هَذَا فَيصير كَالْعَبْدِ لَهُ فكم من حق يضيعه وَكم من أَمر يسكت عَن الْحق فِيهِ فَإِذا نطق نطق بالهوى فَهَذَا قلب قد خرب وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى يَا دَاوُد مَا من عبد يعتصم بِخلق دوني إِلَّا أسخطت الأَرْض من تَحت قَدَمَيْهِ وَقطعت أَسبَاب السَّمَاء من فَوْقه
وَقَالَ الله تَعَالَى لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من رجا غَيْرِي وكلته إِلَيْهِ وَمن وكلته إِلَيْهِ فليستعد للفتنة وَالْبَلَاء
قَوْله كسبا من حَلَال كل نفس قد فرغ الله من رزقها وأثبته فِي(4/15)
اللَّوْح ثمَّ أنزل بذلك قُرْآنًا فَقَالَ {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها وَيعلم مستقرها ومستودعها}
فالمؤمن الموقن قد صَار هَذَا الضَّمَان لَهُ مُعَاينَة فاطمأن إِلَى ذَلِك وَلم يَتَعَدَّ إِلَى الْحَرَام وَالَّذِي ضعف يقينه بِغَلَبَة شهواته على إيمَانه فيفتتن وَيَتَعَدَّى إِلَى الْحَرَام والشبهة
قَوْله برا فِي استقامة الْمُؤمن إِذا كَانَ لين الْقلب رَقِيق الْفُؤَاد عطف على الْأَهْل وَالْولد وَالنَّاس كلهم فَإِذا بر وَكَانَ بِهَذِهِ الصّفة لم يُؤمن أَن يزل عَن الْحق وَالصَّوَاب فَيصير الْبر عقوقا
عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ كَانَ يسْتَحبّ أَن يُسَوِّي الرجل بَين وَلَده حَتَّى فِي الْقبْلَة
عَن النُّعْمَان بن بشير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اعدلوا بَين أَوْلَادكُم فِي النخب كَمَا تحبون أَن تعدلوا بَيْنكُم فِي الْبر واللطف
وَعَن النُّعْمَان بن بشير أَن أَبَاهُ نحله غُلَاما فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشهده فَقَالَ كل ولدك نحلته قَالَ لَا قَالَ فاردده
فَقَوله برا فِي استقامة شَرط وثيق وَهُوَ أَن لَا يمازجه الْهوى وَالْبر والملق قرينان مشتبهان
قَوْله نشاطا فِي هدى فالنشاط هُوَ انحلال النَّفس وانبساطها(4/16)
والأنشوطة هُوَ العقد إِذا مددته انحل من غير أَن تحله فَإِذا عمل العَبْد عملا كَانَ من النَّفس فِيهِ انقباض وكسل فَإِذا قارنها الْهوى والشهوة نشطت وانحلت فَأمر صَاحب هَذَا أَن يتفقد حَتَّى يكون نشاط نَفسه وانحلالها فِي هدى لَا فِي ضَلَالَة
قَالَ الله تَعَالَى {ويحذركم الله نَفسه} وَقَالَ {وَاعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي أَنفسكُم فَاحْذَرُوهُ} أَي أحذروا أَن لَا يتلظى عَلَيْكُم شُعَاع من نور العظمة فَتَصِير السَّمَوَات وَالْأَرْض جَمْرَة وَاحِدَة
فالنشاط يحْتَاج إِلَى الْهدى كَيْلا يفوتهُ الحذر مثل الصَّبِي إِذا رأى معلمه انقبض وتطأطأ فَإِذا افتقده انبسط وابتش وَكَانَ السّلف الصَّالح ينبسطون إِلَى أَهَالِيهمْ وَأَوْلَادهمْ وإخوانهم ويظهرون النشاط فِي الْأُمُور ويتفقدون من أنفسهم الْوُقُوف عِنْد الْحُدُود كي لَا يرتطموا فِي النَّهْي
وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ يُعجبنِي أَن يكون الرجل فِي أَهله كَالصَّبِيِّ فَإِذا بغى مِنْهُ وجد رجلا يَعْنِي إِذا طُولِبَ بِمَا لَا يجوز فِي الْحق وجد صلبا فِي دينه
قَوْله نهيا عَن شَهْوَة فَإِن النَّفس ذَات شهوات فَإِذا أطمعتها فِي وَاحِدَة طمعت فِي أُخْرَى ثمَّ لَا يزَال كَذَلِك حَتَّى تستمر فَتَشْرُد على صَاحبهَا شِرَاد الْبَعِير
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من السَّرف أَن تَأْكُل كل مَا شِئْت
مَعْنَاهُ أَن النَّفس إِذا اعتادت هَذَا من صَاحبهَا استمرت فَإِذا منعتها لم تقدر على ذَلِك
وَعَن عِكْرِمَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّفس إِذا أطمعتها طمعت وَإِن آيستها أَيِست وَإِن فوضت إِلَيْهَا ضيعت(4/17)
قَوْله رَحْمَة للمجهود فالمجهود أَصْنَاف مجهود فِي المعاش ومجهود فِي الْعِبَادَة ومجهود فِي الْبلَاء فَمن شَأْنه أَن يرحم كل هَؤُلَاءِ
قَوْله إِن الْمُؤمن عياذا لله عياذا الله هُوَ الَّذِي يعيذ عباده من السوء الْمُؤمن الْبَالِغ فِي إيمَانه يعيذ الْعباد بِفضل إيمَانه من جوره فقد أَمنه الْخلق وصاروا مِنْهُ فِي معَاذ لَا يَحِيف على من يبغض أَي بغضه إِيَّاه لَا يحملهُ على أَن يَحِيف عَلَيْهِ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} الْآيَة
قَوْله لَا يَأْثَم فِيمَن يحب أَي لَا يحملهُ حبه إِيَّاه أَن يَأْثَم فِي جنبه فَإِنَّهُ إِذا كَانَ على غير ذَلِك كَانَ بغضه لغير الله وحبه لغير الله
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يبلغ العَبْد ذرْوَة الْإِيمَان حَتَّى يحب فِي الله وَيبغض فِي الله
فَمن كَانَ حبه فِي الله وبغضه فِي الله لم يحملهُ البغض على أَن يجور وَلَا الْحبّ على أَن يَأْثَم وَمن أحب وَأبْغض لهوى نَفسه جَار على الْمُبْغض وأثم فِي جنب المحبوب قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم فاحذروهم} وَذَلِكَ أَنهم لما أَرَادوا الْهِجْرَة امْتنع مِنْهُم بعض أَزوَاجهم وَأَوْلَادهمْ فَافْتتنَ بَعضهم بالأزواج وَالْأَوْلَاد فأقاموا وَتركُوا الْهِجْرَة وَمِنْهُم من مضى وتركهم فَنزلت هَذِه الْآيَة فِيمَن أَثم فِي جنب محبوبه من الْأَهْل وَالْولد
قَوْله وَلَا يضيع مَا استودع لِأَنَّهُ يشفق على مَا يؤتمن عَلَيْهِ كشفقته على مَال نَفسه لعَظيم قدر الْأَمَانَة عِنْده(4/18)
قَوْله وَلَا يحْسد لِأَن من عرف الله عرف أَنه هُوَ قسم الدُّنْيَا بَين أَهلهَا بحكمة بَالِغَة وَقَالَ {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها وَيعلم مستقرها ومستودعها كل فِي كتاب مُبين} وَلنْ تَمُوت نفس حَتَّى تستوفي رزقها وَقَالَ تَعَالَى {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده} وَقَالَ {وَإِن يردك بِخَير فَلَا راد لفضله}
فَمن أَيقَن فِي إيمَانه بِهَذِهِ الْكَلِمَات لم يحْسد النَّاس على فضل أُوتُوا وقنع بِمَا أُوتِيَ
وَرُوِيَ عَن وهب بن مُنَبّه رَضِي الله عَنهُ أَن الله تبَارك وَتَعَالَى اسْمه كتب التَّوْرَاة بِيَدِهِ فِيهَا عشر كَلِمَات أمره بِهن بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا كتاب الله تبَارك وَتَعَالَى اسْمه كتبه لعَبْدِهِ مُوسَى سبحني وقدسني يَا مُوسَى إِنِّي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني وَلَا تشرك بِي شَيْئا فَإِنِّي حق القَوْل مني لتلفحن وُجُوه الْمُشْركين النَّار واشكر لي ولوالديك إِلَيّ الْمصير أنسألك فِي عمرك وأقيك المتالف وأحييك حَيَاة طيبَة وأقلبك إِلَى خير مِنْهَا وَلَا تقتل النَّفس الَّتِي حرمت إِلَّا بِالْحَقِّ فتضيق عَلَيْك الأَرْض برحبها وَالسَّمَاء بأقطارها وتبوأ بسخطي وَالنَّار وَلَا تحلف باسمي كَاذِبًا وَلَا آثِما فَإِنِّي لَا أطهر وَلَا أذكى من لم ينزهني ويعظم أسمائي وَلَا تشهد بِمَا لم تع سَمعك وَلم يحفظ عقلك وَلم يعمد عَلَيْك قَلْبك فَإِنِّي وَاقِف أهل الشَّهَادَات يَوْم الْقِيَامَة على شهاداتهم ثمَّ أسائلهم عَنْهَا سؤالا خفِيا وَلَا تحسد النَّاس على مَا آتيتهم من فضلي فَإِنِّي أَنا الْجواد بِالْعَطِيَّةِ أعطي من شِئْت وَأَمْنَع من أردْت وَلَا تنفس عَلَيْهِم نعمي ورزقي وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك وَلَا تتبعه نَفسك فَإِن الْحَاسِد عَدو لنعمتي(4/19)
مضاد لقضائي ساخط لقسيمي الَّذِي أقسم بَين عبَادي وَمن يَك كَذَلِك فلست مِنْهُ وَلَيْسَ مني وَأَنا مِنْهُ بَرِيء وَلَا تزن وَلَا تسرق فأحجب عَنْك وَجْهي ويغلق دون صَوْتك أَبْوَاب السَّمَاء وَلَا تغدر بحليلة جَارك فَإِنَّهُ كبر مقتا عِنْدِي وأحبب للنَّاس مَا تحب لنَفسك واكره لَهُم مَا تكره لنَفسك وَلَا تذبح لغيري فَإِنَّهُ لَيْسَ يصعد إِلَيّ قرْبَان أهل الأَرْض إِلَّا مَا ذكر عَلَيْهِ اسْمِي وتفرغ للسبت وَفرغ لَهُ آنيتك وأسقتك وثورك وحمارك ودوابك وَجَمِيع أهل بَيْتك
وَذكر وهب رَضِي الله عَنهُ أَن هَذِه الْكَلِمَات الْعشْر الَّتِي كتب الله لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي الألواح مكتوبات فِي الْقُرْآن وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى يَقُول {من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ومأواه النَّار وَمَا للظالمين من أنصار}
وَقَالَ الله تَعَالَى فِي الْوَالِدين {أَن اشكر لي ولوالديك إِلَيّ الْمصير}
وَقَالَ فِي الْقَاتِل {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَأعد لَهُ عذَابا عَظِيما}
قَالَ فِي الْحلف {وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم}
وَقَالَ فِي الشَّهَادَة وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسئولا(4/20)
وَقَالَ فِي الْحَسَد {أم يحسدون النَّاس على مَا آتَاهُم الله من فَضله}
وَقَالَ فِي الزِّنَا وَلَا تقربُوا الزِّنَا إِنَّه كَانَ فَاحِشَة ومقتا وساء سَبِيلا
وَقَالَ فِي السّرقَة {وَالسَّارِق والسارقة} الْآيَة
وَقَالَ فِي حَلِيلَة الْجَار {وَالْمُحصنَات من النِّسَاء إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم كتاب الله عَلَيْكُم وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم}
وَقَالَ فِي التحاب بَين النَّاس {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة}
وَقَالَ {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم}
وَقَالَ فِي الذَّبَائِح {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَإنَّهُ لفسق}
وَقَالَ فِي السبت {وَلَقَد علمْتُم الَّذين اعتدوا مِنْكُم فِي السبت فَقُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ}
فَمن عادى نعْمَة الله بحسده وَسخط أمره وضاد قَضَاءَهُ فمعرفته فِي(4/21)
سجن مظلم وسويداء قلبه لَا أَدْرِي أتبقى مَعَه حَتَّى يخْتم لَهُ بهَا أم يسلب فَيَمُوت كَافِرًا عدوا لله وَإِن تفضل الله عَلَيْهِ بِأَن يَتْرُكهَا عَلَيْهِ وَختم لَهُ بهَا لَا أَدْرِي مَتى ينجو من النَّار
قَوْله لَا يطعن فالطعن قد يكون من الْحَسَد وَقد يكون من الْغيرَة والغيرة من إِبْلِيس فِي صدر الْآدَمِيّ كالعذرة من الْآدَمِيّ فَحق على كل مُؤمن أَن يعاف من الْغيرَة فَإِذا طعن فقد هتك السّتْر وَإِنَّمَا يطعن فِي ستر الله وَلَو أَن رجلا طعن فِي ستر ملك من عُظَمَاء مُلُوك الدُّنْيَا لخاطر بِنَفسِهِ وأهلكها فَكيف بستر الله لِأَن الْمُؤمن فِي سبعين سترا من الله
عَن الْحسن الْبَصْرِيّ عَن سلمَان قَالَ الْمُؤمن فِي سبعين حِجَابا من نور فَإِذا عمل خَطِيئَة ثمَّ تناساها حَتَّى يعْمل أُخْرَى هتك عَنهُ حِجَابا فَإِذا عمل كَبِيرَة هتك عَنهُ الْحجب كلهَا إِلَّا حجاب الْحيَاء وَهُوَ أعظمها حِجَابا فَإِن تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ ورد تِلْكَ الْحجب كلهَا فَإِن عمل خَطِيئَة بعد الْكَبَائِر ثمَّ تناساها حَتَّى يعْمل أُخْرَى قبل أَن يَتُوب هتك عَنهُ حجاب الْحيَاء فَلم يلقه إِلَّا مقيتا ممقتا فَإِذا كَانَ مقيتا ممقتا نزعت مِنْهُ الْأَمَانَة فَإِذا نزعت مِنْهُ الْأَمَانَة لم يلقه إِلَّا خائنا مخونا فَإِذا كَانَ خائنا مخونا نزعت مِنْهُ الرَّحْمَة فَإِذا نزعت مِنْهُ الرَّحْمَة لم تلقه إِلَّا فظا غليظا فَإِذا كَانَ فظا غليظا نزعت مِنْهُ ربقة الْإِيمَان فَإِذا نزعت مِنْهُ ربقة الْإِيمَان لم تلقه إِلَّا لعينا ملعنا شَيْطَانا رجيما
عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ مَا من رجلَيْنِ مُسلمين إِلَّا بَينهمَا من الله ستر فَإِذا قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه هجرا هتك ستر الله
قَوْله لَا يلعن اللَّعْنَة إِذا خرجت من العَبْد اسْتَأْذَنت رَبهَا فَإِذا صَارَت إِلَى من رجمت إِلَيْهِ فَلم تَجِد مساغا رجعت إِلَى رَبهَا فَقَالَت رب إِنِّي لم أجد مساغا فَأمرت بِالرُّجُوعِ إِلَى صَاحبهَا(4/22)
قَوْله يعْتَرف بِالْحَقِّ وَإِن لم يشْهد عَلَيْهِ فالمؤمن أَسِير الْحق يعلم أَن الشَّاهِد عَلَيْهِ علام الغيوب وَقد أَيقَن بِمَا أنزل عَلَيْهِ من قَوْله {وَلَا تَعْمَلُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا إِذْ تفيضون فِيهِ} فقد اجْتمع على قلبه أَمْرَانِ اثْنَان الْعلم وَالشَّهَادَة فَأَخَذته هَيْبَة الْعلم وحياء الشَّهَادَة وَقَالَ تَعَالَى {وَالله يعلم متقلبكم ومثواكم} وَقَالَ {ألم يعلم بِأَن الله يرى} فَلَا يحوج الموقن بِهَذَا إِلَى أَن يشْهدُوا عَلَيْهِ فَهُوَ معترف بِالْحَقِّ أبدا لَهُ أَو عَلَيْهِ
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَتَدْرُونَ من السَّابِقُونَ إِلَى ظلّ الله يَوْم الْقِيَامَة قَالُوا الله وَرَسُوله أعلم قَالَ الَّذين إِذا أعْطوا الْحق قبلوه وَإِذا سئلوا بذلوه وحكموا النَّاس كحكمهم لأَنْفُسِهِمْ
قَوْله لَا يتنابز بِالْأَلْقَابِ فالنبز من شَأْن البطالين الَّذين رفعوا عَن أنفسهم البال وشرهت نُفُوسهم إِلَى التَّلَذُّذ بالبطالات وَفِي ذَلِك حقارة للْمُؤْمِنين
وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لَهُ رجل يَا أصلع فَقَالَ لقد كنت غَنِيا عَن لعنة الْمَلَائِكَة
وَبلغ من تَعْظِيم حق الْمُؤمن أَن يكنى وَيَدعِي بالكنية لِأَن الِاسْم قد نالته البذلة فِي صغره فَلَمَّا بلغ وَحل مَحل الإجلال جعلت لَهُ دَعْوَة طرية مَرْفُوعَة عَن البذلة فكنى عَن الِاسْم بِشَيْء آخر تَعْظِيمًا لَهُ(4/23)
وَكَانَت الْأَعْرَاب لجفائهم ينادون يَا مُحَمَّد يَا مُحَمَّد يَا مُحَمَّد فَنزل {لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} فَعَلمُوا أَن يَقُولُوا يَا نَبِي الله وَكَانَت كنيته أَبَا الْقَاسِم وَلَو دعِي بِتِلْكَ الكنية لَكَانَ مدعوا بِمَا قد ابتذل قبل النُّبُوَّة
قَوْله فِي الصَّلَاة متخشعا الْخُشُوع من فعل الْقلب فَإِذا علم الْقلب أَيْن قَامَ وَلمن قَامَ تخشع وَإِذا استقام الْقلب ذلت النَّفس وَإِذا ذلت النَّفس هدأت الْجَوَارِح
وَلما رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا يعبث بلحيته فِي صلَاته قَالَ لَو خشع قلبه لخشعت جوارحه
قَوْله إِلَى الزَّكَاة مسرعا فالسرعة هِيَ من حَيَاة الْقلب يعلم أَن المَال ميال بالقلوب عَن الله فَإِذا مَال الْقلب عَن الله بِشَيْء نزعت الْبركَة من ذَلِك الشَّيْء فَأمر بالتصدق مِنْهُ ليظْهر صدق إيمَانه بِأَنِّي لما ملت إِلَى هَذَا المَال وأحببته ملت عَنهُ إِلَى الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْعَطِيَّة وَبِأَن أخرجته من ملكي فسميت صَدَقَة ثمَّ سميت زَكَاة لِأَن المَال بِسَبَب هَذِه الْعَطِيَّة عَادَتْ إِلَيْهِ الْبركَة فزكى وطهر العَبْد من الْميل عَن الله فزكى
قَوْله فِي الزلازل وقورا الْوَقار يثقل قلب العَبْد فَإِذا نالته زَلْزَلَة بَين بلوى وَشدَّة لم تستفزه وَلم يَتَكَفَّأ يَمِينا وَشمَالًا وَالْوَقار إكليل الْإِيمَان
قَالَ زيد بن أسلم إِن على الْحق نورا وعَلى الْإِيمَان وقارا
قَالَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام إلهي دلَّنِي على عمل إِذا أَنا عملته نلْت بِهِ(4/24)
وقارك فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا دَاوُد أحبب الْمُؤمنِينَ من أَجلي وَلَا يزَال لسَانك رطبا من ذكري واعمل لي حَتَّى كَأَنَّك تراني
قَوْله فِي الرخَاء شكُورًا لِأَن وَقت الرخَاء النَّفس سَاكِنة وَالْقلب مَفْتُوح الْبَاب مشرق النُّور منكشف الغطاء فَإِذا تنَاول النِّعْمَة على نور من ربه كَانَ شكُورًا وَمن كَانَ فِي الرخَاء شكُورًا كَانَ فِي الْبلَاء صبورا
قَوْله قانعا بِالَّذِي لَهُ القناعة ثَوَاب الله العاجل للْعَبد بِمَا أطاعه وَهِي طيب النَّفس والحياة الطّيبَة
قَالَ الله تَعَالَى {من عمل صَالحا من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فلنحيينه حَيَاة طيبَة} وَهِي أَن يمْلَأ قلبه غنى حَتَّى يكون غَنِيا بِاللَّه أغناه الله
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اسْتغنى بِاللَّه أغناه الله
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض إِنَّمَا الْغنى غنى النَّفس
عَن زيد بن رَافع الْمدنِي رفع الحَدِيث إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله أنزل فِي بعض مَا أنزل من الْكتب قسما يقسمهُ يَقُول وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وجمالي وعلوي ودنوي وارتفاع مَكَاني لمن آثر هواي على هَوَاهُ لأجمعن لَهُ شَمله ولأكفينه مَا أهمه ولأجعلن غناهُ فِي نَفسه ولأضمنن السَّمَوَات وَالْأَرْض رزقه ولأتجرن لَهُ من وَرَاء تِجَارَة كل تَاجر وَلمن آثر هَوَاهُ(4/25)
على هواي لأشتتن عَلَيْهِ أمره ولأجعلن فقره بَين عَيْنَيْهِ ولأحضرنه همومه الْحَاضِر مِنْهَا وَالْغَائِب وَالْقَدِيم مِنْهَا والْحَدِيث حَتَّى لَا يدْرِي من أَيْن يَجِيئهُ وَمن أَيْن يَأْخُذهُ
وَكَانَ حق هَذِه الْكَلِمَة فِي الْأَعْرَاب أَن يُقَال قنعا بِالَّذِي لَهُ وَلَكِن الروَاة رُبمَا لحنوا فِي الْأَدَاء
وَلذَلِك قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ أهلكتهم العجمة وَقيل لِلْحسنِ إِنَّك لَا تلحن قَالَ إِنِّي سبقت اللّحن والقانع السَّائِل يُقَال قنع يقنع قنوعا أَي سَأَلَ وقنع يقنع قناعة أَي رَضِي
قَالَ الله تَعَالَى {وأطعموا القانع والمعتر}
وَقَالَ الشَّاعِر
(لمَال الْمَرْء يصلحه فيغني ... مفاقرة أعف من القنوع) أَي من السُّؤَال
قَوْله لَا يجمع فِي القنط القنط حرارة الْحِرْص وَإِذا جمع كَذَلِك لم يَدعه الْحِرْص أَن يتورع فِي مكاسبه
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُؤمن كيس فطن حذر وقاف متثبت لَا يعجل عَالم ورع وَالْمُنَافِق همزَة لُمزَة حطمة كحاطب ليل لَا يُبَالِي من أَيْن كسب وفيم أنْفق
سُئِلَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ كَانَ كالخير كُله من رجل كَانَ فِيهِ حِدة(4/26)
وَسُئِلَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ كَانَ كالطير الحذر الَّذِي يرى أَن لَهُ فِي كل طَرِيق شركا يَأْخُذهُ
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من طلب الدُّنْيَا حَلَالا واستعفافا على الْمَسْأَلَة وسعيا على عِيَاله وتعطفا على جَاره جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَوَجهه كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر وَمن طلب الدُّنْيَا حَلَالا مفاخرا مكاثرا مرائيا لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان
قَوْله لَا يغلبه الشُّح عَن مَعْرُوف يُريدهُ الشُّح أقوى من الْبُخْل لِأَن الشُّح يَدْعُو إِلَى أَن يَأْخُذ مَال غَيره وَمَا حرم عَلَيْهِ وَيمْنَع حُقُوق الله فِي مَاله وَالْبخل يَدْعُو إِلَى أَن يمْنَع الْمَعْرُوف من مَاله وَالشح إِنَّمَا هُوَ من شح والحاء مِنْهُ مضاعفة إِنَّمَا هُوَ شاح يشوح أدغمت الْألف فِي الْحَاء فشددت وَقَوله حاش يحوش هُوَ أَن يطرد الصَّيْد من النواحي إِلَى الصَّائِد وَكَذَلِكَ الْحِرْص يجمع أَسبَاب المنال إِلَى ملكه فالحوش فِي فعل الظَّاهِر وَالشح فِي فعل الْبَاطِن وَالْبخل والخلب بِمَعْنى إِلَّا أَن الخلب أَن يُخَادع النَّاس فِي معاملاته وَالْبخل أَن يُخَادع ربه فِي مُعَامَلَته على الْمَعْرُوف
قَوْله يخالط النَّاس كي يعلم يَعْنِي لَا يخالطهم مُخَالطَة استرواح إِلَيْهِم وَأنس بهم وَلَكِن مُخَالطَة خبْرَة وَاعْتِبَار وحذر وَأخذ بالحزم
رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يسْأَل النَّاس عَمَّا فِي النَّاس وَكَانَ سُؤَاله على هَذِه الْجِهَة لَا للتجسس
قَوْله يناطقهم كي يفهم أَي يفهم أَحْوَالهم وأمورهم لِأَن الْأَسْرَار إِنَّمَا تظهر بالمناطقة وَلذَلِك قيل إِنَّمَا الْمَرْء بأصغريه وهما الْقلب وَاللِّسَان فَإِذا ناطقهم عرف كلا على دَرَجَته وَلم يناطقهم لشَهْوَة الْكَلَام(4/27)
جزَافا بل يناطق الْحُكَمَاء لِيَزْدَادَ بِاللَّه علما والعامة ليفهم أَحْوَالهم
قَوْله وَإِن ظلم أَو بغى عَلَيْهِ صَبر حَتَّى يكون الرَّحْمَن هُوَ الَّذِي ينتصر لَهُ الصَّبْر الْحَبْس وَمِنْه المصبورة وَهُوَ أَن ينصب طائرا غَرضا ويرميه وَالْمُؤمن يعرف أَن الله عدل يَأْخُذ من الظَّالِم فَإِذا ظلم وجد الله مَلِيًّا فِي الِانْتِصَار وَأما فِي الْبَغي فَإِن صَبر فقد أَخذ بِبَاب السَّلامَة فَإِن انتصر فقد أثنى الله على الْمُنْتَصر فَقَالَ وَإِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون الْمُنْتَصر ينتصر لحق الله لَا لنَفسِهِ فَإِن خَافَ أَن تشركه النَّفس فَيَأْخُذ بحظها فالصبر أسلم(4/28)
- الأَصْل التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ والمائتان
-
فِي دفع الوسوسة
عَن أبي الْمليح عَن أَبِيه أَن رجلا أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِنِّي أَدخل فِي صَلَاتي فَمَا أَدْرِي على شفع أنفتل أم على وتر من وَسْوَسَة أَجدهَا فِي صَدْرِي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا وجدت ذَلِك فاطعن إصبعك هَذَا يَعْنِي السبابَة فِي فخذك الْيُسْرَى وَقل بِسم الله فَإِنَّهَا سكين الشَّيْطَان أَو مدية الشَّيْطَان
وَمَعْنَاهُ أَن الطعنة بالسبابة مدية الشَّيْطَان إِذا كَانَ مبتدأها بِسم الله والمدية السكين الَّذِي لَهُ وَجْهَان كالخنجر فِي الْمِقْدَار إِلَّا إِنَّهَا ذَات وَجْهَيْن فب (أسم الله تخلص تِلْكَ الطعنة بالسبابة إِلَى الشَّيْطَان فينال مِنْهُ فَخذه وساقيه حَتَّى يصير مقْعدا زَمنا فَذَلِك أَن الوسواس جَاءَ صفة فِي الحَدِيث كَيفَ هُوَ من الْآدَمِيّ
عَن عُثْمَان بن أبي العَاصِي رَضِي الله عَنهُ أَنه شكا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الوسواس فَقَالَ ذَاك شَيْطَان يُقَال لَهُ خنزب فَإِذا(4/29)
أحسست بِشَيْء مِنْهُ فاتفل عَن شمالك ثَلَاثًا ثمَّ تعوذ بِاللَّه مِنْهُ
عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَأَلت الله عز وَجل أَن يريني الشَّيْطَان ومكانه من ابْن آدم فرأيته يَدَاهُ فِي يَدَيْهِ وَرجلَاهُ فِي رجلَيْهِ متشاعب فِي جسده غير أَن لَهُ خطما كخطم الْكَلْب فَإِذا ذكر الله خنس ونكص وَإِذا سكت عَن ذكر الله أَخذ بِقَلْبِه
فعلى نَحْو مَا وصف أَبُو ثَعْلَبَة أَنه متشاعب فِي الْجَسَد أَن فِي كل عُضْو مِنْهُ لشعبة مِنْهُ
عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود أَنه قَالَ بَعْدَمَا كبر سني وضعفت مَا أمنت من الزِّنَا وَمَا يؤمنني أَن يدْخل الشَّيْطَان ذكري فيؤيده فَهَذَا القَوْل ينبئك أَنه يتشعب فِي الْجَسَد
عَن الْأَعْمَش عَن جثيمة أَنه كَانَ يَقُول يَقُول الشَّيْطَان كَيفَ ينجو مني ابْن آدم وَأَنا فِي صَدره وَإِذا غضب طرت حَتَّى أكون فِي رَأسه
إِنَّمَا يطير إِلَى الرَّأْس فِي وَقت الْغَضَب لِأَن الْعقل فِي الرَّأْس وإشراقه من الرَّأْس إِلَى الصَّدْر لينْظر عين الْفُؤَاد بِنور الْعقل فيميز بَين الْأُمُور وَيُدبر فَإِذا رأى الشَّيْطَان الْغَضَب قد هاج من الْآدَمِيّ طَار إِلَى رَأسه حَتَّى يحجب الْعقل عَن أَن يشرق فِي الصَّدْر
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الشَّيْطَان يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم(4/30)
فمجرى الدَّم هِيَ الْعُرُوق الْمُشْتَملَة على جَمِيع الْجَسَد فَدلَّ هَذِه الْأَحَادِيث أَن الشَّيْطَان متشاعب فِي الْجَسَد ثمَّ سُلْطَانه ومقعده فِي الصَّدْر وَقت الوسوسة
عَن يحيى بن أبي كثير قَالَ الوسواس لَهُ بَاب فِي صدر ابْن آدم يوسوس إِلَيْهِ مِنْهُ
عَن وهب بن مُنَبّه إِن إِبْلِيس وضع ابْنا لَهُ بَين يَدي حَوَّاء وَقَالَ اكفليه فجَاء آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ مَا هَذَا يَا حَوَّاء قَالَت جَاءَ عدونا إِبْلِيس بِهَذَا وَقَالَ لي اكفليه فَقَالَ ألم أقل لَك لَا تطيعيه فِي شَيْء هُوَ الَّذِي غرنا حَتَّى وقعنا فِي الْمعْصِيَة وَعمد إِلَى الْوَلَد فَقَطعه أَرْبَعَة أَربَاع وعلق كل ربع على شَجَرَة غيظا لَهُ فجَاء إِبْلِيس فَقَالَ يَا حَوَّاء أَيْن ابْني فَأَخْبَرته بِمَا صنع آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ يَا خناس فحيى فَأَجَابَهُ فجَاء بِهِ إِلَى حَوَّاء وَقَالَ اكفليه فجَاء آدم عَلَيْهِ السَّلَام فحرقه بالنَّار وذر رماده فِي الْبَحْر فجَاء إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة فَقَالَ يَا حَوَّاء أَيْن ابْني فَأَخْبَرته بِفعل آدم بِهِ فَذهب إِلَى الْبَحْر فَقَالَ يَا خناس فحيى فَأَجَابَهُ فجَاء بِهِ إِلَى حَوَّاء الثَّالِثَة وَقَالَ اكفليه فَنظر إِلَيْهِ آدم فذبحه وشواه وأكلاه جَمِيعًا فجَاء إِبْلِيس فَسَأَلَهَا فَأَخْبَرته حَوَّاء فَقَالَ يَا خناس فحيى فَأَجَابَهُ فجَاء بِهِ من جَوف آدم وحواء فَقَالَ إِبْلِيس هَذَا الَّذِي أردْت وَهَذَا مسكنك فِي صدر ولد آدم وَهُوَ ملتقم قلب ابْن آدم مَا دَامَ غافلا يوسوس فَإِذا ذكر الله لفظ قلبه وانخنس
عَن أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّيْطَان ملتقم قلب ابْن(4/31)
آدم فَإِذا ذكر الله خنس عَنهُ وَإِذا نسي الْتَقم قلبه
وَأما التفل الَّذِي أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ أَن يتفل عَن يسَاره فَإِن التفلة واصلة إِلَى وَجه الشَّيْطَان فَيصير قروحا وَكَذَلِكَ رمي الْجمار إِنَّمَا يرْمى رَأس الشَّيْطَان ومطلعه حَيْثُ طلع لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ لخليل الله عَلَيْهِ السَّلَام فَبَقيت سنة لِأَن تِلْكَ الطلعة مِنْهُ كائنة لكل مُسلم حَاج فَإِذا رمي الْجمار شدخ رَأسه وطلعته حَتَّى يختسئ وَإِنَّمَا أَمر بِسبع حَصَيَات لِأَنَّهُ اطلع رَأسه من سبع أَرضين وَنَفسه موثقة فِي سِجِّين وَلذَلِك سجنه تَحت الأَرْض السَّابِعَة فبكل حَصَاة يختسئ فِي الأَرْض حَتَّى يبلغ خسئاته بالحصاة السَّابِعَة الأَرْض السَّابِعَة إِلَى مستقره فَكَذَلِك التفلة مَعَ تعوذك بِاللَّه يرد الَّذِي جَاءَ بِهِ من النزعة والوسوسة كالنار إِلَى وَجهه فيحرق فَيصير قروحا
وَرُوِيَ عَن الرّبيع بن خَيْثَم أَنه قصت عَلَيْهِ رُؤْيا مُنكرَة وَذَلِكَ أَنه أَتَاهُ آتٍ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَن قَائِلا يَقُول أخبر الرّبيع أَنه من أهل النَّار فتفل عَن يسَاره ثَلَاثًا وَقَالَ أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم فَرَأى ذَلِك الرجل فِي مَنَامه فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة كَأَن رجلا جَاءَ بكلب فأقامه بَين يَدَيْهِ وَفِي عُنُقه حَبل وعَلى جَبهته قُرُوح فَقَالَ هَذَا ذَلِك الشَّيْطَان الَّذِي أَرَاك فِي مَنَامك رُؤْيا الرّبيع وَهَذِه القروح تِلْكَ التفلات الثَّلَاث الَّتِي كَانَت مِنْهُ(4/32)
- الأَصْل المائتان وَالسِّتُّونَ
-
فِي أَن كَمَال الْمَرْء فِي سبع
عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمل من الرِّجَال كثير وَلم يكمل من النِّسَاء إِلَّا مَرْيَم بنت عمرَان وآسية بنت مُزَاحم وَفضل عَائِشَة على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد على الطَّعَام
كَمَال الْمَرْء فِي الْعلم وَالْحق وَالْعدْل وَالصَّوَاب والصدق وَالْأَدب واللبق وَذَلِكَ أَنه إِذا لم يعلم فَهُوَ جَاهِل بِأَمْر الله فَإِذا علم أَمر الله احْتَاجَ أَن يكون محقا فَيعْمل بذلك الْعلم فَإِذا عمل بذلك احْتَاجَ إِلَى إِصَابَة الصَّوَاب فِي ذَلِك الْعَمَل بِأَن لَا يكون فِي غير وقته كَالصَّلَاةِ عِنْد(4/33)
طُلُوع الشَّمْس وَترك إِجَابَة الْأُم فِي الصَّلَاة والغزو بِغَيْر إِذن أَبَوَيْهِ وَقبل ذَلِك احْتَاجَ إِلَى الْعدْل بِأَن يكون يُرِيد بِهِ وَجه الله فِي ذَلِك الْعَمَل فَإِذا عدل احْتَاجَ إِلَى الصدْق أَن لَا يلْتَفت إِلَى نَفسه فَيُوجب لَهَا ثَوابًا فتحتجب عَنهُ الْمِنَّة فَيصير معجبا فَإِذا صدق العبودة احْتَاجَ إِلَى الْأَدَب حَتَّى يعمله كَأَن الله يرَاهُ بوقار وسكينة وهيبة ويقظة فَإِن الْأَدَب بِسَاط الْعَمَل وَإِذا قَامَ الْأَدَب احْتَاجَ إِلَى اللبق وَإِنَّمَا يدْرك اللبق بحياة الْقلب بِاللَّه فَهَذَا الْكَامِل لِأَنَّهُ يعْمل على الْمُشَاهدَة على بَصِيرَة قَالَ الله تَعَالَى {بل الْإِنْسَان على نَفسه بَصِيرَة وَلَو ألْقى معاذيره} أَي لَا يقبل عذره لِأَنَّهُ أعطي البصيرة فأعماها بهوى النَّفس والبصيرة للقلب من نور معرفَة الْفطْرَة والعمى من دُخان النَّفس وحريق الشَّهَوَات وظلمتها
ثمَّ من الله على مختاريه من ولد آدم من كل ألف وَاحِد فَوضع فِيهِ الْخَيْر حَتَّى صَار مُخْتَارًا ثمَّ من عَلَيْهِ بِنور التَّوْحِيد وَفِي جَوف ذَلِك النُّور نور الْمحبَّة فَلَمَّا وجدت النَّفس حلاوة نور الْمحبَّة رفضت حلاوة عبَادَة الْأَوْثَان وقبح عِنْده الشّرك وقويت بصيرته فهتكت كل حجاب بَينه وَبَين ربه وصدرت أَعماله من صَدره إِلَى الْأَركان على مُشَاهدَة النَّفس ومعاينة الْقلب مَحل الْمَقَادِير وَالْقَضَاء من ملك الجبروت وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة أَنا وَمن اتبعني وَسُبْحَان الله وَمَا أَنا من الْمُشْركين}
فَلم يَجْعَل الدُّعَاء على بَصِيرَة إِلَّا لتابعي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتابعوه من هَاجر عَمَّا نهى الله عَنهُ وَنصر الْحق فِي كل موطن وَكَانَ لَهُ السَّبق فَهَذَا عبد قد رَضِي الله عَنهُ وَأَعْطَاهُ حبه فَأَحبهُ فاحتدت بصيرته حَتَّى انْتَهَت إِلَى الْمقَام بَين يَدي الله فباطن الْأَشْيَاء لَهُ مُعَاينَة كظاهر الْأَشْيَاء لأهل الْغَفْلَة(4/34)
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الَّذِي يأثره عَن جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن الله تَعَالَى إِنَّه قَالَ مَا تقرب إِلَيّ عَبدِي بِمثل أَدَاء فرائضي وَإنَّهُ ليتقرب إِلَيّ بعد ذَلِك بالنوافل حَتَّى أحبه فَإِذا أحببته كنت سَمعه الَّذِي بِهِ يسمع وبصره الَّذِي بِهِ يبصر وَلسَانه الَّذِي بِهِ ينْطق وَيَده الَّتِي بهَا يبطش وَرجله الَّتِي بهَا يمشي وفؤاده الَّذِي بِهِ يعقل فَبِي يسْتَعْمل هَذِه الْأَشْيَاء
فَإِذا أدّى الْفَرَائِض وَهُوَ إِقَامَة الْأَمر وَالنَّهْي فقد هَاجر وَإِذا تنفل بعد إِقَامَة الْأَمر وَالنَّهْي فقد نصر الْحق وَإِذا قطع العلائق نَالَ السَّبق لِأَنَّهُ قد انفلت من المتعلقين فَعَاد إِلَى ربه فَهَذَا التَّابِع بِإِحْسَان قَالَ الله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ}
فالسبق والأولية فِي كل أَمر وَعمل لهَذِهِ الطَّبَقَة الَّتِي هَاجَرت عَن الآثام ونصرت الْحق فهم أهل الرضاء ومحبو الله لأَنهم اتبعُوا رَأس المحبين مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنالوا من تِلْكَ الْمحبَّة الَّتِي أعْطى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ فِي(4/35)
تَنْزِيله {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله وَيغْفر لكم} فَجعل اتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علما لمحبة الله فَمن اتبعهُ صدقا نَالَ حبه صدقا
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله تَعَالَى {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} قَالَ على الْبر وَالتَّقوى والتواضع وذلة النَّفس
فالبر وَالتَّقوى هُوَ الْهِجْرَة الَّتِي ذَكرنَاهَا والتواضع هُوَ السَّبق لِأَن من تواضع رَفعه الله وذلة النَّفس نصْرَة الْحق
قَالَ لَهُ قَائِل وَكَيف صَار نصْرَة الْحق فِي النَّوَافِل دون الْفَرَائِض قَالَ إِن نصْرَة الْحق مِنْهُ فِي الْفَرَائِض منكمنة لِأَنَّهُ إِن ترك الْفَرَائِض فخوف الْوَعيد يحملهُ على الْقيام بهَا فَمَا دَامَ يُؤَدِّي الْفَرَائِض فَهُوَ نَاصِر للحق وَلَكِن النُّصْرَة منكمنة لِأَنَّهُ رُبمَا أَدَّاهَا من خوف الْعقَاب والوعيد فَإِذا تنفل فقد انكشفت النُّصْرَة لِأَنَّهُ يعْمل لَا من خوف الْوَعيد إِنَّمَا يُرِيد أَن يتودد ويتقرب ويتحبب إِلَى ربه أَلا ترى أَنه قَالَ فِي حَدِيثه وَإنَّهُ ليتقرب إِلَيّ بعد ذَلِك بالنوافل حَتَّى أحبه فَإِنَّمَا أوجب لَهُ حبه بِمَا تحبب إِلَيْهِ بالنوافل فقد تقرب العَبْد بالفرائض وتحبب وَلَكِن كَانَ ذَلِك مِنْهُ منكمنا لِأَن خوف الْوَعيد قد مازجه فبالنوافل ظهر مَا كَانَ منكمنا فأظهر لَهُ حبه فأوجبه لَهُ
عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ جَاءَ الْعَبَّاس إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ ثِيَاب بيض فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَجهه فَقَالَ يَا رَسُول الله مَا الْجمال قَالَ صَوَاب القَوْل بِالْحَقِّ قَالَ فَمَا الْكَمَال قَالَ حسن الفعال بِالصّدقِ(4/36)
عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثلِهِ غير أَنه زَاد فِيهِ فَرَآهُ تَبَسم فَقَالَ مَا يضحكك يَا رَسُول الله أضْحك الله سنك قَالَ يضحكني جمالك قَالَ وَمَا الْجمال يَا رَسُول الله فَذكر بَقِيَّة الحَدِيث
فَهَذَا الْكَمَال مَوْجُود فِي الرِّجَال بِفضل الْعُقُول وتفاوتها لِأَن الْمعرفَة مَعَ الْعقل وَالنِّسَاء منقوصات فِي الْعقل وَلذَلِك صَارَت شَهَادَة امْرَأتَيْنِ تعدل شَهَادَة رجل
فَأَما مَرْيَم بنت عمرَان وآسية بنت مُزَاحم فَإِنَّهُمَا برزتا على النِّسَاء بِمَا أعطيتا فكملتا قَالَ لَهُ قَائِل فَمَاذَا أعطيتا حَتَّى كملتا قَالَ أعطيتا السَّبِيل إِلَى الْوُصُول إِلَى الله ثمَّ الِاتِّصَال بِهِ وَذَلِكَ مَا ندب الله إِلَيْهِ عباده الْمُؤمنِينَ فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وابتغوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة وَجَاهدُوا فِي سَبيله لَعَلَّكُمْ تفلحون}
وَفِيمَا قصّ الله علينا من نبأهما دَلِيل على كمالهما من قَوْله {ضرب الله مثلا} أَي صفة للَّذين آمنُوا ليتمثلوه فيطلبوا هَذَا الْمِثَال من أنفسهم {امْرَأَة فِرْعَوْن إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة} والعند فِي اللُّغَة أقرب الْقرب بَين يَدَيْهِ فَسَأَلت رَبهَا مُسْتَقرًّا بَين يَدَيْهِ فِي دَاره فِي مَكَان الْقرْبَة فَلم تسْأَل ذَلِك إِلَّا وَقد طالعت نور الْقرْبَة ثمَّ قَالَت {ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله}
سَأَلت أَن يخلصها من سُلْطَان فِرْعَوْن حَتَّى لَا يجتمعا فِي شَأْن البضاع على رَائِحَة الشّرك وَلذَلِك حرم الله على الْمُؤمنِينَ مشركات النِّسَاء حَتَّى لَا يجْتَمع رَائِحَة التَّوْحِيد مَعَ رَائِحَة الشّرك وأباح نسَاء أهل(4/37)
الْكتاب لِأَنَّهُنَّ من الْكفَّار غير مشركات ثمَّ قَالَ وَمَرْيَم ابنت عمرَان الَّتِي أحصنت فرجهَا فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا وَكتبه
فالتصديق بِالْكَلِمَةِ أعظم الْأَشْيَاء لِأَنَّهَا لم تعاين الْمَلَائِكَة وَإِنَّمَا سَمِعت صَوت الْبُشْرَى {إِن الله يبشرك بِكَلِمَة مِنْهُ} فصدقت وَلم تردد فسماها الله صديقَة فِي تَنْزِيله فَقَالَ {وَأمه صديقَة}
فبالاتصال بلغ الْعباد أَعلَى منَازِل الصديقين فَلَا ينالهم فِي أَمر الله حيرة أَلا ترى أَن سارة لما بشرت بِإسْحَاق كَيفَ اضْطَرَبَتْ حَتَّى أنْكرت الْمَلَائِكَة من قَوْلهَا إِن هَذَا لشَيْء عَجِيب قَالُوا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله فَتبين هَهُنَا مِنْهَا نقص وَتبين الْكَمَال من مَرْيَم حَيْثُ بشرت بِالْكَلِمَةِ من قَوْله {إِن الله يبشرك بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمه الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم وجيها فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن المقربين ويكلم النَّاس فِي المهد وكهلا وَمن الصَّالِحين}
فَعندهَا قَالَت {رب أَنى يكون لي ولد وَلم يمسسني بشر} فَإِنَّمَا سَأَلت من أَيْن هَذَا الْوَلَد لِأَنَّهُ قد جاءها من أَمر الله مَا لَيْسَ فِي الْبشر مثله وَالَّذِي جَاءَ من أَمر سارة لَيْسَ بمستنكر قد يكون مثله فِي الْبشر أَلا ترى أَنه لما جَاءَ الْوَلَد من إِبْرَاهِيم وَسَارة لم يفتتن الْخلق بِهِ ومجيء عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فتْنَة على المفتونين(4/38)
- الأَصْل الْحَادِي وَالسِّتُّونَ والمائتان
-
فِي أَخْلَاق الله الْمِائَة والسبعة عشر
عَن عبد الله بن رَاشد قَالَ حَدثنِي مولَايَ عَن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لله مائَة وَسَبْعَة عشر خلقا من أَتَى بِوَاحِدَة مِنْهُنَّ دخل الْجنَّة
وَعَن مَرْوَان يَقُول سَمِعت عُثْمَان بن عَفَّان يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن لله تَعَالَى مائَة وَسَبْعَة عشر خلقا من جَاءَ بِخلق مِنْهَا دخل الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب فَقُلْنَا بَينهَا لنا قَالَ كظم الغيظ وَالْعَفو عِنْد الْمقدرَة والصلة عَن القطيعة والحلم عِنْد السَّفه وَالْوَقار عِنْد الطيش ووفاء الْحق عِنْد الْجُحُود وَالْإِطْعَام عِنْد الْجُوع والعطية عِنْد الْمَنْع والإصلاح عِنْد الْفساد والتجاوز عَن الْمُسِيء والعطف على الظَّالِم وَقبُول المعذرة والإبانة للحق والتجافي عَن دَار الْغرُور وَترك التَّمَادِي فِي الْبَاطِل أَلا وَلَيْسَ فِي أَخْلَاق الله شَيْء أحب إِلَيْهِ من الْجُود وَالْكَرم فَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا وَفقه لأخلاقه فتخلق بهَا وَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد شرا خلى(4/39)
بَينه وَبَين أَخْلَاق إِبْلِيس وَإِن من أَخْلَاق إِبْلِيس أَن يغْضب فَلَا يرضى وَأَن يسمع فيحقد وشراهية النَّفس وهنتها وَأخذ مَا لَيْسَ لَهَا ونزقها إِلَى اللَّهْو وَالْبَاطِل إِلَّا وَإِن إِبْلِيس لَيْسَ هُوَ على أحد أَشد مِنْهُ على الْقُرَّاء الَّذين هم عِنْد أنفسهم قراء لَا يزَال فِيمَا بَينهم يذهب وَيَجِيء حَتَّى يُورث بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء فَلَو قلت حَقًا مَا أقل من يجْتَمع مِنْهُم غَدا فِي الْآخِرَة إِلَّا قوم عطف بَعضهم على بعض وَتركُوا الحقد وَالْغَضَب وألحوا فِي الطّلبَة إِلَى الله أَن يقبلهم وَيقبل معذرتهم
قَالَ أَبُو عبد الله فالأخلاق مَوْضُوعَة فِي الطَّبْع ومعقلها فِي الصَّدْر وَمثل ذَلِك مثل ملك لَهُ خزانَة وقواد ومملكة فَإِن كَانَت الخزانة قَليلَة كنوزها وكورته صَغِيرَة ضَاقَ بهؤلاء القواد وَقَالَ بَعضهم لبَعض هَذَا ملك لَهُ اسْم الخزانة والكنوز وَلَيْسَ لكنوزه مَادَّة يجْرِي علينا ويعيننا حَتَّى نتَّخذ عدَّة لِلْعَدو الَّذِي بِمَرْصَد منا وَمن ملكنا هَذَا وَلَيْسَت لَهُ مملكة فسيحة تَنْتَشِر فِيهَا فَيَأْخُذ كل قَائِد منا نَاحيَة من المملكة فيدبر أَمر الْملك فِي أهل ناحيته فتعالوا ننتقل عَن هَذَا إِلَى ملك لمملكته فسحة ومنتشر فنتسع فِي نَوَاحِيهَا فيقود الجيوش إِلَى أَعمالنَا فَإِن الْعَدو بِمَرْصَد وَلَا نَأْمَن أَن ينتهز منا فرْصَة فالملك هُوَ الْقلب وخزانته جَوف الْقلب فِيهِ كنوز الْمعرفَة وجواهر الْعلم بِاللَّه وَالْعقل وزيره والصدر فسحته وساحته ومملكته والأخلاق قواده والأركان رَعيته ونواحيه وَهِي الْجَوَارِح السَّبع فَهَؤُلَاءِ القواد هم الْأَخْلَاق فِي الصَّدْر قواد الْملك قيام بَين عَيْني الْفُؤَاد وَالْعقل شعاعه يشرق بَين عَيْني الْفُؤَاد يدبر أَمر الْقلب وَالنَّفس فِي الْجوف رابضة فِي مَكَانهَا تطلب الْملك وترصد لإنتهاز الفرصة ليخرج على الْملك لِأَن شَهْوَة الإمرة فِيهَا والهوى بِبَاب النَّفس يتلهف عطشا ويتلظى بَين يَدي بَصِيرَة النَّفس وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِن النَّفس لأمارة بالسوء} وَهِي أبدا فِي طلب الْإِمَارَة لتتملك وتتأمر على الْجَوَارِح(4/40)
فَإِذا خطرت الخاطرة فِي الصَّدْر بَين عَيْني الْفُؤَاد نظر الْعقل فَإِن رَآهَا حَسَنَة وأمرا رشيدا قدر ودبر مَاذَا يُرَاد وَكم يُرَاد وَمَتى يُرَاد وَإِلَى مَتى يُرَاد وَإِن رَآهَا سَيِّئَة وغيا نفاها من الصَّدْر فَفِي هَذَا الْوَقْت للنَّفس مُنَازعَة مَعَ الْقلب والهوى مَعَ الْعقل فِي هَذِه الخاطرة النَّفس تشْتَهي والهوى يزعج النَّفس ويشجعها والعدو يزين ويمني ويغر فَإِذا جَاءَ مدد الْأَخْلَاق بَطل تَزْيِين الْعَدو وأمانيه وانكشف غروره وَأدبر الْهوى قهقرى وَجَاء مدد كنوز الْمعرفَة وَمد الْملك يَده إِلَى جَوَاهِر الْعلم بِاللَّه فِي الخزانة فانمحقت المخاطرة وأسبابها وجنودها وأعوانها فَإِن الخاطرة كَانَت طَلِيعَة النَّفس والهوى والعدو هَذَا إِن كَانَت خاطرة الغي وَإِن كَانَت رشدا كَانَت طَلِيعَة الْحق عز هَذَا الْملك ومنعته وقوام مَمْلَكَته بِهَذِهِ الْكُنُوز وَهَؤُلَاء القواد وَهِي الْأَخْلَاق الَّتِي أحدقت بِالْقَلْبِ فَإِذا دبر الْعقل وَقدر مَا رَآهُ حسنا أَمْضَاهُ الْقلب لِأَن محَاسِن الْأَخْلَاق كائنة فِي الطَّبْع وَالنَّفس تتماسك فِي الْأَمر وتنقاد للقلب بالطبع فَإِذا كَانَ الْخلق بالطبع ظهر ذَلِك الْخلق وسلطانه فِي الصَّدْر حَتَّى يقوى الْقلب بِهِ فَيخرج من الصَّدْر إِلَى الْأَركان ذَلِك الخاطر الَّذِي قدره الْعقل فعلا حسنا مُقَدرا مُدبرا فِي يسر بِلَا عسر وَلَا تلجلج وَلَا تردد وَلَا تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير وَلَا غلو وَلَا تَقْصِير وَلَا الْتِفَات إِلَى رشوة النَّفس من طَرِيق الثَّوَاب والعلائق لِأَن الْأَخْلَاق تصير النَّفس حرَّة سخية وسخاوتها حريتها والسخاء والخساء بِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن الخساء هُوَ الْبعيد من الْأَشْيَاء والسخاء هُوَ انْفِرَاد النَّفس من الشَّيْء وعتقها من رقها والخسا والزكا هما ضدان والخسا الْفَرد والزكا الزَّوْج وهما مقصوران غير ممدودين فَجَمِيع محَاسِن الْأَخْلَاق تؤول إِلَى الْجُود وَالْكَرم والسخاء فَإِذا سخت النَّفس تكرمت وَإِذا تكرمت جَادَتْ
فأخلاق الله تَعَالَى أخرجهَا لِعِبَادِهِ من بَاب الْقُدْرَة وخزنها للعباد فِي الخزائن وَقسمهَا على أَسْمَائِهِ الْحسنى وَأَمْثَاله الْعليا فَإِذا أَرَادَ(4/41)
بِعَبْد خيرا منحه مِنْهَا خلقا ليدر عَلَيْهِ من ذَلِك الْخلق فعلا حسنا جميلا بهيا فجبله فِي بطن أمه على ذَلِك الْخلق وَإِذا لم يكن مجبولا بذلك الْخلق فِي بطن أمه قدر لَهُ علم ذَلِك وَحسنه وبهاءه ليتخلق العَبْد بذلك وتخلقه أَن يحمل نَفسه على فعل ذَلِك الْخلق حَتَّى تعتاد نَفسه ذَلِك
وَرُوِيَ عَن وهب بن مُنَبّه أَنه قَالَ من داوم على خلق أَرْبَعِينَ يَوْمًا صَار ذَلِك لَهُ خلقا أَي بَقِي مَعَه ذَلِك وَلَا يكون أَصْلِيًّا لِأَن المجبول عَلَيْهِ منحه الله تَعَالَى وهديته وَإِذا أهدي لَهُ ثَبت لَهُ ذَلِك وَكَانَت نَفسه معجونة بذلك الْخلق والرب لَا يرتجع فِي هديته
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من أدْرك التَّكْبِيرَة الأولى فِي صَلَاة الْجَمَاعَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا كتب لَهُ عتق من النَّار
عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جمَاعَة لَا تفوته الرَّكْعَة الأولى كتب لَهُ عتق من النَّار(4/42)
فَهَذَا إِذا صَار الْمَشْي إِلَى جمَاعَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا خلقا فَكَذَلِك سَائِر الْأَخْلَاق لِأَن الْأَخْلَاق احْتِمَال أثقال المكاره وَالْمَشْي إِلَى الْجَمَاعَة احْتِمَال مَكْرُوه لِأَنَّهُ لَو شَاءَ صلاهَا فِي بَيته فَلَمَّا أَمر بِالْمَشْيِ إِلَى الْجَمَاعَة احْتمل أثقال الْمَكْرُوه فَقدر لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِقْدَار أَرْبَعِينَ يَوْمًا ليصير لَهُ خلقا وَيسْقط عَنهُ الأثقال لِأَن سوء الْخلق فِي طلب الرَّاحَة وَإِن هَذِه الْأَخْلَاق تفضل الله بهَا على عبيده على قدر مَنَازِلهمْ عِنْده فمنح أنبياءه مِنْهَا فَمنهمْ من أعطَاهُ مِنْهَا خمْسا وَمِنْهُم من أعطَاهُ مِنْهَا عشرا أَو عشْرين وَأكْثر من ذَلِك وَأَقل فَمن زَاد مِنْهَا ظهر حسن مُعَامَلَته ربه وَحسن مُعَامَلَته خلقه على قدر تِلْكَ الْأَخْلَاق وَمن نَقصه مِنْهَا ظهر عَلَيْهِ ذَلِك وَلذَلِك ابْتُلِيَ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام بِمَا ابْتُلِيَ بِهِ حَتَّى صَار ذَنبا وسجنه فِي بطن الْحُوت حَتَّى طهره وَجعل مَا حل بِهِ موعظة للموحدين وَإِنَّمَا سَمَّاهُ آبقا فِي تَنْزِيله {أبق إِلَى الْفلك المشحون} لتضايق أخلاقه وَترك احْتِمَال أثقال الْخلق فِي ذَات الله تَعَالَى فعتب الله عَلَيْهِ ثمَّ اجتباه بعطفه وَرَحمته وهذبه بكرمه
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ بعثت لأتمم مَكَارِم الْأَخْلَاق
