- الأَصْل الأول
-
فِي بَيَان التحصين من لدغ الْعَقْرَب وَكلمَة الِاسْتِعَاذَة بالكلمات
حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد عَن مَالك بن أنس عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله مَا نمت البارحة قَالَ من أَي شَيْء قَالَ لدغتني عقرب فَقَالَ أما انك لَو قلت حِين أمسيت أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة كلهَا من شَرّ مَا خلق لم يَضرك شَيْء إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي رِوَايَة لم يَضرك شَيْء حَتَّى تصبح(1/59)
وَعَن خَوْلَة بنت حَكِيم السلمِيَّة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من نزل منزلا فَقَالَ أعوذ بِكَلِمَات الله التامات من شَرّ مَا خلق لم يضرّهُ شَيْء حَتَّى يرتحل من منزله ذَلِك
وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا فزع أحدكُم فِي النّوم فَلْيقل أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة من غَضَبه وعقابه وَمن شَرّ عباده وَمن همزات الشَّيَاطِين وَأَن يحْضرُون فَإِنَّهَا لن تضره فَكَانَ عبد الله بن عَمْرو يعلمهَا من بلغ من وَلَده وَمن لم يبلغ كتبهَا فِي صك ثمَّ علقها فِي عُنُقه(1/60)
وَعَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعوذ الْحسن وَالْحُسَيْن يَقُول أُعِيذكُمَا بِكَلِمَات الله التَّامَّة من كل شَيْطَان وَهَامة وَمن كل عين لَامة
وَيَقُول كَانَ أبي إِبْرَاهِيم يعوذ بِهن إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق عَلَيْهِمَا السَّلَام
قَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن بشير الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ الْمُؤَذّن كلمة الله التَّامَّة وكلمات الله التامات يؤديان إِلَى معنى وَاحِد فَمن قَالَ كلمة الله التَّامَّة فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْجُمْلَة وَمن قَالَ كَلِمَات الله التامات فَإِنَّمَا أَرَادَ الْكَلِمَة الْوَاحِدَة الَّتِي تَفَرَّقت فِي الْأُمُور فِي الْأَوْقَات فَصَارَت كَلِمَات ومرجعهن إِلَى كلمة وَاحِدَة فكلمته التَّامَّة هِيَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون}
وَقَالَ الله تَعَالَى {إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون}
وَإِنَّمَا قيل تَامَّة لِأَن أقل الْكَلَام عِنْد أهل اللُّغَة على ثَلَاثَة أحرف حرف يبتدأ بِهِ وحرف يحشى بِهِ الْكَلِمَة وحرف يسكت عَلَيْهِ فَإِذا كَانَ على حرفين فَهُوَ عِنْدهم مَنْقُوص وَإِنَّمَا نقصت لعِلَّة مثل قَوْله يَد وَدم وغد وفم هَذِه كلهَا منقوصات لِأَنَّهَا على حرفين وَكَذَلِكَ كن هِيَ من الْآدَمِيّين من المنقوصات لِأَنَّهَا على حرفين وَلِأَنَّهَا كلمة ملفوظة(1/61)
بالأدوات وَمن رَبنَا جلّ جَلَاله كلمة تَامَّة لِأَنَّهَا بغيرالأدوات ومنفي عَنهُ شبه المخلوقين وَقَالَ الله تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك}
ثمَّ وصفهَا فَقَالَ {صدقا وعدلا}
أَي قدسا واستواء ثمَّ قَالَ {لَا مبدل لكلماته} أَي لَيْسَ لأحد أَن يعجزه إِذا قَالَ لشَيْء كن وَإِنَّمَا قَالَ بكلماته لتفرق هَذِه الْكَلِمَة فِي الْأُمُور كلهَا فَلِكُل قَضِيَّة وَلكُل إِرَادَة من الْأُمُور من رَبنَا فِي كل أَمر كَلَام بقوله كن وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يحْكى عَن الله عز وَجل إِنَّمَا عطائي كَلَام وعذابي كَلَام
فَأَما قَوْله كن فالكاف من كينونته وَالنُّون من نوره وَهِي كلمة تَامَّة بهَا أحدث الْأَشْيَاء وَخلق الْخلق فَإِذا استعاذ العَبْد بِتِلْكَ الْكَلِمَة صَارَت لَهُ معَاذًا وَوقى شَرّ مَا استعاذ بهَا مِنْهُ لِأَن العَبْد الْمُؤمن لما عرف أَن لَا يكون شَيْء إِلَّا مَا جرى بِهِ الْقَضَاء وَالْقدر وَإِنَّمَا يمْضِي الْقَضَاء بقوله كن عظمت هَذِه الْكَلِمَة عِنْده فَصَارَت مُتَعَلق قلبه فَإِنَّمَا(1/62)
تَأْخُذهُ الرَّغْبَة فِي الْأَشْيَاء والرهبة من الْأَشْيَاء وَقَلبه نَازع إِلَى مَشِيئَته وفؤاده مراقب لإرادته وَأذنه مصيغة إِلَى كلمة كن وعينه شاخصة إِلَى تَدْبيره
فَإِذا قَالَ أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة من شَرّ مَا خلق وقِي شَرّ مَا خلق وَصَارَ فِي حصنه وارتتع فِي عياذه آمنا مطمئنا هَذَا لمن قَالَهَا بيقظة وعقل مَا يَقُول وَهَذَا القَوْل مِنْهُ تَحْقِيق الايمان لِأَنَّهُ آمن بِرَبّ لَا يملك أحد سواهُ شَيْئا وَلَا شريك لَهُ فِي شَيْء وَهَذَا لأهل الْيَقِين الَّذين إِذا قَالَ أحدهم هَذَا القَوْل اسْتَقر قلبه بعد القَوْل على مقَالَته واطمأنت نَفسه
فَأَما أهل الْغَفْلَة فَإِنَّهُم يعاذون على أقدارهم لحُرْمَة الْكَلِمَة وَهُوَ مثل مَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِذا قَالَ العَبْد حسبي الله سبع مَرَّات قَالَ الله تَعَالَى وَعِزَّتِي لأكفينه صَادِقا أَو كَاذِبًا
فَإِنَّمَا قَالَ صَادِقا أَو كَاذِبًا لِأَن السَّابِق المقرب وَهُوَ الموقن إِذا قَالَ حسبي الله صدقه بِفِعْلِهِ فَهُوَ صَادِق لِأَنَّهُ لَا يتَعَلَّق بعد ذَلِك قلبه بالأسباب وَذَلِكَ مثل قَول إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام حِين وضع فِي المنجنيق من الْجَبَل ليرمى بِهِ فِي النَّار وعري من الْكسْوَة وكتف بِالْوَثَاقِ فَقَالَ حسبي الله فعارضه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْهَوَاء امتحانا(1/63)
وابتلاء وَقَالَ هَل من حَاجَة يَا إِبْرَاهِيم وَهُوَ يهوى فِي الجو فَقَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أما إِلَيْك فَلَا وَقد بَكت السَّمَوَات وَالْمَلَائِكَة وخزان الْمَطَر عَلَيْهِم السَّلَام لما حل بِهِ وجأرت إِلَى الله تَعَالَى فَأمر الله تَعَالَى بنصرته من حِين اسْتَغَاثَ بِهِ عَبده فَلم يلْتَفت إِلَى أحد من خلقه وَلَا إِلَى جِبْرِيل مستغيثا حَتَّى تفرد الله تَعَالَى بنصرته فَقَالَ تَعَالَى {قُلْنَا يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا على إِبْرَاهِيم}
وَإِنَّمَا عَارضه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْهَوَاء بِمَا عَارضه ليبرز صدق مقَالَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله حسبي الله عَن مَكْنُون قلبه وليعلم الصادقون من بعده غَايَة الصدْق فِي المقالات فاتخذه خَلِيلًا ونوه باسمه فِي الْعَالمين وَهُوَ أول من يكسى يَوْم الْقِيَامَة لِأَنَّهُ عري فِي دَار الدِّينَا فِي ذَات الله تَعَالَى فبدىء بِهِ من بَين الْأَنْبِيَاء وَالرسل عَلَيْهِم السَّلَام فَهَكَذَا يكون قَول أهل الْيَقِين فِي حسبي الله والمخلط كذبه بِفِعْلِهِ حَيْثُ تعلق بالأسباب وبالمخلوقين حَتَّى صَارُوا فتْنَة عَلَيْهِ
فَقَوله حسبي الله قَول الْمُوَحِّدين قَول أهل الْإِيمَان لَا قَول الْمُحَقِّقين قَول أهل النزاهة وَالْيَقِين فَكَذَلِك قَوْله أعوذ بِكَلِمَة الله التَّامَّة المقرب عينه وَأذنه إِلَى تَدْبيره وقضائه وَقَوله كن والمخلط عينه وَأذنه إِلَى الْأَسْبَاب والحيل والحرز والحصون والوقايات فيعاذ على قدره لحُرْمَة قَوْله واعترافه بِأَنَّهَا كلمة إِيمَان فالاستعاذة بِاللَّه تعلق بِهِ مَحْضا والاستعاذة بكلمته تعلق بتدبيره لِأَنَّهُ كَذَا دبر أَن تكون الْأَشْيَاء بِالْكَلِمَةِ وَقَالَ فِي تَنْزِيله عز من قَائِل {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه}(1/64)
وَقَالَ الله تَعَالَى {وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين}
فهما يدلان على أَن مَا كَانَ من أَمر الْبَاطِن فالاستعاذة بِهِ وَمَا كَانَ من أَمر الظَّاهِر فالاستعاذة بكلمته لِأَن مَا هُوَ فِي الظَّاهِر هُوَ بقوله كن وَمَا فِي الْبَاطِن صنعه وَقَالَ {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس}
ثمَّ قَالَ {ملك النَّاس}
ثمَّ قَالَ {إِلَه النَّاس} أمره أَن يستعيذ بِثَلَاثَة من أَسْمَائِهِ {من شَرّ الوسواس} وَهُوَ بَاطِن
فَقَوله رب أَي مَالك ربني فلَان يربنِي فَهُوَ راب ثمَّ قَالُوا رب فحذفوا الْألف كَمَا قَالُوا بار ثمَّ قَالُوا بر فَقَوله رب يُؤَدِّي إِلَى الْملك وَملك يُؤَدِّي إِلَى الْملك وإله يُؤَدِّي إِلَى وَله الْقُلُوب فالوسواس آفَة على الْقلب أمره أَن يستعيذ بِمَالك وَملك وإله لِأَن الْمَالِك الَّذِي أحَاط بهم فملكهم وَالْملك الَّذِي نفذ أمره فيهم والاله الَّذِي أَوله الْقُلُوب إِلَى نَفسه(1/65)
من شر الوسواس الخناس وسوس عِنْد الْغَفْلَة وخنس عِنْد الذّكر فاشتق لَهُ اسمان من فَعَلَيهِ
ثمَّ بَين أَيْن مَوْضِعه من الْجَسَد فَقَالَ {الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس} والصدر ساحة الْقلب وَفِيه الْفِكر وَمِنْه تصدر الْأُمُور
ثمَّ بَين أَن الوسوسة جِنْسَانِ فَقَالَ من الْجنَّة وَالنَّاس وَسْوَسَة جنية وَهِي الشَّيْطَان ووسوسة إنسية وَهِي النَّفس
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ هما وسواسان وَإِنَّمَا قَالَ وسوس لِأَنَّهُ يزعج وَقَوله أز يؤز أَي أزعج يزعج وَقَالَ فِي تَنْزِيله {تؤزهم أزا} وَالْهَاء والهمزة وَالْوَاو اخوات تجزىء الْوَاحِدَة عَن صاحبتيها فَقَوله أز وهز ووز بِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن كل وَاحِدَة تسْتَعْمل فِي نوع والزاء وَالسِّين أختَان تجزىء إِحْدَاهمَا عَن الْأُخْرَى كَمَا قَالُوا صقر وزقر وسقر فَقَوله وز وَقَوله وس يوس بِمَعْنى وسوس وَقَوله وسوس فِي قالب الْعَرَبيَّة فع فع لِأَنَّهُ فِي الأَصْل وس ثمَّ كرر فَقيل وسوس لِأَن فعله على الْقلب مردد مُكَرر فَأمره أَن يستعيذ بالأسماء الثَّلَاثَة مِنْهُ(1/66)
ثمَّ قَالَ {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} وكل مَا انْفَلق شَيْء عَن شَيْء فَهُوَ فلق قَالَ أهل التَّفْسِير الفلق وَاد فِي جَهَنَّم إِذا فتح وانفلق هر أهل النَّار من شدَّة حره وَقَالَ بَعضهم الفلق الصُّبْح لِأَنَّهُ انْفَلق عَن اللَّيْل وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فالق الإصباح}
وَقَالَ الله تَعَالَى {فالق الْحبّ والنوى}
فالحبة تنفلق فتنبت والنوى كَذَلِك أَيْضا وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُم اخْتِلَاف لِأَن الْكَلِمَة تُؤدِّي إِلَى كل شَيْء انْفَلق واعظم فلق فِي الدُّنْيَا فلق قلب الْمُؤمن بِنور الله تَعَالَى فَقَالَ {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} وَهُوَ فلق الْقلب إِذا انْفَلق بنوره
وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ للقلب أذنان وعينان فَإِذا أَرَادَ الله تَعَالَى بِعَبْد خيرا فتح عَيْنَيْهِ اللَّتَيْنِ فِي قلبه
{من شَرّ مَا خلق} وَهُوَ ظلمَة الْكفْر {من شَرّ غَاسِق إِذا وَقب} والغسق الظلمَة وَهِي ظلمَة الْمعاصِي وَقَوله وَقب أَي دخل {وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد} وَهُوَ السحر يعْقد السَّاحر الَّذِي قد بَاعَ آخرته بدنياه فاعطى مَا تمنى وَاخْتَارَ وربنا عز وَجل وَاسع كريم طلب آدم التَّوْبَة وَالطَّاعَة فَأعْطِي وَطلب إِبْلِيس تضليل ولد(1/67)
آدم وغوايتهم وَأَن يعْطى سُلْطَان ذَلِك لَهُ فَأعْطِي وَطلب السَّاحر منى الدُّنْيَا وَأَن يعْطى كل شَيْء يتمناه برفض الْآخِرَة وَأَن لَا خلاق لَهُ فِيهَا فَأعْطِي فَهُوَ يعْقد خيطا أَو وترا على منيته وينفث فِيهِ من نَفسه الخبيثة فيصل ضَرَره الى من يتَمَنَّى ذَلِك عَلَيْهِ {وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله}
وَلما سحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى عجز عَن نِسَائِهِ وَأخذ بِقَلْبِه لبث فِي ذَلِك سِتَّة أشهر فِيمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر ثمَّ نزلت المعوذتان إِحْدَى عشرَة آيَة واستخرج الْوتر فِيهِ العقد من ذَلِك الْبِئْر فَكَانَ كلما قَرَأَ آيَة من المعوذتين انْحَلَّت عقدَة حَتَّى حل العقد كلهَا وبرىء {وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد} وَهُوَ الْعين والحاسد والحاصد بِمَعْنى فَهُوَ يحصده بِعَيْنِه أَي يقطعهُ من الأَصْل هَلَاكًا ودمارا وَهُوَ أَن يعجب بالشَّيْء فَلَا يذكر خالقه فَإِذا هُوَ قد حصده ودمره والحسد إرادتك الَّتِي تُرِيدُ بهَا إبِْطَال(1/68)
ذَلِك الشَّيْء فنوره فلق الظُّلُمَات وَهُوَ فِي دَعْوَة إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام أَنْت الَّذِي فلق الظُّلُمَات نوره فاذا أورد على الْقلب نوره فلق الظُّلُمَات فَجَمِيع مَا ذكر فِي التَّنْزِيل من الِاسْتِعَاذَة بِهِ وَجَدْنَاهُ يؤول الى الْبَاطِن من الْأُمُور وَمَا جَاءَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أَمرنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن أكررهن فِي السُّجُود
وَأَعُوذ بعفوك من عقابك فاستعاذ بِالْعَفو من الْعقَاب لِأَنَّهُ ضِدّه وَأَعُوذ برضاك من سخطك فالرضى ضد السخط
ثمَّ قَالَ وَأَعُوذ بك مِنْك فاستعاذ بِهِ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا ضد لَهُ وَهُوَ كَقَوْلِه لَا مفر مِنْك إِلَّا إِلَيْك وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَفرُّوا إِلَى الله} أَي فروا مِنْهُ إِلَيْهِ(1/69)
- الأَصْل الثَّانِي
-
فِي كلمة النَّجْوَى
عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يجلس الرجل إِلَى الرجلَيْن إِلَّا على إِذن مِنْهُمَا إِذا كَانَا يتناجيان
رُوِيَ عَن النَّضر فِيمَا يحْكى عَن أهل اللُّغَة أَن الْجَمَاعَة إِذا لم يكن فيهم(1/70)
غَرِيب فحديثهم نجوى وَإِن جهروا فِيمَا بَينهم وَإِذا كَانُوا ثَلَاثَة وَفِيهِمْ غَرِيب فَلَيْسَ حَدِيثهمْ بنجوى وَإِن أسروه قَالَ الله تَعَالَى فَلَمَّا استيئسوا مِنْهُ خلصوا نجيا
وَأهل النَّجْوَى إِذا اجْتَمعُوا نجيا فكأنهم فِي ستر أَو وَطن فَكَمَا يجب الاسْتِئْذَان فِي الدُّخُول عَلَيْهِم فِي أوطانهم فَكَذَلِك يجب الاسْتِئْذَان فِي الْجُلُوس إِلَيْهِم فَإِن ذَلِك أَذَى لَهُم وَقطع عَلَيْهِم وهتك لسترهم وَهَذَا كُله لعظم حُرْمَة الْمُؤمن وتجنب أَذَاهُ وَإِذا كَانَ وَحده فَفِيهِ سَعَة لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ سر يطلع عَلَيْهِ وَلَكِن يحِق على الْوَرع أَن يتحين الْوَقْت وَالْحَال وَأَن يتَجَنَّب التثقيل
قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ رَحمَه الله من أَمن الثّقل ثقل
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله عَن حَمَّاد من خَافَ أَن يكون ثقيلا فَلَيْسَ بثقيل
قَالَ مُغيرَة لقد نهى الله تَعَالَى عَن التثقيل فِي قَوْله الْكَرِيم {فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا وَلَا مستأنسين لحَدِيث}
إِلَى قَوْله وَالله لَا يستحي من الْحق
وَهَذِه الْآيَة نزلت فِي بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحسبها زَيْنَب رَضِي الله عَنْهَا تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهَا وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا فَلَمَّا أطْعمهُم أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَخْلُو بأَهْله فقعدوا بعد الطَّعَام(1/71)
يتحدثون فِي بَيته وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرّة يخرج وَمرَّة يدْخل وهم فِي الْبَيْت قعُود لَا يبرحون فَنزلت هَذِه الْآيَة
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ إِذا استثقل رجلا قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لنا وَله وَأَرِحْنَا مِنْهُ
وَقَالَ حَاتِم بن عبد الله الأشجي انْتَهَيْت مَعَ سُفْيَان الثَّوْريّ إِلَى أبي حنيفَة اليمامي رَحمَه الله وَإِذا هُوَ جَالس فِي تُرَاب فَدَنَوْنَا مِنْهُ وَسلمنَا عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ سُفْيَان رَحِمك الله تَأذن فنجلس إِلَيْك قَالَ لَا فرجعنا فَقَالَ سُفْيَان إِن الرجل فِي كل حالاته يحب أَن يجلس إِلَيْهِ(1/72)
- الأَصْل الثَّالِث
-
فِي تَأْثِير الْغَضَب فِي الْإِيمَان
عَن بهز بن حَكِيم بن مُعَاوِيَة بن حيدة الْقشيرِي عَن أَبِيه عَن جده رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ قَالَ قلت يَا رَسُول الله أَخْبرنِي بِوَصِيَّة قَصِيرَة فألزمها قَالَ لَا تغْضب يَا مُعَاوِيَة بن حيدة إِن الْغَضَب يفْسد الْإِيمَان كَمَا يفْسد الصَّبْر الْعَسَل
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/73)
إِن الْغَضَب ميسم من نَار جَهَنَّم يَضَعهُ الله تَعَالَى على نِيَاط أحدهم أَلا ترى أَنه إِذا غضب احْمَرَّتْ عينه واربد وَجهه وَانْتَفَخَتْ أوداجه
وَقَالَ فِي حَدِيث آخر إِن الْغَضَب جَمْرَة توقد فِي قلب ابْن آدم أَلا ترى إِلَى انتفاخ أوداجه وَحُمرَة عَيْنَيْهِ وَذَلِكَ أَن الشَّيْطَان ينْفخ فِي تِلْكَ الْجَمْرَة
فَشبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك بالعسل وَالصَّبْر فَكَمَا يفْسد الصَّبْر الْعَسَل فَكَذَلِك الْغَضَب يدنس الْإِيمَان ومرارته تذْهب حلاوته ونزاهته فالإيمان حُلْو نزه وَالْغَضَب مر دنس
وَرُوِيَ عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه سَأَلَهُ يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام عَن الْغَضَب مَا بدؤه قَالَ الْكبر أَلا ترى أَنَّك تغْضب على من هُوَ دُونك وَلَا تغْضب على من هُوَ فَوْقك بِمثلِهِ
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر قيل فَمَا الْكبر يَا رَسُول الله قَالَ أَن تسفه الْحق وَتغمضُ النَّاس أَي تحقرهم(1/74)
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يَقُول الله عز وَجل لي العظمة والكبرياء وَالْفَخْر وَالْقدر سري فَمن نَازَعَنِي فِي وَاحِدَة مِنْهُنَّ كببته فِي النَّار وَالْإِيمَان هُوَ خضوع العَبْد والقاؤه بِيَدِهِ لَهُ سلما وَالْكبر ضِدّه وَالْغَضَب مِنْهُ يَبْدُو وَينْزع الشَّيْطَان بنفثه ونفخه حَتَّى يتوقد ويهتاج فَلذَلِك قَالَ يفْسد الْإِيمَان
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِنِّي لأعْلم كلمة لَو قَالَهَا لذهب عَنهُ أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم وَذَلِكَ عِنْدَمَا رأى رجلا يتمرغ أَنفه من الْغَضَب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم
وَإِنَّمَا وضع هَذَا الميسم من النَّار فِي هَذَا الْموضع من الْآدَمِيّ لكَي يغْضب لله تَعَالَى فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يَنْبَغِي فَإِن فِي الْغَضَب قُوَّة للآدمي على أَمر الله تَعَالَى وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى أَن يعادي اعداءه ويحاربهم فبالغضب(1/75)
يتقوى حَتَّى يحاربهم ويغير الْمُنكر وَيُقِيم حُقُوق الله تَعَالَى وحدوده فللحق نفخة فِي تِلْكَ الْجَمْرَة وللشيطان نفخة فِي وقته فنفخة الشَّيْطَان لَهَا رجاسة تفْسد الْإِيمَان وطهارته وطيبه وَإِذا كَانَت نفخة الْحق فَإِنَّهُ يتقوى ويحمر وَجهه ويمتلىء من نور الْحق وَلَا يفْسد الْإِيمَان وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا غضب غضب لله تَعَالَى وَلَا يغْضب لنَفسِهِ وَلَا لدنياه وَكَانَ إِذا غضب رُؤِيَ ذَلِك الْعرق بَين عَيْنَيْهِ يرد من الْغَضَب وَيظْهر نتوؤه وانتفاخه وتحمر وجنتاه
وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِذا غضب اشتعلت قلنسوته نَارا(1/76)
- الأَصْل الرَّابِع
-
فِي أدب الانتعال
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا انْتقل أحدكُم فليبدأ بِالْيَمِينِ فَإِذا نَزغ فليبدأ بالشمال وَليكن بِالْيَمِينِ أَولهمَا يلبس وآخرهما ينْزع
الْيَمين مَحْبُوب الله ومختاره من الْأَشْيَاء فَأهل الْجنَّة عَن يَمِين الْعَرْش يَوْم الْقِيَامَة وَأهل السَّعَادَة يُعْطون كتبهمْ بأيمانهم وكفة الْحَسَنَات من الْمِيزَان عَن الْيَمين والكرام الكاتبون وَكَاتب الْحَسَنَات مِنْهُم عَن الْيَمين
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتوخى فِي كل فعل من مثل هَذَا الْيَمين(1/77)
توخيا لمختار الله تَعَالَى وَكَانَ إِذا شرب أعْطى الْأَيْمن فالأيمن جرعته حَتَّى أَنه شرب يَوْمًا وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ عَن يسَاره وَغُلَام إعرابي عَن يَمِينه فَقَالَ للغلام أتأذن لي فَأعْطِي الْأَشْيَاخ فَقَالَ مَا كنت لأوثر بِفَضْلِك على نَفسِي أحدا فَأعْطَاهُ الْغُلَام وَكَانَ يبْدَأ باليمنى إِذا دخل الْمَسْجِد ثمَّ إِذا خرج أَو نزع نَعله بَدَأَ باليسرى كي يكون الْيَمين آخر الْعَهْد بِمَسْجِد الله تَعَالَى وَبِمَا هُوَ خير للقدم ورفق لَهُ وَكَانَ يسْتَعْمل تَدْبِير الله تَعَالَى ويفتقده فِي كل شَيْء حَتَّى فِي ترجله وتنعله وَطهُوره
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما رمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَمْرَة وَنحر نُسكه ناول رَأسه الحلاق فَقَالَ ابدأ بالشق الْأَيْمن فحلقه فَأعْطَاهُ أَبَا طَلْحَة ثمَّ نَاوَلَهُ الْأَيْسَر فحلقه فَقَالَ اقسمه بَين النَّاس
وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِذا أكل أحدكُم فَليَأْكُل بِيَمِينِهِ وَإِذا شرب أحدكُم فليشرب بيمنه(1/78)
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يَمِين الله ملأى سحاء لَا يغيضها شَيْء بِاللَّيْلِ وَلَا بِالنَّهَارِ
وَعَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى خلق آدم فَمسح ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ خلقت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ ثمَّ مسح ظَهره بيساره فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ
وَعَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خلق الله الْخلق وَقضى الْقَضِيَّة فَأخذ مِيثَاق النَّبِيين وعرشه على المَاء فَأخذ أهل الْيَمين بِيَمِينِهِ وَأخذ أهل الشمَال بِالْأُخْرَى وكلتا يَدي الرَّحْمَن يَمِين ثمَّ قَالَ يَا أَصْحَاب الْيَمين قَالُوا لبيْك رَبنَا وَسَعْديك قَالَ أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى ثمَّ قَالَ أَصْحَاب الشمَال قَالُوا لبيْك(1/79)
وَسَعْديك قَالَ أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى فخلط بَعضهم بِبَعْض فَقَالَ قَائِل مِنْهُم رب لم خلطت بَيْننَا فَقَالَ لَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون فَقَالَ قَائِل فَمَا الْأَعْمَال قَالَ يعْمل كل قوم لمنزلتهم فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِذا نجتهد
وَسُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأَعْمَال أَهِي مؤتنف أم قد فرغ مِنْهَا قَالَ بل فرغ مِنْهَا
عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خلق الله تَعَالَى آدم ضرب بِيَدِهِ على شقّ آدم الْأَيْمن فَأخْرج ذُرِّيَّة كالذر ثمَّ قَالَ يَا آدم هَؤُلَاءِ ذريتك من أهل الْجنَّة ثمَّ ضرب بِيَدِهِ على شقّ آدم الْأَيْسَر فَأخْرج ذُرِّيَّة كالحمم ثمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ ذريتك من أهل النَّار
وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} وَجَاء فِي الْخَبَر أَن الْجنَّة يُؤْتى بهَا فتوضع عَن يَمِين الْعَرْش يَوْم الْقِيَامَة وَالنَّار عَن يسَار الْعَرْش وَيُؤْتى بالميزان فينصب بَين يَدي الله وكفة الْحَسَنَات عَن يَمِين الْعَرْش مُقَابل الْجنَّة وكفة السَّيِّئَات عَن يسَار الْعَرْش مُقَابل النَّار وَقَالَ تَعَالَى وَأَصْحَاب الْيَمين مَا أَصْحَاب الْيَمين وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال
حدث جَعْفَر بن كثير من آل عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْن ثَمَانِينَ سنة قَالَ حَدثنِي أبي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ(1/80)
إِذا صلى الْفَرِيضَة تياسر فصلى مَا بدا لَهُ وَأمر أَصْحَابه أَن يتياسروا وَلَا يتيامنوا
وَعَن ضبيعة بنت الْمِقْدَاد بن معدي كرب عَن أَبِيهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا صلى إِلَى عَمُود أَو خَشَبَة أَو شبه ذَلِك لم يَجعله نصب عَيْنَيْهِ وَلَكِن يَجعله على حَاجِبه الْأَيْسَر
قَالَ كَأَنَّهُ يدل بِهَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ من هذَيْن الْحَدِيثين على أَنه يتوخى الْيَمين فَإِن العَبْد إِذا أَقَامَ فَإِنَّمَا هُوَ قبالة الله عز وَجل
بذلك جَاءَت الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْيَمِين دلّ اسْمه على مَعْنَاهُ فالأمن وَالْإِيمَان وَالْيَمِين كُله مَوْجُود فِي هَذَا الِاسْم
وَوجه آخر أَنه كَانَ يتياسر بِصَلَاة التَّطَوُّع عَن مَوْضِعه الَّذِي أدّى فِيهِ الْفَرِيضَة كَأَنَّهُ لَا يجب أَن يقدم على الْفَرِيضَة شَيْئا وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَن أبي صَالح الْحَنَفِيّ قَالَ كَانَ عَليّ كرم الله وَجهه يسلم تسليمتي الصَّلَاة إِحْدَاهمَا اخْفِضْ من الْأُخْرَى قيل لأبي صَالح أَيهمَا أَخفض من الْأُخْرَى قَالَ الْيُسْرَى وَإِنَّمَا توخى ذَلِك أَن يكون فرقا بَين التسليمتين بالخفض وَرفع الصَّوْت ليؤدي حق كَاتب الْحَسَنَات بِرَفْع الصَّوْت وَكَذَلِكَ حق من عَن يَمِينه ليؤديه بِرَفْع ذَلِك الصَّوْت وبخفضه عَن الْيُسْرَى ليتبين فضل الْيُمْنَى عَن الْيُسْرَى(1/81)
- الأَصْل الْخَامِس
-
فِي النَّهْي عَن القزع
عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن القزع والقزع أَن يحلق وسط رَأس الصَّبِي وَيتْرك مَا حوله وَكَانَ هَذَا فعل القسين وهم ضرب من النَّصَارَى وَفِي الْقُرْآن {ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} والقسيس فِي النَّصَارَى كالصديق فِي الْإِسْلَام وهومن قس أَي قصّ أثر الرَّسُول الَّذِي دَعَاهُ على لِسَانه
قَالَ سلمَان رَضِي الله عَنهُ قَرَأت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} فأقرأني ذَلِك بِأَن مِنْهُم صديقين وَرُهْبَانًا(1/82)
وَأما حلق أوساط الرؤوس فَذَلِك عَلامَة لضرب مِنْهُم أحدثوه فِيمَا بَينهم
وَلما بعث أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ الْجنُود إِلَى الشَّام قَالَ إِنَّكُم سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا حبسوا أنفسهم فِي الصوامع فدعوهم وَمَا حبسوا أنفسهم لله تَعَالَى وستجدون آخَرين اتخذ الشَّيْطَان فِي أوساط رؤوسهم أفحاصا فَإِذا أوجدتم أُولَئِكَ فاضربوا أَعْنَاقهم فالذنن تركُوا الدُّنْيَا وحبسوا أنفسهم فِي الصوامع واعتزلوا أَمر بترك التَّعَرُّض لَهُم وَلم يطالبوا بجزية لأَنهم تركُوا فتركوا لأَنهم كَانُوا صَادِقين فِي سبيلهم وَإِن كَانُوا على ضَلَالَة وَالَّذين خَرجُوا من الصوامع فَلم يصبروا على الْعُزْلَة وفحصوا عَن أواسط رؤوسهم فقد أخبر أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَن الشَّيْطَان دلهم على ذَلِك عَلامَة لأَنْفُسِهِمْ وتشهيرا وإظهارا لما هم عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يدل على أَن ذَلِك الصِّنْف مِنْهُم بِمَنْزِلَة من تزهد فِي هَذَا الْعَصْر وَهُوَ غير صَادِق فِي ذَلِك يُرِيد بترك الدُّنْيَا وَقصد بِلبْس الصُّوف والخلقان وحف الشَّارِب وتشمير الثِّيَاب والعمة المطوقة تَحت الحنك وَالِاسْتِقْصَاء فِي الْكحل إِلَى اللحاظ المراياة فَهَذِهِ عَلَامَات الطَّبَقَة الكاذبة المتزهدة المتأكلة حطام الدُّنْيَا بِمَا أظهرُوا من زيهم وشكلهم وتماوتهم وخشوع نفاقهم فَكَذَلِك كَانَ أُولَئِكَ غير صَادِقين فِي عزلتهم فِي الصوامع فَلم يصبروا عَلَيْهَا فَخَرجُوا وَقد حَلقُوا أوساط رؤوسهم ترائيا وتشهيرا لأمرهم فَأمر أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ بِضَرْب أَعْنَاقهم لأَنهم مَعَ كفرهم لغيرالله عمِلُوا فِي دينهم وَالَّذين تركُوا وحبسوا أنفسهم تركُوا وَمَا حبسوا(1/83)
لأَنْفُسِهِمْ لأَنهم صَادِقُونَ فِي سبيلهم قَالَ الله تَعَالَى ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله ثمَّ ذمهم فَقَالَ {فَمَا رعوها حق رعايتها}
فَإِنَّمَا نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَأْن الصَّبِي أَن يحلق وسط رَأسه للتشبه بهؤلاء الَّذين وصفناهم وَأما قصَّة هَؤُلَاءِ الَّذين ابتدعوا الرهبانية فقد روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله عز وَجل {ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم}
قَالَ كَانَت مُلُوك بعد عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام بدلُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَقَالَ نَاس لملوكهم مَا نجد شتما أَشد مِمَّا يشتموننا بِهِ إِنَّهُم يقرأون وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ {فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} مَعَ مَا يعيبوننا بِهِ من أَعمالنَا فِي قراءتهم فادعهم فليقرأوا مَا نَقْرَأ وليؤمنوا بِمَا آمنا بِهِ فَدَعَاهُمْ فَجَمعهُمْ فَعرض عَلَيْهِم الْقَتْل وَأَن يتْركُوا قِرَاءَة التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إِلَّا مَا بدلُوا مِنْهَا فَقَالُوا وَمَا(1/84)
تَصْنَعُونَ بقتلنا دَعونَا وَابْنُوا لنا أساطينا ادفعونا فِيهَا واتركوا لنا شَيْئا يدلى فِيهِ طعامنا وَلَا نؤذيكم وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى مِنْهُم دَعونَا نهيم فِي الأَرْض ونسيح وَنَأْكُل مِمَّا تَأْكُل مِنْهُ الْوَحْش وَنَشْرَب مِمَّا تشرب مِنْهُ الْوَحْش فَإِن قدرتم علينا فِي أَرْضكُم فاقتلونا
وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى مِنْهُم ابْنُوا لنا ديورا فِي الفيافي فنحتفر الْآبَار ونحترث الْبُقُول وَلَا نؤذيكم وَلَا نمر بكم وَلَيْسَ أحد من الْقَبَائِل إِلَّا لَهُ حميم فيهم فَفَعَلُوا ذَلِك فيهم وَقَالَ الْآخرُونَ مِمَّن تعبد من أهل الشّرك نتعبد كَمَا تعبد فلَان ونتخذ ديورا كَمَا اتخذ فلَان ونسيح كَمَا ساح فلَان وهم فِي شركهم لَا علم لَهُم بِإِيمَان الَّذين اقتدوا بهم وَقد فني من فني مِنْهُم فَلَمَّا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يبْق مِنْهُم إِلَّا قَلِيل انحط صَاحب الصومعة من صومعته وَصَاحب الدَّيْر من ديره وَصَاحب السياحة من سياحته فآمنوا بِهِ وَصَدقُوهُ
قَالَ الله تَعَالَى {فآتينا الَّذين آمنُوا مِنْهُم أجرهم وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ} وَقَالَ يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّفقُوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته أَي أَجْرَيْنِ بايمانهم بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وبالتوراة وَالْإِنْجِيل وَإِيمَانهمْ بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَيجْعَل لكم نورا تمشون بِهِ} وَقَالَ لِئَلَّا يعلم أهل الْكتاب أَلا يقدرُونَ على شَيْء من فضل الله وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء(1/85)
قَالَ أَبُو عبد الله فعلى هَذَا الْمِثَال عاملت متزهدة زَمَاننَا سَمِعت أَنه مضى فِي السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ قوم اجتزوا بالدون من الْحَال فلبسوا الصُّوف والخلقان وأكلوا النخالة وامتنعوا من الشَّهَوَات وشمروا الثِّيَاب وامتنعوا من المخالطة صدقا وتورعا واحتياطا لدينهم كل ذَلِك خوفًا من الله تَعَالَى أَن يقدموا عَلَيْهِ متدنسين بحطام الدُّنْيَا مفتونين فِيهَا وَإِنَّمَا فعل الْقَوْم ذَلِك لضعف يقينهم بِمَنْزِلَة من امْتنع من دُخُول الْبَحْر سباحة مَخَافَة الْغَرق لعَجزه عَن السباحة فَلم يكْتب الله تَعَالَى هَذَا عَلَيْهِم بل احل لَهُم الطَّيِّبَات والزينة ووسع عَلَيْهِم فابتدعوا تَركهَا رهبة من الله تَعَالَى وَكَانُوا فِيهَا صَادِقين فَلم يعابوا وَلم يذموا لأَنهم رعوا مَا ابتدعوا حَتَّى خَرجُوا من الدُّنْيَا مَعَ صدق مَا ابتدعوا ابْتِغَاء رضوَان الله تَعَالَى فخلف من بعدهمْ خلف اتَّبَعُوهُمْ فِيمَا ابتدعوه وهم غير صَادِقين فِيهَا فَأَقْبَلُوا على لبس الصُّوف والخلقان وَأكل النخالة وَالْخبْز المتكرج يُرِيدُونَ بذلك إِظْهَار الزّهْد وَقُلُوبهمْ مشحونة بشهوات الدُّنْيَا تَأْكُل دنياهم بدينهم فَمَا رعوها حق رعايتها كَمَا فعل أَصْحَاب الصوامع والديور وَاتبعُوا الْقَوْم فِي فعلهم وأس أَمرهم على ضَلَالَة
عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا عبد الله بن مَسْعُود قلت لبيْك يَا رَسُول الله ثَلَاث مَرَّات قَالَ هَل تَدْرِي أَي عرى الْإِيمَان أوثق قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ فَإِن أوثق عرى الْإِيمَان الْولَايَة فِي الله وَالْحب فِيهِ والبغض فِيهِ يَا عبد الله ابْن مَسْعُود قلت لبيْك يَا رَسُول الله ثَلَاث مَرَّات قَالَ هَل تَدْرِي أَي النَّاس أفضل قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ فَإِن أفضل النَّاس أفضلهم عملا إِذا فقهوا فِي دينهم يَا عبد الله بن مَسْعُود قلت لبيْك يَا رَسُول الله ثَلَاث مَرَّات قَالَ هَل تَدْرِي أَي النَّاس أعلم قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ فَإِن أعلم النَّاس أبصرهم بِالْحَقِّ إِذا اخْتلف النَّاس وَإِن كَانَ مقصرا فِي الْعَمَل وَإِن كَانَ يزحف على أسته وَاخْتلف من كَانَ قبلنَا على(1/86)
ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَة فرقة نجا مِنْهُم ثَلَاث وَهلك سائرها فرقة آذت الْمُلُوك وقاتلتهم على دين الله وَدين عِيسَى بن مَرْيَم حَتَّى قتلوا وَفرْقَة مِنْهُم لم يكن لَهُم بموازاة الْمُلُوك طَاقَة فأقاموا بَين ظهراني قَومهمْ يَدعُونَهُمْ إِلَى دين الله وَدين عِيسَى بن مَرْيَم فَأَخَذتهم الْمُلُوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وَفرْقَة لم يكن لَهُم طَاقَة بموازاة الْمُلُوك وَلَا أَن يقيموا بَين ظهراني قَومهمْ يَدعُونَهُمْ إِلَى دين الله وَدين عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام فساحوا فِي الْجبَال وتزهدوا فِيهَا فهم الَّذين قَالَ الله تَعَالَى ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله فَمَا رعوها حق رعايتها فآتينا الَّذين آمنُوا مِنْهُم أجرهم وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ فالمؤمنون الَّذين آمنُوا بِي وصدقوني والفاسقون الَّذين كَذَّبُونِي وجحدوني
فَكَأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخبر فِي هَذَا الحَدِيث أَن الَّذين ساحوا وترهبوا هم الْفرْقَة الثَّالِثَة الَّتِي قد نجت وان الَّذين أخبر أَنهم مَا رعوها حق رعايتها قوم جَاءُوا من بعدهمْ يقتدون بهم فِي ذَلِك وَلَيْسوا على صدق من أَمرهم أخذُوا بِظَاهِر أَمرهم وفعلهم فساحوا ولزموا الديور والصوامع وَتركُوا سَبِيل أَصْحَابهم الَّذين مضوا على ذَلِك(1/87)
- الأَصْل الثَّالِث عشر
-
فِي الْعين المؤمنة إِذا رَأَتْ مُنْكرا
عَن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَنْبَغِي لعين مُؤمنَة ترى أَن يعْصى الله تَعَالَى فَلَا تنكر عَلَيْهِ
فالإيمان قد اشْتَمَل على الْجَوَارِح السَّبع اللائي أَخذ عَلَيْهِنَّ الْعَهْد والميثاق وائتمن العَبْد عَلَيْهِنَّ ووكل برعايتهن ومستقره فِي الْقلب والشهوة فِي النَّفس وسلطانها فِي الصَّدْر ثمَّ يتَأَدَّى الى هَذِه الْجَوَارِح السَّبع فَمن صدق الْإِيمَان أَن يكون سُلْطَان كل حارجة منطفئا بِمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من سُلْطَان الْإِيمَان فَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد ملك نَفسه فَلَا يسْتَعْمل شَهْوَة بجارحة من الْجَوَارِح السَّبع إِلَّا فِيمَا أذن الله لَهُ فِيهِ وَإِذا رأى غَيره يستعملها فِيمَا لم يَأْذَن بِهِ الله أنكرهُ وَالْإِنْكَار على ثَلَاثَة منَازِل فمنكر بِقَلْبِه وَلسَانه وَيَده ومنكر بِقَلْبِه وَلسَانه ومنكر بِقَلْبِه
وَرُوِيَ ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْجِهَاد ثَلَاثَة جِهَاد بِالْيَدِ وَاللِّسَان وَالْقلب وَجِهَاد بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان وَجِهَاد بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ(1/88)
يسْتَوْجب بذلك القَوْل الْمَغْفِرَة وَلِهَذَا مَا رُوِيَ فِي حَدِيث آخر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يَقُولهَا عبد عِنْد الْمَوْت إِلَّا هدمت ذنُوبه قيل فَكيف يَا رَسُول الله لمن قَالَهَا فِي الصِّحَّة قَالَ هِيَ أهدم وأهدم
وَإِنَّمَا هدمت ذنُوبه لِأَنَّهُ قَالَهَا وَقد مَاتَت مِنْهُ شهواته وَنَدم على مَا فرط مِنْهُ ندما صَحِيحا فَهُوَ تائب صَادِق والتائب الصَّادِق على مَوْعُود الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله أَن {يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات} وَيكفر عَنهُ ويدخله الْجنَّة قيل فَكيف من قَالَهَا فِي الصِّحَّة فَإِنَّمَا يَقُولهَا فِي الصِّحَّة على تِلْكَ الصّفة الَّتِي هِيَ عِنْد مَوته بعد رياضة نَفسه وَمَوْت شهواته وحرصه ورغبته وَبعد زهادته فِيهَا وصفائه عَن التَّخْلِيط فَهِيَ أهدم وأهدم فَأَما المخلط عبد نهماته وشهواته عبد دُنْيَاهُ عبد درهمه وديناره فَلَا نعلم أَن قَوْله هَذَا يهدم ذنُوبه حَتَّى يصير مغفورا لَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَة لِأَنَّهُ لَا ترجع هَذِه الْكَلِمَة مِنْهُ إِلَى قلب موقن كَمَا اشْترط الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيثه بل ترجع هَذِه الْكَلِمَة مِنْهُ إِلَى قلب مفتون بدنياه مأسور بشهوات نَفسه سَكرَان عَن الْآخِرَة حيران عَن الله تَعَالَى فقلبه ميال الى الْهوى وَالْقلب الموقن الَّذِي وَصفه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْقلب الَّذِي اسْتَقر لرَبه وَاطْمَأَنَّ بِحكمِهِ وقنع بقسمه وانقاد لأَمره وشخصت عَيناهُ إِلَى رَحمته قد أيس من كل شَيْء إِلَّا من رَحمته فَهُوَ الَّذِي إِذا قَالَهَا هدمت ذنُوبه لِأَنَّهُ صَادِق فِي قَوْله وَإِنَّمَا سمي الْيَقِين يَقِينا لاستقراره(1/89)
فِي الْقلب وَهُوَ النُّور يُقَال فِي اللُّغَة يقن المَاء فِي الحفرة أَي اسْتَقر فَإِذا اسْتَقر النُّور دَامَ وَإِذا دَامَ صَارَت النَّفس ذَات بَصِيرَة فاطمأنت فتخلص الْقلب من اشْتِغَاله ودوائره
وَإِنَّمَا اسْتَقر الْيَقِين فِي الْقلب لِأَن العَبْد جَاهد نَفسه فِي الله حق جهاده على الصدْق واليقظة من خدعها والتحرز من آفاتها حَتَّى بلغ بهَا غَايَة الرياضة وَانْقطع عَاجِزا فاستغاث بِاللَّه تَعَالَى صَارِخًا مُضْطَرّا فَأَجَابَهُ فَإِنَّهُ يُجيب الْمُضْطَر ويكشف السوء ويجعله من خلفاء الأَرْض كَذَلِك وعد فِي تَنْزِيله فقذف النُّور فِي قلبه ففلق تِلْكَ الظُّلُمَات الَّتِي ركدت فِي صَدره على قلبه فانكشف الغطاء وَصَارَ أَمر الملكوت لَهُ مُعَاينَة بِقَلْبِه وَهُوَ قَول حَارِثَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ كَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد نور الله عز وَجل الْإِيمَان فِي قلبه وَهَذِه كلمة جَارِيَة فِيمَا جَاءَ فِي الْخَبَر من دَعْوَة إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام علم ذَلِك فِي زَمَانه وَأَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطى ذَلِك فِي زَمَانه فَكَانَ يَدْعُو بِهن وَهِي قَوْله يَا نور كل شَيْء وهداه أَنْت الَّذِي فلق الظُّلُمَات نوره
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيى وَيُمِيت وَهُوَ على كل شَيْء قدير مخلصا بهَا روحه مُصدقا بهَا لِسَانه وَقَلبه فتقت لَهُ السَّمَاء فتقا حَتَّى ينظر الرب إِلَى قَائِلهَا من أهل الدُّنْيَا وَحقّ لعبد إِذا نظر الله اليه أَن يُعْطِيهِ سؤله
فالروح يخلص من شهوات النَّفس وأسرها وَكَذَلِكَ الْقلب فَإِذا نطق اللِّسَان بِالْكَلِمَةِ لم تنازعه النَّفس وَلَا الْقلب وَلَا الرّوح فَكَانَ ذَلِك صدقا
عَن زيد بن الأرقم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ لَا إِلَه(1/90)
إِلَّا الله مخلصا دخل الْجنَّة قيل يَا رَسُول الله وَمَا إخلاصها قَالَ أَن يحجره عَن الْمَحَارِم وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ يَا معَاذ أخْلص يَكْفِيك الْقَلِيل من الْعَمَل
وَعَن زيد بن أَرقم أَيْضا رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله عهد إِلَيّ أَن لَا يأتيني أحد من أمتِي بِلَا إِلَه إِلَّا الله لَا يخلط بهَا شَيْئا إِلَّا وَجَبت لَهُ الْجنَّة قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا الَّذِي يخلط بهَا قَالَ حرصا على الدُّنْيَا وجمعا لَهَا ومنعا لَهَا يَقُول بقول الْأَنْبِيَاء وَيعْمل عمل الجبايرة
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يذكر عَن ربه عز وَجل ان الْمُؤمن مني بِعرْض كل خير اني أنزع نَفسه من بَين جَنْبَيْهِ وَهُوَ يحمدني وَالْعَبْد إِنَّمَا يحمد الله وَهُوَ يقبض أعز شَيْء عَلَيْهِ بِمَوْت شهواته وَلِهَذَا إِذا رد إِلَى أرذل الْعُمر وتبرم بِالْحَيَاةِ وَإِذا انْقَطَعت علايقه من الدُّنْيَا وتخلص الْقلب من آفَات النَّفس فَنَطَقَ بِالْكَلِمَةِ الْعَظِيمَة استنار بهَا قلبه واطمأنت بهَا نَفسه وأخلص بهَا روحه فاستوجب الْمَغْفِرَة وَلِهَذَا كَانَ السّلف رَحِمهم الله يستحبون أَن يلقنوا المحتضر هَذِه الْكَلِمَة ويتعاهدونه بهَا وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقنوا مَوْتَاكُم شَهَادَة أَن لَا إِلَه إلاالله(1/91)
فَهَذَا عبد ركبته أهوال الْآخِرَة فرضيت نَفسه بهَا عِنْد الْمَوْت فَنَطَقَ بهَا فغفر لَهُ وَمن رَاض نَفسه أَيَّام حَيَاته فتح لَهُ إِلَى الْغَيْب فركبته أهوال سُلْطَان الله الْكَرِيم وعظيم جَلَاله فَنَطَقَ بهَا عَن مثل ذَلِك الْقلب فَهُوَ للمغفرة أقمن وأخلق(1/92)
- الأَصْل السَّابِع
-
فِي تَرْجِيح الرَّجَاء على الْقنُوط
عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفَاجِر الراجي لرحمة الله تَعَالَى أقرب مِنْهَا من العابد
المقنط لجهله بِاللَّه بعد من رَحْمَة الله وَإِنَّمَا رَجَاء العَبْد بِاللَّه على قدر مَعْرفَته بِاللَّه وَعلمه بجوده وَكَرمه والقنوط من الْجَهْل أَلا يرى إِلَى قَوْله تَعَالَى وَمن يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضالون
والمقنط إِنَّمَا يقنط غَيره لقنوطه فَهُوَ ضال عَن ربه وَمَا تغني الْعِبَادَة مَعَ الضَّلَالَة وَقَالَ تَعَالَى إِنَّه لَا ييئس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ
واليأس من روح الله فِي الدُّنْيَا عِنْد النوائب والكربات من سوء الظَّن(1/93)
بِاللَّه تَعَالَى وَمن سَاءَ ظَنّه بِاللَّه انْقَطع عَن الله تَعَالَى وَتعلق بخلقه واستعاذ بالحيل وَلَا يلجأ إِلَى ربه وَكَذَلِكَ القانط من رَحمته قلبه مُتَعَلق بالجهد من الْأَعْمَال طَالبا للنجاة بهَا وَإِذا فكر فِي ذنُوبه ألْقى بيدَيْهِ نَفسه الى التَّهْلُكَة ورفض الْعَمَل
وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله أَنه سُئِلَ عَن الْقنُوط فَقَالَ ترك فَرَائض الله فِي السِّرّ مَعْنَاهُ إِذا تراكمت عَلَيْهِ الذُّنُوب أيس من نَفسه فرفض الْكل وَقَالَ قد اسْتَوْجَبت النَّار وَقد كَانَ وَقع عِنْدِي بعض من رزقة الله الْإِنَابَة فَجعل يَصُوم فَقلت لَهُ مَا هَذَا قَالَ صَوْم شهر رَمَضَان قلت أَو لم تكن تصومه قَالَ لَا قلت لم قَالَ كَانَ أَصْحَابِي لَا يصومونه قلت وهم فِي الكورة مَعنا قَالَ نعم قلت وَمَا حملهمْ على ذَلِك قَالَ كَانُوا يَقُولُونَ عَملنَا هَذِه الْأَعْمَال من سفك الدِّمَاء وَأخذ الْأَمْوَال وَسَائِر الْمعاصِي فَمَا يُغني عَنَّا الصَّوْم وَالصَّلَاة وَكَانُوا لَا يَصُومُونَ رَمَضَان وَلَا يصلونَ المكتوبات إِلَّا على أعين النَّاس يَقُولُونَ قد استوجبنا النَّار فَقلت هَؤُلَاءِ قوم أدركهم سخط الله فقنطوا من رَحمته
عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ خرج من عِنْدِي خليلي جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام آنِفا فَقَالَ لي يَا مُحَمَّد وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ إِن لله تَعَالَى لعبدا من عباده عبد الله خَمْسمِائَة سنة على رَأس جبل فِي الْبَحْر عرضه وَطوله ثَلَاثُونَ ذِرَاعا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعا وَالْبَحْر مُحِيط بِهِ أَرْبَعَة آلَاف فَرسَخ من كل نَاحيَة وَأخرج الله تَعَالَى لَهُ عينا بِعرْض الإصبع تبض بِمَاء عذب فيستنقع(1/94)
فِي أَسْفَل ذَلِك الْجَبَل وشجرة رمانة تخرج كل لَيْلَة رمانة فتغذيه يَوْمًا فَإِذا أَمْسَى نزل فَأصَاب من الْوضُوء وَأخذ تِلْكَ الرمانة وأكلها ثمَّ قَامَ لصلاته فَسَالَ ربه عز وَجل عِنْد وَقت الْأَجَل أَن يقبضهُ سَاجِدا وَأَن لَا يَجْعَل للْأَرْض وَلَا شَيْء لشَيْء عَلَيْهِ يُفْسِدهُ عَلَيْهِ سَبِيلا حَتَّى يَبْعَثهُ سَاجِدا فَفعل ذَلِك فَنحْن نمر بِهِ إِذا هبطنا وَإِذا عرجنا ونجد فِي الْعلم أَنه يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة فَيُوقف بَين يَدي الله تَعَالَى فَيَقُول الرب عز وَجل أدخلُوا عَبدِي الْجنَّة برحمتي فَيَقُول بل بعملي يَا رب فَيَقُول أدخلُوا عَبدِي الْجنَّة برحمتي فَيَقُول بل بعملي يَا رب فَيَقُول للْمَلَائكَة قايسو عمل عَبدِي بنعمي عَلَيْهِ وبعمله فتوجد نعْمَة الْبَصَر قد أحاطت بِعبَادة خَمْسمِائَة سنة وَبقيت نعم الْجَسَد فضلا عَلَيْهِ فَيَقُول أدخلُوا عَبدِي النَّار فينادي يَا رب بِرَحْمَتك أدخلني الْجنَّة فَيَقُول ردُّوهُ فَيُوقف بَين يَدَيْهِ فَيَقُول يَا عَبدِي من خلقك وَلم تَكُ شَيْئا فَيَقُول أَنْت يَا رب فَيَقُول أَفَكَانَ ذَلِك من قبلك أم برحمتي فَيَقُول بل بِرَحْمَتك فَيَقُول من قواك لعبادتي خَمْسمِائَة سنة فَيَقُول أَنْت يَا رب فَيَقُول من أنزلك فِي جبل وسط الْبَحْر وَأخرج لَك المَاء العذب من المَاء المالح وَأخرج لَك كل لَيْلَة رمانة وإنمات تخرج الشَّجَرَة فِي السّنة مرّة وَسَأَلتنِي أَن أقبضك سَاجِدا فَفعلت ذَلِك بك فَيَقُول أَنْت يَا رب فَيَقُول فَذَلِك رَحْمَتي وبرحمتي أدْخلك الْجنَّة أدخلُوا عَبدِي الْجنَّة برحمتي فَنعم العَبْد كنت يَا عَبدِي فَأدْخلهُ الله الْجنَّة قَالَ جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام إنماالأشياء برحمة الله تَعَالَى يَا مُحَمَّد
عَن زيد بن أسلم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه لَيْسَ أحد مِنْكُم ينجيه عمله قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمته(1/95)
وَهَذَا الَّذِي سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ وَلَا أَنْت كَانَ أَيْضا فِي عمى من هَذَا الْأَمر فَإِن الله تَعَالَى من عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ وَشرح الصَّدْر وكل ذَلِك رَحْمَة مِنْهُ قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا كنت ترجو أَن يلقى إِلَيْك الْكتاب إِلَّا رَحْمَة من رَبك}(1/96)
- الأَصْل الثَّامِن
-
فِي بَيَان أَن التَّعَلُّق بالأسباب مَعَ التَّوْحِيد لَا يضر
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أشْفق من الْحَاجة أَن ينساها جعل فِي يَده خيطا ليذكرها أَو يذكرهُ
الذّكر وَالنِّسْيَان من الله تَعَالَى إِذا شَاءَ ذكر وَإِذا شَاءَ أنسى وربط الْخَيط سَبَب من الْأَسْبَاب لِأَنَّهُ نصب الْعين فَإِذا رَآهُ ذكر مَا نسي فَهَذَا سَبَب مَوْضُوع دبره رب الْعَالمين لِعِبَادِهِ كَسَائِر الْأَسْبَاب تحرز الْأَشْيَاء بالأبواب والأقفال والحراس ويستشفى من الأسقام بالأدوية وتقبض الأرزاق والأقوات بِالطَّلَبِ وكل أَمر بحيلة وَسبب وَالْأَرْض تخرج نباتها بِالْمَاءِ وَهَذَا تَدْبيره فِي عباده وَالْخَيْط وَالذكر والشفاء وإيصال الأرزاق كل ذَلِك(1/97)
بِيَدِهِ يجريها على الْأَسْبَاب فَأهل الْيَقِين لَا تَضُرهُمْ الْأَسْبَاب وهم الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام يمضون عَلَيْهَا فيحترزون ويتداوون ويحترفون ويحتالون لِأَنَّهُ تَدْبِير الله تَعَالَى كَذَا دبر لِعِبَادِهِ أَن يجْرِي أُمُورهم على الْأَسْبَاب امتحانا مِنْهُ لَهُم لينْظر من يتَعَلَّق قلبه بالأسباب فَتَصِير فتْنَة عَلَيْهِ وَمن يتخلى عَنْهَا فَيكون مَعَ ولي الْأَسْبَاب وخالقها فَيسلم من فتْنَة الْأَسْبَاب لِأَن الْأَسْبَاب لَا تملكه فَإِنَّهُم فِي الْجُمْلَة كلهم آمنُوا واعترفوا بِأَن الْأَشْيَاء كلهَا من الله تَعَالَى ثمَّ صَارُوا على ضَرْبَيْنِ فَضرب مِنْهُم توالت على قُلُوبهم الغفلات وركدت أشغال الشَّهَوَات وظلمتها على قُلُوبهم فحجتهم عَن الانتباه فصاروا كالنيام والسكارى عَن رُؤْيَة هَذَا وَذكره فَإِذا ذكرُوا ذكرُوا فاذا انبهوا انتبهوا ثمَّ عَادوا إِلَى رقدتهم وغفلتهم فَصَارَ ذَلِك لَهُم كالخبر
وَالْآخرُونَ هم أهل الْيَقِين قد خَرجُوا بيقينهم من الْغَفْلَة فالذكر على قُلُوبهم دَائِم والأمور لَهُم مُعَاينَة كَيفَ يجريها وَكَيف يدبرها فَلَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة فَإِن استعملوا الْأَسْبَاب لم تَضُرهُمْ فَكَذَلِك هَذَا الْخَيط لما ربطه صَار نصب عينه عَلامَة إِذا وَقع بَصَره عَلَيْهِ ذكر مَا نسي ثمَّ لَا يَحْجُبهُ ذَلِك الْخَيط عَن صنع الله تَعَالَى انه هُوَ الَّذِي ذكره بِهَذَا الْخَيط وَحين ربطه لم يطمئن إِلَى الْخَيط وَلم يركن ركون أهل الْغَفْلَة بل ربطه ابْتِغَاء مُوَافقَة تَدْبِير الله تَعَالَى الَّذِي وَضعه لِعِبَادِهِ وَكَذَلِكَ تداويه من اسقامه وَطَلَبه لمعاشه وَأَخذه الْجنَّة فِي الْحَرْب وحفره الخَنْدَق من أجل الْعَدو وَظَاهر يَوْم أحد بَين درعين وَلَا يظنّ بِرَسُولِهِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه مَال إِلَى الشَّيْء من الْأَسْبَاب غَفلَة مِقْدَار طرفَة عين(1/98)
- الأَصْل التَّاسِع
-
فِي مرتبَة روح الْمُؤمن
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اهتز الْعَرْش لمَوْت سعد بن معَاذ رَضِي الله عَنهُ وَذكر يَوْمًا عِنْده أَن الْعَرْش اهتز لحب الله لِقَاء سعد فَقَالَ ابْن عمر إِن الْعَرْش لَيْسَ يَهْتَز لمَوْت أحد وَلَكِن سَرِيره الَّذِي حمل عَلَيْهِ
وأحسب أَن ابْن عمر قصد بِمَا دفع من ذَلِك تَعْظِيمًا للعرش فهاب هَذِه الْكَلِمَة إِذْ كَانَ الْعَرْش أَعلَى شَيْء من خلقه وَصفته ومنظره الْأَعْلَى وَمَوْضِع تسبيحه ومظهر ملكه ومبدأ وحيه وَمحل قربه وَلم ينْسب شَيْئا من خلقه كنسبته فَقَالَ ذُو الْعَرْش كَمَا قَالَ ذُو الْجلَال وَذُو الْعِزّ وَذُو الْكِبْرِيَاء وَذُو الْقُدْرَة وَذُو العظمة وَذُو الْبَهَاء وَذُو الرَّحْمَة وَذُو الْملك وَلم يجز أَن يُقَال ذُو السَّمَوَات وَذُو الأَرْض وَذُو(1/99)
الْكُرْسِيّ وَذُو اللَّوْح فَلم يُعْط كلمة ذُو من خلقه إِلَّا للعرش فَقَط للقرب وَذُو كلمة لحق واتصال وَظُهُور ومبدأ فَكَأَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ لحظ إِلَى هَذِه النَّاحِيَة فَدفع أَن يكون يَهْتَز لمَوْت أحد وَأما سَائِر الْعلمَاء فَلَا نعلمهُمْ دفعُوا هَذَا القَوْل فَإِن لِلْمُؤمنِ عِنْد الله تَعَالَى مَرَاتِب علية قد أَتَت بهَا الْأَنْبِيَاء من عِنْد الله تَعَالَى تَنْزِيلا مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَالله ولي الْمُؤمنِينَ}
وَقَول تَعَالَى {ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا}
وَقَوله تَعَالَى {هُوَ مولاكم فَنعم الْمولى وَنعم النصير}
وَقَوله تَعَالَى وَبشر الْمُؤمنِينَ بِأَن لَهُم من الله فضلا كَبِير
وَقَوله تَعَالَى {للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة}
وَقَوله تَعَالَى ولدينا مزِيد
وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْمُؤمن أكْرم على الله عز وَجل من الْمَلَائِكَة المقربين(1/100)
وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُؤمن أعظم حُرْمَة عِنْد الله من الْكَعْبَة
وَمِنْهَا قَول معَاذ بن جبل إِن الْمُتَّقِينَ فِي الْجنَّة لَا يسْتَتر الرب مِنْهُم وَلَا يحتجب
وَمِنْهَا مَا جَاءَ فِي شَأْن الزِّيَارَة فِي الْأَخْبَار وَوضع المنابر والأسرة والكراسي لَهُم على مَرَاتِبهمْ فِي مجْلِس الْجَبَّار جلّ جَلَاله فَروِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يبْقى أحد يَوْمئِذٍ فِي ذَلِك الْمجْلس إِلَّا حاضره الله تَعَالَى محاضرة حَتَّى أَنه ليقول يَا فلَان أَتَذكر غدرتك يَوْم كَذَا فَيَقُول أَو لم تغفرها لي فَيَقُول بلَى
عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن فِي بيُوت الْمُؤمنِينَ لمصابيح إِلَى الْعَرْش يعرفهَا مقربو الْمَلَائِكَة من السَّمَوَات السَّبع يَقُولُونَ هَذَا النُّور من بيوتات الْمُؤمنِينَ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا الْقُرْآن وَأعظم بِنور يكون هُنَاكَ فِي نور الْعَرْش مستبينا حَتَّى يعرفهُ مقربوا الْمَلَائِكَة وَاعْتبر فِي الدُّنْيَا بِنور الشَّمْس أَي نور يستبين فِي جنبه فَكيف بِالنورِ الَّذِي يستبين فِي نور الْعَرْش هُنَاكَ
عَن النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن مَا تذكرُونَ من جلال الله تَعَالَى من تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله يتعاطفن حول الْعَرْش لَهُنَّ دوِي كَدَوِيِّ النَّحْل يذكرن(1/101)
لصاحبهن أَفلا يحب أحدكُم ان لَا يزَال لَهُ عِنْد الرَّحْمَن جلّ جَلَاله شَيْء يذكر بِهِ
وَقد جَاءَت أَحَادِيث فِي وَفَاة سعد بن معَاذ رَضِي الله عَنهُ تكشف عَن التَّأْوِيل عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ اهتز عرش الرَّحْمَن لمَوْت سعد بن معَاذ
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ افتخر الْحَيَّانِ من الْأَنْصَار الْأَوْس والخزرج فَقَالَت الْأَوْس منا غسيل الْمَلَائِكَة حَنْظَلَة ابْن الراهب وَمنا من اهتز لمَوْته عرش الرَّحْمَن سعد بن معَاذ وَمنا من حمته الدبر عَاصِم بن ثَابت بن الْأَفْلَح وَمنا من اجيزت شَهَادَته بِشَهَادَة رجلَيْنِ خُزَيْمَة بن ثَابت فَقَالَت الْخَزْرَج منا أَرْبَعَة جمعُوا الْقُرْآن لم يجمعه أحد غَيرهم زيد بن ثَابت وَأَبُو زيد وَأبي بن كَعْب ومعاذ بن جبل رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقد اهتز عرش الرَّحْمَن لوفاة سعد بن معَاذ فَرحا بِهِ فَرحا بِهِ فَرحا بِهِ وَإِذا كَانَ العَبْد يفرح خَالق الْعَرْش بلقائه ففرح الْعَرْش يدق(1/102)
- الأَصْل الْعَاشِر
-
فِي أَن الْحِرْص والاعتراض والعجلة شُؤْم
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرحم الله أم إِسْمَاعِيل لَو تركت زَمْزَم أَو قَالَ لَو لم تغترف المَاء لكَانَتْ زَمْزَم عينا معينا
أنبأ أَن الْحِرْص دَاخل بِالْفَسَادِ على الْأَشْيَاء لِأَن الْحِرْص من النهمة والآدمي خلق مُحْتَاجا عجولا فَهُوَ ينْتَظر الْأَسْبَاب ويحرص عَلَيْهَا وَإِن كَانَ معترفا على حد الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى أَنه مسبب الْأَسْبَاب وَهَذَا لأهل الْيَقِين أما أهل الْغَفْلَة فهم مفتونون مشغولون بالأسباب عَن خَالق الْأَسْبَاب وَأم اسماعيل أدركتها الضَّرُورَة مَعَ كربَة الغربة فَأخذت تعدو فِي طلب المَاء هَكَذَا وَهَكَذَا وتستغيث فَلَمَّا جاءها الغياث أدركتها العجلة فاغترفت وأحرزته فِي وعائها فَانْقَطع المدد فَأخْبر(1/103)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا لَو اطمأنت فِي ذَلِك الْوَقْت إِلَى من أجْرى لَهَا ذَلِك لجرت وَبقيت جَارِيَة لَكِنَّهَا شغلت بالموجود عَن الَّذِي أوجده وحملتها النَّفس على الْإِحْرَاز لتطمئن بِهِ وَهُوَ قَول سلمَان رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ رُؤِيَ يحمل جرابا فَقيل لَهُ مَا هَذَا يَا أَبَا عبد الله قَالَ إِن النَّفس إِذا أحرزت قوتها اطمأنت فَهَذَا عمل النَّفس وَلَيْسَ عمل الْقلب لِأَن الْقلب موقن أَن الرزق هُوَ الَّذِي يوصله الله تَعَالَى إِلَيْهِ فِي وقته وَالنَّفس فِي عماها وظلمتها تزْعم ان الرزق هُوَ الَّذِي توعيه فِي جرابها فصاحبه فِي بلَاء من وسوسته وتقاضيه فَإِذا أَرَادَ صَاحبه أَن يتَخَلَّص من وسوسته أسعفها بذلك كَمَا فعل سلمَان رَضِي الله عَنهُ فيطمئن إِلَى ذَلِك
وَقد يهيء الله تَعَالَى لَهُ الرزق الْمَكْتُوب من غير ذَلِك الَّذِي هيأه فِي جرابه وَالَّذِي أوعاه يُسَلط عَلَيْهِ غَيره فَيصير رزق غَيره حَتَّى يتَبَيَّن كذبهَا وجهلها فَمن أحرز ذَلِك فلطمأنينة نَفسه والخلاص من وسواسها وَهَذَا فعل يدْخل فِيهِ نقص على أهل التَّوَكُّل والأنبياء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام
والعارفون فِي خلو من هَذَا لِأَن الشَّهَوَات مِنْهُم قد مَاتَت وَالنَّفس قد اطمأنت بخالقها والقلوب مِنْهُم قد حييت بِاللَّه تَعَالَى والصدور مِنْهُم قد أشرقت بِنور الله تَعَالَى والأركان مِنْهُم قد خَشَعت لله تَعَالَى فَسَوَاء عَلَيْهِم أحرزوا أَو لم يحرزوا فَإِن أحرزوا فَلَيْسَ ذَلِك مِنْهُم إحرازا إِنَّمَا هُوَ شَيْء قد ائتمنوا عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ من الله تَعَالَى بأمانة وقفوها على نَوَائِب الْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد امْتَلَأت قُلُوبهم من عَظمَة الله تَعَالَى فَلم يبْق للدنيا بِمَا فِيهَا مَوضِع إبرة تُوجد حلاوتها ولذتها وشهوتها هُنَالك فقد ارْتَفَعت فكر شَأْن الأرزاق والمعاش عَن قُلُوبهم وتعلقت نُفُوسهم بقلوبهم وتعلقت قُلُوبهم بخالق الأرزاق وعالم التَّدْبِير فَقَالُوا حَسبنَا الله فَخرجت هَذِه الْكَلِمَة مِنْهُم من قلب حَيّ بِاللَّه تَعَالَى على سُكُون من النَّفس فَلم يبْق فِي صُدُورهمْ اخْتِلَاج وَلَا تنَازع وَلَا ريب فاستقرت الْأَركان فَمَتَى مَا وَقع(1/104)
بِأَيْدِيهِم شَيْء من الدُّنْيَا لم يحبسوها لأَنْفُسِهِمْ وعدوها أَمَانَة قد ائتمنهم الله عَلَيْهَا كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أَنا خَازِن أقسم وَالله يُعْطي فَأَنا أَبُو الْقَاسِم أقسم وَالله يُعْطي
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدّخر شَيْئا لغد وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كنت خَادِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشر سِنِين فأهدي لَهُ طيران فتعشى بِأَحَدِهِمَا وخبأت لَهُ أم أَيمن الآخر فَلَمَّا أصبح قَالَ يَا أم أَيمن هَل عنْدك من غداء قَالَت أحد الطيرين قَالَ يَا أم أَيمن أما علمت أَن أخي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَا يخبأ عشَاء لغداء وَلَا غداء لعشاء يَأْكُل من ورق الشّجر وَيشْرب من مَاء الْمَطَر يلبس المسوح ويبيت حَيْثُ يُمْسِي وَيَقُول يَأْتِي كل يَوْم برزقه قَالَت يَا رَسُول الله لَا اخبأ لَك شَيْئا بعْدهَا
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أطعمنَا يَا بِلَال قَالَ مَا عِنْدِي إِلَّا صَبر من تمر خبأته لَك فَقَالَ أما تخشى أَن يخسف الله بِهِ نَار جَهَنَّم أنْفق يَا بِلَال وَلَا تخش من ذِي الْعَرْش إقلالا وخبأت أم سَلمَة قدرَة من لحم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَضَعته(1/105)
فِي كوَّة فَلَمَّا دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قربته إِلَيْهِ فَإِذا هِيَ قِطْعَة كدانة أَو حجر فَلَمَّا رَآهُ قَالَ هَل سَأَلَ بِالْبَابِ سَائل قَالَت نعم قَالَ فَمن أجل ذَلِك أَو كَمَا قَالَ
عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو توكلتم على الله عز وَجل حق توكله لرزقكم كَمَا يرْزق الطير تَغْدُو خماصا وَتَروح بطانا قَالَ فِي تَنْزِيله {وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها الله يرزقها}
ثمَّ قَالَ وَإِيَّاكُم أخبر أَن المتَوَكل يرْزق كَمَا يرْزق الطير قَالَ لَهُ قَائِل فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَدخل قوت سنة لِعِيَالِهِ وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بذلك من فعله أجَاب وَقَالَ لَيْسَ الإدخال من الادخار فِي شَيْء إِنَّمَا قسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَال خَبِير مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْهِ فَأدْخل لِعِيَالِهِ من الْخمس قوتهم وَكَذَلِكَ من فَيْء قُرَيْظَة وَالنضير وَتلك أَمَانَة ائتمنه الله عَلَيْهَا وسلطه على ذَلِك وصرفها فِي نَوَائِب الْحق وَالْقلب مِنْهَا خَال ملك(1/106)
من الْمُلُوك غَنِي بِاللَّه حر من الْأَحْرَار فَمَاذَا ضره وَهل كَانَ سَبِيل ذَلِك المَال الَّذِي أُوتِيَ إِلَّا هَكَذَا أَن يصرفهُ فِي نَوَائِب الْحق فَصَرفهُ فِي الكراع وَالسِّلَاح وَفِي ذَوي الْحَاجَات من الأباعد فَمَا باله يحرم عِيَاله فَلم يجئك فِي الْخَبَر أَنه أَدخل قوت سنة لنَفسِهِ إِنَّمَا ذَلِك لِعِيَالِهِ وَعِيَاله كَسَائِر النَّاس وَلَا يحمل عِيَاله مَا لَا يطيقُونَهُ وَإِنَّمَا يُطيق هَذَا الْأَنْبِيَاء والأولياء وَأهل الْيَقِين الَّذين بهم تقوم الأَرْض قد طهرت قُلُوبهم وتنزهت نُفُوسهم من تُهْمَة الله تَعَالَى أَلا ترى إِلَى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ لَهُ ذَلِك الرجل أوصني بِوَصِيَّة قَصِيرَة قَالَ اذْهَبْ فَلَا تتهم الله فِي نَفسك
وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخزن مَا يَقع بِيَدِهِ من المَال لنوائب الْحق لَا لنَفسِهِ وَقد كَانَ يصرفهَا فِي السِّلَاح والكراع لحاجتهم فِي ذَلِك الْوَقْت إِلَى ذَلِك فَكَانَ يرفع مِقْدَار قوت نِسَائِهِ ليعلم مَا يبْقى هُنَالك فيصرفه فِي هَذِه الْوُجُوه
وَقد أَمر الله تَعَالَى بخزن الْأَمْوَال وحفطها فَقَالَ تَعَالَى وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم الَّتِي جعل قيَاما فَإِذا أحرزه فَإِنَّمَا يحرزه لما يَنُوب من حُقُوق الله تَعَالَى حَتَّى يصرفهُ فِيهِ فَهُوَ مأجور فِيهِ وخازن من خزانه وَمن أحرزه ليتخذه عدَّة لنوائب نَفسه ودنياه وَهُوَ فِي نقص وإدبار وخذلان من الله تَعَالَى وَمَسْئُول غَدا عَن كل دِرْهَم من أَيْن وَلم وَفِي أَيْن فَمَا قسم لِعِيَالِهِ كَانَ مثل مَا قسم لغيره فَإِنَّهُ إِحْدَى نَوَائِب الْحق وَلِأَن نفوس أَزوَاجه كَانَت لَا تطمئِن إِلَّا على الْإِحْرَاز فَلم يكلفهن مَا لَيْسَ ذَلِك لَهُنَّ مقَام وَإِنَّمَا زجر بِلَالًا فِي حَدِيثه لِأَنَّهُ قَالَ خبأته لَك وَكَذَلِكَ أم أَيمن وَأم سَلمَة فَإِنَّهَا قَالَت خبأته لَك(1/107)
فَأَما عِيَاله فقد كَانَ يبْعَث إِلَيْهِم بِمَا يبْقى عِنْدهم أَيَّامًا فَأَما أم اسماعيل فَإِن فعلهَا كَانَ فِي حَال الضَّرُورَة فَلَمَّا زَالَت الضَّرُورَة أَخَذتهَا عجلة النَّفس فَجَعَلته فِي الْوِعَاء فَامْتنعَ مَا ظهر فَانْقَطع المدد وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك بدؤه من الْكِرَام فَلَو تَلقاهُ كرم الْآدَمِيَّة لَكَانَ شكرا والشاكر يسْتَحق الْمَزِيد ولكان يجْرِي وَلَا يَنْقَطِع المدد وَلكنهَا تَلَقَّتْهُ بلؤم النَّفس فَإِن النَّفس لئيمة فتراجع الْكَرم وَأعْرض موليا لما لم يجد لَهُ قَابلا يحسن قبُوله وَكَانَت تِلْكَ عين سوغ الله عز وَجل لَهَا مخرجها من الْجنَّة إِلَى تِلْكَ الْبقْعَة من دَار الدُّنْيَا وَبعث جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَكَانَت مِنْهُ هزمة بعقبه فانبعث المَاء فَكَانَ ذَلِك من كرم رَبنَا عاملها على بغيتها فَكَانَ اللَّائِق بِهَذَا الْفِعْل أَن تَأْخُذ مِنْهَا حَاجَتهَا على تؤدة وإناءة وسعة صدر وحياء وتكرم وتعفف وَتَذَر مَا بَقِي بَين يَدي من أجراه حَتَّى تنظر مَا يدبر فِيهِ فَلَمَّا عجلت وَأخذت تدبر لنَفسهَا فعلت فعلا غير لَائِق بكرم رَبنَا عز اسْمه وجلت قدرته وَرَحمته
وَمِثَال ذَلِك فِي الْآدَمِيّين مَوْجُود فِيمَا بَينهم فَلَو أَن ملكا من مُلُوك الدُّنْيَا نظر إِلَيْك فِي وَقت حَاجَتك إِلَى شَيْء فرحمك كَأَنَّهُ رآك جائعا فَهَيَّأَ لَك مائدة عَلَيْهَا ألوان الطَّعَام لتأْخذ مِنْهَا حَاجَتك فَجعلت تَأْكُل لقْمَة وتضع لقْمَة تَحت الْمَائِدَة تخزنها لنَفسك أَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يضعك عِنْده وَلَو نظر إِلَيْك وَقت حَاجَتك إِلَى كسْوَة فَفتح عَلَيْك بَاب خزانته لتكتسي مِنْهَا كسوتك فَرفعت مِنْهَا كسوتك ثمَّ مددت يدك بالعجلة والحرص إِلَى أَثوَاب لتخزنها فَرفعت مِنْهَا فِي بَيْتك وعندك أَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يضعك عِنْده وأريته من نَفسك أَنَّك اتهمته على نَفسك فَأَنت إِذا نطقت وَقلت أَنْت خير لي من نَفسِي ألم يكن يضع ذَلِك القَوْل مِنْك على الهذيان وَيَقُول فِي نَفسه فَإِن كنت أَنا خيرا لَك من نَفسك فَمَا الَّذِي حملك على أَن مددت يدك إِلَى مَا لَا تحْتَاج إِلَيْهِ من الفضول تُرِيدُ أَن تخزنه لنَفسك دوني فَإِذا كَانَ هَذَا سمجا قبيجا عِنْد مُلُوك الدُّنْيَا فَكيف بِمن يُعَامل رب الْعَالمين بِمثل هَذَا فَكلما أَعْطَاك من الدُّنْيَا شَيْئا فتناولته(1/108)
على غير حد الْأَمَانَة فَأَنت فِي هَذَا اللؤم من الْفرق الى الْقدَم حَتَّى تَأْخُذهُ على سَبِيل أَنه مَاله ائتمنك عَلَيْهِ لتصرفه فِي نَوَائِب حُقُوقه
فَأول حُقُوقه نَفسك وَعِيَالك ثمَّ أرحامك وجيرتك ثمَّ نَوَائِب الْحق الَّتِي تنوبك وَاحِد على اثر وَاحِد وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ سُئِلَ فَقيل يَا رَسُول الله إِنِّي أصبت دِينَارا قَالَ أنفقهُ على نَفسك قَالَ أصبت آخر فَلم يزل يَقُول أصبت آخر وَهُوَ يَأْمُرهُ بصرفه فِي وَجه حَتَّى كَانَ فِي السَّابِعَة قَالَ أصبت آخر قَالَ أنفقهُ فِي سَبِيل الله وَذَلِكَ أخسهن وأدناهن أجرا فَإِذا تناولته على حرص وشره تناولته لغير الله فاحرازك لؤم ودناءة وظلمة يعود على الْقلب ودنس على الْفُؤَاد وسقم فِي الْإِيمَان وسم فِي الطَّاعَات وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا سلمَان قل اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك صِحَة فِي إِيمَان
فَهَل يَأْمُرهُ بسؤال الصِّحَّة فِي الْإِيمَان إِلَّا من سقم لِأَنَّهُ رأى فِي سلمَان مَا قَالَ إِن النَّفس إِذا أحرزت قوتها اطمأنت فَمن كَانَت نَفسه مطمئنة بالأحوال فَهَذَا سَبيله وَمن كَانَت نَفسه مطمئنة بربه فَلَو أعْطى الدُّنْيَا إِلَيْهَا كلهَا لم يلْتَفت إِلَيْهَا وَكَانَ عَيناهُ إِلَى ربه وسكونه إِلَيْهِ وَكَانَ فعل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ يدل على أَنه مِمَّن هُوَ بِهَذَا مَوْصُوف وَرُوِيَ لنا أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ تَلا هَذِه الْآيَة بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية}(1/109)
فَقَالَ مَا أحسن هَذَا يَا رَسُول الله فَقَالَ يَا أَبَا بكر أما أَن الْملك سيقولها لَك عِنْد الْمَوْت
فَهَذِهِ نفس رضيت عَن الله تَعَالَى بِجَمِيعِ مَا دبر لَهَا من المحبوب وَالْمَكْرُوه لِأَنَّهَا لذت بجوار الله تَعَالَى وقربه فَلَهَتْ عَن لذاتها الدنياوية فَرضِي الله عَنْهَا وبشرت عِنْد الْمَوْت بذلك
فَأَما قَوْله لكَانَتْ زَمْزَم عينا معينا أَي مرئيا ظَاهرا تجْرِي والمعين أَن يعاين بالعيون مَعْنَاهُ أَنه لَا يركد وَلَكِن يجْرِي حَتَّى يعاينوه فَبَقيَ عينا وَلبس بِمعين لفعل أم إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام(1/110)
- الأَصْل الْحَادِي عشر
-
فِي حد التَّأْدِيب فِي المماليك
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَا تضربوا الرَّقِيق فانكم لَا تَدْرُونَ مَا توافقون
قد ندب الله تَعَالَى الْعباد إِلَى تَأْدِيب أَهْليهمْ فَقَالَ {قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة}
فوقايتك نَفسك وَأهْلك أَن تعظها وتزجرها عَن عمل يوردها النَّار وتقيم أودهم بأنواع الْأَدَب فَمن الْأَدَب الْوَعيد وَمِنْه الضَّرْب وَحبس الْمَنَافِع وَمِنْه الرِّفْق والعطية والنوال وَالْبر فَإِن ذَلِك رُبمَا كَانَ ادّعى لَهُم من الْوَعيد وَالضَّرْب وَبَين النُّفُوس تفَاوت فَنَفْس تضرع وتخضع بِالْبرِّ والعطية وَنَفس تضرع وتخضع بالغلظة والشدة وَلَو اسْتعْملت مَعهَا الرِّفْق وَالْبر لأفسدتها وَنَفس بِالْعَكْسِ من ذَلِك وَقد جعل الله تَعَالَى الْحُدُود أدبا(1/111)
لِعِبَادِهِ ومزجرة للآخرين وَمن دون الْحُدُود التَّعْزِير على قدر مَا يأْتونَ من الْمُنكر وَقد جعل الله تَعَالَى ممر الْمُوَحِّدين إِلَى الْجنَّة على النَّار فَقَالَ تَعَالَى {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها} الْآيَتَيْنِ فأدب الْأَحْرَار إِلَى السُّلْطَان وأدب العبيد والمماليك وَالْأَوْلَاد إِلَى السادات والآباء
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لِأَن يُؤَدب أحدكُم وَلَده خير لَهُ من أَن يتَصَدَّق كل يَوْم بِنصْف صَاع وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا نحل وَالِد وَلَده أفضل من أدب حسن وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا زنت أمة أحدكُم فليجلدها(1/112)
فَأَما قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاتضربوا الرَّقِيق فخليق أَن يكون إِنَّمَا نهى عَن ضَربهمْ على غضب الْمولى لنَفسِهِ فِي نفع أَو ضرّ لَا لله تَعَالَى وَأما إِذا ضربه تأديبا ليقومه لِئَلَّا يَعْصِي الله تَعَالَى فِي أُمُوره وَلِئَلَّا يعْصى الْمولى فِي أُمُوره اللَّازِمَة لَهُ فَإِن عصيانه وتضييع أُمُوره مَعْصِيّة لله تَعَالَى فَذَاك مِمَّا يجب عَلَيْهِ وَهُوَ دَاخل فِي قَوْله تَعَالَى {قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا}
عَن زيد بن أسلم رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله مَا تَقول فِي ضرب المماليك قَالَ إِن كَانَ ذَلِك فِي كنهه وَإِلَّا قيد مِنْكُم يَوْم الْقِيَامَة قيل يَا رَسُول الله مَا تَقول فِي سبهم قَالَ مثل ذَلِك قيل يَا رَسُول الله فَإنَّا نعاقب أَوْلَادنَا ونسبهم قَالَ إِنَّهُم لَيْسُوا مثل أَوْلَادكُم إِنَّكُم لَا تتهمون على أَوْلَادكُم
عَن عبيد الله بن رِفَاعَة بن رَافع الزرقي عَن أَبِيه رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله كَيفَ ترى فِي رقيقنا أَقوام مُسلمُونَ يصلونَ صَلَاتنَا وَيَصُومُونَ صيامنا نضربهم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوزن ذنبهم وعقوبتكم إيَّاهُم فَإِن كَانَت عقوبتكم أَكثر من ذنبهم أخذُوا مِنْكُم قَالَ أَفَرَأَيْت سبنا إيَّاهُم قَالَ يُوزن ذنبهم وأذاكم إيَّاهُم فَإِن كَانَ أذاكم أَكثر اعطوا مِنْكُم قَالَ الرجل مَا اسْمَع عدوا أقرب إِلَى مِنْهُم(1/113)
فَتلا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجعنا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبك بَصيرًا فَقَالَ الرجل أَرَأَيْت يَا رَسُول الله وَلَدي أضربه قَالَ إِنَّك لَا تتهم فِي ولدك لَا تطيب نفسا تشبع وتجوع وتكتسى وتعرى
عَن زِيَاد بن أبي زِيَاد رَضِي الله عَنهُ قَالَ جَاءَ رجل فَقَالَ يارسول الله إِن لي مَالا وَإِن لي خدما وَإِنِّي أغضب فأعزم وأشتم وأضرب فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم توزن ذنُوبه بعقوبتك فَإِن كَانَت سَوَاء فَلَا لَك وَلَا عَلَيْك وَإِن كَانَت الْعقُوبَة أَكثر فَإِنَّمَا هُوَ شَيْء يُؤْخَذ من حَسَنَاتك يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ الرجل أوه أوه يُؤْخَذ من حسناتي قَالَ فحسبت مَاذَا ألم تسمع إِلَى قَول الله عز وَجل {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة}
فَحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لَا تضربوا الرَّقِيق مَحْمُول على أَنه لَا يضْربهُ للتشفي من غيظه فَإِنَّهُ لَا يدرى مَا يُوَافق الضَّرْبَة من أَعْضَائِهِ فَرُبمَا وَقعت على عين ففقأها وَرُبمَا وَقعت على عُضْو فَكَسرهُ وَرُبمَا وَقعت على صدر أَو خاصرة فَقتل أما التَّأْدِيب لله تَعَالَى فَهُوَ تَقْوِيم للملوك وَهُوَ مأجور عَلَيْهِ وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلكُمْ رَاع وكلكم مسئول عَن رَعيته(1/114)
وَمن أدب لله تَعَالَى فَمَاتَ فِي ذَلِك الْأَدَب لم يؤاحذ بِهِ إِذا كَانَ ذَلِك حدا مَعْلُوما فَضَربهُ وَلم يُجَاوز وَلم يَتَعَدَّ فِيهِ
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من لاءمكم من رقيقكم فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تطْعمُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تكتسون وَمن لَا فبيعوهم وَلَا تعذبوا خلق الله
فالضرب الْمَحْمُود مَا كَانَ لله تَعَالَى وَالضَّرْب الْمَحْجُور مَا كَانَ للنَّفس وَالنَّاس فِي هَذَا على طَبَقَات فَمن كَانَ قلبه لله تَعَالَى أمكنه أَن يؤدبه فِي أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لله تَعَالَى وَمن لم يكن قلبه لله تَعَالَى وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ هَوَاهُ وَنَفسه لم يُمكنهُ أَن يضْربهُ إِلَّا فِي أَمر الدّين فَقَط حَتَّى يكون لله تَعَالَى
وَأما فِي أَمر الدُّنْيَا من ضرّ أَو نفع فَلَا قوام لَهُ فِي تأديبه لِأَنَّهُ إِنَّمَا يغْضب لنَفسِهِ أَلا ترى أَنه لما ارْتَفَعت التُّهْمَة فِي شَأْن الْوَلَد ذهب الْقصاص لِأَن ذَلِك لله تَعَالَى وَذهب نصيب النَّفس وَكَذَا الْيَتِيم
وَعَن بِلَال رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله إِن فِي حجري يَتِيما أَفَأَضْرِبهُ قَالَ نعم مِمَّا تضرب مِنْهُ ولدك(1/115)
- الأَصْل الثَّانِي عشر
-
فِي تَعْجِيل إِعْطَاء اجرة الْأَجِير
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْط الْأَجِير أجره من قبل أَن يجِف عرقه وَذَلِكَ أَن أجرته عمالة جسده
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا يحْكى عَن الله عز وَجل أَنه قَالَ ثَلَاثَة أَنا خصمهم وَمن كنت خَصمه خصمته من بَاعَ حرا وَأكل ثمنه أَو ظلم أَجِيرا أجره أَو ظلم امْرَأَة مهرهَا
فَهَؤُلَاءِ كلهم أَحْرَار وَهِي أَثمَان نُفُوسهم فخصمهم مالكهم فَلذَلِك أَمر بتعجيل أجره لِأَنَّهُ عجل منفعَته وَمن شَأْن الباعة إِذا سلمُوا الْمَبِيع قبضوا الثّمن عِنْد التَّسْلِيم فَهَذَا أَحَق وَأولى إِذا كَانَ ثمن مهجته لَا ثمن سلْعَته(1/116)
- الأَصْل الثَّالِث عشر
-
فِي الْعين المؤمنة إِذا رَأَتْ مُنْكرا
عَن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَنْبَغِي لعين مُؤمنَة ترى أَن يعْصى الله تَعَالَى فَلَا تنكر عَلَيْهِ
فالإيمان قد اشْتَمَل على الْجَوَارِح السَّبع اللائي أَخذ عَلَيْهِنَّ الْعَهْد والميثاق وائتمن العَبْد عَلَيْهِنَّ ووكل برعايتهن ومستقره فِي الْقلب والشهوة فِي النَّفس وسلطانها فِي الصَّدْر ثمَّ يتَأَدَّى الى هَذِه الْجَوَارِح السَّبع فَمن صدق الْإِيمَان أَن يكون سُلْطَان كل حارجة منطفئا بِمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من سُلْطَان الْإِيمَان فَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد ملك نَفسه فَلَا يسْتَعْمل شَهْوَة بجارحة من الْجَوَارِح السَّبع إِلَّا فِيمَا أذن الله لَهُ فِيهِ وَإِذا رأى غَيره يستعملها فِيمَا لم يَأْذَن بِهِ الله أنكرهُ وَالْإِنْكَار على ثَلَاثَة منَازِل فمنكر بِقَلْبِه وَلسَانه وَيَده ومنكر بِقَلْبِه وَلسَانه ومنكر بِقَلْبِه
وَرُوِيَ ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْجِهَاد ثَلَاثَة جِهَاد بِالْيَدِ وَاللِّسَان وَالْقلب وَجِهَاد بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان وَجِهَاد بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ(1/117)
أَضْعَف الْإِيمَان فَأول مَا يكل جِهَاد الْيَد ثمَّ جِهَاد اللِّسَان ثمَّ جِهَاد الْقلب حَتَّى لَا يُنكر مُنكر
عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ لله نَبِي إِلَّا وَله حواريون يهْدُونَ بهديه ويستنون بسنته ثمَّ يكون من بعده خلوف يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ويعملون مَا يُنكرُونَ فَمن جاهدهم بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤمن وَمن جاهدهم بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤمن وَمن جاهدهم بِقَلْبِه فَهُوَ مُؤمن وَلَيْسَ وَرَاء ذَلِك مِثْقَال حَبَّة من الْإِيمَان
وَهُوَ كَمَا وصف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَأْن بني إِسْرَائِيل حِين أحدثت الْمُلُوك فِي دينهم الْأَحْدَاث وَأَن أهل الْهدى صَارُوا ثَلَاث فرق وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي الأَصْل الْخَامِس فِي الحَدِيث الَّذِي نهى عَن القزع فِيهِ
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَيْسَ لمُؤْمِن أَن يذل نَفسه قَالُوا وَكَيف يذل نَفسه قَالَ يتَكَلَّف من الْبلَاء مَا لَا يُطيق
مَعْنَاهُ إِذا علم أَنه إِن غيرالمنكر على الْقوي ابتلى بِهِ كف عَنهُ وَأنكر بِقَلْبِه لِأَن مَا يفْسد أَكثر مِمَّا يصلح(1/118)
عَن أبي أُميَّة الشَّعْبَانِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَأَلت أَبَا ثَعْلَبَة الْخُشَنِي عَن هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم} فَقَالَ لي لقد سَأَلت عَنْهَا خَبِيرا سَأَلت عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا أَبَا ثَعْلَبَة ائْتَمرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهوا عَن الْمُنكر فَإِذا رَأَيْت دنيا مُؤثرَة وشحا مُطَاعًا وَإِعْجَاب كل ذِي رَأْي بِرَأْيهِ فَعَلَيْك نَفسك فَإِن من بعدكم أَيَّام الصَّبْر المتمسك يَوْمئِذٍ بِمثل الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ لَهُ كَأَجر خمسين عَاملا قَالُوا يَا رَسُول الله كأجرخمسين عَاملا مِنْهُم قَالَ لَا بل مِنْكُم
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المتمسك بِسنتي عِنْد اخْتِلَاف أمتِي كالقابض على الْجَمْر(1/119)
- الأَصْل الرَّابِع عشر
-
فِي سر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تأمنن على أحد بعدِي
عَن أبي عُبَيْدَة بن الْجراح رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا عُبَيْدَة لَا تأمنن على أحد بعدِي
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مأمن الْخلق ومفزعهم لَهُ عطف الْآبَاء وشفقة الْأُمَّهَات وَرَحْمَة الوالدات وَشهد الله لَهُ فِي تَنْزِيله أعظم شَهَادَة فَقَالَ عز من قَائِل عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيم قد حشي بالرأفة وَالرَّحْمَة والنصيحة لله تَعَالَى فِي خلقه واسنتار قلبه بِنور الله تَعَالَى فدقت الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا فِي عينه وَصغر عِنْده بذل نَفسه لله فِي جنب الله فَكَانَ مفزعا وَكَانَ مأمنا وَكَانَ غياثا وَكَانَ رَحْمَة وَكَانَ أَمَانًا فَأَما المفزع فَقَالَ فِي تَنْزِيله عز من قَائِل وَلَو أَنهم إِذْ ظلمُوا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لَهُم الرَّسُول لوجدوا الله تَوَّابًا رحِيما(1/120)
وَفِي المأمن قَوْله عز وَجل {مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى وَمَا ينْطق عَن الْهوى}
وَفِي الغياث قَوْله تَعَالَى {وكنتم على شفا حُفْرَة من النَّار فأنقذكم مِنْهَا} وَفِي الرَّحْمَة قَوْله تَعَالَى وَمَا أرسناك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين وَفِي الْأمان قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم
وَلَيْسَ لأحد بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الْمقَام صديقا كَانَ أَو فاروقا أَو أَمينا فَلذَلِك قَالَ لَا تأمنن على أحد بعدِي أَي كأمنك عَليّ فَلَيْسَ لمن بعده عصمَة الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام أَلا ترى أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ خطب النَّاس فَقَالَ إِن لي شَيْطَانا يَعْتَرِينِي فاجتنبوني إِذا غضِبت لَا أوثر فِي أَشْعَاركُم وَأَبْشَاركُمْ وَإِذا زِغْت فقوموني
وَقيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد وكل بِهِ قرينه من الشَّيْطَان قَالُوا ومعك يَا رَسُول الله قَالَ وَمَعِي وَلَكِن الله أعانني عَلَيْهِ فَأسلم وَكَانَ الله عصمه وأقامه على أدب الْقُرْآن وَقَالَ {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم}(1/121)
وَرُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَرَادَ قتل بعض الْمُشْركين العتاة وَكَانَ أَمرهم أَن يقتلوه وَإِن وجدوه مُتَعَلقا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة فجَاء بِهِ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ يسْأَل لَهُ الْأمان فَسكت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ سَأَلَهُ فَسكت ثمَّ سَأَلَهُ ثَالِثَة فَأعْطَاهُ الْأمان وَقَالَ انتظرت أَن يقوم أحدكُم فَيضْرب عُنُقه قَالُوا فَهَلا أَو مأت يَا رَسُول الله قَالَ إِنَّه لَا يَنْبَغِي لنَبِيّ أَن يكون لَهُ خَائِنَة عين
وَعَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يلْتَفت وَرَاءه إِذا مَشى وَرُبمَا تعلق رِدَاؤُهُ بالشَّيْء أَو بِالشَّجَرِ فَلَا يلْتَفت حَتَّى يضعوه عَلَيْهِ لأَنهم كَانُوا يمزحون وَيضْحَكُونَ فَكَانُوا قد أمنُوا التفاته
عَن هِنْد بن أبي هَالة قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا الْتفت التفتوا جَمِيعًا(1/122)
- الأَصْل الْخَامِس عشر
-
فِي تَحْقِيق التهديد على زوارات الْقُبُور
عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قبرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا فَلَمَّا انْصَرف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انصرفنا مَعَه فَلَمَّا حَاذَى بَابه وقف وتوسط الطَّرِيق فَإِذا هُوَ بِامْرَأَة مقبلة لَا نظنه عرفهَا فَلَمَّا دنت إِذا هِيَ فَاطِمَة فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أخرجك يَا فَاطِمَة من بَيْتك قَالَت أتيت أهل هَذَا الْمَيِّت فرحمت إِلَيْهِم ميتهم أَو عزيتهم لَا يحفظ ربيعَة أَي ذَلِك قَالَ فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلعلك بلغت مَعَهم الكدا قَالَت معَاذ الله وَقد سَمِعتك تذكر فيهم مَا تذكر قَالَ لَو بلغت مَعَهم الكدا مَا رَأَيْت الْجنَّة حَتَّى يَرَاهَا جدك أَبُو أَبِيك
قَالَ قُتَيْبَة الكدا الْمقْبرَة بعث الله مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمحو آثَار الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ من شَأْنهمْ إِذا مَاتَ لَهُم ميت أَن يخمشوا الْوُجُوه وينتفوا(1/123)
الشُّعُور ويشقوا الْجُيُوب ويخرقوا الْبيُوت فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ منا من حلق أَو خرق أَو سلق
وَلمن فِي حَدِيث آخر ناشرات الشُّعُور واللاتي ينعون بِأَصْوَات الْحمير ونهاهم عَن زِيَارَة الْقُبُور لحداثة عَهدهم بالْكفْر لما فِي زِيَارَة الْقُبُور من الْفِتْنَة حَتَّى استحكم إسْلَامهمْ وصاروا أهل يَقِين وبر وتقوى وَصَارَت الْقُبُور لَهُم مُعْتَبرا بعد أَن كَانَ مفتتنا خلى عَنْهُم وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها فَإِن لكم فِيهَا مُعْتَبرا
وَسكت عَن ذكر النِّسَاء لضعفهن ورقتهن وَسُرْعَة افتتانهن وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا رَأَيْت من نواقص عقول وَدين أغلب للرِّجَال مِنْهُنَّ فَقيل مَا نُقْصَان عقولهن ودينهن يَا رَسُول الله قَالَ أما نُقْصَان عقولهن فشهادة امْرَأتَيْنِ بِشَهَادَة رجل وَأما نُقْصَان دينهن فَترك الصَّلَاة وَالصَّوْم فِي الْحيض(1/124)
وبايعهن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة على مَا نطق بِهِ التَّنْزِيل من قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف فبايعهن}
وَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْبيعَة أَن لَا يَنحن عَن أم عَطِيَّة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت أَخذ علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْبيعَة أَن لَا ننوح فَمَا وفت منا امْرَأَة إِلَّا سبع نسْوَة مِنْهُنَّ أم سليم وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمنعهن عَن حُضُور الْجَنَائِز وَفِي حَدِيث بكار بن عبد الْعَزِيز بن أبي بكرَة عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى نسْوَة فِي جَنَازَة فَقَالَ لَهُنَّ ارْجِعْنَ مَأْزُورَات غير مَأْجُورَات
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَنَازَة فَرَأى نسْوَة فَقَالَ أتحملنه قُلْنَ لَا قَالَ أتدفنه قُلْنَ لَا قَالَ فارجعن مَأْزُورَات غير مَأْجُورَات
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زوارات الْقُبُور والمتخذين عَلَيْهَا الْمَسَاجِد والسرج فَبَقيَ الْخطر عَلَيْهِنَّ إِلَى آخر الدَّهْر فَإِن تخلت امْرَأَة عَن هَذِه الْأُمُور فَأَتَت قبرا لترمه أَو تسلم أَو تَدْعُو أَو تعْتَبر وَقد أمنت نَاحيَة نَفسهَا ذَلِك وَمَاتَتْ شهوتها وإنقطعت فتنتها فَهِيَ خَارِجَة من النَّهْي(1/125)
وَرُوِيَ عَن فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا كَانَت تَأتي قبر حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ فِي كل عَام فترمه وتصلحه
وَرُوِيَ عَن غير وَاحِدَة من النِّسَاء أَنَّهَا كَانَت تَأتي قُبُور الشُّهَدَاء فتسلم عَلَيْهِم فَأَما مرمة الْقَبْر فلئلا يدرس أَثَره فينبش عَنهُ لِأَنَّهُ إِذا ذهب أَثَره حفر عَنهُ لمَيت آخر وَلِأَن الْمُسلم على الْأَمْوَات وزائرهم يخفى عَلَيْهِ إِذا ذهب رسمه فَتبْطل الزِّيَارَة وَهِي حق من الْحُقُوق لَيْسَ كَالَّذي يسلم من بعد
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زار قبر أَبَوَيْهِ أَو أَحدهمَا فِي كل جُمُعَة مرّة غفر لَهُ وَكتب برا
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ من زار قبر أَبَوَيْهِ أَو أَحدهمَا احتسابا كَانَ كَعدْل حجَّة مبرورة وَمن كَانَ زوارا لَهما زارت الْمَلَائِكَة قَبره
وَالتَّشْدِيد الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيث فَاطِمَة نرَاهُ فِي بَدْء الْأَمر وَلَا نعلم ذَلِك يحرم الْجنَّة لَكِن مَعْنَاهُ أَن من فعل ذَلِك كَانَ يخَاف عَلَيْهِ أَن يسلبه الله الْإِسْلَام فَإِذا سلبه لم ير الْجنَّة أبدا وَأعظم نعْمَة لله تَعَالَى على عَبده الْإِسْلَام وللإسلام سنَن ومنار كمنار الطَّرِيق فَإِذا عمل عملا يكون فِيهِ إحْيَاء سنَن الْجَاهِلِيَّة الَّتِي أطفأها الله تَعَالَى بِسيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد كفر منَّة الْإِسْلَام والكفور ممقوت غير مَأْمُون عَلَيْهِ السَّلب فَكَانَ إتْيَان الْمَقَابِر من سنَن الْجَاهِلِيَّة فغلظ الزّجر لتَمُوت تِلْكَ السّنَن(1/126)
- الأَصْل السَّادِس عشر
-
فِي أَن الْوُرُود فِي النارالدخول
عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الْوُرُود الدُّخُول لَا يبْقى بر وَلَا فَاجر إِلَّا دَخلهَا فَتكون على الْمُؤمنِينَ بردا وَسلَامًا كَمَا كَانَت على إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى ان للنار ضَجِيجًا من بردهمْ ثمَّ يُنجي الله الَّذين اتَّقوا ويذر الظَّالِمين فِيهَا جثيا
كَأَن الله تَعَالَى أحب أَن يَجْعَل ممر الْمُؤمنِينَ فِيهَا كي إِذا نَجوا مِنْهَا علمُوا من أَيْن نَجوا وَلَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة وَإِذا وردوا دَار السَّلَام علمُوا أَيْن حلوا فالشيء إِنَّمَا يعرف بضده ويعظم قدره وَلذَلِك قَالُوا عِنْد دُخُول الْجنَّة الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن أَي حزن قطع النيرَان الَّتِي خلص مِنْهَا وَجعلهَا بردا وَسلَامًا وَعَلمُوا أَنهم لم يحلوا دَار المقامة إِلَّا من فَضله وانهم لم يستوجبوا ذَلِك مِنْهُ وَكَأَنَّهُ عز وَجل أحب أَن يبرز فضل الصَّادِقين وبذلهم أنفسهم لَهُ وليأخذ بِحقِّهِ من الطَّبَقَة الَّتِي آثرت شهوات نفوسها بتضييع الْحق وهم أهل لَا إِلَه إِلَّا الله حَتَّى تنتقم النَّار(1/127)
مِنْهُم مُدَّة ثمَّ تُدْرِكهُمْ رَحْمَة الله وَقد محصوا ونقوا وصلحوا لدار السَّلَام وليجوز الصادقون وهم لَا يَشْعُرُونَ بالنَّار قَالَ الله تَعَالَى {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون}
وَإِنَّمَا بعدوا عَنْهَا لِأَن نور الْإِيمَان وَبرد الْيَقِين احتملهم واحتواهم فهم يمضون فِي النَّار حَتَّى إِذا خَرجُوا مِنْهَا قَالَ بَعضهم لبَعض أَلَيْسَ قد وعدنا رَبنَا أَن نرد النَّار قَالُوا بلَى وَلَكِن مررتم بهَا وَهِي خامدة لِأَن الرَّحْمَة أظلتهم حَتَّى أشرف نور الْإِيمَان فِي قُلُوبهم فخمدت النَّار من برد يقينهم وَلذَلِك نسب الْبرد إِلَى الْمُؤمنِينَ وَأما ضجة النَّار فَمن أجل أَنَّهَا خلقت منتقمة من أهل الْغَفْلَة وحشيت بغضب الله فَإِذا جَاءَ الْمُؤمن بنوره وبرده ضجت النَّار مَخَافَة أَن تبرد فتضعف عَن الانتقام
عَن يعلى بن مُنَبّه رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن النَّار لتنادي جز يَا مُؤمن فقد أطفأ نورك لهبي
والنجاة من الله تَعَالَى للْعَبد فِي هَذَا الموطن على قدر مَحَله عِنْده وَمحله على قدر مَا من الله عَلَيْهِ من الْمعرفَة بِهِ وَهُوَ الْيَقِين الَّذِي جعل لَهُ من ذَلِك حظا
عَن السّديّ عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/128)
أَنه قَالَ يرد النَّاس النَّار ثمَّ يصدرون عَنْهَا بأعمالهم فأولهم كلمح الْبَرْق ثمَّ كَالرِّيحِ ثمَّ كحضر الْفرس ثمَّ كالراكب فِي رحْلَة ثمَّ كشد الرجل ثمَّ كمشيه ثمَّ كحبوه
وَإِنَّمَا ذكر الْأَعْمَال لِأَنَّهَا ظَاهِرَة وَالظَّاهِرَة محنة الْبَاطِن وَمَا فِي الْقُلُوب غيب إِلَّا عَن خَالق الْغَيْب وَالظَّاهِر شَاهد ينبىء عَمَّا فِي الْبَاطِن(1/129)
- الأَصْل السَّابِع عشر
-
فِي أَن الدُّنْيَا أَسحر من هاروت وماروت
عَن عبد الله بن بسر الْمَازِني رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتَّقوا الدُّنْيَا فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ أَنَّهَا لأسحر من هاروت وماروت
هاروت وماروت ليسَا من جنس الْآدَمِيّين وَالشَّيْء إِنَّمَا يألف جنسه والآدمي خلق من الدُّنْيَا فَهُوَ يألفها وينخدع لَهَا وهاروت وماروت لَا يعلمَانِ أحدا السحر حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر
فَهَذَا يعلمك سحره وينبئك فتنته وَالدُّنْيَا تعلمك سحرها وتكتمك فتنتها وتدعوك إِلَى التحارص عَلَيْهَا وَالْجمع لَهَا وَالْمَنْع مِنْهَا فيتعلم مِنْهَا مَا يفرق بَينه وَبَين طَاعَة الله وَبَينه وَبَين رُؤْيَة الْحق ورعايته ومحبتها(1/130)
تلذذك بشهواتها وتمنيك بأمانيها الكاذبة حَتَّى تَأْخُذ بقلبك وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حبك الشَّيْء يعمي ويصم
فَمن أحب الدُّنْيَا أعمته وأصمته عَن آخرته وَمن أحب الْآخِرَة أعمته وأصمته عَن دُنْيَاهُ وَمن أحب نَفسه أعمته وأصمته عَن الله وَمن أحب الله أعماه وأصمه عَن نَفسه فَإِن الدُّنْيَا تحجب عَن الْآخِرَة وَالنَّفس تحجب عَن الله ودنياه إِنَّمَا هِيَ نَفسه وشهواتها فسحرها أقرب إِلَيْهِ من سحر هاروت وماروت فسحر نَفسه ودنياه أُصَلِّي وسحر هاروت وماروت دخيل وَلَيْسَ الدخيل كالأصلي(1/131)
- الأَصْل الثَّامِن عشر
-
فِي كَيْفيَّة الِاحْتِرَاز عَن الشَّيْطَان
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الْمُؤمن ينضى شَيْطَانه كَمَا ينضى أحدكُم بعيره فِي السّفر
فالمؤمن قد وكل بِهِ قرينه من الشَّيْطَان وَإِنَّمَا يحْتَرز مِنْهُ بِاللَّه تَعَالَى فَإِذا اعْترض لِقَلْبِهِ احْتَرز بمعرفته وَإِذا اعْترض لنَفسِهِ وهيأ شهواته احْتَرز بِذكر الله عز وَجل وَإِذا اعْترض لاموره وأحواله احْتَرز باسمه فَهُوَ أبدا نضو وَقيد زجر بِهِ فالبعير يتجشم فِي سَفَره أثقال حمولته وَمَعَ ذَلِك النصب يجوع ويظمأ وَمَعَ ذَلِك مرَاعِي مُخْتَلفَة ومياه رنقة غير عذبة فَإِنَّمَا صَار نضوا بِهَذِهِ الْأَحْوَال فَكَذَلِك شَيْطَان الْمُؤمن يتجشم(1/132)
أثقال غيظه من الْمُؤمن لما يرى من الطَّاعَة وَالْوَفَاء لله تَعَالَى وَإِذا أَرَادَ أَن يشركهُ فِي طَعَامه وَشَرَابه ولباسه ومنامه ومجلسه ومتصرف أَحْوَاله زَجره وطرده عَنهُ بِالتَّسْمِيَةِ فَوقف مِنْهُ بمزجر الْكَلْب نَاحيَة فَإِذا أَرَادَ أَن ينفره عَنهُ نطق بالوحدانية وَهِي الْكَلِمَة الْعليا الَّتِي يَهْتَز الْعَرْش لَهَا فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِذا سَمعهَا انتكس فَصَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَله وَولى على وَجهه هَارِبا إِلَى رسه وَذَلِكَ قَوْله عز وَجل {وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن وَحده ولوا على أدبارهم نفور}
رُوِيَ عَن أبي الجوزاء أَنه قَالَ لَيْسَ شَيْء أطْرد لَهُ من الْقلب من قَول لَا إِلَه إِلَّا الله ثمَّ تَلا {وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن} الْآيَة
عَن عَمْرو بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَرَأت فِي التَّوْرَاة إِن سرك أَن تحيي وتبلغ علم الْيَقِين فاحتل فِي كل حِين أَن تغلب شهوات الدُّنْيَا فَإِنَّهُ من يغلب شهوات الدُّنْيَا يفزع الشَّيْطَان من ظله
عَن سديسة مولاة حَفْصَة رَضِي عَنْهُمَا قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول مَا لَقِي الشَّيْطَان عمر قطّ إِلَّا خر لوجه
عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا لَقِي الشَّيْطَان عمر فِي فج فَيسمع صَوته إِلَّا أَخذ فِي غَيره(1/133)
وَمثل عمر رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب مثل أَمِير ذِي سُلْطَان وهيبة استقبله مريب قد رفع إِلَيْهِ من ريبته أمورا شنيعة وعرفه بالعداوة لَهُ فَانْظُر مَاذَا يحل بِهَذَا الْمُرِيب إِذا لقِيه فَإِن ذهبت رِجْلَاهُ فَخر لوجهه فَغير مستنكر(1/134)
- الأَصْل التَّاسِع عشر
-
فِي حَقِيقَة الْفِقْه وفضيلته
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْعِبَادَة الْفِقْه وَأفضل الدّين الْوَرع
وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا عبد الله بِشَيْء أفضل من فقه فِي دين
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا عبد الله بِشَيْء أفضل من فقه فِي دين ولفقيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَلكُل شَيْء عماد وعماد هَذَا الدّين الْفِقْه(1/135)
وَالْفِقْه هُوَ انكشاف الغطاء عَن الْأُمُور فَإِذا عبد الله بِمَا أَمر وَنهى بعد أَن فهمه وعقله وانكشف لَهُ الغطاء عَن تَدْبيره فِيمَا أَمر وَنهى فَهِيَ الْعِبَادَة الْخَالِصَة الْمَحْضَة وَذَلِكَ أَن الَّذِي يُؤمر بالشَّيْء فَلَا يرى زين ذَلِك الْأَمر وَينْهى عَن الشَّيْء فَلَا يرى شينه هُوَ فِي عمى من أمره فَإِذا رأى زين مَا أَمر بِهِ وشين مَا نهى عَنهُ عمل على بصيره وَكَانَ قلبه عَلَيْهِ أقوى وَنَفسه بِهِ أسخى وَحمد على ذَلِك وشكر وَالَّذِي يعمى عَن ذَلِك فَهُوَ جامد الْقلب كسلان الْجَوَارِح ثقيل النَّفس بطيء التَّصَرُّف وَالْفِقْه مُشْتَقّ من تفقؤ الشَّيْء يُقَال فِي اللُّغَة فَقَأَ الشَّيْء إِذا انْفَتح وفقأ الْجرْح إِذا انفرج عَمَّا اندمل وَالِاسْم فقيء وَالْهَاء والهمزة تبدلان تجزي إِحْدَاهمَا عَن الْأُخْرَى فَقيل فقيء وفقيه والفهم هُوَ الْعَارِض الَّذِي يعرض فِي الْقلب من النُّور فَإِذا عرض انْفَتح بصر الْقلب فَرَأى صُورَة ذَلِك الشَّيْء فالانفتاح هُوَ الْفِقْه والعارض هُوَ الْفَهم وَقد ذكر الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْفِقْه فَقَالَ {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا}
فَاعْلَم أَن الْفِقْه من عمل الْقلب وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للإعرابي حِين قَرَأَ عَلَيْهِ {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} فولى وَقَالَ حسبي حسبي فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقه الرجل
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ إِنَّك لن تفقه حَتَّى ترى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيرَة وان الله عز وَجل كلف الْعباد أَن يعرفوه ثمَّ اقتضاهم بعد الْمعرفَة أَن يدينوا لَهُ فشرع لَهُم شَرِيعَة الْحَلَال وَالْحرَام وَالدّين هُوَ(1/136)
الخضوع
والدون مُشْتَقّ من ذَلِك وكل شَيْء اتضع فَهُوَ دون فَأمرت بِأُمُور لتَضَع نَفسك لمن اعْترفت بِهِ رَبًّا فَسُمي ذَلِك الْفِعْل وَتلك الْأُمُور دينا فَمن فقه أَسبَاب هَذِه الْأُمُور الَّتِي أَمر وَنهى بِمَاذَا أَمر وَنهى وَرَأى زين مَا أَمر وبهاءه وشين مَا نهى تعاظم ذَلِك عِنْده وَكبر فِي صَدره شَأْنه فَكَانَ أَشد تسارعا فِيمَا أَمر وَأَشد هربا وامتناعا مِمَّا نهى فالفقه فِي الدّين جند عَظِيم يُؤَيّد الله تَعَالَى بِهِ أهل الْيَقِين الَّذِي عاينوا محَاسِن الْأُمُور ومشاينها وَمِقْدَار الْأَشْيَاء وَحسن تَدْبِير الله عز وَجل لَهُم فِي ذَلِك بِنور يقينهم ليعبدوه على يسر وَمن حرم ذَلِك عَبده على مكابدة وعسر لِأَن الْقلب وَإِن أطَاع وانقاد لأمر الله عز وَجل فَالنَّفْس إِنَّمَا تخف وتنقاد إِذا رأى نفع شَيْء أَو ضَرَر شَيْء وَالنَّفس جندها الشَّهَوَات وصاحبها مُحْتَاج إِلَى أضدادها من الْجنُود حَتَّى يقهرها وَهِي الْفِقْه
قَالَ لَهُ قَائِل صف لنا وَاحِدَة من هَذِه الْأُمُور نفهم بهَا غَيرهَا قَالَ نعم أحل الله عز وَجل النِّكَاح وَحرم الزِّنَا وَإِنَّمَا هُوَ إتْيَان وَاحِد لامْرَأَة وَاحِدَة إِلَّا أَن هَذَا بِنِكَاح وَذَاكَ بزنى فَإِذا كَانَ من نِكَاح فَمن شَأْنه الْعِفَّة والتحصين لِلْفَرجِ فَإِذا جَاءَت بِولد ثَبت النّسَب وَجَاء الْعَطف من الْوَالِد بِالنَّفَقَةِ والتربية وَالْمِيرَاث وَإِذا كَانَ من زنا ضَاعَ الْوَلَد لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أحد من الواطئين لمن هَذَا الْوَلَد فَهَذَا يحيله على ذَلِك وَذَاكَ يحيله على هَذَا وَحرم الله عز وَجل الدِّمَاء وَأمر بِالْقصاصِ ليتحاجزوا وليحيوا وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} إِلَى غير ذَلِك
عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا يفقهه(1/137)
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين
عَن يُوسُف بن مَاهك قَالَ كَانَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ قَلِيل الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقل مَا قَامَ خَطِيبًا إِلَّا قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين يَا أَيهَا النَّاس تفقهوا(1/138)
- الأَصْل الْعشْرُونَ
-
فِي حِكْمَة قصر أَعمار هَذِه الْأمة
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر أمتِي من سِتِّينَ سنة إِلَى سبعين
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معترك المنايا مَا بَين السِّتين إِلَى السّبْعين
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقل أمتِي أَبنَاء السّبْعين(1/139)
قَالَ أَبُو عبد الله من رَحْمَة الله على هَذِه الْأمة وَعطفه عَلَيْهِم أخرهم فِي الأصلاب حَتَّى أخرجهم إِلَى الْأَرْحَام بعد أَن نفدت الدُّنْيَا ثمَّ قصر أعمارهم لِئَلَّا يتلبسوا بالدنيا إِلَّا قَلِيلا وَلَا يتدنسوا فَإِن الْقُرُون الْمَاضِيَة كَانَت أعمارهم وأجسادهم وأرزاقهم على الضعْف كَانَ أحدهم يعمر ألف سنة وجسمه ثَمَانُون باعا بالباع الأول والحبة من الْقَمْح مثل كلوة الْبَقر والرمانة الْوَاحِدَة يجْتَمع عَلَيْهَا عشرَة نفر والعنقود مثله فَكَانُوا مَا يتناولونه من هَذِه الدُّنْيَا بِهَذِهِ الصّفة على مثل تِلْكَ الأجساد فِي مثل تِلْكَ الْأَعْمَار فَمِنْهَا أشروا وبطروا واستكبروا وأعرضوا عَن الله عز وَجل فصب الله عَلَيْهِم سَوط عَذَاب على مَا نطق بِهِ كتاب الله الْعَزِيز ثمَّ لم يزل النَّاس ينقصُونَ فِي الْخلق والخلق وَالْأَجَل والرزق إِلَى أَن صَارَت هَذِه الآمة آخر الْأُمَم حَتَّى يَأْخُذُوا من الدُّنْيَا أرزاقا قَليلَة بأجساد ضَعِيفَة فِي مُدَّة قَصِيرَة حَتَّى لَا يأشروا وَلَا يبطروا فَهَذَا تَدْبِير من الله عز وَجل رَحْمَة لهَذِهِ الْأمة ثمَّ ضوعف لَهُم الْحَسَنَات فَجعلت الْحَسَنَة الْوَاحِدَة بِعشْرَة إِلَى سَبْعمِائة إِلَى مَا لَا يُعلمهُ من التَّضْعِيف إِلَّا الله تَعَالَى وأيدوا بِالْيَقِينِ واعطوا لَيْلَة الْقدر فَجعلت حسناتهم على ثَلَاث منَازِل لأَنهم ثَلَاثَة أَصْنَاف ظَالِمُونَ ومقتصدون وسابقون فالصنف الأول هم أهل تَخْلِيط قوم موحدون لَا يرعوون عَن الْحَرَام وَلَا يحفظون حُدُود الله تَعَالَى {خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا} فهم الظَّالِمُونَ فالحسنة مِنْهُم بِعشر أَمْثَالهَا
والصنف الثَّانِي قوم متقون قائمون على الْحُدُود وعَلى سَبِيل الاسْتقَامَة وهم المقتصدون فالحسنة مِنْهُم بسبعمائة لِأَن جوارحهم صَارَت مسبلة لله تَعَالَى قد استقامت على سَبِيل الله تَعَالَى فَإِذا أَنْفقُوا من جوارحهم عملا كَانَ بسبعمائة كَالَّذي ينْفق مَاله فِي سَبِيل الله فَهُوَ(1/140)
بسبعمائة وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا حسن إِسْلَام العَبْد تمم الله لَهُ عمله بسبعمائة ضعف
فَقَوله حسن إِسْلَامه هُوَ أَن يَسْتَقِيم وَيكون مُسْتَقِيم الطَّرِيق إِلَى ربه لَا يعرج يَمِينا وَشمَالًا أَي لَا يعْصى فَهَذَا ترفع أَعماله من جوارح طَاهِرَة وَالْأول من جوارح دنسة
والصنف الثَّالِث قوم أهل يَقِين انتبهوا وحييت قُلُوبهم بِاللَّه عز وَجل وَمَاتَتْ مِنْهَا الشَّهَوَات وهم السَّابِقُونَ المقربون قَالَ الله تَعَالَى فِي السَّابِقين {وَمِنْهُم سَابق بالخيرات بِإِذن الله ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير} فأعمالهم مضاعفة لَا يعلم تضعيفها إِلَّا الله عز وَجل وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الرجل من أمتِي ليبلغ وزن الْحَرْف الْوَاحِد من تسبيحه زنة أحد
وَمَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ إِن الرجل من هَذِه الْأمة يعدل عمل يَوْمه سبع سموات وَسبع أَرضين
وَمَا رُوِيَ عَن كَعْب رَضِي الله عَنهُ أَن الرجل من هَذِه الْأمة ليخر سَاجِدا فَيغْفر لمن خَلفه فَكَانَ كَعْب رَضِي الله عَنهُ يتوخى الصَّفّ الْأَخير من الْمَسْجِد رَجَاء ذَلِك وَيذكر أَنه وجده كَذَلِك(1/141)
- الأَصْل الْحَادِي وَالْعشْرُونَ
-
فِي خُصُوصِيَّة هَذِه الْأمة
عَن ام الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنْهَا تَقول سَمِعت أَبَا الدَّرْدَاء يَقُول سَمِعت أَبَا الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكنيه قبلهَا وَلَا بعْدهَا يَقُول إِن الله عز وَجل قَالَ يَا عِيسَى إِنِّي باعث من بعْدك أمة إِن أَصَابَهُم مَا يحبونَ حمدوا وشكروا وَإِن أَصَابَهُم مَا يكْرهُونَ احتسبوا وصبروا وَلَا حلم وَلَا علم قَالَ يَا رب وَكَيف يكون هَذَا لَهُم وَلَا حلم وَلَا علم قَالَ أَعطيتهم من حلمي وَعلمِي
فَهَذِهِ أمة مُخْتَصَّة بالوسائل من بَين الْأُمَم محبوة بالكرامات مقربة بالهدايات محظوظة من الولايات تولى الله هدايتهم وتأديبهم وتقريبهم مسمون فِي التَّوْرَاة صفوة الرَّحْمَن وَفِي الْإِنْجِيل حكماء عُلَمَاء أبرار أتقياء كَأَنَّهُمْ من الْفِقْه أَنْبيَاء وَفِي الْقُرْآن أمة وسطا أَي عدلا وشهداء الله فِي الْموقف للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام على الْأُمَم وَخير أمة أخرجت للنَّاس والمنادون بِجَانِب طور سيناء يَا أمة أَحْمد سبقت لكم رَحْمَتي غَضَبي(1/142)
أَعطيتكُم قبل أَن تَسْأَلُونِي وغفرت لكم قبل أَن تستغفروني وأجبتكم قبل أَن تَدعُونِي وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كنت بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا} {أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} {وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل كزرع أخرج شطأه} الْآيَة غر محجلون غر من السُّجُود محجلون من الْوضُوء وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود}
وَعَن عبد الله بن بشر الْمَازِني رَضِي الله عَنهُ قَالَ قيل يَا رَسُول الله كَيفَ تعرف أمتك يَوْمئِذٍ قَالَ أَرَأَيْت لَو كَانَ لأحدكم خيل دهم وفيهَا أغر محجل أما كَانَ يعرفهُ قَالُوا بلَى يَا رَسُول الله قَالَ فَإِن أمتِي يَوْمئِذٍ غر من السُّجُود محجلون من أثر الْوضُوء سماهم الله مُهَاجِرين وأنصارا هَاجرُوا فِي ذَاته الوطن والأهل وَالْمَال وَالْولد ونصروا الله تَعَالَى ثمَّ من سَار على منهاجهم بعدهمْ سماهم تابعين بِإِحْسَان ثمَّ جمعهم بالرضى عَنْهُم فَقَالَ {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} وجمعهم فِي اسْتِحْقَاق الْفَيْء فَقَالَ {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين} إِلَى أَن قَالَ وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ
وَإِنَّمَا نالوا هَذِه الكرامات بخطة وَاحِدَة وَهُوَ أَن الله تَعَالَى هدَاهُم(1/143)
لسبيله وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله وَأُولَئِكَ هم أولو الْأَلْبَاب
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْطَيْت أمتِي من الْيَقِين مَا لم يُعْط أمة
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من نَبِي إِلَّا وَقد أعطي من الْآيَات مَا على مثله آمن الْبشر وَإِنِّي لم أبْعث بِآيَة وَإِنَّمَا أُوحِي إِلَيّ وَحيا ثمَّ أَنا أَكثر الْأُمَم تبعا قَالَ لَهُ قَائِل وَمَا تِلْكَ الْهِدَايَة قَالَ الْهدى على ثَلَاثَة منَازِل هدى على أَلْسِنَة الرُّسُل وَهُوَ الْبَيَان يَدعُوهُم وَيبين لَهُم فَتلك هِدَايَة الظَّاهِر وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فَأَما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى فَإِنَّمَا هدَاهُم بالرسول عَلَيْهِ السَّلَام
وَهدى بِالْقَلْبِ يَجْعَل فِيهِ نورا فيعرفه رَبًّا وَاحِدًا وَهُوَ هدى التَّوْحِيد وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا} فَتلك هِدَايَة الْبَاطِن وَهُوَ الْإِيمَان قَالَ الله تَعَالَى {وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم}
أعطَاهُ نورا لمعرفته بِأَنَّهُ وَاحِد ثمَّ تَركه مَعَ مجاهدة نَفسه فِي أمره وَنَهْيه على سَبِيل الاسْتقَامَة ليثيبه الْجنَّة وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِأَن الشَّهَوَات(1/144)
أحاطت بِقَلْبِه فَلم تتركه على سَبِيل أهل الْوَفَاء حَتَّى يكون لَهُ عبدا بِجَمِيعِ جوارحه فِي جَمِيع منقلبه كَمَا عرفه رَبًّا فَيكون وَاقِفًا عِنْد أمره وَنَهْيه مراقبا لحدوده فَهَذِهِ هِدَايَة الْعَامَّة وَلَا ينَال بِهَذَا تِلْكَ الصّفة الَّتِي ذكرت فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْفرْقَان لِأَن النَّفس بِمَا فِيهَا من الْهوى غلبت على الْقلب وَلَا تتركه على الاسْتقَامَة حَتَّى تميل بِهِ يَمِينا وَشمَالًا