فأنبأنا فِي قَوْله هَذَا أَن الرُّسُل قد مَضَت وَلم تتمم هَذِه الْأَخْلَاق كَأَنَّهُ بقيت عَلَيْهِم من هَذَا الْعدَد بَقِيَّة فَأمر أَن يتممها فأعلمنا فِي قَوْله هَذَا أَن تِلْكَ الْأَخْلَاق الَّتِي كَانَت فِي الرُّسُل فِيهِ ثمَّ هُوَ مَبْعُوث لإتمام مَا بَقِي مِنْهَا ليقدم على الله بِجَمِيعِ أخلاقه الَّتِي ذَكرنَاهَا مائَة وَسَبْعَة عشر خلقا فَلَا يجوز لنا أَن نتوهم عَلَيْهِ أَنه بعث لأمر فَقدم على ربه وَهُوَ غير متمم(4/43)
لَهُ وَمن أشرق فِي صَدره نور اسْم من أَسمَاء الله كَانَت لَهُ تِلْكَ الْأَخْلَاق الَّتِي لذَلِك الِاسْم هَذَا للمجبولين وَمن تخلق بذلك الْخلق وَلم يكن جبل عَلَيْهِ كَانَ تخلقه طَهَارَة لصدره وَقَلبه من دنس الْخلق السَّيئ الَّذِي هُوَ ضد هَذَا الْخلق فَإِذا تطهر من سيئ الْأَخْلَاق لتخلقه بمحاسن الْأَخْلَاق بِجهْد وكد شكر الله لَهُ ذَلِك فَوجدَ قلبه طَرِيقا إِلَى ذَلِك الِاسْم وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ} أحسن الله أخلاقه جهدا فَكَانَ الله مَعَه بالتأييد والنصرة والعون حَتَّى تمت المجاهدة فَشكر الله لَهُ ذَلِك فهداه السَّبِيل إِلَيْهِ بِأَن كشف عَنهُ السوء حَتَّى أشرق فِي صَدره نور ذَلِك وَهُوَ قَوْله تَعَالَى أَمن يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأَرْض
وَإِذا كشف السوء صلح للخلافة فِي دينه وَوَجَب عَلَيْك طَاعَته وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم}
فَلذَلِك قيل فِي حِكْمَة الْحُكَمَاء الْمَعْرُوفَة فِي صفاء الْأَخْلَاق وطهارة الْقلب فَإِذا طهر الْقلب من الريب وصفت الْأَخْلَاق من الدنس والكدورة نَالَ العَبْد الْمعرفَة الَّتِي فِي الْقرْبَة والوصول إِلَى ربه فَإِذا وصل الْقلب إِلَى ربه دَان لَهُ فَعندهَا أصَاب الدّين الَّذِي يدين الله بِهِ
وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخلق وعَاء الدّين رَوَاهُ أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(4/44)
فالدين هُوَ خضوع الْقلب مُشْتَقّ من الدون الوضوع فَإِذا تواضع الْقلب وخشعت النَّفس وَأَلْقَتْ بِيَدَيْهَا لله سلما فَذَلِك دين العَبْد فَإِذا أمره بِأَمْر ائتمر وَإِذا نَهَاهُ انْتهى وَإِذا قسم لَهُ من الدُّنْيَا قنع وَإِذا حكم عَلَيْهِ بِحَال رَضِي محبوبا كَانَ أَو مَكْرُوها فَهَذِهِ عبودة العَبْد وَإِنَّمَا قدر العَبْد على إِقَامَة العبودة فِي هَذِه الْأَشْيَاء بخشعة النَّفس وخضعة الْقلب وتواضعه فَذَلِك دينه وَإِنَّمَا قَالَ الْخلق وعَاء الدّين لِأَن ذَلِك الْخلق إِذا كَانَ للْعَبد مثل الْجُود والسخاء وَالْكَرم كَانَت النَّفس حرَّة من رق الْهوى وَالْقلب حرا من رق النَّفس فهان عَلَيْهِ التَّوَاضُع والخضوع لله والقناعة بِمَا قسم والرضاء بِمَا حكم والائتمار بأَمْره والانتهاء عَن نَهْيه وَإِنَّمَا يسر عَلَيْهِ إِقَامَة الدّين من أجل ذَلِك الْخلق فَإِذا كَانَ للْعَبد ذَلِك الْخلق كَانَ وعَاء لدينِهِ من ذَلِك الْخلق يخرج لَهُ الدّين وَهُوَ الخضوع والخشوع وبذل النَّفس لله وَاحْتِمَال أثقال الْمَكْرُوه وَلما كَانَ هَذَا الْإِسْلَام أشرف الْأَدْيَان أعطَاهُ أقوى الْأَخْلَاق وَأَشْرَفهَا وَهُوَ الْحيَاء
عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لكل دين خلقا وَخلق الْإِسْلَام الْحيَاء
وَالْحيَاء أَصله من الْحَيَاة فَإِذا حيى الْقلب بِاللَّه استحيى وَكلما ازْدَادَ حَيَاة بِاللَّه ازْدَادَ حَيَاء مِنْهُ أَلا ترى أَن المستحيي يعرق فِي وَقت الْحيَاء فعرقه من حرارة الْحَيَاة الَّتِي هَاجَتْ من الرّوح فَمن هيجانه يفور الرّوح بِتِلْكَ الْحَرَارَة فيعرق الْجَسَد مِنْهُ ويعرق مِنْهُ مَا علا لِأَن سُلْطَان الْحيَاء فِي الْوَجْه والصدر(4/45)
عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت إِن جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام نزل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين يَدَيْهِ شَيْء من حبوب يَأْكُلهُ مُتكئا فَجَلَسَ يتصبب عرقا فَقُمْت إِلَيْهِ فَجعلت أَمسَح الْعرق عَن وَجهه وَأَقُول بأمي وَأبي يَا رَسُول الله مَا لَك قَالَ إِن جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَانِي وَأَنا آكل مُتكئا فَقَالَ يَسُرك أَن تكون ملكا فهالني قَوْله قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَمَا رَأَيْت النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أكل مُتكئا بعد ذَلِك حَتَّى فَارق الدُّنْيَا
وَإِنَّمَا تصبب عرقا لفوران حرارة حَيَاته بِاللَّه فَكلما كَانَ حَيَاة الْقلب بِاللَّه أعظم كَانَ تَسْلِيمه لله أَكثر وأوفر وَنَفسه أساس للانقياد لِأَن الْإِسْلَام هُوَ تَسْلِيم النَّفس لله وَالدّين خضوعها وانقيادها فَلذَلِك صَار الْحيَاء خلقا لِلْإِسْلَامِ ووعاء للدّين يستحيي فيتواضع ويستحيي فيخضع ويستحيي فيبذل نَفسه لله وَلَا يبخل بهَا عَلَيْهِ وَمن الْحيَاء انكسار النَّفس وَذَهَاب رجوليتها أَلا ترى أَن الْمَرْأَة لما فضلت على الرجل بِتِسْعَة وَتِسْعين جُزْءا من الْحيَاء كَيفَ كسرت شهوتها الَّتِي فضلت بهَا على الرجل
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْمَرْأَة فضلت على الرجل بِتِسْعَة وَتِسْعين جُزْءا من الشَّهْوَة وفضلت من الْحيَاء بِتِسْعَة وَتِسْعين جُزْءا لتكسر تِلْكَ الشَّهَوَات مَا فضلت بِهِ من أَجزَاء الْحيَاء(4/46)
فقد بَان لَك أَن الْحيَاء يكسر وَيذْهب بِالْقُوَّةِ والجلادة والصلابة من النَّفس وَإِذا كَانَ ذَلِك يُقَوي الْقلب لِأَن الْحيَاء من الْحَيَاة بِاللَّه والحياة بِاللَّه من نفس الْمعرفَة فَأَما مَا ذكرنَا من شَأْن المجبول على خلق وَمن شَأْن الممنوح المتخلق بِهِ فَروِيَ عَن الْعَلَاء بن كثير أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن محَاسِن الْأَخْلَاق مخزونة عِنْد الله فَإِذا أحب الله عبدا منحه مِنْهَا خلقا حسنا أَو خلقا صَالحا
وَعَن هود الْعَبْدي القصري عَن جده قَالَ بَيْنَمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحدث أَصْحَابه إِذْ قَالَ لَهُم إِنَّه سيطلع عَلَيْكُم من هَذَا الْوَجْه ركب هم من خير أهل الْمشرق فَقَامَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَتوجه فِي ذَلِك الْوَجْه فلقي ثَلَاثَة عشر رَاكِبًا فَرَحَّبَ وَقرب وَقَالَ من الْقَوْم قَالُوا نفر من عبد الْقَيْس قَالَ فَمَا أقدمكم هَذِه الْبِلَاد التِّجَارَة قَالُوا لَا قَالَ أفتبيعون سُيُوفكُمْ هَذِه قَالُوا لَا فلعلكم إِنَّمَا قدمتم فِي طلب هَذَا الرجل قَالُوا أجل فَمشى مَعَهم يُحَدِّثهُمْ حَتَّى إِذا نظر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هَذَا صَاحبكُم الَّذِي تطلبونه فَرمى الْقَوْم بِأَنْفسِهِم عَن رحالهم فَمنهمْ من سعى وَمِنْهُم من هرول وَمِنْهُم من مَشى حَتَّى أَتَوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذُوا بِيَدِهِ فقبلوها وقعدوا إِلَيْهِ وَبَقِي الْأَشَج هُوَ أَصْغَر الْقَوْم فَأَنَاخَ الْإِبِل وعقلها وَجمع مَتَاع الْقَوْم ثمَّ أقبل يمشي على تؤدة حَتَّى أَتَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَأخذ بِيَدِهِ فقبلها فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيك خصلتان يحبهما الله وَرَسُوله قَالَ وَمَا هما يَا رَسُول الله قَالَ الأناءة والتؤدة قَالَ يَا نَبِي الله أجبلا جبلت عَلَيْهِ أم تخلقا مني قَالَ لَا بل جبلا جبلت عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي جبلني على مَا يحب الله وَرَسُوله(4/47)
وَأَقْبل الْقَوْم قبل تمرات يأكلونها فَجعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخْبِرهُمْ بهَا يُسمى لَهُم هَذَا كَذَا وَهَذَا كَذَا قَالُوا أجل يَا نَبِي الله مَا نَحن بِأَعْلَم بأسمائها مِنْك قَالَ أجل فَقَالُوا لرجل أطعمنَا من بَقِيَّة الْقوس الَّذِي بَقِي من نوطك والقوس قِطْعَة تمر فَأَتَاهُم بالبرني فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا البرني إِمَّا أَنه من خير تمركم لكم إِمَّا أَنه دَوَاء لَا دَاء فِيهِ
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قلَّة الْحيَاء كفر
وَالْكفْر غطاء على الْقلب فَإِذا حل الغطاء بِالْقَلْبِ ذهب الْحيَاء وَمَات الْقلب وَإِذا انْكَشَفَ الغطاء فَإِنَّمَا ينْكَشف لِحَيَاتِهِ بِاللَّه فَإِذا حيى استحيا وَلذَلِك قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة الْحيَاء أَخُو التَّقْوَى وَلَا يخَاف العَبْد أبدا حَتَّى يستحيي وَهل دخل أهل التَّقْوَى فِي التَّقْوَى وَفِي أَمر الله إِلَّا من الْحيَاء
وَرُوِيَ عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد حَيَاء من الْعَذْرَاء فِي خدرها
وَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ اسْتَحْيوا من الله فَإِنِّي لأدخل الكنيف فأقنع رَأْسِي حَيَاء من الله تَعَالَى
رَجعْنَا إِلَى مُبْتَدأ مَا وَصفنَا من شَأْن الْمثل الْمَضْرُوب قُلْنَا فَإِذا أَرَادَ العَبْد أَن يتخلق بِخلق من هَذِه الْأَخْلَاق احْتَاجَ إِلَى أَن يُمكن لَهُ فِي الصَّدْر الَّذِي هُوَ ساحة الْقلب فَمن كَانَ أوسع صَدرا كَانَ بِمَنْزِلَة من كَانَ أوسع مملكة من المَال حَتَّى تَجِد قواد الْملك منفسحا فَيَأْخُذ كل قَائِد نَاحيَة(4/48)
فيتملك فِيهَا على حشمه فَإِذا اتَّسع صَدره أَخذ كل خلق من هَذِه الْأَخْلَاق نَاحيَة من صَدره وَتمكن فِيهِ ويسهل على الْقلب إِنْفَاذ أَمر الله عز وَجل وَإِذ ضَاقَ صَدره لم يسْتَقرّ فِيهِ خلق بِمَنْزِلَة أُولَئِكَ القواد لما لم يَجدوا فسحة انتقلوا إِلَى ملك آخر أوسع مملكة مِنْهُ وأوفر كنوزا وَلذَلِك سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أول مَا سَأَلَ حِين بَعثه إِلَى فِرْعَوْن فَقَالَ {رب اشرح لي صَدْرِي وَيسر لي أَمْرِي} فبشرح الصَّدْر قدر على احْتِمَال أثقال الْمَكْرُوه حَيْثُ احْتَاجَ إِلَى أَن يسْتَقْبل فِرْعَوْن بالمكاره قد هرب مِنْهُ خوفًا من الْقَتْل
ومبتدأ هَذَا الْأَمر أَن يعْمل فِي توسيع الصَّدْر حَتَّى تصير لَهُ هَذِه الْأَخْلَاق وتوسعه أَن يتْرك الشَّهَوَات والنهمات وَيجْعَل المكاره على النَّفس حَتَّى تصير مدبوغة فَعندهَا تطهر الْأَخْلَاق ويشرق أنوار الْأَسْمَاء فِي صَدره فَعنده يغزر علمه بِاللَّه تَعَالَى فيعيش عبدا غَنِيا بِاللَّه مَا عَاشَ(4/49)
- الأَصْل الثَّانِي وَالسِّتُّونَ والمائتان
-
فِي صُورَة النَّفس وإحيائها
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَربع من كن فِيهِ حرمه الله تَعَالَى على النَّار وَحفظه من الشَّيْطَان من ملك نَفسه حِين يرغب وَحين يرهب وَحين يغْضب وَحين يَشْتَهِي وَأَرْبع من كن فِيهِ نشر الله عَلَيْهِ رَحمته وَأدْخلهُ فِي محبته من آوى مِسْكينا ورحم ضَعِيفا ورفق بالملوك وَأنْفق على الْوَالِدين
قَالَ أَبُو عبد الله فَالنَّفْس فِي هَذَا الْجَسَد ومعدنها فِي الْبَطن ثمَّ هِيَ متفشية فِي جَمِيع الْجَسَد وَالروح معدنه فِي الرَّأْس ثمَّ هُوَ منفش فِي جَمِيع الْجَسَد والجسد قالب للروح وَالنَّفس كليهمَا والحياة مَوْضُوعَة فِي كليهمَا وحياة الرّوح أقوى وَأكْثر وأخلص وأصفى من حَيَاة النَّفس وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الرّوح يَأْمر بِالطَّاعَةِ وَذَلِكَ لِأَن حَيَاته أَكثر وَأقوى لِأَن أَصله من روح الْحَيَوَان الَّذِي مَاء الْحَيَوَان مِنْهُ الَّذِي إِذا شرب مِنْهُ(4/50)
أهل الْجنَّة بِبَاب الْجنَّة لم يموتوا وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان} فههنا حَيَاة وَفِي الدَّار الْآخِرَة حَيَوَان
فَهَذِهِ الْحَيَاة الَّتِي فِي الرّوح قَليلَة وَالْمَاء الَّذِي فِي الْجنَّة وَالنّهر الَّذِي بِبَاب الْجنَّة لاغتسال أهل الْجنَّة يَوْم يدْخلُونَهَا كُله من مَاء الْحَيَوَان وَالْمَاء الَّذِي تَحت الْعَرْش بَحر راكد على مِقْدَار أرزاق الْعباد وَهُوَ من مَاء الْحَيَوَان وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ
فَإِذا أنزل الله عز وَجل إِلَى الأَرْض مِنْهُ أَحْيَا بِهِ الأَرْض وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وأنزلنا من السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جنَّات وَحب الحصيد
ثمَّ قَالَ {وَمن آيَاته أَنَّك ترى الأَرْض خاشعة} أَي ميتَة لَا تتحرك {فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت} فاهتزازها وربوها وحركتها من الْحَيَاة الَّتِي دخلت فِيهَا
ثمَّ قَالَ {إِن الَّذِي أَحْيَاهَا} يَعْنِي الأَرْض {لمحيي الْمَوْتَى} وَقَالَ تَعَالَى {أحيينا بِهِ بَلْدَة مَيتا} فَإِنَّمَا إحْيَاء الأَرْض بِمَاء الْحَيَوَان
وَينزل الله تَعَالَى على أهل الْقُبُور قبل نفخة الصُّور من مَاء الْحَيَوَان حَتَّى تنْبت أَجْسَادهم وتحياهم ثمَّ يبْعَث الْأَرْوَاح وهم فِي قُبُورهم يتحركون قَالَ لَهُ قَائِل وَكَيف يتحركون بِلَا روح قَالَ بِالْحَيَاةِ الَّتِي نالتهم من ذَلِك المَاء ويتحركون كَمَا تحركت الأَرْض بِمَاء الْحَيَاة(4/51)
{اهتزت وربت} وإهتزازها بِالْحَيَاةِ الَّتِي نَالَتْ أَغْصَان الْأَشْجَار حَتَّى أورقت وكل شَيْء يَتَحَرَّك إِنَّمَا يَتَحَرَّك بِالْحَيَاةِ
فالروح أوفر الْأَشْيَاء حظا من هَذِه الْحَيَاة لِأَنَّهُ خرج من روح الْحَيَاة الْأَصْلِيّ ثمَّ من بعد ذَلِك أوفر الْأَشْيَاء حظا من الْحَيَاة بعد الرّوح هَذِه النَّفس فالنفوس لجَمِيع الدَّوَابّ والبهائم والطيور وَفضل الْآدَمِيّ بِالروحِ للْخدمَة لِأَنَّهُ خَادِم ربه وَسَائِر الْخلق سخرة للآدمي فالروح بِمَا فِيهِ من الْحَيَاة يَدْعُو الْقلب إِلَى الطَّاعَة وَالنَّفس بِمَا فِيهَا من الْحَيَاة تَدْعُو إِلَى الشَّهَوَات والأفراح وَالْقلب أَمِير على الْجَوَارِح وَعَن أمره يصدرن إِلَى الْأَعْمَال فالأمير يَأْمر بِقُوَّة الْمعرفَة وَالْعلم بِاللَّه
فَقَوله من ملك نَفسه فالملك للقلب على النَّفس فَمن كَانَ قلبه مَالِكًا لنَفسِهِ فِي هَذِه الْأَحَايِين الْأَرْبَع حِين الرَّغْبَة وَحين الرهبة وَحين الشَّهْوَة وَحين الْغَضَب فقد حرم على النَّار واختسأ شَيْطَانه لِأَن الدُّنْيَا كلهَا فِي هَذِه الْأَرْبَع فَإِذا ملك الْقلب النَّفس بِقُوَّة الْمعرفَة وَالْعلم بِاللَّه فَإِن للمعرفة وَالْعلم سُلْطَانا عَظِيما وجنودا كثيفة وكنوزا جمة للجنود فقد دقَّتْ دُنْيَاهُ فِي عينه وصغرت وتلاشت حَتَّى صَارَت كالهباء وَمن ملكت نَفسه قلبه بِقُوَّة الْهوى وسلطان هَذِه الْأَرْبَع وحدتها وغليانها صَارَت دُنْيَاهُ فِي عينه كل شُعْبَة مِنْهَا كالجبال أَو كالبحور وَعظم فِي عينه شَأْنهَا وشأن أَحْوَال نَفسه فِيهَا وَصَارَت الْآخِرَة فِي عينه كَالْحلمِ فَإِن المحتلم يتعشق فِي مَنَامه على جَارِيَة حسناء ويثب إِلَيْهَا ويلقي نَفسه عَلَيْهَا من شدَّة الشبق لِأَن شَيْطَانه يُرِيد ذَلِك ويخدع نَفسه البلهاء فِيمَا مثل لَهَا فِي مَنَامه فَإِذا إنتبه وجد نَفسه خَالِيا مِمَّا رأى وَإِذا هُوَ لم يزدْ على أَن بَال فِي فرَاشه فَهَذَا لم يزدْ على أَن ضحك بِهِ الشَّيْطَان
فَهَذِهِ صفة من يتعشق على الجنات من شَهْوَة نَفسه لسَمَاع الْأذن لَا بحياة الْقلب وَإِذا هُوَ ميت على الدُّنْيَا من حبها ويعظمها تَعْظِيمًا لَا ينَام وَلَا ينيم حرصا وأشرا وشرها وبطرا حَتَّى يَأْخُذهَا من الشُّبُهَات بتضييع(4/52)
الْأَمَانَات والتفريط فِي الْفَرَائِض ونسيان الْمَوْت والمعاد والقبر وَالْقِيَامَة والحساب بَين يَدي الله تَعَالَى وَقطع النَّار على الجسور وَيمْنَع الْحُقُوق ويعرض عَن مواعظ الله عز وَجل وَإِذا تَلا الْقُرْآن فَكَأَنَّمَا ينشد شعرًا أَو يَحْكِي كَلَام النَّاس لَا يَتَحَرَّك قلبه لوعد وَلَا لنبأ من أنباء الْقُرْآن وَلَا تَدْمَع عينه وَلَا يدْرِي مَا تَلا إِنَّمَا همه أَن يطيب نَفسه بِأَنِّي قَرَأت وتلوت فَهُوَ فِي مثل هَذَا الْقلب الخرب ممتلئ من الْغِشّ والغل والحقد وَطلب الْعُلُوّ والتعزز والتجبر والتكبر وإهمال الْجَوَارِح وتضييع الْبركَة على الْجَوَارِح السَّبع وَهِي الْمِيثَاق يتعشق على الْحور ويتلمظ على فواكه الْجنَّة ويتشمم برياحين الْجنان من بعد لسَمَاع الْأذن أبله من الأبالهة زبونا من زبون الشَّيْطَان أَحمَق من حمقى أهل الغي لَيْسَ من الْحَيَاة فِي قلبه أَن إِذا سمع بِذكر الْجنَّة قَالَ الْجنَّة دَار الله فغمض عَيْنَيْهِ حَيَاء من الله تَعَالَى وَقَالَ مثلي يصلح لدار الله وَأَنا لَا أصلح لدار أَمِير الْمُؤمنِينَ الَّذِي هُوَ عَبده فِي الدُّنْيَا ثمَّ دَمَعَتْ عَيناهُ وَاحْتَرَقَ جَوْفه مَخَافَة الْفَوْت والبعد من الله تَعَالَى لفوتها وأخذته الْحَسْرَة والندامة حَتَّى أَدَّاهُ ذَلِك إِلَى التضرع والحزن الدَّائِم والتوقي والتورع وَملك النَّفس
فَهَذِهِ النَّفس بفضلتها هِيَ كالمحتلم الَّذِي وَصفنَا أَنه إِذا انتبه استحيا من نَفسه بِمَا سخر بِهِ شَيْطَانه وَوجد فِي نَفسه حسرة حَيْثُ رأى نَفسه خَالِيَة عَمَّا رأى فِي مَنَامه فَهُوَ بَين حسرة وحياء
كَذَلِك هُوَ المتعشق بفضلته إِذا قدم على الله استحيا مِنْهُ حَتَّى يتصبب عرقا وتحسرت نَفسه إِذا رأى مَا فَاتَهُ من مَوْعُود الله للمطيعين الأتقياء فَمن آتَاهُ الله الْمعرفَة إِذا تذكر الْجنَّة بَكَى حَيَاء من الله أَن رأى جسدا توسخ وتدنس الْوَسخ من الآثام والدنس من الْعُيُوب وَرَأى الْجنَّة مُقَدَّسَة بقدس الله مطهرة بطهر الله مسفرة تضحك إِلَى أَوْلِيَاء الله تَعَالَى فَرجع إِلَى قلبه فَرَآهُ مَعَ الأوساخ والأدناس فاستحيى من الله وَبكى على أَيَّامه الَّتِي عطلها على اكْتِسَاب رضوَان الله واكتسب بهَا معاصي الله فَهَذَا لَهُ(4/53)
الرَّجَاء كل الرَّجَاء إِذا قدم على الله وَالنَّفس فِي هَذِه الْأَرْبَعَة صورتهَا عَجِيبَة إِذا اشتهت فصورتها كالريشة تهب بهَا الرّيح وشهوة الْأَشْيَاء مُتَفَاوِتَة وَفَرح النَّفس بِكُل شَهْوَة على قدرهَا والشهوة فِي الأول واللذة فِي الآخر وَإِنَّمَا قيل شَهْوَة لهشاشة النَّفس والميل إِلَى ذَلِك الشَّيْء والمبادرة إِلَيْهِ لخوف الْفَوْت فَتلك هشاشة يُقَال هش واهتش وشهى واشتهى فالشهوة مَأْخُوذَة من هُنَاكَ واللذة إِذا نَالَ الشَّيْء فَانْتهى إِلَى آخِره فذل ذَلِك الهيج وَسكن سُلْطَان الهشاشة يُقَال لذ وذل والذل انكسار وسكونها عَن الاهتياج والاغتلام والغلي فَأول الشَّهْوَة كلظى النَّار ولهبها ودخانها وَآخره وَهِي اللَّذَّة كالجمرة الَّتِي بعد مَا كَانَت تتلظى سكن ضرامها ولهبها وَصَارَت خامدة علاها الرماد
فصورة النَّفس فِي الشَّهْوَة كريشة هبت بهَا ريح نكباء فَهِيَ تدير النَّفس دوران الرَّحَى وَصُورَة النَّفس فِي الرَّغْبَة كعطشان يكَاد يقطع عُنُقه من الْعَطش فَإِذا رأى المَاء عبه عبا يكَاد يلتهم التهاما أَو كجائع غرثان وجد طَعَاما فالتقمه وبلعه بلعا من غير مضغ وَصُورَة النَّفس فِي الرهبة كالعلق فِي الديدان بَيْنَمَا هِيَ منبسطة مِقْدَار إِصْبَع طَوِيلَة إِذْ هِيَ منقبضة مِقْدَار فتر وكالقنفذ من الْهَوَام بَيْنَمَا هِيَ منبسطة ترى صورتهَا وخلقتها إِذا هِيَ منقبضة كالكرة قد اقشعرت وشكست لضيق خلقهَا وكالكلب اللهثان المخلوع الْفُؤَاد من الْجُبْن وكاللبدة البالية الملقاة ذلا وجبنا
وَصُورَة النَّفس فِي الْغَضَب كالأسد الَّذِي يفترس ويمزق وَيقْعد عَلَيْهِ وَمرَّة كالنمر يثب وثبة من لَا يهاب وَلَا يُبَالِي فيمزق وَيكسر ويبدد
فَإِذا كَانَ الْقلب أَمِيرا وللأمير كنوز وجنود فقد ملك النَّفس فَذهب سُلْطَان النَّفس وأفعالها فحفظ الْقلب بعقله ومعرفته وبعلمه بِاللَّه حُدُود الله فِي هَذِه الْأَحَايِين الْأَرْبَعَة فَإِذا اهتاجت الشَّهْوَة من النَّفس أَعْطَاهَا الْقلب بِمِقْدَار مَا أذن الله لَهَا فِيهِ وَأحل لَهَا ومنعها مَا حرم عَلَيْهَا واستوثق مِنْهَا حَتَّى لَا يتطاير شررها ويشتعل نيرانها فِي الْعُرُوق حَتَّى لَا(4/54)
يُجَاوز الْحُدُود لِأَن قُوَّة النَّفس فِي الْعُرُوق وَأَعْطَاهَا من الرَّغْبَة مَا أحل الله لَهَا وصيره لَهَا غنى وَقُوَّة فِي دينهَا ودنياها واستوثق فِي جنبيها حَتَّى لَا يفِيض من مجاريها وينطفح من الْجَانِبَيْنِ فينبثق من المجاري وَمن الرهبة بِمِقْدَار مَا حذر الله أَن يرهب وقواها فِي جنبها وأمدها وشجعها بِقُوَّة الْعلم وأيدها بالمعرفة بِاللَّه وَأَعْطَاهَا من الْغَضَب بِمِقْدَار مَا أطلق الله لَهَا من ذَلِك فَلَا يحملهَا غَضَبهَا على أَن يُجَاوز الْحُدُود فِي الْأُمُور وَلَا يتَعَدَّى إِلَى الظُّلم وَيكون مَعَ غَضَبهَا متمسكة بِالْعَدْلِ وَلَا يتعداه إِلَى جور فَصَاحب هَذِه الصَّفْقَة هُوَ الَّذِي قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَربع من كن فِيهِ حرمه الله على النَّار
وَإِذا خلا الْقلب من هَذِه الْمعرفَة وَالْعلم صَار أَسِيرًا للنَّفس بعد أَن كَانَ أَمِيرا عَلَيْهَا وَذهب سُلْطَانه وَصَارَ مَمْلُوكا للنَّفس فبرزت الشَّهْوَة فِي وَقتهَا فأحرقت وَالرَّغْبَة فِي وَقتهَا فأفسدت والرهبة فِي وَقتهَا فأضرمت وَالْغَضَب فِي وقته فتسلط فجَاء الخراب والضياع وَالْفساد فَهَذَا ملك النَّفس للقلب وَذَاكَ ملك الْقلب للنَّفس
عَن النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله أَلا وَهِي الْقلب(4/55)
فالقلب ملك بصلاحه يصلح الْجَسَد لِأَن التَّدْبِير إِلَيْهِ وَالنَّفس تحب الْملك وتشتهيه وتباري الْقلب فَهِيَ تطلب الفرصة وَإِذا نَالَتْ تملكت على الْقلب فأفسدته وبفساده يفْسد الْجَسَد بِمَنْزِلَة أَمِير وَقع فِي الْجَيْش وخارجي قد ملك على الْبَلَد فَضَاعَت الْحُدُود وَالْأَحْكَام وَخَربَتْ الكورة وَظهر الظُّلم والعدوان والحريق والغارات فالحريق الْمعاصِي والغارات غارات كنوز الْقلب وَصَارَ الصَّدْر كُله مَعْدن الْجَهْل والشره والبطر والشهوة وَالْكبر والعلو والحرص والحسد والحقد وأخلاق الْكفْر وَقد أَمر الله عز وَجل بمجاهدة النَّفس فَقَالَ {وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده}
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجِهَاد جهادان وأفضلهما جِهَاد النَّفس
وَإِذا التقى الْقلب وَالنَّفس للمحاربة هَذَا بِجُنُود الله من الْعلم وَالْعقل والمعرفة والفهم والفطنة وَالْحِفْظ والكياسة وَحسن التَّدْبِير والحراسة فأشرقت هَذِه الْأَنْوَار واشتعلت شعاعاتها فِي النَّفس بِجُنُود الْعَدو من الْهوى والشهوة وَالْغَضَب وَالرَّغْبَة وَالْكبر والحرص وَالْمَكْر والخديعة والمدد من الزِّينَة والأفراح فاضطربا وتحاربا فَذَلِك وَقت يباهي الله تَعَالَى بِعَبْدِهِ مَلَائكَته والنصرة مَوْضُوعَة فِي ملك الْمَشِيئَة فِي حجاب الْقُدْرَة فَإِذا رأى الْهوى النُّصْرَة ذل وَانْهَزَمَ الْعَدو بجُنُوده وَأَقْبل بجمعه وَجُنُوده على النَّفس حَتَّى أسرها وحبسها فِي سجنه وَقعد أَمِيرا وَجمع جُنُوده وقواده الَّذين ذكرنَا فِي الأَصْل الْمُتَقَدّم وَهِي الْأَخْلَاق وَفتح بَاب بيُوت الْأَمْوَال والخزائن ورزق الْجنُود من الْأَمْوَال وَزَادَهُمْ من الخزائن فِي الْآلَة وَالْعدة فَهَذَا ملك الْقلب للنَّفس حِين تغْضب وَحين ترغب وَحين ترهب وَحين تشْتَهي قد خسأ شيطانها وَحرمت جوارحها على النَّار كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(4/56)
وَإِذا التقى الْقلب وَالنَّفس للمحاربة والتقى الْجَمْعَانِ كَانَت صفته كجبرئيل مَعَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم بدر وإبليس مَعَ الْكفَّار يشجعهم وَيُقَوِّي أَمرهم ويعدهم ويمنيهم فَلَمَّا رأى جبرئيل نكص على عَقِبَيْهِ هَارِبا وَقَالَ {إِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله} وَإِنَّمَا خَافَ الْأسر أَن يأسره جبرئيل فيفضحه ويريه النَّاس فهرب وَترك الْجمع
وَكَذَلِكَ الْهوى لما رأى الْمعرفَة بسلطانها قد أَقبلت وَالْعقل على مقدمتها وَالْعلم بِاللَّه مُحِيط بالعسكر والجنود نكص الْهوى على عَقِبَيْهِ وتبرأ من الْجنُود ثمَّ من بعد هَذَا ملك آخر لأولياء الله وَهُوَ أَن يحصل الْقلب فِي سُلْطَان قَبضه الله ويملكه الله ويستعمله فَإِذا تعدى فِي الظَّاهِر لم يفْسد وَلم يخرب وَلم يخبر أحد أَن يَسْتَعْمِلهُ بتغيير لِأَن ذَلِك حد الله فِي الْبَاطِن وَقد خَفِي على الْخلق وَالْحَد عِنْدهم فِي الظَّاهِر غير ذَلِك فَهَذَا قلب غلب عَلَيْهِ سُلْطَان القبضة فملكه وَاسْتَعْملهُ الله فِي قَبضته كَمَا اسْتعْمل الْخضر فِي خرق السَّفِينَة وَقتل الْغُلَام وَكَانَ ذَلِك فِي الْبَاطِن حد الله وَفِي الظَّاهِر مخفيا عِنْد الْخلق وَلذَلِك أنكرهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَهَذِهِ قُلُوب ملكهَا سُلْطَان القبضة وَتلك قُلُوب ملكهَا سُلْطَان الْحق والقلوب الَّتِي ذكرنَا بدءا ملكهَا سُلْطَان النَّفس
وَمِمَّا يُحَقّق مَا قُلْنَا مَا رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه مر بِرَجُل وَهُوَ يُقَاوم امْرَأَة فأصغى إِلَيْهِ سَمعه فَأنْكر مَا سَمعه مِنْهُ فَشَجَّهُ فجَاء الرجل إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ والدماء تسيل فَقَالَ وَيحك من فعل بك قَالَ عَليّ فَقَالَ عمر مَا هَذَا يَا أَبَا الْحسن فَقص عَلَيْهِ فَقَالَ عمر أصابتك عين من عُيُون الله إِن لله فِي الأَرْض عيُونا وَإِن عليا من عُيُون الله(4/57)
- الأَصْل الثَّالِث وَالسِّتُّونَ والمائتان
-
فِي حَقِيقَة الْفِقْه وفضيلته
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْعِبَادَة الْفِقْه وَأفضل الدّين الْوَرع
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عبد الله بِشَيْء أفضل من فقه فِي دين ولفقيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَلكُل شَيْء عماد وعماد هَذَا الدّين الْفِقْه
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين(4/58)
قَالَ أَبُو عبد الله الْفِقْه مُشْتَقّ من التفقؤ وَهُوَ انكشاف الغطاء عَن الشَّيْء يُقَال تفقأت الثَّمَرَة عَن أكمامها وتفقأ الْحبّ عَمَّا فِيهِ وفقأ عينه إِذا انخرق الْحجاب وانكشف عَن الحدقة فعلوم الْأَشْيَاء فِي الصَّدْر مجتمعة متراكمة بَعْضهَا على بعض فإحساس الْقلب من ذَلِك الْعلم هُوَ علم الْقلب أَدَّاهُ إِلَى الذِّهْن وَإِلَى الْحِفْظ عِنْد الْحَاجة كنبعان الْعين ينفجر مِنْهُ الشَّيْء بعد الشَّيْء فَمَا دَامَ هَكَذَا فَهُوَ سَاكن خامد لَا قُوَّة لَهُ فَإِذا تصور فِي الصَّدْر لعين الْفُؤَاد قوي الْقلب بذلك الَّذِي تصور فَذَلِك علم مستتر وَفِي الْقلب بَقِيَّة من الضعْف والخمود فَإِذا انْكَشَفَ الغطاء عَن الصُّورَة الَّتِي تصورت فِي الصَّدْر فَذَلِك الْفِقْه لِأَنَّهُ حِين تصور فِي الصدد أحس الْقلب بِتِلْكَ الصُّورَة علما وَلم يرهَا لِأَن الغطاء بَينه وَبَين الْعلم قَائِم وَهُوَ ظلمَة الْهوى فَهُوَ عَالم بذلك الشَّيْء يترجمه بِلِسَانِهِ ويتضمنه بحفظه وتمثل صورته لعقله وَلَيْسَت لَهُ قُوَّة ينْتَصب قلبه لذَلِك ويتشمر لفعله ويطمئن إِلَيْهِ حرارة الْعلم وقوته
فَإِذا انْكَشَفَ الغطاء عَن تِلْكَ الصُّورَة الَّتِي صورها عقله صَار عيَانًا للفؤاد فَيُقَال لذَلِك العيان علم الْيَقِين قَالَ الله تَعَالَى {كلا لَو تعلمُونَ علم الْيَقِين لترون الْجَحِيم ثمَّ لترونها عين الْيَقِين} فعين الْيَقِين يَوْم الْقِيَامَة وَعلم الْيَقِين فِي الدُّنْيَا فِي الصَّدْر فَسَماهُ رُؤْيَة ليعلم أَن هَذِه رُؤْيَة عين الْفُؤَاد وَتلك فِي الْآخِرَة رُؤْيَة عين الرَّأْس(4/59)
فَهَذَا الَّذِي انْكَشَفَ لَهُ الغطاء وانفقأ الْحجاب عَن مَكْنُون الْعلم أبْصر بِعَين الْفُؤَاد صُورَة ذَلِك الشَّيْء المعبأ فَسمى ذَلِك فقها وَإِنَّمَا هُوَ فِي الأَصْل فقىء الْيَاء مَهْمُوزَة فأبدلت بِالْهَمْزَةِ هَاء فَقيل فقه قَالَ الله تَعَالَى فِيمَا يَحْكِي عَن قَول شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قوم يَا قوم بَقِيَّة الله خير لكم {وَيَا قوم اسْتَغْفرُوا ربكُم} وَيَا قوم لَا يجرمنكم شقاقي
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ذكر شعيبا عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول ذَاك خطيب الْأَنْبِيَاء لحسن دُعَائِهِ قومه ومراجعته وتلطفه فِي الدعْوَة فَقَالَ فِي آخر ذَلِك قَالُوا يَا شُعَيْب مَا نفقه كثيرا مِمَّا تَقول
فَمن فقه قلبه مَا يُقَال لَهُ تبين عَلَيْهِ أَثَره فَهَؤُلَاءِ الَّذين انتحلوا هَذَا الرَّأْي وَأَكْثرُوا فِيهِ الْخَوْض سموا هَذَا فقها وخيل إِلَيْهِم أَن هَذَا هُوَ الَّذِي مَا عبد الله بِمثلِهِ وَهُوَ هَذِه الْمسَائِل الَّتِي عِنْدهم فَقَط وَلَا يعلمُونَ أَن أستاذيهم تكلمُوا بهَا ثمَّ قَالُوا وَدِدْنَا أَنا نجونا مِنْهَا كفافا لَا لنا وَلَا علينا مثل إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْحسن وَابْن سِيرِين رَحِمهم الله فِي زمانهم وَأبي حنيفَة وسُفْيَان وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك رَحِمهم الله فِي زمانهم فَكل تمنى الْخَلَاص مِنْهُ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ وَهَؤُلَاء أَعرضُوا عَن سَائِر الْعُلُوم الَّتِي حَاجَة النَّاس إِلَيْهَا فِي كل وَقت وَصَارَ هَذَا النَّوْع فتْنَة لَهُم فتراه طول الدَّهْر يَقُول يجوز وَلَا يجوز يدْخل فِيمَا بَينه وَبَين عباده مَعَ الْحيرَة فِي ذَلِك وَلَا يدْرِي أصواب هُوَ أم خطأ ثمَّ ترَاهُ فِي خَاصَّة أمره وَدينه عوج كُله فإقباله على نَفسه حَتَّى يكف مِنْهَا مَا لَا يجوز خير لَهُ من إهماله نَفسه وإقباله على إصْلَاح النَّاس ذَلِك ليعلم أَنه مفتون وَكَانَ(4/60)
المتقدمون أولى بالشفقة على الْأمة والحرص على الدّين والنصيحة لله فشغلهم إصْلَاح أنفسهم عَن الْخَوْض فِي هَذِه الْأَشْيَاء حَتَّى يلهيه عَن عُيُوب نَفسه وَيُقَال لهَذَا المعجب إِن كَانَت هَذِه الْفَضَائِل لمن تفقه فِي هَذَا النَّوْع الْوَاحِد وَكَيف إِذا فقهت كَلَام رب الْعَالمين الَّذِي أدب بِهِ عبيده ووعظهم وَعطف بِهِ عَلَيْهِم كي يجعلهم غَدا ملوكا فِي دَار السَّلَام
فَمن فقه عَن الله عز وَجل قَوْله {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} أمسك عَن الصَّغِير وَالْكَبِير والدقيق والجليل من الشَّرّ وَلم يستحقر مَا دق من الْخَيْر وَصغر وَلم يستهن بِهِ وأمات هَذَا الْوَعيد من نَفسه البطالات كلهَا أَلا ترى إِلَى الْأَعرَابِي الَّذِي سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه السُّورَة قَامَ وَركب رَاحِلَته وَقَالَ حسبي حسبي وَمر على وَجهه فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقه الْأَعرَابِي فَهَكَذَا يكون الْفِقْه
وَمن فقه مَا فِي السُّورَة من شَأْن الأَرْض وأخبارها عَن السرائر وَذكر الصَّدْر من بَين يَدي الله {أشتاتا ليروا أَعْمَالهم} ثمَّ وجد أَعماله موزونة بمثاقيل الذَّر من الْخَيْر وَالشَّر كَيفَ لَا يكون هَذَا حَسبه فِيمَا بَينه وَبَين الله
وَمن فقه عَن الله قَوْله عز وَجل {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة} الْآيَة فَكيف لَا يكون هَذَا حَسبه فِيمَا بَينه وَبَين الْعباد حَتَّى ينصف الْخلق من نَفسه وَيُؤَدِّي إِلَى كل ذِي حق حَقه من نَفسه وَمَاله
وَمن فقه عَن الله قَوْله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله}(4/61)
رزقها) الْآيَة كَيفَ لَا يكون هَذَا حَسبه فِيمَا بَينه وَبَين معاشه وَلَا يخرج هم الرزق من قلبه حَتَّى يَثِق بربه ويطمئن إِلَى ضَمَانه
وَمن فقه عَن الله قَوْله عز وَجل وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه كَيفَ لَا يكون هَذَا حَسبه من الثِّقَة بخلفه حَتَّى لَا يجد فِي وَقت الْإِنْفَاق ضيقا فِي صَدره وَلَا حرارة فِي نَفسه
وَمن فقه عَن الله قَوْله عز وَجل {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء} الْآيَة كَيفَ لَا يكون هَذَا حَسبه فِي نُزُوله على مَا اخْتَار لَهُ ربه حَتَّى يلهو عَن حب هَذِه الشَّهَوَات ويتشمر فِي طلب الَّذِي أعلمهُ الله أَنه خير من ذَلِك
وَمن فقه عَن الله عز وَجل قَوْله {إِنَّا جعلنَا مَا على الأَرْض زِينَة لَهَا لنبلوهم أَيهمْ أحسن عملا} و {إِنَّا لَا نضيع أجر من أحسن عملا} {إِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} كَيفَ لَا يكون هَذَا حَسبه فِي مُعَامَلَته ربه حَتَّى ينكمش فِي الْإِحْسَان
وَمن فقه عَن الله عز وَجل قَوْله {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} كَيفَ لَا يكون هَذَا حَسبه حَتَّى يعلم أَنه خلق للعبودة وَأَن عبودته فِي جَمِيع حركاته كلهَا فَإِن كَانَت حركاته مِمَّا حسنها الله فِي تَنْزِيله وعَلى أَلْسِنَة رسله فقد عَبده وَإِن كَانَت سَيِّئَة فقد ترك عبودته(4/62)
وَمن فقه عَن الله تَعَالَى قَوْله {مَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} كَيفَ لَا يكون هَذَا حَسبه حَتَّى تهون عَلَيْهِ المصائب كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا قاصصتك بِهَذِهِ الْمُصِيبَة بِشَيْء يسير من ذنوبك حَتَّى أنبهك من رقدتك
وَمن فقه عَن الله قَوْله عز وَجل {وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يردك بِخَير فَلَا راد لفضله} كَيفَ لَا يكون هَذَا حَسبه حَتَّى يَنْقَطِع رجاؤه عَن المخلوقين وَيصير حرا من رق نَفسه وَمن تبصبص خلقه وتخلص من تعيير الله حَيْثُ عير الْمُنَافِقين فَقَالَ {لَأَنْتُم أَشد رهبة فِي صُدُورهمْ من الله ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ} برِئ من الْفِقْه من كَانَ رهبته من المخلوقين غالبة على رهبته من الله
وَقَالَ عز وَجل فِي الْمُنَافِقين {هم الَّذين يَقُولُونَ لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا وَللَّه خَزَائِن السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يفقهُونَ} فَمن رأى حَاجته ورزقه من الدُّنْيَا بيد الْخلق دون الله حَتَّى يضيع حُقُوقه ويداهن فِي دينه فقد برأه الْقُرْآن من الْفِقْه
وَمن فقه عَن الله عز وَجل قَوْله {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} كَيفَ لَا يكون هَذَا حَسبه حَتَّى يعلم أَن الله عز وَجل أكْرمه بغاية الْكَرَامَة فَلَو أَن ملكا كتب إِلَى عبد من عبيده ارْفَعْ إِلَيّ حوائجك لامتلأ سُرُورًا واتكل على هَذَا الْكتاب مَعَ أَنه عبد مثله لَا يقدر على شَيْء فِي الْحَقِيقَة(4/63)
فَهَذَا كتاب رب الْعَالمين ينْطق بِأَن الله تَعَالَى قَالَ هَذَا وَلم يُخرجهُ مخرج الْأَمر وَلَكِن أبرزه فِي معرض القَوْل فَقَالَ {وَقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} فَمن يعلم مَا فِي حَشْو هَذِه الْكَلِمَة اشتفى بِهِ ثمَّ إِذا دَعَا دَعَا على يَقِين من الْإِجَابَة ثمَّ ينْتَظر الْوَقْت كَمَا قَالَ الله لمُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام {قد أجيبت دعوتكما فاستقيما وَلَا تتبعان سَبِيل الَّذين لَا يعلمُونَ} أَي أَن سَبِيل الَّذين لَا يعلمُونَ الاستعجال
وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يزَال العَبْد بِخَير مَا لم يستعجل ربه قيل كَيفَ يستعجل ربه يَا رَسُول الله فَقَالَ يَقُول دَعَوْت فَلم تستجب لي
فَهَل استعجاله إِلَّا من قلَّة فقهه لَا يعي أَن ربه قد خار لَهُ حِين يَأْتِي وقته فيعطيه أَكثر مِمَّا سَأَلَ
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِذا دَعَا العَبْد قَالَ الله تَعَالَى يَا جبرئيل احْبِسْ حَاجَة عَبدِي فَإِنِّي أحب صَوته وَقد أَجَبْته إِلَى مَا سَأَلَ
فَإِذا فقه هَذَا لم يستبطئ إجَابَته وَلم يستعجل ربه فالفقه فِي هَذَا لَا فِي تِلْكَ المخاتلات والخدائع الَّتِي يجدهَا العبيد الاباق فِي سيرهم إِلَى الله(4/64)
فِي مَعَايشهمْ من نهب الدُّنْيَا حرصا وجمعا وتضييعا لدين الله وَرُبمَا يكون صَاحب هَذَا مِمَّن خدعته نَفسه فَيَقُول أَنا أشتغل بتسوية أُمُور النَّاس فيهمل أَمر نَفسه لمحبة أَن ينزل الْخلق كلهم على قَوْله ويصدروا عَن مشيئآته فَإِذا هُوَ جَبَّار عَاتٍ قد رمي بالعبودة وتشبه بالأرباب فِي تَسْوِيَة أُمُورهم على الاقتدار(4/65)
- الأَصْل الرَّابِع وَالسِّتُّونَ والمائتان
-
فِي سر غفرانك بعد الْفَرَاغ
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج من الْخَلَاء قَالَ غفرانك
قَوْله غفرانك طلب الْمَغْفِرَة على قالب فعلان وَهُوَ أعظم القوالب وأوفرها كَأَنَّهُ طلب الْمَغْفِرَة الوافرة لِأَنَّهُ نظر إِلَى أَمر عَظِيم وَذَلِكَ أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام عجن الله طينته وخمرها وصوره وخلقه بِيَدِهِ وَنفخ فِيهِ من روحه
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلق الله آدم عَلَيْهِ السَّلَام من تُرَاب وعجنه بِمَاء من مَاء الْجنَّة فَلم يكن يصلح لَهُ مَكَان يَلِيق بِهِ من هَذِه المكارم إِلَّا دَاره فَتوجه وكلله وختمه بِخَاتم الْملك وكساه ونظفه وَوَضعه على سَرِير هُوَ وَزَوجته وَأمر مَلَائكَته بحملها إِلَى دَاره وَلم يَزَالَا فِي دَاره طاهرين بِاللَّه فرحين مسرورين(4/66)
مكرمين حَتَّى إِذا جَاءَ وَقت الشقوة وَغلب الْقَضَاء وَالْقدر على جَمِيع مَا أعطاهما وخلص الْعَدو إِلَيْهِمَا فأكلا بِأَمْر الْعَدو وَصَارَت تِلْكَ الْأكلَة فرْصَة إِبْلِيس مِنْهُمَا والمأكول حَظه مِنْهُمَا فصارا عاريين من جَمِيع هَذِه الكرامات وَأَخْرَجَا مذمومين وَصَارَ مُسْتَقر تِلْكَ الْأكلَة سُلْطَان إِبْلِيس ومملكته وَالشَّيْء الْمَأْكُول منتنا وَإِنَّمَا أنتن لكينونة الْعَدو ونجاسته وكفره فِيهَا فَكلما ظهر من ذَلِك الْموضع بَوْل أَو غَائِط أَو ريح أَمر بِالْوضُوءِ وَغسل ذَلِك الْمَكَان فالوضوء من توضئة الْأَعْضَاء الَّتِي هِيَ جَوَانِب الْجَسَد حَتَّى تصير وضيئة فَإِنَّمَا لاحظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين خرج من الْخَلَاء ذَلِك الَّذِي حل بِأَبِيهِ فورثه عَنهُ فَظهر ذَلِك عَلَيْهِ فالتجأ إِلَى عَظِيم الْمَغْفِرَة فَقَالَ غفرانك أَي إِنَّمَا القينا من تِلْكَ الْخَطِيئَة فَلَو أَن رجلا وقف تَحت ميزاب الْكَعْبَة حَتَّى جرى من الْمِيزَاب فَتَلقاهُ نغبة من المَاء الَّذِي نزل من السَّمَاء وَلم يمازجه شَيْء من الدُّنْيَا فَدخل جَوْفه ثمَّ خرج من هَذِه المخارج لأمر بِالْغسْلِ وَالْوُضُوء وَحكم لَهُ بِحكم النَّجَاسَة لِأَن هَذَا المَاء صَار إِلَى الْمعدة فِي مجاورة الْعَدو الَّذِي جعل لَهُ السَّبِيل إِلَى الْآدَمِيّ
كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الشَّيْطَان يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم قَالُوا ومنك يَا رَسُول الله قَالَ ومني إِلَّا أَن الله أعانني عَلَيْهِ فَأسلم
فمستقره تَحت الْمعدة على مطحن الْعلف ثمَّ يجْرِي مَعَ الدَّم فِي الْعُرُوق سُلْطَانه فالمتنبه إِذا دخل الْخَلَاء وأحس حَيَاة قلبه بِمَا يخرج مِنْهُ إستحيا وَعرف أَن هَذَا مِيرَاث تِلْكَ الْخَطِيئَة وَذكر بَدو أمره وَأَنه بِسَبَب تِلْكَ الْخَطِيئَة ألقِي إِلَى الدُّنْيَا وقارف غَيرهَا من الْخَطَايَا فالتجأ إِلَى سُؤال الغفران
وَلذَلِك كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنع رَأسه(4/67)
عَن حبيب بن صَالح رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا دخل الْمرْفق لبس حذاءه وغطى رَأسه
وَرُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ إِنِّي لأدخل الكنيف فأقنع رَأْسِي حَيَاء من الله تَعَالَى
فَهَذِهِ مُلَاحظَة الرُّسُل والأنبياء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام وَأما الْعَامَّة فهم لَا يرَوْنَ هَذَا بقلوبهم وَلَا يعرفونه وَإِنَّمَا أدبوا بِالْحَمْد أَن يَقُولُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عني الْأَذَى وعافاني فَردُّوا إِلَى حَال النَّفس ونعمة الله عَلَيْهِم
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَى الْخَلَاء قَالَ اللَّهُمَّ أذهب عني الرجس النَّجس الْخَبيث المخبث الشَّيْطَان الرَّجِيم فَإِذا خرج من الْخَلَاء قَالَ الْحَمد لله الَّذِي أذهب عني الْأَذَى وعافاني
فَهَذَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بَينه وَبَين الْأمة فَأَما الْكَلِمَة الأولى فَفِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى
وَكَذَلِكَ شَأْن الكبراء كَلَامهم فِي الْبَاطِن مَعَ الله تَعَالَى غير كَلَامهم فِي الظَّاهِر
قَالَ لَهُ قَائِل مثل مَاذَا قَالَ فِي الظَّاهِر مَعَ الْخلق يَقُولُونَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَفِي الْبَاطِن مَعَه يَقُولُونَ لَا إِلَه إِلَّا الله فَقَط وَفِي الظَّاهِر(4/68)
يَقُولُونَ الْحَمد لله الَّذِي أَطْعمنِي وسقاني وأشبعني وأرواني وكساني وَلَو شَاءَ أجاعني وأظمأني وأعراني وَفِي الْبَاطِن يَقُول الْحَمد لله فَقَط وَفِي الظَّاهِر يَقُولُونَ مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لَا يَشَاء لَا يكون وَفِي الْبَاطِن يَقُولُونَ مَا شَاءَ الله ينشرون مَعَ الْخلق عَن الله تَعَالَى ذكر ربوبيته والهيته وصنائعه ليَكُون ذَلِك منشورا مَشْهُورا وَفِي الْبَاطِن إِذا قَالُوا لَا إِلَه إِلَّا الله بقيت قُلُوبهم فِي الوهيته وَلَا يلتفتون إِلَى شرك الشُّرَكَاء فَإِن الْقُلُوب الوالهة يصعب عَلَيْهَا الِالْتِفَات إِلَى غَيره وَكَذَلِكَ فِي الْحَمد إِذا رفعوا الْحَمد إِلَيْهِ بقلوبهم صَعب عَلَيْهِم أَن يلتفتوا إِلَى النِّعْمَة وَكَذَا فِي الْمَشِيئَة إِذا وَقَعُوا فِي بحرها ارْتَفع عَنْهُم ذكر كَانَ وَيكون
وَعَن ابْن مقَاتل رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ ابْن سِيرِين رَحمَه الله إِذا خرج من الكنيف فَلم يره أحد خر سَاجِدا باكيا بِمَا أنعم الله عَلَيْهِ أَن سهل لَهُ خُرُوج الْأَذَى(4/69)
- الأَصْل الْخَامِس وَالسِّتُّونَ والمائتان
-
فِي سر الْعَمَل وعلانيته
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله إِنِّي كنت أُصَلِّي فِي بَيْتِي فَأسرهُ فَاطلع عَليّ رجل فَأَعْجَبَنِي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَك أَجْرَانِ أجر السِّرّ وَأجر الْعَلَانِيَة
قَالَ أَبُو عبد الله هَذَا رجل نَاصح الله فِي خلقه أسر الْعَمَل لَا عَن ضعف يَقِين وَلَكِن خلا بربه يناجيه فَلَمَّا اطلع عَلَيْهِ أعجبه رُؤْيَته إِيَّاه كي ينتدب لمثله ويقتدي بِهِ وَلم تعْمل فِيهِ رُؤْيَته فتتحرك من نَفسه شَهْوَة الْمَدْح لقُوَّة يقينه(4/70)
وَرُوِيَ معمر عَن زيد رَفعه إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير أَعمالكُم الَّتِي تحبون أَن يعلم بهَا قَالَ زيد وَالَّذِي يكتمها ليسلم رَفعه زيد إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقد أثنى الله عز وَجل على قوم فسماهم عباد الرَّحْمَن وَبَين أَن مثواهم غرف الْجنَّة وَعدد خصالهم الَّتِي أثنى بهَا عَلَيْهِم ثمَّ حكى عَن دُعَائِهِمْ قَوْله تَعَالَى {هَب لنا من أَزوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أعين واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا}
سَأَلُوهُ أَن يجعلهم أَئِمَّة لمن يَقْتَدِي بهم فَلَا يكون أَمر هَذَا مكتوما وَكَيف يؤتم بِهِ إِن أسر الْعَمَل فَهَؤُلَاءِ نصحاء الله وَالدُّعَاء إِلَى الله يدعونَ إِلَى الله بأقوالهم وبأفعالهم الَّتِي يظهرونها على أعين الْخلق يحدون الْخلق على ذَلِك وَإِنَّمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة لَك أَجْرَانِ أجر السِّرّ وَأجر الْعَلَانِيَة لِأَنَّهُ نوى بالسر أمرا وبالعلانية أمرا وَلَو لم يكن هَكَذَا لم يكْتب لَهُ أَجْرَانِ فَإِنَّهُ لَا أجر لمن لَا نِيَّة لَهُ فَهَذَا عبد نوى أَن يسر بِعَمَلِهِ ليخلو بربه كي لَا يشكره عَلَيْهِ أحد غَيره ثمَّ لما اطلع عَلَيْهِ نوى أَن ينْتَفع بِهِ غَيره بِأَن يَقْتَدِي بِهِ فالسر مضاعف على الْعَلَانِيَة بسبعين ضعفا وَعَلَانِيَة هَذَا مضاعفة على سره بسبعين ضعفا لِأَن سره خلوه بربه كَيْلا يشكره عَلَيْهِ أحد غير ربه وإعلانه نصحه لَهُ فِي عباده لَيْسَ لَهُ فِي وَقت سره الْتِفَات إِلَى مدح النَّاس فيهرب مِنْهُ وَلَا فِي عَلَانِيَته الْمنزلَة عِنْد النَّاس
وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السِّرّ أفضل من الْعَلَانِيَة وَالْعَلَانِيَة أفضل لمن أَرَادَ بِهِ الِاقْتِدَاء(4/71)
وَإِنَّمَا صَار عمل السِّرّ مضاعفا على الْعَلَانِيَة بسبعين ضعفا من جِهَات فجهة مِنْهَا إِن الَّذِي يسرها إِنَّمَا أسرها ليصفو لَهُ لِأَنَّهُ إِذا أحست نَفسه بشعور النَّاس بِهِ علمت أَنه ينَال بذلك عِنْد الْخلق رفْعَة وكرامة وَصَارَت لَهُ من الْقلب منزلَة تقضي حَوَائِجه ويعظم فرحت بذلك فَإِذا هُوَ يطْلب الْجَزَاء من الله تَعَالَى وَالثَّوَاب من الْخلق فَهَذَا الَّذِي فِي نَفسه هَذِه الْفِتْنَة كائنة يُجَاهد نَفسه فِي وَقت الْعَمَل إِذا أعلن بِهِ حَتَّى يُنكر عَلَيْهَا ذَلِك وَلَا يرضى وَلَا يقبل مِنْهَا هَذِه الوساوس فَإِن أغفل المجاهدة طرفَة عين وجد نَفسه فِي عين هَذِه الْفِتْنَة فَصَاحب هَذَا ضَعِيف الْيَقِين وَإِذا هرب من الإعلان فَأسرهُ ضوعف لَهُ عمله بسبعين ضعفا لِأَنَّهُ يفرغ لله قلبه من أشغال النَّفس فَإِذا أعلنها نصحا لله تَعَالَى فِي عباده وحبا لِأَن يعبده الْخلق صَار السبعون مضاعفا الضعْف الَّذِي لَا يُحْصِيه إِلَّا الله تَعَالَى
فَإِذا لم يكن من رجال الإعلان وَلم يبلغ قلبه من الْمنَازل محلا تَمُوت فتْنَة نَفسه ويفتقد مِنْهَا حب الْمَدْح من الْخلق وَفَرح الرياسة والعلو أمسك عَن الإعلان وأسره وَصفا الْعَمَل لصَاحبه بِتِلْكَ النِّيَّة الصادقة وسلمت النِّيَّة بِمَا أسره فَهَذَا الْوَجْه للمقتصدين
وَوجه آخر للسابقين المقربين فَإِذا أسر الْعَمَل إِنَّمَا يسره ليخلو بربه فِي تِلْكَ الطَّاعَة فَإِن الله تَعَالَى مَوْجُود بِكُل مَكَان وَفِي كل طَاعَة فَإِذا أسر الْعَمَل وخلا بربه برز لَهُ وجوده فِي صَدره بَين عَيْني فُؤَاده فَمن يقدر أَن يصف ذَلِك البروز وَتلك الْحَلَاوَة وَذَلِكَ الطّيب وَمن يقدر أَن يصف تصور الْقلب فِي أَحْوَاله وهشاشة النَّفس فِي أحوالها وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ سَأَلَهُ جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَا الْإِيمَان وَمَا الْإِسْلَام وَمَا الْإِحْسَان فَأَجَابَهُ فِي كل مَسْأَلَة وَقَالَ فِي الْإِحْسَان أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك قَالَ فَإِذا فعلت ذَلِك فَأَنا محسن قَالَ نعم قَالَ صدقت قَالَ فعجبنا من تَصْدِيقه لَهُ لأَنهم لم يعرفوا(4/72)
أَنه جِبْرَائِيل حَتَّى أخْبرهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد ذَلِك
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه لحقه ابْن الزبير فِي الطّواف فَخَطب إِلَيْهِ ابْنَته وَلم يكلمهُ ابْن عمر فَلَمَّا قدما الْمَدِينَة ولقيه عُرْوَة قَالَ لَهُ ابْن عمر إِنَّك كَلَّمتنِي فِي الطّواف بِمَا كَلَّمتنِي وَإِنَّا كُنَّا نتراءى الله بَين أَعيننَا فَهَل لَك فِيمَا سَأَلت قَالَ نعم فَزَوجهُ
وَعَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ كنت جَالِسا فِي الْمَسْجِد فَدخل رجل فَقَرَأَ قِرَاءَة أنكرتها عَلَيْهِ ثمَّ جَاءَ آخر فَقَرَأَ سوى قِرَاءَة صَاحبه فَلَمَّا انصرفا دَخَلنَا جَمِيعًا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرته بذلك فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للرجل إقرأ فَقَرَأَ ثمَّ قَالَ للْآخر إقرأ فَقَرَأَ فَقَالَ أحسنتما أَو أصبْتُمَا فَلَمَّا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد حسن قراءتهما سقط فِي نَفسِي وودت أَنِّي كنت فِي الْجَاهِلِيَّة فَلَمَّا رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا غشيني ضرب بِيَدِهِ فِي صَدْرِي ففضت عرقا وَكَأَنِّي أنظر إِلَى الله فرقا فَقَالَ يَا أبي إِن رَبِّي أرسل إِلَيّ أَن أَقرَأ الْقُرْآن على حرف فَرددت إِلَيْهِ أَي رب هون على أمتِي فَرده إِلَيّ الثَّانِيَة أَن إقرأ على حرفين فَقلت يَا رب هون على أمتِي فَرده إِلَيّ الثَّالِثَة إِن إقرأه على سَبْعَة أحرف وَلَك بِكُل ردة رَددتهَا مَسْأَلَة تسألينها فَقلت اللَّهُمَّ إغفر لأمتي مرَّتَيْنِ وأخرت الثَّالِثَة إِلَى يَوْم يرغب إِلَيّ فِيهِ الْخلق حَتَّى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام(4/73)
وَعَن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد رَضِي الله عَنهُ رَفعه إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة حَارِثَة حَيْثُ قَالَ لَهُ كَيفَ أَصبَحت يَا حَارِثَة قَالَ مُؤمنا حَقًا قَالَ مَا حَقِيقَة إيمانك قَالَ كَأَنِّي أنظر إِلَى الله فَوق عَرْشه هَذَا فِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ فِي حَدِيثه كَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا
رَجعْنَا إِلَى ذكر صفة السَّابِقين المقربين إِنَّه إِذا أسر الْعَمَل خلا بربه فِي الْعَمَل فبرز لَهُ وجوده على الْقلب فِي الصَّدْر وَالْأول المقتصد أسر الْعَمَل فَخَلا بِطَاعَتِهِ وعبودته لَا بربه فبرز لَهُ توحيده على قلبه فِي صَدره
فالمقتصد يتَوَلَّى تربية عمله التَّوْحِيد وَالسَّابِق يتَوَلَّى تربية عمله ربه الْجواد الْكَرِيم فَإِذا أسر السَّابِق الَّذِي هَذِه صفته عملا من أَعماله فَإِنَّمَا يسره ليخلو بربه فيجده فِي الْعَمَل وَذَلِكَ قَول عَامر بن عبد قيس مَا نظرت إِلَى شَيْء إِلَّا رَأَيْت الله أقرب مِنْهُ وَقَول مُحَمَّد بن وَاسع مَا نظرت إِلَى شَيْء إِلَّا رَأَيْت الله فِيهِ فقد تبَاين قولاهما مَعَ رفْعَة قوليهما وجلالة حظيهما فِي الْقَوْلَيْنِ فَإِذا وجده السَّابِق فِي الْعَمَل عمل على مُشَاهدَة الْقلب فَعَظمهُ وَحسنه وَبَالغ فِيهِ ثمَّ جعله من وَرَاء ظَهره فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسره من أجل شَيْئَيْنِ أَحدهمَا أَنه يُرِيد أَي يُطْفِئ نَار شوقه إِلَى ربه بِوُجُودِهِ فِي الْعَمَل لِأَنَّهُ إِذا وجده فَأول مَا يلاقي قلبه برد الرَّحْمَة وقرة الْعين فَإِذا قرت عينه وناله برد الرَّحْمَة انطفت نَار الشوق وسكنت فَهَذَا وَجه(4/74)
وَوجه آخر أَن عين قلبه مَادَّة إِلَى جَلَاله وعظمته يسْأَل بذلك نزاهة الْيَقِين فَيَزْدَاد حَيَاة بِاللَّه وَلم يسره يُرِيد بذلك تصفيته مِمَّا يخالط من فتْنَة النَّفس لِأَن نفس هَذَا قد مَاتَت وافتقدت وساوسها قَالَ لَهُ قَائِل هَذَا لم لم يعلن الْعَمَل حَتَّى يَقْتَضِي بِهِ الْخلق قَالَ صَاحب هَذَا قد لَهَا عَن الثَّوَاب وَوَلِهَ بالماجد الْكَرِيم
وَمن وَجه آخر يسره يُرِيد بذلك أَن يغيبه عَن أعين الْخلق فَإِنَّهُم إِذا رَأَوْا صَلَاة وصوما وَصدقَة رَأَوْا زِينَة وبهاء وزهدا ونزاهة وسخاء فأكرموه وعظموا مَنْزِلَته فَإِنَّمَا يسر أَعماله لِئَلَّا يكْتَسب بهَا من الْخلق هَذِه الْمنزلَة غيرَة لرَبه
وَإِذا أسرها من هَذَا الْوَجْه كَانَ مِمَّن يباهي الله بِهِ مَلَائكَته وَقَالَ هَذَا عَبدِي حَقًا وَلم يكن الله ليباهي بِهِ ويثني عَلَيْهِ ثمَّ لَا يفِيدهُ شَيْئا وَأول مَا يفِيدهُ أَن ينشر ثَنَاؤُهُ الَّذِي أثنى بِهِ عَلَيْهِ فِي مَلَائكَته على قُلُوب أهل الأَرْض حَتَّى ينْظرُوا إِلَيْهِ بِتِلْكَ الْعين وتتناسم الْأَرْوَاح بِرُؤْيَتِهِ وتتباشر الْقُلُوب بلقائه وتلتذ الْعُيُون الشاخصة بِالنّظرِ إِلَيْهِ
قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِذا كَانَ يَوْم صَوْم أحدكُم فليدهن شَفَتَيْه وَإِذا تصدق فليخف يَمِينه عَن شِمَاله وَإِذا صلى فليدل على بَابه ستره فَإِن الله تَعَالَى يقسم الثَّنَاء كَمَا يقسم الرزق
فَهَذِهِ وُجُوه إسراره للْعَمَل
وَإِذا أعلنه فَإِنَّمَا يعلنه حبا لِأَن يعبد الله فِي أرضه بِمثل مَا يعبده نصيحا لله فِي ذَاته وَفِي دينه وَفِي كِتَابه وَرَسُوله وخلقه
وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا إِن الدّين هُوَ النَّصِيحَة ثَلَاث مَرَّات(4/75)
قيل لمن قَالَ لله ولكتابه وَلأمة الْمُسلمين وعامتهم رَوَاهُ تَمِيم الدَّارِيّ
فنصيحته لله من ذَاته أَن تكون عينه مَادَّة إِلَى عَظمَة الله وَفِي دينه إِلَى حسن تَدْبيره وَفِي كِتَابه إِلَى الْعَمَل بِمَا فِيهِ وَفِي رَسُوله إِلَى إتباعه وَفِي الْعَامَّة إِلَى حملهمْ على مَا فِيهِ نجاتهم
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خِيَار عباد الله الَّذين يحببون الله إِلَى عباده وَيُحَبِّبُونَ الْعباد إِلَى الله ويمشون لله فِي الأَرْض نصحا
قَوْله يحببون الله إِلَى عباده أَي يذكرونهم آلَاء الله ونعمه وإحسانه وَيُحَبِّبُونَ الْعباد إِلَى الله أَي يأمرونهم بِالطَّاعَةِ حَتَّى يطيعوه فيحبهم ويمشون لله فِي الأَرْض دعاة إِلَى الله وَإِلَى دينه فالدعاة إِلَى الله دأبهم فِي شهرهم ودهرهم أَن يعلنوا الْخَيْر كي يَقْتَدِي النَّاس بهم وَلذَلِك أثنى الله تَعَالَى على من سَأَلَهُ فَقَالَ {واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا}
وَإِذا أَسرُّوا فَالْوَجْه الَّذِي وَصفنَا فهم على مفرق الطَّرِيقَيْنِ وهم على كلا الطَّرِيقَيْنِ مستقيمون وجيهون عِنْد الله
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لما خلق الله الأَرْض جعلت تميد فخلق الْجبَال فَألْقى عَلَيْهَا فاستقرت فتعجبت الْمَلَائِكَة من شدَّة الْجبَال فَقَالَت يَا رب هَل من خلقك شَيْء(4/76)
أَشد من الْجبَال قَالَ نعم الْحَدِيد قَالَت يَا رب هَل من خلقك شَيْء أَشد من الْحَدِيد قَالَ نعم النَّار قَالَت يَا رب هَل من خلقك شَيْء أَشد من النَّار قَالَ نعم المَاء قَالَت يَا رب هَل من خلقك شَيْء أَشد من المَاء قَالَ نعم التُّرَاب قَالَت يَا رب هَل من خلقك شَيْء أَشد من التُّرَاب قَالَ نعم الرّيح قَالَت يَا رب هَل من خلقك شَيْء أَشد من الرّيح قَالَ نعم الْإِنْسَان يتَصَدَّق بِيَمِينِهِ يخفيه من شِمَاله هَذِه رِوَايَة أنس رَضِي الله عَنهُ
وروى عَليّ رَضِي الله عَنهُ هَذَا الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ عِنْدَمَا بلغ ذكر خلق الْإِنْسَان فِي هَذَا الحَدِيث ثمَّ خلق الْإِنْسَان يغلب الرّيح يتقيها بِيَدِهِ ثمَّ خلق النّوم يغلب الْإِنْسَان ثمَّ خلق الْهم يغلب النّوم فأشد خلق رَبك الْهم
فَحَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ مُوَافق لحَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ لِأَنَّهُ إِذا صَار يتَصَدَّق سرا يخفي ذَلِك السِّرّ بِيَمِينِهِ من شِمَاله كَانَ قَوِيا وَهَذَا تَمْثِيل فاليمين هِيَ الْقلب وَالشمَال هِيَ النَّفس أَلا ترى أَن الطَّاعَة تخرج من إِيمَان الْقلب والمعاصي من شهوات النَّفس فَتَأْوِيل هَذِه الْكَلِمَة عندنَا الَّذِي قَالَ يتَصَدَّق بِيَمِينِهِ يخفيها من شِمَاله أَي يتَصَدَّق بِقَلْبِه ويخفيها من نَفسه فالإيمان فِي الْقلب والهوى فِي النَّفس فَإِذا أخفاها من الْهوى فَهَذَا الْإِنْسَان يغلب الرّيح يتقيها بِيَدِهِ كَمَا وَصفه عَليّ رَضِي الله عَنهُ لِأَن الْهوى تنفس النَّار فَهُوَ ريح يخرج مِنْهَا فتمر بِبَاب النَّار فَتحمل الشَّهَوَات إِلَى الْآدَمِيّ إِلَى الْموضع الَّذِي قد ركب فِي الْآدَمِيّ من تِلْكَ الشَّهْوَة حَتَّى يثيرها فيشتغل فِي الْعُرُوق وَيَأْخُذ الْقلب فمرجع الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى شَيْء وَاحِد وَهُوَ أَن يعْمل عملا مبتدأه من الْإِيمَان من الْقلب فيسره من الْهوى وإسراره أَن لَا يلْتَفت إِلَيْهِ حَتَّى يعجب بِهِ أَو يرى لنَفسِهِ عملا فيتكل عَلَيْهِ وَإِذا تعلق بِالْأَعْمَالِ نزع يَده من التَّعَلُّق بِالرَّحْمَةِ فوكله الله إِلَى نَفسه وَعَمله وَمِنْهَا بَدَأَ هَلَاكه وَلذَلِك قَالَ الله(4/77)
تَعَالَى يَا دَاوُد بشر المذنبين وأنذر الصديقين قَالَ وَكَيف ذَاك يَا رب قَالَ بشر المذنبين أَن لَا يتعاظمني ذَنْب أغفره وأنذر الصديقين أَنه لَيْسَ مِنْهُم أحد أنصبه لِلْحسابِ وأقيمه على عدلي إِلَّا هلك فالملتفت إِلَى أَعماله يُرِيد أَن ينجو من ربه بِأَعْمَالِهِ وَإِذا هُوَ هلك
وَهَذَا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ أحد مِنْكُم ينجيه عمله قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمته
وَالَّذِي يغلب الرّيح هُوَ الَّذِي يغلب هَوَاهُ فِي كل بر يعْمل لله تَعَالَى وَأثر الْأُمُور عِنْده مَا ثقل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يعلم أَنه أصفى وَأَبْرَأ من هيئآت النَّفس وموردات الْهوى فَهُوَ يجْتَهد أَن يخفيه من نَفسه
فَأَما المقربون فَإِنَّهُم عمِلُوا لله كَأَنَّهُمْ يرونه فَلَو أَن أحدهم صَار لَهُ عمل الْأَوَّلين والآخرين لتلاشى فِي عينه إِذا صَار قبالة عَظمَة الله وجلاله
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ مُوَافق لحَدِيث أنس من أجل أَن النّوم فِي الظَّاهِر يغلب الْإِنْسَان وَفِي الْبَاطِن النّوم هُوَ الْغَفْلَة لَا غَفلَة الْقلب وَلَكِن غَفلَة النَّفس عَن أحوالها فِي الدُّنْيَا فَإِذا جَاءَت الْغَفْلَة نَام الْقلب عَن شهوات النَّفس وَأَحْوَالهَا وأفراحها فَإِذا جَاءَ الْهم طَار النّوم فحيى الْقلب بِاللَّه فَذَاك الْهم فِي الظَّاهِر هُوَ أَحْوَال النَّفس وَفِي الْبَاطِن هم ربه فَلذَلِك قدر أَن يتَصَدَّق بِقَلْبِه ويخفيها من نَفسه لِأَن صفته إِن قطع همه بربه عَنهُ نومَة الْغَفْلَة فَرجع الْكَلَام إِلَى مَا قُلْنَا إِن الْمُؤمن إِذا صَار(4/78)
بِهَذِهِ الصّفة كَانَ أَشد وَأقوى من الْأَرْضين وَالْجِبَال وَالْحَدِيد وَالنَّار وَالْمَاء وَالرِّيح فَهُوَ أَشد خلق ربه لِأَن ذَلِك الْهم هم النَّفس من أَحْوَال الدُّنْيَا يطرد النّوم وينفيه وهم الْقلب من أَحْوَاله فِي الملكوت يطرد عَنهُ النّوم نوم الْقلب ونوم الْعين فالهم قد غلب هَذِه الْأَشْيَاء
فَلذَلِك قَالَ ابْن مَسْعُود لعمر رَضِي الله عَنْهُمَا إِنَّا نجد أَن عمل الْمُؤمن فِي يَوْم وَاحِد أثقل من سبع سموات وَسبع أَرضين
وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا رُوِيَ عَنهُ يَا رب إِنِّي أجد صفة قوم فِي قُلُوبهم من النُّور أَمْثَال الْجبَال الرواسِي تكَاد الْبَهَائِم تَخِر لَهُم سجدا إِذا رأتهم من النُّور الَّذِي فِي قُلُوبهم قَالَ يَا مُوسَى تِلْكَ قُلُوب طوائف من أمة مُحَمَّد إِنَّمَا بلغُوا ذَلِك بِإِقْبَالِهِمْ على أنفسهم وذمهم لَهَا وَإِنَّمَا هلك من هلك من قَوْمك بالعجب بِأَنْفسِهِم
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن لله مَلَائِكَة موكلين بأرزاق بني آدم ثمَّ قَالَ لَهُم أَيّمَا عبد وجدتموه جعل الْهم هما وَاحِدًا فضمنوا رزقه السَّمَوَات وَالْأَرضين وَالطير وَبني آدم
فَأَما قَول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله يقسم الثَّنَاء كَمَا يقسم الرزق فَإِنَّمَا يقسم الثَّنَاء على الْقُلُوب على أقدار مَحل الْعباد عِنْده وَإِنَّمَا يحل الْعباد عِنْده حَيْثُ يحلونَ رَبهم عز وَجل من قُلُوبهم
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أحب أَن يعلم مَا مَنْزِلَته عِنْد الله فَلْينْظر مَا منزلَة ربه عِنْده فَإِن الله ينزل العَبْد من نَفسه حَيْثُ أنزلهُ العَبْد من قلبه
فقلوب الْخلق فِي قَبضته وَبَين اصبعين من أَصَابِعه فَيرى الْقُلُوب مَحل العَبْد من صدق العبودة حَتَّى يُحِبهُ العبيد وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى إِن الَّذين(4/79)
آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا)
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هاب الله أهاب الله مِنْهُ كل شَيْء وَمن خَافَ الله أَخَاف الله مِنْهُ كل شَيْء وَمن أحبه حببه الله إِلَى عباده وَأثْنى عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {وألقيت عَلَيْك محبَّة مني} وَقَوله تَعَالَى عِنْد ذكر أنبيائه {وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} فَإِنَّمَا ينزل الثَّنَاء على الْقُلُوب وَيظْهر السمات على الشَّخْص
قيل فِي قَوْله تَعَالَى {وألقيت عَلَيْك محبَّة} قَالَ الْحَلَاوَة والملاحة
وَعَن الزُّهْرِيّ قَالَ يعْطى الصَّادِق ثُلثي الْحَلَاوَة والمهابة والطلاوة
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قَوْله تَعَالَى {سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا} قَالَ إِن الله عز وَجل أعْطى الْمُؤمن الْمحبَّة والمقة والمهابة فِي صُدُور الصَّالِحين
وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوْلِيَاء الله الَّذين إِذا رؤوا ذكر الله(4/80)
وَرُوِيَ فِي حَدِيث آخر قَالَ مُوسَى يَا رب من أوليائك قَالَ الَّذين إِذا ذكرُوا ذكرت وَإِذا ذكرت ذكرُوا
وَقيل يَا رَسُول الله من نجالس قَالَ خياركم قيل وَمن خيارنا يَا رَسُول الله قَالَ من يذكركم بِاللَّه رُؤْيَته وَيزِيد فِي عَمَلكُمْ مَنْطِقه ويزهدكم فِي الدُّنْيَا عمله
فقسمة الرزق على التَّدْبِير فِي الْبَاطِن وَقِسْمَة الثَّنَاء على منَازِل الْعباد فِي الْبَاطِن فِي كينونتهم لَهُ عبيدا وتسليمهم إِلَيْهِ نفوسا ولأمره انقيادا ولأسمائه علما فيورثهم خشوعا وطمأنينة وثقة فَإِذا هِبته هابك الْخلق وَإِذا عَظمته عظمك الْخلق وَإِذا أحببته أحبك الْخلق وَإِذا وثقت بِهِ وثق بك الْخلق واطمأنت نُفُوسهم إِلَيْك وَإِذا أنست بِهِ أنس بك الْخلق وَإِذا نزهته نظر إِلَيْك الْخلق بِعَين النزاهة وَالطَّهَارَة يَحْكِي لقلوب الْخلق عَن قَلْبك مَا يرَاهُ من قَلْبك فَإِن شِئْت فازدد وَإِن شِئْت فانقص فَإِنَّمَا تنقص من حَظّ نَفسك فمنتهى قسْمَة الثَّنَاء أَن خلط ذكره بِذكرِهِ وَجعل على شخصه طلاوة سماته فَإِذا رَأَوْهُ ذكرُوا الله قَالَ لَهُ قَائِل وَمَا تِلْكَ السمات قَالَ سمات الحظوظ قَالَ حظوظ من مَاذَا قَالَ حَتَّى تخرج من المهد وتنفطم عَن الرَّضَاع فَعندهَا تعرف السمات إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ وَمَا المهد وَمَا الْفِطَام قَالَ الْإِنْسَان من حِين يُولد فَهُوَ رَاكب هَوَاهُ غير مفارق لشهواته ونهماته فَهُوَ فِي مهد مناه كَالصَّبِيِّ فِي المهد يُرِيد فِي كل أَمر أَن يبر ويلطف لَهُ ويعطف عَلَيْهِ وَيعْمل بهواه ويعلل كَالصَّبِيِّ ويداري ويوافق فِي شيئآته هَذَا حَاله إِلَى أَن يشيخ وَيكبر وَيدخل فِي عبودة قَبره لم يدْخل الله تَعَالَى قطّ وَلَا تولى الله قطّ ولَايَة الْحق إِنَّمَا تولاه ولَايَة التَّوْحِيد وَحده بِمَا من عَلَيْهِ من عقد الْإِيمَان وَقبل مِنْهُ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام أَن يكون مطمئن الْقلب فِي الله تَعَالَى فِي كل حَال سَاكِنا عِنْد أَحْكَامه مُسلما إِلَيْهِ جَمِيع جوارحه عِنْد أمره وَنَهْيه ثمَّ هُوَ عبد(4/81)
آبق منخلع العذار مستبد حرون جموح إِذا أمره تثاقل وحرن وَإِذا نَهَاهُ جمح وَإِذا قسم لَهُ بِحسن تَدْبيره من الْأَحْوَال أرسل مشفريه كمشفري الْبَعِير وَعَبس وَجهه وانقبض انقباض الْقُنْفُذ وَإِذا حكم عَلَيْهِ التوى وذلل بقدميه الأَرْض فَهَذَا عبد دُنْيَاهُ وَعبد بَطْنه وَعبد فرجه وشهواته ومناه فَمَتَى يقدر هَذَا أَن يعظم حُقُوق الله ويعظم أمره ويتذلل لَهُ عبودة وَمَتى يصير هَذَا عَالما بِاللَّه عَارِفًا لَهُ وبمننه وإحسانه شاكرا خَاشِعًا خَائفًا لزوَال النِّعْمَة مستحييا مِنْهُ هَيْهَات مَا أبعد هَذَا فَهَذَا رَضِيع فِي المهد فَلْينْظر أَيْن يكون من تِلْكَ الْعَرَصَة الْعَظِيم شَأْنهَا وَمن تِلْكَ الصُّفُوف كَمَا يكون الصَّبِي من محافل الدُّنْيَا مَعَ مخاطه وأدناسه وأوساخه ولهوه ولعبه من وَرَاء الْبَاب لَا يعبأ بِهِ وَلَا يهيأ لَهُ مجْلِس وَالَّذِي فطم حَتَّى تأدب وشب وَأخذ الزِّينَة والهيئة والبهاء واللباس وَالْأَدب أَيْن يقْعد فَلذَلِك من فطم نَفسه عَن الشَّهَوَات وَعَن ارتضاع حلاوة الدُّنْيَا وَرمى بعلل نَفسه وَرفع باله عَن الْخلق مَاذَا يُقَال لَهُ وماذا يكون أعْتقهُ الله من رق النَّفس بأنوار الْهدى وحشا صَدره من أنوار الحظوظ ووسمه بسماته فالدنيا كلهَا تَحت قدمه والخلق من وَرَاء ظَهره وَالله نصب عينه يتخطى على أَعْنَاق الْخلق فِي الْموقف إِلَى الله يسْبق الصُّفُوف صفا صفا وَيُقَال لَهُ ادن حَتَّى يغبطه الناظرون إِلَيْهِ من أهل الْقرْيَة
وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ اعقلوا وَاعْلَمُوا أَن لله عبادا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاء وَلَا شُهَدَاء يَغْبِطهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاء لِمَكَانِهِمْ وقربهم من الله فَقَامَ أَعْرَابِي فَقَالَ يَا رَسُول الله من هم حلهم لنا فسر وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْل الْأَعرَابِي فَقَالَ هم قوم لم تصل مِنْهُم أَرْحَام مُتَقَارِبَة من أفناء النَّاس ونوازع الْقَبَائِل تحَابوا فِي جلال الله عز وَجل وتصافوا فِيهِ وتزاوروا فِيهِ وتباذلوا فِيهِ يضع الله لَهُم مَنَابِر من نور فَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا وَإِن ثِيَابهمْ لنُور ووجوههم نور لَا يخَافُونَ إِذا خَافَ النَّاس وَلَا يفزعون إِذا فزع النَّاس(4/82)
أُولَئِكَ أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله تَعَالَى إِذا أحب عبدا أثنى عَلَيْهِ من الْخَيْر مثل عمله سبع مَرَّات وَإِذا أبْغض عبدا أثنى عَلَيْهِ مثل عمله من الشَّرّ سبع مَرَّات
وَعَن أبي الْهَيْثَم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله إِذا أحب عبدا أثنى عَلَيْهِ بسبعة أَضْعَاف من الْخَيْر لم يعمله وَإِذا أبْغض عبدا أثنى عَلَيْهِ بسبعة أَضْعَاف من الشَّرّ لم يعمله
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل تَدْرُونَ من الْمُؤمن قَالُوا الله وَرَسُوله أعلم قَالَ الْمُؤمن من لَا يَمُوت حَتَّى يمْلَأ مسامعه مِمَّا يحب وَلَو أَن عبدا اتَّقى الله فِي بَيت فِي جَوف بَيت إِلَى سبعين بَيْتا على كل بَيت بَاب من حَدِيد ألبسهُ الله تَعَالَى رِدَاء عمله حَتَّى يتحدث بِهِ النَّاس وَيزِيدُونَ وَالْكَلَام مثل ذَلِك فِي فجوره قيل وَكَيف يزِيدُونَ يَا رَسُول الله قَالَ إِن التقى لَو اسْتَطَاعَ أَن يزِيد فِي بره لزاد والفاجر لَو يَسْتَطِيع أَن يزِيد فِي فجوره لزاد
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام نِيَّة الْمُؤمن أبلغ من عمله(4/83)
وَعَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يَقُول الله عز وَجل لعَبْدِهِ يَوْم الْقِيَامَة عَبدِي عبدتني أكرمك النَّاس ووضعوك على رؤوسهم زهدت فِي الدُّنْيَا رَاحَة تعجلتها هَل واليت لي وليا أَو عاديت لي عدوا
عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة بِعَبْد محسن فِي نَفسه لَا يرى أَن لَهُ سَيِّئَة فَيُقَال لَهُ هَل كنت توالي أوليائي
قَالَ يَا رب كنت من النَّاس سلما
قَالَ فَهَل كنت تعادي أعدائي
قَالَ يَا رب إِنِّي لم أكن أحب أَن يكون بيني وَبَين أحد شَيْء فَيَقُول وَعِزَّتِي لَا ينَال رَحْمَتي من لم يوال أوليائي وَلم يُعَاد أعدائي
فَأَما الَّذِي يفعل وَيُحب أَن يحمد فَهُوَ على وَجْهَيْن فَإِن كَانَ حبه للحمد لِأَن يَعْلُو بذلك مَنْزِلَته عِنْد الْخلق فَهَذَا فتْنَة وَإِن كَانَ حبه للحمد من نزاهة نَفسه وَشرف قلبه فِي الدّين يطْلب الْجمال والهيئة وَالله جميل يحب الْجمال فَإِن طلبه فِي أُمُوره أَن يحمد فَهُوَ مَحْمُود لِأَنَّهُ لم يطْلب بذلك الْحَمد دنيا وَإِنَّمَا طلب بِهِ مسكة الدّين والعصمة لِئَلَّا يذل فِي خلقه فيذل دينه وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ الْمُؤمن أَن يذل نَفسه وَقَالَ فِي خطبَته طُوبَى لمن تواضع فِي غير مذلة
قَالَ بشر الثَّعْلَبِيّ كنت جَالِسا عِنْد أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ فَمر(4/84)
بِنَا ابْن الحنظلة رجل من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ رجلا متوحدا قل مَا يُجَالس النَّاس إِنَّمَا هُوَ صَلَاة فَإِذا انْصَرف إِنَّمَا هُوَ تَسْبِيح وتكبير وتهليل حَتَّى يَأْتِي أَهله فَمر بِنَا فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء كلمنا كلمة تنفعنا وَلَا تَضُرك فَقَالَ بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَرِيَّة فَقدمت فَقَالَ رجل لَو رَأَيْتنَا حِين لَقينَا الْعَدو فطعن فلَان فلَانا فَقَالَ خُذْهَا وَأَنا الْغُلَام الْغِفَارِيّ وَرجل إِلَى جنبه فَقَالَ كَيفَ ترى قَالَ مَا أرَاهُ إِلَّا أبطل أجره قَالَ الآخر لَا أرى بذلك بَأْسا فتنازعا فِي ذَلِك حَتَّى سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ سُبْحَانَ الله لَا بَأْس أَن يُؤجر ويحمد فسر بذلك أَبُو الدَّرْدَاء فَقَالَ أَنْت سَمِعت هَذَا فَجعل يَقُول نعم
وَعَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله إِنِّي حب أَن أَحْمد كَأَنَّهُ يخَاف على نَفسه قَالَ وَمَا يمنعك أَن تعيش حميدا وَتَمُوت فَقِيرا وَإِنَّمَا بعثت لأتمم محَاسِن الْأَخْلَاق
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَن هَذَا الرجل الَّذِي سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ ثَابت ابْن قيس بن شماس
فَهَذَا يحب الْحَمد لشرف نَفسه وللتجمل هربا من الذَّم ونزاهة من دناءة النَّفس لِأَن الْحَمد والذم ضدان فَإِذا فقد الْحَمد ظهر الذَّم وَأما الَّذِي يحب الْحَمد للمباهاة وَطلب الْعُلُوّ فَذَلِك مَذْمُوم قَالَ الله تَعَالَى {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {وَيُحِبُّونَ أَن يحْمَدُوا بِمَا لم يَفْعَلُوا}
وَعَن أبي ذَر الْغِفَارِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ الزهادة فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيم الْحَلَال وَلَا إِضَاعَة المَال وَلَكِن الزهادة أَن لَا تكون بِشَيْء مِمَّا فِي يدك أوثق مِنْك بِمَا فِي يَد الله تَعَالَى وَأَن يكون ثَوَاب(4/85)
الْمُصِيبَة أحب إِلَيْك من أَن لَو نفيت عَنْك الْمُصِيبَة وَلكُل حق حَقِيقَة وَلَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِيمَان حَتَّى يعلم أَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه وَأَن مَا أخطأه لم يكن ليصيبه وَلَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِخْلَاص حَتَّى لَا يحب أَن يحمد على شَيْء عمل لله عز وَجل
فَهَذَا فعل السَّابِقين ومنزلة أُخْرَى فِي هَذَا الْبَاب أشرف من هَذَا كُله وَهُوَ أَن يحب أَن يحمد ومنبع حبه للحمد حب الله تَعَالَى فَهَذَا يحب أبدا أَن يكتسي حَمده فَيرى عَلَيْهِ تِلْكَ الْكسْوَة وتنطلق الْأَلْسِنَة بذلك الْحَمد لَهُ فَتكون تِلْكَ الْأَلْسِنَة شُهُود الله لَهُ فِي أرضه فَهَذَا أشرف الْمنَازل وَهُوَ الَّذِي سَأَلَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ربه فَقَالَ {وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين} أَي الثَّنَاء الْحسن فَأُجِيب إِلَى ذَلِك فَقَالَ {وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين}
وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوض ذَلِك إِلَى ربه فزاده فَقَالَ {ورفعنا لَك ذكرك} فقرن ذكره بِذكر نَفسه ثمَّ جعل لأمته من ذَلِك أوفر الْحَظ فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَا رب من أولياؤك قَالَ الَّذين إِذا ذكرُوا ذكرت وَإِذا ذكرت ذكرُوا
وَقيل يَا رَسُول الله من أَوْلِيَاء الله قَالَ الَّذين إِذا رؤوا ذكر الله
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ بَينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم إِذْ مرت بِهِ جَنَازَة فَسَأَلَ عَنْهَا وأثنوا عَلَيْهَا خيرا فَقَالَ وَجَبت ثمَّ مرت بِهِ أُخْرَى فَأَثْنوا عَلَيْهَا شرا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَجَبت فَقُلْنَا يَا رَسُول الله قلت وَجَبت قَالَ إِن الْمُؤمنِينَ شُهُود الله فِي الأَرْض إِذا شهدُوا للْعَبد بِخَير أوجب الله لَهُ الْجنَّة وَإِذا شهدُوا للْعَبد بشر أوجب الله لَهُ النَّار(4/86)
وَمَا من عبد يشْهد لَهُ أمة إِلَّا قبل الله شَهَادَتهم وَالْأمة الْوَاحِد إِلَى مَا فَوْقه قَالَ الله تَعَالَى {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة} وَقَالَ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس}
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من مُسلم يوضع فِي قَبره فيثني عَلَيْهِ ثَلَاثَة أهل بَيت من جِيرَانه خيرا إِلَّا قَالَ الله تَعَالَى لملائكته قد قبلت شَهَادَة عبَادي لعبدي فِيمَا ظهر وغفرت لَهُم مَا لَا يعلمُونَ
رَجعْنَا إِلَى ذكر السِّرّ وَالْعَلَانِيَة
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ} قَالَ
جعل الله صَدَقَة التَّطَوُّع يفضل سرها علانيتها سبعين ضعفا وَجعل صَدَقَة الْفَرِيضَة علانيتها تفضل سرها بِخَمْسَة وَعشْرين ضعفا وَكَذَلِكَ جَمِيع الْفَرَائِض والنوافل فِي الْأَشْيَاء كلهَا
وَإِنَّمَا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِيمَا يرى ذَلِك من قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن عمل السِّرّ من التَّطَوُّع يفضل الْعَلَانِيَة بسبعين ضعفا(4/87)
وَقَالَ فِي حَدِيث آخر صَلَاة الرجل فِي جمَاعَة يَعْنِي الْفَرِيضَة تزيد على صلَاته وَحده بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة
وَرُوِيَ عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ} قَالَ الْفَرَائِض {وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء} قَالَ التَّطَوُّع وجاد مَا غاص أَبُو جَعْفَر رَضِي الله عَنهُ وَحقّ لمعدن النُّبُوَّة أَن يكون هَكَذَا
وصف الله تَعَالَى إبداء الصَّدَقَة بِالنعْمَةِ فَقَالَ {فَنعما هِيَ} وَإِنَّمَا هِيَ نعم كَقَوْلِك فعل وَهُوَ ضد بئس من الْبُؤْس وَالنعْمَة والبؤس ضدان وكل شَيْء جسم واحتشا وَرطب فَهُوَ نعْمَة وكل شَيْء هزل ويبس فَهُوَ بؤس ثمَّ نسب فعل نعم إِلَى مَا وَلَفظ مَا بَاطِن الْأَشْيَاء كَأَنَّهُ قَالَ إبداء الصَّدَقَة نعم باطنة وَإِنَّمَا نعم الإبداء لِأَنَّهُ فَرِيضَة افترضها الله على عباده دَوَاء لأسقام قُلُوب الْعباد لِأَن الْقُلُوب سقمت بحب المَال وَلذَلِك سمي مَالا لِأَن الْقُلُوب تميل بحبها عَن الله فَأمر بمفارقته على سَبِيل التَّصَدُّق وَهُوَ إِظْهَار صدق الْإِيمَان لِأَن الله تَعَالَى اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة
فَسُمي زَكَاة وَالزَّكَاة عبارَة عَن النَّمَاء لِأَن فِيهِ نمو مَا نقص من نور قُلُوبهم وارتحل من بركاتهم عَن الْقُلُوب وتطهرا عَن أدناس الْميل إِلَى المَال من الله تَعَالَى وتنزها عَن حب المَال وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِيمَان حُلْو نزه فنزهوه
وَسمي صَدَقَة لِأَن فِيهِ إِظْهَار صدق الْإِيمَان وَقد حلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا نقصت صَدَقَة مَالا قطّ(4/88)
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام حِين تصدق من تمر قدر مد قَبْضَة قَبْضَة وَالشَّيْء مَكَانَهُ على هَيئته فَقيل يَا رَسُول الله نرَاك تُعْطِي وَلَا ينقص فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما تقرأون وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه وَلَكِنَّكُمْ لَا ترَوْنَ الْخلف بقلة الْيَقِين
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَو أَن أم إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام لم تغرف من زَمْزَم لَكَانَ زَمْزَم عينا معينا
وَرُوِيَ إِن عَامر بن عبد قيس كَانَ يَأْخُذ عطاءه فِي ثَوْبه ثمَّ يُعْطِيهَا قَبْضَة قَبْضَة فَإِذا بلغ الْمنزل وزن فيوجد كَمَا هُوَ وَكَانَ بَنو أَعْمَامه يَفْعَلُونَ مثل ذَلِك فينقص فَقَالُوا لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ إِنَّكُم تجربون الله عز وَجل وَأَنا لَا أجرب
وَسمي المَال خيرا فِي التَّنْزِيل وَالْخَيْر مِنْهُ مَا كَانَ منزوع الْحمة وحمة المَال وسمه حبك لَهُ وَمَا لم ينْزع حمته فَهُوَ مَال لِأَنَّهُ مَال بِقَلْبِه عَن الله
قَالَ الله تَعَالَى {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} وَقَالَ {إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي} وَقَوله تَعَالَى {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد} وَقَوله تَعَالَى {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا}(4/89)
سَمَّاهُ خيرا عِنْد حُضُور الْمَوْت لِأَنَّهُ عِنْد انطفاء نَار الشَّهَوَات وانطماس حب المَال وَقَالَ {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} لِأَن ذَلِك وَقت عطف وَرَحْمَة من السَّيِّد على عَبده يرغب فِي عتقه من الرّقّ وتأخذه الْحَاجة لِأَن المَال قوام الدّين
فَمن أحب المَال لحب الدّين فقد صدق الله فِي إيمَانه وَلم يدْخل عَلَيْهِ فِي حب إيمَانه ممازجة وَلَا شوب وعلامته أَن يكون بِمَا أعطي أَشد فَرحا مِنْهُ بِمَا بَقِي فِي يَده
وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى لداود عَلَيْهِ السَّلَام يَا دَاوُد هَل تَدْرِي أَي الْمُؤمنِينَ أعظم منزلَة عِنْدِي الَّذِي هُوَ بِمَا أعطي أَشد فَرحا بِمَا حبس
وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيست الزهادة فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيم الْحَلَال وَلَا إِضَاعَة المَال وَلَكِن الزهادة أَن لَا تكون بِشَيْء مِمَّا فِي يدك أوثق مِنْك بِمَا فِي يَد الله تَعَالَى وَأَن يكون ثَوَاب الْمُصِيبَة أحب إِلَيْك من أَن لَو نفيت الْمُصِيبَة عَنْك
عَن سعيد بن جُبَير رَضِي الله عَنهُ أَن ملك الْمَوْت أَتَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَأخْبرهُ بِأَن لله خَلِيلًا فِي الأَرْض فَقَالَ يَا ملك الْمَوْت من هُوَ حَتَّى أكون لَهُ خَادِمًا قَالَ فَإنَّك أَنْت هُوَ قَالَ بِمَاذَا قَالَ إِنَّك تحب أَن تُعْطِي وَلَا تحب أَن تَأْخُذ(4/90)
قَوْله تَعَالَى {إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي} سَمَّاهُ خيرا لِأَن الله عز وَجل أعطَاهُ تِلْكَ الْخَيل المعروضة عَلَيْهِ بالْعَشي تِلْكَ الصافنات الْجِيَاد فَكَانَت تِلْكَ عَطِيَّة الله تَعَالَى لاحقة بِمَا أعطي من الْملك
قَالَ تَعَالَى {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب} قَالَ لَهُ قَائِل فَمَا الَّذِي حل بِهِ من حبه حَتَّى طفق مسحا بِالسوقِ والأعناق فَضرب سوقها وأعناقها قَالَ لِأَنَّهُ شغله حبه إِيَّاهَا عَن صَلَاة الْعَصْر حَتَّى فَاتَتْهُ وَلم يكن حبه حب فتْنَة لِأَنَّهُ أعطي الْملك بِلَا حِسَاب فعصم من الْفِتْنَة وَمَا اعْترض تلذذا إِنَّمَا اعْترض عَطِيَّة الله الَّتِي أَعْطَاهَا بِلَا تبعة وَلَا حِسَاب تلذذا بعطف الله ورأفته ثمَّ لما شغله عَن حب مَا هُوَ أعظم مِنْهُ رمى بِهِ كالمعرض عَنهُ لِأَنَّهُ رأى فِي الصَّلَاة إقبال الله تَعَالَى على عَبده وَلم ير فِي الْعَطِيَّة وَلَا فِي اعتراضه للعطية إقبال الله تَعَالَى فَلَمَّا رأى فَوت الإقبال هَاجَتْ مِنْهُ حرقة فَوت الإقبال فَرمى بِهَذَا وتخلى عَنهُ فَشكر الله لَهُ تِلْكَ الحرقة فَأعْطَاهُ بَدَلا من الْخَيل مَا لم يُعْط أحدا من الْآدَمِيّين وَهُوَ الرّيح
قَالَ تَعَالَى {فسخرنا لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد}
المَال فِي الأَصْل قوام الْعباد فِي أَمر دينهم بِهِ يصلونَ وَيَصُومُونَ ويزكون وَيَتَصَدَّقُونَ فالأبدان لَا تقوم إِلَّا بِهَذَا المَال وأعمال الْأَركان لَا تقوم إِلَّا بِهَذَا المَال مِنْهُ يطعم وَمِنْه يشرب وَمِنْه يكتسي وَمِنْه يسكن(4/91)
من الْحر وَالْبر وَبِه يتوقى الْأَذَى وَالْمَشَقَّة وَيدْفَع الشدائد من الْأَحْوَال
قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم الَّتِي جعل الله لكم قيَاما}
أعلمك أَن هَذَا قيامك أَي قوامك فِي أَمر دينك ودنياك فالمؤمن دينه ودنياه جَمِيعًا فِي دُنْيَاهُ وَإِن عمل لآخرته فَإِنَّمَا يعْمل فِي دُنْيَاهُ وَإِن عمل لدُنْيَا فَإِنَّمَا يعْمل فِي دُنْيَاهُ فَهَذَا المَال على مَا وَصفنَا حقيق أَن يُسمى خيرا لِأَن الْخيرَات بِهِ تقوم فَإِذا أحبه فَاشْتَدَّ حبه لَهُ فَغير معيب وَلَا ملوم ثمَّ يفْتَرق حبه فَيصير على ضَرْبَيْنِ فَإِن كَانَ حبه لِلْمَالِ من أجل حب الله فَهُوَ مَحْمُود وَإِن كَانَ حبه لَهُ من أجل حب نَفسه الدنية البالية غَدا فِي التُّرَاب فَهُوَ مَذْمُوم لِأَن حبه لَهُ من هَذَا الْوَجْه حب فتْنَة والفتنة تهديه إِلَى النَّار لِأَن ذَلِك الْحبّ شَهْوَة والشهوة بِبَاب النَّار
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام حفت النَّار بالشهوات
وَإِن كَانَ من حب الله أحبه فَذَلِك الْحبّ نور على قلبه قَالَ لَهُ قَائِل وَكَيف يكون حب المَال من حب الله تَعَالَى قَالَ علم العَبْد أَن الله تَعَالَى أمره بِأُمُور وَجعل مرضاته فِي تِلْكَ الْأُمُور وَأَن تِلْكَ الْأُمُور لَا تقوم إِلَّا بِالْمَالِ فَمن أحب ربه أحب أمره وابتغاء مرضاته ثمَّ نظر فَإِذا تِلْكَ الْأُمُور لَا تقوم إِلَّا بِالْمَالِ فَلَيْسَ من الْمحَال أَن يحب شَيْئا من أجل حب ربه ثمَّ يعلم أَن ذَلِك الشَّيْء لَا يقوم وَلَا يتهيأ لَهُ إِلَّا بِشَيْء آخر ثمَّ لَا يحب هَذَا الشَّيْء الثَّانِي وَكَيف لَا يحب العَبْد نعْمَة يلتذ بهَا ويجد تِلْكَ النِّعْمَة(4/92)
لحمد ربه فَإِذا خلصت إِلَيْهِ لَذَّة ذَلِك الشَّيْء هيجت مِنْهُ ذكر الْمُنعم فأثارت فِي صَدره نورا يجدد حَمده وينكشف لَهُ الغطاء عَن عطف ربه وَرَحمته عَلَيْهِ فَيَزْدَاد بذلك خضوعا وذلة وحياء مِنْهُ وتتراكم عَلَيْهِ أثقال الشُّكْر فالنعم على هَذَا الْوَجْه محقوقة أَن تحب
وَمن هَذَا الْقَبِيل مَا أنعم بِهِ على سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وَمن توهم أَنه سَأَلَ ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده لحب نَفسه ولحب دُنْيَاهُ مَعَ أَن الله تَعَالَى أثنى عَلَيْهِ وَقَالَ {نعم العَبْد إِنَّه أواب} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب} وَقَالَ {وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان} ثمَّ قَالَ فِي آخر الْآيَة {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده}
فَسَماهُ مهديا وأوابا وَصَاحب زلفة وَحسن مآب فقد رد على الله فَلم يُؤمن عَلَيْهِ الْكفْر
عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما قتل أبي يَوْم أحد دَعَاني النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَتُحِبُّ الدَّرَاهِم قلت نعم قَالَ لَو جَاءَتْنِي دَرَاهِم أَعطيتك هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَقبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يعطيني فَلَمَّا اسْتخْلف أَبُو بكر أَتَاهُ مَال من الْبَحْرين فدعاني فَقَالَ خُذ كَمَا قَالَ لَك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذت بكفي جَمِيعًا وَأخذت الثَّانِيَة أقل مِنْهُ فَقلت عدوا هَذَا فأعطوني مثله مرَّتَيْنِ فعد فَوجدَ سَبْعمِائة وَخمسين فأعطوني مثلهَا مرَّتَيْنِ(4/93)
فَلَو كَانَ حب جَابر رَضِي الله عَنهُ للدراهم حب النَّفس وَالدُّنْيَا لَكَانَ معيبا وَمَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهديه وَلَكنَّا نظن بجابر الأولى والأحق حَيْثُ نَاطِق بِهَذِهِ الْكَلِمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووعده على ذَلِك جزيلا
وَقيل لِابْنِ عون أَتُحِبُّ الدَّرَاهِم قَالَ نعم قيل لم ذَاك قَالَ لِأَنَّهَا تنفعنا
وَقَالَ كَعْب رَضِي الله عَنهُ أول من ضرب الدِّينَار وَالدِّرْهَم آدم عَلَيْهِ السَّلَام
وَقَالَ لَا تصلح الْمَعيشَة إِلَّا بهما
وَعَن وهب بن مُنَبّه الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم خَوَاتِيم رب الْعَالمين وَضعهَا الله تَعَالَى معايش لبني آدم لَا يُؤْكَل وَلَا يشرب إِلَّا بهما من جَاءَ بِخَاتم رب الْعَالمين قضيت حَاجته(4/94)
- الأَصْل السَّادِس وَالسِّتُّونَ والمائتان
-
فِي أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا ينظر إِلَى الْقُلُوب لِأَن كنوز الْمعرفَة فِيهَا والى الْأَعْمَال
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالكُم وأحسابكم وَلَكِن ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ
قَالَ أَبُو عبد الله إِنَّمَا ينظر إِلَى الْقُلُوب لِأَنَّهَا أوعية الْجَوَاهِر وكنوز الْمعرفَة فِيهَا وَينظر إِلَى أَعمال الْجَوَارِح بِأَن مُبْتَدأ الْأَعْمَال من الْقُلُوب فَإِذا نظر إِلَى الْجَوَاهِر ووجدها طرية سليمَة كهيئتها محروسة من آفَات النَّفس مكنونة عَن تنَاول النَّفس وتلمسها شكر لعَبْدِهِ فزاده فِي الْجَوَاهِر وبصره بأقدارها وأخطارها حَتَّى يزْدَاد بهَا غنى وَمن اسْتغنى بِاللَّه عز(4/95)
وَجل فَلَا قوي أقوى مِنْهُ قد آيست النَّفس من إجَابَته إِيَّاهَا وآيس الْعَدو من غوايته
وَإِنَّمَا ندب العَبْد إِلَى التَّقْوَى وَصَارَ العَبْد لله وليا بِأَن حرس مَا فِي قلبه من الْمعرفَة لله وصيره فِي وقاية من آفَات النَّفس فَلَا يصل إِلَيْهِ آفاتها من أجل صون تِلْكَ الْجَوَاهِر فَإِن الْعَدو يَأْتِي بأضدادها يُرِيد أَن يَضَعهَا فِي تِلْكَ الْأَمْكِنَة وينفي عَن قلبه مَا وَضعه الله تَعَالَى فَإِن لم يقدر على النَّفْي غطاه بِمَا أورد عَلَيْهِ فَلبس عَلَيْهِ بِمَنْزِلَة رجل فِي يَده جَوَاهِر ودنانير فأكب عَلَيْهِ خائن مخادع يَصْحَبهُ ويخالطه فِي الْأَخْذ والإعطاء فَإِذا أَخذ مِنْهُ جوهرا لينْظر إِلَيْهِ يَأْخُذ ياقوتة حَمْرَاء فَلَا يزَال يقلبها فِي كَفه ينْتَظر بلاهته ويلتمس غرته حَتَّى يُبدلهُ بهَا خرزة حَمْرَاء صَافِيَة تشبهها وَصَاحبه قَلِيل الْبَصَر بالجواهر إِنَّمَا مَعْرفَته بهَا مَا ينظر إِلَيْهِ من ظَاهرهَا وَيَأْخُذ مِنْهُ لؤلؤة فيبدل بهَا عظما صافيا يشبهها وَيَأْخُذ مِنْهُ فيروزجا فيبدله بخزف ملون أَزْرَق صقيل وَيَأْخُذ مِنْهُ زمردة فيبدل بهَا فلقَة من جَوْهَر الزّجاج وَيَأْخُذ مِنْهُ دِينَارا فيبدل بِهِ فلسًا أصفر مدورا فَهُوَ لَا يعرف من الدِّينَار إِلَّا صفرته وتدويره وكتابته وَمن الزمرد إِلَّا خضرته وَمن اللؤلؤة إِلَّا بياضها وَمن الياقوتة إِلَّا حمرتها فَإِذا رأى مثلهَا من الْهَيْئَة لم يُنكر ذَلِك
فَكَذَلِك هَذَا الموحد أعطي الْمعرفَة ليوحد وَيتَوَجَّهُ إِلَى الْوَاحِد وَيقبل على الْوَاحِد ويبذل نَفسه لَهُ عبودة ويأتمنه على نَفسه ويتخذه وَكيلا ويفوض إِلَيْهِ أُمُوره وَيتْرك التَّدْبِير عَلَيْهِ ويثق بِهِ ويركن إِلَيْهِ ويتذلل لربوبيته ويتواضع لعظمته ويتزين لبهائه ويتخذه عدَّة لكل نائبة من دنيا وآخرة
فَلَمَّا رأى الْعَدو ذَلِك حسده وشمر لاستلاب مَا أعطي العَبْد فَلم يقدر أَن يكابره ويستقبله بالقهر كَمَا قهر الْكفَّار وكابرهم وَلكنه خادعه وأخفى خداعه فِي ظلّ النَّفس فَهُوَ يوسوس إِلَى النَّفس وَالنَّفس توسوس(4/96)
إِلَى الْقلب فَإِذا كَانَ الْقلب أبله ورفض الكياسة وَكَانَ مستثقلا فِي نوم البلاهة والغفلة انخدع لما يُورد الْعَدو فَأوردهُ على توحيده شرك الْأَسْبَاب بَدَلا وبالتوجه إِلَيْهِ توجها إِلَى أَوْلِيَاء الْأَسْبَاب وبالإقبال إِلَيْهِ إقبالا على أَحْوَال النَّفس وببذل النَّفس لَهُ عبودة بذل النَّفس لمناه وشهواته وبائتمانه على نَفسه إئتمان مَا جمع وحوى من الدُّنْيَا وباتخاذه وَكيلا إتخاذ علمه وبصره وحذقه بالأمور وَكيلا وبالتفويض إِلَيْهِ تفويضا إِلَى تَدْبيره وقوته مقتدرا وبالركون إِلَيْهِ ركونا إِلَى خدمه فَلبس مَا أعطي من الْكُنُوز بِهَذِهِ الْأَشْيَاء فَانْقَطَعت قوته ومادة مَعْرفَته من الله تَعَالَى
فَأَي مغبون أعظم غبنا من هَذَا فبعدا لَهُ لِأَنَّهُ قد ترك نصيحة الله لَهُ فَإِنَّهُ أنزل عَلَيْهِ نصيحته تَنْزِيلا فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم عَن ذكر الله وَمن يفعل ذَلِك فَأُولَئِك هم الخاسرون}
فَإِنَّمَا يذكر الله تَعَالَى من وَحده فِي جَمِيع أُمُوره دينا وَدُنْيا وَتوجه إِلَيْهِ فِي جَمِيع نوائبه وحوائجه وَأَقْبل عَلَيْهِ بِكُل همومه وبذل لَهُ نَفسه بذل من يعلم أَنه مَمْلُوك مَخْلُوق من تُرَاب ممنون عَلَيْهِ بخلقه وبعظائم المنن وائتمنه على نَفسه سكونا إِلَيْهِ واتخذه وَكيلا فاستراح من المخاوف وفوض إِلَيْهِ وَقعد بِبَابِهِ ينْتَظر خُرُوج تَدْبيره إِلَيْهِ وركن إِلَيْهِ ركون من اسْتندَ إِلَى جبل شامخ لَا يقدر أَن يُؤْتِي من قبله وَاطْمَأَنَّ فَمن ألهاه حب مَاله وَولده عَن ذكر الله بِهَذِهِ الْأَشْيَاء فخسر أَنه أعظم من أَن يُوصف لِأَنَّهُ خدع فأبدل بِمَا أعطي من الْجَوَاهِر الخرز والخزف والزجاج وَالْعِظَام والفلوس فليت شعري فِي أَي وَاد بَقِي توحيده وَفِي أَي وَاد هُوَ أُولَئِكَ ينادون من مَكَان بعيد