وَهدى على الْقلب وَهُوَ هدى الْولَايَة والعصمة وَهِي أَن يقذف الله فِي قلب العَبْد نورا وَهُوَ الْيَقِين حَتَّى يهتك حجب الشَّهَوَات الَّتِي تراكمت فِي صَدره فَتَصِير الْآخِرَة لَهُ كالمعاينة وَهُوَ المُرَاد بقوله تَعَالَى {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم مهتدون} كَمَا قَالَ حَارِثَة رَضِي الله عَنهُ كَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا وَإِلَى أهل الْجنَّة كَيفَ يتزاورون وَإِلَى أهل النَّار كَيفَ يتعاوون فِيهَا وعزفت نَفسِي عَن الدُّنْيَا واستوى عِنْدِي حجرها ومدرها وذهبها وفضتها فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرفت فَالْزَمْ عبد نور الله الْإِيمَان فِي قلبه فَهَذَا نور على نور وَذَهَبت ظلمات الشَّهَوَات من الصَّدْر وَهِي الَّتِي كَانَت تحجبه عَن الله تَعَالَى ووعده ووعيده وتزين لَهُ فِي صَدره شهوات الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ}
هدى التَّوْحِيد شَرط المجاهدة وَهِي مُتَقَدّمَة عَلَيْهَا وَهدى الْولَايَة حكم المجاهدة فَهِيَ مُتَأَخِّرَة عَنْهَا وَهَذَا الْهدى نور يقذفه الله تَعَالَى فِي الْقلب بعد المجاهدة يسْتَقرّ فِيهِ وَهُوَ الْيَقِين فَإِنَّمَا سمي يَقِينا لِأَنَّهُ اسْتَقر فيمتلىء قلبه نورا ويشرق صَدره بِهِ فيتصور لَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وشأن(1/145)
الملكوت فِي صَدره وَيتَصَوَّر لَهُ أُمُور الْإِسْلَام حَتَّى تذل النَّفس وتنقاد وتلقي بِيَدَيْهَا السّلم من الخشية والهيبة وَالسُّلْطَان الَّذِي حل بِقَلْبِه وَفِي صَدره وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه}
فشرح الصَّدْر إِنَّمَا يكون من النُّور الَّذِي يسْتَقرّ فَيُقَال لَهُ نور الْيَقِين وَأما نور التَّوْحِيد فِي الْقلب والصدر بتراكم دُخان الشَّهَوَات مظلم كالليل وكالغيم وكالغبرة وكالدخان وكالقتار
وَهدى رَابِع على الْقُلُوب وَهُوَ هدى النُّبُوَّة وَهُوَ نور وَجهه الْكَرِيم يُوصل قُلُوبهم إِلَى وحدانيته ويشرق صُدُورهمْ بنوره ويجعلهم فِي قَبضته ويرعاهم بِعَيْنِه ويؤيدهم بِنور قدسه قَالَ الله تَعَالَى اجتبيناهم وهديناهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَقَالَ {أُولَئِكَ الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب وَالْحكم والنبوة} ثمَّ قَالَ {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده}
وَقَالَ الله تَعَالَى {قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى}
أَي إِن ذَلِك الَّذِي على أَلْسِنَة الرُّسُل غير نَافِع وَلَا مغيث وَإِنَّمَا الْهدى هُدَايَ الَّذِي أهدي على الْقُلُوب وَإِن كَانَ ذَاك أَيْضا يُسمى هدى فَهَذَا أَحَق الْهدى وَهُوَ كَمَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض وَلَكِن الْغنى غنى النَّفس(1/146)
وهدي الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام حجَّة الله على خلقه بِأَن يبين لَهُم على ألسنتهم ضَلَالَة سبيلهم ثمَّ ذكر هدى هَذِه الْأمة فَقَالَ {وَقَالَت طَائِفَة من أهل الْكتاب آمنُوا بِالَّذِي أنزل على الَّذين آمنُوا وَجه النَّهَار واكفروا آخِره لَعَلَّهُم يرجعُونَ} الْآيَة إِلَى أَن قَالَ {قل إِن الْهدى هدى الله}
أَي هَذَا الْهدى الَّذِي آتيناكم يَا أمة مُحَمَّد هدى الله فَقَوله إِن الْهدى معرفَة وَلَيْسَت بنكرة كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى شَيْء مَنْصُوص يَعْنِي الْهدى الَّذِي أَتَى هَذِه الْأمة هُوَ هدى الله أَي هُوَ الَّذِي تولاكم بالهداية
ثمَّ قَالَ {أَن يُؤْتى أحد مثل مَا أُوتِيتُمْ} أَي من الْهدى وَهُوَ الْيَقِين وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أَعْطَيْت أمة من الْيَقِين مَا أَعْطَيْت هَذِه الْأمة
ثمَّ قَالَ {أَو يحاجوكم عِنْد ربكُم} وَهِي المحاجة الَّتِي ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث يَوْم الْقِيَامَة(1/147)
ثمَّ قَالَ {قل إِن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم يخْتَص برحمته من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم}
أما الحَدِيث فَعَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مثلكُمْ وَمثل الْيَهُود وَالنَّصَارَى كَمثل رجل اسْتعْمل عمالا فَقَالَ من يعْمل لي من صَلَاة الصُّبْح إِلَى نصف النَّهَار على قِيرَاط قِيرَاط أَلا فَعمِلت الْيَهُود ثمَّ قَالَ من يعْمل لي من نصف النَّهَار إِلَى صَلَاة الْعَصْر على قِيرَاط قِيرَاط أَلا فَعمِلت النَّصَارَى ثمَّ قَالَ من يعْمل لي من صَلَاة الْعَصْر إِلَى صَلَاة الْمغرب على قيراطين قيراطين أَلا فَأنْتم فَغَضب الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَقَالُوا نَحن أَكثر عملا وَأَقل عَطاء فَقَالَ أظلمتكم من حقكم شَيْئا قَالُوا لَا قَالَ إِنَّمَا هُوَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء فَقَوله نَحن أَكثر عملا وَأَقل عَطاء فَقَالَ أظلمتكم من حقكم شَيْئا قَالُوا لَا قَالَ إِنَّمَا هُوَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء فَقَوله نَحن أَكثر عملا وَأَقل عَطاء هُوَ المحاجة عِنْد رَبهم قَوْله تَعَالَى {أَو يحاجوكم عِنْد ربكُم قل إِن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء}
فَذكر فِي الْآيَة أَن هَذِه الْأمة مُخْتَصَّة بِالرَّحْمَةِ مفضلة بالكرامة فالفضل الَّذِي آتَاهُم على الْأُمَم أَن أَعْطَاهُم الْيَقِين فِيهِ انْكَشَفَ الغطاء عَن قُلُوبهم حَتَّى صَارَت الْأُمُور لَهُم مُعَاينَة
عَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ لم يفضل أَبُو بكر(1/148)
رَضِي الله عَنهُ النَّاس بِكَثْرَة صَوْم وَلَا صَلَاة إِنَّمَا فَضلهمْ بِشَيْء كَانَ فِي قلبه
عَن عبد الرَّحْمَن بن زيد قَالَ قَالَ عبد الله أَنْتُم الْيَوْم أَكثر صياما وجهادا وَصَلَاة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم كَانُوا خيرا مِنْكُم قَالُوا فمم ذَاك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن قَالَ كَانُوا أزهد فِي الدُّنْيَا وأرغب فِي الْآخِرَة
وَقَالَ طَلْحَة بن عبيد الله رَضِي الله عَنهُ مَا كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ أولنا إسلاما وَلَا أقدمنا هِجْرَة وَلَكِن أزهدنا فِي الدُّنْيَا وأرغبنا فِي الْآخِرَة
وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن أَصَابَهُم مَا يحبونَ حمدوا وشكروا فَالْحَمْد هُوَ التَّكَلُّم بِكَلِمَة الْحَمد وَأما الشُّكْر فَهُوَ رُؤْيَة النِّعْمَة من الله تَعَالَى وَمن رأى النعم من الله تَعَالَى ذللته أثقال النعم وإنقاد لله تَعَالَى فَإِن الْآدَمِيّ مطبوع هَكَذَا ان من أحسن إِلَيْهِ فقد سبى قلبه وَصَارَ لَهُ كالآخذ بِالْيَدِ يذهب بِهِ حَيْثُ يَشَاء وَالنَّفس يهيمها الْبر واللطف والرفق وَالْإِحْسَان فَإِذا رأى العَبْد من الله تَعَالَى إحسانه وبره تذلل لَهُ واستحيى مِنْهُ أَن يُخَالف أمره
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ جبلت الْقُلُوب على حب من أكرمها وبغض من أهانها
وَعَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحبُّوا الله لما يغزوكم بِهِ من نعمه وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بَيْتِي بحبي(1/149)
وَعَن الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَا رب كَيفَ شكرك آدم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ علم أَن ذَلِك مني وَكَانَ ذَلِك شكره
فَأَما قَوْله احتسبوا وصبروا فالاحتساب أَن يرى ذَلِك الشَّيْء الَّذِي أَخذه لله وَإِن كَانَ قد صيره باسمه فَالْأَصْل هُوَ لله تَعَالَى فيحتسبه لله تَعَالَى كَمَا فِي الأَصْل وصبر أَي ثَبت فَلم يزل عَن مقَامه لله عز وَجل بِزَوَال ذَلِك الشَّيْء عَنهُ فَإِن العَبْد الْمُؤمن يَقُول انا لله وَهَا أناذا بَين يَدَيْهِ مُقيم فِي طَاعَته وَنعم الله عَلَيْهِ سابغة فَإِذا امتحنه وأزال عَنهُ نعمه زَالَ عَن مقَامه ذَلِك طَالبا لتِلْك النِّعْمَة الَّتِي زَالَت فَلَيْسَ هَذَا ثباتا وَالصَّبْر هُوَ الثَّبَات على الْمقَام بَين يَدَيْهِ وان لَا يعصيه
وَأما قَوْله وَلَا حلم وَلَا علم فَكَأَنَّهُ يخبر أَن الله عز وَجل قدر علما وحلما لخلقه يتحالمون فِيمَا بَينهم ويتعالمون فبذلك الْحلم يتخلقون بأخلاقهم كَمَا قدر فيهم رَحْمَة وَاحِدَة فَقَسمهَا بَينهم فبها يتراحمون فِيمَا بَينهم وَبهَا يتلاطفون وَمِنْه قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان الله عز وَجل قسم بَيْنكُم أخلاقكم كَمَا قسم بَيْنكُم أرزاقكم(1/150)
وَكَانَت هَذِه الْأمة آخر الْأُمَم فرق ذَلِك ودق فَلَو تَركهم على دقة تِلْكَ الْأَخْلَاق ورقة تِلْكَ الأحلام وَقلة الْعلم لم ينالوا من الْخَيْر إِلَّا قَلِيلا يَسِيرا وَهُوَ قَول عبد الله بن عمر وَلم يزل النَّاس ينقصُونَ فِي الْخلق والخلق والرزق وَالْأَجَل من زمن نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَقد كَانَ أحدهم يعمر ألف سنة
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن الْبرة فيهم كَانَت ككلوة الْبَقر والرمانة الْوَاحِدَة يقْعد فِي قشرها عشر نفر وَالرجل فِي خلقه ثَمَانُون باعا فَصَارَت الْأَعْمَار مَا بَين السِّتين إِلَى السّبْعين والبرة هَكَذَا والخلقة هَكَذَا
فَانْظُر كم التَّفَاوُت بَين العمرين وَبَين الخلقتين وَبَين الرزقين فَكَذَلِك بَين الخلقين فَكَأَنَّهُ على نَحْو مَا ذكر لم يبْق لنا من الْحلم وَالْعلم من الْحَظ إِلَّا يسير كَانَ مَا يفْسد أَكثر مِمَّا يصلح وكأنا فِي الْمِثَال كيأجوج وَمَأْجُوج إِذْ كَانَ لَا حلم وَلَا علم فصرنا بمنة الله تَعَالَى علينا بِهَذِهِ الصّفة الَّتِي وصف إِن أَصَابَهُم مَا يحبونَ حمدوا وشكروا وَإِن أَصَابَهُم مَا يكْرهُونَ احتسبوا وصبروا حَتَّى برزت هَذِه الْأمة على الْأُمَم وصاروا صفوة الرَّحْمَن والمقدمين يَوْم الْقِيَامَة والمبدوء بهم وَحرَام على الْأُمَم دُخُول الْجنَّة حَتَّى تدْخلهَا هَذِه الْأمة فَسَأَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ربه وَقَالَ كَيفَ يكون هَذَا الْفضل لَهُم وَلَا حلم وَلَا علم قَالَ أعطيهم من حلمي وَعلمِي وَهُوَ الْيَقِين الَّذِي أعطي هَذِه الْأمة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعطي أمتِي مَا لم يُعْط أحد وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَن يُؤْتى أحد مثل مَا أُوتِيتُمْ}(1/151)
ثمَّ قَالَ {قل إِن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم يخْتَص برحمته من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} وَقَوله وألزمهم كلمة التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما
فَقَوله أعطيهم من حلمي وَعلمِي أَي أعطيهم النُّور فِي قُلُوبهم فتنشرح لَهُ صُدُورهمْ وتتسع فَهُوَ حلمه وأصل الْحلم إتساع الْقلب والصدر بالأمور فَكلما دخل الصَّدْر فكرة أَمر ذاب فِيهِ وانهضم كَمَا ينهضم الطَّعَام فِي الْمعدة فاتسع الصَّدْر للأمور وصلحت وَطَابَتْ فَكل طَعَام لَا ملح فِيهِ فَلَا طعم لَهُ وكل أَمر لَا حلم لَهُ فِي الْقلب فَلَا يَتَّسِع لَهُ وَلَا تَجِد النَّفس طعم ذَلِك الْأَمر فتلفظه فَإِذا لفظته ضَاقَ الصَّدْر فَإِذا ورد النُّور على الْقلب اتَّسع الصَّدْر لذَلِك الْأَمر فَمِنْهُ تخرج محَاسِن الْأَخْلَاق وَالْأَفْعَال وَهُوَ قَوْله عز من قَائِل {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه}
والحلم وَالْملح يرجعان إِلَى معنى وَاحِد وكل وَاحِد مِنْهُمَا ثَلَاثَة أحرف تسْتَعْمل كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي نَوعه
وَأما قَوْله وَمن علمي فَإِنَّهُ لما ورد النُّور على قُلُوبهم صَارُوا فِي الْعلم بِاللَّه تَعَالَى وبأسمائه الْحسنى بِحَيْثُ سبى قُلُوبهم وَصَارَت قُلُوبهم مُتَعَلقَة بِذكرِهِ فاحتشت صُدُورهمْ من الْحِكْمَة وفهموا عَن الله تَعَالَى فصاروا أبرارا أتقياء فُقَهَاء وَلَو تَركهم على قسمهم وحظهم فِي آخر الْأُمَم من الَّذِي قدر لجَمِيع الْأُمَم من الْحلم وَالْعلم وَالرَّحْمَة لكَانَتْ(1/152)
هَذِه الْأمة أدنى الْأُمَم وأخسها فَلَمَّا من عَلَيْهِم بعطائه الْوَاسِع الْكَرِيم برزوا على الْأُمَم
فَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْتُم توفون سبعين أمة أَنْتُم خَيرهَا وَأَكْرمهَا على الله تَعَالَى فَإِنَّمَا قووا على أَن صَارُوا مُهَاجِرين وأنصارا هجروا أوطانهم وَأَمْوَالهمْ وَأَوْلَادهمْ ونصروا الله تَعَالَى وَرَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام وصاروا من بعدهمْ تابعين لَهُم بِإِحْسَان بِمثل هَذَا الْعَطاء الْوَاسِع وَالْيَقِين النَّافِذ أَي النَّافِذ من الْأَسْبَاب إِلَى ولي الْأَسْبَاب لِأَن النَّفس من شَأْنهَا أَنَّهَا لَا تتْرك شَيْئا قبضت عَلَيْهِ حَتَّى تطمع فِي شَيْء خير مِنْهُ وَإِلَّا فمخالبها أحد من أَن يقدر على الانتزاع مِنْهَا فَإِذا كَانَ فِي كفها دِرْهَم فأطمعت فِي دِينَار فرأت الدِّينَار رمت بالدرهم فَأَعْرَضت عَنهُ ثمَّ هِيَ مقبلة على الدِّينَار فَإِذا أطمت فِي جَوْهَر فَنَظَرت الى الْجَوْهَر الَّذِي يعدل ملْء بَيت دِينَارا لهت عَن الدِّينَار وَصَارَت خدرة ذبلة وضعفت قُوَّة مخالبها فَصَارَت سلسة فَأَقْبَلت على الْجَوْهَر معرضة عَن الدِّينَار وَالدِّرْهَم مشتغلة بالجوهر وتعنى بِهِ فلولا أَن من الله على هَذِه الْأمة بِهَذَا الْيَقِين حَتَّى طالعوا الملكوت وَعظم جلال الله فِي صُدُورهمْ مَتى كَانُوا مِمَّن يؤبه لَهُم ويعبأ بهم وهم آخر الْأُمَم وَأَقلهمْ حظا من الْحلم وَالْعلم الَّذِي قدر لهَذِهِ الْأُمَم
وَرُوِيَ عَن كَعْب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لما نظر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي الألواح قَالَ يَا رب إِنِّي أجد فِي الألواح صفة قوم على قُلُوبهم من النُّور أَمْثَال الْجبَال تكَاد الْبَهَائِم تَخِر لَهُم سجدا إِذا رَأَوْهُمْ من النُّور الَّذِي فِي صُدُورهمْ قَالَ تِلْكَ أمة أَحْمد يذمون أنفسهم وَلَا يعْجبُونَ بهَا فَمن سَعَة أَخْلَاقهم وَنور قُلُوبهم أمكنهم أَن يهاجروا وينصروا(1/153)
الله وَرَسُوله وَقَالَت بَنو إِسْرَائِيل لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {اذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ}
وَعَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ أجد فِي الْكتب أَن هَذِه الْأمة تحب ذكر الله تَعَالَى كَمَا تحب الْحَمَامَة وَكرها وهم أسْرع إِلَى ذكر الله من الْإِبِل إِلَى وردهَا يَوْم ظمأها(1/154)
- الأَصْل الثَّانِي وَالْعشْرُونَ
-
فِي النَّهْي عَن الْأكل على الخوان وَفِي السكرجة والمرقق
عَن قَتَادَة عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ مَا أكل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على خوان قطّ وَلَا فِي سكرجة وَلَا خبز لَهُ مرقق قلت لأنس فعلى مَا كَانُوا يَأْكُلُون قَالَ على السّفر
فالخوان هُوَ شَيْء مُحدث فعلته الْأَعَاجِم وَالْعرب لم تكن لتمتهنها وَكَانُوا يَأْكُلُون على السّفر واحدتها سفرة وَهِي الَّتِي تتَّخذ من الْجُلُود لَهَا معاليق تنضم وتنفرج فبالانفراج سميت سفرة لِأَنَّهَا إِذا حلت معاليقها انفرجت فأسفرت عَمَّا فِيهَا وَإِنَّمَا سمي السّفر لأسفار الرجل بِنَفسِهِ عَن الْبيُوت والعمران
وَقَوله وَلَا فِي سكرجة لِأَنَّهَا أوعية الأصباغ وَلم يكن من شَأْنهمْ(1/155)
الألوان إِنَّمَا كَانَ طعامهم الثَّرِيد عَلَيْهَا مقطعات اللَّحْم وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انهس اللَّحْم نهسا فَإِنَّهُ أشهى وأمرأ
قَوْله وَلَا خبز لَهُ مرقق فَكَانَ عَامَّة خبزهم الشّعير وَإِنَّمَا يتَّخذ الرقَاق من دَقِيق الْبر وَقل مَا يتَّخذ وَيُمكن اتِّخَاذه من الشّعير وَإِنَّمَا الرقَاق لمن اتخذ الميسر وَالْميسر من فعل الْعَجم وَالْعرب تنهس اللَّحْم عَن وَكِيع مَا درينا مَا ورد طَعَام الْمَرِيض حَتَّى جَاءَنَا ابْن الْمُبَارك وَالْميسر من تيسير اللَّحْم وَهُوَ تَفْرِيق اللَّحْم الْيَسِير على النَّفر الْكثير
فَإِن قَالَ قَائِل فقد جَاءَ فِي الْأَخْبَار ذكر الْمَائِدَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تصلي الْمَلَائِكَة على الرجل مَا دَامَت مائدته مَوْضُوعَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لَو كَانَ الضَّب حَرَامًا مَا أكل على مائدة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ فرقد رَأَيْت مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وطعمت على مائدته الطَّعَام
فالمائدة كل شَيْء يمد ويبسط مثل المنديل وَالثَّوْب والسفرة لنسب إِلَى فعله وَكَانَ حَقه أَن يكون مَادَّة الدَّال مضاعفة فَجعلُوا إِحْدَى الدالين يَاء فَقيل مائدة وَالْفِعْل وَاقع بِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يكون ممدودا وَلَكِن خرجت فِي اللُّغَة مخرج فَاعل كَمَا قَالُوا سر كاتم وَهُوَ مَكْتُوم(1/156)
وعيشه راضية وَهِي مرضية وَكَذَلِكَ قد خرجت فِي اللُّغَة مَا هُوَ فَاعل مخرج مفعول فَقَالُوا رجل مشؤوم وَإِنَّمَا هُوَ شائم وحجاب مَسْتُور وَإِنَّمَا هُوَ سَاتِر فالخوان هُوَ الْمُرْتَفع عَن الأَرْض بقوائمه والمائدة مَا مد وَبسط والسفرة مَا أَسْفر عَمَّا فِي جَوْفه وَذَلِكَ أَنَّهَا مَضْمُونَة بمعاليقها
عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ قَالَ الْأكل على الخوان فعل الْمُلُوك وعَلى المنديل فعل الْعَجم وعَلى السفرة فعل الْعَرَب وَهُوَ السّنة
وَلما غلب الْعَجم على هَذَا الْفِعْل قيل للخوان مائدة وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا جَاءَ فِي التَّنْزِيل من ذكر الْمَائِدَة وَإِنَّمَا نزلت سفرة حَمْرَاء مُدَوَّرَة(1/157)
- الأَصْل الثَّالِث وَالْعشْرُونَ
-
فِي الْأَمر بِقطع المراجيح
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِقطع المراجيح
مُرَجّح ومرجاح لُغَتَانِ فمرجح جمعه مراجح ومرجاح جمعه مراجيح كمفتح ومفاتح ومفتاح ومفاتيح وَهُوَ لَهو وَلعب إِنَّمَا كَانَ يَفْعَله الْعَجم فِي أَيَّام النيروز تفرجا وتلهيا عَن الغموم الَّتِي تراكمت على قُلُوبهم من رين الذُّنُوب وَقد تأدت الى الْعَرَب سنتها وَالْمُؤمن قد تعتوره الأحزان والغموم لَا محَالة فمحال أَن يَنْفَكّ عَنهُ غموم الذُّنُوب وأحزان مَشِيئَة الله تَعَالَى فِيهِ هَذَا حَال المقتصدة
فَأَما أهل الْمعرفَة وهم المقربون فغمومهم من الْبَقَاء فِي الدُّنْيَا فَإِن الدُّنْيَا مطبق المقربين ينتظرون مَتى الرَّاحَة مِنْهَا وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدُّنْيَا سجن الْمُؤمن(1/158)
وَأما أحزانهم فَمن ظماء الشوق إِلَى الله عز وَجل فهذان الصنفان لم ينفكوا من الغموم وَالْأَحْزَان وسائرهم مخلطون بطالون لعمرهم غافلون عَن الْآخِرَة سكارى حيارى سكارى عَن وعده ووعيده حيارى فِي سيرهم إِلَيْهِ وركض اللَّيْل وَالنَّهَار بهم إِلَى الله تَعَالَى فهم الَّذين يفزعون من غموم الدُّنْيَا ورين الذُّنُوب المعذبة لقُلُوبِهِمْ فِي ظلمات سجون الْمعاصِي إِلَى المرجاح تلهيا وتلعبا يتفرجون ويتنشطون ويتلبسون ويلتمسون النزهة ونسيمها وَلَا يعلمُونَ أَن النزهة فِي نزاهة الْقُلُوب وتطهيرها من آفَات النَّفس وخدعها ورين الذُّنُوب حَتَّى يَجدوا نسيم الملكوت وروح قرب الله تَعَالَى على قُلُوبهم فِي عَاجل دنياهم
رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْإِيمَان حُلْو نزه فنزهوا
فَإِذا التمس العَبْد هَذِه النزهة فَهُوَ نور على نور وَالْقلب مشحون بِالنورِ والصدر مشرق بِالنورِ يعلم من ربه وَيعلم مَا من بِهِ عَلَيْهِ ربه وَهُوَ عَنهُ غنى وَلكنه رَحمَه فَمن عَلَيْهِ مِمَّا يرى عِنْده فَأَي فَرح يَتَّسِع مَعَ هَذَا الْفَرح فِي قلب وَكَيف يبْقى فِي قلب فِيهِ هَذَا الْفَرح بِاللَّه متسع للفرح بالدنيا وَأَحْوَالهَا فالقلوب الَّتِي تعتورها غموم الْآخِرَة هِيَ نورانية تنفرج بِتِلْكَ الْأَنْوَار الَّتِي يطالع بهَا الْآخِرَة وعظيم الرَّجَاء من عِنْد الْمَاجِد الْكَرِيم وَأما الْقُلُوب الَّتِي تعتورها ظلمات الْمعاصِي فَهِيَ قُلُوب معذبة ونفوس لقسة وجوارح كسلة يُرِيدُونَ أَن يستروحوا إِلَى مثل هَذِه الْأَشْيَاء من الملاهي ويتنفسوا فِي فسيح النزهات وَقد أخذت غموم النَّفس بِأَنْفَاسِهِمْ وجرعتهم الغيظ فِي أَنهم لَا يصلونَ إِلَى مُنَاهُمْ على الصفاء فالملوك تخوف الْغدر والبيات مَعَهم والأمراء خوف الْعَزْل مَعَهم(1/159)
والأغنياء خوف السَّلب مَعَهم وَالْأَصْحَاب خوف السقم مَعَهم فَهَذِهِ مخاوف مظْلمَة تورد على الْقلب مغمات كسحائب متراكمات تغور فِي جوفها من الْحر وَمَعَ تِلْكَ السحائب حر مؤذ وذباب كلما ذب آب وبراغيث يمنعن بَعضهنَّ عَن الرقاد
فَهَذِهِ صفة قلب المتنزهة بنزهة الدُّنْيَا فالسحائب مَعَاصيه وَالَّذِي يغور فِي جوفها إصراره على الْمعاصِي وَالْحر المؤذي شهواته الَّتِي تغلي فِي صَدره والذباب مناه كلما قضى نهمته من شَيْء عَادَتْ الْأُخْرَى والبراغيث تنافسه فِي دُنْيَاهُ وَفِي أَحْوَال دُنْيَاهُ وثاب إِلَيْهَا فَإِذا لم يصل إِلَيْهَا رجعت عَلَيْهِ بحزازة فعضته وَهُوَ الْحَسَد والغيرة والبغضة وَالْبخل وَالشح فَأَي قلب هَذِه صفته يتهنى بِنِعْمَة من نعم الدُّنْيَا فَلَا يغرن عَاقِلا ظَاهر فَرَحهمْ
كَمَا رُوِيَ عَن الفضيل بن عِيَاض أَنه قَالَ ذل الْمعْصِيَة وَالله فِي قُلُوبهم وَإِن دقدقت بهم الهمالج أَبى الله إِلَّا أَن يذل أهل مَعْصِيَته فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقطع تِلْكَ المراجيح وَكره لَهُم أَن يتزيوا بزِي من اشْترى الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة فَلَا خلاق لَهُ هُنَاكَ مَعَ أَن الْخطر فِي ذَلِك غير قَلِيل فَرُبمَا انْقَطع الْحَبل فاندق الْعُنُق فَصَارَ معينا على نَفسه فَأَما الَّذِي يرخص فِيهِ للتداوي لمريض ضَاقَ بعلته صَدره أَو للصبيان يعللون بِهِ فَذَاك لَهُم كالمهد يرج فِيهِ حَتَّى يذهب بِهِ النّوم لِأَن الطِّفْل لَا يعقل مَا يصلح لَهُ وَلَا يصبر على الضجعة حَتَّى يَأْخُذهُ النّوم كَمَا يصبر الْكَبِير(1/160)
فيعلل بِتِلْكَ الأرجوحة فَيهْوِي بجسده تلقفا ودفعا حَتَّى ينَام فَلَيْسَ هَذَا بداخل عندنَا فِي النَّهْي لِأَن هَذَا يَأْخُذهُ على الِانْتِفَاع بِهِ لَا على الأشر والبطر وعَلى سَبِيل الملاهي فِي يَوْم أهل البطالات عَن دَاوُد بن أبي هِنْد رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَأَيْت الشّعبِيّ يتَرَجَّح فَنَظَرت إِلَيْهِ فَقَالَ إِنَّه نعت لي من وجع ظَهْري ومحتاجه هَذِه النَّفس إِلَى تَعْلِيل فِي كل مَكَان وَأَن تداوى ويرفق بهَا وَالله تَعَالَى رَفِيق يحب الرِّفْق فِي الْأُمُور كلهَا
عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله يحب الرِّفْق فِي الْأَمر كُله
وَعَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تَقول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حرم حَظه من الرِّفْق(1/161)
فقد حرم حَظه من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن أعطي حَظه من الرِّفْق فقد أعطي حَظه من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَمن الرِّفْق وَالتَّعْلِيل بِالنَّفسِ مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لما انْتَهَيْت إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى فَتَدَلَّى النُّور الْأَكْبَر فغشى السِّدْرَة فحار بَصرِي فحال دونه فرَاش من ذهب يعلله بذلك حَتَّى يقوى بَصَره على رُؤْيَة النُّور لِأَن الْفراش إِذا طَار هَكَذَا وَهَكَذَا حجبه مرّة وانكشف لَهُ مرّة
وَمَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة الْمِعْرَاج أَنه قَالَ لما انْتَهَيْت إِلَى قرب الْعَرْش تدلى رَفْرَف فأخذني من جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام تناولا إِلَى سَنَد الْعَرْش فَجعل يهوي بِي يخفضني مرّة ويرفعني مرّة
فَذَاك تَعْلِيل النَّفس وَذَلِكَ أَنَّهَا لَا تقوى على مُبَاشرَة الْأُمُور فِي دفْعَة وَاحِدَة إِلَّا قَلِيلا قَلِيلا فقربه الرفرف فِي رَفعه الْعَرْش ثمَّ خفضه ثمَّ رَفعه لكَي تتمالك النَّفس وَلَو كَانَت دفْعَة وَاحِدَة لَكَانَ قمنا أَن لَا يَتَمَالَك فَكَانَ الرفرف سَببا لتداريه والرفق بِهِ وَإِنَّمَا قيل رَفْرَف لِأَنَّهُ يرفرف حول الْمُشَاهدَة والقربة وَيُقَال هُوَ أَخْضَر من الدّرّ والياقوت فِيمَا جَاءَ بِهِ الْخَبَر وَإِن أردنَا بِمَا ذكرنَا من هَذِه الْأَشْيَاء أَن المرجاح الَّذِي يوضع فِيهِ الصَّبِي أَو الْمَرِيض ليرجح بِنَفسِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا حَتَّى يجد الصَّبْر على الإستقرار فِي موطن وَاحِد خَارج من النَّهْي وَإِنَّمَا وَقع النَّهْي على من تشبه بِأَهْل البطالة فِي ذَلِك الْيَوْم وبالملوك الفراعنة الَّذين تلذذوا بِهِ فَإِن ذَلِك فعل ملهى مطرب مَعَ الْغناء والجواري وَالسَّمَاع على شاطىء الْأَنْهَار فِي تِلْكَ الْخضر وَنور الرّبيع وَأخذت الأَرْض زينتها وزخرفها فِي أَيَّام(1/162)
النيروز مَعَ طيب الْهَوَاء وسجسجة الجو تنزهوا فِي نزهة الدُّنْيَا وتنعموا بالألوان وقضوا المنى والشهوات وحف بهم المعازف وركبوا المراجيح فتعجلوا طَيِّبَاتهمْ فِي حياتهم الدِّينَا
قَالَ الله تَعَالَى {وَيَوْم يعرض الَّذين كفرُوا على النَّار أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بهَا فاليوم تُجْزونَ عَذَاب الْهون بِمَا كُنْتُم تستكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَبِمَا كُنْتُم تفسقون}
فَبَلغنَا أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ كلم فِي امْتِنَاعه من التَّوَسُّع فِي النَّعيم فَتلا هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فَقيل لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَلَيْسَ هَذَا للْكفَّار فَقَالَ ثكلتك أمك الْكفَّار أَهْون على الله تَعَالَى من أَن يعاتبهم وَنظرت فِي هَذِه الْآيَة فَوجدت مبتدأها ذكر الْكفَّار وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَيَوْم يعرض الَّذين كفرُوا على النَّار} ثمَّ قَالَ فِي آخرهَا {فاليوم تُجْزونَ عَذَاب الْهون بِمَا كُنْتُم تستكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَبِمَا كُنْتُم تفسقون}
فَأخْبر أَنه إِنَّمَا جزاؤهم عَذَاب الْهون بالاستكبار بِغَيْر الْحق وبالفسق ليحذر الْمُؤمن أَن يستكبر فِي أرضه بِغَيْر الْحق وَأَن يفسق فَإِن دُخُول النَّار بالْكفْر وتضاعف الْعَذَاب وَقِسْمَة الدركات بِالْأَعْمَالِ السَّيئَة والأخلاق السَّيئَة وَدخُول الْجنَّة بِالْإِيمَان وتضاعف النَّعيم وَقِسْمَة الدَّرَجَات بِالْأَعْمَالِ والأخلاق الْحَسَنَة وَلما عير الْكفَّار بِالْكبرِ وَالْفِسْق فزع عمر رَضِي الله عَنهُ من ذَلِك وَحقّ لَهُ أَن يفزع من التَّعْجِيل بِبَعْض الطَّيِّبَات فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا والاستمتاع بهَا(1/163)
وَمن هَهُنَا مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أُتِي بِعَسَل قد خيض بِمَاء فَرده وَقَالَ أما إِنِّي لَا أحرمهُ وَلَكِنِّي أتركه تواضعا لله تَعَالَى
كَأَنَّهُ رأى أَن النَّفس إِذا أَعْطَيْت شهواتها فَذَاك من الاستكبار وَإِذا منعت فَذَاك من التَّوَاضُع لله تَعَالَى هَذَا فِيمَا حل وَأطلق لَهُ فَكيف بِمَا حرم عَلَيْهِ وان الله تَعَالَى خلق الْجنَّة فحشاها بالنعيم ثَوابًا لأَهْلهَا وَخلق النَّار فحشاها بِالْعَذَابِ عقَابا لأَهْلهَا وَخلق الدُّنْيَا فحشاها بالآفات وَالنَّعِيم محنة وابتلاء ثمَّ خلق الْخلق وَالْجنَّة وَالنَّار فِي غيب مِنْهُم لم يعاينوه فالنعيم والآفات الَّتِي فِي الدُّنْيَا من أنموذج الْآخِرَة ومذاقه فِيهَا وَخلق فِي الأَرْض من عبيده ملوكا أَعْطَاهُم سُلْطَانا أرعب بِهِ الْقُلُوب وَملك بِهِ النُّفُوس قهرا أنموذجا ومثالا لتدبيره وَملكه ونفاذ أمره وَوصف الدَّاريْنِ وَضرب الْأَمْثَال ثمَّ قَالَ {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ}
وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَهْوَة وَلَا نعْمَة إِلَّا وَهِي أنموذج الْجنَّة وذوقها ثمَّ من وَرَاء ذَلِك فِيهَا مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر وَلَا سمي للعباد مِنْهَا لم ينتفعوا بِتِلْكَ الْأَسْمَاء لأَنهم لم يعقلوه هَهُنَا وَلَا رَأَوْهُ وَلَا أنموذج لَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْجنَّة مائَة دَرَجَة وَإِنَّمَا وصف مِنْهَا ثَلَاث دَرَجَات الذَّهَب وَالْفِضَّة والنور ثمَّ مَا وَرَاء ذَلِك لَا تحتمله الْعُقُول وَلأَهل الْجنَّة تلاق وزيارات ومتحدث من مَوَاطِن الألفة ومجتمع فِي ظلّ طُوبَى ويركبون رفارف والرفرف شَيْء إِذا اسْتَوَى عَلَيْهِ رَفْرَف بِهِ وأهوى بِهِ كالمرجاح يَمِينا وَشمَالًا ورفعا وخفضا يتلذذ مَعَ أنيسه فَإِذا ركبُوا الرفارف أَخذ إسْرَافيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي السماع(1/164)
وَقَالَ طَلْحَة بن مطرف رَضِي الله عَنهُ يُعجبنِي أَن يمر بِي يَوْم النيروز وَأَنا لَا أشعر بِهِ وَمن ذهب يَصُوم فِي ذَلِك الْيَوْم وَيزِيد فِي أَعمال الْبر يتوخى بذلك خلافًا لَهُم فَهَذَا مَذْهَب أَيْضا وَلَكِن الْمَذْهَب الأول وَهُوَ مَا ذكره طَلْحَة بن مصرف أسلم لَهُ فَإِن هَؤُلَاءِ اتخذوه عيدا لنزهتهم وسرورهم وَهَذَا قد اتَّخذهُ عيدا لعبادته والإتخاذ يشبه الاتخاذ وَإِن كَانَ العملان متباينين أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن صَوْم يَوْم الْجُمُعَة وَقَالَ لَا تتخذوه عيدا
وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه أُتِي بفالوذج
فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا إِنَّه يَوْم نيروز وَذَلِكَ بِأَرْض الْعرَاق
قَالَ نورزوا كل يَوْم كَأَنَّهُ أَرَادَ ان لَا يعبأ بِهِ(1/165)
- الأَصْل الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
-
فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احشر أَنا وَأَبُو بكر وَعمر
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحْشر أَنا وَأَبُو بكر وَعمر هَكَذَا وَأخرج السبابَة وَالْوُسْطَى والبنصر وَأرَاهُ قَالَ وَنحن مشرفون على النَّاس
السبابَة من الْأَصَابِع الَّتِي تلِي الابهام وَكَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة تدعى السبابَة لأَنهم كَانُوا يسبون بهَا فَلَمَّا جَاءَ الله تَعَالَى بالاسلام سَموهَا المشيرة وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يشيرون بهَا إِلَى الله عز وَجل بِالتَّوْحِيدِ وَفِي حَدِيث وَائِل بن حجر سَمَّاهَا السباحة وَلَكِن اللُّغَة سَارَتْ بِمَا كَانَت تعرف فِي الْجَاهِلِيَّة فَغلبَتْ
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَأْكُلُوا بِهَاتَيْنِ وَأَشَارَ بالابهام والمشيرة وَقَالَ كلوا بِثَلَاث فَإِنَّهَا سنة وَلَا تَأْكُلُوا بِخمْس فَإِنَّهَا أَكلَة الْأَعْرَاب
فالأكل بالخمس عَلامَة الْحِرْص والاقتحام فِي الطَّعَام وَذَلِكَ مِمَّا يمحق الْبركَة وَيفْسد على أَصْحَابه حَتَّى يعافوه وَالْأكل بإصبعين مِمَّا لَا(1/166)
يَسْتَوْفِي وَهِي أَكلَة الْمُلُوك وزي أهل النخوة الَّذين يَسْتَكْبِرُونَ ويمتنعون عَن الْأكل عتوا وتجبرا وصلفا وَإِذا نظرُوا فبلحاظ أَعينهم وَإِذا تكلمُوا فبأشداق أَفْوَاههم وَإِذا سمعُوا فبأصعار خدودهم وَإِذا تناولوا فبأطراف أناملهم وَإِذا مَشوا فبأجنحة صُدُورهمْ وتمطي خواصرهم متبخترين مشْيَة مطيطا بِضَم الْمِيم مدودا بطرا وعلوا وَالْأكل بِثَلَاثَة أَصَابِع تواضع عَن النخوة وعفة عَن الْحِرْص فَالْأول غلو وَالْآخر تَفْرِيط وَمَا بَينهمَا وسط
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله ان دين الله وضع على الْقَصْد فَدخل الشَّيْطَان فِيهِ بالإفراط وَالتَّقْصِير فهما سبيلان إِلَى نَار جَهَنَّم وَعنهُ أَن دين الله تَعَالَى وضع دون الغلو وَفَوق التَّقْصِير
عَن كَعْب بن عجْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل بِثَلَاث أَصَابِع بالإبهام وَالَّتِي تَلِيهَا وَالْوُسْطَى ثمَّ رَأَيْته لحق أَصَابِعه الثَّلَاث حِين أَرَادَ أَن يمسحها فلعق الْوُسْطَى ثمَّ الَّتِي تَلِيهَا ثمَّ الْإِبْهَام
فَأَما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحْشر أَنا وَأَبُو بكر وَعمر يَوْم الْقِيَامَة هَكَذَا فَهَذَا على درجاتهم فَكَانَت إِشَارَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأصابعه الثَّلَاث
وَرُوِيَ لنا عَن أَصَابِع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن المشيرة مِنْهَا كَانَت أطول(1/167)
من الْوُسْطَى والبنصر أقصر من الْوُسْطَى وَذكر الْمنَازل والإشراف على الْخلق وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلاهم اشرافا ثمَّ من بعده أَبُو بكر دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوق عمر ثمَّ من بعده عمر دون أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا فَمن لم يعرف شَأْن أَصَابِع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمل تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث على الانضمام والاقتراب بَعضهم من بعض وَهَذَا معنى بعيد لِأَن حشر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حشر الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَحشر أبي بكر وَعمر حشر الصديقين رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَكَذَلِكَ مقَامه فِي العرصات هُوَ فِي مقَام النَّبِيين ومقامهما من العرصات مقَام الصديقين
عَن مَيْمُونَة بنت كروم رَضِي الله عَنْهَا قَالَت خرجت فِي حجَّة حَجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَقَد رَأَيْتنِي أتعجب وَأَنا جَارِيَة من طول إصبعه الَّتِي تلِي الْإِبْهَام على سَائِر أَصَابِعه(1/168)
- الأَصْل الْخَامِس وَالْعشْرُونَ
-
فِي أَن الْكِتَابَة قيد للْعلم وَحفظ لَهُ من النسْيَان
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيدوا الْعلم بِالْكِتَابَةِ
وَفِي الْمَأْثُور من الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى لما خلق آدم خلق لِقَلْبِهِ غاشية تنطبق مرّة وترتفع مرّة فَمَا سمع والغاشية مُرْتَفعَة حفظه وَمَا سمع والغاشية منطبقة نَسيَه
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مِم يذكر الرجل ومم ينسى فَقَالَ إِن على الْقلب طخاءة كطخاءة الْقَمَر فَإِذا تغشت الْقلب نسي بن آدم مَا كَانَ يذكر وَإِذا تجلت ذكر مَا كَانَ نسي
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أول من خطّ بالقلم بعد آدم إِدْرِيس عَلَيْهِمَا السَّلَام وَسمي بذلك لِأَنَّهُ كَانَ يدرس الْكتب وَكتب نوح(1/169)
عَلَيْهِ السَّلَام ديوَان السَّفِينَة وَكتب الله تَعَالَى التَّوْرَاة لعَبْدِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ تَعَالَى وكتبنا لَهُ فِي الألواح من كل شَيْء وَكتب الزبُور من زبر الرجل أَي كتب وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله وكل شَيْء فَعَلُوهُ فِي الزبر أَي فِي اللَّوْح وَأول مَا بَدَأَ شَأْن الْكِتَابَة بَدَأَ الْقَلَم واللوح فَكتب مَا هُوَ كَائِن
وَالْكتاب حق وتدبير من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ والكتب الْجمع بَين الْحُرُوف وَمِنْه سميت الكتيبة لِأَنَّهَا جمعت فَإِذا قيدت الْمعَانِي بِهَذِهِ الْحُرُوف المخطوطة الَّتِي هِيَ دَلَائِل على الْمعَانِي فَإِن كَانَت مَحْفُوظَة فالكتاب مُسْتَغْنى عَنهُ وَإِن نسيت صَار الْكتاب نعم الْمُسْتَوْدع وَإِن دخل الْقلب ريب فِي ذَلِك نفى الريب واطمأنت النَّفس وَقد أدب الله عز وَجل الْعباد وحثهم على مصالحهم فَقَالَ عز من قَائِل فِي شَأْن المداينة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم} الْآيَة
فَاعْلَم أَن الْكِتَابَة قسط عِنْد الله تَعَالَى وَهُوَ الْعدْل يُؤَدِّي مَا ائْتمن واستودع وأقوم للشَّهَادَة أَي أَحْرَى أَن يقوم بهَا وَأبْعد من الشَّك والريبة وَمن هَهُنَا أَخذ طَاوُوس فَقَالَ يَسعهُ أَن يشْهد على خطه وَهُوَ لَا يذكر فَإِذا كَانَ تجار الدُّنْيَا فِي المداينة فِيمَا بَينهم يقيدون الْأَمَانَات المؤجلة لِئَلَّا تدرس ليؤدوها فِي مَوَاقِيت حلهَا ندبهم الله تَعَالَى إِلَيْهِ ودلهم عَلَيْهِ كَانَ تجار الْآخِرَة فِي تَقْيِيد الْأَمَانَات الَّتِي أَخذ الله تَعَالَى الْمِيثَاق فِيهَا أَن يؤدوه وَلَا يكتموه أَحْرَى أَن يحافظوا عَلَيْهَا ويداوموا على إِثْبَاتهَا وَتَقْيِيد رسومها لِئَلَّا تدرس ليؤدوها فِي مواقيتها عِنْد حَاجَة الْخلق إِلَيْهَا فِي نوازلهم فَإِن أَمَانَة الدّين أعظم شَأْنًا من أَمَانَة الدُّنْيَا وَقد ائْتمن الله تَعَالَى(1/170)
أهل الْأَمْوَال ليحرزوها ويحفظوها ويراقبوا أَمر الله تَعَالَى فِيهَا من صرفهَا فِي وجوهها وَإِخْرَاج حُقُوقهَا وإنفاقها فِي السبل الَّتِي أذن الله تَعَالَى فِيهَا
وائتمن الله تَعَالَى أهل الْعلم على مَا أودعهم من نوره وبراهينه وَكتبه وحججه ليحرزوها ويحفظوها ويراقبوا أَمر الله تَعَالَى فِيهَا من صرفهَا فِي وجوهها وَوضع كل شَيْء مِنْهَا موَاضعهَا وَإِخْرَاج حُقُوقهَا لأهل الْحَاجة إِلَيْهَا وإنفاقها فِي السَّبِيل الَّتِي سبلها الله تَعَالَى لَهُم وَلِهَذَا مَا جَاءَ فِي الْخَبَر ان الله تَعَالَى يخْتَص هذَيْن الصِّنْفَيْنِ من جَمِيع الْخلق لِلْحسابِ فَيَقُول للْعُلَمَاء كُنْتُم رُعَاة غنمي وَلأَهل الْأَمْوَال كُنْتُم خزان أرضي فقبلكم الْيَوْم طلبني
فالمراعي بيد الْخزَّان والمرعى بيد الرُّعَاة إِذا أرعى الخازن الْغنم رعاه الرَّاعِي وَذَلِكَ أَن مرعى الْغنم دنياهم وَالدُّنْيَا بأيدي الْخزَّان وَالرِّعَايَة بأيدي الرُّعَاة يسوقهم إِلَيْهَا فيرعيهم ويوردهم المَاء حَتَّى يعيشوا وَهُوَ الْعلم الَّذِي بَين لَهُم مِنْهُ وَإِن تردي مترد جبر كسيرته وَإِن عدى الذِّئْب طردهم عَنهُ بالكلاب وَإِن مَال إِلَى منابت السوء من السمُوم القاتلة صرف وُجُوههم عَنْهَا فَهَؤُلَاءِ الرُّعَاة فَهَذَا شَأْن عَظِيم قد قلدوا من أُمُور الْخلق فَوَقَعت شدَّة الْحساب عَلَيْهِم وَإِذا منع الخازن هَلَكت الْغنم وَإِذا ضيع الرَّاعِي هَلَكت وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْخَبَر أَنه يُنَادى يَوْم الْقِيَامَة يَا راعي السوء أكلت اللَّحْم وشربت اللَّبن ولبست الصُّوف وَلم تأو لي الضَّالة وَلم تجبر الكسيرة وَلم ترعسها فِي مرعاها الْيَوْم أنتقم مِنْك
فَأَما قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن تُوضَع الأخيار وترفع الأشرار وَأَن تقْرَأ الْمُثَنَّاة على رُؤُوس النَّاس وَمَا(1/171)
شددت الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم فِي ذَلِك فَقَالُوا كتاب مَعَ كتاب الله فَإِن ذَلِك مِمَّا كَانَت الْيَهُود فعلته وَقد وصف الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم فَقَالَ فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا
وَذَلِكَ أَنه لما درس الْأَمر فيهم وَسَاءَتْ رَغْبَة عُلَمَائهمْ أَقبلُوا على الدُّنْيَا حرصا وجمعا فطلبوا شَيْئا يصرف وُجُوه النَّاس إِلَيْهِم فأحدثوا فِي شريعتهم وبدلوا وألحقوا ذَلِك بِالتَّوْرَاةِ وَقَالُوا لسفهائهم هَذَا من عِنْد الله ليقبلوها عَنْهُم فتتأكد رياستهم وينالوا بِهِ حطام الدُّنْيَا وَكَانَ مِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ أَن قَالُوا لَيْسَ علينا فِي الْأُمِّيين سَبِيل وهم الْعَرَب أَي مَا أَخذنَا من أَمْوَالهم فَهُوَ حل لنا وَكَانَ مِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ أَن قَالُوا لَا يضرنا ذَنْب فَنحْن أحباؤه وأبناؤه تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَإِنَّمَا كَانَ فِي التَّوْرَاة يَا أحباري وَيَا أَبنَاء رُسُلِي فغيروه وَكَتَبُوا يَا أحبائي وَيَا أبنائي فَأنْزل الله تَعَالَى تكذيبهم
{وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه قل فَلم يعذبكم بذنوبكم} فَقَالَت لن يعذبنا وَإِن عذبنا فأربعين يَوْمًا مِقْدَار أَيَّام الْعجل فَأنْزل الله تَعَالَى وَقَالُوا لن تمسنا النارإلا أَيَّامًا مَعْدُودَة قل أتخذتم عِنْد الله عهدا فَلَنْ يخلف الله عَهده أم تَقولُونَ على الله مَالا تعلمُونَ بلَى من كسب سَيِّئَة الأية
فحذر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الْأمة لما قد علم مَا يكون فِي آخرالزمان فَحَذَّرَهُمْ أَن يحدثوا من تِلْقَاء أنفسهم مُعَارضا لكتاب الله تَعَالَى(1/172)
فيضلوا بِهِ النَّاس والمثناة مَا ثني من الْكتاب ليصرف وُجُوه النَّاس عَن كتاب الله تَعَالَى فَأَما إِثْبَات الْكتاب وَمَا سمعُوا من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من تَفْسِيره وَبَيَانه وَشَرحه فمحمود قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا وَإِنِّي أُوتيت الْكتاب وَمثله فَلَا يتكئن أحدكُم على أَن يَقُول مَا وجدنَا فِي كتاب الله عز وَجل أَخذنَا بِهِ وَمَا لم نجد تَرَكْنَاهُ فِي كَلَام نَحْو هَذَا
وَكَانَ الَّذين يَأْخُذُونَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل بصائر ويقين وتجلية قُلُوب ويحفظون عَنهُ فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الْقرن الَّذِي يَلِيهِ وَظَهَرت الْفِتَن احْتِيجَ الى إثْبَاته فِي الْكتب
فَمنهمْ من هاب ذَلِك لِأَنَّهُ رَآهُ حَدثا وأمرا لم يكن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهاب أَن يكون بِدعَة وَمِنْهُم من تجاسر عَلَيْهِ لما رأى فِيهِ من النَّفْع كَمَا تجاسر أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ على جمع الْقُرْآن وهابه عمر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ أنفعل مَا لم يفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فَلم يزل يرادني فِي ذَلِك حَتَّى شرح الله صَدْرِي لذَلِك كَمَا شرح صَدره فَجمعُوا على تأليفه أبي بن كَعْب وقراء الْقُرْآن رَضِي الله عَنْهُم فَكَذَلِك هَذِه الْكتب لم يزل النَّاس كلما مضى قرن احوج إِلَى تَقْيِيده وَبَيَانه وَشَرحه لِأَن الْعلم فِي إدبار وَالْجهل فِي إقبال حَتَّى غلب الْجَهْل وأحاط بالخلق الْبلَاء ونجمت قُرُون الْبدع فأحوج مَا كَانُوا إِلَى شَرحه وَبَيَانه فِي هَذَا الْوَقْت وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَقد أذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لغير وَاحِد من أَصْحَابه فِي ذَلِك رضوَان الله عَلَيْهِم(1/173)
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رجلا شكى إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سوء الْحِفْظ فَقَالَ اسْتَعِنْ بيمينك
عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنهُ أَنه اسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صحيفَة يكْتب فِيهَا مَا سمع مِنْهُ فَأذن لَهُ
عَن عبد الله بن عَمْرو أَنه قَالَ يَا رَسُول الله أكتب مَا أسمع مِنْك قَالَ نعم قَالَ عِنْد الْغَضَب والرضى قَالَ نعم فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَن أَقُول إِلَّا حَقًا
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطب حَيْثُ افْتتح مَكَّة شرفها الله فَقَامَ رجل من أهل الْيمن يُقَال لَهُ أَبُو شاه فَقَالَ اكْتُبْ هَذَا لي يَا رَسُول الله فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اكتبوه لأبي شاه يَعْنِي تِلْكَ الْخطْبَة
عَن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ قَالَ قيدوا الْعلم قُلْنَا وَمَا تَقْيِيده قَالَ علمُوا وتعلموا واستنسخوه فَإِنَّهُ يُوشك أَن يذهب الْعلمَاء وَيبقى الْقُرَّاء لَا يُجَاوز قِرَاءَة أحدهم تراقيه(1/174)
- الأَصْل السَّادِس وَالْعشْرُونَ
-
فِي ذكر فتاني الْقَبْر
عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر يَوْمًا فتاني الْقَبْر فَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أترد إِلَيْنَا عقولنا يَا رَسُول الله قَالَ نعم كهيئتكم الْيَوْم فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فَفِي فِيهِ الْحجر
الْمُؤمن كريم على ربه يدل بزلفاه على خلقه فَمن عرض لَهُ بِسوء عَارضه بِإِذن الله معتزا بِاللَّه وَكَيف لَا يكون هَكَذَا وَقد أوصى الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يعلمُونَ}
اعْلَم أَن الْمُنَافِقين لَا يعلمُونَ هَذَا فَأَما الْمُؤْمِنُونَ فقد بَان لَهُم أَن الله تَعَالَى قد أعزهم وَبَان لَهُم عِنْد أنفسهم أَنهم إِنَّمَا يعتزون بِاللَّه تَعَالَى فعمر(1/175)
رَضِي الله عَنهُ حِين ذكر لَهُ فتاني الْقَبْر كَأَنَّهُ غاظه ذَلِك من فعل الفتانين فَفَزعَ إِلَى الله تَعَالَى وَسَأَلَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّمَا كَانَ يجد الْخَبَر من الْغَيْب على لِسَانه أترد إِلَيْنَا عقولنا فَلَمَّا قَالَ نعم كهيئتكم الْيَوْم أنطقته الجرأة الدَّالَّة لَا جرْأَة الحماقة وجرأة الدَّالَّة من الْيَقَظَة والمعرفة وجرأة الحماقة من الْجَهْل والغفلة فَقَالَ فَفِي فِيهِ الْحجر أَي أَنه إِذا كَانَ عَقْلِي الَّذِي معي الْيَوْم يرد عَليّ كَهَيْئَته الْيَوْم معي أسكته بِحسن الْجَواب فَكَأَنِّي ألقمته الْحجر أَي بجوابي وَبِمَا أعطي من سُلْطَان الْحق ونفاذ بَصِيرَة الْعقل لِأَنَّهُ نظر فَوَجَدَهُ كَأَنَّهُ أعطي سُلْطَان الامتحان وَنظر إِلَى نَفسه فَوَجَدَهُ قد أعطي سُلْطَان الْحق ونوره فَلم يبال بِهِ وَخلق خلقَة مُنكرَة وَسمي مُنْكرا لذَلِك وسمى صَاحبه نكيرا وَقد وصفهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف وشعورهما تَحت أقدامهما يحفران الأَرْض بأنيابهما فَإِذا كَانَ فِي الْقلب من سُلْطَان الْمعرفَة مَا لَا يهاب مُلُوك الدُّنْيَا وسائرها مَا ينفر مِنْهُ الْقُلُوب فَإِنَّهُ لَا يهاب مُنْكرا ونكيرا وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي رِوَايَة إِذا أكفيهما يَا رَسُول الله
وَعَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه خرج فِي سفر لَهُ فَإِذا الْجَمَاعَة على طَرِيق فَقَالَ مَا هَذِه الْجَمَاعَة قَالُوا أَسد قطع الطَّرِيق قَالَ فَنزل وَمَشى إِلَيْهِ حَتَّى قفده بِيَدِهِ ونحاه عَن الطَّرِيق ثمَّ قَالَ مَا كذب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِنَّمَا يُسَلط على ابْن آدم من خافه ابْن آدم وَلَو أَن ابْن آدم لم يرج إِلَّا الله لم يكله الله إِلَى أحد غَيره
وَحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا يدل على أَن كلا إِنَّمَا يرد إِلَيْهِ عقله الَّذِي خرج بِهِ من الدُّنْيَا على تِلْكَ الْهَيْئَة وَبَين الْعُقُول تفَاوت فَإِذا كَانَ عقل الرجل وافرا فَاسْتَقْبلهُ هول من أهوال الدُّنْيَا من ذِي سُلْطَان أَو(1/176)
غَيره فاستقام وَلم يدهش وَلم تصبه الْحيرَة فِي أمره كَانَ يَوْمئِذٍ مردودا عَلَيْهِ ذَلِك الْعقل فَإِذا استقبله هول فتاني الْقَبْر لم يدهش وَلم يتحير وَمن كَانَ عقله الْيَوْم مَا إِذا حل بِهِ شَيْء من ذَلِك الْوَجْه دهش وتحير وَلم يثبت على الإستقامة حَتَّى مَال كَانَ إِذا إستقبله هول فتاني الْقَبْر هُنَاكَ مثل ذَلِك وان الله تَعَالَى يلطف لعَبْدِهِ الْمُؤمن وينصره ويثبته فِي الْأَحَايِين كلهَا قَالَ عز من قَائِل {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} فعلى قدر ثباته فِي الدُّنْيَا يكون ثباته فِي الْقَبْر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ذكر حَدِيث الصُّور فَقَالَ فِي آخر ذَلِك بقول الله تَعَالَى لملك الْمَوْت عَلَيْهِ السَّلَام من بَقِي فَيَقُول بقيت أَنْت الْحَيّ القيوم الَّذِي لَا يَمُوت وَبَقِي عَبدك ملك الْمَوْت فَيَقُول يَا ملك الْمَوْت أَنْت خلق من خلقي خلقتك لما ترى فقد مَاتَ الْخلق كلهم فمت ثمَّ لَا تحيى أبدا
وَقد امتننع كثير من الروَاة من رِوَايَة هَذَا الْحَرْف ثمَّ لَا تحيى أبدا وهاب هَذِه الْكَلِمَة وَذَلِكَ مبلغ علمه فَنَظَرْنَا فِي هَذَا الْحَرْف فَوَجَدنَا أَن الله تَعَالَى يحب الْمُؤمن وَمن حبه إِيَّاه رزقه الْإِيمَان والمعرفة فقمن أَن يتْرك إحْيَاء ملك الْمَوْت عَلَيْهِ السَّلَام كَرَامَة للْمُؤْمِنين فَإِن كل من لَقِي من أحد شدَّة ثقل عَلَيْهِ النّظر إِلَيْهِ فَكيف بِمن قَتله وَقطع روحه من كل مفصل حَتَّى نَزعه أَلا ترى أَنه كَانَ يَأْتِيهم عيَانًا فَشَتَمُوهُ وآذوه فَشَكا إِلَى الله عز وَجل فصير أَمر فِي خَفَاء وهيأ لَهُم الْأَسْبَاب من(1/177)
الْأَمْرَاض والعلل لكَي يدرس ذكر ملك الْمَوْت عَلَيْهِ السَّلَام عَن قُلُوبهم وألسنتهم وَيَقُولُونَ مَاتَ فلَان بعلة كَذَا
أَلا ترى أَنه لطمه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ففقأ عينه فَرجع يشكو إِلَى الله عز وَجل وَإِنَّمَا فَقَأَ عين الصُّورَة الَّتِي كَانَ أَتَاهُ فِيهَا وَهَذَا عِنْد من يجهل مَعْنَاهُ مُنكر مَرْفُوع مُتَّهم رُوَاته وَكَيف يتهم رُوَاته وَقد روته الْأَئِمَّة من غير وَجه
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَانَ ملك الْمَوْت يَأْتِي النَّاس عيَانًا حَتَّى أَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَلَطَمَهُ ففقأ عينه فَرجع ملك الْمَوْت إِلَى ربه عز وَجل فَقَالَ يَا رب إِن عَبدك مُوسَى فعل بِي مَا ترى وَلَوْلَا كرامته عَلَيْك لشققت عَلَيْهِ قَالَ إرجع إِلَى عَبدِي مُوسَى فَقل لَهُ فليضع يَده على متن ثَوْر فخيره بِكُل شَعْرَة توازي كَفه أَن يعِيش سنة فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَا ملك الْمَوْت فَمَا بعد ذَلِك فَقَالَ الْمَوْت قَالَ فَمن الْآن قَالَ فشمه شمة فَقبض روحه فَرد عَلَيْهِ بَصَره فَكَانَ يَأْتِي النَّاس بعد ذَلِك فِي خُفْيَة
وَإِنَّمَا استجاز ذَلِك مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ كليم الله تَعَالَى كَأَنَّهُ رأى أَن من اجترأ عَلَيْهِ وَمد يدا بالأذى إِلَيْهِ فقد عظم الْخطب فِيهِ وَإِنَّمَا اعتز بِاللَّه تَعَالَى وَرغب فِي عِبَادَته ودعوة الْخلق إِلَيْهِ لَا شحا على الْحَيَاة وحرصا على الدُّنْيَا وتلذذا بهَا(1/178)
- الأَصْل السَّابِع وَالْعشْرُونَ
-
فِي أَن من السّنة مُشَاركَة الجليس فِي الْهَدِيَّة
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَى أحدكُم بهدية فجلساؤه شركاؤه فِيهَا
فالجلساء هم الَّذين داموا على مجالستهم مَعَك وفاوضوك فِي أمورك فَلَيْسَ كل من جلس إِلَيْك فَهُوَ جليسك كَمَا يُقَال أكيلك وشريبك وحريفك ووزيرك وَلَيْسَ كل من أكل مَعَك مرّة أَو وازرك على أَمر مرّة بأكيل أَو وَزِير فَإِذا أهْدى لَك فَلهُ من الْحق أَن تحذي لَهُ مِنْهَا لِأَن(1/179)
كرامتك كرامته وَهُوَ من أهل وَصِيَّة الله تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فَقَالَ {والصاحب بالجنب}
قيل فِي التَّفْسِير رفيقك فِي السّفر وجليسك فِي الْحَضَر وامرأتك الَّتِي تضاجعك
عَن مَالك بن دِينَار رَضِي الله عَنهُ قَالَ يَقُول الله تَعَالَى إِنِّي لأهم بِعَذَاب أهل الأَرْض فَإِذا نظرت إِلَى جلساء الْقُرْآن وعمار الْمَسَاجِد وولدان الْإِسْلَام يسكن غَضَبي
فَلَيْسَ كل من قَرَأَ الْقُرْآن فَهُوَ جليس الْقُرْآن إِنَّمَا الجليس من جالسه الْقُرْآن وفاوضه وأبدا لَهُ عَن أسراره وعجائبه وبواطنه وَإِنَّمَا يكون هَذَا لمن انْتَفَى عَنهُ جور قلبه وَذَهَبت خِيَانَة نَفسه فَأَمنهُ الْقُرْآن فارتبع فِي صَدره وَتكشف لَهُ عَن زينته وبهائه وَكَذَلِكَ عمار الْمَسَاجِد لَيْسَ كل من أنْفق فِي مَسْجِد أَو رمه فَهُوَ من الْعمار إِنَّمَا عمار الْمَسَاجِد من عمرها بِذكرِهِ قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} الْآيَة فجليس الْقُرْآن من جالسه الْقُرْآن فَإِذا وجدالقلب طَاهِرا جالسه الْقُرْآن وكشف عَن وَجهه فَإِن وَجهه بَاطِنه وَهَذَا ظَهره الَّذِي يعقله النَّاس
وَمِنْه مَا قيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّا لنجد لقراءتك لَذَّة يَا رَسُول الله مَا لَا نجد لقِرَاءَة أحد قَالَ لأنكم تقرأونه لظهر وَأَنا أقرأه لبطن فَلَا يكْشف عَن وَجهه إِلَّا الْأمين الَّذِي لَا يخونه(1/180)
وَمثله كَمثل عروس مزين مد يَده إِلَيْهَا دنس متلوث فِي الْمَزَابِل متلطخ بالأقذار وَهِي تعرض عَنهُ أَنَفَة وتعافه وتقذره فَإِذا تطهر ثمَّ تزين فقد أدّى حَقّهَا أَقبلت إِلَيْهِ بوجهها ففاوضته وَصَارَت لَهُ جليسة فَكَذَلِك الْقُرْآن لَهُ ظهر وبطن فوجهه مِمَّا يَلِي بَطْنه والزينة والبهاء وَالْحسن فِي الْوَجْه فَلَا يكون جَلِيسا إِلَّا من تطهر من الذُّنُوب ظَاهرا وَبَاطنا وتزين بِالطَّاعَةِ ظَاهرا وَبَاطنا فَعندهَا يأمنه الْقُرْآن فيتحلى لَهُ بزينته وبهائه ومواعظه وَحكمه وَمَا حشى الله تَعَالَى فِيهِ من الْمَنّ واللطف لِعِبَادِهِ وَحرَام على من لَيْسَ هَذِه صفته أَن ينَال ذَلِك وَكَيف ينَال الْبر واللطف عبد آبق من مَوْلَاهُ هارب على وَجهه لَا يزْدَاد على تجدّد الْأَيَّام إِلَّا هربا بِنَفسِهِ إِنَّمَا ينَال الْبر إِذا أقبل إِلَيْهِ من إباقه تَائِبًا نَادِما فيمكث فِي التَّوْبَة مُدَّة يظْهر لَهُ نصحه فهناك فليتوقع بره ولطفه فَكَذَلِك هَذَا كَيفَ ينَال الْبر واللطف من الله تَعَالَى من قلبه مكب على حطام الدُّنْيَا وَقَضَاء الشَّهَوَات وَإِنَّمَا الْبر واللطف لِلْمُتقين والمحسنين وَقَالَ تَعَالَى {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق}
وَعَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من تواضع لله دَرَجَة رَفعه الله دَرَجَة وَمن تواضع لله دَرَجَات رَفعه الله دَرَجَات حَتَّى يَجعله فِي أعلا عليين وَمن تكبر على الله دَرَجَة وَضعه الله دَرَجَة وَمن تكبر على الله دَرَجَات وَضعه الله دَرَجَات حَتَّى يَجعله فِي أَسْفَل سافلين(1/181)
فالمتكبر بِغَيْر الْحق هُوَ الَّذِي يقْضِي نهمته وشهوته وَلَا يُبَالِي أذن الله لَهُ فِيهَا أَو لم يَأْذَن فَهُوَ من الله تَعَالَى على عُقُوبَة أَن يضيعه فَكيف ينيله الْبر واللطف الَّذِي يرِيه أحباءه فِي تَنْزِيله الْكَرِيم بل إِذا تلاه صرف قلبه عَنْهَا فَلَا يعيه وَلَا يفهمهُ كَمَا صرف هَذَا بِقَلْبِه عَن الله تَعَالَى إِلَى نَفسه ودنياه وَرُوِيَ فِي التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض} قَالَ أنزع عَنْهُم فهم الْقُرْآن فَلَا يفهمونه وَلَا يحدون لَهُ حلاوة وَلَا لذاذة وَذَلِكَ أَن الْفَهم نور إِذا ورد على الْقلب دنس الْمعاصِي ارتحل النُّور فتحير عَن فهمه وَرُوِيَ فِي الحَدِيث أَنه قَالَ يَأْتِي على النَّاس زمَان يخلق الْقُرْآن فِي صُدُورهمْ حَتَّى يتهافت مثل الثَّوْب الْخلق الْبَالِي(1/182)
- الأَصْل الثَّامِن وَالْعشْرُونَ
-
فِي سر إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَمَا رجل يمشي فِي الطَّرِيق إِذا أبْصر بِغُصْن شوك فَقَالَ وَالله لأرفعهن هَذَا لَا يُصِيب أحدا من الْمُسلمين فرفعه فغفر لَهُ
قَالَ أَبُو عبد الله لَيْسَ بِرَفْع الْغُصْن نَالَ الْمَغْفِرَة فِيمَا نعلمهُ وَلَكِن بِتِلْكَ الرَّحْمَة الَّتِي عَم بهَا الْمُسلمين فَشكر الله لَهُ عطفه ورأفته بهم
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَمَا عبد لم يعْمل لله خيرا قطّ مر على بِئْر فَشرب فَإِذا هُوَ بكلب يَلْهَث عطشا فغرف لَهُ بخفه فَسَقَاهُ فَشكر الله لَهُ ذَلِك فغفر لَهُ وبينما عبد لم يعْمل لله(1/183)
تَعَالَى خيرا قطّ فَمر على غُصْن شوك فأماطه عَن الطَّرِيق فغفر الله لَهُ وبينما عبد لم يعْمل لله تَعَالَى خيرا قطّ فَفرق فَخرج هَارِبا فَجعل يُنَادي يَا أَرض اشفعي لي وَيَا سَمَاء اشفعي لي وَيَا كَذَا اشفعي لي حَتَّى أَصَابَهُ الْعَطش فَوَقع فَلَمَّا أَفَاق قيل لَهُ قُم فقد شفع لَك من قبل فرقك من الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو عبد الله فَإِنَّمَا غفر لَهُ من أجل الرَّحْمَة الَّتِي رحم بهَا الْكَلْب وَإِنَّمَا غفر لَهُ من أجل الْفرق الَّذِي حل بِقَلْبِه لِأَنَّهُ عمل فِيهِ حَتَّى فَارق الْمعاصِي أصلا فَتَركه بالجوارح فعلا وَتَركه قلبا ونفسا فطهر الظَّاهِر وَالْبَاطِن واماتت مِنْهُ شَهْوَة كل مَعْصِيّة وَالَّذِي يتْرك الْمعاصِي بجوارحه وشهوتها فِي قلبه وَنَفسه تنازعه إِلَى ذَلِك فَإِنَّهُ طهر ظَاهره فَلم يطهر بَاطِنه فَلم يستكمل التَّوْبَة بحقيقتها وَلما أنزل الله تَعَالَى على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} قَالَ فَلَمَّا تَلَاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَصْحَابه رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ خر فَتى مغشيا عَلَيْهِ فَوضع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَده على فُؤَاده فَإِذا هُوَ يَتَحَرَّك قَالَ يَا فَتى قل لَا إِلَه إِلَّا الله فأفاق الْفَتى وَهُوَ يَقُولهَا فبشره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجنَّةِ فَقَالَ أَصْحَابه يَا رَسُول الله أَمن بَيْننَا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما سَمِعْتُمْ الله يَقُول {ذَلِك لمن خَافَ مقَامي وَخَافَ وَعِيد}
والرهب هرب الْقلب من هول سُلْطَان الله وَهُوَ أكبر من الْخَوْف وَالْخَوْف خيفته وانزعاجه والرغب التهاب الْقلب حرصا على الشَّيْء وَهُوَ أَعلَى من الطمع(1/184)
- الأَصْل التَّاسِع وَالْعشْرُونَ
-
فِي النَّظَافَة
عَن عبد الله بن بشر الْمَازِني رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصوا أظافيركم وادفنوا قلاماتكم ونقوا براجمكم ونظفوا لثاتكم من الطَّعَام وتسننوا وَلَا تدْخلُوا عَليّ قخرا بخرا
أما قصّ الْأَظْفَار فَلِأَنَّهَا تخدش وتضر وَهُوَ مجمع الْوَسخ وَرُبمَا أجنب وَلَا يصل المَاء إِلَى الْبشرَة من الْوَسخ فَلَا يزَال جنبا والأظافير جمع الأظفور والأظفار جمع الظفر وَفِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سَهَا فِي صلَاته فَقَالَ وَمَا لي لَا أوهم وَرفع أحدكُم بَين ظفره وأنملته ويسألني أحدكُم عَن خبر السَّمَاء وَفِي أظافيره الْجَنَابَة والتفث
وَأما دفن القلامة فَإِن جَسَد الْمُؤمن ذُو حُرْمَة فَمَا سقط مِنْهُ فحظه من(1/185)
الْحُرْمَة قَائِم وَقد أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بدفن دَمه حَيْثُ احْتجم كَيْلا يبْحَث عَنهُ الْكلاب
وَعَن عبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنهُ أَنه أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يحتجم فَلَمَّا فرغ قَالَ يَا عبد الله بن الزبير اذْهَبْ ببهذا الدَّم فاهرقه حَيْثُ لَا يراك أحد فَلَمَّا برز عمد إِلَى الدَّم فشربه فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ يَا عبد الله مَا صنعت بِهِ قَالَ جعلته فِي أخْفى مَكَان ظَنَنْت أَنه خَافَ على النَّاس قَالَ لَعَلَّك شربته قَالَ نعم قَالَ لم شربت الدَّم ويل للنَّاس مِنْك وويل لَك من النَّاس
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر بدفن سَبْعَة أَشْيَاء من الْإِنْسَان الشّعْر وَالظفر وَالدَّم والحيضة وَالسّن والقلفة والمشيمة
والبرجمة ظهر عقدَة كل مفصل وَهُوَ مجمع الدَّرن والراجبة قصب الإصبع مَا بَين العقدتين فَلِكُل إِصْبَع برجمتان وَثَلَاث رواجب إِلَّا الْإِبْهَام فَإِن لَهَا برجمة وراجبتين أَمر بتنقيتها لِئَلَّا تدرن فيحول درن تِلْكَ الْفُصُول بَين المَاء والبشرة وَتبقى الْجَنَابَة واللثة هِيَ اللحمة فَوق الْأَسْنَان وَدون الْأَسْنَان وَهِي منابتها والعمور اللحمة القليلة بَين السنين وَاحِدهَا عمر أَمر بتنظيفها لِئَلَّا يبْقى فِيهَا وضر الطَّعَام فتتغير النكهة وتنكر الرَّائِحَة
وَقَوله تسننوا أَي استاكوا مَأْخُوذ من السن أَي نظفوا السن وَقَوله لَا تدْخلُوا عَليّ قخرا بخرا الْمَحْفُوظ عِنْدِي قلحا وقحلا والأقلح الَّذِي اصْفَرَّتْ أَسْنَانه حَتَّى بخرت من بَاطِنهَا وَلَا نَعْرِف القخر والبخر إِلَّا الَّذِي نجد لَهُ رَائِحَة مُنكرَة يُقَال رجل أبخر وَرِجَال بخر(1/186)
- الأَصْل الثَّلَاثُونَ
-
فِي أدب الصُّحْبَة
عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ من أمتِي من لم يجل كَبِيرنَا وَيرْحَم صَغِيرنَا وَيعرف لعالمنا حَقه
فالإجلال للكبير هُوَ حق سنه الله تَعَالَى أَنه تقلب فِي العبودة لله تَعَالَى فِي مُدَّة طَوِيلَة وَالرَّحْمَة للصَّغِير هُوَ مُوَافقَة لله تَعَالَى بِأَنَّهُ رَحمَه وَرفع عَنهُ العبودة فَلم يؤاخذه بِحِفْظ حد وَلَا حكم وَمَعْرِفَة حق الْعَالم هُوَ حق الْعلم أَن يعرف قدره بِمَا رفع الله من قدره وآتاه الْعلم قَالَ تَعَالَى {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} فَيعرف درجاته الَّتِي رفع رفع الله لَهُ بِمَا آتَاهُ من الْعلم(1/187)
- الأَصْل الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي حَقِيقَة الاستيداع وسره
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أردْت سفرا أَو تخرج مَكَانا فَقل لأهْلك أستودعكم الله الَّذِي لَا يخيب ودائعه
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر إِن الله إِذا استودع شَيْئا حفظه أصل الْوَدِيعَة هُوَ التّرْك والتخلي عَن الشَّيْء وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} أَي مَا تَركك
وَإِن الله تَعَالَى جعل الْأُمُور إِنَّمَا تقوم بالأسباب محنة وبلوى لينْظر من ينفذ قلبه من الْأَسْبَاب إِلَى ولي الْأَسْبَاب وَمن يتَعَلَّق بهَا فَيكون قلبه سبيا من سبي الْأَسْبَاب فَيكون مثله كَمَا ذكر الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله فَقَالَ(1/188)
{ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل}
فَهَذَا فِي الظَّاهِر تَجِد رجلا يعبد أصناما ورجلا سلما للْوَاحِد القهار وَفِي الْبَاطِن رجلا فِي قلبه شُرَكَاء متشاكسون وَهِي شهواته الَّتِي تغلي فِي صَدره فقد سبى قلبه أَسبَاب تِلْكَ الشَّهَوَات ورجلا قد انْفَرد قلبه للْوَاحِد وخلا من جَمِيع الْأَسْبَاب وَمَاتَتْ نَفسه من الشَّهَوَات {هَل يستويان مثلا} ثمَّ قَالَ {الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ}
ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ}
فَأهل الظَّاهِر لم يعبروا عَن الْأَسْبَاب إِلَى وَليهَا فضيعوا حُقُوقه وركبوا مساخظه وَأهل الْيَقِين يعلمُونَ ربوبيته قَائِمَة فِي الْأَسْبَاب فَلَا تطرف عين وَلَا ينبض عرق وَلَا تحس حاسة إِلَّا بِإِذْنِهِ وقوام الْأَشْيَاء ودوامها بِهِ فاحتدت أبصار قُلُوبهم بِنور الْيَقِين فنفذت إِلَى تَدْبِير ولي الْأَسْبَاب فاستوطنت على الْقرْبَة عاكفة على رَبهَا عز وَجل وَوَلَّتْ الْأَسْبَاب ظهرا فَهُوَ يمْضِي فِي الْأَسْبَاب كَسَائِر الْخلق والأسباب لَا تَأْخُذهُ وَلَا تفتن قلبه لِأَن قلبه بَين يَدي الْخَالِق مبهوت فِي جَلَاله وعظمته والأسباب من وَرَاء ظَهره فَهُوَ يمْضِي فِيهَا وَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا
وَإِنَّمَا تأخذالأسباب من استنزلته نَفسه وَصَارَ قلبه سبيا لنَفسِهِ وأسيرا من أسرائه فَإِذا خلف شَيْئا فِي مَكَان أَرَادَ أَن يغيب عَنهُ واستودع الله ذَلِك الشَّيْء فَهد امنه فِي ذَلِك الْوَقْت تخل وتبرؤ من حفظه ومراقبته لِأَنَّهُ(1/189)
مَا دَامَ مَعَه فَهُوَ فِي نَفسه يحْسب أَنه هُوَ الَّذِي يحفظه ويكلؤه ويرعاه وَهُوَ يَقُول مَعَ هَذَا {الله خير حَافِظًا}
وَلَكِن هَذَا القَوْل مِنْهُ قَول الْمُوَحِّدين لَا قَول الموقنين ثمَّ اذا خَلفه فِي حرز أَو فِي حراسة غَيره أَو أخفاه فِي مَوضِع فقد وَكله إِلَى ذَلِك الْحِرْز والحراسة وَإِذا جعله هَكَذَا ثمَّ مَعَ هَذَا أودعهُ ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقد وَكله إِلَى الله وتبرأ من حفظه وَحفظ حرزه وحارسه وتخلى مِنْهُ مضى فِي تَدْبِير الْآدَمِيّين أَن يحرزوا أَو يحرسوا ثمَّ وَكله إِلَى الله تَعَالَى فَوَجَدَهُ مَلِيًّا وفيا كَرِيمًا
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من توكل على الله كَفاهُ
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سره أَن يكون أقوى النَّاس فَليَتَوَكَّل على الله فَإِنَّهُ إِذا توكل قوي قلبه وَلم يبال بِأحد وَذَهَبت مخاوفه
وَقَالَ عز وَجل {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه}
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من انْقَطع إِلَى الله كَفاهُ
وان الله أعْطى الْخلق علم الْأُمُور وَعلم أَسبَابهَا وَعلم حيلها وَأَعْطَاهَا الْقُوَّة وَمَعْرِفَة التَّصَرُّف فِي ذَلِك وَلم يُغْنِهِم عَن نَفسه بِمَا أَعْطَاهُم فالغافل الأحمق يرى أَن مَا أعطي من هَذِه الْأَشْيَاء يقتدر بهَا فِي الْأُمُور ويتملك(1/190)
فيريه الله تَعَالَى ضعفه وَفَقره وعجزه ويعرفه أَنه لَا يقوم لَهُ شَيْء إِلَّا بِهِ وان الْأَسْبَاب الَّتِي أَعْطَاهَا كلهَا لَهُ عجزة ضعفاء مثله وَإِذا قَالَ العَبْد لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه تَبرأ من الْأَسْبَاب وتخلى من وبالها فَجَاءَتْهُ الْقُوَّة والعصمة والغياث والتأييد وَالرَّحْمَة
قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله حَدثنَا عبيد بن إِسْحَاق الْعَطَّار الْكُوفِي قَالَ حَدثنَا عَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُم قَالَ حَدثنِي زيد بن أسلم عَن أَبِيه قَالَ بَيْنَمَا عمر رَضِي الله عَنهُ يعرض النَّاس إِذا هُوَ بِرَجُل مَعَه ابْنه فَقَالَ لَهُ عمر وَيحك حَدثنِي مَا رَأَيْت غرابا بغراب أشبه بِهَذَا مِنْك قَالَ أما وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا وَلدته أمه إِلَّا ميتَة فَاسْتَوَى لَهُ عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ وَيحك حَدثنِي
قَالَ خرجت فِي غزَاة وَأمه حَامِل بِهِ فَقَالَت تخرج وتدعني على هَذَا الْحَال حَامِلا مُثقلًا قلت أستودع الله مَا فِي بَطْنك قَالَ فغبت ثمَّ قدمت فَإِذا بَابي مغلق قلت فُلَانَة قَالُوا مَاتَت فَذَهَبت الى قبرها أبْكِي فَلَمَّا كَانَ من اللَّيْل قعدت مَعَ بني عمي أتحدث وَلَيْسَ يسترنا من البقيع شَيْء فَرفعت لي نَار بَين الْقُبُور فَقلت لبني عمي مَا هَذِه النَّار فَتَفَرَّقُوا عني فَأتيت أقربهم مني فَسَأَلته فَقَالَ نرى على قبر فُلَانَة كل لَيْلَة نَارا فَقلت إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون أما وَالله إِن كَانَت لصوامة قَوَّامَة(1/191)
عفيفة مسلمة انْطلق بِنَا فَأخذت فأسا فَإِذا الْقَبْر منفرج وَهِي جالسة وَهَذَا يدب حولهَا وناداني مُنَاد من السَّمَاء أَيهَا الْمُسْتَوْدع ربه وديعته خُذ وديعتك أما لَو اسْتوْدعت أمه لوجدتها فَأَخَذته وَعَاد الْقَبْر كَمَا كَانَ فَهُوَ وَالله هَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
قَالَ عبيد فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْعمريّ فَقَالَ هَذَا وَالله الْحق وَقد سَمِعت عَم أبي عَاصِم يذكرهُ وَقَالَ وَرَأَيْت ابْن ابْن هَذَا الرجل بِالْكُوفَةِ وَقَالَ لي موالينا هُوَ هَذَا(1/192)
- الأَصْل الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي بطاقة الْبُهْتَان وَبَيَان الِاحْتِرَاز مِنْهُ
عَن ابْن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجاء بِالْعَبدِ يَوْم الْقِيَامَة فتوضع حَسَنَاته فِي كفة وسيئآته فِي كفة فترجح السَّيِّئَات فتجيء بطاقة فَتَقَع فِي كفة الْحَسَنَات فترجح بهَا فَيَقُول يَا رب مَا هَذِه البطاقة فَمَا من عمل عملته فِي ليلِي ونهاري إِلَّا وَقد اسْتقْبلت بِهِ قَالَ هَذَا مَا قيل فِيك وَأَنت مِنْهُ بَرِيء قَالَ فينجو بذلك
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام مَا أثقل شَيْء فَقَالَ الْبُهْتَان على البريء
عَن عَليّ كرم الله وَجهه الْبُهْتَان على البريء أثقل من السَّمَوَات(1/193)
وَإِنَّمَا صَار هَكَذَا لِأَن الْآدَمِيّ ائْتمن على جوارحه السَّبع ووكل برعايتهن أَيَّام الْحَيَاة لِئَلَّا تدنس حَتَّى يقدم على الله تَعَالَى وَهُوَ مقدس يصلح لدار الْقُدس وَأَن يكون مجاورا للقدوس وزائرا لَهُ فَإِذا رعاهن هَذَا الْمُؤمن ثمَّ ضيع مِنْهُ مَا ضيع من غَفلَة أَو زلَّة أَو فتْنَة فَمن وَرَائه النَّدَم والإقلاع وَالِاسْتِغْفَار وَبَاب التَّوْبَة مَفْتُوح فَإِذا رعى العَبْد هَذِه الْجَوَارِح فَقَالَ هَذَا فِي عرضه مَا هُوَ بري مِنْهُ فقد خونه فِي أَمَانَة الله تَعَالَى عِنْده وَلم يخن ورماه بداهية هُوَ فِيهَا ساع بِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَغير مَقْبُولَة سعايته لِأَن علام الغيوب مطلع على كذبه وَكتب فِي شُهَدَاء الزُّور وَقد نهى الله تَعَالَى عَنهُ وقرنه بالشرك فَقَالَ تَعَالَى {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور}
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبُهْتَان عدل بالشرك بِاللَّه
وَسمي بهتانا لِأَنَّهُ يبهت الْقلب ويحيره من ظلمته فَإِن الظُّلم ظلمات وَإِذا بهت الْقلب وتحير فِي الظلمَة ذهبت الْهِدَايَة والبصيرة وَهُوَ بِمَنْزِلَة الشَّمْس إِذا انكسفت فتهافت نورها فَيصير الَّذِي نيل من عرضه بِهَذَا الْبُهْتَان عِنْد الله تَعَالَى بِحَال رَحْمَة حَيْثُ أُصِيب من عرضه وخلص الْأَلَم إِلَى قلبه وَإِذا كَانَ بَرِيئًا فَهُوَ أوجع لِقَلْبِهِ(1/194)
- الأَصْل الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي سر الاحتجاب وَبَيَان حكمه
عَن نَبهَان مولى أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه حدث أَن أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدثته أَنَّهَا كَانَت عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَيْمُونَة قَالَت بَينا نَحن عِنْده إِذا أقبل إِبْنِ أم مَكْتُوم فَدخل عَلَيْهِ وَذَلِكَ بعد أَن أَمر بالحجاب فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احتجبا مِنْهُ فَقُلْنَا يَا رَسُول الله أَلَيْسَ هُوَ الْأَعْمَى لَا يُبصرنَا وَلَا يعرفنا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفعمياوان أَنْتُمَا ألستما تبصرانه
قَالَ أَبُو عبد الله إِنَّمَا ضرب الْحجاب عَلَيْهِنَّ كَرَامَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإجلالا لَهُ وصير الله تَعَالَى أَزوَاجه أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ ليحرمن على من بعده وَقد تكلم بَعضهم فِي حَيَاته بِشَيْء من تزويجهن فَنزلت(1/195)
{مَا كَانَ لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله وَلَا أَن تنْكِحُوا أَزوَاجه من بعده أبدا إِن ذَلِكُم كَانَ عِنْد الله عَظِيما} وَنزلت {النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}
فَانْقَطع الْخطاب الَّذِي كَانَ فِيمَا بَينهم والطمع فِي شأنهن فصرن أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَلَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ بِمحرم لَهُنَّ وَذَلِكَ ليعلم أَنه إِنَّمَا صرن إمهات الْمُؤمنِينَ ليحرمن على الرِّجَال من بعده وَلَيْسَ الرِّجَال بِمحرم لَهُنَّ فَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب ذَلِكُم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}
فَكَمَا حظر على الرِّجَال النّظر إلَيْهِنَّ فَكَذَلِك حظر عَلَيْهِنَّ النّظر إِلَى الرِّجَال فَبين عِلّة الْحجاب أَنه إِنَّمَا أُرِيد بذلك طَهَارَة قُلُوب الصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا قُلُوب الرِّجَال مِنْهُنَّ وقلوبهن من الرِّجَال
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَا لَا يريان أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَإِنَّمَا كَانَ يدْخل عَلَيْهِنَّ محارمهن من النّسَب وَالرّضَاع ومماليكهن(1/196)
- الأَصْل الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي حَقِيقَة النظرتين
عَن أبي امامة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا من مُسلم ينظر إِلَى محَاسِن امْرَأَة أول مرّة ثمَّ يغض بَصَره إِلَّا أحدث الله لَهُ عبَادَة يجد حلاوتها
فالنظرة الأولى نظرة الرّوح والنظرة الثَّانِيَة نظرة النَّفس لِأَن الْإِنْسَان خلق مَفْتُوح الْعين عمول ناظراه لحاظ هَكَذَا وَهَكَذَا فَهُوَ مَأْذُون لَهُ فِي ذَلِك لِأَن من شَأْن الْعين أَن تطرف وتفتح فَإِذا وَقع بَصَره على شَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء لِأَن قلبه لم يعْمل شَيْئا فَإِذا عمل بَصَره فَإِنَّمَا يُعلمهُ والابتداء من الْقلب حَتَّى تعْمل الْعين فَذَاك نظر تكلّف فَهُوَ مسئول عَنهُ وَالْأول مَرْفُوع عَنهُ فَلذَلِك قَالَ ينظر إِلَى محَاسِن امْرَأَة أول مرّة ثمَّ يغض بَصَره لِأَنَّهُ لما وَقع بَصَره على المحاسن أول مرّة وَجب عَلَيْهِ أَن يغض فالغض فعل الْعين فَعَلَيهِ يُثَاب وَالْفَتْح وَالنَّظَر بعد ذَلِك فعل الْعين فَعَلَيهِ يُعَاقب يُقَال إِن بصر الْعين مُتَّصِل ببصر الرّوح من دَاخل فَلذَلِك(1/197)
قيل الْحيَاء فِي الْعَينَيْنِ لِأَن الْحيَاء من فعل الرّوح وَلذَلِك قيل لَا تَطْلُبن إِلَى أعمى حَاجَة
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لَا تَطْلُبن إِلَى أعمى حَاجَة وَإِذا طلبت الْحَاجة فَاسْتقْبل الرجل بِوَجْهِك فَإِن الْحيَاء فِي الْعَينَيْنِ وَلَا تطلبنها لَيْلًا وباكر فِي حَاجَتك فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اللَّهُمَّ بَارك لأمتي فِي بكورها
فَلَمَّا غض بَصَره عَمَّا لَا يخل فانما صان روحه أَن تتدنس وقمع نَفسه عَن أَن تلذ بِشَهْوَة فَأعْطِي نورا ثَوابًا عَاجلا فَوجدَ حلاوة الْعِبَادَة
عَن أبي امامة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النّظر إِلَى محَاسِن الْمَرْأَة سهم مَسْمُوم من سِهَام الشَّيْطَان فَمن صرف بَصَره عَنْهَا أبدله الله تَعَالَى عبَادَة يجد حلاوتها(1/198)
- الأَصْل الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي أَن الْحَسَنَة بِعشْرَة
عَن أبي أَيُّوب رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من صَامَ رَمَضَان ثمَّ أتبعه سِتا من شَوَّال فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْر
فَمن أجل أَن الله تَعَالَى جعل الْحَسَنَة لَهُم بِعشر أَمْثَالهَا فصوم رَمَضَان بثلثمائة يَوْم كل كل يَوْم بِعشْرَة وَبَقِي من السّنة سِتُّونَ يَوْمًا فَعدل كل يَوْم بِعشْرَة فيحتسب لَهُ على حِسَاب تَضْعِيف الْحَسَنَات كَأَنَّهُ صَامَ الدَّهْر كُله(1/199)
عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أَبِيه رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صَامَ ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر فقد صَامَ الشَّهْر كُله لِأَن كل يَوْم يحْتَسب لَهُ فِي التَّضْعِيف بِعشْرَة أَيَّام(1/200)
- الأَصْل السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي الشُّكْر وَالصَّبْر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الطاعم الشاكر بِمَنْزِلَة الصَّائِم الصابر
فالطعم فعل وَالصَّوْم كف عَن فعل فالطاعم بطعمه يَأْتِي ربه بالشكر والصائم بكفه عَن الطّعْم يَأْتِي ربه بِالصبرِ
وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْإِيمَان نِصْفَانِ نصف للشكر وَنصف للصبر(1/201)
وَفِي حَدِيث آخر عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ الصَّبْر نصف الْإِيمَان وَإِنَّمَا قَالَ نصف الْإِيمَان لِأَن نصفه للشكر
ثمَّ قَالَ وَالْيَقِين الْإِيمَان كُله ثمَّ تَلا {إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور} وَقَالَ {وَفِي الأَرْض آيَات للموقنين}
فَجمع الْيَقِين الصَّبْر وَالشُّكْر وَإِنَّمَا هُوَ صنفان معطي فَعَلَيهِ الشُّكْر وممنوع مِنْهُ فَعَلَيهِ الصَّبْر فَإِذا شكر هَذَا فقد أَتَى من حَقِيقَة الْإِيمَان بِنصفِهِ وَإِذا صَبر هَذَا فقد أَتَى من حَقِيقَة الْإِيمَان بِنصفِهِ(1/202)
- الأَصْل السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي سر قتل الْحَيَّات وَالنَّهْي عَنهُ
عَن سري بنت نَبهَان العنوية قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول اقْتُلُوا الْحَيَّات صغيرها وكبيرها وأسودها وأبيضها فَإِن من قَتلهَا كَانَت لَهُ فدَاء من النَّار وَمن قتلته كَانَ شَهِيدا
فالحية عَدو قد أظهرت الْعَدَاوَة وَقد كَانَت وكلت بِخِدْمَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْجنَّة فخانته وأمكنت عَدو الله من نَفسهَا حَتَّى صيرته سَببا لدُخُوله الْجنَّة فِي إغوائه فَلَمَّا ألقاهم إِلَى الأَرْض تأكدت الْعَدَاوَة من عَدو الله وَمن الْحَيَّة لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام وَأَوْلَاده
قَالَ وهب بن مُنَبّه لما أسكن الله عز وَجل آدم عَلَيْهِ السَّلَام الْجنَّة وَزَوجته كَانَت الشَّجَرَة وغصونها منشعبة بَعْضهَا فِي بعض وَكَانَ لَهَا ثَمَر تَأْكُله الْمَلَائِكَة تخلدهم وَهِي الثَّمَرَة الَّتِي نهى الله تَعَالَى آدم وَزَوجته عَلَيْهِمَا السَّلَام عَنْهَا فَلَمَّا أَرَادَ إِبْلِيس أَن يستنزلها دخل فِي(1/203)
جَوف الْحَيَّة وَكَانَت الْحَيَّة لَهَا أَربع قَوَائِم تحتية من أحسن دَابَّة خلقهَا الله تَعَالَى فَلَمَّا دخلت الْحَيَّة الْجنَّة خرج من جوفها إِبْلِيس وَأخذ من الشَّجَرَة الَّتِي نهى الله آدم وَزَوجته عَلَيْهِمَا السَّلَام عَنْهَا فجَاء بهَا إِلَى حوء فَقَالَ لَهَا انظري الى هَذِه الشَّجَرَة مَا أطيب رِيحهَا وَأطيب طعمها وَأحسن لَوْنهَا فأخذتها حَوَّاء فَأَكَلتهَا ثمَّ ذهبت بهَا إِلَى آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَت انْظُر الى هَذِه الشَّجَرَة مَا أطيب رِيحهَا وَأطيب طعمها وَأحسن لَوْنهَا فَأكل مِنْهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام فبدت لَهما سوآتهما فَدخل آدم فِي جَوف الشَّجَرَة فناداه ربه أَيْن أَنْت قَالَ أَنا هُنَا يَا رب قَالَ أَلا تخرج قَالَ أستحيي مِنْك يَا رب قَالَ اهبط إِلَى الأَرْض الَّتِي خلقتك مِنْهَا قَالَ ملعونة الأَرْض الَّتِي مِنْهَا خلقت لعنة تتحول ثمارها شوكا ثمَّ قَالَ يَا حَوَّاء غررت عَبدِي فَإنَّك لَا تحميلن حملا إِلَّا حملت كرها فَإِذا أردْت أَن تضعبي مَا فِي بَطْنك أشرفت على الْمَوْت مرَارًا وَقَالَ للحية أَنْت الَّتِي دخل الملعون فِي جوفك حَتَّى غر عَبدِي ملعونة أَنْت لعنة تتحول قوائمك فِي بَطْنك وَلَا يكون لَك رزق إِلَّا التُّرَاب أَنْت عدوة بني آدم وهم أعداؤك أَيْن لقِيت أحدا مِنْهُم أخذت بعقبه وَحَيْثُ لقيك شدخ رَأسك
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْتُلُوا الْحَيَّة وَالْعَقْرَب وَإِن كُنْتُم فِي الصَّلَاة
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ خمس يقتلهن الْمحرم فَذكر الْحَيَّة فِيهِنَّ(1/204)
عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى فمرت حَيَّة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقتلوها فسبقتنا إِلَى جُحر فدخلته فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاتوا بسعفة ونار فاضرمها عَلَيْهِ نَارا وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْهَى عَن الْمثلَة وَعَن أَن يعذب بِعَذَاب الله
فَلم يبْق لهَذَا الْعَدو حُرْمَة حَيْثُ فَاتَتْهُ حَتَّى اوصل إِلَيْهِ الْهَلَاك من حَيْثُ قدر
وَكَانَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول اخفروا ذمَّة إِبْلِيس عَدو الله فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن عَدو الله إِبْلِيس قَالَ للحية أدخليني الْجنَّة وَأَنت فِي ذِمَّتِي
فَأَما مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من النَّهْي عَن قتل الجان فَإِن تِلْكَ فِي صُورَة الْحَيَّات هن من الْجِنّ وَهن سكان الْبيُوت فَإِذا قتلتها ضرت بك
عَن زيد بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن قتل دَوَاب الْبيُوت يَعْنِي الجان
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلق الله عز وَجل الجان ثَلَاثَة أَثلَاث فثلث كلاب وحيات(1/205)
وخشاش الأَرْض وَثلث ريح هفافة وَثلث كبني آدم لَهُم الثَّوَاب وَعَلَيْهِم الْعقَاب)
وَفِي رِوَايَة أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي صنف لَهُم أَجْنِحَة يطيرون يطيرون فِي الْهَوَاء يدل قَوْله وَثلث ريح هفافة وَخلق الله تَعَالَى الْإِنْس ثَلَاثَة أَثلَاث فثلث لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وأعين لَا يبصرون بهَا وآذان لَا يسمعُونَ بهَا إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا وَثلث أَجْسَادهم كأجساد بني آدم وَقُلُوبهمْ قُلُوب الشَّيَاطِين وَثلث فِي ظلّ الله تَعَالَى يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن بِالْمَدِينَةِ نَفرا من الْجِنّ أَسْلمُوا فَمن رأى شَيْئا من هَذِه العوامر فليؤذنه ثَلَاثًا فَإِن لَهُ بعد ذَلِك فليقتله فَإِنَّهُ شَيْطَان
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أحد فَخرج مَعَه فَتى منا من بني خدرة وَهُوَ حَدِيث عهد بعرس فَاسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يطلع على أَهله فَأذن لَهُ فَخرج الْفَتى وَفِي يَده الرمْح حَتَّى دخل الدَّار فَوجدَ زَوجته بِبَاب حجرته جالسة(1/206)
فأفزعه ذَلِك فَقَالَ مَا أخرجك من بَيْتك قَالَت حَيَّة منطوية عل فراشك هِيَ الَّتِي ذعرتني فَدخل الْفَتى فوكزها برمحه وَخرج بهَا الى صحن الدَّار تضطرب فِيهِ فَمَاتَتْ وَمَات الْفَتى من سَاعَته فَذكر ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَا تقتلُوا شَيْئا تجدونه فِي الْبيُوت مِنْهُنَّ حَتَّى تقدمُوا
عَن ابْن أبي ملكية قَالَ قتلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا جانا فَأتيت فِي الْمَنَام فَقيل أما وَالله لقد قتلتيه مُسلما فَقَالَت لَو كَانَ مُسلما مَا دخل على أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ فَقيل مَا دخل عَلَيْك إِلَّا وَأَنت مستترة فتصدقت وأعتقت رقابا
عَن ثَابت بن قُطْبَة الثَّقَفِيّ قَالَ جَاءَ رجل الى عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ إِنَّا كُنَّا فِي سفر فمررنا بحية مقتولة مشعرة فِي دَمهَا فواريناها فَلَمَّا نزلُوا أَتَتْهُم نسْوَة وأناس فَقَالُوا أَيّكُم صَاحب عَمْرو قُلْنَا من عَمْرو قَالُوا الْحَيَّة الَّتِي دفنتموها أمس أما أَنه من النَّفر الَّذين اسْتَمعُوا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَا مَا شَأْنه قَالَ كَانَ حَيَّان من الْجِنّ مُسلمُونَ ومشركون بَينهم قتال فَقتل
عَن الرّبيع بن بدر قَالَ الجان من الْحَيَّات الَّتِي نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قَتلهَا هِيَ الَّتِي تمشي وَلَا تلتوي
عَن عَلْقَمَة قَالَ اقْتُلُوا الْحَيَّات كلهَا إِلَّا الجان الَّذِي كانه ميل فَإِنَّهُ جنها(1/207)
- الأَصْل الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي أكل القثاء بالرطب وسره
عَن عبد الله بن جَعْفَر رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل القثاء بالرطب
قَالَ أَبُو عبد الله فَهَذَا جمع بَين لونين فقد يجوز أَن يكون قد اشتهاه فَقضى شَهْوَته لله تَعَالَى لتسكين النَّفس فَإِن النَّفس نازعة إِلَى مَا فِيهِ اللَّذَّة لَهَا وَلها حق إِذا استقامت لمولاها فَأدى حَقّهَا وَحمد الله وشكره عَلَيْهَا فَلَا يكون على صَاحبهَا وبال فِي مثل هَذَا وَإِنَّمَا الوبال على من قضى شَهْوَته بنهمة غافلا عَن ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منهوما بلذته لَا يلْتَمس فِيهَا حق النَّفس وَلَا يَبْتَغِي بهَا وَجه الله فالحساب أَمَامه وَهُوَ مسئول عَن شكرها وَقد يجوز أَن يكون على غير هَذَا السَّبِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ(1/208)
وَيحْتَمل أَن يكون لمَكَان عِيَاله أَو ضَيفه فعل ذَلِك فتوسع من أَجلهم فِي ذَلِك وَلم يحمل قوته على ضعفهم فَرُبمَا ينغص على الضَّيْف أَو الْعِيَال إِمْسَاكه عَنهُ واستوحشوا من فعله وتكدرت تِلْكَ النِّعْمَة عَلَيْهِم فَفِيهِ تَضْييع حق الضَّيْف وَحقّ الْعِيَال فيخالطهم فِي ذَلِك ويشركهم فِيهِ وَوجه آخر مُحْتَمل أَيْضا وَذَلِكَ أَن القثاء بَارِد رطب وَالرّطب حَار فَأحب أَن يصيره مزاجا فَيجمع بَين الْحَار والبارد كَيْلا يضْربهُ وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يجمع بَين الْبِطِّيخ وَالرّطب
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَن يَأْكُل الْبِطِّيخ بالرطب(1/209)
- الأَصْل التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي مَرَاتِب الْأَخْلَاق وَفضل الْعلم
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كنت ذَات يَوْم رَدِيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَلا أعلمك خصلات ينفعك الله بِهن قلت بلَى يَا نَبِي الله قَالَ عَلَيْك بِالْعلمِ فَإِن الْعلم خَلِيل الْمُؤمن والحلم وزيره وَالْعقل دَلِيله وَالْعَمَل قيمه والرفق أَبوهُ واللين أَخُوهُ وَالصَّبْر أَمِير جنده
قَالَ أَبُو عبد الله الْإِيمَان مستقره فِي الْقلب ويشرق نوره فِي الصَّدْر فَإِذا اعْترض فكر فِي الْأُمُور تصور كل شَيْء على هَيئته فَيرى الْخَيْر فِي بهائه وَحسنه وَالشَّر فِي قبحه وشينه وَإِنَّمَا قيل علم لِأَنَّهُ علائم الْإِيمَان وَقد أظهر فِي الصَّدْر بَاطِن مَا فِي الْقلب فَهُوَ خَلِيله لِأَنَّهُ قد خله إِلَى الْإِيمَان أَي ضمه لما ظهر الْعلم اهْتَدَى فَمَال إِلَى من آمن بِهِ ليأتمر بأَمْره وَيَنْتَهِي عَن نواهيه والخلة الضمة فِي اللُّغَة يُقَال هَذَا ثوب خَلِيل(1/210)
وَهُوَ الَّذِي شكه بالخلال فضمه إِلَى نَفسه فَكَذَلِك لما ظهر فِي صدر الْمُؤمن شكه وَجمعه حَتَّى لَا تَنْتَشِر جوارحه فِي شهواته وهواه
والحلم وزيره فالحلم هُوَ سَعَة الصَّدْر وَطيب النَّفس فَإِذا وسع الصَّدْر وانشرح بِالنورِ أَبْصرت النَّفس رشدها من غيها وعواقب الْخَيْر وَالشَّر فطابت وَإِنَّمَا تطيب النَّفس لسعة الصدروإنما يَتَّسِع الصَّدْر بولوج النُّور الْوَارِد من عِنْد الله وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه} وَإِذا دخل النُّور سهل تَسْلِيم النَّفس وَذَهَبت عسرتها وكزازتها وَالْملح يطيب الطَّعَام والحلم يطيب النَّفس
عَن عبد الله بن جَراد رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ الْأَعْمَى من يعمى بَصَره إِنَّمَا الْأَعْمَى من تعمى بصيرته
قَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} فطيب النَّفس من روح الْيَقِين وَهُوَ من أعظم النعم(1/211)
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بَأْس من غَنِي لمن إتقى وَالصِّحَّة لمن إتقى خير من الْغَنِيّ وَطيب النَّفس من النَّعيم
فالغني بِغَيْر التَّقْوَى هلكة يجمعه من غير حَقه ويضعه فِي غير حَقه فَإِذا كَانَ مَعَ صَاحبه تقوى فقد ذهب الْبَأْس وَجَاء بِالْخَيرِ
عَن مُحَمَّد بن كَعْب أَن الْغَنِيّ إِذا كَانَ تقيا آتَاهُ الله تَعَالَى أجره مرَّتَيْنِ ثمَّ تَلا {وَمَا أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم بِالَّتِي تقربكم عندنَا زلفى إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا فَأُولَئِك لَهُم جَزَاء الضعْف بِمَا عمِلُوا وهم فِي الغرفات آمنون}
فَلَيْسَ من امتحن كمن لم يمْتَحن فَقَالَ فِي مؤمني أهل الْكتاب {أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا}
فَصَبر الْغَنِيّ أَشد من صَبر الْفَقِير كَمَا أَن محاربتك أسدا خلي عَنهُ أَشد من محاربتك أسدا قد ربط بوثاق
قَالَ مَالك بن دِينَار رَحمَه الله يَقُول النَّاس مَالك زاهدا وَكَيف لَا يزهد وَهُوَ مقبز عَلَيْهِ إِنَّمَا الزَّاهِد عمر بن عبد الْعَزِيز نَالَ الْخلَافَة فَلبس المسوح
وَأما قَوْله وَالصِّحَّة لمن اتَّقى خير من الْغنى فَإِن صِحَة الْجَسَد عون على الْعِبَادَة والسقيم عَاجز فالصحة خير من الْغنى مَعَ الْعَجز
وَأما قَوْله وَطيب النَّفس من النَّعيم فقد ذكرنَا أَنه من روح الْيَقِين على الْقلب وهوالنور الْوَارِد الَّذِي قد أشرق فِي الصَّدْر وأراح الْقلب(1/212)
وَالنَّفس من الظلمَة والضيق لِأَن النَّفس بشهواتها فِي ظلمَة وَالْقلب فِي تِلْكَ الظُّلُمَات قد أحاطت بِهِ فالسائر إِلَى مدعاة فِي ظلمَة يشْتَد عَلَيْهِ السّير ويضيق صَدره لما يتخوف فِي الطَّرِيق من المهاوي والمخاوف فَإِذا أَضَاء لَهُ الصُّبْح انفقأت الظلمَة ووضح الطَّرِيق وزالت المخاوف فَكَذَلِك السائر بِقَلْبِه فِي شَرِيعَة الْإِسْلَام إِلَى الله تَعَالَى إِذا كَانَ قلبه فِي ظلمَة شهواته وهواه هُوَ بِهَذِهِ الصّفة وَإِذا أشرق نور الْيَقِين فِي صَدره استراح الْقلب فَهَذِهِ صفة الْحلم فَهُوَ وَزِير الْمُؤمن يوازره على أَمر الله تَعَالَى وَإِذا لم يكن حلم ضَاقَتْ النَّفس وَانْفَرَدَ الْقلب بِلَا وَزِير
وَالْعقل دَلِيله يدله على مراشد الْأُمُور ويبصره غيها ويهديه لمحاسنها ويزجره عَن مساوئها وَخلق الله عز وَجل الْعقل فَقَالَ وَعِزَّتِي مَا خلقت خلقا أحب إِلَيّ مِنْك فبك آخذ وَبِك أعطي وَإِيَّاك أعاتب وَلَك الثَّوَاب وَعَلَيْك الْعقَاب(1/213)
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الله تَعَالَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّمَا أجزي النَّاس على قدر عُقُولهمْ
وَالْعَمَل قيمَة الْقيمَة من شَأْنه أَن يتوكل لَك حَتَّى يَكْفِيك مهماتك وَالْعلم الصَّالح يهئ لَهُ فِي معاشه طيب الْحَيَاة قَالَ الله تَعَالَى {من عمل صَالحا من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فلنحيينه حَيَاة طيبَة ولنجزينهم أجرهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ} فالحياة الطّيبَة فِي الدُّنْيَا وَالْجَزَاء فِي الْآخِرَة وَقَالَ تَعَالَى {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ}
والرفق أَبوهُ الْأَب لَهُ التربية مَعَ الْعَطف والشفقة وَهُوَ يَشْمَل أَحْوَال الْوَلَد بالعناية وَيجمع لَهُ وُجُوه المكاسب والرفق كشفير الْأُمُور بِهِ يَتَأَتَّى الْأُمُور وَبِه يتَّصل بَعْضهَا بِبَعْض وَبِه يجمع مَا تشَتت مِنْهُ ويأتلف مَا تنافر وتبدد مِنْهُ وَيرجع إِلَى المأوى مَا شَذَّ وَهُوَ يَشْمَل أَحْوَال الْمُؤمن بالصلاح وَيجمع لَهُ الْخيرَات والطاعات من وُجُوه الْبر
واللين أَخُوهُ فالأخ آخية الْمَرْء ومعتمده من المخلوقين فَهُوَ مستراحه إِذا أعيى وَنصب اسْتندَ إِلَيْهِ واستراح فَكَذَلِك اللين هُوَ مستراح الْمُؤمن بِهِ تهدأ نَفسه ويطمئن قلبه وتجد أَرْكَانه رَاحَة ذَلِك وحدته وشدته وغضبه تَعب بدنه وَعَذَاب نَفسه وَنصب قلبه وَإِنَّمَا يلين قلبه بهدو نَفسه وَإِنَّمَا تهدو نَفسه بِمَوْت شهواتها وَإِنَّمَا تَمُوت شهواتها بِمَا أَصْبِر قلبه بِنور الْيَقِين من جلال الله تَعَالَى وعظمته وَصَارَ كالدهن فِي اللين وَمن غلظ قلبه وفظ وَاشْتَدَّ فَمن الْقَسْوَة وَإِنَّمَا يقسو قلبه من الْغَفْلَة عَن الله تَعَالَى وَإِنَّمَا يلين الْقلب لما يرطب بِذكر الله تَعَالَى وَفِي اللُّغَة عَسى وعتا وقسا قريبَة الْمَعْنى وَيرجع الْمَعْنى إِلَى أَنه يبس فكز وضد(1/214)
ذَاك رطب فلَان قَالَ الله تَعَالَى {فبمَا رَحْمَة من الله لنت لَهُم وَلَو كنت فظا غليظ الْقلب لانفضوا من حولك}
فالفظاظة وَغلط الْقلب تفرق الْمَجْمُوع وتبدد المؤتلف واللطافة ورقة الْقلب تجمع المتفرق وتؤلف المتبدد وان الْقلب يلطف ويرق من النُّور وَسَببه الرَّحْمَة ويفظ ويغلظ من حرارة الشَّهَوَات وَقُوَّة الْغذَاء وَالدَّم وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شَأْنه المداومة على الْحجامَة إِلَى أَن قبض وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا مَرَرْت بملأ من الْمَلَائِكَة إِلَّا أمروني بالحجامة وَقَالُوا لي مرأمتك بالحجامة
مَعْنَاهُ عندنَا لأَنهم من بَين الْأُمَم أهل يَقِين فَإِذا اشتعل نور الْيَقِين فِي الْقلب وَمَعَهُ حرارة الدَّم أضرّ بِالْقَلْبِ وبالطبع أَيْضا وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَعْمل الْحِنَّاء فِي رَأسه مَعَ أَنه لم يشنه الشيب وَمَا خضب وَإِنَّمَا كَانَ سَبَب الْحِنَّاء أَنه كَانَ يَأْتِيهِ الْوَحْي فيصدع فَمن أجل الصداع كَانَ يعالج بِالْحِنَّاءِ فِي رَأسه حَتَّى تخف حرارة رَأسه
وَالصَّبْر أَمِير جنده وَالصَّبْر هُوَ ثبات الْقلب على عزمه فَإِذا ثَبت الْأَمِير ثَبت الْجند لمحاربة الْعَدو وَإِذا جَاءَت النَّفس بشهواتها فَغلبَتْ(1/215)
الْقلب حَتَّى اسْتعْملت الْجَوَارِح بِمَا نهى عَنهُ فقد ذهب الصَّبْر وَهُوَ ذهَاب الْعَزْم فَبَقيَ الْقلب أَسِيرًا للنَّفس واستولت عَلَيْهِ فَانْهَزَمَ الْعقل والحلم وَالْعلم والرفق واللين وَجَمِيع جُنُوده(1/216)
- الأَصْل الْأَرْبَعُونَ
-
فِي تَكْثِير التَّوْبَة
عَن خبيب بن الْحَارِث رَضِي الله عَنهُ قَالَ أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت يَا رَسُول الله إِنِّي رجل مقراف الذُّنُوب قَالَ يَا خبيب فَكلما أذنبت فتب إِلَى الله تَعَالَى قلت ثمَّ أَعُود يَا رَسُول الله قَالَ ثمَّ تب قلت إِذا يكثر يَا رَسُول الله قَالَ عَفْو الله أَكثر من ذنوبك يَا خبيب
التَّوْبَة للْعَبد مبسوطة حَتَّى يعاين قَابض الْأَرْوَاح وَهُوَ عِنْد غرغرته بِالروحِ وَإِنَّمَا يُغَرْغر بِهِ إِذا قطع الوتين فشخص من الصَّدْر إِلَى الْحلق فَعِنْدَ ذَلِك حُضُور الْمَوْت ومعاينة ملك الْمَوْت الَّذِي وكل بِهِ فَهُوَ الَّذِي يذيقه وَمن قبل ذَلِك كَانَ أعوانه ليستوفون الرّوح وينزعونه من الْجَوَارِح وَالْعُرُوق قَالَ الله تَعَالَى {وَلَيْسَت التَّوْبَة للَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذا حضر أحدهم الْمَوْت قَالَ إِنِّي تبت الْآن} فباب التَّوْبَة مَفْتُوح إِلَى(1/217)
طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا ودواء الذَّنب التَّوْبَة وشفاء العَبْد مِنْهُ إِذا مَاتَت شَهْوَة ذَلِك الذَّنب مِنْهُ
قَوْله عَفْو الله أَكثر من ذنوبك أَي فضل الله على العَبْد أَكثر من نُقْصَان العَبْد وَأَنه كلما أذْنب أبق من ربه عز وَجل وَكلما أبق ازْدَادَ عَيْبا وَكلما ازْدَادَ عَيْبا ازْدَادَ نقصا فِي الْقدر والجاه قَالَ ففضل الله على العَبْد أَكثر من نقصانه لِأَنَّهُ يتفضل من كرمه ومجده فقبول التَّوْبَة من فضل الله ورجوعه بِالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ أَيْضا من فَضله فَرب عبد لَا يوفق للتَّوْبَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه من ذَلِك(1/218)
- الأَصْل الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي الْخَوَارِج
عَن عبد الله بن أبي أوفى رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخَوَارِج كلاب أهل النَّار
الْخَوَارِج قوم ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدّين وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا فهم الأخسرون أعمالا حبطت أَعْمَالهم فَلَا يُقَام لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزن ذَلِك بِأَنَّهُم قد اجتهدوا ودأبوا فِي الْعِبَادَة وَفِي قُلُوبهم زيغ ومرقوا من الدّين
وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه وَصفهم فَقَالَ يقراون الْقُرْآن يقيمونه إِقَامَة الْقدح لَا يُجَاوز تراقيهم يَمْرُقُونَ من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية(1/219)
مَا زَالَ بهم التنطع والتعمق حَتَّى كفرُوا الْمُوَحِّدين بذنب وَاحِد حَتَّى صَارُوا بذلك إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام للزيغ الَّذِي فِي قُلُوبهم دخلُوا فِيمَا لم يَأْذَن بِهِ الله تَعَالَى فقاسوا برأيهم وتأولوا التَّنْزِيل على غير وَجهه هم الَّذين وَصفهم الله تَعَالَى فَقَالَ فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله
وَرُبمَا تمسكوا بآخر الْآيَة ونهوا عَن أَولهَا حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ لجَابِر بن عبد الله أَنْت الَّذِي تَقول يخرج الله من النَّار قوما بَعْدَمَا أدخلهم فِيهَا قَالَ نعم سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَأَيْنَ قَول الله تَعَالَى وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُم عَذَاب مُقيم قَالَ جَابر انْظُر لمن هَذَا من مُبْتَدأ الْآيَة إِن الَّذين كفرُوا لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه الْآيَة
فالمؤمن يستر وَيرْحَم ويعطف ويتوقى أَن يلوم ويعير ويرجو من الله الرَّحْمَة ويرجيه وَهَذَا الْمفْتُون يهتك ويعير ويؤيس ويقنط وَيكفر فَهَذِهِ أَخْلَاق الْكلاب وتقولهم كلبوا على عباد الله ونظروا إِلَيْهِم بِعَين البغضة والعداوة والملامة فَلَمَّا دخلُوا النَّار صَارُوا فِي هَيْئَة أَعْمَالهم كلابا كَمَا كَانُوا على الْمُوَحِّدين فِي الدُّنْيَا كلابا(1/220)
قَالَ أَبُو الْعَالِيَة مَا أَدْرِي أَي النعمتين أفضل أَن هَدَانِي للْإيمَان ثمَّ لم يَجْعَلنِي حروريا وَالله أعلم
عَن أبي عاكف قَالَ كنت بِدِمَشْق فجيء برؤوس الْخَوَارِج من الْعرَاق فَنصبت على دَرَجَة الْمَسْجِد فَبينا أَنا قَائِم إِذْ أَنا بشيخ على حمَار قصير ينظر إِلَيْهِم ويبكي وَيَقُول كلاب النَّار كلاب النَّار كلاب النَّار فَسَأَلت عَنهُ فَقَالُوا أَبُو أُمَامَة صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فدنوت مِنْهُ فَقلت يَا أَبَا أُمَامَة أَرَاك تبْكي وَتقول كلاب النَّار قَالَ رَحْمَة لَهُم لأَنهم قد صلوا وصاموا وحجوا واعتمروا ثمَّ صَارُوا كلاب النَّار قلت هَذَا شَيْء تَقوله أم سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَو لم أسمعهُ إِلَّا مرّة أَو مرَّتَيْنِ أوثلاثة أَو أَرْبَعَة حَتَّى بلغ عشر مَرَّات مَا قلت وَلَكِن سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِنَّه سَيكون من امتي قوم يقرأون الْقُرْآن لاتجاوز قراءتهم تراقيهم يعْبدُونَ الله تَعَالَى عبَادَة يحتقرون عبَادَة النَّاس فِي عِبَادَتهم يَمْرُقُونَ من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية لَا يعود فِيهِ حَتَّى يعود أَعْلَاهُ فَوْقه هم شَرّ الْخلق والخليقة هم شَرّ قَتْلَى تَحت أَدِيم السَّمَاء طُوبَى لمن قَتلهمْ أَو قَتَلُوهُ
والأزارقة صنف من الْخَوَارِج كَانَ رئيسهم نَافِع بن الْأَزْرَق(1/221)
وَكَانَ من شَأْنه أَن يُخَاصم يتَأَوَّل الْقُرْآن فِي زمن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فنسب تبعه إِلَيْهِ فَقيل الْأزَارِقَة وَفِي زمن عَليّ كرم الله وَجهه كَانَ رئيسهم ابْن الْكواء وَفِي زمن التَّابِعين رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ نجدة الحراوري وَهُوَ من بَقِيَّة أهل حروراء الَّذين خَرجُوا على عَليّ كرم الله وَجهه وحروراء قَرْيَة من قرى السوَاد
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجنهم سَبْعَة أَبْوَاب بَاب مِنْهَا لمن سل سَيْفه على أمتِي أَو قَالَ أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل يعجبنا تعبده واجتهاده فذكرناه لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يعرفهُ ووصفناه بِصفتِهِ فَلم يعرفهُ فَبَيْنَمَا نخن نذكرهُ إِذْ طلع الرجل فَقُلْنَا هُوَ هَذَا يَا رَسُول الله قَالَ إِنَّكُم تخبروني عَن رجل وعَلى وَجهه لسفعة من الشَّيْطَان قَالَ فَأقبل حَتَّى وقف على الْمجْلس فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْشدك الله هَل قلت حِين وقفت على الْمجْلس مَا فِي الْمجْلس أحد أفضل مني أَو خير من ي قَالَ اللَّهُمَّ نعم ثمَّ دخل يُصَلِّي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يقتل الرجل قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَنا فَدخل فَوَجَدَهُ يُصَلِّي فَقَالَ سُبْحَانَ الله أقتل رجلا يُصَلِّي وَقد نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ضرب الْمُصَلِّين فَخرج فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَه قَالَ وجدته بِأبي أَنْت وَأمي يُصَلِّي وَقد نَهَيْتنَا عَن ضرب الْمُصَلِّين فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يقتل الرجل فَقَالَ عمر أَنا فَوَجَدَهُ سَاجِدا فَقَالَ أقتل رجلا وَاضِعا وَجهه لله تَعَالَى وَقد(1/222)
رَجَعَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ أفضل مني فَخرج إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَه فَقَالَ يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي وجدته سَاجِدا فَكرِهت أَن أَقتلهُ وَاضِعا وَجهه لله تَعَالَى قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يقتل الرجل قَالَ عَليّ أَنا قَالَ أَنْت إِن أَدْرَكته قتلته فَوَجَدَهُ عَليّ قد خرج فجَاء فَقَالَ وجدته بِأبي أَنْت وَأمي قد خرج قَالَ لَو قتلته مَا اخْتلف من أمتِي رجلَانِ كَانَ أَوَّلهمْ وَآخرهمْ وَاحِدًا
وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ هُوَ الَّذِي قَتله عَليّ يَوْم النهروان رُؤْيَته مثل البراغيث إِنَّمَا نبت لَهُ جَنَاحَانِ يطير بهم حرقوص ذُو الثدية
عَن أبي سَلمَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ وقف رجل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يقسم تبرا فَقَالَ يَا مُحَمَّد اعْدِلْ فَرفع بَصَره إِلَيْهِ فَقَالَ وَيلك إِذا لم أعدل فَمن يعدل يُوشك مثل هَذَا يظهرون يقرأون الْقُرْآن لَا يُجَاوز تراقيهم فَإِذا ظَهَرُوا فاضربوا أَعْنَاقهم
قَالَ وَالظَّاهِر من قَوْلهم وفعلهم يسبي نفوس الْجُهَّال والحمقى وَالْبَاطِن ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض زيغ وَكفر وزندفة وتشبيه(1/223)
- الأَصْل الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي فَضِيلَة المؤذنين
عَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المؤذنون أطول النَّاس أعناقا يَوْم الْقِيَامَة
قَالَ أَبُو عبد الله المؤذنون هم دعاة إِلَى أَمر الله فزيدوا على النَّاس مرتبَة بطول أَعْنَاقهم ليشرفوا على النَّاس بأعناقهم وَهَذَا الطول عندنَا فِي شخصهم وخيالهم فَأَما نفس الْخلقَة بِحَيْثُ خلقهَا الله تَعَالَى من جنس خلق أهل الْجنَّة وَإِنَّمَا ذكر الْعُنُق للمقدار لِأَن هُنَاكَ طبقَة أَعلَى مِنْهُم هم الْأَنْبِيَاء والأولياء الَّذين هم دعاة إِلَى الله تَعَالَى زيدوا فِي الْقَامَة كلهَا لَا فِي الْعُنُق فَقَط وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوصف فِي هَذِه الْحَيَاة بِصفة تدل على مَا قُلْنَا وَهُوَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا مَشى رُبمَا إِذا اكتنفه رجلَانِ طويلان فَيَمْشِي هُوَ بَينهمَا فيطولهما فَإِذا مَشى وَحده نسب إِلَى الربعة
قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن بقصير وَلَا طَوِيل وَإِذا جَاءَ مَعَ النَّاس غمرهم(1/224)
عَن أم معبد فِي صفته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت كَانَ أنظر الثَّلَاثَة منْظرًا
وَوجه آخر أَنهم أطول النَّاس أعناقا بِمد أَعينهم إِلَى عَظِيم مَا يأملون من الثَّوَاب وَمد الْعين إِلَى الشَّيْء تأميلا إشراف بالعنق فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة وَوصف الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَى كَرَامَة الله تَعَالَى كَانَت قامتهم على حسب درجاتهم فِي الْموقف إِذا أتوها حَتَّى يصدروا من الْموقف إِلَى الْجنَّة فيعطون قامة أهل الْجنَّة وَمِمَّا يُحَقّق مَا قُلْنَاهُ مَا رَوَاهُ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أحْشر أَنا وَأَبُو بكر وَعمر يَوْم الْقِيَامَة هَكَذَا وَأخرج السبابَة وَالْوُسْطَى والبنصر وَنحن مشرفون على النَّاس وَقد ذَكرْنَاهُ فِي الأَصْل الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
وَمِمَّا يُحَقّق مَا قُلْنَا مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يحْشر الجبارون والمتكبرون يَوْم الْقِيَامَة فِي صُورَة الذَّر يطأهم النَّاس تَحت أَقْدَامهم
فالمتكبرون الَّذين تكبروا على الله تَعَالَى فَلم يوحدوه قَالَ تَعَالَى {إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ} فقامتهم قامة الذَّر يَوْم الْقِيَامَة فَكل من كَانَ أَشد تكبرا كَانَ أقصر قامة وعَلى هَذَا السَّبِيل كل من كَانَ أَشد تواضعا لله تَعَالَى فَهُوَ أشرف قامة على الْخلق(1/225)
- الأَصْل الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي تَسْلِيم الْحق وسر مصافحته لعمر رَضِي الله عَنهُ
عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول من يصافحه الْحق عمر وَأول من يسلم عَلَيْهِ وَأول من يَأْخُذ بِيَدِهِ فيدخله الْجنَّة
قَالَ أَبُو عبد الله الرَّحْمَة وَالْحق لَهما شَأْن فِي الْموقف يَوْمئِذٍ الْحق يَقْتَضِي الْخلق عبودته وَالرَّحْمَة تشْتَمل على من وفى بالعبودة لَهُ فَمن طَالبه الْحق بالعبوده وَلم تُدْرِكهُ الرحمه فقد هلك وَكَانَ من شَأْن عمر رَضِي الله عَنهُ الْقيام بِالْحَقِّ وَكَانَ الْغَالِب على قلبه عَظمَة الله وجلاله وهيبته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَانَ الْحق عز وَجل معتمله حَتَّى يقوم بِأَمْر الله وَيُحَاسب نَفسه وَسَائِر الْخلق على الذّرة والخردلة فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَهُوَ الْوَفَاء بِمَا قلد الله الْخلق من رِعَايَة هَذَا الدّين الَّذِي ارْتَضَاهُ لَهُم وَهُوَ الْإِسْلَام فَكَأَنَّهُ خلق عزا لِلْإِسْلَامِ(1/226)
وَبِذَلِك دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ اللَّهُمَّ أعز الدّين بعمر بن الْخطاب أَو بِعَمْرو بن هِشَام
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر بن الْخطاب وَأبي جهل بن هِشَام فَأصْبح عمر وَكَانَت الدعْوَة يَوْم الْأَرْبَعَاء وهم تِسْعَة وَثَلَاثُونَ رجلا فَأسلم عمر رَضِي الله عَنهُ يَوْم الْخَمِيس فَكبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأهل الْبَيْت تَكْبِيرَة سَمِعت بِأَعْلَى مَكَّة وَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ مختفيا فِي بَيت الأرقم فأظهر الْإِسْلَام وَطَاف بِالْبَيْتِ وَعمر متقلد السَّيْف حَتَّى صلى الظّهْر مُعْلنا
وَكَانَ كَمَا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَكَانَ أحوذيا نَسِيج وَحده قد أعد للأمور أقرانها
عَن سعيد بن جُبَير عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَن جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا مُحَمَّد أقرىء عمر السَّلَام وَأخْبرهُ أَن غَضَبه عز وَأَن رِضَاهُ عدل
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا عمر إِن غضبك عز ورضاك حكم(1/227)
وَهَذَا لِأَن من استولى على قلبه الْحق إِذا غضب غضب للحق وَإِذا رَضِي رَضِي من أجل الْحق وَكَانَ الْغَالِب على قلب عمر رَضِي الله عَنهُ الْحق ونوره وسلطانه
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْحم أمتِي بأمتي أَبُو بكر وَأَقْوَاهُمْ فِي دين الله عمر