عَن أبي معبد بن حبَان أَو عَن حبَان بن حجر قَالَ قَالَ رَسُول الله(4/97)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْتِي على النَّاس زمَان الْقُرْآن فِي وَاد وهم فِي وَاد غَيره
فَإِنَّمَا صَار فِي وَاد لِأَن جواهرهم ودنانيرهم قد صَارَت خرزا وخزفا وفلوسا وعظاما وزجاجا فالقرآن كَلَام رب الْعَالمين جرى إِلَيْهِم من أصل الْجَوَاهِر ليعقلوا عَنهُ كَلَامه بأنوار تِلْكَ الْجَوَاهِر فَإِذا خدعهم الْعَدو بنفخة الْكبر فيهم ونفثة الشَّهْوَة وسلطان الْهوى صَارَت هَذِه الْأَشْيَاء بَدَلا فَلم يُوجد للخرز والخزف والفلوس أنوار تشرق ليستنير الصَّدْر لكَلَام رب الْعَالمين أَو يتَرَاءَى لعين الْفُؤَاد فِي ظلمات الْكبر تِلْكَ الْمعَانِي واللطائف هَيْهَات مَا أبعد مَا وَقع الْقَوْم انخدعوا لِلْعَدو بخيانة نُفُوسهم حَتَّى أهلكهم قَالَ الله تَعَالَى {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق}
تِلْكَ قُلُوب عز رَبِّي وَجل عَن أَن ينظر إِلَيْهَا حَتَّى يزين فِيهَا الخرز والحصى والخزف بدل الْفُلُوس وَتلك الْجَوَاهِر وَتلك قُلُوب صرفهَا الله عَن آيَاته ودلائله فعميت وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور تِلْكَ قُلُوب أعرض الله عَنْهَا وشغلها بِمَا كثر عَلَيْهَا من دنياها الخربة من زينتها ولهوها ولعبها ومتاع غرورها تِلْكَ قُلُوب فرحت بِنَفسِهَا ودنياها الدنية وشهواتها الردية فطمسها الله عَن الْفَرح بِهِ والقلوب المطموسة معرض عَنْهَا خَالِقهَا قَالَ الله تَعَالَى {من قبل أَن نطمس وُجُوهًا فنردها على أدبارها}
وَإِذا أعرض الله عَن قلب صَار الصَّدْر كنهار غربت شمسه وَإِذا أظلم الصَّدْر انقبض الْقلب وذبل وافتقر وَصَارَ أَسِير النَّفس فالفرح بِاللَّه برد يُطْفِئ حرارة النَّفس وشعاع ينير الصَّدْر وحياة تهزم جَمِيع الشَّهَوَات(4/98)
ولطافة تجْرِي فِي جَمِيع عروقك حَتَّى تتأدى إِلَى مخ أعظمك وحلاوة تسكرك عَن كل حلاوة دونهَا وَلَذَّة تلهيك عَن كل لَذَّة دونهَا وبشرى يغرق فِيهَا جَمِيع آمال قَلْبك وهيمان فِي تِلْكَ الْبُشْرَى يدق الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فِي جنبها والفرح بأحوال النَّفس لَهُ حرارة تحرق وَجه الْقلب وساحته وَهِي الصَّدْر حَتَّى يصير للقلب حزونة كحزونة الأَرْض فَيُصْبِح حَزينًا على فَوت الدُّنْيَا
رُوِيَ عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ من أصبح حَزينًا على الدُّنْيَا أصبح ساخطا على ربه
وَعَن فرقد السنجي قَالَ قَرَأت فِي التَّوْرَاة من أصبح حَزينًا على الدُّنْيَا أصبح ساخطا على ربه وَمن تضعضع لغنى ذهب ثلثا دينه وَمن نزلت بِهِ مُصِيبَة فشكاها إِلَى النَّاس فَإِنَّمَا يشكو ربه
والفرح بأحوال النَّفس إِذا اضطرم عَلَيْهِ نيران الْحِرْص امْتَلَأَ الجو من دخانها حَتَّى يصير صَدره كالليل الدامس وتعمى بصيرته والفرح بأحوال النَّفس لَهُ سُلْطَان يُمِيت الْقلب ويحيي النَّفس وتهتز الشَّهَوَات بِتِلْكَ الْحَرَارَة فَهُوَ يستحيي من الْخلق وَلَا يستحيي من خالقه كَمَا قَالَ فِي تَنْزِيله {يستخفون من النَّاس وَلَا يستخفون من الله وَهُوَ مَعَهم إِذْ يبيتُونَ مَا لَا يرضى من القَوْل}
وَله حلاوة تسكر عَن الله وَبرد كبرد السم يدب فِي الْعُرُوق ويحذر عَن الْإِيمَان بِاللَّه ويصيرك كَأَنَّك خَال عَنهُ ويشتمل على روحك حَتَّى يتَغَيَّر إِلَى طبع النَّفس وكدورتها وَله لَذَّة تلهيك عَن الله تَعَالَى وَعَن يَوْم الْمِيثَاق وَيَوْم الميعاد لوفاء الْمِيثَاق وَله آمال كَاذِبَة وأماني خادعة يهيم فِيهَا هيمان المحتلم يثب على كل مفروح من الدُّنْيَا وثبان المحتلم على(4/99)
جَارِيَة قد عَشِقَهَا فَإِذا انتبه وجد نَفسه عَمَّا وثب إِلَيْهِ خَالِيا وَفِي فرَاشه بائلا كَذَلِك الْفَرح بالدنيا إِذا قبض روحه يجد نَفسه خَالِيا من أفراح النَّفس ودنياها يقدم على ربه جنبا قد بَال فِي دينه وعبوديته وراث فِيهَا كروث الْحمار الَّذِي قد حمل عَن الله أسفارا على ظَهره من قبل أَن يتَطَهَّر بِمَاء النَّدَم والكيس نظر إِلَى هَذَا الْحَال فاقشعر مِنْهَا وَرجع إِلَى نَفسه فَوَجَدَهَا كَرِيمَة حرَّة تنقاد وتسلس بِلَا كزازة فَقَامَ على السَّاق متشمرا فِي تصفية قلبه وتطهيره ليرق ويجلى فَإِن الْمرْآة إِذا جليت فقابلها نور الشَّمْس تولد من بَينهمَا إشراق يضيء الْبَيْت مِنْهُ فَكَذَلِك الْقلب إِذا جلى ثمَّ يُلَاحظ نور الملكوت أَضَاء الصَّدْر وامتلأ من شعاعه فَأَبْصَرت عينا الْفُؤَاد بَاطِن أُمُور الله فِي خلقه فَذَاك قلب قد اسْتكْمل الزِّينَة والبهاء بِمَا سبق من الطَّهَارَة والصفاء فَصَارَ قلبه مَوضِع نظر الله من بَين خلقه فَكلما نظر إِلَى قلبه زَاده بِهِ فَرحا وَله حبا وَمِنْه قربا واكتنفه بِالرَّحْمَةِ
عَن سهل بن سعد رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لله تَعَالَى فِي الأَرْض أواني أَلا وَهِي الْقُلُوب فأحبها إِلَى الله أرقها وأصفاها وأصلبها أرقها للإخوان وأصفاها من الذُّنُوب وأصلبها فِي ذَات الله فَمن كَانَ لَهُ قلب صَالح تَحَنن الله عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يصلح إِذا سكنت النَّفس بشهواتها والهوى بجُنُوده وَاطْمَأَنَّ الْقلب أَمِيرا على الْجَوَارِح نَافِذا سُلْطَانه فَعندهَا يحظى العَبْد من الله الحنان فَإِذا تَحَنن عَلَيْهِ وجد الْقلب ريح الرأفة فَيَزْدَاد طمأنينة إِلَى ربه واهتاجت آماله فَيَأْخُذ فِي السّير إِلَيْهِ فَعنده تظهر الْكُنُوز وَإِذا اسْتغنى الْقلب بالكنوز وصل العَبْد إِلَى زِينَة الْأَعْمَال وإنفاق الْكُنُوز لمحاسن الْأَخْلَاق ومحمود الفعال فَعِنْدَ ذَلِك ينظر الله إِلَى قلبه وَإِلَى أَعماله(4/100)
- الأَصْل السَّابِع وَالسِّتُّونَ والمائتان
-
فِي فضل الْعلم بِاللَّه
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله أَي الْأَعْمَال أفضل قَالَ الْعلم بِاللَّه ثمَّ أَتَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك قَالَ يَا رَسُول الله إِنَّمَا أَسأَلك عَن الْعَمَل قَالَ إِن الْعلم ينفعك مَعَه قَلِيل الْعَمَل وَكَثِيره فَإِن الْجَهْل لَا ينفعك مَعَه قَلِيل الْعَمَل وَلَا كَثِيره
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ فالعلم ثَلَاثَة أَنْوَاع علم بِاللَّه وَعلم بتدبير الله وربوبيته وَعلم بِأَمْر الله
وَرُوِيَ عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ الْعلمَاء ثَلَاثَة عَالم بِاللَّه لَيْسَ بعالم بِأَمْر الله وعالم بِأَمْر الله لَيْسَ بعالم بِاللَّه وعالم بِاللَّه عَالم بِأَمْر الله
كَأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام جعل الْعلم بتدبيره وربوبيته مَعَ الْعلم بِاللَّه علما وَاحِدًا وَإِنَّمَا صيرناه ثَلَاثَة أَنْوَاع لأَنا أردنَا أَن يتَمَيَّز عِنْد من لَا يعقله علم الله من علم التَّدْبِير لِأَن علم التَّدْبِير للعباد وَهُوَ دَاخل فِي بَاب العبودة وَعلم الله هُوَ الثَّنَاء الَّذِي يظْهر على الْأَلْسِنَة من الْقُلُوب فالعلم رَأس كل أَمر وَخلق الله الْخلق أصنافا ثمَّ أعْطى كل شَيْء علمه الَّذِي(4/101)
يَنْبَغِي لَهُ فبالعلم يعرف ربه وبالعلم يعبد ربه وَهُوَ جَوَاب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لفرعون حَيْثُ قَالَ {فَمن رَبكُمَا يَا مُوسَى} قَالَ رَبنَا الَّذِي أعطي كل شَيْء من خلقه ثمَّ هدى أَي أَعْطَاهُم خلقهمْ ثمَّ هدَاهُم من خلقهمْ وَمن كَونهم وَمن يملكهم وبمن قوامهم
فالهدى هُوَ الْعلم الَّذِي أعْطى كل شَيْء خلقه حَتَّى هدَاهُم إِلَى نَفسه فالعرش فَمن دونه إِلَى الثرى كلهم أَعْطَاهُم خلقهمْ ثمَّ عرفهم نَفسه وهداهم خلق كل شَيْء فَوضع فِيهِ الْحَيَاة وَأَعْطَاهُمْ الْعلم بِهِ واقتضاهم الْقُنُوت لَهُ فَقَالَ تَعَالَى {وَله من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون} والقنوت الركود بَين يَدَيْهِ فِي مقَامه الَّذِي أَقَامَهُ
ثمَّ بَدَأَ خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَذريته فَجعل الْأَشْيَاء سخرة للآدميين وضع فِيهَا تِلْكَ الْأَشْيَاء الَّتِي فِيهَا مَنَافِع الْآدَمِيّين وقوام مَعَايشهمْ وَأَعْطَاهَا علم إِخْرَاج ذَلِك إِلَى الْأُمِّيين بِمِقْدَار مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم وَفِي وَقت مَعْلُوم وَفِي مَوضِع مَعْلُوم فالعرش مقصد الْقُلُوب وَالسَّمَوَات ظلال أبدانهم وَمَوْضِع أَرْزَاقهم وتدبير أُمُورهم بِمَا فِيهَا من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم والرياح وَالْحر وَالْبرد وَاللَّيْل وَالنَّهَار وَمَا فِي الأَرْض كلهَا سخرة لبني آدم فهم كلهم إِلَى الثرى مسخرون موكلون بِإِخْرَاج مَا وضع فيهم من الْمَنَافِع إِلَى الْآدَمِيّين وَأَعْطَاهُمْ الْعلم على قدر ذَلِك من الْحَاجة إِلَى إِخْرَاج السخرة إِلَيْهِم وَخلق الْآدَمِيّين للْخدمَة وَوضع فيهم أنواره ليخرج الْخدمَة لله من بَاطِنه
فالحاجة بالآدمي إِلَى الْعلم بِاللَّه تَعَالَى حسب مَا لَهُ خلق فَانْظُر كم بَين السخرة والخدمة فالسخرة لنا والخدمة لله تَعَالَى فَلَو أَن أَحَدنَا أقيم لخدمة ملك من مُلُوك الدُّنْيَا لعظم شَأْنه وَاحْتَاجَ إِلَى علم كثير وأدب(4/102)
عَظِيم وكياسة وافرة حَتَّى يصلح لخدمته ولدوام الْقيام بَين يَدَيْهِ ماثلا ليله ونهاره حَتَّى لَا يضيع شَيْئا من خدمته فَكيف بِمَالك الْمُلُوك وَرب الْعِزَّة واله الْعَالمين فعلى حسب ذَلِك الَّذِي خلقنَا لَهُ أَعْطَانَا من الْعلم وأوتينا من الْعلم مَا عجزت الْمَلَائِكَة عَنهُ وَقَالَت {سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا} فَعِنْدَ هَذَا {قَالَ يَا آدم أنبئهم بِأَسْمَائِهِمْ} فَنحْن خلقنَا لما لم يخلق هَؤُلَاءِ
فَهَؤُلَاءِ للسخرة لنا وللوكالة لإِخْرَاج الْمَنَافِع إِلَيْنَا لنقيم عبودته بأركاننا بِقُوَّة تِلْكَ الْمَنَافِع ولنتمثل بقلوبنا بَين يَدَيْهِ على مِثَال الخدم لَا تَبْرَح قُلُوبنَا بَين يَدَيْهِ قَالَ تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون}
فَلَو لم تصل هَذِه الْمَنَافِع إِلَيْنَا من قبل المسخرين الموكلين بِنَا لشغلت النَّفس منا بحوائجها وضروراتها قلوبها فتزيلها عَن موَاضعهَا فَلَا تكَاد تثبت فخلق لنا مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وسخر لنا مَا فِي السَّمَوَات فَقَالَ {هُوَ الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} وَقَالَ {وسخر لكم مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ}
فَإِذا إنقضت العبودة ذهبت السخرة وأعيد من خلق من التُّرَاب إِلَى التُّرَاب وَمن خلق من النَّار والنور رَجَعَ إِلَى معادنهما فَعندهَا يستقبلك مَنَافِع لَا تَنْقَطِع فِي دَار السَّلَام أَو مضار فِي دَار الهوان لَا تَنْقَطِع إِمَّا ملكا محبورا وَإِمَّا عبدا آبقا مَدْحُورًا فأوتي هَؤُلَاءِ علم السخرة وأوتينا علم(4/103)
الْخدمَة قَالَ الله تَعَالَى {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} الْآيَة
فَلَمَّا نَالَ الْعلم بِاللَّه وَالْعلم بتدبير الله يسرت عَلَيْهِ الْخدمَة لِأَن هذَيْن النَّوْعَيْنِ يهديانه للْخدمَة قَالَ لَهُ قَائِل مَا الْخدمَة وَمَا علمهَا قَالَ
أما الْخدمَة فالقنوت بقلبك بَين يَدَيْهِ ماثلا منتصبا كالمتشمر فِي قراطق الْخدمَة مخفا مبادرا مسارعا مركبك فِي جَمِيع أمورك وَأما علم الْخدمَة فَعلم البساطين قَالَ لَهُ قَائِل وَمَا البساطان قَالَ بِسَاط الْقُدْرَة وبساط العبودة فَإِذا طالعت بِسَاط الْقُدْرَة بعقل وافر ثمَّ طالعت بِسَاط العبودة بكياسة وحذق حَتَّى أدْركْت تَدْبيره فِي العبودة وباطن أمره وَنَهْيه وَعلل التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم لماذا أحل ولماذا حرم فبعلم بِسَاط الْقُدْرَة تملك نَفسك وبعلم بِسَاط العبودة تملك جوارحك وخواطر قَلْبك فَلم يقتض الله الْعباد شَيْئا لم يعطهم فالأشياء كلهَا من عِنْد الله كَانَ الله وَلَا شَيْء مَعَه فَبسط بِسَاط الربوبية من بَاب الْقُدْرَة وَبسط بِسَاط العبودة من بَاب العظمة ثمَّ كَانَ آخر خلقه الْإِنْسَان ابْتَدَأَ خلقه من التُّرَاب وَجمع ترابه بِالْمَاءِ فعجنه ثمَّ صوره وَركب جسده وَجعله أجوف ثمَّ وضع فِيهِ الرّوح وَالنَّفس والحياة وَالْقُوَّة وَالْعلم والمعرفة والذهن والفهم والفطنة وَالْحِفْظ وَالْعقل والكياسة وَالصَّبْر والشهوة وَالرَّحْمَة والرأفة واللطف وَالْحب والفرح وَالْغَضَب والسخط ثمَّ اقْتَضَاهُ اسْتِعْمَال ذَلِك كُله وإبرازه من بَاطِنه إِلَى ظَاهر جوارحه فَيكون اعمالا عَلَيْهَا يُثَاب ويعاقب وَفتح لعَيْنِي قلبه طَرِيقا إِلَى الْمظهر للمعاملة لتفيض مِنْهُ أرزاقه وعطاياه وَمَا يدر عَلَيْهِ من رَحمته وَمن ربوبيته وَخلق الْعَدو وَأَعْطَاهُ السَّبِيل إِلَى أجوافنا فَيجْرِي فِي عروقنا ومسكنه فِي صدورنا وَجعل جنده وَعظم قوته فِي الْهوى والهوى مثير الشَّهَوَات ودواعي الْآدَمِيّ إِلَى مكابد الْعَدو وغروره فَمن لم يُعْطه روحا(4/104)
أَو قُوَّة أَو علما أَو ذهنا أَو شَيْئا من هَذِه الْأَشْيَاء لم يقتضه مَا يخرج لَهُ من ذَلِك الشَّيْء كَمَا لَو أَنه لم يعطك الْقَائِمَة لم يقتضك الصَّلَاة قَائِما وَلَو لم يعطك الْقُوَّة لم يقتضك الصَّوْم وَلَو لم يعطك المَال لم يقتضك الزَّكَاة وَلَا الْحَج وَلَو لم يعطك الْكسْوَة أجزئ عَنْك الصَّلَاة عُريَانا وَلَو لم يعطك المَاء أجزئ عَنْك التَّيَمُّم
فَكَذَلِك مَا فِي الْبَاطِن كل شَيْء لم يعطك لم يقتضك اسْتِعْمَاله وإبرازه عَنْك وكل شَيْء أعطاكه وَوَضعه فِيك فَإِنَّمَا أَعْطَاك لتبرزه فَيكون رَبك مَحْمُودًا على مَا وضع فِيك ناشرا فِي خلقه جماله ومحاسن فعاله وَتَكون عَلَيْهِ مثابا مكرما فَإِذا منعته إبرازك إِيَّاه فقد ظلمت نَفسك وضيعتها وضاعت عَنْك الْأَشْيَاء الَّتِي وَضعهَا فِيك فالقلب أَمِير على الْجَوَارِح وَالروح مُعَلّق بالوتين وَهُوَ عرق الْقلب والحياة فِي الرّوح وَكلما زيد من الْحَيَاة حيى الْقلب وَزَاد علمه ومعرفته وانبسط ذَلِك الْعلم فِي الصَّدْر وتميزت الْأَشْيَاء وتدبر الْعقل فِي صَدره فميز الْحسن من السَّيئ فالعلم إِلَى الذِّهْن وَالتَّدْبِير والتمييز إِلَى الْعقل فَجعل للقلب عينين وَجعل لَهما طَرِيقا إِلَى الْمظهر وَهُوَ الْعَرْش وَمد بصر قَلْبك إِلَى مظهر نور الْعلم بِاللَّه والمعرفة لله حَتَّى يرجع بَصَره إِلَى صدرك بِعلم عَزِيز وَأُمُور مُسْتَقِرَّة يعلم كنهها وكيفيتها وَوضع الشَّهَوَات فِي الْجوف ففوران الشَّهَوَات لَهَا دُخان وغيوم لِأَنَّهَا من بَاب النَّار وجالبها وناقلها الْهوى فَإِذا صَارَت إِلَى الصَّدْر صَار الصَّدْر كَيَوْم مغيم قد حَال بَين نور الشَّمْس وَبَين قَلْبك فَإلَى أَيْن تهتدي وَأي طَرِيق تسلك فِي ذَلِك الْغَيْم وَأي شَيْء تتوقى حَتَّى لَا تتردى فِيهِ مَعَ ذَلِك الدُّخان وَأي أَرض مشاكة تتجنبها حَتَّى لَا تقع فِيهَا وَأي مزبلة تحيد عَنْهَا حَتَّى لَا تتلوث فِي أقذارها فَإِذا سكنت الغيوم وَذهب الفوران وبرزت الشَّمْس فأشرقت اهتديت للطريق وتتجنب الْآفَات لِأَنَّهَا صَارَت رَأْي الْعين فَإِذا ذهبت الغيوم ورميت ببصر الْعين الَّذِي على الْفُؤَاد امْتَدَّ الْبَصَر إِلَى ذَلِك الَّذِي(4/105)
جعل لَك الطَّرِيق إِلَيْهِ فَجعلت ببصر عَيْنك فِي ملكوت الْعَرْش فَرجع إِلَى الْقلب بالعجائب من تِلْكَ الْمشَاهد ووقفت على تَدْبِير عَظِيم من أَمر الله تَعَالَى فِي شَأْنك فَكل حَرَكَة ظَهرت مِنْك فَإِنَّمَا يظهرها الْحَيَاة وكل حَرَكَة ظَهرت مِنْك بِغَيْر ذكرالله عز وَجل فقد فاتك من الْخدمَة بِقَدرِهَا وبقسطها يفقدك ذكر الله تَعَالَى إياك
وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ يتحسر أهل الْجنَّة على شَيْء إِلَّا على سَاعَة مرت لم يذكرُوا الله فِيهَا روى ذَلِك معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِيرُوا سبق المفردون قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا المفردون قَالَ هم المتهترون بِذكر الله حط الذّكر عَنْهُم أوزارهم فَوَرَدُوا الْقِيَامَة خفافا
وَعَن أبي جَعْفَر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد الْأَعْمَال ثَلَاثَة ذكر الله على كل حَال ومواساة الْأَخ من مَالك والإنصاف من مَالك
فأدوم النَّاس على الذّكر أوفرهم للْخدمَة لَكنا لَا نقدر على مداومة الذّكر مَعَ كل طرفَة وَمَعَ كل نفس إِنَّمَا هَذَا للْمَلَائكَة الَّذين عروا من الشَّهَوَات وَنحن لَا نقدر على مَا قدرت عَلَيْهِ لِأَن آفَات الْجَسَد من الْجُوع والعطش والآلام تشغلنا وتذهلنا فَرضِي منا عز وَجل أَن يكون(4/106)
ذكره مَعَ اسْتِعْمَال كل جارحة لَا مَعَ كل حَرَكَة وَذَلِكَ الْجَوَارِح السَّبع الكواسب للخير وَالشَّر وَهِي السّمع وَالْبَصَر وَاللِّسَان وَالْيَد والقدم والبطن والفرج فَإِذا ذكرنَا مَعَ تَحْرِيك كل جارحة بِخَير فَرضِي بِهِ ذَكرْنَاهُ بِنِعْمَة تِلْكَ الْجَارِحَة علينا فَهَذَا ذكر يترقى بِهِ العَبْد دَرَجَات حَتَّى يبلغ منَازِل المقربين الَّذين يَدُوم ذكرهم على كل حَال لِأَن قُلُوبهم قد ملكتها عَظمَة الله عز وَجل وسبتها محبته وَأما من دونهم فَإِذا حرك جارحة من هَذِه الْجَوَارِح السَّبع بِتِلْكَ الْحَيَاة الَّتِي فِيهَا فَإِنَّمَا يحركها بِالْقَلْبِ وَالْقلب أَمِير وَذَلِكَ التحريك مِنْهُ اسْتِعْمَال لَهَا فَإِذا قصد الْخَيْر فَإِنَّمَا يقْصد ذكر الله وإياه أَرَادَ وَإِذا قصد الشَّرّ بِمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ للهوى والشهوة فقد حاد عَن الله تَعَالَى وَاسْتعْمل إمارته فِي طَرِيق الْجور فجار على جوارحه وظلم نَفسه حَيْثُ أرادها وَأوجب لَهَا النَّار وحرمها ثَوَاب الله
والحركات الَّتِي ذكرنَا أَولا الَّتِي خرجت من أَرْكَانه من غير اسْتِعْمَال لَهَا بِقَلْبِه مَعَ كل نفس وَمَعَ كل طرفَة لَا تبعة عَلَيْهِ فِيهَا لِأَنَّهَا حركات الْحَيَاة لَيْسَ فِيهَا أَمر وَلَا نهي مثل نظرة الْفجأَة لِأَن عَيْنَيْك مفتوحتان فَلَيْسَ عَلَيْك تبعة فِي وُقُوع بَصرك على الْأَشْيَاء الَّتِي ترَاهَا بِأول النظرة حَتَّى تستعمله بقلبك وَكَذَلِكَ تقلبك فِي مَقْعَدك من قبض يَد وَبسط واتكاء واحتباء وَأَشْبَاه ذَلِك هَذَا مِمَّا لَا يمْتَنع مِنْهُ الْآدَمِيّ من الحركات فَإِن ظَهرت مِنْك فِي سَاعَات تمر بك فَإِن كَانَ قَلْبك غافلا عَن الله كَانَت خدمَة قد فاتتك وثواب ضَاعَ عَنْك الْمُنعم يجْرِي عَلَيْك رزقه ويذكرك بادرار نعمه عَلَيْك وَقد ضيعت فِي ذَلِك الْوَقْت الْخدمَة فَهُوَ فِي ذكرك وَأَنت عَنهُ فِي غفلتك فَإِن لم تتبع بالتبعات لحقتك الْحَسْرَة الَّتِي قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا يتحسر أهل الْجنَّة فِي الْموقف لَا فِي الْجنَّة لما عرضت عَلَيْهِم أَيَّام الدُّنْيَا وماذا خرج لَهُم من ذكر الله تَعَالَى(4/107)
أما ثَوَاب عمل الْأَركان من قُصُور الْجنَّة وَنَعِيمهَا وثواب الذّكر من فَرح الله بِالْعَبدِ وحبه لَهُ وتقريبه والبسط مِنْهُ ثمَّ نظرُوا إِلَى السَّاعَة الْأُخْرَى الَّتِي لم يذكرُوا الله فِيهَا وَقد حرمُوا ثَوَابهَا والمسخرون قد عمِلُوا أَعْمَالهم وأوصلوا مَنَافِع السخرة إِلَى هَذَا الْآدَمِيّ فَضَاعَت الْخدمَة عَن الْآدَمِيّ بِقدر مَا غَابَ عَن قلبه ذكره وَلَو طرفَة أَو لَحْظَة وَذَلِكَ مَوْضُوع عَن الْآدَمِيّ لِأَنَّهُ خلق فِي غيب وَالْمَلَائِكَة فِي جهر وكشف وعروا عَن الشَّهَوَات والآدمي مبتلى بهَا فَهُوَ نسَاء خطاء عجول فَلَمَّا خلق الله تَعَالَى خلقنَا هَكَذَا رحمنا وَعطف علينا فأعطانا فِي الْقُلُوب من الْعلم بِهِ مَا أَنبأَنَا فِي كِتَابه أَن الْمَلَائِكَة عجزت عَن ذَلِك الْعلم {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا}
فالملائكة يطالعون بعيون أَجْسَادهم مَا تَحت الْعَرْش وَقُلُوب الْآدَمِيّين تطالع مَا وَرَاء الْحجب من عظائم الْأُمُور الَّتِي لَا تَدور الْأَلْسِنَة بذكرها ثمَّ الآدميون على ضَرْبَيْنِ ضرب أهمل الْقلب حَتَّى خرجت الحركات مِنْهُ بِغَيْر ذكر وَلَا نِيَّة فِيمَا أذن الله لَهُ من الْأكل وَالنَّوْم وَالشرب فَهُوَ فِي ذَلِك الْوَقْت مضيع للْخدمَة بطال فتعظم حسرته وَالضَّرْب الآخر أهمل الْقلب حَتَّى خرجت حركات فِي أَمر لم يَأْذَن بِهِ الله تَعَالَى فَصَارَ ذَنبا ومعصية فَذهب العَبْد بِالرَّقَبَةِ أكل رزقه وأبق فَاجْتمع عَلَيْهِ أَمْرَانِ فَوت ذهَاب الْخدمَة وعار الْإِبَاق فَهُوَ أعظم حسرة وَأَشد عُقُوبَة فَلَمَّا علم الله تَعَالَى أَن ذَلِك نَازل بعبيده لم يؤيسهم من رَحمته بل ترك لَهُم بَابَيْنِ مفتوحين بَابا عَن الْيَمين وَهُوَ بَاب التَّوْبَة وبابا تجاهه وَهُوَ بَاب الدُّعَاء وَبسط يَده فَتَركهَا مبسوطة لمن رَجَعَ إِلَيْهِ وَبَايَعَهُ على رد الرَّقَبَة وبذل النَّفس
عَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله لَا(4/108)
ينَام وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن ينَام باسط يَده لمسيء النَّهَار أَن يَتُوب بِاللَّيْلِ ولمسيء اللَّيْل أَن يَتُوب بِالنَّهَارِ حجابه النَّار لَو كشفها لأحرقت سبحات وَجهه كل شَيْء أدْركهُ بَصَره
فَإِذا تَابَ وَأقَام على سَوَاء الطَّرِيق أشرق لَهُ نوران نور الْحق وَنور الْعدْل فنور الْحق يمنعك عَن الْبَاطِل وَالْمَعْصِيَة وَنور الْعدْل يمسكك عَن الْميل فِي الْحق وَهُوَ أَن تكون فِي الطَّاعَة مرائيا أَو متصنعا أَو مداهنا فتذهب عَن الاسْتقَامَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ}
فَإِذا ظَفرت بِهَذَيْنِ النورين وَكَانَا لَك فلزمتهما فَأَنت فِي كل أَمر يحدث يخرج حركاتك إِلَى الْجَوَارِح من قلب محق عدل فَهَذَا قد أكل رزقه وَقبض مَنَافِعه من المسخرين وَأدّى إِلَى الله تَعَالَى خدمته وَفِي خلال ذَلِك يسْتَغْفر للتقصير الَّذِي يتخوف مِنْهُ فَلم يبْق لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْض وَلَا للشمس وَالْقَمَر وَاللَّيْل وَالنَّهَار عَلَيْهِ تبعة وَلَا خُصُومَة وَمن كَانَ بِخِلَاف ذَلِك فَهَؤُلَاءِ كلهم خصماؤه فويل لَهُ من أرضه الَّتِي يدْفن فِيهَا مَاذَا تعْمل بِهِ وَكَيف تعصره عصرا وَكَيف تضغطه ضغطا وَمن سمائه الَّتِي يصعد بِرُوحِهِ إِلَيْهَا وَمن مَلَائِكَة الله حَيْثُ يمر بِرُوحِهِ عَلَيْهِم وَمن جَمِيع خلقه المسخرين لَهُ يَقُولُونَ قد اسْتَرَحْنَا من هَذَا العَبْد الْآبِق وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستريح ومستراح مِنْهُ
فالمستريح من غفر لَهُ والمستراح مِنْهُ من هَؤُلَاءِ خصماؤه يَقُولُونَ أوصلنا إِلَيْك السخرة فَأَيْنَ الْخدمَة فَمن تَابَ وتطهر تولاه الله تَعَالَى(4/109)
واتخذه حبيبا كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين} ثمَّ أرْضى عَنهُ خصماءه
رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يُنَادي مُنَاد يَوْم الْقِيَامَة أَلا من كَانَ لله وليا فليعتزل ثمَّ يَقُول أَنا ضَامِن لمن ادّعى قبلهم حَقًا
فَهَؤُلَاءِ الَّذين ضمن لَهُم آدميون ونادى جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام بحب الله لَهُ فبرأه من تبعة أهل السخرة
وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن صَلَاتكُمْ عَليّ معروضة يَوْم الْجُمُعَة فَأَكْثرُوا عَليّ الصَّلَاة فَقَالَ قَائِل كَيفَ وَقد رممت فَقَالَ إِنَّا معاشر الْأَنْبِيَاء حرم الله على الأَرْض أَجْسَادنَا أَن تأكلها
أخبر عَن حَال الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَن الأَرْض تبرأت مِنْهُم وَلم تتبعهم مِمَّا أكلُوا فِيهَا لأَنهم تناولوا مَا تناولوا مِنْهَا بِالْحَقِّ وَالْعدْل
يُحَقّق مَا قُلْنَا حَدِيث جَابر بن عبد الله أَن شُهَدَاء أحد لما نقلوا عَن قُبُورهم إِلَى مَوضِع آخر فِي زمن مُعَاوِيَة حَيْثُ أَرَادَ أَن يجْرِي المَاء فِي ذَلِك الْموضع أخرجُوا عَن قُبُورهم بعد نَحْو من أَرْبَعِينَ سنة رطابا حَتَّى أَصَابَت المسحاة قدم حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ فانبعث دَمًا طريا
وَقد حذر الله عَن الْميل عَن الْحق وَاتِّبَاع الْهوى قَالَ تَعَالَى يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع(4/110)
الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد بِمَا نسوا يَوْم الْحساب)
أعلمنَا أَن نِسْيَان يَوْم الْحساب يجرئنا على اسْتِعْمَال الْهوى وَترك الحذر من الْعلم بالهوى وَأَعْلَمنَا فِي آيَة أُخْرَى أَن فِي يَوْم الْحساب إبلاء السرائر واستخراج حَاصِل الصُّدُور فَإِن قَالَ قَائِل إِن الله تَعَالَى وضع فِي علما وَمَعْرِفَة وَقُوَّة وذهنا وَغير ذَلِك من الْأَشْيَاء وَلَكِن مَنَعَنِي الْإِذْن فَبَقيَ هَذِه الْأَشْيَاء فِي غير عاملة وَلَا مستعملة فَمن حجَّة الله تَعَالَى أَن يَقُول إِنَّمَا أَعطيتك هَذِه الْأَشْيَاء ووضعتها فِي وعائك والوعاء هُوَ الْقلب وَالنَّفس فَإِذا ذهبت بقلبك ونفسك عني وَأَقْبَلت على الشَّهَوَات وَاسْتِعْمَال الْهوى فقد ذهبت بِالنَّفسِ وَبِمَا فِيهَا من هَذِه الْأَشْيَاء الْمَوْضُوعَة فِيك وَهِي نعم مني فِيك فَلَمَّا غيرت بِأَن ذهبت بِنَفْسِك انْقَطع الْإِذْن وَبقيت الْأَشْيَاء غير عاملة وَقَالَ فِي تَنْزِيله {ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم}
وَإِذا ذهبت بروحك وحياتك وقوتك وعلمك وذهنك وفهمك وفطنتك وحلمك وبصرك وكياستك فمازجتها بالهوى والهوى دنس قد خرج من النَّار وَمر بالشهوات فاحتملها إِلَى شهوتك الْمَوْضُوعَة فِي نَفسك فأثارها فأغبر عَلَيْك صدرك وَبقيت عينا الْفُؤَاد فِي الصَّدْر فِي ذَلِك الْغُبَار تائهة فغيرت النعم بِأَن قطعت الْإِذْن عَنْك فَإِن وقفت نَفسك بَين يَدي بِمَا فِيهَا من الْأَشْيَاء الْمَوْضُوعَة فقد بذلت نَفسك لي وصرت أَمينا من أمنائي فَأَذنت للأشياء الْمَوْضُوعَة فِيك إِذْنا عَاما لَا يحْتَاج إِلَى أَن تستأذنني فِي كل أَمر مِثَال هَذَا العَبْد الْمَحْجُور الَّذِي لم يوثق بأمانته فَإِنَّهُ يحْتَاج فِي كل تصرف إِلَى إِذن خَاص وَلَا يلْزم السَّيِّد ضَمَان مَا اسْتَدَانَ(4/111)
بِغَيْر إِذْنه بل تعلق رقبته فِي يَوْم الْعتْق وَالْعَبْد الَّذِي يوثق بأمانته يكون مَأْذُونا مُطلقًا تَاجِرًا أَمينا فَلَا يحْتَاج فِي كل تصرف إِلَى إِذن خَاص وكل مَا يركبه من الدُّيُون يلْزم السَّيِّد كَذَلِك عَبدِي الْمُتَّهم الَّذِي لَا يبْذل لي نَفسه أحجر عَلَيْهِ لأضبطه أما إِذا بذل لي نَفسه وتخلى من الْهوى والشهوة اجتبيته وهديته كَمَا وصف خَلِيله {شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه} فَهُوَ فِي قَبْضَة الله يَسْتَعْمِلهُ على مَشِيئَته ومحبته فَإِذا نطقوا فِيهِ نطقوا وَإِذا نظرُوا فبه نظرُوا وَإِذا سمعُوا فبه سمعُوا وَإِذا بطشوا فبه بطشوا وَإِذا مَشوا فبه مَشوا وَإِذا تدبروا فبه تعلقوا
كَذَلِك جَاءَ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن جِبْرَائِيل صلوَات الله عَلَيْهِ عَن الله تبَارك وَتَعَالَى
قَالَ لَهُ قَائِل وَمَا بذل النَّفس لرَبه قَالَ أَن يتْرك جَمِيع مشيئآته لمشيئته فَإِن الله تَعَالَى خلقه لما شَاءَ لَا لما شَاءَ العَبْد ودبر لَهُ من أَمر دُنْيَاهُ مَا علم أَن صَلَاحه فِيهِ فَإِذا ترك العَبْد مَشِيئَته فَصَارَت عينا قلبه شاخصتين إِلَى مَا يبرز لَهُ من الْغَيْب فَرضِي بِهِ وَقد فوض إِلَيْهِ قبل ذَلِك أُمُور فقد بذل لَهُ نَفسه وزالت عَنهُ التُّهْمَة وَصَارَ أَمينا من أمنائه فَأذن لجَمِيع مَا وضع فِيهِ أَن يعملوا أَعْمَالهم فِي الْبَاطِن ويؤدوا إِلَيْهِ ثمراتهم فَصَارَ عبدا مَأْذُونا تَدور رحى حركاته بالقطب وَهُوَ الْإِذْن وَعند ذَلِك صَارَت مَشِيئَة ربه فِي مَشِيئَته فَمَتَى مَا شَاءَ شَيْئا أنفذه وَكَأن ذَلِك الشَّيْء الَّذِي شَاءَ العَبْد مَشِيئَة ربه فَهُوَ الَّذِي يقسم على ربه
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كم من أَشْعَث أغبر ذِي طمرين لَا يؤبه لَهُ لَو أقسم على ربه لَأَبَره(4/112)
فَإِن كَانَ من حجَّة العَبْد أَن يَقُول وضعت فِي الْعقل وَالْعلم وَالْقُوَّة والحياة وَلَكِن حبست عني الْإِذْن وَهَذِه الْأَشْيَاء كلهَا جنود الْقلب وَالْقلب أَمِير فَمن حجَّة الرب تَعَالَى أَن يَقُول إِنِّي وضعت هَذَا فِيك لتَكون النَّفس لي وقائمة بَين يَدي فخانت وزاغت وَلم تنظر إِلَى مشيئتي وتدبيري الَّذِي سبق خلقهَا
والخائن كَالْعَبْدِ الْمَحْجُور يُطلق لَهُ الْإِذْن فِي شَيْء وَلَا يُطلق فِي شَيْء لِأَنَّهُ يفْسد وَلَا يضْبط قَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إِلَّا بِإِذن الله}
فالإذن للنَّفس بِمَا وضع فِيهَا فَإِن قَالَ العَبْد مخاصما فَهَل أقدر أَن أبذل نَفسِي وأترك مشيئتي إِلَّا بِمَا تُعْطِينِي فَإنَّك وضعت فِي الشَّهَوَات وَإِنَّمَا زاغت بِي حلاوة شهواتي وَقُوَّة هواني فَمن حجَّة الرب تَعَالَى أَن يَقُول أَعطيتك حلاوة معرفتي وَقُوَّة الْحَيَاة بِي وقائمة من عِنْدِي وتعلقا بحبلي فَهَلا جررت حلاوة شهواتك إِلَى حلاوة معرفتي بِقُوَّة تِلْكَ الْحَيَاة وبثبات تِلْكَ الْقَائِمَة ورسوخ قدمك فِي الْقَائِمَة حَتَّى تنغمر حلاوة شهواتك فِي حلاوة معرفتي وتعلقك بحبلي حَتَّى لَا يقدر الْهوى أَن يمد بك فههنا تَنْقَطِع الْحجَّة وتتحير العبيد فالمؤمنون من الله عَلَيْهِم فِي السّير بمشيئته وَلَيْسَ لأحد فِي الْمَشِيئَة مُنَازعَة أَن يَقُول لم شِئْت لفُلَان وَلم تشأ لي وَكَذَلِكَ الْمحبَّة فخلق الله الْخلق فِي ظلمَة ثمَّ رش عَلَيْهِم من نوره فَلَمَّا أصَاب من أصَاب بمشيئته وَأَخْطَأ من أَخطَأ بمشيئته فقد علم من يُصِيبهُ مِمَّن يخطئه فَلَمَّا أبرز السُّلْطَان النَّفر الَّذين لم ينالوا من ذَلِك الرش شَيْئا فتباعدوا فَلَمَّا خَرجُوا من صلب آدم عَلَيْهِ السَّلَام(4/113)
خَرجُوا سُودًا عميا عَن الله فأقروا بِهِ كرها على وَجه التقية وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَله أسلم من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها}
كَذَلِك هَؤُلَاءِ الموحدون أَعْطَاهُم كلهم آلَات الطَّاعَة فِي الْبَاطِن من الْعلم والذهن وَالْعقل ثمَّ لم يعطهم مَا بِهِ يبذلون أنفسهم لَهُ حَتَّى لَا يشاءون شَيْئا إِلَّا مَا شَاءَ الله من أجل الشَّهَوَات الَّتِي ركبت فيهم لِأَن للشهوات حلاوة وَإِنَّمَا أعطي ذَلِك من يذل نَفسه لله وَقطع عَن نَفسه حب الشَّهَوَات مُجَاهدًا لنَفسِهِ مُحَاربًا لهواه مَادًّا بِقَلْبِه إِلَى ربه ضرعا باكيا تجْرِي دُمُوعه على خديه فَمرَّة يجثو وَمرَّة ينْتَصب وَمرَّة يضع خَدّه بِالْأَرْضِ وَمرَّة يَدْعُو وَمرَّة يتملق حَتَّى رَحمَه ربه واطلع على صدق بذله فَمن عَلَيْهِ بذلك الْحبّ الَّذِي هُوَ أصل الْحبّ عِنْده فأحياه بذلك وأذاقه من حلاوته مَا جرف كل حلاوة فِي نَفسه كالسيل الَّذِي يَجِيء فَيجْرِي بالكناسات وَمَا فِيهَا وبالمزابل بِمَا فِيهَا من الأقذار وَالْمَيتَات فَصَارَت بقاعا طَاهِرَة فَكَذَلِك صدر هَذَا العَبْد بِمَا نَالَ من هَذَا الْحبّ فَذَهَبت مشيئآته بحب خالقه فَصَارَ مَأْذُونا بِجَمِيعِ مَا فِيهِ من الْأَشْيَاء الْمَوْضُوعَة فِيهِ حَتَّى أينعت ثمراتها ونورت عمالاتها على الْجَوَارِح ثمَّ صيره فِي أَحْوَال الدُّنْيَا مقسمًا على ربه فِي ملكه قَالَ الله تَعَالَى {أهم يقسمون رَحْمَة رَبك نَحن قسمنا بَينهم معيشتهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا}
فرتب لتارك الْمَشِيئَة مرتبَة الْقِسْمَة أَن يتَنَاوَل من ملكه حَاجته من خَزَائِن تِلْكَ الْحَاجة بِقَلْبِه ثمَّ يرفعهُ إِلَى ربه متمسكا ينْتَظر مَشِيئَته فَيجْعَل الرب مَشِيئَته فِي مَشِيئَة عَبده فَذَلِك قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو أقسم على الله لأبر قسمه(4/114)
فإقسامه أَن يَأْخُذ العَبْد من الْقِسْمَة بمشيئته فيمضي أَخذه وإقسامه فَهَذَا الْحبّ بمشيئته يُعْطي ويمن لَيْسَ لأحد أَن يَقُول لم شِئْت لَهُ وَلم تشأ لي وَلم أحببته وَلم تحبني
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى إِذا أحب عبدا قَالَ يَا جِبْرَائِيل إِنِّي أحب فلَانا فَأَحبهُ فَيُحِبهُ جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَيُوضَع لَهُ الْقبُول فِي الأَرْض
فالعلم بِاللَّه يؤدبك فِي باطنك وَالْعلم بتدبير الله يؤدبك فِي ظاهرك قَالَ لَهُ قَائِل كَيفَ يؤدبه فِي الْبَاطِن قَالَ يَجْعَل ذَلِك الْعلم مراقبا لله فيقف بِهِ على حُدُود المراقبة فِي الْأُمُور كلهَا ويورثه الْحيَاء مِنْهُ وَيقف بِهِ على مهابة أسرار الله ويرضي نَفسه رضَا فِي أثقال الْأَعْمَال حَتَّى يُؤَدِّيه إِلَى التَّعَلُّق بِهِ فِي كل الْأَحْوَال قَالَ فَكيف يؤدبه علم التَّدْبِير فِي ظَاهره قَالَ
إِذا علم التَّدْبِير تصور لَهُ صور الْأَعْمَال فَرَأى مَرَاتِب الْأَعْمَال عِنْد الله فَالصَّلَاة إقبال العَبْد على الله وَالزَّكَاة فرار من شرك النَّفس وَالصَّوْم وثاق النَّفس ورباطها لله وَالْجهَاد حمية وتعصب لله وَالْحج وَفَاء الْبيعَة الأولى وتجديد بيعَة أُخْرَى وَالْجُمُعَة قبُول ضِيَافَة الله وَتَنَاول جوائزه والأعياد اعْتِرَاض العبيد على الله ومجالس الذّكر تملق العبيد لله ومرتع فِي رياض الله ومؤآخاة الْمُؤمنِينَ ومعاطاتهم مرمة عَسْكَر الله وَالدُّعَاء إِلَى الله نصيحة الله وَالرَّغْبَة إِلَى الله افتقار العَبْد إِلَى الله فَانْظُر إِلَى مَا نطق بِهِ التَّنْزِيل وَإِلَى مَا جَاءَت بِهِ الْأَخْبَار عَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام من ثَوَاب(4/115)
هَذِه الْأَشْيَاء وَحسن الْجَزَاء هَل يشبه بعضه بَعْضًا فَإِذا نظرت إِلَى ذَلِك علمت أَن بَينهُنَّ تَفَاوتا وَإِنَّمَا اخْتلفت مثوباتها لاخْتِلَاف صورها وَمن التَّدْبِير خرجت الصُّور فَمن عرف هَذِه الصُّور من الْأَعْمَال فَإِنَّمَا يعرفهَا بِالْعلمِ بتدبير الله تَعَالَى فعلى حِسَاب ذَلِك يُقيم حرمتهَا ويضعها موَاضعهَا أَلا يرى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ كَانَ إِذا صلى يُعْطي كل عُضْو مِنْهُ حَقه من الصَّلَاة
وَلذَلِك قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أعْطوا مرافقكم حظها من السُّجُود مَعْنَاهُ أَن لَا يبسط ذراعيها فَيبْطل حظها من السُّجُود
وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ لِأَن يرضى إبهامي رضَا أحب إِلَيّ من أَن أستقبل بهما غير الْقبْلَة إِذا وضعت كفي بِالْأَرْضِ فِي حَال السُّجُود
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الْفَرِيضَة لم يصل فِي مَكَانَهُ شَيْئا من التَّطَوُّع إِقَامَة لحُرْمَة الْفَرِيضَة وَكَانَ إِذا تطوع تياسر وَيَأْمُر بذلك وَلَا يتيامن إِقَامَة لحُرْمَة الْيَمين وَكَانَ إِذا صلى إِلَى عَمُود أَو سَارِيَة أَو عصى جعله على حَاجِبه الْأَيْسَر وَلم يَجعله نصب عَيْنَيْهِ إِقَامَة لحُرْمَة القبالة وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِذا سلم خفض تسليمته الْأُخْرَى قَلِيلا من التسليمة الأولى لحُرْمَة كَاتب الْيَمين وَأَشْبَاه ذَلِك مَحْفُوظَة عِنْدهم(4/116)
- الأَصْل الثَّامِن وَالسِّتُّونَ والمائتان
-
فِي سر رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى
عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نضر الله امْرأ سمع منا حَدِيثا فَبَلغهُ كَمَا سمع منا فَإِنَّهُ رب مبلغ هُوَ أوعى لَهُ من سامع
عَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول نضر الله امْرأ سمع منا حَدِيثا فَبَلغهُ غَيره فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ وَرب حَامِل فقه غير فَقِيه
عَن جُبَير بن مطعم رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحيف من منى فَقَالَ نضر الله عبدا سمع مَقَالَتي فوعاها ثمَّ أَدَّاهَا إِلَى من لم يسْمعهَا فَرب حَامِل فقه لافقه لَهُ وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ(4/117)
قَالَ أَبُو عبد الله اقْتضى الْعلمَاء الْأَدَاء وتبليغ الْعلم فَلَو كَانَ اللَّازِم لَهُم أَن يؤدوا تِلْكَ الْأَلْفَاظ الَّتِي بلغت أسماعهم باعيانها بِلَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَلَا تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير لكانوا يستودعونها الصُّحُف كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقُرْآنِ فَكَانَ إِذا انْزِلْ الْوَحْي دَعَا الْكَاتِب فَكَتبهُ مَعَ مَا توكل الله لَهُ بجمعه وقرآنه فَقَالَ {إِن علينا جمعه وقرآنه} وَقَالَ {وَإِنَّا لَهُ لحافظون}
فَكَانَ الْوَحْي محروسا مَعَ الحرس يَكْتُبهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو كَانَت هَذِه الْأَحَادِيث سَبِيلهَا هَكَذَا لكتبها أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَل جَاءَنَا عَن أحد مِنْهُم أَنه فعل ذَلِك
وَجَاء عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه اسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صحيفَة فَأذن لَهُ
وَأما سَائِر الْأَخْبَار فانهم تلقنوها مِنْهُ حفظا وأدوها حفظا فَكَانُوا يقدمُونَ ويؤخرون وتختلف أَلْفَاظ الرِّوَايَة فِيمَا لَا يتَغَيَّر مَعْنَاهُ فَلَا يُنكر ذَلِك مِنْهُم وَلَا يرَوْنَ بذلك بَأْسا
وَرُوِيَ أَنه لما قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار(4/118)
أمسك أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الرِّوَايَة مَخَافَة تغير الْأَلْفَاظ ثمَّ سَأَلُوهُ عَن ذَلِك فهداهم السَّبِيل وأوضح لَهُم الطَّرِيق
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الرجل يحدث بِالْحَدِيثِ فَيقدم وَيُؤَخر وَيزِيد وَينْقص قَالَ إِذا أصَاب الْمَعْنى فَلَا بَأْس
عَن عبد الله بن أكمية رَضِي الله عَنهُ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُول الله إِنَّا نسْمع الحَدِيث فَلَا نؤديه كَمَا سمعنَا قَالَ مَا لم تحرموا حَلَالا وَلَا تحللوا حَرَامًا وأصبتم الْمَعْنى فَلَا بَأْس
عَن مَكْحُول قَالَ خرجنَا إِلَى وَاثِلَة بن الْأَسْقَع فَقُلْنَا يَا أَبَا الْأَسْقَع حَدثنَا بِحَدِيث غض لَا تقدم فِيهِ وَلَا تُؤخر حَتَّى كأنا نَسْمَعهُ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَغَضب الشَّيْخ وَكَانَ شَيخا كَبِيرا فَقَالَ أجلسوني فأجلس فَقَالَ أما مِنْكُم أحد قَامَ فِي لَيْلَة بِشَيْء من الْقُرْآن قُلْنَا مَا منا إِلَّا من قَامَ بِمَا رزق الله تَعَالَى قَالَ فَكَأَن أحدكُم حَالفا بِاللَّه مَا قدم حرفا من كتاب الله وَلَا أَخّرهُ إِنَّا كُنَّا أمسكنا عَن الحَدِيث على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى سمعناه يَقُول إِنَّه لَا بَأْس بِالْحَدِيثِ قدمت فِيهِ أَو أخرت إِذا أصبت مَعْنَاهُ
ثمَّ لما تداولت هَذِه الْأَحَادِيث طَبَقَات الْقُرُون واشتبهت عَلَيْهِم أصُول الْعلم وَهِي الْحِكْمَة وافتقدوا غور الْأُمُور كثر التَّخْلِيط بِحَال الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان والتقديم وَالتَّأْخِير فالحكماء ميزوا رِوَايَة الروَاة صحيحها من سقيمها
قَالَ لَهُ قَائِل مثل مَاذَا قَالَ مثل مَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله(4/119)
عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أَتَاكُم أهل الْيمن أَلين قلوبا وأرق أَفْئِدَة
فميزت الْحُكَمَاء بَين اللَّفْظَيْنِ وحكموا لكل وَاحِد بِالصَّوَابِ وَذَلِكَ أَن الْقلب هُوَ الْبضْعَة الْبَاطِنَة والفؤاد الْبضْعَة الظَّاهِرَة الَّتِي فِيهَا العينان والأذنان والنور فِي الْقلب ويتأدى إِلَى الْفُؤَاد فالرؤية للفؤاد والتقلب للقلب وَلذَلِك سمي قلبا وَالله تَعَالَى يقلبه وَفِي الدُّعَاء يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلبِي وَقَالَ {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} وَلَكِن أصل التقليب للقلب وَإِن نَالَ الْفُؤَاد مِنْهُ حظا وَلذَلِك لم يسم قلبا وَسمي فؤادا
وَنسب الرُّؤْيَة إِلَى الْفُؤَاد فَقَالَ {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى} لِأَن الْعَينَيْنِ على الْفُؤَاد يُقَال هَذَا خبز فئيد لخبز مِلَّة لِأَن لَهُ ظَاهرا وَبَاطنا وَظَاهره مفشي عَلَيْهِ فاللين للقلب والرقة للفؤاد لِأَنَّهُ إِذا دخل النُّور الْقلب بِالرَّحْمَةِ دخل فرطب الْقلب بِالرَّحْمَةِ ولان ثمَّ لَا يزَال ذَلِك النُّور يعْمل فِي ذَلِك الْقلب بحره وحريقه حَتَّى يرقق هَذِه الْبضْعَة الطاهرة لذوب تِلْكَ اللحمة فَمن زيد فِي نور قلبه كَانَ أرق لفؤاده لذوب تِلْكَ الْبضْعَة من فُؤَاده واللين من قلبه لرطوبة الرَّحْمَة فَإِنَّمَا وصف أهل الْيمن بذلك وَأخْبر بحظهم من الله فَمن لم يصل إِلَى معرفَة هَذَا الَّذِي وَصفنَا وَكَانَت رِوَايَته حفظا اشْتبهَ عَلَيْهِ الْأَمر فَمرَّة يَقُول أَلين قلوبا أرق أَفْئِدَة(4/120)
وَمرَّة يَقُول أَلين أَفْئِدَة وأرق قلوبا فَقلب الْمَعْنى واستحال الْكَلَام وَلم يكن عِنْده تَمْيِيز الْحُكَمَاء
وَمثل قَوْله فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ الْبكر تستأذن وَالثَّيِّب تستأمر
فروى ابْن الْمُبَارك رَضِي الله عَنهُ عَن عَليّ بن الْمُبَارك رَضِي الله عَنهُ بِهَذَا اللَّفْظ وروى وَكِيع عَن عَليّ بن الْمُبَارك الْبكر تستأمر وَالثَّيِّب تستأذن
فَالَّذِي فقه هَذَا ميز الصَّوَاب من الْخَطَأ فَقَالَ الْبكر تستأذن أَلا ترى أَنه قَالَ إِذْنهَا صماتها وَالثَّيِّب تستأمر حَتَّى تَتَكَلَّم وتأمر فَإِنَّهَا لَا تستحيي فَمن روى أَن الْبكر تستأمر فقد أحَال لِأَن الاستئمار لمن ينْطق بِالْأَمر والاستئذان لمن سُكُوته إِذن فَهُوَ الْبكر فَمن أَرَادَ أَن يُؤَدِّي إِلَى من بعده حَدِيثا قد سَمعه جَازَ لَهُ أَن يُغير لَفظه مَا لم يتَغَيَّر الْمَعْنى وَجَاز لَهُ أَن يَقُول أَخْبرنِي وحَدثني وَكَذَلِكَ إِذا كتب إِلَيْهِ من بَلْدَة أُخْرَى جَازَ أَن يَقُول أَخْبرنِي وحَدثني فَإِن الْخَبَر يكون شفاها وَيكون بِكِتَاب وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي تَنْزِيله {من أَنْبَأَك هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيم الْخَبِير}
فَإِنَّمَا صَار نبأ وخبرا بوصول علم ذَلِك إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ يجوز أَن يَقُول حَدثنِي بِأَنَّهُ قد حدث إِلَيْهِ الْخَبَر فَسَوَاء حدث شفاها أَو بِكِتَاب وَكَذَلِكَ إِذا نَاوَلَهُ كِتَابه فَقَالَ هَذَا حَدِيثي لَك وَهَذَا خبري إياك فَحدث عني(4/121)
وَأخْبر عني جَازَ لَهُ أَن يَقُول حَدثنِي وَأَخْبرنِي وَكَانَ صَادِقا فِي قَوْله لِأَنَّهُ قد أحدث إِلَيْهِ وَأخْبرهُ فَلَيْسَ للممتنع أَن يمْتَنع من هَذَا تورعا ويتفقد الْأَلْفَاظ مستقصيا فِي تحري الصدْق يتَوَهَّم أَن تَرْجَمَة قَوْله أَخْبرنِي وحَدثني لَفظه بالشفتين وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِك فاللفظ لفظ وَالْكَلَام كَلَام وَالْقَوْل قَول والْحَدِيث حَدِيث وَالْخَبَر خبر فَالْقَوْل تَرْجِيع الصَّوْت وَالْكَلَام كلم الْقلب بمعاني الْحُرُوف وَالْخَبَر إِلْقَاء الْمَعْنى إِلَيْك فَسَوَاء أَلْقَاهُ إِلَيْك لفظا أَو كتابا وَقد سمى الله الْقُرْآن فِي تَنْزِيله حَدِيثا حدث بِهِ الْعباد وخاطبهم بِهِ وسمى الَّذِي تحدث فِي الْمَنَام حَدِيثا فَقَالَ {ولنعلمه من تَأْوِيل الْأَحَادِيث}(4/122)
- الأَصْل التَّاسِع وَالسِّتُّونَ والمائتان
-
فِي فضل الْفَاتِحَة
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله قَالَ قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ نصفهَا لي وَنِصْفهَا لعبدي يَقُول العَبْد {الْحَمد لله رب الْعَالمين} يَقُول الله تَعَالَى حمدني عَبدِي يَقُول العَبْد {الرَّحْمَن الرَّحِيم} يَقُول الله تَعَالَى أثنى عَليّ عَبدِي يَقُول العَبْد {مَالك يَوْم الدّين} يَقُول الله تَعَالَى مجدني عَبدِي يَقُول العَبْد {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} يَقُول الله تَعَالَى هَذِه بيني وَبَين عَبدِي قَالَ يَقُول {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} إِلَى آخر السُّورَة يَقُول الله تَعَالَى هَذَا لعبدي ولعبدي مَا سَأَلَ
قَالَ أَبُو عبد الله قَوْله قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ فَالصَّلَاة تصلية الْمَرْء بَين يَدي ربه لينال من سبحات وَجهه الْكَرِيم لِأَن العَبْد إِذا وقف بَين يَدي ربه مُصَليا أقبل على الله بِوَجْهِهِ الَّذِي هُوَ مَكَارِم(4/123)
بدنه ثمَّ وضع وَجهه بمكارمه على الأَرْض تذللا وتواضعا لوجهه الْكَرِيم وَلذَلِك قَالَ دَاوُد وَغَيره من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام سجد وَجْهي لوجهه الْكَرِيم وَكَانَ من جَزَاء الله لَهُ أَن أقبل عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ فالمصلي هُوَ كالمصطلي بِنَار يقف على النَّار حَتَّى يدفئ جسده من حر النَّار فَأمر الْعباد أَن يقفوا بَين يَدَيْهِ بالإقبال عَلَيْهِ قلبا وبدنا فَيقبل عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ الْكَرِيم فينالهم من سبحات وَجهه مَا يحيي قُلُوبهم من موت الشَّهَوَات ويطهر جوارحهم من أدناس الذُّنُوب فَسمى ذَلِك الْوُقُوف صَلَاة مشتقا من الصلى
فَإِذا وقف العَبْد فَمن أدب الْوُقُوف أَن يترضى ربه بالثناء عَلَيْهِ فيذكر مدائحه وصنائعه ثمَّ يسْأَل حَاجته وَكَانَت لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولأمته حظوظ مخزونة عِنْد الله فِي سره وغيبه لَيست لأحد من ولد آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو أبرزها لمدت الرُّسُل والأمم عينهَا إِلَى تِلْكَ الحظوظ وَظَهَرت الْخُصُومَة وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي أنفسهم نَحن عبيدك من طِينَة وَاحِدَة فَمَا هَذِه الحظوظ لَهُم دُوننَا وتحيرت الْمَلَائِكَة فِي شَأْن هَذِه الْأمة فَأسر هَذِه الحظوظ فِي غيبه وَأَلْقَاهَا إِلَى الدُّعَاء ليُخَيل إِلَى الْجَمِيع أَنهم إِنَّمَا نالوها من الدُّعَاء وَفتح لَهُم من بَاب الدُّعَاء مَا لم يفتح لأحد من الْأُمَم وَنزل {وَقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم}
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَعْطَيْت أمتِي مَا لم يُعْط إِلَّا الْأَنْبِيَاء كَانَ الله تَعَالَى إِذا بعث نَبيا قَالَ لَهُ مَا جعل عَلَيْك فِي الدّين من حرج وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج}
وَكَانَ الله إِذا بعث نَبيا جعله شَهِيدا على قومه وَجعل هَذِه الْأمة شُهَدَاء على النَّاس(4/124)
وَكَانَ خَالِد الربعِي يَقُول عجبت لهَذِهِ الْآيَة {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} أَمرهم بِالدُّعَاءِ وَوَعدهمْ الْإِجَابَة وَلَيْسَ بَينهمَا شَرط قَالَ لَهُ قَائِل مثل مَاذَا قَالَ مثل قَوْله {وَبشر الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} فههنا شَرط وَقَوله {بشر الَّذين آمنُوا أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم} لَيْسَ فِيهِ شَرط الْعَمَل وَمثل قَوْله {ادعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} فههنا شَرط وَقَوله {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} لَيْسَ فِيهِ شَرط وَكَانَت الْأُمَم تفزع إِلَى أنبيائها فِي حوائجهم حَتَّى يسْأَل الْأَنْبِيَاء لَهُم ذَلِك
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ أوحى الله إِلَى عَبده الْمَسِيح أَن قل لبني إِسْرَائِيل إِنِّي لَا أستجيب لأحد مِنْهُم دَعْوَة ولأحد مِنْهُم قبله مظْلمَة
وَقَالَ فِي حَدِيث آخر يَا عِيسَى قل لبني إِسْرَائِيل أَن لَا يمدوا أَيْديهم بالرغبة إِلَيّ حَتَّى يبرأوا من أنجاس الذُّنُوب
وَقَالَ فِي حَدِيث لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَو دَعَاني حَتَّى تَنْقَطِع أوصاله مَا استجبت لَهُ حَتَّى تخرج الذُّنُوب من بَين أَعْضَائِهِ
فَإِنَّمَا خص الله هَذِه الْأمة من بَين الْأُمَم بِمَا أطلق لَهُم من الدُّعَاء وَرفع الشَّرْط الَّذِي كَانَ مِنْهُ على بني إِسْرَائِيل ليصل إِلَيْهِم تِلْكَ الحظوظ الَّتِي سبقت لَهُم من الله الْحسنى من قبل دُعَائِهِمْ فَأَعْطَاهُمْ من الْيَقِين مَا نفذ(4/125)
بقلوبهم إِلَى مَحل الْإِجَابَة والإجابة هِيَ جوبة الدُّعَاء أَن ينجاب لَهُم عَن الْحجاب دعاؤهم بِنور الْيَقِين الَّذِي فضلوا بِهِ
وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْطَيْت أمتِي من الْيَقِين مَا لم يُعْط أمة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم} أَي وَاسع لمن أعطي عليم بِمن هُوَ أهل لذَلِك يخْتَص برحمته من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم)
فالاستجابة والإجابة هُوَ أَن ينفذ دُعَاء العَبْد بِقُوَّة نور الْيَقِين حَتَّى ينجاب الْحجاب فَيجوز الدعْوَة إِلَى الله تَعَالَى فيقف بَين يَدَيْهِ مقتضيا للْحَاجة وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى {فَإِنِّي قريب أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان} أَي أجعَل لدعوته جوبة وَهُوَ المستقر حَتَّى تقتضيني الْحَظ الَّذِي وضعت لَهُ بَين يَدي فأقضي أَي أمضي لَهُ من بَين يَدي حَتَّى يصل إِلَيْهِ وَلَو لم يكن حَظّ لم ينل شَيْئا وَلم أترك دَعوته مُهْملَة بل ذخرت لَهُ ذخيرة إِذا قدم عَلَيْهَا ودانه لم يستجب لَهُ لما يرى من فضل تِلْكَ الذَّخِيرَة على مَا يسْأَل
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ادعوا الله وَأَنْتُم موقنون بالإجابة
أَي مَعكُمْ نور الْيَقِين حَتَّى ينجاب لكم الْحجاب وتنفذ الدعْوَة إِلَى(4/126)
رَبهَا فَلَمَّا كَانَ شَأْن هَذِه الحظوظ على مَا وَصفنَا وَأحب الله أَن يوصلها إِلَيْهِم من طَرِيق دُعَائِهِمْ هيأ لَهُم فَاتِحَة الْكتاب فأنزلها على هَذِه الْأمة دون سَائِر الْأُمَم وخصهم بهَا كَمَا خصهم بِالدُّعَاءِ فَجعل نصفهَا دُعَاء وَنِصْفهَا ثَنَاء ليثني العَبْد بقوله تَعَالَى {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين} إِلَى قَوْله {إياك نعْبد} ثمَّ يرفع حَاجته من قَوْله {وَإِيَّاك نستعين} إِلَى آخرهَا ثمَّ أَعْطَاهُم آمين
خصهم من بَين سَائِر الْأُمَم ليصير التَّأْمِين طابعا على دُعَائِهِمْ فيختم بِهِ فَأنْزل عَلَيْهِم فَاتِحَة الْكتاب وخزنها عَن الْأُمَم ليثنوا عَلَيْهِ بأبلغ الثَّنَاء ويسألوه أوجز الْمسَائِل فَفِي ذَلِك الثَّنَاء مجمع الثَّنَاء وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة مجمع الْحَاجَات وَهَذَا لَا يعقله إِلَّا أَهله ثمَّ وَضعهَا فِي التَّنْزِيل وسماها الْقُرْآن الْعَظِيم فَقَالَ {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم}
فَروِيَ عَن أبي هُرَيْرَة عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا السَّبع المثاني وَإِنَّهَا الْقُرْآن الْعَظِيم يَعْنِي فَاتِحَة الْكتاب
فوفر الله حَظّ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحظوظ أمته فِي حَظه وبرز بذلك على الْخلق فَجعل ذَلِك الْحَظ كُله فِي(4/127)
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} {الْحَمد لله رب الْعَالمين} {الرَّحْمَن الرَّحِيم} {مَالك يَوْم الدّين} {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} {صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين}
فختمها ب آمين فَجعل مفتاحها بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وختمها آمين ووضعها فِي أم الْكتاب الَّذِي لم يطلع عَلَيْهِ أحد فِي الْحجب مَعَ الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة بَين يَدَيْهِ ثمَّ أصدرها مَعَ سَائِر الْكتب من أم الْكتاب إِلَى اللَّوْح الْمَحْفُوظ ثمَّ أنزل الْكتب إِلَى الرُّسُل إِلَى الْأُمَم وَاسْتثنى هَذِه الصُّورَة مِنْهَا فخزنها عَن الرُّسُل والأمم وادخرها لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمته وصيرت هَذِه الصُّورَة كَلِمَات حروفها مؤلفة منتظمة تِلْكَ الْحُرُوف لجَمِيع حُرُوف الْقُرْآن فسميت أم الْكتاب لِأَن الْكتاب استخرج مِنْهَا وَسميت مثاني لِأَنَّهَا استثنيت من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام فَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني} أَي سبع آيَات مِمَّا استثنيناه من الْكتب فإدخرناه لَك وَلِأُمَّتِك
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ الْآيَة السَّابِعَة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ بِنَحْوِ من ذَلِك
قَالَ لَهُ قَائِل فَكيف إِذا قَرَأَهَا الإِمَام افتتحها ب الْحَمد لله وَلَا يجْهر ب بِسم الله قَالَ إِن عِلّة مثل هَذَا لَا يدْرك إِلَّا بالْخبر
عَن سعيد بن جُبَير رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ الْمُشْركُونَ يحْضرُون الْمَسْجِد فَإِذا قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالُوا هَذَا مُحَمَّد يذكر رَحْمَن الْيَمَامَة يعنون مُسَيْلمَة فَأمر أَن يُخَافت بِسم الله(4/128)
الرَّحْمَن الرَّحِيم وَنزلت {وَلَا تجْهر بصلاتك وَلَا تخَافت بهَا}
فَبَقيَ إِلَى يَوْمنَا هَذَا على ذَلِك الرَّسْم وَإِن زَالَت الْعلَّة كَمَا بَقِي الرمل فِي الطّواف وَإِن زَالَت الْعلَّة وَبقيت المخافتة فِي صَلَاة النَّهَار وَإِن زَالَت الْعلَّة فَجعل الله عظم الدُّعَاء وَجُمْلَته مَوْضُوعا فِي هَذِه الصُّورَة نصفهَا فِيهِ مجمع الثَّنَاء وَنِصْفهَا فِيهِ مجمع الْحَاجَات ثمَّ قَالَ فِي آيَة أُخْرَى {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} فَأنْزل هَذِه السُّورَة لنتلوها ولندعو بهَا
فَكَمَا خزن هَذِه السُّورَة عَن سَائِر الْأُمَم كَذَلِك خزن قَوْله ادْعُونِي أسجب لكم عَن سَائِر الْأُمَم
فَكَانَت الْأُمَم تفزع إِلَى أنبيائها فِي وَقت الْحَاجة وَإِنَّمَا كَانَت هَذِه للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام فَجعل لسَانك مُطلقًا بِالدُّعَاءِ وكفيك مبسوطتين بالتناول وَجعل هَذَا الدُّعَاء الَّذِي فِي هَذِه السُّورَة أفضل من الَّذِي تَدْعُو بِهِ لِأَن هَذَا كَلَام قد تكلم بِهِ رب الْعَالمين جلّ وَعز فبينه وَبَين مَا تَدْعُو بِهِ من كَلَام نَفسك بون بعيد وَإِنَّمَا أطلق الله لهَذِهِ الْأمة وَفتح لَهُم بَاب الدُّعَاء لينيلهم الحظوظ الَّتِي جعل لَهُم فِي الْغَيْب كي إِذا وصلت إِلَيْهِم فظهرت عَلَيْهِم تِلْكَ الْأَشْيَاء ظن الْخلق أَنهم نالوها من قبل الدُّعَاء وَلذَلِك قيل لَيْسَ شَيْء أكْرم على الله من الدُّعَاء وَصَارَ للدُّعَاء من السُّلْطَان مَا يرد الْقَضَاء
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن نفع حذر من قدر فَإِن الدُّعَاء ينفع مِمَّا نزل وَمِمَّا لم ينزل فَعَلَيْكُم عباد الله بِالدُّعَاءِ(4/129)
عَن ثَوْبَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يرد الْقدر إِلَّا الدُّعَاء وَلَا يزِيد فِي الْعُمر إِلَّا الْبر وَإِن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يُصِيبهُ وَالله أعلم(4/130)
- الأَصْل السبعون والمائتان
-
فِي أَن من لَا يرحم لَا يرحم
عَن جرير بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لَا يرحم النَّاس لَا يرحمه الله
قَالَ أَبُو عبد الله الرَّحْمَة مَوْضُوعَة فِي الْآدَمِيّ فأوفرهم حظا مِنْهَا أرحمهم لنَفسِهِ ولخلقه فَإِذا رحم نَفسه جنبها الْمعاصِي والمساخط وَطلب لَهَا حسن عواقب الْأُمُور ليحسن مَنْزِلَته عِنْد ربه فينزله غَدا دَاره الْحسنى وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ فبالرحمة يتخطى إِلَى الْإِحْسَان إِلَى نَفسه وَمِنْهَا يتخطى إِلَى الْإِحْسَان إِلَيْهِم وكل من رَحمته رق قَلْبك لَهُ ودعتك الرقة إِلَى الْإِحْسَان إِلَيْهِ والعطف عَلَيْهِ بدوام الْإِحْسَان وَمن أنجس حَظه من الرَّحْمَة غلظ قلبه وَصَارَ فظا فَإِذا غلظ قلبه لم يرق لنَفسِهِ وَلَا لأحد من خلقه قَالَ الله تَعَالَى فبمَا رَحْمَة من الله لنت لَهُم وَلَو(4/131)
كنت فظا غليظ الْقلب لانفضوا من حولك فَاعْفُ عَنْهُم واستغفر لَهُم وشاورهم
فالشديد يشدد على نَفسه فِي الْأَحْوَال ويعسر ويضيق وَكَذَلِكَ على الْخلق فَهُوَ من نَفسه فِي تَعب والخلق مِنْهُ فِي أَذَى واللين لِأَن قلبه وَرطب بِمَاء الرَّحْمَة وانتشف مَاء الرَّحْمَة يبوسة نَفسه وأذهب حزازتها وكزازتها وأذهب قسوة قلبه فَمن لم يكن لَهُ وفارة حَظّ من الرَّحْمَة وجدته حَدِيد النَّفس يَابِس الْخلق قاسي الْقلب مكدود الرّوح مظلم الصَّدْر عَابس الْوَجْه مُنكر الطلعة ذَاهِبًا بِنَفسِهِ تيها وعظمة غليظ الرَّقَبَة سمين الْكَلَام عَظِيم النِّفَاق قَلِيل الذّكر لله تَعَالَى ولدار الْآخِرَة ولهادم اللَّذَّات
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصبي فَقبله فَقَالَ رجل أتقبل هَذَا مَا قبلت صَبيا قطّ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أملك إِن كَانَ الله نزع من قَلْبك الرَّحْمَة
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ خليلي وصفيى أَبُو الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا نزعت الرَّحْمَة إِلَّا من شقي
وَعَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(4/132)
الراحمون يرحمهم الرَّحْمَن ارْحَمْ من فِي الأَرْض يَرْحَمك من فِي السَّمَاء
فالرحمة الْمَكْتُوبَة على نَفسه مائَة رَحْمَة والمقسومة مِنْهَا وَاحِدَة بَين خلقه فِيمَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالواحدة الَّتِي قسمهَا بَين خلقه احتظى مِنْهَا الْآدَمِيّ وَسَائِر الْأُمَم حَتَّى الطُّيُور والوحوش والبهائم فَتلك رَحْمَة الْعَطف فبها يتعاطفون قد اشْترك فِيهَا البرر والفاجر وَالْوَلِيّ والعدو وَأما هَذِه الرَّحْمَة الَّتِي وَصفنَا بدءا فَهِيَ رَحْمَة الْإِيمَان مَأْخُوذَة من الرَّحْمَة الْعُظْمَى الَّتِي مِنْهَا بَدَت تِلْكَ الْمِائَة فأوفرهم حظا من الْمعرفَة بِاللَّه وَالْعلم بِهِ أوفرهم حظا من الْقرْبَة وأوفرهم حظا من الْقرْبَة أوفرهم حظا من الرَّحْمَة فَكلما كَانَ الْقلب أقرب إِلَى الله كَانَ أَلين وفؤاده أرق وَكلما تبَاعد الْقلب من الله بِمَعْصِيَة يَأْتِيهَا كَانَ قلبه أقسى وَأبْعد من الرَّحْمَة أَلا يرى إِلَى قَوْله تَعَالَى {فبمَا نقضهم ميثاقهم لعناهم وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية}
فَإِنَّمَا قست قُلُوبهم بالتباعد من الله من أجل نقض الْمِيثَاق وَذَلِكَ لما قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا رَحِيم قَالُوا يَا رَسُول الله كلنا يرحم قَالَ لَيْسَ رَحْمَة أحدكُم خويصته يَعْنِي أَهله وَولده وَلَكِن حَتَّى يرحم الْعَامَّة فرحمتك الخويصة هِيَ رَحْمَة الْعَطف من الرَّحْمَة المقسومة بَين خلقه ورحمتك الْعَامَّة من رَحْمَة الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى(4/133)
- الأَصْل الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ والمائتان
-
فِي جمع الهموم وتشعبها
عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من جعل الهموم هما وَاحِدًا كَفاهُ الله هم آخرته وَمن تشعبت بِهِ الهموم فِي أَحْوَال الدُّنْيَا لم يبال الله فِي أَي أَوديتهَا وَقع
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي عَنهُ الله فالهم للقلب وَهُوَ أَمِير الْجَسَد وَهُوَ وعَاء كنوز الْمعرفَة وَمِنْهَا يفرق على جنده فالعقل وَالْحِفْظ والذهن والفهم والفطنة وَالروح هَؤُلَاءِ كلهم مرتزقة من عِنْد الْقلب وَالْقلب ينْفق عَلَيْهِم من كنزه الَّذِي أعطي وَهُوَ الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى وَالْعلم بِهِ فَإِذا جَاءَتْهُ هموم أَحْوَال النَّفس فقد تشعب قلبه شعبًا وشغل الْقلب بشعبها فضيع الْكَنْز وَفرق الْجند وَبَقِي مأسورا فِي يَدي النَّفس وَأَحْوَالهَا فَلم يبال الله فِي أَي أَوديتهَا من تِلْكَ الشعوب هلك لِأَن هموم(4/134)
النَّفس ووساوس الْعَدو تخوفك بالرزق وتخوفك بأحوال الدُّنْيَا وَتَقَلُّبهَا وترغبك فِي الْجمع وَالْمَنْع وَتحل فِي قَلْبك مَا فِيهِ مصرعك وهلاكك وتزين لَك أَحْوَال الدُّنْيَا فَهَذِهِ كلهَا سموم قاتلة للقلب فَمن تخلى من هَذِه الهموم كلهَا حَتَّى صَارَت همومه كلهَا هما وَاحِدًا كَفاهُ الله الهموم من أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والهم دَبِيب الْقلب وَهُوَ على وَجْهَيْن أَحدهمَا هم دَبِيب وَهُوَ متجاوز عَنهُ وَالْآخر هم حُلُول
فالقلب إِذا بَدَت لَهُ خاطرة دب إِلَيْهَا ثمَّ يبْقى فِي الطَّرِيق متحيرا عَاجِزا قد انسد عَلَيْهِ الطَّرِيق فَهَذَا هم يتَجَاوَز عَنهُ والهم الآخر يدب الْقلب بالخاطرة إِلَى الشَّيْء الَّذِي بَدَأَ حَتَّى يَنْتَهِي منتهاه فَيحل بِهِ فحلوله عزم وإضمار فَإِن كَانَت سَيِّئَة صَار قد هم بسيئة فَهِيَ وَإِن لم تكْتب عَلَيْهِ قد انحط عَن دَرَجَته لِأَنَّهُ قد عزم على مَعْصِيّة فَهَذَا هم حُلُول الْقلب وَإِنَّمَا يصير همه هما وَاحِدًا إِذا نسي نَفسه وَأَحْوَالهَا وَهُوَ أَن ينْكَشف لَهُ الغطاء عَن الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى حَتَّى يرى الله كَافِيا لَهُ فِي كل أَمر من دنيا وآخرة فَعندهَا يرفع باله عَن التَّدْبِير لنَفسِهِ ويلقي ذَلِك كُله إِلَى الله تَعَالَى تفويضا ويراقب مَاذَا يخرج لَهُ من تَدْبيره سَاعَة فساعة
فتدبير الله تَعَالَى لِلْمُؤمنِ أَعلَى من تَدْبيره لنَفسِهِ فَإِذا رفض العَبْد تَدْبيره وَأَقْبل على مُحَافظَة تَدْبِير الله فِي كل وَقت مَاذَا يظْهر لَهُ فقد استراح فَإِنَّمَا همه فِي كل سَاعَة التوخي لمحاب الله فِي كل أَمر من متقلبه فَإِنَّهُ إِنَّمَا خلقه عبدا ليَكُون لَهُ عبدا عَارِفًا لَهُ عَالما بِهِ فَينْظر بِعَين الْمعرفَة وَالْعلم إِلَى عَظمته وجلاله وبهائه وكبريائه وسلطانه وَرَحمته وَإِلَى ملكه وتدبيره فَيقر عينه ويمتلئ قلبه فَرحا بِهِ فَعندهَا تظهر محبته على قلبه ويشتاق إِلَى لِقَائِه ويتبرم بحياته ويقلق بمكانه ينْتَظر مَتى يدعى فيجيب فَهُوَ مسجون برمق الْحَيَاة وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدُّنْيَا سجن الْمُؤمن وسنته(4/135)
فالآدمي إِذا أَسِنَت ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَعيشَة وَاشْتَدَّ الْعَيْش فَهُوَ ينْتَظر الخصب وَالسعَة والمسجون وَإِن أحاطت بِهِ نعم الدُّنْيَا فِي سجنه فعينه شاخصة إِلَى بَاب السجْن مَتى يخلى عَنهُ فَيخرج عَنهُ فالمؤمن اشتاق إِلَى لِقَاء من عرفه بِمَا ذكرنَا فَضَاقَ بِالْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وانتظر الدعْوَة فهمه فِي الدُّنْيَا هم وَاحِد وَهُوَ أَن يلْتَمس محاب الله فِي كل أَمر دق أَو جلّ فَيكون ظَاهر أمره حركات فِي طَاعَة الله وباطن تِلْكَ الحركات حب الله تَعَالَى بِهِ يغلي قلبه فَهُوَ الَّذِي جعل همه هما وَاحِدًا وَانْقطع من الْخلق إِلَى الله تَعَالَى فَمن الْعباد يصعد إِلَى الله أَعمال الْجَوَارِح وَمن هَذَا أنوار الْحبّ مَعَ كل نفس فنور هَذَا متواتر صاعد إِلَى السَّمَاء وأنوار الْعمَّال مُنْقَطِعَة قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَاذْكُر اسْم رَبك وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا}
فاسم الرب هُوَ الِاسْم الْأَعْظَم الْمكنون الَّذِي مِنْهُ خرجت الْأَسْمَاء فَمن وصل إِلَى ذَلِك الِاسْم الْمكنون وانكشف لَهُ الغطا عَنهُ فقد تبتل إِلَيْهِ وَانْقطع عَن الْخلق واتخذه وَكيلا فَعندهَا بطلت وكَالَة النَّفس وتعطلت الهموم وانتصب ذَلِك الْهم الْوَاحِد بَين عَيْني فُؤَاده فاستكمل الصَّدْر نورا فتتابعت أنوار حبه متواترة إِلَى العلى
عَن عمرَان بن حُصَيْن رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من(4/136)
انْقَطع إِلَى الله كَفاهُ الله مُؤْنَته ورزقه من حَيْثُ لَا يحْتَسب وَمن انْقَطع إِلَى الدُّنْيَا وَكله الله إِلَيْهَا
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لله مَلَائِكَة موكلين بأرزاق بني آدم ثمَّ قَالَ لَهُم أَيّمَا عبد وجدتموه جعل الْهم هما وَاحِدًا فضمنوا رزقه السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالطير وَبني آدم وَأَيّمَا عبد وجدتموه طلبه فَإِن تحرى الْعدْل فطيبوا لَهُ ويسروا وَإِن تعدى إِلَى غير ذَلِك فَخلوا بَينه وَبَين مَا يُرِيد ثمَّ لَا ينَال فَوق الدرجَة الَّتِي كتبتها لَهُ(4/137)
- الأَصْل الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ والمائتان
-
فِي الاعتزاز بِالْعَبدِ
عَن سعيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من اعتز بالعبيد أذله الله
الاعتزاز بالعبيد مفتاحه حب الْعِزّ وَطَلَبه فَإِذا طلب الْعِزّ للدنيا طلبه من العبيد فَترك الْعَمَل بِالْحَقِّ وَالْقَوْل بِالْحَقِّ لينال ذَلِك الْعِزّ فعاقبة أمره الذلة فَإِن الله تَعَالَى يُمْهل المخذول حَتَّى يَنْتَهِي بِهِ خذلانه إِلَى أَن يسْتَحق لِبَاس الذل وَإِن الله تَعَالَى أظهر عزه وَأخرج إِلَى الْعباد إِزَار الْعِزّ ليجعل لَهُم من ذَلِك حظا فَإِنَّمَا سَمَّاهُ إزارا ليعقل الْعباد عَنهُ أَن هَذِه قُوَّة أخرجهَا إِلَى الْعباد ليقووا بِهِ على الْأَعْدَاء وليقوى بِهِ المحق على الْمُبْطل والأزر هُوَ الْقُوَّة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {كزرع أخرج شطأه فآزره} أَي قواه
والإرز مَوْضِعه من الْآدَمِيّين من الْوسط يتزرون على أوساطهم ليقووا(4/138)
وَلذَلِك سمي إزارا لِأَنَّهُ قُوَّة الْمَرْء فَمن أسلم وَجهه لله أوجب لَهُ حظا من ذَلِك الْعِزّ وَمن أعرض عَنهُ فأشرك بِهِ غَيره فِي ملكه حرمه عزه وَمن احتظى بذلك الْعِزّ فقد تزكّى والزكاء النَّمَاء والاحتشاء والاكتناز فالمؤمن زكي محتش مكتنز وَالْكَافِر خَال خاو رخو ضَعِيف
فَمن ازْدَادَ لله تَسْلِيمًا وَإِلَيْهِ طمأنينة فِي الْأَحْوَال كلهَا ازْدَادَ نموا واحتشاء واكتنازا قَالَ الله تَعَالَى {قد أَفْلح من تزكّى} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن تزكّى فَإِنَّمَا يتزكى لنَفسِهِ} وَقَالَ تَعَالَى وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء فَمن تزكّى فبفضله وَرَحمته تزكّى وَهُوَ نور التَّوْحِيد
ثمَّ قواه حَتَّى رَبِّي ذَلِك النُّور بالشكر واستوجب الْمَزِيد وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يَأْته مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات فَأُولَئِك لَهُم الدَّرَجَات العلى} وَقَالَ تَعَالَى {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ}
فقوى رَسُوله وَالْمُؤمنِينَ بِتِلْكَ الْعِزَّة الَّتِي أخرجهَا من عزه وَسَماهُ عزة وَسَماهُ إزارا ليعلم الْعباد أَنَّهَا قُوَّة لَهُم كل يحتظي مِنْهُ على قدر بذل نَفسه لله فِي الائتمار بِمَا يَأْمُرهُ وَوضع لَهُ نَفسه بِالْأَرْضِ ذلة وخشوعا فِي الِانْتِهَاء عَمَّا نهوا عَنهُ وَترك مشيئآته فِي أَحْوَاله كلهَا لمشيئته فعلى قدر ذَلِك يسْتَوْجب الْحَظ من تِلْكَ الْعِزَّة فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ وَسَلام على الْمُرْسلين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين}(4/139)
- الأَصْل الثَّالِث وَالسَّبْعُونَ والمائتان
-
فِي من يقص وَتَحْقِيق الْقَصَص
عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقص إِلَّا أَمِير أَو مَأْمُور أَو مرائي
الْقَصَص اسْم جَامع دخلت فِيهِ الموعظة والتذكرة والدعوة إِلَى الله والنشر عَن الله مننه وإحسانه ثمَّ سمي ذَلِك قصصا من أجل أَن قلب هَذَا يقْتَصّ أثرا لكل شَيْء وَيُشِير بِقَلْبِه إِلَى شَيْء ثمَّ يعبر إشارات قلبه بِلِسَانِهِ لِلْخلقِ فَهُوَ قاص عَلَيْهِم لتِلْك الْأَشْيَاء أثرا أثرا فَهَذِهِ كَلِمَات لَزِمت أَشْيَاء كَثِيرَة مِمَّا تشابهت صورها بَعْضهَا بِبَعْض فَيُقَال قصّ أَثَره وَهُوَ أَن يتبع أَثَره وَيُقَال قصّ خَبره وَهُوَ أَن يتبع بِقَلْبِه صفة ذَلِك الشَّيْء الَّذِي يخبر بِهِ فَيتبع الصّفة شَيْئا بعد شَيْء وَيُقَال قصّ شعره وظفره وَهُوَ أَن يتبع بِمَا زَاد من شعره وظفره خُرُوجًا من جسده فَيتبع ذَلِك فأزاله عَنهُ
فالدعاء إِلَى الله بِالْمَوْعِظَةِ والتذكرة لمن وصل إِلَى الله قلبا وَكَانَ(4/140)
مَرْكَز قلبه الْحق وَالْعدْل وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ}
فقوم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أعْطوا ذَلِك فِي عزلة من الْخلق من ورائهم الرمل من نَاحيَة الْمشرق حَيْثُ لَا يخلص إِلَيْهِم أحد ولقيهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرِي بِهِ فعلمهم الْقُرْآن وَعرض عَلَيْهِم الشَّرِيعَة فقبلوها فَأعْطيت هَذِه الْأمة فِي الْجَمَاعَة والعامة مَا أعطي أُولَئِكَ فِي الْعُزْلَة فَسَارُوا فِي الْجَمَاعَة بِمَا سَار أُولَئِكَ فِي الْعُزْلَة بِفضل يقينهم ووصول قُلُوبهم إِلَى الله فمركب قُلُوبهم الْحق وطريقهم إِلَى الله على الْعدْل فِي ذَلِك الْحق وهم أُمَرَاء الدّين فِي كل وَقت وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم}
فالقصص لَهُم وَلمن يرونه أَهلا لذَلِك الْمقَام وَالثَّالِث مرائي متكلف مَذْمُوم فَهُوَ دخيل لَا يجب أَن يسمع مِنْهُ(4/141)
- الأَصْل الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ والمائتان
-
فِي محبَّة الْأَسْبَاب وَمَعْرِفَة الشّرك والتوحيد فِيهَا
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشّرك أخْفى على أمتِي من دَبِيب الذَّر على الصَّفَا
عَن معقل بن يسَار رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَشهد بِهِ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذكر الشّرك فَقَالَ هُوَ أخْفى فِيكُم من دَبِيب النَّمْل وسأدلك على شَيْء إِذا فعلت أذهب عَنْك صغَار الشّرك وكباره تَقول اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك أَن أشرك بك فِيمَا أعلم وأستغفرك لما لَا أعلم تَقُولهَا ثَلَاث مَرَّات
عَن ابْن جريج قَالَ بَلغنِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأبي بكر الشّرك أخْفى فِيكُم من دَبِيب النَّمْل فَقَالَ أَبُو بكر هَل الشّرك إِلَّا مَا عبد من دون(4/142)
الله قَالَ يَا أَبَا بكر الشّرك أخْفى فِيكُم من دَبِيب النَّمْل إِن من الشّرك أَن يَقُول الرجل مَا شَاءَ الله وشئت وَمن الند أَن يَقُول الرجل لَوْلَا فلَان لَقَتَلَنِي فلَان أَفلا أدلك على مَا يذهب الله عَنْك بِهِ صغَار الشّرك وكباره قَالَ بلَى يَا رَسُول الله قَالَ تَقول كل يَوْم ثَلَاث مَرَّات اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك أَن أشرك بك وَأَنا أعلم وأستغفرك لما لَا أعلم
عَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد كنت أكره لكم أَن تَقولُوا مَا شَاءَ الله وَشاء مُحَمَّد وَلَكِن قُولُوا مَا شَاءَ الله ثمَّ مَا شَاءَ مُحَمَّد
قَالَ أَبُو عبد الله الرب وَاحِد وَجعل ربوبيته فِي الْغَيْب وَخلق الْعباد فِي الْغَيْب وأوله قُلُوبهم إِلَيْهِ فَأقر كلهم بالعبودة لَهُ وعَلى ذَلِك فطرهم فكلهم يفزعون عِنْد الْحَاجة إِلَى اسْمه الله الَّذِي جعل موله قُلُوبهم فَثَبت فريق مِنْهُم على إخلاصه وأشرك فريق وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَإِذا ركبُوا فِي الْفلك دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر إِذا هم يشركُونَ} {ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم وليتمتعوا فَسَوف يعلمُونَ}
فَجعل أُمُور الْعباد كلهَا يوصلها إِلَيْهِم فِي الْغَيْب قد ستر أُمُوره بالأسباب فَقَالَ أَنا الرَّزَّاق ثمَّ جعل أَرْزَاقهم فِي مَاء الْحَيَوَان تَحت الْعَرْش ثمَّ وكل مَلَائكَته بالقطر ثمَّ السَّحَاب لقبوله وسخر الرِّيَاح لتحمل كثيف السَّحَاب ركاما ويبسط كَيفَ يَشَاء ثمَّ أَمر السَّحَاب أَن يدر الْقطر مَطَرا ثمَّ أَمر الأَرْض أَن تقبل ودائع الْقطر ثمَّ أمرهَا أَن تنفجر(4/143)
عَن ذَلِك الْقطر فِي أَصْلَب مَوضِع مِنْهَا من أَجْوَاف الصخور من الْجبَال وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أنزل من السَّمَاء مَاء فسلكه ينابيع فِي الأَرْض} وَقَوله تَعَالَى {وفجرنا فِيهَا من الْعُيُون}
ثمَّ على الْآدَمِيّين أَن يحرثوا الأَرْض ثمَّ أَمر الأَرْض أَن تنْبت من كل زوج بهيج وَقَالَ تَعَالَى أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ ءأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون
ثمَّ أَمر الشَّمْس أَن تسير بحرها على وَجه الأَرْض لتربية هَذِه الثِّمَار والنبات ثمَّ أَمر الرّيح عِنْد الْحَصاد أَن تَذْرُوهُ ثمَّ على الْآدَمِيّين طحنه وخبزه وَأنزل النَّار وَجعلهَا فِي الشّجر الْأَخْضَر وَقَالَ فِي تَنْزِيله هُوَ الَّذِي جعل لكم من الشّجر الْأَخْضَر نَارا
فَالنَّار مَوْجُودَة فِي كل شَجَرَة خَشَبَة تَحْتك بِالْأُخْرَى فتوري نَارا وَقَالَ أَفَرَأَيْتُم النَّار الَّتِي تورون ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نَحن المنشئون نَحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين
وَمن اللبَاس غزل قطنه ونسجه وغسله وخياطته حَتَّى يكتسوا وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَشْيَاء الَّتِي أضطر إِلَيْهَا الْآدَمِيّ فَهَذِهِ كلهَا أَسبَاب والآدمي يرى مَا ظهر من هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي ذكرنَا وَفِي بَاطِنهَا ربوبيته وَهُوَ الَّذِي دبر هَذَا كُله من الْقُدْرَة وأمضى التَّدْبِير بمشيئته وأوصل إِلَى الْعباد قَضيته فِي خَفَاء والعباد إِنَّمَا يرَوْنَ الْمَطَر وَالْحر وَالْبرد والرياح وَالْأَرْض وَالْمَاء وَالزَّرْع والحصاد وَالْأَيْدِي الَّتِي تتداوله وربوبيته فِي(4/144)
جَمِيع الْأَشْيَاء قَائِمَة لَا يكون شَيْء إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يقوم إِلَّا بِهِ وَلَا يَدُوم إِلَّا بِهِ فقلوب الْآدَمِيّين ونفوسهم معلقَة بالأسباب الَّتِي يرونها فَإِذا احتاجوا إِلَى شَيْء طلبُوا ذَلِك الشَّيْء من مظانه الَّذِي هُنَاكَ عاينوه فَمن الله على الْمُوَحِّدين بمعرفتهم أَن الرب وَاحِد والوله بالقلوب فِي الْحَوَائِج إِلَى الْوَاحِد الَّذِي اسْمه الله الَّذِي خرجت الْأَشْيَاء من ذَلِك الِاسْم
وَلذَلِك أمروا أَن يبدأوا فِي كل أَمر بقول بِسم الله كَأَنَّهُ يَقُول هَذَا الشَّيْء بِهَذَا الِاسْم خرج وَمن حرم الْمِنَّة بَقِي مَعَ الْأَسْبَاب قُلُوبهم معلقَة بهَا مَفْتُونَة فِيهَا فاتخذوا دونه أَوْلِيَاء فعبدوه ثمَّ قَالُوا {مَا نعبدهم إِلَّا ليقربونا إِلَى الله زلفى} وَقَالَت الرُّسُل لَهُم {أتعبدون من دون الله مَا لَا يملك لكم ضرا وَلَا نفعا} حَتَّى قَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام {أُفٍّ لكم وَلما تَعْبدُونَ من دون الله} والأف كلمة للشتم والصنعة
وَأنزل على الْمُؤمنِينَ وَحيا يثبت قُلُوبهم وَيُعلمهُم الْحجَّة فَقَالَ {وإلهكم إِلَه وَاحِد لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم} فَقَالَ الْمُشْركُونَ أرنا آيَة فَأنْزل الله تَعَالَى {إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} إِلَى قَوْله {لآيَات لقوم يعْقلُونَ}
فَأعْلم أَن الْعقل يدل عَلَيْهِ فِيمَا أَرَاهُم من قدرته وَقَالَ {مَا اتخذ الله من ولد وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق ولعلا بَعضهم على بعض سُبْحَانَ الله عَمَّا يصفونَ}(4/145)
وَأهل الْيَقِين طلبُوا الْأَشْيَاء من المظان نفسا وجسدا وَمن الله قلبا ويقينا وإخلاصا قمن ضعف يقينه كَانَ السَّبَب بَين عَيْنَيْهِ فَإِذا طلب شَيْئا طلبه من السَّبَب قلبا ونفسا وَإِذا فَاتَهُ مِنْهَا شَيْء تلهف وأسف على الْفَوْت وَلَام وذم وَتردد فِي اضْطِرَاب حَتَّى يخرج دينه ويسقم إيمَانه وَإِذا صَار إِلَى القَوْل يَقُول لَا يكون إِلَّا مَا شَاءَ الله وَلَا يكون إِلَّا مَا قدر الله وَإِلَّا مَا قضى الله وَإِذا قضى فَلَا يقوم شَيْء وَلَا يَدُوم إِلَّا بِاللَّه فَإِذا علم أَن الْكَوْن من الله والدوام بِاللَّه كَانَ هَذَا من علم التَّوْحِيد وَإِنَّمَا هُوَ كلحظة ثمَّ يخفي فِي صَدره هَذَا الْعلم حَتَّى لَا يشرق نوره وَإِنَّمَا كَانَت شررة أَو كلمحة أَو برقة ثمَّ ذهبت وَبَقِي العَبْد مَعَ شرك السَّبَب فَكلما لحظ العَبْد إِلَى شَيْء من هَذِه الْأَسْبَاب دونه فقد أَتَى بالشرك فَإِذا رأى السَّحَاب استبشر وَإِذا أنبت الأَرْض ابتهج ثمَّ فَرح وأشر وبطر لِأَن قلبه فِي غَفلَة عَن الله عز وَجل فَهَذَا قلب الموحد وقلب الْكَافِر فِي غلفة فَقلب الْمُؤمن الْمُتَعَلّق بالأسباب غافل وقلب الْكَافِر أغلف فالغلفة غلاف الْقلب والغفلة حجاب الْقلب وَهُوَ هَذِه الْأَسْبَاب الَّتِي ذكرنَا وَقد انْشَقَّ عَنهُ الغلاف الَّذِي كَانَ فِي وَقت الْكفْر وَبقيت الْغَفْلَة فَهَذِهِ الْغَفْلَة لَا يذهبها إِلَّا ذكر الله تَعَالَى فَلَا يزَال الذّكر الدَّائِم يذيبها بحرارة الْحَيَاة الَّتِي يُزَاد الْقلب بِالذكر حَتَّى يهتك حجب الْأَسْبَاب كلهَا وَيذْهب الخفاء وَيصير الْأُمُور كالمعاينة لَهُ فَهُوَ يمْضِي فِي الْأَسْبَاب وَلَا يغْفل عَن الله فيقبلها من عِنْده فَإِذا هَاجَتْ الرّيح استبشر بصنع الله لِأَنَّهُ علم أَنه هُوَ الَّذِي أرسلها بشرا بَين يَدي رَحمته وَإِذا رأى تراكم السَّحَاب استبشر بصنع الله ثمَّ يرى الْمَطَر سقيا كَمَا قَالَ وأنزلنا من السَّمَاء مَاء فأسقيناكموه إِلَى غير ذَلِك
فَأهل الْيَقِين هتكوا هَذِه الْحجب بِقُوَّة نور الْيَقِين حَتَّى انْكَشَفَ لَهُم الغطاء وَفضل الله هَذِه الْأمة بِالْيَقِينِ حَتَّى صَار مَا بَقِي مِنْهُم من الشّرك(4/146)
أخْفى من دَبِيب النَّمْل فِي الْقلَّة والرقة فَهَذَا مدح لهَذِهِ الْأمة لِأَن شرك الْأَسْبَاب ذاب فيهم وتلاشى بِفضل يقينهم حَتَّى صَار أخْفى من دَبِيب النَّمْل لِأَن دَبِيب النَّمْل لَا يُؤثر على الصَّفَا وَكَذَلِكَ مَا بَقِي من الْأَسْبَاب لَا يُؤثر على أهل الْيَقِين لِأَن قُلُوبهم صلبت بِالْيَقِينِ وَصَارَ كزير الْحَدِيد والصخر
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشّرك أخْفى من دَبِيب النَّمْل على الصَّفَا فِي اللَّيْلَة الظلماء وَأَدْنَاهُ أَن يحب على شَيْء من الْجور أَو يبغض على شَيْء من الْعدْل وَهل الدّين إِلَّا الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله قَالَ الله تَعَالَى {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله}
فَأَما قَوْله أَن يحب على الْجور وَيبغض على الْعدْل إِنَّمَا يحب على الْجور رَجَاء الْمَنْفَعَة مِنْهُ وَيبغض على الْعدْل خوف الْمضرَّة ورجاء الْمَنْفَعَة
عَن وهب بن أبان عَن عبد الله بن عمر قَالَ خرج عبد الله ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي سفر لَهُ فَإِذا بِجَمَاعَة على طَرِيق فَقَالَ مَا هَذِه الْجَمَاعَة قَالُوا أَسد قطع الطَّرِيق فَنزل فَمشى إِلَيْهِ حَتَّى قفده بِيَدِهِ ونحاه عَن الطَّرِيق ثمَّ قَالَ مَا كذب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِنَّمَا يُسَلط على ابْن آدم من خافه ابْن آدم وَلَو أَن ابْن آدم لم يخف غير الله لم يُسَلط الله عَلَيْهِ غَيره وَإِنَّمَا وكل ابْن آدم إِلَى من رجاه ابْن آدم وَلَو أَن ابْن آدم لم يرج إِلَّا الله لم يكله الله إِلَى غَيره
وَإِنَّمَا هُوَ شرك وَشك وَالشَّكّ هُوَ ضيق الصَّدْر فَإِذا أحست النَّفس(4/147)
بمكروه فِي الْأَمر انتفخت الرئة للجبن الَّذِي حل بهَا فَضَاقَ الصَّدْر حَتَّى زحزح الْقلب عَن مَكَانَهُ فَإِذا ضَاقَ على الْقلب مَكَانَهُ ضَاقَ مَوضِع التَّدْبِير وَهُوَ الصَّدْر لِأَن عَيْني الْفُؤَاد مفتوحتان فِي الصَّدْر وَعند الْعَينَيْنِ تَدْبِير الْأُمُور ثمَّ يصدر إِلَى الْجَوَارِح وَلذَلِك سمي صَدرا لِأَن الْأُمُور تصدر من هُنَاكَ
وَإِنَّمَا سمي شكا لِأَن ذَلِك النَّائِب من الْأَمر يشك سَعَة الصَّدْر كَمَا يشك الثَّوْب الْمَبْسُوط فَيجمع بعضه إِلَى بعض ويشك بشوكة أَو بإبرة أَو يخيط فَيُقَال شكّ الثَّوْب وَهُوَ مَشْكُوك فَإِذا انتفخت الرئة بِمَا خطر على بَال الْقلب من الخواطر وضاق على الْقلب مَكَانَهُ ترحل الْقلب عَن مستقره وتذبذب وَكَانَ كالدلو الْمُعَلق أَو الْقنْدِيل الْمُعَلق فَإِذا تحرّك الْقنْدِيل اضْطربَ الْإِشْرَاق فَصَارَ بعضه ظلا وَبَعضه إشراقا فَفِي الظل الضَّلَالَة وَفِي الْإِشْرَاق الْهدى فَكلما تراكمت الأظلة انقبض الصَّدْر فَصَارَ مشكوكا كَالثَّوْبِ الَّذِي شكّ وَقبض بعضه إِلَى بعض فَصَارَ متراكما بعضه على بعض وَصَارَت لَهُ زَوَايَا كَذَلِك الصَّدْر إِذا انقبض حدثت لَهُ فِي زواياه أظلة فَمِنْهَا يضل عَن الله ويفتقد الْهدى وَأما الشّرك فَهُوَ مَأْخُوذ من الشّرك والشرك حَبل فِيهِ معاليق يعلق بهَا أرجل الطير أَو أعناقها أَو أَجْنِحَتهَا حَتَّى تُؤْخَذ صيدا فَكَذَلِك الْأَسْبَاب الَّتِي وضعت فِيهَا حاجات الْآدَمِيّ فَتلك الْأَسْبَاب تَأْخُذ بِقَلْبِه لِأَن شَهْوَة تِلْكَ الْأَشْيَاء فِي نَفسه فَإِذا اشتهاها لَهُ أحبها فَإِذا وصل حبها إِلَى قلبه ثمَّ رأى الْقلب تِلْكَ الْأَشْيَاء من تِلْكَ أحب تِلْكَ الْأَسْبَاب من أجل تِلْكَ الْأَشْيَاء وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات} ثمَّ عدد الشَّهَوَات فَقَالَ {من النِّسَاء والبنين} الْآيَة
فالشك ضيق الصَّدْر والشرك تعلق الْقلب بالشَّيْء وَإِنَّمَا يُوسع الْقلب(4/148)
نور الْيَقِين فَكلما كَانَ الصَّدْر بِالْيَقِينِ أنور كَانَ أوسع وَأكْثر انشراحا فباليقين ينجو العَبْد من وبال الشَّك وبالإخلاص ينجو من وبال الشّرك فَعندهَا يَتَوَلَّاهُ الله وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى لداود عَلَيْهِ السَّلَام يَا دَاوُد هَل تَدْرِي مَتى أتولاهم إِذا طهروا قُلُوبهم من الشّرك ونزعوا من قُلُوبهم الشَّك فخلق الْآدَمِيّ والأسباب مشتبكة بِهِ لَا يرى مسببا إِلَّا فِي غيب وربوبية الرب قَائِمَة فِي ذَلِك الْغَيْب وَفِي جَمِيع الْأَسْبَاب لَا تكون إِلَّا بِهِ فَالله مكونها وَبِاللَّهِ يَدُوم مَا كَون والآدمي لم ير التكوين وَلَا التدويم إِلَّا رُؤْيَة الْإِيمَان بِالْغَيْبِ فاستقر قلبه إِيمَانًا بذلك ثمَّ جَاءَت النَّفس بشكها وشركها فأوردت وَلَو رجعت على الْقلب حَتَّى صَار الْقلب ذَا شكّ وشرك فَلَا يزَال صَاحبهَا يضيع هَذَا الْأَمر ويهمله حَتَّى يحل العقد وَمِنْه عقدَة الْإِيمَان فيكفر وَالَّذِي أغاثه الله وأيده لما رأى ضعف الْيَقِين وانقياد الْقلب للنَّفس بِمَا أوردت عَلَيْهِ فزع إِلَى الله حَتَّى قواه وأيده فَإِذا رزق الله عبدا نور الْيَقِين وَنور التَّوْحِيد صَار الْقلب موقنا مخلصا فبقوة هذَيْن يمحو خواطر النَّفس فِي الصَّدْر تِلْكَ الخواطر الَّتِي تورد شكا وشركا فاستقام الْقلب وصلب واستقرت النَّفس منقادة للقلب فَإِذا صَار بِهَذَا الْحَال خَفِي ذَلِك الشَّك والشرك فَلم يُؤثر مَا بَقِي من ذَلِك فِي قُلُوبهم كَمَا لَا يُؤثر دَبِيب النَّمْل على الصَّفَا لِأَن الَّذِي خَفِي من الْبَقِيَّة لَا يقدر أَن يزعزع النَّفس أَو يشغل الْقلب عَن الله
أَلا ترى أَنه قَالَ فِي حَدِيث أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَفلا أدلك يَا أَبَا بكر على مَا يذهب الله بِهِ صغَار الشّرك وكباره عَنْك قَالَ بلَى رَسُول الله قَالَ تَقول كل يَوْم ثَلَاث مَرَّات اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك أَن أشرك بك وَأَنا أعلم وأستغفرك لما لَا أعلم
فصغار الشّرك مثل قَول الرجل مَا شَاءَ الله وشئت وَمن الند أَن يَقُول لَوْلَا فلَان لَكَانَ كَذَا وَكَذَا(4/149)
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاكُمْ واللو فَإِن اللو يفتح عمل الشَّيْطَان
واللو مِفْتَاح الحسرات وَإِذا تحسر الْقلب تعرى عَن خلع الله
عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ جَاءَ رجل فَقَالَ يَا رَسُول الله أَي الذَّنب أعظم قَالَ أَن تجْعَل لَهُ ندا وَهُوَ خلقك
فالند هُوَ شَبيه بالضد لِأَن الضِّدّ صُورَة إبِْطَال من يضاده والند من الندو وَهُوَ التباعد والنفار مَعْنَاهُ أَن تجْعَل من دونه دافعا عَنْك فَلَا يدْفع عَنْك إِلَّا من ولي خلقك
وَجَاء فِي الحَدِيث وَمن الند أَن يَقُول لَوْلَا فلَان لَقَتَلَنِي فلَان وَإِنَّمَا صَار أعظم الذُّنُوب لِأَنَّهُ يضعف الْيَقِين وَيعْمل فِي حل الْعقْدَة وَسَائِر الذُّنُوب يعْمل فِي قَضَاء النهمة والتلذذ بالشهوات
وَمعنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الشّرك أخْفى فِي أمتِي من دَبِيب النَّمْل على الصَّفَا أَن هَذِه الْأمة لما خصوا بِهِ من الْيَقِين لَا يُؤثر فيهم مَا بَقِي(4/150)
من الشّرك إِلَّا مَا يخفى أَثَره وَالْخَبَر سيق فِي معرض مدحهم وَإِظْهَار فَضلهمْ على سَائِر الْأُمَم وَلَيْسَ كَمَا يتوهمه قوم أَن المُرَاد من الْخَبَر أَن الشّرك يخفى عَلَيْهِم لغمارتهم وجهلهم لِأَنَّهُ مَا جَاءَ فِي الحَدِيث أَن الشّرك أخْفى فِي الْآدَمِيّين وَلكنه قَالَ أخْفى فِي أمتِي مَا بَال هَذِه الْأمة يخفى عَلَيْهَا من الشّرك مَا لَا يخفى على بني إِسْرَائِيل ويقين هَذِه الْأمة أوفر قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مَا أَعْطَيْت أمة من الْيَقِين مَا أَعْطَيْت أمتِي
وَإِنَّمَا معنى الْخَبَر أَن هَذِه الْأمة لليقين الَّذِي نالوه من فضل الله وَرَحمته يذيب خواطر الشَّك والشرك فِي صُدُورهمْ فتدق وتخفى حَتَّى لَا ترى وتضعف حَتَّى لَا يُؤثر كَونهَا على الْقلب كَمَا لَا يُؤثر دَبِيب الذَّر على الصَّفَا وَأما كبار الشّرك فَهُوَ أَن يعْمل بِطَاعَة الله يُرِيد بِهِ غير الله رَجَاء اتِّخَاذ الْمنزلَة عِنْده فَهَذَا موحد قد غلب عَلَيْهِ الْجَهْل فأمل غَيره وَإِذا رَجَعَ إِلَى توحيده علم أَنه لَا يملك أحد نفعا وَلَا ضرا دون الله
رئي شَدَّاد بن أَوْس فِي مُصَلَّاهُ وَهُوَ يبكي قيل مَا أبكاك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن قَالَ حَدِيث سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل وَمَا هُوَ قَالَ بَينا أَنا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا إِذْ رَأَيْت بِوَجْهِهِ أمرا سَاءَنِي قلت بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله مَا الَّذِي أرى بِوَجْهِك قَالَ أَمر أتخوفه على أمتِي من بعدِي قلت وَمَا هُوَ قَالَ الشّرك والشهوة الْخفية قلت يَا رَسُول الله وتشرك أمتك من بعْدك قَالَ يَا شَدَّاد أما إنَّهُمَا لَا يعْبدُونَ شمسا وَلَا حجرا وَلَا وثنا وَلَكنهُمْ يراءون بأعمالهم قلت يَا رَسُول الله والرياء شرك هُوَ قَالَ نعم قلت فَمَا الشَّهْوَة الْخفية قَالَ يصبح أحدهم صَائِما فتعرض لَهُ شَهْوَة من شهوات الدُّنْيَا فيفطر(4/151)
وَقَالَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ الرِّيَاء شرك
قَالَ الله تَعَالَى {فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه فليعمل عملا صَالحا وَلَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدا}
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه خرج ذَات يَوْم إِلَى أَصْحَابه وهم يتناجون فَقَالَ مَا هَذَا النَّجْوَى قَالُوا يَا رَسُول الله كُنَّا نتحدث عَن فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَلا أخْبركُم بأعظم فتْنَة من الدَّجَّال رجل يعْمل لمَكَان رجل(4/152)
- الأَصْل الْخَامِس وَالسَّبْعُونَ والمائتان
-
فِي غياث الْعباد فِي أَربع السُّلْطَان وَالْقُرْآن وَأهل الْإِيمَان وأشرف الْمَكَان الْكَعْبَة
عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ السُّلْطَان ظلّ الله يأوي إِلَيْهِ كل مظلوم من عباده فَإِذا عدل كَانَ لَهُ الْأجر وعَلى الرّعية الشُّكْر وَإِذا جَار كَانَ عَلَيْهِ الإصر وعَلى الرّعية الصَّبْر وَإِذا جارت الْوُلَاة قحطت السَّمَاء وَإِذا منعت الزَّكَاة هَلَكت الْمَوَاشِي وَإِذا ظهر الزِّنَا ظهر الْفقر والمسكنة وَإِذا خفرت الذِّمَّة أديل الْكفَّار
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ إِن الله تَعَالَى أغاث عباده فِي أرضه(4/153)