وَإِنَّمَا الْقُوَّة من أجل أَن الْحق على الْقلب سُلْطَانه وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ من شَأْنه الْقيام برعاية تَدْبِير الله ومراقبة صنعه فِي الْأُمُور حَتَّى يَدُور مَعَ الله تَعَالَى فِي تَدْبيره وَكَانَ مُسْتَعْملا بِالتَّدْبِيرِ وَعمر مُسْتَعْملا بِالْحَقِّ فَمن شَأْن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ الْعَطف وَالرَّحْمَة والرأفة والرقة واللين وَمن شَأْن عمر رَضِي الله عَنهُ الشدَّة وَالْقُوَّة والصلابة والصرامة وَلذَلِك شبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيثه أَبَا بكر بإبراهيم من الرُّسُل وبميكائيل من الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام وَشبه عمر بِنوح من الرُّسُل وبجبرئيل من الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام فابتدأ الله الْمُؤمنِينَ بِالرَّحْمَةِ ورزقهم الْإِيمَان ثمَّ اقتضاهم حَقه فشرع لَهُم الشَّرِيعَة واستهداهم الْقيام بذلك فَمن وفى لَهُ بِالْقيامِ بذلك فقد أرْضى الْحق تَعَالَى
فَأَبُو بكر مَعَ الْمُبْتَدَأ وَهُوَ الْإِيمَان وَعمر مَعَ الَّذِي يتلوه وَهُوَ الْحق وَهُوَ الشَّرِيعَة لِأَن من حق الله تَعَالَى على عباده أَن يوحدوه وَإِذا وحدوه فَمن حَقه عَلَيْهِم أَن يعبدوه بِمَا أَمرهم بِهِ ونهاهم عَنهُ(1/228)
وَلذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أمرت أَن أؤول الرُّؤْيَا على أبي بكر وَأمرت أَن أَقرَأ الْقُرْآن على عمر لِأَن الرُّؤْيَا جُزْء من أَجزَاء النُّبُوَّة وَالْقُرْآن بَيَان حُقُوقه وَلذَلِك قيل أَبُو بكر الصّديق لِأَنَّهُ صدق بِالْإِيمَان بِكَمَال الصدْق
وَقيل لعمر فاروق لِأَنَّهُ يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل وأسماؤهما دليلان على مراتبهما من الله تَعَالَى بالقلوب ويكشف لَك عَن درجتيهما أَن مجْرى أبي بكر مجْرى صدق الْإِيمَان ومجرى عمر مجْرى وَفَاء الْحق وَكَيف مَا دَار الْحق مَعَ الْعباد يَوْم الْموقف باقتضاء أَمر الله عز وَجل وحبسهم على الْبَاب والانتقام بالنَّار مِنْهُم فالعاقبة الرَّحْمَة لِأَن الرَّحْمَة لَا تتْرك أحدا قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مرّة وَاحِدَة فِي دَار الدُّنْيَا فِي جَمِيع عمره صدقا فِي قلبه ثمَّ لم يُوجد لَهُ مِثْقَال خردلة من خير إِلَّا وتأخذه من النَّار وَلَو بعد مِقْدَار عمر الدُّنْيَا
وَكَذَلِكَ جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة الشَّفَاعَة إِذا انْقَضتْ شَفَاعَة الرُّسُل وَالْمَلَائِكَة والأنبياء وَالْمُؤمنِينَ جَاءَ مُحَمَّد فِي الْمرة الرَّابِعَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيسْأَل فِيمَن قَالَ مرّة لَا إِلَه إِلَّا الله فَيَقُول الله عز وَجل إِنَّهَا لَيست لَك وَلَا لأحد من خلقي فتجيء الرَّحْمَة من وَرَاء الْحجاب فَتَقول يَا رب مِنْك بدأت وَإِلَيْك أَعُود فشفعني فِيمَن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مرّة وَاحِدَة فتجاب إِلَى ذَلِك
فَإِنَّمَا أَعْطَاهُم قَول لَا إِلَه إِلَّا الله بِالرَّحْمَةِ ثمَّ لَا تتركهم تِلْكَ الرَّحْمَة حَتَّى تأخذهم من الْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وانتقامه مِنْهُم بالنَّار ويكشف عَن شَأْن درجتيهما الْأَخْبَار المتواترة فَمِنْهَا ماروي عَن ابْن شريحة قَالَ سَمِعت عليا رَضِي الله عَنهُ على الْمِنْبَر يَقُول إِن أَبَا بكر أَواه منيب الْقلب وان عمر نَاصح الله فنصحه الله تَعَالَى(1/229)
عَن ابْن سِيرِين رَضِي الله عَنهُ أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ كَانَ إِذا صلى فَقَرَأَ خفض صَوته وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ إِذا قَرَأَ جهر فَقيل لأبي بكر لم تصنع هَذَا قَالَ أُنَاجِي رَبِّي وَقد علم حَاجَتي قيل أَحْسَنت وَقيل لعمر رَضِي الله عَنهُ لم تصنع هَذَا قَالَ أطْرد الشَّيْطَان وواقظ الْوَسْنَان قيل أَحْسَنت فَلَمَّا نزل {وَلَا تجْهر بصلاتك وَلَا تخَافت بهَا وابتغ بَين ذَلِك سَبِيلا} فَقيل لأبي بكر ارْفَعْ شَيْئا وَقيل لعمر اخْفِضْ شَيْئا
عَن عبد الله بن بُرَيْدَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت أبي يَقُول خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض مغازيه فَلَمَّا انْصَرف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَت جَارِيَة سَوْدَاء فَقَالَت يَا نَبِي الله كنت نذرت إِن ردك الله سالما أَن أضْرب بَين يَديك بالدف فَقَالَ إِن كنت نذرت أَن تضربي وَإِلَّا فَلَا فَدخل أَبُو بكر وَهِي تضرب ثمَّ دخل عمر فَأَلْقَت الدُّف تحتهَا ثمَّ قعدت عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الشَّيْطَان ليخاف مِنْك يَا عمر إِنِّي كنت جَالِسا وَهِي تضرب فَدخل أَبُو بكر وَهِي تضرب ثمَّ دخل عَليّ وَهِي تضرب ثمَّ دخل عُثْمَان وَهِي تضرب فَلَمَّا دخلت أَنْت أَلْقَت الدُّف(1/230)
فَلَا يظنّ ذُو عقل أَن عمر فِي هَذَا أفضل من أبي بكر وَأَبُو بكر شَبيه برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك وَلَكِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد جمع الْأَمريْنِ والدرجتين فَلهُ دَرَجَة النُّبُوَّة لَا يلْحقهُ أحد وَأَبُو بكر لَهُ دَرَجَة الرَّحْمَة وَعمر لَهُ دَرَجَة الْحق
عَن الْأسود بن هِلَال رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ لأَصْحَابه ذَات يَوْم مَا ترَوْنَ فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} وَقَالَ {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم}
قَالُوا استقاموا فَلم يذنبوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم بذنب قَالَ لقد حملتموها على غير الْمحمل {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} فَلم يلتفتوا إِلَى إِلَه غَيره {وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} أَي بشرك
عَن الزُّهْرِيّ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ تَلا هَذِه الْآيَة {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} قَالَ استقاموا وَالله لله بِطَاعَتِهِ ثمَّ لم يروغوا روغان الثعالب
عَن مَكْحُول رفع الحَدِيث إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَانَ بَين رجل من الْمُنَافِقين وَرجل من الْمُسلمين مُنَازعَة فِي شَيْء ادَّعَاهُ الْمُنَافِق فَأتيَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقصا عَلَيْهِ قصتهما فَلَمَّا توجه الْقَضَاء على الْمُنَافِق قَالَ الْمُنَافِق يَا رَسُول الله ادفعني وإياه إِلَى أبي بكر قَالَ انْطلق مَعَه إِلَى أبي بكر فَانْطَلق مَعَه فقصا قصتهما على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ مَا كنت لأقضي بَين من رغب عَن قَضَاء الله وَقَضَاء رَسُوله فَرَجَعَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا نَبِي الله ادفعني وإياه الى عمر(1/231)
قَالَ انْطلق مَعَه إِلَى عمر قَالَ يَا نَبِي الله أَنطلق مَعَ رجل إِلَى عمر قد رغب عَن قَضَاء الله وَقَضَاء رَسُول الله قَالَ انْطلق مَعَه فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا عمر رَضِي الله عَنهُ فقصا عَلَيْهِ قصتيهما فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَا تعجلا حَتَّى أخرج إلَيْكُمَا فَدخل فَاشْتَمَلَ على السَّيْف وَخرج عَلَيْهِمَا فَقَالَ أعيدا عَليّ قصتكما فاعادا فَلَمَّا تبين لعمر رَضِي الله عَنهُ أَن الْمُنَافِق رغب عَن قَضَاء الله وَقَضَاء رَسُوله حمل سَيْفه على ذؤابة الْمُنَافِق حَتَّى خالط كبده ثمَّ قَالَ هَكَذَا أَقْْضِي بَين من لم يرض بِقَضَاء الله وَقَضَاء رَسُوله فَأتى جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن عمر قد قتل الرجل وَفرق الله بَين الْحق وَالْبَاطِل على لِسَان عمر رَضِي الله عَنهُ فَسُمي الْفَارُوق وَيلْزم اسْم الصّديق من أَقَامَ الصدْق فِي أُمُوره كلهَا وَيلْزم اسْم الْفَارُوق من أَقَامَ الْحق فِي أُمُوره كلهَا وَلَو كَانَ فِي بَعْضهَا لَكَانَ هَذَا صَادِقا وَذَاكَ فارقا من الْعَرَبيَّة فِي قالب فَاعل وَأما فعيل وفاعول هُوَ الَّذِي تمكن ذَاك الْأَمر فِيهِ فَصَارَ لَهُ عَادَة وطبعا(1/232)
7 - الأَصْل الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي مَا يعدونه صدق الحَدِيث
قَالَ المُصَنّف حَدثنَا الْحُسَيْن بن عَليّ الْعجلِيّ الْكُوفِي قَالَ حَدثنَا يحيى بن آدم قَالَ حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا حدثتم عني بِحَدِيث تعرفونه وَلَا تُنْكِرُونَهُ قلته أَو لم أَقَله فصدقوا بِهِ وَإِنِّي أَقُول مَا يعرف وَلَا يُنكر وَإِذا حدثتم عني بِحَدِيث تُنْكِرُونَهُ وَلَا تعرفونه فكذبوا بِهِ فَإِنِّي لَا أَقُول مَا يُنكر وَلَا يعرف(1/233)
فالرسل بعثوا إِلَى الْخلق بِحمْل الْأُمُور وَمَعْرِفَة التَّدْبِير فِي الْأُمُور وَكَيف وَلم وكنه الْأُمُور عِنْدهم مَكْنُون قد أفشى الله من ذَلِك إِلَى الرُّسُل من غيبه مَا لَا يحْتَملهُ عقول من دونهم وبفضل النُّبُوَّة قدرُوا على احْتِمَاله
فالعلم إِنَّمَا بَدَأَ من عِنْد الله تَعَالَى إِلَى الرُّسُل ثمَّ من الرُّسُل إِلَى الْخلق فالعلم بِمَنْزِلَة الْبَحْر فأجري مِنْهُ وَاد ثمَّ أجري من الْوَادي نهر ثمَّ أجري مِنْهُ جدول ثمَّ من الْجَدْوَل إِلَى ساقية فَلَو أجري إِلَى الْجَدْوَل ذَلِك الْوَادي غرقه وأفسده وَلَو مَال الْبَحْر إِلَى الْوَادي لأفسده وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم أنزل من السَّمَاء مَاء فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا
فبحور الْعلم عِنْد الله تَعَالَى فَأعْطى الرُّسُل مِنْهَا أَوديَة ثمَّ أَعْطَتْ الرُّسُل من أَوْدِيَتهمْ أَنهَارًا إِلَى الْعلمَاء ثمَّ أَعْطَتْ الْعلمَاء إِلَى الْعَامَّة جداول صغَارًا على قدر طاقتهم ثمَّ أجرت الْعَامَّة إِلَى أَهَالِيهمْ وَأَوْلَادهمْ ومماليكهم سواقي بِقدر طاقتهم وَمن هَهُنَا مَا رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن لله سرا لَو أفشاه لفسد التَّدْبِير وللأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام سرا لَو أفشوه لفسدت نبوته وللملوك سرا لَو أفشوه لفسد ملكهم وللعلماء سرا لَو أفشوه لفسد علمهمْ وَإِنَّمَا يفْسد ذَلِك لِأَن الْعُقُول لَا تحتمله فَلَمَّا زيدت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي عُقُولهمْ قدرُوا على احْتِمَال النُّبُوَّة وزيدت الْعلمَاء فِي عُقُولهمْ وَبِذَلِك نالوا الْعلم فقدروا على احْتِمَال مَا عجزت الْعَامَّة عَنهُ
وَكَذَلِكَ عُلَمَاء الْبَاطِن وهم الْحُكَمَاء زيدت فِي عُقُولهمْ وَبِذَلِك نالوا الْعلم فقدروا على احْتِمَال مَا عجزت عَنهُ عُلَمَاء الظَّاهِر أَلا يرى أَن كثيرا من عُلَمَاء الظَّاهِر دفعُوا أَن تَنْقَطِع الوسوسة من الْآدَمِيّ فِي صلَاته ودفعوا أَن يكون لَهُ مشي على المَاء أَو تطوي لَهُ الأَرْض أَو يهيأ لَهُ رزق من غير وُجُوه الْآدَمِيّين حَتَّى أَنْكَرُوا عَامَّة هَذِه الرِّوَايَات الَّتِي جَاءَت فِي مثل هَذِه(1/234)
الْأَشْيَاء وَلَو عقلوا لقالوا مثل مَا قَالَ مطرف بن عبد الله حِين سَار لَيْلَة مَعَ صَاحب لَهُ فأضاء لَهُ طرف عَصَاهُ كالسراج مَعَه فَقَالَ لَهُ صَاحبه لَو حَدثنَا بِهَذَا كذبنَا فَقَالَ مطرف المكذب بنعم الله يكذب بِهَذَا وَلَو نظر عُلَمَاء الظَّاهِر إِلَى مَا أعْطى الله تَعَالَى لَهُم من مَعْرفَته وَهِي أعظم شَيْء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لم يستعظموا مَا إِذا أعطي أحدهم دسجة من جزر فِي بَريَّة من الأَرْض أَو رغيفا بل قَالُوا هَذَا من الله الَّذِي أَعْطَانَا مَعْرفَته الَّتِي هِيَ أثقل من سبع سموات وَسبع أَرضين لكنه من أعطي هَذَا الْعَطاء الْجَلِيل فَلم يرعه حق رعايته وَلم يشْكر الْمُعْطِي بل سَهَا وَلها وَتبطل فِي صُورَة الكفور للنعمة مُقبلا على الدُّنْيَا وَمن انتبه لما أعطي وانكشف غطاء قلبه رعى مَا أعطي وَعز عَلَيْهِ أَن يدنس خلعة الله الَّذِي خلع على قلبه كَمَا عز عَلَيْهِ أَن يدنس خلعة الْمُلُوك فِي دَار الدُّنْيَا فَكيف بالخلعة الَّتِي خلعها رب الْعَالمين على قُلُوب الْمُوَحِّدين اشتعل فِي قُلُوبهم نور التَّوْحِيد حَتَّى عرفوه وآمنوا بِهِ فاشرقت صُدُورهمْ وَنزع عَنْهَا ظلمَة الْكفْر وخلعها عَنْهُم وخلع عَلَيْهِم لِبَاس التَّقْوَى الَّذِي هُوَ وقاية من النَّار
ثمَّ قَالَ فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {ذَلِك من آيَات الله} وَقَالَ {حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة} ثمَّ قَالَ {وَالله عليم حَكِيم}(1/235)
عليم بِمَعْنى أعْطى من هُوَ من عباده حَكِيم فِي أمره بالحكمة فعل هَذَا لَا بالجزاف
{هُوَ أعلم بكم إِذْ أنشأكم من الأَرْض وَإِذ أَنْتُم أجنة فِي بطُون أُمَّهَاتكُم}
فَمن انتبه لهَذِهِ النِّعْمَة وَلِهَذَا الْفضل لم يستعظم أَن تطوى لَهُ الأَرْض أَو يعْطى رغيفا فِي بَريَّة وَالله يَقُول فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ويزيدهم من فَضله}
قيل هُوَ الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة فَرجل يشفع فِي أهل النَّار يَوْم الْقِيَامَة وَصَارَ مِمَّن يجوز قَوْله بَين يَدي رب الْعِزَّة فِي ذَلِك الْموقف إِن أعطَاهُ رغيفا فِي الدُّنْيَا من حَيْثُ لَا يقدر عَلَيْهِ مَاذَا يكون فِيهِ حَتَّى يُنكر هَذَا وَمَا يخرج إِنْكَار هَذَا إِلَّا من قوم جهلوا صنائع الله تَعَالَى وتدبيره فِي خلقه وَلم يتَبَيَّن لَهُم كَرَامَة الله إيَّاهُم
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَو عَرَفْتُمْ الله حق مَعْرفَته لزالت بدعائكم الْجبَال
فعلماء الظَّاهِر عرفُوا الله وَلَكِن لم ينالوا حق الْمعرفَة فَلذَلِك عجزوا عَن هَذِه الْمرتبَة ودفعوا أَن يكون هَذَا كَائِنا لأحد وَلَو عرفوه حق الْمعرفَة لماتت عَنْهُم الشَّهَوَات وَحب الرياسة وَالشح على الدُّنْيَا والنتافس فِي أحوالها وَطلب الثَّنَاء ترى أحدهم ينصب سَمعه مصغيا الى مَا يَقُول النَّاس لَهُ وَفِيه وعينه شاخصة إِلَى مَا ينظر النَّاس إِلَيْهِ مِنْهُ وَقد عميت عَيناهُ عَن النّظر إِلَى صنع الله وتدبيره فَإِن الله كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن وَقد صم أُذُنه عَن مواعظ الله يقرأه وَلَا يتلذذ لَهُ وَلَا يجد لَهُ حلاوة وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا(1/236)
عَنى بِهِ غَيره فَكيف يتلذذ بِمَا كلم بِهِ غَيره وَإِنَّمَا صَار كَذَلِك لِأَن الله تَعَالَى خَاطب أولي الْعُقُول والبصائر والألباب فَمن ذهب عقله وبصيرته ولبه فِي شَأْن نَفسه ودنياه كَيفَ يفهم كَلَام رب الْعَالمين ويتلذذ بِهِ وَإِنَّمَا وَقع الْبر واللطف على أهل تِلْكَ الصّفة
عدنا إِلَى تَأْوِيل الحَدِيث وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا حدثتم عني بِحَدِيث تعرفونه وَلَا تُنْكِرُونَهُ فَنَقُول من تكلم بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء من الْحق وعَلى سَبِيل الْهدى فالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَابق إِلَى ذَلِك القَوْل وَإِن لم يكن تكلم بذلك اللَّفْظ الَّذِي أَتَى بِهِ من بعده فقد أَتَى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَصْلِهِ مُجملا فَلذَلِك قَالَ فصدقوا بِهِ قلته أَو لم أَقَله إِن لم أَقَله بذلك اللَّفْظ الَّذِي يحدث بِهِ عني فقد قلته إِذا جِئْت بِالْأَصْلِ وَالْأَصْل مؤد عَن الْفَرْع
فجَاء الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْأَصْلِ ثمَّ تكلم أَصْحَابه والتابعون رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ من بعده بالفروع فَإِذا كَانَ الْكَلَام مَعْرُوفا عِنْد الْمُحَقِّقين غير مُنكر فَهُوَ قَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه أَو لم يقلهُ يجب علينا تَصْدِيقه لِأَن الأَصْل قد قَالَه الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأعطاناه وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لأَصْحَابه الَّذين قد عرفهم بِالْحَقِّ فَإِنَّمَا يعرف الْحق المحق وَهُوَ أولو الْأَلْبَاب والبصائر فَأَما المخلط المكب على شهوات الدُّنْيَا المحجوب عقله عَن الله تَعَالَى فَلَيْسَ هُوَ المعني بِهَذَا لِأَن صَدره مظلم فَكيف يعرف الْحق وَإِنَّمَا شَرط رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِذا جائكم عني حَدِيث تعرفونه وَلَا تُنْكِرُونَهُ
وَإِنَّمَا تعرف وتنكر الْعُقُول الَّتِي لَهَا إِلَى الله سَبِيل يصل إِلَى الله وَنور الله سراجه وَالْعقل بصيرته وَالْحق جيئته والسكينة طابعه فَيرجع إِلَى(1/237)
خلقه وَالْحق عِنْده أَبْلَج يضيء فِي قلبه كضوء السراج يَقِينا وعلما بِهِ كَمَا قَالَ ربيع بن خَيْثَم إِن على الْحق نورا وضُوءًا كضوء النَّهَار نعرفه وَأَن على الْبَاطِل ظلمَة كظلمة اللَّيْل ننكره فالمحقون هَكَذَا صفتهمْ يعْرفُونَ الْحق وَالْبَاطِل
وَكَذَلِكَ وعد الله تَعَالَى الْمُتَّقِينَ فَقَالَ عز من قَائِل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا}
قَالَ أهل التَّفْسِير إخراجا أَي من الشُّبُهَات والظلمات فَأَما مَحْض التَّفْسِير فالمخرج أَن يَجْعَل لَهُ نورا فِي قلبه يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل حَتَّى يكون لَهُ مخرجا من ظلمَة الْجَهْل وشبهات الدُّنْيَا فَإِن الْجَهْل يظلم وَالدُّنْيَا تزين على الْآدَمِيّ شَهْوَته الَّتِي فِي جَوْفه فتشبه عَلَيْهِ حَتَّى تخدعه فبتقواه من هَذِه الْأَشْيَاء يَجْعَل لَهُ فرقانا وَهُوَ النُّور يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل هَذَا ثَوَاب التَّقْوَى فِي عَاجل دُنْيَاهُ وثوابه فِي الْآخِرَة قربته وكرامته ورفعة دَرَجَته قَالَ لَهُ قَائِل إِن كَانَ النّظر فِي معرفَة الْحق من الْبَاطِل إِلَى الْقلب فَمَا الْحَاجة بِنَا إِلَى هَذِه الْآثَار قَالَ اعْلَم أَن الله تَعَالَى أنار الْقلب ووفر عقله وَالْحق نور وعَلى قلب الموحد نور يتقد من قلبه على قلبه فِي صَدره فَإِذا عرض أَمر الله تَعَالَى هُوَ حق فَوَقع ذكره فِي الصَّدْر على الْقلب التقى نور الْحق وَنور الْقلب فأمتزجا وائتلفا فاطمأن الْقلب بِمَا فِيهِ وَسكن فَعلمت أَنه الْحق وَإِذا عرض بَاطِل فَوَقع ذكره فِي الصَّدْر على(1/238)
الْقلب وَالْبَاطِل ظلمَة الْتَقت الظلمَة وَنور الْقلب فيفر النُّور وَلم يمزج مَعَه فاضطرب الْقلب
عَن وابصة بن معبد رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جِئْت تسْأَل عَن الْبر وَالْإِثْم استفت قَلْبك الْبر مَا إطمأنت إِلَيْهِ النَّفس وَالْقلب وَالْإِثْم مَا حاك فِي النَّفس وَتردد فِي الصَّدْر وَإِن أَفْتَاك النَّاس
إِنَّمَا ذكر طمأنينة النَّفس ليعلم أَنَّهَا نفوس قد مَاتَت مِنْهَا الشَّهَوَات وراضها صَاحبهَا وأدبها فقارنت الْقلب فِي الصَّدْر فِي الْعُبُودِيَّة وَلَو كَانَت نفس شهوانية بطالة لم تسْتَحقّ أَن ينظر اليها لما يحيك فِيهَا وَإِلَى مَا يطمئن فالنفوس البطالة تطمئِن إِلَى الْجَهْل وَلَا يحيك فِيهَا الْحق وَالْخَيْر ويستقر فِيهَا الشَّرّ وَالْبَاطِل
عَن عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ رجل أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله أَفْتِنَا إِن ابتلينا بِالْبَقَاءِ بعْدك قَالَ تفتيك نَفسك قَالَ وَكَيف تفتيني نَفسِي قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ضع يدك على صدرك فَإِنَّهُ يسكن للْحَلَال ويضطرب من الْحَرَام دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك وَإِن أَفْتَاك الْمفْتُون إِن الْمُؤمن يذر الصَّغِير مَخَافَة أَن يَقع فِي الْكَبِير
عَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت جدي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/239)
يَقُول دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك فَإِن الصدْق طمأنينة وَالْكذب رِيبَة
وَإِنَّمَا صير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الْكَلِمَة عَلامَة لقلوب قد ملكت النُّفُوس وخلت من وساوسها الصُّدُور لَا الْقُلُوب الَّتِي قد ملكتها نفوسها وشحنت بوساوسا صدورها قَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا وَإِذا لآتيناهم من لدنا أجرا عَظِيما ولهديناهم صراطا مُسْتَقِيمًا} وعد الْهِدَايَة على فعل مَا يوعظ بِهِ
وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا}
وَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا} بالهداية فِي الْقلب وَالْفرْقَان فِي الْقلب وَهُوَ نور يَجعله الله فِي الْقلب فيشرق بِهِ الصَّدْر وتنجلي ظلمَة الشَّهَوَات والهوى عَن الصُّدُور وَيَزُول رين الذُّنُوب فدلت الْآيَات أَن هَذَا لأهل التَّقْوَى والفاعلين بوعظه وَأهل المجاهدة وهم أهل الْيَقِين وطهارة الْقُلُوب وَأما الْعَامَّة فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ إِلَى النُّصُوص والْآثَار على أَلْسِنَة عُلَمَاء الظَّاهِر لما دخل عَلَيْهِم من آفَة النَّفس وتخليطها فقد تراكمت على صُدُورهمْ سحائب تترى من حب الدُّنْيَا(1/240)
وَحب الجاه وَحب الثَّنَاء وَحب الرياسة وَحب الشَّهَوَات وَفتن الدُّنْيَا ورين الذُّنُوب
فَإِذا عرض فِي الصَّدْر ذكر شَيْء هُوَ حق وعَلى الْحق نور حَالَتْ الظلمَة بَين نور الْحق وَنور الْقلب فَلم يمتزجا وَلم يعرف الْقلب ذَلِك الْحق فصاحبه فِي حيرة مِنْهُ وَإِذا عرض أَمر هُوَ بَاطِل وعَلى الْبَاطِل ظلمَة امتزج الْبَاطِل بظلمة الشَّهَوَات ورين الذُّنُوب فَلم يعلم الْقلب بِشَيْء من ذَلِك لِأَن نور الْقلب قد انكمن فِي الْقلب وَلم يشرق فِي الصَّدْر فَلَيْسَ لأهل التَّخْلِيط من هَذِه الْعَلامَة شَيْء فَإِنَّهُ قَالَ دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك وصدره ممتلىء ريبا فَكيف يتَبَيَّن فِيهِ الريب الزَّائِد قَالَ لَهُ قَائِل إِن رَأَيْت أَن تنص على حديثين حَدِيث يعرفهُ المحقون ببصائهم وَلَا ينكرونه وَحَدِيث ينكرونه لنعرف بِهِ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَمن قبل ذَلِك فَأخْبرنَا مَا معنى قَوْلك يعرفهُ المحقون ببصائرهم قَالَ ان الْحق الْأَعْظَم الَّذين انشعب مِنْهُ الْحُقُوق لَا يسكن إِلَّا فِي قلب طَاهِر وَكَذَلِكَ الْيَقِين لَا يسْتَقرّ إِلَّا فِي قلب طَاهِر فَمن لم يطهر قلبه فَهَذِهِ الْأَشْيَاء نافرة عَنهُ لَا تَجِد مأمنها فَإِذا وجدت قلبا وَقد تطهرت من أدناس الذُّنُوب ودرن الْعُيُوب فقد وجدت مأمنا فارتبعت فِيهِ فَوجدت صَاحبه حكيما وَوَجَدته موقنا وَوَجَدته محقا فالحكمة ينبوع قلبه وَمِثَال بَين عَيْنَيْهِ وَالْيَقِين مطالعة الملكوت وَالْحق مستعمله وَمن لم يطهر قلبه فَالْحق نافر عَنهُ فَهُوَ يتبع الْحق ليعْمَل بِهِ وَالْحق هارب مِنْهُ فَلذَلِك يشْتَد عَلَيْهِ الْقيام بِالْحَقِّ ويثقل عَلَيْهِ حَتَّى يعجز عَنهُ والمحق يجْرِي فِيهِ كالسهم وكالماء وكالدهن لينًا وكالريح سرعَة ومضيا
وَأما حَدِيث يعرفهُ المحقون فَروِيَ عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَته الجدعاء فَقَالَ أَيهَا النَّاس كَأَن الْمَوْت فِيهَا على غَيرنَا كتب وَكَأن الْحق على غَيرنَا وَجب وَكَأن الَّذِي نشيع من الْمَوْتَى عَن قَلِيل إِلَيْنَا رَاجِعُون نبوءهم أجداثهم(1/241)
وَنَأْكُل تراثهم كأنا مخلدون بعدهمْ طُوبَى لمن شغله عَيبه عَن عُيُوب النَّاس طُوبَى لمن ذل نَفسه من غير منقصة وتواضع لله تَعَالَى من غير مسكنة وَأنْفق مَالا جمعه من غير مَعْصِيّة ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الْفِقْه وَالْحكمَة طُوبَى لمن ذل نَفسه وَطلب كَسبه وصلحت سيرته وَحسنت خليقته وكرمت عَلَانِيَته وعزل عَن النَّاس شَره طُوبَى لمن عمل بِعِلْمِهِ وَأنْفق الْفضل من مَاله وَأمْسك الْفضل من قَوْله
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كنت رَدِيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا غُلَام أَلا أعلمك كَلِمَات ينفعك الله بِهن قلت بلَى يَا رَسُول الله قَالَ إحفظ الله يحفظك إحفظ الله تَجدهُ أمامك تعرف إِلَى الله فِي الرخَاء يعرفك فِي الشدَّة إِذا سَأَلت فاسأل الله وَإِذا استعنت فَاسْتَعِنْ بِاللَّه وَقد جف الْقَلَم بِمَا هُوَ كَائِن فَلَو جهد الْخلق على أَن ينفعوك بِشَيْء لم يَكْتُبهُ الله لَك لم يقدروا عَلَيْهِ وَلَو جهد الْخلق على أَن يضروك بِشَيْء لم يَكْتُبهُ الله عَلَيْك لم يقدروا عَلَيْهِ فَإِن اسْتَطَعْت أَن تعْمل لله بالرضى وَالْيَقِين فافعل فَإِن لم تستطع فَإِن فِي الصَّبْر على مَا تكره خيرا كثيرا وَاعْلَم أَن النَّصْر مَعَ الصَّبْر وَأَن الْفرج مَعَ الكرب وَأَن مَعَ الْعسر يسرا(1/242)
وَأما حَدِيث يُنكره المحقون فَمَا رُوِيَ عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام مر فِي موكبه بِرَجُل يُقَال لَهُ مرعبدي وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فَوقف عَلَيْهِ حَتَّى فرغ فَلم يرفع رَأسه فَلَمَّا رأى ذَلِك مِنْهُ نزل إِلَيْهِ فَكَلمهُ فَقَالَ لَهُ مرعبدي أَلَسْت ابْن دَاوُد الخاطىء حملت الدُّنْيَا فَوق رَأسك وَجعلت الْآخِرَة تَحت قَدَمَيْك فصرت محجوبا عَن الدَّاريْنِ فِي كَلَام طَوِيل عامته كذب لَا يقبله قُلُوب المحقين وَقد جعل الله الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام أحباءه وأصفياءه وَمن قَالَ لرَسُول مثل هَذَا فقد عابه وَمن عابه فقد كفر بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقد جعل الله إيمَاننَا بِهِ منظوما بِهِ فإيماننا بِاللَّه لَا يقبل منا حَتَّى نؤمن بالرسل كَمَا آمنا بِهِ وَكَيف يجوز أَن يُقَال لرَسُول الله جعلت الْآخِرَة تَحت قَدَمَيْك وَالدُّنْيَا فَوق رَأسك فَهُوَ بذلك راد على الله تَعَالَى وَالله عز وَجل يَقُول فِي كِتَابه الْكَرِيم ونوحا هدينَا من قبل وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وهرون وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ
فسليمان من أهل هِدَايَة الله تَعَالَى وَسَماهُ محسنا وَهَذَا يحْكى أَنه قَالَ جعلت الْآخِرَة تَحت قَدَمَيْك وصرت محجوبا عَن الدَّاريْنِ وَقَالَ الله تَعَالَى {وَوَهَبْنَا لداود سُلَيْمَان نعم العَبْد إِنَّه أواب} ثمَّ قَالَ لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده}
فَهَذَا الَّذِي زور هَذَا الحَدِيث أَحْسبهُ من هَؤُلَاءِ الحمقى الَّذين يتزهدون فِي الدُّنْيَا رِيَاء وَسُمْعَة يُرِيدُونَ أَن يتأكلوا هَذَا الحطام بسمة الزّهْد وَلم(1/243)
يعرفوا مَا الزهادة وَمَا مَعْنَاهَا حسبوا أَن الزهادة شتم الدُّنْيَا وَأكل النخالة وَلبس الصُّوف وذم الْأَغْنِيَاء ومدع الْفُقَرَاء وَمن جَهله يزْعم أَنه قَالَ مرعبدي لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ تقضي نهمة من الدُّنْيَا إِلَّا نقص من ميزانك وَالله تَعَالَى يَقُول {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب} ثمَّ قَالَ {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب}
وَمن الحَدِيث الَّذِي يُنكره قُلُوب المحقين مَا رُوِيَ أَن قوم مُوسَى سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن يسْأَل ربه عز وَجل أَن يسمعهم كَلَامه الْكَرِيم فَسَمِعُوا صَوتا كصوت الشبور إِنِّي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا الْحَيّ القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شَدِيد فَهَذَا حَدِيث من غرب فهمه وَإِنَّمَا الْكَلَام شَيْء خص بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من بَين جَمِيع ولد آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن كَانَ كلم قومه أَيْضا حَتَّى أسمعهم كَلَامه فَمَا فضل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ سمي كليم الله من بَين رسله عَلَيْهِم السَّلَام وَمن الحَدِيث الَّذِي يُنكره قُلُوب المحقين مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي قَوْله عز وَجل {يُوفونَ بِالنذرِ} الْآيَات
قَالَ مرض الْحسن وَالْحُسَيْن فَعَادَهُمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعادهما عمومة الْعَرَب فَقَالُوا يَا أَبَا الْحسن لَو نذرت على ولديك نذرا وكل نذر لَيْسَ لَهُ وَفَاء فَلَيْسَ بِشَيْء فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِن برأَ ولداي صمت لله ثَلَاثَة أَيَّام شكرا وَقَالَت جَارِيَة لَهُم ثويبة إِن برأَ سيداي صمت لله تَعَالَى ثَلَاثَة أَيَّام شكرا وَقَالَت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا مثل ذَلِك(1/244)
فألبس الغلامان الْعَافِيَة وَلَيْسَ عِنْد آل مُحَمَّد قَلِيل وَلَا كثير فَانْطَلق عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى شَمْعُون الْيَهُودِيّ الْخَيْبَرِيّ فَاسْتقْرض مِنْهُ ثَلَاثَة أصوع من شعير فجَاء بِهِ فَوَضعه فِي نَاحيَة الْبَيْت فَقَامَتْ فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا إِلَى صَاع فطحنته واختبزته وَصلى عَليّ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَتَى الْمنزل فَلَمَّا وضع الطَّعَام بَين يَدَيْهِ أَتَاهُم مِسْكين فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم أهل بَيت مُحَمَّد أَطْعمُونِي أطْعمكُم الله على مَوَائِد الْجنَّة فَسَمعهُ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَأَنْشَأَ أبياتا لفاطمة رَضِي الله عَنْهَا وأنشأت فَاطِمَة أبياتا لَهُ فأطعموه الطَّعَام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يَذُوقُوا شَيْئا إِلَّا المَاء القراح وَفِي الْيَوْم الثَّانِي قَامَت إِلَى صَاع فاختبزته فَوقف بِالْبَابِ يَتِيم فَأَنْشَأَ عَليّ كرم الله وَجهه أبياتا وأنشأت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا أبياتا فَأَعْطوهُ الطَّعَام ومكثوا يَوْمَيْنِ وليلتين لم يَذُوقُوا شَيْئا إِلَّا المَاء فَلَمَّا أَن كَانَ الْيَوْم الثَّالِث قَامَت إِلَى الصَّاع الْبَاقِي فطحنته وأختبزته فَوقف بِالْبَابِ أَسِير استطعم أهل بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَنْشَأَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أبياتا وأنشأت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا أبياتا فَأَعْطوهُ الطَّعَام ومكثوا ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها لم يَذُوقُوا شَيْئا إِلَّا المَاء القراح
فَلَمَّا أَن كَانَ الْيَوْم الرَّابِع وَقد قضى الله النّذر أَخذ عَليّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى الْحسن وَبِيَدِهِ الْيُسْرَى الْحُسَيْن وَأَقْبل نَحْو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم يَرْتَعِشُونَ كالفراخ من شدَّة الْجُوع فَلَمَّا أبصرهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَا أَبَا الْحسن مَا أَشد مَا أرى بكم انْطلق بِنَا إِلَى ابْنَتي فَاطِمَة فَانْطَلقُوا إِلَيْهَا وَهِي فِي مِحْرَابهَا قد لصق بَطنهَا بظهرها وَغَارَتْ عَيناهَا من(1/245)
شدَّة الْجُوع فَلَمَّا أَن رَآهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعرف المجاعة فِي وَجههَا بَكَى فَقَالَ واغوثاه أهل بَيت مُحَمَّد يموتون جوعا فهبط جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ السَّلَام يُقْرِئك السَّلَام يَا مُحَمَّد خُذ هَنِيئًا فِي أهل بَيْتك فَأَقْرَأهُ {يُوفونَ بِالنذرِ} إِلَى قَوْله {جَزَاء وَلَا شكُورًا}
هَذَا حَدِيث مُزَوق وَقد تطرف فِيهِ صَاحبه حَتَّى يشبه على المستمعين وَالْجَاهِل يعَض على شَفَتَيْه تلهفا أَلا يكون بِهَذِهِ الصّفة وَلَا يدْرِي أَن صَاحب هَذَا الْفِعْل مَذْمُوم قَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو وَهُوَ الْفضل الَّذِي يفضل عَن نَفسك وَعِيَالك وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى وابدأ بِنَفْسِك ثمَّ بِمن تعول
وافترض الله تَعَالَى على الْأزْوَاج النَّفَقَة لأهاليهم وَأَوْلَادهمْ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كفى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَن يضيع من يقوت(1/246)
أفيحسب عَاقل أَن عليا رَضِي الله عَنهُ جهل هَذَا الْأَمر حَتَّى أجهد صبيانا صغَارًا من أَبنَاء خمس أَو سِتّ على جوع ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها حَتَّى تضرروا من الْجُوع وَغَارَتْ الْعُيُون فيهم لخلاء أَجْوَافهم حَتَّى أبكى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بهم من الْجهد هَب أَنه آثر على نَفسه هَذَا السَّائِل فَهَل كَانَ يجوز لَهُ أَن يحمل على أطفاله جوع ثَلَاثَة أَيَّام بلياليهن مَا يروج هَذَا إِلَّا على حمقى جهال أَبى الله لقلوب منتبهة أَن تظن بعلي رَضِي الله عَنهُ مثل هَذَا وليت شعري من حفظ هَذِه الأبيات كل لَيْلَة عَن عَليّ وَفَاطِمَة رضوَان الله عَلَيْهِمَا وَإجَابَة كل مِنْهُمَا صَاحبه حَتَّى أَدَّاهُ إِلَى هَؤُلَاءِ الروَاة فَهَذَا وأشباهه عامتها مفتعلة
وَمِمَّا يُنكره المحقون مَا يرْوى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن فِي سنة مِائَتَيْنِ يكون كَذَا وَفِي الْعشْرين والمائتين كَذَا وَفِي الثَّلَاثِينَ كَذَا وَفِي الْأَرْبَعين كَذَا وَفِي الْخمسين كَذَا وَفِي السِّتين والمائتين تعكف الشَّمْس سَاعَة فَيَمُوت نصف الْجِنّ وَالْإِنْس فَهَل كَانَ كَذَا وَقد مَضَت هَذِه الْمدَّة وعكوف الشَّمْس لَا يَخْلُو مِنْهُ بلد فِي شَرق أَو غرب وَدلَالَة أُخْرَى وَهُوَ أَن التَّارِيخ لم يكن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا وضعوه على عهد عمر رَضِي الله عَنهُ
عَن مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ رفع إِلَى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ صك مَحَله شعْبَان فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَي شعْبَان هَذَا الَّذِي هُوَ آتٍ أَو هُوَ الَّذِي نَحن فِيهِ ثمَّ قَالَ لأَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَعُوا للنَّاس تَارِيخا فَقَالَ بَعضهم اكتبوا على تَارِيخ الرّوم فَقيل إِنَّهُم يَكْتُبُونَ من عِنْد ذِي القرنين وَهَذَا يطول وَقَالَ بَعضهم اكتبوا على تَارِيخ الْفرس فَقيل إِن الْفرس كلما كَانَ ملك أرخ من قبله فَاجْتمع رَأْيهمْ أَن ينْظرُوا كم أَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ فوجدوه عشر سِنِين فَكتب التَّارِيخ من هِجْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/247)
وَمِمَّا تنكره الْقُلُوب حَدِيث رَوَوْهُ عَن عَوْف عَن أبي القموص قَالَ شرب أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ الْخمر يَعْنِي من قبل نزُول تَحْرِيمهَا فَقعدَ ينوح قَتْلَى بدر وينشد أبياتا فَبلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك فَخرج حَتَّى أَتَاهُ فَرفع عَلَيْهِ شَيْئا فِي يَده فَقَالَ أَبُو بكر أعوذ بِاللَّه من غضب الله وَغَضب رَسُوله فَنزلت {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر} الْآيَة فَهَذَا مُنكر من القَوْل وَالْفِعْل
وَقد أعاذ الله الصديقين من فعل الْخَنَا وأقوال أَهله وَإِن كَانَ قبل التَّحْرِيم فقد كَانَ أَبُو بكر بِمَكَّة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يُهَاجر وَقد وسم بالصديقية لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ وَعُثْمَان مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حراء فَرَجَفَ بهم الْجَبَل فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسكن حراء فَإِنَّمَا عَلَيْك نَبِي وصديق وشهيد
وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أعلم بأبيها من أبي القموص فَهِيَ تنكر هَذَا وَتكذب أَهله
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت مَا قَالَ أَبُو بكر وَلَا عُثْمَان بَيت شعر فِي جَاهِلِيَّة وَلَا فِي إِسْلَام
وعنها أَيْضا أَنَّهَا كَانَت تَدْعُو على من يَقُول إِن أَبَا بكر قَالَ هَذِه القصيدة وأولها
(تحيا بالسلامة أم بكر ... وَهل لي بعد قومِي بِالسَّلَامِ)(1/248)
إِلَخ ثمَّ قَالَت وَالله مَا قَالَ أَبُو بكر بَيت شعر فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي الْإِسْلَام وَلَقَد ترك أَبُو بكر وَعُثْمَان شرب الْخمر فِي الْجَاهِلِيَّة وَمَا ارتاب أَبُو بكر فِي الله مُنْذُ أسلم وَلكنه كَانَ تزوج امْرَأَة من بني كنَانَة ثمَّ من بني عَوْف فَلَمَّا هَاجر أَبُو بكر طَلقهَا فَتزَوج بهَا ابْن عَمَّتهَا أَبُو بكر بن شعوب الْكِنَانِي الشَّاعِر فَقَالَ هَذِه القصيدة يرثي بهَا كفار قُرَيْش الَّذين قتلوا ببدر فحملها النَّاس أَبَا بكر من أجل امْرَأَته أم بكر الَّتِي طَلقهَا(1/249)
- الأَصْل الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي النَّهْي عَن إِكْرَاه المرضى على الطَّعَام وَالشرَاب
عَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تكْرهُوا مرضاكم على الطَّعَام فَإِن الله يُطعمهُمْ ويسقيهم
إطْعَام الله وسقياه الْآدَمِيّ فِي دُنْيَاهُ هَذَا الَّذِي هيأه فِي أرضه وسمائه وَفِي الْآخِرَة مَا هيأه فِي جواره من جنانه ثمَّ فِيمَا بَين ذَلِك من الله تَعَالَى للعباد لطائف من خزائنه فِي أَحْوَالهم مثل مائدة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمثل مَا أُوتِيَ مَرْيَم حَيْثُ قيل {وجد عِنْدهَا رزقا}
وسقياه مثل عَسْكَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أَصَابَهُم الْعَطش(1/250)
فانفجرت من أَصَابِع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منابع المَاء حَتَّى ارتوى الْعَسْكَر وَأما معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الله يُطعمهُمْ ويسقيهم هُوَ أَنه يطهر قُلُوبهم من رين الذُّنُوب إِذا طهرهم من رين الذُّنُوب من عَلَيْهِم بِالْيَقِينِ فأشبعهم وأرواهم فَذَاك طَعَامه وسقياه لَهُم أَلا ترى أَنه يمْكث الْأَيَّام الْكَثِيرَة لَا يَذُوق شَيْئا وَمَعَهُ قوته وَلَو كَانَ ذَاك فِي أَيَّام الصِّحَّة لضعف عَن ذَلِك وَعجز عَن مقاساته وَأَقل النَّاس طَعَاما الْأَنْبِيَاء ثمَّ الْأَوْلِيَاء وَكلما كَانَ العَبْد أَكثر حظا من الْيَقِين كَانَ أقل طعما وتناولا
رُوِيَ عَن عَامر بن عبد قيس أَنه داوم شهرا لَا يَأْكُل شَيْئا قَالَ الْأَعْمَش سَمِعت إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ رَحمَه الله يَقُول لقد أَتَى عَليّ شهر وَمَا أكلت طَعَاما وَلَا شرابًا إِلَّا حَبَّة من عِنَب أكرهوني عَلَيْهَا وَمَا أَنا بصائم وَإِنِّي أَقْْضِي حوائجي
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء وَالْمُؤمن يَأْكُل فِي معاء وَاحِد
فقد فسرناه فِي بَابه(1/251)
- الأَصْل السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي بَيَان أَنه مِمَّا يحصل عَذَاب الْقَبْر
عَن مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله من أَي شَيْء عَذَاب الْقَبْر أَفْتِنَا عَن عَذَاب الْقَبْر قَالَ من أثر الْبَوْل فَمن أصَاب مِنْهُ شَيْئا فليغسله بِمَاء فَإِن لم يصبهُ أَو يجده فليسمحه بِتُرَاب طيب
جعل التَّيَمُّم حَالَة الشَّك والتخوف أَنه أصَاب جسده الْبَوْل دافعا لعذاب الْقَبْر كَمَا جعل غسله بِالْمَاءِ فِي الْحَالة الَّتِي يدْرِي أَنه أَصَابَهُ دافعا وباله فِي الْقَبْر(1/252)
- الأَصْل السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي بَيَان أَن مُدَّة المحنة لم تقدر بِثَلَاثَة أَيَّام
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا صَبر أهل بَيت على جهد ثَلَاثَة إِلَّا آتَاهُم الله تَعَالَى برزق
إِنَّمَا صَار مُدَّة المحنة ثَلَاثَة أَيَّام لِأَن العَبْد على أَجزَاء ثَلَاثَة جُزْء مِنْهُ للْإيمَان وجزء للروح وجزء للنَّفس فالطمأنينة للْإيمَان وَالطَّاعَة للروح والشهوة للنَّفس فَإِذا منع أول يَوْم فجاع وصبر فَذَاك صَبر الْإِيمَان لِأَنَّهُ أقوى الثَّلَاثَة وَإِذا منع الْيَوْم الثَّانِي فجاع وصبر فَذَاك صَبر الرّوح يُطِيع ربه وَلَا يتَنَاوَل مَا لايحل وَإِذا منع الْيَوْم الثَّالِث فجاع وصبر فَذَاك صَبر النَّفس وتمت المحنة لِأَن المحنة إِنَّمَا تقع على أهل التُّهْمَة وَالْإِيمَان عزيمتهم وَكَذَا الرّوح وَإِنَّمَا التُّهْمَة للنَّفس وَفِي الْيَوْم الأول لم يتَبَيَّن صبرها لِأَن الْإِيمَان وَالروح لَهَا معِين وَفِي الْيَوْم الثَّانِي الرّوح معِين لَهَا فَإِذا صبرت فِي الْيَوْم الثَّالِث برزت منقبتها وَإِنَّمَا وَقعت المحنة لشأن النُّفُوس الكاذبة وامتحن ايمانهم قَالَ الله تَعَالَى {الم أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون}(1/253)
- الأَصْل الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي أَن الْبركَة فِي بيع الْعقار منزوعة
عَن سعيد بن حُرَيْث رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَاعَ دَارا أَو عقارا فَليعلم أَنه مَال قمن أَنه لَا يُبَارك لَهُ فِيهِ إِلَّا أَن يَجعله فِي مثله
وَعَن عمرَان بن الْحصين الْخُزَاعِيّ البدري رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من بَاعَ عقدَة وَهُوَ يجد بدا من بيعهَا وكل بذلك المَال مَا يتلفه قيل إِنَّمَا نزعت الْبركَة مِنْهَا لِأَنَّهَا ثمن الدُّنْيَا المذمومة(1/254)
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدُّنْيَا ملعونة مَلْعُون مَا فِيهَا إِلَّا ذَاكر الله أَو معلما أَو متعلما
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ ملعونة الدُّنْيَا وملعون أَهلهَا إِلَّا ذكر الله تَعَالَى وَمَا آوى ذكر الله
وكل شَيْء أُرِيد بِهِ وَجه الله تَعَالَى من الْأُمُور والأعمال فَهُوَ مُسْتَثْنى من اللَّعْنَة لِأَنَّهُ قد آوى ذكر الله تَعَالَى
وَقيل إِنَّمَا نزعت الْبركَة عَن ثمن الْعقار لِأَنَّهُ مُخَالفَة لتدبير الله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى خلق الأَرْض وَجعلهَا مهادا ومسكنا لَا ليتجر فِيهَا وَجعل الْجبَال أوتادا وَبَارك فِيهَا وَقدر فِيهَا أقواتها وَجعل أَثمَان الْأَشْيَاء فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِذا اتّجر فِيمَا خلق لَهُ بورك لَهُ فِيهِ وَإِذا اتّجر فِيمَا خلق مهادا وسكنا نزعت الْبركَة عَنهُ وَلِهَذَا سَمَّاهُ عقدَة لِأَنَّهُ مهاد لَك قد عقد مسكنا(1/255)
- الأَصْل التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي أَن النَّفَقَة فِي التُّرَاب وَالْبناء لَا أجر فِيهَا
عَن خباب رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يُؤجر العَبْد فِي نَفَقَته كلهَا إِلَّا مَا كَانَ فِي التُّرَاب أَو قَالَ فِي الْبناء
وَفِي رِوَايَة كل نَفَقَة ينفقها العَبْد يُؤجر فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ من نَفَقَة فِي التُّرَاب
هَذَا مَا عندنَا فِي الْبناء الَّذِي يَجعله مرفقا لنَفسِهِ وَأما الْمَسَاجِد الَّتِي هِيَ لله تَعَالَى فَلَا يملكهَا أحد فَهِيَ خَارِجَة من ذَلِك وَقد جَاءَت الْآثَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من بنى مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة(1/256)
فَإِنَّمَا صَار غير مأجور فِي النَّفَقَة فِي التُّرَاب لِأَنَّهُ ينْفق فِي دُنْيَاهُ وَقد أذن الله فِي خرابها وَهُوَ يزِيد فِي زينتها الَّتِي جعلت فتْنَة وبلوى للعباد وَتصير عَاقبَتهَا إِلَى مَا قَالَ الله تَعَالَى {وَإِنَّا لجاعلون مَا عَلَيْهَا صَعِيدا جرزا}
عَن رَاشد بن الْحَارِث أَو غَيره قَالَ بنى أَبُو الدَّرْدَاء كنيفا فِي منزله بحمص فَكتب إِلَيْهِ عمر رَضِي الله عَنهُ لقد كَانَ لَك يَا عُوَيْمِر فِيمَا بنت فَارس وَالروم كِفَايَة عَن تَزْيِين الدُّنْيَا وَقد أذن الله بخرابها فَإِذا أَتَاك كتابي هَذَا فارتحل من حمص إِلَى دمشق قَالَ يَعْنِي أَنه عاقبه بِمَا بنى
فَإِن كَانَ الْبناء مِمَّا لَا يسْتَغْنى عَنهُ وَقد بنى محتسبا فَهُوَ خَارج عَن ذَلِك لِأَن الْحَاجة إِلَى الْمسكن كالحاجة إِلَى الْمطعم وَالْمشْرَب والملبس والمركب فَإِن كَانَ فِي نَفَقَته فِي هَذِه الْأَشْيَاء محتسبا فَهُوَ مأجور فَكَذَلِك الْمسكن وَإِنَّمَا تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث عندنَا إِذا بنى لنَفسِهِ بِنَاء مرفق لَا يحْتَسب بهَا
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ كل نَفَقَة ينفقها العَبْد على نَفسه فَهِيَ صدقه
وَعَن الْمِقْدَام بن معدي كرب قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أنفقت على نَفسك فَهُوَ صَدَقَة وَمَا أنفقت على زَوجك فَهُوَ صَدَقَة(1/257)
- الأَصْل الْخَمْسُونَ
-
فِي الِاعْتِصَام بِالْكتاب والعترة وبيناها
عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّته يَوْم عَرَفَة وَهُوَ على نَاقَته الْقَصْوَاء يخْطب فَسَمعته يَقُول أَيهَا النَّاس قد تركت فِيكُم مَا إِن أَخَذْتُم بِهِ لم تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بَيْتِي
وَعَن حُذَيْفَة بن أسيد الْغِفَارِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما صدر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حجَّة الْوَدَاع خطب فَقَالَ
أَيهَا النَّاس إِنَّه قد نَبَّأَنِي اللَّطِيف الْخَبِير أَنه لن يعمر نَبِي إِلَّا مثل نصف عمره الَّذِي يَلِيهِ من قبل وَإِنِّي أَظن موشك أَن أدعى فَأُجِيب وَإِنِّي فَرَطكُمْ على الْحَوْض وَإِنِّي سَائِلكُمْ حِين تردون عَليّ عَن الثقلَيْن فانظروا كَيفَ تخلفونني فيهمَا الثّقل الْأَكْبَر كتاب الله تَعَالَى سَبَب طرفه بيد الله تَعَالَى وطرف بِأَيْدِيكُمْ فاستمسكوا فَلَا تضلوا وَلَا تبدلوا والثقل الْأَصْغَر(1/258)
عِتْرَتِي أهل بَيْتِي فَإِنِّي قد نَبَّأَنِي اللَّطِيف الْخَبِير أَنَّهُمَا لن يَتَفَرَّقَا حَتَّى يردا على الْحَوْض
رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه دعاهم ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا}
فذريتهم مِنْهُم فهم صفوة وَلَيْسوا بِأَهْل عصمَة إِنَّمَا الْعِصْمَة لِلنَّبِيِّينَ عَلَيْهِم السَّلَام والمحنة لمن دونهم وَإِنَّمَا يمْتَحن من كَانَت الْأُمُور محجوبة عَنهُ فَأَما من صَارَت الْأُمُور لَهُ مُعَاينَة ومشاهدة فقد ارْتَفع عَن المحنة
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لن يَتَفَرَّقَا حَتَّى يردا على الْحَوْض وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا إِن أَخَذْتُم بِهِ لن تضلوا وَاقع على الْأَئِمَّة مِنْهُم السَّادة لَا على غَيرهم وَلَيْسَ بالمسيء المخلط قدوة وكائن فيهم المخلطون والمسيئون لأَنهم لم يعروا من شهوات الْآدَمِيّين وَلَا عصموا عصمَة النَّبِيين وَكَذَلِكَ كتاب الله تَعَالَى من قبل مَا مِنْهُ نَاسخ ومنسوخ فَكَمَا ارْتَفع الحكم بالمنسوخ مِنْهُ كَذَلِك ارْتَفَعت الْقدْوَة بالمخذولين مِنْهُم
وَإِنَّمَا يلْزمنَا الِاقْتِدَاء بالفقهاء الْعلمَاء مِنْهُم بالفقه وَالْعلم الَّذِي ضمن الله تَعَالَى بَين أحشائهم لَا بِالْأَصْلِ والعنصر فَإِذا كَانَ هَذَا الْعلم وَالْفِقْه مَوْجُودا فِي غير عنصرهم لزمنا الِاقْتِدَاء بهم كالاقتداء بهؤلاء وَقد قَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم}(1/259)
فَإِنَّمَا يَلِي الْأَمر منا من فهم عَن الله تَعَالَى وَعَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يهم الْحَاجة إِلَيْهِ من الْعلم فِي أَمر شَرِيعَته
وَرُوِيَ عَن جَابر وَابْن عَبَّاس وعدة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} قَالَ هم الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء
وَإِنَّمَا أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا نرى إِلَيْهِم لِأَن العنصر إِذا طَابَ كَانَ معينا لَهُم على فهم مَا يحْتَاج إِلَيْهِم وَطيب العنصر يُؤَدِّي إِلَى محَاسِن الْأَخْلَاق ومحاسن الْأَخْلَاق تُؤدِّي إِلَى صفاء الْقلب ونزاهته وَإِذا نزه الْقلب وَصفا كَانَ النُّور أعظم وأشرق الصَّدْر بنورة فَكَانَ ذَلِك عونا لَهُ على دَرك مَا بِهِ الْحَاجة إِلَيْهِ من شَرِيعَته(1/260)
- الأَصْل الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ
-
فِي بَيَان عدد الأبدال وصفاتهم
-
عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الأبدال ثَلَاثُونَ رجلا قُلُوبهم على قلب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام إِذا مَاتَ الرجل أبدل الله مَكَانَهُ آخر
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ البدلاء أَرْبَعُونَ رجلا اثْنَان وَعِشْرُونَ بِالشَّام وَثَمَانِية عشر بالعراق وَكلما مَاتَ وَاحِد بدل آخر فَإِذا كَانَ عِنْد الْقِيَامَة مَاتُوا كلهم(1/261)
وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثين اخْتِلَاف وَإِنَّمَا هم أَرْبَعُونَ رجلا فثلاثون مِنْهُم قُلُوبهم على قلب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام دلّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ ان الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام كَانُوا أوتاد الأَرْض فَلَمَّا انْقَطَعت النُّبُوَّة أبدل الله تَعَالَى مكانهم قوما من أمة أَحْمد يُقَال لَهُم الآبدال لم يفضلوا النَّاس بِكَثْرَة صَوْم وَلَا صَلَاة وَلَا تَسْبِيح وَلَكِن بِحسن الْخلق وبصدق الْوَرع وَحسن النِّيَّة وسلامة قُلُوبهم لجَمِيع الْمُسلمين والنصيحة لله تَعَالَى ابْتِغَاء مرضاته بصبر وحلم ولب وتواضع فِي غير مذلة فهم خلفاء من الْأَنْبِيَاء قوم اصطفاهم الله تَعَالَى لنَفسِهِ واستخلصهم بِعِلْمِهِ لنَفسِهِ وهم أَرْبَعُونَ صديقا مِنْهُم ثَلَاثُونَ رجلا على مثل يَقِين إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن بهم تدفع المكاره عَن أهل الأَرْض والبلايا عَن النَّاس وبهم يمطرون وبهم يرْزقُونَ لَا يَمُوت الرجل مِنْهُم أبدا حَتَّى يكون الله تَعَالَى قد أنشأ من يخلفه وَلَا يعلنون شَيْئا وَلَا يُؤْذونَ من تَحْتهم وَلَا يتطاولون عَلَيْهِم وَلَا يحقرونهم وَلَا يحسدون من فَوْقهم وَلَا يحرصون على الدُّنْيَا لَيْسُوا بمتماوتين وَلَا متكبرين وَلَا متخشعين أطيب النَّاس خَبرا وأورعهم أنفسا طبيعتهم السخاء وصفتهم السَّلامَة من دَعْوَى النَّاس قبلهم لَا تتفرق صفتهمْ لَيْسُوا الْيَوْم فِي حَال خشيَة وَغدا فِي حَال غَفلَة وَلَكِن مداومين على حَالهم وهم فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم لَا تتدركهم الرّيح العاصف وَلَا الْخَيل المجراة قُلُوبهم تصعد فِي السَّمَاء ارتياحا إِلَى الله تَعَالَى واشتياقا إِلَيْهِ قدما فِي اشتياق الْخيرَات {أُولَئِكَ حزب الله أَلا إِن حزب الله هم المفلحون}
قلت يَا أَبَا الدَّرْدَاء مَا شَيْء أثقل عَليّ من هَذِه الصّفة الَّتِي وصفتها فَكيف لي بِأَن أدْركهَا قَالَ لَيْسَ بَيْنك وَبَين أَن تكون فِي أَوسط ذَلِك إِلَّا أَن تبغض الدُّنْيَا فَإِذا أبغضت الدُّنْيَا أقبل عَلَيْك حب الْآخِرَة وبقدر مَا(1/262)
تزهد فِي الدُّنْيَا تحب الْآخِرَة وبقدر مَا تحب الْآخِرَة تبصر مَا ينفعك وَمَا يَضرك فَإِذا علم الله صدق الطّلب من عَبده أفرع عَلَيْهِ السداد واكتنفه بعصمته وتصديق ذَلِك فِي كتاب الله الْعَزِيز {إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون}
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَمَا تلذذ المتلذذون بِشَيْء أفضل من حب الله تَعَالَى وَطلب مرضاته
عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن بدلاء امتي لَا يدْخلُونَ الْجنَّة بِكَثْرَة صَوْم وَلَا صَلَاة وَلَكِن دخلوها برحمة الله وسلامة الصُّدُور وسخاوة الْأَنْفس وَالرَّحْمَة وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين
عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ الأبدال بِالشَّام وهم ثَلَاثُونَ رجلا على منهاج إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام كلما مَاتَ رجل أبدل الله مَكَانَهُ آخر
فالعصب بالعراق أَرْبَعُونَ رجلا كلما مَاتَ رجل أبدل الله مَكَانَهُ آخر عشرُون مِنْهُم على اجْتِهَاد عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام وَعِشْرُونَ مِنْهُم قد أُوتُوا مَزَامِير آل دَاوُد والعصب رجال تشبه الأبدال
وَعَن وهب بن مُنَبّه فِي مَا يَجِيء فِي مُنَاجَاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَن الله تَعَالَى قَالَ هم أَرْبَعُونَ صديقا كلهم بِي ولي وإلي
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الأَرْض شكت إِلَى الله تَعَالَى ذهَاب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَانْقِطَاع النُّبُوَّة فَقَالَ لَهَا سَوف أجعَل على ظهرك صديقين أَرْبَعِينَ فسكنت
فالصديقون إِنَّمَا بانوا من الْخلق بِصدق الْقُلُوب مَعَ الله تَعَالَى لَا(1/263)
بِصدق الْأَعْمَال مَعَ الْمَلَائِكَة والعمال لَيْسَ لقُلُوبِهِمْ طَرِيق إِلَى الله تَعَالَى إِنَّمَا طَرِيق قُلُوبهم إِلَى الثَّوَاب والأنبياء وَالصِّدِّيقُونَ قد انْكَشَفَ الغطاء عَنْهُم وَصَارَ لَهُم الى الله طَرِيق ليعبده كَأَنَّهُمْ يرونه كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ وَهُوَ مَا وعد الله تَعَالَى من هِدَايَة السَّبِيل للَّذين جاهدوا فِيهِ فَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا}
ويعقبه التَّوَكُّل قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا لنا أَلا نتوكل على الله وَقد هدَانَا سبلنا ولنصبرن على مَا آذيتمونا} وَإِنَّمَا سموا أبدالا لوَجْهَيْنِ
وَجه أَنه كلما مَاتَ رجل بدل مَكَانَهُ آخر لتَمام الْأَرْبَعين
وَوجه آخر أَنهم بدلُوا أَخْلَاقهم السَّيئَة وراضوا أنفسهم حَتَّى صَارَت محَاسِن أَخْلَاقهم حلية أَعْمَالهم
وَأما قَوْله تَعَالَى فِي مُنَاجَاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كلهم بِي أَي بِي يقومُونَ ويقعدون وَبِي ينطقون وَبِي يَأْخُذُونَ ويعطون
وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا يحْكى عَن الله عز وَجل فَإِذا(1/264)
أَحْبَبْت عَبدِي كنت سَمعه وبصره وَلسَانه وَيَده وَرجله وفؤاده فَبِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي ينْطق وَبِي يَأْخُذ وَبِي يبطش وَبِي يعقل
وَقَوله ولي أَي هم صفوتي قد بذلوا لي قُلُوبهم ونفوسهم فهم لي لَا يشركني فيهم نُفُوسهم
وَقَوله إِلَيّ أَي تأوي قُلُوبهم إِلَيّ فِي كل أَمر وسعي وَحَال أما الَّذين قُلُوبهم على قلب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فهم الَّذين لَا تسكن قُلُوبهم الى من دون الله تَعَالَى فِي شَيْء من أَمر الدّين وَالدُّنْيَا وَأما العصب فهم المحقون فَمنهمْ مستعملون على طَرِيق الْجهد وَمِنْهُم روحانيون قد أُوتُوا مَزَامِير آل دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام(1/265)
- الأَصْل الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ
-
فِي أَنه يقبض العَبْد حَيْثُ اثره
عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِذا كَانَ أجل العَبْد بِأَرْض أتيت لَهُ الْحَاجة إِلَيْهَا حَتَّى إِذا بلغ أقْصَى أَثَره قَبضه الله سُبْحَانَهُ فَتَقول الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة رب هَذَا عَبدك مَا استودعتني
قَالَ أَبُو عبد الله إِنَّمَا صَار أَجله هُنَاكَ لِأَنَّهُ خلق من تِلْكَ الْبقْعَة
وَقد قَالَ عز وَجل فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم} وَإِنَّمَا يُعَاد الْمَرْء من حَيْثُ بَدَأَ
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطوف بِبَعْض نواحي الْمَدِينَة فَإِذا بِقَبْر يحْفر فَأقبل حَتَّى وقف عَلَيْهِ(1/266)
فَقَالَ لمن هَذَا قيل لرجل من الْحَبَشَة فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله سيق من أرضه وسمائه حَتَّى دفن فِي التربة الَّتِي مِنْهَا خلق
وَرُوِيَ أَن الأَرْض عجت إِلَى رَبهَا تَعَالَى لما أخذت تربة آدم عَلَيْهِ السَّلَام مِنْهَا فَقَالَ لَهَا إِنِّي سأرده إِلَيْك فَإِذا مَاتَ دفن فِي الْبقْعَة الَّتِي مِنْهَا تربته
وَإِنَّمَا صَارَت وَدِيعَة عِنْدهَا حَتَّى تَقول يَوْمئِذٍ رب هَذَا عَبدك مَا استدعتني لإنها عبدت رَبهَا فالعبودة وَدِيعَة فِي الأَرْض حَتَّى يبْعَث للثَّواب فَيكون الْحق عز وَجل أَحَق بِهِ من الأَرْض لِأَنَّهُ كَانَ وَالِي الْحق وَنَصره فَصَارَ الْحق أملك بِهِ فَأَعَادَهُ سويا وَسلمهُ إِلَى الْحق ليعيده إِلَى دَار السَّلَام أَو عبد جحد العبودة فَهُوَ مسجون فِي بطن الأَرْض للحق عِنْده تبعة وطلبة حَتَّى يبْعَث للعقاب فَيكون الْحق أَحَق بِهِ من الأَرْض وَهُوَ خَصمه وَله فِيمَا لَدَيْهِ طلبة وتبعة فَإِن الله تَعَالَى لم يخلق جسده لعبا إِنَّمَا خلقه للحق وبالحق
وَفِي الحَدِيث أَن الْملك الْمُوكل بالأرحام يَأْخُذ النُّطْفَة من الرَّحِم فَيَضَعهَا على كَفه ثمَّ يَقُول يَا رب مخلقة أَو غير مخلقة فَإِن قَالَ مخلقة قَالَ يَا رب مَا الرزق مَا الْأَثر مَا الْأَجَل فَيُقَال أنظر فِي أم الْكتاب فَينْظر فِي اللَّوْح فيجد فِيهِ رزقه وأثره وأجله وَعَمله ثمَّ يَأْخُذ التُّرَاب الَّذِي يدْفن فِي بقعته فيعجن بِهِ نطفته فَذَلِك قَوْله الْكَرِيم {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم}
عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِن النُّطْفَة إِذا اسْتَقَرَّتْ من الرَّحِم أَخذهَا الْملك بكفيه فَقَالَ أَي رب أمخلقة أم غير مخلقة فَإِن قَالَ غير مخلقة لم تكن نسمَة وقذفتها الْأَرْحَام دَمًا وَإِن قَالَ(1/267)
مخلقة قَالَ أَي رب أذكر أم انثى أشقي أم سعيد مَا الْأَجَل وَمَا الْأَثر وَمَا الرزق بِأَيّ أَرض تَمُوت فَيُقَال لَهُ إذهب إِلَى أم الْكتاب فَإنَّك ستجد هَذِه النُّطْفَة فَيُقَال للنطفة من رَبك فَتَقول الله تَعَالَى فَيُقَال من رازقك فَتَقول الله فتخلق فتعيش فِي أجلهَا وتأكل رزقها وَتَطَأ أَثَرهَا فَإِذا جَاءَ أجلهَا مَاتَت فدفنت فِي ذَلِك الْمَكَان
فالأثر هُوَ التُّرَاب الَّذِي يُؤْخَذ فيعجن بِهِ مَاؤُهُ وَذكر الزبير بن بكار الزبيرِي الْمدنِي رَضِي الله عَنهُ كتابا صنفه بعض أهل الْمَدِينَة فِي فضل الْمَدِينَة وكتابا صنفه بعض أهل مَكَّة فِي فضل مَكَّة فَلم يزل كل وَاحِد مِنْهُمَا يذكر بقعته بفضيلة يُرِيد كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يبرز على صَاحبه بفضيلة بقعته حَتَّى برز الْمدنِي على الْمَكِّيّ فِي خلة وَاحِدَة عجز عَنْهَا الْمَكِّيّ فَقَالَ إِن كل نفس إِنَّمَا خلقت من تربَتهَا الَّتِي دفنت فِيهَا بعد الْمَوْت فَكَأَن نفس الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا خلقت من تربة مدفنه فَبَان أَن تِلْكَ التربة لَهَا فَضِيلَة بارزة على سَائِر الْأَرْضين
عَن ابْن سِيرِين رَضِي الله عَنهُ يَقُول رَحمَه الله لَو حَلَفت حَلَفت صَادِقا بارا غير شَاك وَلَا مستثن أَن الله عز وَجل مَا خلق نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أَبَا بكر وَلَا عمر رَضِي الله عَنْهُمَا إِلَّا من طِينَة وَاحِدَة ثمَّ ردهم إِلَى تِلْكَ الطينة(1/268)
- الأَصْل الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ
-
فِي أَن الْكَبَائِر لَا تجامع طمأنينة الْقلب بِاللَّه تَعَالَى
عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشرب وَهُوَ مُؤمن
وَعَن عبد الله بن الزبير عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم مثله وَعَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مثله وَعَن مدرك بن عمَارَة عَن ابْن أبي أوفى مثله
قَالَ أَبُو عبد الله الْإِيمَان هُوَ الطُّمَأْنِينَة واستقرار الْقلب وَإِنَّمَا هما اثْنَتَانِ
الأول طمأنينة التَّوْحِيد وَهُوَ أَن يوحد الله تَعَالَى فَلَا يلْتَفت إِلَى شَيْء سواهُ فيتخذه رَبًّا(1/269)
وَالْآخر طمأنينة الإقبال وَهِي أَن يكون مُقبلا عَلَيْهِ بِجَمِيعِ قلبه فَلَا يلْتَفت إِلَى شَيْء من شهوات نَفسه وَلَا إِلَى أحوالها فَالَّذِي يسرق ويزني هُوَ فِي حَالَته تِلْكَ غير مطمئن إِلَى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طمأنينة الإقبال وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يزن وَلم يسرق بل هُوَ مقبل على شهوات نَفسه وَهُوَ فِي طمأنينة التَّوْحِيد وَالْإِيمَان اسْم يلْزم العَبْد بِفِعْلِهِ وبدؤه من النُّور الَّذِي جعل الله فِي قلبه فأحياه بِهِ وَشرح صَدره ونطق بتوحيده لِسَانه وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور
وكل شَيْء لَهُ مُبْتَدأ وَنِهَايَة فأوله لَازم ذَلِك الِاسْم لَهُ ومنتهاه هُوَ الْبَالِغ فَالَّذِي وحد ربه بِقَلْبِه وَلسَانه وَقبل الشَّرِيعَة هُوَ مُؤمن قد حرم مَاله وَدَمه وَعرضه ثمَّ هُوَ أَسِير نَفسه وَالْمُؤمن الْبَالِغ الَّذِي مَاتَت شَهْوَة نَفسه وَقطع قبله عَن كل شَيْء سواهُ وَهَذِه قُلُوب الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام وَلِلْمُؤْمنِينَ بَين هذَيْن الحدين دَرَجَات كل يعْمل على دَرَجَته فكلهم عبيد قد أقرُّوا لَهُ بالعبودة الْكَامِلَة وَلَا يقر لَهُ بالعبودة الْكَامِلَة إِلَّا الْأَنْبِيَاء والأولياء وَذَلِكَ أَنهم تركُوا مشيئتهم فِي جَمِيع أُمُورهم لمشيئته وَهَكَذَا صفة العبيد رفض الْمَشِيئَة فِي جَمِيع الْأَشْيَاء وَترك الِاخْتِيَار للأحوال
وَلَا يقدر على هَذَا إِلَّا من نور الله الْإِيمَان فِي قلبه كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صفة حَارِثَة رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ كَيفَ أَصبَحت قَالَ أَصبَحت مُؤمنا حَقًا قَالَ وَمَا حَقِيقَة إيمانك قَالَ كَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا وَإِلَى أهل الْجنَّة كَيفَ يتزاورون وَإِلَى أهل النَّار كَيفَ يتعاوون قَالَ عرفت فَالْزَمْ ثمَّ قَالَ من سره أَن ينظر إِلَى عبد نور الله الْإِيمَان فِي قلبه فَلْينْظر إِلَى هَذَا فَإِذا إمتلأ الصَّدْر وَالْقلب من(1/270)
النُّور كَانَ كَمَا وَصفه الله تَعَالَى {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه}
وَكَانَ الْمُؤمن عِنْدهم فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَانَ بِهَذِهِ الصّفة
وَلذَلِك قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وددت أَنِّي شَعْرَة فِي صدر مُؤمن لما عرفُوا غور هَذِه الْكَلِمَة وَأثْنى الله تَعَالَى على إِبْرَاهِيم خَلِيله عَلَيْهِ السَّلَام بَعْدَمَا شهد لَهُ بِالتَّسْلِيمِ حِين أَرَادَ ذبح ابْنه وَهُوَ الْإِسْلَام وَشهد لَهُ بِالْإِحْسَانِ فَأثْنى عَلَيْهِ فَقَالَ {إِنَّه من عبادنَا الْمُؤمنِينَ} وَقيل ان الله تَعَالَى إِذا أثنى على عبد فأبلغ فِي الثَّنَاء قَالَ {إِنَّه من عبادنَا الْمُؤمنِينَ}
وَالله تَعَالَى وصف الْمُؤمنِينَ فِي تَنْزِيله الْكَرِيم فَقَالَ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} إِلَى قَوْله {أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا}
فَمن هَهُنَا استجاز من قَالَ الْإِيمَان يزِيد وكما يزِيد فَإِنَّهُ ينقص سمي الزَّائِد من النُّور فِي صَدره إِيمَانًا وَمَا نقص فَمِنْهُ ينقص وَالْأَصْل الَّذِي مِنْهُ بَدَأَ التَّوْحِيد قَائِم فبأقل النُّور يصير موحدا فاطمأن بِهِ وَعَبده رَبًّا وَهُوَ إيمَانه حَتَّى إِذا نما النُّور وامتلأ الْقلب وأشرق الصَّدْر مِنْهُ اطْمَأَن الى جَمِيع مشيئآته وَأَحْكَامه وأموره كَمَا اطْمَأَن بِهِ وَمن قبل هَذَا لم يقدر أَن يطمئن إِلَى مشيئآته وَأَحْكَامه للشهوات المستولية على قلبه فَلَمَّا امْتَلَأَ الْقلب من نوره خشيَة ومهابة وَدخلت عَظمته فِي قلبه مَاتَت شهواته(1/271)
وَسكن قلبه الى تَدْبيره وَأَحْكَامه وأقضيته كَمَا سكن على توحيده فِي بَدْء الْأَمر
وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذِهِ الصّفة وَكَانُوا إِذا قَالُوا مُؤمن إِنَّمَا يسمون مَا يعْرفُونَ من أنفسهم وَكَانَ بَعضهم فِي تَخْلِيط من هَذَا أَلا ترى أَنه لما هَاجَتْ الْفِتَن وَقع التَّخْلِيط
قَالَ حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ لَو رميت صَخْرَة من أَعلَى مَسْجِد مَا أَصَابَت مُؤمنا
وَلم يَكُونُوا عِنْدهم كفَّارًا بِمَا أَحْدَثُوا وَلَكِن زلوا عَن تِلْكَ الدرجَة الَّتِي كَانُوا يسمون أَهلهَا بذلك الِاسْم وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَن كَعْب بن مَالك رَضِي الله عَنهُ كَانَ يحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِنَّمَا نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة حَتَّى يرجعه الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَى جسده ثمَّ يَبْعَثهُ
قَالَ أَبُو عبد الله فَلَيْسَ هَذَا لأهل التَّخْلِيط فِيمَا نعلمهُ إِنَّمَا هُوَ للصديقين وَكَانَ إسم الْمُؤمن عِنْدهم هَكَذَا
فَقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن إِنَّمَا يَعْنِي بذلك الْإِيمَان الْبَالِغ لَا انه يذهب توحيده وَيكفر وَإِنَّمَا يتَأَوَّل مثل هَذَا جهال النَّاس وحمقاهم وَلَو كفرُوا بذلك وَزَالَ عَنْهُم الْإِيمَان لَكَانَ حَدهمْ الْقَتْل وحدودهم قَائِمَة جلد مَائه فِي الزِّنَى وَقطع الْيَد فِي السّرقَة وَلَكِن تَأْوِيل ذَلِك أَنه إِذا زنى الْمُؤمن فَهُوَ فِي ذَلِك فقد(1/272)
نور إيمَانه وحجبته شَهْوَته الَّتِي حلت بِهِ عَن ذَلِك النُّور فسلب ذَلِك النُّور وَصَارَ محجوبا عَن الله تَعَالَى فَلَمَّا تَابَ رَاجعه النُّور وَذَلِكَ النُّور يُسمى إِيمَانًا لِأَنَّهُ اطْمَأَن بذلك إِلَى ربه عز اسْمه فَذَهَبت طمأنينته فِي وَقت اسْتِعْمَال الشَّهْوَة فاطمأن الى شَهْوَته وَالْعَبْد عِنْدَمَا أَدْرَكته الْهِدَايَة من ربه عز وَجل قد كَانَ من قبل ذَلِك قلبه فِي تردد وجولان طَالبا لمن يَتَّخِذهُ رَبًّا ويعبده فَلَمَّا جَاءَتْهُ الْهِدَايَة واستنار الْقلب سكن الْقلب واطمأنت النَّفس عَن الجولان والتردد فِي طلب المعبود فَقيل آمن يُؤمن إِيمَانًا وَهُوَ فِي قالب افْعَل
وَمن الْخَوْف قيل أَمن لِأَنَّهُ كَانَ يضطرب فَلَمَّا ذهب الْخَوْف سكن فَقيل أَمن على قالب فعل فَكلما إزداد العَبْد نورا إزداد سكونا وطمأنينة عِنْد أُمُوره وَأَحْكَامه وَمن قبل ذَلِك كَانَ الْغَالِب على نَفسه شهوات نَفسه فَكَانَ الْقَوْم إِذا ذكرُوا الْمُؤمن يعلمُونَ أَنه ذَلِك الْمُؤمن الَّذِي قد اطْمَأَن قلبه عِنْد أُمُوره وَأَحْكَامه إِلَيْهِ وَمن هَهُنَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ مثل الْإِيمَان مثل قَمِيصك بَينا أَنْت لبسته إِذْ أَنْت نَزَعته
وَعَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ كَانَ عبد الله بن رَوَاحَة إِذا لَقِيَنِي قَالَ اجْلِسْ يَا عُوَيْمِر فلنؤمن سَاعَة فنجلس فَنَذْكُر الله تَعَالَى بِمَا شَاءَ ثمَّ قَالَ يَا عُوَيْمِر هَذَا مجْلِس الْإِيمَان إِن مثل الْإِيمَان وَمثلك مثل قَمِيصك بَينا أَنْت نَزَعته إِذْ لبسته وَبينا أَنْت لبسته إِذْ نَزَعته يَا عُوَيْمِر الْقلب أسْرع تقلبا من الْقدر إِذْ استجمعت غلبا
وَعَن عتبَة بن عبد الله بن خَالِد بن معدان عَن أَبِيه عَن جده رضوَان الله عَلَيْهِم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الْقَمِيص مرّة تقمصه وَمرَّة تنزعه(1/273)
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لم يزن عبد قطّ إِلَّا نزع نور الْإِيمَان مِنْهُ ثمَّ إِن شَاءَ رده وَإِن شَاءَ مَنعه
وَعَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ ليَأْتِيَن على الرجل أحايين وَمَا فِي جلده مَوضِع إبرة من النِّفَاق وليأتين عَلَيْهِ أحايين وَمَا فِي قلبه مَوضِع إبرة من الْإِيمَان
قَالَ فَإِنَّمَا يَخْلُو مِنْهُ ذَلِك النُّور الْمشرق فِي صَدره وَأما الْإِيمَان إِيمَان التَّوْحِيد فَهُوَ بمكانه
وَقَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا حَيْثُ قَالَ لم يزن عبد قطّ إِلَّا نزع مِنْهُ نور الْإِيمَان يدل على تَفْسِير حَدِيثه الَّذِي رَوَاهُ لَا يَزْنِي العَبْد حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن
وَفِي قَوْله حِين يَزْنِي وَهُوَ وَقت الْفِعْل دَلِيل على أَنه فِي ذَلِك الْوَقْت صَار محجوبا عَن النُّور وزائله
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن قيل يَا رَسُول الله فَكيف يصنع إِذا وَقع شَيْء من ذَلِك قَالَ إِن رَاجع رَاجعه الْإِيمَان وَإِن ثَبت لم يكن مُؤمنا
وَعَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشرب وَهُوَ مُؤمن وَلَا يقتل وَهُوَ مُؤمن فاذا فعل نزع مِنْهُ نور الْإِيمَان كَمَا ينْزع مِنْهُ قَمِيصه فَإِن تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ(1/274)
قَالَ أَبُو عبد الله وَإِنَّمَا خَفِي شَأْن هَذَا وَذَهَاب هَذَا النُّور من الْقُلُوب ورده عَلَيْهِ لِأَن فتن الْقُلُوب قد عَمت والصدور قد شحنت بظلمة الْإِصْرَار على الذُّنُوب من المآكل الرَّديئَة والمكاسب الدنسة والأخلاق البذلة الْفَاسِدَة
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْمُؤمن فِي الدُّنْيَا على ثَلَاثَة أَجزَاء الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَالَّذِي يأمنه النَّاس على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وَالَّذِي إِذا أشرف على طمع تَركه لله تَعَالَى
قَالَ فالجزء الأول هم الظَّالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ آمنُوا ثمَّ لم يرتابوا فِي إِيمَانهم وَلَكنهُمْ ضيعوا العبودة واستوفوا الرزق واكتالوا النعم بِالْكَيْلِ الأوفى وكالوا الطَّاعَات بكيل الخسران فَهُوَ من المطففين الظَّالِمين
والحزء الثَّانِي قد أَمنه النَّاس على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ لِأَنَّهُ متق مُسْتَقِيم وَهُوَ المقتصد
والجزء الثَّالِث تركُوا الْهوى وشهوة النَّفس وَرَضوا بتدبيره فِي جَمِيع الْأَحْوَال فهم المقربون وَذَلِكَ مثل مَا جَاءَنَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أُتِي بشراب قد خيض بِعَسَل فَتَركه ثمَّ قَالَ أما إِنِّي لَا أحرمهُ وَلَكِنِّي أتركه تواضعا لله تَعَالَى(1/275)
عَن كثير بن مرّة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أطعمينا يَا عَائِشَة قَالَت لَيْسَ عندنَا طَعَام قَالَ أطعمينا يَا عَائِشَة قَالَت وَالله مَا عندنَا طَعَام فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يَا رَسُول الله إِن الْمَرْأَة المؤمنة لَا تحلف أَنه لَيْسَ عندنَا طَعَام وَهُوَ عِنْدهَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا يدْريك أَنَّهَا مُؤمنَة إِن الْمَرْأَة المؤمنة فِي النِّسَاء كالغراب الأعصم فِي الْغرْبَان وَإِن النَّار خلقت للسفهاء وان النِّسَاء من السُّفَهَاء إِلَّا صَاحِبَة الْقسْط والسراج
قَالَ أَبُو عبد الله يعرفك هَذَا الحَدِيث أَن الْمُؤمن فِي ذَلِك الْوَقْت بأية صفة كَانَ عِنْدهم
فَأم قَوْله صَاحِبَة الْقسْط والرج فالقسط الْعدْل وَهُوَ الَّذِي على سَبِيل استقامة وَهُوَ المقتصد والقسط وَالْقَصْد بِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن هَذَا مُسْتَعْمل فِي نوع وَذَاكَ فِي نوع كَمَا قيل تَوْكِيل وتفويض وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن التَّوْكِيل فِي أَسبَاب الرزق يسْتَعْمل والتفويض فِي سَائِر الْأُمُور فالقسط الْعدْل من أُمُوره وَالْقَصْد أَن تَأْخُذ من كل أَمر وَسطه وَهُوَ الَّذِي أَمر بِهِ وَأما السراج فَهُوَ الْيَقِين وَمن أشرق فِي قلبه الْيَقِين فقلبه يزهر وَمِنْه قَول حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ قلب أغلف وَهُوَ قلب الْكَافِر وقلب مصفح وَهُوَ قلب الْمُنَافِق وقلب أجرد وأزهر وَهُوَ قلب الْمُؤمن وَإِنَّمَا يزهر بالسراج الَّذِي فِيهِ
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا شبهت خُرُوج الْمُؤمن من الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَة إِلَّا مثل خُرُوج الصَّبِي من بطن أمه من ذَلِك الْغم والظلمة إِلَى روح الدُّنْيَا
فالمؤمن الَّذِي هُوَ بَالغ فِي إيمَانه الدُّنْيَا سجنه وَهِي مظْلمَة عَلَيْهِ ضيقَة حَتَّى يخرج مِنْهَا إِلَى روح الْآخِرَة وَهَذَا غير مَوْجُود فِي الْعَامَّة وَإِنَّمَا ذكر الْمُؤمن وَوَصفه بذلك ليعلم أَن الْمُؤمن عِنْدهم الْبَالِغ فِي إيمَانه وَهُوَ(1/276)
كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ مَا كَفرْتُمْ فنتبرأ مِنْكُم وَلَا عنْدكُمْ إِيمَان بَالغ فنحبكم عَلَيْهِ وَمَا فرق بَين أهوائكم إِلَّا خبث سرائركم وَلَا أرى الله إِلَّا قد تخلى عَنْكُم
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ مَا لكم لَا تحابون وانكم اخوان على الدّين مَا فرق بَين أهوائكم إِلَّا خبث سرائركم وَلَو اجْتَمَعْتُمْ على أَمر تحاببتم مَا هَذَا إِلَّا من قلَّة الْإِيمَان فِي صدوركم وَلَو كُنْتُم توقنون بِخَير الْآخِرَة وشرها لكنتم للآخرة أطلب لِأَنَّهَا أملك بأموركم فبئس الْقَوْم أَنْتُم إِلَّا قَلِيلا مِنْكُم مَا حققتم إيمَانكُمْ بِمَا يعرف بِهِ الْإِيمَان الْبَالِغ فِيكُم فَمَا كَفرْتُمْ فنتبرأ مِنْكُم وعامتكم تركُوا كثيرا من أَمر دينهم ثمَّ لَا يستبين ذَلِك فِي وُجُوهكُم وَلَا تَغْيِير حالاتكم مَا هَذَا إِلَّا شَرّ حل بكم وَإِنِّي لأرى الله قد تخلى عَنْكُم فَأنْتم تخطئون وتمنون الْأَمَانِي وَالله إِنِّي لأستعين على نَفسِي وَعَلَيْكُم فَإِنَّمَا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤمن أَي بذلك الْإِيمَان الْبَالِغ فَأَما ايمان التَّوْحِيد فَهُوَ مَعَه وَإِنَّمَا زَالَ عَنهُ نور الْإِيمَان أَلا يرى إِلَى قَول أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ وَإِن زنا وَإِن سرق فَلَو كَانَ زِنَاهُ وسرقته يُخرجهُ من إيمَانه لم يدْخل الْجنَّة
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} قلت يَا رَسُول الله وان زنى وَإِن سرق فَقَالَ وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان قلت وَإِن زنى وَإِن سرق فَقَالَ وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان قلت يَا رَسُول الله وَإِن زنى وَإِن سرق قَالَ وَإِن زنى وَإِن سرق وَإِن رغم أنف أبي الدَّرْدَاء(1/277)
وَمِمَّا يُحَقّق مَا قُلْنَا مَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ بروايات جمة وطرق شَتَّى
قَالَ أَبُو عبد الله فالمؤمن المخلط قد يلْدغ مَرَّات وَهُوَ لسكره لَا يجد لدغة اللدغة وَقد عمل فِيهِ حمة السم فَلَو قد أَفَاق لاحتاج إِلَى من يمسِكهُ من الِاضْطِرَاب والتلوي وَإِنَّمَا عَنى بِالْمُؤمنِ ذَلِك الْبَالِغ الَّذِي وقف بِهِ حذره على أَمر عَظِيم كَمَا رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ سُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ كالخير كُله من رجل كَانَ فِيهِ حِدة وَسُئِلَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ كَانَ كالطير الحذر الَّذِي يرى أَن لَهُ فِي كل طَرِيق شركا يَأْخُذهُ
فالمؤمن الْبَالِغ إِذا وَقع فِي الْخَطِيئَة وجع قلبه وتمرر عيشه وقلقت نَفسه فَهُوَ يتلوى كاللديغ يتململ ندما وتحسرا وأسفا يبيت ساهرا ويظل نائحا قد أنكت فِيهِ هَذِه الْخَطِيئَة سمها فَكَأَنَّهُ أيقظته من الْغَفْلَة فَلَا يواقع تِلْكَ الْخَطِيئَة مَخَافَة أَن يَقع فِيهَا وَهَذَا لمن لدغته الْخَطِيئَة(1/278)
وَعمل فِيهِ سمها كَمَا فعل يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام بعد الْهم كَانَ لَا يكلم امْرَأَة حَتَّى يُرْسل على وَجهه ثوبا
عَن أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله قَالَ كَانَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام إِذا جَاءَتْهُ امْرَأَة تستفتيه ألْقى على وَجهه ثوبا مَخَافَة أَن تفتتن
عَن الشّعبِيّ عَن فَاطِمَة بنت قيس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا حِين جَاءَتْهُ بعد مَا طَلقهَا زَوجهَا فَقَالَ بِيَدِهِ على وَجهه فاستتر بِهِ وَذَلِكَ بعد مَا لَقِي من شَأْن زَيْنَب مَا لَقِي
فَأَما مُؤمن عمل بالخطيئة فَلم تلدغه وَلم يتَبَيَّن فِيهِ عمل سمها لِأَنَّهُ سَكرَان قد أسكرته شهوات الدُّنْيَا وَمَات قلبه عَن الشُّعُور بذلك فَمَتَى يحذر حَتَّى لَا يلْدغ وسم الْخَطِيئَة هُوَ الظلمَة الَّتِي تتراكم فِي صَدره على قلبه فتحجبه عَن ربه فَيصير قلبه مسجونا محجوبا عَن الملكوت وَهُوَ قَول عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ لنَفس الْمُؤمن أَشد ارتكاضا فِي الْخَطِيئَة من العصفور حِين يغدف بِهِ والإغداف الْإِرْسَال يَعْنِي إرْسَال الشبكة عَلَيْهِ
وَقَول عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ إِن الْمُؤمن إِذا أذْنب فَكَأَنَّهُ تَحت صَخْرَة يخَاف أَن تقع عَلَيْهِ فتقتله وَالْمُنَافِق ذَنبه كذباب مر على أَنَفَة وَقَوله لَا تَجِد الْمُؤمن بَخِيلًا وَلَا تَجِد الْمُؤمن جَبَانًا وَلَا تَجِد الْمُؤمن كذابا(1/279)
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصلتان لَا تجتمعان فِي قلب مُؤمن الْبُخْل وَسُوء الْخلق
فَهَذِهِ الْخِصَال كلهَا مَوْجُودَة فِي الْمُوَحِّدين فَإِذا ذكرُوا الْمُؤمن فَإِنَّمَا يعنون بِهِ الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى بِأَنَّهُم مُؤمنُونَ حَقًا وصير لَهُم الدَّرَجَات فِي الْجنَّة بِمَا ترقوا من دَرَجَات الْإِيمَان
عَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن الحواريين طلبُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقيل لَهُم توجه إِلَى الْبَحْر فجاءوه وَهُوَ يمشي على المَاء يرفعهُ الموج ويضعه فَقَالَ أفضلهم أَلا أجيئك يَا رَسُول الله فَأدْخل رجله المَاء وَرفع الْأُخْرَى فَقَالَ أدركني فقد عرقت فَقَالَ يَا قصير الْإِيمَان أَو قَالَ هَات يدك يَا قصير الْإِيمَان لَو أَن لِابْنِ آدم مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل من الْيَقِين مَشى على المَاء
عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَو وزن ايمان أبي بكر رَضِي الله عَنهُ بِإِيمَان أهل الأَرْض لرجع إِيمَان أبي بكر يإيمان أهل الأَرْض
عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَيْضا أَنه قَالَ تَزْعُمُونَ أَنكُمْ مُؤمنُونَ وَفِيكُمْ مُؤمن جَائِع
عَن أبي إِسْحَق السبيعِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت وهب بن مُنَبّه رَضِي الله عَنهُ يَقُول اسْمَع يَا أخي إِلَى مَا أصف لَك من صفة(1/280)
الْمُؤمن وجدت فِي التَّوْرَاة الْمُؤمن الَّذِي إِلَى الْإِسْلَام هدي وبالاقرار بدي ظَاهر الْإِيمَان بدنه على الْإِيمَان بني وَذَلِكَ أَنه عَالم بِالْعلمِ نَاطِق بالحلم صَادِق بالفهم ورع عَن الْحَرَام بَين الْإِعْلَام كثير السَّلَام لين الْجَانِب قريب الْمَعْرُوف سريع الرضاء بعيد السخط يعلم إِذا فهم وَإِذا علم علم ويكف إِذا شتم إِن صحبته تسلم وَإِن شاركته تغنم وَإِن فارقته تندم وَإِن سَمِعت مِنْهُ تتعلم كثير الْوَقار مكرم للْجَار مُطِيع للجبار قلبه بِمَعْرِِفَة الله زَاهِر وَلسَانه بِذكر الله غازر وبدنه فِي طَاعَة الله ساهر فَهُوَ من نَفسه فِي تَعب وَالنَّاس مِنْهُ فِي أرب فَمثله كَمثل المَاء لِأَن المَاء حَيَاة الْأَشْيَاء كلهَا فكمال الْمُؤمن الرضى وَعَمله التَّقْوَى مبغض للدنيا قَلِيل المنى صَادِق اللِّسَان صابر الْبدن قَانِع الْقلب أَن ائْتمن أَمَانَة أَدَّاهَا وَإِن ائْتمن هُوَ غَيره لم يتهم أَب للْيَتِيم وللأرملة رَحِيم وَإِلَى الْجنَّة مشتاق وبالوالدين غير عَاق لَهُ علم يرضى وعقل ينمى كَلَامه مَنْفَعَة وجواره رفْعَة إِن استكتمته كتم وَإِن استطعمته أطْعم جواد لله بالعطاء وَلِلنَّاسِ بِحسن الْخلق والرضى إِن اسْتقْرض أدّى وَإِن سُئِلَ أعْطى إِن كَانَ فَوْقك اتضع وَإِن كَانَ دُونك اعتدل فَمثله كَمثل شَجَرَة ثَبت أَصْلهَا وجاد فرعها وَكثر ثَمَرهَا فَهُوَ من رَآهَا رغب فِيهَا لَا يَأْخُذ شَيْئا إِن أَخذ رِيَاء وَلَا يتْركهُ إِن تَركه حَيَاء بل أَخذه لله تَعَالَى سالما وَتَركه لله تَعَالَى غانما محاسب نَفسه نَاظر فِي عيوبه مستعرض لعمله إِن كَانَ محسنا يخَاف على نَفسه أَن لَا يقبل مِنْهُ وَإِن كَانَ مقصرا يخْشَى أَن لَا يغْفر لَهُ وَإِن كَانَ فَاضلا كَانَ شاكرا لَا يظلم وَلَا يَأْثَم وَلَا يتَكَلَّف لين تَدْبيره كثير عمله قَلِيل ذلله سهل أمره
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَرع سيد الْعَمَل من لم يكن لَهُ ورع يردهُ عَن مَعْصِيّة الله تَعَالَى إِذا خلا بهَا لم يعبأ الله بِسَائِر عمله شَيْئا
فَذَلِك مَخَافَة الله تَعَالَى فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة والاقتصاد فِي الْفقر والغنى(1/281)
والصدق عِنْد الرضاء والسخط أَلا وَإِن الْمُؤمن حَاكم على نَفسه يرضى للنَّاس مَا يرضى لنَفسِهِ وَالْمُؤمن حسن الْخلق وَأحب الْخلق إِلَى الله تَعَالَى أحْسنهم خلقا ينَال بِحسن الْخلق دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم وَهُوَ رَاقِد على فرَاشه لِأَنَّهُ قد رفع لِقَلْبِهِ علم فَمن شهد مشَاهد الْقِيَامَة يعد نَفسه حَنِيفا فِي بَيته وروحه عَارِية فِي بدنه لَيْسَ بِالْمُؤمنِ جفَاء حملانه على نَفسه النَّاس مِنْهُ فِي مِنْهُ فِي عفاء وَهُوَ من نَفسه فِي عناء رَحِيم فِي طَاعَة الله بخيل على دينه حَيّ مطواع وَأول مَا فَاتَ ابْن آدم من دينه الْحيَاء خاشع الْقلب لله تَعَالَى متواضع قد برىء من الْكبر ينظر إِلَى اللَّيْل وَالنَّهَار يعلم أَنَّهُمَا فِي هدم عمره لَا يركن إِلَى الدُّنْيَا ركون الْجَاهِل
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا جرم أَنه إِذا خلف الدُّنْيَا خلف ظَهره خلف الهموم وَالْأَحْزَان وَلَا حزن على الْمُؤمن بعد الْمَوْت بل فرحه وسروره دَائِم بعد الْمَوْت
فَمن هَذِه صفته فلدغ من حجرالمعاصي مرّة كَانَ ذَلِك الْحجر نصب عَيْنَيْهِ أبدا فَمَتَى يمر بهَا حَتَّى تلدغه ثَانِيَة فَإِنَّمَا ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أوحشته الْمعْصِيَة حَتَّى أسهر ليله مَا حل بِقَلْبِه من وَجه الذَّنب كمن يُفَارق محبوبه من المخلوقين بِمَوْت أَو غيبَة يفجع لفراقه
فألم الْمُؤمن إِذا أصَاب الذَّنب أَشد من مصيبته بِفِرَاق المخلوقين فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر وَاحِد مرَّتَيْنِ أَي هَذَا الْأَمر قد لدغته مرّة فأوجعته فوجع ذَلِك تذكرة لَهُ من الْغَفْلَة فِي ذَلِك(1/282)
حَتَّى لَا يَقع فِيهِ ثَانِيَة أَي أَن هَذَا صفة الْمُؤمن وشرطة حَتَّى يسْتَحق شَرط الْإِيمَان
عَن يحيى بن أبي كثير رَضِي الله عَنهُ أَن نَبِي الله كَانَ فِي سفر وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فأرسلو إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسألونه لَحْمًا فَقَالَ أَو لَيْسَ قد ظللتم من اللَّحْم شباعا قَالُوا من أَيْن فوَاللَّه مَا لنا بِاللَّحْمِ عهد مُنْذُ أَيَّام فَقَالَ من لحم صَاحبكُم الَّذِي ذكرْتُمْ قَالُوا يَا نَبِي الله إِنَّمَا قُلْنَا وَالله إِنَّه لعفيف مَا يعيننا على شَيْء قَالَ وَذَاكَ فَلَا تَقولُوا فَرجع إِلَيْهِم الرجل فَأخْبرهُم بِالَّذِي قَالَ فجَاء أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ يَا نَبِي الله طأ على صماخي واستغفر لي فَفعل وَجَاء عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ يَا نَبِي طأ عل صماخي واستغفر لي فَفعل فَهَذَا تكون اللدغة ألجأته الْخَطِيئَة إِلَى أَن فزع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَألقى نَفسه فِي التُّرَاب تذللا وَأَن يطَأ بقدمه عل صماخه فَهَذَا شَأْن الْمُؤمن الْبَالِغ وَأما الَّذِي يلْزمه اسْم الْمُؤمن فَيحرم مَاله وَدَمه وَعرضه فهم الموحدون
عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سرته حسنته وساءته سيئته فَهُوَ مُؤمن(1/283)
- الأَصْل الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ
-
فِي أول تحفة الْمُؤمن بعد الْمَوْت
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول تحفة الْمُؤمن أَن يغْفر لمن صلى عَلَيْهِ
الْمُؤمن كريم على ربه عز وَجل ومقدمه على رب كريم وَمن شَأْن الْمُلُوك أَن أحدهم إِذا قدم عَلَيْهِ بعض خدمه من سفرة طَال غيبته فِيهَا أَن يتلقاه ببشرى وكرامة ويخلع عَلَيْهِ ويجيزه بالجائزة السّنيَّة وَيَأْمُر بِأَن يهيأ لَهُ نزل وَالله تَعَالَى أرانا تَدْبِير الْمُلُوك فِي الدُّنْيَا فَإِذا قدم عَلَيْهِ الْمُؤمن لقاه روحا وريحانا وبشرى على أَلْسِنَة الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام
قَالَ الله تَعَالَى إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة أَلا تخافوا وَلَا تحزنوا وابشروا بِالْجنَّةِ الَّتِي كُنْتُم(1/284)
توعدون) قَالَ {من عمل صَالحا فلأنفسهم يمهدون} وَقَالَ {لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نزلا من عِنْد الله}
وَأول تحفته أَن يغْفر لحملته إِلَى بَابه والمصلين عَلَيْهِ فَإِن الرجل من عرض النَّاس ليحمل إِلَيْهِ الْهَدِيَّة فيستحيى أَنه ينْصَرف عَنهُ الْحَامِل للهدية خائبا صفر الْيَد حَتَّى يناوله شَيْئا فَكيف الْملك من مُلُوك الدُّنْيَا وَالله تَعَالَى أخرج الْمُؤمن إِلَى الدُّنْيَا ليستكمل ويستعد للقائه ويتزود للأخرة فَمَا زَالَ يسْعَى فِي إرضاء الْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَمَّا مَاتَ غسلوه وطيبوه وكسوه وَحَمَلُوهُ هَدِيَّة إِلَى الْحق عز وَجل فَقبله الْحق تَعَالَى وَأَدَّاهُ إِلَى الرَّحْمَة فَلم يستجز أَن ينْصَرف حَملَة هَذِه الْهَدِيَّة خائبين فغفر لَهُم
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ أول مَا يجازى بِهِ العَبْد أَن يغْفر لمن يُصَلِّي عَلَيْهِ قَوْله يجازي من الْجَائِزَة
والتحفة عندنَا هِيَ الطرفة والهدية هِيَ الْعَطِيَّة ومعناهما قريب إِلَّا أَن بَينهمَا نُكْتَة فِي الْفرق فالهدية مَا تعطيه لتستميل بِهِ وَالْهَدْي الْميل وَمِنْه قيل مَشى يتهادى أَي يتمايل وَمِنْه سمي الْهَدْي لِأَنَّهُ يمِيل بِهِ إِلَيْهِ والطرفة شَيْء يُعْطِيهِ بعد الاستمالة وَبعد أَن صَار لَهُ وليا وثقة فَهُوَ يطرفه بِشَيْء يُرِيد أَن يحليه بذلك كالسكر على رَأس الْأرز وَنَحْوه وَالله تَعَالَى يوالي بَين نعمه على العَبْد ثمَّ يُرِيد أَن يبره ويطرفه بِشَيْء لَيْسَ عِنْده فِي الْجنَّة ليتجدد بِهِ بره فَذَلِك الْبر يكون أعظم موقعا وَمن طرقه مَا جَاءَ فِي الْخَبَر إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يتحف عَبده الْمُؤمن سلط عَلَيْهِ من يَظْلمه(1/285)
لِأَن بلوى الدُّنْيَا كَثِيرَة من الْأَمْرَاض والمصائب وللنفس فِيهَا فجعة ثمَّ يرجع إِلَى ربه تَعَالَى فِي أَن هَذَا صنعه وتدبيره وَإِذا ظلم اشتدت فجعته وتضاعفت لوعته فَتلك المصائب والأمراض هَدَايَا من رب الْعَالمين وَالظُّلم تحفة قد طرفه الله بهَا والطرفة هِيَ شَيْء يكون فِي الْأَحَايِين مرّة لم يكن عِنْده مثله وَقد سلط على يحيى بن زَكَرِيَّا صلوَات الله عَلَيْهِمَا من ذبحه ذبحا وَهَذَا شَيْء نَادِر طريف لَيْسَ مِمَّا يجْرِي فِي بلوى أهل الدُّنْيَا ومصائبهم وَكَذَلِكَ يَجْعَل لَهُ الْجنَّة ثَوابًا ثمَّ يُوجب لَهُ رضوانه الْأَكْبَر وَمن جعلت لَهُ الْجنَّة هَدِيَّة فتحفه من ألطافه الجسيمة(1/286)
- الأَصْل الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ
-
فِي بَيَان مَا يهرم ويشب من الْآدَمِيّ
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يهرم ابْن آدم ويشب مِنْهُ اثْنَان الْحِرْص على المَال والحرص على الْعُمر الْحِرْص لهيان الشَّهْوَة والشهوة نَار ذَات دُخان فَكلما زِدْت النَّار وقودا إزدادت نورا وتلهبا وَسمي المَال مَالا لِأَنَّهُ يمِيل بِالْقَلْبِ عَن الله تَعَالَى والعمر مُدَّة عمَارَة الْبدن بِالْحَيَاةِ وَذكر المَال لِأَن بِهِ ينَال جَمِيع الشَّهَوَات وَذكر الْعُمر لِأَن بدوامه تدوم الشَّهَوَات
فَإِذا ذهب الْعُمر وَزَالَ المَال تعطلت الشَّهَوَات فَوجدت النَّفس(1/287)
لَذَّة الشَّهَوَات وَلَذَّة دوَام الْعُمر فتشبثت بِهِ واستأثرت الْقلب والهرم الْخَالِي من الْأَشْيَاء قد خلت طبائعة من الْحَرَارَة والقوى وقحل جلده من الْحَرَارَة لانتشاف الْحَيَاة مَاء جلدته ودق عظمه وانتشف النَّقْص مَاء شبابه وَلَا يطفىء لهيب الْحِرْص إِلَّا الْإِيمَان بِاللَّه فَكلما ازْدَادَ العَبْد إِيمَانًا بربه وَهُوَ النُّور الَّذِي ينشرح بِهِ صَدره فَهُوَ على نور من ربه ازْدَادَ ثِقَة بربه وطمأنينة إِلَيْهِ وَكلما إزداد ثِقَة إزداد غنى قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض إِنَّمَا الْغنى غنى النَّفس فَإِذا استغنت النَّفس بِاللَّه تَعَالَى لما دخل الصَّدْر من نور الْيَقِين المنشرح بِهِ صَدره صَار عرض الدُّنْيَا فضلا
عَن مَكْحُول رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نفس ابْن آدم شَابة وَلَو الْتَقت ترقوتاه من الْكبر إِلَّا من امتحن الله تَعَالَى قلبه للتقوى وَقَلِيل مَا هم
فَهَذَا الْخَبَر يكْشف عَمَّا ذكرنَا من الْمَعْنى لِأَن النَّفس مَعْدن الشَّهَوَات فَهِيَ شَابة لِأَن الشَّهَوَات بِمَنْزِلَة النَّار لَا تزَال متوقدة مَا دَامَت واجدة للحطب فَإِذا أمسك عَنْهَا الْحَطب خمدت خامدة لَا محَالة فَكَذَلِك النَّفس لَا تزَال رطبَة متوقدة بشهواتها مَا دَامَت واجدة للنعم فَإِذا أمسك عَنْهَا ذبلت ويبست فَإِذا امتحن الله تَعَالَى قلبا للتقوى قوى صَاحبه على(1/288)
الِامْتِنَاع من قَضَاء الشَّهَوَات والامتحان هُوَ أَن يسْتَخْرج سره والسر هُوَ النُّور الَّذِي قذفه فِي قلبه فَإِذا اسْتَقر ذَلِك فِي قلبه وأشرقه بِهِ صَدره صَار ذَاك وقاية لَهُ من جَمِيع مكاره الْآخِرَة فَقيل تقوى وَإِنَّمَا هُوَ وقوى حولت الْوَاو تَاء ومأخذه من الْوِقَايَة فَإِذا فعل ذَلِك فقد امتحنه لِأَنَّهُ يظْهر على الْأَركان بالأفعال المحمودة المرضية
فالنفوس شَابة وَإِن هرمت الْجَوَارِح ونهدت الْأَركان لدوام التنعم بِالْمَالِ والعمر الا هَذِه الطَّبَقَة الممتحنة الَّذين استثناهم فنفوسهم هرمت فِي وَقت شبابهم لإن شهواتهم ذبلت وضعفت بالخشية الَّتِي دخلت قُلُوبهم لما اطلعوا عَلَيْهِ بقلوبهم من علم الملكوت ولعلمهم بِاللَّه تَعَالَى صَارُوا سبيا من سبيه فالمشغوف سبي من بِهِ شغف
فَإِن شغفت بالدنيا فَأَنت سبيهَا وَإِن شغفت بِالآخِرَة فَأَنت سبيهَا وَإِن شغفت بالخالق فَأَنت سبيه وَابْن آدم ركب فِي طبعه أَن لَا تزَال نَفسه تجمع فِي طلب شَيْء حَتَّى إِذا اطَّلَعت على أفضل مِنْهُ رفضب هَذِه وَأَقْبَلت على الْأَفْضَل فَلَا يزَال طَالبا للدنيا حَتَّى إِذا طالع الْآخِرَة رفض هَذِه وَأَقْبل عَلَيْهَا فَلَا يزَال لَهَا طَالبا حَتَّى إِذا طالع الملكوت أقبل على مَوْلَاهُ وَلها عَن ذكر الدَّاريْنِ واشتغل بالماجد الْكَرِيم فتراه سَلس القياد منكسر الْقلب قد أخذت الأحزان بِمَجَامِع قلبه فقطعته عَن فكر الدُّنْيَا وَأَهْلهَا وَمَا هم فِيهِ فَهُوَ حبيس الله فِي سجنه وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدُّنْيَا سجن الْمُؤمن وجنة الْكَافِر والمسجون عينه إِلَى الْبَاب يراقب دَعْوَة من يدعى فيجيب(1/289)
الأَصْل السَّادِس وَالْخَمْسُونَ
-
فِي أَن عدد الشَّرَائِع بِتَعَدُّد الرُّسُل
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ حدث أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن لله عز وَجل ثلثمِائة وَخمْس عشرَة شَرِيعَة يَقُول الرَّحْمَن وَعِزَّتِي لَا يَأْتِين عبد من عبَادي لَا يُشْرك بِي شَيْئا بِوَاحِدَة مِنْهُنَّ إِلَّا أدخلته الْجنَّة
فالرسل ثلثمِائة وَخَمْسَة عشر وَلكُل رَسُول شَرِيعَة قَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} وَقَالَ {ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر فاتبعها}
وان الله تَعَالَى دَعَا الْعباد الى دَار السَّلَام بعد أَن دعاهم إِلَى الاقرار بِالتَّوْحِيدِ فَأَجَابُوهُ وَإِنَّمَا أَجَابَهُ من هداه ثمَّ شرع لكل رَسُول طَرِيقا إِلَيْهَا وَهُوَ الْحَلَال وَالْحرَام فاحلال مرضاته وَالْحرَام مساخطه وَإِذا استقام العَبْد فِي سيؤه فِي شَرِيعَته أدخلهُ الْجنَّة فَقَوله لَا يأتيني عبد لَا يُشْرك بِي شَيْئا بِوَاحِدَة من هَذِه الشَّرَائِع أَي شَرِيعَة زَمَانه وَرَسُوله فَلَو(1/290)
أَتَى رجل بشريعة هود فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لم ينْتَفع بِهِ وَلَو أَتَى بشريعة مُوسَى فِي زمن عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لم ينْتَفع بِهِ وَلَو أَتَى بشريعة عِيسَى فِي زمن مُحَمَّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يقبل مِنْهُ وَلم ينْتَفع بِهِ إِنَّمَا يقبل من كل عبد شَرِيعَته الَّتِي شرعت لَهُ على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وان الله تَعَالَى شرع الطَّرِيق لِعِبَادِهِ ليحلوا حَلَاله ويحرموا حرَامه كي يصلحوا لدار السَّلَام يَوْم مقدمهم عَلَيْهِ(1/291)
الأَصْل السَّابِع وَالْخَمْسُونَ
-
فِي حَقِيقَة الْيَقِين وَمعنى الْعَافِيَة
عَن سلمَان بن عَامر رَضِي الله عَنهُ يَقُول سَمِعت أَوسط البَجلِيّ على مِنْبَر حمص يَقُول سَمِعت أَبَا بكر الصّديق على الْمِنْبَر وَهُوَ يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على هَذَا الْمِنْبَر عَام أول والعهد قريب سلوا الله الْيَقِين والعافية فَإِن النَّاس لم يُعْطوا شَيْئا خيرا من الْيَقِين والعافية
فاليقين هُوَ اسْتِقْرَار النُّور فِي الْقلب والصدر وَذَلِكَ أَن نور الْإِيمَان فِي الْقلب والشهوات بظلمتها وفوران دخانها متراكمة على الْقلب قد أظلمت من الصَّدْر وحالت بَين عَيْني الْقلب وَبَين رُؤْيَة أُمُور الْغَيْب فَهُوَ مقرّ بِالْغَيْبِ من الْجنَّة وَالنَّار والحساب وأهوال الْموقف وتدبير الله تَعَالَى فِي دُنْيَاهُ إِلَّا أَن نَفسه تشبه عَلَيْهِ بخدعها وأمانيها لِأَنَّهَا لم تصر لَهُ كالمعاينة(1/292)
وَلَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة فَإِذا امْتَلَأَ الْقلب من النُّور كَانَ كمن قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحارثة حِين قَالَ يَا رَسُول الله كَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا الْخَبَر فاليقين اسْتِقْرَار الْقلب بذلك النُّور يُقَال فِي اللُّغَة يقن المَاء فِي الحفرة أَي اسْتَقر وَأما الْعَافِيَة وَالْعَفو فَكل وَاحِد مِنْهُمَا مُشْتَقّ من صَاحبه فالعفو فِي الْآخِرَة والعافية فِي الدُّنْيَا وَهُوَ أَن يُعْفَى عَنْك من الخذلان فَلَا تخذل حَتَّى لَا تقع فِي الذَّنب وَأَن يُعْفَى عَنْك حَتَّى لَا تصيبك الشدائد والبلايا وَأَصله من الْعَفو فقد عفى عَنْك أَن يصيبك هَذَا وَأَن تصيبك شَدَائِد الْآخِرَة وَكِلَاهُمَا فِي الْمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن الْعَفو يسْتَعْمل فِي أُمُور الْآخِرَة والعافية فِي أُمُور الدُّنْيَا(1/293)
- الأَصْل الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ
-
فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {فَروح وَرَيْحَان} بِالْوَجْهَيْنِ
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ {فَروح وَرَيْحَان} الرَّاء مَضْمُومَة وَقد قُرِئت الرَّاء مَفْتُوحَة فَمن قَرَأَ فَروح مَضْمُومَة الرَّاء ذهب الى أَن الرّوح أَمر جليل من أمره يحل بِالْقَلْبِ فبه تطمئِن الْقُلُوب الى الله تَعَالَى وَبِه ينَال الذّكر الصافي وَبِه يصير محقا وَبِه يقدس الْقلب وَبِه يشتاق عِنْد حُضُور أَجله إِلَى اللِّقَاء فيهون عَلَيْهِ الْمَوْت ويبشر وتطيب النَّفس للشخوص إِلَى الله وَبِه تأتلف قُلُوب المتحابين فِي الله وَبِه عصمَة قُلُوب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَمن قَرَأَهَا فَروح مَفْتُوحَة الرَّاء فَإِنَّهُ ذهب الى أَن يسلم عَلَيْهِ ملك الْمَوْت عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك الْوَقْت ويقرئه السَّلَام من رب الْعِزَّة فيجد لذَلِك رَاحَة على الْقلب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {تحيتهم يَوْم يلقونه سَلام}(1/294)
- الأَصْل التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ
-
فِي معنى معاء الْآدَمِيّ لم كَانَت سبعا فَصَارَت وَاحِدَة
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْمُؤمن يَأْكُل فِي معاء وَاحِد وَالْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء
وَعَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله
قَالَ أَبُو عبد الله الْإِنْسَان مَبْنِيّ على سَبْعَة على الشّرك وَالشَّكّ والغفلة وَالرَّغْبَة والرهبة والشهوة وَالْغَضَب فَهَذِهِ أخلاقه وَأي خلق من هَذِه الْأَخْلَاق إستولى على قلبه نسب إِلَيْهِ دون الآخر وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك قَوْله تَعَالَى وَإِن جَهَنَّم لموعدهم أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَة أَبْوَاب لكل بَاب مِنْهُم جُزْء مقسوم فَأهل النَّار مجزءون مقسمون على هَذِه(1/295)
الْأَبْوَاب السَّبْعَة فَكل جُزْء مِنْهُم صَار جُزْءا بِخلق من هَذِه الْأَخْلَاق المستولية عَلَيْهِ
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنار بَاب لَا يدخلهَا مِنْهُ إِلَّا من شفا غيظه بسخط الله تَعَالَى
وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِجَهَنَّم سَبْعَة أَبْوَاب بَاب مِنْهَا لمن سل سَيْفه على أمتِي
فَهَذِهِ للرغبة وَالْأول للغضب فَابْن آدم مَبْنِيّ على هَذِه الْأَخْلَاق السَّبْعَة فَإِذا ولج الْإِيمَان الْقلب نفى هَذِه السَّبْعَة من الْقلب فبقدر قُوَّة الْإِيمَان تذوب هَذِه الْأَخْلَاق من النَّفس وعَلى قدر ضعفه يبْقى ضررهن فَإِذا اكمل النُّور وامتلأ الْقلب مِنْهُ لم يبْق لهَذِهِ الْأَخْلَاق فِيهِ مَوضِع فنفى الشّرك وَالشَّكّ والغفلة أصلا وَصَارَ بدل الشّرك إخلاصا وَبدل الشَّك يَقِينا وَبدل الْغَفْلَة انتباها وكشف غطاء معاينه وَصَارَ الْغَضَب لَهُ وَفِي ذَاته وَصَارَت الرَّغْبَة إِلَيْهِ والرهبة مِنْهُ وَصَارَت الشَّهْوَة منية وَكَانَت نهمة وبقدر ضعف الْإِيمَان وسقمه يبْقى من هَذِه الْأَخْلَاق فِي الْمُؤمن فَبَقيَ مِنْهُ شرك الْأَسْبَاب وَشك الأرزاق وغفلة التَّدْبِير فِي كنه الْأُمُور وَالرَّغْبَة والطمع فِي الْخلق والرهبة مِنْهُم فِي المضار وَالْمَنَافِع وَاسْتِعْمَال الشَّهَوَات على النهمة فإيمانه يَقْتَضِيهِ مَا عقد فِي توحيده لرَبه أَن هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا مِنْهُ وَله وأخلاقه تَمنعهُ الْوَفَاء بذلك عِنْد نوائبه فَلذَلِك يبْقى فِي عَرصَة الْقِيَامَة محاسبا فِي مُدَّة طَوِيلَة وَالْآخر كمل إيمَانه فَامْتَلَأَ قلبه من نور الْإِيمَان فَصَارَ كَمَا وَصفنَا بدءا فَسقط عَنهُ الْحساب غَدا
فَابْن أَدَم يَأْكُل فِي معاء وَاحِد اعني الْخلقَة إِلَّا أَن هَذِه الْأَخْلَاق السَّبْعَة سوى الْغَضَب قد عملت على قلبه فَصَارَ كَأَنَّهُ يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء فَإِذا آمن فَامْتَلَأَ قلبه من نور الْإِيمَان سكنت هَذِه الْأَخْلَاق فشبع وَرُوِيَ لِأَنَّهُ(1/296)
قد ثقل قلبه بِمَا ولج فِيهِ من الْإِيمَان فَإِذا آمن فَإِنَّمَا يَأْكُل بمعاه الَّذِي خلق فِيهِ وَكلما كَانَ أوفر حظا من إيمَانه كَانَ أقل لطعمه بِهَذَا المعاء الْوَاحِد أَيْضا وَإِذا كَانَ كَافِرًا فَهَذِهِ الْأَخْلَاق السِّتَّة تعْمل على قلبه حَتَّى يصير كَأَنَّهُ يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء لِأَن الشّرك وَالشَّكّ والغفلة والشهوة وَالرَّغْبَة والرهبة هِيَ أعوان لِحِرْصِهِ فَإِذا أحرص لم يشْبع وَاحْتَاجَ إِلَى الْكثير وَالَّذِي سكنت عَنهُ هَذِه السِّتَّة الْأَخْلَاق بولوج الْإِيمَان قلبه ذاب الْحِرْص فِي جَوْفه وَثقل الْإِيمَان فِي قلبه فَأكل بمعاه الَّذِي خلق للآدميين فَاكْتفى بذلك
عَن أبي صَالح السمان قَالَ قدم ثَلَاثُونَ رَاكِبًا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غفار فيهم رجل يُقَال لَهُ أَبُو بَصِيرَة مثل الْبَعِير فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه بددوا الْقَوْم فَجعل الرجل يُقيم الرجل وَالرجل يُقيم الرجلَيْن على قدر مَا عِنْده من الطَّعَام حَتَّى تفرق الْقَوْم غير أبي بَصِيرَة قَالَ وكل الْقَوْم يرى أَن لَيْسَ عِنْده مَا يشبعه فَلَمَّا رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَاك قَامَ واستتبعه فَتَبِعَهُ فَلَمَّا دخل دَعَا لَهُ بِطَعَام فَوَضعه بَين يَدَيْهِ فَكَأَنَّمَا لحسه ثمَّ دَعَا بقدح فَحلبَ فِيهِ فشربه حَتَّى حلب لَهُ فِي سَبْعَة أقداح فَشربهَا وَبَات عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَتكلم مِنْهُ بِشَيْء فَلَمَّا خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى صَلَاة الْغَدَاة واستتبعه فَتَبِعَهُ فصلى مَعَه الْغَدَاة فَلَمَّا سلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقبل على الْقَوْم بِوَجْهِهِ فَقَالَ علمُوا أَخَاكُم وبشروه فَأقبل الْقَوْم بنصح يعلمونه وَألقى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثوبا حِين أسلم ثمَّ قَامَ فاستتبعه فَتَبِعَهُ فَلَمَّا دخل دَعَا لَهُ بِطَعَام فَوَضعه بَين يَدَيْهِ فَلم يَأْكُل إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قَالَ شبعت ثمَّ دَعَا لَهُ بقدح فَحلبَ فِيهِ فَلم يشرب إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قَالَ رويت فَضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَنْكِبه فَقَالَ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله إِنَّك كنت أمس كَافِرًا وَإنَّك الْيَوْم مُؤمن وَإِن الْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء وَإِن الْمُؤمن يَأْكُل فِي معاء وَاحِد(1/297)
- الأَصْل السِّتُّونَ
-
فِي أَن للصَّائِم دَعْوَة مستجابة عِنْد إفطاره
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لكل عبد صَائِم دَعْوَة مستجابة عِنْد إفطاره اعطيها فِي الدُّنْيَا أَو ذخر لَهُ فِي الْآخِرَة
فَكَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول عِنْد إفطاره يَا وَاسع الْمَغْفِرَة اغْفِر لي
خص أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَين الْأُمَم فِي شَأْن الدُّعَاء فَقيل {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم}
وَإِنَّمَا كَانَ يكون ذَلِك للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام فَأعْطيت هَذِه الْأمة مَا أَعْطَيْت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَلَمَّا دخل التَّخْلِيط فِي أُمُورهم من(1/298)
أجل الشَّهَوَات الَّتِي استولت على قُلُوبهم حجبت قُلُوبهم فالصوم منع النَّفس عَن الشَّهَوَات وَإِذا ترك شَهْوَته من أَجله صفا قلبه وَصَارَت دَعوته بقلب فارغ قد زايلته ظلمَة الشَّهَوَات وتولته الْأَنْوَار فاستجيب لَهُ فان كَانَ مَا يسْأَل فِي الْمَقْدُور عجل لَهُ وَإِن لم يكن كَانَ مدخورا لَهُ فِي الْآخِرَة وبلغنا أَن العَبْد إِذا دخل الْجنَّة أعطي من الْجنَّة بِقدر مَا يسْتَقرّ فِي ملكه ويجاز لَهُ ثَوَابه فَإِذا زيد قيل لَهُ هَذَا دعواتك الَّتِي كنت لَا ترى لَهَا إِجَابَة كَانَ لَك ذخْرا عَظِيما
وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للصَّائِم عِنْد فطره دَعْوَة لَا ترد(1/299)
- الأَصْل الْحَادِي وَالسِّتُّونَ
-
فِي سُجُود الشُّكْر
عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا جَاءَهُ الْأَمر يسر بِهِ خر لله سَاجِدا شكرا
فالسجود أقْصَى حَالَة العَبْد فِي التَّوَاضُع لله تَعَالَى بِهِ ترتبط النِّعْمَة ويجتلب الْمَزِيد فالشكر رُؤْيَة العَبْد النِّعْمَة وَلَا يَنْفَكّ من رأى النِّعْمَة من الْجَبَّار إِذا استحيى خجل وتذلل وتواضع وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شَأْنه إِذا فَرح غض بَصَره وغض الْبَصَر من الْحيَاء لِأَن الْحيَاء فِي الْعَينَيْنِ من أجل أَن الْحيَاء من شَأْن الرّوح وبصره مُتَّصِل ببصر الرّوح وَأَيْضًا الْفَرح فِي الْقلب مؤد الى الْعين فَإِذا انْتهى الْفَرح إِلَى الْعين فَلم يغضها انْتَشَر الْفَرح وَقَوي فَلم يكن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب أَن ينتشر فرحه فِي دَار الأحزان حَتَّى يكون ذَلِك كُله فِي دَار الله تَعَالَى
عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ جِئْت أَزور عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يوحي إِلَيْهِ ثمَّ سرى(1/300)
عَنهُ فَقَالَ يَا عَائِشَة ناوليني رِدَائي فناولته ثمَّ أَتَى الْمَسْجِد فَإِذا مُذَكّر يذكر فَجَلَسَ حَتَّى قضى الْمُذكر تَذكرته افْتتح {حم تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم} فَسجدَ فطالت سجدته ثمَّ تسامع بِهِ أَظُنهُ قَالَ من كَانَ على ميلين وملىء عَلَيْهِ الْمَسْجِد وَأرْسلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي حَاجَتهَا أَن احضروا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَقَد رَأَيْت مِنْهُ أمرا مَا رَأَيْته مِنْهُ مُنْذُ كنت مَعَه فَرفع رَأسه فَقَالَ سجدت هَذِه السَّجْدَة شكرا لرَبي تَعَالَى فِيمَا أبلاني فِي أمتِي فَقَالَ لَهُ - أَحْسبهُ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ -وماذا أبلاك فِي أمتك قَالَ أَعْطَانِي سبعين ألفا من أمتِي يدْخلُونَ الْجنَّة فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن امتك كثير طيب فازدد يَا رَسُول الله قَالَ قد فعلت فَأَعْطَانِي مَعَ كل وَاحِد من السّبْعين الْألف سبعين ألفا قَالَ يَا رَسُول الله ازدد لأمتك فَقَالَ بيدَيْهِ ثمَّ قَالَ بهما إِلَى صَدره أَو إِلَى بعض جسده فَقَالَ عمر أَو غَيره أوعيت يَا رَسُول الله أَو كلمة نَحْوهَا
عَن عبد الله بن بكر أبي وهب السَّهْمِي حَدثنَا هِشَام بن حسان عَن الْقَاسِم بن مهْرَان عَن مُوسَى بن وردان عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى أَعْطَانِي سبعين ألفا من أمتِي يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب فَقَالَ عمر يَا رَسُول الله فَهَلا استزدته قَالَ قد استزدته فَأَعْطَانِي مَعَ كل وَاحِد من السّبْعين الْألف سبعين ألفا فَقَالَ رَضِي الله عَنهُ يَا رَسُول الله فَهَلا استزدته قَالَ استزدته فَأَعْطَانِي هَكَذَا وَفتح أَبُو وهب يَدَيْهِ قَالَ أَبُو وهب قَالَ هِشَام هَذَا من الله لَا يدْرِي مَا عدده(1/301)
وَهَذَا الحَدِيث أتم وَأَشْبع وَالْأول لم يذكر فِيهِ أَنهم يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب
وَعَن قيس بن أبي حَازِم عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْطَيْت سبعين ألفا من أمتِي يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب قُلُوبهم على قلب رجل وَاحِد واستزدت فزادني مَعَ كل وَاحِد سبعين ألفا