بِأَرْبَع بِالْقُرْآنِ وَهُوَ كَلَامه كي يهتدوا بِهِ إِلَى الله تَعَالَى وبالسلطان وَهُوَ ظله كي يتمانعوا بِهِ عَمَّا فِي أَيْديهم من المهجة وَالْمَال والأهل وَالْولد وبالإيمان وَفِيه نور كي يهتدوا بِهِ إِلَى خالقهم وَبِالْكَعْبَةِ وَهِي أشرف الْبُنيان كي يفوزوا بِالرَّحْمَةِ الَّتِي فِيهَا إِذا طافوا بهَا فَإِذا قصدُوا الله جعلُوا نوره مرْآة قُلُوبهم فَيَنْظُرُونَ فِيهَا إِلَى عجائب مَا أبرز من ملكه من لدن عَرْشه إِلَى الثرى وَإِلَى عجائب تَدْبيره فيهم وَإِلَى قدرته عَلَيْهِم فأداهم ذَلِك النّظر بِقُوَّة ذَلِك النُّور إِلَى عَظمته وجلاله ونفاد قدرته وَإِلَى جوده وَكَرمه ولطفه وَعطفه عَلَيْهِم وبره بهم وعظيم مننه فامتلأت صُدُورهمْ وَقُلُوبهمْ بِهِ غنى وقويت أركانهم للْقِيَام بأموره وانقادت نُفُوسهم واستسلمت لله وَإِذا قصدُوا الْقُرْآن جعلُوا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم علما لعسكر الْقُرْآن فَإِن الْقُرْآن بِمَنْزِلَة جند وعسكر فِيهِ ألوان الأسلحة وآلات الْحَرْب وَالْعدة فِيهِ يحارب الْهوى وَالنَّفس والعدو وَيبْطل مكائدهم قَالَ تَعَالَى {فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقى}
وبسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قسم من رَبنَا عِنْد رَأس كل سُورَة يقسم لِعِبَادِهِ أَن هَذَا الَّذِي وصفت لكم يَا عبَادي فِي هَذِه السُّورَة حق وَأَنِّي أَفِي لكم بِجَمِيعِ مَا ضمنت فِي هَذِه السُّورَة من وعدي ولطفي وبري ثمَّ حض الشَّيْء الَّذِي بِهِ عظمت فتْنَة الْعباد وَهُوَ الرزق فخصه بقسم آخر فَقَالَ {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه لحق مثل مَا أَنكُمْ تنطقون}
وَإِذا قصدُوا الْكَعْبَة لاذوا بهَا وجددوا بيعَة الْإِسْلَام الَّذِي دنسوه وأخلقوه باستلام الْحجر الَّذِي فِيهِ بيعتهم حِين استخرجهم من الأصلاب للميثاق(4/154)
وَإِذا قصدُوا السُّلْطَان ارتبعوا فِي ظله وسكنت نُفُوسهم فِي المستراح من ذَلِك الظل فَإِن الظُّلم لَهُ وهج وحرارة تحرق الأجواف وتظمأ الأكباد فَإِذا رَأَتْ الْغنم الظل وأحست بِالْمَاءِ اندفعت فِي السّير وصيرته مفزعا فَإِذا صَارَت إِلَى الظل مَعَ الظمأ والعطش الشَّديد لم تَجِد المَاء فَبَقيت على اليبس وَوجدت الذئاب قد سبقن إِلَى الظل وقعدن بِمَرْصَد للغنم فَمَا ظن الْعَاقِل بِتِلْكَ الْغنم مَاذَا يكون حَالهَا وَمَا ظَنّه بِرَبّ الْغنم مَاذَا يَقُول لِلرَّاعِي وَعَسَى أَن يَقُول لَهُ ألم يكن مَعَك أسلحة وحراس تطرد الذئاب عَن هَذَا المستراح وَكَيف سددت مجْرى الْعُيُون حَتَّى عطشت الْغنم
وَأما قَوْله إِذا جارت الْوُلَاة قحطت السَّمَاء مَعْنَاهُ انْقِطَاع الْمَطَر من مَاء الْحَيَوَان الَّذِي ينزل من تَحت الْعَرْش من بَحر الأرزاق إِلَى السَّمَاء فِي الأبزن والأبزن هُوَ مستنقع المَاء فِي السَّمَاء فَإِذا أصَاب السَّمَاء الْقَحْط انْقَطع عَن الأَرْض الْقطر فَإِذا انْقَطع الْقطر مَاتَت الأَرْض فَلم تنْبت لِأَن الأَرْض إِنَّمَا تنْبت بحياتها وحياتها من مَاء الْحَيَوَان فَإِذا جارت الْوُلَاة ذهب الْعدْل عَن الأَرْض وَإِذا ذهب الْعدْل منعت الْحَيَاة مَاء الْحَيَوَان عَن أَن يقطر فالوالي فاصل بَين الْحق وَالْبَاطِل فَإِذا ذهب الْفَاصِل انْقَطَعت الرَّحْمَة
وَأما قَوْله إِذا منعت الزَّكَاة هَلَكت الْمَوَاشِي فَإِن الزَّكَاة نمو المَال والنمو من الْبركَة وَإِذا منعت الزَّكَاة دنس المَال وَلَا بَقَاء للبركة مَعَ الدنس وَإِذا ارتحلت الْبركَة عَن شَيْء هلك ذَلِك الشَّيْء
وَأما قَوْله إِذا ظهر الزِّنَا ظهر الْفقر فَمن أجل أَن الْغنى من فضل الله تَعَالَى وَالْفضل لأهل الْفَرح بِاللَّه وبعطائه والمناكحة بمحاب الله وبأمره وحبه يلتقي الزَّوْجَانِ على الأفراح بِاللَّه وعدهم الله بذلك فِي تَنْزِيله الْغَنِيّ(4/155)
من فَضله فَقَالَ {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ} الْآيَة وَبَين فِي الْآيَة من أَيْن يغنيهم فَقَالَ {من فَضله} وَالْفضل قبل الْقِسْمَة
وَلذَلِك قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ مَا وجدنَا الطّلب للغنى فِي مثل الْبَاءَة وتلا هَذِه الْآيَة
فَإِذا زنى فقد آثر الْفَرح الَّذِي هُوَ من قبل الْعَدو السابي لِقَلْبِهِ على الْفَرح الَّذِي ندب الله عز وَجل إِلَيْهِ عباده فَقَالَ {قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} فَذهب الْفضل والغنى لِأَنَّهُ قد جاوره من يدنسه
وَأما قَوْله إِذا أخفرت الذِّمَّة أديل الْكفَّار لِأَن الْمُؤمن عَاهَدَ الله بِالْوَفَاءِ بِذِمَّتِهِ فَإِذا أَخْفَر نقض الْعَهْد وَإِذا نقض الْعَهْد وَهِي عقدَة الْمعرفَة لِأَن الْمعرفَة مقرونة بالعهد معقودة بِهِ فبنقض الْعَهْد يخَاف انحلال العقد وَمن قبل الانحلال تذْهب هَيْبَة الْإِسْلَام ويقذف الوهن فِي الْقُلُوب
عَن ثَوْبَان مولى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ سَمِعت النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ليتداعى عَلَيْكُم الْأُمَم كَمَا يتداعى الْأكلَة إِلَى قصعتها قلت يَا رَسُول الله وَمن قلَّة بِنَا يَوْمئِذٍ قَالَ لَا بل أَنْتُم كثير وَلَكِنَّكُمْ غثاء كغثاء السَّيْل وَلَينْزَعَنَّ الله المهابة من صُدُور عَدوكُمْ مِنْكُم وليقذفن فِي قُلُوبكُمْ الوهن فَقلت يَا رَسُول الله وَمَا الوهن قَالَ حب الدُّنْيَا وَكَرَاهَة الْمَوْت(4/156)
- الأَصْل السَّادِس وَالسَّبْعُونَ والمائتان
-
فِي مَا ترَاءى للحكيم فِي منَازِل الْقرْبَة مجاوبات لِلْآيَةِ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَة
عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سجد قَالَ سجد لَك سوَادِي وخيالي وآمن بك فُؤَادِي أَبُوء بنعمتك عَليّ وأبوء بذنبي هَذَا مَا جنيت على نَفسِي فَاغْفِر لي إِنَّه لَا يغْفر الذَّنب الْعَظِيم إِلَّا أَنْت
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي سُجُود الْقُرْآن بِاللَّيْلِ مرَارًا سجد وَجْهي للَّذي خلقه وصوره وشق سَمعه وبصره بحوله وقوته(4/157)
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي سُجُوده اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذَنبي كُله دقيقه وجليله أَوله وَآخره سره وعلانيته
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي سُجُوده أعوذ بعفوك من عقابك وَأَعُوذ برضاك من سخطك وَأَعُوذ بك مِنْك جلّ وَجهك لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك يَا عَظِيم فَقلت يَا رَسُول الله لقد سَمِعتك تَقول فِي سجودك شَيْئا مَا سَمِعتك تذكره قَالَ وَقد علمت ذَلِك قلت نعم قَالَ تعلميهن وعلميهن فَإِن جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَمرنِي أَن أكررهن فِي السُّجُود
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله رَأَيْتنِي هَذِه اللَّيْلَة فِيمَا يرى النَّائِم كَأَنِّي أُصَلِّي خلف شَجَرَة وَرَأَيْت كَأَنِّي قَرَأت السَّجْدَة فسجدت فَرَأَيْت الشَّجَرَة مَكَانهَا سجدت لسجودي وَهِي تَقول اللَّهُمَّ اكْتُبْ لي بهَا عنْدك أجرا وضع عني بهَا وزرا وَاجْعَلْهَا لي عنْدك ذخْرا واقبلها مني كَمَا قبلت من عَبدك دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّجْدَة ثمَّ سجد فَسَمعته يَقُول كَمَا قَالَ الرجل عَن قَول الشَّجَرَة(4/158)
- الأَصْل السَّابِع وَالسَّبْعُونَ والمائتان
-
فِي الْحِكْمَة فِي فتاني الْقَبْر
عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر يَوْمًا فتاني الْقَبْر فَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أترد إِلَيْنَا عقولنا يَا رَسُول الله قَالَ نعم كهيئتكم الْيَوْم فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فَفِي فِيهِ الْحجر
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ قد فسرنا هَذَا الحَدِيث فِي الأَصْل السَّادِس وَالْعِشْرين وَبقيت علينا نُكْتَة لم نأت على تَفْسِيرهَا وَذَلِكَ أَنا سئلنا مَا سَبَب هَذِه الْفِتْنَة فِي الْقَبْر وَقد انْقَطَعت العبودة عِنْد خُرُوج الرّوح إِلَى الله موحدا وانكشف الغطاء وَالْجَوَاب فِي ذَلِك وَالله أعلم أَن الله تَعَالَى من على الْمُوَحِّدين الْمُؤمنِينَ بمعرفته وتوحيده وَذَلِكَ من فَضله وَرَحمته وخاب الْآخرُونَ عَن فَضله وَرَحمته وَكَانَ يبْعَث الرَّسُول بعد الرَّسُول إِلَى الْأُمَم فَكَانَ الْمَمْنُون عَلَيْهِ يُؤمن بِهِ وَيتبع الرَّسُول فِي شَرِيعَته والخائب يكذب الرَّسُول ويتخذ من دون الله وليا يعبده فَكَانَ يمهلهم حَتَّى يُرِيهم الْآيَات ثمَّ إِذا لم يُؤمنُوا بعث عَلَيْهِم عذَابا ودمرهم(4/159)
ثمَّ ينشئ قرنا آخر فَكَانَ هَذَا سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل وَقَالَ فِي تَنْزِيله عِنْدَمَا قصّ نبأ نوح وَإِبْرَاهِيم وَعَاد وَثَمُود وَشُعَيْب ومُوسَى وَفرْعَوْن ثمَّ قَالَ {فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ فَمنهمْ من أرسلنَا عَلَيْهِ حاصبا وَمِنْهُم من أَخَذته الصَّيْحَة وَمِنْهُم من خسفنا بِهِ الأَرْض وَمِنْهُم من أغرقنا} ثمَّ بعث الله مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَسُولا فَقَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين}
وَكَانَ من رَحمته أَن أعطَاهُ السَّيْف بدل الْعَذَاب الَّذِي كَانَ يَأْتِي الْأُمَم بَغْتَة فيهلكهم كي يخوفهم بِالسَّيْفِ حَتَّى يدخلُوا فِي الْإِسْلَام طَوْعًا وَكرها إِذا مرنت نُفُوسهم الكارهة فِي الدّين على شَرِيعَة الْإِسْلَام انقادت وأطاعت وزايلهم الْغِشّ والنفاق وَمِنْهُم من لم يزل النِّفَاق فيهم إِلَى أَن مَاتَ فَستر الله عَلَيْهِم ذَلِك فَكَانَ المُنَافِقُونَ يخالطون الْمُسلمين فِي مناكحاتهم ومواريثهم ومغازيهم ومعاملاتهم والنفاق فِي الْقلب وَلم يكن قبل ذَلِك نفاق إِنَّمَا كَانَ تَصْدِيق وَتَكْذيب لِأَنَّهُ لم يكن هُنَاكَ تخويف بِالسَّيْفِ فَكَانَ المكذبون يجهرون بالتكذيب حَتَّى يَأْتِيهم عَذَاب الله بَغْتَة فَلَمَّا جَاءَت هَذِه الْأمة وخوفوا بِالسَّيْفِ دخلُوا فِي الدّين طَوْعًا وَكرها فَجَاءَهُمْ الِابْتِلَاء فِي الْقَبْر ليظْهر نصْرَة الله للمطيع فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا الثَّابِت فِي قبُوله الْإِسْلَام ويلقن الْجَواب عِنْد السُّؤَال ويضل الله الظَّالِم الَّذِي كَانَ مَعَ النِّفَاق أَيَّام الْحَيَاة
يُحَقّق مَا قُلْنَا مَا رُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الْأمة تبتلى فِي قبورها(4/160)
أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى هَذِه الْأمة خُصُوصا وَإِنَّمَا ابتلوا ليميز الله الْخَبيث من الطّيب قَالَ الله تَعَالَى {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين وَيفْعل الله مَا يَشَاء} وَقَالَ وَمَا كَانَ الله ليذر الْمُؤمنِينَ على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ حَتَّى يُمَيّز الْخَبيث من الطّيب الْآيَة وَقَالَ {الم أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون وَلَقَد فتنا الَّذين من قبلهم فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين}
وَقَوله تَعَالَى {وَيفْعل الله مَا يَشَاء} تَأْوِيله وَالله أعلم أَن من مَشِيئَته أَن يرفع مرتبَة أَقوام عَن السُّؤَال وهم الصديقون وَالشُّهَدَاء
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قيل لَهُ مَا بَال الشُّهَدَاء لَا يفتنون فِي قُبُورهم فَقَالَ كفى ببارقة السيوف عَلَيْهِم فتْنَة
مَعْنَاهُ أَنه أظهر صدق مَا فِي ضَمِيره حَيْثُ برز للحرب وَالْقَتْل فلماذا يُعَاد عَلَيْهِ السُّؤَال فِي الْقَبْر فَإِذا كَانَ الشَّهِيد لَا يفتن فالصديق أَحْرَى أَن لَا يفتن
عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من مَاتَ يَوْم الْجُمُعَة أَو لَيْلَة الْجُمُعَة وَقَاه الله فتْنَة الْقَبْر(4/161)
عَن سلمَان الْفَارِسِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَاتَ مرابطا فِي سَبِيل الله أجِير من فتْنَة الْقَبْر وجزي على صَالح عمله الَّذِي كَانَ يعمله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
فَمن مَاتَ يَوْم الْجُمُعَة انْكَشَفَ الغطاء عَمَّا لَهُ عِنْد الله تَعَالَى لِأَن يَوْم الْجُمُعَة لَا يسجر جَهَنَّم ويغلق أَبْوَابهَا فَإِذا قبض الله عبدا من عبيده يَوْم الْجُمُعَة كَانَ دَلِيل سعادته وَحسن مَا بِهِ عِنْد الله فَيوم الْجُمُعَة يَوْم الله الَّذِي خلق فِيهِ آدم وَذريته ويومه الَّذِي تقوم فِيهِ السَّاعَة فيميز بَين الأحباب والأعداء ويومه الَّذِي يَدعُوهُم إِلَى زيارته فِي جنَّات عدن فَلم يكن ليعطي بركَة هَذَا الْيَوْم إِلَّا من كتب لَهُ السَّعَادَة عِنْده فَلذَلِك يَقِيه فتْنَة الْقَبْر على أَن سَبَب فتْنَة الْقَبْر إِنَّمَا هُوَ لتمييز الْمُنَافِق من الْمُؤمن فِي البرزخ من قبل أَن يلقى الله لِأَن كلا الصِّنْفَيْنِ صلى عَلَيْهِمَا وَفعل بهما سنتة الْمَوْتَى من الْغسْل والتكفين فامتحنا بالسؤال ليهتك الْمُنَافِق من ستره بقوله لَا أَدْرِي إِذْ ستر الله عَلَيْهِ نفَاقه بِحرْمَة مَا أظهر من الْمنطق الْجَمِيل فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله
وَرُوِيَ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه جَاءَ فِي الْخَبَر أَنه عِنْدَمَا يُقَال لَهُ من رَبك يدْخل الشَّيْطَان عَلَيْهِ فيتمثل لَهُ وَيُشِير إِلَى نَفسه فَيَقُول أَنا فطلبنا تَحْقِيق هَذَا فَوَجَدنَا فِي الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول عِنْد دفن الْمَيِّت اللَّهُمَّ أجره من الشَّيْطَان
عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ حضرت مَعَ عبد الله بن عمر فِي جَنَازَة فَلَمَّا وَضعهَا فِي اللَّحْد قَالَ بِسم الله وَفِي سَبِيل الله وعَلى مِلَّة رَسُول الله فَلَمَّا أَخذ فِي تَسْوِيَة اللَّبن على اللَّحْد قَالَ اللَّهُمَّ أجرهَا من(4/162)
الشَّيْطَان وَمن عَذَاب الْقَبْر وَمن عَذَاب النَّار فَلَمَّا سوى الْكَثِيب عَلَيْهَا قَامَ جَانب الْقَبْر فَقَالَ اللَّهُمَّ جَاف الأَرْض عَن جنبها وَصعد روحها ولقها مِنْك رضوانا فَقلت لِابْنِ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أشيئا سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن عبد الله بن مُحَمَّد أَن إِبْرَاهِيم ابْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم توفّي فَخرج بِهِ فَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمشي أَمَام سَرِيره ثمَّ دخل قَبره فَلَمَّا رَآهُ قد وضع فِي اللَّحْد فاضت عَيناهُ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك أَصْحَابه بكوا حَتَّى ارْتَفَعت أَصْوَاتهم ثمَّ أقبل أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ يَا رَسُول الله تبْكي وَأَنت تنْهى عَن الْبكاء فَقَالَ يَا أَبَا بكر تَدْمَع الْعين ويوجع الْقلب وَلَا نقُول مَا يسْخط الرب ثمَّ دفن فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما من أحد يأتينا بِمَاء نطهر بِهِ قبر إِبْرَاهِيم فَأتى بِمَاء فَأمر بِهِ فرش على الْقَبْر ثمَّ وضع يَده الْيُمْنَى عَلَيْهِ من عِنْد رَأسه فَقَالَ ختمت عَلَيْك بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم وَالله أعلم(4/163)
- الأَصْل الثَّامِن وَالسَّبْعُونَ والمائتان
-
فِي استكمال الْعُبُودِيَّة
عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لن يُؤمن عبد حَتَّى يكون هَوَاهُ تبعا لما جِئْت بِهِ
قَالَ أَبُو عبد الله الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الله هُوَ العبودة الَّتِي لَهَا خلقُوا قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَقَالَ ذَلِكُم الله ربكُم لَا إِلَه إِلَّا هُوَ خَالق كل شَيْء فاعبدوه
فالعبودة فِي ترك الْهوى وَاتِّبَاع مَا جَاءَ بِهِ فَكل امْرِئ اجْتمع فِيهِ هَذِه الْخِصَال السِّت فقد اسْتكْمل العبودة الْحق وَالصَّوَاب وَالْعدْل والصدق وَالْأَدب والبهاء فَإِذا رفع أَمرك إِلَى الله وَقد اجْتمعت هَذِه السِّت فِيهِ لبق وَإِذا لبق قبل إِذا عرض على الله وَإِذا صلى الرجل فدعته أمه فَلم يجبها فَالصَّلَاة حق وَلَيْسَ بصواب فَالْحق كل أَمر رَضِي الله بِهِ وَالصَّوَاب كل أَمر رَضِي الله بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت وَأما الْعدْل فَأن يكون(4/164)
قَلْبك فِي إِصَابَة الْحق وَالْعَمَل بِهِ لَا يمِيل إِلَى النَّفس يُرِيد بِهِ الرِّيَاء وَأما الصدْق فِي الْعدْل فَأن يَرْمِي ببصر قلبه إِلَى مَوضِع الْمُشَاهدَة وَأما الْأَدَب فَأن تضع كل شَيْء من الحركات مَوْضِعه وَأما الْبَهَاء فوقاره وسكينته وزينته ولبقه(4/165)
- الأَصْل التَّاسِع وَالسَّبْعُونَ والمائتان
-
فِي فضل الْعقل
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا بلغه عَن رجل شدَّة عبَادَة سَأَلَ كَيفَ عقله فَإِن قَالُوا غير ذَلِك قَالَ لن يبلغ
وَذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن رجل من أَصْحَابه شدَّة عبَادَة واجتهاد فَقَالَ كَيفَ عقله قَالُوا لَيْسَ بِشَيْء قَالَ لن يبلغ صَاحبكُم حَيْثُ تظنون
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يعجبنكم إِسْلَام رجل حَتَّى تعلمُوا مَا عقدَة عقله
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ فالعقل خلق مَخْلُوق من نور الْبَهَاء مقسوم بَين الْمُوَحِّدين من ولد آدم مَوْضُوع فِي الدِّمَاغ وإشراقه وشعاعه ومعتمله فِي الصَّدْر بَين عَيْني الْفُؤَاد فَهُوَ مُدبر لأَمره وآمر وزاجر ومميز وَدَلِيل وهاد ومبصر فبه عرف ربه وَبِه علم ربوبيته وَبِه نظر إِلَى تَدْبيره وَإِلَى مَا أظهر لخلقه من ملكه وعجائب قدرته(4/166)
وصنعه وَبِه عرف جَوَاهِر الْأُمُور من أَمر الدّين وَالدُّنْيَا وَبِه نَهَضَ إِلَى ربه وَذَلِكَ النهوض اسْمه على أَلْسِنَة الْخلق النِّيَّة من قَوْله ناء ينوء أَي نَهَضَ ينْهض وَإِنَّمَا ينْهض بِقَصْدِهِ وإلقاء همته لَا أَنه ينخلع عَن مَكَانَهُ فهمه وقصده نِيَّته وَهِي النهوض عَن سكونه فهم الْقلب يطير إِلَى الله بِنور الْعُقُول الَّتِي لَهَا كل على قدر حَظه من الْعقل الَّذِي قسم لَهُ ربه وَبَين الْقسم تفَاوت وَإِنَّمَا تفاوتت الرُّسُل والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام وَمن دونهم من الْمُوَحِّدين فِي منَازِل الدّين وَفِي دَرَجَات الْجنان غَدا بتفاضل الْعُقُول فالعبادة وَالِاجْتِهَاد فِيهَا من ذَات النَّفس مَا هُوَ وبال على صَاحبه لِأَن ذَات النَّفس هُوَ الْهوى الَّذِي حذرنا أَتْبَاعه فِي التَّنْزِيل فَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله}
فَإِذا كَانَت الْعِبَادَة وَالِاجْتِهَاد فِيهَا مخرجها من تَدْبِير الْعقل استقام الْأَمر وصفت الْعِبَادَة وَذهب الْجهد من ضيق النَّفس وعسرتها والهوى يضيق أمرهَا عَلَيْهَا فَإِذا كَانَ الْعقل ولي الْقلب غَالِبا للهوى فالهوى مقضي مدحور وَالْقلب آمُر مؤمر عدل فِي إمارته فَلَا يسْتَعْمل جارحة إِلَّا بِمَا يدبر لَهُ الْعقل وَلذَلِك كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سمع بِعبَادة رجل سَأَلَ عَن عقله فَإِذا كَانَ الْعقل مَغْلُوبًا كَانَ الْقلب أَسِير الْهوى وَالنَّفس فَهُوَ وَإِن اجْتهد فِي الْعِبَادَة فعامة عِبَادَته خطأ وَجَهل كَمَا سبق فِي قصَّة جريج الراهب(4/167)
- الأَصْل الثَّمَانُونَ والمائتان
-
فِي الثَّلَاثَة الَّتِي تَحت الْعَرْش
عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة تَحت الْعَرْش الْقُرْآن لَهُ ظهر وبطن يحاج الْعباد وَالرحم تنادي صل من وصلني واقطع من قطعني وَالْأَمَانَة
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ فَظهر الْقُرْآن يحاج الظَّالِمين أهل التَّخْلِيط وبطن الْقُرْآن يحاج الْمُقْتَصِدِينَ لِأَن ظَاهر الْقُرْآن يحاج لأهل الْجنان وباطن الْقُرْآن لأهل الغرف وهم السَّابِقُونَ وَإِنَّمَا يحاج الْمُقْتَصِدِينَ لأَنهم أَقَامُوا مَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم على مجاهدة مِنْهُم لأَنْفُسِهِمْ فَأهل الْجهد لَا يقدرُونَ على صفاء الْأَمر وَإِنَّمَا يقيمونها مَعَ كدورة النَّفس وعسرتها وتردها ونكدها فَلَا يبلغون حقائق الْأُمُور على الصفاء وَإِنَّمَا يبلغ حقائق الْأُمُور صَافِيَة السَّابِقُونَ الَّذين عتقوا من رق النَّفس فهم أَحْرَار كرماء وَأُولَئِكَ عبيد أتقياء كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لبني إِسْرَائِيل لَا عبيد أتقياء وَلَا أَحْرَار كرماء(4/168)
- الأَصْل الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ والمائتان
-
فِي وَصِيَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام بنيه وَهِي أَربع كَلِمَات
عَن معَاذ بن أنس رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول أَلا أخْبركُم عَن وَصِيَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام بنيه حِين حَضَره الْمَوْت قَالَ إِنِّي واهب لَك أَربع كَلِمَات هن قيام السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهن أول كَلِمَات دُخُولا على الله تَعَالَى وَآخر كَلِمَات خُرُوجًا من عِنْده وَلَو وزن بهَا أَعمال بني آدم لوزنتهن فاعمل بِهن واستمسك حَتَّى تَلقانِي أَن تَقول سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وَالَّذِي نفس نوح بِيَدِهِ لَو أَن السَّمَوَات وَالْأَرضين وَمَا فِيهِنَّ وَمَا تحتهن وزن بهؤلاء الْكَلِمَات لوزنتهن
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ ونعمت الْمَوَاهِب وَنعم الْمَوْهُوب لَهُ هَذَا نوح رَأس الْمُرْسلين صلوَات الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ أوصى ابْنه عِنْد وَفَاته وَخُرُوجه من الدُّنْيَا ثمَّ صير الْوَصِيَّة هبة ليَكُون تَمْلِيكًا وَلَا يكون تمْلِيك إِلَّا من مَالك فدلت هَذِه الْكَلِمَة من قَول نوح عَلَيْهِ السَّلَام أَنِّي واهب لَك أَن هَذِه الْكَلِمَات وهبت لي فَأَنا واهب لَك من قبل أَن يَزُول ملك الْهِبَة مني بمزايلة الرّوح الْجَسَد لِأَن أَوْلَاد الرُّسُل إِنَّمَا(4/169)
يورثون إِرْث النُّبُوَّة بِحكم الله قَالَ الله تَعَالَى {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} وَقَالَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام {فَهَب لي من لَدُنْك وليا يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب}
وَهَذَا الْوَلَد هُوَ سَام بن نوح فِيمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر وَهُوَ أَب الْعَرَب والعجم المجاورين للْعَرَب وهم فَارس وَالروم وَأما حام فَهُوَ أَب الْحَبَشَة والهند والسند وَأما يافث فَهُوَ أَب التّرْك والصقالبة ويأجوج وَمَأْجُوج فَكَانَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة مِمَّن ركبُوا السَّفِينَة مَعَه وَامْتنع كنعان الابْن الرَّابِع وَحَال بَينهمَا الموج فَكَانَ من المغرقين وَإِنَّمَا صَارَت هَذِه الْكَلِمَات الْأَرْبَع قيام السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ بِالْحَقِّ لِأَن الله تَعَالَى خلق السَّمَوَات وَالْأَرضين وَمَا فِيهِنَّ بِالْحَقِّ لتجزى كل نفس بِمَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ وَحَقِيقَة الْقيام بِالْحَقِّ فِي الْوَفَاء بمقالة سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وَإِنَّمَا يُطَالب الله عباده بِحَقِيقَة الْقيام بِهَذِهِ الْكَلِمَات الْأَرْبَع حَتَّى يُرْضِي الْحق فالسموات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ مسخرات للآدمي ليقوم هَذَا الْآدَمِيّ بمقالة سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر منطقا وَعَملا ووفاء لطهارة هَذِه الْأَرْبَع ونزاهتهن وقدسهن
فَمن قَامَ من الْآدَمِيّين بِهَذِهِ الْأَرْبَعَة بِهَذِهِ الصّفة الَّتِي وَصفنَا كَانَ ولي هَذِه الْكَلِمَات وَكَانَ ولي الله وَبِه تقوم السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ وَإِنَّمَا صَارَت فِي الْوَزْن أثقل من السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ وأوزن من أَعمال بني آدم لِأَن هَذِه الْكَلِمَات عماد الْأَعْمَال فبالتسبيح تطهر الْأَعْمَال وبالتقديس تحط أثقال النعم وبالتهليل تقبل الطَّاعَات وبالتكبير ترفع وينال الثَّبَات(4/170)
وَأما قَوْله أولهنَّ دُخُولا على الله وآخرهن خُرُوجًا من عِنْد الله فَإِن هَذِه الْكَلِمَات رُؤُوس الْكَلَام وأمناؤه ومهيمن على سَائِر الْكَلَام فالأمناء أولهنَّ دُخُولا على الْملك يَوْم يقْعد لعرض الْأَخْبَار وتدبير الْملك فيرفعون إِلَيْهِ أُمُور الرّعية ثمَّ يَأْذَن للرعية فيعترضهم فَإِذا خَرجُوا من عِنْده كَانَ التَّدْبِير مَعَ الْأُمَنَاء وَقَضَاء حوائج الرّعية على أَيْديهم وَقبُول معاذيرهم ونوال عطاياهم فَكَذَلِك هَذِه الْكَلِمَات يدخلن على الله يَوْم تعرض الْأَعْمَال فِي كل إثنين وخميس ثمَّ تَجِيء الْأَعْمَال بعد ذَلِك على أثرهن فتعرض على الله فتزكية الْأَعْمَال وتوفيرها من هَؤُلَاءِ الْأُمَنَاء يشْهدُونَ لَهَا بِالصّدقِ وَإِذا خرجت الْأَعْمَال بَقِي هَؤُلَاءِ عِنْده لتوفير التقصيرات وَتَصْحِيح الْأَعْمَال وسؤال الْقبُول والثبات وتربية الْأَعْمَال وتقوية النُّفُوس ومدد الْقُلُوب فهن المستأذنات للأعمال والمسهلات لسبل الْأَعْمَال والشفعاء والمزينات لِأَن على طَرِيق الْعرض سماطي الْملك ملك الرَّحْمَة وَملك العظمة وَملك السُّلْطَان وَملك الْبَهْجَة وَملك الْجمال وَملك الْجلَال وَملك الْبَهَاء فَهَذِهِ الْكَلِمَات تطرف الْأَعْمَال إِلَى مَالك الْملك وتسهل السَّبِيل وَتشفع وتزين وبهن يقرع الْبَاب وَمثل ذَلِك مثل ملك أصبح فعرضت عَلَيْهِ أَعمال الرّعية وَاجْتمعت الرّعية على بَاب الْملك فَأول من يدْخل عَلَيْهِ الْوُجُوه وسراة الرّعية والمختصون بالوسائل فَإِذا دخلُوا عَلَيْهِ قربهم فِي الْمجْلس وأدناهم من نَفسه وأحلهم مَحل الْأُمَنَاء والخاصة فإياهم يأتمن وَعَلَيْهِم يقبل وَمِنْهُم وإياهم يسعف بالحوائج وَمن أَجلهم يَأْذَن لَهُم وعَلى قدر مَا يثنى كل وَاحِد مِنْهُم على الرّعية وينشر عَن طاعاتهم للْملك وَصدقهمْ ووفائهم ونصحهم يقبل الْملك على هَذِه الرّعية وَيَقْضِي حوائجهم ويجزل عطاياهم فَهَؤُلَاءِ وُفُود الرّعية فَهَذَا مثل هَؤُلَاءِ الْكَلِمَات ثمَّ لِلْقَائِلين بهَا دَرَجَات تَتَفَاوَت
وَمثل ذَلِك مثل هَذَا الْملك يجْتَمع بِبَابِهِ هَؤُلَاءِ الْوُفُود فَأول من يدْخل(4/171)
عَلَيْهِ أوجههم عِنْد الْملك وَأَحْسَنهمْ هَيْئَة وأعقلهم وأعذبهم منطقا وأفصحهم لِسَانا وأصبحهم وَجها وأطهرهم خلقا وأبهاهم زيا وَسمنًا وأنقاهم ثيابًا وأقصدهم مشيا وأفهمهم عَنهُ إِشَارَة وأوعاهم علما فالحظ كل الْحَظ والإسعاف كل الْإِسْعَاف بالحوائج لمن كَانَت هَذِه صفته من بَين الْوَفْد
فَكَذَلِك هَذِه الْكَلِمَات قد وعتها الْقُلُوب ووعت مَعَانِيهَا الصُّدُور وَزينتهَا الْعُقُول لأفئدة الْقُلُوب وأشرقت أنوارها بَين أَوديَة الأفكار وعَلى بصائر النُّفُوس وأسماع هواجس الأحلام فَمن كَانَ قلبه واعيا لنُور الله الْأَعْظَم وصدره مشرقا بذلك النُّور وَعين فُؤَاده منكشفة الغطاء عَن زِينَة الْعقل وبهائه قد سد تراكم أنواره خلال الرويات واجتذت لَهَا أبصار النُّفُوس وأذنت أسماع الهواجس واحتشت من نور الْحَيَاة فَإِنَّمَا تخرج الْكَلِمَات إِلَى الله من بَين هَذِه الْأَشْيَاء فَهَذَا بَحر الله فِيهِ جَوَاهِر الله فَإِنَّمَا يصعد إِلَى الله جَوَاهِر قد غاص عَلَيْهَا قَائِلهَا من بحره فولي الْبَحْر أعلم بأثمان تِلْكَ الْجَوَاهِر وَقد عجز عَن علم أثمانها جَمِيع الْخلق قَالَ لَهُ قَائِل مَا أثمانها قَالَ حب الله فَمن ذَا يدْرك حرارة الْحبّ وفورانه وشعله وَيعلم كنهها إِلَّا محبوبه الَّذِي يثيره قَالَ قَائِل وَكَيف يثيره قَالَ يثير الْحبّ الَّذِي وَضعه فِي العَبْد بالحب الَّذِي عَنهُ للْعَبد فَمن خرجت مِنْهُ هَذِه الْكَلِمَات من حبه فَدخلت هَذِه الْكَلِمَات مِنْهُ على الله كن أول من يدْخل ثمَّ يعرض أَعماله بعد دخولهن وكل عمل إِنَّمَا يَقْتَضِي ثَوَابه هَذَا الْحبّ الَّذِي إِنَّمَا صَار هَذِه الْكَلِمَات وجيهة عِنْد الله بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي وَصفنَا وَإِنَّمَا نَالَ هَذِه الْأَشْيَاء بلب هَذِه الْأَشْيَاء ولبه حب العَبْد لله ولب ذَلِك حب الله لعَبْدِهِ وَمن كَانَ قلبه خَالِيا من جَمِيع مَا وَصفنَا إِلَّا أَنه مُؤمن بِهَذِهِ الْكَلِمَات قد تضمن توحيده نفس هَذِه الْكَلِمَات وعلما بهَا وَمَعْرِفَة لَهَا فَهُوَ مقربها نَاطِق بهَا باستقرار الْقلب بذلك التَّوْحِيد وَالْإِيمَان قد خلا قلبه عَن أنوارها وحشو مَا فِيهَا فَإِنَّمَا(4/172)
يصعد إِلَى الله إيمَانه بِتِلْكَ الْكَلِمَات فَيدْخل من قَائِلهَا على هَذِه الْهَيْئَة وَتلك على تِلْكَ الْهَيْئَة فَإِنَّمَا تكون كَلمته من الله قربا ودنوا ووسيلة وَجَوَاز قَول ونوال عَطِيَّة على قدر هَيئته أَو تِلْكَ على قدر هيئتها
فَاعْتبر بِهَذَا الْمثل الَّذِي ضربنا لَك بدءا من شَأْن الْمُلُوك والسراة المقدمين فِي الْإِذْن قَالَ الله تَعَالَى {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس لَعَلَّهُم يتفكرون} {وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ}
فالغائص فِي بَحر الله على هَذِه الْكَلِمَات هُوَ عبد قد طالع مقاسم الْكَلِمَات كَيفَ انقسمت على أُمُور الْعباد فِي مَوضِع الْمقسم على الْعَرْش وطالع حِكْمَة التَّأْلِيف لحروف الْكَلِمَات فِي ملك الْملك وطالع مَا فِي حَشْو كل حرف مِنْهَا فِي المبدأ فَهُوَ إِذا نطق بهَا لاحظ الْمقسم فَوجه يلحظه كل كلمة من مَعْدِنهَا الَّتِي عزيت هَذِه الْكَلِمَة إِلَى الْمَعْدن مِنْهُ جرى إِلَى العَبْد وكل كلمة لَهَا نوبَة من الْأُمُور وَالْأَفْعَال فالتسبيح تَنْزِيه من الهواجس وَالْحَمْد يكْشف عَن النعم والصنائع والتهليل يبرأ عَن العلائق وَالتَّكْبِير يثبت القيومية لَهُ عَن الزَّوَال فعين فُؤَاده يَدُور مَعَ دوران لِسَانه حَتَّى تقسم اللحظات الْكَلِمَات على الْأُمُور فيلاحظ الهواجس ويلاحظ النعم ويلاحظ الشّرك ويلاحظ الزَّوَال فَينْتَقل لحظاته كَمَا ينْتَقل دوران لِسَانه من كلمة إِلَى كلمة(4/173)
- الأَصْل الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ والمائتان
-
فِي رَأس النعم وشكر الْمُنعم
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأى فِي الْبَيْت كسيرة ملقاة فَمشى إِلَيْهَا فَرَفعهَا ومسحها وَقَالَ يَا عَائِشَة أحسني مجاورة نعم الله فَقل مَا نفرت عَن قوم فَكَادَتْ ترجع إِلَيْهِم
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ فرأس نعم الدّين نور التَّوْحِيد معرفَة بِالْقَلْبِ وَشَهَادَة بِاللِّسَانِ أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَرَأس نعم الدُّنْيَا هَذَا الْجَسَد الَّذِي هُوَ قالب لهَذِهِ النِّعْمَة الفائقة للنعم فَإِن الله تَعَالَى أنعم عَلَيْك بِنور التَّوْحِيد حَتَّى عَرفته ثمَّ وضع حول قَلْبك فِي صدرك بيدرا من الْأَنْوَار يتربى فِيهَا نور الْمعرفَة وأنعم عَلَيْك بِهَذَا القالب المجسد وَوضع حوله بيدرا من نعم الدُّنْيَا يتربى فِيهَا هَذَا الْجَسَد وَأمرت بِحسن مجاورة نعم هذَيْن فَحسن الْمُجَاورَة مَعَ نور الْمعرفَة أَن لَا تذكر كل شَيْء سواهُ وَأَن لَا تُؤثر عَلَيْهِ أحدا وَأَن لَا تقرن بمشيئآته مشيئآت النَّفس وَأَن لَا يُلْهِيك الْهوى عَن الوله إِلَى الله تَعَالَى فِي كل حالاتك وَحسن مجاورة الْجَسَد أَن لَا تسْتَعْمل جارحة من جوارحك إِلَّا لَهُ ولرضاه عز وَجل(4/174)
- الأَصْل الثَّالِث وَالثَّمَانُونَ والمائتان
-
فِي طنين الْأذن
عَن أبي رَافع رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا طَنَّتْ أذن أحدكُم فَليصل على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَيَقُول اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد ذكر الله من ذكرنَا
وَعَن عبيد الله بن الْمُغيرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يُقَال إِذا ضرب أذن العَبْد فَإِن الله يذكرهُ فليذكر الله أَو فليحسن ذكر الله
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الْأَرْوَاح لتتلاقى فِي الْهوى وَأَحَدهمَا من صَاحبه على مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة وَإِن الْأَرْوَاح خلقت قبل الأجساد بألفي عَام فتشامت كَمَا تتشام الْخَيل ثمَّ هِيَ جنود مجندة فَإِذا الْتَقَوْا فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف
هَذَا كُله عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(4/175)
وَقَالَ سلمَان لِلْحَارِثِ كَيفَ أَنْت يَا حَارِث قَالَ وَمن أَيْن عَرفتنِي قَالَ عرف روحي روحك وَكَذَلِكَ قَالَ أويس لهرم بن حَيَّان رحمهمَا الله وَلَوْلَا أَن الرّوح مَشْغُولَة بِالنَّفسِ وشهواتها لأوردت عجائب على صَاحبهَا من دَرك الْأَشْيَاء لِأَن لَهَا سطوعا فِي الجو تجول ثمَّ تصعد إِلَى الله إِلَى مقَامهَا الَّذِي مِنْهُ بَدَت وَلكنهَا تدنست بِمَا لبست من أَثوَاب اللَّذَّات وتكدرت بِمَا شربت من كأس حب الدُّنْيَا وخالطت الْهوى ومالت نَحوه فَمن صفاه وأخلصه ونزهه فقد ظفر بِنور الْيَقِين وفاز بالحظ الْعَظِيم والكأس الأوفى
وَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قبض قيل لَهُ إِلَى أَيْن يَا رَسُول الله قَالَ إِلَى السِّدْرَة الْمُنْتَهى
فَلِكُل رَسُول فِي السَّمَاء مُسْتَقر إِذا قبض فلآدم عَلَيْهِ السَّلَام فِي الدُّنْيَا وليحيى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام فِي السَّمَاء الثَّانِيَة وليوسف عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّمَاء الثَّالِثَة ولإدريس عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّمَاء الرَّابِعَة ولهارون عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّمَاء الْخَامِسَة ولموسى عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّمَاء السَّادِسَة ولإبراهيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّمَاء السَّابِعَة ولمحمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السِّدْرَة الْمُنْتَهى بِبَاب الله عِنْد الْحجاب فَهُوَ متشمر هُنَاكَ يسْأَل الله لأمته فِي كل يَوْم لكل صنف فللمتهافتين التَّوْبَة وللتائبين الثَّبَات وللمستقيمين الْإِخْلَاص وَلأَهل الصدْق الْوَفَاء وللصديقين وفارة الْحَظ
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ حَياتِي خير لكم وموتي خير لكم
عَن أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا إِنِّي لكم بمَكَان(4/176)
صدق حَياتِي وَإِذا مت فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَا رَسُول الله إِذا مت قَالَ لَا أَزَال أنادي فِي قَبْرِي رب أمتِي أمتِي حَتَّى ينْفخ فِي الصُّور النفخة الأولى ثمَّ لَا تزَال دعوتهم لي مجابة حَتَّى ينْفخ فِي الصُّور النفخة الثَّانِيَة
فطنين الْأذن من قبل الرّوح أَنه بحدة بَصَره وَخِفته وطهارته وحياته وسطوعه إِلَى الْمقَام أدْرك فِي وَقت سُؤال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَاب الله لَهُ شَيْئا وَذكر الله إِيَّاه بِخَير فَرجع إِلَى أَصله المتمكن فِي رَأسه وَقَلبه بذلك الْخَيْر والبشرى فطنت الْأذن لصوته وَمَا جَاءَ بِهِ من الْخَيْر فَلذَلِك قَالَ فَليصل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ ذكره عِنْد الله فِي ذَلِك الْوَقْت وَطلب مِنْهُ شَيْئا فاستوجب مِنْهُ الصَّلَاة ليَكُون فِيهِ أَدَاء حَقه فَهَذَا وَمَا أشبهه مكرمات الْمُوَحِّدين من ولد آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَكَذَلِكَ العطاس هُوَ فِي ذَلِك الْوَقْت ذكر من الله لذَلِك الرّوح بِخَير فابتهج الرّوح وسطع نوره فَذَلِك الصَّوْت من سطوعه وَلذَلِك قيل عطس وسطع وهما كلمتان مستعملتان فِي نَوْعَيْنِ يُقَال عطس وسطع فَلذَلِك أَمر أَن يحمد ربه وَأول من فعل ذَلِك آدم عَلَيْهِ السَّلَام لما اسْتَقر فِيهِ الرّوح وَذكر بِخَير فازدهر وسطع نوره كالمسرور
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ العطاس من الله(4/177)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حدث بِحَدِيث فعطس عِنْده فَهُوَ حق لِأَن ذَلِك وَقت ذكر الله للأرواح فَلَا يَقُول صَاحبه إِلَّا حَقًا وَلذَلِك وَجب للْمُسلمِ على الْمُسلم حق التشميت لِأَنَّهُ ظهر عَلَيْهِ أثر نعْمَة الله تَعَالَى فِي ذَلِك الذّكر
وَرُوِيَ أَنه قَالَ الله يَا دَاوُد إِن سَمِعت عاطسا من وَرَاء سَبْعَة أبحر فاذكرني(4/178)
- الأَصْل الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ والمائتان
-
فِي أَن الدُّنْيَا ملعونة إِلَّا عَن ثَلَاثَة
عَن عبد الله بن حَمْزَة عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدُّنْيَا ملعونة مَلْعُون من فِيهَا إِلَّا من ذكر الله أَو معلم أَو متعلم
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ فالدنيا هَذِه الدَّار الَّتِي دورت أرْضهَا تدويرا بجبل قَاف وأحيط عَلَيْهَا بِالْجَبَلِ وَالْآخِرَة هِيَ الدَّار الْآخِرَة وَهَذِه أولى قَالَ الله تَعَالَى {وَإِن لنا للآخرة وَالْأولَى}
وَسميت هَذِه دنيا لِأَنَّهَا أدنى إِلَيْك وَالْآخِرَة تعقب هَذِه إِذا ذهبت هَذِه جَاءَت تِلْكَ فَتلك اسْمهَا عَاقِبَة قَالَ الله تَعَالَى {وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين}(4/179)
وَسميت هَذِه عاجلة لِأَنَّهَا عجلت وَتلك آجلة لِأَنَّهَا أجلت فَفِي هَذِه الدَّار زِينَة وحياة وَفِي تِلْكَ الدَّار زِينَة وحياة وحياة هَذِه من الرّوح الْمركب فِي هَذَا القالب الَّذِي هُوَ من اللَّحْم وَالدَّم والعظم والعصب وَالْعُرُوق والشهوة واللذة فِي هَذَا القالب وأصل الشَّهْوَة من الْفَرح وأصل اللَّذَّة من الذِّهْن وأصل القالب من التُّرَاب والحياة مَسْكَنهَا فِي الرّوح وَالروح مَسْكَنهَا فِي الدِّمَاغ ثمَّ هُوَ منفش فِي جَمِيع الْجَسَد وَأَصله مُعَلّق فِي الوتين عرق الْقلب مشدود هُنَاكَ وَذَلِكَ الْعرق نِيَاط الْقلب وَالنَّفس مَسْكَنهَا فِي الْبَاطِن ثمَّ هِيَ منفشية فِي جَمِيع الْجَسَد وَأَصلهَا مشدود بِهَذَا الْعرق والشهوات فِي النَّفس واللذة مِنْهَا وعملها من الذِّهْن فَهَذِهِ الزِّينَة والحياة الَّتِي فِي النَّفس تسْتَعْمل هَذَا القالب فَمَا كَانَ من عمل الْعين خرج إِلَى الْعين وَمَا كَانَ من عمل السّمع خرج إِلَى السّمع وَمَا كَانَ من عمل الْمنطق خرج إِلَى اللِّسَان وَمَا كَانَ من عمل الْيَد خرج إِلَى الْيَد وَمَا كَانَ من عمل الرجل خرج إِلَى الرجل فمخرج أَعمال الْجَوَارِح السَّبع من الْفَرح الَّذِي فِي الْقلب وَمن الزِّينَة والحياة الَّتِي فِي النَّفس فَإِذا حزن الْقلب ذبلت النَّفس وانطفأت نَار الشَّهْوَة وتعطلت الْجَوَارِح عَن الْعَمَل وسكنت الحركات وَإِذا فَرح الْقلب هَاجَتْ النَّفس وَصَارَت قَوِيَّة طرية وأثارت نيران الشَّهَوَات واستعملت الْجَوَارِح فالفرح رَأس مَال أَعمال الْجَوَارِح وَالْعَبْد مبلو بِهَذَا الْفَرح فَإِذا حيى الْقلب بِاللَّه ففرح بِشَيْء من زِينَة الدُّنْيَا ترَاءى ذَلِك النُّور الَّذِي فِي قلبه وَتلك الْحَيَاة الَّتِي لِقَلْبِهِ صنع الله فِي تِلْكَ الزِّينَة وخلقه لَهَا وَرَحمته فِيهَا ورأفته على عَبده بذلك فقبلها من ربه واستبشر بهَا وَصَارَ ذَلِك الْفَرح لله ونطق بِالْحَمْد لله وأضمر على الطَّاعَة شكرا لله وإظهارا لعلمه أَن هَذَا لَهُ من الله حَتَّى يَأْخُذ الْفَرح من صَدره فِي جَمِيع جوارحه فَيذْهب كسله وتقوى عزيمته وتتجدد نِيَّته وتطيب نَفسه
فَهَذَا عبد حَامِد لله شاكرا لَهُ قد صدق علمه بِأَنَّهُ من الله يَقُول بِلِسَانِهِ الْحَمد لله ثمَّ يصدقهُ بِفعل جوارحه شكرا لله وَإِذا هاج الْفَرح(4/180)
بِتِلْكَ الزِّينَة من قلبه وَكَانَ قلبه محجوبا عَن الله وصدره مظلما بغيوم الْهوى ودخان الشَّهَوَات ورين الذُّنُوب لم يتَرَاءَى لعَيْنِي فُؤَاده فِي صَدره صنع الله تَعَالَى فِي تِلْكَ الزِّينَة وَلَا خلقه لَهَا وَلَا رَحمته فِيهَا وَلَا رأفته عَلَيْهِ فجَاء الْهوى بكبره وَالنَّفس بعلوها وتجبرها فَصَارَ الْفَرح للنَّفس وبالدنيا وبمراءات الأشكال ومباهاة الأضداد فَظهر الْفساد من الْجَوَارِح وَخرجت السَّيِّئَات من الْجَسَد كل سَيِّئَة من مَعْدِنهَا من قلَّة الرَّحْمَة وَقلة المبالاة وَترك النَّصِيحَة وَظَهَرت الفظاظة واليبوسة والغلظة وَالْقَسْوَة ورذائل الْأَخْلَاق حَتَّى صَارَت الْجَوَارِح إِلَى الْغِشّ وَالْمَكْر والمخادعات وَإِلَى أَفعَال الْجَسَد وَإِلَى سوء النيات والمقاصد وَخرج إِلَى الفرعنة والتجبر كل على قدره يتنعمون بنعم الله ويتلذذون بِتِلْكَ الزِّينَة وَتلك اللَّذَّات فَرحا وأشرا وبطرا فِي هَيْئَة أهل الْكفْر بِاللَّه والجحود لَهُ فقد تبين أَن أصل هَذَا الْأَمر كُله الْفَرح
فَمن قدر أَن يصرف هَذَا الْفَرح مِنْهُ إِلَى الله فِي كل عمل وَفِي كل أَمر من دنيا أَو آخِرَة بِنور قلبه وَإِلَّا فقد وَقع فِي الوبال فَإِن كَانَ فرحه فِي أَمر الدُّنْيَا أشر وبطر وَإِن كَانَ فِي أَمر الْآخِرَة أعجب وتكبر وَصَارَ مرائيا فَمن صرف ذَلِك إِلَى الله لم يَزْدَدْ لرَبه إِلَّا خشوعا وحبا فحمده وَدعَاهُ ذَلِك إِلَى شكره بِجَمِيعِ جوارحه وَذَلِكَ حفظ الْجَوَارِح السَّبع على أَمر الله وَإِقَامَة فَرَائض الله وَالْقِيَام بِحُقُوق الله وَمن لم يقدر على ذَلِك سباه فرحه فَصَارَ سبيا من سبي النَّفس
وَإِذا نَالَتْ النَّفس الْفَرح كَانَ بِمَنْزِلَة رجل متغلب وجد كنزا وأموالا جمة فاحتوى عَلَيْهَا وفرقها فِيمَن اجْتمع إِلَيْهِ من الغوغاء حَتَّى صَارُوا أعوانه وَأَتْبَاعه فَخرج بِتِلْكَ الْقُوَّة على أَمِير الْبَلَد وَعمد إِلَى الْأَمِير فسجنه فالأمير فِي الوثاق فِي السجْن والخارجي يرؤس أهل الْبَلَد فَإِن تَدَارُكه أَمِير الْمُؤمنِينَ بمدد وجيش وكنز فقد نَصره وَإِن تَركه مخذولا فقد ذهبت الامرة فَهَذَا شَأْن الْقلب مَعَ النَّفس وَقد حذر الله تَعَالَى عباده فِي(4/181)
تَنْزِيله فِي قصَّة قَارون فَقَالَ {لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين} وَقَالَ وفرحوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مَتَاع وَقَالَ تَعَالَى {قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ}
فدلك على الْفَرح بفضله ليصرفك عَن الْفَرح بِالْجمعِ فَإِن فَرح الْجمع هَلَاك الدّين وَالْقلب وَفَرح الْفضل وَالرَّحْمَة يؤديك إِلَى الله لِأَن كل من فَرح بِشَيْء أقبل عَلَيْهِ وَطَلَبه فَإِذا رأى الله من عبد إقبالا على هَذِه الدُّنْيَا الدنية وعَلى هَذِه الشَّهْوَة الرَّديئَة أعرض عَنهُ ووكله إِلَيْهَا حَتَّى يكون همه دُنْيَاهُ وهمته شهوات نَفسه وَطَلَبه الْعُلُوّ فِيهَا حَتَّى يضاد أقضية الله وتدبيره فخسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِذا رأى إقباله على ربه صنع لَهُ جميلا وهيأ لَهُ تدبيرا ينَال بِهِ فوز العاجل والآجل وسعادة الدَّاريْنِ
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تفرغوا من هموم الدُّنْيَا مَا اسْتَطَعْتُم فَمَا أقبل عبد بِقَلْبِه على الله إِلَّا أقبل الله تَعَالَى عز وَجل بقلوب الْمُؤمنِينَ تفد إِلَيْهِ بالود وَالرَّحْمَة وَكَانَ الله بِكُل خير إِلَيْهِ أسْرع
فَإِذا نظر الله إِلَى عبد بِالرَّحْمَةِ وَقَلبه مأسور فِي إسار النَّفس أمده من عِنْده بِمَا إِذا صَار المدد إِلَيْهِ تَابَ وَمن رَحْمَة الله تَعَالَى على عَبده إقباله فَإِذا أقبل عَلَيْهِ تلظت جَمْرَة الْإِيمَان فِي الْقلب فتوردت أَشجَار الْخيرَات وأينعت كَمَا يتورد بساتين الدُّنْيَا ويتورد أشجارها إِذا وجد الْحر فَإِذا وجد الْقلب هَذِه الْقُوَّة أقبل على النَّفس بالزجر لَهَا بسُلْطَان قوي حَتَّى(4/182)
يقمعها بِمَنْزِلَة مَا ضربنا لَهُ من الْمثل الْخَارِجِي إِذا سمع أَن جَيش أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أقبل هرب عَن الْبَلَد وخلى عَنْهَا وَخرج الْأَمِير من السجْن فَقعدَ فِي إمرته واحتوشته الْجنُود وَفرق الْأَمْوَال والكنوز الَّتِي جَاءَتْهُ من أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي جنده وَقصد الْخَارِجِي يحاربه ويتباعد قَلِيلا قَلِيلا والأمير خَائِف مَعَ هَذَا الْجند لَا يَأْمَن بياته وافتراصه فَهُوَ مَشْغُول بحرس جنده وَنَفسه وَيسْأل أَمِير الْمُؤمنِينَ زِيَادَة فِي مدده فَلَا يزَال يمده حَتَّى إِذا أمده بغاية المدد أَخذه أَسِيرًا وَيكون الْخَارِجِي قد نظر إِلَى كَثْرَة المدد فَعلم أَنه لَا يُقَاوم أَمِير الْمُؤمنِينَ فَألْقى بِيَدِهِ سلما وَأسلم وَتَابَ على يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ فَهَذِهِ صفة التائب إِذا تَابَ احْتَاجَ إِلَى مجانبة النَّفس ومجاهدتها فِي كل أَمر فَلَا يزَال كَذَلِك ويزداد مدَدا وَهُوَ لَا يأمنها مَعَ ذَلِك المدد يخَاف أَن يثب وثبة من زَوَايَا جَوْفه فَيَأْخذهُ لِأَن مكْرها أعظم من أَن يُوصف حَتَّى تجلى لِقَلْبِهِ شَأْن الملكوت وأشرق فِي صَدره أنوارها فَامْتَلَأَ صدر العَبْد من جلال الله وعظمته فبسلطان الْجلَال يأسر النَّفس ويسبيها وبالعظمة يولهها فإمَّا أَن يَأْخُذهَا بِتِلْكَ الْقُوَّة فيحبسها حَتَّى تَمُوت فِي سجن الْقلب غما وَإِمَّا أَن تلقي بِيَدَيْهَا سلما وتذعن للقلب وتنقاد لَهُ فَتَصِير فِي يَدي الْقلب كالأسير حَتَّى إِذا وجدت تِلْكَ اللَّذَّات الَّتِي وَردت على الْقلب من تِلْكَ الملكوت من العطايا اعتصمت بِالْقَلْبِ فَتركت لذاتها الفانية الدنية فَعندهَا وصل العَبْد إِلَى أَوَائِل العبودة وَوضع فِي هَذَا القالب الْحَيَاة والحياة فِي الرّوح وَالنَّفس وهما ريحَان إِحْدَاهمَا أرضية وَالْأُخْرَى سَمَاوِيَّة فالحياة هَهُنَا فِي الرّوح وَالنَّفس والجسد قالب فَإِذا خرجا بَقِي القالب لَحْمًا مواتا وحياة الْآخِرَة فِي كل شَيْء مِنْهُ فَكل شَيْء مِنْهُ حَيّ من قرنه إِلَى قدمه كل شَعْرَة وكل ظفر حَيّ بحياته وَذَلِكَ إِذا شربوا مَاء الْحَيَاة بِبَاب الْجنَّة قَالَ الله تَعَالَى {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان لَو كَانُوا يعلمُونَ}(4/183)
أخرجه على قالب فعلان لبلوغ الْغَايَة فِي التكثير كَقَوْلِك رَحْمَن وَرَحِيم وعريان وعار وَالَّذِي يشرب مَاء الْحَيَاة فِي الْآخِرَة يجد اللَّذَّة وَالنَّعِيم كل شَعْرَة مِنْهُ على حدتها ويقوى على نعيم الْجنَّة بِقُوَّة تِلْكَ الْحَيَاة
فَجَمِيع مَا فِي هَذِه الدَّار الَّتِي سميت دنيا كُله مَتَاع هَذِه الْحَيَاة وَالْمَتَاع الْمَنْفَعَة وَالْبُلغَة قَالَ الله تَعَالَى {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين} إِلَى قَوْله {ذَلِك مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} ثمَّ قَالَ {اعلموا أَنما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو وزينة} الْآيَة
ثمَّ ضرب الْمثل بالغيث ليريك عاقبتهما وَقَالَ {وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور} ثمَّ قَالَ {إِنَّا جعلنَا مَا على الأَرْض زِينَة لَهَا}
ثمَّ أخْبرك لأي شَيْء جعل هَذَا فَقَالَ {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} ثمَّ ضرب الْمثل فَقَالَ {إِنَّمَا مثل الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ من السَّمَاء} ثمَّ قَالَ فِي آخِره {وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام}
ثمَّ قَالَ ءأنبئكم بِخَير من ذَلِكُم وَبَين ذَلِك الْخَيْر مَا هُوَ(4/184)
فَقَالَ {جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} ثمَّ بَين لمن هِيَ فَقَالَ {الَّذين يَقُولُونَ رَبنَا إننا آمنا} إِلَى قَوْله {بالأسحار}
وَإِنَّمَا صَارَت الدُّنْيَا ملعونة مذمومة من أجل أَنَّهَا غرت النُّفُوس بنعيمها وزهرتها ولذتها والشهوة واللذة فِي النُّفُوس فَإِذا ذاقت النُّفُوس طعم النَّعيم اشتهت ولذت فمالت عَن العبودة إِلَى هوى النَّفس وَإِنَّمَا جعلهَا زِينَة فِي نفوس الْعباد وَأعْطى من تِلْكَ الزِّينَة الْعَدو ليوسوس بِتِلْكَ الزِّينَة ويمازج بهَا تِلْكَ الزِّينَة الَّتِي وَضعهَا الله فِي الْعباد وحبها وشهوتها ليبلوهم أَيهمْ أحسن عملا فِي هَذِه الزِّينَة ليتواضع لله فِيمَا أعطَاهُ من الزِّينَة ويشكره عَلَيْهِ أَو يتكبر عَلَيْهِ ويكفره كَمَا قَالَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ قَالَ {أَيّكُم يأتيني بِعَرْشِهَا} فَقَالَ ذَلِك الجني {أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن تقوم من مقامك} فاستبطأه فَقَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب وَهُوَ اسْم الله الْأَعْظَم {أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن يرْتَد إِلَيْك طرفك فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقرًّا عِنْده} أَعنِي السرير قَالَ هَذَا من فضل رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأشكر أم أكفر أَي أقدر هَذَا الْإِنْسِي على مَا لم أقدر عَلَيْهِ وَأعْطى مَا لم أعْط فابتلاني بِرُؤْيَة مَا أعْطى لِيَبْلُوَنِي ءأشكر فأعدته بِمَا أعطَاهُ من نعْمَة عَليّ لِأَنَّهُ حَولي أَو أحسده فَأكفر النِّعْمَة
فَهَذِهِ الْأَشْيَاء إِنَّمَا غرت المفتونين الَّذين لما تناولوها عميت عيونهم(4/185)
عَن تَدْبِير الله وَتَقْدِيره وسياقته إِلَيْهِم {وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى وأضل سَبِيلا}
فَوضع الله الدُّنْيَا مَعَ زينتها وبهجتها وخلقنا فِيهَا فَحرم وَأحل وَأمر وَنهى فَمن انْتهى عَن الْمُحرمَات وَأدّى الْفَرَائِض وَتَنَاول من الدُّنْيَا فعبده بتناولها لِأَنَّهُ أَخذهَا على الْحَاجة وَمن السَّبِيل الَّتِي أطلقت لَهُ فقد خرج من الذَّم وَبرئ من الدُّنْيَا المذمومة وَإِن تنَاول بِشَهْوَة ونهمة فِي غَفلَة عَن الله تَعَالَى فقد أَخذ الدُّنْيَا المذمومة وَلَا يصل إِلَى هَذِه الْمرتبَة الَّتِي تَبرأ من عارها وذمها ووبالها إِلَّا من وصل إِلَى الله فعظمته على قلبه وخشيته فِي صَدره وَذكره دَائِم على لِسَانه فَلَيْسَتْ هَذِه دنيا مذمومة وَإِنَّمَا هُوَ رزق ومعاش وتزود يَأْخُذ العَبْد من مَوْلَاهُ ليقوم بخدمته لِأَنَّهُ خلقه للْخدمَة وَجعل هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا سخرة لَهُ فَهُوَ يَأْخُذ من السخرة للْخدمَة وَالْآخر يَأْخُذ من هَذِه السخرة لقَضَاء الشَّهْوَة والنهمة ليفرح بِهِ أَيَّام الْحَيَاة ليلهيه ذَلِك الْفَرح عَن الله تَعَالَى ويورثه الْغَفْلَة حَتَّى يهتاج مِنْهُ الْكبر وَينظر إِلَى نَفسه وهيأته وَمَا أعطي من الدُّنْيَا فيعجب بِهِ فيفاخر النَّاس ويناطح أشكاله فَهُوَ عبد فرجه عبد بَطْنه عبد هَوَاهُ قد دخل فِي لعنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ لعن عبد الدِّينَار لعن عبد الدِّرْهَم ثمَّ قَالَ بئس العَبْد عبد نسي الْمُبْتَدَأ والمنتهى بئس العَبْد عبد سَهَا وَلها وَنسي الْقَبْر والبلى بئس العَبْد عبد تجبر واعتدى وَنسي الْجَبَّار الْأَعْلَى بئس العَبْد عبد طمع يَقُودهُ بئس العَبْد عبد هوى يضله بئس العَبْد عبد يخْتل الدُّنْيَا بِدِينِهِ(4/186)
فَهَذَا كُله جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خطبَته وَقَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا}
رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ إِن الرجل ليُعْجِبهُ شِرَاك نَعله يُرِيد بِهِ أَن يكون أَجود من صَاحبه فَيدْخل فِي هَذِه الْآيَة
فاللعن وَاقع على مَا يطْلب بِهِ الْعُلُوّ ويلهي عَن ذكر الله وعَلى مَا غَرَّك من الدُّنْيَا لَا على النَّعيم واللذة فَإِن النَّعيم واللذة قد تناولته الرُّسُل والأنبياء وَالصِّدِّيقُونَ عَلَيْهِم السَّلَام فردهم تناولهم إِلَى الله ذكرا وشكرا ثمَّ آووا مِنْهُ إِلَى المأوى وَهُوَ حفظ الْحُدُود وَالْقِيَام بِحُقُوق الله تَعَالَى مَحل الِاسْتِثْنَاء وَالله أعلم(4/187)
- الأَصْل الْخَامِس وَالثَّمَانُونَ والمائتان
-
فِي أَن الْقُنُوت وقُوف العَبْد وإقباله وركود وخشوع
عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل حرف ذكره الله فِي الْقُرْآن عَن الْقُنُوت فَهِيَ الطَّاعَة
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا صرفه إِلَى الطَّاعَة لِأَنَّهَا أكشف الْأَشْيَاء وأشهرها عِنْد النَّاس والعامة إِنَّمَا تعرف الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة فَكل مَا أَمر الله بِهِ فَهُوَ طَاعَة وكل مَا نهى عَنهُ فَهُوَ مَعْصِيّة فَأَما حَاصِل الِاسْم فالطاعة بذل النَّفس لله فِيمَا أَمر وَنهى وَالْمَعْصِيَة امْتنَاع النَّفس واشتدادها لِأَن الله تَعَالَى دَعَا العَبْد إِلَى الْوُقُوف بَين يَدَيْهِ كالعبيد فالمؤمنون أجابوا دَعوته وقبلوا الْعِبَادَة ثمَّ دعاهم بعد ذَلِك إِلَى شَيْء بعد شَيْء فَمن ائتمر بأَمْره وانْتهى عَن نَهْيه فقد وفى بِتِلْكَ الْإِجَابَة فِي الْمُبْتَدَأ وَبِذَلِك الْقبُول فَقيل أطَاع فَهُوَ مُطِيع أَي أعْطى ذَلِك الْبَذْل الَّذِي قبله فِي الْمُبْتَدَأ فَقَوله أعْطى وأطاع مُشْتَقّ بعضه من بعض وحروفها فِي الْعدَد سَوَاء(4/188)
وَفِي التَّأْلِيف مُخْتَلفَة قدم الْعين هُنَا وَأخر الْعين هُنَاكَ ليستعمل هَذَا فِي عَطاء العبودة وَيسْتَعْمل ذَاك فِي عَطاء الْأَشْيَاء الْمَمْلُوكَة وَالْمَعْصِيَة من التعصيص وَهُوَ اشتداد النَّفس وامتناعها وَمِنْه سمي الْعَصَا يُقَال فِي اللُّغَة تعيص عَلَيْهِ أَي امْتنع وتشدد
وَأما الْقُنُوت فَهُوَ الركود وكل شَيْء اسْتَقر فِي مَكَانَهُ فَلم يَتَحَرَّك فَهُوَ راكد وَمن ذَلِك سمي المَاء راكدا إِذا أمسك عَن الجري والسفن رواكد قَالَ الله تَعَالَى {إِن يَشَأْ يسكن الرّيح فيظللن رواكد على ظَهره} يُقَال قنت ونتق والنتوق أَن يُقَابل الشَّيْء بالشَّيْء راكدا عَلَيْهِ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة}
وَمِنْه قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ سُئِلَ عَن الْبَيْت الْمَعْمُور فَقَالَ هُوَ بَيت فِي السَّمَاء السَّابِعَة نتاق هَذَا الْبَيْت أَي بحذائه
والقنوت مُقَابلَة قَلْبك عَظمَة من وقفت لَهُ وَبَين يَدَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِذا صلى العَبْد أقبل الله عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ
فَمن حق إقباله عَلَيْهِ أَن يقبل العَبْد بِقَلْبِه على عَظمته وجلاله فَهَذِهِ مُقَابلَة العَبْد بِقَلْبِه قبالة ربه فَهَذَا الْقُنُوت ومرجعه إِلَى مَا كشفه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ هُوَ الطَّاعَة لِأَنَّهُ إِذا قابله بِقَلْبِه فقد أعطَاهُ بذل النَّفس فقد أطاعه وَإِنَّمَا صَار إِذا قابله باذلا لنَفسِهِ لِأَن الْقلب إِذا لاحظ ببصر فُؤَاده جَلَاله وعظمته خلص إِلَى النَّفس هول الْجلَال وَالْعَظَمَة فانقبضت وانقمعت وانخشعت وذهلت عَن هشاشتها وخمد تلظي نيران شهواتها لما أحست بِهِ(4/189)
عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} قَالَ الْقُنُوت الركود والخشوع فجاد مَا غاص مُجَاهِد صَار إِلَى الأَصْل
وَأما الَّتِي عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَانِتِينَ أَي مُطِيعِينَ فَقَوْل ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا ظَاهر التَّفْسِير وَقَول مُجَاهِد بَاطِن التَّفْسِير وَقَوله تَعَالَى {يَا مَرْيَم اقنتي لِرَبِّك} رُوِيَ فِي التَّفْسِير أَنه قَالَ قومِي لِرَبِّك وَالْقِيَام غير الْقُنُوت وَلَو كَانَ الْقُنُوت قيَاما لاستحال أَن يَقُول {قومُوا لله قَانِتِينَ} والقنوت صفة تحدث عَن الْقيام
فَقَوله تَعَالَى لِمَرْيَم {اقنتي لِرَبِّك} أَي أطيعي رَبك فَهَذَا تَفْسِير ظَاهر وَلَكِن أُرِيد من مَرْيَم الْقُنُوت فِي الْبَاطِن وَهُوَ أَن تقبل بقلبها على الله مظلا على النَّفس مُشْتَمِلًا على شهواتها لِئَلَّا تتحرك وتتفرق غليانا وتجيش حَتَّى يفور دخانها إِلَى الصَّدْر إِلَى مَحل إشراق نور الألوهة فَإِنَّهُ لَيْسَ من حق عطايا رَبنَا أَن يُعْطي عبدا إشراق نور عَظمته فِي صَدره فيهمل العَبْد حراسته ورعايته حَتَّى تَفُور حرارة شهواته كفوران الْقدر الَّتِي تغلي إِلَى صَدره كالدخان بَين يَدي نور العظمة فِي صَدره فَإِذا فعل ذَلِك حجب لِأَن ذَلِك الفوران كالدخان فَإِذا هاج من النَّفس وتأدى إِلَى الصَّدْر امْتنع الْإِشْرَاق واحتجب وَبَقِي العَبْد محجوبا كَأَنَّهُ صَار خَالِيا من الزكاء
فَأمرت مَرْيَم بِالْقُنُوتِ أَي بالدوام وبالركود بِمُقَابلَة الْقلب قبالة عَظمَة الله حَتَّى يَدُوم لَهَا التَّعْظِيم لجلال الله وَلذَلِك سمي دُعَاء الْوتر قنوتا لِأَن الصَّلَاة وقُوف تخشع وتذلل يُؤدى فَرْضه فَإِذا قنت فَإِنَّمَا خرج من صلَاته الَّتِي افترضت عَلَيْهِ وَقَامَ لَهُ متعرضا لرَبه إِلَى موقف آخر لرغبة أَو(4/190)
رهبة فَسُمي قنوتا لِأَن ذَلِك مقَام خرج من فعل صلَاته إِلَيْهِ وَدخل فِيهِ بتكبيرة فقابل بِقَلْبِه مَحل الرَّغْبَة والرهبة وَمن قبل التَّكْبِيرَة كَانَ فِي مَحل التذلل والتخشع بَين يَدي عَظمته والآن فِي مَحل الرَّغْبَة والرهبة بَين يَدي جوده وَكَرمه فتباين التقابلان والموقفان(4/191)
- الأَصْل السَّادِس وَالثَّمَانُونَ والمائتان
-
فِي عَثْرَة الْحَلِيم وتجربة الْحَكِيم
عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا حَلِيم إِلَّا ذُو عسرة وَلَا حَكِيم إِلَّا ذُو تجربة
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ فالحلم يُعْطي العَبْد من نور الْجُود فَإِذا خلص إِلَى الْقلب نور الْجُود انْحَلَّت عقد النَّفس وكلت مخاليبها وتخلص الْقلب من رق النَّفس وَمن سخرتها ووثاقها واتسعت النَّفس بِمَا نَالَتْ من الْقلب من نور الْجُود فتولدت السماحة وَإِذا عثرت فَوَقَعت فِي الذَّنب فهناك تبصر وتنفسح لما رَأَتْ عثرتها اتسعت لغَيْرهَا فِي تِلْكَ العثرة وأبصرت أَن العاثر هُوَ كمثله إِمَّا مغبونا مخذولا وَإِمَّا معاقبا وَلما رأى فِي نَفسه فِي وَقت العثرة أَنه مغبون أَو معاقب أَو جَاهِل فَقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا حَلِيم إِلَّا ذُو عَثْرَة أَي بعد العثرة وصل إِلَى حَقِيقَة الْحلم وكنهه فَأَما قبل العثرة فقد يكون حَلِيمًا وَلَيْسَ على كنهه كَأَنَّهُ لم(4/192)
يكمل حلمه بعد لِأَن نَفسه لم تتسع بعد فِي الْحلم الَّذِي أعطي فَإِذا جَاءَت العثرات اعْتبر بهَا وَرَأى غَيره فِيهَا كَمَا رأى نَفسه فِي وَقتهَا فهناك يجد الْحلم
وَهَذَا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث آخر لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض وَإِنَّمَا الْغنى غنى النَّفس وَلَيْسَ الْمِسْكِين الَّذِي ترده اللُّقْمَة وَاللُّقْمَتَانِ إِنَّمَا الْمِسْكِين الَّذِي قعد فِي بَيته وقنع
فَذَاك الَّذِي كثر عرضه هُوَ أَيْضا غَنِي وَلَكِن الْغنى على كنهه وَحَقِيقَته هُوَ غنى النَّفس والمسكنة على الْحَقِيقَة وعَلى كنهها فِي من قعد فِي بَيته وقنع بِمَا أُوتِيَ
وَأما قَوْله لَا حَكِيم إِلَّا ذُو تجربة فالحكمة من نور الْجلَال فَإِذا أعطي العَبْد انفجرت ينابيع الْحِكْمَة على قلبه فَهَذِهِ الْحِكْمَة ينبوعها على قلبه فَهِيَ جاثمة متراكمة وَمَا لم يَأْخُذهُ التجارب لم تقدر النَّفس على مطالعة الْحِكْمَة لِأَن النَّفس بلهاء غنمية مَشْغُولَة بالشهوات فَكيف تدْرك الْحِكْمَة وَالْحكمَة بَاطِن الْأُمُور وأسرار الْعلم فَهِيَ تعاين الظَّاهِر وَلَا تُدْرِكهُ فَكيف تدْرك الْبَاطِن فَإِذا جرت الْأُمُور صَارَت هَذِه التجارب لَهُ كالمرآة ينظر فِيهَا لِأَنَّهَا صَارَت مُعَاينَة وَلذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يَنْتَهِي عقل الرجل إِلَى ثَمَان وَعشْرين ثمَّ بعد ذَلِك التجارب
فالعقل للقلب والتجارب للنَّفس لِأَن الْعقل بَاطِن والتجارب ظَاهِرَة تبصر الْعين وَتسمع الْأذن ويشم الْأنف وتلمس الْيَد وَيَذُوق اللِّسَان(4/193)
واللهاة والتجارب هَهُنَا وَهَذِه الْأَشْيَاء مسالك إِلَى النَّفس وَعِنْدهَا تشعر النَّفس بذلك لِلْعَقْلِ الَّذِي أعطي لِأَن الْعقل مَسْكَنه فِي الدِّمَاغ وَفِي الصَّدْر يشرق بَين عَيْني الْفُؤَاد وَالنَّفس لَا تعلم بِشَيْء من ذَلِك إِلَّا مَا يعلمهَا الْقلب ويفطن لَهَا فَإِذا نالتها التجارب عرفت وأيقنت لِأَنَّهَا صَارَت مُعَاينَة مَا أدّى إِلَيْهَا الْقلب من الْحِكْمَة وَدلَالَة الْعقل(4/194)
- الأَصْل السَّابِع وَالثَّمَانُونَ والمائتان
-
فِي كلمة التَّقْوَى وَصُورَة مَعْنَاهَا فِي الْقلب والكنية والختم والقفل على الْقلب
عَن أبي بن كَعْب عَن أَبِيه رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول {وألزمهم كلمة التَّقْوَى} قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا سميت هَذِه الْكَلِمَة كلمة التَّقْوَى لِأَنَّهُ صَارَت وقاية لتوحيده لِأَنَّهُ أثبت عقد الْمعرفَة بإلهه قلبا وباللسان نطقا أَنه إلهه فَلَمَّا أحدث الْأَعْدَاء هَذَا الْحَدث وَهُوَ الشّرك فأشركوا فِي ملكه غَيره وذهبوا بَوْله قُلُوبهم فِي الضّر والنفع إِلَى الَّذِي قصدوه بالعبودة رَجَاء وتأميلا لنوال نفع وَدفع ضرّ اقْتضى الله الْمُؤمنِينَ كلمة نفي ذَلِك الْحَدث وَهُوَ قَوْله لَا فنفوا بقَوْلهمْ لَا هَذَا الْحَدث الَّذِي أحدثته الفجرة الغواة الظلمَة فَصَارَ قَوْله لَا نزاهة لرجاسة مَا أَتَوا بِهِ وطهارة لنجاسته ووقاية لذَلِك العقد الَّذِي اعتقدوه وحصنا كثيفا لما فِي ذَلِك العقد وَهُوَ التَّوْحِيد وَنور الْمعرفَة فنسبت هَذِه الْكَلِمَة إِلَى التَّقْوَى وَإِنَّمَا هُوَ فِي الأَصْل وقوى مَأْخُوذ من الْوِقَايَة(4/195)
أَي صَار وقاية لعقدة التَّوْحِيد أَن لَا يمازجه شرك ثَان مَعَه فَإِنَّهُ وَاحِد لَا ثَانِي لَهُ فَرد لَا نَظِير لَهُ
وَهَذِه الْكَلِمَة فِي قالب الافتعال لَا فِي قالب فعل لِأَن فعل هُوَ قالب الظَّاهِر وافتعل هُوَ قالب الظَّاهِر وَالْبَاطِن فَقيل اتَّقى وَكَانَ حَقه أَن يَقُول أوتقى لِأَن الْوَاو فِي أصل الْكَلِمَة مَوْضُوعَة لِأَنَّهَا أصيلة من قَوْله وقى يقي وقاية فَلَمَّا صَار افتعل كَانَ حَقه أَن يُقَال أوتقى فَثقلَتْ على الْأَلْسِنَة لِاجْتِمَاع الْوَاو وَالتَّاء فأدغمت الْوَاو فِي التَّاء وشددت التَّاء فَقيل أتقى يَتَّقِي اتقاء وَالِاسْم مِنْهُ تقوى
فَقَوله لَا إِلَه يَنْفِي وَقَوله إِلَّا إِلَه اسْتثِْنَاء لِئَلَّا يَقع النَّفْي على الْجَمِيع فَلَو قَالَ لَا إِلَه ثمَّ اقْتصر لَكَانَ نفي الْجَمِيع فابتدأ بِنَفْي الْحَدث بقوله لَا إِلَه ثمَّ قَالَ إِلَّا الله لِئَلَّا يَقع النَّفْي على هَذَا الِاسْم وَهُوَ قَوْله إِلَه فَإِنَّمَا هما كلمتان نفي ب لَا وَأثبت ب إِلَّا فَقَوله لَا حرفان لَام ثمَّ ألف وَإِلَّا أَرْبَعَة أحرف ألف ثمَّ لامان مدغمة أَحدهمَا فِي الْأُخْرَى ثمَّ ألف فَكَأَنَّمَا أخرجت هَذِه الْكَلِمَة على صُورَة إشارات الْقُلُوب وقصدها لِأَن الْقلب لما حيى بِنور الْحَيَاة انفتحت عينا الْفُؤَاد بِالنورِ وَجَاء نور الْهِدَايَة وَنور الْمعرفَة فتراءى لعَيْنِي الْفُؤَاد انزعج الْقلب مرتحلا عَن وَطنه إِلَى ذَلِك النُّور الَّذِي عاين حَتَّى لقِيه فاطمأن وَسكن إِلَى معبوده وبذل النَّفس للعبودة ثمَّ خطر بِقَلْبِه بَال إلهه وَأَنه أشرك فِي ملكه غَيره وَأَن قلوبا ولهت إِلَى غَيره افتقارا فهاجت مِنْهُ الْمحبَّة المنطوية فِي نور التَّوْحِيد وَالْهِدَايَة والمعرفة فحمى الْقلب من حرارة الْمحبَّة فَمن تِلْكَ الْحَرَارَة قوي الْقلب حَتَّى قَامَ منزعجا بعضلاته وعروقه فنفى ولههم وافتقارهم إِلَى من دونه وأبطله فَلَمَّا احْتَاجَ إِلَى إبراز تِلْكَ الْقُوَّة للنَّفْي أبرز بِاللَّامِ ثمَّ بِالْألف وَإِنَّمَا ابتدئ بِاللَّامِ لِأَن عظم الْقُوَّة فِيهَا وَهِي نزيع الْألف فَإِنَّهُ كَانَ أَولا ألفا ثمَّ نزع مِنْهَا لَام فعظمت الْقُوَّة فِي اللَّام فنفى الْقلب كل رب ادّعى الْعباد لَهُ(4/196)
ربوبيته وولهت قُلُوبهم إِلَيْهِ دونه فابتداء هَذَا الْقلب الَّذِي وَصفنَا بِالنَّفْيِ لأرباب الأَرْض ثمَّ سما عَالِيا حَتَّى انْتهى إِلَى الرب الْأَعْلَى فَوقف عِنْده وتذلل وخشع لَهُ وَاطْمَأَنَّ وَوَلِهَ إِلَيْهِ وَقَالَ الله تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى}
أَي أَن هَذِه أَرْبَاب متفرقون والرب الله الْوَاحِد القهار فهداه إِلَى الرب الْأَعْلَى وَقَالَ {وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى}
فَهَذِهِ صُورَة فعل الْقلب فَلَمَّا احْتَاجَ إِلَى النُّطْق والإبراز بِاللِّسَانِ أعطي تِلْكَ الْحُرُوف فَفِي النَّفْي لَام وَألف وَفِي الْمُسْتَثْنى الَّذِي هُوَ الْمُنْتَهى ألف مخفوضة ولامان وَألف لِاجْتِمَاع قُوَّة اللامين على صُورَة فعل الْقلب يدلك على ذَلِك من قَوْلنَا كسر الْألف وخفضها لِأَن الْقلب من السفول ينزعج نافيا للأرباب ويصعد إِلَى الرب الْأَعْلَى بِالْألف الآخر من قَوْله إِلَّا فيثبته رَبًّا لَا شريك لَهُ وَاحِدًا لَا ثَانِي لَهُ أحدا لَا نَظِير لَهُ فَردا لَا ند لَهُ صمدا لَا شَبيه لَهُ حَيا لَا مثل لَهُ قيوما لَا زَوَال لَهُ إِلَهًا لَا وَله إِلَّا إِلَيْهِ
فَأَما قَوْله {وألزمهم كلمة التَّقْوَى} فَإِنَّهُ ألزم قُلُوبهم هَذِه الْكَلِمَة بِنور الْمحبَّة حَتَّى نطقوا بهَا وَذَلِكَ أَنهم أعْطوا الْمعرفَة مَعَ الْمحبَّة وأعطوا الْعقل وَالْعقل من نور الْبَهَاء فَوجدَ الْقلب حلاوة الْمحبَّة وَوجدت النَّفس فَرح زِينَة نور الْبَهَاء فسكن الْقلب وَاطْمَأَنَّ إِلَى الْحَلَاوَة واستقرت النَّفس للزِّينَة فنشر عَلَيْهِ التَّكَلُّم بقول لَا إِلَه إِلَّا الله وَهُوَ قَوْله {حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ}(4/197)
فبحلاوة الْحبّ وزينة الْبَهَاء صَارَت الْكَلِمَة لَازِمَة لقُلُوبِهِمْ حَتَّى خرجت إِلَى اللِّسَان فدلت الْأَلْسِنَة بهَا ودارت بحروفها الَّتِي نطقت بمعناها فَصَارَت منطقا أحَاط بمعناها ولزمها وَشَدَّدَهَا كَمَا أحاطت المنطقة بوسط الرجل وشددت فَهُوَ الَّذِي ألزمهم هَذِه الْكَلِمَة بِمَا من عَلَيْهِم بحلاوة الْحبّ وزينة الْبَهَاء
وَأما قَوْله تَعَالَى {وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا} فَإِنَّمَا صَارُوا كَذَلِك لِأَن الله تَعَالَى خلق الْمَقَادِير قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف عَام فِيمَا رُوِيَ لنا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ الله وَلَا شَيْء فخلق الْمَقَادِير وَخلق الْخلق فِي ظلمَة ثمَّ رش عَلَيْهِم من نوره فَمن أَصَابَهُ من ذَلِك النُّور اهْتَدَى وَمن أخطأه ضل فقد علم من يخطئه مِمَّن يُصِيبهُ
عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول قدر الله الْمَقَادِير قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة
عَن عمرَان بن حُصَيْن رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بني تَمِيم قَالُوا قد بشرتنا فاعطنا قَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أهل الْيمن قَالُوا قد بشرتنا فَأخْبرنَا قَالَ كَانَ الله وَلَا شَيْء ثمَّ خلق الْعَرْش فَجعله على المَاء وَكتب فِي الذّكر كل شَيْء(4/198)
عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله خلق الْخلق فِي ظلمَة ثمَّ رش عَلَيْهِم من نوره فَمن أَصَابَهُ من ذَلِك النُّور اهْتَدَى وَمن أخطأه ضل
وَعَن عبد الله بن الديلمي قَالَ قلت لعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ بلغنَا أَنَّك تَقول جف الْقَلَم بِمَا هُوَ كَائِن قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله خلق خلقه ثمَّ جعلهم فِي ظلمَة ثمَّ أَخذ من نوره مَا شَاءَ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِم فَأصَاب النُّور من شَاءَ الله أَن يُصِيبهُ وَأَخْطَأ من شَاءَ الله أَن يخطئه فَمن أَصَابَهُ النُّور يَوْمئِذٍ اهْتَدَى وَمن أخطأه ضل فَلذَلِك مَا أَقُول جف الْقَلَم بِمَا هُوَ كَائِن
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ فَيوم الْمَقَادِير خلقهمْ وهم كَالنُّجُومِ الذَّرَارِي ثمَّ سلبهم الضَّوْء ووضعهم فِي ترابية التربة الَّتِي أَرَادَ مِنْهَا إنْشَاء خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَقد طمس ضوءهم فلبثوا فِي تِلْكَ الظلمَة مَلِيًّا إِلَى أَن مضى من الْمدَّة مِقْدَار خمسين ألف سنة أَو نَحوه فصاروا فِي طول ذَلِك اللّّبْث فِي تِلْكَ الظلمَة ثَلَاثَة أَصْنَاف فصنف مِنْهُم زعم أَن الَّذِي ملكنا لم يدم ملكه فعجز عَنهُ وَلَو لم يكن كَذَلِك لم يتركنا هَهُنَا كالمنسي وَقَالَ الصِّنْف الآخر تركنَا هَهُنَا فَنحْن نَنْتَظِر مَا يكون وَمَا يظْهر لنا من أمره فَالْأول كفر وَالثَّانِي نفاق وَشك وَقَالَ الصِّنْف الثَّالِث تركنَا هَهُنَا وَهُوَ دَائِم وَنحن لَهُ يجعلنا حَيْثُ يَشَاء فَأَما الصِّنْف الأول لما تكلمُوا بِمَا ذكرنَا صَارَت تِلْكَ الترابية فِي أَفْوَاههم وَقَالَ لَهُم مَا الَّذِي رَأَيْتُمْ مني حَتَّى نسبتموني إِلَى الْعَجز وَانْقِطَاع الْملك فَصَارَت هَذِه(4/199)
الْكَلِمَة ختما على أَفْوَاههم على تِلْكَ الترابية وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ختم الله على قُلُوبهم} فالختم غير مَرْفُوع أبدا
وَأما الصِّنْف الثَّانِي فشكوا فهم فِي الزندقة ينتظرون مَا يكون وَلم يستيقنوا وَلَا اسْتَقَرَّتْ قُلُوبهم فتناثرت تِلْكَ الترابية على أَفْوَاه قُلُوبهم لتذبذبهم مرّة إقبالا على الله وَمرَّة إعْرَاضًا عَنهُ وَمرَّة إقبالا على بَال النَّفس فَلم يصر ختما وَلَكِن صَار قفلا قد يرفع وَيفتح إِن شَاءَ والختم لَا يرفع أبدا ذَلِك قَوْله تَعَالَى {أم على قُلُوب أقفالها}
وَأما الصِّنْف الثَّالِث فَقَالُوا رَبنَا الَّذِي يملكنا دَائِم يجعلنا حَيْثُ يَشَاء إِن شَاءَ جعلنَا فِي ظلمَة وَإِن شَاءَ جعلنَا فِي نور ثمَّ مدوا أَيدي الْقُلُوب نَحوه للتعلق بِهِ فَضرب بيدَيْهِ إِلَى قُلُوبهم فَقَالَ أَنْتُم لي عملتم أَو لم تعملوا فَصَارَت هَذِه الْكَلِمَة مَكْتُوبَة على قُلُوبهم فَمن أَصَابَته يَده الْيُمْنَى فهم الْأَوْلِيَاء وَمن أَصَابَته يَده الْأُخْرَى فهم عَامَّة الْمُوَحِّدين تناولهم فصيرهم فِي قَبضته وَصَارَت تِلْكَ الْكَلِمَة مَكْتُوبَة بَين أعين الْفُؤَاد على قُلُوبهم وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان} وَقَالَ للآخرين {أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم وَاتبعُوا أهواءهم} فالطبع هُوَ الْخَتْم
فَهَذِهِ كَانَت صفتهمْ فِي البدو وَلم يزل ينقلهم من حَال إِلَى حَال إِلَى أَن نقلهم إِلَى الطينة المعجونة طِينَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {من حمإ مسنون}(4/200)
ثمَّ لما نفخ فِيهِ الرّوح أخرج المتعلقين من كتفه الْأَيْمن كَهَيئَةِ الذَّر فِي صفاء وتلألؤ وَأَصْحَاب الشمَال كالحمة سُودًا من كتفه الْأَيْسَر وَالسَّابِقُونَ أَمَام الْفَرِيقَيْنِ المقربون وهم الرُّسُل والأنبياء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام فقررهم وَأخذ عَهدهم وميثاقهم على الْإِقْرَار لَهُ بالعبودة وأشهدهم على أنفسهم وَشهد عَلَيْهِم بذلك ثمَّ ردهم إِلَى الأصلاب ليخرجهم تناسلا من الْأَرْحَام أَرْحَام الْأُمَّهَات
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى خلق آدم فَضرب بِيَمِينِهِ على كتفه الْيُمْنَى فَأخْرج ذُرِّيَّة بيضًا كالفضة وَمن الْيُسْرَى سُودًا كالحممة ثمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاء فِي النَّار وَلَا أُبَالِي
معنى قَوْله هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَلَا أُبَالِي وَالله أعلم أَنِّي لَا أُبَالِي مَا يعْملُونَ من خير أَو شَرّ فَأقبل خَيرهمْ وأغفر شرهم وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ إحسانا حَملته أمه كرها وَوَضَعته كرها} إِلَى قَوْله أُولَئِكَ الَّذين نتقبل مِنْهُم أحسن مَا عمِلُوا ونتجاوز عَن سيئأآهم وعد الصدْق الَّذِي كَانُوا يوعدون
وَهُوَ الْوَعْد الَّذِي وعدهم حَيْثُ ضرب بيدَيْهِ إِلَيْهِم تناولا ثمَّ قَالَ لَهُم أَنْتُم لي عملتم أَو لم تعملوا وَإِنَّمَا صَارُوا بيضًا كالفضة من أجل ذَلِك النُّور الَّذِي أَصَابَهُم وَالْآخرُونَ سُودًا من أجل الظلمَة الَّتِي خلقهمْ فِيهَا(4/201)
عَن عبد الرَّحْمَن بن قَتَادَة السّلمِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله خلق آدم وَأخذ الْخلق من ظَهره فَقَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاء فِي النَّار وَلَا أُبَالِي فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله فعلى مَاذَا إِذا نعمل قَالَ على مواقع الْقدر
عَن هِشَام بن يسَار الْجُهَنِيّ عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَل عَنْهَا فَقَالَ إِن الله خلق آدم فَمسح ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ خلقت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ ثمَّ مسح ظَهره بِيَدِهِ فاستخرج ذُرِّيَّة فَقَالَ خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله فَفِيمَ الْعَمَل فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خلق العَبْد للجنة اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى يَمُوت على عمل أهل الْجنَّة فيدخله الْجنَّة وَإِذا خلق للنار اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى يَمُوت وَهُوَ على عمل أهل النَّار فيدخله بِهِ النَّار
عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الصَّادِق المصدوق إِن خلق أحدكُم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ لَيْلَة نُطْفَة ثمَّ علقَة مثل ذَلِك ثمَّ مُضْغَة مثل ذَلِك ثمَّ يبعت الله الْملك بِأَرْبَع كَلِمَات فَيَقُول لَهُ اكْتُبْ أَجله وَعَمله ورزقه وشقي أَو سعيد وَإِن الرجل ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع فيغلب عَلَيْهِ كِتَابه الَّذِي سبق فيختم لَهُ بِعَمَل أهل النَّار فيدخله الله النَّار وَإِن الرجل ليعْمَل بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع فيغلب عَلَيْهِ(4/202)
كِتَابه الَّذِي سبق فيختم لَهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة فيدخله الله الْجنَّة
فَهَذِهِ قصَّة هَذَا الْخلق سبق لَهُم مَا سبق قَالَ فِي تَنْزِيله {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون}
فالحسنى هِيَ الْجنَّة فَمن سبقت لَهُ الْجنَّة بوعد من الله تَعَالَى لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا وهم فِيمَا اشتهت أنفسهم خَالدُونَ أَي فِي الْجنَّة فَشكر الله لَهُم مَا كَانَ لَهُم فِي تِلْكَ الظلمَة من الطُّمَأْنِينَة إِلَى الله تَعَالَى فِي وَقت مبعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعرفهم منته عَلَيْهِم فَقَالَ {وألزمهم كلمة التَّقْوَى} ثمَّ شكر لَهُم قديمهم فِي تِلْكَ الظلمَة فَأثْنى عَلَيْهِم بقوله {وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا} أَي أَحَق بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَأهلا لهَذِهِ الْكَلِمَة بِمَا تقدم مِنْهُم
وَإِنَّمَا استقروا هُنَاكَ فِي تِلْكَ الظلمَة ونطقوا بِمَا نطقوا بِمَا رش عَلَيْهِم من نوره هُنَاكَ فَأوجب لَهُم يَوْمئِذٍ محبته وَجعل لَهُم ذَلِك النُّور حظهم من رَبهم وَأَصْحَاب الْخَتْم لم يصبهم النُّور فَلم يكن لَهُم حَظّ وَأَصْحَاب القفل مِنْهُم من لاحظ لَهُ فَهُوَ لَاحق بأصحاب الْخَتْم وَمِنْهُم من لَهُ حَظّ فِي الْغَيْب مَكْنُون وحظهم أدنى الحظوظ أَلا يرى إِلَى قَوْله تَعَالَى {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} ثمَّ قَالَ {إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا واعتصموا بِاللَّه وَأَخْلصُوا دينهم لله} فَشرط(4/203)
لَهُم أَربع شَرَائِط ثمَّ قَالَ {فَأُولَئِك مَعَ الْمُؤمنِينَ} وَلم يقل من الْمُؤمنِينَ
فَهَؤُلَاءِ لاحقة بهم فهم فِي عدد الْمُؤمنِينَ وحظهم من الْمحبَّة قَلِيل وهم من أَصْحَاب القفل أدركتهم الرَّحْمَة الواسعة فصاروا متخلصين من النِّفَاق وَرفع القفل عَنْهُم حَتَّى انفتحت عُيُون أفئدتهم مَعَ هَذِه الشَّرَائِط الْأَرْبَع التَّوْبَة إِلَى الله والإصلاح لما خرب والاعتصام بِاللَّه وَالْإِخْلَاص لله فَحِينَئِذٍ ألحقهم بِالْمُؤْمِنِينَ ليعلم أَنهم لم يَكُونُوا من الْمُؤمنِينَ الَّذين كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان يَوْمئِذٍ بقوله أَنْتُم لي عملتم أَو لم تعملوا فَهَؤُلَاءِ يعتريهم ذَلِك النِّفَاق بعد إِيمَانهم فِي اعمالهم فهم الَّذين يدلون على الله بأعمالهم فِي الشَّرِيعَة ويعجبون بشأن أنفسهم ويكبون على أَمْوَالهم فِي عَامَّة عمرهم يتكثرون بهَا ويتعالون على الْخلق ويعاملون الله فِي السِّرّ بِخِلَاف الْعَلَانِيَة ويراءون بأعمالهم ويتفاخرون على طلب الدُّنْيَا وجاهها وعزها وَفَخْرهَا وخيلاها ويضاهئون الله فِي مدائحه فالعزة لله جَمِيعًا والعلو لله والكبرياء لله فهم فِي شهرهم ودهرهم طالبون لعز الدُّنْيَا ذَهَابًا بِأَنْفسِهِم عَن الْخلق وعلوا عَن أَحْوَالهم وتكبرا عَن الانقياد للحق لكبرياء نُفُوسهم ساخطين لأقدار الله فِي الْخلق وَفِي أنفسهم حاسدين لعباد الله فِي نعمهم مضادين لأقضيته وَتَقْدِيره وتدبيره فيهم فَهَؤُلَاءِ أَصْحَاب الأقفال الَّذين كَانَت لَهُ فيهم مَشِيئَة أَن تُدْرِكهُمْ رَحمته وجوده فَإِن للجود بعد انْقِضَاء الرَّحْمَة المقسومة يَوْم الْقِيَامَة بَين أهل الْجنَّة عملا وشأنا عَظِيما جاد الله على من بَقِي فِي النَّار آلافا من السنين وَلَيْسَ عِنْده مِثْقَال ذرة خير إِلَّا توحيده خرج لَهُ أَيَّام دُنْيَاهُ من بَاب الْجُود وَالرَّحْمَة الْعُظْمَى فهم أَصْحَاب الأقفال الَّذين كَانَت لله تَعَالَى فيهم مَشِيئَة أَن أدركتهم رَحمته الْعُظْمَى فَلم يبال بِمَا صَنَعُوا فَرفع عَنْهُم القفل فِي الدُّنْيَا حَتَّى(4/204)
نطقوا بِالْكَلِمَةِ الْعليا وَهِي كلمة التَّقْوَى وأدخلهم الْجنَّة بِلَا عمل وَلَا خير قدموه نالوا هَذَا من بَاب الْجُود فِي مَحل الْقُدْرَة ونال الْمُؤْمِنُونَ الْمحبَّة من الذَّات وولهت قُلُوبهم بِالذَّاتِ حبا لَهُ(4/205)
- الأَصْل الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ والمائتان
-
فِي مبدأ الاسْتقَامَة ومنتهاها
عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما نزلت {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} شقّ ذَلِك على الْمُسلمين فَقَالُوا وأينا لم يظلم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بذلك ألم تسمعوا إِلَى قَول لُقْمَان {إِن الشّرك لظلم عَظِيم}
عَن الْأسود بن هِلَال عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سَأَلَ أَصْحَابه عَن هَاتين الْآيَتَيْنِ {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} وَقَوله تَعَالَى {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} فَقَالُوا استقاموا فَلم يذنبوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم أَي بشرك
عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله تَعَالَى(4/206)
{إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} أمتِي وَرب الْكَعْبَة مرَّتَيْنِ أوثلاثا
فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَا رَسُول الله مَا ذكرك بِهَذِهِ الْآيَة
قَالَ إِن الْيَهُود قَالُوا رَبنَا الله فَلم يستقيموا فَقَالُوا فِي عُزَيْر عَلَيْهِ السَّلَام مَا قَالُوا وَإِن النَّصَارَى قَالُوا رَبنَا الله فَلم يستقيموا فَقَالُوا فِي الْمَسِيح مَا قَالُوا وَإِن أمتِي قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا فَلم يشركوا
قَالَ أَبُو عبد الله الاسْتقَامَة اسْم لفعل وَلكُل فعل حدان فحد مِنْهُ مبتدأه وَالْحَد الآخر منتهاه فالاستقامة مبتدأها انتصاب الْقلب لله تَعَالَى رقا وتذللا وإلقاء باليدين سلما فَهَذَا أول العبودة ومبتدأ الاسْتقَامَة ثمَّ قد يروغ يَمِينا وَشمَالًا عَن الانتصاب لله تذللا وخشعة ويناله تجبر الْكِبْرِيَاء ثمَّ يَتُوب وَيرجع إِلَى الله تَعَالَى وَيعود إِلَى مقَامه من التذلل وَالرّق وَيصير إِلَى الاسْتقَامَة فِي مقَامه فَلَا يزَال هَذَا دأبه مرّة هَكَذَا وَمرَّة هَكَذَا يقطع عمره على هَذِه الصّفة فيختم لَهُ بِإِحْدَى المنزلتين وَمن أيد فِي الاسْتقَامَة حَتَّى يمر إِلَى الله تَعَالَى وَلَا يروغ فِي سيره يَمِينا وَشمَالًا فَإِذا وصل إِلَى الله فقد ذهب الروغان واستقام على الْبَاب بعد موت شهواته فَهَذَا مُنْتَهى الاسْتقَامَة وَرَأَيْت فِيمَا يرى النَّائِم كَأَن سَائِلًا يسألني عَن قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} فَأَرَدْت أَن أُجِيبهُ بِمَا عِنْدِي من ظَاهر الْعلم فرأيتي قبالتي شخصا بِيَدِهِ صحيفَة يُقَابل بهَا وَجْهي مَكْتُوب فِيهَا {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} أَي اشتاقوا إِلَى لِقَائِه ثمَّ انْتَبَهت فَقلت فِي نَفسِي هَذَا عين التَّفْسِير
وَإِذا نزل العَبْد منزلَة المشتاقين فنهمته وشهوته اللحوق بربه فقلبه بِالْبَابِ عاكف والعاكف لَا تَزُول استقامته فَالنَّاس فِيمَا بَين الحَدِيث من(4/207)
مبتدأه إِلَى أَعْلَاهُ كل قد أَخذ من هَذَا بحظ فالديان يحاسبهم فيعطيهم من ثَوَاب هَذِه الاسْتقَامَة كلا على قدر ثباته وانتصابه لله وتوقيه للروغان عَنهُ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم}
فالإيمان هُوَ طمأنينة الْقلب إِلَى الله واستقرار النَّفس بِمَا اسْتَقر عَلَيْهِ الْقلب وَإِنَّمَا صَار ذَلِك كَذَلِك بِالنورِ فَذَلِك النُّور اكْتِسَاب الْقلب بِهِ يكرم وَعَلِيهِ يُتَاب وَبِه يجوز الصِّرَاط إِلَى دَار السَّلَام فَإِذا أذْنب فالذنب ظلمَة فقد ألبس ذَلِك النُّور ظلمَة وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أذْنب العَبْد نكت فِي قلبه نُكْتَة سَوْدَاء فَإِن عَاد نكت أُخْرَى فَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يسود الْقلب فَإِذا تَابَ وَنزع صقل قلبه يَعْنِي يرفع عَنهُ تِلْكَ النكت فينجلي الْقلب بنوره بِمَنْزِلَة شمس خرجت عَن كسوفها فتجلت
فَأَقل الظُّلم ترك أَصْغَر شَيْء من أَمر الله وَأعظم الظُّلم الشّرك فَذَاك مبتدأه وَهَذَا منتهاه فَترك أدنى أَمر الله هُوَ ظلم وبقدر ذَلِك أطبق على نور الْإِيمَان وأظلم الصَّدْر مِنْهُ بِقدر ذَلِك لِأَنَّهُ افْتقدَ إشراق ذَلِك النُّور على قدر مَا أطبق فَكلما إزداد ذَنبا ازْدَادَ افتقادا للإشراق وازداد ظلمَة حَتَّى يطبق عَلَيْهِ كُله إِذا انْتهى إِلَى منتهاه وَهُوَ رَأس الذُّنُوب وَهُوَ أَعْلَاهَا والخلق فِيمَا بَين الحدين كل قد ألبس إيمَانه يَعْنِي من هَذَا الظُّلم وَمن ذَلِك مثل الشَّمْس إِذا انكسفت فعلى قدر مَا ينكسف مِنْهَا يفتقد الْخلق إشراقها من الأَرْض فَإِذا انكسفت كلهَا صَار نهارهم كالليل
فَأعْلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخلق منتهاه فِي حَدِيث ومبتدأه فِي حَدِيث آخر
وَكَذَلِكَ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا من بعده فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ استقاموا فَلم يشركوا(4/208)
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ استقاموا فَلم يروغوا روغان الثعالب فقصد أَبُو بكر لأدناه وَعمر لأعلاه
وَأما حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مسير ساره إِذْ عرض لَهُ إعرابي على بكر لَهُ فَدَنَا فَسَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَهَاهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلوا عَنهُ فَقَالَ يَا رَسُول الله وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لقد جئْتُك من بلادي وتلادي لأَهْتَدِي بهداك وآخذ من قَوْلك فَمَا بلغتك حَتَّى مَا لي طَعَام إِلَّا من خضر الأَرْض فاعرض الْإِسْلَام عَليّ فَعرض عَلَيْهِ فَقبل فازدحمنا عَلَيْهِ فَدخل خف بكره فِي بَيت جرذان فتردى الإعرابي فانكسر عُنُقه فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدق وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لقد خرج من بِلَاده وتلاده وَمَا لَهُ ليهتدي بهداي وَيَأْخُذ من قولي فَمَا بَلغنِي حَتَّى مَا لَهُ طَعَام إِلَّا من خضر الأَرْض كَمَا قَالَ أسمعتم بِالَّذِي عمل قَلِيلا وجزي كثيرا هَذَا مِنْهُم أسمعتم {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم مهتدون} فَإِن هَذَا مِنْهُم وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا بلغ الأَرْض حَتَّى ملئ شدقه من ثَمَر الْجنَّة اغسلوا أَخَاكُم وكفنوه وصلوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا رَسُول الله أنشق أم نلحد فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّحْد لنا والشق لغيرنا
عَن سَخْبَرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أعطي فَشكر وابتلي فَصَبر وظلم فغفر وظلم فَاسْتَغْفر ثمَّ سكت فَقيل مَا لَهُ يَا رَسُول الله قَالَ {أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم مهتدون} فَهَذَا أَعْلَاهُ وَحَدِيث عَلْقَمَة عَن عبد الله أدناه
فوعد الله فِي تَنْزِيله للمستقيم الْأمان من الْخَوْف والحزن والبشرى(4/209)
بِالْجنَّةِ وَلمن لم يلبس إيمَانه بظُلْم الْأَمْن والاهتداء فَكل إِنَّمَا ينَال من ذَلِك الْوَعْد بِقدر مَا فِيهِ من الاسْتقَامَة وَقلة اللّبْس فالمؤمن لما آمن تقبل الله إيمَانه وَدخل فِي أَمَانه فَلهُ الْأَمْن فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة من كل آفَة فَلَمَّا أذْنب خرج من أَمَان الله بِقدر ذَلِك الذَّنب وَنقص من الْأَمْن بِقدر ذَلِك وَاسْتحق الْعقُوبَة بِقدر ذَلِك وَهُوَ أَن يَزُول نعْمَة من نعمه عَنهُ بِقدر ذَلِك وَإِن شَاءَ تفضل وَعَفا وَإِن عاقب زَالَت عَنهُ من النعم بِقدر ذَلِك وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم}
فالنعمة اسْم جَامع جملَة لهَذَا الْآدَمِيّ فِي بدنه وَدينه ودنياه فَلَو لم يُذنب لم يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا وَكَانَ على هَيئته وَإِنَّمَا جَاءَت الْأَمْرَاض والنوائب وَالْأَحْوَال المتغايرة لمَكَان الْخَطَايَا والذنُوب غيروا فَغير الله مَا بهم وَعفى عَن كثير وَقَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير}
فالاعتبار فِي هَذَا الْأَمر بِقصَّة أَبينَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن الله تَعَالَى خلقه بِيَدِهِ وأسجد لَهُ مَلَائكَته وبوأه مَعَ زَوجته وعهد إِلَيْهِ عهدا أَن هَذَا الَّذِي أَبى أَن يسْجد لَك هُوَ عَدو لَك ولزوجك فَلَا يخرجنكما من الْجنَّة فتشقى وَعرض الْأَمَانَة على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها فَنظر آدم إِلَى إباد هَؤُلَاءِ فَأَخَذته الْغيرَة وهاج مِنْهُ الْحبّ لله فاحتملها وتقلدها فَبَقيت قلادة فِي عُنُقه فَقيل لَهُ هَذِه الْجنَّة مسكنك فَانْظُر أَن لَا يخْرجك وزوجتك هَذَا الْعَدو من هَذَا الْمسكن بِأَن يغرك حَتَّى تحدث فِيهِ حَدثا يكون خِيَانَة للأمانة وَقيل لَهُ إِن لَك فِيهَا أَي فِي الْجنَّة أَن لَا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى وَأَنَّك لَا تظمأ فِيهَا وَلَا تضحى وَهَذِه الْأَرْبَع قوام الْآدَمِيّ ومعاشه يعرفهُ أَنَّك إِن أحدثت أخرجت مِنْهَا فَإِذا أخرجت(4/210)
شقيت أَي صرت بمعزل من النَّعيم ولحقتك الشدَّة والتعب وَالنّصب فِي هَذِه الْمَعيشَة فتحتاج إِلَى أَن تتكلف لجوعك طَعَاما ولعريك لباسا ولظمأك مَاء ولضحاك وَهُوَ حر الشَّمْس مسكنا وَكُنَّا فَلَمَّا أحدث أخرج مِنْهَا وَأُلْقِي عَلَيْهِ هَذَا الَّذِي حذر من الشَّقَاء دون حَوَّاء فَقيل تشقى وَلم يقل تشقيان وَمن هَهُنَا علمنَا أَن نَفَقَة الْمَرْأَة على الزَّوْج فَبَقيَ وَلَده فِي هَذَا الشَّقَاء إِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا فَكل من كَانَ من وَلَده أحفظ لهَذِهِ الْأَمَانَة كَانَ أوفر حظا من أَمَان الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لِأَنَّهُ إِنَّمَا قبل الله مِنْهُ إيمَانه بقبوله للأمانة
فأوفرهم حظا من وَفَاء الْإِيمَان وَحفظ الْأَمَانَة أوفرهم حظا من قبُوله وَإِذا قبله فَهُوَ فِي أَمَانَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِن الله يدافع عَن الَّذين آمنُوا إِن الله لَا يحب كل خوان كفور}
وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ دَافع عني من كل جَانب وَكَانَ يسْأَل الدفاع