وَعَن أم قيس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج آخِذا بِيَدِهَا فِي سكَّة من سِكَك الْمَدِينَة حَتَّى انْتهى إِلَى بَقِيع الْغَرْقَد فَقَالَ يبْعَث مِنْهَا سَبْعُونَ ألفا يَوْم الْقِيَامَة فِي صُورَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب
فَقَامَ رجل فَقَالَ يَا رَسُول الله ادْع الله أَن يَجْعَلنِي مِنْهُم قَالَ أَنْت مِنْهُم فَقَامَ آخر فَقَالَ يَا رَسُول الله ادْع الله أَن يَجْعَلنِي مِنْهُم فَقَالَ سَبَقَك بهَا عكاشة
فَهَذَا الْعدَد من مَقْبرَة وَاحِدَة فَكيف سَائِر مَقَابِر أمته وَإِنَّمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْت مِنْهُم كَأَنَّهُ رأى فِيهِ أَنه مِنْهُم وَالْآخر لم يره بِموضع ذَاك وَأم قيس هِيَ ابْنة مُحصن وَهِي أُخْت عكاشة بن مُحصن الْأَسدي فالسبعون الْألف الْأَولونَ سقط عَنْهُم الْحساب لِأَن الله تَعَالَى أَيّدهُم بِالْيَقِينِ حَتَّى عاملوا الله تَعَالَى على الصدْق وَالْوَفَاء بيقينهم وهم أَوْلِيَاء الله تَعَالَى لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ وهم السَّابِقُونَ المقربون يشفع كل وَاحِد مِنْهُم فِي سبعين ألفا مِمَّن احتسب لِلْحسابِ(1/302)
فِي الْموقف مِمَّن وَجَبت لَهُ الْجنَّة ثمَّ يشفع كل وَاحِد مِنْهُم فِي سبعين ألفا مِمَّن وَجب عَلَيْهِ الْوُقُوف طول الْموقف
عَن عبد الله ابْن أبي أوفى قَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أَتَى بِرَأْس أبي جهل صلى رَكْعَتَيْنِ وَصلى بهم يَوْم الْفَتْح رَكْعَتَيْنِ
وَسجد عمر بن عبد الْعَزِيز ثَلَاث سَجدَات تباعا حَيْثُ روى لَهُ أَبُو بردة بن أبي مُوسَى عَن أَبِيه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث الَّذِي قَالَ يجاء باليهودي وَالنَّصْرَانِيّ يَوْم الْقِيَامَة فَيُقَال هَذَا فداؤك يَا مُسلم من النَّار(1/303)
- الأَصْل الثَّانِي وَالسِّتُّونَ
-
فِي بَيَان أفضل الصَّدَقَة
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من صَدَقَة بِأَفْضَل من صَدَقَة يتصدقها على مَمْلُوك عِنْد مليك سوء فالمملوك عِنْد المليك السوء مُضْطَر وَالصَّدَََقَة على الْمُضْطَر أَضْعَاف مضاعفة لأَنهم ثَلَاثَة أَصْنَاف فَقير مستغن عَن الصَّدَقَة فِي ذَلِك الْوَقْت وفقير مُحْتَاج ومضطر فالصدقة على المستغنى عَنهُ وَهُوَ فِي حد الْفقر صَدَقَة وَالصَّدَََقَة على الْمُحْتَاج مضاعفة وَالصَّدَََقَة على الْمُضْطَر أَضْعَاف مضاعفة والمملوك عِنْد المليك السوء انتظمت حَالَته هَذِه الثَّلَاث هُوَ فَقير وَهُوَ مُحْتَاج وَهُوَ مُضْطَر(1/304)
- الأَصْل الثَّالِث وَالسِّتُّونَ
-
فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب الفأل الْحسن
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا بعثتم إِلَيّ رَسُولا فَاجْعَلُوهُ حسن الْوَجْه حسن الِاسْم
هَذَا من طَرِيق التفاؤل وَذَلِكَ أَن أهل الْيَقَظَة والانتباه يرَوْنَ الْأَشْيَاء كلهَا من الله تَعَالَى وَإِذا ورد وَارِد حسن الْوَجْه حسن الِاسْم تفاءل بِهِ وَهُوَ حسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتفاءل وَلَا يتطير لِأَن التفاؤل هُوَ حسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى والفأل هُوَ شَيْء يخص بِهِ قوم وَلَيْسَ يكون لكل أحد كالفراسة والألهام وكالحكمة وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الفأل مُرْسل
فَمن أعطي حظا من التفاؤل انْتفع بِهِ كمن أعطي الفراسة فَلهُ مِنْهَا حَظّ وَمن لم يُعْط لم يكن لَهُ مِنْهَا حَظّ والفأل قريب من الْأَركان والحظ نَحوه(1/305)
وَكَانَت قُرَيْش جعلت مائَة من الأبل فِي من يَأْخُذ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيردهُ عَلَيْهِم حَيْثُ توجه إِلَى الْمَدِينَة فَركب بُرَيْدَة فِي سبعين رَاكِبًا من أهل بَيته من بني سهم فَتلقى نَبِي الله فَقَالَ لَهُ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَنْت قَالَ أَنا بُرَيْدَة فَالْتَفت إِلَى أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ يَا أَبَا بكر برد أمرنَا وَصلح فَقَالَ وَمِمَّنْ قَالَ من اسْلَمْ فَقَالَ لأبي بكر سلمنَا قَالَ ثمَّ مِمَّن قَالَ من بني سهم قَالَ خرج سهمك فَأسلم بريده وَأسلم الَّذين مَعَه جَمِيعًا فَلَمَّا أَن أصبح قَالَ بريده لنَبِيّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تدخل الْمَدِينَة إِلَّا ومعك لِوَاء فَحل عمَامَته ثمَّ شدّ بهَا فِي رمح ثمَّ مَشى بَين يَدَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا نَبِي الله تنزل عَليّ فَقَالَ إِن نَاقَتي مأمورة فسارت حَتَّى وقفت على بَاب أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ فبركت فَقَالَ بُرَيْدَة الْحَمد لله الَّذِي أسلم بَنو سهم طائعين غير مكرهين
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ قَالَ الله تَعَالَى أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا شَاءَ فَإِذا أحسن ظَنّه وفى لَهُ بِمَا أمل وَظن والتطير سوء الظَّن بِاللَّه وهروب من قَضَائِهِ والعقوبة إِلَيْهِ سريعة أَلا ترى إِلَى الْعِصَابَة الَّتِي فرت من الطَّاعُون كَيفَ أماتهم قَالَ الله تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم}
عَن أبي رَافع قَالَ أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعِي مكتل فِيهِ شَاة(1/306)
مشوية فَقَالَ لي يَا أَبَا رَافع ضع مَا مَعَك ثمَّ قَالَ ناولني الذِّرَاع فناولته فَأكلهَا ثمَّ قَالَ ناولني الذِّرَاع فناولته فَأكلهَا ثمَّ قَالَ ناولني الذِّرَاع فَقلت وَهل للشاة أَكثر من ذراعين فَقَالَ لَو سكت لوجدتها(1/307)
- الأَصْل الرَّابِع وَالسِّتُّونَ
-
فِي معنى الْفطْرَة الْأَصْلِيَّة
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تناتج الْإِبِل من بَهِيمَة جَمْعَاء هَل يحس من جَدْعَاء قَالُوا يَا رَسُول الله أَفَرَأَيْت من يَمُوت صَغِيرا قَالَ الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين على الْفطْرَة أَي على الْإِسْلَام
وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى أَخذ من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم فأسلموا لَهُ طَوْعًا وَكرها وألقوا بأيدهم اعترافا بربويته فَمنهمْ مُسلم وَمِنْهُم مستسلم وَفِي الْجُمْلَة كلهم أقرُّوا لَهُ بالربوبية وَحده وبالسمع وَالطَّاعَة لَهُ فَأخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق ثمَّ ردهم إِلَى الأصلاب فَلَمَّا خَرجُوا من الْأَرْحَام الى الدُّنْيَا مولودين إِنَّمَا خَرجُوا على تِلْكَ الْفطْرَة فَمن وَلَده يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ أَو مَجُوسِيّ فَالْوَلَد فِي الحكم لَهُ(1/308)
قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله الْوَلَد فِي الحكم لِأَبِيهِ دون أمه لِأَن الْعِظَام والعصب وَالْعُرُوق من الْأَب وَاللَّحم وَالدَّم وَالشعر وَالْجَلد من الْأُم فَأصل الْجَسَد من الْأَب أَلا ترى أَن اللَّحْم وَالدَّم وَالْجَلد وَالشعر يذهب وَيَجِيء والجسد بَاقٍ وَالْعِظَام والعصب وَالْعُرُوق إِذا ذهب ذهب الْجَسَد وَلذَلِك نسب إِلَى أَبِيه والعصوبة لَهُ فِي الْمِيرَاث وَالْولَايَة وَسَائِر الْأَحْكَام
أما قَوْله كَمَا تناتج الابل هَل يحس من جَدْعَاء فَإِنَّهُ يَقُول ان الانعام إِذا تناتجت فمولودهن صَحِيح سوي فَعمد الْمُشْركُونَ فجدعوا آذانها
روى عَوْف بن مَالك الْجُشَمِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصَعدَ فِي الْبَصَر وَصَوَّبَهُ وَقَالَ أرب إبل أَنْت ام رب غنم قلت من كل المَال قد آتَانِي الله تَعَالَى فَأكْثر وَأطيب قَالَ أفلست تنتجها وافية أعينها وآذانها قلت بلَى قَالَ فتجدع آذانها فَتَقول صرماء وتشق من هَذِه فَتَقول بحيرة فساعد الله أَشد من ساعدك وموساه أحد لَو شَاءَ الله أَن يَأْتِيك بهَا صرماء فعل
فَقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تناتج الْإِبِل فَهَل تحس من جدعا أَي أَن الله تَعَالَى خلقه سويا وافرا وافيا فَأنْتم جدعتموه وَكَذَلِكَ خلق الله تَعَالَى هَذَا الْمَوْلُود على الْفطْرَة الَّتِي فطرهم حَيْثُ استخرجهم من صلب آدم عَلَيْهِ السَّلَام معترفين لَهُ بالربوبية وَأَنْتُم هودتموه ونصرتموه وَمِنْه قَول الله تَعَالَى {صبغة الله وَمن أحسن من الله صبغة}(1/309)
كَانَت الْيَهُود إِذا ولد لَهُم ولد صبغته وَكَانَت النَّصَارَى إِذا ولد لَهُم مَوْلُود صبغته فِي مَاء لَهُم يَقُولُونَ تطهر بذلك فَقَالَ الله تَعَالَى {صبغة الله} أَي فطْرَة الله الَّتِي فطرهم عَلَيْهَا أحسن من صبغتهم
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مَوْلُود يُولد من ولد كَافِر أَو مُسلم فَإِنَّمَا يولدون على الاسلام كلهم وَلَكِن الشَّيَاطِين أَتَتْهُم فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم فهودتهم ونصرتهم ومجستهم وأمرتهم أَن يشركوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَقَالَ الله تَعَالَى وَقَوله الْحق خلقت عبَادي حنفَاء وأمرتهم أَن لَا يشركوا بِي شَيْئا
عَن عِيَاض بن حمَار رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي خطبَته ان الله تَعَالَى أَمرنِي أَن أعلمكُم وَقَالَ تَعَالَى خلقت عبَادي حنفَاء فأتتهم الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم وأمرتهم أَن يشركوا بِي وَحرمت عَلَيْهِم مَا أحللت عَلَيْهِم
قَالَ أَبُو عبد الله فَهَذَا بعد الْإِدْرَاك حِين عقلوا أَمر الدُّنْيَا وتأكدت حجَّة الله عَلَيْهِم وعملت أهواؤهم فِيهِ لِأَن الشَّيَاطِين وجدت قلوبا خَالِيَة وَالنَّفس وَالروح يعقلان أَمر الدُّنْيَا والمضار وَالْمَنَافِع والآيات ظَاهِرَة من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وَهَذِه حجج الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على عبيده فَذَهَبت بأهوائهم يَمِينا وَشمَالًا وَأما الْمُؤْمِنُونَ فهم أهل منَّة الله تَعَالَى من الله عَلَيْهِم فَجعل لَهُم نورا فأحياهم فَقَالَ أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس(1/310)
كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا) {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور}
فَأهل منته أحياهم الله تَعَالَى بنوره وَأهل عداوته حرمُوا ذَلِك فخابوا وَالْحجّة عَلَيْهِم قَائِمَة بِمَا أعْطوا من الْمعرفَة بِأُمُور الدُّنْيَا
قَالَ الله تَعَالَى {قد أَفْلح من زكاها وَقد خَابَ من دساها} إِنَّمَا زكاها بِنور الْمعرفَة وَإِنَّمَا دسي قلب الْكَافِر وَقَوله دسي ودسس ودس كُله بِمَعْنى وَاحِد وَهُوَ أَن يدس بَاب قلبه كَمَا تدس الكوة حَتَّى لَا يَقع فِي الْبَيْت ضوء فَهُوَ بَيت مظلم وَقد مَال بِهِ هوى نَفسه
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يَمُوت لأحد من الْمُسلمين ثَلَاثَة من الْوَلَد فتمسهم النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم
عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا من مُسلمين يتوفى لَهما ثَلَاثَة أَوْلَاد لم يبلغُوا الْحِنْث إِلَّا أَدخل الله تَعَالَى والديهم الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن السقط ليجر أمه إِلَى الْجنَّة بسرره إِذا احتسب
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يَا عَائِشَة من مَاتَ لَهُ فرطان من أمتِي أدخلهُ الله الْجنَّة بِفضل(1/311)
رَحمته إيَّاهُم قَالَت يَا رَسُول الله فَمن كَانَ لَهُ فرط وَاحِد قَالَ وَمن كَانَ لَهُ فرط وَاحِد يَا موفقة قَالَت وَمن لم يكن لَهُ فرط قَالَ فَأَنا فرط أمتِي لم يصابو بمثلي
فَإِذا كَانَ الوالدن إِنَّمَا يدخلهم الله الْجنَّة بِفضل رَحمته للْوَلَد فَكيف يكون رَحمته للْوَلَد
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَوْلَاد الْمُسلمين أَيْن هم يَوْم الْقِيَامَة قَالَ فِي الْجنَّة يَا عَائِشَة وَسَأَلت عَن أَوْلَاد الْمُشْركين فَقَالَ فِي النَّار يَا عَائِشَة قلت لم يدركوا الْأَعْمَال يَا رَسُول الله وَلم تجر عَلَيْهِم الأقلام فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَبك أعلم بِمَا كَانُوا عاملين
عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن السقط ليراغم ربه عز وَجل إِذا إِذا أَدخل أَبَوَيْهِ النَّار فَيُقَال لَهُ أَيهَا السقط المراغم ربه قد أَدخل أَبَوَيْك الْجنَّة فَيَقُول لَا حَتَّى يجرهما بسرره
عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة بالممسوخ عقلا وبالهالك فِي الفترة وبالهالك صَغِيرا فَيَقُول الممسوخ عقلا يَا رب لَو آتيتني عقلا مَا كَانَ من آتيته عقلا بِأَسْعَد مني وَيَقُول الْهَالِك فِي الفترة يَا رب لَو أَتَانِي مِنْك عهد مَا كَانَ(1/312)
من أَتَاهُ مِنْك عهد بِأَسْعَد بعهدك مني وَيَقُول الْهَالِك صَغِيرا يَا رب لَو آتيتني عمرا مَا كَانَ من آتيته عمرا بِأَسْعَد بعمره مني فَيَقُول الرب تبَارك وَتَعَالَى فَإِنِّي آمركُم بِأَمْر أفتطيعونني فَيَقُولُونَ نعم وَعزَّتك فَيَقُول لَهُم فاذهبوا وادخلوا جَهَنَّم وَلَو دخلوها مَا ضرتهم شَيْئا فَتخرج عَلَيْهِم قوابض من نَار يظنون أَنَّهَا قد أهلكت مَا خلق الله من شَيْء فيرجعون سرَاعًا وَيَقُولُونَ يَا رَبنَا خرجنَا وَعزَّتك نُرِيد دُخُولهَا فَخرجت علينا قوابض من نَار فظننا أَنَّهَا قد أهلكت مَا خلق الله تَعَالَى من شَيْء ثمَّ يَأْمُرهُم ثَانِيَة فيرجعون وَيَقُولُونَ كَذَلِك فَيَقُول الرب خلقتكم على علمي وَإِلَى علمي تصيرون ضميهم فتأخذهم النَّار
عَن عبد الله بن شَدَّاد رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهُ رجل فَسَأَلَهُ عَن ذَرَارِي الْمُشْركين الَّذين هَلَكُوا صغَارًا فَوضع رَأسه سَاعَة ثمَّ قَالَ أَيْن السَّائِل فَقَالَ هَا أَنا ذَا يَا رَسُول الله فَقَالَ إِن الله تَعَالَى إِذا قضى بَين أهل الْجنَّة وَالنَّار لم يبْق غَيرهم عجوا فَقَالُوا اللَّهُمَّ رَبنَا لم يأتنا رَسُولك وَلم نعمل شَيْئا فَأرْسل اليهم ملكا وَالله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين فَقَالَ إِنِّي رَسُول ربكُم إِلَيْكُم فَانْطَلقُوا فَاتَّبعُوهُ حَتَّى أَتَوا النَّار فَقَالَ لَهُم إِن الله عز وَجل يَأْمُركُمْ أَن تقتحموا فِيهَا فَاقْتَحَمت طَائِفَة مِنْهُم ثمَّ اخْرُجُوا من حَيْثُ لَا يشْعر أَصْحَابهم فَجعلُوا من السَّابِقين المقربين ثمَّ جَاءَهُم الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ إِن الله تَعَالَى يَأْمُركُمْ أَن تقتحموا فِي النَّار فَاقْتَحَمت طَائِفَة أُخْرَى ثمَّ أخرجُوا من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَجعلُوا من أَصْحَاب الْيَمين ثمَّ جَاءَ الرَّسُول فَقَالَ إِن الله تَعَالَى يَأْمُركُمْ أَن تقتحموا فِي النَّار فَقَالُوا رَبنَا لَا طَاقَة لنا بِعَذَابِك فَأمر بهم فَجمعت نواصيهم وأقدمهم ثمَّ القوا فِي النَّار(1/313)
قَالَ أَبُو عبد الله الْوَلَد عُضْو من الرجل فَإِذا قدمه من قبل أَن يبلغ الْحِنْث فقد عتق من أسار الذُّنُوب وَفِي الشَّرْع أَن الْمَمْلُوك إِذا عتق جُزْء مِنْهُ شاعت الْحُرِّيَّة فِي جَمِيع أَجْزَائِهِ فَهَذَا الطِّفْل قدم على ربه وَهُوَ غير مَطْلُوب بذنب فَصَارَ حرا من رق الذُّنُوب وَهُوَ جُزْء من أَجزَاء الْوَالِدين
وَقَوله لم يبلغُوا الْحِنْث أَي مَا أدركوا مدرك الرِّجَال فتركوا الْوَفَاء بِمَا عَاهَدُوا يَوْم الْمِيثَاق
وَقَوله تَحِلَّة الْقسم يُرِيد قَوْله تَعَالَى {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها}
وَعَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي سَأَلت رَبِّي أَوْلَاد الْمُشْركين فأعطانيهم خدما لأهل الْجنَّة قَالَ لأَنهم لم يدركهم مَا أدْرك آباؤهم من الشّرك وَلِأَنَّهُم فِي الْمِيثَاق الأول(1/314)
- الأَصْل الْخَامِس وَالسِّتُّونَ
-
فِي بَيَان قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان هَذَا المَال خضرَة حلوة
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن هَذَا المَال خضرَة حلوة فَمن أَخذه بِحقِّهِ فلنعم المعونة هُوَ
الْأَخْذ على ثَلَاثَة أوجه عندنَا فالظالم يَأْخُذهُ تمتعا والمقتصد يَأْخُذهُ تزودا والمقرب يَأْخُذهُ تبلغا فالظالم لم يَأْخُذهُ بِحقِّهِ لِأَن الدُّنْيَا إِنَّمَا خلقت مُتْعَة للأعداء وهم الْكفَّار يتمتعون ويأكلون كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام وَالنَّار مثوى لَهُم فَهَذَا قد ظلم نَفسه حَيْثُ أَخذهَا أَخذ الْأَعْدَاء قَالَ الله تَعَالَى {ذرهم يَأْكُلُوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فَسَوف يعلمُونَ}(1/315)
لِأَن الْمُؤمن قد علم أَنه عَابِر سَبِيل وَلم يخلق للبقاء فِي هَذِه الدُّنْيَا فَهُوَ مُسَافر يقطع الدُّنْيَا بعمره إِلَى الله تَعَالَى وَاللَّيْل وَالنَّهَار يركضان بِهِ اليه وَقد آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الْأُخَر وَمن صدق إيمَانه أَن يرفع باله عَن الدُّنْيَا وييأس من الخلود فِيهَا وَيَأْخُذ مِنْهَا مَا يَأْخُذ المتزود لما بَين يَدَيْهِ من السّفر الطَّوِيل وَأخذ التزود أَن يكون لَهُ إِرَادَة فِيمَا يَأْخُذ مِنْهَا أَن يَأْخُذهَا لقوام دينه وَيقدم فَضله مَا بَين يَدَيْهِ ليَكُون ذَلِك زادا لَهُ فِي الْمَحْشَر فَالْأول ظَالِم أَخذه أَخذ الْأَعْدَاء وَهَذَا أَخذه بِحقِّهِ فلنعم المعونة وَالثَّالِث أَخذه تبلغا لِأَنَّهُ خلق مُحْتَاجا مُضْطَرّا لاينفك فِي دُنْيَاهُ أَيَّام حَيَاته من حَاجَة بِهِ إِلَيْهِ أما فِي نَفسه وَأما فِي المتصلين بِهِ من عِيَال وقرابة وجيرة واخوان من أجل حرا وبردا وجوع أَو عرى أَو نَوَائِب من سقم أَو غَيره
وتدبير رب الْعَالمين فِي هَذَا المَال أَنه وَضعه فِي هَذَا الدَّار وَأَنه يصلح بِهِ هَذِه الْمصَالح فَمَا تنَاول مِنْهُ تنَاول مِنْهُ تنَاول على التبلغ إِلَى الله تَعَالَى لينفذ عمره ويبلغ إِلَى ربه تَعَالَى دافعا هَذِه النوائب الَّتِي تنوبه فِي هَذِه الدُّنْيَا عَن نَفسه وَعَن هَؤُلَاءِ بِهَذَا المَال الَّذِي هَكَذَا دبره رب الْعَالمين وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعْطي المَال بِغَيْر عدد وَلَا تَقْدِير يحثي حثوا وَيُعْطِي قبضات فراوده عمر رَضِي الله عَنهُ على أَن يقدر ويفضل الْمُهَاجِرين لفضلهم وَمن لَهُ قدوة فِي الْإِسْلَام يبرر لَهُ ذَلِك بِالْمَالِ فَأبى عَلَيْهِ وَقَالَ إِن هَذَا المَال بَلَاغ وَخير الْبَلَاغ أوسعه وأجورهم على الله تَعَالَى فَلَمَّا ولي عمر رَضِي الله عَنهُ فضل أَصْحَاب بدر وَجعل بَين النَّاس فَضَائِل فَفعل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فعل الصديقين المَال عِنْده بَلَاغ فَكلما تنَاول شَيْئا مِنْهُ فقدمه فِي نوع من أَنْوَاع الْبر لم يَجعله عدَّة ليَوْم فقره كَمَا فعل هَذَا المقتصد لِأَن عدَّة الصديقين والمقربين خالقهم وأعينهم مَادَّة إِلَى رَحمته والمقتصدون وَمن دونهم عدتهمْ خالقهم عدَّة الايمان فَإِذا صَارُوا إِلَى الْحَقَائِق صيروا أَعْمَالهم عدَّة(1/316)
- الأَصْل السَّادِس وَالسِّتُّونَ
-
فِي أَن الِاخْتِيَار من الْخَيْر
عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أَرَادَ أمرا قَالَ اللَّهُمَّ خر لي واختر لي
قَالَ أَبُو عبد الله الْخيرَات كلهَا من خيرته والصفوة من الْخيرَات محبوبة ومختارة خار لِعِبَادِهِ الْأَعْمَال وَالْأَفْعَال وَاخْتَارَ لنَفسِهِ من الَّذِي خار لَهُم فَذَاك محبوبه ومصطفاه سَأَلَهُ أَن يُخَيّر لَهُ أَن يرزقه الْخَيْر وَإِذا رزقه الْخَيْر وَقَاه الشَّرّ ثمَّ سَأَلَهُ أَن يخْتَار لَهُ من الْخَيْر محبوبه وَله دَعْوَة أُخْرَى فِي حَدِيث آخر وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك التَّوْفِيق لمحابك من الْأَعْمَال وَصدق التَّوَكُّل عَلَيْك وَحسن الظَّن بك
فَانْظُر إِلَى هَذِه الْخِصَال الثَّلَاث كانها نظام وَاحِد وَهَذَا بَاب غامض يخفى على الصَّادِقين وَإِنَّمَا ينْكَشف للصديقين دون الصَّادِقين لِأَن الصَّادِق يفتش عَن الْأَعْمَال كَيْلا يدْخل فِيهِ الْعَدو وَالنَّفس والهوى ويروجه عَلَيْهِ بخدعه فَهُوَ يَبْغِي الصدْق وَالْإِخْلَاص ويلحظه وَالصديق يلحظ فِي أَعماله إِلَى الله تَعَالَى لِأَنَّهُ استقام قلبه على الصدْق وانطرد عَنهُ الْهوى واختسأ الْعَدو فَهُوَ يفر من ظله وَهُوَ الَّذِي ينْكَشف لَهُ التَّوْفِيق(1/317)
من الله لمحبوبه فَرب عمل هُوَ فِي الظَّاهِر أَعلَى وأشرف على أَلْسِنَة الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام والكتب الْمنزلَة والمحبوب فِي ذَلِك الْوَقْت مَا هُوَ دونه فِي الظَّاهِر فَالَّذِي يُحِبهُ فِي ذَلِك الْوَقْت قد خَفِي على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام حَتَّى سَأَلَهُ التَّوْفِيق لذَلِك
وَأما بَيَان انتظام هَذِه الْأُمُور فِي طلق فَهُوَ أَن الله تَعَالَى إِذا وَفقه لمحبوبه وَهُوَ أدنى فِي الظَّاهِر وآثر الْأَدْنَى وَإِن كَانَ الْأَدْنَى فِي الْحَقِيقَة من محاب الله تَعَالَى فَسَأَلَهُ صدق التَّوَكُّل والتوكل هُوَ أَن يتَّخذ الله وَكيلا ويفوض إِلَيْهِ جَمِيع أُمُوره فَسَأَلَهُ صدق ذَلِك حَتَّى لَا يتَرَدَّد وَلَا يتلكأ فِيهِ ويسارع فِيهِ كَمَا يُسَارع فِي الَّذِي كَانَ عِنْده أَعلَى
ثمَّ قَالَ وَأَسْأَلك حسن الظَّن بك فَإِن النَّفس إِذا مرت فِي الادون دَخلهَا سوء الظَّن من قبلهَا فَتَقول لعَلي فِيهِ مخذول إِذا أَقبلت على الادون وأعرضت عَن الْأَعْلَى فِي الظَّاهِر فَسَأَلَهُ حسن الظَّن كي لَا تَأْخُذهُ الْحيرَة وَلَا يخَاف أَنه خذل فلهذه الْخِصَال الثَّلَاث كلهَا منظومة مُحْتَاج إِلَيْهَا فِي طلق لَا يَسْتَغْنِي بِبَعْضِهَا عَن بعض لمن سَأَلَ أَن يخْتَار لَهُ محبوبه ويوفقه لمحابه من الْأُمُور
فَجَاءَت الرِّوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَاتَيْنِ اللفظتين وَكِلَاهُمَا يؤديان إِلَى معنى وَاحِد قَوْله اختر لي وَقَوله وفقني لمحابك فالاختيار من الْخَيْر هُوَ محابه فِي ذَلِك الْوَقْت قَالَ لَهُ قَائِل صف لنا وَاحِدَة من هَذِه الْأُمُور نعتبر بهَا مَا سواهَا قَالَ نعم خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُعْتَمِرًا يزور بَيت الله الْحَرَام لبعد عَهده بِهِ قصد عَن الْبَيْت فَكَانَ محاب الله تَعَالَى فِي ذَلِك أَن يصالحهم ويعطيهم مَا يُرِيدُونَ من ذَلِك فَإِنَّهُم كَانُوا يُرِيدُونَ أَن لَا يدْخل مَكَّة فِي هَذِه الْهَيْئَة فحلق دون قَضَاء الْعمرَة وَنحر الْهَدْي وَلما يصل إِلَى الْبَيْت وَلم يبلغ محلهَا وَكَانَ فِي الظَّاهِر تَعْظِيم الْبَيْت والاعتمار وَالْوَفَاء بِالنذرِ وَهُوَ الاحرام وهدي الْبدن وَهِي سَبْعُونَ بَدَنَة أَعلَى عِنْدهم وأشرف وَالصُّلْح وَالرُّجُوع عَنْهُم(1/318)
محاب الله فِي ذَلِك الْوَقْت فاتسع لهَذَا الْأَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يضق بِهِ ذرعا واتسع أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وضاق عمر رَضِي الله عَنهُ حَتَّى صَار إِلَى أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ يَا أَبَا بكر أَلَيْسَ هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لَيْسَ نَحن الْمُسلمُونَ فَقَالَ بلَى فَقَالَ فعلى م نعطي الدنية فِي ديننَا وهم الْكفَّار قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يَا عمر الزم غرز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واسمع وأطع فَإِنِّي أشهد أَنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَأَنا أشهد فَلم يصبر على ذَلِك فَأتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله أَلَسْت رَسُول الله أولسنا بِالْمُسْلِمين أوليسوا بالمشركين قَالَ بلَى قَالَ فعلى م نعطي الدنية فِي ديننَا وهم الْكفَّار قَالَ أَنا عبد الله وَرَسُوله وَلنْ أُخَالِف أمره وَلنْ يضيعني
قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فمازلت أَصوم وأصلي وأتصدق وَأعْتق من الَّذِي صنعت مَخَافَة كَلَامي الَّذِي تَكَلَّمت بِهِ يَوْمئِذٍ
فَصَالح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُشْركين وَكتب الْكتاب فِيمَا بَينهم على وضع الْحَرْب عشر سِنِين يَأْمَن مِنْهُم النَّاس ويكف بَعضهم عَن بعض فَأمنُوا وَلَقي بَعضهم بَعْضًا وخالطوهم وَاسْتَمعُوا إِلَى الْقُرْآن وَإِلَى مَا جَاءَ بِهِ عَن الله تَعَالَى وَالرجل يكلم أَخَاهُ وَصديقه ورحمه بذلك فَدخل النَّاس أَفْوَاجًا فِي دين الله مثل مَا دخلُوا فِي سِنِين كَثِيرَة
فَانْظُر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ فوض أمره إِلَى الله تَعَالَى وأبرز صدق توكله وَكَيف حسن ظَنّه بِاللَّه تَعَالَى فَقَالَ إِنِّي لن أُخَالِف أمره وَلنْ يضيعني وَكَيف تَابعه على ذَلِك أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ واتسع(1/319)
فِيهِ وَكَيف ضَاقَ عمر رَضِي الله عَنهُ وَمن بعد عمر عَامَّة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بلغ من أَمرهم أَنه أَمر مناديه فَنَادَى بِأَن يحلقوا رؤوسهم فَلم يحلقوا حَتَّى دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخَيْمَة فَقَالَ يَا أم سَلمَة أَلا تَرين أَن النَّاس لَا يحلقون فَقَالَت يَا نَبِي الله بِأبي أَنْت وَأمي احْلق أَنْت فَلَو قد رأوك حلقت لقد فَعَلُوهُ فحلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذ النَّاس يحلقون وَمِنْهُم من قصر فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين قَالُوا والمقصرين يَا رَسُول الله قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين قَالُوا والمقصرين يَا رَسُول الله قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين قَالُوا والمقصرين يَا رَسُول الله قَالَ والمقصرين قَالُوا ظَاهَرت بالترحم وَالْمَغْفِرَة للمحلقين قَالَ لأَنهم لم يشكوا
فَلَيْسَ هَذَا شكا فِي أصل الْفِعْل إِنَّمَا الشَّك هُنَا ضيق الصَّدْر بذلك الْفِعْل احتاجوا إِلَى أَن يحلقوا وهم فِي إِحْرَام وَلم يحلوا بعد لِأَن السَّبِيل كَانَ عِنْدهم فِي الْجَاهِلِيَّة وراثة أَن لَا يحل أحد من إِحْرَامه دون الطّواف بِالْبَيْتِ فَلَمَّا أَمرهم بِالْحلقِ استعظموا ذَلِك وَضَاقَتْ صُدُورهمْ ثمَّ اتَّبعُوهُ فقصروا كَأَنَّهُمْ على كَرَاهَة شَدِيدَة وَهَذَا من خلق النَّفس وكزازته فحرموا الدعْوَة للكزازة الَّتِي فيهم وركوب الْهوى
وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي لن أُخَالِف أمره أَي لن أُخَالِف أَمر الله أَي لن أُخَالِف مَا استقبلني من وَجه الْأَمر وَمن توفيقه لما هُوَ أحب إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَن أهل مَكَّة لما تلقوهُ ليردوه فِي جمعهم أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَسْفَل مَكَّة فَلَمَّا بلغ الْحُدَيْبِيَة بَركت نَاقَته فَقَالَ النَّاس(1/320)
خلأت أَي حزنت فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا خلأت وَمَا لَهَا ذَلِك بِخلق كَأَن مَعْنَاهُ أَن هَذِه نَاقَة مسخرة لصَاحِبهَا وصاحبها لَيْسَ بحرون فَإِذا لم يحرن الَّذِي سخر على ربه لم تحرن المسخرة فَقَالَ مَا خلأت وَلَكِن حَبسهَا حَابِس الْفِيل فَعلم أَن بروك النَّاقة هَهُنَا لَيْسَ من الحرانة لِأَنَّهُ لم يحرن على ربه فِي أمره وَلَكِن هَذَا شَيْء بديع قد اخْتَار لَهُ ربه مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ فَنزل وعسكر هُنَاكَ وانتظر مَا يكون ثمَّ وَجه الرُّسُل إِلَى أهل مَكَّة وَاحِدًا بعد آخر أَنِّي لم أجئكم لِحَرْب وَإِنَّمَا جِئْت مُعظما للبيت وَمَعِي هدي فعاهدوا الله أَن لَا يدخلهَا أبدا أَو نحاربك ثمَّ كَانَ من تِلْكَ الرُّسُل عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فَأَتَاهُ الْخَبَر أَن عُثْمَان قد قتل فَانْتدبَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحربهم وَقَالَ لَا نَبْرَح حَتَّى نناجزهم فَدَعَا إِلَى الْبيعَة تَحت الشَّجَرَة فَبَايعُوهُ فَقَالَ أَصْحَابه بعد ذَلِك بِحِين بَايعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمَوْت وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّن فهم الْأَمر لم نُبَايِعهُ على الْمَوْت لَكِن بَايَعْنَاهُ على أَن لَا نفر فَأنْزل الله تَعَالَى {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} الْآيَة فَأوجب لَهُم رِضَاهُ وبشرهم بذلك وَوَعدهمْ النُّصْرَة وَالْفَتْح
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى فِي الطَّرِيق رُؤْيا أَن يدْخل الْمَسْجِد الْحَرَام مَعَ أَصْحَابه مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ لَا يخَافُونَ فَأخْبر بهَا أَصْحَابه فَلم يشكوا أَنَّهَا تفتح لَهُم فَلَمَّا اسْتَقْبَلَهُمْ هَذَا الصُّلْح شكوا فِي الرُّؤْيَا وَسَاءَتْ ظنون كثير مِنْهُم قَالَ الله تَعَالَى {فَجعل من دون ذَلِك فتحا قَرِيبا} فصالحوا وَانْصَرفُوا فَخَرجُوا إِلَى خَيْبَر فَفتح الله عَلَيْهِم فاستأصلوا الْيَهُود وهم اُحْدُ الْأَعْدَاء وغنموا العنائم الْكَثِيرَة وتقووا بِمَا(1/321)
غنموا وَأخذُوا الْعدة من الكراع وَالسِّلَاح وَبلغ الْمُشْركين ذَلِك فذلوا وانقصموا
وَعَاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْعَام الْمقبل فَقضى عمرته وأخلوا لَهُ مَكَّة من نِسَائِهِم وَأَوْلَادهمْ حَتَّى انْصَرف ثمَّ عَاد من الْعَام الْقَابِل لفتح مَكَّة فِي عشرَة آلَاف رجل وَكَانَ ذَلِك الْعَام الَّذِي صدر عَنهُ فِي سَبْعمِائة وَكثر أَصْحَابه لدُخُول النَّاس فِي دين الله وَذَلِكَ للصلح الَّذِي كَانَ بَينهم وَمَا الْتَقَوْا فوعظ بَعضهم بَعْضًا وَقَرَأَ عَلَيْهِم مَا نزل
فَانْظُر إِلَى محاب الله تَعَالَى ومختاره وَإِلَى محاب الْخلق ومختارهم فقد كَانَ مُخْتَار الْخلق أَن يدخلوها عنْوَة فيقتلون وَيقْتلُونَ وَقد كَانَ لله عز وَجل فِيهَا أَوْلِيَاء قد اجتباهم واختارهم وسبقت لَهُم مِنْهُ الْحسنى وَلم يجىء وَقت إسْلَامهمْ بعد وَفِيهِمْ أَيْضا قد أَسْلمُوا من الْمُسْتَضْعَفِينَ نسَاء وشيوخا وعجزة وَلَو دخلوها بِقِتَال لأصابهم معرة الْجَيْش فَقَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم بِبَطن مَكَّة من بعد أَن أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم}
وَكَانَت طَائِفَة من أهل مَكَّة خَرجُوا عَلَيْهِ من وَرَاء عسكره فَهَزَمَهُمْ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذُوا أسراء فَأعْتقهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلذَلِك قَوْله تَعَالَى {من بعد أَن أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم}
ثمَّ قَالَ وَلَوْلَا رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات لم تعلموهم أَن تطئوهم فتصيبكم مِنْهُم معرة بِغَيْر علم إِلَى قَوْله {عذَابا أَلِيمًا}(1/322)
فَهَؤُلَاءِ رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات قد كَانُوا هُنَاكَ فِي أَيْديهم مستضعفين فَلَو دَخَلْتُم الْحَرْب لوطأتهم الْخَيل وهلكوا وَلَو تزيلوا أَي فارقوهم وزايلوهم لعذبنا الَّذين كفرُوا أَي لنسلطنك عَلَيْهِم بِالْحَرْبِ حَتَّى تقتلهم وَلَكِن هيأ الصُّلْح وَحبس النَّاقة فبركت فَلَمَّا بَركت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَبسهَا حَابِس الْفِيل لَا تَدعُونِي الْيَوْم قُرَيْش إِلَى خطة فِيهَا صلَة الرَّحِم إِلَّا أَعطيتهم إِيَّاهَا
وَكَانَ رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات فِي أصلاب الْآبَاء وأرحام الْأُمَّهَات لم يخرجهم الله تَعَالَى إِلَى الدُّنْيَا وَكَانَ فِي سَابق علمه أَنه يخرجهم إِلَى مُدَّة وأسماؤهم مَكْتُوبَة فِي اللَّوْح بالسعادة من الله تَعَالَى فَلَو دخلوها عنْوَة لهلك آباؤهم وأمهاتهم فِي الْحَرْب ومعرة الْجَيْش فَلَو تزيلوا أَي زايلوا الأصلاب والأرحام لعذبنا الَّذين كفرُوا أَي الْآبَاء والأمهات الْكَفَرَة وأنجينا هَؤُلَاءِ الْأَطْفَال الَّذين هم فِي علمي أوليائي فَهَيَّأَ الله عز وَجل الصُّلْح بَينهم حَتَّى تَوَالَدُوا وَخَرجُوا من أصلاب آبَائِهِم من يعبد الله وَحده وتهيأ للمستضعفين حَال نجاح وَفتح الله تَعَالَى مَكَّة شرفها الله تَعَالَى من الْعَام الثَّالِث عَلَيْهِم وأظفره بهم
وَمن قبل فتح مَكَّة سهل الله سَبيله حَتَّى جَاءَ قَاضِيا لعمرته فِي ذَلِك الشَّهْر الَّذِي كَانَ جَاءَ أول عَام الْحُدَيْبِيَة فَاعْتَمَرَ وغاظ الْمُشْركين فِي ذَلِك واقتص الله عز وَجل لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم كَمَا ردُّوهُ وصدوه عَن الْعمرَة فَأنْزل الله تَعَالَى {الشَّهْر الْحَرَام بالشهر الْحَرَام والحرمات قصاص}
ثمَّ فتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ مَكَّة من الْعَام الثَّالِث من الْحُدَيْبِيَة وَهُوَ سنة(1/323)
ثَمَان من الْهِجْرَة وَكَانَت الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ وَقَضَاء الْعمرَة فِي سنة سَبْعَة وافتتح مَكَّة سنة ثَمَان من الْهِجْرَة فغص الْمَسْجِد الْحَرَام بأصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ فِي عشرَة آلَاف حَتَّى لم تَجِد نَاقَته موضعا تبرك فِيهِ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام حَتَّى دنا من الْبَيْت فاحتملوه على أَيدي الرِّجَال فَدَعَا بالمفتاح فَفتح لَهُ فَدخل الْبَيْت فصلى فِيهِ ثمَّ خرج فَوقف على الْبَاب فَقَالَ الله أكبر الله أكبر صدق الله وعده ونصرعبده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده
فَانْظُر إِلَى هَذِه الْكَلِمَات عظم ربه وَصغر مَا دونه بتعظيمه ثمَّ قَالَ صدق الله وعده نشر عَن ربه الْجَمِيل بِأَنَّهُ وَفِي لَهُ ثمَّ قَالَ وَنصر عَبده رأى النَّصْر من عِنْده وَرَأى دوران الْأُمُور بِهِ وَنظر إِلَى تَدْبيره من لدن مبعثه وَمَا لَقِي مِنْهُم من الْأَذَى وَالضَّرْب والشتم والمصائب وَمَا حرم أَقَاربه وأرحامه من بركَة مَا جَاءَ بِهِ والى النَّاس من افناء النَّاس غرباء كَيفَ رزقوا ذَلِك وَاحِد من الرّوم وَوَاحِد من الْحَبَشَة وَآخر من فَارس وَوَاحِد من الْخيام وَآخر من حَضرمَوْت وبلاد الشَّام وَأَبُو لَهب وَأَبُو طَالب وَولد عمومته حَارَبُوهُ وعادوه وأخرجوه من بِلَاد الله وَمن وَطنه وَبَيت الله الْحَرَام وغربوه وتواطئوا على قَتله وطلبوه فَلم يظفروا بِهِ وَانْظُر إِلَى تَدْبِير الله تَعَالَى فِي الْأَنْصَار وبذلهم أنفسهم قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ فقد وكلنَا بهَا قوما لَيْسُوا بهَا بكافرين}
ثمَّ حروبهم ببدر وَاحِد وَتلك الْعَجَائِب الَّتِي كَانَت هُنَاكَ مرّة لَهُم وَمرَّة عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْحُدَيْبِيَة وصلحه وَأَنَّهُمْ قد وضعُوا الْحَرْب فِيمَا قد وضعُوا الْحَرْب فِيمَا بَينهم عشر سِنِين فَضَاقَ عمر رَضِي الله عَنهُ بذلك يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَلم يعلم أَن الله تَعَالَى سيفتح لَهُم مَكَّة فِي الْعَام الثَّالِث من(1/324)
عَامهمْ فِي أعز نصر وأوفر جمع فَحسن الظَّن وَسُوء الظَّن هَهُنَا يتيبن فَرَأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ جميل صنع الله تَعَالَى فِي أمره فَقَالَ الله أكبر صدق الله وعده وَنصر عَبده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده
فَلَو شَاءَ الله تَعَالَى لبعث مَعَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَلَائكَته عَلَيْهِم السَّلَام مَعَهم الشهب فيدمرون على من جَحده وَلَكِن تَدْبِير الله تَعَالَى فِي عباده فِي التؤدة والتأني والرفق بهم ليتسعوا مَعَ تَدْبيره فَإِن الإتساع مَعَ تَدْبيره عبودة والضيق من الاستبداد وكزازة النَّفس والعبودية الصادقة أَن يَدُور مَعَ تَدْبِير الله تَعَالَى فِي الْأَحْوَال كَيفَ مَا دارت فهناك تكون عِنْد الله تَعَالَى رَاضِيا فِي الْأَحْوَال فيرضى عَنْك وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية} إطمأنت إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَاتَتْ شهواتها وَذهب استبدادها فرضيت عَن الله تَعَالَى فِي أحوالها على اخْتِلَاف محبوبها ومكروهها فَرضِي الله عَنْهَا
فَلَمَّا تكلم على بَاب الْكَعْبَة بِمَا تكلم قَالَ لأهل مَكَّة وَهُوَ حوله مَاذَا تَقولُونَ وماذا ترَوْنَ أَنِّي صانع بكم قَالُوا أَخ كريم وَابْن أَخ كريم قَالَ فَإِنِّي أَقُول كَمَا قَالَ أخي يُوسُف لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ
قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ وانتضحت عرقا من الْحيَاء من قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ أَنِّي كنت قلت لَهُم حِين دَخَلنَا مَكَّة الْيَوْم ننتقم مِنْكُم ونفعل ونفعل فَلَمَّا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ استحييت من قولي
فَهَكَذَا يكون فعل النَّاظر إِلَى تَدْبِير الله تَعَالَى فيهم من قبل فِي تِلْكَ الْأُمُور الْمَاضِيَة وحكمته(1/325)
وَأَيْضًا قصَّة أُخْرَى فِي شَأْن أبي جندل بن سُهَيْل بن عَمْرو وَكَانَ مُسلما فِي أَيدي الْمُشْركين مُقَيّدا بِمَكَّة فَلَمَّا جَاءَ سُهَيْل بن عَمْرو أَبوهُ يُرَاجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصُّلْح وَهُوَ بعض رُؤَسَائِهِمْ أبرم الصُّلْح وَكتب الْكتاب فجَاء ابْنه أَبُو جندل يرسف فِي قيوده قد انفلت من محبسه فَقَالَ يَا مُحَمَّد يَا رَسُول الله إِنِّي مُسلم فِي أَيدي الْمُشْركين واستغاث برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبالمسلمين فَقَامَ إِلَيْهِ أَبوهُ فَضرب وَجهه ورده وَقَالَ يَا مُحَمَّد لقد لجت الْقَضِيَّة فِيمَا بَيْننَا فَتَركه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي يَده حَتَّى رده فكاد الْمُسلمُونَ أَن يفتتنوا فِي ذَلِك الْأَمر وَأَخذهم الغيظ الشَّديد وَلم يقدروا على شَيْء من الصُّلْح وَكَانَ وَقع الصُّلْح بَينهم على أَن من صَار من الْمُشْركين إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسلما أَن يرد عَلَيْهِم وَمن صَار من الْمُسلمين إِلَيْهِم مُرْتَدا لم يطْلب فأجابهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ذَلِك فَتحَرك أَصْحَابه فِي ذَلِك فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جَاءَنَا مُسلما فرددناه عَلَيْهِم فَإِن الله عز وَجل جَاعل لَهُ فرجا ومخرجا وَمن صَار إِلَيْهِم مُرْتَدا فالى النَّار فَمَا نصْنَع بِمن ارْتَدَّ عَن دين الله
فَأنْظر إِلَى حسن ظَنّه حَيْثُ قَالَ فَإِن الله جَاعل لَهُ فرجا ومخرجا فَكيف لَا يحسن ظَنّه وَقد أوحى إِلَيْهِ عز وَجل وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب
فالوحي قد نجع فِيهِ وانكشف الغطاء عَن قلبه حَتَّى عاين حسن تَدْبِير الله وصنائع ربه وعرفه بالمجد وَالْكَرم فَذهب سُهَيْل بن عَمْرو بِابْنِهِ إِلَى(1/326)
مَكَّة فِي قيوده وَرجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَدِينَة فَفتح خَيْبَر فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ كنت أماشي أَبَا جندل وَهُوَ فِي قيوده وَهُوَ جنب أَبِيه وأهوى بمقبض سَيفي نَحوه أدنيه مِنْهُ وَأَقُول يَا أَبَا جندل لِيهن عَلَيْك فانما دم أحدهم دم كلب وَأدنى قَائِمَة السَّيْف مِنْهُ رَجَاء أَن يَأْخُذ السَّيْف فَيضْرب بِهِ أَبَاهُ قَالَ فضن الرجل بِأَبِيهِ وَسُهيْل آخذ بتلبيبه يجره إِلَى الْمنزل وَأَبُو جندل يصْرخ يَا معشر الْمُسلمين أرد الى الْمُشْركين يفتنونني عَن ديني فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اصبر واحتسب أَبَا جندل فَإِن الله عز وَجل جَاعل لَك وللمسلمين فرجا إِنَّا قد عَقدنَا بَيْننَا وَبَين الْقَوْم صلحا وانا لن نغدر
فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يلبث إِلَّا قَلِيلا حَتَّى انفلت أَبُو جندل من قيوده وَمر إِلَى نَاحيَة الْبَحْر على طَرِيق الشَّام فَقعدَ هُنَاكَ لِأَنَّهُ قد علم أَنه إِن صَار إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يجد بدا من رده عَلَيْهِم لما جرى بَينهم فِي الصُّلْح من ذَلِك فَأَقَامَ هُنَاكَ أَيَّامًا فَكَانَ كل من سمع بِهِ من الشذاذة المنفلتين مِمَّن هم فِي مجَالِس الْمُشْركين لحق بِهِ حَتَّى توافوا نَحوا من سبعين رجلا فَقطعُوا على الْمُشْركين عيرهم وَأخذُوا أَمْوَالهم وأضروا حَتَّى بلغ من أَمرهم وَمَا تأذى بهم الْمُشْركُونَ أَن وجهوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسألونه أَن يضمهم إِلَى نَفسه حَتَّى يرْتَفع عَنْهُم ضررهم ثمَّ أسلم سُهَيْل بن عَمْرو وَقتل شَهِيدا فِي خِلَافه عمر رَضِي الله عَنهُ
قَالَ أَبُو عبد الله فَأهل سَعَة الصَّدْر عاشوا مَعَ الله تَعَالَى فِي دَار الْحَبْس والضيق عَيْش أهل الْجنان وَإِنَّمَا نالوا ذَلِك كُله بذلك النُّور الَّذِي إنشرح بِهِ صُدُورهمْ فاتسعت لتدبير الله تَعَالَى وان الله تَعَالَى دبر للعباد امور امرن(1/327)
النُّفُوس سلوك طَرِيق ذَلِك التَّدْبِير وعرفوه ووطنوه ثمَّ لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِك التَّدْبِير تَدْبِير آخر مُخْتَصّ
فَأهل الضّيق يتحيرون ويضيقون وَمن عاين الصنعين والتدبيرين لم يضق وان لله عز وَجل فِي كل تَدْبِير مَشِيئَة إِن شَاءَ أَمْضَاهُ وَإِن شَاءَ أَخّرهُ فالتدبير الَّذِي قد وَطنه النَّاس ان يكون بِالْوَلَدِ من ذكر وانثى فاختص الله تَعَالَى لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام تدبيرا فَحملت بِهِ مَرْيَم من غير ذكر فتحير فِيهِ عُلَمَاء ذَلِك الزَّمَان وَأَحْبَارهمْ وَهلك فِيهِ الْعَام والسفهاء وَأدْركَ مَرْيَم رَضِي الله عَنهُ بعض تِلْكَ الْحيرَة فَقَالَت
أَنى يكون لي ولد وَلم يمسسني بشر وَلم أك بغيا {قَالَ كَذَلِك الله يخلق مَا يَشَاء}
فَأَبْصَرت وأذعنت لحكم رَبهَا تَعَالَى وتقدس فاستوجبت بذلك أَن أثنى عَلَيْهَا رب الْعَالمين فَقَالَ وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا وَقَالَ وامه صديقَة
وَكَذَلِكَ فعل زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا بشر بِهِ من الْوَلَد بعد الْكبر وَكَذَلِكَ رزق مَرْيَم رَضِي الله عَنهُ {كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب وجد عِنْدهَا رزقا قَالَ يَا مَرْيَم أَنى لَك هَذَا قَالَت هُوَ من عِنْد الله إِن الله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب}
فقد علم النَّاس أَرْزَاقهم من مظانها من السُّوق وَمن الكدح وَمن(1/328)
الْكَرم وَمن الْكيس وَمن أَيدي الْخلق فرزقت على وَجه التَّدْبِير الْمُخْتَص مِمَّا لم تمسه أَيدي الْعَالمين فأبصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التدبيرين وَدخُول أَحدهمَا فِي الآخر وخفاء شَأْنهمَا فَسَأَلَ التَّوْفِيق وَسَأَلَ مَعَ التَّوْفِيق أَن لَا يكون من نَفسه إِذا وَفقه تلكأ وَسَأَلَهُ إِذا وَفقه فَلم يُوَافق شَهْوَة نَفسه أَن يحسن الظَّن بِهِ فقد يكون الرجل من أهل الْغَفْلَة يَقُول اللَّهُمَّ اختر لي ووفقني فَإِذا وَفقه هرب من مُخْتَار الله وَدفع عَن نَفسه ذَلِك
بلغنَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يَا رب أَي عِبَادك أَكثر ذَنبا قَالَ الَّذِي يتهمني قَالَ وَمن يتهمك يَا رب قَالَ الَّذِي يستخيرني فِي الْأُمُور فَإِذا اخْتَرْت لَهُ لم يرض بقضائي وخيرتي
وَأَيْضًا قصَّة أُخْرَى فِي شَأْن بدر وعدهم الله تَعَالَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لكم الظفر بالعير أَو الظفر بالعدو الَّذِي انتدب من مَكَّة وهم رُؤَسَاء الْكفْر وصناديد قُرَيْش
وَكَانَ محاب الله تَعَالَى فِي ذَلِك أَن يظفروا بالعدو فيقتلهم على أَيْديهم وَيقطع دابرهم ومحابهم الظفر بالعير ليتقووا بِهِ وينكوا فيهم فَقَالَ فِي تَنْزِيله الْكَرِيم وتودون أَن غير ذَات الشَّوْكَة تكون لكم الْآيَة(1/329)
- الأَصْل السَّابِع وَالسِّتُّونَ
-
فِي عِقَاب من غش الْعَرَب
عَن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غش الْعَرَب لم يدْخل فِي شَفَاعَتِي وَلم تنله مودتي
غش الْعَرَب أَن يصدهم عَن سَبِيل الْهدى أَو يحملهم على أُمُور يبعدون بهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن فعل ذَلِك فقد قطع الرَّحِم فِيمَا بَينهم وَبَين الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَمن غشهم أَيْضا أَن يحسدهم على مَا آتَاهُم الله من فَضله وَأَن يضع مَا رَفعه الله ويغمر فَضلهمْ وَالْأَخْبَار قد أَتَت بفضلهم
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى قسم الْخلق قسمَيْنِ فجعلني فِي خيرهما قسما فَذَلِك قَوْله(1/330)
تَعَالَى وَأَصْحَاب الْيَمين مَا أَصْحَاب الْيَمين وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال فَأَنا من أَصْحَاب الْيَمين وَأَنا خير أَصْحَاب الْيَمين
ثمَّ جعل الْقسمَيْنِ أَثلَاثًا فجعلني فِي خَيرهمْ ثلثا فَلذَلِك قَوْله تَعَالَى فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشئمة مَا أَصْحَاب المشئمة وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ فَأَنا من السَّابِقين وَأَنا خير السَّابِقين
ثمَّ جعل الأثلاث قبائل فجعلني فِي خير قَبيلَة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم فَأَنا أتقى ولد آدم وَأكْرمهمْ على الله تَعَالَى وَلَا فَخر
ثمَّ جعل الْقَبَائِل بُيُوتًا فجعلني فِي خَيرهَا بَيْتا فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا}
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ بَيْنَمَا نَحن جُلُوس عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ مرت بِنَا امْرَأَة من بَنَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ بعض الْقَوْم هَذِه ابْنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَبُو سُفْيَان إِنَّمَا مثل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بني هَاشم كالريحانة فِي وسط النتن فَسمِعت الْمَرْأَة فَدخلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكرته لَهُ فَخرج وَلَا أرَاهُ إِلَّا مغضبا فَصَعدَ الْمِنْبَر وَقَالَ مَا بَال أَقْوَال تبلغني عَن أَقوام أَن الله تَعَالَى خلق سبع(1/331)
سموات فَاخْتَارَ الْعليا فسكنها وأسكن سمواته من شَاءَ من خلقه وَخلق سبع أَرضين فَاخْتَارَ الْعليا فأسكنها خلقه ثمَّ اخْتَار خلقه فَاخْتَارَ بني آدم ثمَّ اخْتَار بني آدم فَاخْتَارَ الْعَرَب ثمَّ اخْتَار الْعَرَب فَاخْتَارَ مُضر ثمَّ اخْتَار مُضر فَاخْتَارَ قُريْشًا ثمَّ اخْتَار قُريْشًا فَاخْتَارَ بني هَاشم ثمَّ اخْتَار بني هَاشم فاختارني فَلم أزل خيارا من خِيَار أَلا فَمن أحب الْعَرَب فبحبي أحبهم وَمن أبْغضهُم فببغضي أبْغضهُم
عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَانِي جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِن الله بَعَثَنِي فطفت شَرق الأَرْض وغربها وسهلها وجبلها فَلم أجد حَيا خيرا من الْعَرَب ثمَّ أَمرنِي فطفت فِي الْعَرَب فَلم أجد حَيا خيرا من مُضر ثمَّ أَمرنِي فطفت فِي مُضر فَلم أجد حَيا خيرا من كنَانَة ثمَّ أَمرنِي فطفت فِي كنَانَة فَلم أجد حَيا خيرا من قُرَيْش ثمَّ أَمرنِي فطفت فِي قُرَيْش فَلم أجد حَيا خيرا من بني هَاشم ثمَّ أَمرنِي أَن أخْتَار من أنفسهم فَلم أجد فيهم نفسا خيرا من نَفسك
إِنَّمَا ذكر النَّفس لِأَن الْأَخْلَاق هِيَ فِي النَّفس حسنها وسيئها فَهَذَا يدل على مَا قُلْنَا أَنه إِنَّمَا طَاف فِي هَذَا الْخلق يطْلب النُّفُوس الطاهرة الصافية الزاكية بمحاسن الْأَخْلَاق فَمن أجل ذَلِك اخْتَارَهُمْ فَلم ينظر إِلَى أَعْمَالهم فَإِنَّهُم كَانُوا أهل جَاهِلِيَّة إِنَّمَا نظر إِلَى أَخْلَاقهم فَوجدَ الْخَيْر فِي هَؤُلَاءِ وجواهر النُّفُوس مُتَفَاوِتَة بعيدَة التَّفَاوُت وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام من قَبْضَة
عَن قسَامَة بن زُهَيْر عَن الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى خلق آدم من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض جَاءَ مِنْهُم الْأَحْمَر وَالْأسود والأبيض وَمن ذَلِك السهل والحزن والخبيث وَالطّيب فالتربة الطّيبَة نفوسها سهلة(1/332)
كَرِيمَة وَلَيْسَت فِيهَا كزازة وَلَا يبوسة وَلَا شعوثة فهم أَحْرَار كرام ولدتهم أمهاتهم من رق النُّفُوس وشهواتها وَالْآخرُونَ كَانَت الحزونة فِي تربتهم فَجَاءَت الكزازة والشعوثة والصعوبة ولدتهم أمهاتهم عبيدا قد ملكهم رق نُفُوسهم بشهواتها وَهُوَ قَول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا يعظ بِهِ بني إِسْرَائِيل فَقَالَ لَا عبيد أتقياء وَلَا أَحْرَار كرماء
مَعْنَاهُ لَسْتُم من العبيد الَّذين يجاهدون أنفسهم ويتقون الله وَلَا من الْأَحْرَار الَّذين نَجوا من رق النُّفُوس فَسَارُوا إِلَى الله تَعَالَى سير الْكِرَام بِلَا تعريج وَلَا تردد وَالْبخل والضيق والحدة والعجلة والحقد والحرص وَمَا أشبهه من كزازة النَّفس والجود والسماحة وَالسعَة واللين والتؤدة والتأني والرفق من سهولة النَّفس وطيبها فنفوس الْعَرَب بارزة أخلاقها لَا ينكرها إِلَّا معاند وَلَا يجحدها إِلَّا مارد إِنَّهَا أَخْلَاق الْكِرَام فَبِهَذَا فضلوا لَا بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيّ وَالله تَعَالَى يحب معالي الْأَخْلَاق وَيبغض مدانيها
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي يَوْم بدر أَنه سمع رجلا يَقُول بعد مَا انصرفوا من بدر إِنَّمَا قتلنَا عَجَائِز صلعا فَأنْكر ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَه أُولَئِكَ الْمَلأ من قُرَيْش لَو نظرت إِلَى فعالهم لاحتقرت فعالك عِنْد فعالهم لَوْلَا أَن تطغى قُرَيْش لأخبرتها بِمَا لَهَا عِنْد الله تَعَالَى اللَّهُمَّ إِنَّك أذقت أول قُرَيْش نكالا فأذق آخرهَا نوالا
فالعرب بالأخلاق شرفوا وَإِلَّا فالشجرة وَاحِدَة وَهُوَ خَلِيل الرَّحْمَن(1/333)
عَلَيْهِ السَّلَام وَمِمَّا يدلك على ذَلِك دعوات إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ رفع الْقَوَاعِد من الْبَيْت وَأتم بناءه فَقَالَ رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك ثمَّ قَالَ وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك فَإِنَّمَا سَأَلَ من ذُرِّيَّة إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام خَاصَّة أَلا يرى أَنه قَالَ على أثر ذَلِك {رَبنَا وَابعث فيهم رَسُولا مِنْهُم} يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فالإسلام هُوَ تَسْلِيم النَّفس وبذلها والجود بهَا وَمن جاد بِنَفسِهِ على الله تَعَالَى فَلَا أحد أحسن خلقا مِنْهُ وَلَا أكْرم مِنْهُ فَلَيْسَ الشَّأْن فِي الْجُود بِالْمَالِ إِنَّمَا الشَّأْن فِي الْجُود بِالنَّفسِ حَتَّى يُسلمهُ إِلَى خالقه فجرت هَذِه الدعْوَة فِي ولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام خَاصَّة أَن صيرهم أمة مسلمة لَهُ فوهب لَهُم أَخْلَاق الْكِرَام حَتَّى تكرمت نُفُوسهم على الله تَعَالَى بذلا حِين جَاءَهُم الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وَمن قبل مَجِيء الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت تِلْكَ الْأَخْلَاق ظَاهِرَة فيهم فَلَمَّا جَاءَهُم الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وجدهم مهذبين كراما فصاروا صديقين وأبرارا وأتقياء وحكماء وعلماء بِاللَّه تَعَالَى باذلين مهجهم وَأَمْوَالهمْ لله تَعَالَى وَالسُّيُوف على عواتقهم وَالْحجر على بطونهم من الْجُوع وينصرون الله وَرَسُوله
وَبَنُو إِسْرَائِيل قَالُوا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إذهب أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ وَقيل لأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِن النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمَانًا وَقَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل}(1/334)
فَصَارَ قَوْلهم هُنَا كَقَوْل أَبِيهِم حَيْثُ ألقِي فِي النَّار حسبي من سُؤَالِي علمه بحالي فَهَل يُمكن أَن يَقُول هَذَا إِلَّا من حسن خلقه فجاد بِنَفسِهِ على الله تَعَالَى وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد بعد مَا انْهَزمُوا وأصابتهم جراحات وَقتل من قتل مِنْهُم وَانْصَرف عَسْكَر الْمُشْركين فنزلوا مَكَانا وَتَآمَرُوا فِيمَا بَينهم أَن يجمعوا جمعا فيكروا عَلَيْهِم ودسوا إِلَى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الْخَبَر ليفزعوهم فَانْتدبَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَصْحَابه رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَفِيهِمْ من الْجِرَاحَات غير قَليلَة يمضون الى جمعهم وَفِيهِمْ مشَاة حَتَّى أَن الرجل ليغشى عَلَيْهِ فِي الطَّرِيق من كَثْرَة مَا يسيل من الدَّم من جراحته فيحمله صَاحبه يَسِيرُونَ بِمثل هَذَا الْحَالة إِلَى الْعَدو وَقَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل فوجدوا الْعَدو تفَرقُوا وذهبوا قَالَ الله تَعَالَى {فانقلبوا بِنِعْمَة من الله وَفضل لم يمسسهم سوء وَاتبعُوا رضوَان الله} وَلم يقل رِضَاء الله فان الرضْوَان أَكثر من الرِّضَا وَهُوَ غَايَة الرضاء
فنهاية الْعَرَب إِلَى إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام والشجرة وَاحِدَة وَهُوَ إِبْرَاهِيم خَلِيل الله عَلَيْهِ السَّلَام وَلسَانه عبراني وأنهما غصنان لهَذِهِ الشَّجَرَة إِسْمَاعِيل واسحاق عَلَيْهِمَا السَّلَام فاسماعيل عَرَبِيّ اللِّسَان وَإِسْحَاق عبراني اللِّسَان فاسماعيل أَب الْعَرَب واسحاق أَب العبرانيين وهم بَنو إِسْرَائِيل نسبوا إِلَى يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام إِسْرَائِيل الله تَعَالَى ابْن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَلكُل وَاحِد من الغصنين حَظّ من الله تَعَالَى وَنصِيب وفضيلة وكرامة وموهبة فَصَارَت وراثة فِي أولادهما إِلَى الْأَبَد فَظهر فِي ولد إِسْحَاق من تِلْكَ الموهبة والكرامة الْجهد وَالْعِبَادَة وَظهر فِي ولد(1/335)
إِسْمَاعِيل حسن الْخلق والسماحة والشجاعة والموهبة إِنَّمَا تكون على قدر الْحَظ والجاه لَهُ عِنْده على قدر ذَلِك فَنَظَرْنَا إِلَى موهبه كل وَاحِد مِنْهُمَا وَمن أَي خزانَة أعطي لنستدل بِهِ على حظيهما مِنْهُ فَوَجَدنَا الْجهد وَالْعِبَادَة من خَزَائِن الْحِكْمَة والأخلاق من خَزَائِن الْمِنَّة فَنَظَرْنَا إِلَى الْحِكْمَة والْمنَّة من أَيْن بَدَت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فَوَجَدنَا الْحِكْمَة من الْعدْل بَدَت وَالْعدْل من الربوبية والربوبية من الْملك وَالْقُدْرَة وَوجدنَا الْمِنَّة أَنَّهَا بَدَت من الْعَطف والعطف من الْفضل وَالْفضل من الْجمال فَمن الْملك بدا الْغَضَب فأسعرت فاستجرت النَّار واسودت من الْغَضَب فَهِيَ سَوْدَاء مظْلمَة مشحونة بغضبه وَمن جماله بَدَت الرَّحْمَة وَظهر الْفضل والعطف حَتَّى اهتزت الْجنان وتوردت واستنارت بنوره فَهِيَ بَيْضَاء نورانية مشحونة برحمته وروحه وَإِنَّمَا هِيَ نظرة وجفوة فَأهل الثَّوَاب سعدوا مِنْهُ بنظرة وَاحِدَة وَأهل الْعقَاب شَقوا مِنْهُ بجفوة وَاحِدَة ففهمنا بمبلغ مَا علمنَا من ظَاهر مَا عَلَيْهِمَا وعَلى أولادهما من بعدهمَا مَا بطن من حظيهما وموهبتيهما وَإِنَّمَا كثر ولد إِسْحَق وظهروا فِي وَقت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ أنقذهم من ملكة فِرْعَوْن وسخرته وَجَاء بالكتب من الله تَعَالَى وَظَهَرت العبودة لله تَعَالَى إِلَى وَقت عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ صَارَت فَتْرَة فظهرت مَنَازِلهمْ ودرجاتهم وجواهر نُفُوسهم بِمَا عاملهم الله تَعَالَى وَمَا عاملوه وَكثر ولد إِسْمَاعِيل وَظهر شَأْنهمْ بمبعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَظَهَرت سيرتهم فِي دينهم وَمَا عاملهم الله تَعَالَى وَمَا عاملوه فَتبين لنا بفعليهما شَأْن نُفُوسهم ومحلهم من الله تَعَالَى وحظوظهم
عَن مَكْحُول رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما كثر بَنو معد أغار مِنْهُم اربعون فَارِسًا على عَسْكَر بني إِسْرَائِيل فيهم مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام فملئوا أَيْديهم من الْغَنِيمَة وَرَجَعُوا بغنيمتهم لم يستنقذ مِمَّا فِي أَيْديهم شَيْء فَقَالُوا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أغار علينا بَنو معد وهم قَلِيل فَكيف لَو كَانُوا كثيرا وَأَنْتُم فِينَا فَكيف لَو لم تَكُونُوا فِينَا فَادع الله(1/336)
عَلَيْهِم وَكَانَت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام تفزع إِلَى الصَّلَاة فصلى فَقَالَ اللَّهُمَّ إِن بني معد أَغَارُوا على قومِي فَفَعَلُوا وفعلوا وَإِن قومِي أمروني أَن أَدْعُو عَلَيْهِم فَقيل لَهُ لَا تدع عَلَيْهِم فانهم عبَادي وانهم ينتهون إِلَى أَدَاء أَمْرِي وَإِنِّي أَغفر لَهُم أول مَا يستغفروني قَالَ يَا رب اجعلهم من أمتِي قَالَ نَبِيّهم مِنْهُم قَالَ يَا رب فَاجْعَلْنِي مِنْهُم قَالَ استقدمت واستأخروا
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي حَدِيث الْمِعْرَاج فَلَمَّا جَاوَزت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّمَاء السَّادِسَة بَكَى مُوسَى وَقَالَ يزْعم بَنو إِسْرَائِيل أَنِّي أكْرم ولد آدم على الله تَعَالَى وَهَذَا عبد أكْرم على الله مني وَلَو كَانَ وَحده هان وَلَكِن الله تَعَالَى قضى أَن مَعَ كل نَبِي تبعه من أمته ثمَّ انْطلق بِي إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَإِذا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ملزق ظهر هـ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُور وَمَعَهُ تبعه من أمته فَقَالَ لي جبرئيل هَذِه منزلتك ومنزلة أمتك وَهَذَا أَبوك إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ تَعَالَى إِن أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوهُ وَهَذَا النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه وَالله ولي الْمُؤمنِينَ
فَألْحق هَذِه الْأمة بابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام وضمهم فِي الْولَايَة جَمِيعًا وَلم يدْخل فِيهِ بَنو إِسْرَائِيل وهم ولد إِبْرَاهِيم أَيْضا فَبين فِي هَذَا الحَدِيث منزلتيهما ودرجتيهما وانما أرى فِي السَّمَاء الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وأتباعهم على درجاتهم وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الْمُقدم عَلَيْهِم وَوصف الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم شَأْن الأمتين فَوَجَدنَا شَأْن بني إِسْرَائِيل يجْرِي على سَبِيل الْعدْل وأساس الربوبية وشأن فِي هَذِه الْأمة يجْرِي على سَبِيل الْفضل والألوهية فظهرت فِي بني إِسْرَائِيل السياحة والرهبانية وَعَلَيْهِم فِي شريعتهم الأغلال والآصاد(1/337)
وَظَهَرت فِي هَذِه الْأمة السماحة والصديقية والشجاعة وَالْولَايَة وسيوف الله تَعَالَى فِي أَيْديهم يقتلُون اباق عبيده ويردونهم لله تَعَالَى للرق والعبودة وَفك عَنْهُم الأغلال وَوضع عَنْهُم الآصاد فصاروا فِي حد الْأُمَنَاء وَجعلت شريعتهم أسمح الشَّرَائِع وأوسعها فهم فِي عبودتهم فِي صُورَة الخدم وَبَنُو إِسْرَائِيل فِي عبودتهم فِي صُورَة عبيد الْغلَّة أَلا ترى أَنه لما خاطبهم تَعَالَى قَالَ يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وَإِيَّاك فارهبون كَمَا يَقُول الرجل لعَبْدِهِ أوف لي بِهَذِهِ الْغلَّة عِنْد كل هِلَال أوف لَك بِالْعِتْقِ فِي سنة كَذَا
ثمَّ قَالَ لهَذِهِ الْأمة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فَدَعَاهُمْ بالكنية كنية بَاطِنهَا منَّة وظاهرها مِدْحَة من عَلَيْهِم فِي الْبَاطِن بالايمان ثمَّ نسب ذَلِك إِلَى فعلهم فَقَالَ آمنُوا فمدحهم بذلك فبتلك الكنية دعاهم ودعا أُولَئِكَ فنسبهم إِلَى أَبِيهِم فَقَالَ (يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وَأَنِّي فضلتكم على الْعَالمين) أَي عالمي زمانكم وَلكُل زمَان عَالم
وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ارْكَعُوا واسجدوا واعبدوا ربكُم} الْآيَة ثمَّ قَالَ وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده ثمَّ قَالَ {هُوَ اجتباكم} أَي اختاركم ثمَّ قَالَ وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج أَي من ضيق {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} ثمَّ قَالَ {هُوَ سَمَّاكُم الْمُسلمين من قبل وَفِي هَذَا} أَي من(1/338)
قبل أَن يخلقكم فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ سَمَّاكُم هَكَذَا وتكونوا شُهَدَاء على النَّاس فهم شُهَدَاء الله تَعَالَى للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام على الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة ليَكُون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا واعتصموا بِاللَّه هُوَ مولاكم فَنعم الْمولى وَنعم النصير
فَانْظُر إِلَى مُخَاطبَة بني إِسْرَائِيل فِي أَي صُورَة هِيَ وَانْظُر إِلَى مُخَاطبَة هَذِه الْأمة فِي أَي صُورَة هِيَ يتَبَيَّن لَك أَنهم فِي صُورَة عبيد الْغلَّة وَهَذِه الْأمة فِي صُورَة عبيد الْخدمَة وَعبيد الْخدمَة أولى بالسيد من عبيد الْغلَّة
فساحت بَنو إِسْرَائِيل بأبدانهم إِلَى الْجبَال فِي مفاوز الدُّنْيَا عزلة بالأبدان من الْخلق كي يصدقُوا الله تَعَالَى فِي طلب مَا عهد لَهُم ويوفوا بِعَهْد الله عَلَيْهِم
وساحت أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقلوبهم فِي مفاوز الملكوت إِلَى خَالق الْعَرْش عزلة بالقلوب عَن همم النُّفُوس كي يصدقُوا الله فِي طلبه والوصول إِلَيْهِ
فَإِن الله تَعَالَى دَعَا الْخلق إِلَيْهِ فَقَالَ {اسْتجِيبُوا لربكم من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا مرد لَهُ من الله}
وَقَالَ تَعَالَى يأيها الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذْ دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ)
وَقَالَ الله تَعَالَى فِيمَا حكى عَنهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيّ إِلَيّ يأهل الْمَوْت(1/339)
الْمَوْت والفناء لَا إِلَى غَيْرِي فَإِنِّي قد قضيت بِالرَّحْمَةِ على نَفسِي وأوجبت الْمَغْفِرَة لمن استغفرني فَأَنا الْعَفو أعفو عَن صَغِير الذُّنُوب وكبيرها وَلَا أُبَالِي
فَلَمَّا أَبْطَأت النُّفُوس فِي الْإِجَابَة قَالَ {وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام}
فَأهل الِالْتِفَات إِلَى الثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي الْحيَاء من الْفرق إِلَى الْقدَم بَين يَدَيْهِ غَدا لِأَن نُفُوسهم لم تسمح بالعبودة لِرَبِّهَا إِلَّا باسترواح إِلَى الثَّوَاب وهرب من الْعَذَاب فَهَذِهِ عبودة برشوة وعربون وَلَيْسَت عبودة الْأَنْبِيَاء وَلَا الصديقين وَلَا الْأَوْلِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَجعل حظوظ بني إِسْرَائِيل على قُلُوبهم فِي دَار الدُّنْيَا حُقُوقه وَعَهده وَفِي الْآخِرَة جنانه ثَوابًا لرعاية حُقُوقه وَالْوَفَاء بعهده وحظوظ هَذِه الْأمة على قُلُوبهم فِي دَار الدُّنْيَا جَلَاله وعظمته وسلطانه وَمَعْرِفَة آلائه وفضله وَرَحمته وَفِي الْآخِرَة قربه وَرفع الْحجاب فِيمَا بَينه وَبينهمْ وَقَدَّمَهُمْ فِي الدُّنْيَا خُرُوجًا وأخرنا وَقدمنَا فِي الْجنَّة دُخُولا وأخرهم
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْجنَّة مُحرمَة على الْأَنْبِيَاء حَتَّى أدخلها وعَلى الْأُمَم حَتَّى تدْخلهَا أمتِي
فبهذه الْأمة فتح العبودة يَوْم الْمِيثَاق وبهذه الْأمة يخْتم العبودة يَوْم تصرم الدُّنْيَا وبهذه الْأمة يفتح بَاب الرَّحْمَة فَيدْخلُونَ دَاره
ثمَّ ظَهرت من مُعَاملَة بني إِسْرَائِيل رَبهم وَمن مُعَاملَة هَذِه الْأمة رَبهَا مَا دلّت على نُفُوسهم وأخلاقهم ومحلهم من المكارم الَّتِي أعطيتا والمواهب فَكَانَت مكرمَة إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام بَيت الله الَّذِي خلقه قبل(1/340)
السَّمَوَات وَالْأَرْض فَكَانَت زبدة بَيْضَاء إِذْ عَرْشه على المَاء مبوء الذّكر هُنَاكَ وَخلق ملكَيْنِ يسبحانه ويقدسانه على الزبدة فأبيضت فهناك مظهره ومعلمه ومبوء ذكره وَمَوْضِع تقديسه وَلَا سَمَاء وَلَا أَرض وَلَا خلق فولاه الله تَعَالَى رفع قَوَاعِد بَيته مَعَ أَبِيه دون إِسْحَاق عَلَيْهِم السَّلَام وَجعل حجابته بيد وَلَده فهم يحجبون ويأتون وانبط زَمْزَم سقيا لَهُ ولولده من بعده وَلِجَمِيعِ من أم الْبَيْت مُعظما وسَاق إِلَيْهِ عينا من عُيُون الْجنَّة فَفتح فِيهِ ينبوعا وَجعله مهبط رَحمته فِي كل يَوْم وَمِنْه تَنْتَشِر على أهل الدُّنْيَا فَيخْتَص مِنْهَا أَهلهَا بِمِائَة رَحْمَة وَعشْرين لأهل الدُّنْيَا
ومكرمة إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام الصَّخْرَة الَّتِي إِلَيْهَا يجمع الْخلق ويحاسبهم وَهِي صَخْرَة من الْجنَّة عَلَيْهَا الأرضون السَّبْعَة وَهِي رَأس تِلْكَ الصَّخْرَة وَأما الْمُعَامَلَة فَإِنَّهُ لما جَاءَت المحنتان من الله تَعَالَى لَهما فِي وقتيهما برز مَا فِي نُفُوسهم وبرز مَا لَهُم من الْحَظ فِي الْغَيْب عِنْده بالمحنة فَإِن السَّيِّد إِذا كَانَ لَهُ عبيد فَإِنَّمَا يتَبَيَّن لَهُ حظوظ العبيد مِنْهُ بمعاملته إيَّاهُم ويتبين جَوَاهِر نُفُوسهم بمعاملتهم إِيَّاه
وَإِنَّمَا كثر ولد إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام فِي زمن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام بِمصْر بعد مَا حَاز الله تَعَالَى ليوسف عَلَيْهِ السَّلَام مَدَائِن مصر وَأَسْكَنَهُ إِيَّاهَا وَجعل بِيَدِهِ خزائنها ودخلها إِسْرَائِيل وَهُوَ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام فِي سِتَّة وَسبعين نفسا من وَلَده وَولد وَلَده ونسلهم فأنمى الله تَعَالَى عَددهمْ وَبَارك فِي ذُريَّته حَتَّى خَرجُوا إِلَى الْبَحْر يَوْم غرق فِرْعَوْن وهم سِتّمائَة ألف من الْمُقَاتلَة سوى الشُّيُوخ والذرية وَالنِّسَاء وَجَاوَزَ عَددهمْ ألف ألف فَقَالَ الله تَعَالَى فِيمَا يحْكى عَنْهُم وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن يبْعَث الله من بعده رَسُولا(1/341)
فَهَذَا قَوْلهم بعد أَن صيرهم مُلُوك مصر وأربابهم فَغير الله تَعَالَى مَا بهم فصاروا سخرة لآل فِرْعَوْن يخدمونهم خدمَة العبيد وَالْإِمَاء وَمن عجز عَن الْخدمَة لسنه وضع عَلَيْهِ الْغلَّة فاستودى مسَاء كل يَوْم فَإِن أعْطى وَإِلَّا غلت يَمِينه وَيقْتلُونَ أَبْنَاءَهُم مَخَافَة رُؤْيا فِرْعَوْن أَنه يُولد مِنْهُم مَوْلُود يكون هَلَاك ملكه على يَدَيْهِ فَبعث الله عز وَجل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ورحمهم بِهِ فَقَالَ فِي تَنْزِيله الْكَرِيم ونريد أَن نمن على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض ونجعلهم أَئِمَّة
الْآيَة فَجعل فيهم الْأَنْبِيَاء وَبث فيهم الْكتب وجعلهم أهل عبَادَة وَجهد وميثاق وعهد وأنقذ الله بني إِسْرَائِيل من ملكة فِرْعَوْن وعذابه وسخرته بمبعث مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وغرق فِرْعَوْن وَجعل لَهُم فِي الْبَحْر طَرِيقا يبسا فَلَمَّا جاوزوه قَالُوا يَا مُوسَى إِن قُلُوبنَا لَا تطمئِن ان فِرْعَوْن غرق حَتَّى أَمر الله تَعَالَى الْبَحْر فلفظه فنظروا إِلَيْهِ فَلَمَّا اطمأنوا وصاروا من طَرِيق الْبر إِلَى مَدَائِن فِرْعَوْن حَتَّى نقلوا كنوزه وغرقوا فِي النِّعْمَة رَأَوْا قوما يعكفون على أصنام لَهُم فَقَالُوا يَا مُوسَى إجعل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة حَتَّى زجرهم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ {أغير الله أبغيكم إِلَهًا وَهُوَ فَضلكُمْ على الْعَالمين} أَي عالمي زمانهم
ثمَّ أَمرهم أَن يَسِيرُوا إِلَى الأَرْض المقدسة الَّتِي كَانَت مسَاكِن آبَائِهِم ويتطهروا من أَرض فِرْعَوْن وَكَانَت الأَرْض المقدسة فِي أَيدي الْجَبَابِرَة قد غلبوا عَلَيْهَا فَقَالُوا لَهُ أَتُرِيدُ أَن تجعلنا لحْمَة للجبارين لَو تركتنا فِي يَدي فِرْعَوْن كَانَ خيرا لنا قَالَ {يَا قوم ادخُلُوا الأَرْض المقدسة} الْآيَة قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لن ندْخلهَا أبدا مَا داموا(1/342)
فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك) الْآيَة حَتَّى دَعَا عَلَيْهِم وَسَمَّاهُمْ فاسقين فبقوا فِي التيه أَرْبَعِينَ سنة عُقُوبَة
ثمَّ رَحِمهم فَمن عَلَيْهِم بالمن والسلوى وبالغمام يظللهم وبالحجر ينفجر مِنْهُ اثْنَتَيْ عشرَة عينا إِذا ضربه بعصاه فَقَالُوا لَو أَن مُوسَى انْكَسَرَ عَصَاهُ لمتنا عطشا فَأوحى الله تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِذا كَانَ وَقت المَاء فَكلم الْحجر وَلَا تضربه بالعصى حَتَّى ينفجر مِنْهُ المَاء من الْعُيُون بكلمتك ثمَّ سَار مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى طور سيناء ليجيئهم بِالتَّوْرَاةِ فاتخذوا الْعجل فَقَالَ لَهُم السامري هَذَا إِلَهكُم واله مُوسَى فاطمأنوا إِلَى قَوْله ونهاهم هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ {يَا قوم إِنَّمَا فتنتم بِهِ وَإِن ربكُم الرَّحْمَن فَاتبعُوني وَأَطيعُوا أَمْرِي قَالُوا لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين حَتَّى يرجع إِلَيْنَا مُوسَى}
فَلم يتبع هَارُون وَلم يطعه فِي ترك الْعجل إِلَّا إثني عشر ألفا فِيمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر وتهافت فِي عِبَادَته سَائِرهمْ وهم أَكثر من ألفي ألف فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى ألْقى الألواح فَرفع من التَّوْرَاة سِتَّة أَجزَاء وَبَقِي جُزْء وَاحِد وَهُوَ من مائَة حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرَة وورمت بطونهم فتابوا فَلم تقبل تَوْبَتهمْ دون أَن يقتلُوا أنفسهم فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم}
فَقَامُوا بالخناجر وَالسُّيُوف بَعضهم على بعض من لدن طُلُوع الشَّمْس إِلَى ارْتِفَاع الضُّحَى لَا يسْأَل وَالِد عَن ولد وَلَا ولد عَن وَالِد وَلَا أَخ عَن أَخِيه كل من استقبله ضربه بِسَيْفِهِ وضربه الآخر بِمثلِهِ حَتَّى عج مُوسَى(1/343)
عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الله تَعَالَى صَارِخًا يَا رباه قد فنيت بَنو إِسْرَائِيل فَرَحِمهمْ الله تَعَالَى فَقبل تَوْبَة من بَقِي وَجعل من قتل فِي الشُّهَدَاء
ثمَّ قَالُوا يَا مُوسَى أرنا الله جهرة فَجَاءَت صَاعِقَة فأحرقت من جمعهم أَرْبَعِينَ ألفا فِيمَا جَاءَ فِي الْخَبَر ثمَّ عرض عَلَيْهِ مَا فِي التَّوْرَاة ليقبلوها فَأَبُو وَقَالُوا لَا نطيق هَذَا فنتق الله عَلَيْهِم الْجَبَل ونودوا مِنْهَا خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة وَإِلَّا رميناكم بِالْجَبَلِ فسجدوا على حُرُوف وُجُوههم ينظرُونَ إِلَى الْجَبَل وَيَقُولُونَ قبلنَا قبلنَا ثمَّ قيل لَهُم قد وصلتم الى بَيت الْمُقَدّس وادخلوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة أَي حط عَنَّا بِمَنْزِلَة قَوْله اسْتغْفر الله
جَاءَ فِي الْخَبَر أَنهم أمروا أَن يدخلُوا الْبَاب سجدا على ركبهمْ فَعلم الله تَعَالَى مِنْهُم ضيق أَخْلَاقهم وَأَنَّهُمْ لن يدخلوها سجدا فَلَمَّا صَارُوا الى الْبَاب طوطىء لَهُم الْبَاب حَتَّى لم يُمكنهُم أَن يدخلوها قيَاما فكزت نُفُوسهم والتوت وانكشف سوء أَخْلَاقهم فاستلقوا على ظُهُورهمْ زحفا على الإستاه وهم يَقُولُونَ حِنْطَة حِنْطَة هطى سمقائا سخرية واستخفافا بِمَا أعْطوا قَالَ الله تَعَالَى فبدل الَّذين ظلمُوا قولا غير الَّذِي قيل لَهُم الْآيَة
وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام شَدِيد الْحيَاء ستيرا فَقَالُوا انه آدر فَلَمَّا اغْتسل وضع على الْحجر ثَوْبه فَعدى الْحجر بِثَوْبِهِ الى مجَالِس بني اسرائيل ومُوسَى على أَثَره عُرْيَان وَهُوَ يَقُول يَا حجر ثوبي فَذَلِك قَوْله(1/344)
تَعَالَى وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى فبرأه الله مِمَّا قَالُوا
ثمَّ لما مَاتَ هَارُون قَالُوا لَهُ أَنْت قتلت هَارُون وحسدته حَتَّى نزلت الْمَلَائِكَة بسريره وَهَارُون ميت عَلَيْهِ ثمَّ سالوه أَن يكون مَا نقدم من أَمْوَالنَا نعلم تقبلهَا فَجعلت نَار تَجِيء من السَّمَاء فَتقبل قُرْبَانهمْ
ثمَّ سَأَلُوهُ أَن يبين لنا كَفَّارَات ذنوبنا فِي الدُّنْيَا فَكَانَ من أذْنب ذَنبا أصبح وعَلى بَابه مَكْتُوب عملت كَذَا وكفارته قطع عُضْو من أعضائك يُسَمِّيه لَهُ وَمن أَصَابَهُ بَوْل لم يطهر حَتَّى يقْرضهُ ويزيل جلدته من بدنه
ثمَّ بدلُوا التَّوْرَاة من بعده وافتروا على الله وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِم ليشتروا بِهِ من الدُّنْيَا عرضا ثمَّ صَار أَمرهم إِلَى أَن قتلوا أَنْبِيَائهمْ عَلَيْهِم السَّلَام فَهَذِهِ معاملتهم مَعَ الله تَعَالَى وسيرتهم فِي دينهم قد انْكَشَفَ لنا عَن جواهرهم وأخلاقهم وحظوظهم عَن رَبهم بِمَا أنزل الله علينا من أخبارهم وَلمن كَانَ لَهُ فهم
وَأما ولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَجعل فيهم السخاء هم أولو الْأَخْلَاق السّنيَّة والمكارم ومنحهم من خزائنه تِلْكَ الْأَخْلَاق الطاهرة الَّتِي عَيْش أَهلهَا عَيْش أهل الْجنان فَإِن صَاحب الْأَخْلَاق قلبه فِي رَاحَة لِأَن نَفسه طيبَة كَرِيمَة وَصَاحب الضّيق قلبه معذب لِأَن نَفسه شكسة كزة يابسة فقيرة هَذَا من قبل أَن تأتيهم الْهِدَايَة فَلَمَّا جَاءَتْهُم الْهِدَايَة من الله تَعَالَى ورد على قُلُوب بني إِسْرَائِيل نور التَّوْحِيد وروحه وَتركُوا مَعَ مجاهدة نفس كزة يابسة ضيقَة وَورد على قُلُوب هَذِه الْأمة نور التَّوْحِيد وروحه وَنور الْيَقِين وروحه فقلوب بني إِسْرَائِيل مؤيدة بِالتَّوْحِيدِ معذبة بكزازة النَّفس وضيقها وَقُلُوب هَذِه الْأمة مؤيدة بِالتَّوْحِيدِ مستريحة بِنور(1/345)
الْيَقِين وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى} {قل إِن الْهدى هدى الله أَن يُؤْتى أحد مثل مَا أُوتِيتُمْ} {قل إِن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء} وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا {يخْتَص برحمته من يَشَاء}
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أَعْطَيْت أمة من الْيَقِين مثل مَا أَعْطَيْت أمتِي وَمثل من أعطي الْيَقِين وَمن حرم ذَلِك كَمثل شَجَرَة لَهَا غصنان والسقيا وَاحِد فَلَمَّا جرى المَاء إِلَى أحد الغصنين تحول طيبا بِإِذن الله تَعَالَى وَجرى فِي الْغُصْن الآخر فتحول ثمارا فَمن الثِّمَار حُلْو وحامض ومدخول وعفن وَمر فَمِنْهُ مَا ينْتَفع بِهِ وَمِنْه مَا ينفى فَيرمى بِهِ وَالطّيب يطيب بِهِ كل شَيْء من الْمَأْكُول والمشروب والملبوس والمركوب والمنكوح
فَهَذِهِ الْأمة نفوسها طيبَة أيدت بِروح الْيَقِين فَخرجت الْأَعْمَال طيبَة فِيهَا الهناءة والمراءة يهنأ بهَا الْحق ويستمرىء بهَا
فولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام لم يزَالُوا مذكورين بالسماحة والأخلاق السّنيَّة يطْعمُون الطَّعَام ويفكون العاني ويكفلون الْأَيْتَام ويرعون الذمام وهم فِي شركهم وَلم يُسَلط عَلَيْهِم أحد فيسبيهم ويستخسرهم وَلَا صَارُوا ملكا لأحد من الفراعنة حَتَّى أكْرمهم الله تَعَالَى ببعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصاغ مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صياغة برز على الْأَنْبِيَاء وَالرسل فَصَارَ(1/346)
سيدا لجَمِيع ولد آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَأنزل عَلَيْهِ كتابا مهيمنا على الْكتب أجمل فِيهِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَاخْتصرَ لَهُ الْكَلم وزاده الْمفصل وفاتحة الْكتاب وَآيَة الْكُرْسِيّ وخاتمة سُورَة الْبَقَرَة من كنزه الَّذِي ادخره لهَذِهِ الْأمة ووصفهم فِي التَّوْرَاة بمحاسنهم لبني إِسْرَائِيل من قبل أَن يخلقهم بآلاف من السنين ولعيسى عَلَيْهِ السَّلَام ولقومه فِي الْإِنْجِيل حَتَّى رُوِيَ فِي الحَدِيث أَن أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسمون فِي التَّوْرَاة صفوة الرَّحْمَن وَفِي الْإِنْجِيل حكماء عُلَمَاء أبرار أتقياء كَأَنَّهُمْ من الْفِقْه أَنْبيَاء
وَقَالَ عز وَجل فِي الْقُرْآن الْكَرِيم {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} الْآيَة تَصْدِيقًا لما فِي التَّوْرَاة صفوة الرَّحْمَن وَقَالَ {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَقَالَ عز وَجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} أَي عدلا لتكونا شُهَدَاء على النَّاس
أَي شُهَدَاء للرسل بالبلاغ عِنْدَمَا تجحد الْأُمَم تَبْلِيغ الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام رسالات الله تَعَالَى فَتشهد هَذِه الْأمة لنوح عَلَيْهِ السَّلَام فَمن دونه رَسُولا رَسُولا أَنهم أَدّوا الرسَالَة فَيحكم الله تَعَالَى بِشَهَادَتِهِم على سَائِر الْأُمَم ويتخلص الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام من أَمَانَة الرسَالَة وَذَلِكَ بعد مَا يعدلهم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا}
فَتكون شَهَادَة أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ مَقْبُولَة على جَمِيع الْأُمَم(1/347)
لجَمِيع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ أَعْطَاهُم سَيْفه ليقتلوا بِهِ أعداءه وَلَا يقتل أعداءه إِلَّا أولياؤه ثمَّ قَالَ {وَالله ولي الْمُؤمنِينَ}
فهم أَوْلِيَاء الله وَالله تَعَالَى وليهم وهم أهل حميته وأنصاره فدعوا إِلَى الْحَرْب فوضعوا السيوف على عواتقهم وربطوا الْحجر على بطونهم من الْجُوع والخرق على ظُهُورهمْ من العري وَقد هجروا أوطانهم ومقرهم وَحرم الله تَعَالَى عَدَاوَة فِي الله لأهل الشّرك وَخَرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ ونابذوا أرحامهم فِي الله حَتَّى كَانَ الرجل يقتل أَبَاهُ وأخاه فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح رَضِي الله عَنهُ مِمَّن قتل أَبَاهُ فَأنْزل الله تَعَالَى {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم}
ثمَّ أثنى عَلَيْهِم فَقَالَ {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ} الْآيَة
وَقَالُوا عِنْدَمَا استشارهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَيْء من أَمر الْحَرْب مرنا بِمَا شِئْت وسر بِنَا حَيْثُ شِئْت فَلَو سرت بِنَا الى برك الغماد لسرنا مَوضِع بعيد ذَكرُوهُ فوَاللَّه لَا نقُول لَك كَمَا قَالَت بَنو إِسْرَائِيل {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} الْآيَة
وافتتح خَيْبَر وغنم الْغَنَائِم فقسم فِي الْمُهَاجِرين وَلم يقسم فِي الْأَنْصَار لإنهم فِي أَمْوَالهم والمهاجرون خلفوا أَمْوَالهم بِمَكَّة وَكَانُوا فُقَرَاء(1/348)
فسمحت الْأَنْصَار بذلك وَكَانُوا حِين قدمُوا الْمَدِينَة ناصفوهم الْأَمْوَال وواسوهم بالكثير حَتَّى كَانَ الرجل يُطلق إِحْدَى امرأتيه ليتزوجها أَخُوهُ المُهَاجر
هَذَا كُله لحب الله تَعَالَى وَحب طَاعَته وَحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْظر أَي قُلُوب هَذِه وَأي شَيْء فِي هَذِه الْقُلُوب من منن الله تَعَالَى من خَزَائِن فَضله وَانْظُر أَي نفوس هَذِه شيمها وَأنْظر أَي أَخْلَاق لهَذِهِ النُّفُوس اللَّهُمَّ إِنَّا نتقرب إِلَيْك بحبهم فَإِنَّهُم أحبوك وَلم يحبوك حَتَّى أَحْبَبْتهم فبحبك إيَّاهُم وصلوا إِلَى حبك وَنحن لم نصل إِلَى حبهم فِيك إِلَّا بحظنا مِنْك فتمم لنا ذَلِك حَتَّى نلقاك بِهِ يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ وَأثْنى الله تَعَالَى على الْأَنْصَار رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ ومدح سرائرهم فَقَالَ عز وَجل {يحبونَ من هَاجر إِلَيْهِم وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا}
أَي لَا يَجدونَ ضيقا وَلَا بخلا وَلَا نفاسة فَمَا أُوتِيَ الْمُهَاجِرين من غنيمَة خَيْبَر وَلم يُؤْت الْأَنْصَار ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة
يخبر أَنه كَانَ بالأنصار فقر وحاجة إِلَى تِلْكَ الْغَنَائِم فآثروا الْمُهَاجِرين على أنفسهم ثمَّ أخبر أَن هَذَا من منَّة الله تَعَالَى على الْأَنْصَار أَن أمات مِنْهُم الْحِرْص وَهُوَ الشُّح فَقَالَ عز من قَائِل وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون
وَإِنَّمَا أمات مِنْهُم الْحِرْص بِمَا أَعْطَاهُم من الْيَقِين وَمَا يصنع من احتشى قلبه بِنور الله تَعَالَى وَيرى قربَة الله مِنْهُ بظلمات الدُّنْيَا وحطامها ولهوها وَسَار بهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى فتح مَكَّة وَهُوَ وطنهم وأرضهم(1/349)
المقدسة كَمَا سَار بهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَمَا تلكأ مِنْهُم شَاب وَلَا شيخ حَتَّى فتح الله عَلَيْهِم من غير أَن يمسهم سوء ثمَّ قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فابتعث الله تَعَالَى لهَذَا الدّين أَئِمَّة صديقين خلفاء الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وأوتاد الْحق يقومُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ فتفاوت الْأَمْرَانِ والشأنان شَأْن بني إِسْرَائِيل وشأن هَذِه الْأمة
عَن سَالم بن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ بَيْنَمَا رجلَانِ جالسان إِذْ قَالَ أَحدهمَا لقد رَأَيْت البارحة كل نَبِي فِي الأَرْض وَقَالَ آلاخر هَات قَالَ رَأَيْت كل نَبِي مَعَه أَرْبَعَة مصابيح مِصْبَاح من بَين يَدَيْهِ ومصباح من خَلفه ومصباح عَن يَمِينه ومصباح عَن يسَاره وَمَعَ كل صَاحب لَهُ مِصْبَاح ثمَّ رَأَيْت رجلا قَامَ أَضَاءَت لَهُ الأَرْض وكل شَعْرَة فِي رَأسه مِصْبَاح وَمَعَ كل صَاحب لَهُ أَرْبَعَة مصابيح مِصْبَاح من بَين يَدَيْهِ ومصباح من خَلفه ومصباح عَن يَمِينه ومصباح عَن يسَاره فَقلت من هَذَا قَالُوا مُحَمَّد بن عبد الله
قَالَ كَعْب رَضِي الله عَنهُ مَا هَذَا الحَدِيث الَّذِي تحدث بِهِ قَالَ رُؤْيا رَأَيْتهَا البارحة قَالَ وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ انها فِي كتاب الله كَمَا رَأَيْت
فبرز ولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وهم الْعَرَب بِمَا منحهم الله تَعَالَى من أخلاقه
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ ان لله مائَة وَسَبْعَة عشر خلقا من أَتَى بِوَاحِدَة مِنْهَا دخل الْجنَّة(1/350)
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْأَخْلَاق فِي الخزائن فاذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا منحه خلقا
أَلا يرى أَن الرجل المفرط فِي دينه المضيع لحقوقه يَمُوت وَقد كَانَ صَاحب خلق من هَذِه الْأَخْلَاق فتنطلق أَلْسِنَة الْعَامَّة بالثناء عَلَيْهِ والمؤمنون شُهَدَاء الله فِي الأَرْض كَذَلِك رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ مَاتَ رجل على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأثْنى عَلَيْهِ خير فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَبت ثمَّ مَاتَ آخر فأثني عَلَيْهِ شَرّ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَبت فَقيل لَهُ يَا رَسُول الله قلت لذَلِك وَجَبت وَقلت لهَذَا وَجَبت قَالَ إِنَّكُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض ثمَّ تَلا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا
إِذا مَاتَ صَاحب التَّخْلِيط انْطلق أَلْسِنَة الْمُؤمنِينَ بالثناء عَلَيْهِ فَيُقَال كَانَ سخي النَّفس فَيقبل الله شَهَادَتهم عَلَيْهِم ويدخله الْجنَّة بسخاوته وَيَمُوت أحدهم فَيُقَال كَانَ لينًا وَيُقَال كَانَ رحِيما وَيُقَال كَانَ حسن الْخلق وَيُقَال كَانَ حَلِيمًا وَيُقَال كَانَ رزينا وَكَانَ عطوفا أَو برا أَو متوددا وَكَانَ مواتيا منبسطا كَانَ سهلا كَرِيمًا كَانَ عفوا حمولا كَانَ عفيفا كَانَ شكُورًا كَانَ شجاعا صَارِمًا
فَهَذِهِ أَخْلَاق الله تَعَالَى أَكْثَرهَا مِمَّا تسمى بِهِ وَالَّذِي لم يتسم بِهِ فَهُوَ دَاخل فِيمَا تسمى بِهِ لِأَن اللين والرزانة من الْحلم وَالرَّحْمَة والعفاف من النزاهة وَالطَّهَارَة
فَمن منحه الله تَعَالَى وَاحِدَة من هَذِه الْأَخْلَاق يُعْطِيهِ نور ذَلِك الآسم(1/351)
الَّذِي تسمى بِهِ رَبنَا عز وَجل فيشرق نوره على قلبه وَفِي صَدره فَيصير لنَفسِهِ بذلك الْخلق بَصِيرَة فيعتادها ويتخلق بهَا فحقيق عَلَيْهِ إِذا أكْرمه بذلك أَن يهب لَهَا مساويه ويستره بمغفرته ويدخله الْجنَّة فَإِنَّهُ مَا أعطَاهُ ذَلِك حَتَّى أوجب لَهُ ذَلِك فِي غيبه
يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ بَيْنَمَا رجل لم يعْمل خيرا قطّ فَرفع غُصْن شَوْكَة من الطَّرِيق وَقَالَ لَعَلَّ مارا يمر بِهِ فيؤذيه فغفر الله لَهُ وَإِنَّمَا غفر لَهُ بِالرَّحْمَةِ الَّتِي فِي قلبه وبالعطف الَّذِي عطف على خلقه
وَجَاء عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ بَيْنَمَا رجل حُوسِبَ فَلم تُوجد لَهُ حَسَنَة فَقَالَ الله تَعَالَى اذكر شَيْئا كنت تَفْعَلهُ فِي الدُّنْيَا قَالَ العَبْد لَا أذكر شَيْئا إِلَّا أَنِّي كنت أسامح النَّاس وآمر غلماني أَن يسامحوهم فِي اقْتِضَاء مَالِي مِنْهُم فَيَقُول الله تَعَالَى فَأَنا أَحَق الْيَوْم أَن أسامحك
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى يحب كل عبد طلق سهل لين هَين وَحرمه على النَّار
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الراحمون يرحمهم الرَّحْمَن تبَارك وَتَعَالَى ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء(1/352)
وَقَالَ الْجنَّة دَار الأسخياء وَمَا جبل الله قطّ وليا لَهُ إِلَّا على السخاء ولجاهل سخي أحب إِلَى الله تَعَالَى من عَابِد بخيل
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حسن الْخلق ذهب بِخَير الدَّاريْنِ وَيدْرك بِهِ الرجل دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم
فَهَذِهِ أَخْلَاق الْعَرَب منحها الله تَعَالَى إيَّاهُم وطهرهم بِالتَّوْحِيدِ وطيبهم بِالْيَقِينِ فعبدوا الله كَأَنَّهُمْ يرونه فشرع الله تَعَالَى لَهُم أوسع الشَّرَائِع وأسمحها وَستر عَلَيْهِم ذنوبهم وَجعل خُرُوجهمْ مِنْهَا بالندم وَالِاسْتِغْفَار وَقَالَ لبني إِسْرَائِيل عاقبوا أبدانكم بذنوبكم فَاقْطَعُوا مِنْهَا كَذَا وَتَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا على أبوابكم وَقَالَ لنا تُوبُوا إِلَى الله أَي ارْجعُوا إِلَيّ بقلوبكم فِيمَا بيني وَبَيْنكُم وَقَالَ لَهُم قُولُوا حطة أَي حط عَنَّا وَقَالَ لنا قُولُوا اغْفِر لنا
فجوهر هَذَا الْكَلَام غير ذَلِك وَإِنَّمَا صَار هَذَا هَكَذَا لِأَن كَلَام كل قوم عِنْد رَبهم على مَا هم عَلَيْهِ فبنو إِسْرَائِيل لم يكن عِنْدهم من الْيَقِين مَا عِنْد هَذِه الْأمة فَلَمَّا أذنبوا قيل لَهُم قُولُوا حطة وَهَذِه الْأمة بِفضل يقينها استحيت من الله تَعَالَى من الذَّنب الَّذِي يعمله وَكَأَنَّهُ رأى نَفسه خَارِجا من ستر الله عُريَانا فَأعْطى الْكَلِمَة الَّتِي تكون دَوَاء لما حل بِهِ فَقيل لَهُ قل إغفر فَمن استحيا من ذَنبه وَرَأى نَفسه عَارِيا بَين يَدي الله تَعَالَى قيل لَهُ قل اغْفِر وَمن عجز عَن رُؤْيَة هَذَا قيل لَهُ قل حطة وَصَارَت صَدَقَاتهمْ عودا بهَا على فقرائهم فطابت نُفُوسهم بِمَا رَأَوْا على فقرائهم من فَضلهمْ وسكنت قُلُوبهم على الصَّدقَات أَنَّهَا تصير إِلَى الله(1/353)
تَعَالَى قَالَ الله تَعَالَى {أَن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَأْخُذ الصَّدقَات}
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الصَّدَقَة لتقع فِي يَد الله من قبل أَن يَأْخُذهَا السَّائِل
فرزقهم الله تَعَالَى من الْيَقِين مَا إِذا قبل لَهُم الشَّيْء سكنت قُلُوبهم فَكَانَ أحدهم يمشي بِصَدَقَتِهِ إِلَى السَّائِل لَا يكلها إِلَى غَيره ويقبلها من قبل أَن يَضَعهَا فِي يَده ليقينهم بِمن يَأْخُذهَا مِنْهُم
وَقيل إِن قُلُوب هَذِه الْأمة تأوي إِلَى ذكر الله كَمَا تحن الْحَمَامَة الى وَكرها ولهي أسْرع إِلَى الذّكر من ظمأ الْإِبِل يَوْم وردهَا الى المَاء وَأمرت بَنو إِسْرَائِيل أَن يضعوا فِي أرديتهم خيوطا خضرًا كي إِذا نظرُوا إِلَيْهَا ذكرُوا السَّمَاء فاذا ذكرُوا السَّمَاء ذكرُوا الْعَرْش فَيذكرُونَ الله تَعَالَى وَيَوْم الْوِفَادَة حَيْثُ اخْتَار مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سبعين رجلا لميقات الله تَعَالَى فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الْجَبَل أَعْطَاهُم الله تَعَالَى ثَلَاث خِصَال فِيمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر فَقَالَ أُعْطِيكُم الْحِفْظ لتقرؤها عَن قُلُوبكُمْ فَقَالُوا إِنَّا نحب أَن نَقْرَأ التَّوْرَاة نظرا فَقَالَ ذَلِك لأمة أَحْمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وأعطيكم السكينَة فِي قُلُوبكُمْ فَقَالُوا لَا نقدر على حملهَا فاجعلها لنا فِي تَابُوت فكلمنا مِنْهَا إِذا احتجنا قَالَ فَذَلِك لأمة أَحْمد قَالَ وأعطيكم أَن تصلوا من الأَرْض حَيْثُ أدركتم قَالُوا لَا نحب أَن يكون ذَلِك إِلَّا فِي كنائسنا قَالَ فَذَلِك لأمة أَحْمد فَكَانَ نوف البكائي إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث قَالَ احمدوا ربكُم الَّذِي شهد غيبتكم وَأخذ(1/354)
بحظكم وَجعل وفادة بني إِسْرَائِيل لكم فَجعل الله السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ وَجعل لَهُم الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا وَقرن الْحِفْظ بالعقول مِنْهُم ليقرءوا عَن قُلُوبهم
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْطَيْت أمتِي ثَلَاثًا لم يُعْط أحد صُفُوف الصَّلَاة وتحية أهل الْجنَّة وآمين الا مَا أعطي مُوسَى وَهَارُون من قَوْله آمين وَكَانَ من قبلهم يتفرقون فِي الصَّلَاة وُجُوه بَعضهم إِلَى بعض وقبلتهم الى الصَّخْرَة وَإِذا لَقِيَهُمْ لَقِي أحدهم أَخَاهُ انحنى لَهُ بدل السَّلَام يخضع لَهُ وَفِيه مُؤنَة يُرِيد بذلك أَمَانه فأعطينا تَحْتَهُ أهل الْجنَّة أَن يَقُول أحدهم بِلِسَانِهِ فيؤمنه وَجعل سيماء عبودتنا يَوْم الْقِيَامَة على وُجُوههم وأطرافهم غرا من السُّجُود محجلين من الْوضُوء وَقد سجدت الْأُمَم من قبلهم فَلم يظْهر على جباههم وَلَا على أَطْرَافهم وَتلك بِشَارَة أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْموقف وبهم يعْرفُونَ وهم أهل الله وخاصنته قيل يَا رَسُول الله من أهل الْجنَّة قَالَ أهل الْقُرْآن وَمَا زَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول يَا رب إِنِّي أجد فِي الألواح أمة لَهُم كَذَا ويعملون كَذَا فاجعلهم أمتِي وَيَقُول الله تَعَالَى هم أمة أَحْمد حَتَّى قَالَ فِيمَا رُوِيَ يَا لَيْتَني كنت مَعَهم غِبْطَة بهم
وَفِي الْخَبَر عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام اشتاق إِلَى رُؤْيَتهمْ فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ بطور سيناء أَتُحِبُّ أَن أسمعك أَصْوَاتهم فَقَالَ نعم يَا رب فَنَادَى يَا أمة أَحْمد فَأَجَابُوهُ من الأصلاب لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك فَقَالَ أَعطيتكُم قبل أَن تَسْأَلُونِي وأجبتكم قبل أَن تَدعُونِي ورحمتكم قبل أَن تعصوني وغفرت لكم قبل أَن تستغفروني من لَقِيَنِي مِنْكُم يشْهد ان لَا إِلَه إِلَّا أَنا وَأَن مُحَمَّدًا عَبدِي(1/355)
ورسولي أدخلته جنتي فَذَلِك قَوْله تَعَالَى وَمَا كنت بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا وَلَكِن رَحْمَة من رَبك
يمن على نبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي لم تكن يَا مُحَمَّد بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا أمتك وَلَكِن كَانَت مني رَحْمَة عَلَيْهِم قبل أَن أخلقهم فالعرب رَأس الْأمة وسابقها الى المكارم قَالَ الله تَعَالَى {لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذْ بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم} وَقَالَ وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه وَقَالَ وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك وسوف تسئلون أَي شرف لَك ولقومك حَيْثُ خاطبتهم بِالْوَحْي وسوف تسئلون عَن شكر هَذَا الشّرف
والعجم وَإِن شاركوا الْعَرَب فِي مَنَاقِب هَذِه الْأمة لَكَانَ السَّبق للْعَرَب وَتلك الْأَخْلَاق غير مَوْجُودَة فِي الْعَجم إِلَّا فِي الْوَاحِد بعد الْوَاحِد تخلقا لَا طبعا وبلغنا أَن كنَانَة كَانَ إِذا لم يجد من يَأْكُل مَعَه وضع بَين يَدَيْهِ حجرا فَأكل لقْمَة وَألقى إِلَيْهِ لقْمَة أَنَفَة أَن يَأْكُل وَحده وَكَانَت مائدة عبد الْمطلب مَوْضُوعَة وَكَانَ يرفع مِنْهَا للطير وَالسِّبَاع فِي رُؤُوس الْجبَال وَكَانَ سَوط أدبه مُعَلّقا حَيْثُ يرَاهُ السَّفِيه يؤدبهم بذلك
عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي دَعَوْت الْعَرَب فَقلت اللَّهُمَّ من لقيك مِنْهُم مُؤمنا موقنا مُصدقا بلقائك فَاغْفِر لَهُ أَيَّام حَيَاته وَهِي دَعْوَة أَبينَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ولواء الْحَمد بيَدي يَوْم الْقِيَامَة وَمن أقرب النَّاس إِلَى لِوَائِي يَوْمئِذٍ الْعَرَب(1/356)
وَمِمَّا يُحَقّق مَا قُلْنَا قَول الله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم} الْآيَة ثمَّ قَالَ {وَآخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم} ثمَّ قَالَ {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء}
فهم الرَّأْس وَنحن مِنْهُم لَا أَنهم منا وَالْفضل لَهُم بِمَا منحهم الله تَعَالَى من الْأَخْلَاق لَا بِمُجَرَّد اللِّسَان فَمن لم يُوجد فيهم بِهَذِهِ الْأَخْلَاق فَهُوَ هجين والهجنة ضائرة جدا حَتَّى فِي الْخَيل فَكيف فِي الْآدَمِيّين وبلغنا أَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أرسل الْخَيل من صنعاء إِلَى تدمر فَتقدم فرسَان من الْخَيل فَقَالَ الْمَسْبُوق للسابق لَوْلَا هجنة فِي أدركتني من ثَمَانِي عشرَة جدة مَا سبقتني(1/357)
- الأَصْل الثَّامِن وَالسِّتُّونَ
-
فِي الْأَمر بِالْعقدِ بالأنامل فِي الذّكر
-
عَن حميضة بنت يَاسر عَن جدَّتهَا يسيرَة رضوَان الله عَلَيْهِنَّ أخْبرتهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرهن أَن يراعين الشَّمْس بالتسبيح وَالتَّقْدِيس والتهليل وَأَن يعقدن بالأنامل فَإِنَّهُنَّ مسئولات ومستنطقات
وَعَن حميضة عَن جدَّتهَا يسيرَة رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَت دخل علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن نُسَبِّح بالسبح فَقَالَ ألقين أَو دعن عنكن وعليكن بالأنامل فسبحن بهَا فَإِنَّهُنَّ مسئولات مستنطقات
مُرَاعَاة الشَّمْس مراقبة وَقت طُلُوعهَا وغروبها وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وسبحوه بكرَة وَأَصِيلا
وَالتَّقْدِيس هُوَ التَّنْزِيه وَهُوَ التَّكْبِير والتهليل هُوَ التَّوْحِيد وَالْعقد بالأنامل من أجل أَنَّهَا تنطق وَتشهد لصَاحِبهَا
أما الْمُؤمن فَتَنْطِق عَنهُ بِخَير وتصمت عَن السوء سترا من الله تَعَالَى(1/358)
عَلَيْهِ وَأما الْكَافِر فَتَنْطِق عَنهُ بالسوء وتصمت عَن محاسنه لِأَنَّهُ لغير الله فَهُوَ هباء منثور
قَالَ الله تَعَالَى {شهد عَلَيْهِم سمعهم وأبصارهم وجلودهم}
كنى بالجلود عَن الْفروج وَقَالُوا لجلودهم لم شهدتم علينا رجعُوا باللوم على الْفروج لِأَن الْأَمر فِيهِ أَشد والعار أَكثر
ثمَّ بَين بقوله أنطقنا الله الْآيَات أَنَّهَا تشهد على من لم يعرف الله
فَأَما الْمُؤمن فَهُوَ يعلم أَن الله تَعَالَى مطلع عَلَيْهِ فيتوب ويستغفر وَإِنَّمَا يُعَامل الْمُشرك بِمثل هَذِه الْأَشْيَاء فَإِنَّهُ لَا يعرف الله تَعَالَى معرفَة الْمُوَحِّدين بل معرفَة الْمُشْركين
وَمَعْرِفَة الْمُشْركين معرفَة الْفطْرَة فَلَيْسَ لأحد أَن يُنكره وَمَعْرِفَة الْمُؤمنِينَ معرفَة التَّوْحِيد والتنزيه قَالَ الله تَعَالَى وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون وَقَالَ عز من قَائِل قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا الْآيَات إِلَى قَوْله فَأنى تسحرون سحرتهم أهواؤهم وانقلبت بهم عَن الله تَعَالَى منكوسين لم يمن الله تَعَالَى عَلَيْهِم بِنور التَّوْحِيد وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور(1/359)
- الأَصْل التَّاسِع وَالسِّتُّونَ
-
فِي أَن حق الْمُؤمن على الْمُؤمن سِتّ خِصَال
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط وَمن تبعها حَتَّى يفرغ من أمرهَا فَلهُ قيراطان أَحدهمَا أَو أصغرهما مثل أحد
فالقيراط سدس المثقال فِيمَا نرى أَنه كَانَ عِنْد الْقَوْم فِي ذَلِك الزَّمَان وَقد تغير بناحيتنا فِي عصرنا
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن للْمُسلمِ على الْمُسلم سِتّ خِصَال يجِيبه إِذا دَعَاهُ وَيسلم عَلَيْهِ إِذا لقِيه ويعوده إِذا مرض وَيُصلي عَلَيْهِ إِذا مَاتَ وينصحه إِذا استنصحه ويشمته إِذا عطس(1/360)
فَذكر القيراط يعلمك أَنه إِذا صلى عَلَيْهِ فقد قضى سدس حَقه وَأما القيراط الآخر بدفنه أَو انْتِظَاره حَتَّى يدْفن فَذَاك من النَّصِيحَة لَهُ وَهِي إِحْدَى الْخِصَال السِّت وَمن النَّصِيحَة أَن يكون فِي المشهد والمغيب على حَالَة وَاحِدَة(1/361)
- الأَصْل السبعون
-
فِي فضل الشَّهِيد وكرامته على الله عز وَجل
عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَقِيَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا جَابر مَا لي أَرَاك منكسرا قلت يَا رَسُول الله اسْتشْهد أبي وَعَلِيهِ دين وَترك عيالا ودينا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَفلا أُبَشِّرك بِمَا لَقِي الله بِهِ أَبَاك قلت بلَى يَا رَسُول الله قَالَ مَا كلم الله أحدا قطّ إِلَّا من وَرَاء حجاب وَأَنه أَحْيَا أَبَاك فَكَلمهُ كفاحا فَقَالَ تَعَالَى يَا عَبدِي تمن عَليّ أُعْطِيك قَالَ يَا رب تحييني فأقتل فِيك قَالَ الله تَعَالَى سبق مني أَنهم إِلَيْهَا لَا يرجعُونَ وَنزلت وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ كفاحا أَي وجاها وَهُوَ كَقَوْلِه شفاها إِلَّا أَن الشفاه للمخلوقين
والكفاح لَهُ غير مَوْصُوف بالأدوات وَفِيه مَا يدل على أَن قَوْله(1/362)
وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب أَن هَذَا فِي الدُّنْيَا
أما فِي الْآخِرَة فلأهل الْجنان الْحَظ من الْكَلَام كفاحا لما بذل نَفسه لله تَعَالَى سَاعَة فَازَ بِهَذِهِ الدرجَة فَكيف بالصديقين الَّذين بذلوا نُفُوسهم عمرا وتمنيه أَن يحيى لِأَنَّهُ وجد لَذَّة بذله لنَفسِهِ حِين قتل وَإِنَّمَا بذل نفسا خاطئة قد تدنست بِالذنُوبِ فَأحب أَن يبذلها ثَانِيَة طَاهِرَة(1/363)
- الأَصْل الْحَادِي السبعون
-
فِي بَيَان الْمُنَافَاة بَين اللّعان وَالصديق
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يكون اللعانون شُهَدَاء وَلَا شُفَعَاء
اللّعان متعسف لِأَن اللَّعْنَة مستأصلة فَإِن أُجِيب الى ذَلِك فقد أهلك وَإِن لم يجب فقد عمل عمله من الافراط والتعسف فَهُوَ جَائِر والجائر لَا شَهَادَة لَهُ
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يكون اللعانون شُهَدَاء لما عِنْدهم من الأحنة والعداوة والجور وَلَا يكونُونَ شُفَعَاء لِأَن قُلُوبهم خَالِيَة من الرَّحْمَة
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يدْخل الْجنَّة وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ أحدكُم حَتَّى يرحم الْعَامَّة كَمَا يرحم أحدكُم خويصته
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنهُ قَالَت سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يلعن بعض رَقِيقه فَالْتَفت إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ يَا أَبَا بكر لعانين وصديقين كلا وَرب الْكَعْبَة فَأعتق أَبُو بكر يَوْمئِذٍ بعض رَقِيقه وَجَاء إِلَيْهِ فَقَالَ لَا أَعُود إِلَيْهِ يَا رَسُول الله(1/364)
- الأَصْل الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ
-
فِي الذّكر الْخَفي
عَن حَنْظَلَة الأسيدي وَكَانَ من كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَقِيَنِي أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ كَيفَ أَنْت يَا حَنْظَلَة قلت نَافق حَنْظَلَة يَا أَبَا بكر قَالَ سُبْحَانَ الله مَا تَقول قلت نَافق حَنْظَلَة قَالَ مِم ذَاك قلت نَكُون عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيذكرنا بِالْجنَّةِ وَالنَّار حَتَّى كأنا رَأْي عين أَو كأنا نراهما فَإِذا خرجنَا من عِنْده عافسنا الْأزْوَاج وَالْأَوْلَاد والضيعات فَفَزعَ أَبُو بكر فَقَالَ وَالله إِنَّا لنلقى مثل هَذَا فَانْطَلَقت أَنا وَأَبُو بكر حَتَّى دَخَلنَا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا رَآنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَيفَ أَنْت يَا حَنْظَلَة قلت نَافق حَنْظَلَة يَا رَسُول الله قَالَ مِم ذَاك قلت نَكُون عنْدك يَا رَسُول الله فتذكرنا بِالْجنَّةِ وَالنَّار حَتَّى كأنا رَأْي عين حَتَّى اذا خرجنَا من عنْدك عافسنا الْأزْوَاج وَالْأَوْلَاد والضيعات فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالَّذِي(1/365)
نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّكُم لَو تدومون على مَا تَكُونُونَ عِنْدِي فِي الذّكر لصافحتكم الْمَلَائِكَة على فرشكم وطرقكم وَلَكِن يَا حَنْظَلَة سَاعَة وَسَاعَة
الذّكر المذهل للنفوس إِنَّمَا يَدُوم سَاعَة ثمَّ يَنْقَطِع وَلَوْلَا ذَاك لما انْتفع بالعيش وَالنَّاس فِي الذّكر على طَبَقَات فَمنهمْ من يَدُوم لَهُ ذكره فِي وَقت الذّكر ثمَّ تعلوه غَفلَة حَتَّى يَقع فِي التَّخْلِيط وَهُوَ الظَّالِم وَمِنْهُم من يَدُوم لَهُ ذكره فِي وَقت الذّكر ثمَّ تعلوه مَعْرفَته بسعة رَحْمَة الله وَحسن مُعَامَلَته مَعَ عباده فتطيب نَفسه بذلك فيصل إِلَى معاشه وَهُوَ المقتصد على سبل الاسْتقَامَة
وَأما أهل الْيَقِين وهم السَّابِقُونَ المقربون جاوزوا هَذِه الخطة وَلَهُم دَرَجَات فأولها الخشية يمنتع بهَا من جَمِيع مَا كره الله تَعَالَى دق أَو جلّ والخشية من الْقرْبَة وَالْعلم بِاللَّه فَإِذا علم لزمَه خوف العظمة لَا خوف الْعقَاب وَإِذا كَانَ الْخَوْف لَازِما للقلب غشاه بالمحبة فَيكون بالخوف معتصما مِمَّا كره وبالخشية وبالمحبة منبسطا فِي أُمُوره إِذْ لَو ترك مَعَ الْخَوْف لانقبض وَعجز عَن كثير من أُمُوره وَلَو ترك مَعَ الْمحبَّة لَا ستبد وتعدى لكنه لطف لَهُ فَجعل الْخَوْف بطانته والمحبة ظهارته حَتَّى يَسْتَقِيم بِهِ قلبه ثمَّ يرقيه الى مرتبَة أُخْرَى وَهِي الهيبة والأنس فالهيبة من جَلَاله والأنس من جماله فاذا نظر الى جلا لَهُ هاب وانقبض وَلَو ترك هَكَذَا لصار عَاجِزا فِي جَمِيع أُمُوره كجنة بِلَا روح وَإِذا نظر الى جماله امْتَلَأَ كل عرق مِنْهُ فَرحا وسرورا وَلَذَّة ونعيما لامتلاء قلبه وَلَو ترك(1/366)
هَكَذَا أَدَّاهُ الى التَّعَدِّي والافراط لكنه لطف لَهُ فَجعل الهيبة شعاره والأنس دثاره حَتَّى يَسْتَقِيم بِهِ قلبه فَهُوَ عبد ظَاهره الْأنس بِاللَّه تَعَالَى وباطنه الهيبة من الله تَعَالَى ثمَّ يرقيه إِلَى مرتبَة أُخْرَى وَهِي مرتبَة الِانْفِرَاد بِاللَّه قربه الْقرْبَة الْعُظْمَى وَأَدْنَاهُ وَمكن لَهُ بَين يَدَيْهِ ونقاه وَفتح لَهُ الطَّرِيق إِلَى وحدانيته فَهُوَ نَاظر إِلَى فردانيته فأحياه الله تَعَالَى بِهِ وَاسْتَعْملهُ فبه ينْطق وَبِه يعقل وَبِه يعلم وَبِه يعْمل وَقد جَاوز مقَام الهيبة والانس الى مقَام الْأُمَنَاء وَيصير سيد الْأَوْلِيَاء والعارفين وأمان أهل الأَرْض ومنظر أهل السَّمَاء وخاصة الله تَعَالَى وَمَوْضِع نظره وَمَوْضِع سره وَهُوَ سَوط الله فِي خلقه يُؤَدب بِهِ عباده وَبِه يحيي الْقُلُوب الْميتَة وَبِه يرحم أهل الأَرْض وَبِه يمطر ويرزق وَيدْفَع عَنْهُم الْبلَاء مِفْتَاح الْهدى وسراج الأَرْض وَهُوَ شِفَاء الأدواء وَإِمَام الْأَطِبَّاء كَلَامه قيد الْقُلُوب وَنَظره شِفَاء النُّفُوس وإقباله قهر الْأَهْوَاء فَهُوَ ربيع يزهر بنوره وخريف يجتنى ثماره وكهف يلجأ إِلَيْهِ ومعدن يؤمل مَا لَدَيْهِ وَفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل وَهُوَ الْوَلِيّ الْعَارِف وَالصديق المقرب والفاروق الْمُجْتَبى وَاحِد الله فِي أرضه كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام اللَّهُمَّ أَنْت الْوَاحِد فِي السَّمَاء وَأَنا الْوَاحِد فِي الأَرْض
وَقد قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يكون فِي هَذِه الْأمة رجال قُلُوبهم على قلب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام
وَقَوله سَاعَة وَسَاعَة أَي سَاعَة للذّكر وَسَاعَة للنَّفس فساعة الذّكر تكون الْجنَّة وَالنَّار رَأْي عينه وَسَاعَة يقبل على المعاش ومرمته لِأَن الْقلب رُبمَا عجز عَن احْتِمَال مَا يحل بِهِ فَيحْتَاج الى مزاج أَلا ترى أَن مَا روى أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لما انْتَهَيْت الى السِّدْرَة إِذا وَرقهَا مثل آذان الفيلة وَإِذا نبقها أَمْثَال القلال فَلَمَّا غشيها من أَمر الله تَعَالَى مَا غشيها تحولت ياقوتا وَفِي رِوَايَة حَال دونهَا فرَاش(1/367)
من ذهب وَفِي رِوَايَة رَأَيْت النُّور الْأَعْظَم ولط دوني الْحجاب رفرفنا الدّرّ والياقوت فَأوحى إِلَيّ مَا شَاءَ أَن يوحي
لما لم يعم بَصَره للنور عورض بالزبرجد والياقوت وفراش الذَّهَب حَتَّى يقوى ويستقر كَأَنَّهُ شغل قلبه بِهَذَا المزاج عَمَّا رأى حَتَّى لَا ينفر ويجد قرارا وَيقدر احْتِمَاله فَكَانَ هَذَا من تَدْبِير الله تَعَالَى للعبيد وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطْلبُونَ تِلْكَ السَّاعَة حَتَّى قَالَ معَاذ رَضِي الله عَنهُ لرجل تعال نؤمن سَاعَة فَذكر ذَلِك الرجل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَول معَاذ وَقَالَ يَا رَسُول الله أَو مَا نَحن بمؤمنين فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دع عَنْك قَول معَاذ فَإِن الله تَعَالَى يباهي بِهِ الْمَلَائِكَة
ولهذه قَالَ عبد الله بن رَوَاحَة لأبي الدَّرْدَاء يَا عُوَيْمِر تعال نؤمن سَاعَة فللقلب أسْرع انقلابا من الْقدر حِين تغلي وَإِنَّمَا الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الْقَمِيص بَيْنَمَا أَنْت لبسته إِذْ أَنْت نَزَعته
وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن
أَي أَنه إِذا فعل ذَلِك فقد خلع الْقَمِيص وَوَضعه نَاحيَة وَإِذا تَابَ وَرجع إِلَيْهِ بِالصّدقِ كَسَاه وَألبسهُ ذَلِك الْقَمِيص فَكَانَ هَذَا الْإِيمَان عِنْدهم اسْتِقْرَار ذَلِك النُّور وإشراقه فِي صُدُورهمْ حَتَّى تصير الْآخِرَة وَأمر الملكوت لَهُم مُعَاينَة فَمنهمْ من هَذَا النُّور لَهُ دَائِم فتدوم لَهُ مُعَاينَة أُمُور(1/368)
الْآخِرَة وَأمر الملكوت وَهُوَ مَعَ ذَلِك يصاحب الْأزْوَاج وَالْأَوْلَاد ويرم المعاش وعددهم فِي كل زمَان قَلِيل قَالَ الله تَعَالَى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون فِي جنَّات النَّعيم ثلة من الْأَوَّلين فالثلة الْجَمَاعَة وهم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام
وختمت النُّبُوَّة برسولنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَقَلِيل من الآخرين} وهم الْأَوْلِيَاء عَددهمْ قَلِيل فِي كل زمَان
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي كل قرن من أمتِي سَابِقُونَ وهم البدلاء وَالصِّدِّيقُونَ بهم يسقون وبهم يرْزقُونَ وبهم يدْفع الْبلَاء عَن أهل الأَرْض(1/369)
- الأَصْل الثَّالِث وَالسَّبْعُونَ
-
فِي خِصَال سَأَلَهَا سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام
عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لما فرغ سُلَيْمَان عَن بِنَاء بَيت الْمُقَدّس سَأَلَ ربه حكما يُصَادف حكمه وملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده وَأَن لَا يَأْتِي أحد هَذَا الْبَيْت لَا يُرِيد إِلَّا الصَّلَاة فِيهِ إِلَّا خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما اثْنَتَانِ فقد أعطيهما وَأما الثَّالِثَة فأرجو أَن يكون قد أعْطى
قَوْله حكما يُصَادف حكمه مَعْنَاهُ أَن يحكم بَين عباد الله بِمَا يُصَادف حكم الله تَعَالَى لِأَن أُمُور الْعباد فِي الْغَيْب وَإِنَّمَا أمروا أَن يعملوا بِالظَّاهِرِ عِنْدهم بِالشَّاهِدِ أَو الْيَمين وَرُبمَا كَانَ شَاهد زورا أَو كَانَ فِي يَمِينه كَاذِبًا فَلَيْسَ على الْحَاكِم إِلَّا الحكم بِمَا يظْهر عِنْدهم ويكلهم فِيمَا غَابَ عَنْهُم إِلَى الله تَعَالَى وَأما سُؤَاله ملكه لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده فَإِن أحباب الله وخاصته يتنافسون فِي الْمنزلَة عِنْده ويغار أحدهم أَن يتقدمه(1/370)
غَيره من نظرائه قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث الْمِعْرَاج لقِيت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّمَاء السَّادِسَة فَلَمَّا جاوزته بَكَى وَقَالَ يزْعم بَنو إِسْرَائِيل أَنِّي أكْرم ولد آدم على الله عز وَجل وَقد جاوزني
فللأنبياء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام تنافس فِي مَحل الْقرْبَة وَحقّ لَهُم ذَلِك فَسخرَ الله لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء حَيْثُ أصَاب أَي ليته مَعَ قوتها وشدتها حَتَّى لَا تضر بِأحد وتحمله بعسكره وَجُنُوده وموكبه وَكَانَ موكبه فِيمَا رُوِيَ فرسخا فِي فَرسَخ مائَة دَرَجَة بَعْضهَا فَوق بعض فِي كل دَرَجَة صنف من النَّاس وَهُوَ فِي أَعلَى دَرَجَة مِنْهُ مَعَ جواريه وحشمه وخدمه وَكَانَت الرّيح تحمله بِهَذَا الموكب فَتَهْوِي بِهِ فِي الجو مسيرَة شهر فِي غَدَاة وَاحِدَة ومسيرة شهر فِي رواح وَاحِد قَالَ الله تَعَالَى {غدوها شهر ورواحها شهر}
وَكَانَت الرّيح لَا تدع كلمة يتَكَلَّم بهَا إِلَّا ألقتها فِي إِذْنه وَعلم منطق الطير وَمر بوادي فَقَالَت نملة يَا أَيهَا النَّمْل ادخُلُوا مَسَاكِنكُمْ لَا يحطمنكم سُلَيْمَان وَجُنُوده وهم لَا يَشْعُرُونَ
فمرت بِهِ الرّيح فألقته فِي مسامعه وسخر لَهُ الْجِنّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخذت لَيْلَة شَيْطَانا فخنقته حَتَّى وجدت برد لِسَانه ولهاته على يَدي فَأَرَدْت أَن أربطه على سَارِيَة فِي الْمَسْجِد لتنظروا إِلَيْهِ إِذا أَصبَحت(1/371)
ثمَّ ذكرت دَعْوَة أخي سُلَيْمَان فتركته وَكَانَ لكل نَبِي دَعْوَة فَجَعلهَا سُلَيْمَان فِي ذَلِك وأخرها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمته
وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عقيل رَضِي الله عَنهُ قَالَ انْطَلَقت فِي وَفد إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأتيناه فَقَالَ قَائِل منا يَا رَسُول الله أَلا سَأَلت رَبك ملكا كملك سُلَيْمَان فَضَحِك ثمَّ قَالَ فَلَعَلَّ لصاحبكم عِنْد الله أفضل من ملك سُلَيْمَان إِن الله عز وَجل لم يبْعَث نَبيا إِلَّا أعطَاهُ دَعْوَة فَمنهمْ من اتخذ بهَا دينا فأعطيها وَمِنْهُم من دَعَا بهَا على قومه إِذا عصوه فأهلكوا بهَا وَإِن الله تَعَالَى أَعْطَانِي دَعْوَة اختبأتها عِنْد رَبِّي شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة فَلِكُل نَبِي دَعْوَة مجابة وَسليمَان عَلَيْهِ السَّلَام مَا سَأَلَ الدُّنْيَا لنَفسِهِ وَإِنَّمَا سَأَلَهَا لله تَعَالَى
وَكَانَ رَسُولنَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَل شَيْئا من الدُّنْيَا وَلم يسْأَل كلهَا قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَل أوسع رِزْقِي عِنْد كبر سني
وَكَانَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ إهلاك الدُّنْيَا فَقَالَ رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا فغرقت الدُّنْيَا كلهَا بدعوته وَإِنَّمَا سَأَلَ إهلاكها لله تَعَالَى لَا لنَفسِهِ فَأُجِيب الى ذَلِك
وَأما رَسُولنَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخرها لتَكون تِلْكَ الْحَاجة مقضية لَهُ فِي الْيَوْم(1/372)
الَّذِي يعز فِيهِ الْعَفو وَيظْهر الْجُود وَالْكَرم من رَبنَا وَمَا يقْضِي لَهُ هُنَاكَ فالخلق إِلَيْهِ أحْوج مِنْهُ فِي هَذِه الدُّنْيَا مِمَّا سَأَلَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّمَا سَأَلَهُ مملكة الدُّنْيَا وَقد كَانَ أَبَوَاهُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام مِمَّن عرضت عَلَيْهِ الْخلَافَة فقبلها وَكَانَ حَاكم الله فِي أرضه
وَعرضت على لُقْمَان فَأبى فَأعْطِي الْحِكْمَة فَكَانَ حَكِيم الله فِي أرضه قَالَ الله تَعَالَى وَلَقَد آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة أَن اشكر لله
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لُقْمَان كَانَ عبدا كثير التفكر حسن النّظر كثير الصمت أحب الله فَأَحبهُ الله فَمن عَلَيْهِ بالحكمة نُودي بالخلافة قبل دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَقيل لَهُ يَا لُقْمَان هَل لَك أَن يجعلك الله خَليفَة فِي الأَرْض تحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ قَالَ لُقْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِن جبرني رَبِّي قبلت فَإِنِّي أعلم إِن فعل ذَلِك بِي أعانني وَعَلمنِي وعصمني وَإِن خيرني رَبِّي قبلت الْعَافِيَة وَلم أسأَل الْبلَاء فَقَالَت الْمَلَائِكَة بِصَوْت لَا يراهم يَا لُقْمَان لم قلت هَكَذَا قَالَ لِأَن الْحَاكِم بأشد الْمنَازل وأكدرها يَغْشَاهُ الظُّلم من كل مَكَان فيخذل أَو يعان وَإِن أصَاب فبالحري أَن ينجو وَلَئِن أَخطَأ أَخطَأ طَرِيق الْجنَّة وَمن يكن فِي الدُّنْيَا ذليلا خير من أَن يكون شريفا ضائعا وَمن يخْتَار الدُّنْيَا على الْآخِرَة فَاتَتْهُ الدُّنْيَا وَلَا يصير إِلَى ملك الْآخِرَة فعجبت الْمَلَائِكَة لحسن مَنْطِقه فَنَامَ نومَة فغط بالحكمة غطا فانتبه فَتكلم بهَا ثمَّ نُودي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام بعده بالخلافة فقبلها وَلم يشْتَرط شَرط لُقْمَان فَأَهوى فِي الْخَطِيئَة فصفح الله عَنهُ وَتجَاوز
وَكَانَ لُقْمَان يوازره بِعِلْمِهِ وحكمته فَقَالَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام(1/373)
طُوبَى لَك يَا لُقْمَان أُوتيت الْحِكْمَة وصرفت عَنْك البلية وأوتي دَاوُد الْخلَافَة وابتلي بالرزية والفتنة فَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام يحكم بَين خلقه قَالَ الله تَعَالَى وشددنا ملكه وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب
وسخرت لَهُ الْجبَال ليسبحن مَعَه بالْعَشي وَالْإِشْرَاق وَالطير كي يزْدَاد قُوَّة على إسعاد الْجبَال وَالطير لَهُ بذلك فَلَا يفتر فَتْرَة الْآدَمِيّين فَإِن فِي الإسعاد قُوَّة قَالَ الله تَعَالَى {يَا جبال أوبي مَعَه وَالطير} ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وألنا لَهُ الْحَدِيد} فَجعل الْحَدِيد فِي يَده كالعجين يعْمل الدروع فَجعل قوته ومطعمه مِنْهَا ليَكُون من كديده
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَنه كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يرْتَفع لَهُ كل يَوْم درع فيبيعه بِسِتَّة آلَاف فينفق على بني إِسْرَائِيل أَرْبَعَة آلَاف وعَلى عِيَاله أَلفَيْنِ فأوتي دَاوُد مَا أُوتِيَ ثمَّ قيل لَهُ {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا}
وَأعْطِي سُلَيْمَان منطق الطير وَالرِّيح وَعين الْقطر أسيلت لَهُ ثَلَاثَة أَيَّام فَاتخذ مِنْهَا تماثيل على صور الرِّجَال من النّحاس
رُوِيَ عَن إِبْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى وتماثيل قَالَ اتخذ سُلَيْمَان تماثيل من نُحَاس فَقَالَ يَا رب انفخ فِيهَا الرّوح فَإِنَّهَا أقوى على الْخدمَة فَنفخ الله فِيهَا الرّوح فَكَانَت تخدمه وَكَانَ اسبنديار من بقاياهم
فَلَمَّا انْتَهَت خلَافَة دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ أَن يسْتَخْلف ابْنه سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُ سُلَيْمَان أبحب الْوَلَد تفعل هَذَا أم(1/374)
بِشَيْء أَمرك الله تَعَالَى قَالَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام بحب الْوَلَد فَأبى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أَن يقبلهَا حَتَّى أمره الله تَعَالَى بذلك قَالَ تَعَالَى وَورث سُلَيْمَان دَاوُد
وَجعل الله تَعَالَى السَّيْف فِي يَد مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والرعب جنده يرعب مِنْهُ الْعَدو مسيرَة شهر وَجعل قوته ومطعمه من الْغَنَائِم فَقيل لداود عَلَيْهِ السَّلَام خُذ هَذَا الْحَدِيد فقد ألنتها لَك من عطفي عَلَيْك لتعمل مِنْهُ دروعا فَيكون مِنْهَا رزقك وَقيل لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُذ هَذَا الْحَدِيد الَّذِي قد حددتها من سلطاني فَاضْرب بهَا رِقَاب أعدائي وصيرت أَمْوَالهم نحلة وطعمة خصصتك بهَا من بَين الْخلق وَلم تكن لأحد قبلك ثمَّ قَالَ حَلَالا طيبا وَفِي السَّيْف عز وسلطان وَملك لَيْسَ فِي التِّجَارَة ذَلِك فَأَنت تُجَاهِد أعدائي لي وتملك مَا خولتهم فتأخذ مِنْهُم ذَلِك على سَبِيل الْقَهْر وَأَنا مَعَك فِي النُّصْرَة
فلمحمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا تكرمة الْعِزّ وَالسُّلْطَان ولداود عَلَيْهِ السَّلَام تكرمة الْعَطف أَن لَان لَهُ الْحَدِيد
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى بَعَثَنِي بِالسَّيْفِ بَين يَدي السَّاعَة حَتَّى يعبد الله وَحده لَا شريك لَهُ وَجعل رِزْقِي تَحت ظلّ رُمْحِي وَجعل الذلة على من خَالف أَمْرِي وَمن تشبه بِقوم فَهُوَ مِنْهُم
فَلَمَّا ورث سُلَيْمَان دَاوُد جعل دَعوته فِي ذَلِك فَسَأَلَ مملكة الدُّنْيَا كلهَا ليسوي الدُّنْيَا وَأَهْلهَا وَيحكم فيهم حكما يُصَادف حكمه وينفي الظُّلم عَن أهل الأَرْض وينصف بَعضهم من بعض حَتَّى الْجِنّ وَالْإِنْس(1/375)
وَالطير والوحوش وَالسِّبَاع وبقاع الْأَرْضين وَالْجِبَال والبحار فَكَانَ لَهُ حكم فِي كل ذَلِك ومملكة وسلطان وأعين بِالرِّيحِ وَالشَّيَاطِين وَالْجِنّ فَسخرَ ذَلِك لَهُ وَأعْطِي الْفَهم لما زيد فِي الْمعرفَة قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن المعونة تنزل من السَّمَاء على قدر الْمُؤْنَة
وَكَانَ يعول خلقا من خلق الله تَعَالَى ويعطف على عبيد الله تَعَالَى وإمائه شَفَقَة على خلق الله فوهب لَهُ ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده ثمَّ قَالَ {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب}
فَكَانَ المهنأة فِيهِ أَنه لَا تبعة لَهُ عَلَيْهِ وَجعل نوح عَلَيْهِ السَّلَام دَعوته إهلال الْكفَّار لتطهر الأَرْض من أقذارهم ونجاسة شركهم شَفَقَة على حق الله ليخلص الْحق من أنجاسهم وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخر دَعوته الى يَوْم الثَّوَاب وَالْعِقَاب ليفتح الله تَعَالَى على لِسَانه خَزَائِن الرَّحْمَة على عبيده فِي يَوْم بروز الْجُود وَالْكَرم وَشدَّة الْفَاقَة فِي ذَلِك الْمقَام الْمَحْمُود فعمت الْمَلَائِكَة والأنبياء وَالرسل وَجَمِيع الْمُوَحِّدين بِالرَّحْمَةِ وَسكن الهول واطمأنت الْقُلُوب وَكَانَ أهل الْموقف كلهم مُحْتَاجين إِلَى مَا ادخره عَلَيْهِ السَّلَام ليَوْم الْقِيَامَة وصاروا عيالا عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ليرغب إِلَيّ يَوْم الْقِيَامَة فِي تِلْكَ الدعْوَة وَيحْتَاج إِلَيّ
وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لكل نَبِي دَعوته دَعَا بهَا فِي أمته فَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَتِي لأمتي يَوْم الْقِيَامَة(1/376)
- الأَصْل الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ
-
فِي نشر السجلات يَوْم الْحَشْر
عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول سيصاح بِرَجُل من أمتِي يَوْم الْقِيَامَة على رُؤُوس الْخَلَائق فينشر عَلَيْهِ تِسْعَة وَتسْعُونَ سجلا كل سجل مِنْهَا مد الْبَصَر فَيَقُول الله تَعَالَى عَبدِي هَل تنكر من هَذَا شَيْئا فَيَقُول هَذِه حجتك فَيَقُول لَا يَا رب فَيَقُول هَل لَك من حجَّة فَيَقُول لَا يَا رب فَيَقُول بلَى لَا ظلم عَلَيْك الْيَوْم فَيخرج الله تَعَالَى لَهُ بطاقة فَيَقُول هَذِه حجتك فَيَقُول أَي رب وَمَا تغني هَذِه البطاقة من السجلات فَيَقُول يَا عَبدِي لَا ظلم عَلَيْك الْيَوْم فَيُؤتى بالميزان فتوضع السجلات فِي كفة والبطافة فِي كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة وَإِذا فِيهَا شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله(1/377)
فَهَذَا عبد كثرت سيئاته حَتَّى غمرته فأدركه غوث تِلْكَ الْكَلِمَة وَلَيْسَت تِلْكَ بِأول مِمَّا قَالَهَا وَلكنهَا كَانَت مقَالَة طَاهِرَة خرجت من زكاوة قلبه فِي سَاعَة من عمره فأنجته فحاطت ذنُوبه وهدمتها وطاشت بالسجلات يَوْم الْوَزْن لوزن تِلْكَ الْكَلِمَة وَإِنَّمَا ثقلت لعظم نورها لِأَنَّهَا خرجت من نور استنار قلبه بالنطق بهَا وَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا من عَلَيْهِ فِي سَاعَة من عمره ونبهه فَإِذا انتبه انْفَتح قلبه واستنار صَدره من تِلْكَ الفتحة فَإِذا انْفَتح الْقلب خرج النُّور إِلَى الصَّدْر فأشرق فَأَي كلمة نطق بهَا فِي ذَلِك الْوَقْت فَإِنَّمَا ينْطق على شرح الصَّدْر والمعاينة لصورة تِلْكَ الْكَلِمَة تسمى كلمة الْإِخْلَاص وَكلمَة يَقِين تثقل فِي الْوَزْن يَوْم الْوَزْن وَتَكون سَببا لنجاة صَاحبهَا وَهَذَا لَا يكون فِي شَهَادَة التَّوْحِيد إِذْ لَو كَانَ لَهَا لاستوى النَّاس فِيهَا
قد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيى وَيُمِيت وَهُوَ على كل شَيْء قدير مخلصا بهَا روحه مُصدقا بهَا لِسَانه وَقَلبه إِلَّا فتقت لَهُ السَّمَاء فتقا حَتَّى ينظر الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى قَائِلهَا من أهل الدُّنْيَا وَحقّ لعبد إِذا نظر الله إِلَيْهِ أَن يُعْطِيهِ سؤله
شَرط إخلاص الرّوح فَإِن الرّوح سماوي خلقهَا الطَّاعَة وَالنَّفس أرضية خلقهَا الشَّهْوَة مَعْصِيّة كَانَت أَو طَاعَة فَإِذا قَالَ العَبْد هَذِه الْكَلِمَة فِي وَقت فَتْحة الْقلب واستنارته وانشراح الصَّدْر فنمقت النَّفس وذلت وانخشعت وتخلص الرّوح من أسرها وتعلقها بِهِ فَصَارَ روحه كالعازم(1/378)
على هَذِه الْكَلِمَات بحقائقها فَصَارَ خَالِصا لله تَعَالَى وَقد باين النَّفس وهواها وَصدق بهَا لِسَانه وَقَبله لِأَن الْقلب قد استنار بالكلمات فَاسْتَوَى اللِّسَان بِالْقَلْبِ وَالْقلب بِاللِّسَانِ وَقد صدق بِالْكَلِمَةِ لِسَانه وَقَلبه وأخلص روحه فاستوجب النّظر إِلَيْهِ فَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا رزقه فَتْحة قلبه وَخرجت مِنْهُ هَذِه الْكَلِمَة فِي ذَلِك الْوَقْت فَعظم وَزنهَا وقدرها عِنْد رَبهَا قَالَ الله تَعَالَى {الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} ثمَّ قَالَ {أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} وَصفهم بِحَقِيقَة الْإِيمَان
قَالَت عَائِشَة وَأم الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنْهُمَا إِنَّمَا إِيمَان الرجل فِي الْقلب كاحتراق السعفة لَا يكَاد يلبث طَويلا فَإِذا وجد أحدكُم فَليدع الله تَعَالَى فَإِن الدُّعَاء عِنْد ذَلِك يُسْتَجَاب
وَعَن ثَابت الْبنانِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن رجل قَالَ إِنِّي لأعْلم مَتى يُسْتَجَاب لي قَالُوا وَمن أَيْن تعلم ذَلِك قَالَ إِذا اقشعر جلدي ووجل قلبِي وفاضت عَيْنَايَ فَذَاك حِين يُسْتَجَاب لي لِأَن هَذِه نفوس لَا تحْتَمل مَا يرد على الْقلب فتقشعر مِنْهُ الْجُلُود أما أهل الْيَقِين الَّذِي استنارت صُدُورهمْ بنوره فَهَذَا لَهُم دَائِم فِي الْأُمُور كلهَا وهم الَّذين يذكرُونَ الله تَعَالَى على كل حَال لَا يَنْقَطِع ذكرهم لأَنهم بِنور يقينهم قد صَارَت قُلُوبهم بَين يَدَيْهِ يعبدونه كانهم يرونه قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أعبد الله كانك ترَاهُ وَلِأَن نُفُوسهم قد إطمأنت إِلَى رُؤْيَة الملكوت وَمَا يرد على الْقُلُوب ومرنت على ذَلِك واعتادت(1/379)
وَمثل ذَلِك فِي الدُّنْيَا مثل جرة لم يصبهَا المَاء فَإِذا وَضَعتهَا فِي المَاء انتشقت وَسمعت لَهَا قشيشا فَإِذا تكَرر عَلَيْهَا ذَلِك لم تسمع لَهَا ذَلِك لِأَنَّهَا قد تشربت من المَاء وارتوت فَكَذَلِك قلب الْعَارِف قد ارتوى من سقيا الله تَعَالَى
وَعَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لي جِبْرَائِيل يَا مُحَمَّد إِن الله عز وَجل يخاطبني يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُول يَا رب جِبْرَائِيل مَا لي أرى فلَان بن فلَان فِي صُفُوف أهل النَّار فَأَقُول يَا رب انا لم نجد لَهُ حَسَنَة يعود عَلَيْهِ خَيرهَا الْيَوْم قَالَ يَقُول الله تَعَالَى إِنِّي سمعته فِي دَار الدُّنْيَا يَقُول يَا حنان يَا منان فأته فَاسْأَلْهُ مَاذَا عني بقوله يَا حنان يَا منان فآتيه فأسأله فَيَقُول وَهل من حنان ومنان غير الله فآخذ بِيَدِهِ من صُفُوف أهل النَّار فَأدْخلهُ فِي صُفُوف أهل الْجنَّة(1/380)
- الأَصْل الْخَامِس وَالسَّبْعُونَ
-
فِي أَن غرس الله مَحْفُوظ فِي الدَّاريْنِ
عَن أبي عتبَة الْخَولَانِيّ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ مِمَّن صلى الْقبْلَتَيْنِ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يزَال الله يغْرس فِي هَذَا الدّين غرسا يستعملهم بِطَاعَتِهِ فغرس الله محروس فِي الْأَحْوَال ومحفوظ فِي الأصلاب والأرحام ومراعي فِي قطع الْأَسْفَار إِلَيْهِ يكلؤه ويرعاه وهم رِجَاله فِي أرضه وأولياؤه والدعاة إِلَيْهِ وغرس الله راسخ عروقه فِي الأَرْض باسق فروعه فِي الملكوت غرسهم الله تَعَالَى وأنبتهم وَهُوَ يجني ثمرتهم
وغرسهم أَي اجتباهم بمشيئته وأنبتهم أَي رَاض نُفُوسهم وأدبها وَقوم أخلاقها بتدبيره وَهُوَ يجني ثَمَرَتهَا أَي لما وصلوا إِلَيْهِ وقبلهم ورتب لَهُم عِنْده فِي تِلْكَ الخلوات والمجالس وصاروا فِي قَبضته وَهُوَ الَّذِي يستعملهم بِطَاعَتِهِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا يَحْكِي عَن الله تَعَالَى أَنه(1/381)
قَالَ إِذا أَحْبَبْت عَبدِي كنت سَمعه وبصره وَيَده وَرجله فَبِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي ببطش وَبِي ينْطق
وَمن عَلامَة أُولَئِكَ أَنه يخرجهم من بطُون أمهاتهم أحرارا من رق النُّفُوس قد طبع نُفُوسهم على أَخْلَاق الْكِرَام من السخاوة والشجاعة والسماحة والحلم والتأني والنزاهة والصيانة فَهَذَا حر من رق النَّفس وَمن كَانَ ضد هَذِه الْأَشْيَاء مثل الْبُخْل والضيق وَالْمَكْر والعجلة وحدة الشَّهْوَة والحرص والجبن فَهُوَ عبد نَفسه فَإِن رزق تقوى احْتَاجَ إِلَى أَن يُجَاهد نَفسه حَتَّى لَا يستعجل أَرْكَانه بِمَا يصير بِهِ عَاصِيا فَهُوَ وَإِن جَاهد فَهَذِهِ الْأَخْلَاق بَاطِنه وَهُوَ قَول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لبني إِسْرَائِيل فَلَا عبيد أتقياء وَلَا أَحْرَار كرماء فالعبيد الأتقياء هَؤُلَاءِ الَّذين فيهم هَذِه الْأَخْلَاق فهم أتقياء يَتَّقُونَ الله أَن يعصوه بجارحة وتتردد فيهم هَذِه الْأَخْلَاق فَإِن عمِلُوا بِطَاعَة عملوها بكزازة نفس وَجهد والأحرار الكرماء قد عوفوا من هَذِه الْأَخْلَاق طبعا فَإِن انْتَهوا عَمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ لم يحتاجوا إِلَى أَن يحاربوا ويجاهدوا نُفُوسهم وَإِن عمِلُوا بِطَاعَة عملوها تكرما وسماحة فقلبه لين منقاد لَيْسَ فِيهِ كزازة حَيْثُ مَا قَادَهُ مَوْلَاهُ فِي أُمُوره انْقَادَ من غير تلجلج
قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَقولُوا للعنب كرم إِنَّمَا الْكَرم قلب الؤمن وَإِنَّمَا سمي الْعِنَب كرما لِأَنَّهُ لين ينقاد حَيْثُ مَا استقيد(1/382)
فَكَذَلِك الْمُؤمن قلبه لين رطب بِذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينقاد لله تَعَالَى فِي أُمُوره وَأَحْكَامه(1/383)
- الأَصْل السَّادِس وَالسَّبْعُونَ
-
فِي منع الشَّيْطَان من الْمُشَاركَة فِي كل شَيْء
عَن نُبَيْشَة الْخَيْر وَأنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أكل من قَصْعَة ثمَّ لحسها استغفرت لَهُ الْقَصعَة وصلت عَلَيْهِ
الْمُؤمن إِذا سمى الله تَعَالَى على كل أَمر منع الشَّيْطَان من مشاركته فِي طَعَامه وَشَرَابه ولباسه وَجَمِيع أُمُوره وَإِذا ترك التَّسْمِيَة وجد فرْصَة فشاركه فِي ذَلِك حَتَّى فِي إِتْيَانه أَهله
وَعَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِذا جَامع الرجل أَهله وَلم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع مَعَه فَذَلِك قَوْله تَعَالَى لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان(1/384)
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب فَقَالَ إِن الله عز وَجل أَمرنِي أَن أعلمكُم مَا عَلمنِي وَأَن أؤدبكم إِذا اقمتم على أَبْوَاب حجركم فَسَلمُوا يرجع الْخَبيث عَن مَنَازِلكُمْ وَإِذا وضع بَين يَدي أحدكُم طَعَام فليسم كَيْلا يشارككم الْخَبيث فِي أرزاقكم وَمن اغْتسل بِاللَّيْلِ فليحاذر على عَوْرَته فَإِن لم يفعل فَأَصَابَهُ لمَم فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه وَإِذا رفعتم الْمَائِدَة فاكنسوا مَا تحتهَا فَإِن الشَّيَاطِين يلتقطون مَا تحتهَا فَلَا تجْعَلُوا لَهُم نَصِيبا فِي طَعَامكُمْ
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِذا وضعت يدك فِي الطَّعَام فنسيت أَن تَقول بِسم الله فَقل حِين تذكر بِسم الله فِي أَوله وَآخره فَإِنَّمَا يمْتَنع الْمُؤمن من هَذَا الْعَدو باسم الله تَعَالَى فَإِذا سمى على طَعَامه فالشيطان مِنْهُ بمزجر الْكَلْب وَإِذا فرغ من الطَّعَام وَلم يلحس الْقَصعَة جَاءَ الشَّيْطَان فلحسها لينال مَا بَقِي هُنَاكَ فَإِذا لحسها فقد خلصها من الشَّيْطَان ولحسه فاستغفرت لَهُ وصلت عَلَيْهِ شكرا لَهُ(1/385)
- الأَصْل السَّابِع وَالسَّبْعُونَ
-
فِي حَقِيقَة الرُّؤْيَا وان الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي فَإِن الشَّيْطَان لَا يَسْتَطِيع أَن يتَمَثَّل بِي فَكَانَ الرجل إِذا قصّ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا يَقُول لَهُ كَيفَ رَأَيْته فَإِن جَاءَ بالرؤيا على وَجههَا وَإِلَّا قَالَ لم تره
قَوْله من رَآنِي فِي الْمَنَام أَي على نعتي الَّذِي أَنا عَلَيْهِ وَاعْلَم أَن الرُّؤْيَا على ثَلَاث منَازِل مِنْهَا مَا يرِيه الْملك الْمُوكل على الرُّؤْيَا فَذَاك حق وَمِنْهَا مَا يمثل لَهُ الشَّيْطَان وَمِنْهَا مَا يحدث بِهِ الْمَرْء نَفسه(1/386)
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ الرُّؤْيَا ثَلَاثَة فرؤيا حق ورؤيا يحدث بِهِ الْمَرْء نَفسه ورؤيا تحزين من الشَّيْطَان فَمن رأى مَا يكره فَليقمْ فَليصل
وَفِي رِوَايَة أبي قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الرُّؤْيَا على ثَلَاث منَازِل فَمِنْهَا مَا يحدث بِهِ الْمَرْء نَفسه لَيست بِشَيْء وَمِنْهَا مَا يكون من الشَّيْطَان فَإِذا رأى أحدكُم مَا يكره فليبصق عَن يسَاره وليستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان فَلَنْ يضرّهُ بعد ذَلِك وَمِنْهَا بشرى من الله تَعَالَى رُؤْيا الرجل الصَّالح جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة فَإِذا رأى أحدكُم رُؤْيا فليعرضها على ذِي رَأْي نَاصح فَلْيقل خيرا أَو ليتأول خيرا فَقَالَ عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ رَضِي الله عَنهُ وَالله يَا رَسُول الله لَو كَانَت حَصَاة من عدد الْحَصَى لَكَانَ كثيرا
وَفِي رِوَايَة لَقِيط بن عَامر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤْيَا على رجل طَائِر مَا لم تعبر فَإِذا عبرت وَقعت
فالرؤيا أَصله حق جَاءَ من عِنْد الْحق يخبر عَن أنباء الْغَيْب وَهُوَ من الله تَعَالَى تأييد لعَبْدِهِ بشرى ونذارة ومعاتبة ليَكُون لَهُ فِيمَا ندب لَهُ ودعي إِلَيْهِ عونا وَقد وكل بالرؤيا ملك يضْرب من الْحِكْمَة الْأَمْثَال وَقد اطلع على قصَص ولد آدم من اللَّوْح فَهُوَ ينْسَخ مِنْهَا وَيضْرب لكل على قصَّة(1/387)
مثله فَإِذا نَام وَخرجت نَفسه تمثل لَهُ تِلْكَ الْأَشْيَاء على طَرِيق الْحِكْمَة لتَكون لَهُ بشرى أَو نذارة أَو معاتبة ليكونوا على بَصِيرَة من أُمُورهم
فَأَما الْبُشْرَى فَمثل مَا يرْوى أَن صهيبا جَاءَ إِلَى أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْت كَأَن يدك مغلولة إِلَى عُنُقك إِلَى سَرِير الى الْحَشْر فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ الله أكبر جمع لي ديني إِلَى يَوْم الْحَشْر
وَأما النذارة فَمَا يرْوى عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ أَنه رَجَعَ من الْيمن بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم مَعَه برقيق قد أَصَابَهُ هُنَاكَ فَقَالَ لَهُ عمر إذهب بهَا إِلَى أبي بكر حَتَّى تطيب لَك فَأبى وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثَنِي رَسُول الله ليجبرني فِيمَا أصابني من الدّين وَطيب لي الْهَدِيَّة فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَهله وَبَات رأى تِلْكَ اللَّيْلَة كَأَنَّهُ قد وَقع فِي مَاء غمره فَأَتَاهُ عمر فَأخذ بِيَدِهِ حَتَّى أخرجه مِنْهَا فَلَمَّا أصبح غَدا بِالسَّبْيِ إِلَى أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقص عَلَيْهِ قصَّته فَقَالَ أَبُو بكر قد علمت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا بَعثك ليجبرك هم لَك حل
وَمَا رُوِيَ فِي فتح نهاوند حَيْثُ حمل إِلَى عمر السفطين فيهمَا حلي وَقد كَانَ للنجيرجان كنز فدله ذَلِك الرجل على الْكَنْز على أَن لَهُ الْأمان وَلأَهل بَيته فَجمع ذَلِك فَحَمله السَّائِب بن الْأَقْرَع إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ مَعَ أَصْحَابه مجمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فختمه وَوَضعه فِي خزائنه فَرَأى تِلْكَ اللَّيْلَة كَأَن مَلَائِكَة جَاءَت بسفطين فأوقدوا مَا فيهمَا جمرا يتوقد فَجعلت أنثني عَنْهُمَا وأنكص واقدم إِلَيْهِمَا فكاد ابْن الْخطاب يَحْتَرِق فَأتبعهُ بريدا إِلَى الْكُوفَة حَتَّى جَاءَ فَقَالَ مَا لي وَلَك يَا سائب إِنِّي رَأَيْت كَذَا فَاذْهَبْ بهما إِلَى الْكُوفَة وبعهما بأعطيات الْمُقَاتلَة والذرية
وَأما المعاتبة فَمَا روى سُلَيْمَان بن يسَار قَالَ اسْتَيْقَظَ أَبُو أسيد الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يَقُول إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فَاتَنِي وردي اللَّيْلَة وَكَانَ وردي الْبَقَرَة فقد رَأَيْت فِي الْمَنَام كَانَ بقرة تنطحني(1/388)
وَأما الْخَبَر الَّذِي يلقِي إِلَيْهِ من أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مثل مَا روى ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ جَاءَ رجل إِلَى عمر وَهُوَ عِنْد أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ إِنِّي رَأَيْت رُؤْيا فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَا حَاجَة لنا برؤياك فَقَالَ أَبُو بكر هَات قَالَ رَأَيْت كَأَن النَّاس قد حشروا فكأنك قرعت النَّاس بِثَلَاث بسطات قلت بِأَيّ شَيْء قرع عمر النَّاس بِثَلَاث بسطات قَالَ بِأَنَّهُ يكون خَليفَة وَأَنه لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم وَأَنه يقتل شَهِيدا فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أضغاث أَحْلَام لَا حَاجَة لنا برؤياك قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ رَأَيْت خيرا وَخيرا يكون فَلَمَّا أَتَى عمر رَضِي الله عَنهُ الشَّام وبصر بِالرجلِ قَالَ عَليّ بِالرجلِ وَقَالَ أَنْت صَاحب الرُّؤْيَا قَالَ وَمَا تصنع برؤياي وَمَا تنتهرني حَتَّى أَنِّي قد جِئْت بِأَمْر قَالَ قصها قَالَ رَأَيْت كَأَن النَّاس يحشرون فرأيتك قرعت النَّاس بِثَلَاث بسطات فَقلت بِأَيّ شَيْء قرع عمر النَّاس بِثَلَاث بسطات قَالَ بِأَنَّهُ يكون خَليفَة قَالَ فقد كَانَت نسْأَل الله خَيرهَا ونعوذ بِاللَّه من شَرها قَالَ وَبِأَنَّهُ لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم قَالَ إِنِّي أَرْجُو من الله أَن يكون كَذَلِك أَو أَن يعلم الله ذَلِك مني قَالَ وَبِأَن تقتل شَهِيدا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أما الشَّهَادَة فَأَنِّي الشَّهَادَة ثمَّ قَالَ بلَى يَأْتِي الله بِكَافِر فينقرني نقر الديك فيكرمني الله بهوانه ويهينه بكرامتي
وَكَأن شَأْن الرُّؤْيَا عَظِيما عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه رُوِيَ عَن سفينة قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الصُّبْح أقبل على أَصْحَابه قَالَ أَيّكُم رأى اللَّيْلَة رُؤْيا فَقَالَ ذَات يَوْم ذَلِك فَقَالَ رجل أَنا يَا رَسُول الله رَأَيْت كَأَن ميزانا دُلي من السَّمَاء فَوضعت فِي كفة الْمِيزَان وَوضع أَبُو بكر فِي كفة فرجحت بِأبي بكر ثمَّ رفعت وَترك أَبُو بكر ثمَّ جِيءَ بعمر فَوضع فِي الكفة الْأُخْرَى فرجح أَبُو بكر بعمر ثمَّ رفع أَبُو بكر وَترك عمر حَتَّى جِيءَ بعثمان فَوضع فِي الكفة الْأُخْرَى فرجح عمر(1/389)
بعثمان ثمَّ رفع الْمِيزَان فَتغير وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ خلَافَة نبوة ثَلَاثِينَ عَاما ثمَّ يكون ملك قَالَ سفينة أمسك سنتَيْن أَبُو بكر وَعشرا عمر وثنتي عشرَة عُثْمَان وستا عَليّ رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
الرُّؤْيَا من أَخْبَار الملكوت من الْغَيْب وَهُوَ جُزْء من أَجزَاء النُّبُوَّة وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم وَفَاته انه لم يبْق بعدِي من مُبَشِّرَات النُّبُوَّة إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة
قَالَ عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قَوْله تَعَالَى {لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} قَالَ هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الرجل الْمُسلم أَو ترى لَهُ
وَعَن عبَادَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُؤْيا الْمُؤمن كَلَام يكلم بِهِ العَبْد ربه فِي الْمَنَام
وَقَالَ بعض أهل التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب قَالَ فِي مَنَامه
وَعلم الله تَعَالَى يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام تَأْوِيل الرُّؤْيَا وَسَماهُ حَدِيثا فَقَالَ تَعَالَى ولنعلمه من تَأْوِيل الْأَحَادِيث(1/390)
والمحدث على ثَلَاثَة أَنْوَاع مُحدث بِالْوَحْي وَهُوَ الَّذِي يخْفق على الْقلب بِالروحِ ومحدث فِي الْمَنَام أمره على الْأَرْوَاح إِذا خرجت الْأَرْوَاح من الأجساد كلموا ومحدث فِي الْيَقَظَة على الْقلب بِالسَّكِينَةِ فيعقلوه ويعلموه
أما الْمُحدث فِي الْمَنَام مثل مَا رُوِيَ عَن رقية بن مصقلة قَالَ رَأَيْت رب الْعِزَّة جلّ جَلَاله فِي الْمَنَام فَقَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لأكرمن مثوى سُلَيْمَان التَّيْمِيّ وَمَا رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم بن أدهم رَحمَه الله أَنه قَالَ ذَات يَوْم اللَّهُمَّ فَإِنَّهُ قد وَقع الشوق إِلَيْك فِي قلبِي وَالنَّظَر إِلَيْك وَقد علمت أَنَّك لَا ترى فِي الدُّنْيَا فَهَب لي من عنْدك مَا يسكن إِلَيْهِ قلبِي فغفى فِي مَجْلِسه ذَلِك ثمَّ أَفَاق فَقَالَ سُبْحَانَ الله فَقيل لَهُ لم سبحت قَالَ من لطف رَبِّي إِنِّي بَيْنَمَا أَنا غاف إِذا أَتَانِي آتٍ من رَبِّي فَقَالَ يَا رجل أجب رَبك فَأتيت رَبِّي فكاد يذهب بَصرِي لنُور رَبِّي فناداني رَبِّي فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم تَسْأَلنِي بَدَلا من النّظر إِلَيّ والشوق إِلَى لقائي فَهَل لذاك من بدل فَقلت يَا رب دهشت فِي حبك وَكَانَ قلبِي إِلَيْك فَلم أتمالك أَن قلت مَا قلت فَكيف تَأْمُرنِي أَن أَقُول فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم من وجدت قلبه خَالِيا من الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ملأته حبي حَتَّى إِذا ملأته قبضت عَنهُ فَكَانَ فِي قبضي فَإِذا كَانَ فِي قبضي كنت سَمعه الَّذِي بِهِ يسمع وبصره الَّذِي بِهِ يبصر وَيَده الَّذِي بهَا يبطش وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَو سَأَلَني جَمِيع الدُّنْيَا كلهَا فِي كَفه لفَعَلت وَكَيف يتفرغ الى الْمَسْأَلَة من سهلت لَهُ السَّبِيل إِلَى نَفسِي وأريته كَرَامَتِي فَإِن كنت لَا بُد سَائِلًا فاسألني أَن أجمعك إِلَيّ وأونسك بكلامي وآذن لأرواح انبيائي فِي الالتقاء مَعَك فَإِن ذَلِك يهون عَليّ لأوليائي
وَهَذَا لِأَن الْعَامَّة فِي تخطيط من الشَّهَوَات وميل النُّفُوس فَلم يكلموا الا بعد مزايلة الْأَرْوَاح من النُّفُوس والشهوات وَلما صفت عقول الْمُحدثين وطهرت قُلُوبهم وتنزهت من الْآفَات والشهوات والعلائق كلموا على(1/391)
الْقُلُوب فَإِذا كَانَ الْكَلَام على الْأَرْوَاح فِي الْمَنَام جُزْءا من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة كَانَ الْكَلَام على الْقُلُوب فِي الْيَقَظَة أَكثر من ثلث النُّبُوَّة على قدر قربهَا من رَبهَا فِي تِلْكَ الْمجَالِس
وَعَن أبي سَلمَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينا أَنا نَائِم إِذا اتيت بقدح لبن فَشَرِبت مِنْهُ حَتَّى أَنِّي لأرى الرّيّ جرى من أطرافي ثمَّ اعطيت فضلي عمر بن الْخطاب فَقَالَ من حوله مَاذَا أولته يَا رَسُول الله قَالَ الْعلم قَالَ وَرَأَيْت النَّاس يعرضون عَليّ وَعَلَيْهِم قمص مِنْهَا مَا يبلغ الثدي وَمِنْهَا مَا يبلغ الركب وَمر عمر وَعَلِيهِ قَمِيص يجره قَالُوا فَمَا أولته يَا رَسُول الله قَالَ الدّين(1/392)
- الأَصْل الثَّامِن وَالسَّبْعُونَ
-
فِي أَن الْمعدة إِذا كَانَت صَحِيحَة ترجى مَعهَا النجَاة
عَن بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده حَدثنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ عبد من عباد الله آتَاهُ الله مَالا وَولدا فَكَانَ لَا يدين لله دينا فَلبث حَتَّى إِذا مَا ذهب عمر وَبَقِي عمر ذكر فَعلم أَنه لم يبتئر عِنْد الله خيرا دَعَا بنيه فَقَالَ أَي بني تعلموني قَالُوا خيرا يَا أَبَانَا قَالَ فَإِنِّي وَالله لَا أدع عِنْد رجل مِنْكُم مَالا هُوَ مني إِلَّا أَنا آخذ مِنْهُ أَو لتفعلن بِي مَا آمركُم فَأخذ مِنْهُم ميثاقا وربي قَالَ اما اني فَإِذا مت فخذوني فألقوني فِي النَّار حَتَّى إِذا كنت حمما فدقوني ثمَّ اذروني فِي الرّيح لعَلي أضلّ الله فَفَعَلُوا بِهِ وَرب مُحَمَّد حِين مَاتَ فجيء بِهِ أحسن مَا كَانَ قطّ فَعرض على ربه فَقَالَ مَا حملك على النَّار قَالَ خشيتك يَا رباه قَالَ إِنِّي أسمعك رَاهِبًا فتيب عَلَيْهِ(1/393)
وَفِي رِوَايَة أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ دخل رجل الْجنَّة مَا عمل خيرا قطّ فَذكر الحَدِيث
وَفِي رِوَايَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَيَقُول الله عز وَجل انْظُر إِلَى ملك أعظم ملك فِي الدُّنْيَا فَإِن لَك مثله وَعشرَة أَمْثَاله فَيَقُول لم تسخر بِي وَأَنت الْملك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَاك الَّذِي أضحكني
قَوْله لَا يدين الله دينا أَي لم يكن يسير فِي شَرِيعَته سير المطيعين فَأَما قبُول الشَّرِيعَة فَلم يكن يَخْلُو مِنْهُ إِذْ لَو جحد الدّين لكفر وَهُوَ مثل قَوْله فِي الحَدِيث الآخر لم يعْمل خيرا لله قطّ قَوْله أسمعك رَاهِبًا أَي رهبت مني وَهُوَ كَقَوْلِه هربت مني والهرب بِالنَّفسِ والرهب بِالْقَلْبِ فَهَذَا عبد كَانَت الْمعرفَة اسْتَقَرَّتْ فِي قلبه بِالتَّوْحِيدِ لله تَعَالَى وبالمبعث بعد الْمَوْت وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب وَالْغَالِب عَلَيْهِ الْجَهْل بِاللَّه وبأمره فأهمل الْحُدُود وعطل الْعُمر فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت هاج مِنْهُ خوف التَّوْحِيد فأعمل فِي قلبه فطلبته نَفسه الجاهلة بِاللَّه ملْجأ وخلاصا من الله فدلته نَفسه على مَا أوصى بِهِ أَهله من الإحراق والسحق والتذرية فذهل عقله من المخافة وانقطعت حيله فَهَذَا بذلك فألجأه الله تَعَالَى بالمعرفة من غير الْتِفَات الى العبودة قَالَ الله تَعَالَى الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم مهتدون فَلم يعْمل خيرا قطّ فَأَدْرَكته دولة السَّعَادَة فَأصَاب حظا من الخشية والخشية إِنَّمَا تنَال عِنْد كشف الغطاء وانشراح الصَّدْر بِالنورِ وَكَانَ قد(1/394)
سبق لَهُ من الله تَعَالَى أَثَره وحظ وَهُوَ يقطع عمره فِي رفض العبودة ويضيعها فَلَمَّا حضر أَوَان شخوصه إِلَى الله تَعَالَى جَاءَت الأثرة والسعادة بذلك الْحَظ الَّذِي كَانَ سبق لَهُ فاسنتار الصَّدْر بِالنورِ وانكشف الغطاء حَتَّى صَار بِحَال لَا يعقل مَا يَقُول من الرهب من الله تَعَالَى فَقدم عَلَيْهِ مَعهَا فغفر لَهُ بخشيته
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ بَيْنَمَا عبد لم يعْمل لله خيرا قطّ فَفرق فَخرج هَارِبا فَجعل يُنَادي يَا أَرض اشفعي لي وَيَا سَمَاء اشفعي لي وَيَا كَذَا اشفعي لي حَتَّى أَصَابَهُ الْعَطش فَوَقع فَلَمَّا أَفَاق قيل لَهُ قُم فقد شفع لَك من قبل فرقك من الله تَعَالَى
وَعَن الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اقشعر جلد العَبْد من خشيَة الله تحاتت عَنهُ خطاياه كَمَا تحات عَن الشَّجَرَة البالية وَرقهَا
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ قَالَ الله تَعَالَى وَعِزَّتِي لَا أجمع على عَبدِي خوفين وَلَا أجمع لَهُ أمنين فَمن خافني فِي الدُّنْيَا أمنته فِي الْآخِرَة(1/395)
- الأَصْل التَّاسِع وَالسَّبْعُونَ
-
فِي أَن فِي الْخلّ مَنَافِع الدّين وَالدُّنْيَا
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنهُ قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أقفر بَيت فِيهِ خل أقفر أَي خلا والخل من الْأدم الَّتِي تعم مَنَافِعهَا
وَقيل فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا} أَنه الْخلّ وَفِيه مَنَافِع الدّين وَالدُّنْيَا فَلذَلِك قَالَ مَا أقفر بَيت فِيهِ خل أَي مَا خلا من أَمر الدّين والدينا وَذَلِكَ بِأَنَّهُ بَارِد يطفىء حرارة الشَّهْوَة ويقطعها
وَعَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن قَالَت كَانَ عَامَّة أَدَم أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعده الْخلّ ليقطع عَنْهُن ذكر الرِّجَال
وَخلق ابْن آدم مجبولا على الشَّهَوَات الرِّجَال مِنْهُم وَالنِّسَاء وَكلما(1/396)
وجدوا عونا لَهُم على طفء ذَلِك مِنْهُم كَانَ عونا لَهُم وكل شَيْء هُوَ عون للدّين فالبركة حَالَة بِهِ وَإِذا بورك فِي الشَّيْء سعد بِهِ أَهله
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا رَوَاهُ أنس رَضِي الله عَنهُ نعم الادام الْخلّ(1/397)
- الأَصْل الثَّمَانُونَ
-
فِي دفع الْمُنْكَرَات بِالدُّعَاءِ
عَن زِيَاد بن علاقَة عَن عَمه رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول اللَّهُمَّ جنبني مُنكرَات الْأَعْمَال والأخلاق والأهواء والأدواء
ابْن آدم لَا يَنْفَكّ فِيمَا عده عَلَيْهِ السَّلَام فِي متقلبه لَيْلًا وَنَهَارًا فالكبائر مُنكرَات الْأَعْمَال وَسُوء الْخلق من مُنكرَات الْأَخْلَاق وَهُوَ الحقد والحسد وَالْبخل وَالشح وَمَا أشبهه والزيغ مُنكرَات الْأَهْوَاء والسل وَذَات الْجنب والجذام وَمَا أشبهه مُنكرَات الأدواء وَهَذِه كلهَا بوائق الدَّهْر وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول أعوذ بك من بوائق الدَّهْر وفجأة النقم
فَأَما مُنكرَات الْأَعْمَال والأخلاق والأهواء فَمِنْهَا مَا يعظم الْخطب فِيهِ(1/398)
حَتَّى يصير مُنْكرا غير مُتَعَارَف فِيمَا بَينهم فَذَاك الَّذِي يشار إِلَيْهِ بالأصابع
رُوِيَ أَن عبد الله بن عَائِد الثمالِي رَضِي الله عَنهُ حِين حَضرته الْوَفَاة قَالَ لَهُ غُضَيْف بن الْحَارِث إِن اسْتَطَعْت أَن تلقانا فتخبرنا مَا لقِيت فَتوفي فرؤي فِي الْمَنَام فَقَالَ وجدنَا رَبنَا خير رب يقبل الْحَسَنَات وَيغْفر السَّيِّئَات إِلَّا مَا كَانَ من الأحراض قيل وَمَا الأحراض قَالَ الَّذِي يشار إِلَيْهِ بالأصابع فِي الشَّرّ
وروى الْحسن رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بِحَسب إمرىء من الشَّرّ أَن يشار إِلَيْهِ بالأصابع فِي دين أَو دنيا إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى إِنَّمَا يشار إِلَيْهِ فِي دين لِأَنَّهُ أحدث بِدعَة ومنكرا وَفِي دنيا أحدث مُنْكرا من الْكَبَائِر فأشير إِلَيْهِ
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام بِحَسبِهِ من الشَّرّ لِأَنَّهُ قد هتك الله ستره والمهتوك ستره يكون فِي دُنْيَاهُ فِي عَار وَغدا فِي النَّار وَمن ستر الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا رجا لَهُ الْعَفو فِي الْآخِرَة
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا ستر الله على عبد فِي الدُّنْيَا لم يَفْضَحهُ غَدا
وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أقسم على ذَلِك من غير أَن أستثني لَا يستر الله على عبد فيفضحه غَدا(1/399)
- الأَصْل الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن النَّفس تألف بِمن يبرها وَبَيَان سره
عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِذا دعِي احدكم إِلَى طَعَام فليجب فان شَاءَ طعم وَإِن شَاءَ ترك
الْمَقْصُود من الدعْوَة ابْتِغَاء الألفة والمودة وَفِي النَّفس هناة وَفِي الصَّدْر سخائم والنفوس جبلت على حب من أكرمها وَقد حثهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الاجابة ليصل ذَلِك الْبر الَّذِي بر بِهِ أَخُوهُ حَتَّى تتأكد الألفة وتصفو الْمَوَدَّة وتنفي حزازات الصَّدْر فَإِن صَاحب الغل والحقد لَا يسلم لَهُ دينه من سوء مَا يضمر لِأَخِيهِ فالإطعام بر للنَّفس يطفي حرارة الحقد وينفي مكامن الغل وَقد كَانَت للْقَوْم أحقاد الْجَاهِلِيَّة فألف الله تَعَالَى بَين قُلُوبهم بِالْإِيمَان فحثهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على إِجَابَة الدعْوَة لألفة النُّفُوس ولذذلك قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من لم يجب الدعْوَة فقد عصى الله وَرَسُوله لأَنهم كَانُوا يتخذون الطَّعَام يدعونَ عَلَيْهَا لنفي السخيمة(1/400)
فَمن امْتنع عَلَيْهِ ليثبت على الغل والحقد فقد عصى الله وَرَسُوله وَامْتنع من حق عَظِيم والألفة من ثَلَاثَة وُجُوه إِذا حصل تَأَكد واستتم فالقلب يألف بِالْإِيمَان الَّذِي فِي قلب صَاحبه وَالروح تألف بِطَاعَتِهِ وَالنَّفس من شَأْنهَا الشَّهْوَة واللذة وَلَيْسَت همتها الْإِيمَان وَالطَّاعَة فتألف ببرها فَإِذا برهَا صفت وَصَارَت طَوْعًا وَإِلَّا فَهُوَ كالمكره فَإِنَّمَا دَعَاهُ أَخُوهُ إِلَى قبُول بره فندبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَن يقبل ذَلِك من أَخِيه كَيْلا يضيع كرامته وَلَا يجد الشَّيْطَان سَبِيلا إِلَى وسوسته بِالشَّرِّ ثمَّ لَهُ الْخِيَار إِن شَاءَ طعم وَإِن شَاءَ ترك وَترك الْإِجَابَة مِمَّا يدل على الْجفَاء والبعد والاستهانة بِهِ فهناك يجد الْعَدو سَبِيلا إِلَّا أَن يعْتَذر إِلَيْهِ الْمَدْعُو فَيقبل الدَّاعِي عذره وَإِن أحس بِالشَّرِّ فِي الدعْوَة فَلهُ فِي التَّخَلُّف عَنْهَا عذر مثل إِن كَانَ ذَلِك الطَّعَام لمباهاة أَو رِيَاء فَلهُ عذر فِي ترك الْإِجَابَة وَقد نهى عَلَيْهِ السَّلَام عَن طَعَام المتباهين أَن يُؤْكَل أَو يكون فِي تِلْكَ الدعْوَة أُمُور مَنْهِيّ عَنْهَا من اللَّهْو واللعب الْمَحْظُور عَلَيْهِم فَهَذَا عذر لما روى الحكم بن عُمَيْر وَكَانَ بَدْرِيًّا قَالَ أرسل رجل من الْأَنْصَار إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدعُوهُ إِلَى طَعَام وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يحْفر الخَنْدَق فجَاء وَأَصْحَابه فَقَالَ ادخل يَا نَبِي الله الْبَيْت فَدخل فَرَأى الْبَيْت منجدا مسترا فَخرج فَقَالَ يَا رَسُول الله مَا أخرجك فَقَالَ أطعمنَا بالفناء فأطعمهم حَتَّى إِذا شبع الْقَوْم فَلَمَّا تفَرقُوا قَالَ يَا رَسُول الله لَو كنت دخلت فَإِن الْبَيْت كَانَ أبرد وَأطيب قَالَ إِنَّك نجدت الْبَيْت وسترته وَهَذَا لَا يحل شبهته بَيت الله الله وَلَو شئب بسطت فِيهِ وطرحت فِيهِ وسائد(1/401)
- الأَصْل الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أصل الْأَدْوِيَة وسر الْحِكْمَة فِي التَّدَاوِي
عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى لم ينزل دَاء إِلَّا أنزل لَهُ شِفَاء علمه من علمه وجهله من جَهله
وَعَن أُسَامَة بن شريك رَضِي الله عَنهُ يَقُول شهِدت الْأَعْرَاب يسْأَلُون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل علينا جنَاح فِي كَذَا هَل علينا جنَاح أَن نتداوى فَقَالَ تداووا عباد الله فَإِن الله تَعَالَى لم ينزل دَاء إِلَّا وضع لَهُ شِفَاء إِلَّا الْهَرم(1/402)
فالطبائع تَتَغَيَّر بحدوث الْأَزْمِنَة من الْحر وَالْبرد وَفَسَاد الْهَوَاء فَيصير دَاء فِي الأجساد وتحدث فِي الْجَسَد الْأَحْدَاث من الطّعْم وَمَا يتعاطاه ابْن آدم من قَضَاء الشَّهَوَات وَاللَّذَّات وَالنّصب والسهر والتعب والهموم وَمَا يجْتَمع فِي الْجَسَد من الدَّم والمرة والبلغم وكل ذَلِك يحدث مِنْهُ مَا يتَغَيَّر حَاله فَيحْتَاج إِلَى دَوَاء يسكن مِنْهُ مَا هاج فَهَذَا تَدْبِير الْجَسَد فَإِذا ترك تَدْبيره ضيعه كَمَا لَو ترك تَدْبِير المعاش ضَاعَ فالتداوي حق وَهُوَ فعل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وهم يُلَقِّحُونَ النّخل فَقَالَ مَا أرى يُغني هَذَا شَيْئا فَذَهَبت عَامَّة ثمارهم وَصَارَت دفلا فَعرف أَن التَّدْبِير من الله تَعَالَى فِي ذَلِك غير مَا رأى فَأَمرهمْ أَن يعودوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَكَذَا وضعت علل الأجساد أَن تعالج حَتَّى ترد إِلَى الْهَيْئَة الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا وَلَوْلَا ذَلِك لكَانَتْ الْأَدْوِيَة مُهْملَة وَلم يخلقها الله تَعَالَى عَبَثا وَكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام تنْبت فِي محرابه كل يَوْم شَجَرَة ثمَّ تناديه الشَّجَرَة أَنا دَوَاء لكذا فتقطع وتوضع فِي ديوَان الطِّبّ فعامة الطِّبّ إِنَّمَا ورثوه من تِلْكَ الْكتب
فَالنَّاس فِي التَّدَاوِي على ثَلَاث طَبَقَات
فالطبقة الأولى هم الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام أهل يَقِين ومشاهدة يتداوون وَقُلُوبهمْ مَعَ خَالق الدَّوَاء الَّذِي جعل الشِّفَاء فِي ذَلِك الدَّوَاء فهم يتداوون على مَا هيأ لَهُم من التَّدْبِير وينتظرون الشِّفَاء من الله تَعَالَى وَقُلُوبهمْ خَالِيَة عَن فتْنَة الدَّوَاء
والطبقة الثَّانِيَة هم أهل الْيَقِين لم يأمنوا خِيَانَة نُفُوسهم أَن تطمئِن إِلَى الدَّوَاء وتركن إِلَيْهِ فيفروا من ذَلِك فَكلما عرض لَهُم دَاء فَوضُوا الْأَمر فِي ذَلِك الى الله تَعَالَى وتوكلوا عَلَيْهِ وَلم يتكلفوا تداويا وَتركُوا التَّدَاوِي من ضعف يقينهم خوفًا على قُلُوبهم أَن تطمئِن نُفُوسهم الى الدُّنْيَا فَيصير سَببا يتَعَلَّق بِهِ قُلُوبهم وَالْأول أَعلَى وَأقوى(1/403)
والطبقة الثَّالِثَة أهل تَخْلِيط وَقُلُوبهمْ مَعَ الْأَسْبَاب لَا ينفكون مِنْهَا فهم محتاجون الى التَّدَاوِي وَلَا يصبرون على تَركهَا وهم الْعَامَّة
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله تَعَالَى من الْمُؤمن الضَّعِيف وَفِي كل خير احرص على مَا ينفعك وَلَا تعجز فَإِن غلبك أَمر فَقل قدر الله وَمَا شَاءَ فعل وَإِيَّاك واللو فَإِن اللو يفتح عمل الشَّيْطَان
فالأقوياء تداووا ومروا فِي الْحِيَل والأسباب وَقُلُوبهمْ مَعَ رب الْأَدْوِيَة لَا مَعَ الْأَسْبَاب وهم الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام وَالْمُؤمن الضَّعِيف انه يَحْجُبهُ تداويه عَن الله تَعَالَى وَيتَعَلَّق قلبه بِهِ وَذَلِكَ لضعف يقينه وَفِي كل خير وَالْقَوِي أحب إِلَى الله تَعَالَى
وَقَوله احرص على مَا ينفعك أَي اسْتعْمل تَدْبِير الله تَعَالَى فِي هَذِه الْأُمُور وَلَا تعجز بِتَرْكِهِ فَإِن اسْتعْملت وَلم يكن الَّذِي أردْت فَقل قدر الله وَمَا شَاءَ أَي هَكَذَا كَانَ قدر وَشاء فارض بِحكمِهِ وَإِيَّاك أَن تَقول لَو كَانَ كَذَا كَانَ هَذَا الْأَمر كَذَا وَلَو لم يكن كَذَا لَكَانَ كَذَا فَهَذَا قَول من يتَعَلَّق قلبه بالأسباب وَعمي عَن تَدْبِير الله تَعَالَى وصنعه
وَمَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدْخل سَبْعُونَ ألفا من أمتِي الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب قيل يَا نَبِي الله من(1/404)
هم قَالَ الَّذين لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يسْتَرقونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ
فَإِنَّمَا كره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الكي وَاسْتِعْمَال النَّار فِي الْأَدْوِيَة وَكَذَلِكَ الرقى لِأَن أَكْثَره يشوبه الشّرك
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أقرب الرقى إِلَى الشّرك رقية الْحَيَّة وَالْجُنُون وَكَذَلِكَ الطَّيرَة من فعل الْجَاهِلِيَّة فَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر الْخِصَال الْمَكْرُوهَة انهم تركوها تورعا وتوكلوا على رَبهم وَلم يذكر أَنهم لَا يتداوون وَلَيْسَ فِي طلب المعاش والتداوي والمضي فِي الْأَسْبَاب على تَدْبِير الله تَعَالَى ترك للتفويض والتوكل إِذْ الْأَنْبِيَاء وَالرسل عَلَيْهِم السَّلَام هم طلاب المعاش وَأهل الْحَرْف والتجارات
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله يحب أَن يرى العَبْد محترفا
وَمر عمر رَضِي الله عَنهُ بِقوم فَقَالَ من أَنْتُم قَالُوا المتوكلون فَقَالَ أَنْتُم المتأكلون إِنَّمَا المتَوَكل رجل ألْقى حَبَّة فِي بطن الأَرْض وتوكل على ربه
وَإِنَّمَا ترك التَّوَكُّل بِالْقَلْبِ إِذا غفل عَن الله تَعَالَى وَكَانَ قلبه محجوبا فَإِذا طلب المعاش أَو تداوى صَار فتْنَة عَلَيْهِ وَتعلق قلبه بِهِ وَقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الرقى ثمَّ رخص فِيمَا يُؤمن فِيهِ الشّرك
روى جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن عَمْرو بن حزم دَعَا لامْرَأَة بِالْمَدِينَةِ(1/405)
لدغتها حَيَّة ليرقيها فَأبى فَأخْبر بذلك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَاهُ فَقَالَ عَمْرو إِنَّك لتزجر عَن الرقى فَقَالَ اقرأها عَلَيْهِ فقرأها فَقَالَ لَا بَأْس بهَا إِنَّمَا هِيَ مواثيق فَارق بهَا
وَعَن جَابر رَضِي الله عَنهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ رجل يكنى أَبَا مُذَكّر يرقي من الْعَقْرَب ينفع الله بهَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا مُذَكّر مَا رقيتك هَذِه اعرضها عَليّ فَقَالَ ابو مُذَكّر شجة قرينَة ملحة بَحر قغطى فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا بَأْس بهَا إِنَّمَا هِيَ مواثيق أَخذهَا سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام على الْهَوَام وَهَذِه لُغَة حمير(1/406)
- الأَصْل الثَّالِث وَالثَّمَانُونَ
فِي التَّنْبِيه على أَن الْعقُوبَة من الله تَعَالَى تعم وَالرَّحْمَة للمطيع
عَن يُوسُف بن عَطِيَّة الصفار قَالَ سَمِعت ابْن سِيرِين وَسَأَلَهُ رجل فَقَالَ يَا أَبَا بكر مَا تَقول فِي هَذَا الذَّر يَقع فِي طعامنا وشرابنا فنقتله فَقَالَ حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نَبيا من الْأَنْبِيَاء كَانَ فِي غزَاة لَهُ فَنزل تَحت شَجَرَة فلذعته نملة فامر بِتِلْكَ الشَّجَرَة فاحرقت فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ الا نملة مَكَان نملة
كَانَ هَذَا النَّبِي قد حاور ربه فِي شَأْن الْخلق وَرُوِيَ أَن ذَلِك كَانَ مُوسَى بن عمرَان فَقَالَ يارب تعذب أهل قَرْيَة بمعاصيهم وَفِيهِمْ(1/407)
الْمُطِيع فَكَأَنَّهُ أحب أَن يرِيه ذَلِك من عِنْده فَسلط عَلَيْهِ الْحر حَتَّى التجأ الى ظلّ شَجَرَة مستروحا وَعِنْدهَا بَيت النَّمْل فغلبه النّوم فَلَمَّا وجد لَذَّة النّوم لذعته النملة فأضجرته فدلكهن بقدمه وأحرق تِلْكَ الشَّجَرَة الَّتِي عِنْدهَا مساكنهم فَأرَاهُ الله تَعَالَى الْعبْرَة فِي ذَلِك إِنَّك تحيرت فِي عَذَابي أهل قَرْيَة وَفِيهِمْ الْمُطِيع والعاصي وَإِنَّمَا أجرمت إِلَيْك نملة فَكيف قَتلتهمْ وَلَيْسَ فِي هَذَا خطر عَن قتل النَّمْل لِأَن كل مَا أذاك أُبِيح لَك قَتله أَلا ترى أَن الفأر والغراب وَالْكَلب والحية وَالْعَقْرَب قد أُبِيح للْمحرمِ قَتلهَا وَكَذَلِكَ سَائِر الْهَوَام المؤذية إِلَّا إِن الْمُؤمن لَا يقتل هَذِه الْأَشْيَاء عَبَثا وَلكنه يَقْتُلهَا بِحَق إِذا كَانَ من تاذ أَو خوف وَلَيْسَ ذَاك بأعظم حُرْمَة من الْمُؤمن وَمَعَ ذَلِك يُبَاح دَفعه بِالْقَتْلِ(1/408)
- الأَصْل الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن النَّاس ينزلون مَنَازِلهمْ وتدبير الله فِي اخْتِلَاف أَحْوَالهم
عَن مَيْمُون بن أبي شبيب عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنهُ قَالَت مر عَلَيْهَا سَائل فَأمرت لَهُ بكسرة وَمر عَلَيْهَا رجل ذُو هَيْئَة فأقعدته فَقيل لَهَا فَقَالَت إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرنَا ان ننزل النَّاس مَنَازِلهمْ(1/409)
دبر الله تعال لعبيده الْأَحْوَال غنى وفقرا وَعزا وذلا ورفعة وضعة ليبلوهم فِي الدُّنْيَا أَيهمْ يشْكر على الْعَطاء وأيهم يصبر على الْمَنْع وأيهم يقنع بِمَا أُوتِيَ وأيهم يسْخط ثمَّ ينقلهم الى الْآخِرَة فَذَلِك يَوْم الْجَزَاء فالعاقل يعاشر أهل دُنْيَاهُ على مَا دبر الله لَهُم فالغني قد عوده الله النِّعْمَة وَهِي مِنْهُ كَرَامَة ابتلاء لَا كَرَامَة ثَوَاب قَالَ الله تَعَالَى فَأَما الْإِنْسَان إِذا مَا ابتلاه ربه فَأكْرمه ونعمه فَيَقُول رَبِّي أكرمن وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه فَيَقُول رَبِّي أهانن كلا
أَي لست أكْرم بالدنيا وَلَا أهين بمنعها فَإِذا لم تنزله الْمنزلَة الَّتِي أنزل الله تَعَالَى استهنت بِهِ وجفوته من غير جرم اسْتحق بِهِ ذَلِك الْجفَاء وَتَركه مُوَافقَة الله تَعَالَى فِي تَدْبيره وأفسدت عَلَيْهِ دينه وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أنزلوا النَّاس مَنَازِلهمْ أَي الْمنَازل الَّتِي أنزلهم الله من دنياهم أما الْآخِرَة فقد غيب شَأْنهَا عَن الْعباد فَإِذا سويت بَين الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِي مجْلِس أَو مأدبة أَو هَدِيَّة كَانَ مَا أفسدت أَكثر مِمَّا أصلحت فَإِن الْغَنِيّ يجد عَلَيْك إِذا أزريت بِحقِّهِ فَإِن الله تَعَالَى لم يعودهُ ذَاك وَالْفَقِير يعظم ذَلِك الْقَلِيل فِي عينه ويقنع بذلك لِأَن تِلْكَ عَادَته وَكَذَلِكَ مُعَاملَة الْمُلُوك والولاة على هَذَا السَّبِيل فَإِذا عاملت الْمُلُوك بمعاملة الرّعية فقد استخففت بِحَق السُّلْطَان وَهُوَ ظلّ الله تَعَالَى فِي أرضه بِهِ تسكن النُّفُوس وتجتمع الْأُمُور فالناظر إِلَى ظلّ الله عَلَيْهِم فِي الشّغل عَن الالتفاف الى سيرهم وأعمالهم وَإِنَّمَا نفر قوم من السّلف عَنْهُم وجانبوهم لِأَنَّهُ لم تمت شهوات نُفُوسهم وَلم يكن لقُلُوبِهِمْ مطالعة ظلّ الله تَعَالَى عَلَيْهِم فخافوا أَن يخالطوهم أَن يَجدوا حلاوة برهم فتخلط قُلُوبهم بقلوبهم فجانبوهم وأعرضوا عَنْهُم وتأولوا فِي ذَلِك لحَدِيث ابْن(1/410)
عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَلْعُون من أكْرم بالغنى وأهان بالفقر وَهَذَا من قلَّة معرفتهم بتأويله فَإِنَّهُم لَو نظرُوا إِلَيْهِم بِمَا ألبسوا من ظله لشغلوا عَن جَمِيع مَا هم فِيهِ وَلم يضرهم اختلاطهم وبهذه الْقُوَّة كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتابعون من بعدهمْ بِإِحْسَان يلقون الْأُمَرَاء الَّذين قد ظهر جَوْرهمْ ويقبلون جوائزهم ويظهرون الْعَطف عَلَيْهِم والنصيحة لَهُم
وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فتأويله أَن الَّذِي يعظم فِي عينه حطام الدُّنْيَا وَبَاعَ آخرته بدنياه من المنافسة فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَة فِيهَا وَعظم شَأْن الْأَغْنِيَاء فِي عينه لما يرى عَلَيْهِم من الدُّنْيَا فيعظمهم ويتملقهم ويكرمهم تكريما وتعظيما لما فِي أَيْديهم وَإِذا رأى من قد منع هَذَا وزويت عَنهُ الدُّنْيَا ازدراه وحقره فلغلبه الشَّهَوَات يعظم أَبنَاء الدُّنْيَا ويحقر أَبنَاء الْآخِرَة فَهُوَ مستوجب لعنة الله تَعَالَى لِأَنَّهُ مفتون يكرم مفتونا فَأَما عبد دقَّتْ الدُّنْيَا فِي عينه ورحم أهل الْبلَاء فَهُوَ يرى الْغَنِيّ مبتلى بغناه قد تراكمت عَلَيْهِ أثقال النِّعْمَة وغرق فِي حِسَابهَا وَعَلِيهِ وبالها غَدا فيرحمه فِي ذَلِك كالغريق الَّذِي يذهب بِهِ السَّيْل فَإِذا لقِيه أكْرمه وبره على مَا عوده الله تَعَالَى إبْقَاء على دينه لِئَلَّا يفْسد فَإِنَّهُ قد تعزز بدنياه وتكبر وتاه ويعظم ذَلِك فِي نَفسه فَإِذا حقرته فقد أهلكته لِأَن عزه دُنْيَاهُ فَإِذا أسقطت عزه فقد سلبته دُنْيَاهُ وَهَذِه محاربه لَا عشرَة فَعَلَيْك أَن تبره وتكرمه مداريا لَهُ على دينه ورفقا بِهِ وترحمه بقلبك وَقد صغر فِي عَيْنَيْك مَا خوله الله تَعَالَى من الدُّنْيَا وَهَذَا فعل الأنيباء والأولياء وَبِذَلِك أوصى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِذا جَاءَكُم كريم قوم فأكرموه
أَرَادَ من عوده قومه الاكرام من غير أَن ينسمه إِلَى دين أَو صَلَاح فَإِذا(1/411)
أَنْت مأجور باكرام من عوده قومه الاكرام فَكيف من عوده الله تَعَالَى وأكرمه ونعمه كَرَامَة الِابْتِلَاء فَإِذا رأى ذَا نعْمَة عظمه فِي الظَّاهِر تَعْظِيم بر ولطف ليبقى من دينه وَدين نَفسه وليكون تَدْبِير الله تَعَالَى الَّذِي وَضعه لَهُ فِي الْعِزّ والتعظيم بمكانه وَهُوَ فِي الْبَاطِن قلبه مِنْهُ بعيد وَهَكَذَا أهل الْفساد من الْمُوَحِّدين يلطف بهم ويرفق بهم فِي الظَّاهِر إبْقَاء على أَحْوَالهم فِي امْر دينهم والرفق مَحْبُوب مبارك
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله يحب الرِّفْق كُله
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من أعطي حَظه من الرِّفْق أعطي حَظه من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن حرم حَظه من الرِّفْق حرم حَظه من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى بِأَهْل بَيت خيرا أَدخل عَلَيْهِم بَاب الرِّفْق صدق رَسُول الله(1/412)
- الأَصْل الْخَامِس وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن الْمُؤمن يَمُوت بعرق الجبين
عَن بُرَيْدَة عَن أَبِيه رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانَ بخراسان فَدخل على ابْن أَخ لَهُ يعودهُ فَوَجَدَهُ فِي الْمَوْت فَإِذا هُوَ يعرق جَبينه فَقَالَ بُرَيْدَة الله أكبر سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الْمُؤمن يَمُوت بعرق الجبين
الْمُؤمن لما رأى من ذنُوبه فِي وَقت مقدمه على ربه فتراءى لَهُ قبح مَا جَاءَ بِهِ فيستحيي مِنْهُ فيعرق لذَلِك وَجهه لِأَن مَا سفل مِنْهُ قد مَاتَ وَإِنَّمَا بقيت قوى الْحَيَاة وحركاتها فِيمَا علا والحياة فِي الْعَينَيْنِ وَذَلِكَ وَقت الْحيَاء والرجاء والأمل فَإِذا عرق فَذَاك عَلامَة الْإِيمَان فَأَما الْكَافِر فَفِي عمى عَن هَذَا كُله(1/413)
وَعَن سعيد بن سوفة قَالَ دَخَلنَا على سلمَان الْفَارِسِي نعوده وَهُوَ مبطون فَقَالَ إِنِّي محدثك حَدِيثا لم أحدثه أحدا قبلك وَلَا أحدث أحدا بعْدك سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ارقبوا الْمَيِّت عِنْد مَوته فَأَما إِن رشحت جَبينه وذرفت عَيناهُ وانتشر منخراه فَهِيَ رَحْمَة من الله تَعَالَى قد نزلت بِهِ فَإِن غط غطيط الْبكر المخنوق وخمد لَونه وأزبد شدقاه فَهُوَ عَذَاب من الله تَعَالَى قد حل بِهِ ثمَّ قَالَ لامْرَأَته مَا فعل الْمسك الَّذِي جِئْنَا بِهِ من بلنجر قَالَت هوذا قَالَ فألقيه فِي المَاء ثمَّ اضربي بعضه بِبَعْض ثمَّ انضحي حول فِرَاشِي فَإِنَّهُ يأتيني الْآن قوم لَيْسُوا بجن وَلَا إنس فَفعلت فقمنا من عِنْده ثمَّ رَجعْنَا فوجدناه قد قبض
وَعَن عبد الله قَالَ موت الْمُؤمن بعرق الجبين إِن الْمُؤمن يبْقى عَلَيْهِ خَطَايَا من خطاياه فيجازف بهَا عِنْد الْمَوْت فيعرق لذَلِك جَبينه(1/414)
الأَصْل السَّادِس وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن الْكيس من أبْصر الْعَاقِبَة والأحمق من عمي عَنْهَا
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رجلا قَالَ يَا نَبِي الله أَي الْمُؤمنِينَ أَكيس قَالَ أَكْثَرهم ذكر للْمَوْت وَأَحْسَنهمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا وَإِذا دخل النُّور فِي الْقلب اِنْفَسَحَ وَاسْتَوْسَعَ قَالُوا مَا آيَة ذَلِك يَا نَبِي الله قَالَ الْإِنَابَة الى دَار الخلود والتجافي عَن دَار الْغرُور والاستعداد للْمَوْت قبل نزُول الْمَوْت ثمَّ قَرَأَ {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه}
الْمَوْت عَاقِبَة أَمر الدُّنْيَا فالكيس من أبْصر الْعَاقِبَة والأحمق من عمي عَنْهَا بحجب الشَّهَوَات الَّتِي قَامَت بَين يَدي قلبه فاقتضته إنجازها وجاءته(1/415)
الْأَمَانِي بمواعيدها الكاذبة المخلقة فَتَقول لَهُ خُذْهَا ثمَّ تتوب وأتته الشَّهْوَة وَتقول لَهُ خذني إِلَيْك ثمَّ تستغفر فَإِن الله غَفُور للمذنبين وحبِيب للتائبين فَهَذِهِ حجب كثيفة دون الْعَاقِبَة فَلَا يَرَاهَا والكيس من سعد بجميل نظر الله تَعَالَى واعطى النُّور الزَّائِد على نور الْمُوَحِّدين وَهُوَ نور الْيَقِين يهتك هَذَا النُّور الْحجب وَالدُّخَان والظلمة الَّتِي فِي الصَّدْر من الشَّهَوَات فسكن الدُّخان وانقشعت الظلمَة واستنار الصَّدْر فأبصر عَاقِبَة أمره وَأَنَّهَا قَاطِعَة لكل لَذَّة وشهوة وحائلة بَينه وَبَين كل أُمْنِية وَأَن عمره أنفاس مَعْدُودَة لَا يدْرِي مَتى ينْفد الْعدَد فَصَارَ من ذَلِك على خطر عَظِيم وَلَا يعلم مَتى يحل بِهِ الْمَوْت ويبغت بِهِ الْأَمر فيرحل إِلَيْهِ من دَار الْغرُور مغترا بِهِ مخدوعا عَنهُ مَعَ دنس الْمعاصِي وقبح الآثام فَلَا وُصُول إِلَى تَوْبَة وَلَا مهلة لَهُ فِي إنابة فَيكون مقدمه مقدم العبيد الاباق الَّذين أمهلهم الله فِي الدُّنْيَا وحلم عَنْهُم وَكَانُوا يحكمون لأَنْفُسِهِمْ بِمَا يشتهون فِي دنياهم وهم مستدرجون فِي مكره فيردهم إِلَيْهِ وَيحكم فيهم بِمَا يستوجبون من إباقهم قَالَ الله تَعَالَى ثمَّ ردوا الى الله تَعَالَى مَوْلَاهُم الْحق أَلا لَهُ الحكم وَهُوَ أسْرع الحاسبين فالكيس نظر بنوره الَّذِي من الله تَعَالَى عَلَيْهِ بِهِ فأبصر أَن الْمَوْت قَاطع لكل لَذَّة حَائِل بَينه وَبَين التَّوْبَة فانكسر قلبه وذبلت نَفسه وخمدت نَار شَهْوَته واكفهر الْحق فِي وَجه أمْنِيته واستعد لكل ذَنْب تَوْبَة واعتذارا وَمَكَان كل سَيِّئَة حَسَنَة واستغفارا لتَكون الْحَسَنَة غطاء للسيئة وَالتَّوْبَة محاء للخطيئة فَهَذَا تَفْسِير قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أكيسهم أَكْثَرهم ذكرا للْمَوْت وَأَحْسَنهمْ لَهُ استعداد فالاستعداد أَن يجانب التخليض مجانبة لَا يحْتَاج إِلَى استمهال إِذا فاجأه أَمر الله تَعَالَى وجاءته دَعوته فَيَقُول أمهلني حَتَّى أَتُوب وَأصْلح أَمْرِي وَحسن الاستعداد أَن يكون قد استعد للقائه وَالْعرض عَلَيْهِ بعد علمه أَن الْمَوْت يُؤَدِّيه إِلَيْهِ فطاب قلبه بِاللَّه(1/416)
تَعَالَى وروحه بِالطَّاعَةِ وَنَفسه تتجنب الشَّهَوَات والمنى ورفض التَّدْبِير لنَفسِهِ وتفويض ذَلِك إِلَى خالقه
وَهَذَا صفة أهل الْيَقِين الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم {الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة طيبين يَقُولُونَ سَلام عَلَيْكُم ادخُلُوا الْجنَّة} الْآيَة تسلم عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة من الله تَعَالَى وتبشرهم بِدُخُول الْجنَّة من غير حبس فِي موطن أَي حِسَاب فِي موقف وَإِنَّمَا سموا طيبين لِأَنَّهُ لم يبْق فيهم تَخْلِيط فطابوا روحا وطابوا قلبا وطابوا نفسا وَأما أهل التَّخْلِيط لَا يُقَال لَهُم هَذِه الْكَلِمَة عِنْد الْمَوْت وَإِنَّمَا يُقَال لَهُم {طبتم فادخلوها خَالِدين} عِنْد بَاب الْجنَّة بعد مَا محصوا بِعَذَاب الْقَبْر وأهوال الْقِيَامَة وَتَنَاول النيرَان فيهم بلفحاتها على الصِّرَاط وَالْحَبْس فِي الْعرض الْأَكْبَر فَإِذا خلي عَنْهُم وبلغوا بَاب الْجنَّة نُودُوا {سَلام عَلَيْكُم طبتم فادخلوها خَالِدين}
وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ النَّاس يعرضون ثَلَاث عرضات يَوْم الْقِيَامَة
فَأَما عرضتان فجدال ومعاذير وَأما فِي العرضة الثَّالِثَة تطاير الصُّحُف فالجدال للأعداء لأَنهم لَا يعْرفُونَ رَبهم فيظنون أَنهم إِذا جادلوه نَجوا وَقَامَت حججهم والمعاذير لله الْكَرِيم يعْتَذر الى أنبيائه عَلَيْهِم السَّلَام وَيُقِيم حجَّته عِنْدهم على الْأَعْدَاء ثمَّ يَبْعَثهُم الى النَّار قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا أحد أحب إِلَيْهِ الْمَدْح من الله تَعَالَى وَلَا أحد أحب إِلَيْهِ الْعذر من الله تَعَالَى(1/417)
والعرضة الثَّالِثَة للْمُؤْمِنين وَهُوَ الْعرض الْأَكْبَر وهم على ضَرْبَيْنِ مِنْهُم من نبهه فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا فكاد يَمُوت حَيَاء وفرقا فَأعْطى الْأمان غَدا من ذَلِك فَإِنَّهُ لن يجمع ذَلِك على العَبْد فِي موطنين
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ربكُم وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أجمع على عَبدِي خوفين وَلَا أجمع لَهُ أمنين فَمن خافني فِي الدُّنْيَا أمنته فِي الْآخِرَة وَمن أمنني فِي الدُّنْيَا أخفته فِي الْآخِرَة
وَمِنْهُم من يُرِيد أَن يعاتبه حَتَّى يَذُوق وبال الْحيَاء مِنْهُ ويرفض عرقا بَين يَدَيْهِ وَيفِيض الْعرق مِنْهُم على اقدامهم من شدَّة الْحيَاء ثمَّ يغْفر لَهُم ويرضى عَنْهُم فَمن استحيى من الله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا مِمَّا صنع استحيى الله تَعَالَى من تفتيشه وسؤاله وَلَا يجمع عَلَيْهِ حيائين كَمَا لَا يجمع عَلَيْهِ خوفين وَقد ستر محاسنه مساويه حَتَّى يصير فِي ستر محاسنه وَستر عَلَيْهِ علمه حَتَّى لَا يستحيي من الْخلق وَمن نَفسه
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام إِذا دخل النُّور الْقلب اِنْفَسَحَ وانشرح فدخول النُّور فِي الْقلب والانفساح فِي الصَّدْر فَإِن الصَّدْر بَيت الْقلب وَمِنْه تصدر الْأُمُور فَيدْخل النُّور فِي الْقلب وَمِنْه ينفسح الصَّدْر وينشرح ويتسع لِأَن الصَّدْر كَانَ مظلما بالشهوات المتراكمة فِيهِ والأماني والفكر وعجائب النَّفس ودواهيها فَكَانَ يضيق بأوامر الله تَعَالَى لِأَنَّهَا خلاف امنيته وهواه فَلَمَّا قذف بِالنورِ فِيهِ نفى الظلمَة وأشرق الصَّدْر واتسع فِيهِ أَمر الله تَعَالَى ونصائحه وآدابه ومواعظه فَهَذَا كُله عَلامَة الْبَاطِن وَأما عَلامَة الظَّاهِر فَثَلَاث خِصَال أَشَارَ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَيْهَا بقوله الْإِنَابَة إِلَيّ دَار الخلود والتجافي عَن دَار الْغرُور والاستعداد للْمَوْت فَأَما الانابة(1/418)
إِلَى دَار الخلود فَهِيَ أَعمال الْبر لِأَنَّهَا وضعت جَزَاء لأعمال الْبر قَالَ الله تَعَالَى {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ}
فَإِذا إنكمش فِي أَعمال الْبر فَهُوَ إنابته وَأما التَّجَافِي عَن دَار الْغرُور فَهُوَ أَن يخمد حرصه على الدُّنْيَا وَلها عَن طلبَهَا وَأَقْبل على مَا يعنيه مِنْهَا وَاكْتفى بهَا وقنع فقد تجافى عَن دَار الْغرُور
وَأما الاستعداد للْمَوْت هُوَ أَن يعلم أَنه رُبمَا كَانَ فِي قَضَاء شَهْوَة فِي مساخط الله تَعَالَى ويخافض بِأَمْر الله تَعَالَى ويبغت بدعوته وَلَا بُد من الْإِجَابَة فِي أسْرع من اللمحة فَلَا رَجَاء للمهلة وَلَا وُصُول الى التَّوْبَة فَيحكم أُمُوره بالتقوى فَكَانَ نَاظرا فِي كل أَمر وَاقِفًا متأثيا متثبتا حذرا يتورع عَمَّا يرِيبهُ إِلَى مَا لَا يرِيبهُ فَمن فعل ذَلِك فقد استعد للْمَوْت وَإِنَّمَا صَارَت لَهُ هَذِه الرُّؤْيَا بِالنورِ الَّذِي ولج الْقلب(1/419)
- الأَصْل السَّابِع وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن من النَّاس مَفَاتِيح للخير وَمن النَّاس نَاس مَفَاتِيح للشر
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من النَّاس نَاس مَفَاتِيح للخير مغاليق للشر وَمن النَّاس مَفَاتِيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل مَفَاتِيح الْخَيْر على يَدَيْهِ وويل لمن جعل مَفَاتِيح الشَّرّ على يَدَيْهِ
فالخير مرضاة الله وَالشَّر مسخطه وَإِذا رَضِي الله عَن عبد كَانَ عَلامَة رِضَاهُ عَنهُ أَن يَجعله مفتاحا للخير فَإِن رُؤِيَ ذكر الْخَيْر بِرُؤْيَتِهِ وَإِن حضر حضر مَعَه الْخَيْر وَإِن ذكر ذكر الْخَيْر مَعَه وَإِن نطق نطق بِخَير وَعَلِيهِ من الله تَعَالَى سمات ظَاهِرَة تذكر بِالْخَيرِ من لقِيه يتقلب فِي الْخَيْر بِعَمَل الْخَيْر وينطق بِالْخَيرِ ويفكر فِي الْخَيْر ويضمر على الْخَيْر وَهُوَ مِفْتَاح الْخَيْر حَيْثُ مَا حضر وَسبب الْخَيْر لكل من خالطه أَو عاشره أَو صَحبه وَالْآخر يتقلب فِي الشَّرّ يعْمل بِالشَّرِّ وينطق بِالشَّرِّ ويفكر بِالشَّرِّ ويضمر على شَرّ فَهُوَ مِفْتَاح الشَّرّ حَيْثُمَا حضر وَسبب الشَّرّ لكل من(1/420)
421 - @ خالطه أَو صَحبه فصحبة الأول دَوَاء لَا ترجع مِنْهُ إِلَّا بِزِيَادَة وصحبة الثَّانِي دَاء لَا ترجع مِنْهُ إِلَّا بِنُقْصَان فَمن كَانَ بَين يَدي قلبه دُنْيَاهُ فَإِنَّمَا يفْتَتح بدنياه إِذا لقيك وَمن كَانَ بَين يَدي قلبه آخرته فَإِنَّمَا يفْتَتح بآخرته إِذا لقيك وَمن كَانَ بَين يَدي قلبه خالقه فَإِنَّمَا يفْتَتح بِذكرِهِ إِذا لقيك قل انما ينشر عَلَيْك بره ويحدثك عَمَّا يطالع قلبه فالناطق عَن دُنْيَاهُ يرغبك فِيهَا ويزين لَك أحوالها فالاستمتاع مِنْهُ سقم يورطك فِي ورطته ويلقيك فِي وهدته والناطق عَن آخرته يرغبك فِيهَا ويزين لَك أحوالها ويقلل الدُّنْيَا فِي عَيْنك ويزهدك فِيهَا وَيقف بك مِنْهَا على سَبِيل خطر لما يُخْبِرك عَن فتنها وغرورها وخدعها وأمانيها الكاذبة وَمَا يلقى أَهلهَا غَدا من شدَّة الْحساب وأهوال الْقِيَامَة والناطق عَن الله تَعَالَى عز ذكره يقف بك على تَدْبِير الله تَعَالَى وعَلى سَبِيل الاسْتقَامَة فِي العبودة ويلهيك عَن نَفسك وَعَن الدَّاريْنِ لما يفتح عَلَيْك من منن الله تَعَالَى وإحسانه وَلما يكْشف عَن آلَاء الله من الغيوب المستترة الَّتِي حرم هَذَا الْخلف مَعْرفَتهَا والانتباه لَهَا حَتَّى يؤديك الى سنَن التَّوْحِيد فيرقى بك الى فردانيته فتتفرد للفرد الْوَاحِد وهم الكبراء الَّذين رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يَا أَبَا جُحَيْفَة جَالس الكبراء وخالل الْحُكَمَاء وَسَائِل الْعلمَاء
فَالْعُلَمَاء بِعلم اموره ينطقون فَالْمَسْأَلَة لَهُم تسائلهم عَن حَلَال الله وَحَرَامه والحكماء بِعلم تَدْبيره ينطقون فالمخاللة لَهُم تخالله وَتصير لَهُ مأمنا فيفضي إِلَيْك حكمته والكبراء بِعلم آلائه ينطقون تكبروا فِي كبرياء الله وعظمته وانفردوا فِي فردانيته واعتزوا بِهِ فرؤيتهم دَوَاء وَكَلَامهم شِفَاء فالمجالسة لهَؤُلَاء فقد جعل الله تَعَالَى فِي الْخَيْر من الْبركَة مَا يغلب الشَّرّ حَيْثُ مَا كَانَ(1/421)
- الأَصْل الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن إِجْمَاع الْأمة حجَّة وَاخْتِلَافهمْ رَحْمَة
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يجمع الله أمتِي أَو هَذِه الْأمة على ضَلَالَة أبدا وَيَد الله على الْجَمَاعَة هَكَذَا فاتبعوا السوَاد الْأَعْظَم فَإِنَّهُ من شَذَّ شَذَّ فِي النَّار
وعد الله رَسُوله أَن لَا يزَال دينه ظَاهرا على الْأَدْيَان عَالِيا غَالِبا لأَهْلهَا النُّصْرَة مَعَه حَيْثُمَا كَانَ قَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله
وَهَذَا الدّين يشْتَمل على الْإِيمَان وَالْإِسْلَام فجملة الْإِيمَان هُوَ الايمان بِاللَّه وَحده لَا شريك لَهُ وبالرسل عَلَيْهِم السَّلَام والكتب كلهَا(1/422)
وَالْمَلَائِكَة وَالْيَوْم الآخر والبعث وَالْجَزَاء وَالْقدر خَيره وشره هَذَا جملَة الْإِيمَان وَجُمْلَة الاسلام هِيَ الصَّلَوَات الْخمس بوضوئها فِي مواقيتها وَالْغسْل من الْجَنَابَة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَتَحْرِيم مَا حرم الله وَتَحْلِيل مَا أحل الله تَعَالَى هَذِه جملَة الْإِسْلَام وَعَلِيهِ السوَاد الْأَعْظَم لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَمن شَذَّ عَن شَيْء مِنْهُ فجحده فقد خرج من الشَّرِيعَة وخاب من الْإِسْلَام وزاغ عَن سَبِيل الْهدى وشذ إِلَى النَّار ثمَّ للْعُلَمَاء مدَاخِل ومقال فِي الْحَوَادِث من طَرِيق الاحكام وَاخْتِلَافهمْ فِيهَا رَحْمَة وَاسِعَة لأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الله تَعَالَى عَلَيْهِم بذلك وَسَهل لَهُم سبل النّظر وَالِاجْتِهَاد فِي الرَّأْي فِيمَا لم يَجدوا فِيهِ تَنْزِيلا وَلَا سنة عَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام(1/423)
- الأَصْل التَّاسِع وَالثَّمَانُونَ
-
فِي صفة الْجنان الْأَرْبَع
عَن عبد الله بن قيس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جنان الفردوس أَربع جنتان من فضَّة آنيتهما وَمَا فيهمَا وجنتان من ذهب آنيتهما وَمَا فيهمَا وَمَا بَين الْقَوْم وَبَين أَن ينْظرُوا الى رَبهم إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء على وَجهه فِي جنَّة عدن
هَذَا تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان وَقَوله وَمن دونهمَا جنتان وَقد وَصفهم الله تَعَالَى فِي سُورَة الرَّحْمَن وَقَوله مَا بَين الْقَوْم وَبَين أَن ينْظرُوا الى رَبهم إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء فِي جنَّة عدن(1/424)
فجنة عدن دَار الرَّحْمَن ومقصورته والفردوس جنَّات الْأَوْلِيَاء والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام بِقرب جنَّة عدن فعدن كالمدينة والفردوس كالقرى حولهَا فَإِذا تجلى الرب لأهل الفردوس رفع الْحجاب وَهُوَ رِدَاء الْكِبْرِيَاء فَيَنْظُرُونَ الى جَلَاله وجماله فحجابه فِي جنَّات عدن رِدَاء الْكِبْرِيَاء وَفِي الدُّنْيَا النَّار
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام حجابه النَّار لَو كشفها لأحرقت سبحات وَجهه كل شَيْء أدْركهُ بَصَره
وَهَذَا لِأَن أَيَّام الدُّنْيَا أَيَّام الْملك وَالسُّلْطَان والربوبية وَأَيَّام الْآخِرَة أَيَّام الْمجد وَالْكَرم وَالْبر والمفاوضة فَقَالَ هَهُنَا حجاب وَهُنَاكَ رِدَاء
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ان من أهل الْجنَّة من ينظر الى الله تَعَالَى غدْوَة وعشيا
وَفِي حَدِيث آخر أَن أهل الْجنَّة يزورون فِي كل يَوْم جُمُعَة فَيَنْظُرُونَ إِلَى الله تَعَالَى وَلِلْقَوْمِ فِي ذَلِك منَازِل ودرجات متفاوته(1/425)
- الأَصْل التِّسْعُونَ
-
فِي الْفرق بَين حسن الْأَشْيَاء عِنْد أولي الْأَلْبَاب وَبَين حسنها عِنْد السُّفَهَاء
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت أهْدى النَّجَاشِيّ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حلية فِيهَا خَاتم من ذهب فِيهِ فص حبشِي فَأَخذه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعُود أَو بِبَعْض أَصَابِعه وَإنَّهُ لمعرض عَنهُ ثمَّ دَعَا ابْنة ابْنَته امامة ابْنة أبي الْعَاصِ فَقَالَ (تحلي بِهَذَا يَا بنية)
جعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحِلْية زِينَة لجوارح الْإِنْسَان فَإِذا لبسهَا زانه لذَلِك وَإِذا زانه حلاه فَصَارَ ذَلِك الْعُضْو أحلى فِي أعين الناظرين وَلذَا سمي حلية لِأَنَّهُ تحلي تِلْكَ الْجَوَارِح فِي أعين الناظرين وَفِي قُلُوبهم قَالَ الله تَعَالَى وتستخرجون مِنْهُ حلية تلبسونها وَهِي اللُّؤْلُؤ فَمَا كَانَ من ذهب فللاناث وَيحرم على الذُّكُور وَمَا كَانَ من فضَّة أَو جَوْهَر فمطلق للرِّجَال وَالنِّسَاء وَقد لبس صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ام خَاتمًا اتَّخذهُ من فضَّة وفصه مِنْهُ
وَعَن نَافِع أَن حَفْصَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صاغت حليا بِثَلَاثِينَ ألف(2/5)
دِرْهَم وَجَعَلته حَبِيسًا على نسَاء آل عمر رَضِي الله عَنهُ فَلم تكن تُؤدِّي زَكَاته وَقد خلق الله تَعَالَى الْآدَمِيّ خلقا سويا بارزا فَضله قدمه على سَائِر الْخلق فِي أرضه وكل خلق رَبِّي حسن قَالَ الله تَعَالَى أحسن كل شَيْء خلقه
وَظهر حسن الْأَشْيَاء عِنْد أولي الْأَلْبَاب والبصائر والعقول لأَنهم ينظرُونَ إِلَى صنعه فِي الْأُمُور وَأَحْكَامه ولطفه فِي الْأَشْيَاء وَظهر الْحسن عِنْد السُّفَهَاء مَا تحلو فِي نُفُوسهم عِنْد مُوَافقَة شهواتهم فَإِنَّهُم ينظرُونَ بِعَين الشَّهْوَة وَهِي سقيمة والحكماء ينظرُونَ بِعَين الْحِكْمَة وَهِي صَحِيحَة والعارفون ينظرُونَ بِعَين الْمعرفَة إِلَى صنعه ولطفه فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ والزينة والحلية حق وَإِنَّمَا يُفْسِدهَا الْإِرَادَة وَالْقَصْد فَإِذا كَانَ الْإِرَادَة لله تَعَالَى فقد أَقَامَ حَقًا من حُقُوق الله تَعَالَى وَعبد الله باقامته وَإِذا كَانَ لغير الله صَار وبالا كَسَائِر الْأَشْيَاء وَمثل ذَلِك مَا يرْوى أَن جمَاعَة أَتَوْ منزل زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام فَإِذا فتاة جميلَة رائعة أشرق لَهَا الْبَيْت حسنا قَالُوا من أَنْت قَالَت أَنا إمرأة زَكَرِيَّا قَالُوا فِيمَا بَينهم كُنَّا نرى نَبِي الله لَا يُرِيد الدُّنْيَا فَإِذا هُوَ قد اتخذ امْرَأَة جميلَة رائعة قَالُوا فَأَيْنَ هُوَ قَالَت فِي حَائِط آل فلَان يعْمل لَهُ فَأتوهُ فَإِذا هُوَ قرب رغيفين فَأكل وَلم يدعهم ثمَّ قَامَ فَعمل بَقِيَّة عمله وَقَالَ لَهُم حَاجَتكُمْ قَالُوا جِئْنَا لأمر وَلَقَد كَانَ يغلبنا مَا رَأينَا على مَا جِئْنَا لَهُ فَقَالَ هاتوا قَالُوا أَتَيْنَا مَنْزِلك فَإِذا امْرَأَة جميلَة رائعة وَكُنَّا نرى نَبِي الله لَا يُرِيد الدُّنْيَا فَقَالَ إِنِّي إِنَّمَا تزوجت امْرَأَة جميلَة رائعة لأكف بهَا بَصرِي وأحفظ بهَا فَرجي قَالَ فَخرج نَبِي الله مِمَّا قَالُوا وَقَالُوا ورأيناك قربت رغيفين فَأكلت وَلم تدعنا قَالَ إِن الْقَوْم استأجروني على عمل فَخَشِيت أَن أَضْعَف عَن عَمَلهم إِن لم آكل وَلَو أكلْتُم معي لم يكفني وَلم يكفكم فَخرج نَبِي الله مِمَّا قَالُوا(2/6)
- الأَصْل الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ
-
فِي الْخِصَال الْمَنْظُومَة للشكر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ على الْمِنْبَر يخْطب النَّاس وتلا هَذِه الْآيَة إعملوا آل دَاوُد شكرا وَقَلِيل من عبَادي الشكُور
ثمَّ قَالَ (ثَلَاث من أوتيهن فقد أُوتِيَ مثل مَا أُوتِيَ دَاوُد فَقيل لَهُ مَا هِيَ يَا رَسُول الله قَالَ الْعدْل فِي الرضى وَالْغَضَب وَالْقَصْد فِي الْفقر والغنى وخشية الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة)
مَعْنَاهُ أَن هَذِه الْخِصَال منتظمة للشكر من أَتَى الله بِهن فَهُوَ شَاكر وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام (ثَلَاث منجيات وَثَلَاث مهلكات فَأَما المنجيات فخشية الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْحكم بِالْحَقِّ عِنْد الرضى وَالْغَضَب والاقتصاد عِنْد الْفقر والغنى وَأما المهلكات فشح مُطَاع وَهوى مُتبع وَإِعْجَاب الْمَرْء بِنَفسِهِ)(2/7)
وَقد أَمر الله آل دَاوُد أَن يعملوا شكرا أَي يعملوا عملا يكون ذَلِك الْعَمَل شكرا لما آتَاهُم من النعم وفضلهم بهَا فأجمل عَلَيْهِ السَّلَام لهَذِهِ الْأمة فِي ثَلَاث خِصَال فَقَالَ من أوتيهن فقد أُوتِيَ الشُّكْر فَهُوَ شَاكر كشكر آل دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ أَن الْأَشْيَاء الَّتِي أَعْطَيْت دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام فاستعملاها من أَجلي شكرا لي وَلم يبطروا بِهَذِهِ النِّعْمَة فيغفلوا عني بل صيروا اسْتِعْمَالهَا لي فَصَارَ شكرا وَإِذا أُوتِيَ العَبْد هَذِه الْخِصَال الثَّلَاث قوي على مَا قوي عَلَيْهِ آل دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام(2/8)
- الأَصْل الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ
-
فِي الْحَث على ترك مَا لَا يَعْنِي
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه)
الْأَشْيَاء لَا تكون قبيحة وَلَا حَسَنَة فِي نَفسهَا وَإِنَّمَا تحسن وتقبح بِالشَّرْعِ وَلِهَذَا كَانَ فِيمَا تقدم من الشَّرَائِع أَفعَال قد أطلق الله تَعَالَى فِيهَا فَكَانَ غير قَبِيح فَلَمَّا حرمه حل بِهِ الْقبْح كَنِكَاح الْأَخَوَات وَالْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ كَانَ مُطلقًا وَكَانَ حسنا فَلَمَّا حرمهَا صَارَت فَاحِشَة ومقتا وَالْمُسلم قد اعْتقد بِقَلْبِه وحدانية الله تَعَالَى لَا شريك لَهُ وعرفه رَبًّا أسلم نَفسه إِلَيْهِ وَصَارَ لَهُ عبدا بِكُل مَا يَأْمر وَينْهى وَيحكم ويشاء فامرهم بِالْحَقِّ وزجرهم من الْبَاطِل وَبَين الْحق وَالْبَاطِل(2/9)
فِي تَنْزِيله الْكَرِيم فَكل شَيْء يعرض لِلْمُؤمنِ فَلم يعنه تَركه من فضول الْأَشْيَاء وفضول الطَّعَام وفضول الْكَلَام وفضول المَال وفضول الْأَعْمَال والأمور الَّتِي لَهُ مِنْهَا يَد وغنى فَترك هَذِه الفضولات دَلِيل على حسن إِسْلَام نَفسه إِلَى ربه وبذله عبودية لَهُ(2/10)
- الأَصْل الثَّالِث وَالتِّسْعُونَ
-
فِي التَّعَوُّذ بِنِسْبَة الْحق تَعَالَى
عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودنِي فَقَالَ أُعِيذك بِاللَّه الْأَحَد الصَّمد الَّذِي لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد من شَرّ مَا تَجِد فرددها سبعا فَلَمَّا أَرَادَ الْقيام قَالَ (تعوذ بهَا فَمَا تعوذ بِخَير مِنْهَا يَا عُثْمَان فَمن تعوذ بهَا فقد تعوذ بِمَا يعدل ثلث الْقُرْآن وبنسبة الله تَعَالَى الَّتِي رضيها لنَفسِهِ)(2/11)
- الأَصْل الرَّابِع وَالتِّسْعُونَ
-
فِي حِكْمَة الله تَعَالَى فِيمَا نهى عَن قَتله وَأمر بقتْله
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد
خلق الله تَعَالَى فِي الأَرْض أمما ثمَّ خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام وأبرز فَضله على سَائِر الْبَريَّة بِأَن سخر لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض قَالَ الله تَعَالَى {خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} بِأَن فضل الْآدَمِيّ على سَائِر الْأُمَم قَالَ الله تَعَالَى وَلَقَد كرمنا بني آدم الْآيَة
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إِن الله تَعَالَى خلق ألف أمة سِتّمائَة فِي الْبَحْر وَأَرْبَعمِائَة فِي الْبر وَإِن(2/12)
أول هَلَاك هَذِه الْأمة الْجَرَاد فَإِذا هَلَكت الْجَرَاد تتابعته الْأُمَم مثل نظام السلك إِذا انْقَطع)
وَإِنَّمَا تهْلك الْأُمَم لهلاك الْآدَمِيّين لِأَنَّهَا سخرت لَهُم وَمن فضل الْآدَمِيّين على سَائِر الْأُمَم أَن جَمِيعهَا يعودون تُرَابا يَوْم الْقِيَامَة والآدميون يوقفون للثَّواب وَالْعِقَاب والآدميون وَغَيرهم من الْأُمَم جَوَاهِر على اخْتِلَاف تربَتهَا الَّتِي مِنْهَا خلقت وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله تَعَالَى خلق آدم من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض جَاءَ مِنْهُم الْأَحْمَر وَالْأسود والأبيض والسهل والحزن والخبيث وَالطّيب)
فَكَمَا ترى فِي بني آدم جواهرهم حَتَّى يظْهر مِنْهُم معالي الْأَخْلَاق ومدانيها كَذَلِك فِي سَائِر هَذِه الْأَشْيَاء من الدَّوَابّ والوحوش وَالطير فالحية أبدت جوهرها حَيْثُ خانت آدم عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى لعنت وأخرجت من الْجنَّة فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتلها وَقَالَ (اقتلوها وَإِن كُنْتُم فِي الصَّلَاة) والوزغة أبدت جوهرها فنفخت على نَار نمْرُود عَلَيْهِ اللَّعْنَة فلعنت
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (من قتل وزغة فَكَأَنَّمَا قتل كَافِرًا)
والفأر أبدت جوهرها فَكُن يقرضن حبال سفينة نوح عَلَيْهِ السَّلَام(2/13)
فَشكى نوح إِلَى الله تَعَالَى فَأوحى إِلَيْهِ أَن امسح جبهة الْأسد فعطس فَخرج سنوران فأكلا الفار ثمَّ كثرت الْعذرَة فِي السَّفِينَة فَأوحى إِلَيْهِ أَن امسح ذَنْب الْفِيل فنثر خنزيران فاكلا الْعذرَة والغراب أبدى جوهره حَيْثُ بَعثه نوح عَلَيْهِ السَّلَام من السَّفِينَة ليَأْتِيه بِخَبَر الأَرْض فَترك أمره وَأَقْبل على جيفة وَالْحمار أبدى جوهره حَيْثُ تلوط ونزا على ذكر
قَالَ ابْن سِيرِين لَيْسَ شَيْء من الدَّوَابّ يعْمل عمل قوم لوط إِلَّا الْخِنْزِير وَالْحمار والضفدع أبدى جوهره حَيْثُ جَاءَ بِالْمَاءِ ليطفىء عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ناره فأثيب أَن جعل مَكَانَهُ المَاء وَأَنَّهَا أَكثر الدَّوَابّ تسبيحا والنملة أبدت جوهرها حَيْثُ أثنت على سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَت {لَا يحطمنكم سُلَيْمَان وَجُنُوده وهم لَا يَشْعُرُونَ} والنحلة مَذْكُورَة فِي التَّنْزِيل قَالَ الله تَعَالَى {أَن اتخذي من الْجبَال بُيُوتًا}
والهدهد كَانَ رَسُول سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام الي بلقيس وحامل كِتَابه والمؤدي عَنْهَا خَبَرهَا إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام والصرد يُقَال لَهُ صرد الصوام
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أول طير صَامَ الصرد لما خرج إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام من الشَّام إِلَى الْحرم فِي بِنَاء الْبَيْت كَانَت السكينَة مَعَه والصرد وَكَانَ الصرد دَلِيله إِلَى الْموضع والسكينة مِقْدَاره فَلَمَّا صَار إِلَى الْبقْعَة وقفت السكينَة على مَوضِع الْبَيْت وَنَادَتْ ابْن يَا إِبْرَاهِيم على مِقْدَار ظِلِّي
نهى عَن قتل النملة لِأَنَّهَا أثنت على سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام بأبلغ مَا تقدر وَنهى عَن قتل النَّحْل لِأَن فِيهِ شِفَاء(2/14)
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ الذبان كلهَا فِي النَّار يَجْعَلهَا عذَابا لأهل النَّار إِلَّا النَّحْل
وَنهى عَن قتل العنكبوت لِأَنَّهُ نسج على غَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الهدهد لِأَنَّهُ كَانَ دَلِيل سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام على المَاء وَعَن الضفدعة لِأَنَّهَا كَانَت تصب المَاء على نَار إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَعَن الصرد لِأَنَّهُ دلّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام على الْبَيْت فقد علم الله سُبْحَانَهُ من جَوَاهِر هَذَا الْخلق فَاخْتَارَ لمحبوبه من الْأُمُور من قد علم طيب جوهره وَأظْهر الْآخرُونَ بأفعالهم خبث جواهرهم مثل الْفَأْرَة والغراب والوزغة والحية وَيحل قَتلهَا من غير أَذَى فَأَما غير ذَلِك إِذا آذَى فَيحل قَتله وَدفع شَره عَن نَفسه
وَعَن زيد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تسبوا الديك فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الصَّلَاة)(2/15)
- الأَصْل الْخَامِس وَالتِّسْعُونَ
-
فِي سر قَوْله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ وَلَا يجد لَهُ من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا}
عَن حَيَّان قَالَ صَحِبت ابْن عمر من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة فَقَالَ لنافع لَا تمر بِي على المصلوب يَعْنِي ابْن الزبير قَالَ فَمَا فجئه فِي جَوف اللَّيْل أَن صك محمله جذعه فَجَلَسَ يمسح عَيْنَيْهِ ثمَّ قَالَ يَرْحَمك الله أَبَا خبيب ان كنت وان كنت وَلَقَد سَمِعت أَبَاك الزبير يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يعْمل سوء يجز بِهِ فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة فَإِن يَك هَذَا بِذَاكَ فهمه همه قَالَ الله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} وَهَذَا عَام
ثمَّ ميز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يجز بِهِ فِي الدُّنْيَا أَو الْآخِرَة وَلَيْسَ يجمع الْجَزَاء فِي الموطنين
وَرُوِيَ أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يَا رَسُول الله مَا هَذِه بِبَقِيَّة منا قَالَ يَا أَبَا بكر إِنَّمَا يجزى بِهِ الْمُؤمن فِي الدُّنْيَا ويجزى بهَا الْكَافِر يَوْم الْقِيَامَة(2/16)
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى قَالَ أَلَسْت تنصب أَلَسْت تحزن أَلَسْت تصيبك اللأواء قَالَ بلَى قَالَ فَذَلِك مَا تُجْزونَ بِهِ
وَقَول ابْن عمر ان يَك هَذَا بِذَاكَ فهمه همه فَإِن ابْن الزبير قَاتل فِي حرم الله وأحدث فيهمَا حَدثا عَظِيما حَتَّى أحرق الْبَيْت وَرمى الْحجر الْأسود بالمنجنيق فانصدع حَتَّى ضبب بِالْفِضَّةِ فَهُوَ إِلَى يَوْمنَا كَذَلِك وَسمع للبيت أنينا آه آه
وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم فتح مَكَّة إِنَّهَا لَا تحل لأحد بعدِي وَإِنَّمَا احلت لي سَاعَة من نَهَار وانها حرمت يَوْم خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض
فَلَمَّا رأى ابْن عمر فعله ثمَّ رَآهُ مصلوبا ذكر قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ذَلِك وَذَلِكَ لِأَن الْمُؤمن من يجزى بالسوء فِي الدُّنْيَا بِالنّصب والتعب ونوائب الدُّنْيَا الْحزن وَالْغَم وَالْكَافِر يُصِيبهُ ذَلِك وَلَيْسَ ذَاك جَزَاء لَهُ بالسوء الَّذِي قد عمل وادخر جَزَاؤُهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لِأَن جَمِيع مَا يُصِيب الْكَافِر من المصائب لَا يصبر فِيهَا وَإِن صَبر فصبره تجلد لَا حسبَة وَتَسْلِيم وَالْمُؤمن فِي كل ذَلِك صابر محتسب مذعن وَالْكَافِر ساخط على ربه مُضْمر على عداوته لِأَن الْمُؤمن حبب إِلَيْهِ الْإِيمَان وزين فِي قلبه فالتذت نَفسه وَطَابَتْ فلَان الْقلب ورق الْفُؤَاد وراحت النَّفس وَطَابَتْ بلذتها فانقاد لَهُ واستسلم وَأُلْقِي بيدَيْهِ سلما فان جَاءَتْهُ أَحْوَال المكاره تحملهَا وَهُوَ فِي ذَلِك رَاض عَنهُ طيب النَّفس يحمده بِلِسَانِهِ ويرجوه بِقَلْبِه وَطَابَتْ نَفسه بِمَا يرى من رَحْمَة(2/17)
الله تَعَالَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قد محصه وطهره وَإِذا خرج من الدُّنْيَا انْقَطع رجاؤه من جَمِيع الْخلق وَكَانَ مُتَعَلق رجائه خالقه فَإِذا أعْطى صَحِيفَته يَوْم الْقِيَامَة فَأتى على سيئاته قيل لَهُ تجَاوز عَن قرَاءَتهَا فقد تجاوزنا عَنْك بِمَا أَصَابَك فِي الدُّنْيَا
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا من شَيْء يُصِيب الْمُؤمن من حزن وَلَا نصب وَلَا وصب حَتَّى الْهم يهمه إِلَّا أَن الله تَعَالَى يكفر عَنهُ سيئاته)
وَفِي رِوَايَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تصيب الْمُؤمن شَوْكَة فَمَا فَوْقهَا إِلَّا رَفعه الله بهَا دَرَجَة أَو حط عَنهُ خَطِيئَة)
وَمن هَهُنَا قيل إِن الْمَرَض إِذا كَانَ عُقُوبَة لَا يقبل الدَّوَاء لِأَنَّهُ قد جوزي بهَا فِي الدُّنْيَا
قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا أنزل الله من دَاء إِلَّا أنزل لَهُ دَوَاء فَإِذا كَانَت عُقُوبَة فَلَا دَوَاء لَهُ حَتَّى تَنْقَضِي مُدَّة الْعقُوبَة وَينزل الْعَفو إِن شَاءَ الله تَعَالَى)(2/18)
- الأَصْل السَّادِس وَالتِّسْعُونَ
-
فِي الْقبْلَة وتقبيل الباكورة
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أُتِي بالباكورة من كل شَيْء قبلهَا ووضعها على عينه الْيُمْنَى ثَلَاثًا ثمَّ على عينه الْيُسْرَى ثَلَاثًا ثمَّ يَقُول (اللَّهُمَّ كَمَا بلغتنا أَولهَا فَبَلغنَا آخرهَا ثمَّ يُعْطِيهَا أَصْغَر الْولدَان)
الْقبْلَة على وُجُوه قبْلَة شَهْوَة وقبلة رَحْمَة وقبلة حنين وقبلة اشتياق وَكلهَا عبَادَة إِذا أُرِيد بهَا وَجه الله تَعَالَى وَأَصلهَا من الْقلب لِأَن الرأفة وَالرَّحْمَة معدنهما الْقلب ثمَّ تصير الرَّحْمَة مِنْهَا إِلَى الكبد والرأفة إِلَى الطحال وَلذَلِك قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه الرَّحْمَة فِي الكبد والرأفة فِي الطحال
فَإِذا تقلب الْقلب بِمَا فِيهِ من الرأفة فارت الرأفة وَإِنَّمَا قيل رأفة(2/19)
لِأَنَّهُ يرؤف ويفور بحرارته والرؤف والفؤر بِمَعْنى وَاحِد وَإِذا فار خرجت حرارته من فَم الْقلب إِلَى الصَّدْر وفار إِلَى الْحلق فَاسْتعْمل الشفتين بذلك وَهُوَ تقبيلهما لتقليب الْقلب بالرأفة فَقبل وَقبل وقلب بِمَعْنى وَاحِد إلاأن فِي الشفتين قبل وَفِي الْقلب قلب وَإِنَّمَا يفور ذَلِك من نور الْإِيمَان وَكَانَت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أعظم نورا وأوفر حظا من الرأفة إِذا عرفت هَذَا فقبلة الشَّهْوَة للزَّوْجَة وَذَاكَ من الرَّحْمَة والمودة الَّتِي جعلت بَين الزَّوْجَيْنِ قَالَ الله تَعَالَى وَجعل بَيْنكُم مَوَدَّة وَرَحْمَة
والرأفة وَالرَّحْمَة يهيجان الشَّهْوَة لِأَنَّهَا حارة وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل عَائِشَة ويمص لسانها وَهُوَ صَائِم وَأما قبْلَة الرَّحْمَة فَهِيَ للولدان وَمن أشبههم وَإِذا قبله فَمن رَحمته لَهُ من لِأَنَّهُ ريحَان الله تَعَالَى وَكَانَ يستروح إِلَى تَقْبِيل الْوَلَد
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قبل الْحسن (إِنَّكُم لتبخلون أَو تجهلون وتجبنون وَأَنْتُم لمن ريحَان الله تَعَالَى) وَفِي رِوَايَة (من ريحَان الْجنَّة)
وَأما قبْلَة الحنين فَهِيَ للحجر الْأسود فَكَانَ إِذا قبل الْحجر قبله حنينا إِلَى الْجنَّة لِأَنَّهُ من الْجنَّة وَالْجنَّة دَار الله تَعَالَى وَإِنَّمَا يحن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَى دَار الله تَعَالَى لأجل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا من أجل التنعم قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر حِين قبل الْحجر وَبكى هَهُنَا تسكب العبرات وَأما قبْلَة الاشتياق فَهِيَ للباكورة لِأَنَّهُ يرى أثر صنعه لِعِبَادِهِ فَأول مَا تخرج الثَّمَرَة طريا لم تدنس بظلمة الدُّنْيَا وَهُوَ فلقها قَالَ الله تَعَالَى {فالق الْحبّ والنوى}(2/20)
فَإِذا رأى الباكورة وَهُوَ الَّذِي قد ابتكر بِخُرُوجِهِ تحرّك نور الْإِيمَان بِمَا أبْصر من صنعه ولطفه فَانْقَلَبَ بالرأفة الَّتِي فِيهِ فانفلق الْقلب أَي فتح بَابه فَخرجت تِلْكَ الْحَرَارَة من الْقلب إِلَى الْفَم فَاسْتعْمل الشفتين بالحركة فيقبلها ثمَّ يَضَعهَا على عينه وأشفاره إِكْرَاما وتعظيما لَهُ ثمَّ يَدْعُو بذلك الدُّعَاء ثمَّ يُعْطِيهَا من لم يتدنس بِالذنُوبِ وَهُوَ الصَّبِي لِأَن الْقَلَم عَنهُ مَرْفُوع وَالرَّحْمَة عَلَيْهِ ظَاهِرَة وَلَا يُؤَاخذ بذنب(2/21)
- الأَصْل السَّابِع وَالتِّسْعُونَ
-
فِي أَن رَهْبَانِيَّة هَذِه الْأمة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله تَعَالَى
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لكل أمة رَهْبَانِيَّة ورهبانية أمتِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله)
فالرهبانية والسياحة قد كَانَت فِي الْأُمَم الْمَاضِيَة كَانَ أحدهم إِذا علاهُ الْخَوْف والرهبة من الله تَعَالَى ساح فِي البراري وَاتخذ صومعة فِي بَريَّة فترهب بهَا لتدوم رهبته فِي تِلْكَ الْعُزْلَة ليستعين بهَا على بذل النَّفس لله تَعَالَى عبودة وَأعْطى الله تَعَالَى هَذِه الْأمة السَّيْف يضْربُونَ بِهِ وُجُوه أعدائه ويضربون قَالَ الله تَعَالَى {يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ}
وَهَذِه أعظم الامتحان فِي بذل النَّفس فَمن تلقى سيوف الْعَدو بِوَجْهِهِ فقد صدق الله تَعَالَى فِي بذل النَّفس لَهُ عبودة فَهِيَ رَهْبَانِيَّة هَذِه الْأمة ورسولنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَبْعُوث بِالْجِهَادِ وَالْحَرب عَن الله تَعَالَى حمية لَهُ ونصرة لحقه وكلمته الْعليا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله تَعَالَى(2/22)
بَعَثَنِي بِالسَّيْفِ بَين يَدي السَّاعَة حَتَّى يعبد الله وَحده لَا شريك لَهُ وَجعل رِزْقِي تَحت ظلّ رُمْحِي وَجعل الذلة على من خَالف أَمْرِي وَمن تشبه بِقوم فَهُوَ مِنْهُم)(2/23)
- الأَصْل الثَّامِن وَالتِّسْعُونَ
-
فِي دَعْوَة المغموم
عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ قَالَ ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعْوَة فَشَغلهُ إعربي فَلَمَّا قَامَ تَبعته فَلَمَّا خفت أَن يسبقني إِلَى بَيته ضربت بقدمي على الأَرْض فَالْتَفت فَقَالَ أَبُو إِسْحَاق مَه قلت يَا رَسُول الله دَعْوَة ذكرتها فشغلك الإعرابي قَالَ (نعم دَعْوَة ذِي النُّون فِي بطن الْحُوت لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين مَا دَعَا بهَا مُسلم إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ)
العَبْد إِذا وَحده وَنفى عَنهُ الشّرك ثمَّ نزهه عَمَّا رَآهُ عَلَيْهِ من السوء واعترف بِأَنَّهُ من الظَّالِمين تكرم عَلَيْهِ ربه وتفضل على العَبْد فَلم يخيبه فِيمَا أمل وَرَجا وَكَذَلِكَ وعد الله فِي تَنْزِيله الْكَرِيم فَقَالَ وَذَا النُّون إِذا ذهب مغاضبا الْآيَة(2/24)
- الأَصْل التَّاسِع وَالتِّسْعُونَ
-
فِي أَن هدى الله تَعَالَى على لِسَان الناطقين بِالْحَقِّ
عَن أبي رَافع رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لِأَن يهدي الله على يَديك رجلا خير لَك مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس)
الْهدى على يَدَيْهِ شُعْبَة من الرسَالَة لِأَن الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام بعثت لتؤدي عَن الله تَعَالَى عز وَجل وتهدي عباده فالرسول هاد بِمَا جَاءَ من الْبَيَان وَالله هادي الْقُلُوب يهدي الْقُلُوب بِمَا يهدي رَسُوله بالْمَنْطق بَيَانا وَأَدَاء عَنهُ فَمن كَانَ دَاعيا إِلَى الله فهدى الله بِهِ عبدا فقد أَخذ شُعْبَة من الرسَالَة واحتظى من ثَوَاب الرُّسُل حظا من الْكَرَامَة فَلذَلِك صَار خيرا لَهُ مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس قَالَ الله تَعَالَى (يَا دَاوُد لِأَن تَأتِينِي بِعَبْد آبق أحب إِلَيّ من عبَادَة الثقلَيْن)
وَإِذا هدى الله تَعَالَى قلبا على لِسَان نَاطِق بِالْهدى فقد أكْرم النَّاطِق بجزيل الْكَرَامَة فَمن إِحْدَى الكرامات أَن جعل لكَلَامه حكم الصدْق وَالْعَدَالَة فِي الْقُلُوب وكساه من النُّور كسْوَة تلج آذان السامعين من(2/25)
تِلْكَ الْكسْوَة فتخرق حجب الشَّهَوَات حَتَّى تصل إِلَى مُسْتَقر الْإِيمَان من قُلُوبهم فيحيي مَا مَاتَ مِنْهُم ويشفي مَا سقم مِنْهُم وَجعل لَهُ من السُّلْطَان مَا يذهل نفوس المخاطبين عَن شهواتهم فَيَأْخُذ بنواصي قُلُوب العبيد الاباق فيردهم إِلَى الله تَعَالَى جذبا وَجعله من العملة الحرثة للقلوب يبذر بذره فيزرعه الله وينميه
وروى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أفضل مَا أعطي العَبْد فِي الدُّنْيَا الْعَافِيَة وَمن أفضل مَا أعطي العَبْد فِي الْآخِرَة الْمَغْفِرَة وَمن أفضل مَا أعطي العَبْد من نَفسه موعظة حسنه صدر بهَا قوم عَن خير)(2/26)
- الأَصْل الْمِائَة
-
فِي حَقِيقَة النصح لله تَعَالَى وَبَيَان سره
عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ الله عز وَجل أحب مَا تعبدني بِهِ عَبدِي النصح لي
فالنصح لَهُ الاقبال عَلَيْهِ بالعبودية وَأَن يرفض جَمِيع مشيئاته بِمَشِيئَة مَوْلَاهُ وَأَن لَا يخلط بالعبودية شَيْئا من شَأْن الْأَحْرَار وأفعالهم فَيكون فِي سره وعلانيته قد آثر أَمر الله تَعَالَى على هَوَاهُ وآثر حق الله الْكَرِيم على شهوات نَفسه فَهَذَا هُوَ النصح لله تَعَالَى
رُوِيَ أَبُو امامة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ الحواريون لعيسى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام مَا الناصح لله قَالَ الَّذِي يبْدَأ بِحَق الله قبل حق النَّاس ويؤثر حق الله تَعَالَى على حق النَّاس وَإِذا عرض أَمْرَانِ أَحدهمَا للدنيا وَالْآخر للآخرة بَدَأَ بِأَمْر الْآخِرَة قبل أَمر الدُّنْيَا
وَهَذَا دَرَجَة الْمُقْتَصِدِينَ وَأما المقربون فقد جاوزوا هَذِه الخطة بِجَمِيعِ(2/27)
أُمُورهم كلهَا للآخرة لِأَنَّهَا صَارَت لله تَعَالَى وَقد مَاتَت نُفُوسهم عَن أَن تَأْخُذ بحظها من الْأَعْمَال وحيت قُلُوبهم بِاللَّه تَعَالَى فَاسْتَوَى عِنْدهم عمل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَحُقُوق الله تَعَالَى وَحُقُوق النَّاس فَصَارَت كلهَا حُقُوق الله تَعَالَى عِنْدهم وَلِهَذَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي وَهُوَ حَامِل أُمَامَة بنت زَيْنَب فَإذْ سجد وَضعهَا وَإِذا قَامَ رَفعهَا
وروى شَدَّاد بن الْهَادِي عَن أَبِيه قَالَ خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِحْدَى صَلَاتي الْعشَاء وَهُوَ حَامِل إِحْدَى ابْني ابْنَته الْحسن أَو الْحُسَيْن فَتقدم فَوَضعه عِنْد قدمه الْيُمْنَى ثمَّ صلى فَسجدَ بَين ظهراني صلَاته سَجْدَة أطالها قَالَ أبي فَرفعت رَأْسِي من بَين النَّاس وَإِذا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساجد وَإِذا الْغُلَام على ظَهره فعدت فسجدت فَلَمَّا قضى صلَاته قيل يَا رَسُول الله لقد سجدت سَجْدَة مَا كنت تسجدها أفشيء أمرت بِهِ أم كَانَ يوحي إِلَيْك قَالَ كل لم يكن وَلَكِن ابْني ارتحلني فَكرِهت أَن أعجله حَتَّى يقْضِي حَاجته
وَعَن عَلْقَمَة قَالَ قدم وَفد ثَقِيف على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُمْ هَدِيَّة فقبضها ثمَّ جَلَسُوا وشغلوه بِالْمَسْأَلَة فَمَا صلى الظّهْر إِلَّا عِنْد الْعَصْر فالأنبياء والأولياء المقربون عَلَيْهِم السَّلَام قد تخلصوا من نُفُوسهم فأعمالهم خَالِصَة لله تَعَالَى دنيا كَانَت أَو آخِرَة حق الله تَعَالَى كَانَ أَو حق النَّاس لِأَن الْأُمُور قد صَارَت لَهُم مُعَاينَة بِنور يقينهم وَعَلمُوا أَن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لله تَعَالَى وَأَن حق النَّاس هُوَ حق الله تَعَالَى أوجبه عَلَيْهِم وهم فِي قَبْضَة الله تَعَالَى يستعملهم فِي أُمُور دنياهم وأخراهم وحقوقه وَحُقُوق النَّاس كَيفَ شَاءَ وَقد فارقهم المقتصدون فِي ذَلِك لأَنهم قد احتاجوا إِلَى تَقْدِيم الْأَمريْنِ وتمييز الْحَقَّيْنِ لأَنهم لما يفارقوا(2/28)
أنفسهم فَأَي عمل عملوه من دنيا وآخرة فحظوظ نُفُوسهم فِيهَا قَائِمَة لِأَن شهواتهم عاملة تَأْخُذ بحظها فَإِذا اجْتمع عَلَيْهِم أَمْرَانِ أَحدهمَا للدنيا وَالْآخر للآخرة أَو حقان أَحدهمَا لله تَعَالَى وَالْآخر للنَّاس فشهواتهم عاملة فِي أَمر دنياهم منزوعة فِي أَمر آخرتهم فَمن نصيحتهم لله تَعَالَى أَن يؤثروا الْأَمر الَّذِي لَا شَهْوَة لنفوسهم فِيهِ ويؤخروا مَا فِيهِ حَظّ للنَّفس
كَمَا يرْوى عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله إِن بني أبي سَلمَة فِي حجري وَلَيْسَ لَهُم شَيْء إِلَّا مَا أنفقت عَلَيْهِ أفلي أجر إِن أنفقت عَلَيْهِم فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنفقي عَلَيْهِم فَإِن لَك أجر مَا أنفقت عَلَيْهِم
فَإِذن المقتصد إِذا صلى أَو قَرَأَ الْقُرْآن أَو عمل شَيْئا من هَذِه الْأَعْمَال عدهَا آخِرَة وَإِذا أكل أَو شرب أَو نَام أَو جَامع عدهَا دنيا لِأَنَّهُ لَا يقدر أَن يخلصها حَتَّى يصفو من الشَّهْوَة النفسية فافترق أمراه دنيا وآخرة فَمَا كَانَ من أَمر الْآخِرَة أمكنه تصفيته على حسب طاقته وَمَا كَانَ من أَمر دُنْيَاهُ فالشهوة غالبة عَلَيْهِ قاهرة لَهُ فَمن النصح لَهُ أَن يبْدَأ بِأَمْر الْآخِرَة وَأما المقرب فقد صَارَت شَهْوَته منية فَالْفرق بَين الشَّهْوَة والمنية أَن النَّفس صَارَت حَيَّة بشهوتها فَإِذا عرض لَهَا مَا تلتذ بِهِ اهتشت النَّفس بالعجلة إِلَيْهِ حرصا وشرها فَتلك شَهْوَة والمنية لما مَاتَت شَهْوَة النَّفس حييّ الْقلب بِاللَّه تَعَالَى فَإِذا عرض لَهَا مَا تلتذ بِهِ بِاللَّه تَعَالَى لحظت إِلَى الله تَعَالَى وراقبت تَدْبيره فَإِن أَعْطَيْت أخذت وَإِن منعت قنعت فَتلك منية فالمقرب منيته فِيمَا دبر الله تَعَالَى لَهُ يراقب مَا يَبْدُو لَهُ من غيب الملكوت فيتلقاه بالرضاء والذلة والانقياد وَالْقَبُول عبودة لله تَعَالَى ومسكنة فَصَارَت الْأُمُور كلهَا آخِرَة عِنْده والحقوق كلهَا حُقُوق الله تَعَالَى فالغالب على أُمُور المقرب ذكر الله تَعَالَى وَالْغَالِب على أُمُور المقتصد ذكر النَّفس(2/29)
قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه فِي وصف الشَّيْخَيْنِ أَن أَبَا بكر كَانَ أَواه الْقلب منيبا وَأَن عمر كَانَ عبدا ناصحا لله تَعَالَى فنصحه
فالأواه لَا يُمَيّز بَين الْأَمريْنِ لِأَنَّهُمَا كلهما لله تَعَالَى وَلَيْسَ فيهمَا ذكر النَّفس والناصح لله عبد تفرد لله تَعَالَى بِقِيَام حُقُوقه فَكلما اجْتمع أَمْرَانِ للنَّفس فِي أَحدهمَا نصيب آثر الَّذِي لَا نصيب لَهَا فِيهِ وَبَدَأَ بِهِ فَفعل عمر رَضِي الله عَنهُ فِي الظَّاهِر فعل الْمُقْتَصِدِينَ وَفِي الْبَاطِن من المقربين لِأَن المقربين صنفان صنف مِنْهُم قد انفردوا فِي فردانيته فخلت قُلُوبهم من ذكر نُفُوسهم وَالله تَعَالَى يستعملهم ووحدانيته تملك قُلُوبهم وَهَذِه صفة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وصنف مِنْهُم لم يصلوا إِلَى هَذِه الخطة قد انْكَشَفَ على قُلُوبهم من جلال الله تَعَالَى وعظمته مَا مَلَأت قُلُوبهم من هيبته فهم القائمون على نُفُوسهم فَلَا يدعونها تلحظ إِلَّا إِلَى حق فَالْحق يستعملهم والهيبة تملك قُلُوبهم وَعمر رَضِي الله عَنهُ مِنْهُم
روى كَعْب بن مَالك أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ أَتَى من الْيمن بِثَلَاثَة سيوف أَحدهَا محلي فَقَالَ ابْنه عبد الله بن أبي بكر مر لي بِهَذَا السَّيْف الْمحلي فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فَهُوَ لَك فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ بل إيَّايَ فاعطني فَقَالَ أَبُو بكر فَأَنت أَحَق بِهِ فَأَخذه عمر رَضِي الله عَنهُ فَانْقَلَبَ عمر بِالسَّيْفِ إِلَى منزله فراح وَقد جعل حلية السَّيْف فِي ظَبْيَة والنصل مَعَه فَقَالَ عمر يَا أَبَا بكر اسْتَعِنْ بِهَذِهِ الْحِلْية على بعض مَا يعروك وَرمى بالنصل إِلَى عبد الله ابْن أبي بكر وَقَالَ وَالله مَا صنعت هَذَا نفاسة عَلَيْك يَا أَبَا بكر وَلَكِن للنَّظَر لَك فَبكى أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ يَرْحَمك الله يَرْحَمك الله
دق عِنْد أبي بكر شَأْن ذَلِك السَّيْف وحليه فَلم يظْهر على قلبه قدر ذَلِك فَاسْتَوَى عِنْده سُؤال وَلَده وسؤال الْأَجْنَبِيّ فأنعم ثمَّ لما(2/30)
سَأَلَهُ الأولى آثره عَلَيْهِ وَعمر نظر إِلَى الْحق وَإِلَى تَدْبِير الْحق فَإِن من تَدْبِير الْحق جلّ جَلَاله أَن ينْزع الْحِلْية فيستعين بهَا فِي النوائب وَفِي النصل بِلَا حلية كِفَايَة وَتَابعه أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْحق وَبكى فَرحا بِمَا وجد من التأييد والعون فِيمَا قَلّدهُ الله تَعَالَى عِنْد أَخِيه وَصَاحبه ودعا لَهُ بِالرَّحْمَةِ لما وجده ناصحا لله تَعَالَى ولإمامه مشفقا عَلَيْهِ وَلَكِن فعل أبي بكر فعل الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام فالرسول وَمن فِي دَرَجَته قريب مِنْهُ فِي سَعَة عَظِيمَة من ملكه وَفعل عمر رَضِي الله عَنهُ فعل المحقين لأَنهم فِي أَمر عَظِيم من الْقيام بِحقِّهِ حزما واحتياطا وَصِحَّة وتقويما
وَقد روى زيد بن أسلم عَن أَبِيه قَالَ قدم عبد الله وعبيد الله ابْنا عمر رَضِي الله عَنْهُم على أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ من مغربي لَهما فَقَالَ أَبُو مُوسَى وددت أَنِّي قدرت أَن أنفعكما قَالَ ثمَّ قَالَ هَهُنَا من مَال الله فخذاه فاشتريا بِهِ تِجَارَة من تِجَارَة الْمَدِينَة واضمناه فَإِذا قدمتما فأديا المَال إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكتب إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ أَن اقبض مِنْهُمَا كَذَا وَكَذَا فَلَمَّا قدما على عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَهما أديا المَال وَربحه فَأَما عبد الله فَسكت وَأما عبيد الله فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَرَأَيْت لَو تلف هَذَا المَال أما كنت تَأْخُذهُ منا قَالَ بلَى قَالَ فَلم تَأْخُذ الرِّبْح فَقَالَ رجل فِي مَجْلِسه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو جعلته قراضا قَالَ فقاسمهما الرِّبْح وَأخذ المَال فَهَذِهِ مُعَاملَة عمر مَعَ وَلَده وَمَعَ سَائِر الْخلق إِقَامَة الْحق ونصرته فِي الْأُمُور كلهَا
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله ضرب الْحق على لِسَان عمر وَقَلبه وَقَالَ فِي رِوَايَة الْحق بعدِي مَعَ عمر وَقَلبه وَقَالَ فِي رِوَايَة الْحق بعدِي مَعَ عمر حَيْثُ كَانَ(2/31)
وَوَصفه ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ كالطير الحذر الَّذِي يرى أَن لَهُ فِي كل طَرِيق شركا فَهَذَا شَأْن النصحاء لله تَعَالَى
وروى جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ دخل أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ يضْرب بالدف عِنْده فَقعدَ وَلم يزْجر لما رأى من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجَاء عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا سمع رَسُول الله صَوته كف عَن ذَلِك فَلَمَّا خرجا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا يَا رَسُول الله كَانَ حَلَالا فَلَمَّا دخل عمر صَار حَرَامًا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا عَائِشَة لَيْسَ كل النَّاس مرخيا عَلَيْهِ
فَهَذِهِ كلمة تكشف لَك أَن المقربين صنفان صنف مِنْهُم قُلُوبهم فِي جَلَاله وعظمته هائمه فقد ملكتهم هيبته فَالْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستعملهم فِي كل أَمر فهم مشرفون على الْأُمُور مشمرون لَهَا وصنف آخر قد أرْخى من عنانه فَالْأَمْر عَلَيْهِ أسهل لِأَنَّهُ قد جَاوز قلبه هَذِه الخطة فقلبه فِي مَحل الشَّفَقَة فِي ملك الوحدانية وَكلما كَانَ الْقلب مَحَله أَعلَى وَمن الْقرْبَة أوفر حظا كَانَ الْأَمر عَلَيْهِ أوسع وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى تلطف بِلُطْفِهِ بِعَبْدِهِ الْمُؤمن فَإِذا علم مِنْهُ أَن نَفسه صعبة وَأَنه مُحْتَاج إِلَى اللجام ألجمها بلجام الهيبة وَأبْدى على قلبه من سُلْطَانه وعظمته لِئَلَّا يفْسد وَإِذا علم أَن نَفسه لينَة كَرِيمَة أرْخى من عنانه فأبدى على قلبه من الوحدانية والفردانية مَا انْفَرد لَهُ قلبه وَنَفسه وَمَاتَتْ شَهْوَته وَذهل عَن ذكر نَفسه فَهُوَ يَسْتَعْمِلهُ وَهُوَ يكلؤه فالمحق فِي الظَّاهِر أعلا فعلا عِنْد أَهله والأواه فِي الْبَاطِن أعلا(2/32)
- الأَصْل الْحَادِي وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْعقُوبَة لَا تثني فِي الْآخِرَة
عَن عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أصَاب فِي الدُّنْيَا ذَنبا فَعُوقِبَ بِهِ فَالله أعدل من أَن يثني عَلَيْهِ عُقُوبَته وَمن أذْنب فِي الدُّنْيَا ذَنبا فستره الله وَعَفا عَنهُ فَالله أكْرم من أَن يعود فِي شَيْء وَقد عَفا عَنهُ قَالَ الله تَعَالَى وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير وَالْكثير من الله تَعَالَى لَا يُحْصى عددا
وَقد بَين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الحَدِيث مَا يُعْفَى عَنهُ مِمَّا لَا يُعْفَى فَقَالَ من أذْنب ذَنبا فستره الله ذكر السّتْر وَقَوله تَعَالَى وَيَعْفُو عَن كثير هم الَّذين قد ستر الله عَلَيْهِم فَإِذا دَامَ هَذَا السّتْر لَهُم فَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أكْرم من أَن يهتك مَا قد ستره أَيَّام الدُّنْيَا(2/33)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله تَعَالَى لأَنا أكْرم وَأعظم عفوا من أَن أستر على عبد لي مُسلم فِي الدُّنْيَا ثمَّ أفضحه بعد أَن سترته وَلَا أَزَال أَغفر لعبدي مَا استغفرني
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول الله تَعَالَى إِنِّي لأجدني أستحيي من عَبدِي يرفع يَدَيْهِ إِلَى ثمَّ أردهما صفرا قَالَت الْمَلَائِكَة إلهنا لَيْسَ لذَلِك بِأَهْل قَالَ الله تَعَالَى لكني أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة وأشهدكم أَنِّي قد غفرت لَهُ
قَالَ وَيَقُول الله تَعَالَى إِنِّي لاستحيي من عَبدِي وَأمتِي يشيبان فِي الْإِسْلَام ثمَّ أعذبهما بعد ذَلِك فِي النَّار
فنستغفر الله الْعَظِيم(2/34)
- الأَصْل الثَّانِي وَالْمِائَة
-
فِيمَا كتب على جباه الجهنميين وجباه المتحابين فِي الله
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يدْخل قوم النَّار حَتَّى إِذا صَارُوا فحما أخرجُوا فأدخلوا الْجنَّة فَيَقُول أهل الْجنَّة من هَؤُلَاءِ فَيُقَال الجهنميون
هَؤُلَاءِ قوم موحدون وحدوا الله تَعَالَى بألسنتهم وَقُلُوبهمْ وضيعوا العبودة الَّتِي أوجبهَا الله تَعَالَى على خلقه امتحانا فهم مكذبون فِي الظَّاهِر مصدقون فِي الْبَاطِن فقدموا عَلَيْهِ مَعَ كذب الظَّاهِر وَصدق الْبَاطِن وَإِنَّمَا وكل الْحق بِفعل الظَّاهِر فَهُوَ يَقْتَضِي الْخلق الْقيام بذلك قَالَ الله تَعَالَى وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون
فَإِذا كَانَ يَوْم الْجَزَاء جَاءَ الْحق تَعَالَى يَقْتَضِي حَقه فَلم يجد عِنْدهم(2/35)
شَيْئا فحبسهم فِي النَّار ثمَّ تُدْرِكهُمْ رَحمته وَيتْرك مَا وَجب لَهُ من العبودة ويهبها مِنْهُم ويعتقهم وَيكْتب على جباههم الجهنميون عُتَقَاء الله تَعَالَى وَفِي رِوَايَة محرري الرَّحْمَن رَحِمهم بِصدق الْبَاطِن وَأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يلتفتون إِلَى غَيره وَلَا يشركُونَ بِهِ
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة لمن عمل الْكَبَائِر من أمتِي ثمَّ مَاتُوا عَلَيْهَا فهم فِي الْبَاب الأول من جَهَنَّم لَا تسود وُجُوههم وَلَا تزرق أَعينهم وَلَا يغلون بالأغلال وَلَا يقرنون مَعَ الشَّيَاطِين وَلَا يضْربُونَ بالمقامع وَلَا يطرحون فِي الأدراك فَمنهمْ من يمْكث سَاعَة ثمَّ يخرج وَمِنْهُم من يمْكث فِيهَا يَوْمًا ثمَّ يخرج وَمِنْهُم من يمْكث فِيهَا شهرا ثمَّ يخرج وَمِنْهُم من يمْكث فِيهَا سنة ثمَّ يخرج وأطوالهم مكثا فِيهَا مثل الدُّنْيَا من يَوْم خلقت إِلَى يَوْم أقتت وَذَلِكَ سَبْعَة آلَاف سنة ثمَّ إِن الله عز وَجل إِذا أَرَادَ أَن يخرج الْمُوَحِّدين مِنْهَا قذف فِي قُلُوب أهل الْأَدْيَان فَقَالُوا لَهُم كُنَّا نَحن وَأَنْتُم جَمِيعًا فِي الدُّنْيَا فآمنتم وكذبنا وأقررتم وجحدنا فَمَا أغْنى عَنْكُم فَنحْن وَأَنْتُم الْيَوْم فِيهَا جَمِيعًا سَوَاء تعذبون كُنَّا نعذب وتخلدون كَمَا نخلد فيغضب الله تَعَالَى عِنْد ذَلِك غَضبا لم يغضبه فِي شَيْء فِيمَا مضى وَلَا يغْضب فِي شَيْء فِيمَا بَقِي فَيخرج أهل التَّوْحِيد مِنْهَا إِلَى عين بَين الْجنَّة والصراط يُقَال لَهَا نهر الْحَيَاة فيرش عَلَيْهِم من المَاء فينبتون كَمَا تنْبت الْحبَّة فِي حميل السَّيْل مَا يَلِي الظل مِنْهَا أَخْضَر وَمَا يَلِي الشَّمْس مِنْهَا أصفر ثمَّ يدْخلُونَ الْجنَّة فَيكْتب فِي جباههم عُتَقَاء الله من النَّار إِلَّا رجلا وَاحِدًا فَإِنَّهُ يمْكث فِيهَا بعدهمْ ألف سنة ثمَّ يُنَادي يَا حنان يَا منان فيبعث الله إِلَيْهِ ملكا ليخرجه فيخوض فِي النَّار فِي طلبه سبعين عَاما لَا يقدر عَلَيْهِ ثمَّ يرجع فَيَقُول يَا رب إِنَّك أَمرتنِي أَن أخرج عَبدك فلَانا من النَّار وَإِنِّي أطلب فِي النَّار مُنْذُ سبعين سنة فَلم أقدر عَلَيْهِ فَيَقُول الله تَعَالَى انْطلق فَهُوَ فِي وَادي كَذَا وَكَذَا تَحت صَخْرَة فَأخْرجهُ فَيذْهب فيخرجه مِنْهَا فيدخله الْجنَّة(2/36)
تَحت صَخْرَة فَأخْرجهُ فَيذْهب فيخرجه مِنْهَا فيدخله الْجنَّة
ثمَّ إِن الجهنميين يطْلبُونَ إِلَى الله تَعَالَى أَن يمحو ذَلِك الِاسْم عَنْهُم فيبعث ملكا فَيَمْحُو عَن جباههم ذَلِك ثمَّ إِنَّه قَالَ لأهل الْجنَّة وَمن دَخلهَا من الجهنميين اطلعوا إِلَى النَّار فيطلعون إِلَيْهِم فَيرى الرجل أَبَاهُ وَيرى أَخَاهُ وَيرى جَاره وَيرى صديقه وَيرى العَبْد مَوْلَاهُ ثمَّ إِن الله تَعَالَى يبْعَث إِلَيْهِم مَلَائِكَة بأطباق من نَار ومسامير من نَار وَعمد من نَار فيطبق عَلَيْهِم بِتِلْكَ الأطباق ويشد بِتِلْكَ المسامير ويمد بِتِلْكَ الْعمد وَلَا يبْقى فِيهِ خلل يدْخل فِيهِ روح وَلَا يخرج مِنْهُ غم وينساهم الْجَبَّار على عَرْشه ويتشاغل أهل الْجنَّة بنعيمهم وَلَا يستغيثون بعْدهَا أبدا وَيَنْقَطِع الْكَلَام فَيكون كَلَامهم زفيرا وشهيقا فَذَلِك قَوْله تَعَالَى إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة فِي عمد ممدة
أحب الله تَعَالَى أَن يظْهر عذره عِنْد أهل الْجنان فِي تأخرهم دُخُول الْجنَّة وَأَنَّهُمْ لم يدخلوها إِلَّا برحمته وَلم ينالوا جواره إِلَّا بكرمه وَهَؤُلَاء قوم لم يتخلصوا من نُفُوسهم فِي الْآخِرَة كَمَا لم يتخلصوا فِي الدُّنْيَا طرفَة عين وأنفوا من هَذَا الِاسْم أَن ينسبوا إِلَى جَهَنَّم واستحيوا من إخْوَانهمْ وَأَرَادُوا أَن تكون الْعقُوبَة الَّتِي حلت بهم مستورة عِنْد أهل الْجنَّة وَلَا يدْرِي أحد أَنهم مِمَّن ابتلوا بهوان الله وعقوبته أَنَفَة وذهابا بِنَفسِهِ وَلَيْسَ فِي الْجنَّة أَذَى إِنَّمَا هِيَ محشوة بكرم رب الْعِزَّة فَترك الله تَعَالَى محبته لمحابهم ومحى عَنْهُم ذَلِك الِاسْم تكرما وتفضلا وإتماما للمن عَلَيْهِم وَلَو كَانَ لَهُم من الانسانية والتكرم لما آثروا محابهم على محابه وَلَو كَانَ المحبون لَهُ ابتلوا بِهَذَا لم يسألوه أبدا أَن يمحو اسْمه من جباههم وَالْكِتَابَة على الجباه سِيمَاهُمْ فِي الْجنان كَمَا كتبت على جباه أهل الصفوة والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام هَؤُلَاءِ المتحابون فِي الله(2/37)
روى ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن المتحابين فِي الله لعلى عَمُود من ياقوتة حَمْرَاء فِي رَأس العمود سَبْعُونَ ألف غرفَة يضيء حسنهم أهل الْجنَّة كَمَا تضيء الشَّمْس أهل الدُّنْيَا يَقُول بَعضهم لبَعض انْطَلقُوا بِنَا نَنْظُر إِلَى المتحابين فِي الله فَإِذا أشرفوا عَلَيْهِم أَضَاء حسنهم أهل الْجنَّة كَمَا تضيء الشَّمْس أهل الدُّنْيَا عَلَيْهِم ثِيَاب خضر من سندس مَكْتُوب على جباههم هَؤُلَاءِ المتحابون فِي الله(2/38)
- الأَصْل الثَّالِث وَالْمِائَة
-
فِي عَلَامَات أَوْلِيَاء الله تَعَالَى
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ قيل يَا رَسُول الله من أَوْلِيَاء الله قَالَ الَّذين إِذا رَأَوْا ذكر الله
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ قيل يَا رَسُول الله أَي جلسائنا خير قَالَ من ذكركُمْ بِاللَّه رُؤْيَته وَزَاد فِي أَعمالكُم مَنْطِقه وذكركم بِالآخِرَة عمله
وَفِي رِوَايَة عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خياركم من ذكركُمْ بِاللَّه رُؤْيَته وَزَاد فِي عَمَلكُمْ مَنْطِقه ورغبكم فِي الْآخِرَة عمله وهم الْأَوْلِيَاء الَّذين عَلَيْهِم سمات ظَاهِرَة من الله تَعَالَى قد علاهم بهاء الْقرْبَة وَنور الْجلَال وهيبة الْكِبْرِيَاء وَأنس الْوَقار(2/39)
فَإِذا نظر النَّاظر إِلَيْهِ ذكر الله لما رأى عَلَيْهِ من آثَار الملكوت وَالْقلب مَعْدن هَذِه الْأَشْيَاء ومستقر النُّور وَشرب الْوَجْه من مَاء الْقلب فَإِذا كَانَ على الْقلب نور سُلْطَان الْوَعْد والوعيد تأدي إِلَى الْوَجْه ذَلِك النُّور فَإِذا وَقع بَصرك عَلَيْهِ ذكرك الْبر وَالتَّقوى وَوَقع عَلَيْك مِنْهُ مهابة الصّلاح وَالْعلم بِأُمُور الله تَعَالَى وَمَتى كَانَ على الْقلب نور سُلْطَان الْحق ذكرك الصدْق وَالْحق وَوَقع عَلَيْك مهابة الْحق والاستقامة وَإِذا كَانَ عَلَيْهِ نور سُلْطَان الله تَعَالَى وعظمته وجلاله ذكرك عَظمته وجلاله وسلطانه وَإِذا كَانَ على الْقلب نوره وَهُوَ نور الْأَنْوَار بهتك رُؤْيَته فَكل نور من هَذِه الْأَنْوَار كَانَ فِي قلب فَشرب وَجهه من تِلْكَ الْأَنْوَار الَّتِي فِيهِ لَا غير قَالَ الله تَعَالَى ولقاهم نَضرة وسرورا أَي سُرُورًا فِي الْقلب ونضرة فِي الْوَجْه فَإِذا سر الْقلب برضاء الله تَعَالَى عَن العَبْد وَبِمَا يشرق قلبه وصدره من نوره حَيْثُ ينْكَشف الغطاء نضرت الْوُجُوه بِمَا ولجت الْقُلُوب وَهُوَ الَّذِي دله عَلَيْهِ السَّلَام على الذّكر عِنْد رُؤْيَته وصيره عَلامَة لأهل ولَايَته وَالنَّاس على ثَلَاث طَبَقَات كل طبقَة تعرف بِمَا عِنْدهَا وهم رجال مَا عِنْدهم فرجال هم عُلَمَاء بِأُمُور الله تَعَالَى من الْحَلَال وَالْحرَام فَعَلَيْهِم سمات الْعلم وبالعلم يعْرفُونَ وَرِجَال هم عُلَمَاء بتدبير الله تَعَالَى فَعَلَيْهِم سمات الْحِكْمَة وبالحكمة يعْرفُونَ وَرِجَال هم عُلَمَاء بِاللَّه تَعَالَى فَعَلَيْهِم سمات نوره وهيبته فبالله يعْرفُونَ فهم أَوْلِيَاء الله وهم الَّذين قَالَ عَنْهُم عَلَيْهِ السَّلَام لأبي جُحَيْفَة سَائل الْعلمَاء وخالط الْحُكَمَاء وجالس الكبراء لِأَن فِي مجالستهم شِفَاء وَفِي رُؤْيَتهمْ دَوَاء وَسَائِر النَّاس عُمَّال وَعباد وَأهل بر وتقوى بذلك يعْرفُونَ وَإِلَى أَعْمَالهم ينسبون يُقَال هَذَا رجل زاهد وَهَذَا رجل متق فَإِذا جَاءَ الْوَلِيّ ذهب هَذَا الذّكر من الْقُلُوب وَغلب على قُلُوب الناظرين ذكر الله تَعَالَى(2/40)
روى عَمْرو بن الجموح رَضِي الله عَنهُ أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول قَالَ الله تَعَالَى إِن أوليائي من عبَادي وأحبائي من خلقي الَّذين يذكرُونَ بذكري وأذكر بذكرهم
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ يَقُول قَالُوا يَا رَسُول الله أَيّنَا أفضل كي نتخذه جَلِيسا معلما قَالَ الَّذين إِذا رَأَوْا ذكر الله لرؤيتهم
وَقَوله يزِيد فِي عَمَلكُمْ مَنْطِقه لِأَنَّهُ عَن الله ينْطق وَمن كَانَ يذكر بِاللَّه رُؤْيَته يزِيد فِي الْعَمَل مَنْطِقه والناطق صنفان فصنف ينْطق بِالْعلمِ عَن الصُّحُف تحفظا وَعَن أَفْوَاه الرِّجَال تلقفا وصنف ينْطق بذلك الْعلم عَن الله تلقيا فَالَّذِي ينْطق عَن الصُّحُف وَهُوَ غير عَامل بِهِ يلج آذان المستمعين عُرْيَان بِلَا كسْوَة وَالَّذِي ينْطق كَذَلِك وَهُوَ عَامل بِهِ يلج آذانهم عَارِيا خلق الْكسْوَة لِأَنَّهُ لم يخرج من قلب نوراني وَإِنَّمَا خرج من قلب دنس وَصدر مظلم وإيمان مغشوش بحب الرياسة والعز وَالشح على حطام الدُّنْيَا وَالَّذِي ينْطق عَن الله تَعَالَى إِنَّمَا يلج آذان المستمعين مَعَ الْكسْوَة الَّتِي تخرق كل حجاب وَهُوَ نور الله تَعَالَى لِأَنَّهُ خرج من قلب مشحون بِالنورِ وَصدر مشرق بِهِ فَإِذا خرج الْمنطق مَعَ ذَلِك النُّور فولج آذان المستمعين خرق هَذَا النُّور كل حجاب قد تراكم على قُلُوب المخلطين من رين الذُّنُوب وظلمة الشَّهَوَات ومحبة الدُّنْيَا فخلصته إِلَى نور التَّوْحِيد فأنارته وَمثل ذَلِك مثل جَمْرَة قد أحَاط بهَا الرماد فَذهب بحرها وضيائها فَلَمَّا وصلت النفخة إِلَيْهَا طيرت الرماد عَنْهَا فتلهبت وأضاءت الْبَيْت كَذَلِك الْكَلِمَة الَّتِي تخرج من النَّاطِق(2/41)
عَن الله تَعَالَى تخرج من نور وَكسوته النُّور فَإِذا وصل إِلَى الصَّدْر خرقت حجب الظُّلُمَات حَتَّى وصلت إِلَى الْقلب فأثارت نور التَّوْحِيد فَأَضَاءَتْ الْبَيْت فَاسْتَغْفر وَبكى وَنَدم وَأبْصر قَالَ الله تَعَالَى قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة أَنا وَمن اتبعني أَي على مُعَاينَة وَهَذَا لمن تفرغ من نَفسه واشتغل بِاللَّه تَعَالَى فَأَما من لَيْسَ عبدا لله تَعَالَى وَلَا هُوَ لله عز وَجل وَإِنَّمَا قلبه عبد نَفسه ولنفسه ومشغول بشهوته ونهمته فَكيف يَدْعُو إِلَى الله تَعَالَى
وَقَوله يزِيد فِي عَمَلكُمْ مَنْطِقه فَإِنَّهُ إِذا نطق نطق بآلاء الله تَعَالَى وتدبيره وصنعه فَأَما آلَاء الله تَعَالَى فَهُوَ مَا أبدا من الهيبة فِي وحدانيته كالجلال وَالْجمال وَالْعَظَمَة والهيبة والكبرياء والبهاء وَالسُّلْطَان والعز وَالْفَخْر فَهَذِهِ صِفَات على قُلُوب الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام فتمالكوا مَعَ ذَلِك واحتملته عُقُولهمْ وَأما تَدْبيره فَمَا دبر من خلقهمْ من تُرَاب ثمَّ جعل فيهم أرواحا سَمَاوِيَّة ثمَّ أَعْطَاهُم جوارح قوالب لتِلْك الْأَرْوَاح ثمَّ اضطرهم إِلَى التربية والمعاش ثمَّ دبر لَهُم الْمَوْت ثمَّ هيأ لَهُم يَوْمًا يحاسبهم ويفتشهم ويقتضيهم حَقه فِيهِ ثمَّ جعل ممرهم إِلَى الْجنَّة على متن النَّار ثمَّ أكْرم وأهان وَأدنى وأقصى وَحرم وَأعْطى وأبرز عدله ثمَّ أفضل على من شَاءَ بجوده وَكَرمه ومنته فَهَذَا من تَدْبيره مُنْذُ أبدا خلقه وَأما صنعه فأحوال الْعباد فِي الدُّنْيَا كَيفَ يفقر وَكَيف يُغني ويعز ويذل وَيملك وَينْزع الْملك ويبتلي ويعافي ويغير الْأَحْوَال سَاعَة فساعة
وَقَوله ويرغبكم فِي الْآخِرَة عمله لِأَن على عمله نورا وعَلى أَرْكَانه خشوعا وعَلى تصرفه فِيهَا صدق العبودة مَعَ الْبَهَاء وَالْوَقار والحلاوة والمهابة لِأَنَّهُ عمل على معنى المعاينة وعامل الله بِتِلْكَ الْأَعْمَال(2/42)
عبودة لَا متاجرة فَإِذا رَآهُ الراءون تقاصرت إِلَيْهِم أَعْمَالهم وهم فِي تِلْكَ الْأَعْمَال بِأَعْيَانِهَا وَلَيْسَ لأعمالهم ذَلِك النُّور وَتلك المهابة والحلاوة لأَنهم يعاملون على الرَّغْبَة والرهبة وَالْخَوْف والطمع وَهَؤُلَاء أهل الْيَقِين يعاملونه على المعاينة على الشوق والمحبة عبودة لَهُ قد سبت قُلُوبهم محبته فعملوا على الْيُسْر وَطيب وَالنَّفس
قَالَ بعض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لبَعض الْعباد أَنْتُم تَعْمَلُونَ على الرَّغْبَة والرهبة وَنحن نعمل على الشوق والمحبة وشتان مَا بَين عَبْدَيْنِ أَحدهمَا يعْمل لخوف وَعِيد مَوْلَاهُ وحرمان وعده وَالْآخر يعْمل لمَوْلَاهُ شَفَقَة على عمله وَنصحا لَهُ وتذللا وتخشعا ومحبة لَهُ وشغوفا بِهِ
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعوف بن مَالك الْجُشَمِي رَضِي الله عَنهُ أَرَأَيْت لَو كَانَ لَك عَبْدَانِ أَحدهمَا يخونك ويكذبك وَالْآخر يصدقك وَلَا يخونك أَيهمَا أحب إِلَيْك قَالَ الَّذِي يصدقني وَلَا يخونني قَالَ فَكَذَلِك أَنْتُم عِنْد ربكُم(2/43)
- الأَصْل الرَّابِع وَالْمِائَة
-
فِي أَن التمطر من امارات المشتاقين إِلَى الله تَعَالَى
عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ أصابتنا السَّمَاء وَنحن مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مطر فحسر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّوْب عَن رَأسه حَتَّى أَصَابَهُ من الْمَطَر فَقُلْنَا يَا رَسُول الله لم صنعت هَذَا قَالَ لِأَنَّهُ قريب عهد بربه سُبْحَانَهُ
هَذَا فعل المشتاقين وأولاهم بِاللَّه أَشَّدهم شوقا وَكلما ازْدَادَ العَبْد انتباها ويقظة ازْدَادَ شوقا وكمدا وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَوِيل الْفِكر دَائِم الاحزان وَلَا يكون حزنه إِلَّا من الْحَبْس عَن لِقَاء الصفاء فأعلاهم منزلَة وأقربهم قربا وأشدهم حرقة فِي الْقُلُوب شوقا وينتظر مَتى يدعى فيجيب فَكَأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجد روحا إِلَى ذَلِك الْمَطَر بِمَا وصف من حَدَاثَة عَهده بربه عز وَجل وَكَذَلِكَ جد المشتاق إِلَى لِقَاء من غَابَ عَنهُ فَهُوَ قلق لمكانه فَإِذا ورد عَلَيْهِ مِنْهُ كتاب أَو شَيْء(2/44)
من آثاره كَانَ لَهُ فِيهِ أنس وَإِلَيْهِ استرواح وَبِه تلذذ
وَرُوِيَ عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه كَانَ يخرج إِلَى طور سيناء فَرُبمَا ضَاقَ عَلَيْهِ الْأَمر فِي الطَّرِيق فشق قَمِيصه من شدَّة الشوق والعجلة الَّتِي كَانَت تَأْخُذهُ وَهُوَ الَّذِي حمله على سُؤال الرُّؤْيَة لما سمع الْكَلَام قلق وغلي شوقه غلي الْمرجل وضاق بِهِ الْأَمر فَفَزعَ إِلَى الرُّؤْيَة طَمَعا لتسكين غليانه فَاعْلَم الله تَعَالَى أَنه لَا يحْتَمل ذَلِك فَأبى عَلَيْهِ وَألقى إِلَيْهِ عذره بِأَن جعل الْجَبَل دكا يُعلمهُ أَنَّك لَا تقدر احْتِمَال ذَلِك لِأَن الْجَبَل حجر وحديد وصخر وَأَنت لحم وَدم
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله تَعَالَى {رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} قَالَ تَعَالَى يَا مُوسَى لن تراني إِنَّه لَا يراني حَيّ إِلَّا مَاتَ وَلَا يَابِس إِلَّا تدهده وَلَا رطب إِلَّا تفرق إِنَّمَا يراني أهل الْجنَّة الَّذين لَا تَمُوت أَعينهم وَلَا تبلى أَجْسَادهم
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول أَسأَلك الشوق إِلَى لقائك وَلَذَّة النّظر إِلَى وَجهك الْكَرِيم
وَعَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَل فِي دعائك ارزقني لَذَّة النّظر إِلَى وَجهك الْكَرِيم والشوق إِلَى لقائك(2/45)
- الأَصْل الْخَامِس وَالْمِائَة
-
فِي أَن مناولة الْمِسْكِين تَقِيّ ميتَة السوء وَأَن خَصْلَتَيْنِ لَا يكلهما إِلَى أحد
عَن حَارِثَة بن النُّعْمَان أَنه جعل خيطا من مُصَلَّاهُ إِلَى بَاب حجرته وَكَانَ قد ذهب بَصَره فَيَضَع مكتلا فِيهِ تمر وَغير ذَلِك فَكَانَ إِذا أسلم الْمِسْكِين أَخذ من ذَلِك المكتل ثمَّ أَخذ الْخَيط حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى بَاب الْحُجْرَة فيناول الْمِسْكِين فَكَانَ أَهله يَقُولُونَ نَحن نكفيك فَيَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ان مناولة الْمِسْكِين تَقِيّ ميتَة السوء
فَفِي مناولة الْمِسْكِين خصْلَة تعلو الْخِصَال لِأَن الله تَعَالَى قد شرف هَذِه الْأمة من بَين الْأُمَم وَعظم شَأْنهَا وَأَكْرمهَا بِفضل يقينها وَجعل صدقاتها تُؤْخَذ من أغنيائها فَترد إِلَى فقرائها فَيبقى النَّفْع فيهم وَكَانَت الْأُمَم من بني إِسْرَائِيل صدقاتها وقرباتها تُوضَع فتجيء نَار فتقبله وتترك من لم يتَقَبَّل مِنْهُ فَيصير منهتك السّتْر وَكَانَت نُفُوسهم لَا تسخوا إِلَّا على عيان وجهر حَتَّى بلغ بهم أَن قَالُوا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام(2/46)
{أرنا الله جهرة} وأيدت هَذِه الْأمة بِفضل يَقِين فَعَلمُوا أَن الشَّيْء إِذا أَعْطوهُ لله تَعَالَى أَن الله لَا يضيعه وتفضل عَلَيْهِم أَن ولي أَخذ صَدَقَاتهمْ بِنَفسِهِ الْكَرِيمَة فَلم يكلها إِلَى مَلَائكَته وَلَا إِلَى أحد من خلقه قَالَ الله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَأْخُذ الصَّدقَات
وَلِهَذَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لايكل خَصْلَتَيْنِ إِلَى أحد فَكَانَ يمشي بِالصَّدَقَةِ إِلَى الْمِسْكِين ويستقي لوضوء المَاء وَلَا يكله إِلَى أحد
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا من عبد يتَصَدَّق بصدقه حَسَنَة طيبَة فَيَضَعهَا فِي حق إِلَّا كَانَت تقع فِي يَد الرَّحْمَن يُرَبِّيهَا كَمَا يُربي أحدكُم فَصِيله أَو فلوه حَتَّى أَن التمرة واللقمة لتصير مثل الْجَبَل الْعَظِيم ثمَّ قَرَأَ يمحق الله الرِّبَا ويربي الصَّدقَات
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الصَّدَقَة لَو جرت على يَد سبعين نفسا لَكَانَ أجر أحدهم مثل أجر آخِرهم
وَمَعْنَاهُ أَن هَذِه الْأَيْدِي كلهَا منتهية إِلَى يَد الله تَعَالَى بِنَقْل تِلْكَ الصَّدَقَة(2/47)
وَكَانَ عَليّ بن حُسَيْن رَضِي الله عَنهُ إِذا أعْطى لسائل شَيْئا قبله وَوَضعه على يَده وَإِنَّمَا قبله لِأَنَّهُ علم من يَأْخُذهُ
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مناولة الْمِسْكِين تَقِيّ ميتَة السوء لِأَنَّهُ يصير بالمناولة فِي قرب الله تَعَالَى وَمن وَقع فِي قرب الله كَانَ لَهُ مأمنا وَذمَّة وَكَانَ فِي ذمَّته ويوقى مصَارِع السوء وميتة السوء أَن يَمُوت مصرا على مَعْصِيَته أَو قانطا من رَحمته أَو يفجأه الْمَوْت من غير تَوْبَة فَمن كَانَ فِي ذمَّة الله وقِي هَذِه الْأَشْيَاء
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلى الْغَدَاة فَهُوَ فِي ذمَّة الله لِأَنَّهُ شهد الله عز وَجل وَمَلَائِكَته قَالَ تَعَالَى {إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} مَعْنَاهُ ليشهد الله وَمَلَائِكَته(2/48)
- الأَصْل السَّادِس وَالْمِائَة
-
فِي حَقِيقَة الزهاد وَحَقِيقَة الْإِيمَان وَحَقِيقَة الْإِخْلَاص
عَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ الزهادة فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيم الْحَلَال وَلَا باضاعة المَال وَلَكِن الزهادة أَن لَا يكون شَيْء مِمَّا فِي يَديك أوثق مِنْك مِمَّا فِي يَدي الله تَعَالَى وَأَن يكون ثَوَاب الْمُصِيبَة أحب إِلَيْهِ من أَن لَو نفيت الْمُصِيبَة عَنهُ وَلكُل حق حَقِيقَة وَلَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِيمَان حَتَّى يعلم أَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه وان مَا أخطأه لم يكن ليصيبه وَلكُل حق حقيقه وَلَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِخْلَاص حَتَّى لَا يحب أَن يحمد فِي كل شَيْء يعمله لله تَعَالَى(2/49)
الزّهْد الْقلَّة فالزاهد قلت فِي عينه الدُّنْيَا بِمَا فتح لَهُ من الْغَيْب فَرَأى الْآخِرَة ببصر قلبه فاستقل هَذِه وتهاون بهَا وشخص بَصَره إِلَى ضَامِن الرزق الَّذِي ضمن لَهُ رزقه ووثق بضمانه وَصَارَ هَذَا الَّذِي فِي يَده كَأَنَّهُ أودع وَدِيعَة وكل بحفظها على نَوَائِب الْحق لينفقها هُنَاكَ وَضَمان الرب لعَبْدِهِ الرزق لَهُ أوكد عِنْده وَأعظم شَأْنًا من أَن يتْلف مِمَّا فِي يَده وَيكون ثَوَاب الْمُصِيبَة آثر عِنْده من أَن لَو بَقِي عِنْده ذَلِك الشَّيْء لِأَن الشَّيْء من الدُّنْيَا وَقد دق فِي عينه وَالثَّوَاب من الْآخِرَة وَقد عظم فِي عينه
فَأَما من لم يفتح بَصَره فِي الْآخِرَة وَعظم قدر الدُّنْيَا فِي عينه حَتَّى وجد شَيْئا مِنْهَا إحتدت مخاليبه فِيهَا وعلق قلبه بهَا وَلم يستبن عِنْد قلبه ضَمَان الرزق وَكلما ذكر الْفقر أَو حبس فِي نَفسه خيفة فركن إِلَى مَا فِي يَده فَهَذَا وان جَانب الدُّنْيَا وَلبس المسوح وَأكل الْحَشِيش فَلَيْسَ بزاهد إِنَّمَا هُوَ متزهد يتَكَلَّف الزّهْد بجوارحه
وَقَوله وَلَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِيمَان حَتَّى يعلم أَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه فالموحدون كلهم يعلمُونَ هَذَا علم اللِّسَان وَلَكِن لَا تَسْتَقِر قُلُوبهم مَعَ هَذِه الْكَلِمَة وَلِهَذَا يفرون من الْمَخْلُوق فِرَارًا فِيهِ عصيان الله تَعَالَى فَأَما أهل الْيَقِين فقد اسْتَقر هَذَا الْعلم فِي قُلُوبهم وانشرحت بِهِ صُدُورهمْ فَكَانُوا فِي النوائب كرأي الْعين أَن هَذَا الَّذِي نَاب قد كَانَ فِي سَابق الْعلم ثمَّ تصور عِنْدهم كَونه فِي اللَّوْح مسطورا فاستقرت نُفُوسهم لعلم يقينهم بذلك فَهَذَا حَقِيقَة الْإِيمَان
وَأما حَقِيقَة الْإِخْلَاص فَأن يَنْفِي عَن قلبه وصدره حب المحمدة وَالثنَاء وَيكون مخلصا لله تَعَالَى فِي أُمُور يعملها من أَعمال الْبر وَذَلِكَ لِأَن النَّفس تحب المحمدة وَالثنَاء لينفذ قَوْله وينال نهمته فِي دُنْيَاهُ من خلقه وَيَقُول بِلِسَان التَّوْحِيد هَذَا كُله من الله تَعَالَى ثمَّ ترَاهُ مُعَلّق الْقلب بخلقه طامعا فِيمَا لديهم غير نَاجٍ من التزين والترايئ(2/50)
يُرِيد بذلك التحمد عِنْدهم لتنال النَّفس مَا تطمع فِيهِ وَلم يبلغ حَقِيقَة الاخلاص حَتَّى استنار صَدره بِالْإِيمَان وَتعلق قلبه بِاللَّه تَعَالَى وينجو من الْخلق والأسباب وشخصت آماله إِلَى خالقه فينبىء الْخلق مَا تصور فِي صَدره مِمَّا تنطق الْأَلْسِنَة بِهِ من قَوْله لَا مَانع لما أعطي وَلَا معطي لما منع(2/51)
- الأَصْل السَّابِع وَالْمِائَة
-
فِي أَن الله تَعَالَى أَحَق أَن يستحيي مِنْهُ
عَن بهز بن حَكِيم عَن جده عَن أَبِيه رَضِي الله عَنهُ قَالَ قلت يَا رَسُول الله عوراتنا مَا نأتي مِنْهَا وَمَا نذر قَالَ احفظ عورتك إِلَّا من زَوجتك أَو مَا ملكت يَمِينك
قلت أَرَأَيْت إِذا كَانَ الْقَوْم بَعضهم فِي بعض
قَالَ فَإِن اسْتَطَعْت أَن لَا يَرَاهَا أحد فَلَا يرينها
قلت أَفَرَأَيْت إِذا كَانَ أَحَدنَا خَالِيا
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَق أَن يستحيي مِنْهُ
فالعورة كَانَت مستورة من آدم وحواء عَلَيْهِمَا السَّلَام وعاشا ودخلا(2/52)
الْجنَّة فَلَمَّا خرجا من ستر الله تَعَالَى بالخطيئة وأكلا من الشَّجَرَة وإنكشفت سوآتهما أمرا بالستر قَالَ تَعَالَى {ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوآتهما}
وَالزَّوْجَة وَملك الْيَمين مُطلق فِي ملامستهما فَيحل النّظر إِلَيْهِمَا قَالَ الله تَعَالَى وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فانهم غير ملومين
إِلَّا أَن الْحيَاء يحْجر صَاحبه عَن ذَلِك وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتوقى أَن يرى أحد من نِسَائِهِ عَوْرَته
قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَا رَأَيْت ذَلِك من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا رأى مني قطّ
وَأما إِذا كَانَ خَالِيا فتعرى وَلم يحتشم عَن ذَلِك فَهَذَا قلبه غافل عَن الله تَعَالَى لم يعلم أَن الله تَعَالَى يرَاهُ ثمَّ لَا يَأْخُذهُ الْحيَاء وَلَا يثقل ذَلِك عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ إِنِّي لأدخل الْخَلَاء فأقنع رَأْسِي حَيَاء من الله تَعَالَى
وَكَانَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إِذا اغْتسل اغْتسل فِي بَيت مظلم(2/53)
- الأَصْل الثَّامِن وَالْمِائَة
-
فِي فضل الْإِحْسَان إِلَى الْيَتِيم
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أحسن إِلَى يَتِيم أَو يتيمة كنت أَنا وَهُوَ فِي الْجنَّة كهاتين وَقرن بَين اصبعيه
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَنا وكافل الْيَتِيم لَهُ وَلغيره إِذا اتَّقى الله فِي الْجنَّة كهاتين
إِنَّمَا فاق هَذَا سَائِر الْأَعْمَال لِأَن الْيَتِيم افْتقدَ بر أَبِيه ولطفه وتعاهده ومصالح أُمُوره وَالله تَعَالَى ولي ذَلِك كُله يجريها على الْأَسْبَاب فَإِذا قبض أَبوهُ فَهُوَ الْوَلِيّ لذَلِك الْيَتِيم فِي جَمِيع أُمُوره يَبْتَلِي بِهِ عبيده لينْظر أَيهمْ يتَوَلَّى ذَلِك
قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَا رب أتميت أَبَوي الصَّبِي وَمن لَا(2/54)
حِيلَة لَهُ وتدعه هَكَذَا قَالَ يَا مُوسَى أما ترْضى بِي كافلا
فاليتيم كافله خالقه لِأَنَّهُ قطع عَنهُ من كَانَ قيض لَهُ وطوى عَنهُ أَسبَابه فَمن مد يَده إِلَى كفَالَته فانما ذَلِك عمل يعمله عَن الله تَعَالَى لَا عَن نَفسه كَمَا أَن الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام يعْملُونَ عَن الله تَعَالَى يؤدون عَنهُ حججه إِلَى خلقه وَبَيَانه وهدايته وَالَّذِي يكفل الْيَتِيم يُؤَدِّي عَن الله تَعَالَى مَا تكفل بِهِ فَلذَلِك صَار بِالْقربِ مِنْهُ فِي الدرجَة فِي ذَلِك الْموقف وَلَيْسَ فِي الْجنَّة بقْعَة أروح وَلَا أطيب وَلَا أنور وَلَا آمن من الْبقْعَة الَّتِي يكون بهَا الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام فَإِذا نَالَ كافل الْيَتِيم الْقرب من تِلْكَ الْبقْعَة فقد سعد جده وَأما سَائِر الْأَعْمَال سوى الْجِهَاد فيعمله الْعمَّال عَن أنفسهم وَالْجهَاد فِيهِ ذب عَن الدّين وإعلاء كلمة الله تَعَالَى فهم على أثر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام يَوْمئِذٍ وبالقرب مِنْهُم وَقد ذكر الله تَعَالَى شَأْن الْعَفو فَقَالَ وَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله
وَلم يُوجد شَيْء من أَعمال الْبر أجره مَضْمُونا فِي عَاجل الدُّنْيَا غير الْعَفو لِأَن الرجل إِذا ظلم وَقع قلبه فِي سجن الْمعْصِيَة وَصَارَ محجوبا عَن الله تَعَالَى فَهُوَ وَإِن تَابَ فَهُوَ غير مَقْبُول مِنْهُ حَتَّى يتَحَلَّل الْمَظْلُوم فيهب ظلامته فَيكون فِي خذلان من ربه وعمى عَن رُؤْيَة الْحق تَعَالَى فَإِذا رَحمَه هَذَا الْمَظْلُوم لما يعلم من فَسَاد قلبه وَعَفا وَأصْلح مَا فسد من قلبه لسؤال ربه الْمَغْفِرَة لَهُ فَإِنَّمَا عمل لله تَعَالَى لَا لنَفسِهِ فَأَجره على الله تَعَالَى فِي عَاجل الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى وَلمن صَبر وَغفر إِن ذَلِك لمن عزم الْأُمُور
فَسمى سُؤال الغفران لَهُ من عزم الْأُمُور فقد أَخذ هَذَا الَّذِي عَفا(2/55)
وَطلب لَهُ الْمَغْفِرَة بحظ من أَمر أولي الْعَزْم وَكَانَ أولي الْعَزْم من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام من يضر بِهِ قومه حَتَّى تسيل دُمُوعه على وجنته فاذا أَفَاق اللَّهُمَّ قَالَ اغْفِر لقومي فانهم لَا يعلمُونَ
وَعَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ قَالَ يُنَادي مُنَاد يَوْم الْقِيَامَة أَلا من كَانَ لَهُ على الله أجر فَليقمْ فَلَا يقوم إِلَّا من عَفا الله تَعَالَى(2/56)
- الأَصْل التَّاسِع وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْحَوْض لَا يردهُ من كذب بِهِ
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لي حوضا مَا بَين عدن إِلَى عمان آنيته عدد نُجُوم السَّمَاء وَله مِيزَابَانِ أَحدهمَا من ورق وَالْآخر من ذهب يمدانه من الْجنَّة لَا يرد عَلَيْهِ من كذبه
فالحياض يَوْم الْقِيَامَة للرسل عَلَيْهِم السَّلَام لكل على قدره وَقدر تبعه وَقد هيأ لَهُ مشربا يرْوى مِنْهُ فَلَا يظمأ بعْدهَا أبدا
عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول من يدعى يَوْم الْقِيَامَة أَنا فأقوم وألبي ثمَّ يُؤذن لي بِالسُّجُود فأسجد لَهُ سَجْدَة يرضى بهَا عني ثمَّ يَأْذَن لي فأرفع وأدعو بِدُعَاء يرضاه عني فَقُلْنَا يَا رَسُول الله وَكَيف تعرف أمتك يَوْم الْقِيَامَة
قَالَ يقومُونَ غرا محجلين من آثَار الطّهُور ويردون إِلَى الْحَوْض(2/57)
مَا بَين بصرى إِلَى صنعاء أَشد بَيَاضًا من اللَّبن وَأحلى من الْعَسَل وأبرد من الثَّلج وَأطيب ريحًا من الْمسك فِيهِ من الْآنِية عدد نُجُوم السَّمَاء من ورده فَشرب مِنْهُ لم يظمأ بعده أبدا وَمن صرف عَنهُ لم يرو بعده أبدا ثمَّ يعرض النَّاس على الصِّرَاط فيمر أوائلهم كالبرق ثمَّ يَمرونَ كَالرِّيحِ ثمَّ يَمرونَ كالطرف ثمَّ يَمرونَ كأجود الْخَيل والركاب وعَلى كل حَال وَهِي الْأَعْمَال وَالْمَلَائِكَة جَانِبي الصِّرَاط يَقُولُونَ رب سلم سلم فسالم نَاجٍ ومخدوش نَاجٍ ومرسل فِي النَّار وجهنم تَقول هَل من مزِيد حَتَّى يضع فِيهَا رب الْعَالمين مَا شَاءَ أَن يضع فتنزوي وتنقبض وتغرغر كَمَا تغرغر المزادة الجديدة إِذا ملئت وَتقول قطّ قطّ(2/58)
- الأَصْل الْعَاشِر وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْوَلَد من ريحَان الله تَعَالَى
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما قبض إِبْرَاهِيم بن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تدرجوه فِي أَكْفَانه حَتَّى أنظر إِلَيْهِ فَأَتَاهُ وانكب عَلَيْهِ وَبكى
الْوَلَد من ريحَان الله تَعَالَى يشمه الْمُؤمن فيلتذ بِهِ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّكُم لتجهلون ولتجبنون وتبخلون وانكم لمن ريحَان الله تَعَالَى
فَكَأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب أَن يتزود من ريحَان الله تَعَالَى آخر(2/59)
الْعَهْد بِهِ وَلذَلِك قيل ريح الْوَلَد ريح الْجنَّة فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل فعل المشتاقين إِذا هاج غليان الشوق إِلَى الله تَعَالَى وَلِهَذَا كَانَ إِذا مطرَت السَّمَاء تجرد وكشف عَن رَأسه وأبرز ثمَّ يتلقاه بجسده وَيَقُول إِنَّه حَدِيث الْعَهْد بربه وَكَانَ ينكب على الْحجر الأسنود وَيَقُول هَهُنَا تسكب العبرات أَلا ترى أَنه كَانَ يستبطىء جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي مَجِيئه حَتَّى قَالَ يَا مُحَمَّد مَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك فانكبابه على إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَود مِنْهُ وبكاؤه توجع مِنْهُ لمفارقة من يشمه ريحانا من الله تَعَالَى فنسب إِلَى الله تَعَالَى لِأَنَّهُ هبة الله وَالْهِبَة مِنْهُ حشوها الْبر واللطف وظاهرها الِابْتِلَاء قَالَ تَعَالَى يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوْلَادكُم من هبة الله تَعَالَى لكم فَكُلُوا من كسبكم(2/60)
- الأَصْل الْحَادِي عشر وَالْمِائَة
-
فِي أَن إقراض الله تَعَالَى سفاتج الْآخِرَة وسره
عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما نزلت {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا} قَالَ أَبُو الدحداح الْأنْصَارِيّ أَو أَن الله تَعَالَى يُرِيد الْقَرْض منا قَالَ نعم يَا أَبَا الدحداح قَالَ أَرِنِي يدك يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي قَالَ فَنَاوَلَهُ يَده قَالَ فَإِنِّي أقرضت رَبِّي حائطي فِيهِ سِتّمائَة نَخْلَة قَالَ فجَاء إِلَيْهِ فَنَادَى وَهُوَ خَارج من الْحَائِط يَا أم الدحداح مرَّتَيْنِ قَالَت لبيْك قَالَ اخْرُجِي فقد أقرضت رَبِّي عز وَجل
الْقَرْض سفاتج الْآخِرَة فان الله تَعَالَى خلق هَذَا المَال قواما لِمَعَاش بني آدم وَجعل قوام الرّوح بِهِ فَأَحبهُ الْآدَمِيّ على قدر نَفعه مِنْهُ والمحبة لَازِقَة بِالْقَلْبِ لِأَنَّهَا تخلص إِلَى حَبَّة الْقلب أَي بَاطِنه وشهوته(2/61)
وَإِنَّمَا هما بضعتان قلب وفؤاد فالقلب مَا بطن والفؤاد الْبضْعَة الَّتِي قد اشْتَمَلت على قلبه وَفِي الْفُؤَاد الْعين وَالْأُذن قَالَ الله تَعَالَى {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى}
نسب الرُّؤْيَة إِلَى الْفُؤَاد ثمَّ قد يَجْتَمِعَانِ فِي اسْم وَاحِد فَيُقَال للْكُلّ قلب كَمَا قيل نفس
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاكُم أهل الْيمن أَلين قلوبا وأرق أَفْئِدَة وصف الْقلب باللين والفؤاد بالرقة وَذَلِكَ لِأَن الْقلب بضعَة لحم فِي بضعَة أُخْرَى فالقلب مَا بطن مِنْهُ والفؤاد مَا ظهر مِنْهُ وَفِيه العينان والأذنان يُقَال فِي اللُّغَة لخبز الْملَّة خبز فئيد إِذا كَانَ لَهُ ظهارة وبطانة فنور التَّوْحِيد فِي الْقلب وشهوة النَّفس قد خلصت إِلَى حَبَّة الْقلب فلصقت بِهِ وَذَاكَ مَعْدن الْإِيمَان وَالْحكمَة وَالْعلم ومستقر النُّور وَلَيْسَ بِموضع شَهْوَة فَإِن الشَّهْوَة دَاء الْقلب وسقم الْإِيمَان
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حبك الشَّيْء يعمي ويصم(2/62)
فَإِذا خلص حب الشَّهَوَات إِلَى الْقلب فقد أعمى بصر الْقلب وأصم أُذُنه لِأَنَّهُ صَار سميعا وبصيرا بِالنورِ فَإِذا خالطه حب الشَّهَوَات ودخانها ثقل الْأذن وَغشيَ الْبَصَر وَمن هَهُنَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسلمان رَضِي الله عَنهُ قل اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك صِحَة فِي الْإِيمَان
سَأَلَ الصِّحَّة من السقم وسقم الْإِيمَان مَا خالط من شَهْوَة النَّفس وَقد ذكر الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم خُرُوج الْعباد من أَمْوَالهم وَذكر ثَوَاب كل وَاحِد مِنْهَا فَذكر الْإِنْفَاق والإيتاء وَالْإِطْعَام وَأَشَارَ فِي جَمِيع ذَلِك إِلَى الْمَسَاكِين وَإِلَى سَبيله فَقَالَ تَعَالَى وَمَا تنفقوا من خير يوف إِلَيْكُم
وَقَالَ وَمثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل
وَقَالَ فِي شَأْن الصَّدَقَة وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ
وَقَالَ فِي شَأْن الْإِطْعَام {فوقاهم الله شَرّ ذَلِك الْيَوْم}
فَلَمَّا صَار إِلَى ذكر الْقَرْض أَشَارَ إِلَى إقراضه دون خلقه وَذكر ثَوَاب الْقَرْض فَقَالَ إِن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم وَيغْفر لكم(2/63)
وعد الْمَغْفِرَة والتضعيف وَقَالَ فِي مَوضِع آخر {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة}
وَالْكثير من الله تَعَالَى لَا يُحْصى وَالْقَرْض زَائِد على الْجَمِيع فِي الِاسْم الَّذِي سمي بِهِ وَالشّرط الَّذِي علق بِهِ فَقَالَ تَعَالَى {يقْرض الله قرضا حسنا}
فالقرض هُوَ الْقطع وَسمي بالمقراض لِأَنَّهُ يقطع بِهِ الشَّيْء اللاصق بالشَّيْء وَلَيْسَ مِنْهُ وَإِنَّمَا يحسن قرضه إِذا قرضه من أَصله قرضا لَا يبْقى هُنَاكَ شئ فَإِذا أقْرض الشَّيْء الَّذِي قد لصقت شَهْوَته ومحبته بِالْقَلْبِ وَصَرفه إِلَى نوع من أَنْوَاع الْبر فقد قرض محبته من قلبه لِأَنَّهُ قد فَارقه ملكا وَأخرجه إِلَى ملك غَيره فَأَما إِذا أعْطى وعَلى قلبه كَرَاهَة الْإِعْطَاء وعسره فقد قطعه وَبَقِي هُنَاكَ شَيْء فَلم يستأصله وَإِذا أعْطى وانتظر الْخلف وَالثَّوَاب فقد شخصت عَيناهُ إِلَى محبَّة شَيْء هُوَ أعظم من الَّذِي أعْطى فقد أَنْهَك الْقطع وَقصر فِيهِ وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى ابتلى الْعباد بِمَا أَعْطَاهُم من الدُّنْيَا ثمَّ سَأَلَهُمْ مِنْهَا بعد إِذْ ولجت لَذَّة مَنَافِعه قُلُوبهم محنة لسرائرهم فَمن أسكرته لَذَّة هَذِه الْمَنَافِع فقد سكرت عُقُولهمْ عَن الله تَعَالَى فَصَارَت فتْنَة لَهُم فَإِن أعْطى كرها أَو أعْطى على طمع ثَوَاب أَو خلف لم تصف عطيته وَإِنَّمَا تصفو إِذا أعْطى ربه عَطاء لَا تتبع نَفسه الْعَطِيَّة وَلَا تنْتَظر الْخلف مِنْهَا وَلَا الثَّوَاب عَلَيْهَا عَطاء من كَانَ الشَّيْء عِنْده بأمانة فَإِذا اسْتردَّ اغتنم ذَلِك مِنْهُ وتسارع إِلَى ردهَا وَلَا يقوى على هَذِه الخطة إِلَّا أهل الْيَقِين وهم المقربون السَّابِقُونَ لِأَن الْأَشْيَاء عِنْدهم عواري وودائع قبلوها عَن الله تَعَالَى بقلوبهم وأمسكوها لله تَعَالَى على نَوَائِب حُقُوقه وَقد سقط عَن قُلُوبهم قدر الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وولجت قُلُوبهم عَظمَة الله تَعَالَى(2/64)
فرقت الدُّنْيَا فِي أَعينهم فَإِذا أعْطوا مِنْهَا شَيْئا فَإِنَّمَا هِيَ عِنْدهم أَمَانَة خَرجُوا مِنْهَا إِلَى الله تَعَالَى فِي وَقت نائبة الْحق فهم خزانه وأعوانه وأمناؤه فِي أرضه وَقد مَاتَت شهوات نُفُوسهم عَن جَمِيع حطامها وإمساكها حرصا وعدة وَالدُّنْيَا عِنْدهم كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا مثل الدُّنْيَا كراكب استظل تَحت شَجَرَة ثمَّ رَاح مِنْهَا
وكما فعل أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ حِين حثهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الصَّدَقَة فَأَتَاهُ بِمَالِه كُله فَقَالَ مَا تركت لأهْلك يَا أَبَا بكر قَالَ الله تَعَالَى وَرَسُوله
فالمستغني بِاللَّه لَا بِالْمَالِ هَكَذَا قلبه فَمن أعْطى الْعَطِيَّة وغناه بِاللَّه تَعَالَى لم تشخص عَيناهُ إِلَى الْخلف وَالثَّوَاب وَلم يكن عَلَيْهِ فِي وَقت الْإِعْطَاء عسر وَلَا كَرَاهِيَة فَهَذِهِ عَطِيَّة الْأَوْلِيَاء ونفقاتهم وَمن قبيل ذَلِك مَا فعله أَبُو الدحداح فانه صفق يَده على يَد رَسُول الله بالعطاء فَإِن من أعْطى الرَّسُول فقد أعْطى الله فالرسول ولي الله تَعَالَى فِي الأَرْض يتَوَلَّى قبض مَا يعْطى لله تَعَالَى حَتَّى يَضَعهُ حَيْثُ يَأْمر الله تَعَالَى ثمَّ صَار إِلَى الحديقة لم يدخلهَا وَأخرج عِيَاله مِنْهَا وخلا عَنْهَا وَقَالَ إِنِّي أَقْرَضته رَبِّي وَإِنَّمَا توقى دُخُولهَا مَخَافَة أَن تتبعه نَفسه شَيْئا مِمَّا ذكرنَا فَلم يَأْمَن نَفسه فاجتنب دُخُولهَا لِئَلَّا يكون فِي النَّفس شَيْء مِنْهُ(2/65)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كم من عذق مذلل لأبي الدحداح فِي الْجنَّة
وَكَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا أعجبه الشَّيْء أخرج مِنْهُ إِلَى الله تَعَالَى وَكَانَت لَهُ سَرِيَّة وَكَانَ بهَا معجبا فَأعْتقهَا وَزوجهَا بعض موَالِيه فَولدت لَهُ غُلَاما وَكَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا يضم وَلَدهَا إِلَى نَفسه ثمَّ يقبله ثمَّ يَقُول واها إِنِّي أجد مِنْك ريح فُلَانَة يَعْنِي جَارِيَته
قَالَ وَكَانَ رَاكِبًا بَعِيرًا لَهُ فأعنق وَأَعْجَبهُ سيره فَقَالَ أَخ أَخ فَنزل ثمَّ قَالَ يَا نَافِع جلله وألحقه بِالْبدنِ(2/66)
- الأَصْل الثَّانِي عشر وَالْمِائَة
-
فِي أَن زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِجْرَة الْمُضْطَرين
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زار قَبْرِي وَجَبت لَهُ شَفَاعَتِي
زِيَارَة قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِجْرَة الْمُضْطَرين هَاجرُوا إِلَيْهِ فتوجب لَهُم شَفَاعَة تقيم حُرْمَة زيارتهم والشفاعة لمن أوبقته ذنُوبه
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَفَاعَتِي للمتلوثين المتلطخين المؤيسين فَأَما المتقون فقد كفوا أنفسهم
وشفاعته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْجُود قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن إِبْرَاهِيم(2/67)
عَلَيْهِ السَّلَام ليرغب إِلَيّ يَوْم الْقِيَامَة وَفِي حَدِيث آخر يحْتَاج إِلَيّ وشفاعة غَيره من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من الصدْق وَالْوَفَاء والحظوظ(2/68)
- الأَصْل الثَّالِث عشر وَالْمِائَة
-
فِي أَن أفضل الصَّلَاة الصَّلَاة لوَقْتهَا
عَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صل الصَّلَاة لوَقْتهَا فان أتيت النَّاس وَقد صلوا كنت قد أحرزت وَإِن لم يَكُونُوا صلوا كَانَت لَك نَافِلَة
وَقت الصَّلَاة ممتد إِلَى آخر الْوَقْت وَأعلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه بِمَا يكون بعده من الْأَحْدَاث والفتن حَتَّى قَالَ سَيكون بعدِي امراء يميتون الصَّلَاة فيصلونها لغير وَقتهَا فصلوها لوَقْتهَا واجعلو صَلَاتكُمْ مَعَهم سبْحَة(2/69)
وَظهر تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث فِي زمن بني أُميَّة فَإِنَّهُ روى أَبُو مُسلم قَالَ كَانَ يَخْطُبنَا الْحجَّاج يَوْم الْجُمُعَة فَلم يزل يخْطب حَتَّى غربت الشَّمْس ثمَّ نزل وَصلى الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب
وَرُوِيَ سَالم قَالَ لما قدم الْوَلِيد بن عبد الْملك جَاءَت الْجُمُعَة فَجمع بِنَا فَمَا زَالَ يخْطب حَتَّى مضى وَقت الْجُمُعَة ثمَّ مَا زَالَ يخْطب حَتَّى مضى وَقت الْعَصْر وَلم يصل قَالَ لَهُ الْقَاسِم بن مُحَمَّد فَمَا قُمْت وَصليت قَالَ لَا قَالَ فَمَا صليت قَاعِدا قَالَ لَا قَالَ فَمَا أَو مأت قَالَ لَا وَالله خشيت أَن يُقَال رجل من آل عمر
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت لَك نَافِلَة أَي صَلَاتك الَّتِي صليت مَعَهم هِيَ النَّافِلَة لِأَن الْفَرِيضَة قد مَضَت(2/70)
- الأَصْل الرَّابِع عشر وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْبِدَايَة فِي الْخيرَات بالأكابر
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتنَّ فَأعْطِي أكبر الْقَوْم ثمَّ قَالَ أَمرنِي جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن أكبر
وروى زيد بن رفيع قَالَ دخل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جبرئيل وَمِيكَائِيل وَهُوَ يستاك فناول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جبرئيل السِّوَاك فَقَالَ جبرئيل لَهُ أكبر أَي ناول مِيكَائِيل فَأَنَّهُ أكبر
وَعند عبد الله بن كَعْب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا اسْتنَّ أعْطى السِّوَاك الْأَكْبَر وَإِذا شرب أعْطى الَّذِي عَن يَمِينه لِأَن أكبرهم سنا أقدمهم خُرُوج أَسْنَان وَمن كَانَ أقدم فَهُوَ أَحَق وَهَكَذَا فِي حق الْجَوَارِح يبْدَأ بالأقدم
روى أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أدهن أحدكُم فليبدأ بحاجبه فَإِنَّهُ يذهب بالصداع وَذَلِكَ أول مَا ينْبت على ابْن آدم من الشّعْر فَإِذا قدم الشَّيْء فِي الْخلقَة فَهُوَ الْمُقدم فِي التَّدْبِير عِنْد خالقه وَصَاحبه مَطْلُوب بِحِفْظ ذَلِك ورعايته ليقدم مَا قدم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُؤَدِّي حَقه فَإِذا اتبع الْحق فِي كل شَيْء(2/71)
من أمره فعقله مستريح وَإِذا اتبع الْجَهْل أتعبه لِأَن الْعقل مَسْكَنه الدِّمَاغ وتدبيره على الْقلب فَإِذا بَدَأَ بالحاجبين فِي الإدهان فقد أُدي حَقه لِأَنَّهُ بُدِئَ بِهِ فِي الْخلقَة فَإِذا ضيع الْحق فِي ذَلِك فَقدم الْمُؤخر وَأخر الْمُقدم فَغير مستنكر أَن يهيج الصداع لِأَن فِي فعله اتعاب الْحق وَالْعقل وَيبدأ بالأكبر فالأكبر فِي كل شَيْء لِأَنَّهُ إِذا لم يبْدَأ بِهِ لم يوقره
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ منا من لم يوقر كَبِيرنَا
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سقِِي قَالَ إبدءوا بالأكابر فان الْبركَة مَعَ أكابركم
وَقَوله إِذا شرب أعطي الَّذِي عَن يَمِينه لِأَن الْإِنَاء كَانَ وَاحِدًا فَإِذا شرب الْكَبِير وَقد فضلت فضلَة لم يجد بدا من مناولته غَيره فَالْحق للْيَمِين وَمن على الْيَمين كَذَلِك يرْوى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/72)
- الأَصْل الْخَامِس عشر وَالْمِائَة
-
فِي الْمُبَادرَة إِلَى الْآخِرَة
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَعْض جَسَدِي فَقَالَ كن فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيب أَو عَابِر سَبِيل وعد نَفسك من أهل الْقُبُور
الْغَرِيب نَازع قلبه إِلَى الوطن ماد عينه إِلَى أَهله شاخص أمله إِلَى وَقت الارتحال مَتى يُنَادى بالرحيل فيرتحل وَكلما قطع مرحلة خف ظَهره وهاج شوقه ينْتَظر نفاد المراحل وَنِهَايَة الْمسَافَة فَإِذا بلغ آخر مر حلَّة قلق وضاق ذرعا فَإِذا وَقع نظره على وَطنه رق ودمعت عَيناهُ فَبكى من طول الغربة ومقاساة الوحشة ثمَّ بَكَى فَرحا بوصوله(2/73)
إِلَى الوطن وَنَظره إِلَى الأحباب فعلى هَذِه الصّفة دله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون نَازع الْقلب إِلَى دَار السَّلَام مَادًّا عينه إِلَى الْملك العلام شاخصا أمله إِلَى دَعوته ينْتَظر مَتى يدعى فيجيب وَكلما قطع يَوْمًا من عمر خف ظَهره من أثقال الْعُمر وهاج شوقه ينْتَظر نفاد اللَّيَالِي وَالْأَيَّام الَّتِي أجلت لَهُ وَإِذا بلغ آخر يَوْمه قلق وضاق ذرعا لخوف الْخطر الَّذِي رَكبه وَأَنه لَا يدْرِي بِمَا يخْتم لَهُ فَإِذا كشف الغطاء عَنهُ وَبشر بالسلامة وأري مَكَانَهُ رق وَبكى من طول الغربة ومقاساة جهد النَّفس ثمَّ بَكَى فَرحا بلقاء مَوْلَاهُ ووصوله إِلَيْهِ والغريب مُنْفَرد منكسر الْقلب لَا يتهنى بعيش وَإِن كَانَ فِي سَعَة من الْعَيْش ونعمة لَا يتوجع لما ينوبه فِي سَفَره وَلَا يجزع لما يقاسي من الشدَّة لِأَنَّهُ يعلم أَن سَفَره مُنْقَطع
وَقَوله وعد نَفسك من أهل الْقُبُور أَن يَقُول سَاعَة بعد سَاعَة الْآن يحضرني أَمر الله تَعَالَى فيعد نَفسه مِنْهُم لَا من الْأَحْيَاء لِأَن أهل الْقُبُور قد انْقَطَعت أطماعهم من الْأَحْيَاء وَقَطعُوا الدُّنْيَا وَرفعُوا بالهم عَنْهَا وَلِهَذَا كَانَ السّلف يبادرون إِلَى تَصْحِيح الْأُمُور مَخَافَة أَن يُحَال مِمَّا يحافظ بَينهم وَبَين ذَلِك فَإِن الْأَمر قد غيب عَن الْخلق وَكَانَ عَامر بن عبد الْقَيْس رَحْمَة الله عَلَيْهِ يمر مسرعا إِلَى أَمر فَقيل لَهُ فَقَالَ أبادر طي صحيفتي وانْتهى كرز بن وبرة إِلَى قنطرة وَعَلَيْهَا زحام فَنزل عَن حِمَاره وَقَامَ يُصَلِّي وَقَالَ أكره أَن تبطل من عمري سَاعَة وَقيل لجَعْفَر بن برْقَان أَلا تخضب قَالَ أكره أَن يأتيني رَسُول رَبِّي وَأَنا مشتغل بِهِ وَسُئِلَ مُحَمَّد بن النَّضر عَن الصَّوْم فِي السّفر فَقَالَ الْمُبَادرَة الْمُبَادرَة فاغتنم وَسُئِلَ دَاوُد الطَّائِي عَن الرَّمْي وتعليمه فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ أيامك فاقطعها بِمَا شِئْت(2/74)
- الأَصْل السَّادِس عشر وَالْمِائَة
-
فِي أَن خوف الإقلال من سوء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى
عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَن رجلا أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ أَن يُعْطِيهِ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عِنْدِي شَيْء وَلَكِن اتبع عَليّ فَإِذا جَاءَ قضينا فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ مَا كلفك الله مَا لَا تقدر عَلَيْهِ فكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَول عمر فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار يَا رَسُول الله أنْفق وَلَا تخف من ذِي الْعَرْش إقلالا فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك وَعرف السرُور فِي وَجهه لقَوْل الْأنْصَارِيّ ثمَّ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أمرت
خوف الإقلال من سوء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى خلق الأَرْض بِمَا فِيهَا لبني آدم قَالَ تَعَالَى خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض(2/75)
فَهَذِهِ الْأَشْيَاء للآدمي قطعا لعذره ليَكُون لَهُ عبدا فِي الدُّنْيَا وَيقدم عَلَيْهِ غَدا فيحرره من الْعُبُودِيَّة ويبعثه ملكا إِلَى دَاره فالمستقيم من رفع باله وهمته عَن الدُّنْيَا وَكَانَ كل همته فِي إِقَامَة العبودة والكون لَهُ كَمَا خلقه مراقبا لأموره فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة منقادا لحكمه يعد نَفسه عبدا لَا يملك شَيْئا وأحواله عواري يقلبها وَليهَا سَاعَة فساعة كَيفَ شَاءَ لَيست لَهُ فِيهَا مَشِيئَة ويتوقى أَن يفكر فِيهَا فَيحدث لَهُ مَشِيئَة نَاظرا إِلَى مَا برز لَهُ من مَشِيئَة الْغَيْب وَخَوف الإقلال يضمحل من الْقلب بِأَن يحسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وَيعلم أَنه رب غَنِي كريم وَقد استنار فِي صَدره غناهُ وَكَرمه فَإِذا أنْفق لم يخف الإقلال لِأَنَّهُ يخلف وَلَا يعوزه شَيْء وَإِذا عرفه بالقلة أَو بالضيق وَالْبخل جبن فِي ذَلِك
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ الله تَعَالَى سبقت رَحْمَتي غَضَبي يَا ابْن آدم أنْفق عَلَيْك يَمِين الله ملأى سحاء لَا يغيضها شَيْء بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أطعمنَا يَا بِلَال قَالَ مَا عِنْدِي إِلَّا صَبر من تمر قد خبأته لَك قَالَ أما تخشى أَن يخسف الله بِهِ نَار جَهَنَّم أنْفق يَا بِلَال وَلَا تخشى من ذِي الْعَرْش إقلالا
وَعَن الزبير رَضِي الله عَنهُ قَالَ جِئْت حَتَّى جَلَست بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذ بِطرف عمامتي من ورائي ثمَّ قَالَ يَا زبير إِنِّي رَسُول الله إِلَيْك خَاصَّة وَإِلَى النَّاس عَامَّة أَتَدْرِي مَاذَا قَالَ ربكُم(2/76)
قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ قَالَ ربكُم حِين اسْتَوَى على عَرْشه وَنظر إِلَى خلقه
عبَادي أَنْتُم خلقي وَأَنا ربكُم أرزاقكم بيَدي فَلَا تتعبوا فِيمَا تكفلت لكم واطلبوا مني أرزاقكم وإلي فارفعوا حَوَائِجكُمْ انصبوا الى أَنفسكُم أصب عَلَيْكُم أرزاقكم
أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ ربكُم قَالَ الله تَعَالَى عَبدِي أنْفق أنْفق عَلَيْك وأوسع أوسع عَلَيْك وَلَا تضيق فأضيق عَلَيْك وَلَا تضر فأضر عَلَيْك وَلَا تحزن فأحزن عَلَيْك
إِن بَاب الرزق مَفْتُوح من فَوق سبع سموات متواصل إِلَى الْعَرْش لَا يغلق لَيْلًا وَلَا نَهَارا ينزل الله تَعَالَى مِنْهُ الرزق على كل امْرِئ بِقدر نِيَّته وعطيته وصدقته وَنَفَقَته من أَكثر أَكثر لَهُ وَمن أقل أقل لَهُ وَمن أمسك أمسك عَلَيْهِ يَا زبير فَكل وَأعْطى وَلَا توك فيوكى عَلَيْك وَلَا تحصي فيحصى عَلَيْك وَلَا تقتر فيقتر عَلَيْك وَلَا تعسر فيعسر عَلَيْك يَا زبير إِن الله تَعَالَى يحب الْإِنْفَاق وَيبغض الاقتار وَإِن السخاء من الْيَقِين وَالْبخل من الشَّك فَلَا يدْخل النَّار من أَيقَن وَلَا يدْخل الْجنَّة من شكّ يَا زبير إِن الله يحب السخاء وَلَو بفلق تَمْرَة والشجاعة وَلَو بقتل عقرب أَو حَيَّة يَا زبير إِن الله تَعَالَى يحب الصَّبْر عِنْد زَلْزَلَة الزلزال وَالْيَقِين النَّافِذ عِنْد مَجِيء الشُّبُهَات وَالْعقل الْكَامِل عِنْد نزُول الشَّهَوَات والورع الصَّادِق عِنْد الْحَرَام والخبيثات يَا زبير عظم الاخوان وجلل الْأَبْرَار وَوقر الأخيار وصل الْجَار وَلَا تماش الْفجار وادخل الْجنَّة بِلَا حِسَاب وَلَا عَذَاب هَذِه وَصِيَّة الله إِلَيّ ووصيتي إِلَيْك يَا زبير(2/77)
- الأَصْل السَّابِع عشر وَالْمِائَة
-
فِي النِّعْمَة وَالرَّحْمَة وَذكر بُلُوغ ذرى الْإِيمَان
عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يبْعَث الله يَوْم الْقِيَامَة عبدا لَا ذَنْب لَهُ فَيَقُول لَهُ بِأَيّ الْأَمريْنِ أحب إِلَيْك أجزيك بعملك أم بنعمتي عَلَيْك قَالَ يَا رب تعلم أَنِّي لم أعصك قَالَ خُذُوا عَبدِي بِنِعْمَة من نعمي فَلَا تبغي لَهُ حَسَنَة إِلَّا استفرغتها تِلْكَ النِّعْمَة فَيَقُول يَا رب بنعمتك ورحمتك قَالَ فَيَقُول بنعمتي ورحمتي وَيُؤْتى بِعَبْد محسن فِي نَفسه لَا يرى أَن لَهُ سَيِّئَة فَيُقَال لَهُ هَل كنت توالي أولياءي قَالَ يَا رب كنت من النَّاس سلما قَالَ فَهَل كنت تعادي أعدائي قَالَ يَا رب لم أكن احب أَن يكون بيني وَبَين أحد شَيْء قَالَ يَقُول الله عز وَجل وَعِزَّتِي لَا ينَال رَحْمَتي من لم يوال أوليائي وَلم يُعَاد أعدائي
فَالْأول عبد غافل عَن ربه متيقظ لآخرته مكب على نَفسه يحب أَن يلق الله تَعَالَى بِالصّدقِ من نَفسه فَيَقْتَضِي الثَّوَاب مِنْهُ على صدقه وَقد خَفِي عَلَيْهِ شَأْن الْمِنَّة وَالنعْمَة عَاشَ حَافِظًا لأموره مَادًّا عينه إِلَى ثَوَابه فَإِذا لقِيه نطق لِسَانه بِمَا توطنه فِي الدُّنْيَا وعامل الله تَعَالَى(2/78)
بِهِ فتح لَهُ الْحق وَطلب مِنْهُ مَا يَقْتَضِيهِ شكرا لنعمه فَأخذ بأصغرها فاستفرغت عمله فَعندهَا انْكَشَفَ لَهُ الغطاء عَن شَأْن الْمِنَّة وَالنعْمَة وقدرهما فَطلب النِّعْمَة وَالرَّحْمَة وَهَذَا عبد لم يفقه إِذْ لَو فقه وَكَانَت لَهُ عبَادَة الثقلَيْن عمر الدُّنْيَا لم يلحظ إِلَيْهَا أَنه عمل شَيْئا وَلم يوازن ذَلِك أَصْغَر نعْمَة من نعم الله تَعَالَى
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عبد الله بِمثل الْفِقْه وَقَالَ من أَرَادَ الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين وَلَو كَانَ جريج الراهب فَقِيها لعلم أَن إِجَابَة أمه من عبَادَة ربه تَعَالَى
وَأما العَبْد الثَّانِي فَهُوَ عبد رعى نَفسه وَعجز عَن رِعَايَة الْحق سُبْحَانَهُ فَمن رعى نَفسه فَإِنَّمَا عمله حفظ جوارحه وَأَدَاء فَرَائِضه ائتمارا لأَمره وتناهيا عَن نَهْيه لِئَلَّا يهْلك نَفسه فَلذَلِك صَار للنَّاس سلما وَلم يدر أَن فِي رِعَايَة الْحق نجاة نَفسه والراعي للحق انْكَشَفَ لَهُ الغطاء عَن جَلَاله وعظمته فاشتعلت الحرقات فِي جَوْفه حبا لَهُ وشغوفا بِهِ حَتَّى أَدَّاهُ ذَلِك إِلَى مَعْرفَته فَامْتَلَأَ قلبه من جلال الله وعظمته فوالى أولياءه وعادى أعداءه مُوَافقَة لَهُ كَمَا أَن من حل من قَلْبك محلا ترى الدُّنْيَا بِهِ فيهيج حبك لَهُ أَن تحب من أحبه وتعادي من عَادَاهُ وَهَذَا من بُلُوغ العَبْد ذرى الْإِيمَان(2/79)
- الأَصْل الثَّامِن عشر وَالْمِائَة
-
فِي دُعَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ عَلمنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَل علانيتي صَالِحَة وَاجعَل سريرتي خيرا من علانيتي اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك من خير مَا يُؤْتِي النَّاس من المَال وَالْولد غير الضال والمضل
الْعَلَانِيَة الصَّالِحَة مرضاة الله تَعَالَى من الائتمار بِأَمْر الله تَعَالَى والتناهي عَن نَهْيه والسريرة الَّتِي هِيَ خير من الْعَلَانِيَة تَعْظِيم أمره وَنَهْيه وَالْوُقُوف عِنْد حكمه وَترك الِاخْتِيَار فِي جَمِيع أَحْوَاله وموافقته فِي مَشِيئَته حَتَّى مَا يحب إِلَّا مَا يحب وَلَا يكره إِلَّا مَا يكره وَلَا يُرِيد إِلَّا مَا يُرِيد
وَقَوله أَسأَلك من صَالح مَا يُؤْتِي النَّاس فَإِن الله يُؤْتِي النَّاس مَا يصير عَلَيْهِم وبالا ويؤتي مَا يُبَارك لَهُم فِيهِ فَمَا بورك لَهُم فِيهِ من مَال وَولد فَهُوَ صَالح مَا يُؤْتِي وَلَيْسَ ذَلِك بضال وَلَا مضل وَمَا نزعت مِنْهُ الْبركَة من المَال وَالْولد فَهُوَ الْفَاسِد وَهُوَ الضال المضل(2/80)
- الأَصْل التَّاسِع عشر وَالْمِائَة
-
فِي مبادرة الْعَاطِس بِالْحَمْد
عَن وَاثِلَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَادر الْعَاطِس بِالْحَمْد لم يضرّهُ شَيْء من دَاء الْبَطن
العطاس تنفس الرّوح وسطوعه إِلَى الملكوت حنينا إِلَى قرب الله تَعَالَى لِأَنَّهُ من عِنْده جَاءَ وَهُوَ شَيْء لطيف طَاهِر طيب ملكوتي تمكن لَهُ فِي لحم وَدم وَأمر بالقرار فِيهِ فاستقر فَهَذَا من لطف رَبنَا لعَبْدِهِ وكرامته إِيَّاه وَلَوْلَا الْأَرْوَاح لم ينْتَفع بِهَذِهِ الْجَوَارِح قَالَ الله تَعَالَى وَلَقَد كرمنا بني آدم إِلَى قَوْله وفضلناهم على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَرْوَاح للْمَلَائكَة والآدميين وَالْجِنّ والانفاس للدواب
وَيُقَال ان الرّوح فِي الرَّأْس ثمَّ هُوَ بعد كالسربال فِي الْجَسَد قَالَ الله تَعَالَى {فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق واضربوا مِنْهُم كل بنان}(2/81)
دلّ على مُسْتَقر الرّوح وَهُوَ المقتل فَإِذا عطس الْمُؤمن فَإِنَّمَا ذَلِك وَقت ذكر الله تَعَالَى لعَبْدِهِ وتعزية للروح بِمَا وَقع فِيهِ من الضّيق فاذا خلص إِلَى الرّوح تاق إِلَى مَوْضِعه وموطنه فَتلك الصَّيْحَة مِنْهُ فالمؤمن من رأى عَظِيم صنع الله تَعَالَى فِي جسده فحمده على صنعه وكرامته إِيَّاه بِالروحِ فالمبادر بِالْحَمْد أفهمهم لذَلِك أَلا ترى أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام لما عطس بَادر بِالْحَمْد فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ يَرْحَمك رَبك سبقت رَحْمَتي غَضَبي
فَكَذَلِك الْمُؤمن المتنبه لما عطس حمد فبورك عَلَيْهِ وَإِذا سمع عاطسا سبقه إِلَى الْحَمد لِأَنَّهُ رأى عَظِيم صنع الله تَعَالَى فِيهِ فاستوجب بذلك الْبركَة والعطف من الله وَإِذا بورك فِيهِ وقِي دَاء الْبَطن وَهُوَ وجع الخاصرة
وَقد رُوِيَ وقِي وجع الخاصرة وَالْمَكْر وَسُوء السرائر فِي الكليتين فَذَلِك دَاء الْبَطن فَإِذا كَانَ سَابِقًا بِالْحَمْد كَانَ متنبها وَكَانَ صَدره وجوفه مستنيرا فَلم يعْمل الْمَكْر فِيهِ شَيْئا
رُوِيَ أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِن عطس عاطس من وَرَاء سَبْعَة أبحر فاذكرني
وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حق الْمُسلم على الْمُسلم سِتّ خِصَال فَكَانَ إِحْدَاهُنَّ تشميت الْعَاطِس وَذَاكَ تهنئة بِمَا ظهر للْعَبد من الْحَال عِنْد ربه تَعَالَى فَإِذا لم يهنه فقد استهان بِهِ وَمن استهان بِأَمْر الله أهانه الله تَعَالَى(2/82)
- الأَصْل الْمِائَة وَالْعشْرُونَ
-
فِي أَن أطيب الْكسْب كسب التُّجَّار وسني خصالهم
عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أطيب الْكسْب كسب التُّجَّار الَّذين إِذا حدثوا لم يكذبوا وَإِذا ائتمنوا لم يخونوا وَإِذا وعدوا لم يخلفوا وَإِذا اشْتَروا لم يذموا وَإِذا باعوا لم يطروا وَإِذا كَانَ عَلَيْهِم لم يمطلوا وَإِذا كَانَ لَهُم لم يعسروا
فَهَذِهِ خِصَال الحافظين لحدود الله وَلَا يقدر على الْوَفَاء بهَا إِلَّا من وثق بضامن الرزق فِي شَأْن الرزق وَسقط عَن قلبه خَوفه وسكنت نَفسه ودرس محسبة الرزق من أَيْن وَكَيف فَعندهَا يسْتَحق اسْم التقوي والتقوي يصير رزقه من غير محسبة قَالَ الله تَعَالَى وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب
ومحسبة الرزق مظانه ومعادنه وأسبابه الَّتِي تعلّقت قُلُوب الْخلق بهَا حَتَّى يَعْصِي الله من أجل سَبَب لَا يدْرِي فِيهِ رزقه أم لَا مثل(2/83)
ان اشْترى سلْعَة فخان فِيهَا أَو مدح بِمَا لَيْسَ فِيهِ فانما فعل ذَلِك لغنية قلبه وَأَنه يحْسب أَن ذَلِك رزقه ومعيشته وَكم من مغرور بِمثل هَذَا قد خدعه شَيْطَانه وأماني نَفسه ثمَّ يبغت بِالْمَوْتِ وَقد عري من منفعَته فَيصير مهنأة لوَارِثه والوبال عَلَيْهِ فَلَو سقط عَن قلبه محسبة معاشه ورزقه وَعلم أَن ذَلِك بيد الله تَعَالَى يُخرجهُ من مَشِيئَة الْغَيْب فيجريها بالأسباب كَانَ مراقبا لما يصنع مَوْلَاهُ مَادًّا عينه إِلَى مَا تخْتَار لَهُ ثمَّ لَا يتهمه إِن أَتَاهُ غير مَا تحب نَفسه يُؤْتى برزقه عفوا صفوا وتقواه مَعَه وعَلى رزقه طَابع الْإِيمَان
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْأَعْمَال أَن لَا تتهم الله تَعَالَى فِي شَيْء قضي عَلَيْك
والمتعلق بِأَسْبَاب الرزق قلبه جوال وَنَفسه جشعة وَهُوَ كالهمج فِي الْمَزَابِل يطير من مزبلة إِلَى مزبلة حَتَّى يجمع أوساخ الدُّنْيَا ثمَّ يخلفها وَرَاء ظَهره وَينْزع قَابض الْأَرْوَاح مخاليبه الَّتِي قد احتدت للقبض على حطام الدُّنْيَا ويلقى الله تَعَالَى بايمان سقيم دنسة وسخة ويخاطبه ربه عز وَجل فِي وقفته بَين يَدَيْهِ عَبدِي من كنت تعرف لنَفسك رَبًّا وإلها فَيَقُول لَهُ إياك عرفت وَبِك آمَنت فَيُجِيبهُ أَمن معرفتك إيَّايَ أَو إيمانك بِي كَانَ يحل بك من خوف الْقُوت والرزق مَا عَمَلك على أَن عَصَيْتنِي بأنواع الْمعْصِيَة لأَجله أشككت فِي ضماني أم اتهمتني أم أَسَأْت الظَّن بِي
فَمن فتح لَهُ طَرِيق الْهِدَايَة إِلَى الله تَعَالَى وَعرف ربه عز وَجل معرفَة الموقنين سقط عَن قلبه هم الرزق وفكره وَلها عَنهُ وشغله(2/84)
عَن ذَلِك خوف جَلَاله وعظمته فَكفى مُؤْنَته وَمن لم يفتح لَهُ طَرِيق الْهِدَايَة تَعب قلبه بِمَا يرد عَلَيْهِ من المخاوف وَنصب مِمَّا تتعاوره ظنون السوء بِاللَّه تَعَالَى وكل بدنه فِي السَّعْي خلف زَانِيَة لَا ترد يَد لامس تتزين وتتشوق حَتَّى إِذا سبت الْقلب ولت هاربة والمسبي على أَثَرهَا كالواله وَهَذَا جَزَاء من أعرض عَن الله تَعَالَى وإحسانه وأياديه ومننه وَهل يجازى إِلَّا الكفور المكب على جمع حطام الدُّنْيَا من بَين شُبْهَة وَحرَام وحلال وَقد عصى الله تَعَالَى وينفقها فِي شهواته ومناه مضيعا لحدود الله تَعَالَى فِيهَا مُسْرِفًا بطرا يَأْخُذُونَ الدُّنْيَا على غَفلَة ويخزنونها على تُهْمَة وينفقونها فِي نهمة وَلَا يذكرُونَ مَا أمامهم من الصِّرَاط وَالْعرض على الله تَعَالَى وَالسُّؤَال ونسوا وعيده الَّذِي قدمه الله فَقَالَ كلا إِنَّهَا لظى نزاعة للشوى تَدْعُو من أدبر وَتَوَلَّى وَجمع فأوعى
وَمن قنعت نَفسه بِمَا أَعْطَيْت من الدُّنْيَا وَلم يرفع بِمَا سواهُ رَأْسا ورضيت فِي الْأَحْوَال بتدبير الله تَعَالَى وَحكمه فَقَالَ لَهُ يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من انْقَطع إِلَى الله كَفاهُ الله مُؤْنَته ورزقه من حَيْثُ لَا يحْتَسب
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّاجِر الصدوق مَعَ النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَعَن قيلة أُخْت بني النمار رَضِي الله عَنْهَا قَالَت(2/85)
كنت امْرَأَة أَشْتَرِي وأبيع فِي السُّوق فَقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة فَأَتَيْته وَهُوَ عِنْد الْمَرْوَة فَقلت يَا رَسُول الله إِنِّي امْرَأَة أَشْتَرِي وأبيع فِي السُّوق فيأتيني الرجل يُرِيد أَن يَشْتَرِي مني الشَّيْء فأستام عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا أُرِيد أَن أبيعه فَلَا أَزَال أنقص وأنقص حَتَّى أبيعه بِالَّذِي أُرِيد وَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاء قَالَ فَلَا تفعلي يَا قيلة إِذا أردْت أَن تبيعي شَيْئا فاستامي بِالَّذِي تريدين أَن تبيعيه بِهِ أَعْطَيْت أَو منعت وَإِذا أردْت أَن تشتري شَيْئا فاشتري بِالَّذِي تريدين أَن تشتريه بِهِ أَعْطَيْت أَو منعت
وَكَانَ زَاذَان رَضِي الله عَنهُ يَبِيع الكرابيس وَكَانَ يسوم سومة وَاحِدَة وَكَانَ إِذا جَاءَ المُشْتَرِي نَاوَلَهُ شَرّ الطَّرفَيْنِ(2/86)
- الأَصْل الْحَادِي وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الروحانيين قراء أهل الْجنَّة وَأَن من اسْتمع الى صَوت غناء لم يُؤذن لَهُ أَن يستمع أَصْوَاتهم
عَن سهل من ولد أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اسْتمع إِلَى صَوت غناء لم يُؤذن لَهُ أَن يستمع الروحانيين فِي الْجنَّة فَقيل وَمَا الروحانيون يَا رَسُول الله قَالَ قراء أهل الْجنَّة
وَفِي الْجنَّة أَئِمَّة كالعرفاء وهم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِذا صَارُوا إِلَى الله تَعَالَى فهم أَمَام الْقَوْم وَالسَّابِقُونَ إِلَيْهِ وعرفاؤهم أهل الْقُرْآن الَّذين عرفُوا بِهِ هَهُنَا تِلَاوَة لَهُ وَعَملا بِهِ
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل الْقُرْآن عرفاء أهل الْجنَّة وقراؤها فيلذذون أهل الْجنَّة بِمَا يُعْطون من الْأَصْوَات وحظ كل وَاحِد مِنْهُم من الله(2/87)
على قدر دَرَجَته فَمنهمْ من كَانُوا يفرحون فِي الدُّنْيَا بالعطاء مَعَ نُفُوسهم فهم كَذَلِك فِي الْجنَّة فَرَحهمْ بِمَا يُعْطون فِي الْجنَّة فبه يتلذذون وَبِه يفرحون وَمِنْهُم من كَانُوا يفرحون بِاللَّه تَعَالَى فهم كَذَلِك فِي الْجنَّة فَرَحهمْ بِاللَّه تَعَالَى ودقت الْجنَّة فِي جنب فَرَحهمْ بِاللَّه تَعَالَى وهم الْأَوْلِيَاء ويسمون الروحانيين فالروح الَّذِي على قُلُوبهم شهرهم وَحسن أَصْوَاتهم فِي الْجنَّة حَتَّى يطربوا ويلذذوا أهل الْجنان وَهَذِه الطَّبَقَة على ثَلَاثَة أَصْنَاف مِنْهُم من يكون الرّوح على قُلُوبهم والفرح غَالب عَلَيْهِم ومثالهم فِي الْمَلَائِكَة هم المقربون وَمِنْهُم من يكون الهول على قُلُوبهم وَالْأَحْزَان غَالب عَلَيْهِم ومثالهم فِي الْمَلَائِكَة الكروبيون فَالْأول أهل روح من شَأْنهمْ التَّسْبِيح والتحميد وَالتَّقْدِيس فتح لَهُم من جماله وبهائه فانبسطوا وملكهم الْفَرح بِهِ وَالثَّانِي أهل كرب من شَأْنهمْ الْبكاء فتح لَهُم من جَلَاله وعظمته فاكتأبوا وملكهم الكرب وَيَقُولُونَ فِي تسبيحهم سُبْحَانَكَ مَا لم تبلغه قُلُوبنَا من خشيتك فَاغْفِر لنا يَوْم نقمتك من أعدئك
وَإِنَّمَا يَأْخُذ كل وَاحِد مَا أعطي وَينظر إِلَى مَا وضع بَين يَدَيْهِ وكشف لَهُ عَنهُ وَفتح لَهُ من الْغَيْب فالكروبيون كربهم وأحزانهم من رُؤْيَة التَّقْصِير والروحانيون شغلهمْ جماله عَن الِالْتِفَات إِلَى أنفسهم وأعمالهم فَإِذا ذكروها لم تَدعهُمْ رُؤْيَة جماله إِلَّا أَن يحسنوا الظَّن بِهِ فَحسن الظَّن بِهِ غَالب على رُؤْيَة التَّقْصِير والفرح لَهُم بِهِ دَائِم وَالروح على قُلُوبهم مترادف وصنف ثَالِث أَعلَى من هذَيْن قد جاوزوا هَاتين الخطتين إِلَى وحدانيته فانفردوا بِهِ فشغلتهم وحدانيته عَن الْجلَال وَالْجمال فهم أُمَنَاء الله تَعَالَى وأعلامه فِي أرضه وقواد دينه وهم الَّذين قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي جُحَيْفَة جَالس الكبراء وهم الَّذين تكبروا فِي عَظمَة الله تَعَالَى وجلاله واعتزوا بِهِ وَله
والفرح على ثَلَاثَة أضْرب فَرح بالدنيا الدنية الزائلة فقد خسر أَهله(2/88)
وَهُوَ فَرح الظَّالِمين قَالَ الله تَعَالَى وفرحوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مَتَاع
وَقَالَ فِي قصَّة قَارون {لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين}
وَفَرح بِفضل الله تَعَالَى وَرَحمته أَن فَضلهمْ بمعرفته وَالْإِيمَان بِهِ وَهَذَا فَرح الْمُقْتَصِدِينَ الشَّاكِرِينَ قَالَ تَعَالَى قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ
وَفَرح بِاللَّه تَعَالَى حَيْثُ انتبهوا أَنه رَبهم فِي عَظمته وجلاله ومجده وكبريائه وَملكه وَكَرمه وغناه وَهَذَا فَرح المقربين
فَالْأول عبد ملكته دُنْيَاهُ فَكَانَ بهَا يفتخر ويصول وَبهَا يفرح
ثمَّ أَفَاق إفاقة فملكته نَفسه بالعطايا الَّتِي وَردت على قلبه فَكَانَ بهَا يفتخر ويصول وَبهَا يفرح ثمَّ أَفَاق إفاقة فملكه الْحق ليروضه ويؤدبه بَين يَدَيْهِ حَتَّى يصلح لَهُ فَإِذا تمت رياضة الْحق لَهُ بِبَاب الْملك الْأَعْلَى رفع الْحجاب عَن قلبه وأوصله إِلَى قربه فَكَانَ بَين يَدَيْهِ بِهِ يفتخر وَبِه يصول وَبِه يفرح حَتَّى إِذا اطْمَأَن على الْمقَام واعتاده وسكنت مِنْهُ الأفراح والأهوال والدهشات من النّظر إِلَى جَلَاله وجماله قدمه إِلَى الْوَسِيلَة الْعُظْمَى والقربة الأوفى فغرق قلبه فِي وحدانيته فَصَارَ مُنْفَردا بِهِ مَشْغُولًا عَن جَمِيع صِفَاته فَهُوَ أَمِينه وَوَاحِد بَين عبيده فَهُوَ الَّذِي إِذا ناداه فِي أرضه يَا واحدي يصدق فِي قَوْله وهوالذي قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِيرُوا فقد سبق المفردون قَالُوا يَا رَسُول الله وَمن المفردون قَالَ الَّذين اهتروا فِي ذكر(2/89)
الله يأْتونَ يَوْم الْقِيَامَة خفافا يضع الذّكر عَنْهُم أثقالهم
فالمهتر هُوَ الَّذِي خرف فَذهب عقله فَإِذا تكلم هتر فِي كَلَامه كَأَنَّهُ يهذي والمفرد قد فَرد قلبه للْوَاحِد فِي وحدانيته وَجَاز من الْجلَال وَالْجمال إِلَى وحدانيته قد خمد نور عقله لنُور وَجهه الْكَرِيم فَصَارَ كالواله فِي ذكره كَالَّذي يهذي لِأَن من شَأْن الْعقل أَن يُقيم بك على الْحُدُود والأشياء الْمقدرَة الْمَعْلُومَة فَإِذا خمد الْعقل فقد ذهب عمله فَهُوَ الَّذِي اهتر فِي ذكر الله تَعَالَى فالمقتصدون يتعبدون بِذكرِهِ ويفرحون بفضله عَلَيْهِم وَالصِّدِّيقُونَ بِهِ يتنعمون بِهِ ويفرحون فَإِذا أدخلُوا الْجنَّة فهمة الْمُقْتَصِدِينَ الْوُصُول إِلَى ثَوَابه من المساكن والحور فِي الحجال وهمة الصديقين وقصدهم قربهم إِلَى رَبهم
يروي أَن الْمَلَائِكَة يأْتونَ الْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُولُونَ يَا أَوْلِيَاء الله انْطَلقُوا فَيَقُولُونَ إِلَى أَيْن فَيَقُولُونَ إِلَى الْجنَّة فَيَقُولُونَ إِنَّكُم لتذهبون بِنَا إِلَى غير بغيتنا فَيُقَال لَهُم مَا بغيتكم فَيَقُولُونَ المقعد الصدْق مَعَ الحبيب
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله تَعَالَى إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونهر فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر أَن أهل الْجنَّة يدْخلُونَ على الْجَبَّار كل يَوْم مرَّتَيْنِ فَيقْرَأ عَلَيْهِم الْقُرْآن وَقد جلس كل امرىء مِنْهُم مَجْلِسه على مَنَابِر الدّرّ والياقوت والزمرد وَالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْأَعْمَالِ فَلَا تقر أَعينهم قطّ كَمَا تقر بذلك وَلم يسمعوا شَيْئا أعظم مِنْهُ(2/90)
وَلَا أحسن مِنْهُ ثمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى رحالهم قريرة أَعينهم ناعمين إِلَى مثلهَا من الْغَد
فَهَؤُلَاءِ الروحانيون الَّذين ذكرهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم قراء أهل الْجنَّة فَمن اسْتمع إِلَى صَوت غناء فِي الدُّنْيَا ثمَّ دخل الْجنَّة حرم أَصْوَاتهم(2/91)
- الأَصْل الثَّانِي وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن خير هَذِه الْأمة أَولهَا وَآخِرهَا استقامة
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير أمتِي أَولهَا وَآخِرهَا وَفِي وَسطهَا الكدر
وَفِي رِوَايَة ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مثل أمتِي مثل الْمَطَر لَا يدْرِي أَوله خير أَو آخِره
وَعَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ بَعَثَنِي خَالِد ابْن الْوَلِيد بشيرا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم مُؤْتَة فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ قلت يَا رَسُول الله فَقَالَ على رسلك يَا عبد الرَّحْمَن أَخذ اللِّوَاء زيد بن حَارِثَة فقاتل زيد حَتَّى قتل رحم الله زيدا ثمَّ أَخذ اللِّوَاء جَعْفَر فقاتل جَعْفَر حَتَّى قتل رحم الله جعفرا ثمَّ أَخذ اللِّوَاء عبد الله بن رَوَاحَة فقاتل فَقتل رحم الله عبد الله ثمَّ أَخذ اللِّوَاء خَالِد فَفتح الله لخَالِد فَخَالِد سيف من سيوف الله تَعَالَى فَبكى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم حوله فَقَالَ مَا يبكيكم فَقَالُوا وَمَا لنا لَا نبكي وَقد قتل(2/92)
خيارنا وَأَشْرَافنَا وَأهل الْفضل منا قَالَ لَا تبكوا فانما مثل أمتِي مثل حديقة قَامَ عَلَيْهَا صَاحبهَا فاجتثت رواكبها وهيأ مساكنها وَحلق سعفها فأطعمت عَاما فوجا ثما عَاما فوجا ثمَّ عَاما فوجا وَلَعَلَّ آخرهَا طعما يكون أَجودهَا قنوانا وأطولها شمراخا وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبيا ليجدن بن مَرْيَم فِي أمتِي خلقا من حواريه وَفِي رِوَايَة أُخْرَى ليدركن الْمَسِيح من هَذِه الْأمة أَقوام انهم لمثلكم أَو خير مِنْكُم ثَلَاث مَرَّات وَلنْ يخزي الله أمة أَنا أَولهَا والمسيح آخرهَا
من الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة فَقَالَ تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَقَالَ تَعَالَى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا أَي عدلا لَا يمِيل إِلَى إفراط وَلَا إِلَى نُقْصَان فالميزان لِسَانه فِي وَسطه وباستواء الطَّرفَيْنِ والكفتين يَسْتَوِي لِسَان الْمِيزَان وَيقوم الْوَزْن فَجعلت أَوَائِل هَذِه الْأمة وأواخرها ككفتي الْمِيزَان يستويان لأَنهم يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ وَمَا بَينهمَا من العوج كلسان الْمِيزَان يَسْتَقِيم باستواء الكفتين فَإِنَّهُ إِن مَال الْوسط إِلَى أَي الْجَانِبَيْنِ مَال إِلَى ركن وثيق فَعم اسْتِوَاء الكفتين اعوجاج الْوسط
وَقد جَاءَ فِي الْخَبَر أَنه سَيظْهر الْعلم فِي آخر الزَّمَان وَيقبل النَّاس على أمرالله تَعَالَى حَتَّى تتمّ حجَّة الله على عباده(2/93)
- الأَصْل الثَّالِث وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي شَرَائِط الْولَايَة
عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن من أغبط أوليائي عِنْدِي مُؤمن خَفِيف الحاذ ذُو حَظّ من صلَاته أحسن عبَادَة ربه وَكَانَ غامضا فِي النَّاس وَكَانَ رزقه كفافا فَصَبر عَلَيْهِ فعجلت منيته وَقل تراثه وَقلت بوَاكِيهِ(2/94)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَكَذَا ونقر باصبعه هَكَذَا
الْوَلِيّ من كتب الله لَهُ الْولَايَة وَجعل لَهُ حظا فبحظه من الله تَعَالَى يقدر أَن يَتَوَلَّاهُ كَمَا أَن النُّبُوَّة لمن كتب لَهُ النُّبُوَّة وَجعل لَهُ حظا فبحظه من الله تَعَالَى قَامَت لَهُ النُّبُوَّة وَبَين الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام تفَاوت فِي الدَّرَجَات قَالَ تَعَالَى وَلَقَد فضلنَا بعض النَّبِيين على بعض
وَقَالَ تَعَالَى لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله الْآيَة وَهَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي عُبَيْدَة ابْن الْجراح رَضِي الله عَنهُ حِين قتل أَبَاهُ يَوْم بدر
وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر لِأَبِيهِ رَضِي الله عَنْهُمَا بَعْدَمَا أسلم يَا أَبَت لقد أهدفت لي يَوْم بدر فضفت عَنْك فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أما أَنَّك لَو أهدفت لي مَا ضفت عَنْك
وَكتب الله لأهل الْولَايَة ولايتهم وأيدهم بِروح مِنْهُ فَلَا تأحذهم(2/95)
فِي الله لومة لائم وَلَا حب ولد وَلَا وَالِد وَلَا أهل وَلَا تالد
قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لَا ينَال الرجل ولَايَة الله وَإِن كثرت صلَاته وصيامه حَتَّى يحب فِي الله وَيبغض فِي الله ويوالي فِي الله ويعادي فِي الله
فَبين الْأَنْبِيَاء تفَاوت فِي الْقُلُوب والدرجات وَكلهمْ أَنْبيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَكَذَلِك الْأَوْلِيَاء بَينهم تفَاوت وَكلهمْ أَوْلِيَاء فَهَذَا الَّذِي وَصفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنَّهُ يَحْكِي عَن الله تَعَالَى فَقَالَ إِن من أغبط أوليائي عِنْدِي فالمغبوط من يقرب دَرَجَته من دَرَجَة الْأَنْبِيَاء علوا وارتفاعا مُؤمن خَفِيف الحاذ مثل أويس الْقَرنِي وأشباهه وَهَذِه صفة الظَّاهِر لَا صفة الْبَاطِن
وَقد يكون من الْأَوْلِيَاء من هُوَ أرفع دَرَجَة وَذَلِكَ عبد قد ولي الله اسْتِعْمَاله فَهُوَ فِي قَبضته يتقلب بِهِ ينْطق وَبِه يبصر وَبِه يبطش وَبِه يعقل شهره فِي أرضه وَجعله إِمَام خلقه وَصَاحب لِوَاء الْأَوْلِيَاء وأمان أهل الأَرْض ومنظر أهل السَّمَاء وَرَيْحَانَة الْجنان وخاصة الله وَمَوْضِع نظره ومعدن سره وسوط الله فِي أرضه يُؤَدب بِهِ خلقه ويحيي الْقُلُوب الْميتَة بِرُؤْيَتِهِ وَيرد الْخلق إِلَى طَرِيقه وينعش بِهِ حُقُوقه مِفْتَاح الْهدى وسراج الأَرْض وَأمين صحيفَة الْأَوْلِيَاء وَقَائِدهمْ والقائم بالثناء على ربه بَين يَدي رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يباهي بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْموقف وينوه الله باسمه فِي ذَلِك الْمقَام ويقر عين الرَّسُول بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اخذ الله بِقَلْبِه أَيَّام الدُّنْيَا ونحله حكمته الْعليا وَأهْدى إِلَيْهِ توحيده ونزه طَرِيقه عَن رُؤْيَة النَّفس وظل الْهوى وائتمنه على صحيفَة الْأَوْلِيَاء وعرفه مقاماتهم وأطلعه على مَنَازِلهمْ فَهُوَ سيد النجباء وَصَالح الْحُكَمَاء وشفاء الأدواء وَإِمَام الْأَطِبَّاء كَلَامه قيد الْقُلُوب ورؤيته شِفَاء النُّفُوس وإقباله قهر الْأَهْوَاء وقربه طهر الأدناس فَهُوَ ربيع يزهر بنوره وخريف يجتنى ثماره وكهف يلجا إِلَيْهِ ومعدن(2/96)
يؤمل مَا لَدَيْهِ وَفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل وَهُوَ الصّديق والفاروق وَالْوَلِيّ والعارف والمحدث وَاحِد الله فِي ارضه
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكون فِي هَذِه الْأمة قُلُوب على قلب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وهم صنف من البدلاء
وَقَالَ فِي شَأْن هِلَال عبد الْمُغيرَة بن شُعْبَة هَذَا أحد السَّبْعَة الَّذين بهم تقوم الأَرْض بل هُوَ خير مِنْهُم
رُوِيَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ كنت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يدْخل من هَذَا الْبَاب رجل من أهل الْجنَّة فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الصَّلَاة قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ فَخرجت من ذَلِك الْبَاب فمضيت فَنَظَرت هَل أرى أحدا فَلم أر أحدا فَدخلت فِيهِ فَقَعَدت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أما أَنَّك لست بِهِ يَا أَبَا الدَّرْدَاء ثمَّ جَاءَ رجل حبشِي فَدخل من ذَلِك الْبَاب وَعَلِيهِ جُبَّة صوف فِيهَا رقاع من آدم رام بطرفه إِلَى السَّمَاء حَتَّى قَامَ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسلم عَلَيْهِ فَقَالَ كَيفَ أَنْت يَا هِلَال فَقَالَ بِخَير يَا رَسُول الله جعلك الله بِخَير فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ادْع لنا يَا هِلَال واستغفر لنا فَقَالَ رَضِي الله عَنْك يَا رَسُول الله وَغفر لَك فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء فَقلت لَهُ اسْتغْفر لي يَا هِلَال فَأَعْرض عني ثمَّ عاودته الثَّانِيَة فَأقبل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ أراض أَنْت عَنهُ يَا رَسُول الله قَالَ نعم قَالَ رَضِي الله عَنْك وَغفر لَك ثمَّ خرج وَهُوَ رام بطرفه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء لقد رَأَيْت عجبا يَا رَسُول الله لقد أقبل وَهُوَ رام بطرفه إِلَى السَّمَاء وَمَا يقْلع ثمَّ خرج وَهُوَ على ذَلِك فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَئِن قلت ذَاك ان قلبه لمعلق بالعرش أما أَنه لم يبْق فِيكُم أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام فأحصيت الْأَيَّام فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث وَصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفجْر خرج من الْمَسْجِد وَنحن مَعَه فَخرج يؤم دَار الْمُغيرَة بن شُعْبَة فلقي الْمُغيرَة خَارِجا من دَاره فَقَالَ لَهُ(2/97)
آجرك الله يَا مُغيرَة قَالَ يَا رَسُول الله مَا مَاتَ فِي دَارنَا اللَّيْلَة أحد قَالَ بلَى توفّي هِلَال فالتمسه برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَجَدَهُ فِي نَاحيَة الدَّار فِي إصطبل لَهُ خارا على وَجهه سَاجِدا مَيتا فَأمر أَصْحَابه فاحتملوه فولي أمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ حَتَّى دفن ثمَّ أقبل على أبي الدَّرْدَاء فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاء أما إِنَّه أحد السَّبْعَة الَّذين بهم كَانَت تقوم الأَرْض وبهم كُنْتُم تستسقون الْمَطَر بل هُوَ خَيرهمْ
فالصديقون أَمَان أهل الأَرْض وهم خلفاء النَّبِيين لما خلت الأَرْض عَن النُّبُوَّة شكت إِلَى الله تَعَالَى وعجت فَقَالَ سَوف أجعَل عَلَيْك أَرْبَعِينَ صديقا كلما مَاتَ وَاحِد بدل الله مَكَانَهُ والحظ هُوَ أَن فتح الله تَعَالَى لعَبْدِهِ قلبه وَقذف فِي صَدره النُّور حَتَّى ينخرق حجب الشَّهَوَات ويضيء فَهُوَ على نور من ربه وَجعل لَهُ طَرِيقا إِلَيْهِ فَذَاك مُبْتَدأ الْحَظ فَلَا يزَال يسير إِلَيْهِ ويأتيه المدد من النُّور حَتَّى يصل إِلَيْهِ فَيظْهر على قلبه جَلَاله وعظمته وجماله وبهاؤه فَلَا يزَال هُنَاكَ حَتَّى يصل إِلَى فرديته فَيصير والها بِهِ مبهوتا فِي وحدانيته فَهَذَا هُوَ الْحَظ الوافر الباهر
قَالَ الله تَعَالَى وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا
فالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام لَهُم حَظّ النُّبُوَّة والأولياء لَهُم حَظّ الْولَايَة قَالَ تَعَالَى أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة لَا تَبْدِيل لكلمات الله
هم طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ قد خصهم الله تَعَالَى بِالْولَايَةِ وعصمهم بِالْيَقِينِ وَنور قُلُوبهم بالهداية ولي الله تَعَالَى مِنْهُم ذَلِك واجتباهم لنَفسِهِ(2/98)
فهم صَنِيعه وهم الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى {فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه}
قَالَ الضَّحَّاك رَحمَه الله أحْسنه مَا أَمر الله تَعَالَى النَّبِيين من الطَّاعَة وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ سَأَلَهُ عَن الْإِحْسَان مَا الْإِحْسَان فَقَالَ أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك قَالَ فَإِذا فعلت ذَلِك فَأَنا محسن قَالَ نعم قَالَ صدقت
فَمن عبد الله كَأَنَّهُ يرَاهُ إستمع إِلَى القَوْل فَاتبع أحْسنه وَنظر إِلَى الْأُمُور فَعمل بأحسنها(2/99)
- الأَصْل الرَّابِع وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي ضغطة الْقَبْر وعذابه
عَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا انتهينا إِلَى الْقَبْر جلس صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على شفته وَجعل ينظر ثمَّ قَالَ يضغط الْمُؤمن فِي هَذَا ضغطة يَزُول مِنْهَا حمائله ويملأ على الْكَافِر نَارا
فالمؤمن من أشرق نور الْإِيمَان فِي صَدره فباشر اللَّذَّات والشهوات وَهِي من الأَرْض وَالْأَرْض مطيعة وَخلق الْآدَمِيّ مِنْهَا وَقد أَخذ عَلَيْهِ الْعَهْد والميثاق فِي العبودة فَمَا نقض من وَفَاء العبودة صَارَت واجدة عَلَيْهِ فَإِذا وجدته فِي بَطنهَا ضمته ضمة ثمَّ تُدْرِكهُ الرَّحْمَة فترحب عَلَيْهِ وعَلى قدر مَجِيء الرَّحْمَة يتَخَلَّص من الضمة فَإِن كَانَ محسنا فَإِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ فَلم يكن للضمة لبث وَإِن كَانَ خَارِجا عَن حد المحسنيين يطول اللّّبْث فِي الضمة حَتَّى تُدْرِكهُ الرَّحْمَة وَهَذَا لِأَن المحسن توسع عَلَيْهِ الرَّحْمَة وَتلك الضمة ضمة الشَّفَقَة لَا ضمة السخطة لِأَنَّهُ كَانَ على ظهرهَا محسنا وَكَانَت مشتاقة إِلَيْهِ(2/100)
فَلَمَّا وجدته فِي بَطنهَا ضمته كغائب وجد غائبه بعد الشوق إِلَيْهِ والظالم المخلط يكون لضمته لبث حَتَّى تُدْرِكهُ الرَّحْمَة وَالْكَافِر لَا خلاق لَهُ من الرَّحْمَة فَيمْلَأ عَلَيْهِ نَارا
روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْمُؤمن فِي قَبره فِي رَوْضَة خضراء يرحب لَهُ قَبره سبعين ذِرَاعا وينور لَهُ قَبره مثل لَيْلَة الْبَدْر أَتَدْرُونَ فيمَ نزلت هَذِه الْآيَة {فَإِن لَهُ معيشة ضنكا} قَالَ عَذَاب الْقَبْر وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّه ليسلط عَلَيْهِ تِسْعَة وَتسْعُونَ تنينا أَتَدْرُونَ مَا التنين تِسْعَة وَتسْعُونَ حَيَّة لكل حَيَّة مِنْهَا تِسْعَة رُؤُوس ينفخن فِي جِسْمه ويلسعنه ويخدشنه إِلَى يَوْم يبعثون
وَهَذَا لِأَن من عَاد من بني آدم إِلَى الأَرْض بعد الْمَوْت وَقد وضع الله تَعَالَى وزره فَلَا سَبِيل للْأَرْض عَلَيْهِ لِأَنَّهُ نَفسه قد طهرت من الدنس فَإِذا عَاد جسده إِلَى الأَرْض الَّتِي مِنْهَا ابتدئت مَعَ نور الْإِيمَان وَنور الطَّاعَات فَذَاك جَسَد أشرف وَأعظم خطرا من أَن تضمه الأَرْض وتضغطه فَإِن هَذَا الْجَسَد صَار فِي مرتبَة أعظم من مرتبَة الأَرْض من منن الله تَعَالَى فِيهَا وطاعته لَا تشبه طَاعَة الأَرْض لِأَن نفس الأَرْض مجبورة وَنَفس الْآدَمِيّ مَفْتُونَة بالشهوات فَلَيْسَتْ طَاعَة شَيْء من خلق الله تشبه طَاعَة الْآدَمِيّ لِأَنَّهُ يُخرجهُ من بَين شهوات ووساوس وعجائب(2/101)
وَمَا رُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي شَأْن سعد بن معَاذ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل قَبره فاحتبس فَقَالُوا مَا حَبسك يَا رَسُول الله قَالَ ضم سعد فِي الْقَبْر ضمة فدعوت الله أَن يكْشف عَنهُ
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى جلس على الْقَبْر فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله سُبْحَانَ الله هَذَا العَبْد الصَّالح لقد ضيق عَلَيْهِ قَبره حَتَّى خشيت أَن لَا يُوسع عَلَيْهِ ثمَّ وسع عَلَيْهِ
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَنه سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ كَانَ يقصر فِي بعض الطّهُور من الْبَوْل
فَإِن الْقَوْم من ابْتِدَاء الْإِسْلَام يتمسحون بِالْحِجَارَةِ وَالتُّرَاب فَلَمَّا نزل قَوْله تَعَالَى {رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين} فَشَا فيهم الطّهُور فَمنهمْ من كَانَ يستنجي وَمِنْهُم من كَانَ يتَطَهَّر بِالْمَاءِ وَلَيْسَ الِاسْتِنْجَاء بذنب عِنْدهم وَلَا خَطِيئَة فيحاسبون فِي قُبُورهم فَمن ورد اللَّحْد مَعَ التَّقْصِير نالته ضمة الأَرْض كَمَا نَالَتْ سَعْدا مَعَ عظم قدره فَكَانَت ضمة ثمَّ فرج عَنهُ
قَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ فِي الْقَبْر حِسَاب وَفِي الْآخِرَة حِسَاب فَمن حُوسِبَ فِي الْقَبْر لم يعذب فِي الْآخِرَة
وَعَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتَّقوا الْبَوْل فَإِنَّهُ من أول مَا يُحَاسب بِهِ العَبْد فِي الْقَبْر(2/102)
وَرُوِيَ أَنه لما توفيت زَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جنازتها قَالَ فَكَأَنَّمَا يسفي على وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرماد فَلَمَّا دفنت ذهب عَنهُ بعض ذَلِك فَقَالُوا يَا رَسُول الله لَا نزال نرى فِي وَجهك مَا نكرهه قَالَ إِنِّي ذكرت ضعفها وضغطة الْقَبْر فعفي لي عَنْهَا وَلَقَد ضغطت ضغطة سمع كل شَيْء صَوتهَا إِلَّا الثقلَيْن
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو أفلت من فتْنَة الْقَبْر أَو ضمه لنجا سعد وَلَقَد ضم ضمة ثمَّ أرْخى عَلَيْهِ
وَهَذَا لأهل الاسْتقَامَة يكون من التَّقْصِير ثمَّ رفع عَنْهُم لِأَن الْحق يَقْتَضِي حَقه ثمَّ تجيئه الرَّحْمَة فتكشف عَنهُ
فَأَما الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام فَلَيْسَ لَهُم ضمة وَلَا سُؤال لأَنهم بحظهم من رَبهم امْتَنعُوا من ذَلِك وتخلصوا فان على قُلُوبهم من جلال الله تَعَالَى وعظمته مَا إِذا وردوا اللحود تهابهم اللحود من جلالتهم
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هاب الله تَعَالَى أهاب الله مِنْهُ كل شَيْء وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اتقِي الله أهاب الله عز وَجل مِنْهُ كل شَيْء وَمن لم يتق الله أهابه الله من كل شَيْء
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو عَرَفْتُمْ الله تَعَالَى حق مَعْرفَته لزالت بدعائكم الْجبَال(2/103)
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ على مصاب {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} الْآيَة فبرأ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَرَأَهَا موقن على جبل لزال وَهَذَا لِأَن الْقلب إِذا كَانَ لَهُ حَظّ من السُّلْطَان والهيبة والجلال نفذ قَوْله وَفعله فَمن نور الله قلبه بِالْيَقِينِ وَفتح على قلبه من جَلَاله وعظمته وسلطانه هابه كل من رَآهُ
وَمن هَهُنَا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَالله لدرة عمر كَانَت أهيب فِي صُدُور النَّاس من سيوف غَيره
وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهابونه وَإِذا أَرَادوا أَن يكلموه بِشَيْء رفعوا ذَلِك إِلَى بنته حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا هَيْبَة لَهُ
وَعَن نَافِع قَالَ خرج عنق نَار من حمرَة النَّار لَا تمر على شَيْء إِلَّا أحرقته فاتى عمر رَضِي الله عَنهُ فَأخْبر بهَا فَصَعدَ الْمِنْبَر وَحمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ أَيهَا النَّاس أطفئوها بِالصَّدَقَةِ فجَاء عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف بأَرْبعَة آلَاف دِينَار فَقَالَ عمر مَاذَا صنعت حصرت النَّاس فَتصدق النَّاس فَأتى عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالُوا لَهُ قد طفئت فَقَالَ لَو لم تفعل لذهبت حَتَّى أنزل عَلَيْهَا وزلزلت الْمَدِينَة على عهد عمر رَضِي الله عَنهُ حَتَّى اصطفقت السرر فَقَامَ عمر رَضِي الله عَنهُ على الْمِنْبَر فَقَالَ أَيهَا النَّاس مَا هَذَا مَا أسْرع مَا أحدثتم قَالَ فسكنت فَقَالَ لَئِن عَادَتْ لَا أساكنكم فِيهَا وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ طلاقته وبشاشته إِلَى أَصْحَابه وَرَحمته وَعطفه على الْأمة يهابه الْخلق كَأَنَّمَا على رُءُوسهم الطير حَتَّى كَانُوا يغتنمون أَن يجيئهم أحد من الْبَادِيَة فِي جفائه فيسأله عَن بعض الْأَمر وَقَالَ لرجل جلس عِنْده فَأَخَذته الرعدة فَقَالَ هون عَلَيْك فَإِنَّمَا أَنا ابْن امْرَأَة كَانَت تَأْكُل القديد(2/104)
فَإِذا كَانَ هَذَا حَال الْمُؤمن على ظهر الأَرْض فَكيف يجوز أَن تضمه عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْمُؤمن إِذا مَاتَ تجملت الْمَقَابِر لمَوْته فَلَيْسَ مِنْهَا بقْعَة إِلَّا وَهِي تتمنى أَن يدْفن فِيهَا فَإِذا دفن فِي الْبقْعَة الَّتِي قضى الله أَن يدْفن فِيهَا دخل عَلَيْهِ ملكا الرَّحْمَة فأجلساه ثمَّ سألاه فَقَالَ أَحدهمَا للاخر أرْفق بولِي الله فانه نجا من هول شَدِيد ثمَّ يسْأَله عَن الرب فَعظم إجلاله فَأخْبرهُ بعظمته ثمَّ يسْأَله عَن نَبِي الله فصلى عَلَيْهِ وَأثْنى عَلَيْهِ وان الأَرْض تزينت لَهُ فَقَالَت رب مني خلقته وَفِي أعدته ومني تبعثه لِلْحسابِ فاذن لي حَتَّى أَدخل على عَبدك فلَان فَأمر الله الأَرْض فتزينت فِي صُورَة لم تَرَ الْأَعْين مثلهَا وَدخلت على من هُوَ أحسن مِنْهَا فَقَالَت لَهُ حِين دخلت عَلَيْهِ مَا أحسن وَجهك وأطول نعمك وأفسح مضجعك فَقَالَ لَهَا وَمن رآك فِي هَذِه الصُّورَة فليحسن وَجهه وليطل نعمه وليفسح مضجعه فَقَالَت لَهُ أَنْت مني خلقت وَعلي أعدت وَفِي أكرمت وَخرجت من عِنْده فَكَانَ ابْن آدم نَاعِمًا حَتَّى يبْعَث أَوْلِيَاء الله تَعَالَى لم يذقْ عَذَاب الْقَبْر وَيبْعَث مبياض وَجهه حَتَّى يبلغ الْجنَّة فَتَلقاهُ الْمَلَائِكَة فَيَقُولُونَ سَلام عَلَيْكُم هَذَا بِشِرَاك الَّذِي كنت توعد
عَن أبي الْحجَّاج الثمالِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الْقَبْر للْمَيت حِين يوضع فِيهِ وَيحك يَا ابْن آدم مَا غَرَّك بِي ألم تعلم أَنِّي بَيت الظلمَة وَبَيت الْفِتْنَة وَبَيت الْوحدَة وَبَيت الدُّود مَا غَرَّك بِي إِذْ كنت تمر بِي فدادا قَالَ فَإِن كَانَ مصلحا أجَاب(2/105)
عَنهُ مُجيب الْقَبْر فَيَقُول أَرَأَيْت ان كَانَ مِمَّن يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر فَيَقُول اني إِذا أَعُود إِلَيْهِ خضرًا وَيعود جسده عَلَيْهِ نورا وتصعد روحه إِلَى رب الْعَالمين(2/106)
- الأَصْل الْخَامِس وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن سَعَادَة ابْن آدم الاستخارة والرضى بِالْقضَاءِ
عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سَعَادَة ابْن آدم استخارته ربه وَمن سَعَادَة ابْن آدم رِضَاهُ بِقَضَاء الله تَعَالَى الاستخارة فِي الْأُمُور لمن ترك التَّدْبِير فِي أمره وفوضه إِلَى ولي الْأُمُور الَّذِي دبر لَهُ ذَلِك وَقدره قبل أَن يخلقه
قَالَ الله تَعَالَى لداود عَلَيْهِ السَّلَام تُرِيدُ وَأُرِيد وَيكون مَا أُرِيد فَإِذا أردْت مَا أُرِيد كفيتك مَا تُرِيدُ وَيكون مَا أُرِيد وَإِذا أردْت غير مَا أُرِيد عنيتك فِيمَا تُرِيدُ وَيكون مَا أُرِيد
وَسُئِلَ بعض السّلف رَحِمهم الله تَعَالَى بِمَ تعرف رَبك قَالَ بِفَسْخ الْعَزْم فالآدمي يفكر وَيُدبر ويعزم وتدبير الله تَعَالَى من وَرَائه بِإِبْطَال ذَلِك وَتَكون تِلْكَ الْأُمُور على غير مَا فكر ودبر فَأهل الْيَقِين(2/107)
والبصائر والتفويض لما علمُوا علم الْيَقِين أَن إرادتهم تبطل عِنْد إِرَادَته رموا بإرادتهم وفكرهم وَأَقْبلُوا عَلَيْهِ يراقبون تَدْبيره وينتظرون حكمه فِي الْأُمُور فَإِذا نابهم أَمر قَالُوا اللَّهُمَّ خر لنا فَهَذَا من سعادته فَإِذا خار الله لَهُ رَضِي بذلك وَافقه أَو لم يُوَافقهُ وَالْآخر ترك الاستخارة فَإِذا حل بِهِ تَدْبيره وقضاؤه سخط وضاق بِهِ ذرعا وخنق نَفسه وَلَا يزْدَاد إِلَّا اختناقا وَقد صَار الوهن فِي عُنُقه
وَمن سنة الاستخارة مَا رُوِيَ جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلمنَا الاستخارة فِي الْأُمُور كلهَا كَمَا يعلمنَا السُّورَة من الْقُرْآن يَقُول إِذا هم أحدكُم بِالْأَمر فليركع رَكْعَتَيْنِ من غير الْفَرِيضَة ثمَّ ليقل اللَّهُمَّ إِنِّي أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وَأَسْأَلك من فضلك الْعَظِيم فَإنَّك تقدر وَلَا أقدر وَتعلم وَلَا أعلم وَأَنت علام الغيوب اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر خير لي فِي ديني ودنياي ومعاشي ومعادي وعاقبة أَمْرِي أَو قَالَ عَاجل أَمْرِي وآجله فاقدره لي ويسره لي وَبَارك لي فِيهِ وَإِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر شَرّ لي فِي ديني ودنياي ومعاشي ومعادي وعاقبة أَمْرِي فاصرفه عني واصرفني عَنهُ واقدر لي الْخَيْر حَيْثُ كَانَ ورضني بِهِ وتسمي حَاجَتك باسمها(2/108)
فان قيل هَذَا رِضَاهُ بالمقدور من المضار وَالْمَنَافِع فِي الدُّنْيَا فَكيف يكون رِضَاهُ بالمقدور من الْمعاصِي قيل لَهُ رِضَاهُ بِتَقْدِير الله تَعَالَى وَسخطه على نَفسه بارادتها وعَلى جوارحه فِي حركاتها فِيمَا لم يُؤذن لَهُ فِيهِ وَتَقْدِيره مَحْمُود عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يظلمك وَمن هُوَ منزه عَن الظُّلم فمحمود فِي جَمِيع شَأْنه وَقد اتخذ عَلَيْك الْحجَّة الْبَالِغَة بِمَا أَعْطَاك من الْعلم وَالْعقل وَالْهدى وَالْبَيَان وَلم يُوجب لَك على نَفسه الْعِصْمَة إِن شَاءَ عصم وَإِن شَاءَ خذل فارض بتقديره وَلَا تسخط عَلَيْهِ واسخط على نَفسك الجائرة وَمعنى تَقْدِير الله تَعَالَى إبراز علمه فِي عَبده من الْغَيْب فقد علم مَا يعْمل هَذَا العَبْد فابرز علمه(2/109)
- الأَصْل السَّادِس وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن النَّدَم التَّوْبَة
عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ النَّدَم التَّوْبَة
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ مثله
النَّدَم الْعَزْم على أَن لَا يعود وَمَعْنَاهُ إِقَامَة الْقلب بَين يَدي الرب جلّ جَلَاله لِأَن العَبْد بَايع ربه أَن يكون بَين يَدَيْهِ وَمَا دَامَ بَين يَدَيْهِ فَهُوَ مُطِيع لَهُ فَإِذا أقبل على عمل غَيره فقد أعرض عَنهُ وَتَوَلَّى فَإِذا انتبه من نومته أَو أَفَاق من سكرته انْقَلب رَاجعا إِلَى مَوْلَاهُ فَوقف بَين يَدَيْهِ عَازِمًا على أَن لَا يبرح فَتلك الْإِقَامَة تسمى ندما وَمِنْه سمى النديم لِأَنَّهُ مداوم على مُجَالَسَته وَيُقَال مدن الرجل بِأَرْض كَذَا إِذا أَقَامَ بهَا وَمِنْه سميت الْمَدِينَة لإِقَامَة النَّاس بهَا واتخاذها وطنا بِحَيْثُ(2/110)
لَا يبرحون عَنْهَا فَإِذا كَانَت الْإِقَامَة بِالْبدنِ قيل مدن وَإِذا كَانَ بِالْقَلْبِ بَين يَدي الله تَعَالَى قيل نَدم فَقدم الْمِيم وَأخر النُّون هُنَاكَ وَقدم النُّون وَأخر الْمِيم هَهُنَا وَهُوَ ذَلِك الْعَزْم الَّذِي يعزم للإقامة بَين يَدي الله تَعَالَى مُطيعًا وَالتَّوْبَة الرّجْعَة إِلَى الله تَعَالَى وَهُوَ أَن يُعْطي من جوارحه لله تَعَالَى مَا يَأْمر بِهِ حَتَّى يُقيم العبودة الَّتِي لأَجلهَا خلق فَإِذا أذْنب فقد منع الله تَعَالَى من جوارحه العبودة فَلَيْسَ بمطيع والمؤمنون فِي أَحْوَالهم على ضَرْبَيْنِ
ضرب مِنْهُم سكارى وَقد أسكرتهم شهوات نُفُوسهم عَن الله تَعَالَى وحالت تِلْكَ الشَّهَوَات بَين قُلُوبهم وَبَين الْعقل فَلَا يبصرون قبح مَا يأْتونَ لِأَن مَعْدن الْعقل فِي الدِّمَاغ وعَلى الْقلب تَدْبيره فبذلك النُّور الَّذِي على الْقلب من الْعقل يبصر محَاسِن الْأُمُور ومشانيها فَجَاءَت هَذِه الشَّهَوَات فَسدتْ طَرِيق الْعقل فَسَكِرَ وَضرب آخر قد أفاقوا من سكرتهم بِعَمَل النُّور الْوَارِد على قُلُوبهم فَأَبْصرُوا الْوَعْد والوعيد فَذهب سد الطَّرِيق فهم على مُعَاينَة من الْجنَّة وَالنَّار إِلَّا أَنهم نيام عَن الله تَعَالَى وهم المقتصدون أهل الاسْتقَامَة مطيعون لله تَعَالَى حافظون لحدوده وَلَكِن لنومته عَن الله إِن أطَاع وَعمل أَعمال الْبر استكثر ذَاك من نَفسه وَإِن تورع عَن الذَّنب كبر فِي صَدره فعله وَيرى أَنه عمل شَيْئا عَظِيما وَلم ير أَنه غريق فِي نعم الله تَعَالَى ومننه وتتابع إحسانه فَإِذا أَفَاق الضَّرْب الأول من سكرته وانتبه الآخر من نومته فر إِلَى الله رَاجعا إِلَى الْكَوْن بَين يَدَيْهِ فعزم على أَن لَا يبرح فَذَلِك الْعَزْم هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه تَوْبَة لِأَنَّهُ بَاطِن فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَلم يظهره بِلِسَانِهِ وَالِاسْتِغْفَار سُؤال العَبْد ربه أَن يستره بعد ذَلِك فانه لما برح من بَين يَدَيْهِ وَترك مقَامه فأخل بمركزه انحطت دَرَجَته وَبعد من ربه وَخرج من ستره وتعرى فَلَمَّا رَجَعَ بندمه إِلَيْهِ عَارِيا استحيى مِنْهُ وَمن خليقته فَأمر أَن يسْأَل ربه الْمَغْفِرَة أَي الغطاء والستر فاذا قَالَ اغْفِر لي أَي غطني واسترني فَانِي خرجت من(2/111)
سترك وَبقيت عَارِيا بَين يَديك تنظر إِلَيّ ملائكتك وسماؤك وأرضك وَلم يكن أحد يسترني غَيْرك وَهُوَ مُضْطَر لَا يجد أحدا يستره عَلَيْهِ فستره الله تَعَالَى وغفره قَالَ الله تَعَالَى أَمن يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ ويكشف السوء
وَقَالَ وَمن يغْفر الذُّنُوب إِلَّا الله
فَهَذَا عزم أهل الْيَقِين وتوبتهم فَمن فهم ذَلِك فَلهُ حَظه وَمن لم يفهم مر على الظَّاهِر كَمَا وجد وَقيل لَهُ التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار بِاللِّسَانِ والندم بِالْقَلْبِ والإقلاع بِالْبدنِ والاضمار على أَن يعود(2/112)
- الأَصْل السَّابِع وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي بَيَان أَن الدُّعَاء لم صَار مخ الْعِبَادَة
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدُّعَاء مخ الْعِبَادَة
إِنَّمَا صَار مخا لَهَا لِأَنَّهُ تبرؤ من الْحول وَالْقُوَّة واعتراف بِأَن الْأَشْيَاء كلهَا لَهُ وَتَسْلِيم إِلَيْهِ إِن كَانَ رزقا أَو عَافِيَة أَو نوالا أَو دفع عِقَاب فَمِنْهُ إِذا سَأَلَهُ فقد تَبرأ من الاقتدار والتملك والحول وَالْقُوَّة وَالدُّعَاء سُؤال حَاجَة وافتقار فَإِنَّمَا يظْهر على الْقلب ثمَّ على اللِّسَان فَمَا على الْقلب يُسمى عبودة وَمَا على اللِّسَان عبَادَة
وَعَن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ الله تَعَالَى لمُوسَى يَا مُوسَى قل للْمُؤْمِنين لَا يستعجلوني إِذا دَعونِي وَلَا يبخلوني أَلَيْسَ يعلمُونَ أَنِّي أبْغض الْبُخْل فَكيف أكون بَخِيلًا يَا مُوسَى لَا تخف من أَن تَسْأَلنِي عَظِيما وَلَا تَسْتَحي أَن تَسْأَلنِي صَغِيرا اطلب الي الْعلف لشاتك يَا مُوسَى أما علمت أَنِّي خلقت الخردلة فَمَا فَوْقهَا وَأَنِّي لم أخلق(2/113)
شَيْئا إِلَّا وَقد علمت أَن الْخلق يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فَمن سَأَلَني مَسْأَلَة وَهُوَ يعلم أَنِّي قَادر أعطي وَأَمْنَع أَعْطيته مَسْأَلته مَعَ الْمَغْفِرَة فَإِن حمدني حِين أعْطِيه وَحين أمْنَعهُ أسْكنهُ دَار الحامدين وَأَيّمَا عبد لَا يسألني مَسْأَلَة ثمَّ أعْطِيه كَانَ أَشد عَلَيْهِ عِنْد الْحساب ثمَّ إِذا أَعْطيته وَلم يشكرني عَذبته عِنْد الْحساب
وَقَالَ عُرْوَة بن الزبير رَضِي الله عَنهُ إِنِّي لأسأل الله تَعَالَى حوائجي فِي صَلَاتي حَتَّى الْملح لأهلي
وَكَانَ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر رَضِي الله عَنهُ يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ قو ذكري فان فِيهِ مَنْفَعَة لأهلي سَأَلَ الْقُوَّة فِي ذَلِك لِلْخُرُوجِ من حق الزَّوْجَة لِأَن الْمَرْأَة نهمتها فِي الرِّجَال فَإِذا لهي عَن حَاجَتهَا فَهُوَ مسئول عَن ذَلِك وَمَا سَأَلَ لقَضَاء نهمة نَفسه(2/114)
- الأَصْل الثَّامِن وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي تلاقي الْأَرْوَاح فِي الدُّنْيَا
عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ لتتلاقى على مسيرَة يَوْم وَمَا رأى صَاحبه قطّ
الْأَرْوَاح شَأْنهَا عَجِيب وَهِي خَفِيفَة سَمَاوِيَّة وَإِنَّمَا ثقلت إِذا اشْتَمَلت النَّفس عَلَيْهَا بظلمة شهواتها وَإِذا ريضت النَّفس وتخلص الرّوح مِنْهَا وَصفا من كدورتها عَادَتْ إِلَى خفتها وطهارتها وَكَانَ لَهَا شَأْن لَا يُؤمن بِهِ إِلَّا كل مُؤمن قلبه بِاللَّه مطمئن وَمن هَهُنَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لأبي مُسلم الْخَولَانِيّ حِين ورد الْمَدِينَة بَعْدَمَا ألقِي فِي النَّار فَلَقِيَهُ عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ أنْشدك بِاللَّه أَنْت عبد الله بن توسي الَّذِي حرقه الْكذَّاب صَاحب صنعاء قَالَ اللَّهُمَّ نعم فاعتنقه عمر رَضِي الله عَنهُ
وَمثله مَا يرْوى أَن الْحَارِث بن عميرَة أَتَى بَاب سلمَان رَضِي(2/115)
الله عَنهُ فَخرج إِلَيْهِ فَقَالَ أما تعرفنِي يَا أَبَا عبد الله قَالَ نعم عرف روحي روحك قبل أَن أعرفك
وَمثله قَول أويس لهرم حَيْثُ قَالَ لَهُ السَّلَام عَلَيْك يَا أويس قَالَ وَعَلَيْك السَّلَام يَا هرم بن حَيَّان قَالَ وَمن أَيْن علمت رَحِمك الله أَنِّي هرم بن حَيَّان قَالَ عرف روحي روحك وَإِن الْأَرْوَاح خلقت قبل الأجساد بألفي عَام فتشامت كَمَا تشام الْخَيل وَهَذَا لِأَن بصر الرّوح مُتَّصِل ببصر الْعقل فِي عين الْإِنْسَان فالعين جارحة وَالْبَصَر من الرّوح وَإِدْرَاك الألوان من بَينهمَا فَإِذا تفرغ الْعقل وَالروح من اشْتِغَال النَّفس أبْصر الرّوح وَأدْركَ الْعقل مَا أبْصر الرّوح فَعلم وَإِنَّمَا عجزت الْعَامَّة عَن هَذَا لشغل الْأَرْوَاح بالنفوس واشتباك الشَّهَوَات بهَا فيشغل بصر الرّوح عَن دَرك هَذِه الْأَشْيَاء وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطلع عَلَيْكُم من هَذَا الْفَج رجل من أهل الْجنَّة فَاطلع جرير
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ لتتلاقى أَرَادَ بذلك الْمُؤمن المستكمل لحقائقه الَّذِي قد شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه لَيْسَ الموحد الَّذِي أقبل على شهواته وتشاغل عَن عبودته حَتَّى خلط على نَفسه الْأُمُور قلبه مأسور وروحه مَشْغُول وَنَفسه مَفْتُونَة فَكيف يبصر أَو يعقل(2/116)
- الأَصْل التَّاسِع وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن أَمِين هَذِه الْأمة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل أمة أَمِين وَأمين هَذِه الْأمة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح
فالأمانة ترك الْأَشْيَاء فِي موَاضعهَا كَمَا وضعت وإنزالها حَيْثُ أنزلت وَقد جعل الله تَعَالَى الدُّنْيَا ممرا وَالْآخِرَة مقرا وَالروح عَارِية والرزق بلغَة والمعاش حجَّة والفضول بلوى ووديعة وَالسَّعْي جَزَاء إِن خيرا فَخير وَإِن شرا فشر وَخلق الْخلق فِي ظهر آدم عَلَيْهِ السَّلَام واستخرجهم وَلَهُم بَين يَدَيْهِ مقَام قررهم بالعبودة وقلدهم إِيَّاهَا وَأخذ عَلَيْهِم الْعَهْد والميثاق ثمَّ نقلهم من الأصلاب إِلَى الْأَرْحَام وَمن الْأَرْحَام إِلَى الدُّنْيَا وَمن الدُّنْيَا إِلَى اللحود وَمن اللحود إِلَى النشور وَمن المنشر(2/117)
إِلَى الْمَحْشَر وَمن الْمَحْشَر إِلَى الصِّرَاط وَمن الصِّرَاط إِلَى مقَام الْعرض وَالسُّؤَال من الْوَقْت الَّذِي بلغ الْحلم إِلَى وَقت فِرَاقه من الدُّنْيَا وَخلق اللَّيْل وَالنَّهَار ليركضا بالخلق إِلَيْهِ دءوبا فالأمين اسْتَقَرَّتْ نَفسه فأبصر هَذِه الْأَشْيَاء ببصيرة نَفسه على هيئتها الَّتِي خلقت وَإِنَّمَا تبصر إِذا سكنت واستقرت واطمأنت إِلَى خَالِقهَا فقد صَارَت أمينة لَا تخون وَأما إِذا كَانَت فِي الْعَدو والالتفات إِلَى أَحْوَاله يمنة ويسرة وفيهَا شَهْوَة وَلها اخلاق رَدِيئَة دنيئة مفرطة لأمر الله عجولة فِي مهواها تشبثت بمخاليبها فِي دنياها لما وجدت من اللَّذَّة وَقَضَاء النهمة عميت عَن أَنَّهَا دَار ممر وألهتها عَن أَن تذكر دَار الْمقر وشغفت بِالْحَيَاةِ فنسيت عَن أَن تذكر الرّوح وَكَونهَا عَارِية وَطلبت المعاش حرصا لِتجمع الْكَثِيرَة عدَّة لنهماتها وتناولت الرزق على قَضَاء شهواتها ولهت عَن السَّعْي وَرفعت بالها عَنْهَا ونسيت أَنَّهَا تحْتَاج إِلَى سعي مِنْهَا مَعَ ركض اللَّيْل وَالنَّهَار سعيا يصلح فِي ذَلِك الْموقف الْعَظِيم فِي صُفُوف الْمَلَائِكَة والأنبياء وَالْمُرْسلِينَ وعباده الصَّالِحين وَإِنَّمَا جَاءَت هَذِه الْفِتْنَة من قبل النَّفس فَإِذا كَانَت سَاكِنة الطَّبْع مطمئنة الْفطْرَة ميتَة الشَّهَوَات وَجدتهَا كَرِيمَة حرَّة وَوجدت أخلاقها مستوية فأبصر الْقلب الْأَشْيَاء على هيئتها الَّتِي خلقت وَصَارَ ذَا أَمَانَة إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يظلم الصَّدْر ويحجب النُّور عَن إشراقه وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من أحد من أَصْحَابِي إِلَّا لَو شِئْت عبت عَلَيْهِ فِي خلقه غير أبي عُبَيْدَة بن الْجراح(2/118)
- الأَصْل الْمِائَة وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي الِاعْتِبَار بِكُل شَيْء والاتعاظ بِكُل شَيْء
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعم الْبَيْت يدْخلهُ الرجل الْمُسلم بَيت الْحمام وَذَلِكَ إِذا دخله سَأَلَ الله تَعَالَى الْجنَّة واستعاذه من النَّار وَبئسَ الْبَيْت يدْخلهُ الْمُسلم بَيت الْعَرُوس وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يرغبه فِي الدُّنْيَا وينسيه الاخرة
وَهَذَا لأهل الْغَفْلَة فَأَما أهل الْيَقِين قد صَارَت الْآخِرَة نصب أَعينهم لَا بَيت الْحمام يزعجه وَلَا بَيت الْعَرُوس يستفزه لقد دقَّتْ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا فِي جنب الْآخِرَة حَتَّى أَن جَمِيع الدُّنْيَا فِي أَعينهم كنثارة الطَّعَام من مائدة عَظِيمَة وَجَمِيع شدائدها فِي أَعينهم كتفلة عُوقِبَ بهَا محرم اسْتوْجبَ الْقَتْل فَلم يحتاجوا إِلَى الاتعاظ وَالِاعْتِبَار بالحمام وَعمل على قُلُوبهم شَأْن كرمه وجوده ومجده وبره بعباده فأنساهم كل نعيم وبؤس فَأَما أهل الْغَفْلَة فيحتاجون إِلَى كل شَيْء من الدُّنْيَا أَن يتعظوا(2/119)
مِنْهَا ويعتبروا بهَا فَإِذا رأى بقْعَة حامية ذَات بخار وَمَاء حميم وَمرَّة هائجة تذكره الْآخِرَة وعجائبها وَدَار الْعقَاب وفنون عَذَابهَا وَإِذا عاين بقْعَة مزينة بزينة الدُّنْيَا منجدة بمتاع غرورها مشرقة بحطامها مغشوشة بأفراح خدعها تمنيه نَفسه وترغبه فِي ذَلِك وأنسته الْآخِرَة لعاجل مَا يجد من اللَّذَّة والشهوة وَدخُول الْحمام الَّذِي ذكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن دخله متأدبا بأدب الله تَعَالَى مستترا طَالبا لخلوة أَو غاضا بَصَره لَا يرى عَورَة وَلَا يرى لَهُ
وَقد جَاءَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يحذر ذَلِك ويؤدب وَإِن كَانَ خَالِيا اتَّقوا بَيْتا يُقَال لَهُ الْحمام قيل يَا رَسُول الله إِنَّه يذهب الْوَسخ وَيذكر النَّار فَقَالَ إِن كُنْتُم لَا بُد فاعلين فادخلوه مستترين
وَعَن مُعَاوِيَة الْقشيرِي رَضِي الله عَنهُ قلت يَا رَسُول الله عوراتنا مَا نأتي مِنْهَا وَمَا نذر قَالَ إحفظ عورتك إِلَّا من زَوجتك أَو مَا ملكت يَمِينك قلت يَا رَسُول الله فَإِذا كَانَ أَحَدنَا خَالِيا قَالَ فَالله أَحَق أَن يستحيي مِنْهُ(2/120)
- الأَصْل الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْهَدِيَّة خلق من خلق الْإِنْسَان
عَن الرّبيع بنت معوذ بن عفراء قَالَت أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقناع من رطب واجر زغب فَأَعْطَانِي ملْء كَفه حليا أَو ذَهَبا فَقَالَ تحلي بِهَذِهِ يَا بنية
القناع الطَّبَق وكل شَيْء أقنع أَي ارْتَفع من الأَرْض وَأجر وَاحِدَة جرو وَهُوَ القثاء أول مَا يدْرك وَهُوَ الَّذِي لَهُ زغب كَهَيئَةِ زئبر الثَّوْب فالهدية خلق من خلق الْإِنْسَان عَلَيْهِ دلّت الرُّسُل وَإِلَيْهِ ندبت لائتلاف الْقُلُوب ولنفي سخائم الصُّدُور فَإِن ابْن آدم مقسوم على ثَلَاثَة أَجزَاء الْقلب بِمَا فِيهِ من الْإِيمَان وَالروح بِمَا فِيهِ من الطَّاعَة وَالنَّفس بِمَا فِيهِ من الشَّهْوَة فالإيمان يَدْعُو إِلَى الله وَالروح تَدْعُو إِلَى الطَّاعَة وَالنَّفس تَدْعُو إِلَى الْبر واللطف والنوال فَكَانَت الْقُلُوب تأتلف بِالْإِيمَان والأرواح بالطاعات وحظ النَّفس بَاقِيَة فَإِذا تهادوا تمت الألفة وَلم تبْق هُنَاكَ حزازة وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جوادا يقبل الْهَدِيَّة ويكافىء من وجده بأمثالها وَالربيع كَانَت مِمَّن قتل أَبوهَا يَوْم بدر وَكَانَ عَلَيْهِ(2/121)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يبرها وَيكرم أحوالها فَوَافَقت هديته سَعَة الوجد مِنْهُ وَكَانَ قلبه وَاسِعًا وَأَعْطَاهَا ملْء الْكَفّ ذَهَبا ليعلم من بلغه ذَلِك وَمن عاينه أَن لَا قدر للدنيا عِنْده وَلِأَن للبر أثقالا فالكريم لَا يكَاد يتَخَلَّص من تِلْكَ الأثقال إِلَّا بأضعاف ذَلِك الْبر فَإِذا ضاعف فِي الْمُكَافَأَة انحطت عَنهُ أثقال بره وَذهب عَنهُ وَجل نَفسه
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحلي بهَا يَا بنية رخصَة لَهَا فِي الْحِلْية وَأَنَّهَا حق وَأَنه يجوز أَن يُقَال لولد غَيره يَا بني والمكافأة حق من الْحُقُوق وكل أحد يكافىء على قدره من خلقه وسعته وَلم يكن يَخْلُو فِي ذَلِك الْوَقْت بِالْمَدِينَةِ من فَقير وَذي حَاجَة من أَصْحَابه وَلكنه كَانَ يُعْطي على نَوَائِب الْحق فَرَأى هَذَا حَقًا فَأعْطَاهُ
قَالَ وهب رَضِي الله عَنهُ ترك الْمُكَافَأَة من التطفيف
ناول شَاب اللَّيْث بن سعد رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ اترنج باكورة فَأمره أَن يعْطى دِينَارا وَكَانَ الأسخياء يَفْعَلُونَ مثل ذَلِك وَجَاءَت عَجُوز إِلَى اللَّيْث بن سعد رَضِي الله عَنهُ فَقَالَت يَا أَبَا الْحَارِث مر وكيلك أَن يعطيني رطلا من عسل فَإِن ابْني مَرِيض يشتهيه فَقَالَ لوَكِيله أعْطهَا مَطَرا من عسل قيل لَهُ إِنَّمَا سَأَلتك رطلا فَقَالَ هِيَ سَأَلت على قدرهَا وَنحن نعطيها على قَدرنَا والمطر وقر بعير مِائَتَان وَخَمْسُونَ منا
وأتى قوم عبد الله بن أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالُوا إِن لنا مَرِيضا قد تشنجت أعضاؤه من الرِّيَاح وَوصف لنا أَن نعالجه بِلَبن الجواميس فينفعه فِيهِ فَنحب أَن تعيرنا من جواميسك فَقَالَ لوَكِيله كم لنا يَا لطف من الجواميس قَالَ خَمْسمِائَة فَقَالَ سقها إِلَيْهِم فَقَالُوا رَحِمك الله إِنَّا سألناك عَارِية قَالَ إِنَّا لَا نعير الجواميس وَأَعْطَاهَا إيَّاهُم وَعَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/122)
الْهَدِيَّة رزق من الله طيب فَإِذا أهدي إِلَى أحدكُم فليقبلها وليعط خيرا مِنْهَا(2/123)
- الأَصْل الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي بَيَان صِفَات وُلَاة الْأُمُور العادلين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ولي من أَمر أمتِي شَيْئا فحسنت سَرِيرَته رزق الهيبة من قُلُوبهم وَإِذا بسط يَده لَهُم بِالْمَعْرُوفِ رزق الْمحبَّة مِنْهُم وَإِذا وفر عَلَيْهِم أَمْوَالهم وفر الله عَلَيْهِ مَاله وَإِذا أنصف الضَّعِيف من الْقوي قوى الله سُلْطَانه وَإِذا عدل مد الله فِي عمره
فَحسن السريرة من هَيْبَة الله تَعَالَى فَإِذا هاب عبد ربه ظَاهرا وَبَاطنا سرا وعلنا أهاب الله مِنْهُ خلقه وصنائع الْمَعْرُوف لَا تكون إِلَّا من حسن الْخلق وَمن حسن الله خلقه أحبه وَمن أحبه الله ألْقى محبته على قُلُوب عباده قَالَ تَعَالَى لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وألقيت عَلَيْك محبَّة مني
فَكَانَ لَا يرَاهُ أحد إِلَّا أحبه حَتَّى فِرْعَوْن اللعين الَّذِي كَانَ يذبح بني إِسْرَائِيل لأَجله وَهُوَ يوسعه فِي صَدره وَمن بسط الْيَد سقط عَن قلبه قدر الدُّنْيَا فَهِيَ وَمن فِيهَا مقبلة عَلَيْهِ خادمة لَهُ وإنصاف(2/124)
الضَّعِيف فانما أعطي السُّلْطَان على أَن يَأْخُذ للضعيف من الْقوي وَلَوْلَا ذَلِك لم يحْتَج إِلَى سُلْطَان فإذافإذا فعل ذَلِك فقد تمسك بِالَّذِي أعطي على هَيْئَة مَا أعطي فاديمت لَهُ قُوَّة ذَلِك الَّذِي أعْطى وَإِذا ضيع ذَلِك فقد ضيع سُلْطَانه وَذَلِكَ لله فَكيف يبْقى مَعَه قُوَّة وَالسُّلْطَان ظلّ الله فِي الأَرْض يأوي إِلَيْهِ كل مظلوم وَإِذا عدل مد فِي عمره لِأَن الْعدْل صَلَاح الأَرْض والجور فَسَادهَا وبالعدل قَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض فَإِذا جَار فالأرض تعج مِنْهُ وَالسَّمَاء تجأر والبحار تَئِنُّ وَالْجِبَال تَشْكُو فَيقطع الله عمره وَإِذا عدل وصل الله عمره من كرمه فَمد لَهُ لِأَنَّهُ أَقَامَ عدله الَّذِي ارْتَضَاهُ لنَفسِهِ عزت من نفس كَرِيمَة شريفة(2/125)
- الأَصْل الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِيمَا يعلم بِهِ منزلَة العَبْد عِنْد الله تَعَالَى
عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَيهَا النَّاس من كَانَ يحب أَن يعلم مَنْزِلَته عِنْد الله فَلْينْظر كَيفَ منزلَة الله عِنْده فَإِن الله عز وَجل ينزل العَبْد مِنْهُ حَيْثُ أنزلهُ من نَفسه وَإِن لله سَرَايَا من الْمَلَائِكَة تحل وتقف على مجَالِس الذّكر فاغدوا وروحوا فِي ذكر الله فِي الأَرْض أَلا فارتعوا فِي رياض الْجنَّة قَالُوا وَأَيْنَ رياض الْجنَّة يَا رَسُول الله قَالَ مجَالِس الذّكر قَالَ فاغدوا وروحوا فِي ذكر الله واذكروه بِأَنْفُسِكُمْ
فمنزلة الله عِنْد العَبْد إِنَّمَا هُوَ على قلبه على قدر مَعْرفَته إِيَّاه وَعلمه بِهِ وهيبته مِنْهُ وإجلاله وتعظيمه لَهُ وخشيته وحيائه مِنْهُ وَالْخَوْف من عِقَابه والوجل عِنْد ذكره وَإِقَامَة الْحُرْمَة لأَمره وَنَهْيه ورؤيه تَدْبيره وَالْوُقُوف عِنْد أَحْكَامه بِطيب النَّفس وَالتَّسْلِيم لَهُ بدنا وَقَلْبًا وروحا(2/126)
ومراقبة لتدبيره فِي أُمُوره وَلُزُوم ذكره والنهوض بأثقال نعمه وإحسانه وَترك مشيئاته لمشيئاته وَحسن الظَّن بِهِ فِي كل مَا نابه وَالنَّاس فِي هَذِه الْأَشْيَاء يتفاضلون فمنازلهم عِنْد رَبهم على قدر حظوظهم مِنْهَا فأوفرهم حظا من الْمعرفَة أعلمهم بِهِ وأعلمهم بِهِ أوفرهم حظا من هَذِه الْأَشْيَاء وأوفرهم حظا مِنْهَا أعظمهم منزلَة عِنْده وأقربهم وَسِيلَة وأرفعهم دَرَجَة وعَلى قدر نقصانه من هَذِه الْأَشْيَاء ينتقص حَظه وتنحط دَرَجَته وتبعد وسيلته ويقل علمه وتضعف مَعْرفَته قَالَ الله تَعَالَى وَلَقَد فضلنَا بعض النَّبِيين على بعض
وَإِنَّمَا فضلوا على الْخلق وَبَعْضهمْ على بعض بالمعرفة لَهُ وَالْعلم بِهِ لَا بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَة فبالمعرفة تطهر الْأَبدَان وتزكو الْأَعْمَال وَبهَا تقبل مِنْهُم فَإِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى عمِلُوا أَعمال الشَّرِيعَة فَصَارَت هباء منثورا فَمن فضل بالمعرفة فقد أُوتِيَ حظا من الْعلم
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين عرج بِهِ إِلَى السِّدْرَة فَإِذا النُّور الْأَكْبَر قد تدلى فَالْتَفت إِلَى جِبْرَائِيل فَإِذا هُوَ ميت من الْفرق كالحلس الْملقى من خشيَة الله فَعرفت فضل علمه بِاللَّه على علمي
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الصُّبْح فَصنعَ شَيْئا لم نره صنع فِي غَيره مديده ثمَّ أَخّرهَا فَقُلْنَا يَا رَسُول الله لقد صنعت فِي صَلَاتك شَيْئا لم نرك صنعت فِي غَيرهَا قَالَ إِنِّي رَأَيْت الْجنَّة فَرَأَيْت فِيهَا دالية قطوفها دانية حبها كالدباء فَأَرَدْت أَن أتناول مِنْهَا فاوحى إِلَيْهَا أَن استأخري ثمَّ رَأَيْت النَّار فِيمَا بيني وَبَيْنكُم حَتَّى رَأَيْت ظِلِّي وظلكم فأومأت إِلَيْكُم أَن استأخروا(2/127)
فَقيل لي أقرهم فانك أسلمت وَأَسْلمُوا وَهَاجَرت وَهَاجرُوا وجاهدت وَجَاهدُوا فَلم أر لي فضلا عَلَيْكُم إِلَّا بِالنُّبُوَّةِ
فبالنبوة أدْرك رُؤْيَة مَا وصف فأدنيت الْجنَّة مِنْهُ ليعرف حَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه بِهَذِهِ الْمنزلَة لَيْسَ بَينه وَبَينهَا إِلَّا قبض الرّوح وَلِهَذَا لما مد يَده ليتناولها أوحى إِلَيْهَا أَن تأخري فَإِنَّهُ فِي بَقِيَّة من أَجله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الدُّنْيَا وَلَا ينَال أحد الْجنَّة إِلَّا بعد مُفَارقَة الرّوح ثمَّ أرى النَّار بَينه وَبَين الْقَوْم رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ يعرفهُ أَنَّك قد جزت النَّار بقلبك بِمَا أَعْطَيْت من النُّبُوَّة وفرغت من أَمر الصِّرَاط وَمن خَلفك من الْأمة لم يجوزوا بعد بقلوبهم فَهُوَ بَاقٍ عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ أنس رَضِي الله عَنهُ إِذا ضرب الصِّرَاط على النَّار قيل قرب أمتك فَإِذا دَنَوْت مِنْهَا قَالَ لي جبرئيل يَا مُحَمَّد خُذ بحجزتي فآخذ بحجزة جبرئيل فيضعني من وَرَاء النَّار وَيُقَال للْأمة جوزوا فيجوزون بأبدانهم فَمنهمْ فِي السرعة فِي مثل اللحظة والبرقة وَمِنْهُم فِي مثل الرّيح وَمِنْهُم فِي مثل أجاويد الْخَيل وَمِنْهُم ركضا وَمِنْهُم سعيا وَمِنْهُم مشيا وَمِنْهُم زحفا
فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِفضل النُّبُوَّة جَازَ النَّار بِقَلْبِه أَيَّام الْحَيَاة فَلَمَّا وصل إِلَيْهَا أُجِيز من غير تكلّف وَلَا مُبَاشرَة وَأهل الْيَقِين لَهُم حَظّ من النُّبُوَّة
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الاقتصاد وَالْهَدْي الصَّالح والسمت الْحسن جُزْء من أَرْبَعَة وَعشْرين جُزْءا من النُّبُوَّة(2/128)
فيجوزونها بأبدانهم على قدر إِيمَانهم ويقينهم وحظهم من النُّبُوَّة قَالَ تَعَالَى {لَو تعلمُونَ علم الْيَقِين لترون الْجَحِيم ثمَّ لترونها عين الْيَقِين}
فَأهل الْيَقِين فِي الدُّنْيَا يرونها بِعلم الْيَقِين فيجوزونها بقلوبهم ثمَّ يرونها عين الْيَقِين غَدا مُعَاينَة فمعاينة الْقلب علم الْيَقِين ومعاينة الْجَسَد بِعَيْنِه الَّتِي ركبت فِيهِ عين الْيَقِين فَمن أعطي علم الْيَقِين فِي الدُّنْيَا طالع الصِّرَاط وأهوالها بِقَلْبِه فذاق من الْخَوْف وركبته من الْأَهْوَال فَوضع عَنهُ غَدا وَمر عَلَيْهَا فِي مثل الْبَرْق فَأن الله تَعَالَى لَا يجمع على عبد خوفين
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ربكُم وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أجمع على عَبدِي خوفين وَلَا أجمع لَهُ أمنين
وكل من كَانَ لَهُ هَهُنَا حَظّ من الْيَقِين طالع بِقَلْبِه بِقُوَّة ذَلِك الْيَقِين فعاين مِنْهُ مَا ذاق من الْخَوْف فَسقط عَنهُ من الْخَوْف على قدر مَا ذاق هَهُنَا فَكَذَلِك تفَاوت جوازهم
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى رَأَيْت ظِلِّي وظلكم فِيهَا فان النَّار سَوْدَاء مظْلمَة والمؤمنون أهل نور وضياء فَوَقع ضوءهم على ظلمَة النَّار على مقادير نورهم وأجسادهم
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقرهم مَعْنَاهُ أَنهم قد ائْتَمرُوا بأَمْري فَانِي أَمرتهم بِالْإِسْلَامِ وَالْهجْرَة وَالْجهَاد فَلَيْسَ للنار عَلَيْهِم سَبِيل لِأَن رَحْمَتي قد نالتهم(2/129)
قَالَ الله تَعَالَى إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله وَالله غَفُور رَحِيم حقق رجاءهم وَأخْبر أَنهم صدقُوا فِي الرَّجَاء ثمَّ وعدهم الْمَغْفِرَة
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم أر لي فضلا عَلَيْكُم إِلَّا بِالنُّبُوَّةِ كفى بهَا فضلا وَلَا ينَال مَا وصف إِلَّا بِالْأَعْمَالِ والأعمال إِنَّمَا تقوم ويعظم خطرها بِالنِّيَّاتِ وَالنِّيَّة بدؤها من الْإِيمَان يَبْدُو لَهُم من إِيمَانهم ذكر الطَّاعَة فينهض قُلُوبهم إِلَى الله تَعَالَى من مُسْتَقر نُفُوسهم وَالنِّيَّة النهوض يُقَال ناء ينوء إِذا نَهَضَ فنهوض الْقلب من مَعْدن الشَّهَوَات إِلَى الله تَعَالَى بِأَن يعْمل طَاعَة هُوَ نِيَّة فَأَما أهل الْيَقِين فقد جاوزوا هَذِه الْمنزلَة فَإِنَّهُ زايلت قُلُوبهم نُفُوسهم وَصَارَت مَعَ الله تَعَالَى وَقد فرغوا من النِّيَّة فَمن كَانَ قلبه بَين يَدي الله تَعَالَى محَال أَن يُقَال لَهُ نَهَضَ قلبه إِلَى الله فِي أَمر فَإِن قلبه ناهض إِلَيْهِ بِمرَّة وَاحِدَة وَاقِف بَين يَدَيْهِ نهوضا لَا يرجع وَلَا ينْصَرف إِذْ قد نقض الوطن وارتحل إِلَى الله تَعَالَى ويعملون وَقُلُوبهمْ هُنَاكَ وافقة بَين يَدي الله تَعَالَى فِي جلال الله وعظمته باهتين سكارى وَمَا هم بسكارى فارتفع أَعمال هَؤُلَاءِ من الَّذين ينهضون بقلوبهم فِي ذَلِك الْعَمَل لله عز وَجل ويريدونه بِهِ وهم المقتصدون فتفاوتت لذَلِك مُدَّة جوازهم على الصِّرَاط(2/130)
- الأَصْل الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي فضل الاستغاثة من النَّار بِعَفْو الله تَعَالَى
عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ قَالَ سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا فِي جَوف اللَّيْل وَهُوَ يَقُول واغوثاه من النَّار يُرَدِّدهَا ذَلِك لَيْلًا طَويلا ثمَّ غَدا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَنْت الْقَائِل اللَّيْلَة واغوثاه من النَّار قَالَ نعم يَا رَسُول الله قَالَ لقد أبكيت أَعْيَان مَلأ من الْمَلَائِكَة كَثِيرَة
النَّار حشوها غضب الله وَإِنَّمَا اسودت من غَضَبه يحل ذَلِك الْغَضَب عذَابا بأجساد العداة العصاة فتنتقم النَّار مِنْهُم لحق الله عز وَجل جَلَاله والمستغيث مِنْهُ على ثَلَاثَة أضْرب مستغيث من نَار الله بِعَفْو الله ومستغيث من غضب الله تَعَالَى برحمة الله ومستغيث بِاللَّه من الله تَعَالَى
وَقد جمع ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا أَتَاهُ جبرئيل وَأمره أَن يكون(2/131)
ذَلِك فِي السُّجُود فَقَالَ أعوذ بعفوك من عقابك ثمَّ قَالَ وَأَعُوذ برضاك من سخطك ثمَّ قَالَ وَأَعُوذ بك مِنْك(2/132)
- الأَصْل الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة
عَن الْأَغَر الْمُزنِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ خرج إِلَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ رَافع يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُول يَا أَيهَا النَّاس اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فوَاللَّه إِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة
وَفِي رِوَايَة وَإنَّهُ ليغان على قلبِي وَإِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة
الْمَغْفِرَة هِيَ الغطاء والستر وَمِنْه سمي المغفر دبير الثَّوْب وَهُوَ الَّذِي يعلق الثَّوْب الْجَدِيد وَالْعَبْد الْمُؤمن بَايع الله تَعَالَى يَوْم الْمِيثَاق أَن يطيعه وَيكون بَين يَدَيْهِ فَلَمَّا أذْنب ذَنبا وَترك مقَامه خرج من ستره فتعرى(2/133)
فَقيل لَهُ تب أَي ارْجع إِلَى مقامك فَلَمَّا رأى نَفسه عَارِيا طلب السّتْر فَفَزعَ إِلَى الله تَعَالَى عَن عريه فَستر فَقيل ارْجع إِلَى رَبك إِلَى مقامك فِي الْبيعَة مَعَ السّتْر فَأَنت فِي كنفه مَا دمت وَاقِفًا بمقام الْبيعَة فَلذَلِك بدىء بالاستغفار ثمَّ بِالتَّوْبَةِ قَالَ تَعَالَى {اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طُوبَى لمن وجد فِي صَحِيفَته اسْتِغْفَارًا كثيرا وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن للقلوب صدءا كصدأ الْحَدِيد وجلاؤه الاسْتِغْفَار
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن العَبْد إِذا أذْنب نكتت فِي قلبه نُكْتَة سَوْدَاء فَإِذا عَاد نكتت أُخْرَى حَتَّى يسود الْقلب فَإِذا تَابَ وَنزع صقل قلبه ثمَّ تَلا {كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
وَاعْلَم أَن للمغفرة دَرَجَات فمغفرة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر ومغفرة من بعده بأعمال بر عملوها لَا يَخْلُو من ذَلِك والستر أَنْوَاع فَمنهمْ من لَا يستر عَلَيْهِ أَيَّام الْحَيَاة فَإِذا صَار مَمَره إِلَى النَّار يستر لِئَلَّا تصيبه النَّار وَمِنْهُم من يستر فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلم يستر عَلَيْهِ فِي الْعرض وَمِنْهُم من يستر عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْعرض عِنْد الْمَلَائِكَة وخلا بِهِ ربه فِي السُّؤَال فلقي شدَّة الْحيَاء وَمِنْهُم من يستر عَلَيْهِ فِي الْحجب عَن نَفسه حَتَّى لَا يَرَاهَا فيستحيي وَمِنْهُم من يستر عَلَيْهِ سترا لَا يذكرهَا حَتَّى يذهب عَنهُ ذكرهَا فَذَاك ستر(2/134)
بَينه وَبَين العَبْد يستره عَن عمله وَحَتَّى لَا يخجل كَمَا ستر أهل الْجنان بالأنس بِهِ إِذا ذكرُوا ذنوبهم لم يخجلوا وَلم يثقل عَلَيْهِم ذكرهَا فَكل من كَانَ فِي الدُّنْيَا من الْأنس بِهِ أوفر حظا فَإِن ستره من ذنُوبه هُنَاكَ أكشف وأنسه بِاللَّه تَعَالَى أَكثر
والأنس بِاللَّه تَعَالَى من الاحتظاء من جماله فَإِذا كَانَ قلبه عِنْده فِي ملك الْجمال فالغالب عَلَيْهِ الْأنس وَجَزَاء الْأنس بِهِ الْيَوْم الأمل غَدا وَمن كَانَ قلبه عِنْده فِي ملك الْجلَال فالغالب عَلَيْهِ الهيبة وجزاؤه مِنْهُ الْأَمْن غَدا وَمن كَانَ قلبه عِنْده فِي ملك ملكه وَجَاوَزَ ملك الْجمال والجلال إِلَى وحدانيته وَانْفَرَدَ بِهِ فِي فردانيته وهم الَّذين وَصفهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِيرُوا فقد سبق المفردون قَالُوا من هم يَا رَسُول الله قَالَ الَّذين اهتروا بِذكر الله تَعَالَى يضع الذّكر اثقالهم يأْتونَ يَوْمئِذٍ خفافا فهم أمناؤه فِي أرضه قُلُوبهم فِي ملك الْملك فِي تِلْكَ الْخلْوَة الَّتِي قد انْقَطع علم الصِّفَات عِنْدهَا فَلَا يُوصف مَا فِي قُلُوبهم أَيَّام الْحَيَاة فجزاؤهم غَدا الدَّلال فَصَاحب الهيبة فِي عبودته ومعاملته من الْفرق كالميت فِي كل أَمر من أُمُوره على هول عَظِيم وخطر جسيم وَصَاحب الْأنس فِي عبودته ومعاملته قد خف عَنهُ ذَلِك لما يأمل من عطفه ورأفته بِهِ ومحبته وَصَاحب البهتة أَمِينه فَهُوَ كالمطمئن لِأَنَّهُ صَار فِي قَبضته وَهُوَ يَسْتَعْمِلهُ فباستعماله أشرف على الْأُمُور فَهُوَ المدل فِي دُنْيَاهُ المدل فِي آخرته وَهُوَ الْأمين الَّذِي بَسطه فانبسط وَهُوَ الْمُحدث وَهُوَ أَعلَى من الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلين صَاحب الْأنس وَصَاحب الهيبة فَإِن صَاحب الْأنس بَسطه الْأنس بِالْملكِ وَهَذَا قد بَسطه الْملك وشتان من بَسطه الْملك وَمن بَسطه الْأنس بِالْملكِ(2/135)
- الأَصْل السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي تَأْثِير هَيْبَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته وتأثير وَفَاته فِي الْقُلُوب
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما كَانَ الْيَوْم الَّذِي دخل فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة أَضَاء كل شَيْء مِنْهَا فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ أظلم كل شَيْء مِنْهَا وَمَا نفضنا الْأَيْدِي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا لفي دَفنه حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبنَا
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نورا أَضَاء الْعَالمين قَالَ تَعَالَى إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا وداعيا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا
فَكَانَ يَسْتَنِير سراجه فِي الْعَالمين وَإِذا مَشى فِي الطَّرِيق فاح مِنْهُ ريح الطّيب حَتَّى يُوجد عرفه فِي مَمَره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيعرف أَنه مر بِهَذَا الْمَكَان وَكَانَ طَاهِرا طيبا طهره الله تَعَالَى بِالْحِفْظِ فِي الأصلاب والأرحام وطفلا وناشئا وكهلا حَتَّى قدسه بطهر النُّبُوَّة وشرفه بالقربة وطيبه بِرُوحِهِ وجلله ببهائه فَمن فتح الله قلبه بِالنورِ الَّذِي جعله فِي قلبه وأبصره وَمَا نحله الله تَعَالَى وزينه بِهِ كَانَ رُؤْيَته شِفَاء قلبه ودواء سقمه(2/136)
وَلَا يخيب بِرُؤْيَتِهِ عَن أَن يكون شِفَاء الْقلب إِلَّا من ختم الله على قلبه وَجعل على سَمعه وبصره غشاوة كَمَا قَالَ تَعَالَى وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون
وَكَانَت هيبته ووقاره وجلاله وطهارته سدا بَين الْقُلُوب والنفوس فَكَانَت النُّفُوس قد أَلْقَت بأيديها منقادة مستسلمة هَيْبَة لَهُ وإجلالا وحياء مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ لَهُ طلاوة وحلاوة ومهابة فَأَيْنَ مَا حل ببقعة أَضَاءَت تِلْكَ الْبقْعَة بنوره وطلاوته وحليت بحلاوته وتهيأت شئونها بمهابته فَلَمَّا قبض صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذهب السراج وَزَالَ الضَّوْء وفاتت تِلْكَ الطلاوة والحلاوة والمهابة
وَقَوله وَمَا نفضنا الْأَيْدِي حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبنَا أخبر عَن قلبه وَعَن قلب أشباهه من الْقُلُوب الَّتِي لم تغلب عَلَيْهَا الهيبة من الله تَعَالَى وتأخذها هَيْبَة المخلوقين وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَة من آيَات الله الْعُظْمَى فَمن عرفه وتمكنت مَعْرفَته من هَذَا الطَّرِيق فَإِذا فَقده أنكر قلبه لِأَن نَفسه كَانَت فِي قهر مَا أعطي الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من السُّلْطَان فَلَمَّا أحست النَّفس بذهابه وجدت زمامها سَاقِطَة بِالْأَرْضِ كالمخلاة عَنْهَا فتحركت وتشوقت لمناها وأصاخت أذنا لمطامعها وَمن غلب الهيبة من الله تَعَالَى على قلبه وملكته لم يُنكر قلبه بِقَبْضِهِ وَلم يتَغَيَّر شَأْنه بفقده وهم الصديقون والأولياء عَلَيْهِ السَّلَام فقد دخل قُلُوبهم من جلال الله تَعَالَى وعظمته مَا بهتهم فهابوه ونفوسهم قد صَارَت كالميتة من الْخُشُوع لله تَعَالَى فَتلك هَيْبَة احتشت الْقُلُوب مِنْهُم من محبَّة الله تَعَالَى فغمرت مَا كَانَ للمخلوقين فِيهَا من الْمحبَّة من غير أَن تَزُول هَيْبَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومحبته من قلبه فَإِن كل مَا عظمت هَيْبَة الله تَعَالَى ومحبته فِي قلب عبد فَهُوَ للهيبة من رَسُول(2/137)
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد وحبه فِي قلبه أعظم وأصفى وَلَكِن محبته وهيبته غامرة لما سواهَا فَلَا يستبين بِمَنْزِلَة وَاد ينصب فِي بَحر فالوادي ينصب بهيبته وَلَكِن لَا يستبين فِي جنب الْبَحْر وبمنزلة قمر مضيء فَإِذا أشرقت الشَّمْس غمر إشراقها ضوء الْقَمَر فالقمر يضيئ فِي مجْرَاه وَالشَّمْس بإشراقها غالبة عَلَيْهِ كَذَا حب الله تَعَالَى وهيبته فِي حب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهيبته(2/138)
- الأَصْل السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي فضل نظرة المشتاق
عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نظر الرجل إِلَى أَخِيه على شوق خير من اعْتِكَاف سنة فِي مَسْجِدي هَذَا
الِاعْتِكَاف إقبال العَبْد على الله تَعَالَى والتخلي عَن الدُّنْيَا وشهواتها وكف النَّفس عَن التَّرَدُّد فِي ساحات الْعَيْش ومنعها عَن الانبساط والتفسح وَمَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَوْضِع مهاجره ومبوء الاسلام يعدل الِاعْتِكَاف فِيهِ سنة اعْتِكَاف ألف سنة فِي سَائِر الْمَسَاجِد
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا تعدل ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ(2/139)
كَذَا حكم الِاعْتِكَاف فقد جعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النّظر إِلَى أَخِيه على شوق مِنْهُ أَكثر مِنْهُ لِأَنَّهُ الْمُؤمن لما انتبه بِقَلْبِه وَعرف ربه تبَارك وَتَعَالَى واشتغل نور الْيَقِين فِي قلبه فانكشف لَهُ الغطاء عَن جَلَاله وعظمته وجماله ومجده وبهائه اشتاق إِلَيْهِ فَلم يزل يَدُوم لَهُ الشوق حَتَّى قلق وبرم بِالْحَيَاةِ وضاق بِهِ ذرعا فَهُوَ عطشان من ظمأ الشوق قد أسكرته محبته عَن جَمِيع الدُّنْيَا وأذهلته آماله فِيهَا عَن جَمِيع مناه فِيهَا وأقلقته بَقِيَّة أنفاسه ويتمنى أَن يَنْقَضِي جَمِيع أنفاسه فِي نفس وَاحِد حَتَّى يطير بِرُوحِهِ إِلَى الله تَعَالَى فَهُوَ فِي محبسه يتَرَدَّد آثَار من قد اجتباه من بَين خلقه وَسبي قلبه بنوره وَقد انْقَطع طمعه من أَن يرَاهُ وَهُوَ يُنَادي فِي خلال ذَلِك ارْحَمْ من ترَاهُ وَلَا يراك لِأَنَّهُ قد سبق إِلَى ذَلِك رَأس المشتاقين كليم الله صلوَات الله عَلَيْهِ لما من عَلَيْهِ بالْكلَام طمع فِي الرُّؤْيَة فآنسه وأعلمه سَبَب الْمَنْع كالمعتذر فَقَالَ {لن تراني} أَي لَا تقدر وَلَكِن أنظر إِلَى الْجَبَل فَإِن إستقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني
وَكَذَلِكَ فعل الحبيب بالحبيب إِذا سَأَلَهُ حَاجَة لَا طَاقَة لَهُ بهَا وَلَا يقوم لَهَا وان الْحَاجة تضيع لم يواجهه بِالْمَنْعِ وَلم يوحشه بِالرَّدِّ وَيُقِيم لنَفسِهِ عذرا فالمؤمن من يطْلب الْآثَار إِلَيْهِ شوقا وَللَّه تَعَالَى فِي أرضه اربعة من آثاره بهَا يقطع المشتاقون أعمارهم فاحدى الْآثَار كَلَامه وَعَلِيهِ طَلَاق فَإِذا نظر إِلَى الْقُرْآن استروح لِأَنَّهُ كَلَامه وَالثَّانِي كعبته وَهُوَ بَيته ومعلمه ومظهره وَعَلِيهِ وقاره فَإِذا نظر إِلَيْهَا استروح وَالثَّالِث السُّلْطَان وَهُوَ ظله وعَلى ظله هيبته فَإِذا نظر إِلَيْهِ استروح وَالرَّابِع وليه الْمُؤمن وَهُوَ خَلِيفَته فِي أرضه وَعَلِيهِ نور جَلَاله فَإِذا نظر إِلَيْهِ استروح لِأَنَّهُ حَبِيبه وَفِيه بره وسيماء نوره قد أشرق فِي وَجهه(2/140)
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله أعْطى الْمُؤمن ثَلَاثَة المقة والملاحة والمحبة فِي صُدُور الْمُؤمنِينَ ثمَّ تَلا إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نظر إِلَى أَخِيه نظر ود غفر الله لَهُ لِأَن المشتاق آيس من أَن ينظر إِلَى مَوْلَاهُ فِي الدُّنْيَا فَإِذا نظر إِلَى هَذَا العَبْد فانما يقْضِي الْمنية من ربه وَلَا يشفيه ذَلِك بل يذوب على قَدَمَيْهِ فَكل لَحْظَة بلحظة إِلَى هَذَا العَبْد وَقصد بِهِ التشفي من حرقات الشوق إِلَى الله تَعَالَى وَقد حَبسه الله تَعَالَى بباقي أنفاسه يسْتَوْجب بِتِلْكَ النظرة الَّتِي من أجل الله تَعَالَى كَانَت وَلم يصل إِلَى مُرَاده ومنيته الرضْوَان وَالْمَغْفِرَة مِنْهُ وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة الَّذين هم آثَار الله تَعَالَى فِي أرضه بهم تقوم الأَرْض فَإِذا دنا قيام السَّاعَة رفع الْقُرْآن وهدمت الْكَعْبَة وَذهب السُّلْطَان وَقبض الْأَوْلِيَاء عَن آخِرهم فالمتنبهون إِنَّمَا يَأْخُذُونَ من الْقُرْآن لطائفه وطلاوته ويلحظون من السُّلْطَان هَيْبَة ظله دون أَفعاله وسيره وَمن الْبَيْت وقاره دون الْأَحْجَار والبنيان وَمن الْوَلِيّ نور جَلَاله الَّذِي قد أشرق فِي صَدره دون جسده ولحمه وَدَمه(2/141)
- الأَصْل الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أدب التَّنَزُّه فِي الْمَأْكُول وتناوله
عَن عبد الله بن بشير رَضِي الله عَنهُ قَالَ دخل علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَطَعِمَ ثمَّ أُتِي بسويق فَشرب ثمَّ أعطي الَّذِي عَن يَمِينه وَكَانَ إِذا أكل التَّمْر وضع النواة على ظهر اصبعه الْوُسْطَى والمشيرة ثمَّ أَلْقَاهَا
لَو أَخذ النواة بباطن أَصَابِعه ثمَّ عَاد إِلَى بَقِيَّة التَّمْر لَكَانَ لَا يَخْلُو أَن تكون أَصَابِعه مبتلة من ريق الْفَم عِنْد أَخذ النواة فكره أَن يعود إِلَى بَقِيَّة التَّمْر وَفِي يَده بلة النواة مُرَاعَاة للأكيل وَحُرْمَة للصاحب ليتأدب بِهِ من بعده فَإِنَّهُ قد يعاف الرجل صَاحبه فِي فعله من ذَلِك ويكرهه فَكَانَ يَأْخُذ النواة بظاهرإصبعيه وَيسْتَعْمل باطنهما فِي تنَاوله
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا روى أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن يجمع بَين التَّمْر والنوى وَبَين الرطب والنوى على الطَّبَق
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بطبق من رطب فَأكل مِنْهُ شَيْئا ثمَّ يلقِي النَّوَى من فَمه بِشمَالِهِ فمرت بِهِ داجنة فناولها إِيَّاه فَأكلت(2/142)
- الأَصْل التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن مَا يستصلح بِهِ الأقوات سيد الْأدم
عَن عِيسَى بن أبي عزة رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت أنس ابْن مَالك رَضِي الله عَنهُ يَقُول سَمِعت نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول سيد ادامكم الْملح
فالملح بِهِ إصْلَاح الْأَطْعِمَة وطيبها فَيكون مزاجا للأشياء(2/143)
- الأَصْل الْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْمَرْء مَعَ من أحب
عَن عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَتى السَّاعَة قَالَ وَمَا أَعدَدْت لَهَا قَالَ حب الله وَرَسُوله قَالَ فَأَنت مَعَ من أَحْبَبْت
الْحبّ هيجه للسؤال عَن قيام السَّاعَة لِأَنَّهُ علم أَن لِقَاء العَبْد سَيّده بعد قيام السَّاعَة فقلق وضاق بِالْحَيَاةِ ذرعا فَسَأَلَ عَن السَّاعَة مَتى تقوم استرواحا إِلَيْهَا وَإِنَّمَا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أَعدَدْت لَهَا تطلعا لمن يحن ضَمِيره وتعرفا للَّذي عجله عَلَيْهِ من السُّؤَال إِلَى مَعْدن هَاجَتْ هَذِه الْكَلِمَة وَهَذَا السَّائِل من المشتاقين أَلا ترى انه لم يذكر من عدته شَيْئا من أَعمال الْبر وَإِنَّمَا ذكر الَّذِي كَانَ بَين يَدي قلبه وَمَا اعْترض بِهِ فِي صَدره فَأَجَابَهُ على مَا وجده عَلَيْهِ فَقَالَ أَنْت مَعَ من أَحْبَبْت فالموحدون كلهم يحبونَ الله تَعَالَى حب إِيمَان لِأَن(2/144)
الْغَالِب عَلَيْهِ نَفسه وشهوته وَإِنَّمَا يقلق لذَلِك ويجيش صَدره إِذا فَاتَهُ شَيْء من شهواته ونهماته فِي الدُّنْيَا فَذَاك إِنَّمَا يعد للساعة أَعمال بره وَجعل ذَلِك عدته يَرْجُو لَهَا الثَّوَاب من الله تَعَالَى حَتَّى إِذا ورد الْقِيَامَة حصلت سرائره وبلي خَبره وَاقْتضى صدقه فِي الْأَعْمَال فان وجد صَادِقا فِي ذَلِك أثيب وَأكْرم على قدره وَإِن وجد كَاذِبًا رمي بِهِ فِي وَجهه وَهُوَ مَوْقُوف فِي الحرصة يَرْجُو بِأَعْمَالِهِ النجَاة من النَّار ونوال الثَّوَاب فتخلص حَسَنَاته وتصفى ثمَّ توزن بالسيئات فَإِن فضل لَهُ شَيْء أعطي بِقدر مَا فضل وَهَذَا السَّائِل قد كَانَت الْأَشْيَاء كلهَا تلاشت عَن قلبه فِي جنب معبوده فلحبه إِيَّاه غليان فِي صَدره فَكَانَ ذَلِك عدته فَلذَلِك قَالَ أَنْت مَعَ من أَحْبَبْت
وَلَعَلَّه كَانَ أَشَّدهم اجْتِهَادًا وأصفاهم عملا وأخلصهم قلبا وأطهرهم إِيمَانًا وأبعدهم عَن كل رِيبَة وريب ودنس وعيب وأخلقهم بمعالي الْأَخْلَاق وأنزههم عَن مدانيها لِأَن حب الله تَعَالَى لَا ينَال إِلَّا محبوبه قَالَ تَعَالَى يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
بَدَأَ بحبه إيَّاهُم ثمَّ بحبهم لَهُ ثمَّ وصف أَخْلَاقهم وشمائلهم فَقَالَ {أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين} الْآيَة
وَإِذا فتح الله قلب عبد وأشرق النُّور فِي صَدره وانتبه من غفلته فمحال أَن لَا يَجِيش صَدره بحب مَوْلَاهُ حَتَّى ينسى فِي حبه حب كل مَذْكُور ويلهو عَن كل شَيْء سواهُ كَمَا قَالَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ حق على من عرفه أَن يُنكر كل شَيْء سواهُ
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يبلغ أحدكُم ذرْوَة الْإِيمَان حَتَّى يكون(2/145)
النَّاس عِنْده أَمْثَال الاباعر فِي جنب الله تَعَالَى ثمَّ يرجع إِلَى نَفسه فَيكون لَهَا أَحْقَر حاقر
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حبك الشَّيْء يعمي ويصم
فالقلب وَاحِد فَإِذا أحب الدُّنْيَا أعماه وأصمه عَن الْآخِرَة فَإِن الْحبّ حرارة تتوقد فِي الْقلب فَإِذا ولج الْقلب حرارة الشَّهْوَة تعميه وتصمه عَن كل شَيْء سواهُ وَإِذا أحب الْآخِرَة أعماه عَن الدُّنْيَا وأصمه لِأَنَّهُ صَارَت لَهُ الْآخِرَة مُعَاينَة بِالنورِ الْوَارِد على قلبه وهاجت شَهْوَته لَهَا واستجر قلبه وتوقد فأعماه وأصمه عَن كل شَيْء سواهَا وَإِذا أحب مَوْلَاهُ أعماه وأصمه عَن جَمِيع مَا خلق وَعَن كل مَا سواهُ لِأَنَّهُ إِذا توقد نوره فِي قلبه انْكَشَفَ الغطاء عَن جَلَاله وعظمته وجماله وبهائه وكبريائه فأعماه وأصمه عَن كل شَيْء سواهُ وَهَكَذَا ركب فِي طباع الْآدَمِيّين أَن يسموا قلبه إِلَى الأرفع فالأرفع إِذا رأى أهل النَّعيم والزينة يُسَمِّي قلبه أعظمهم قدرا وأوفرهم حظا من ذَلِك وَإِذا عاين الْآخِرَة رق هَذِه فِي جنبها وَإِذا وَقع على قلبه من جلال الله وعظمته رق هَذَا كُله فِي جنب مَا عاين وَيُحب الْآدَمِيّ كلا على قدره وَأهل الْمحبَّة قوم سبقت لَهُم من الله تَعَالَى سَعَادَة زَائِدَة فاضلة على من دونهم من عُمَّال الله تَعَالَى اجتباهم بمشيئته وهداهم بإنابتهم وهم صنفان ذكرهمَا الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم الله يجتبي إِلَيْهِ من يَشَاء وَيهْدِي إِلَيْهِ من ينيب
فَالْأول طَرِيق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام بمشيئته اجتباهم وجذب قُلُوبهم إِلَيْهِ جذبة بمشيئته من غير تردد وتكلف وَطلب وَالثَّانِي طَرِيق الْأَوْلِيَاء المهذبين سَلام الله تَعَالَى عَلَيْهِم أنابوا وَسَارُوا إِلَيْهِ بقلوبهم وأوصلهم(2/146)
إِلَيْهِ فأحبهم وبحبه أوصلهم إِلَى حبه وَقَالَ الله تَعَالَى {أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين}
وَلِهَذَا تفسيران تَفْسِير الْمُقْتَصِدِينَ أهل الاسْتقَامَة وَتَفْسِير الْأَوْلِيَاء أهل الْيَقِين فَأَما أهل الإستقامة فيذل عِنْد حق الْمُؤمن لحقه ويرق لَهُ ويعطف عَلَيْهِ وَيُحب لَهُ مَا يحب لنَفسِهِ ويعز على الْكَافِر بِاللَّه تَعَالَى على باطله فيقهره يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم فَمن حبهم إِيَّاه دق شَأْن الْخلف وذمهم ومدحهم فِي جنبه
وَأما تَفْسِير أهل الْيَقِين {أعزة على الْكَافرين} يذلون عِنْد كل مَشِيئَة لله تَعَالَى فَيظْهر من الْغَيْب من احكامه عَلَيْهِم فينقادون لَهُ تَسْلِيمًا لَهُ بِلَا تلجلج ويعزون على الْبَاطِل فيمتنعون مِنْهُ حَتَّى لَا يَجدوا سَبِيلا وَلَا تَجِد النَّفس إِلَى خدعها طَرِيقا ويعزون على أَهله فَلَا يستقبلهم مضاد إِلَّا انقمع لَهُم وسلس وَلَا يخَافُونَ لومة لائم قد سقط عَن قُلُوبهم خوف سُقُوط الْمنزلَة عِنْد الْخلق وَهَذِه عقبَة عَظِيمَة من جازها فقد ولى الدُّنْيَا وَرَاء ظَهره وَرفع عَن النَّاس بَالا وهما عقبتان كئودتان فطلاب الْآخِرَة أَعرضُوا عَن الدُّنْيَا توليا عَنْهَا وَأَقْبلُوا على الْآخِرَة الا أَنهم بقوا فِي الْعقبَة الثَّانِيَة فهم حرصاء أَن يكون جاههم وقدرهم بَاقِيا عِنْد الْخلق وَأَن لَا يسقطوا من أَعينهم وَهُوَ الشَّهْوَة الْخفية الَّتِي بَكَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم الشّرك والشهوة الْخفية(2/147)
فحب الثَّنَاء وَحب المحمدة هِيَ الشَّهْوَة الْخفية وَهِي من أقوى الْأَشْيَاء فِي الْآدَمِيّ يبْقى ذَلِك فِي الْعمَّال والقراء والزهاد والورعين فهم مِنْهُ فِي جهد وَهَذَا الَّذِي حملهمْ على الاختفاء والهرب من الْخلق وإخفاء الْعَمَل وكتمان الْأَشْيَاء الَّتِي يكرمهم الله تَعَالَى بهَا مَخَافَة التزين والمباهاة فِي الْأَقْوَال فَمن أشْرب حب الله قلبه شربة أسكرته عَن الدَّاريْنِ وَعَن الْخلق فطارت هَذِه المحبات عَنهُ وَزَالَ عَنهُ حب المحمدة وَالثنَاء وَرفع الْمنزلَة عِنْد الْخلق وَذهب باله وَنسي هَذَا كُله وَلَا يبْقى على قلبه إِلَّا عَظمَة الله تَعَالَى وجلاله إِذْ أشرق الصَّدْر بنوره فَامْتَلَأَ من عَظمته وَلَزِمتهُ هيبته وهاجت هوائج الْمحبَّة لَهُ والشوق إِلَيْهِ وَظهر الوله والحنين فِيهِ فَحِينَئِذٍ تَمُوت هَذِه الْأَشْيَاء مِنْهُ وَيحيى قلبه بِهِ وَلَا يخَاف فِي الله لومة لائم فَإِذا ترقى من هَذِه الدرجَة إِلَى الدرجَة الْعُظْمَى فَانْفَرد بوحدانيته وبهت فِي جماله وجلاله واستولت على قلبه هيبته افْتقدَ ذكر هَذَا كُله من نَفسه فَيصير فِي قَبضته مستعمله فِي أُمُوره معتزا بِهِ بِهِ يقوم وَبِه يقْعد وَبِه يتَصَرَّف فِي الْأَحْوَال
وَهَذَا السَّائِل الَّذِي سَأَلَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن السَّاعَة من جُمْلَتهمْ وَلِهَذَا روى أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ فِي آخر الحَدِيث كم من بدوي من رجال الله وخاصته لَا يعرف وَلَا يؤبه بِهِ
وَقَالَ ثَابت الْبنانِيّ رَضِي الله عَنهُ لَا تسخروا من أحد وَلَا تستهزءوا من أحد فَإِن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ حَدثنَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بِالبَقِيعِ فَإِذا هُوَ باعرابي أعمش الْعَينَيْنِ خَمش الذراعين دَقِيق السَّاقَيْن عَلَيْهِ شملتان وَمَعَهُ عكة من سمن يَبِيعهَا فجَاء جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله هَذَا زَاهِر(2/148)
هَذَا يحب الله وَالله يُحِبهُ فَدَنَا مِنْهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا زَاهِر قَالَ لبيْك يَا رَسُول الله قَالَ من يَشْتَرِي مني زاهرا فَقَالَ يَا رَسُول الله إِذا تجدني كاسدا فَقَالَ يَا زَاهِر إِن تكن عِنْد النَّاس كاسدا فانك لست عِنْد الله كاسدا إِذا قدمت الْمَدِينَة فَانْزِل عَليّ وَإِذا أَنا بدوت نزلت عَلَيْك(2/149)
- الأَصْل الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَي النِّسَاء خير
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قيل يَا رَسُول الله أَي النِّسَاء خير قَالَ الَّتِي تسرهُ إِذا نظر وَلَا تعصيه إِذا أَمر وَلَا تخَالفه لما يكره فِي نَفسهَا وَمَالهَا
تسرهُ إِذا نظر لعفتها وجمالها فَإِن الْمَرْأَة إِذا كَانَ لَهَا جمال كَانَ ذَلِك عونا على عفة الرجل وَدينه فَلَا يلحظ إِلَى إمرأة إِلَّا كَانَ فِي غنى عَنْهَا بِمَا عِنْدهَا من جمَالهَا
رُوِيَ أَن جمَاعَة قصدُوا دَار زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام فَإِذا فتاة جميلَة رائعة قد أشرق الْبَيْت لَهَا حسنا قَالُوا من أَنْت قَالَت أَنا امْرَأَة زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام قَالُوا بَينهم كُنَّا نرى نَبِي الله زَكَرِيَّا لَا يُرِيد الدُّنْيَا فَإِذا هُوَ اتخذ امْرَأَة جميلَة رائعة فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي إِنَّمَا تزوجت إمرأة جميلَة رائعة لأكف بهَا بَصرِي وأحفظ بهَا فَرجي(2/150)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل عَائِشَة فِي النِّسَاء كالثريد فِي الطَّعَام فَهَذَا تَمْثِيل مِنْهُ وَذَلِكَ أَن الثَّرِيد مشبع يَجْزِي عَن سَائِر الطَّعَام يَسْتَغْنِي بِهِ صَاحبه عَمَّا سواهُ وَلَا يقوم مقَامه شَيْء من الطَّعَام وَلِأَن الله تَعَالَى قد اخذ على الْأزْوَاج ميثاقهم فِي شَأْن نِسَائِهِم وَأمرهمْ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِنَّ وَالْمَعْرُوف لَهُنَّ قَالَ تَعَالَى {فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان}
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النِّسَاء عنْدكُمْ عوان اخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله فَاتَّقُوا الله فِيهِنَّ أَي فِي حسن عشرتهن وَالْخُرُوج إلَيْهِنَّ من حقوقهن فَمن رزق امْرَأَة على وفَاق نَفسه كَانَ ذَلِك عونا لَهُ على حسن الْعشْرَة وَإِقَامَة الْحُقُوق فَإِن النَّفس إِذا هويت شَيْئا مَالَتْ إِلَيْهِ فَصَارَ أَمرهمَا على اتِّفَاق فَلم يبْق للنَّفس تردد وَلَا تلكؤ فَهَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسرهُ إِذا نظر
وَقَوله وَلَا تعصيه إِذا أَمر فَإِنَّمَا عظم أَمر الْأزْوَاج الَّذِي يلزمهن(2/151)
أَن لَا تخرج من بَيته إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تكلم غير ذِي محرم من الرِّجَال ولاتمنع نَفسهَا فِي حَال حَاجته إِلَيْهَا هويت أَو لم تهو خف ذَلِك عَلَيْهَا أَو ثقل
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تمنع الْمَرْأَة نَفسهَا من الزَّوْج وَإِن كَانَت على رَأس تنور
وَفِي حَدِيث آخر وَإِن كَانَت على قتب أَي فِي حَال وِلَادَتهَا فَإِن القوابل كَانَت يعز وجودهَا فِي تِلْكَ الْبَوَادِي فيحملون نِسَائِهِم على القتب عِنْد ولادها وَقد هيىء القتب بِالْأَرْضِ حَتَّى يتَمَكَّن من الْقعُود عَلَيْهَا فتلد ويقبلون وَلَدهَا من تَحت القتب
وَعَن أبي كَبْشَة رَضِي الله عَنهُ صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا مرت بِنَا امْرَأَة فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدخل منزله ثمَّ خرج إِلَيْنَا قد اغْتسل فَقُلْنَا نرى أَن قد كَانَ شَيْء يَا رَسُول الله قَالَ مرت بِي فُلَانَة فَوَقَعت فِي نَفسِي شَهْوَة النِّسَاء فَقُمْت إِلَى بعض أَهلِي فَوضعت شهوتي فِيهَا وَكَذَلِكَ فافعلوا فانه من أماثل أَعمالكُم(2/152)
وَقَوله وَلَا تخَالفه لما يكره فِي نَفسهَا وَمَالهَا هُوَ أَن تساعده على أُمُوره مَا لم يكن فِيهَا مَعْصِيّة فَإِن حسن الصُّحْبَة فِي المساعدة وَحسن الْعشْرَة ترك هَواهَا لهواه
روى أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رجلا انْطلق غازيا فأوصى امْرَأَته أَن لَا تنزل من فَوق الْبَيْت وَكَانَ والدها فِي أَسْفَل الْبَيْت فاشتكى أَبوهَا فَأرْسلت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تخبره وتستأمره فَأرْسل إِلَيْهَا اتَّقِ الله وأطيعي زَوجك ثمَّ إِن والدها توفّي فارسلت إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تستأمره فَأرْسل إِلَيْهَا مثل ذَلِك وَخرج رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأرْسل إِلَيْهَا أَن الله قد غفر لَك بطواعيتك لزوجك
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدُّنْيَا مَتَاع وَخير متاعها الْمَرْأَة الصَّالِحَة وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير مَا أعطي العَبْد من الدُّنْيَا زَوْجَة مُؤمنَة تعينه على إيمَانه
وَقَالَ لُقْمَان عَلَيْهِ السَّلَام مثل الْمَرْأَة الصَّالِحَة مثل التَّاج على رَأس الْملك وَمثل الْمَرْأَة السوء كَمثل الْحمل الثقيل على ظهر الشَّيْخ الْكَبِير(2/153)
- الأَصْل الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي المعمرين فِي الْإِسْلَام
عَن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول قَالَ الله عز وَجل إِذا بلغ عَبدِي أَرْبَعِينَ سنة عافيته من البلايا الثَّلَاث من الْجُنُون والبرص والجذام فَإِذا بلغ خمسين سنة حاسبته حسابا يَسِيرا وَإِذا بلغ سِتِّينَ سنة حببت إِلَيْهِ الْإِنَابَة وَإِذا بلغ سبعين سنة أحبته الْمَلَائِكَة وَإِذا بلغ ثَمَانِينَ سنة كتبت حَسَنَاته وألقيت سيئاته وَإِذا بلغ تسعين سنة قَالَت الْمَلَائِكَة أَسِير الله فِي أرضه فغفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر وشفع فِي أَهله
يرْوى هَذَا الحَدِيث بروايات أخر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ فِيهَا حِكَايَة عَن الله تَعَالَى
وَفِي رِوَايَة أنس رَضِي الله عَنهُ مَا من معمر يعمر فِي الْإِسْلَام أَرْبَعِينَ سنة إِلَّا صرف الله تَعَالَى عَنهُ ثَلَاثَة أَنْوَاع من الْبلَاء وَقَالَ فِي الْخمسين لين الله حسابه
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ الْمَوْلُود قبل أَن يبلغ الْحِنْث مَا يعْمل من حسنه كتبت لوَالِديهِ وَإِن عمل سَيِّئَة لم تكْتب عَلَيْهِ وَلَا على وَالِديهِ فاذا بلغ الْحِنْث وَجرى عَلَيْهِ الْقَلَم(2/154)
أَمر الْملكَانِ اللَّذَان مَعَه أَن يحفظا ويسددا فَإِذا بلغ أَرْبَعِينَ سنة وسرد الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ بعد التسعين فَإِذا بلغ أرذل الْعُمر لكيلا يعلم بعد علم شَيْئا كتب الله لَهُ بِمثل مَا كَانَ يعْمل فِي صِحَّته من الْخَيْر وَإِن عمل سَيِّئَة لم تكْتب عَلَيْهِ
وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ فَإِذا بلغ مائَة سنة سمي حبيس الله فِي الأَرْض حق على الله أَن لَا يعذب حبيسه فِي الأَرْض هَذَا الحَدِيث يخبر عَن حُرْمَة الْإِسْلَام وَمَا يُوجب الله تَعَالَى لمن قطع عمره مُسلما من الكرامات وَمَا يقْصد فِي ذَلِك بَيَان الْأَعْمَال والدرجات واكتساب الطَّاعَات فَذَاك ثَوَابه على قدر مَا سعى واكتسب وَمثل هَذَا مَوْجُود فِي حق الْخلق ترى الرجل يَشْتَرِي عبدا فَإِذا أَتَت عَلَيْهِ سِتُّونَ يُقَال عتق عندنَا وطالت صحبته مَعنا فترتفع عَنهُ بعض العبودة ويخفف عَلَيْهِ فِي الضريبة فَإِذا زَادَت مُدَّة صحبته زيدت رفقا وعطفا وَإِذا وجد مِنْهُ تَخْلِيط وإساءة عمل فلطول صحبته لَا يمْنَع رفده ورفقه لإساءته فَإِذا شاخ وَكبر اعتقه احتشاما من بَيْعه والإساءة إِلَيْهِ
وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى يستحي من عَبده وَأمته أَن يشيبا فِي الْإِسْلَام فيعذبهما(2/155)
فَفِي بُلُوغ الْعُمر أَرْبَعِينَ سنة استكمال الشَّبَاب واستجماع الْقُوَّة وَهُوَ عمر تَامّ وَلَا يزَال بعده فِي نُقْصَان وإدبار فَإِذا عَاشَ فِي الْإِسْلَام عمرا تَاما وَجب لَهُ من الْحُرْمَة مَا يدْفع عَنهُ الْآفَات الثَّلَاث الَّتِي لَا تقبل الدَّوَاء مِنْهُ من الدَّاء العضال وَوُجُود الْعَدو إِلَيْهِ سَبِيلا فِي أَخذ قلبه فَإِذا بلغ خمسين سنة وَهُوَ نصف الْمِائَة الَّتِي هِيَ أرذل الْعُمر الَّذِي يرفع عَنهُ الْحساب فَهُوَ على النّصْف من ذَلِك فَخفف عَنهُ حسابه ولين وحوسب حسابا يَسِيرا وخفة الْحساب فِي الدُّنْيَا أَن لَا يؤاخذه فِيهَا وَلَا ينْزع مِنْهُ الْبركَة وَلَا يحرمه ألطافه وَلَا يقصيه وَلَا يَخْذُلهُ وَمن قبل الْخمسين لم يسْتَوْجب هَذِه الْحُرْمَة فَإِذا بلغ سِتِّينَ سنة وَهُوَ عمر التَّذَكُّر والتوقف قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نُودي أَبنَاء السِّتين {أولم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر}
فَإِذا عمر سِتِّينَ سنة فقد جَاءَ أَوَان التَّذَكُّر لِأَن الْأَرْبَعين مُنْتَهى استتمام الْقُوَّة فَإِذا جَاوز إِلَى سِتِّينَ فقد أَتَى عَلَيْهِ عشرُون سنة فِي النُّقْصَان وَهُوَ نصف الْأَرْبَعين الَّذِي هُوَ مُنْتَهى الْقُوَّة فقد افْتقدَ من نَفسه نصف الْقُوَّة فَلذَلِك صَار حجَّة عَلَيْهِ فَأوجب لَهُ حُرْمَة بِأَن رزقه الْإِنَابَة إِلَيْهِ فِيمَا يحب وَهُوَ التَّذَكُّر فَإِنَّهُ إِذا تذكر رزقه الْإِنَابَة إِلَيْهِ فِي الطَّاعَات وَلم يَخْذُلهُ حَتَّى يصير عمره وبالا وَحجَّة عَلَيْهِ فيعير بِهِ كَمَا يعير أهل النَّار قَالَ الله تَعَالَى أولم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر وَجَاءَكُم النذير فَذُوقُوا فَمَا للظالمين من نصير
وَإِذا بلغ سبعين سنة فقد عمر حقبا من الدَّهْر وَهُوَ سَبْعُونَ سنة وَهُوَ غَايَة وَقد يَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي الطول وَهُوَ مُنْتَهى أَعمار هَذِه الْأمة(2/156)
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقل أمتِي أَبنَاء السّبْعين وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معترك المنايا مَا بَين السِّتين إِلَى السّبْعين
فَإِذا عمر فِي الْإِسْلَام سبعين سنة قَالَ هَذَا عبد قد كَانَ فِي عبودة مَوْلَاهُ حقبا لم يأبق مِنْهُ وَلم يتول حَتَّى مَاتَ فِي عبودته وَذهب شبابه وقوته فِي طَاعَته فَأوجب لَهُ محبته وأحبه أهل السَّمَاء فَإِنَّهُ يشهر حبه فيهم وَتَحْقِيق مَا ذكرنَا مَا روى وهب قَالَ مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة أَبنَاء الْأَرْبَعين زرع قد دنا حَصَاده ابناء الْخمسين هلموا إِلَى الْحساب لَا عذر لكم أَبنَاء السِّتين مَاذَا قدمتم وماذا أخرتم أَبنَاء السّبْعين مَاذَا تنتظرون أَلا لَيْت الْخلق لم يخلقوا فَإِذا خلقُوا علمُوا لماذا خلقُوا أَلا أتتكم السَّاعَة فَخُذُوا حذركُمْ
فَإِذا بلغ ثَمَانِينَ سنة قبلت حَسَنَاته وَتجَاوز الله تَعَالَى عَن سيئاته فَإِنَّهُ عمر ضعف الْعُمر فَإِن الْعُمر التَّام أَرْبَعُونَ ثمَّ عمر أَرْبَعِينَ أخر فِي نُقْصَان وإدبار فِي الْإِسْلَام فاستوجب أَن قبلت حَسَنَاته وَتجَاوز عَن سيئاته فَإِن الله تَعَالَى قَالَ فِي الاسْتقَامَة حَتَّى إِذا بلغ أشده وَبلغ أَرْبَعِينَ سنة قَالَ رب أوزعني إِلَى آخر الْآيَة وَقَالَ الله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين نتقبل عَنْهُم أحسن مَا عمِلُوا} إِلَى قَوْله {يوعدون} فَهَذَا لمن بلغ أَرْبَعِينَ سنة فِي الاسْتقَامَة(2/157)
فَإِذا كَانَ مخلطا فعمر فِي الْإِسْلَام ضعف أَرْبَعِينَ أوجب لَهُ بِحرْمَة ذَلِك الْعُمر مَا يُوجب للمستقيم فِي وَقت الْأَرْبَعين
روى أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا بلغ الرجل من أمتِي ثَمَانِينَ سنة حرم الله جلده على النَّار وَإِذا بلغ تسعين سنة فقد أفند وفقد عقله وَكَانَ الْعقل حجَّة الله عَلَيْهِ فغفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه بِقطع هَذَا الْعُمر مُسلما وَمَا تَأَخّر بفقد عقله لِأَنَّهُ فِي أول مَا اجتباه ألْقى فِي قلبه نور الْمعرفَة فسبى قلبه عَلَيْهِ فَمَا زَالَ يستغله فيغل غَلَّته وَيُؤَدِّي خراجه حَتَّى إِذا شاخ وَكبر وَعجز عَن الْعلَّة وَذَهَبت الْقُوَّة وفقد الْعقل رفع عَنهُ الضريبة وَالْخَرَاج وتبعة الذَّنب فِيمَا بَقِي وَسمي أَسِير الله فِي الأَرْض لِأَنَّهُ فِي ربقة الايمان كأسير فِي وثاق لَا يقدر براحا قد عجز عَن أَعمال الْبر وَهُوَ فِي ربقة الاسلام فَإِذا بلغ مائَة سنة فقد رد إِلَى أرذل الْعُمر فَصَارَ كَالصَّبِيِّ فَبلغ من حرمته أَن يجْرِي لَهُ حَسَنَاته وَلم يكْتب عَلَيْهِ سيئاته لِأَنَّهُ قد بلي فَوجدَ صَادِقا فِي التَّوْحِيد لم يتَرَدَّد فِيهِ ودام عَلَيْهِ ناشئا فتيا وشابا طريا وكهلا سويا وبجالا بهيا وشيخا رَضِيا فَلَمَّا صَار إِلَى أرذل عمره عَاد إِلَى أَحْكَامه طفْلا وصبيا فَأجرى لَهُ مَا كَانَ يعْمل من الْحَسَنَات فِي سالف أَيَّامه وَرفع عَنهُ سيىء مَا يَجِيء مِنْهُ
قَالَ الله تَعَالَى {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين} ثمَّ اسْتثْنى فَقَالَ إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَلهم أجر غير ممنون أَي غير مَقْطُوع
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير ممنون مَا يكْتب لَهُم صَاحب الْيَمين فَإِن عمل خيرا كتب صَاحب الْيَمين وَإِن ضعف عَن ذَلِك كتب لَهُ صَاحب الْيَمين وَأمْسك صَاحب الشمَال فَلم يكْتب سَيِّئَة(2/158)
- الأَصْل الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي فضل ذَاكر الله فِي أهل الْغَفْلَة
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من دخل سوقا من أسواق الْمُسلمين فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيي وَيُمِيت وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوت بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ على كل شَيْء قدير كتب الله لَهُ ألف ألف حَسَنَة وحطت عَنهُ ألف ألف خَطِيئَة وَرفعت لَهُ ألف ألف دَرَجَة
هَذِه كَلِمَات يخرج بهَا العَبْد من حَال الْغَفْلَة وَإِنَّمَا خص بهَا الْأَسْوَاق لِأَن الْغَفْلَة مستولية على أَهلهَا وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى هُوَ الْمُعْطِي وَالْمَانِع والقابض والباسط والرازق بِيَدِهِ خَزَائِن الْأَشْيَاء ومفاتيح الْغَيْب فَمن قدر على شَيْء فبقدرته إِيَّاه قدر وَوضع الْأَشْيَاء فِي الْأَسْبَاب وَجعل الْأَسْبَاب من أَبْوَاب المكاسب ووجوه الأرزاق نصب أعين الْآدَمِيّين(2/159)
فَأهل الْيَقِين بِنور بصائرهم نفذوا من الْأَسْبَاب إِلَى وَليهَا بِحَيْثُ لَا تقدر الْأَسْبَاب أَن تصير فتْنَة عَلَيْهِم فهم يعْملُونَ فِي الْأَسْبَاب مَعَ وَليهَا يزرعون وينتظرون رحمتن فَإِذا أزكى قَالُوا هَذَا من فضلك ورحمتك ويتجرون يَبْتَغُونَ الأرباح من فضل الله تَعَالَى فَإِذا تعذر عَلَيْهِم شَيْء سَأَلُوهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وابتغوا من فضل الله} واسألوا الله من فَضله
وَأهل الْغَفْلَة تعلّقت قُلُوبهم بالزراعات والحرف والتجارات وَمَا وضع لَهُم فِيهِ من التدبيرات فاليه ينظرُونَ وإياه يطْلبُونَ وَبِه يفتنون وَمن أَجله يعصون فالأسواق مَعْدن النوال ومظان الأرزاق وَهِي مملكة وَضعهَا الله تَعَالَى لأهل الدُّنْيَا يتداولون ملك الْأَشْيَاء فِيمَا بَينهم فترى الشَّيْء الْوَاحِد يَدُور ملكه فِي الْيَوْم الْوَاحِد على أَيدي المالكين مَرَّات وَالتَّدْبِير على المملكة الْأَعْلَى وَهِي الْعَرْش فملكة التداول فِي الْأَسْوَاق ومملكة تَدْبِير التداول هِيَ الْعَرْش والسوق رَحْمَة من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ دبره معاشا لخلقه يدر عَلَيْهِم مِنْهَا حوائجهم لَيْلًا وَنَهَارًا وشتاء وصيفا ونقلا من بلد إِلَى بلد لتَكون الْأَشْيَاء كلهَا مَوْجُودَة فِي الْأَيْدِي عِنْد الْحَاجة إِلَيْهَا قَالَ تَعَالَى وَقدر فِيهَا أقواتها
وَجعل الذَّهَب وَالْفِضَّة أَثمَان كل شَيْء وَمَا سواهَا عرضا وَصرف أَرْزَاقهم إِلَى مثل هَذِه الأرباح وَصرف بِوُجُوهِهِمْ للطلب إِلَى مطَالب الْكسْب لتَكون الْأَسْوَاق قَائِمَة وَالتَّدْبِير جَارِيا والمعاش نظاما وَجعل الْحَرْف والصنائع بَعْضهَا مُتَعَلقَة بِالْبَعْضِ ينْتَفع هَذَا بصنعة ذَاك وَذَاكَ بصنعة هَذَا وَلَو لم يكن هَكَذَا لَكَانَ الْوَاحِد يحْتَاج إِلَى آلَة جَمِيع الْحَرْف وَإِلَى تعلم كل حِرْفَة فِي الأَرْض فيصيرون عجزة وأسواقهم(2/160)
بصنوف مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مشحونة ثمَّ صيرهم يَبْتَغُونَ من فضل الله تَعَالَى فِي هَذِه الْأَشْيَاء بتغيير الأسعار فَإِن الله تَعَالَى هُوَ المسعر وَهُوَ الْقَابِض والباسط فبتغيير الأسعار يتناولون الأرباح ويدر عَلَيْهِم الشَّيْء بعد الشَّيْء وَيكون ذَلِك معاشا لَهُم تفضل الله تَعَالَى عَلَيْهِم بِهِ فَأهل الْغَفْلَة صيروا هَذِه الرَّحْمَة وبالا على أنفسهم بتعلق قُلُوبهم بالأسباب وغفلتهم عَن الْمُدبر لَهَا والسائق أَرْزَاقهم إِلَيْهِم من فَضله فالناطق بِهَذِهِ الْكَلِمَات بَين أُولَئِكَ الْغَفْلَة فِي هَذَا الْحَظ من ربه فتكتب لَهُ الْحَسَنَات وتمحى عَنهُ السَّيِّئَات وترفع لَهُ الدَّرَجَات
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَاكر الله فِي الغافلين كالشجرة الخضراء فِي السّنة الْحَمْرَاء
وَهَذَا لِأَن الْعَدو قد انتهز الفرصة من أهل الْأَسْوَاق لما رأى من أَحْوَالهم من حرصهم وشحهم ورغبتهم فِي الدُّنْيَا وصيرها عدَّة وسلاحا لفتنته فَدَخَلُوا أسواقهم وهم طالبون للمعاش وَالرَّغْبَة فيهم حَاصِلَة والحرص كامن فنصب كرسيه فِي وسط أسواقهم وركز رايته وَبث جُنُوده وَقَالَ دونكم من رجال مَاتَ أبوهم وأبوكم حَيّ فَمن بَين مطفف فِي كيل وطائش فِي ميزَان ومنفق سلْعَة بِالْحلف الْكَاذِب وَحمل عَلَيْهِم بجُنُوده حَملَة فَهَزَمَهُمْ عَن مقاومهم إِلَى المكاسب الرَّديئَة وإضاعة الصَّلَوَات وَمنع الْحُقُوق فَمَا داموا فِي هَذِه الْغَفْلَة على مثل هَذِه الْأَحْوَال فهم على خطر من رَبهم من نزُول الْعَذَاب وَتغَير الْأُمُور وَكَون الْأَحْدَاث فالذاكر فِيمَا بَينهم يرد سخط الله تَعَالَى ويطفىء ثَائِر غَضَبه لِأَن فِي كَلِمَاته هَذِه نسخا لتِلْك الْأَعْمَال قَالَ تَعَالَى وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض
فَيدْفَع عَن أهل الْغَفْلَة بالذاكرين وَعَن غير الْمُصَلِّي بالمصلين وَفِي(2/161)
هَذِه الْكَلِمَات الَّتِي ذكرهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نسخ لأفعال أهل السُّوق لِأَن قُلُوبهم قد وَله بَعْضهَا إِلَى بعض فِي النَّفْع والضر فَإِذا قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله كَانَ نسخا لوله قُلُوبهم وَإِذا قَالَ وَحده لَا شريك لَهُ يكون نسخا لما تعلّقت قُلُوبهم بَعْضهَا بِبَعْض فِي نوال أَو مَعْرُوف أَو رَجَاء نفع أَو خوف ضرّ وَقَوله لَهُ الْملك وَله الْحَمد نسخ لما يرَوْنَ من صنع أَيْديهم وتصرفهم فِي الْأُمُور بتحمل بَعضهم بذلك إِلَى بعض وَقَوله يحيي وَيُمِيت نسخ لحركاتهم وَمَا يرجون فِي أسواقهم للتبايع أحياهم حَتَّى انتشرت الحركات ويميتهم فَلَا يبْقى متحرك وَقَوله وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوت نفى عَنهُ مَا ينْسب إِلَى المخلوقين من الْمَوْت وَقَوله بِيَدِهِ الْخَيْر أَي هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي تطلبونها من الْخَيْر فِي الْأَسْوَاق وَهُوَ على كل شَيْء قدير
وَمثل أهل التَّخْلِيط والغفلة فِي الْأَسْوَاق كَمثل الذبان والهمج يجتمعن على مزبلة يتطايرن فِيهَا على ألوان القاذورات فيقعن على ضروب مَا هُنَاكَ فَعمد رجل إِلَى مكنسة ذَات شعوب وَقُوَّة فكنس هَذِه المزبلة فجرفها فِي الْوَادي فَإِذا الْبقْعَة نظيفة وصاحبها معجب بهَا فالناطق بِهَذِهِ الْكَلِمَات وجد أسواقا مشحونة بِالْكَذِبِ وَالْفُحْش والخيانة وَالظُّلم والعدوان والأيمان الكاذبة والمكاسب الرَّديئَة قد هَزَمَهُمْ الْعَدو وهم على شرف حريق ونزول عَذَاب فَنَطَقَ بِهَذِهِ الْكَلِمَات وَرمى بالمزابل فِي وَجه الْعَدو وطهر الْأَسْوَاق مِنْهُم وأطفأ نائره سخط الله تَعَالَى وَستر مساوىء أهل السُّوق وَنفى ظلمتهم وطهر أرجاسهم فاستوجب من الله تَعَالَى من الثَّوَاب مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/162)
- الأَصْل الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الموحد وَالصديق فِي النَّاس قَلِيل
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَجِدُونَ النَّاس كَالْإِبِلِ الْمِائَة لَيْسَ فِيهَا رَاحِلَة أوليس فِيهَا إِلَّا رَاحِلَة
فالراحلة هِيَ الَّتِي قد ريضت وأدبت فسمحت بِالطَّاعَةِ وَتركت شرتها وسارت بزمامها وذلت لصَاحِبهَا وأعطت سَيرهَا وجادت بِنَفسِهَا وأعطت من نَفسهَا السّير فِي وَجههَا فَمَا زَالَ ذَلِك عَادَتهَا فِي الرجل ودأبها فِي الانقياد وصاحبها يرعاها ويلي تأديبها ويتفقد أحوالها حَتَّى تمكنت عِنْده منزلَة وحظا حَتَّى صيرها نجيبة من نجائبه وكريمة من كرائم إبِله سَمْحَة لَا تحرن وكريمة لَا تجمح وجريئة لَا تنفر ووادعة لَا تشمس وساكنة لَا تضطرب إِذا حملت حملت(2/163)
وَإِذا سَارَتْ استمرت وَإِذا حركت أَعْنَقت فصاحبها بأحوالها معجب وَبهَا ضنين لَا يملكهُ أحدا وَلَا يُطلق لغيره عَلَيْهِ يدا حَتَّى يتَحَمَّل أثقال صَاحبه فَيكون من نجائبه فَكَانَت كإحدى الْإِبِل الْمِائَة سَائِمَة ترعي فِي مظانها وَتذهب فِي مهواها يَمِينا وَشمَالًا لَا ينْتَفع بهَا برسل وَلَا حمولة فالواحد مِنْهَا ركُوبه وسائرها للْأَكْل قَالَ الله تَعَالَى وذللناها لَهُم فَمِنْهَا ركوبهم وَمِنْهَا يَأْكُلُون فَالَّذِي ذلل للرُّكُوب صَارَت رَاحِلَة وسائرها لحم
فَكَذَلِك النَّاس انتشروا على بسيط الأَرْض فربتهم نعم الْخَالِق وأظلتهم سحائب رَحمته واكتنفتهم رأفته وتولتهم نعْمَته ومنته فَإِذا ألجمت أحدهم بلجام الْحق أَو زممته بزمام الصَّبْر هز رَأسه ولوى عُنُقه فَرمى باللجام وجاذب بالزمام فَمر شاردا وَرمى بحمولته فَمن الْمِائَة لَا تَجِد فِيهَا رَاحِلَة وَاحِدَة عز أَن تَجِد نفسا سَمْحَة سخية منقادة مطيعة لِرَبِّهَا قد أَلْقَت بِيَدِهَا سلما وانخشعت لِعَظَمَة رَبهَا ووطنت نَفسهَا على العبودة فَلَا يزَال فِي عطف الله تَعَالَى وَرَحمته وتأييده ونصرته حَتَّى يصير ذَا حَظّ من ربه فبحظه مِنْهُ تنجب وتزكو نَفسه وتطيب أخلاقه وينشرح صَدره وتلين عروقه ويرطب قلبه ويألف ربه فَإِن رَحْله انْقَادَ وَإِن سيره سَار وَإِن عطفه انعطف وَإِن كبح بِهِ وقف وَإِن بَعثه انْبَعَثَ وَإِن حركه هملج أَو جمز وَإِن أوقره اسْتمرّ وان أنصبه احْتمل وَإِن خلى زمامه تفويضا إِلَيْهِ استقام فَهُوَ لرَبه أليف وربه بِهِ ضنين(2/164)
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الله أضن بِدَم عَبده الْمُؤمن من أحدكُم بكريمة مَاله حَتَّى يقبضهُ على فرَاشه
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن لله تَعَالَى عبادا يضن بهم عَن الْأَمْرَاض والأسقام يحييهم فِي عَافِيَة ويميتهم فِي عَافِيَة ويدخلهم الْجنَّة فِي عَافِيَة
فالراحلة فِي الْإِبِل قَليلَة والنجيبة فِي الرَّوَاحِل قَليلَة فالموحدون فِي النَّاس قَلِيل والمستقيمون بلجام الله فِي سيرهم قَلِيل فِي الْمُوَحِّدين وَالصِّدِّيقُونَ فِي المستقيمين قَلِيل قَالَ الله تَعَالَى وَقَلِيل من عبَادي الشكُور
فالسابقون أهل الشُّكْر وَالْوَفَاء والمؤيدون بالمن وَالعطَاء والممتلئة قُلُوبهم من الْجلَال والبهاء وَالْعَظَمَة الآلاء
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طُوبَى للسابقين إِلَى ظلّ الله تَعَالَى قيل وَمن هم يَا رَسُول الله قَالَ الَّذين إِذا أعْطوا الْحق قبلوه وَإِذا سئلوا بذلوه وَالَّذين يحكمون للنَّاس بحكمهم لأَنْفُسِهِمْ
وَهَذِه صفة أهل القناعة فَإِنَّهُم استغنوا بِاللَّه تَعَالَى حَتَّى قنعوا بِمَا أعْطوا وَللَّه انقادوا وألقوا بِأَيْدِيهِم حَتَّى بذلوا الْحق إِذْ سئلوا وَإِلَى الله تَعَالَى أَقبلُوا حَتَّى عدل قُلُوبهم فصاروا أمناءه وحكامه فِي أرضه يحكمون للنَّاس بحكمهم لأَنْفُسِهِمْ قَالَ تَعَالَى فلنحيينه حَيَاة طيبَة ولنجزينهم أجرهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ
وَفِي مُنَاجَاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَا رب كَيفَ أصل رحمي وَقد تباعدوا عني فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا قَالَ يَا مُوسَى أحب(2/165)
لَهُم مَا تحب لنَفسك وَلَا يُقَوي على ذَلِك إِلَّا عبد سقط عَن قلبه منزلَة نَفسه ومنزل دُنْيَاهُ وَلها عَنْهُمَا وشغف بمولاه فنبه من رقدة الغافلين فانتبه وأشرق فِي صَدره النُّور فَوقف بِقَلْبِه على جلال الله تَعَالَى وعظمته وعَلى جماله وبهائه وعَلى كبريائه وسلطانه فَصَارَت دُنْيَاهُ عِنْده أقل من جنَاح بعوضة وَصَارَت نَفسه عِنْده قَبْضَة من تُرَاب وَردت على قلبه من محبَّة الله تَعَالَى والحلاوة الَّتِي وجد لَهَا مَا أسكرته وألهته عَن محبَّة نَفسه ودنياه وَمَا يُؤمن بهَا إِلَّا كل مُؤمن قد إمتحن الله قلبه للْإيمَان وَقَلِيل مَا هم
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (الله تَعَالَى يَا جبرئيل انسخ من قلب عَبدِي الْمُؤمن الْحَلَاوَة الَّتِي كَانَ يجدهَا لي) قَالَ فَيصير العَبْد الْمُؤمن والها طَالبا للَّذي كَانَ تعاهد من نَفسه وَنزلت بِهِ مُصِيبَة لم ينزل بِهِ مثلهَا قطّ فَإِذا نظر الله تَعَالَى إِلَيْهِ على تِلْكَ الْحَال قَالَ يَا جبرئيل (رد إِلَى قلب عَبدِي مَا نسخت مِنْهُ فقد إبتليته فَوَجَدته صَادِقا وسأمده من قبلي بِزِيَادَة)
فَهَذِهِ حلاوة الْمحبَّة من نالها فقد غلب على عقله وَصَارَت جَمِيع الْأَشْيَاء خولا لَهَا كمن وجد درهما فَأَحبهُ على قدره ثمَّ وجد دِينَارا فَأَحبهُ على قدره ثمَّ وجد جوهرا لَا يدْرِي مَا قِيمَته قد رق فِي عينه الدِّرْهَم وَالدِّينَار لاستغنائه بِهِ وانتفاعه بذلك أَكثر من الِاسْتِغْنَاء وَالِانْتِفَاع بهما وَإِذا فتح الله قلب الْمُؤمن وَنور صَدره وعرفه من صِفَاته مَا جَهله قبل ذَلِك علم أَن الْخَيْر كُله بيد الله تَعَالَى والنفع مِنْهُ كَانَ غناهُ بِاللَّه تَعَالَى أَكثر ورجاؤه مِنْهُ أعظم من الدِّينَار وَالدِّرْهَم فَإِن أحبه حبا يلهيه عَن حب الدِّرْهَم وَالدِّينَار فَلَيْسَ بعجيب بل هُوَ(2/166)
المتمكن فِي الْعُقُول فَإِن من لَهُ بَيت مَمْلُوء من دَنَانِير فَلَو سقط مِنْهُ عشرَة مثلا لم يجد على قلبه حزنا عَلَيْهَا وَلَو أهدي إِلَيْهِ هَذَا الْقدر لم يفرح بهَا لاستغنائه بِتِلْكَ الدَّنَانِير فَإِذا كَانَت هَذِه الدَّنَانِير قد أغنته وفرحته فَرحا لَا يجده لحُصُول هَذِه الدَّرَاهِم القليلة فَرحا وَلَا لفواتها حزنا فَمَا ظَنك بِمن عرف الله تَعَالَى فِي جَلَاله وعظمته وَملكه وَعرف إحسانه إِلَيْهِ أَلا يكون غناهُ بِهِ وفرحه فَرحا لَا يجد لشَيْء من عرُوض دُنْيَاهُ فَرحا وَلَا يجد على فَوَاتهَا حزنا
روى أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحن جُلُوس عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يطلع عَلَيْكُم الْآن رجل من أهل الْجنَّة فَأطلع رجل من الْأَنْصَار تنطف لحيته من مَاء وضوئِهِ مُعَلّق نَعله فِي يَده الشمَال فَلَمَّا كَانَ من الْغَد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطلع عَلَيْكُم الْآن رجل من أهل الْجنَّة فَأطلع ذَلِك الرجل على مثل مرتبَة الأولى فَلَمَّا كَانَ من الْغَد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل ذَلِك فَأطلع الرجل فَلَمَّا قَامَ اتبعهُ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ إِنِّي لاحيت لأبي فأقسمت أَن لَا أَدخل عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِن رَأَيْت أَن تؤويني إِلَيْك حَتَّى يحل يَمِيني فعلت قَالَ نعم فَإِذا لَهُ خيمة ونخل وشَاة فَلَمَّا أَمْسَى خرج من خيمته فاحتلب العنز واجتنى لي رطبَة ثمَّ وَضعه فَأكلت فَبَاتَ نَائِما وَبت قَائِما وَأصْبح مُفطرا وأصبحت صَائِما فَفعل ذَلِك ثَلَاث لَيَال غير أَنه كَانَ إِذا انْقَلب على فرَاشه ذكر الله تَعَالَى وَكبر حَتَّى يقوم لصَلَاة الْفجْر فيسبغ الْوضُوء غير أَنِّي لَا أسمعهُ يَقُول إِلَّا خيرا فَلَمَّا مَضَت اللَّيَالِي وكدت أحتقر عمله قلت يَا عبد الله إِنَّه لم يكن بيني وَبَين وَالِدي غضب وَلَا هِجْرَة وَلَكِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَك ثَلَاث مَرَّات فِي ثَلَاث مجَالِس(2/167)
يطلع عَلَيْكُم الْآن رجل من أهل الْجنَّة فطلعت أَنْت تِلْكَ المرات الثَّلَاث فَأَرَدْت أَن آوي إِلَيْك فَأنْظر مَا عَمَلك فَأَخْبرنِي مَا عَمَلك قَالَ فأت الَّذِي أخْبرك حَتَّى يُخْبِرك بعملي فَأتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ائته فمره فليخبرك فَقلت إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرك أَن تُخبرنِي قَالَ أما الْآن فَنعم لَو كَانَت الدُّنْيَا لي فَأخذت مني لم أَحْزَن عَلَيْهَا وَلَو أعطيتهَا لم أفرح بهَا وأبيت وَلَيْسَ على أحد فِي قلبِي غل وَلَا أحسده على خير أعطَاهُ الله إِيَّاه
قَالَ عبد الله لكني وَالله أقوم اللَّيْل وَأَصُوم النَّهَار وَلَو وهبت لي شَاة لفرحت بهَا وَلَو ذهبت لحزنت عَلَيْهَا وَالله لقد فضلك الله علينا فضلا بَينا وجماع الْأَمر فِي هَاتين الخصلتين سُقُوط منزلَة دنياك من قبلك وَسُقُوط منزلَة نَفسك عَن قَلْبك فَإِذا لم يكن لدنياك عنْدك قدر لم تفرح بِهِ وَلم تحزن عَلَيْهِ وَإِذا لم يكن لنَفسك عنْدك قدر لم تغل وَلم تحقد على من آذَاك
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين سُئِلَ أَي الْمُؤمنِينَ أفضل قَالَ مخموم الْقلب صَدُوق اللِّسَان قَالُوا يَا رَسُول الله مَا مخموم الْقلب قَالَ التقي النقي لَا إِثْم فِيهِ وَلَا بغي وَلَا غل وَلَا حسد قَالُوا مَا نَعْرِف هَذَا فِينَا يَا رَسُول الله فَمن يَلِيهِ قَالَ الَّذين شنئوا الدُّنْيَا وأحبوا الْآخِرَة قَالُوا مَا نَعْرِف هَذَا فِينَا إِلَّا رَافع مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن يَلِيهِ قَالَ مُؤمن فِي خلق حسن
فالمخموم مُؤمن ولج النُّور قلبه فَأخْرج مَا فِيهِ من شَهْوَة النَّفس والخمامة قماش الْبَيْت وَمَا يكنس عَن وَجه الأَرْض فعز وجود هَذَا فِي وقتهم على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأبى الله أَن يكون ذَاك إِلَّا فِي خَاص من النَّاس قَلِيل فِي كل وَقت قَالَ تَعَالَى فِي التَّنْزِيل فِي(2/168)
بَيَان المقربين السَّابِقين ثلة من الْأَوَّلين وَقَلِيل من الآخرين
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل قرن من أمتِي السَّابِقُونَ
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس كَالْإِبِلِ الْمِائَة تَمْثِيل لِأَن الْإِبِل الْمِائَة هِيَ سَائِمَة ترعى مرعاها بهواها لَيْسَ على ظُهُورهَا حمولة وَلَا فِي أنفها أزمة ولاخطم فَهِيَ فِي استبدادها تعْمل مَا هويت فَإِن لم يكن لَهَا رَاع فكم من متردية فِي جرف هار وَكم من فريسة بَين أَنْيَاب السبَاع وَكم من آكِلَة دفلى تَمُوت آكلته وَآخر تَمُوت عطشا وَآخر تَمُوت جربا فالراعي يرعاهم المرعى ويجنبهم الدفلى ويذود عَنْهُم السبَاع ويعدل بهم عَن الجرف ويوردهم الْمِيَاه العذبة وَكَذَلِكَ النَّاس هم بِهَذِهِ الصّفة فالراحلة هُوَ الَّذِي رَحل نَفسه وراضها وجنبها سموم الدُّنْيَا وآفاتها وَقوم أخلاقها حَتَّى استقامت لله تَعَالَى فَصَارَت رَاحِلَة تركبها حُقُوق الله تَعَالَى فتنقاد لَهَا وَتحمل أثقال الْحُقُوق فتسير بهَا إِلَى الله تَعَالَى فَإِذا رَحل نَفسه وارتحل إِلَى الله تَعَالَى ثمَّ صَار رَاعيا يرْعَى عباده فيصلح للرعاية يجنبهم الْآفَات ويهديهم للهدايات ويوردهم الْمِيَاه العذبة وَهُوَ الْعلم الصافي بِلَا تَخْلِيط وَلَا كدورة ويعرفهم خداع الْعَدو ومراصده ومكامن النَّفس وَهُوَ فِي ذَلِك يحب أَن تكون أُمُورهم على وفَاق مَا بَين الله تَعَالَى لَهُم وعَلى محاب الله تَعَالَى وَلَا يكون كَذَلِك فَرُبمَا انتشرت الْإِبِل عَلَيْهِ فيضطرب فِي ذَلِك ويتلوى وَيقبل وَيُدبر احتيالا وتكلفا ويضيق صَدره بأمورهم فَهُوَ فِي جهد من ذَلِك لما يحب أَن تستوي أُمُورهم وتستقيم سيرتهم ويأبى الله إِلَّا أَن يكون كَمَا قدر حَتَّى إِذا فتح عَلَيْهِ بَاب النجباء الْكِرَام فأبصر(2/169)
بذلك النُّور أَن هَذَا تَدْبيره لَهُم ومشيئته فيهم وَأَنه أعلم بِمَا يُرَاد لَهُم فَإِنَّمَا خلقهمْ من وَجه الأَرْض تربَتهَا مُخْتَلفَة وَأَن الْقُلُوب أوعية فِي أرضه يضع فِيهَا مَا أحب وَأَن الْعُقُول مقسومة بَين العبيد وَأَن الْأَخْلَاق لَهُم من الخزائن ممنوحة وَأَن الْأَنْوَار على مَا اختصه برحمته من بَينهم ممنونة وَأَن لَهُ من خلقه صفوة وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة وَأَن العبيد فُقَرَاء حَتَّى يغنيهم الله من فَضله غنى الْقلب وَأَن الْقُلُوب بِيَدِهِ يقلبها كَيفَ يَشَاء وَأَن الْهِدَايَة مِنْهُ {يهدي الله لنوره من يَشَاء} وَأَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عوتب فِي ذَلِك حَتَّى قيل لَهُ وَإِن كَانَ كبر عَلَيْك إعراضهم الْآيَة وَقَوله تَعَالَى إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء
وَكَانَ ذَلِك بعد مُضِيّ السنين من النُّبُوَّة ثمَّ أدبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَومه فَألْقى بِيَدِهِ سلما وذل لمَوْلَاهُ وَترك مَشِيئَته لمشيئته وراقب تَدْبيره فيهم فَصَارَ نجيبة من نجائبه يصونه مَوْلَاهُ عَن المكاره والآفات والبلايا والعاهات وَأثْنى عَلَيْهِ فَقَالَ وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم
قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرضى بِرِضَاهُ ويسخط بسخطه(2/170)
- الأَصْل الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي حَقِيقَة الْخُشُوع
عَن أم رُومَان وَالِدَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَت رَآنِي أَبُو بكر أتميل فِي صَلَاتي فزجرني زَجْرَة كدت أنصرف من صَلَاتي ثمَّ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِذا قَامَ أحدكُم إِلَى الصَّلَاة فليسكن أَطْرَافه لَا يتميل تميل الْيَهُود فَإِن سُكُون الْأَطْرَاف من تَمام الصَّلَاة
فالوقوف فِي الصَّلَاة يَنْبَغِي أَن يكون وقُوف تذلل وتخشع والخشوع الْبَالِغ خشوع الْقلب قَالَ الله تَعَالَى {الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون}
وَقد يتخشع الرجل بأركانه وَلَيْسَ بخاشع فَإِن أَرَادَ بخشوعه ابْتِغَاء(2/171)
وَجه الله تَعَالَى فَهُوَ مَحْمُود وعَلى ذَلِك مأجور وَإِن كَانَ لغير الله تَعَالَى فَهُوَ تماوت وَعَلِيهِ ممقوت
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعوذوا بِاللَّه من خشوع النِّفَاق قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا خشوع النِّفَاق قَالَ خشوع الْبدن ونفاق الْقلب
وَمعنى ذَلِك أَن يتماوت وَيَرْمِي ببصره إِلَى الأَرْض تقربا وترائيا وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين رأى رجلا يعبث بلحيته فِي صلَاته لَو خشع قلبه لخشع جوارحه
فالخشعة للقلب الَّذِي قد مَاتَت شهوات نَفسه فاطمأن لفراغه من النَّفس وفراغه من تكلفها وَأما تميل الْيَهُود فأصله أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا قَرَأَ التَّوْرَاة على بني إِسْرَائِيل تلذذ بِمَا فِيهِ وهاجت مِنْهُ اللَّذَّة فَكَانَ يتمايل على قِرَاءَته كَالَّذي يضطرب على الشَّيْء يقرأه فخلت قُلُوب مَا بعده مِمَّا كَانَ يجده عَلَيْهِ السَّلَام فاستعملوها من بعده على خراب الْقُلُوب وخلاء الْبَاطِن من ذَلِك
قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم الْوِفَادَة إِن هدنا إِلَيْك أَي ملنا إِلَيْك وَهُوَ التَّوْبَة فَأخذُوا هَذَا من قَوْله وَجعلُوا يتهادون فِي صلَاتهم وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَبَط الْوَادي حِين أنس النَّار وَكَانَ نعلاه من جلد حمَار غير مزكى فَقيل لَهُ اخلع نعليك إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس فَأخذُوا هَذَا من فعله وَإِذا صلوا خلعوا نعَالهمْ فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم باهدار هَذِه الْأَفْعَال وَقَالَ سكنوا أطرافكم فِي الصَّلَاة وَقَالَ فِي حَدِيث آخر صلوا فِي نعالكم وَلَا تشبهوا باليهود(2/172)
وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يُعَامل بني إِسْرَائِيل على ظَاهر الْأُمُور لقلَّة مَا فِي باطنهم فَكَانَ يهيب الْأُمُور ويعظمها فِي الظَّاهِر لَهُم ويكتفي لنَفسِهِ بِمَا فِي بَاطِنه عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى أَن بني إِسْرَائِيل لَا تعظم التَّوْرَاة فَأوحى إِلَيْهِ أَن هَذِه التَّوْرَاة صَارَت فِي حجور بني إِسْرَائِيل وَلَا تكَاد تعظمها فَحلهَا بِذَهَب لم تمسه يَد الْآدَمِيّين فأنزلت عَلَيْهِ الكيمياء فَعلمه فَعمد إِلَى اسماء تِلْكَ الْأَدْوِيَة والعقاقير ففرقها ثَلَاثَة أَجزَاء فَأعْطى جُزْءا مِنْهَا هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام وجزءا مِنْهَا يُوشَع عَلَيْهِ السَّلَام وجزءا مِنْهَا قَارون ليأتوا بهَا من الْجبَال كي لَا يجْتَمع عِنْد أحدهم علمهَا فَيعْمل بهَا فَذهب قَارون فَقعدَ على طَرِيق هَارُون ويوشع عَلَيْهِمَا السَّلَام حِين رجعا من الْجبَال فاستدرجهما مختدعا لَهَا فَقَالَ لكل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَ أَمرك مُوسَى فَأخْبرهُ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالَّذِي أمره فأثبتهما عِنْده فضم على الجزئين إِلَى الْجُزْء الَّذِي عِنْده ثمَّ عمد إِلَى الصفر فأذابه وَألقى عَلَيْهِ فَأخذ يعْمل ذَلِك شهره ودهره حَتَّى اجْتمع لَهُ أَمْوَال كَانَت تحمل مَفَاتِيح كنوزه سَبْعُونَ بغلا قَالَ الله تَعَالَى وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي الْقُوَّة
ونافق فوعظ فَقيل لَهُ أحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك وَلَا تَبْغِ الْفساد فِي الأَرْض قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي فَخسفَ الله بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض
وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عمل هَذَا الذَّهَب وحلى التوارة بِهِ ثمَّ تَركه وَكَانَ يُعَامل أمته بِظَاهِر الْأُمُور فحلى باطنهم بتعظيم الله تَعَالَى وتعظيم كَلَامه فَأمرت هَذِه الْأمة بتسكين الْأَطْرَاف والخشوع(2/173)
لِرَبِّهَا فِي الظَّاهِر للعامة وَفِي الْبَاطِن للخاصة قَالَ الله تَعَالَى {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون}
فَأهل الظَّاهِر يحفظون لحظات الْعُيُون عَن الِالْتِفَات يمنة ويسرة وجوارحهم عَن الحركات فِي غير مَا أمروا بِهِ وَأهل الْبَاطِن قد جاوزوا ذَلِك وحفظوا لحظات الْقُلُوب لِئَلَّا تلحظ أحدا سواهُ فَتكون قُلُوبهم منتصبة بَين يَدي الله تَعَالَى كَمَا انتصبت جوارحهم فِي الظَّاهِر وَذَلِكَ بِمَا ولج قُلُوبهم من عَظمَة الله تَعَالَى وجلاله فهابت واستقرت فِي تِلْكَ الهيبة لله تَعَالَى فَانْتفى عَنْهُم وساوس نُفُوسهم وَمن هَهُنَا مَا أنب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أهل الوسوسة فَقَالَ هَكَذَا أخرجت عَظمَة الله تَعَالَى من قُلُوب بني إِسْرَائِيل حَتَّى شهِدت أبدانهم وَغَابَتْ قُلُوبهم لَا يقبل الله صَلَاة أمرىء لَا يشْهد فِيهَا قلبه مَا يشْهد بدنه وَإِن الرجل ليُصَلِّي الصَّلَاة وَمَا يكْتب لَهُ عشرهَا(2/174)
- الأَصْل السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر التَّحِيَّة بِالسَّلَامِ
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تبدأوا بالْكلَام قبل السَّلَام وَمن بَدَأَكُمْ بالْكلَام قبل السَّلَام فَلَا تجيبوه
شَرط الله تَعَالَى مَعَ هَذِه الْأمة فِي دينهم أَن يَأْمَن بَعضهم بَعْضًا وَيسلم بَعضهم من بعض وَلذَلِك سماهم مُؤمنين مُسلمين والأسماء سمات الشَّيْء فَكل اسْم دَلِيل على صَاحبه ومشتق من مَعْنَاهُ والأسماء الْأَصْلِيَّة هِيَ الَّتِي جَاءَت من عِنْد الله تَعَالَى مثل يحيى قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا} أَي لم نجْعَل أحدا لَا يُذنب سواهُ لِأَن يحيى من الْحَيَاة وَقد أحيى الله تَعَالَى قلبه بِهِ فَلم يُذنب وَلم يهم بِهِ(2/175)
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من آدَمِيّ إِلَّا قد أَخطَأ أَو هم بخطيئة غير يحيى بن زَكَرِيَّا
وَمثل أَحْمد قَالَ الله تَعَالَى وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْطَيْت مَا لم يُعْط أحد سميت أَحْمد ونصرت بِالرُّعْبِ
فَكَذَلِك شَأْن هَذِه الْأمة والأمم فَإِن كل أمة تسمت باسم من تِلْقَاء نَفسهَا مثل الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس فولي الله تَعَالَى تَسْمِيَة هَذِه الْأمة فَقَالَ عز من قَائِل {هُوَ سَمَّاكُم الْمُسلمين من قبل} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله سمى أمتِي فاشتق لَهَا اسْمَيْنِ من اسْمه وَهُوَ السَّلَام وَالْمُؤمن وَسَمَّاهُمْ مُسلمين ومؤمنين فاسم هَذِه الْأمة على الْحَقِيقَة الْأَصْلِيَّة الَّتِي علم آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَاقْتضى مِنْهَا وَفَاء هَذَا الِاسْم أَن يَأْمَن بَعضهم من بعض وَيسلم بَعضهم(2/176)
من بعض قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة} وَقَالَ والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُؤْمِنُونَ كَرجل وَاحِد
فَوضعت هَذَا التَّحِيَّة فِيمَا بَينهم كَرَامَة لَهُم فَأكْرم الله تَعَالَى هَذِه الْأمة بِأَن جعل تحيتهم على ألسنتهم أشرف القَوْل وأطيبها من قَوْله السَّلَام عَلَيْكُم وَكَانَ فِي بني إِسْرَائِيل إِذا لَقِي بَعضهم بَعْضًا ينحني لَهُ ويومىء بِرَأْسِهِ كَهَيئَةِ السُّجُود فَتلك تحيتهم
روى أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعطي أمتِي ثَلَاثًا لم يُعْط أحد قبلهن السَّلَام وَهِي تَحِيَّة أهل الْجنَّة وصفوف الْمَلَائِكَة وآمين إِلَّا مَا كَانَ من مُوسَى وَهَارُون
وَإِنَّمَا جعل السَّلَام وَهُوَ اسْم من أَسْمَائِهِ مَوْضُوعا بَينهم ليَكُون أَمَانًا للعباد فِي الدَّم وَالْعرض وَالْمَال
قَالَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ السَّلَام أَمَان للعباد فِيمَا بَينهم
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَدَأَ بِالسَّلَامِ فَهُوَ أولى بِاللَّه وبرسوله فَلَمَّا كَانَ هَذَا السَّلَام مأمن الْعباد فِيمَا بَينهم كَانَ من بَدَأَ بالْكلَام فقد ترك الْحق وَالْحُرْمَة فحقيق أَن لَا يُجَاب(2/177)
- الأَصْل السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي هم الْأَنْبِيَاء الثَّلَاث وتنزههم عَمَّا لَا يَلِيق
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام حِين نظر إِلَى الْمَرْأَة فهم بهَا قطع على بني إِسْرَائِيل بعثا وَأوصى صَاحب الْبَعْث فَقَالَ إِذا حضر الْعَدو فَقرب فلَانا بَين يَدي التابوت فَكَانَ ذَلِك التابوت فِي ذَلِك الزَّمَان يستنصر بِهِ فَمن قدم بَين يَدي التابوت لم يرجع حَتَّى يقتل أَو ينهزم عَنهُ الْجَيْش الَّذِي يُقَابله فَقدم فَقتل زوج الْمَرْأَة وَنزل الْملكَانِ على دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فقصا عَلَيْهِ الْقِصَّة فَفَزعَ مِنْهُم فَفطن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَسجدَ فَمَكثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَة سَاجِدا حَتَّى نبت الزَّرْع من دُمُوعه على رَأسه وأكلت الأَرْض جَبينه يَقُول فِي سُجُوده رب زل دَاوُد زلَّة أبعد مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب رب إِن لم ترحم ضعف دَاوُد وَتغْفر ذَنبه جعلت ذَنبه حَدِيثا فِي الخلوق من بعده قَالَ فَجَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بعد أَرْبَعِينَ لَيْلَة فَقَالَ يَا دَاوُد إِن الله قد غفر لَك الْهم الَّذِي هَمَمْت بِهِ فَقَالَ لَهُ دَاوُد وَقد علمت أَن الله تَعَالَى قَادر على أَن يغْفر لي الَّذِي هَمَمْت بِهِ وَقد عرفت أَن الله تَعَالَى عدل لَا يمِيل فَكيف بفلان إِذا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ يَا رب دمي الَّذِي عِنْد دَاوُد فَقَالَ لَهُ جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام مَا سَأَلت رَبك ذَلِك وَلَئِن(2/178)
شِئْت لَأَفْعَلَنَّ قَالَ نعم فعرج جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى السَّمَاء وَسجد دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَمَكثَ مَا شَاءَ الله وَنزل فَقَالَ سَأَلت يَا دَاوُد عَن الَّذِي أرسلتني إِلَيْهِ فَقَالَ قل لداود إِن الله يجمعكما يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يَقُول لَهُ هَب لي دمك الَّذِي عِنْد دَاوُد فَقَالَ هُوَ لَك يَا رب فَنَقُول لَهُ فَإِن لَك الْجنَّة فالهم من الْأَوْلِيَاء وَالرسل عَلَيْهِم السَّلَام عَظِيم شَأْنه لِأَنَّهُ ميل عَن الله تَعَالَى فنسأله الْعِصْمَة فِي الحركات والسكنات إِنَّه قريب مُجيب
وَرُوِيَ أَن قَاضِيا فِي بني إِسْرَائِيل بلغ اجْتِهَاده أَن طلب إِلَى ربه أَن يَجْعَل بَينه وَبَينه علما إِذا هُوَ قضى بِالْحَقِّ عرف ذَلِك وَإِذا قصر عَن الْحق عرف ذَلِك فَقيل لَهُ ادخل مَنْزِلك ثمَّ مد يدك فِي جدارك ثمَّ أنظر كَيفَ تبلغ أصابعك من الْجِدَار فاخطط عِنْدهَا خطا وَكلما قُمْت من مجْلِس الْقَضَاء فامدد يدك إِلَيْهِ فَإنَّك مَتى كنت على الْحق ستبلغه وَإِن قصرت عَن الْحق قصر بك وَكَانَ يجْتَهد وَلَا يقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِذا قَامَ من مَجْلِسه يَأْتِي ذَلِك الْخط فَإِذا بلغه حمد الله وأفضى إِلَى كل مَا أحل الله لَهُ من أهل ومطعم ومشرب فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم وَهُوَ فِي مجْلِس الْقَضَاء أقبل إِلَيْهِ رجلَانِ يُريدَان أَن يختصما إِلَيْهِ وَكَانَ أَحدهمَا لَهُ صديق فَتحَرك قلبه عَلَيْهِ محبَّة أَن يكون الْحق لَهُ فَيَقْضِي لَهُ بِهِ فَلَمَّا أَن تكلما دَار الْحق على صَاحبه فَقضى عَلَيْهِ فَقَامَ من مَجْلِسه وَذهب إِلَى خطه وَمد يَده إِلَيْهِ فَإِذا الْخط قد شمر إِلَى السّقف وَإِذا هُوَ لَا يبلغهُ فَخر سَاجِدا وَهُوَ يَقُول يَا رب شَيْئا لم أتعمده وَلم أرده فبينه لي فَقيل لَهُ أتحسب أَن الله تَعَالَى لم يطلع على جور قَلْبك حَيْثُ أَحْبَبْت أَن يكون الْحق لصديقك فتقضي لَهُ قد أردته وأحببته وَلَكِن الله قد رد الْحق إِلَى أَهله وَأَنت لذَلِك كَارِه
وَعَن لَيْث رَضِي الله عَنهُ قَالَ تقدم إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ(2/179)
خصمان فأقامهما ثمَّ عادا ففصل بَينهمَا فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ تقدما إِلَيّ فَوجدت لأَحَدهمَا مَا لم أجد لصَاحبه فَكرِهت أَن أفصل بَينهمَا على ذَلِك ثمَّ عادا وَقد ذهب ذَلِك ففصلت
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ اخْتصم إِلَيّ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فريقان أَحدهمَا من أهل امْرَأَته جَرَادَة وَكَانَ يُحِبهَا فهوى أَن يَقع الْقَضَاء لَهُ ثمَّ قضى بَينهمَا بِالْحَقِّ فَأَصَابَهُ الَّذِي أَصَابَهُ عُقُوبَة لذَلِك الْهوى
وَعَن سَالم مولى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور قَالَ خرجنَا مَعَ أبي جَعْفَر إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَلَمَّا دخل دمشق بعث إِلَى الْأَوْزَاعِيّ فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَدثنِي حسان بن عَطِيَّة عَن جدك ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض} ان ارْتَفع إِلَيْك خصمان فَكَانَ لَك فِي أَحدهمَا هوى فَلَا تشته فِي نَفسك الْحق لَهُ فيفلج على صَاحبه فأمحو اسْمك من نبوتي ثمَّ لَا تكون خليفتي
يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَدثنِي حسان عَن جدك قَالَ من كره الْحق فقد كره الله لِأَن الله تَعَالَى هُوَ الْحق
يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَدثنِي حسان عَن جدك فِي قَوْله تَعَالَى لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها قَالَ الصَّغِيرَة التبسم والكبيرة الضحك فَكيف بِمَا جنته الْأَيْدِي
فالهم بِمَا عدل عَن الْحق هُوَ ميل عَن الله تَعَالَى وإعراض وَقُلُوب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِ السَّلَام معيار التَّوْحِيد وموازين الْأَعْمَال وحجج الله تَعَالَى على الْخَواص والهم همان هم عَارض لَا قَرَار لَهُ يَنْفِيه الْقلب(2/180)
بيقظته ونباهته وطيبه ونزاهته ونسيم روحه وفسيح ساحته وَذَاكَ يعتري الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام وَذَاكَ مَرْفُوع عَنْهُم لِأَنَّهُ عَارض لَا يملكهُ وَلَا يتكلفه وَلم يكن فِيهِ حَرَكَة فِي ظَاهر وَلَا فِي بَاطِن وَإِنَّمَا أيد من الرّوح والسكينة وَالْيَقِين وهم آخر وَهُوَ هم عَارض لله تَعَالَى مَعَه مَشِيئَة وتدبير فِي أُمُوره والأنبياء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام بمعزل عَنهُ وَفِي انحطاط مِنْهُ وَإِنَّمَا يَعْتَرِيه الْعَامَّة فان ربوبيته قاهرة لجَمِيع مَا عِنْد هَذَا العَبْد من الْقُوَّة والتأييد فَإِذا هُوَ مخذول فَصَارَ همه عزما وَهُوَ عقد الْقلب وَصَارَ بذلك فِي ميل عَن الله تَعَالَى وَإِذا استعملوا هَذَا الْعَزْم فأخرجوه إِلَى الْأَركان فَعمِلت بِهِ جوارحهم وَقد بلي بالهم الأول ثَلَاثَة أَعْلَام فِي الأَرْض من الرُّسُل مُحَمَّد وَدَاوُد ويوسف صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
أما يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فهم بهَا حَتَّى روى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قعد مِنْهَا مقْعد الرِّجَال فانفرج السّقف وتراءى لَهُ جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي صُورَة يَعْقُوب عاضا على إصبعه وَنُودِيَ يَا يُوسُف أتعمل عمل السُّفَهَاء وَأَنت مَكْتُوب فِي ديوَان الْأَنْبِيَاء فولى هَارِبا ثمَّ أوصلها تزويجا بَعْدَمَا نالته الْعقُوبَة بالهم من طول اللّّبْث فِي السجْن
عَن وهب رَضِي الله عَنهُ قَالَ أَصَابَت امْرَأَة الْعَزِيز حَاجَة فَقيل لَهَا لَو أتيت يُوسُف فَسَأَلته فاستشارت النَّاس فِي ذَلِك فَقَالُوا لَا تفعلي فانا نَخَاف عَلَيْك قَالَت كلا إِنِّي لَا أَخَاف مِمَّن يخَاف الله تَعَالَى قَالَ فَدخلت عَلَيْهِ فرأته فِي ملكه فَقَالَت الْحَمد لله الَّذِي جعل العبيد ملوكا بِطَاعَتِهِ وَجعل الْمُلُوك عبيدا بمعصيته قَالَ فَقضى(2/181)
جَمِيع حوائجها ثمَّ تزَوجهَا فَوَجَدَهَا بكرا فَقَالَ لَهَا أَلَيْسَ هَذَا أجمل مِمَّا أردْت قَالَت يَا نَبِي الله إِنِّي ابْتليت فِيك بِأَرْبَع كنت أجمل النَّاس كلهم وَكنت أَنا أجمل أهل زماني وَكنت بكرا وَكَانَ زَوجي عنينا
وَأما دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَفتح من الْمِحْرَاب بَاب الكوة واطلع على تِلْكَ الْمَرْأَة فَوَقع فِي نَفسه شَأْنهَا وفتنتها فَلم يملك نَفسه حَتَّى وَجه إِلَيْهَا من يَوْمه ليضمها إِلَى نِسَائِهِ كي يسكن الهائج من نَفسه انتظارا لما يكون فَأَبت الْمَرْأَة فَمشى إِلَى بَابهَا فَمر بملكين يُنَاجِي أَحدهمَا صَاحبه وَهُوَ يَقُول لقد أكْرم الله إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق عَن مثل هَذَا الممشى وَمضى فَلم يعتصم حَتَّى وقف ببابها فَاسْتَفْتَحَ فَقَالَت من ذَا فَأَخْبرهَا فَقَالَت أعاذ الله دَاوُد من أَن يمشي هَذَا الممشى فَانْصَرف فَكتب إِلَى صَاحب بعث كَانَ زَوجهَا فِيهِ وَأمره أَن يقدم زَوجهَا فِي مِائَتي رجل من بني إِسْرَائِيل مَعَ تَابُوت السكينَة وَكَانَ من قدم مَعهَا لم يرجع حَتَّى يفتح عَلَيْهِ أَو يقتل فَتقدم فَقتل فَلَمَّا انْقَضتْ عدتهَا خطبهَا فَتَزَوجهَا فَلبث بذلك مَا شَاءَ الله فَلم يرعه إِلَّا وَقد تسور الخصمان عَلَيْهِ الْمِحْرَاب فَفَزعَ فقصا الْقِصَّة وعرجا فانكشف الغطاء عَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وخر لله سَاجِدا أَرْبَعِينَ صباحا حَتَّى نبت المرعى حول وَجهه وغمر رَأسه ثمَّ نُودي أجائع فتطعم أَو عَار فتكسى فَنحب نحبة هاج المرعى من حر جَوْفه فغفر لَهُ وَبشر بهَا فَقَالَ يَا رب هَذَا ذَنبي فِيمَا بيني وَبَيْنك قد غفرته فَكيف بفلان وَكَذَا رجلا من بني إِسْرَائِيل تركت أَوْلَادهم أيتاما ونساءهم أرامل قَالَ يَا دَاوُد لَا يجاوزني يَوْم الْقِيَامَة ظلم أمكنه مِنْك ثمَّ أستوهبك مِنْهُ بِثَوَاب الْجنَّة قَالَ يَا رب هَكَذَا تكون الْمَغْفِرَة الهنيئة ثمَّ قيل يَا(2/182)
دَاوُد ارْفَعْ رَأسك فَذهب ليرْفَع رَأسه فَإِذا بِهِ قد نشب فِي الأَرْض فَأَتَاهُ جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام فاقتلعه عَن وَجه الأَرْض كَمَا تقتلع عَن الشَّجَرَة صمغتها حَتَّى سَأَلَ ربه تَعَالَى أَن ينقش خَطِيئَة فِي كَفه فَكَانَ لَا يبسط كَفه لطعام وَلَا شراب إِلَّا رَآهَا فابكته
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا مثل عَيْني دَاوُد مثل القربتين تنطفان المَاء لقد خدد الدُّمُوع فِي وَجه دَاوُد خديد المَاء فِي وَجه الأَرْض وَكَانَ من دُعَاء دَاوُد رب اغْفِر للخطائين لكَي تغْفر لداود مَعَهم سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي خرجت أسأَل أطباء عِبَادك أَن يداووا لي خطيئتي فكلهم يدل عَلَيْك إلهي أَخْطَأت خَطِيئَة قد خفت أَن يَجْعَل حصادها عذابك يَوْم الْقِيَامَة إِن لم تغفرها سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي إِذا ذكرت خطيئتي ضَاقَتْ الأَرْض برحبها عَليّ وَإِذا ذكرت رحمتك إرتد إِلَيّ روحي
وَرُوِيَ أَنه كَانَ إِذا ذكرهَا انْحَلَّت مفاصله ثمَّ يذكر رَحْمَة الله تَعَالَى فَيرجع بأوصالها إِلَى مَكَانهَا
وَأما مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ لما عاين زَيْنَب فَوَقع فِي نَفسه شَأْنهَا وَذَلِكَ أَنه أبصرهَا قَائِمَة فِي صحن الدَّار فِي درع وخمار أسود فَلَمَّا وَقعت فِي نَفسه فزع إِلَى الله تَعَالَى وَوضع يَده على وَجهه وَقَالَ سُبْحَانَ مُقَلِّب الْقُلُوب فنزهه تعوذا بالتنزيه وتغوثا بِالِاسْمِ الَّذِي مِنْهُ حدث على قلبه التقليب عَن أَن يقلبه بِمَشِيئَة تورثه غَدا الْحيَاء والعويل واضطراب الصَّوْت فِي الملكوت كَمَا أورث من قبله من إخوانه عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وصيره ملْجأ ومفزعا وَاسْتعْمل التَّدْبِير الْمَوْضُوع بَين الْعباد أَن غض بَصَره وَمَال بِيَدِهِ على وَجهه ليَكُون لَهُ(2/183)
فِي ذَلِك تمسكن وتضرع وانقياد ليرحمه وَيصرف عَنهُ الْفِتْنَة الَّتِي أحس بهَا فشكره على ذَلِك مَوْلَاهُ حَيْثُ فزع إِلَيْهِ وَلم يفزع إِلَى نهمة النَّفس وَلم يتدبر بالحيل الَّتِي توصله إِلَيْهَا
رُوِيَ فِي الْخَبَر أَنه أَمْسَى زيد فآوى إِلَى فرَاشه قَالَت زَيْنَب رَضِي الله عَنْهَا لم يستطعني زيد وَمَا امْتنع عَنهُ غير مَا مَنعه الله مني فَلَا يقدر عَليّ
وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن زيدا تورم ذَلِك مِنْهُ حِين أَرَادَ أَن يقربهَا فَعلم زيد بِمَا أخْبرته زَيْنَب من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله حِين أبصرهَا وَصَارَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ إِن زَيْنَب تؤذيني وَلَا تاتي مَا أحب وَلَا تبر قسمي وَلَا تطيعني وَتفعل وَتفعل وَإِنِّي أُرِيد أَن أطلقها
فَقَالَ لَهُ أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله فَلم يزل زيد على عزمه الَّذِي عزم الله على قلبه فَكَمَا قلب قلب رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهواها قلب قلب زيد حَتَّى يطلقهَا فَلَمَّا انْقَضتْ عدتهَا نزل الْقُرْآن بتزويجها مِنْهُ وَولي الله تَعَالَى تَزْوِيجهَا مِنْهُ على لِسَان الرّوح الْأمين فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدخل عَلَيْهَا بِغَيْر إِذن وَكَانَ قبل نزُول الْآيَة قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخطْبَة إِلَيْهَا وَوجه زيد بن حَارِثَة يعلمهَا ذَلِك فَدخل عَلَيْهَا وَهِي فِي مَسْجِدهَا فَذكر لَهَا حَاجَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت حَتَّى أؤامر رَبِّي عز وَجل فَنزلت قَوْله تَعَالَى {زَوَّجْنَاكهَا} فَهِيَ بعد فِي مؤامرتها وَزيد عِنْدهَا إِذْ دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغَيْر إِذن فَقعدَ عِنْدهَا وتلا الْآيَة فخرت سَاجِدَة وَكَانَت تَفْخَر بذلك على نسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول إِن الله أنكحني من الْعَرْش وَهُوَ وليي من دون الْخلق والسفير فِي ذَلِك جِبْرَائِيل
وَكَانَت تسامي عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي الوسامة والحظ من(2/184)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت أَنا الَّذِي نزل تزويجي من السَّمَاء فَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنا الَّذِي نزل عُذْري من السَّمَاء فِي كِتَابه حِين حَملَنِي ابْن الْمُعَطل على الرَّاحِلَة قَالَ الله تَعَالَى وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ أَي زيد بِالْعِتْقِ أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله وتخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه وتخشى النَّاس وَالله أَحَق أَن تخشاه الْآيَة
فعوتب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والحبيب يحب عتاب الحبيب حَتَّى يَدُوم الصفاء وَيكون العتاب بدل الوجد
قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لَو أَن مُحَمَّدًا قدر على أَن يكتم شَيْئا من الْوَحْي لكَتم هَذِه الْآيَة
وَسبب العتاب على وَجْهَيْن
أَحدهمَا قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وتخفي فِي نَفسك الْحبّ لَهَا وطلاقه إِيَّاهَا وتزويجك بهَا وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهوى أَن يخلي سَبِيلهَا وخشي قالة النَّاس وَذَلِكَ أَنه تبنى زيد بن حَارِثَة فَقَالَ المُنَافِقُونَ ينهانا عَن نسَاء أَبْنَائِنَا ويتزوج امْرَأَة ابْنه فخشي هَذِه القالة وقالوها من بعد تَزْوِيجه إِيَّاهَا فَنزلت قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أحد من رجالكم} وَنزلت {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أقسط عِنْد الله}(2/185)
إِنَّمَا جَاءَت المعاتبة من قبل أَنه قَالَ {أمسك عَلَيْك زَوجك} وَهُوَ يُحِبهَا وَيَوَد فِي نَفسه أَن يطلقهَا وَقد كَانَ فِي الْغَيْب أَن سيطلقها ويبدي الله تَعَالَى مَا فِي نفس مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يُزَوّجهَا