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شَأْنه أَن يَقُول أعوذ بك من كَذَا وَبِذَلِك أَمر فِي تَنْزِيله وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون} وَعَلِيهِ أنزلت المعوذتان فالدفاع سُؤال من بعد فِي الْفرْقَة والتعوذ تعلق بِهِ فِي الْقرْبَة من الْقرْبَة(4/211)
- الأَصْل التَّاسِع وَالثَّمَانُونَ والمائتان
-
فِي تَمْثِيل الْحِرْص والسرف بالذئبين
عَن كَعْب بن مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا ذئبان جائعان أرسلا فِي غنم بأفسد لَهَا من حرص الْمَرْء على المَال والسرف لدينِهِ
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ وضع الله الْحِرْص فِي الْآدَمِيّ ثمَّ ذمه فِي الْمُؤمنِينَ بزمام التَّوْحِيد وَالْيَقِين وَقطع علائق الْحِرْص بِنور السبحات فَمن كَانَ حَظه من نور الْيَقِين وَنور السبحات أوفر كَانَ وثاق حرصه أوثق والحرص مُحْتَاج إِلَيْهِ الْآدَمِيّ وَلَكِن بِقدر مَعْلُوم فَإِذا لم يكن لِحِرْصِهِ وثاق تعدى الْقدر الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فأفسد قَالَ لَهُ قَائِل وَمَا حَاجَة الْآدَمِيّ إِلَيْهِ قَالَ إِن الْحِرْص مدد الْقُوَّة الْمَوْضُوعَة فِي الْآدَمِيّ ومثيرها وَهِي نَار تتقد وَأَصلهَا من نور الْحَيَاة وبقدر مَا تتلظى نَار(4/212)
الْحِرْص يظْهر لهبها فِي الْجَوَارِح فَإِذا اسْتعْمل تِلْكَ الْجَارِحَة استعملها باستفزاز وخفة وَإِذا سكن الْحِرْص فترت الْقُوَّة فبالحرص يقوى على تَعب الْأَركان فِي أَعمال الْبر وبالحرص يصابر على طَاعَة الله تَعَالَى وبالحرص يسمو إِلَى معالي الدَّرَجَات وَمن شَأْن الْحِرْص الترقي فِي الدَّرَجَات وَطلب الازدياد من كل شَيْء يَنَالهُ من الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكَذَلِكَ قيل فِي الحَدِيث مَا أعطي العَبْد شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا زيد مثلَيْهِ فِي الْحِرْص والحرص والصرح مُشْتَقّ بعضه من بعض فالصرح الْبناء العالي المشرف الناتئ على الْبُنيان وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَا هامان ابْن لي صرحا لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب} فَهَذَا فِي الظَّاهِر صرح وَذَاكَ فِي الْبَاطِن سمي حرصا لِأَنَّهُ بِهِ يطْلب الازدياد ويترقى فِي دَرَجَات الْمَزِيد علوا
ثمَّ إِذا نظر إِلَى من دونه اعتراه الْعجب وضال بِهِ على الْخلق واستطال فَرمى بِهِ من ذَلِك الْعُلُوّ فَلَا يبْقى لَهُ عُضْو إِلَّا انْكَسَرَ فَأعْطِي الْآدَمِيّ الْحِرْص ليتقوى بِهِ على الازدياد من أَعمال الْبر وَأمر أَن يكون حرصه مزموما بزمام الْخَوْف والخشية مشحونا بأثقال السكينَة وَالْوَقار ليَكُون مَعْصُوما من الْإِعْجَاب وَترك الْأَدَب فِي الدّين
أَلا ترى إِلَى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكرَة حَيْثُ دخل الْمَسْجِد وَالنَّاس رُكُوع فَرَكَعَ وَمَشى فِي رُكُوعه حَتَّى وصل إِلَى الصَّفّ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زادك الله حرصا وَلَا تعد
وَكَانَ قد تقدم إِلَيْهِم فَقَالَ إِذا أتيتم الصَّلَاة فأتوها بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار فَمَا أدركتم فصلوا وَمَا فاتكم فأقضوا
وَقَالَ فِي حَدِيث آخر التأني من الله والعجلة من الشَّيْطَان(4/213)
عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من استعجل أَخطَأ
فالعجلة من الخفة والخفة من هيجان الْحِرْص يزِيل السكينَة وَالْوَقار فَهَذَا صَاحب الدّين
وَأما صَاحب الدُّنْيَا فحرصه يحملهُ على طلب الازدياد طَالبا لعلو الدَّرَجَات وَقَالَ الله تَعَالَى {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا}
فزجر عَن طلب الْعُلُوّ فِي دَرَجَات الدُّنْيَا وَحرم طَالبه الدَّار الْآخِرَة وَهِي الْجنَّة لِأَن الدُّنْيَا مقدرَة مقسومة لن ينَال عبد مِنْهَا إِلَّا مَا قدر لَهُ وَهِي دَرَجَات بَعْضهَا فَوق بعض ليبلونا فِيمَا آتَانَا قَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف الأَرْض وَرفع بَعْضكُم فَوق بعض دَرَجَات ليَبْلُوكُمْ فِيمَا آتَاكُم وَقَالَ {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها وَيعلم مستقرها ومستودعها} ثمَّ قَالَ {كل فِي كتاب مُبين}
وَإِنَّمَا ضمن بَيَان مِقْدَاره لتسكن النُّفُوس إِلَى مَا قدر ويتفرغ الْقلب لما خلق لَهُ من العبودة وَإِذا هاج الْحِرْص وَقع فِي الْكَبَائِر حَتَّى يصير إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان فَإِنَّهُم عبدُوا الْأَوْثَان بأهواء النُّفُوس كلما زين الشَّيْطَان فِي قُلُوبهم شَجرا أَو حجرا نصبوه وثنا فعبدوه وحرصوا على ذَلِك وابتدروه قَالَ الله تَعَالَى {كَأَنَّهُمْ إِلَى نصب يوفضون} والوفض السرعة فِي الْمَشْي(4/214)
وَلم يزل شَأْن الله مَعَ الْأَنْبِيَاء أَن ينْزع إرادتهم ومشيئآتهم ليقفوا على مراقبة مَشِيئَته حَتَّى استقاموا فَرضِي الله عَنْهُم بموافقتهم إِيَّاه وتخليتهم عَن الجبرية فَإِن الْجَبَّار وَاحِد قهار فَلَيْسَ للعبيد أَن يتجبروا فيضاهئون الله وَإِنَّمَا سمي الْجَبَّار جبارا لِأَنَّهُ مستبد بكبره يجْبر الْخلق على مَشِيئَته فالجبار مضاد لله مضاد لحكمه قَالَ الله تَعَالَى يَا دَاوُد تُرِيدُ وَأُرِيد وَيكون مَا أُرِيد فَإِن أردْت مَا أُرِيد كفيتك مَا تُرِيدُ وَإِن أردْت غير مَا أُرِيد عنيتك فِيمَا تُرِيدُ وَيكون مَا أُرِيد
وَلم يزل يهذب نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التحارص فِي الدّين حَتَّى يكون بِمِقْدَار ومقداره أَن يراقب أَمر الله وَمَا يَبْدُو لَهُ من مشيئآته فِي كل أَمر فيطمئن إِلَيْهِ حَتَّى استقام فَأثْنى عَلَيْهِ فَقَالَ {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} فَسُئِلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن خلقه فَقَالَت كَانَ يرضى بِرِضَاهُ ويسخط بسخطه أَي برضاء الله وَسخطه كَأَنَّهُ لم يبْق لَهُ مَشِيئَته
وَبلغ من استقامته أَنه فِيمَا رُوِيَ حِين كَانَ يقبض جَاءَهُ جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ إِن رَبك يخيرك بَين لِقَائِه وَبَين الْخلد فَقَالَ لَا أخْتَار حَتَّى يخْتَار لي رَبِّي
فَهَذَا غَايَة رفض الْمَشِيئَة لم يحملهُ الشوق إِلَى ربه على اخْتِيَار اللِّقَاء وَلم يحملهُ الْكَوْن بَين الْأمة فِي خَالص العبودة وَلَذَّة الطَّاعَات وتربية الْأمة اخْتِيَار الْكَوْن بَين ظهرانيهم فَألْقى الِاخْتِيَار إِلَى ربه فَرفع جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَيْهِ وَقد كَانَ لملك الْمَوْت لَا تنزعن مُحَمَّدًا حَتَّى آتِيك فَرجع وَملك الْمَوْت ينتظره فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِن الله اخْتَار لَك لقاءه فَقَالَ تقدم يَا ملك الْمَوْت فَمَا زَالَ يَقُول لِقَاء رَبِّي لِقَاء رَبِّي حَتَّى خرجت نَفسه وَكَذَلِكَ فعل حَيْثُ خير بَين أَن يكون عبدا نَبيا أَو ملكا(4/215)
نَبيا فَلم يختره حَتَّى أَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرَائِيل صلوَات الله عَلَيْهِ وَقد صَار جِبْرَائِيل كَهَيئَةِ الحلس الْملقى مَيتا من الْفرق فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَن تواضع فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَبيا عبدا فَقيل لَهُ إِن لَك بِمَا تواضعت أَنَّك أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض وَأول خطيب وَأول شَفِيع ولواء الْحَمد بِيَدِك ومفاتيح الْكَرم بِيَدِك وَتوقف جِبْرَائِيل فَلم يخْتَر لَهُ حَتَّى ينظر مَا يتجلى لَهُ من ربه من ملكه فَلَمَّا تجلى لَهُ مَا تجلى صَار كالميت من الْفرق فَذَاك ملك الْجلَال وَاسْتدلَّ بذلك جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك الْوَقْت أَنه اخْتَار لَهُ التَّوَاضُع فجَاء جِبْرَائِيل بِمَا جَاءَ وَأَشَارَ لَهُ بالتواضع وَلَو أَرَادَ أَن يخْتَار لَهُ أَن يكون نَبيا ملكا لَكَانَ عَسى أَن يتجلى لَهُ ملك الْجمال والبهجة فَكَانَ ينبسط جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام ويأنس بِمَا يتجلى لَهُ فيستدل بِهِ على مَا يخْتَار لَهُ ربه فَهَذَا شَأْن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
وَإِذا كَانَ الْحِرْص فِي الدّين يضر فَكيف بِمن حرص على دنيا دنية يطْلب بهَا الْعُلُوّ على الْخلق فَمن فعل ذَلِك فِي دينه سمي جَاهِلا كَمَا قَالَ لَهُ {فَلَا تكونن من الْجَاهِلين} وَيكون قد عميت بصيرته قَالَ الله تَعَالَى {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} فَعميَ قلبه فِي ظلمات الْمعاصِي جمعا من غير حق ومنعا من حق وإنفاقا من غير حق
قَالَ الله تَعَالَى {إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين}
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام حبك الشَّيْء يعمي ويصم(4/216)
إِنَّمَا حرص على جمعه لحبه إِيَّاه فأعماه وأصمه عَن أَمر الله فِيهِ وَعَن حُقُوقه فِيهِ وَعَن حُدُوده فِيهِ وألهاه تكاثره بِهِ عَن ذكر الْمَوْت حَتَّى زار الْمَقَابِر أَصمّ أعمى قد لحقته حُقُوق المَال كالزنابير تلسعه وكالعقارب تلدغه وكالحيات تنهشه قَالَ الله تَعَالَى وَلَا تحسبن الَّذين يَبْخلُونَ بِمَا آتَاهُم الله من فَضله هُوَ خيرا لَهُم بل هُوَ شَرّ لَهُم سيطوقون مَا بخلوا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الَّذِي جمع من غير حلّه وَمنع الْحُقُوق مِنْهُ تمثل لَهُ مَاله حَيَّة يطوق بهَا عُنُقه فتقض قضا بأسنانها شؤن رَأسه بِأَكْل دماغه ثمَّ يعود كَمَا كَانَ ثمَّ يفعل بِهِ مثل ذَلِك فَمَا زَالَ هَذَا حَاله فِي الْموقف حَتَّى يقْضِي الله بَين الْعباد ثمَّ مصيره إِلَى مَا شَاءَ الله من النَّار أَو غَيرهَا
فالحرص فِي الدّين يطمس الْعلم وَيكون صَاحبه جَاهِلا إِن خرج الْحِرْص من الوثاق فَإِذا كَانَ فِي وثاق انْتفع بِهِ صَاحبه لِأَن الله تَعَالَى وَضعه فِي الْآدَمِيّ ليَكُون عونا لَهُ وَقُوَّة على مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الدّين وَالدُّنْيَا وَإِذا كَانَ الْحِرْص مفقودا أَدَّاهُ إِلَى الْعَجز والكسل فِي أَمر الله تَعَالَى وَفِي عبودته فالحرص على الدُّنْيَا إِذا كَانَ فِي وثاق يقفه على القناعة بِمَا قسم الله لَهُ من دُنْيَاهُ فَكلما أَتَاهُ شَيْء مِنْهَا من حلّه من غير طمع وَلَا إشراف نفس قبله من ربه وحمده عَلَيْهِ وقنع بِهِ والحرص فِي دينه إِذا كَانَ فِي وثاق يقفه على حُدُود مراقبة الْمَشِيئَة وتدبير الله(4/217)
وَرُوِيَ لنا عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَيْهِ بهدية كَأَنَّهُ امْتنع من قبُولهَا فَقَالَ لَهُ يَا عمر مَا آتاك الله من هَذَا المَال من غير مَسْأَلَة وَلَا إشراف نفس فَخذه فَإِنَّمَا هُوَ رزق سَاقه الله إِلَيْك
فَمن أدبه الله وهذبه كَانَ حرصه على مَا وَصفنَا(4/218)
- الأَصْل التِّسْعُونَ والمائتان
-
فِي أَن مَرَاتِب الشُّهَدَاء سبع أَو ثَمَان
عَن جَابر بن عتِيك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ يعود عبد الله بن ثَابت فَوَجَدَهُ قد غلب عَلَيْهِ فصاح بِهِ فَلم يجبهُ فَاسْتَرْجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ غلبنا عَلَيْك يَا أَبَا الرّبيع فصاح النسْوَة وبكين فَجعل ابْن عتِيك يسكتهن فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعْهُنَّ فَإِذا وَجب فَلَا تبكين باكية
قَالُوا وَمَا الْوُجُوب يَا رَسُول الله
قَالَ إِذا مَاتَ
قَالَت ابْنَته وَالله إِنِّي كنت لأرجو أَن تكون شَهِيدا فَإنَّك قد كنت قضيت جهادك
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله قد أوقع أجره على قدر نِيَّته ثمَّ قَالَ مَا تَعدونَ الشَّهَادَة فِيكُم
قَالُوا الْقَتْل فِي سَبِيل الله
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّهَادَة سبع سوى الْقَتْل فِي سَبِيل الله المطعون شَهِيد والغريق شَهِيد وَصَاحب ذَات الْجنب شَهِيد والمبطون شَهِيد(4/219)
وَصَاحب الْحَرِيق شَهِيد وَالَّذِي يَمُوت تَحت الْهدم شَهِيد وَالْمَرْأَة تَمُوت بِجمع شَهِيد
قَالَ أَبُو عبد الله فالشهادة لَهَا مرتبَة عَظِيمَة عِنْد الله والصدق أعظم مرتبَة وَقد ذكر الله فِي تَنْزِيله الصِّنْفَيْنِ فَقدم الصدْق على الشَّهَادَة فَقَالَ {وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ}
فَبَدَأَ بِالْأولِ فَالْأول ذكرالنبوة ثمَّ الصدْق ثمَّ الشَّهَادَة ثمَّ الصّلاح فالصديق صدق الله فِي بذل نَفسه لَهُ فِي جَمِيع عمره والشهيد صدق الله فِي بذل نَفسه لَهُ فِي وَقت الْوَفَاة وَإِنَّمَا نَالَ الْكَرَامَة كل هَؤُلَاءِ الْأَصْنَاف ببذل النَّفس وَمن بذل نَفسه لله تَعَالَى فقد آثر الله على نَفسه وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى وضع للْعَبد فِي هَذَا القالب أَعنِي الْجَسَد روحا بِهِ حيى وبالنفس الَّتِي فِي جَوْفه وَهِي الأمارة بالسوء الْمحبَّة للحياة فِي الدُّنْيَا فَعظم الْآدَمِيّ هَذِه الْحَيَاة هَهُنَا ليلتذ بالأشياء بقوتها وَعظم الله الْحَيَاة فِي الدَّار الْآخِرَة وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان لَو كَانُوا يعلمُونَ}
فالحيوان فِي الْجنَّة والحياة فِي الدُّنْيَا وكل شَيْء على قالب فعلان فَهُوَ أَكثر من قالب فعيل وفاعل كَقَوْلِه الرَّحْمَن والرحيم والعريان والعاري(4/220)
وَحسان وَحسن وندمان ونديم فالعريان هُوَ المتجرد عَن الثَّوْب والعاري الَّذِي أخلق ثِيَابه وبلي قَالَ النَّابِغَة
(أَتَيْتُك عَارِيا خلقا ثِيَابِي ... على خوف يظنّ بِي الظنون)
فالحياة الْعُظْمَى هِيَ حَيَاة الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت فَمن حيى قلبه بِاللَّه سعد وللحياة بَين الْعباد دَرَجَات فالكافر ميت الْقلب حَيّ الْجَسَد بحياة الرّوح فِيهِ وحياة النَّفس الأمارة بالسوء وَالْمُؤمن حَيّ الْقلب حَيّ الْجَسَد فحياة قلبه بِاللَّه وحياة جسده بِالروحِ وَالنَّفس فنال بِتِلْكَ الْحَيَاة التَّوْحِيد ثمَّ لم يزل يعْمل الطَّاعَات يتَقرَّب بهَا إِلَى ربه فَكلما ازْدَادَ قربا زَاده الله حَيَاة قلب بِهِ وَكلما ازْدَادَ من الله قربه ازْدَادَ حَيَاة حَتَّى ينَال دَرَجَة الشَّهَادَة فيبذل نَفسه لله ويؤثر الله على نَفسه عِنْد كل أَمر لِأَن الْمُؤمن ممتحن بالشهوات فَإِذا عارضته شَهْوَة آثر الله على تِلْكَ الشَّهْوَة فرفضها وَلم يذقْ نَفسه طعمها عادى نَفسه فِي ذَات الله فَهَذَا عبد قد أَرَادَ الله ورفض نَفسه فَحق على الله أَن يُريدهُ ويؤثره وَإِن للشهوة حلاوة وَلَذَّة ولوجود الله بِالْقَلْبِ لَذَّة وحلاوة ووجوده أَن يتَرَاءَى لفؤاده نور من أنوار فيهيج من قلبه حبه لَهُ وشوقه إِلَى لِقَائِه فَكلما كَانَ ذَلِك النُّور أَعلَى كَانَ هيجان الْقلب وفوران الشوق وسلطان الْحبّ أقوى وَأَشد فَمن عارضته شَهْوَة من شهوات الدُّنْيَا فَأعْطى نَفسه حلاوتها ولذتها فقد آثر نَفسه على الله تَعَالَى فَهُوَ مَحْجُوب عَن الله بِقدر مَا آثر لِأَن قلبه قد صَار والها عَن الله بِتِلْكَ الشَّهْوَة فبقدر مَا صَار وَصَارَ ولهه إِلَى الشَّهْوَة نقص ولهه الَّذِي يوله إِلَى الله وبقدر ذَلِك نقص من نور كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِن نور كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله أثقل فِي الْمِيزَان من سبع سموات وَسبع أَرضين وَجَمِيع مَا فيهمَا من الْخلق
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَا رب دلَّنِي على عمل أعمله
قَالَ يَا مُوسَى قل لَا إِلَه إِلَّا الله(4/221)
قَالَ يَا رب دلَّنِي على عمل أعمله قَالَ يَا مُوسَى قل لَا إِلَه إِلَّا الله قَالَ يَا رب دلَّنِي على عمل قَالَ فَأَرَادَ نَبِي الله أَن يعْمل عملا ينهك مِنْهُ بدنه فَقَالَ يَا مُوسَى إِن السَّمَوَات وَالْأَرضين وَمن فيهمَا من الْخلق لَو وضعت فِي كفة وَوضعت لَا إِلَه إِلَّا الله فِي كفة لرجحت بِهن
عَن مُحَمَّد بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمْسَى فِي الْأَنْصَار بقباء عَشِيَّة خَمِيس وَأمسى صَائِما فَأَتَاهُ أَوْس بن خَوْلَة الْأنْصَارِيّ لما أَمْسَى بقدح فذاقه فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا شرابك فَقَالَ مَاء وَعسل أَو لبن وَعسل قَالَ فَوَضعه وَقَالَ أما إِنِّي لَا أحرمهُ وَلَكِن أتركه تواضعا لله تَعَالَى فَإِنَّهُ من تواضع لله رَفعه الله وَمن اقتصد أغناه الله وَمن بذر أفقره الله
فَهَذَا يُحَقّق لَك مَا قُلْنَا بدءا أَن من آثر الله على شَهْوَة فقد بذل نَفسه لله وَمن آثر الشَّهْوَة لَقِي مَا لَقِي الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ عوتب على فعله وَإِنَّمَا يُعَاتب الأحباب والخواص من الْعباد والأباعد لَا يعاتبون وَلَا يَبْتَغِي مِنْهُم ذَلِك
رُوِيَ عَن وهب بن مُنَبّه رَضِي الله عَنهُ قَالَ بَيْنَمَا الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام قَاعد على شط الْبَحْر إِذا أَتَاهُ سَائل فَوقف عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَيهَا الْقَاعِد أَسأَلك بِوَجْه الله أَن تعطف عَليّ بِخَير فَغشيَ على الْخضر عَلَيْهِ(4/222)
السَّلَام سَاعَة من مقَالَة السَّائِل بِوَجْه الله فأفاق ثمَّ قَالَ أَيهَا السَّائِل سَأَلتنِي بِوَجْه الله لَا أَدْرِي مَا أكافئك بِهِ وَلَيْسَ من الْأَشْيَاء أكْرم عَليّ شَيْء من نَفسِي فقد بذلتك نَفسِي بعزة وَجه الله فدونك فبعها وانتفع بِثمنِهَا
فَذهب بِهِ السَّائِل فعرضه على البيع فَبَاعَهُ من رجل غَنِي يُقَال لَهُ ساحم بن أَرقم فَذهب بِهِ إِلَى منزله وَله بُسْتَان صَغِير فِي دَاره بجنبها جبل كَبِير فَدفع المسحاة إِلَيْهِ وَأمره أَن ينحت شَيْئا من ذَلِك الْجَبَل الَّذِي فِي الْبُسْتَان قدر مَا يغْرس فِيهِ شَيْئا وَغَابَ ساحم إِلَى حَاجته وَأَقْبل الْخضر على النحت من ذَلِك الْجَبَل فَأَبْطَأَ مَوْلَاهُ فِي حَاجته فجَاء إِلَى بَيته ممسيا فَقَالَ لمن فِي الْبَيْت أطعمْتُم هَذَا الْغُلَام قَالُوا أَيّمَا غُلَام قَالَ الَّذِي اشْتَرَيْته الْيَوْم وَجَعَلته فِي الْبُسْتَان قَالُوا لَا علم لنا بِهِ فَاسْتَرْجع وَأخذ الطَّعَام وَدخل عَلَيْهِ فَإِذا هُوَ فرغ من ذَلِك الْجَبَل وَهَذِه وَذَلِكَ الْجَبَل فَرسَخ فِي فَرسَخ قد سوى فِي ذَلِك الْبُسْتَان وَأَصْلحهُ وَفرغ مِنْهُ وَقَامَ إِلَى الصَّلَاة فَنظر ساحم إِلَى أَمر عَظِيم وَفرغ من ذَلِك فتعجب وَكَاد يغشى عَلَيْهِ فَدَنَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ من أَنْت قَالَ أَنا عَبدك قَالَ نعم فَمَا قصتك وَمَا جنسك وَمِمَّنْ أَنْت قَالَ أما الْقِصَّة فعبد بيع وَآخر اشْترى وَأما الْجِنْس فَمن آدم عَلَيْهِ السَّلَام وآدَم من تُرَاب قَالَ فَمن أَيْن لَك هَذِه الْقُوَّة الَّتِي أرى قَالَ من الله قَالَ فأسألك بِوَجْه الله لما صدقتني من أَنْت فَغشيَ على الْخضر وَسقط سَاعَة مغشيا عَلَيْهِ
فَلَمَّا أَفَاق قَالَ أَنا الْخضر المذنب فَغشيَ على ساحم سَاعَة علم أَنه الْخضر فأفاق ثمَّ غشي عَلَيْهِ ثمَّ أَفَاق وَهُوَ يَقُول سُبْحَانَ خَالق النُّور أعتقت عَبدك ووليك وحبيبك وصفيك خضر لوجهك وَأَسْأَلك التَّوْبَة مِمَّا كَانَ من استعمالي إِيَّاه فَسجدَ الْخضر سَجْدَة وَهُوَ يَقُول يَا رب بِوَجْهِك بذلت نَفسِي وبوجهك أَقرَرت بِالرّقِّ وبوجهك بِعْت رقبتي وبوجهك رددت إِلَيّ نَفسِي فَمن الَّذِي رجاك فخيبته وَمن الَّذِي خافك فَلم(4/223)
تؤمنه وَمن الَّذِي دعَاك فَلم تجبه يَا رب أَدْعُوك دَعْوَة الخاطئين يَا رب أعتقني ساحم فَمن يعتقني من ذُنُوبِي الموبقة خلصني ساحم من عبودته فَمن يخلصني من سيئآتي وذنوبي عِنْد ذِي الْعَرْش فَقَالَ لَهُ ساحم أَقْسَمت عَلَيْك بعزة الله أَن تُخبرنِي بِالسَّبَبِ كَيفَ صرت عبدا وَمَا الَّذِي صير إِلَى أَن بِعْت نَفسك قَالَ الْوَجْه الَّذِي أعتقني لَهُ ثمَّ قصّ عَلَيْهِ الْقِصَّة
قَالَ وَقد عظمت علينا منتك يَا ساحم فَإِن رَأَيْت أَن أقيم فأؤدي بعض مَا يجب من حَقك أَقمت وَإِن أَذِنت لي بِالرُّجُوعِ بعد إِذْ أعتقتني فَأَنت الْمَأْجُور فِيهِ فَقَالَ ساحم فقد أَذِنت لَك يَا ولي الله ارْجع بِسَلام واذكرني فِي دعائك فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لساحم وأرحمه رَحْمَة لَا عَذَاب بعْدهَا قَالَ فَنُوديَ قد أجبْت يَا خضر
قَالَ وَمضى خضر حَتَّى أَتَى الْبَحْر فَإِذا هُوَ بِرَجُل قَائِم على وَجه المَاء شاخص ببصره إِلَى السَّمَاء وَهُوَ يَقُول يَا من أمسك السَّمَوَات بأَمْره فَلَا يسْقط بَعْضهَا على بعض يَا من دحا الأَرْض وَمَا فِيهَا فأحصى عدد مَا فِيهَا من مَثَاقِيل رملها وحصبائها يَا من عاقب الْخضر بِذَنبِهِ وابتلاه بالعبودة بِذَنبِهِ خلصه وَاجعَل تَوْبَته مَقْبُولَة بِوَجْهِك أكْرم الْوُجُوه فَدَنَا مِنْهُ الْخضر فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا عبد الله من أَنْت الَّذِي تسْأَل التَّوْبَة للخضر قَالَ أَنا الَّذِي آمَنت بِجلَال رَبِّي فاشتغلت بأَدَاء شكر إيماني وَإِن الْخضر لم يزل مَعْصُوما حَتَّى رغب فِي الدُّنْيَا وَأدْخل فِي قلبه حبها فابتلي فقد رَحمته وأخلصت لَهُ دعائي فَقَالَ لَهُ أَنا الْخضر فَقَالَ إِلَيْك إِلَيْك أَيهَا المذنب لَا تخالطني أَيهَا الميال إِلَى الميالة وَالذَّيَّال إِلَى الذيالة والمغرور إِلَى المغرورة أنسيت نعيم الْآخِرَة فجرك النسْيَان إِلَى طلب نعيم الدُّنْيَا أَو قد نسيت شدَّة الْآخِرَة وبؤسها فطلبت رَاحَة الدُّنْيَا وسرورها أَلَيْسَ الله أبلاك بِمَا ابتلاك عُقُوبَة مِنْهُ عَلَيْك فَلَو قد نجوت مِمَّا قد رَأَيْت لربحت يَا خضر الخاطئ تبوأت لنَفسك مَكَانا كَأَنَّك تخلد فِيهَا(4/224)
وَقد غرست لراحتك ظلا كَأَنَّك بَاقٍ فِيهَا أَو مَا علمت أَن أمكنتها مبدلة وَأَن أغراسها منقلعة وَأَن عمرانها مخربة وَأَن نعيمها زائلة بِمن فِيهَا يَا خضر الخاطئ أَيْن كَانَ قَلْبك سَاعَة غرستها حَتَّى فرغت قَلْبك لغرسها أَيْن كَانَت فكرتك عَن الْآخِرَة أَلَيْسَ قد خلا قَلْبك عَن ذكر الْآخِرَة بِذكر الدُّنْيَا سَاعَة وَإِن السَّاعَة فِي ذكر الْآخِرَة لبلاغا للعاقلين يَا خضر قد ابْتليت بِالدُّعَاءِ لَك من عبودة الرَّحْمَن
قَالَ وَذَلِكَ أَن الْخضر كَانَ لَهُ مَوضِع مَعْلُوم على بعض شواطئ الْبَحْر فَإِذا خرج الْخضر إِلَى الْبر عبد الله تَعَالَى فِيهِ
قَالَ فغرس فِي ذَلِك الْموضع شَجَرَة يعبد الله تَعَالَى فِي ظلّ أَغْصَانهَا إِذا اشْتهى الْعِبَادَة فِيهَا استتر بهَا فِي عِبَادَته فَعلم الله مِنْهُ حب الدُّنْيَا بِقدر مَا اشْتهى من تنزهه بهَا وَإِن كَانَ ذَلِك فِي طَاعَته عاقبه الله تَعَالَى بذلك السَّائِل حَتَّى صَارَت عِبَادَته فِي عبودة عبد من عباد الله وَلم يدر الْخضر أَنه ابْتُلِيَ بذنب حَتَّى سمع مَا سمع من العابد الْقَائِم على ظهر المَاء وَكَانَ اسْمه سادون بن اشى فَلَمَّا سمع الْخضر بذلك خر سَاجِدا وَهُوَ يَقُول يَا رب مَا طلبت بذلك إِلَّا وَجهك ورضاك فَنُوديَ يَا خضر آثرت الدُّنْيَا على الْآخِرَة وفرغت قَلْبك لحبها دون حب الْآخِرَة وَعِزَّتِي مَا لي فِي حبها رِضَاء وَلَا أكْرم من أحبها وَلَو كَانَ لي فِي حبها رِضَاء لخصصت بهَا أوليائي وَلَكِن أزويها عَنْهُم لهوانها عَليّ وكرامتهم لدي أذهب فَلَا مرغب لي فِيمَن رغب فِي الدُّنْيَا وأمكنها من قلبه فلولا مَا أدركك من دُعَاء سادون لأنزلت عَلَيْك بوائقي ولتتابعت عَلَيْك عقوباتي
قَالَ وَذَلِكَ أَن سادون طلبه فِي مَكَانَهُ الَّذِي كَانَ يسكن فِيهِ أَن يرَاهُ فَلم يره فِي مَقْعَده وَلم يجده فَدَعَا الله أَن يدله على الْخضر ويعلمه مَكَانَهُ وَكَانَ يعرف الْخضر وَالْخضر لَا يعرفهُ
قَالَ فأري أَن الْخضر أحب الدُّنْيَا وزهرتها وعوقب بعقوبة كَذَا(4/225)
وَكَذَا فَوقف بَين يَدي الله قَائِما على المَاء شاخصا ببصره إِلَى السَّمَاء وَهُوَ يَقُول يَا رب إِن أَنْت أهنت عَبدك الْخضر بعد كرامته فَمن يُكرمهُ يَا رب ارْتكب عَظِيما وَحمل ثقيلا وخان نَفسه وَنسي الْعَهْد يَا من لَا ينسى كل مَا كَانَ وَيكون من أَمر عباده أذكر عِنْد ذنُوب الْخضر مَا مننت بِهِ عَلَيْهِ من أَنْوَاع طَاعَتك وعظيم عِبَادَته إياك يَا من نَاصِيَة الْخضر بِيَدِهِ يَا من لَيْسَ لَهُ حراك نفس وَلَا عصمتها وَلَا طرفَة عين إِلَّا بِأَمْرك ومشيئتك وقدرتك يَا رب فَاغْفِر لَهُ مَا قدرت عَلَيْهِ من معصيتك وَقدر عَلَيْهِ طَاعَتك فَإِنَّهَا تذْهب معصيتك يَا رب فَاسْتَجَاب الله لَهُ وخلص الْخضر مِمَّا كَانَ ابْتُلِيَ بِهِ من الْعقُوبَة
قَالَ فَرفع الْخضر رَأسه وأتى من سَاعَته سادون وَهُوَ يَقُول يَا سادون الْمَمْنُون عَليّ بمنة الله وجلاله أَيْن عَرفتنِي وَلم أعرفك يَا أخي فَقَالَ لَهُ سادون يَا خضر إِن قُلُوب أَوْلِيَاء الله زاهرة نائرة لَهَا شُعَاع كشعاع الشَّمْس تطلع على قُلُوب أَوْلِيَاء الله أَلا ترى إِلَى الشَّمْس مَا أعظم قدرهَا وَأكْثر ضوءها فَلَو غشيتها الظلمَة القليلة لأذهبت بِأَكْثَرَ ضوئها وَكَذَلِكَ قلب ولي الله صَاف طَاهِر فَلَو غشيه حب الدُّنْيَا بِقدر ذرة لأكدر ضوءها ولأضعف شعاعها فَإِذا خلص الْقلب من حب الدُّنْيَا ترَاهُ ينظر إِلَى أَوْلِيَاء الله فِي مظانهم وَقد عرفك قلبِي فو الله لَو كَانَ قَلْبك للدنيا مثل قلبِي لعرفني قَلْبك كَمَا عرفك قلبِي فَقَالَ لَهُ الْخضر يَا سادون وَكَيف قَلْبك للدنيا
قَالَ بلغ من بغض الدُّنْيَا مَا لَو أَن الله تَعَالَى عرض عَليّ الدُّنْيَا وَالْجنَّة لأبيت قبولهما وَلست أُرِيد الْجنَّة مَعَ مَا أبغضها الله وَذَلِكَ أَنِّي أُؤْثِر رِضَاء الله على رضائي فَإِن رِضَاء الله ترك الدُّنْيَا ورضائي دُخُول الْجنَّة وَلَو أَن الله خيرني بَين أَن أبقى فِي الدُّنْيَا وَنَعِيمهَا خَالِدا مخلدا أبدا لَا أَمُوت فِيهَا وَبَين أَن يقبضني ويدخلني النَّار السَّاعَة لاخترت أَن يقبضني ويدخلني النَّار السَّاعَة وَذَلِكَ أَنِّي أُؤْثِر سخطي على سخط الله تَعَالَى وَأَن(4/226)
حب الدُّنْيَا سخط الله وَدخُول النَّار سخطي أفتجد ذَلِك فِي قَلْبك يَا خضر قَالَ لَا
قَالَ لَو كَانَ ذَلِك فِي قَلْبك لَكَانَ يراني قَلْبك اذْهَبْ فَلْيَكُن أَكثر عبادتك بعض مَا أبْغض الله وَهِي الدُّنْيَا لَيْسَ حب الدُّنْيَا بِجمع أموالها وشهواتها وزهرتها وَلَكِن حب الدُّنْيَا أَن يشغل قَلْبك عَن حب الْآخِرَة وَلَو طرفَة عين أبغضها بغضا لَا يكونن شَيْء أبْغض إِلَيْك مِنْهَا فَإنَّك لَا تطِيق أَن تحب الْآخِرَة إِلَّا على قدر مَا تبغض الدُّنْيَا فَقَالَ يَا سادون ادْع الله تَعَالَى أَن يَتُوب عَليّ بِمَا ارتكبت فَإِنِّي استحيي من رَبِّي أَن أَدْعُوهُ فقد حاربته مَعَ عدوه فَقَالَ سادون يَا رب قدرت على عَبدك الذَّنب فارتكب من الذَّنب مَا ارْتكب وَمَا كَانَ أَهلا لذَلِك وَهُوَ عدل مِنْك يَا رب ثمَّ قدرت لَهُ الْخَلَاص من عُقُوبَتك يَا رب وألهمته طلب التَّوْبَة من ذنُوبه يَا رب فتب عَلَيْهِ فقد عرف ذَنبه تَوْبَة مصر غير عَائِد يَا رب إِن الْخضر سَأَلَني أَن أَدْعُوك فقد دعوتك مدلا عَلَيْك بِمَا وَعَدتنِي من حسن إجابتك فِي أوليائك
فَنُوديَ مر الْخضر أَن يزهد فِي الدُّنْيَا فَإِذا زهد فِي الدُّنْيَا اشتاق إِلَيّ وَمن اشتاق إِلَيّ اشْتقت إِلَيْهِ وَلَا أشتاق إِلَى من لَا أُرِيد مغفرته وَلم أَرض عَنهُ فَأخْبرهُ سادون فزهد بعد ذَلِك الْخضر زهدا لم يزهد أحد مثله وَكَانَ سادون رجلا ملاحا فَكَانَ ذَات لَيْلَة نَائِما على شط الْبَحْر إِذْ خرجت سمكتان فَوَقَعَتَا حذاءه فَسكت عَنْهُمَا سادون رَجَاء أَن يخرجَا إِلَى الْبر فيأخذهما فنادته إِحْدَاهمَا يَا سادون أبلغ حبك الدُّنْيَا أَن تطمع فِي برهَا وبحرها وَالله إِنَّك طمعت أَن تصطاد من هُوَ أعبد إِلَى الله مِنْك فنادتها صاحبتها يَا هَذِه أتمنين على سادون بعبادتك وَلم تُؤَد شكر نعْمَة أنعمها الله عَلَيْك فَقلت من أَنْتُمَا فَقَالَت الْأَخِيرَة أما الَّتِي نادتك بالْكلَام الأول منت على الله فمسخها الله الْآن فها هِيَ ذِي ممسوخة خرساء وَأما أَنا فَمن جنس السّمك الَّذِي كَانَ يُونُس بن مَتى عَلَيْهِ(4/227)
السَّلَام فِي بَطنهَا فَقَالَ سادون كَيفَ خصها الله بِيُونُس عَلَيْهِ السَّلَام من بَين دَوَاب الْبَحْر قَالَت كَانَت تعبد الله فِي الْبَحْر بزهدها قَالَ فَكيف كَانَ زهدها قَالَت كَانَت لَا تَبْرَح فَإِن أُوتيت صيدا عفوا أَكلته وَإِلَّا صبرت فَكَانَت دَوَاب الْبَحْر تسميها السَّمَكَة الزاهدة فأكرمها الله بِنَبِيِّهِ وَرَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام إِكْرَاما لَهَا بزهدها فزهد سادون فِي مَكَانَهُ زهدا وأخلص لله عِبَادَته فَقَامَ من سَاعَته فَمر على المَاء فَلَمَّا توَسط الْبَحْر وقف فَلم يزل إِلَى أَن صَار إِلَى الْخضر يعبد الله ويدعوه
قَالَ أَبُو عبد الله فنور هَذِه الْكَلِمَة بلغ هَذَا الْمبلغ فَإِنَّمَا بلغ بِصدق الْقَائِل وَلَو كَانَ غير الصدْق لَكَانَ الْمُنَافِق قد قَالَه وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى قد قالوها فأصدقهم فِي الْمقَال أعظمهم نورا والصدق فِي الْمقَال إِنَّمَا يظْهر من العَبْد ببذل النَّفس لله وإيثاره ربه على نَفسه فِي كل مَشِيئَة وَإِرَادَة وشهوة فَإِذا آثر الله فقد صدق الله فِي إِرَادَته ربه ورفض نَفسه فالنبي بِفضل نبوته أَرَادَ الله إِرَادَة بِزِيَادَة الْحَيَاة الَّتِي فِي قلبه وَالصديق هُوَ دون النَّبِي والشهيد دونهمَا وَهُوَ أقل حَيَاة من الصّديق وَالصديق أقل حَيَاة من النَّبِي والصالح أقل حَيَاة من الشَّهِيد وَمن حيى بِاللَّه نَالَ نور الْيَقِين فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَاف على درجاتهم على مَا وَصفنَا فِي الْحَيَاة بِاللَّه وَالْيَقِين بِهِ فأوفرهم حظا من الْحَيَاة وَالْيَقِين أَشَّدهم شوقا إِلَيْهِ وَإِرَادَة لَهُ وإيثارا لَهُ على شهوات نَفسه فالنبي رَأس الشُّهَدَاء ثمَّ الصّديق من بعده ثمَّ الْقَتِيل فِي سَبِيل الله ثمَّ من بعد ذَلِك من هَذِه الْأَصْنَاف الَّتِي ذكرهَا فِي الحَدِيث وأصناف آخَرُونَ مذكورون فِي غير هَذَا الحَدِيث وَإِنَّمَا قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث الشَّهَادَة سبع وَلم يقل وَلَا يكون شَهِيدا من وَرَاء السَّبع إِنَّمَا ذكر السَّبع فِي ذَلِك الموطن ثمَّ ذكر بعد ذَلِك أَن الْغَرِيب إِذْ مَاتَ فَهُوَ شَهِيد وَمن مَاتَ مرابطا فَهُوَ شَهِيد وَمن خرج فِي طلب الْعلم فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيد وَمن دَامَ على الطَّهَارَة متوضئا فَهُوَ شَهِيد وَمن مَاتَ فِي يَوْم الْجُمُعَة فَهُوَ شَهِيد(4/228)
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موت الغربة شَهَادَة
عَن عبد الله بن عَمْرو أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من مَاتَ يَوْم الْجُمُعَة أَو لَيْلَة الْجُمُعَة وَقَاه الله فتْنَة الْقَبْر
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثلِهِ وَزَاد فِيهِ وغذي وريح عَلَيْهِ من الْجنَّة أَي يرزقه تَعَالَى
فَأَما تَفْسِير الشَّهَادَة فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الله تبَارك وَتَعَالَى اسْمه لما خلق الْمَوْت فزعت الْمَلَائِكَة مِنْهُ وَعظم شَأْنه عِنْدهم فَقَالُوا من يقوم لهَذَا فَقَالَ تَعَالَى فِيمَا رُوِيَ عَنهُ إِن لي عبادا يتمنونه حبا للقائي يتجرعون مرارته ويهون ذَلِك عَلَيْهِم اشتياقا إِلَيّ وَيَرْفُضُونَ الْحَيَاة الدُّنْيَا طَالِبين لي فعجبت الْمَلَائِكَة من شَأْن هَؤُلَاءِ العبيد وحنت إِلَى رُؤْيَتهمْ قَالَ فعرضت تِلْكَ الْأَرْوَاح عَلَيْهِم يَوْمئِذٍ فَمن شهد ذَلِك الْعرض يَوْمئِذٍ أثبت اسْمه وَسمي شَهِيدا أَي شُهَدَاء الْعرض وَكَانَ من أهل هَذِه الصّفة فَإِذا خرج الرّوح مِنْهُ صَار إِلَى ذَلِك المعرض وَكَانَ من الْأَحْيَاء المرزوقين فَلَمَّا صَارَت تِلْكَ الْأَرْوَاح إِلَى الأجساد فِي الدُّنْيَا كَانَت(4/229)
قُلُوبهم حَيَّة بِاللَّه على الصّفة الَّتِي وَصفنَا بدءا فَمنهمْ الصديقون أَوْلِيَاء الله يتمنون الْمَوْت لحب الله قَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله حِين ادَّعَت الْيَهُود ولَايَته فَقَالَ {قل يَا أَيهَا الَّذين هادوا إِن زعمتم أَنكُمْ أَوْلِيَاء لله من دون النَّاس فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين} ثمَّ قَالَ {وَلَا يتمنونه أبدا بِمَا قدمت أَيْديهم}
ثمَّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَاف الَّذين ذكرهم فِي الحَدِيث هم فِي الْغَيْب فِي ذَلِك الْعرض قد اثبتت أَسمَاؤُهُم فِي الشُّهَدَاء لذَلِك الْمحل وَالْعرض فوفق الله لَهُم هَذِه الْأَحْوَال فَمن غرق فَأخذ المَاء بِنَفسِهِ كَانَت موتته موتَة وحية أَي سريعة بِلَا لبث فبذل نَفسه لما أيس من الْحَيَاة وَاخْتَارَ لِقَاء الله وَكَذَلِكَ صَاحب الْحَرِيق وَصَاحب الْهدم وَالنُّفَسَاء بِجمع إِذا نشب الْوَلَد فِي الْبَطن ايست من الْحَيَاة وآثرت لِقَاء الله وَكَذَلِكَ المطعون
وَسُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الطَّاعُون فَقَالَ وخز أعدائكم من الْجِنّ فَذَاك قَتِيل الْجِنّ يائس صَاحبه من الْحَيَاة فَكَذَلِك المبطون وَصَاحب ذَات الْجنب وَهُوَ صَاحب السل قد أيسا من الْحَيَاة لِأَن قُوَّة الْحَيَاة قد ذهبت من المبطون والمسلول وَقد أحست نفوسهما بِالْمَوْتِ وَكَذَلِكَ الْغَرِيب إِذا أشرف على الْمَوْت فَلم ير أَهله وَولده وَلَا أحبابه تمنى الْمَوْت وبذل نَفسه لِأَن هَؤُلَاءِ إِذا كَانُوا بالحضرة اشْتَدَّ على النَّفس فراقهم فأحبوا الْحَيَاة فَفِي هَذَا نُقْصَان وَلذَلِك تعوذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أعوذ بك من حب الْعَيْش عِنْد حَضْرَة الْمَوْت فَإِذا أحب أَن يعِيش فِي ذَلِك الْوَقْت الَّذِي دَعَاهُ الله إِلَيْهِ فَتَلَكَّأَ وَتردد فَذَاك عيب وَنقص فأصحاب الْفرش فِي هَذَا الْعَيْب لَا يتمنون الْمَوْت إِذا حضر لحب الْعَيْش(4/230)
وفتنة قُلُوبهم بالأهل وَالْولد وحطام الدُّنْيَا فَذَاك نقص وعيب
وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشُّهَدَاء أُمَنَاء الله قتلوا أَو مَاتُوا على فرشهم
عَن رَاشد بن سعد رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ كل قَتِيل شَهِيدا رب قَتِيل بَين الصفين الله أعلم بنيته
فَمَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ رَأس الشُّهَدَاء ثمَّ من بعده أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ كَذَلِك فَإِنَّهُم صَارُوا شُهَدَاء بِأَنَّهُم أُمَنَاء الله جعل الله أَرْوَاحهم وأجسادهم عَارِية فيقبضهم عِنْد نفاد آجالهم فَكَانُوا فِي أَيَّام الْحَيَاة يعدونها عَارِية وَكَانَت أَعينهم مَادَّة إِلَى الدعْوَة مَتى يدعونَ فيستجيبون بِلَا تلكؤ وَلَا تردد فَمن أحب الْعَيْش فِي الدُّنْيَا وَلم يكن لَهُ حب لِقَاء الله فحضره الْمَوْت تلكأ وَتردد فِي بذل الرّوح فَخرج من أَن يكون من أُمَنَاء الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ وضع فِيمَا بَين الْعباد لَو أَن رجلا أعطي شَيْئا عَارِية أَو أودع وَدِيعَة ثمَّ استردها صَاحبهَا فَتَلَكَّأَ هَذَا فِي ردهَا على مَالِكهَا فقد خَان وضيع الْأَمَانَة فَإِنَّمَا يُؤْخَذ مِنْهُ بعد ذَلِك قهرا
فأمناء الله هم الَّذين أَرْوَاحهم عِنْدهم عَارِية بأمانة الله فهم يتمنون الْمَوْت حبا للقاء الله تَعَالَى فَإِذا جَاءَهُم الْمَوْت تجرعوا مرارته حبا للقائه وَلم يتلكأوا فِي رد العواري فَلذَلِك صَارُوا أُمَنَاء الله وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هم الشُّهَدَاء لأَنهم كَانُوا يَوْمئِذٍ شهدُوا ذَلِك الْعرض وَالْيَوْم حِين خرجت مِنْهُم الْأَرْوَاح صَارَت إِلَى الْمحل فَشَهِدُوا الْقرْبَة فهم شُهُود عِنْد الله فِي الْقرْبَة أَحيَاء(4/231)
فَهَذَا يُحَقّق مَا قُلْنَا بدءا فقد صير فِي حَدِيثه الْقَتِيل وَالَّذين مَاتُوا على فرشهم بِمَنْزِلَة وَسَمَّاهُمْ شُهَدَاء يعلمك أَن الشَّهَادَة لَيست على الْقَتْل حدثت إِنَّمَا اسْم الشَّهَادَة لَزِمَهُم لما وَصفنَا والكرامة نالوها من أجل أَنهم رفضوا الْحَيَاة وآثروا لِقَاء الله وأرادوه فأرادهم وَكَذَلِكَ الَّذِي لَا يزَال على وضوء أَيَّام الدُّنْيَا لِأَن الله تبَارك وَتَعَالَى قَالَ {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا} أَي فعولًا للطهر {لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا}
فالأرض تحيا بذلك المَاء وتنبت والآدمي خلق من الأَرْض فَإِذا أذْنب مَاتَ قلبه عَن الله على قدر ذَنبه فَإِذا تَوَضَّأ كَانَ ذَلِك المَاء الَّذِي أنزلهُ طهُورا يطهرجوارحه ويزيل عَنهُ الْمعاصِي فَيَعُود الْقلب إِلَى الْحَيَاة الَّتِي كَانَت فَإِذا دَامَ وضوؤه وتتابع كَانَت حَيَاة قلبه دائمة فَإِذا دَامَت حَيَاة قلبه تمنى الْمَوْت وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيثه لأنس إِن حفظت وصيتي فَلَا يكون شَيْء أحب إِلَيْك من الْمَوْت
عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر عِنْده الشُّهَدَاء فَقَالَ إِن أَكثر شُهَدَاء أمتِي أَصْحَاب الْفرش وَرب قَتِيل بَين صفّين الله أعلم بنيته
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ من أحد إِلَّا وَله كرائم من مَاله يَأْبَى بهم الذّبْح فَإِن لله تَعَالَى خلقا من خلقه يَأْبَى بهم الذّبْح أَقوام يَجْعَل مَوْتهمْ على فرشهم وَيقسم لَهُم أجور الشُّهَدَاء(4/232)
عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لله أضنن بِدَم عَبده الْمُؤمن من أحدكُم بكريمة مَاله حَتَّى يقبضهُ على فرشه
فَهَذِهِ صفة عبد مُؤمن قد اطمأنت نَفسه إِلَى ربه وَلها عَن الدُّنْيَا وأحوال النَّفس وأناب قلبه إِلَى ربه وجاد بِنَفسِهِ على ربه يقبل أَحْكَامه وأقضيته على نَفسه قبُول مهتش مشتاق إِلَى لِقَاء محب لَهُ بِكُل قلبه فَكَمَا جاد بِنَفسِهِ على ربه ضن بِهِ ربه عَن أَحْوَال الْبلَاء وَلم يَدْفَعهُ إِلَى تِلْكَ الْأَحْوَال فَلذَلِك يَأْبَى بِهِ عَن الْقَتْل فِي سَبيله حَتَّى يقبضهُ على فرشه فَيقسم لَهُ أجر الشُّهَدَاء لِأَن الشَّهِيد إِنَّمَا بذل نَفسه سَاعَة من نَهَار حَتَّى قتل فَهَذَا بذل نَفسه فِي جَمِيع عمره فَالله يضن بدمه كَمَا يضن أَحَدنَا بنجيبته فَإِن النجيبة من كرائم مَاله فَلَا تسخو نَفسه أَن يذبحها فَكَذَلِك رَبنَا يضن بِهِ عَن الْبلَاء أَن يعرض نَفسه للبلاء وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث عَن حَوْشَب قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لله ضنائن
وَفِي رِوَايَة إِن لله عبادا يصونهم عَن الْأَمْرَاض والأسقام يحييهم فِي عَافِيَة ويميتهم فِي عَافِيَة فيدخلهم الْجنَّة فِي عَافِيَة قَالَ لَهُ قَائِل فَأَيْنَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد النَّاس بلَاء الْأَنْبِيَاء ثمَّ الصالحون قَالَ هَذَا إِذا ابْتَلَاهُم فَمن ابْتُلِيَ من الْأَنْبِيَاء فَهُوَ أَشد النَّاس بلَاء
أَلا ترى إِلَى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ دخلُوا عَلَيْهِ وَبِه حمى قَالَ أَبُو سعيد رَضِي الله عَنهُ فَمَا كَادَت يَدي تقار من شدَّة الْحر حِين وضعت يَدي عَلَيْهِ فَقلت لَهُ يَا رَسُول الله مَا أَشد حماك قَالَ إِنِّي أوعك كَمَا يوعك الرّجلَانِ مِنْكُم وَإِن أَشد النَّاس بلَاء الْأَنْبِيَاء(4/233)
فَهَذَا إِذا ابْتُلِيَ فَهُوَ أَشد النَّاس بلَاء وَالَّذِي قُلْنَا بَاب آخر إِنَّمَا ذَلِك فِي التَّتَابُع والتواتر فكثير من الْأَنْبِيَاء تَتَابَعَت عَلَيْهِم وتواترت حَتَّى قتلوا بأنواع الْقَتْل وَأما الْخَواص من الْأَنْبِيَاء فقد عوفوا مِنْهُم إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا ابْتُلِيَ ببلية من الْبلوى ثمَّ لم يزل معافا وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق ومُوسَى وَهَارُون وَمُحَمّد صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فقد عرضوا للبلاء ثمَّ رفع عَنْهُم وَلم يبتلهم فيشملهم الْبلَاء إِنَّمَا الْبلَاء لمثل أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام وَمثل يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام حَيْثُ قتل صبرا ولزكرياء عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ نشر بِالْمِنْشَارِ فِي الشّجر وَمثل جرجيس وأشباهه عَلَيْهِ السَّلَام
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن لله ضنائن من خلقه تغذوهم رَحمته محياهم فِي عَافِيَة ومماتهم إِذا تَوَفَّاهُم الله إِلَى جنته أُولَئِكَ الَّذين تمر عَلَيْهِم الْفِتَن كَمثل قطع اللَّيْل المظلم وهم مِنْهَا فِي عَافِيَة وَالله أعلم(4/234)
- الأَصْل الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ والمائتان
-
فِي أَن الْقلب الْحَقِيقِيّ فِي أثقال العظمة يتَحَمَّل بالمزاج
عَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَيْسَ من اللَّهْو إِلَّا ثَلَاثَة تَأْدِيب الرجل فرسه وملاعبته امْرَأَته ورميه بقوسه ونبله
وَفِي رِوَايَة عَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ أَيْضا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل لَهو الْمُؤمن بَاطِل إِلَّا ثَلَاثًا فانهن حق رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امْرَأَته
قَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله عَنهُ فاللهو مَا يلهي قلب الْمُؤمن عَن الله تَعَالَى وَهُوَ كُله مَذْمُوم إِلَّا فِي هَذِه الثَّلَاثَة الْأَنْوَاع لِأَن فِي هَذِه الثَّلَاثَة(4/235)
عونا على الدّين وقواما لَهُ يَرْمِي بقوسه لِئَلَّا تذْهب عَادَته للرمي وَلَا يتشنج أعضاؤه ومفاصله وكتفاه ويؤدب فرسه لِئَلَّا يجمح وَلَا يكون مستوليا على النزع مِنْهُ والفروسية لِئَلَّا يَنْقَطِع عَنهُ شجاعته وَيكون جريئا ذَا قلب فَإِذا ترك ذَلِك ضعف قلبه وَجبن وملاعبته أَهله ليسكن مَا بِهِ وَبهَا وَهَذَا كُله وَإِن كَانَ ملهيا فَهُوَ فِي الأَصْل حق وَإِنَّمَا رخص لِلْمُؤمنِ فِي التلهي بِهَذَا لِأَن قلبه فِي أثقال العظمة فَإِذا دَامَ عَلَيْهِ ضَاقَ بِهِ وَالْتمس تفرجا وتخفيفا فيلجأ إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي هِيَ فِي الأَصْل حق حَتَّى يكون مزاجا لِلْمُؤمنِ
أَلا يرى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أسرِي بِهِ فَانْتهى إِلَى السِّدْرَة وغشيها مَا غشيها قَالَ رَأَيْت نورا ثمَّ حَال دونه فرَاش من ذهب وأخذني كالثبات فَذَاك مزاج لَهُ ليتحمل رُؤْيَة ذَلِك النُّور كَأَنَّهُ لم يقدر على احْتِمَال ذَلِك النُّور حَتَّى مازجه بذلك الْفراش فأطاق احْتِمَاله
كَذَلِك الْمُؤمن الْبَالِغ إِذا تراكمت على قلبه أثقال العظمة التمس متنفسا ليقوى على احتمالها فصير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيثه هَذَا اللَّهْو الملهي لِقَلْبِهِ حَقًا وتخفيفا عَنهُ فَإِنَّمَا صَارَت هَذِه الْأَشْيَاء ملهية لِأَن الرجل إِذا رمى عَن قوسه توخى بِقَلْبِه تسديد السهْم وإصابته للهدف فَهُوَ يجْتَهد فِي علم ذَلِك وَوَضعه يَده حَيْثُ وضع فَفِي ذَلِك مشغلة تلهي قلبه وَلَا يَخْلُو من ذَلِك وَفِي إِصَابَته حَيْثُ وضع شِفَاء للنَّفس وَقُوَّة للقلب فَسُمي لهوا لِأَنَّهُ يلهيه وَذَلِكَ اللَّهْو حق وَكَذَلِكَ تأديبه الْفرس حَتَّى لَا يحرن وَلَا يجمح وَيفهم شَأْن الْعَنَان ويتعلم السّير والوثبان وَالْوُقُوف والاستدارة وَفِي ذَلِك مشغلة تلهيه وَذَلِكَ حق وَكَذَلِكَ ملاعبته امْرَأَته يُرِيد بذلك تسكينها وعفتها عَن الرِّجَال فَفِي ذَلِك مَا يهيج عَلَيْهِ من الشَّهْوَة ويلهيه
فَفِي هَذِه الْأَشْيَاء تفرج وخفة عَن أثقال العظمة على قلب الْمُؤمن فَيكون مزاجا وَالله أعلم بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب(4/236)
هَذَا آخر كتاب نَوَادِر الْأُصُول فِي أَحَادِيث الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْحَمْد لله على توفيق إِتْمَامه وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على نبيه وحبيبه مُحَمَّد صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله الطاهرين وَأَصْحَابه أَجْمَعِينَ تمّ(4/237)