الْوَجْه الثَّانِي مَا ذكره عَليّ بن الْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا وَهُوَ جَوْهَر من الْجَوَاهِر إِنَّمَا عتب الله تَعَالَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قد أعلمهُ أَن سَتَكُون هَذِه الْأمة من أَزوَاجك فَكيف قلت بعد هَذَا لزيد أمسك عَلَيْك زَوجك وأخذتك خشيَة النَّاس أَن يَقُولُوا تزوج امْرَأَة ابْنه وَالله أَحَق أَن تخشاه فتراقب أمره وتدبيره فِيك وفيهَا فَتكون مِمَّن أطلق ذَلِك كي لَا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج فِي أَزوَاج أدعيائهم إِذا قضوا مِنْهُنَّ وطرا ثمَّ قَالَ مَا كَانَ على النَّبِي من حرج فِيمَا فرض الله لَهُ سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا
فرض الله مَا أعلمهُ أَن تكون زَيْنَب من أَزوَاجه وَذَلِكَ سنة الله تَعَالَى فِي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى جمع بَينه وَبَين تِلْكَ الْمَرْأَة وَكَانَ ذَلِك قدرا مَقْدُورًا على دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَن يكون الْجمع بَينهمَا على تِلْكَ الْجِهَة وَيغْفر لَهُ وَيضمن عَنهُ تَبعته لخصمه(2/186)
- الأَصْل الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي الثَّلَاثَة الَّتِي تَحت الْعَرْش
عَن الْحُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة تَحت الْعَرْش الْقُرْآن لَهُ ظهر وبطن يحاج الْعباد وَالرحم تنادي صل من وصلني واقطع من قطعني وَالْأَمَانَة ظهر وبطن فالظهر يحاج الْعَامَّة والبطن يحاج الْخَاصَّة
وَهَذَا لِأَن الْأمة على صنفين أهل يَقِين وَأهل علم فَأهل الْعلم صنفان مخلط وَهُوَ الظَّالِم ظلم نَفسه وَالْحق عز وَجل وَمَلَائِكَته والأنبياء صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الله تَعَالَى بعث بِالْحَقِّ على أَيدي الْمَلَائِكَة على أَلْسِنَة الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام فَإِذا أخل بذلك سمي ظَالِما ومستقيم وَهُوَ المقتصد
وَأما أهل الْيَقِين وهم السَّابِقُونَ الْأَوْلِيَاء المقربون فَظَاهر الْقُرْآن يحاج المقتصد فِي تَفْسِيره والظالم فِي تخليطه وباطن الْقُرْآن يحاج السَّابِقين(2/187)
المقربين فِي تقصيرهم وخطراتهم وزلاتهم قَالَ الله تَعَالَى {اتَّقوا الله إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور}
فالظالم يَتَّقِي تخليطه حَتَّى لَا يدْخل فِي عمله شَيْء نهى الله عَنهُ والمقتصد قد فزع من التَّخْلِيط فَهُوَ يَتَّقِي أَن يشوبه عجب أَو رِيَاء أَو فَسَاد أَو خطأ وَالسَّابِق قد فرغ من هَذَا فَهُوَ يَتَّقِي الْأَسْبَاب والعلائق والاعتماد على شَيْء دونه وَيَتَّقِي الخطرات وَهَذَا كُله هُوَ التَّقْوَى وَلكنه يَتَّقِي كل صنف مِمَّا بَقِي عَلَيْهِ من التَّقْوَى فَإِن لم يفعل حاجه الْقُرْآن بِمَ بَقِي عَلَيْهِ
وَأما قَوْله الرَّحِم تنادي صل من وصلني واقطع من قطعني فالرحم لَهَا شَأْن عَظِيم قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى خلق الْخلق حَتَّى إِذا فرغ مِنْهُم قَامَت الرَّحِم فَأخذت بحقوي الرَّحْمَن فَقَالَ مَه قَالَت هَذَا مقَام العائذ من القطيعة قَالَ نعم أَلا ترْضينَ أَن أصل من وصلك وأقطع من قَطعك قَالَت بلَى قَالَ فَذَلِك لَك ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إقرؤا إِن شِئْتُم {فَهَل عسيتم إِن توليتم} الْآيَة
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ الله تَعَالَى للرحم خلقتك بيَدي وشققت لَك اسْما من اسْمِي(2/188)
وَقربت مَكَانك مني وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لأصلن من وصلك ولأقطعن من قَطعك وَلَا أرْضى حَتَّى ترْضينَ
فخلق الله تَعَالَى الرأفة وَالرَّحْمَة يرؤف بهَا عباده وَيرْحَم بهَا عباده والرأفة غالبة على الرَّحْمَة وَلها سُلْطَان إِذا تحرّك علا كل شَيْء وَغلب وبدء الرأفة من رأفة الله تَعَالَى ورأفته من فَضله وَالْفضل من جماله فَهَذِهِ الرأفة الَّتِي خلقهَا يتراءفون ويتعاطفون وَبهَا يتراحمون ويتعاطفون فَقَامَتْ تناشد رَبهَا فقربها من رأفته وَبَين بَدو مَكَانهَا من أَيْن بداثم جعلهَا كالشجنة قد برزت إِلَى مَا دون الْعَرْش فَلَمَّا قربهَا جعل لَهَا السَّبِيل إِلَى الحقو فِي الْقرْبَة فشق لَهَا اسْما من اسْمه وَهُوَ الرَّحْمَن ثمَّ جعل لَهَا سُلْطَانا ممدودا من الحقو كالشجنة إِلَى مَا تَحت الْعَرْش فاستعاذت هُنَاكَ من القطيعة حَيْثُ أشارت من مقَامهَا فَقَالَ الله تَعَالَى لأصلن من وصلك أَي اصل واصلك بِهَذِهِ الرأفة مني وأقطع من هَذِه الرأفة من قَطعك فَيكون صَاحب القطيعة مَقْطُوعًا من رأفته قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّحِم معلقَة بالعرش
وَقَالَ فِي رِوَايَة ابْن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول الله عز وَجل أَنا الرَّحْمَن وَهِي الرَّحِم جعلت لَهَا شجنة من وَصلهَا وصلته وَمن قطعهَا بنته لَهَا يَوْم الْقِيَامَة لِسَان طلق تقوم فِيمَا شَاءَت فقد(2/189)
بَين أَنَّهَا الرأفة الَّتِي خلقهَا ثمَّ قَامَت مقَام العائذ إِلَى الحقو من القطيعة فَتلك شجنة ناتئة من الْعَرْش معلقَة مِنْهُ بهَا يتواصلون ويتقاطعون وحرقتها فِي الأجواف وَالرَّحْمَة هُنَاكَ ثمَّ هِيَ مقسومة بَين الْخلق فِيهَا يتراءفون وَبهَا يتعاطفون فَإِذا قطعهَا فقد انْقَطع من رأفة الله تَعَالَى فَلذَلِك يَجْعَل عُقُوبَته فِي الدُّنْيَا وَلذَلِك قيل أعجل الْبر ثَوابًا صلَة الرَّحِم فأسرع الشَّيْء عقَابا الْبَغي وَقَطِيعَة الرَّحِم وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى خلق الْإِنْسَان فَجعل الرأفة مِنْهُ فِي الطحال وَهُوَ فِي مَوضِع الحقو يجد الْآدَمِيّ مِنْهُ حرقة تصل إِلَى الْفُؤَاد فيعلمه وَهُوَ الَّذِي يُسمى بالعجمية مهر وَجعلهَا دَمًا فِي الطحال لَهُ حرارة ثمَّ جعل لَهَا فِي الْعُرُوق مجْرى مِنْهَا فصيرها فِي الْأَرْحَام جَارِيَة ليصلوها قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يخلق النَّسمَة فغشى الرجل وَالْمَرْأَة أحضر كل رحم لَهُ ثمَّ قَرَأَ {فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك}
وَقَالَ فِي رِوَايَة ابْن بُرَيْدَة إِن رجلا من الْأَنْصَار ولدت لَهُ امْرَأَته غُلَاما حَبَشِيًّا أسود فَأخذ بيد امْرَأَته فاتى بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لقد تزَوجنِي بكرا وَمَا أقعدت مَقْعَده أحدا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدقت إِن لَك تِسْعَة وَتِسْعين عرقا وَله مثل ذَلِك
فَإِذا كَانَ حِين الْوَلَد اضْطَرَبَتْ الْعُرُوق كلهَا لَيْسَ مِنْهَا عرق الا يسْأَل الله تَعَالَى أَن يَجْعَل ذَلِك الشّبَه بِهِ فَهَذِهِ عروق فِيهَا دِمَاء وَالرحم خلقتها من الْمَرْأَة كالكيس وَهِي عضلة وَعصب وعروق وَرَأس عصبها فِي الدِّمَاغ وَلها فَم بحذاء قبلهَا وَلها قرنان شبه الجناحين تجذب بهما النُّطْفَة لقبولها وَمن دَاخل فمها أَرْبَعَة أَفْوَاه إِلَى الرَّحِم فَإِن دخل النُّطْفَة من بَاب فولد وَإِن دخل من بَابَيْنِ فولدان وعَلى هَذَا وَهَذِه الدِّمَاء جَارِيَة من الْأَرْحَام إِلَى الْأَرْحَام منتقلة بَعْضهَا إِلَى بعض إِلَى(2/190)
هَذِه الْعُرُوق فَأمروا بالصلة لهَذِهِ الدِّمَاء لِئَلَّا تَنْقَطِع
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلوا أَرْحَامكُم وَلَو بِالسَّلَامِ فَإِن الدَّم إِذا يَبِسَتْ تقطعت فتبل حَتَّى لَا تَنْقَطِع وبللها من السَّلَام والزيارة والعطية
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَمَانَة تَحت الْعَرْش فالأمانة معلقَة بِالْإِيمَان
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ
وَإِنَّمَا آمن ليأمن الْخلق جوره فَإِن الله تَعَالَى عدل لَا يجور وبدؤه من عدله فَهُوَ مُعَلّق تَحت الْعَرْش فَهَذِهِ الثَّلَاث تَحت الْعَرْش الْقُرْآن وَهُوَ كَلَامه وَالرحم وَهِي رأفته وَالْأَمَانَة وَهِي أَمَانَته(2/191)
- الأَصْل التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْكَلَام عَلَيْك لَا لَك وضروبه
عَن أم حَبِيبَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلَام ابْن آدم كُله عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا أمرا بِالْمَعْرُوفِ أَو نهيا عَن منكرأو ذكرا لله تَعَالَى
فاللسان ترجمان الْقلب يعبر عَمَّا فِي الْقلب من الْعلم فَيَرْمِي بِهِ إِلَى الأسماع فيولج الْقلب إِن خيرا فَخير وَإِن شرا فشر قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الأذنان قمع
قَالَ كَعْب لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي نعت الْإِنْسَان قَالَ عَيناهُ هاد وأذناه قمع وَلسَانه ترجمان وَرجلَاهُ بريد وكبده رَحْمَة ورئتاه نفس وطحاله ضحك وكلواتان مكر وَالْقلب ملك فَإِذا طَابَ الْملك(2/192)
طابت جُنُوده وَإِذا فسد الْملك فَسدتْ جُنُوده قَالَت هَكَذَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينعَت
وَالْكَلَام على ضروب مِنْهَا مَا يخلص للآخرة ويصفو فَذَاك مَنْدُوب إِلَيْهِ مَوْعُود عَلَيْهِ خير وَمِنْهَا مَا يخلص للدنيا وَلَا نصيب للآخرة فِيهِ فَذَلِك مزجور عَنهُ مَوْعُود عَلَيْهِ الوبال والعقوبة وَمِنْهَا مَا يتجارى النَّاس فِيمَا بَينهم فِي أَمر معاشهم مِمَّا لَا بُد مِنْهُ فِي الْأَخْذ والإعطاء فِي تصرفهم وأحوالهم فَذَاك مَأْذُون لَهُ فِيهِ والحساب من وَرَائه وَالنَّاس فِي أَمر دينهم على ضَرْبَيْنِ فَضرب مِنْهُم يعاملون الله تَعَالَى على الْوَظَائِف كعبيد الْغلَّة يؤدون الْغلَّة وَمَا بَقِي فَهُوَ لَهُم فقد خلى بَينهم وَبَين ذَلِك ثمَّ هم فِي تصرفهم وأحوالهم يدبرون لأَنْفُسِهِمْ ويهتمون لَهَا ويكدون ويسعون لنوائبهم وينفقون على أنفسهم وعيالهم مشاغيل الْقُلُوب والأبدان متعبون بذلك فهم على تَدْبِير أنفسهم يمضون وباختيارهم الْأُمُور يعْملُونَ وغموم ذَلِك متراكم على قُلُوبهم يَحْتَاجُونَ إِلَى توفير الْغلَّة على الْمولى وتدبير معاشهم وَمَرَمَّة أُمُور عِيَالهمْ فَهَكَذَا من يُعَامل الله تَعَالَى على هَذَا السَّبِيل عهد إِلَيْهِ ربه عز وَجل من اداء فَرَائِضه وَاجْتنَاب مَحَارمه فِي الْجَوَارِح السَّبع من جسده وَفِي مَاله ووعده على ذَلِك الْجنَّة وعَلى تضييعه أوعد النَّار قَالَ الله تَعَالَى أَوْفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون
فَهُوَ يقطع عمره بِهَذَا وَيَقْتَضِي مِنْهُ الثَّوَاب غَدا فَإِذا قدم على ربه عز وَجل حَاسبه وَحصل أُمُوره وَبلا سرائره فَإِذا وجده قد وفر حُقُوقه فِيمَا عهد إِلَيْهِ أعْتقهُ من رق الْعُبُودِيَّة وَمكن لَهُ فِي جواره مَا يكون لَهُ جَزَاء لسعيه ووفاء لكده فَهَؤُلَاءِ إِن نطقوا بِإِذْنِهِ ينطقون فَمَا صفا للآخرة فلرجاء ثَوَابه الَّذِي وعد وَمَا كَانَ للمعاش ومتصرف(2/193)
الْأُمُور فِيمَا أذن لَهُم فِيهِ وقفُوا لِلْحسابِ فَذَاك عَلَيْهِ لَا لَهُ حَتَّى يتَخَلَّص مِنْهُ فَإِن تخلص مِنْهُ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ فَنعم مَا يتَخَلَّص مَعَ أَنه لَا يَنْفَكّ مَعَ الْخَلَاص من حسرة موجعة للقلب مفجعة للنَّفس إِذْ يرى أَكثر عمره قد أهدره وأبطله فَإِن أهل الْغَفْلَة حظهم من أعمارهم يَوْم الْقِيَامَة السَّاعَات الَّتِي كَانُوا فِي أُمُور آخرتهم من أَعمال الْبر وَسَائِر ذَلِك هدر وَإِنَّمَا يثابون على أَعمال الْبر لأَنهم عملوها على ذكر الاخرة فَأَما مَا عملوها على الْعَادة والشهوة وحظ النَّفس فَلَا نِيَّة لَهُم وَلَا حسبَة فَهُوَ بطال غافل ينْكَشف لَهُ الغطاء يَوْم الْحَسْرَة والندامة قَالَ تَعَالَى وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة إِذْ قضي الْأَمر وهم فِي غَفلَة
فَهَؤُلَاءِ إِن نطقوا فَعَن علومهم وعقولهم ينطقون وَإِن صمتوا فَفِي أَحْوَالهم يتفكرون وإياهم يذكرُونَ وبدنياهم يشتغلون وَفِي منامهم وشهواتهم يرتاحون وَهَذَا صفة هَؤُلَاءِ المستورين المعروفين عِنْد الْعَامَّة بأعمال الْبر وبالعدالة وَالصَّلَاح والرئاسة وَالْعلم فَإِنَّهُم قد رَضوا من حظهم بِمَا نالوا من مرفق النَّفس والوصول إِلَى النهمة وَرَضوا من دينهم بِهَذِهِ الْأَعْمَال الَّتِي تستروا بهَا ليحمدوا عِنْد الْخلق بذلك وَلَا تلحظ قُلُوبهم إِلَى مَالك الْملك الَّذِي يراهم على هَذِه الصّفة حَتَّى يستحيوا مِنْهُ
وَأما الضَّرْب الآخر فهم يعاملون الله تَعَالَى على العبودة كعبيد الْخدمَة انتبهوا من رقدة الغافلين فدبروا لأَنْفُسِهِمْ أمرا علمُوا أَنه قد مضى التَّدْبِير من قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وأثبته فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فائتمنوه على أنفسهم وألقوا بِأَيْدِيهِم سلما وفوضوا أُمُورهم إِلَيْهِ وشغلهم جَلَاله وجماله وعظمته ومجده عَن أَن يتفرغوا لأَنْفُسِهِمْ فيفكروا ويدبروا لَهَا(2/194)
أَو يهتموا لرزق أَو يهربوا من حكم أَو يتخيروا عَلَيْهِ فِي شَيْء من الْأَحْوَال عزا وذلا وفقرا وغنى وَصِحَّة وسقما ومحبوبا ومكروها وَقد وقفُوا بقلوبهم بَين يَدَيْهِ ناظرين إِلَى جَلَاله مبهوتين فِي جماله منفردين بوحدانيته مُتَعَلقين بكرمه ينتظرون رزقه ويراقبون تَدْبيره ويتوخون من الْأُمُور محابه وآذانهم مصيخة إِلَى دَعوته مَتى يدعونَ فيجيبون فَكَلَام هَؤُلَاءِ فِي الْمَنْدُوب إِلَيْهِ مِمَّا صفا للآخرة وَفِي الْمَأْذُون لَهُم مِمَّا يجارى بَين أهل المعاش فِي أَحْوَالهم قد صَارُوا شَيْئا وَاحِدًا لأَنهم لَهُ وَفِي خدمته وأموره فَإِن نطقوا فَعَنْهُ ينطقون وَإِن صمتوا فإياه يذكرُونَ وَبِه يشتغلون وَفِي نَجوَاهُ يرتاحون
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلَام ابْن آدم كُله عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا هَذِه الْخِصَال أَرَادَ بذلك الضَّرْب الأول وَأما الضَّرْب الثَّانِي فهم أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وخاصة عبيده فهم أُمَنَاء الله تَعَالَى وخدمه فأعمالهم ومتقلبهم كلهَا لَهُ فَلَا تبعة عَلَيْهِم فِي ذَلِك
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِكَايَة عَن الله تَعَالَى إِذا أَحْبَبْت عَبدِي كنت سَمعه وبصره وَلسَانه فَبِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي ينْطق وَبِي يعقل
فَإِذا كَانَ مِمَّن بِهِ ينْطق إِذا نطق فَكيف يكون عَلَيْهِ فِي ذَلِك تبعة(2/195)
- الأَصْل الْمِائَة وَالْخَمْسُونَ
-
فِي أَن من غير الْحق من الْعلمَاء يمسخ وسر مَا يمسخون بِهِ
عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكون فِي أمتِي فزعة فَيصير النَّاس إِلَى عُلَمَائهمْ فَإِذا هم قردة وَخَنَازِير
فالمسخ تَغْيِير الْخلقَة وَإِنَّمَا حل بهم المسخ لأَنهم غيروا الْحق عَن جِهَته وحرفوا الْكَلَام عَن مَوْضِعه فمسخوا قُلُوب الْخلق وأعينهم عَن رُؤْيَة الْحق فمسخ الله تَعَالَى صورهم وَبدل خلقتهمْ كَمَا بدلُوا الْحق بَاطِلا فعلماء السوء على ضَرْبَيْنِ مِنْهُم مكب على حطام الدُّنْيَا لَا يمل من جمعه فتراه شهره ودهره يتقلب فِي ذَلِك كالخنزير على الْمَزَابِل يصير من عذرة إِلَى عذرة قد أَخذ بِقَلْبِه دُنْيَاهُ وألزمه خوف الْفقر وألهجه باتخاذه عدَّة للنوائب لَا يتفكر عَلَيْهِ تقلب أحوالها وَلَا يتَأَذَّى بِسوء رائحتها قد احتشمت من الْحَرَام ووسخت حلالها من تراكم الشَّهَوَات فأفعال هَذَا الضَّرْب واكبابه على هَذِه الْمَزَابِل كإكباب الْخَنَازِير فَإِذا حلت السخطة مسخوا هَؤُلَاءِ فِي صُورَة الْخَنَازِير إِن جوز المسخ فِي هَذِه الْأمة وَإِن لم يجوز ذَلِك فَيحمل على أَن مَعْنَاهُ معنى الْخَنَازِير وَالضَّرْب الثَّانِي هم أهل تصنع وتراء ومخادعة وتزين(2/196)
للمخلوقين شحا على رئاستهم يتبعُون الشَّهَوَات ويلتقطون الرَّفْض ويخلون بِسوء السريرة ويخادعون الله بالحيل فِي أُمُورهم دينهم المداهنة وَسَاكن قُلُوبهم المنى وطمأنينتهم إِلَى الدُّنْيَا وركونهم إِلَى أَسبَابهَا رَضوا من هَذَا كُله بالْقَوْل دون الْفِعْل فَلَمَّا حلت السخطة مسخوا قردة فَإِن من شَأْن القردة المداهنة واللعب والبطالة وَمن شَأْن الْخِنْزِير الإكباب على الْمَزَابِل والعذرات(2/197)
- الأَصْل الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي ضروب الْبكاء وَهِي عشرَة
عَن جرير بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي قارىء عَلَيْكُم سُورَة الهاكم فَمن بَكَى فَلهُ الْجنَّة فَقَرَأَ فمنا من بَكَى وَمنا من لم يبك فَقَالَ الَّذين لم يبكوا قد جهدنا يَا رَسُول الله أَن نبكي فَلم نقدر عَلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي قَارِئهَا عَلَيْكُم الثَّانِيَة فَمن بَكَى فَلهُ الْجنَّة وَمن لم يقدر أَن يبكي فليتباك
الْبكاء على ضروب وينشأ من أَسبَاب مُخْتَلفَة
بكاء من فجعة النَّفس وَهُوَ بكاء مصائب النَّفس يهان وَيضْرب وَيظْلم فِي نَفسه وَمَاله فيبكي ويتولد مِنْهُ صداع الرَّأْس وَضعف الْبَصَر
وبكاء الخدعة وَهُوَ بكاء اللُّصُوص يَبْكُونَ وَالسَّرِقَة فِي أحضانهم لَا يفارقونها وتورث مِنْهُ الْقَسْوَة والمقت
وبكاء المباعدة وَهُوَ بكاء النِّسَاء وَهُوَ يُورث الفترة(2/198)
وبكاء خوف الْوَعيد وَهُوَ بكاء من آمن بوعيد الله تَعَالَى فرق قلبه بفجعة النَّفس وَهُوَ يُوجب الْجنَّة ونزول الرَّحْمَة
وبكاء الْحزن وَهُوَ من المراقبة وَهُوَ أَن يعلم أَنه لَا يكون إِلَّا مَا شَاءَ الله تَعَالَى وَقد شخصت آماله نَحوه وَلَا يصل إِلَى ذَلِك فلفقد مَا يأمل تَأْخُذهُ الأحزان وَهَذَا الْبكاء يُورث نورا فِي الْقلب
وبكاء الْفَرح وَهُوَ لوجدان مَا يأمل وَيُورث الطُّمَأْنِينَة والثقة وَحسن الظَّن بِهِ
وبكاء الخشية فَمن الْعلم بِاللَّه عز وَجل وَوُجُود السَّبِيل إِلَى الْقرْبَة رق قلبه من الرَّحْمَة الَّتِي قرب قلبه مِنْهَا وَيُورث الْخُشُوع
وبكاء الشوق وَهُوَ يُورث الْقرْبَة
وبكاء الحنين إِذا تَحَنن الله تَعَالَى على عبد وَقسم لَهُ الْحَظ من اسْمه الحنان فرأفته مظلة عَلَيْهِ تكتنفه وتحوطه فتثير الْبكاء مِنْهُ من سابغ الرأفة وَهَذَا الْبكاء يُورث الدنو والعطف والشفقة
وبكاء القبضة وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ الدنو فَهُوَ الَّذِي أبكاه قَالَ الله تَعَالَى وانه هُوَ أضْحك وأبكى
وَرَأى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا رجلا يضْحك فِي جَنَازَة فَقَالَ هُوَ أضْحك وأبكى
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يذكر عَن ربه تَعَالَى أَنه قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أما البكاءون من خَشْيَتِي فَلهم الرفيق الْأَعْلَى لَا يشركهم فِيهِ أحد
وَقَالَ خَالِد بن معدان رَضِي الله عَنهُ مَا بَكَى عبد من خشيَة(2/199)
الله تَعَالَى إِلَّا خَشَعت لذَلِك جوراحه وَكَانَ مَكْتُوبًا فِي الْمَلأ الْأَعْلَى باسمه فلَان بن فلَان منور قلبه بِذكر الله تَعَالَى
وَعَن مَالك بن دِينَار رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول الباكي من خشيَة الله تَعَالَى تهتز لَهُ الْبِقَاع الَّتِي يبكي عِنْدهَا وتغمره الرَّحْمَة مَا دَامَ باكيا
وَقَالَ عمر بن ذَر رَحمَه الله تَعَالَى إِن الْبكاء من خشيَة الله يُبدل بِكُل قَطْرَة أَو دمعة تخرج من عَيْنَيْهِ أَمْثَال الْجبَال من النُّور فِي قلبه وَيُزَاد فِي قوته من الْعَمَل ويطفىء بِتِلْكَ المدامع بحورا من النَّار
وَعَن مفضل بن مهلل قَالَ أَن العَبْد إِذا بكي من خشيَة الله تَعَالَى ملئت جوارحه نورا وإستبشرت ببكائه وتداعت بَعْضهَا بَعْضًا من هَذَا النُّور فَيُقَال هَذَا غشيكم من نورالبكاء
وَقَالَ فرقد السبخى رَحمَه الله تَعَالَى قَرَأت فِي بعض الْكتب أَن العَبْد إِذا بَكَى من خشيَة الله تَعَالَى تحاتت عَنهُ ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه وَلَو أَن عبدا جَاءَ بجبال الأَرْض ذنوبا وآثاما لوسعته الرَّحْمَة إِذا بَكَى وَإِذا بَكَى على الْجنَّة تشفع لَهُ الْجنَّة تَقول يَا رب أدخلهُ عَليّ كَمَا بَكَى عَليّ وَإِذا بَكَى خوفًا من النَّار فَالنَّار تستجير لَهُ من ربه تَقول يَا رب أجره مني وبكي خوفًا من دخولي
وَعَن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ من بَكَى خوفًا لله تَعَالَى من ذَنْب غفر لَهُ ذَلِك الذَّنب وَمن بَكَى اشتياقا إِلَى الله تَعَالَى أَبَاحَهُ الله تَعَالَى النّظر إِلَيْهِ مَتى شَاءَ(2/200)
وَقَالَ الله تَعَالَى فِي بكاء الْحزن توَلّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أَلا يَجدوا مَا يُنْفقُونَ
وَقَالَ فِي بكاء الْفَرح وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق
وَبكى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ابْنه إِبْرَاهِيم فَقيل أَتَبْكِي يَا رَسُول الله قَالَ إِنَّمَا هَذِه رَحْمَة وَمن لَا يرحم لَا يرحم
وَأما حَدِيث جرير رَضِي الله عَنهُ فقد خَاطب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَامَّة والمياسير وَقَرَأَ عَلَيْهِم التكاثر وَالسُّؤَال عَن النَّعيم وَفِيه وَعِيد على أثر وَعِيد فخوف الْوَعيد أبكاهم فَقَالَ من بَكَى فَلهُ الْجنَّة قَالَ تَعَالَى ذَلِك لمن خَافَ مقَامي وَخَافَ وَعِيد
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فليتباك أَي يتَمَثَّل لرَبه فِي صُورَة الْبكاء حَتَّى يلْحقهُ بهم فِي الثَّوَاب
وَأما بكاء السَّابِقين وبكاؤهم بكاء أهل الخشية والمشتاقين والمحزونين وبكاء من أبكى الله تَعَالَى وأضحكه وَهُوَ إِذا نظر إِلَى جَلَاله أبكاه وَإِذا نظر إِلَى جماله أضحكه وَمن وَرَاء هَذِه منزلَة أُخْرَى أشرف من هَذِه وَهُوَ بكاء الدنو فَتلك غَمَرَات الْقلب صَاحب هَذَا قلبه مُنْفَرد فِي وحدانيته فَإِذا أدناه أبكاه للرقة الَّتِي تحل بِهِ فَإِذا رَجَعَ إِلَى مرتبته هابه فقلص دمعه وانتشفت الهيبة رقته فيبس فَإِذا أدناه رق فَبكى فالدنو مِنْهُ بر لعَبْدِهِ فالبر يرقه ويبكيه قَالَ هَارُون(2/201)
ابْن أبي زِيَاد رَحمَه الله إِن الْبكاء مَثَاقِيل لَو وزن بالمثقال الْوَاحِد مثل الْجبَال لرجح بِهِ الْبكاء وَإِن الدمعة لتخدر فتطفىء البحور من النَّار وَمَا بَكَى عبد لله مخلصا فِي مَلأ من الْمَلأ إِلَّا غفر لَهُم جَمِيعًا ببركة بكائه
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو أَن عبدا بَكَى فِي أمة من الْأُمَم لأنجى الله تِلْكَ الْأمة من النَّار ببكاء ذَلِك العَبْد وَمَا من عمل إِلَّا لَهُ وزن وثواب إِلَّا الدمعة فَإِنَّهَا تطفىء بحورا من النَّار وَمَا اغرورقت عين بِمَائِهَا من خشيَة الله إِلَّا وَحرم الله جَسدهَا على النَّار وَإِن فاضت على خَدّه لم يرهق وَجهه قتر وَلَا ذلة(2/202)
- الأَصْل الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الشُّكْر اعْتِرَاف وَالصَّبْر بِالتَّسْلِيمِ
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من نعْمَة وَإِن تقادم عهدها فيجددها العَبْد بِالْحَمْد إِلَّا جدد الله تَعَالَى لَهُ ثَوابًا وَمَا من مُصِيبَة وَإِن تقادم عهدها فيجدد لَهَا العَبْد الاسترجاع إِلَّا جدد الله لَهُ ثَوَابهَا وأجرها وَالشُّكْر على النِّعْمَة يُخَفف أثقالها وَالصَّبْر على الشدَّة يحرز لَك ثَمَرَتهَا
وَالشُّكْر معرفتك بِأَن هَذَا مِنْهُ فاداء فَرَائِضه وَحفظ الْجَوَارِح عَن مساخطه والتكلم بِالْحَمْد لله إتْمَام الشُّكْر فَإِنَّهُ اعْتِرَاف بِأَن هَذِه النِّعْمَة مِنْهُ وَالصَّبْر على الْمُصِيبَة والثبات على حفظ الْجَوَارِح لِئَلَّا تعصى والتكلم بالاسترجاع اعْتِرَاف بِالتَّسْلِيمِ لَهُ وكما أَن الْإِيمَان هُوَ الْمعرفَة لله تَعَالَى بوحدانيته والطمأنينة بِهِ وَالتَّسْلِيم لَهُ قلبا والتكلم بِلَا إِلَه إِلَّا الله إعتراف بذلك وبحقيقة الْعَمَل بِهِ ثمَّ العَبْد مَأْمُور بتجديد الْإِيمَان بِهَذِهِ الْكَلِمَة(2/203)
قَالَ جددوا إيمَانكُمْ بِلَا إِلَه إِلَّا الله
فَإِذا كَانَ إيمَانه يَتَجَدَّد بِهَذِهِ الْكَلِمَة فَكَذَلِك حَمده واسترجاعه يَتَجَدَّد وَهَذَا لِأَن العَبْد يتَكَلَّم بِلَا إِلَه إِلَّا الله ثمَّ يدنسها ويكدرها بِسوء أَفعاله لِأَن من شَرط الْمُؤمنِينَ فِي هَذِه الْكَلِمَة أَن لَا يكون لقُلُوبِهِمْ وَله فِي شَيْء إِلَّا إِلَى الله وَأَنه لَا إِلَه غَيره
فَإِذا نابتهم النوائب وَظَهَرت الْحَوَائِج ولهت قُلُوبهم إِلَى المخلوقين فقد دنسوا هَذِه الْكَلِمَة وأخلقوها فَأمروا بالتجديد والاستقبال بالتكلم بهَا وَكَانَ من شَأْن الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَن يَقُول كَانَ كَذَا وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَفعلت كَذَا وَلَا إِلَه إِلَّا الله
وَهَذَا تَفْسِير قَول معَاذ رَضِي الله عَنهُ تعال نؤمن سَاعَة أَي نذكرهُ ذكرا يجمع قُلُوبنَا عِنْده وَيكون الوله إِلَيْهِ فَكَذَلِك الْحَمد والاسترجاع يدنسان ويخلقان بضدهما من الْأَفْعَال الَّتِي تظهر من العَبْد فيجددان ذَلِك فَيكْتب لَهُ ثَوَابهَا يَوْمئِذٍ لِأَنَّهُ جددها بالْقَوْل قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَمد لله رَأس الشُّكْر مَا شكر الله عبد لَا يحمده(2/204)
- الأَصْل الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي حَقِيقَة الاسْتِغْفَار
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن اسْتَطَعْتُم أَن تَسْتَكْثِرُوا من الاسْتِغْفَار فافعلوا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْء أنجح عِنْد الله تَعَالَى وَلَا أحب إِلَيْهِ مِنْهُ
وَالِاسْتِغْفَار سُؤال العَبْد من الله تَعَالَى السّتْر والغفر الغطاء وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى اجتبى عَبده وَاخْتَارَهُ للْإيمَان وَجعل نوره فِي قلبه فهداه لنوره وأحياه بِهِ وَجعل للنور الْأَعْظَم الَّذِي فِي قلبه سترا من نور وقاية ولباسا لَهُ وحجب ذَلِك عَن أعين الثقلَيْن فَهَذَا النُّور الظَّاهِر هُوَ كسْوَة النُّور الْبَاطِن قَالَ تَعَالَى يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير
وَالْمُؤمن فِي بهاء هَذَا السّتْر يمشي على أرضه والخليقة ينظرُونَ إِلَيْهِ بِعَين الْجلَال والشرف فَإِذا هم بالمعصية وعزم عَلَيْهَا تجافى عَنهُ(2/205)
السّتْر فَإِذا عَملهَا تبَاعد عَنهُ وَبَقِي العَبْد عَارِيا من الْبَهَاء والجلال والشرف فَإِن أصر لم يَزْدَدْ إِلَّا ضعة ودنسا وَلم يَزْدَدْ السّتْر إِلَّا بعدا ونزاهة عَنهُ فَإِذا نَدم رَجَعَ إِلَيْهِ بِقَلْبِه فمدن هُنَاكَ أَي أَقَامَ واقامة عزمه أَن لَا يبرح عَن مقَام الطَّاعَة فَإِذا سَأَلَ الْمَغْفِرَة قَالَ استغفرك أَي أَسأَلك أَن ترد عَليّ السّتْر فَيصير فِي ذَلِك النُّور مَسْتُورا وبدو ذَلِك من آدم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لِبَاسه ستره وَهُوَ النُّور فَلَمَّا عصى انْكَشَفَ النُّور وعري فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوآتهما} وَقَوله تَعَالَى فوسوس لَهما الشَّيْطَان ليبدي لَهما مَا ووري عَنْهُمَا من سوآتهما
قَالَ جعل على عَورَة كل وَاحِد مِنْهُمَا نور فَلَا يرى وَاحِد مِنْهُمَا عَورَة الآخر وَقد جعل الله تَعَالَى لهَذِهِ الْجَارِحَة من الْآدَمِيّ شَأْنًا عجيبا لِأَنَّهُ أَدَاة الذُّرِّيَّة فِي صلبه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة والصلب بَاب الذُّرِّيَّة والفرج أَدَاة الشَّهْوَة وَلِهَذَا سَأَلَ دَاوُد سُلَيْمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام عَن كَلِمَات أَن من اخبره بهَا وَرثهُ الْعلم والنبوة فَمن جملَته قَالَ لَهُ أَيْن بَاب الشَّهْوَة مِنْك قَالَ الْفرج فَقَالَ أَي بَاب الذُّرِّيَّة مِنْك قَالَ الصلب
وَعَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ أول مَا خلق الله تَعَالَى من الْإِنْسَان فرجه فَقَالَ هَذَا أَمَانَة خبأتها عنْدك فَلَا تبسل مِنْهَا شَيْئا إِلَّا بِحَقِّهَا
وَقد خلق الله تَعَالَى آدم ليذرأ من صلبه هَذَا الْخلق فَجعل مُبْتَدأ خلقه من الْموضع الَّذِي يذرأ مِنْهُ الْخلق ثمَّ جعل الْحَيَاة فِي الْقلب وَجعل هَذِه الآداة ركنا من أَرْكَان الْقلب وَمِنْه ينشىء الرّيح فيقويه ليقدر على اسْتِعْمَاله فبروح الشَّهْوَة يقوى وَيقدر على الِاسْتِعْمَال وخبأها(2/206)
عِنْده وَجعلهَا أَمَانَة لِئَلَّا يستعملها إِلَّا فِيمَا خلقت لَهُ ثمَّ خلقت مِنْهُ حَوَّاء وَستر عَلَيْهَا ذَلِك مِنْهَا فَلم ينْكَشف السّتْر عَنْهُمَا حَتَّى عصيا فعريا
قَالَ وهب رَضِي الله عَنهُ الْإِيمَان عُرْيَان فلباسه التَّقْوَى وزينته الْحيَاء وَمَاله الْفِقْه فالمؤمن بَين الْخلق فِي ذَلِك اللبَاس يوقر ويعظم ويبجل ويهاب وَلَيْسَ يرى من تقواه إِنَّمَا يرى عَلَيْهِ طلاوة اللبَاس وزهرته ولبق حركاته وتصرفه فِي الْأُمُور وَعَلِيهِ مهابة ذَلِك اللبَاس
وَعَن جُبَير بن نفير رَضِي الله عَنهُ قَالَ صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا بِالنَّاسِ صَلَاة الصُّبْح فَلَمَّا فرغ أقبل بِوَجْهِهِ على النَّاس رَافعا صَوته حَتَّى كَاد يسمع من فِي الْخُدُور وَهُوَ يَقُول يَا معشر الَّذين أَسْلمُوا بألسنتهم وَلم يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبهم لَا تُؤْذُوا الْمُسلمين وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تتبعوا عثراتهم فَإِنَّهُ من يتبع عَثْرَة أَخِيه الْمُسلم يتبع الله عثرته وَمن يتبع الله عثرته يَفْضَحهُ وَهُوَ فِي قَعْر بَيته
فَقَالَ قَائِل يَا رَسُول الله وَهل على الْمُؤمن من ستر
فَقَالَ ستور الله تَعَالَى أَكثر من أَن تحصى إِن الْمُؤمن ليعْمَل بِالذنُوبِ فيهتك عَنهُ سترا سترا حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُ شَيْء فَيَقُول الله تَعَالَى لملائكته استروا على عَبدِي من النَّاس فَإِن النَّاس يعيرون وَلَا يغيرون فتحف بِهِ الْمَلَائِكَة بأجنحتها يسترونه من النَّاس قَالَ فَإِن تَابَ قبل الله مِنْهُ ورد عَلَيْهِ ستوره وَمَعَ كل ستر تِسْعَة أَسْتَار فَإِن تتَابع فِي الذُّنُوب قَالَت الْمَلَائِكَة رَبنَا قد غلبنا وأقذرنا فَيَقُول الله عز وَجل للْمَلَائكَة إستروا على عَبدِي من النَّاس فَإِن النَّاس يعيرون وَلَا يغيرون فتحف بِهِ الْمَلَائِكَة بأجنحتها يسترونه من النَّاس فَإِن تَابَ قبل الله تَعَالَى مِنْهُ فَإِن عَاد قَالَت الْمَلَائِكَة رَبنَا إِنَّه قد غلبنا وأقذرنا فَيَقُول الله(2/207)
تَعَالَى للْمَلَائكَة تخلوا عَنهُ فَلَو عمل ذَنبا فِي بَيت مظلم فِي لَيْلَة مظْلمَة فِي حجر أبدى الله عَنهُ وَعَن عَوْرَته
وَقَالَ سلمَان الْفَارِسِي رَضِي الله عَنهُ إِن الْمُؤمن فِي سبعين حِجَابا من نور فَإِذا عمل خَطِيئَة بعد الْكَبَائِر ثمَّ تناساها حَتَّى يعْمل أُخْرَى يهتك مِنْهَا حجاب من تِلْكَ الْحجب وَلَا يزَال كَذَلِك فَإِذا عمل كَبِيرَة من الْكَبَائِر تهتك عَنهُ تِلْكَ الْحجب كلهَا إِلَّا حجاب الْحيَاء وَهُوَ أعظمها حِجَابا فَإِن تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ ورد تِلْكَ الْحجب كلهَا فَإِن عمل خَطِيئَة بعد الْكَبَائِر ثمَّ تناساها حَتَّى يعْمل أُخْرَى قبل أَن يَتُوب يهتك عَنهُ حجاب الْحيَاء فَالْعَبْد لَا يزَال فِي عيب يحدثه وَستر يَزُول عَنهُ والستر الْأَعْظَم قَائِم فَإِذا أذْنب كَبِيرَة عري
فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ شَيْء عِنْد الله أنجح من الاسْتِغْفَار لِأَنَّهُ ستر نوره وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لله أفرح بتوبة العَبْد من رجل وجد ضالته فِي مفازة مهلكة عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ دخلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرآني حَزينًا فَقَالَ مَا لي أَرَاك حَزينًا يَا أَبَا هُرَيْرَة فَقلت كَانَ بيني وَبَين أهل بَيْتِي شَيْء فعجلت إِلَيْهِم فَقَالَ أَيْن أَنْت ثكلتك أمك عَن الاسْتِغْفَار فوالذي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ إِنِّي لأستغفر فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة مِائَتي مرّة فَأكْثر من الاسْتِغْفَار فان فِي الأَرْض أمانين يُوشك أَن تفقدوا أَحدهمَا عَن قريب وَهُوَ موت نَبِيكُم قَالَ الله تَعَالَى وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ(2/208)
فَإِنَّهُ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة محدقا بأعمال الْخَلَائق لَهُ زئير حول الْعَرْش يَقُول إلهي حَقي حَقي فَيُجِيبهُ الْجَبَّار جلّ جَلَاله فَيَقُول خُذ حَقك فَمَا يتْرك من سيئات بني آدم إِلَّا اجتحفها بِالْجُمْلَةِ
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أدمن الاسْتِغْفَار جعل الله لَهُ من كل هم فرجا وَمن كل ضيق مخرجا ورزقه من حَيْثُ لَا يحْتَسب
أَشَارَ إِلَى الإدمان إِلَى الاسْتِغْفَار لِأَن الْآدَمِيّ لَا يَخْلُو من ذَنْب أَو عيب سَاعَة فساعة
وَلذَلِك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خياركم كل مفتن تواب
فَإِن أدمن على الاسْتِغْفَار خرج من الْعُيُوب والذنُوب وَدخل فِي السّتْر الْأَعْظَم وعادت عَلَيْهِ الستور فالإدمان عَلَيْهِ يحط الذُّنُوب قَالَ الله تَعَالَى وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ
فَإِذا كَانَ العَبْد متيقظا مشرفا على أُمُوره فَكلما أعيب وأذنب أتبعهما اسْتِغْفَارًا لم يبْق فِي وبالهما وعذابهما
وَإِذا كَانَت مِنْهُ الْعُيُوب والذنُوب وَلها عَن الاسْتِغْفَار تراكمت الذُّنُوب والعيوب فَجَاءَت الهموم والضيق والعسر والكد وَالنّصب فِي الدُّنْيَا(2/209)
وَفِي الْآخِرَة عَذَاب وَإِذا اسْتغْفر خرج من الْعَيْب والذنب فَصَارَ لَهُ من الهموم فرجا وَمن الضّيق مخرجا وأسبغ عَلَيْهِ الرزق وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب
وَالتَّقوى اجْتِنَاب الْعَيْب والذنب فَإِذا وَقع فِيهِ لَا يسْتَقرّ حَتَّى يَتُوب
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من رجلَيْنِ مُسلمين إِلَّا بَينهمَا ستر فَإِذا قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه هجرا هتك سترالله تَعَالَى
وَقَوله لَا شَيْء أنجح عِنْد الله وَلَا أحب إِلَيْهِ من الاسْتِغْفَار فأقرب الْأَشْيَاء من الشَّيْء كسوته ووقايته ولعظم قدر الشَّيْء يَجْعَل لَهُ وقاية وَكِسْوَة وسترا وكل شَيْء لَهُ نفاسة وخطر جعل فِي ستر فَهُوَ مَحْظُور وَعَن الْجَمِيع مَسْتُور فَإِذا أذْنب العَبْد تبَاعد عَنهُ السّتْر لنفاسته ونزاهته فَإِذا نَدم فالندم وَالتَّوْبَة بدؤهما من النُّور الَّذِي فِي قلبه هُوَ الَّذِي يندمه ويقتضيه الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى ويهديه لذَلِك فَلَمَّا أُتِي بِهِ وَسَأَلَ السّتْر فَإِنَّمَا يسْأَل بِالنورِ الَّذِي فِي قلبه فَيُحِبهُ لحُرْمَة ذَلِك النُّور قَالَ تَعَالَى إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين
فالتوابون هم الَّذِي رجعُوا إِلَى الله تَعَالَى وَتطَهرُوا بِقُرْبِهِ من نَجَاسَة الذُّنُوب ورجاسة الْعُيُوب
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تَابَ العَبْد فَقبل الله تَوْبَته أنسى الْحفظَة مَا كَانَ يعْمل وَقيل للْأَرْض ولجوارحه اكْتُمِي عَلَيْهِ فَلَا تظهري مساوئه أبدا(2/210)
وَهَكَذَا من شَأْن الْخلق إِذا أحب أحدهم آخر واستقبله فِي طَرِيق وَهُوَ سَكرَان الْتفت يمنة ويسرة هَل رَآهُ أحد على تِلْكَ الْحَالة ثمَّ ستره وَأدْخلهُ منزلا وأنامه إشقافا عَلَيْهِ وَكَرَاهَة أَن يرَاهُ على تِلْكَ الْحَالة أحد وَإِذا اسْتغْفر العَبْد غفر الله لَهُ قَالَ تَعَالَى {فَقلت اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا}
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَربع من أعطيهن لم يمْنَع من الله من أَربع من أعطي الدُّعَاء لم يمْنَع الْإِجَابَة قَالَ الله تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم}
وَمن أعطي الاسْتِغْفَار لم يمْنَع الْمَغْفِرَة قَالَ الله تَعَالَى {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا} وَمن أعْطى الشُّكْر لم يمْنَع الزِّيَادَة قَالَ الله تَعَالَى {لَئِن شكرتم لأزيدنكم}
وَمن أعطي التَّوْبَة لم يمْنَع الْقبُول فَإِنَّهُ قَالَ وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات
وَهَذِه كلهَا على الْحَقَائِق لَا على التجويز فحقيقة الاسْتِغْفَار أَن يرى العَبْد عِنْد الذَّنب خُرُوجه من ستر ربه وتعريه فَيَأْخذهُ الْحيَاء كَمَا يستحي إِذا سلب عَنهُ ثَوْبه فِي مَلأ عَظِيم فيعرى فِي ذَلِك الْمَلأ فينقبض من الْحيَاء
وَحَقِيقَة الشُّكْر أَن يرى النِّعْمَة مِنْهُ رُؤْيَة الْقلب خلقه وتربيته وسياقته(2/211)
وإيصاله إِلَيْهِ فَيَأْخذهُ من أثقال ذَلِك من الخجل مَا يَأْخُذهُ مِمَّن أهدي إِلَيْهِ نعما كَثِيرَة كرات ومرات ودفعات
وَحَقِيقَة التَّوْبَة أَن يرى إباقه من مَوْلَاهُ فَيرجع إِلَيْهِ بندم واعتذار ووجل وحياء فيعزم على التوطن عِنْده بَين يَدَيْهِ أَشد من عزم من أبق من الْآدَمِيّ وَقد أحسن إِلَيْهِ كل الْإِحْسَان ومناه الْعتْق وَالْبر واللطف فَلَمَّا عَاد إِلَيْهِ تأسف على نَفسه تلظيا من فعله وَثقل عَلَيْهِ أَن يتَرَاءَى لَهُ من شدَّة مَا يعلوه من الْحيَاء فَهُوَ يتستر مِنْهُ بِكُل شَيْء ويتوطن أَن لَا يُفَارِقهُ إِلَى الْمَمَات
وَحَقِيقَة الدُّعَاء أَن يسْأَله سُؤال من احضر قلبه كَمَا أحضر بدنه بتضرع وسؤال مُضْطَر فَقير وجد إِذن دُخُول على ملك عطوف رَحِيم
فَإِذا عَامل العَبْد مَعَ الله فِي هَذِه الْخِصَال الْأَرْبَع على غير مَا وَصفنَا فَيُشبه ذَلِك فعل السَّكْرَان والنائم
وقولهما وَلَا يعبأ عِنْد الْعُقَلَاء بفعلهما وَلَا قَوْلهمَا فالمخلط سَكرَان والمستقيم وَهُوَ الْوَرع نَائِم وَإِنَّمَا يفوز بِهَذِهِ الخطة الْعَظِيمَة المتنبهون عَن الله تَعَالَى مزق شعل أنوار الله حجب قُلُوبهم ثمَّ أحرقها فانحسر الْقلب لأمر عَظِيم فَصَارَت هَذِه الْأَرْبَع كلهَا عطاياه فاعطي الاسْتِغْفَار وَالتَّوْبَة وَالشُّكْر وَالدُّعَاء
فاما من دون هَؤُلَاءِ أمروا أَن يَتَطَهَّرُوا من الأوساخ والأدران الَّتِي على قُلُوبهم حَتَّى يُعْطوا النُّور فَتكون هَذِه الْأَرْبَع لَهُم عَطاء على الْحَقِيقَة فيجابوا إِلَى مَا وعدوا لِأَن الله تَعَالَى لم يعد إِلَّا على الْحَقِيقَة والحقيقة هِيَ بُلُوغ الصّفة الَّتِي رسم الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِيمَا بَينهم فَمن دَعَا حَقًا واستغفر حَقًا وشكر حَقًا وَتَابَ حَقًا يُجَاب(2/212)
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا فتح الله على عبد الدُّعَاء فَليدع فَإِن الله يستجيب لَهُ
وَقَالَ أَبُو حَازِم رَحمَه الله لأَنا من أَن أمنع الدُّعَاء أخوف مني من أَن أمنع الأجابة
فالدعاء هُوَ الْعَدو إِلَى الله تَعَالَى بِالْقَلْبِ فَإِذا كَانَ الْقلب فِي حبس النَّفس لَا يَسْتَطِيع الْعَدو إِلَيْهِ وَالتَّوْبَة الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى بِالْقَلْبِ فَإِذا كَانَ الْقلب فِي حبس النَّفس لم يقدر وَالِاسْتِغْفَار سُؤال الغطاء من الذَّنب للعري فَإِذا كَانَ النَّفس حجاب الْقلب لَا يقدر أَن يرى عريه حتي يسبل السّتْر وَالشُّكْر رُؤْيَة النِّعْمَة فَإِذا كَانَ النَّفس حجاب الْقلب لَا يقدر أَن يرى نعمه فَإِذا أُتِي بِهَذِهِ الْأَشْيَاء فَلم يَأْتِ بِهِ على الْحَقِيقَة فإمَّا إِذا أعْطى النُّور وَعدا الْقلب إِلَيْهِ عِنْد الْحَاجة فَسَأَلَ أُجِيب وأسعف بِهِ وَإِذا أعطي النُّور فَرَأى الاباق مِنْهُ رَجَعَ إِلَيْهِ مَعَ النُّور فَتَابَ قبل مِنْهُ وَإِذا رأى العري فَسَأَلَ السّتْر أعطي الْمَغْفِرَة وَإِذا رأى النِّعْمَة فَشكر قبل مِنْهُ فَأعْطِي الزِّيَادَة لِأَن الله تَعَالَى يستأدي من الْخلق الْحَقَائِق دون الْمجَاز(2/213)
- الأَصْل الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْغنى فِي النَّفس والتقى فِي الْقلب
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا جعل غناهُ فِي نَفسه وتقاه فِي قلبه
الْحَاجة فِي النَّفس لِأَنَّهَا مَعْدن الشَّهَوَات وشهواتها لَا تَنْقَطِع فَهِيَ أبدا فقيرة لتراكم الشَّهَوَات عَلَيْهَا واقتضائها وَخَوف فَوتهَا قد برح بهَا وضيق عَلَيْهَا فَهِيَ مغبونة وخلصت فتنتها إِلَى الْقلب فَصَارَ مفتونا فأصمته عَن الله تَعَالَى وأعمته فَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا قذف فِي قلبه النُّور فامتزق الْحجاب وانحسر النُّور الْأَصْلِيّ وأشرق هَذَا النُّور الْوَارِد فِي الْقلب والصدر فَذَاك تقواه بِهِ يَتَّقِي مساخط الله تَعَالَى وَبِه يحفظ حُدُوده وَبِه يُؤَدِّي فَرَائِضه وَبِه يخشي الله تَعَالَى وَيصير ذَلِك النُّور وقايته يَوْم الْجَوَاز على الصِّرَاط فِيهِ يَتَّقِي النَّار حَتَّى يجوزها إِلَى دَار الله تَعَالَى فَهَذَا تقواه فِي قلبه وَأما غناهُ فِي نَفسه فَإِنَّهُ إِذا أشرق الصَّدْر بذلك النُّور تأدى إِلَى النَّفس فأضاء وَوجدت النَّفس لَهَا حلاوة وروحا وَلَذَّة تلهيه عَن لذات الدُّنْيَا وشهواتها وَتذهب مخاوفها(2/214)
وعجلتها وحرقتها وبلاهتها تحيى بحياة الْقلب وتستضيء بِنور الْقلب فتطمئن لِأَن الْقلب صَار غَنِيا بانتباهه عَن الله تَعَالَى وَالنَّفس جَاره وشريكه فَفِي غنى الْجَار غنى وَفِي غنى الشَّرِيك غنى وَالتَّقوى فِي الْقلب وَهُوَ النُّور والغنى فِي النَّفس وَهُوَ الطمأنية(2/215)
- الأَصْل الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله تَعَالَى قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني على الْبر وَالتَّقوى والتواضع وذلة النَّفس
الْبر مَا افْترض الله تَعَالَى على العَبْد والتوقي والكف عَمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ والتواضع أَن يضع مَشِيئَته فِي أُمُوره لمشيئة مَوْلَاهُ وذلة النَّفس ترك المنى فِي عطاياه فِي الدَّرَجَات وَفِي إِقَامَة هَذِه الْأَرْبَع صفو الْعِبَادَة
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قدم وَفد الْيمن على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا أَبيت اللَّعْن فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُبْحَانَ الله إِنَّمَا يُقَال هَذَا لملك وَلست ملكا أَنا مُحَمَّد بن عبد الله
قَالُوا إِنَّا لَا ندعوك بِاسْمِك(2/216)
قَالَ فَأَنا أَبُو الْقَاسِم
قَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِم إِنَّا قد خبأنا لَك خبيئا
فَقَالَ سُبْحَانَ الله إِنَّمَا يفعل هَذَا بالكاهن والكاهن والمتكهن وَالْكهَانَة فِي النَّار
فَقَالَ لَهُ أحدهم فَمن يشْهد لَك أَنَّك رَسُول الله
قَالَ فَضرب بِيَدِهِ إِلَى حفْنَة حَصْبَاء فَأَخذهَا فَقَالَ هَذَا يشْهد أَنِّي رَسُول الله
قَالَ فسجن فِي يَده وقلن نشْهد أَنَّك رَسُول الله
فَقَالُوا اسمعنا بعض مَا أنزل عَلَيْك فَقَرَأَ {وَالصَّافَّات صفا} حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَأتبعهُ شهَاب ثاقب} وَإنَّهُ لساكن مَا ينبض مِنْهُ عرق وان دُمُوعه لتسبقه إِلَى لحيته
قَالُوا لَهُ إِنَّا نرَاك تبْكي أَمن خوف الَّذِي بَعثك تبْكي
قَالَ من خوف الَّذِي بَعَثَنِي أبْكِي إِنَّه بَعَثَنِي على طَرِيق مثل حد السَّيْف إِن رغبت عَنهُ هَلَكت ثمَّ قَرَأَ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك
إِنَّمَا صَار فِي مثل حد السَّيْف لِأَن طَرِيق الْأَعْمَال على النَّفس ومبتدأه من الْقلب وطريقها على النَّفس فَإِذا مرت فَلم يلْتَفت إِلَى النَّفس فقد صفا الْعَمَل وصفت العبودة فَهَذِهِ منزلتان إِحْدَاهمَا أشرف من الْأُخْرَى فَالْأولى أَن يبتدىء الْعَمَل من الْقلب فَيخرج إِلَى الْأَركان وَنَفسه حَيَّة تحب أَن تشركه فِي ذَلِك وَالثَّانيَِة أَن تَمُوت النَّفس وَيقوم(2/217)
الْقلب فِي مقَام الهيبة فَيخرج الْعَمَل إِلَى الْأَركان فَلَا يلْتَفت إِلَى النَّفس وَلَا بِالنَّفسِ حراك فتشخص إِلَيْهِ طرفا فَهَذَا صفو العبودة يعْمل مَا يُؤمر وَلَا يتَكَلَّف من تِلْقَاء نَفسه وَلَا يدبر لنَفسِهِ بل فوض ذَلِك إِلَى مَوْلَاهُ لِأَن من شَأْن الْمُحب أَن لَا تكون لَهُ نهمة دون لِقَاء الحبيب فَإِذا لم يهتد إِلَيْهِ وَوجد دَلِيلا يُؤَدِّيه إِلَيْهِ أَن يققو أثر الدَّلِيل حَتَّى يُؤَدِّيه إِلَيْهِ قَالَ الله تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاستقم كَمَا أمرت
فالاستقامة فِي السّير أَن لَا يلْتَفت يَمِينا وَشمَالًا وَلَا يعرج على شَيْء فيشتغل بِهِ دونه
وَاجْتمعَ نفر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأفاضوا فِي الذّكر فرقوا فطربت نُفُوسهم وَقَالُوا لَو نعلم أَي الْأَعْمَال أحب إِلَى الله تَعَالَى فنعمله فَجَاءَت الْمحبَّة من الله تَعَالَى فَأنْزل الله تَعَالَى {إِن الله يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص}
ليظْهر صدق مَا نطقوا بِهِ فَخَرجُوا إِلَى الْقِتَال فَلم يكن من بَعضهم الَّذِي قَالُوا فَأنْزل الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}
ثمَّ قَالُوا إِنَّا لنحب رَبنَا فامتحنوا فَأنْزل الله تَعَالَى {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله}(2/218)
فَإِن من شَأْن الْكَرِيم أَن يحب من أحبه وَلم ينل حبه أحد إِلَّا من بعد حبه لَهُ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
والاتباع فِي سيرته عَلامَة المحقين وَسيرَته العبودة فِي هَذِه الْخِصَال الْأَرْبَع على مَا ذكرنَا(2/219)
- الأَصْل السَّادِس وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر الْحيَاء والتقى وَالصَّبْر بالتمثيل
عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحيَاء زِينَة والتقى كرم وَخير المراكب الصَّبْر وانتظار الْفرج من الله تَعَالَى عبَادَة
الْحيَاء من فعل الرّوح وَالروح سماوي وَعمل أهل السَّمَاء يشبه بعضه بَعْضًا فِي العبودة وَالنَّفس أرضي شهواني ميال إِلَى شَهْوَة عقيب شَهْوَة ومنية على اثر منية لَا تهدأ وَلَا تَسْتَقِر فاعمالها مُخْتَلفَة لَا يشبه بَعْضهَا بَعْضًا مرّة عبودة وَمرَّة ربوبة وَمرَّة استسلام وَمرَّة تملك وَمرَّة عجز وَمرَّة اقتدار فَإِذا ريضت النَّفس وذلت وأدبت انقادت وَكَانَ السُّلْطَان وَالْغَلَبَة للروح جَاءَ الْحيَاء وَالْحيَاء خجل الرّوح عَن كل أَمر لَا يصلح فِي السَّمَاء فَهُوَ يكاع ويزين الْجَوَارِح والأمور وَهُوَ زِينَة العَبْد فَمِنْهُ الْعِفَّة وَالْوَقار والحلم(2/220)
وَقَوله والتقى كرم فالكرم مَا انْقَادَ وذل وَلذَلِك سمى شَجَرَة الْعِنَب كرما لِأَنَّهُ حَيْثُ مَا مددتها امتدت وذلت لَك
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَقولُوا للعنب كرما إِنَّمَا الْكَرم قلب الْمُؤمن
فَإِذا ولج النُّور الْقلب رطب ولان وبرطوبته وَلينه ترطب النَّفس وتلين وَتذهب كزازتها ويبسها وطفئت حرارة الشَّهَوَات بِالنورِ الْوَارِد على الْقلب لِأَنَّهُ من الرَّحْمَة وَالرَّحْمَة بَارِدَة فانقاد الْقلب فاتقى
وَقَوله وَخير المراكب الصَّبْر فالصبر ثبات العَبْد بَين يَدي ربه فِي مقَامه لأموره وَأَحْكَامه خف أَو ثقل أحب أَو كره يسرا وعسرا فَهُوَ خير مركب ركب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَهُوَ مركب الْوَفَاء بالعهد فَإِن الله تَعَالَى خلق الدُّنْيَا ممرا لعبيده إِلَى دَار السَّلَام فالقوم المختارون يَأْخُذُونَ الزَّاد ويمرون وَمن الْوَفَاء أَن لَا يلْتَفت إِلَى شَيْء سوى الزَّاد قَالَ الله تَعَالَى أَوْفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون أَي فارهبوا من نفوسكم إِلَيّ والهرب والرهب بِمَعْنى وَاحِد
وَقَوله انْتِظَار الْفرج من الله عبَادَة لِأَن فِي انْتِظَار الْفرج قطع العلائق والأسباب إِلَى الله تَعَالَى وَتعلق الْقلب بِهِ وشخوص الأمل إِلَيْهِ والتبري من الْحول وَالْقُوَّة فَهَذَا خَالص الْإِيمَان(2/221)
- الأَصْل السَّابِع وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي فضل مَاء زَمْزَم
عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَمْزَم لما شربت لَهُ
فزمزم سقيا الله وغياثه لولد خَلِيله إِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام فَبَقيَ غياثا لمن بعده فِي كل نائبة إِن شربت لمَرض شفيت وَإِن شربت لغم فرج عَنْك وَإِن شربت لحَاجَة استعنت وَإِن شربت لنائبة صلحت لِأَن أَصله من الرَّحْمَة بدا غياثا فلأي شَيْء شربه الْمُؤمن وجد غوث ذَلِك الْأَمر(2/222)
- الأَصْل الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن عمل الْأَنْبِيَاء والأولياء فِي الدَّاريْنِ خدمَة وعبودة
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دخل الْبَيْت كأحدكم يخيط ثَوْبه وَيعْمل كأحدكم
هَكَذَا شَأْن الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام لأَنهم عبيد الله تَعَالَى على العبودة وقفُوا بَين يَدَيْهِ وَرَأَوا أَن هَذِه الْأَعْمَال الَّتِي للدنيا وَالْآخِرَة كلهَا تَدْبِير الله تَعَالَى فِي أرضه وَأَنَّهَا كلهَا معلقَة بَعْضهَا بِبَعْض وَأَنَّهَا لله تَعَالَى فَمَا اسْتَقْبَلَهُمْ من أَمر لم يؤثروا عَلَيْهِ شَيْئا وَلَا اخْتَارُوا من تِلْقَاء أنفسهم أمرا فلزموه ورفضوا لما سواهُ لأَنهم يحبونَ أَن يَكُونُوا كالعبيد مَا وضع بَين أَيْديهم عملوه عبودة حَتَّى يلْقوا الله تَعَالَى بهَا فَيَضَع عَنْهُم رق العبودة ويرضي عَنْهُم هَذَا بغيتهم
وَأما الْآخرُونَ فقد اخْتَارُوا من الْأَعْمَال وآثروا هَذَا على ذَلِك وَذَاكَ على هَذَا طلبا للأفضل لينالوا من نعيم الْجنان ورفضوا كثيرا من الْأَعْمَال(2/223)
ضيعوا بِهِ حقوقا وَاعْتبر هَذَا بِحَدِيث جريج الراهب حِين نادته أمه وَهُوَ فِي الصَّلَاة يَا جريج أَرِنِي وَجهك من الصومعة فَقَالَ صلاتاه فآثرها على أمه فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كَانَ جريج الراهب فَقِيها عَالما لعلم أَن إِجَابَة أمه من عبَادَة ربه
فَمن فقه عَن الله تَعَالَى أمره وَرَأى تَدْبيره لم يجد بدا من رفض الِاخْتِيَار فَلَا يُؤثر أمرا على أَمر وَلَا حَالا على حَال وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بعث أَصْحَابه إِلَى تَبُوك أَمر عَلَيْهِم زيد بن حَارِثَة وَقَالَ إِن قتل زيد فجعفر أَمِير عَلَيْكُم فَقَالَ جَعْفَر رَضِي الله عَنهُ يَا رَسُول الله أتؤمر علينا زيدا قَالَ إِنَّك لَا تَدْرِي فِي أَي ذَلِك خير
وَرُوِيَ أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يَا رب أَي عِبَادك أكبر ذَنبا قَالَ الَّذِي يتهمني قَالَ وَمن يتهمك يَا رب قَالَ الَّذِي يستخيرني فَإِذا خرت لَهُ لم يرض بذلك
فَمن جعل أُمُور الْآخِرَة وَأُمُور الدُّنْيَا كلهَا لله تَعَالَى وَأَرَادَ بذلك إِقَامَة العبودة فقد سَقَطت عَنهُ مُؤنَة الأختيار وَلَا تملكه الْأَحْوَال وَلَا الْأَعْمَال(2/224)
- الأَصْل التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي المقة والصيت وعلامة أَهلهَا
عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المقة من الله فِي الأَرْض والصيت فِي السَّمَاء فَإِذا أحب الله تَعَالَى عبدا نَادَى جبرئيل فِي السَّمَاء أَن الله تَعَالَى يحب فلَانا فَأَحبُّوهُ فتنزل المقة فِي الأَرْض
أَرَادَ بالصيت اضْطِرَاب الصَّوْت والنداء وَقَوله تَعَالَى وألقيت عَلَيْك محبَّة مني قَالَ ملاحة وحلاوة(2/225)
وَقَوله تَعَالَى وَحَنَانًا من لدنا قَالَ معبد الْجُهَنِيّ رَضِي الله عَنهُ الحنان المحبب
وَقَالَ عَليّ كرم الله وَجهه سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قَوْله تَعَالَى {سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا} مَا هُوَ يَا رَسُول الله قَالَ الْمحبَّة يَا عَليّ فِي صُدُور الْمُؤمنِينَ وَالْمَلَائِكَة المقربين يَا عَليّ إِن الله تَعَالَى أعْطى الْمُؤمن ثَلَاثًا المقة والمحبة والملاحة والمهابة فِي صُدُور الصَّالِحين فَمن اصطنعه لنَفسِهِ قبل نَفسه فَوجدَ لَهُ حلاوة وملاحة وَمن دَعَاهُ فَأَجَابَهُ وَصدقه فِي الإفجابة قربه فَقبل قلبه فَوجدَ لَهُ فِي الْقُلُوب وده وَهُوَ الْمحبَّة قَالَ الله تَعَالَى {واصطنعتك لنَفْسي}
فَكَانَ لَا يرَاهُ أحد إِلَّا أحبه حَتَّى فِرْعَوْن الَّذِي كَانَ يذبح أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل من أَجله كَانَ يرشفه فِي حجره
فَمن كَانَ من بعده على مثل سَبيله وَطَرِيقه إِلَيْهِ فَلهُ الْحَلَاوَة والملاحة وَمن سَار إِلَيْهِ حَتَّى وصل فنال الْقرْبَة فَلهُ الود فِي الْقُلُوب
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل عبد صيت فان كَانَ صَالحا وضع فِي السَّمَاء وَإِن كَانَ سَيِّئًا وضع فِي الأَرْض(2/226)
- الأَصْل الْمِائَة وَالسِّتُّونَ
-
فِي الِاسْتِعَاذَة من النِّفَاق وثمراته
عَن أم معبد رَضِي الله عَنْهَا قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول اللَّهُمَّ طهر قلبِي من النِّفَاق وعملي من الرِّيَاء ولساني من الْكَذِب وعيني من الْخِيَانَة فَإنَّك تعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور
وَعَن حَنْظَلَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا جَاءَنِي جِبْرَائِيل إِلَّا أَمرنِي بِهَاتَيْنِ قَالَ تَقول اللَّهُمَّ ارزقني طيبا واستعملني صَالحا
والنفاق مَا كَانَ ذَا لونين يَقِين وَشك وإخلاص ورياء وَغير ذَلِك وَإِنَّمَا سمي نفَاقًا لِأَنَّهُ يدْخل عَلَيْهِ الْأَمر من بَابَيْنِ من بَاب الله تَعَالَى فَيقبل عَنهُ من طَرِيق الْإِيمَان وَمن بَاب النَّفس فَيقبل عَنْهَا من طَرِيق الشَّهْوَة وَكَذَلِكَ نافقاء اليربوع يدْخل من هَذَا الْبَاب وَيخرج من الْبَاب الآخر(2/227)
وَكَذَلِكَ النَّفَقَة تَأْخُذ بِالْيَدِ وتنفق بِالْأُخْرَى فَسَأَلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربه عز وَجل أَن يطهر قلبه من آفَات النَّفس فأجملها فَقَالَ طهر قلبِي من النِّفَاق وعملي من الرِّيَاء
رُوِيَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ كُنَّا نوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطرقه أمرا وَيَأْمُر بشئ قَالَ فَكثر أهل النوب والمحتسبون لَيْلَة حَتَّى كُنَّا نتحدث فَخرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَا هَذِه النَّجْوَى ألم تنهوا عَن النَّجْوَى فَقُلْنَا تبنا إِلَى الله يَا رَسُول الله إِنَّا كُنَّا فِي ذكر الْمَسِيح نتخوف مِنْهُ فَقَالَ أَلا اخبركم بِمَا هُوَ أخوف عَلَيْكُم عِنْدِي من الْمَسِيح قَالَ بلَى يَا رَسُول الله قَالَ الشّرك الْخَفي رجل يعْمل لمَكَان رجل
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولساني من الْكَذِب فَإِن اللِّسَان يعبر بِهِ عَن مَكْنُون الْقلب وَإِذا قَالَ بِلِسَانِهِ مَا لم يكن كذبه الله تَعَالَى وَكذبه إيمَانه لِأَنَّهُ إِذا قَالَ لشَيْء لم يكن انه قد كَانَ فقد زعم أَن الله تَعَالَى خلقه وَإِذا أخبر أَنه قد كَانَ وَلم يكن الله تَعَالَى كَونه فقد افترى على الله تَعَالَى
وَلذَلِك قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ الْكَذِب مُجَانب للْإيمَان فإيمانه فِي قلبه يكذبهُ فَسَأَلَ أَن يطهر لِسَانه من ذَلِك
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعيني من الْخِيَانَة فخيانة الْعين المسارقة كَأَنَّهُ يُرِيد أَن يسرق مِمَّن لَا يسرق مِنْهُ ويستخفي مِمَّن لَا تخفي عَلَيْهِ لمحة فَإِنَّهُ لَا ينظر وَلكنه يلحظ سَرقَة واختلاسا لمَكَان المخلوقين وَقد غفل قلبه عَن أَن يرَاهُ أبْصر الناظرين قَالَ الله تَعَالَى يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفى الصُّدُور(2/228)
وَقَوله فِي الحَدِيث الآخر ارزقني طيبا واستعملني صَالحا سَأَلَهُ عَيْش أهل الْجنان رزقهم طيب وأفعالهم صَالِحَة كلهَا لَيْسَ فِيهَا فَسَاد فَإِن الْعباد على ضَرْبَيْنِ مِنْهُم من وضع بَين يَدَيْهِ فَقيل لَهُ اعْمَلْ هَذَا ودع هَذَا وَأَقْبل على هَذَا وجانب هَذَا بَين لَهُ الشَّرِيعَة ثمَّ قيل لَهُ سر فِيهَا مُسْتَقِيمًا وَخذ الْحق واجتنب الْبَاطِل وَكَثِيرًا مَا يَقع فِي التَّخْلِيط والأغاليط ويشوبه مَا لَيْسَ مِنْهُ وَمِنْهُم من جازوا هَذِه الخطة وعافوا لمنتهى ونسوه طهرت قُلُوبهم وأركانهم فاستعملهم رَبهم فِي الشَّرِيعَة لمحابه وَبِمَا قد علم أَن صَلَاحهمْ فِي ذَلِك فَسَأَلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الِاسْتِعْمَال صَالحا(2/229)
- الأَصْل الْحَادِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي دُعَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْأمة عَشِيَّة عَرَفَة وغداة الْمزْدَلِفَة
عَن عَبَّاس بن مرداس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا لأمته عَشِيَّة عَرَفَة بالمغفرة وَالرَّحْمَة فَأكْثر الدُّعَاء فَأَجَابَهُ أَنِّي فعلت إِلَّا ظلم بَعضهم بَعْضًا فَأَما ذنوبهم فِيمَا بيني وَبينهمْ فقد غفرتها قَالَ يَا رب إِنَّك قَادر أَن تثيب هَذَا الْمَظْلُوم خيرا من مظلمته وَتغْفر لهَذَا الظَّالِم فَلم يجبهُ تِلْكَ العشية فَلَمَّا كَانَ الْغَدَاة غَدَاة الْمزْدَلِفَة اجْتهد فِي الدُّعَاء فَأَجَابَهُ أَنِّي قد غفرت لَهُم فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقيل تبسمت فِي سَاعَة لم تكن تتبسم فِيهَا فَقَالَ تبسمت من عَدو الله إِبْلِيس انه لما علم أَن الله قد اسْتَجَابَ لي فِي أمتِي أَهْوى يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور ويحثي على وَجهه ويفر قد نالتهم الْمَغْفِرَة عَشِيَّة عَرَفَة وستروا من الذُّنُوب وَالْحق تَعَالَى يناشدهم وَيَقْتَضِي تبعات الْخلق وَلَا مرد لَهُ وَلَا معَارض فَلَو تَركهم وَالْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأخرجهم من السّتْر حَتَّى يعودوا إِلَى الْحَالة الأولى عُرَاة فعطف الله تَعَالَى عَلَيْهِم وَلم يخيب أضيافه وزائريه والمنيخين بفنائه يستعطفونه ويسألونه سُؤال الْمَسَاكِين فَيضمن عَنْهُم التَّبعَات ويرضى أَهلهَا عَنْهُم فغفرها فبقوا فِي ستره وَرَضي الْحق جلّ جَلَاله ضَمَان الْكَرِيم الوفي وخلا(2/230)
عَنْهُم فصاروا إِلَى تطواف بَيته الْمحرم لائذين بِهِ بعد أَن أرضوا الْحق تَعَالَى وَتطَهرُوا من الأدناس فحباهم وخلع على قُلُوبهم من النُّور وَتلك عرائس الضِّيَافَة(2/231)
- الأَصْل الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي صفة الْأَوْلِيَاء وَحَقِيقَة الْولَايَة أَو التحذير من إهانتهم
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن جبرئيل عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وَإِنِّي لأسرع شَيْء إِلَى نصْرَة أوليائي لِأَنِّي لأغضب لَهُم كَمَا يغْضب اللَّيْث الْحَرْب وَمَا ترددت عَن شَيْء أَنا فَاعله ترددي عَن قبض روح الْمُؤمن يكره الْمَوْت وأكره مساءته وَلَا بُد لَهُ مِنْهُ وَمَا تعبد لي عَبدِي الْمُؤمن بِمثل الزّهْد فِي الدُّنْيَا وَلَا تقرب إِلَيّ عَبدِي الْمُؤمن بِمثل أَدَاء مَا افترضت عَلَيْهِ وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل حَتَّى أحبه فاذا أحببته كنت سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا إِن سَأَلَني أَعْطيته وَإِن دَعَاني استجبت لَهُ وَإِن من عبَادي الْمُؤمنِينَ لمن لَا يصلحه إِلَّا الْغَنِيّ وَلَو أفقرته لأفسده ذَلِك وَإِن من عبَادي الْمُؤمنِينَ من لَا يصلحه إِلَّا الْفقر وَلَو أغنيته لأفسده ذَلِك وَإِن من عبَادي الْمُؤمنِينَ من لَا يصلحه إِلَّا الصِّحَّة وَلَو أسقمته لأفسده ذَلِك وَإِن من عبَادي الْمُؤمنِينَ من لَا يصلحه إِلَّا السقم وَلَو صححته لأفسده ذَلِك إِنِّي أدبر عبَادي بعلمي بقلوبهم إِنِّي عليم خَبِير(2/232)
وَفِي رِوَايَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَإِذا أحببته كنت بَصَره الَّذِي بِهِ يبصر وَلسَانه الَّذِي بِهِ ينْطق وَأذنه الَّذِي بهَا يسمع وفؤاده الَّذِي بِهِ يعقل وَيَده الَّذِي بهَا يبطش وَرجله الَّذِي بهَا يمشي
قَوْله من أهان لي وليا فالولي من ولي الله هدايته وَنَصره وَأَخذه من نَفسه وَرَفعه بمحمل عَليّ جَاهد فَصدق الله فِي جهده حَتَّى إِذا استفرغ وَسعه فِي ذَلِك ألْقى نَفسه بَين يَدَيْهِ ضرعا مستكينا مستغيثا بِهِ صَارِخًا إِلَيْهِ مُضْطَرّا وَقَالَ تَعَالَى أَمن يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأَرْض
فَأَجَابَهُ الله تَعَالَى ورحمه وَأَخذه من نَفسه بِنور فتح لِقَلْبِهِ من الْغَيْب فاشتعل نَارا أحرقت شهوات نَفسه وأشرق الصَّدْر بنوره فكشف السوء وَجعله من خلفائه إِمَامًا من أَئِمَّة الْهدى وَجعله ربيعا يشم أزهاره وخريفا يجتني أثماره وَولي إِقَامَته على طَرِيقَته حَتَّى رتب لَهُ مَا عِنْده وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا وَإِن الله لمع(2/233)
الْمُحْسِنِينَ)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُجَاهِد من جَاهد نَفسه فِي ذَات الله تَعَالَى وَذَلِكَ أفضل الْجِهَاد
فَمن أهان هَذَا الْوَلِيّ فقد خرج إِلَى مبارزة الله تَعَالَى يُرِيد أَن يسلبه مَا أَخذ وَيَأْخُذ مِنْهُ مَا قد رفع فيضعه
وَقَوله وَإِنِّي لأسرع شَيْء إِلَى نصْرَة أوليائي فَإِن من تَدْبِير الله تَعَالَى أَن الْحق عزو جلّ وَالرَّحْمَة مقتضيان فِي شَأْن الْخلق فَالْحق تَعَالَى يَقْتَضِي عبودته فَمن لم يقبلهَا فَهُوَ ذَرأ النَّار قَالَ تَعَالَى لأملئن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ
وَمن قبلهَا فوفى بهَا فَلَا حِسَاب وَلَا عَذَاب وَيدخل الْجنَّة بِسَلام وَمن قبلهَا فوفى بِبَعْض وضيع بَعْضًا اقْتضى الْحق تَعَالَى ذَلِك وَالنَّار منتقمة تَأْخُذ من جسده وَتَدَع كَمَا وفى بِبَعْض وَترك بَعْضًا فَإِذا قَالَ جَاءَت الْمَشِيئَة جَاءَت الرَّحْمَة فَأَخَذته من الْحق تَعَالَى فأنقذته من الْعَذَاب فَإِن الْحق تَعَالَى يَقْتَضِي الْغَضَب وَالنَّار وتجيء الرَّحْمَة لمن سبقت لَهُ رَحمته غَضَبه فَأَخَذته من الْحق قَالَ تَعَالَى سبقت رَحْمَتي غَضَبي
وَهَذَا لعامة الْمُوَحِّدين فَأَما الْأَوْلِيَاء فَإِنَّمَا نالوا الْولَايَة بِالرَّحْمَةِ الْعُظْمَى(2/234)
فَمن نازعه أَو آذاه أَو ظلمه فالرحمة خَصمه وَالْحق عز وَجل خصم الْجَمِيع فقد اجْتمع الْحق وَالرَّحْمَة فِي طلب ثَأْره من ظالمه فَلذَلِك كَانَ أسْرع شَيْء إِلَى نصْرَة أوليائه عَلَيْهِم السَّلَام وَالرَّحْمَة من الْمَشِيئَة وَالْحق من الْقُدْرَة
وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك مَا روى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَاد ليقمْ أهل الله فَيقوم أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم فَيُقَال لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ قُم على بَاب الْجنَّة فَأدْخل فِيهَا من شِئْت برحمة الله تَعَالَى ورد مِنْهَا من شِئْت بقدرة الله تَعَالَى وَيُقَال لعمر رَضِي الله عَنهُ قُم عِنْد الْمِيزَان فثقل ميزَان من شِئْت برحمة الله واخف ميزَان من شِئْت بقدرة الله وَيُقَال لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ خُذ هَذِه الْعَصَا فذد بهَا للنَّاس عَن الْحَوْض وَيُقَال لعَلي رَضِي الله عَنهُ البس هَذِه الْحلَّة فَإِنِّي قد خبأتها لَك مُنْذُ خلقت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَى الْيَوْم
فقد بَين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منَازِل الْقَوْم أَنهم أهل الله عز وَجل وخاصته وَأَنه ينْكَشف ذَلِك لأهل الْموقف غَدا يظهره عَلَيْهِم عِنْد خلقه وَقد صَارُوا أُمَنَاء الله تَعَالَى ووقفت قُلُوبهم بَين يَدَيْهِ رافضين لمشيئتهم وَلذَلِك سماهم أهل الله والأهل والآل بِمَعْنى يئولون إِلَيْهِ فِي كل شَيْء فيبرز لأهل الْموقف مقاومهم بقلوبهم وضمائرهم الَّتِي كَانَت فِيمَا بَينهم وَبَين الله تَعَالَى كَرَامَة لَهُم وتنويها بِأَسْمَائِهِمْ فِي ذَلِك الْجمع فَكَانَ الْغَالِب على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ الرَّحْمَة فِي أَيَّام الْحَيَاة وَالْغَالِب على عمر رَضِي الله عَنهُ الْقيام بِالْحَقِّ وتعزيزه وكأنهما كَانَا مِمَّن هُوَ فِي قَبضته يَسْتَعْمِلهُ فَاسْتعْمل هَذَا بِالرَّحْمَةِ وَهَذَا بِالْحَقِّ فَهَذَا وقف عِنْد بَاب الْجنَّة يطْلب أهل الْموقف بِالرَّحْمَةِ ليوردهم الْجنَّة وَذَا يقف عِنْد الْمِيزَان وَيُطَالب أهل الْموقف بِالْعَدْلِ(2/235)
وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي ينْطق
وَمِنْه قَول عمر رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ أَتَاهُ رجل وَالدَّم يسيل على وَجهه من شجته فَقَالَ وَيحك من فعل بك قَالَ عَليّ فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ رَأَيْته مقاوما إمرأة فأصغيت إِلَيْهِمَا فساءني مَا سَمِعت فشججته فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أصابتك عين من عُيُون الله تَعَالَى وَإِن لله تَعَالَى فِي الأَرْض عيُونا فَهَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي يبطش
وَأما عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ إغاثة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نوائبه بِالْمَالِ فَحكمه فِي شَأْن الْحَوْض ليذود من لم يسْتَحق من الْحَوْض شرابًا فَإِن الْحَوْض غياث الْخلق يَوْمئِذٍ
وَأما عَليّ كرم الله وَجهه فالغالب عَلَيْهِ النَّفاذ فِي علم التَّوْحِيد وَبِه كَانَ يبرز على عَامَّة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي الله عَنْهُم وَيدل على ذَلِك خطبه فَإِنَّهُ بَالغ فِي التَّوْحِيد وَالثنَاء على ربه تَعَالَى وبرز على غَيره والحلة الَّتِي خبأها لَهُ هِيَ حلَّة التَّوْحِيد فَهَذَا قسم الله لَهُم وحظوظهم مِنْهُ فيظهرها الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة على أَحْوَالهم
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْحم أمتِي بأمتي أَبُو بكر وَأَقْوَاهُمْ فِي دين الله عمر وأصدقهم حَيَاء عُثْمَان(2/236)
وَقَوله مَا ترددت فِي شَيْء ترددي عَن قبض روح عَبدِي فَإِن الْمَوْت خلق فظيع مُنكر لَا بُد للأحباب أَن يذوقوه وَأمر ثقيل مر لَا يَخْلُو من أَن يكرهوه وَقد علم الله تَعَالَى أَنه يشْتَد عَلَيْهِم ويتأذون بِهِ فتردد فِي فعله لكَرَاهَة مساءتهم وَقد قضى الله تَعَالَى على نَفسه حتما أَنه يَفْعَله فمشيئته لموتهم تردد بَين الْحق وَالرَّحْمَة فَالْحق تَعَالَى ينفذ الْمَوْت وَالرَّحْمَة تَدْفَعهُ والمشيئة مترددة بَينهمَا مرّة إِلَى الرَّحْمَة وَمرَّة إِلَى الْحق فَمن كَانَ أَيَّام الْحَيَاة اهتش إِلَى ذكر الله شوقا إِلَيْهِ فغليان الشوق فِي قلبه مراجل وَهَذَا الشوق فِي الْقلب بِالرَّحْمَةِ فَتلك الرَّحْمَة تتحرك لَهُ عِنْد كل نائبة وَأعظم نوائبه الْمَوْت يُرِيد خلاصه وَالْحق من ناحيته يَقْتَضِيهِ أَن ينفذ الْمَوْت عَلَيْهِ والمشيئة من الله تَعَالَى مترددة فِيمَا بَينهمَا مرّة إِلَى هَذَا وَمرَّة إِلَى ذَلِك وَلَا بُد من الْمَوْت فَأَما غير هَؤُلَاءِ فَلَيْسَ لَهُم هَذَا الْحَال فَإِذا جَاءَت الْمَشِيئَة مَعَ الْحق نفذ أمره قَالَ تَعَالَى وَجَاءَت سكرة الْمَوْت بِالْحَقِّ ذَلِك مَا كنت مِنْهُ تحيد
فالحائد من الْمَوْت أَيَّام الْحَيَاة يَأْخُذهُ الْحق بتنفيذ الْمَوْت وَلَيْسَ للرحمة حَرَكَة فِي الدّفع عَنهُ لِأَن الْمَشِيئَة لم تَتَرَدَّد بَينهمَا فنفذ
وَقَوله إِنِّي لأغضب لَهُم كَمَا يغْضب اللَّيْث الْحَرْب فالليث كريم لَا يُؤْذِي حَتَّى يجترأ عَلَيْهِ فاذا اجترىء عَلَيْهِ اصطفه حَرْب فَكسر وَدَمرَ على من ظفر بِهِ فَمن آذي ولي الله تَعَالَى فَإِنَّمَا يجترىء على الله تَعَالَى يُرِيد أَن يحاربه فَيَأْخُذ مِنْهُ مَا إصطفاه لنَفسِهِ فَيفْسد شَأْنه ويهدم تَرْبِيَته وبنيانه فَإِن الْوَلِيّ إِذا بلغ غَايَة الصدْق فِي السّير إِلَى الله تَعَالَى ومجاهدة النَّفس وفطم نَفسه عَن سيىء الْأَخْلَاق وَقد انْقَطَعت حيلته وَبَقِي بَين يَدَيْهِ ينْتَظر رَحمته انتخبه الله تَعَالَى للولاية ووكل(2/237)
الْحق بِهِ يهديه ويطهره ويسير بِهِ إِلَيْهِ وَترد إِلَيْهِ الْأَنْوَار من قربه وتطهر نَفسه وتميت مِنْهُ الْأَخْلَاق الرَّديئَة فَذَاك تربية الله تَعَالَى لَهُ فَإِذا تمّ الْبُنيان والتربية كشف الغطاء وأشرق على صَدره نوره وَجعل لِقَلْبِهِ إِلَيْهِ طَرِيقا لَا يَحْجُبهُ عَنهُ شَيْء فَهُوَ ولي الله يَتَوَلَّاهُ فِي أُمُوره وَهُوَ يكلؤه ويستعمله فَمن يتَعَرَّض لَهُ ويظلمه فقد اجترأ على الله تَعَالَى يُرِيد أَن يهدم بُنْيَانه وَيفْسد تَرْبِيَته فَغَضب الله لَهُ
وَهَذَا مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إياك ونار الْمُؤمن لَا تحرقك وَإِن عثر كل يَوْم سبع مَرَّات فَإِن يَمِينه بيد الله تَعَالَى إِذا شَاءَ أَن ينعشه نعشه
وَأَرَادَ بِالْمُؤمنِ هَهُنَا الْمُؤمن الْبَالِغ وَهُوَ الْوَلِيّ لله تَعَالَى الَّذِي احتظى من النُّور والقربة وَقد تولاه الله تَعَالَى فَإِذا تعرضت لَهُ بمكروه فَنَار نوره تحرقك فَأَما الْعَامَّة من الْمُؤمنِينَ فمعه نور التَّوْحِيد وَلَا حَظّ لَهُ من نوره فَلَيْسَ لَهُ نَار تحرق وَلِهَذَا حذرك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يشْتَبه عَلَيْك أمره فَإِذا رَأَيْته عثر أَو وَقع فِي زلَّة أَن تنظر إِلَيْهِ بِعَين الازراء كَسَائِر الْعَامَّة فَإِن يَمِينه بيد الله تَعَالَى لِأَنَّهُ صَار فِي قَبضته وَقد أَخذه من نَفسه فَهُوَ يمسِكهُ وَهُوَ يحفظه فَإِذا عثر فَتلك العثرة كَانَت فِي تَدْبِير الله تَعَالَى لَهُ ليجدد عَلَيْهِ أَمر أَو ليرفعه إِلَى مَا هُوَ أعظم شَأْنًا وَلَيْسَت تِلْكَ عَثْرَة رفض إِنَّمَا هِيَ عَثْرَة تَدْبِير كَذَا دبر لَهُ كَمَا دبر لداود عَلَيْهِ السَّلَام تِلْكَ الْخَطِيئَة ثمَّ انْظُر أَي شَيْء كَانَ لَهُ بعد الْخَطِيئَة من الْكَرَامَة والقربة وَظهر لَهُ من الله تَعَالَى الزلفة والعطف عَلَيْهِ فَيكون للأولياء عثرات يجدد الله تَعَالَى لَهُم بهَا كرامات ويبرز لَهُم مَا كَانَ مغيبا عَنْهُم من حبه إيَّاهُم وَعطفه عَلَيْهِم فينعشهم فَهُوَ مَعَ ذَلِك الذَّنب يَمِينه بيد الله لم يكله إِلَى نَفسه وَلَا تخلى عَنهُ(2/238)
وَإِنَّمَا يجْرِي عَلَيْهِ الذَّنب ثمَّ ينعشه فيدخله الله الْجنَّة وَيدخل الَّذِي يعير بِهِ النَّار
وَقَوله وَمَا تقرب إِلَيّ عَبدِي الْمُؤمن بِمثل أَدَاء مَا افترضته فَإِنَّمَا فرض الله تَعَالَى الْفَرَائِض من الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج ليحط بهَا عَنهُ الْخَطَايَا وليتطهر بهَا العَبْد قَالَ تَعَالَى وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار إِلَى قَوْله إِن الْحَسَنَات يذْهبن السيئآت فَإِن العَبْد قد يلهو عَن العبودة ويطيع الْهوى ويركب الْخَطَايَا والذنُوب
فَهَذِهِ سيئآت قد قبحته وشانته فَإِذا صلى فالقيام تذلل وَتَسْلِيم وَالرُّكُوع خشوع وَالسُّجُود خضوع وَالْجُلُوس رَغْبَة وضرع فَهَذِهِ حَسَنَات تذْهب السيآت وَتظهر الزين وتستر الشين وَأما الزَّكَاة فَقَالَ تَعَالَى خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا
وَأما الْحَج فَإِن الله تَعَالَى أَمر بِالْوُقُوفِ ثمَّ قَالَ فِي آخِره فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ أَي يرجعُونَ مغفورين قد حطت عَنْهُم الآثام
فَهَذِهِ الْفَرَائِض فَرضهَا عَلَيْهِم لتَكون دَوَاء للداء الَّذِي اكتسبوه فَإِذا أَقَامَهَا فقد تطهر فصلح للقربة فَإِذا تنفل بعد ذَلِك اسْتوْجبَ الْمحبَّة فَإِن النَّفْل فِي الْمَغَازِي كالعطف من الْأَمِير على الْوَاحِد من أهل الْعَسْكَر يَخُصُّهُ بِهِ وَالنَّفْل زِيَادَة على الْقِسْمَة خَارج مِنْهَا يبره الْأَمِير على قدر عنائه فِي الْحَرْب وبلائه فَإِذا تنفل العَبْد بِزِيَادَة على الْفَرْض ينفل الْقرْبَة والمحبة فَإِذا أحبه أَحْيَاهُ وَاخْتَارَهُ وأوصله إِلَى حَبَّة الْقُرْبَى وَلكُل(2/239)
شَيْء حَبَّة وحبة كل شَيْء وَسطه وجوفه ولبابه فنال الْقرْبَة بأَدَاء الْفَرَائِض وَنفل بالمحبة بالتطوع فأوصل إِلَى أقرب الْقرْبَة وحبته فهناك يحيى قلبه بالحي الَّذِي لَا يَمُوت فَإِذا أَحْيَاهُ بِهِ كَانَ سَمعه وبصره وفؤاده وَلسَانه
وَقَوله وَمَا تعبد لي عَبدِي بِمثل الزّهْد فِي الدُّنْيَا هَكَذَا شَأْن العَبْد يزهد فِي كل شَيْء لم يقدر لَهُ فِي اللَّوْح فَمَا أعطي علم أَنه كَانَ قدر لَهُ فَقبله وَمَا منع علم أَنه لم يكن قدر لَهُ فَرفع عَنهُ باله فَإِذا فعل ذَلِك فقد أبرز صدق الْعِبَادَة وتهاون بالدنيا فَلم يلحظ إِلَيْهَا فَهَذَا مِنْهُ تَصْدِيق إِيمَان وَتَحْقِيق لِأَنَّهُ لما أَيقَن بِالآخِرَة وَنظر إِلَيْهَا بِنور الْيَقِين تلاشت الدُّنْيَا فِي عينه فِي جنب مَا أعد الله لَهُ فِي الْآخِرَة فصغرت عِنْده وزهدت وَإِذا قل الشَّيْء فِي عين الْمَرْء تهاون بِهِ فَإِنَّمَا أبصروا قلَّة الدُّنْيَا بِنور الْإِيمَان الَّذِي أبصروا بِهِ كَثْرَة الْآخِرَة وعظمها فنيلوا بذلك وشرفوا وأعرضوا عَن جَمِيعهَا إِلَّا مَا قدر لَهُم فِي اللَّوْح فَعَظمُوا ذَلِك الْقدر الَّذِي أوصل إِلَيْهِم لأَنهم علمُوا أَن هَذَا وصل إِلَيْهِم بتدبير الله تَعَالَى وصنعه وَعطفه وَرَحمته فَعظم شَأْن ذَلِك عِنْدهم فَفَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا وحمدوا رَبهم وتوسعوا فِي ذَلِك فَمن بلغك عَن أحد من أَئِمَّة السّلف رَحِمهم الله أَنه فَرح بِشَيْء مِمَّا أُوتِيَ أَو عظمه فَإِنَّمَا عظمه أَو فَرح بِهِ لَا من طَرِيق قدر الشَّيْء بل فرحه بتدبير الله تَعَالَى وصنعه لَهُ كَيفَ دبر لَهُ مَا قسم لَهُ فِي اللَّوْح وَلها عَمَّا سوى ذَلِك فأنعم فِيهِ النّظر كي لَا تغلط وتظن بهم ظن السوء فالزاهدون متعبدة فعبدوه بالزهد حَتَّى تقربُوا إِلَيْهِ وأعرضوا عَن الدُّنْيَا والأولياء عبيد تَعْبُدُوهُ بالعبودة وتقربوا إِلَيْهِ حَتَّى أَعرضُوا عَن النَّفس فَمن أعرض عَن الدُّنْيَا أَقَامَ الزّهْد وَمن أعرض عَن النَّفس أَقَامَ العبودة
وَعَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ بني الْإِسْلَام على عشرَة أَرْكَان أَحدهَا الْإِخْلَاص بِاللَّه تَعَالَى وَهِي الْفطْرَة وَمعنى ذَلِك أَن الْخلق(2/240)
فطروا على الْمعرفَة فَلَيْسَ أحد يقدر أَن يُنكره فهم يقرونَ بِهِ ويعرفونه معرفَة الْفطْرَة وَقد اسْتَوَى فِيهِ الْخلق قَالَ تَعَالَى {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا}
قَوْله الْإِخْلَاص بِاللَّه أَي الْمُؤمن لما أَدْرَكته الْهِدَايَة وَجعل الله تَعَالَى لَهُ نورا فأحياه خلص الله تَعَالَى أمره
الثَّانِي الصَّلَاة وَهِي الْملَّة وَمعنى ذَلِك أَنَّهَا تشْتَمل على أَفعَال مَضْمُومَة بَعْضهَا إِلَى بعض فصيرت فعلا وَاحِدًا وَكَذَلِكَ يجْتَمع الْخلق بأجسادهم على هَذَا الْأَمر الْوَاحِد فَتكون صلَاتهم مَضْمُومَة بَعْضهَا إِلَى بعض فَتكون صَلَاة وَاحِدَة وَالْملَّة مَا ضمت وَلذَلِك سميت الخبزة المضمومة إِلَى الحفرة مِلَّة
الثَّالِث الزَّكَاة وَهِي الطهرة وَمَعْنَاهُ أَن الزَّكَاة طهرة لَهُم من أدناسهم قَالَ تَعَالَى خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا
فَإِن الله تَعَالَى جعل المَال سَببا لقوام معاشهم وخلقهم مُحْتَاجين مضطرين والمضطر مفزعه إِلَى من اضْطر إِلَى نَفسه فَترك مفزعه وَجعل الْبَاب الَّذِي صير سَببا مفزعا لِحَاجَتِهِ فَمَال بِقَلْبِه عَن الله تَعَالَى وَلِهَذَا سمي مَالا لميل الْقُلُوب عَن الله تَعَالَى إِلَيْهَا فقد دنس بذلك فَقيل تصدقوا أَي أعْطوا من هَذَا المَال مَا يظْهر صدق أقوالكم انا لله وان الْأَمْوَال مِنْهُ فِي أَيْدِينَا وَسميت صَدَقَة لِأَنَّهُ يظْهر بالإعطاء صدق أَقْوَالهم فَتَصِير صَدَقَاتهمْ طهرة لَهُم من أدناسهم إِذا أَصَابَهُ من الْحَلَال يصير دنسا لميل قلبه عَن الله تَعَالَى فَكيف بالحرام والشبهة فالحرام لَا(2/241)
يطهرها شَيْء والشبهة مَوْقُوفَة والحلال متقبل وَقد أَمر الله تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ من مكاسب الْحَلَال والغنائم
الرَّابِع الصّيام وَهِي الْجنَّة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حفت الْجنَّة بالمكاره وَالنَّار بالشهوات وَفِي الصّيام ترك الشَّهَوَات فَإِذا تَركهَا فقد ترك حفاف النَّار فَصَارَ جنَّة لَهُ من النَّار
الْخَامِس الْحَج وَهِي الشَّرِيعَة فَإِن الله تَعَالَى دعاهم إِلَى أَن يُؤمنُوا بِهِ ويسلموا إِلَيْهِ وَجها وَجعل الْبَيْت معلمه فهناك آثاره وآياته وَقد كَانَ من قبل خلق الأَرْض زبدة بَيْضَاء فاقتضاهم الْإِجَابَة لَهُ بإتيانهم الْمظهر الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَرْش قلبا وبإتيانهم الْمعلم الَّذِي على الأَرْض بدنا وهما طَرِيقَانِ لَهُم إِلَيْهِ
السَّادِس الْجِهَاد وَهِي الْعِزَّة وَمعنى ذَلِك أَن الله تَعَالَى دَعَا الْعباد إِلَى أَن يوحدوه فأجابته طَائِفَة وامتنعت طَائِفَة وتعززوا بِالْكبرِ الَّذِي فِي صُدُورهمْ وَالْقُوَّة الَّتِي فِي أبدانهم وَالنعْمَة الَّتِي أسبغها عَلَيْهِم فَقَالَ للطائفة المجيبة أَنْتُم أَنْصَارِي وأوليائي {فَإِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا فَضرب الرّقاب} فثارت هَذِه الطَّائِفَة حمية لله تَعَالَى ونصرته وولايته فَقَتَلُوهُمْ وأخذوهم وَأسرُوهُمْ قَالَ الله تَعَالَى وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ فالجهاد هُوَ الْعِزَّة
السَّابِع الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْحجَّة لِأَن الْمُرْسلين بعثوا لذَلِك(2/242)
فَمن فعله من بعدهمْ فَهُوَ من خلفائهم يُقيم حجَّة الله على خلقه
الثَّامِن النَّهْي عَن الْمُنكر وَهُوَ الواقية قَالَ الله تَعَالَى {كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ}
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الظَّالِم إِذا لم يَأْخُذُوا على يَدَيْهِ يُوشك أَن يعمهم الله بِعَذَاب
وروى النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنهُ يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على منبرنا هَذَا يَقُول مثل الْقَائِم على حُدُود الله والمداهن فِي حُدُود الله والساكت عَنهُ والراكب حُدُود الله كَمثل قوم ركبُوا سفينة فاقترعوا منازلها فَأخذ أحدهم الْقدوم فَنقرَ السَّفِينَة فَقَالَ أحدهم لآخر يخرق السَّفِينَة وَيُرِيد أَن يغرقنا فَقَالَ لَهُ الآخر دَعه فَإِنَّمَا يخرق مَكَانَهُ فَإِن تَرَكُوهُ هلك وهلكوا وَإِن أخذُوا على يَدَيْهِ نجا ونجوا فَإِذا غيروا ونهوا كَانَ ذَلِك واقية للعذاب
وَالتَّاسِع الطَّاعَة وَهِي الْعِصْمَة فَإِن طَاعَة الْأَئِمَّة مَنُوط بِطَاعَة الله تَعَالَى وَهِي عصمَة بهم يعصمهم الله تَعَالَى ويسكن الْفِتْنَة ويقمع أهل الريب وَيقوم الْحَج وَالْجهَاد وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر(2/243)
فالسلطان شَأْنه عَظِيم وَهُوَ رَحْمَة من الله تَعَالَى فطاعتهم عصمَة
والعاشر الْجَمَاعَة وَهِي الألفة فَإِن الله تَعَالَى جمع الْمُؤمنِينَ على معرفَة وَاحِدَة وَشَرِيعَة وَاحِدَة ليألف بَعْضهَا بَعْضًا بِاللَّه تَعَالَى وَفِي الله فيكونون كَرجل وَاحِد قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة}
فَإِذا لم يخرج إِلَى حدث وَلَا إِلَى بِدعَة فَهُوَ فِي الألفة مَعَهم وَالله أعلم وَأحكم(2/244)
- الأَصْل الثَّالِث وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي مَذَاهِب أهل الْأَهْوَاء
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا من هم قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ هم أَصْحَاب الْأَهْوَاء وَأَصْحَاب الْبدع وَأَصْحَاب الضلال من هَذِه الْأمة يَا عَائِشَة إِن لكل ذَنْب تَوْبَة مَا خلا أَصْحَاب الْأَهْوَاء والبدع لَيْسَ لَهُم تَوْبَة أَنا مِنْهُم بَرِيء وهم مني برَاء
أهل الْأَهْوَاء قوم استعملوا أهواءهم والأهواء ميالة عَن الله تَعَالَى فَحَيْثُ مَا مَالَتْ اتبعها قُلُوبهم لِأَنَّهُ لم يكن فِي قُلُوبهم من النُّور مَا يصدهم عَن إتباعها قَالَ الله تَعَالَى {فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله}
وَسميت زيغا لِأَنَّهَا زائغة بِالْقَلْبِ عَن الله تَعَالَى وَأهل الْأَهْوَاء كلما استحلوا شَيْئا ركبوه واتخذوه دينا حَتَّى ضربوا الْقُرْآن بعضه بِبَعْض وحرفوه فَمنهمْ من يرفض حَتَّى جحد نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونسبوا الرسَالَة(2/245)
إِلَى عَليّ كرم الله وَجهه وَمِنْهُم من اتَّخذهُ رَبًّا فَدخل عَلَيْهِ فَقَالَ أَنْت رَبِّي فَقَامَ عَليّ فوطئه بقدمه حَتَّى قَتله وَأحرقهُ بالنَّار
وَمِنْهُم من أبدعوا من تِلْقَاء أنفسهم بدعا فازالت بهم تِلْكَ الْبدع حَتَّى أدتهم إِلَى الْخُرُوج على عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَإِلَى حربه وهم الْخَوَارِج وَأهل حروراء
وَقوم قد تزهدوا بِغَيْر علم فأداهم الْجَهْل إِلَى أَن أبدعوا من تِلْقَاء أنفسهم بدعا وَحَسبُوا أَن الزّهْد فِي الدُّنْيَا تجنب الْأَشْيَاء فعلا وَالْعُزْلَة من أهل الدُّنْيَا فضيعوا الْحُقُوق وَقَطعُوا الْأَرْحَام وجفوا الْخلق واكفهروا فِي وُجُوه الْأَغْنِيَاء وَفِي قُلُوبهم من شَهْوَة الْغنى أَمْثَال الْجبَال الشامخات وَلم يعلمُوا أَن أصل الزّهْد موت الشَّهَوَات من الْقلب فَلَمَّا اعتزلوها بالجوارح اكتفوا بِهِ وَحَسبُوا أَنهم استكملوا الزّهْد حَتَّى تأدى بهم الْجَهْل إِلَى أَن طعنوا فِي الْأَئِمَّة الَّذين عرفُوا بسعة المعاش وَكَثْرَة المَال حَتَّى عابوا الْأَنْبِيَاء وطعنوا على سُلَيْمَان عَلَيْهِم السَّلَام
وَقوم زَعَمُوا أَنهم توكلوا على رَبهم وَأَن الطّلب شكّ وَأَن الرزق يَأْتِي فِي وقته فقعدوا رفضا للطلب والمكسب فضيعوا الأهلين وَالْأَوْلَاد فِي خلال ذَلِك يتدنسون فِي أَبْوَاب المطامع ويخادعون الله تَعَالَى فِي مُعَامَلَته
وَقوم اتَّخذُوا الْعلم الَّذِي هُوَ حجَّة الله تَعَالَى على عباده حِرْفَة وصيروها مأكلة فأكدوا بهَا رياستهم واحتظوا بِهِ من الْقُلُوب وصحبوا بهَا الْمُلُوك ختلا لما فِي أَيْديهم من الحطام فلينوا لَهُم فِي القَوْل طَمَعا لما فِي أَيْديهم وداهنوهم لما يرجون من نوالهم وساعدوهم على تجبرهم وجورهم(2/246)
وَقوم مفتونون نسبوا إِلَى الدّين والتقطوا الرُّخص وزلات الْعلمَاء فاتخذوها دينا وتذرعوا بذلك إِلَى شهواتهم وزينوا لِلْخلقِ بذلك تسترا على أَحْوَالهم السَّيئَة من تعَاطِي الْأَشْرِبَة الْمُحرمَة والمكسبة الرَّديئَة وَأَشْبَاه ذَلِك
وَقوم هم أهل الضَّلَالَة كالمشبهة والقدرية والجبرية والجهمية وأشباههم مَالَتْ قُلُوبهم وأبدعوا وَضَلُّوا عَن الله تَعَالَى فَإِن الله تَعَالَى اقْتضى للعباد الْإِسْلَام دينا وَالْإِسْلَام تَسْلِيم النَّفس وَالدّين الخضوع لله تَعَالَى بِتَسْلِيم النَّفس إِلَيْهِ قَالَ الله تَعَالَى وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ
فَجعل الدّين فِي تَسْلِيم النَّفس إِلَيْهِ فدانوا بِأَن سلمُوا نُفُوسهم إِلَيْهِ قبولا لآمره وطاعته فَأنْزل كلَاما فرقانا يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل وَأمر بالاعتصام بِهِ وَأَشَارَ إِلَى دَار السَّلَام أَن هَذَا مصيركم وإليها أدعوكم فَقَالَ واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا وَهُوَ عَهده(2/247)
الَّذِي أنزل قَالَ وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام
وَدلّ على الطَّرِيق الْمُسْتَقيم إِلَيْهَا من غير تعريج وَلَا تلوية ودبر فِي هَذَا الطَّرِيق فَرَائض مَعْلُومَة وسننا وَأخذ زِينَة ليَوْم الْعرض عَلَيْهِ
فالزائغون تركُوا الخضوع لله تَعَالَى وَتَسْلِيم النَّفس إِلَيْهِ ففارقوا دينهم فصاروا شيعًا وأحزابا وزين لَهُم سوء أَعْمَالهم وسد عَلَيْهِم بَاب الْقدر فاستبدوا وتعمقوا فِي طلبه حَتَّى هَلَكُوا وأداهم ذَلِك إِلَى أَن برءوا الله من قدرته وشاركوه فِي مَشِيئَته إفكا وافتراء وسد عَلَيْهِم بَاب دَرك الْكَيْفِيَّة فاستبدوا يطْلبُونَ الكنه والكيفية حَتَّى عدلوه بخلقه وسد عَلَيْهِم بَاب التعمق فَمَا زَالُوا ينزهونه حَتَّى تاهوا فِي الْإِلْحَاد عَنهُ فنفوا عَنهُ مَا لم ينف عَن نَفسه الْكَرِيمَة
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد افْتَرَقت بَنو إِسْرَائِيل الْيَهُود مِنْهُم على إِحْدَى وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة وافترقت النَّصَارَى على اثْنَتَيْنِ وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة وَسَتَفْتَرِقُ هَذِه الْأمة على ثَلَاث وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة قيل يَا رَسُول الله من هَذِه الْوَاحِدَة قَالَ السوَاد الْأَعْظَم
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ أَتَانِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أعرف الْحزن فِي وَجهه فَأخذ بلحيته فَقَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون(2/248)
قَالَ وأتاني جبرئيل فَقَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
قلت أجل فانا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فمم ذَاك يَا جبرئيل
قَالَ إِن أمتك مفتتنة بعْدك بِقَلِيل من الدَّهْر غير كثير
فَقلت فتْنَة كفر أَو فتْنَة ضَلَالَة
قَالَ كل ذَلِك سَيكون
قلت وَمن أَيْن ذَاك وَأَنا تَارِك فيهم كتاب الله تَعَالَى
قَالَ بِكِتَاب الله يضلون وَأول ذَلِك من قبل قرائهم وأمرائهم يمْنَع الْأُمَرَاء النَّاس حُقُوقهم فَلَا يعطونها فيقتتلوا وَيتبع الْقُرَّاء أهواء الْأُمَرَاء فيمدونهم فِي الغي ثمَّ لَا يقصرون
قلت يَا جبرئيل فَبِمَ يسلم من يسلم مِنْهُم
قَالَ بالكف وَالصَّبْر إِن أعْطوا الَّذِي لَهُم أَخَذُوهُ وَإِن منعُوا تَرَكُوهُ
وَعَن أَفْلح مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخوف مَا أَخَاف على أمتِي ثَلَاث ضَلَالَة الْأَهْوَاء وَاتِّبَاع الشَّهَوَات فِي الْبَطن والفرج وَالْعجب
وَإِنَّمَا صَار هَؤُلَاءِ فرقا لأَنهم فارقوا دينهم فبمفارقة الدّين تشتتت أهواءهم فافترقوا فَأَما اصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعده فقد اخْتلفُوا فِي أَحْكَام الدّين فَلم يفترقوا لأَنهم لم يفارقوا الدّين وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِيمَا أذن لَهُم النّظر فِيهِ وَالْقَوْل بِاجْتِهَاد الرَّأْي وَاخْتلفت آراؤهم فاختلفت أَقْوَالهم وَقد أمروا بذلك فصاروا باختلافهم محمودين لِأَنَّهُ أدّى كل وَاحِد مِنْهُم على حياله مَا أَمر من جهد الرَّأْي وَالنَّظَر فِيهِ
وَكَانَ ذَلِك الِاخْتِلَاف رَحْمَة من الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة حَيْثُ(2/249)
أَيّدهُم بِالْيَقِينِ ثمَّ وسع على الْعلمَاء مِنْهُم النّظر فِيمَا لَا يَجدونَ ذكره فِي التَّنْزِيل وَلَا فِي سنة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يلحقوه بِبَعْض وَكَانُوا أهل مَوَدَّة وَعطف متناصحين أخوة الْإِسْلَام فِيمَا بَينهم قَائِمَة فَكل مَسْأَلَة حدثت فِي الْإِسْلَام فَخَاضَ فِيهَا النَّاس وَاخْتلفُوا فَلم يُورث ذَلِك الِاخْتِلَاف عَدَاوَة بَينهم وَلَا بغضا وَلَا فرقة علم أَن ذَلِك من مسَائِل الْإِسْلَام يتناظر فِيهِ وَيَأْخُذ كل فريق بقول من تِلْكَ الْأَقْوَال ثمَّ لَا يكونُونَ على أَحْوَالهم من الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة والألفة والمودة والنصيحة كَمَا فعل الصَّحَابَة والتابعون رضوَان الله عَلَيْهِم وكل مَسْأَلَة حدثت فَاخْتَلَفُوا فِيهَا فردهم اخْتلَافهمْ فِي ذَلِك إِلَى التولي والإعراض وَالرَّمْي بالْكفْر علم أَن ذَلِك لَيْسَ من أَمر الدّين فِي شَيْء بل حدثت من الْأَهْوَاء المردية الداعية صَاحبهَا إِلَى النَّار وتورث الْعَدَاوَة والتباين والفرقة لِأَنَّهَا من الَّتِي ابتدعها الشَّيْطَان فأقاها على أَفْوَاه أوليائه ليختلفوا وَيَرْمِي بَعضهم بَعْضًا بالْكفْر لِأَنَّهُ مَا خلت قُلُوبهم من خشيَة الله تَعَالَى وَخَوف عِقَابه بِمَا قدمت أَيْديهم من ذكر الْمَوْت والأهوال الَّتِي أمامهم والاهتمام بِصِحَّة الْأُمُور وَطلب الْخَلَاص فِيمَا بَينهم والانتباه لحسن صَنِيعه بهم وَطلب النجَاة من رق النُّفُوس إِلَى حريَّة العبودة لرَبهم عز وَجل فَلَمَّا خلت من هَذِه الْأَشْيَاء قُلُوبهم وجد الْعَدو فرْصَة فَألْقى إِلَيْهِم مثل هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي يعلم المستنيرة قُلُوبهم أَن هَذَا تكلّف وخوض فِيمَا لَا يعنيه مثل قَوْلهم فِي الْجَبْر وَالْقدر والاستطاعة قبل الْفِعْل وَمَعَهُ وَطلب كَيْفيَّة صِفَات الله تَعَالَى وَفِي الْإِيمَان مَخْلُوق هُوَ أم لَا وَفِي الْقُرْآن مَا هُوَ وَفِي الْإِمَامَة من اسْتحقَّهَا بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أداهم ذَلِك إِلَى أَن رفضوا الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وأظهروا شتمهم فلولا خذلانهم ونكوس قُلُوبهم لكانوا لَا يشتغلون بِمثل هَذَا وهم قوم قد مضوا إِلَى الله تَعَالَى بأعمالهم وَهُوَ يقسم لَهُم الْمنَازل بهواه وَيحمل بَعْضًا على بعض قَالَ الله تَعَالَى تِلْكَ أمة قد(2/250)
خلت لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم وَلَا تسْأَلُون عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ)
وَقد بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مبلغا ومعلما وهاديا فَخرج من الدُّنْيَا وَقد بلغ الرسَالَة وَأدّى الْأَمَانَة وَعلم وَهدى وأبلغ فِي النَّصِيحَة فَأَيْنَ القَوْل مِنْهُ للْأمة فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَأَيْنَ هدايته وتعليمه لَهُم وَلم يُوجد من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خبر وَاحِد فِي ذَلِك فَإِن كَانَ بعث مبلغا وَقد بلغ وَلم يكتم شَيْئا من الْوَحْي فَأَيْنَ هَذَا فِي الْوَحْي وَفِي السّنَن الَّتِي جَاءَت عَنهُ وَقد أدَّت عَنهُ أَئِمَّة الدّين آدَاب الْإِسْلَام فِي طعامهم وشرابهم ونومهم وخلائهم ووضوئهم ولباسهم ومشيهم وزيهم وَتركُوا هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي أدّى اخْتِلَاف الْقَائِلين عَنهُ إِلَى اكفار بَعضهم بَعْضًا ليعلم أَن هَذِه من مسَائِل الْفِتْنَة وَأَنَّهَا تُؤدِّي إِلَى الْحيرَة وَأَن الْكَلَام فِي ذَلِك مِمَّا لم يُؤذن فِيهِ(2/251)
- الأَصْل الرَّابِع وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن أحب الْأَصْوَات إِلَى الله تَعَالَى صَوت عبد لهفان
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من صَوت أحب إِلَى الله تَعَالَى من صَوت عبد لهفان قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا اللهفان قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد أصَاب ذَنبا فَكلما ذكر بِذَنبِهِ امْتَلَأَ قلبه فرقا من الله تَعَالَى فَقَالَ يَا رباه
اللهفان على مخرج فعلان إِذا كَانَ الشَّيْء الغا غَايَته فَهُوَ غَايَة التلهف على مَا فَاتَهُ بالتوجع وَالْفرق نفار الْقلب وَالْعَبْد إِذا اشْتَدَّ هيبته وَهُوَ الْغَالِب على قلبه وَذكر ذَنبه نفر قلبه بِمَا يلاحظه فَذَاك الْفرق فَإِذا امْتَلَأَ قلبه من ذَلِك فرق فَنَادَى نِدَاء من ينحط من مهوى لَا يدْرِي مَا قَعْره فَهُوَ فِي الانحطاط يُنَادي نِدَاء مستغيث يتلهف على مَا فَاتَهُ من مَكَان الْقرْبَة بغاية التلهف يَا رباه نِدَاء ندبة الثكلى نِدَاء توجع وحرقة وللفرق شَأْن عَظِيم لِأَنَّهُ عاين الْقلب سُلْطَانا عَظِيما وَهُوَ فِي مَحل ملك الْملك فَلم يَتَمَالَك الْقلب أَن لَا يفرق لانه فتح لَهُ من ملك الهيبة مَا فرقه(2/252)
وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ الْقُرْآن وَبَين يَدَيْهِ رجل فَسقط فَمَاتَ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْفرق فلذ كبده أَي قطعه لِأَن الكبد مُتَّصِل بِالْقَلْبِ من شقَّه الْأَيْمن فحرارته أحرقت الكبد(2/253)
- الأَصْل الْخَامِس وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي سنَن الْمُرْسلين
عَن مليح بن عبد الله الخطمي عَن أَبِيه عَن جده رضوَان الله عَلَيْهِم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمس من سنَن الْمُرْسلين الْحيَاء والحلم والحجامة والسواك والتعطر
وَفِي رِوَايَة أبي أَيُّوب أَربع من سنَن الْمُرْسلين التعطر وَالْحيَاء وَالنِّكَاح والسواك
مَعْنَاهُ هَذِه الْخَمْسَة من شَأْنهمْ أما الْحيَاء فَإِن النُّور إِذا دخل الْقلب تخلص الرّوح من أسر النَّفس فَصَارَ إِلَى طبعه السماوي فالحياء خجالة الرّوح وتلكيه عَن كل عمل لَا يحسن فِي أهل السَّمَاء فَصَارَ الْحيَاء من شَأْنهمْ لطهارة الرّوح من أَسبَاب النَّفس
وَأما الْحلم فَهُوَ سَعَة الصَّدْر وانشراحه لوُرُود النُّور(2/254)
وَأما الْحجامَة فلأجل أَن للدم حرارة وَقُوَّة وللنور حرارة فَإِذا لم ينقص من حرارة الدَّم أضربه وتبيغ الدَّم فَقتل لِأَن النُّور غَالب على صُدُورهمْ وَقُلُوبهمْ فتغلي من ذَلِك دِمَاؤُهُمْ فَإِذا لم يأخذوها فارت وأضرت وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلقى من الصداع من نور الْوَحْي فيغلف رَأسه بِالْحِنَّاءِ ليخفف عَن رَأسه بِالْحِنَّاءِ سُلْطَان تِلْكَ الْحَرَارَة
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا مَرَرْت بملأ من الْمَلَائِكَة لَيْلَة أسرِي بِي إِلَّا قَالُوا يَا مُحَمَّد مر أمتك بالحجامة وَإِنَّمَا خصت هَذِه الْأمة من أجل زِيَادَة النُّور قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أَعْطَيْت أمة مَا أَعْطَيْت أمتِي من الْيَقِين
وَأما السِّوَاك فَلِأَنَّهُ طَرِيق التَّنْزِيل وَالْوَحي الْوَارِد وَمَوْضِع نجوى الْمَلَائِكَة فَكَانُوا يقصدون تطييبها وتطهيرها لِئَلَّا يُؤْذِي الْملك وتضيع حُرْمَة الْوَحْي
وَأما النِّكَاح فَإِن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام زيدوا فِي النِّكَاح بِفضل نبوتهم فَإِنَّهُ إِذا امْتَلَأَ الصَّدْر بِالنورِ وفاض فِي الْعُرُوق التذت النَّفس وَالْعُرُوق فأثارت الشَّهْوَة وقواها وريح الشَّهْوَة إِذا قويت فَإِنَّمَا تقَوِّي من الْقلب وَالنَّفس فَعندهَا تَجِد الْقُوَّة
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْطَيْت قُوَّة أَرْبَعِينَ رجلا من الْبَطْش وَالنِّكَاح وَأعْطِي الْمُؤمن قُوَّة عشرَة(2/255)
قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَا أعطي أحد من الْجِمَاع بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أَعْطَيْت أَنا
وَأما التعطر فَإِن الطّيب يذكي الْفُؤَاد وَأَصله من الْجنَّة وَحين تستر آدم عَلَيْهِ السَّلَام بِوَرَقَة مِنْهَا فرحم وَتركت عَلَيْهِ فَمن ذَلِك أصل الطّيب فَفِي تذكية الْفُؤَاد قُوَّة الْقلب والجوارح لِأَن حسن الْقلب بالفؤاد لِأَن الْأذن عَلَيْهِ وَالْبَصَر لَهُ والنور بَين الْقلب والفؤاد والرؤية للفؤاد قَالَ الله تَعَالَى {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى}
والفؤاد اللحمة الظَّاهِرَة وَالْقلب اللحمة الْبَاطِنَة وَإِنَّمَا هِيَ بضعَة وَاحِدَة بَعْضهَا مُشْتَمل على بعض فأظهر فَهُوَ فؤاد فاذا كَانَ الْفُؤَاد منحرفا لم يع شَيْئا من النُّور قَالَ الله تَعَالَى وأفئدتهم هَوَاء أَي منحرفة لَا تعي شَيْئا وَلَا تعقل وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاك أهل الْيمن أَلين قلوبا وأرق أَفْئِدَة(2/256)
- الأَصْل السَّادِس وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي ذكر الْفَاجِر بِمَا فِيهِ للتحذير مِنْهُ
عَن بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده رضوَان الله عَلَيْهِم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَرْعَوْنَ عَن ذكر الْفَاجِر حَتَّى يعرفهُ النَّاس إذكروه بِمَا فِيهِ يحذرهُ النَّاس
الْفَاجِر هُوَ الَّذِي يفجر الْحُدُود فَإِن الْإِسْلَام كحظيرة حظرها الله تَعَالَى على أَهله فَلَا يتعدون حُدُود الحظائر فَإِذا ثلم أحدهم الحظيرة بِالْخرُوجِ مِنْهَا متخطيا إِلَى مَا وَرَائِهَا فقد فجرها ونعني بالفاجر الْفَاجِر الموحد دون الْكَافِر فَإِن الْمُشرك لَا حُرْمَة لَهُ وَلَا يتوقى لذكره وَقد تورعوا عَن ذكر الْمُسلم لحُرْمَة التَّوْحِيد وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحث على السّتْر وَهُوَ يَقُول من ستر الْمُسلم ستره الله تَعَالَى وَمن هتك سترا لِأَخِيهِ هتك الله تَعَالَى ستره فهابوا هَذَا الْأَمر(2/257)
وَكفوا فَقَالَ لَهُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَرْعَوْنَ عَن ذكر الْفَاجِر
مَعْنَاهُ إِذا غلب عَلَيْهِ الْفُجُور وَقد أعلن بِهِ وهتك ستره فَإِذا لم يبْق لَهُ سترا اسْتَحَالَ أَن يستر أَو يكتم أمره وَفِي كتمان أمره خِيَانَة وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يعرفهُ النَّاس ثمَّ بَين نفع الذّكر فَقَالَ يحذرهُ النَّاس وَإِنَّمَا هَذَا الذّكر لمن احتسب بِهِ النَّصِيحَة للعامة لِئَلَّا يعثر مُسلم بِهِ فَأَما من ذكر تشفيا لغيظه أَو تنقما لنَفسِهِ فَهُوَ خَارج عَن هَذَا الحَدِيث حَتَّى يذكرهُ على تِلْكَ النِّيَّة(2/258)
- الأَصْل السَّابِع وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن لَا أحد أحب إِلَيْهِ الْعذر من الله تَعَالَى وَعرض الاعمال
عَن النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبْق من الدُّنْيَا إِلَّا مثل الذُّبَاب تمور فِي جوها فَالله الله فِي إخْوَانكُمْ من أهل الْقُبُور فان أَعمالكُم تعرض عَلَيْهِم
الْأَرْوَاح أَنْوَاع أَرْوَاح تجول فِي البرزخ فتبصر أَحْوَال الدُّنْيَا وَالْمَلَائِكَة تَتَحَدَّث فِي السَّمَاء عَن أَحْوَال الْآدَمِيّين وأرواح تَحت الْعَرْش وأرواح طيارة فِي الْجنان على قدر أقدارهم من السَّعْي أَيَّام الْحَيَاة إِلَى الله تَعَالَى والعبودة لَهُ فِي محلهم
قَالَ سلمَان رَضِي الله عَنهُ أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ تذْهب فِي بزرخ من الأَرْض حَيْثُ شَاءَت من السَّمَاء وَالْأَرْض حَتَّى يردهَا الله تَعَالَى إِلَى جَسدهَا فَإِذا تردت الْأَرْوَاح هَكَذَا علمت أَحْوَال الْأَحْيَاء وَإِذا ورد عَلَيْهِم ميت الْتَقَوْا بِهِ فتحدثوا وتسائلوا عَن الْأَخْبَار وَخرج من تَدْبِير الله تَعَالَى أَن وكل بهم أَيْضا مَلَائِكَة تعرض أَعمال الْأَحْيَاء عَلَيْهِم كي إِذا عرضوا عَلَيْهِم مَا يعاقبون بِهِ فِي الدُّنْيَا ويصابون بِهِ من أَنْوَاع(2/259)
المصائب من أجل الذُّنُوب كَانَ عذر الله تَعَالَى ظَاهرا مكشوفا عِنْد الْأَمْوَات بِأَنَّهُ لَا أحد احب إِلَيْهِ الْعذر من الله تَعَالَى
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ أنس رَضِي الله عَنهُ إِن أَعمالكُم تعرض على عشائركم وأقاربكم من الْمَوْتَى فَإِن كَانَ خيرا اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَإِن كَانَ غير ذَلِك قَالُوا اللَّهُمَّ لَا تمتهم حَتَّى تهديهم إِلَى مَا هديتنا
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعرض الْأَعْمَال يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيَوْم الْخَمِيس على الله تَعَالَى وَتعرض على الْأَنْبِيَاء وعَلى الْآبَاء والأمهات يَوْم الْجُمُعَة فيفرحون بحسناتهم ويزدادون وُجُوههم بيضًا ونزهة فَاتَّقُوا الله وَلَا تُؤْذُوا مَوْتَاكُم
وروى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله تَعَالَى يعْتَذر إِلَى آدم يَوْم الْقِيَامَة بِثَلَاثَة معاذير يَقُول الله تَعَالَى يَا آدم لَوْلَا أَنِّي لعنت الْكَذَّابين وَأبْغض الْكَذِب وَالْحلف وأعذب عَلَيْهِ لرحمت الْيَوْم ذريتك أَجْمَعِينَ من شدَّة مَا أَعدَدْت لَهُم من الْعَذَاب وَلَكِن حق القَوْل مني لمن كذب رُسُلِي وَعصى أَمْرِي لأملئن جَهَنَّم مِنْهُم أَجْمَعِينَ وَيَقُول الله تَعَالَى يَا آدم إِنِّي لَا أَدخل أحدا من ذريتك النَّار وَلَا أعذب أحدا مِنْهُم بالنَّار إِلَّا من قد علمت فِي سَابق علمي أَنِّي لَو رَددته إِلَى الدُّنْيَا لعاد إِلَى شَرّ مِمَّا كَانَ فِيهِ لم يُرَاجع وَلم يعتب وَيَقُول لَهُ يَا آدم قد جعلتك الْيَوْم حكما بيني وَبَين ذريتك قُم عِنْد الْمِيزَان فَانْظُر مَا يرفع إِلَيْك من أَعْمَالهم فَمن رجح مِنْهُم خَيره على شَره مِثْقَال ذرة فَلهُ الْجنَّة حَتَّى تعلم أَنِّي لَا أَدخل النَّار مِنْهُم إِلَّا ظَالِما فَإِذا ستر الله على عبد فِي دُنْيَاهُ عِنْد(2/260)
الْأَحْيَاء ستر عَلَيْهِ عِنْد الْأَمْوَات وَذَلِكَ لمن ولي الله تَدْبيره ستره لِئَلَّا يرى الْخلق من الْأَحْيَاء والأموات معايبه
رُوِيَ أَن أَبَا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ خرج غازيا فِي أَرض الرّوم فَقص عَلَيْهِ قاص فَقَالَ لَيْسَ أحد من بني آدم يعْمل عملا أول النَّهَار إِلَّا عرض على معارفه من أهل الْآخِرَة فِي آخر النَّهَار وَلَا عمل عملا فِي آخر النَّهَار إِلَّا عرض على معارفه من أول الْغَد فَقَالَ أَبُو أَيُّوب إِن ذَاك لكذاك اللَّهُمَّ لَا تفضحني عِنْد سعد بن عبَادَة وَلَا عِنْد عبَادَة بن الصَّامِت مِمَّا عملت بعدهمَا فَقَالَ الْقَاص وَالله الَّذِي لَا إِلَه غَيره مَا كتب الله لعبد ولَايَته إِلَّا ستر عَوْرَته وَأثْنى عَلَيْهِ بِأَحْسَن عمله
وَمعنى ولَايَة التَّدْبِير أَن الله تَعَالَى شرع السَّبِيل وَهدى الْقُلُوب ورزق الْعُقُول وأكد الْحجَّة بالرسل وَبِمَا جَاءُوا بِهِ من الْبَيَان وأيد بِالْمَلَائِكَةِ يهْدُونَ ويسددون وَقيل لَهُم سِيرُوا إِلَى الله تَعَالَى سيرا مُسْتَقِيمًا فِي هَذَا الصِّرَاط فَإِن عارضتم نفوسكم بِخِلَاف مَا أَمر الله تَعَالَى فجاهدوها وسلوا الله المعونة
فَهَذَا تَدْبيره الَّذِي وَضعه للْجَمِيع فَمن صدق الله تَعَالَى فِي مجاهدة النَّفس حَتَّى بلغ أقصاها لم يقدر على أَكثر من أَن يمْنَع قلبه من الْكفْر كَمَا يمْنَع جوارحه من الْعَمَل فَهَذَا غَايَة جِهَاد النَّفس وَتَصْحِيح الْبَاطِن وَالظَّاهِر وَنِهَايَة الصدْق فقد أَتَى بالوسع وَحَال الطَّبْع بَاقٍ على تركيبه من الشَّهْوَة واللذة وَالْغَضَب وَالرَّغْبَة والرهبة وَمن هَذِه الْأَشْيَاء حدثت الْمعاصِي إِلَى الْقُلُوب وَمِنْه إِلَى الْأَركان فيجأر إِلَى الله تَعَالَى لكدورة الْأَخْلَاق فَإِنَّهَا تكدر عَلَيْهِ إيمَانه فَلَا يصفو فَعندهَا يرحمه الله تَعَالَى عِنْد انْقِطَاع أَسبَابه وتغوثه بهَا صَارِخًا مُضْطَرّا فَيَأْخذهُ من تَدْبيره الَّذِي وَضعه لِعِبَادِهِ وَمن مجاهدة النَّفس إِلَى تَدْبيره الَّذِي وَضعه لِعِبَادِهِ وَمن مجاهدة النَّفس إِلَى تَدْبِير نَفسه فَهُوَ الْقَادِر على ذَلِك(2/261)
فيوكل بِهِ الْحق تبَارك وَتَعَالَى حَتَّى يسير بِهِ إِلَى منَازِل الْقرْبَة فَلَمَّا سَار فِي الْقرْبَة زيد مركبا من النُّور ليسير بِهِ إِلَى مَحَله من الْقرْبَة فَكل نور يُزَاد يَمُوت من طبعه بِقدر ذَاك لِأَنَّهُ يُزَاد بِكُل نور قربَة وتخطي إِلَى مَحَله فَيَزْدَاد بِاللَّه تَعَالَى علما مِنْهُ وخشية فَالْحق تبَارك وَتَعَالَى يربيه بِهَذِهِ الْأَنْوَار حَتَّى إِذا انْتَهَت التربية وَتغَير الطَّبْع عَن النفسية إِلَى خلق الْإِيمَان جذب جذبة إِلَى مَحل الْقرْبَة وانكشف لَهُ الغطاء عَن جلال الله تَعَالَى وعظمته فانتهبت فِيهِ وَإِذا الْهوى قد طاوعته وَالنَّفس قد مَاتَت فحيى قلبه بِاللَّه تَعَالَى فَهُوَ الصدْق فَهَذَا وَإِن كَانَ صديقا فَلم يخل من ذَنْب كَانَ فِي سَابق علم الله تَعَالَى وَجرى بذلك الْقَلَم فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَهُوَ يعمله لَا محَالة لكنه فِي ستر عِنْد الْأَحْيَاء وَفِي ستر عِنْد الْأَمْوَات وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعلَى وَأعلم وَأحكم(2/262)
- الأَصْل الثَّامِن وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْمَرَض لِلْمُؤمنِ تمحيص للذنوب
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل الْمَرِيض إِذا برىء من مَرضه وَصَحَّ كَمثل الْبردَة تقع من السَّمَاء فِي صفائها ولونها
الْمُؤمن يتلوث فِي شهواته فتدنس الْأَفْعَال وتوسخ الْأَركان وتكدر الطلاوة فَإِذا رَحمَه وَأَرَادَ بِهِ خيرا أسقمه حَتَّى يطهره ويصفيه فالمرض لِلْمُؤمنِ تمحيص من الآثام كالفضة تلقى فِي كيرة ينْفخ عَلَيْهِ يَزُول خبثه وتصفو فضته فتصلح للضرب وَالسِّكَّة والتشرف باسم الْملك على وَجهه فشبهه بعد الْبُرْء بالبردة صفاء وطيبا وطهارة ونظافة(2/263)
- الأَصْل التَّاسِع وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي حسن الْمُجَاورَة لنعم الله تَعَالَى
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأى كسيرة ملقاة فَمشى إِلَيْهَا فمسحها فَقَالَ يَا عَائِشَة أحسني جوَار نعم الله تَعَالَى فَإِنَّهَا قل مَا نفرت عَن أهل بَيت فَكَادَتْ ترجع إِلَيْهِم
حسن الْمُجَاورَة لنعم الله من تعظيمها وتعظيمها شكرها وَالرَّمْي بهَا من الاستخفاف بهَا وَذَلِكَ من الكفران والكفور ممقوت مسلوب فارتباط النعم فِي شكرها وزوالها فِي كفرانها وَمن عظمها فقد ابْتَدَأَ فِي شكرها وَمن صغرها أَو استخف بهَا فقد تعرض لزوالها وفيهَا رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خِصَالًا غير وَاحِدَة مِنْهَا الاستخفاف بِالنعْمَةِ وَالْفساد والاسراف(2/264)
وَالله لَا يحب الْفساد
{لَا يصلح عمل المفسدين}
{لَا يحب المسرفين}
{لَا يحب كل خوان كفور}(2/265)
- الأَصْل الْمِائَة وَالسَّبْعُونَ
-
فِي تَفْسِير الْمَرْوِيّ لِلْآيَةِ {هَل جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان}
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ تَلا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {هَل جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان} ثمَّ قَالَ هَل تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ ربكُم قَالُوا الله وَرَسُوله أعلم قَالَ
إِن ربكُم يَقُول هَل جَزَاء من أَحْسَنت إِلَيْهِ بِأَن هديته للتوحيد إِلَّا أَن أسْكنهُ دَاري فِي جواري وَهل جَزَاء من قربته بالمعرفة قلبا حَتَّى يعرفنِي إِلَّا أَن أقربه فِي الْمسكن نفسا حَتَّى ينظر إِلَى وَهل جَزَاء من أكرمته بمعرفتي إِلَّا أَن أَغفر لَهُ ذنُوبه وأتجاوز عَن سيئاته وأصفح عَنهُ تكرمات كَمَا تكرمت وجدت عَلَيْهِ بتوحيدي هَل جَزَاء من ابتدأته بِهَذِهِ النعم الْعَظِيمَة فمننت عَلَيْهِ بهَا إِلَّا أَن أحفظها عَلَيْهِ حَتَّى أختم لَهُ بهَا وأتمم عَلَيْهِ وَله كَرَامَتِي(2/266)
- الأَصْل الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْكَلِمَة من الْبَاقِيَات خير من الدُّنْيَا بحذافيرها
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو أَن الدُّنْيَا كلهَا بحذافيرها فِي يَد رجل من أمتِي ثمَّ قَالَ الْحَمد لله لَكَانَ الْحَمد لله أفضل من ذَلِك
مَعْنَاهُ من أعطي الدُّنْيَا ثمَّ أعطي على أَثَرهَا هَذِه الْكَلِمَة حَتَّى نطق بهَا لكَانَتْ هَذِه الْكَلِمَة أفضل من الدُّنْيَا كلهَا لِأَن الدُّنْيَا فانية والكلمة بَاقِيَة قَالَ تَعَالَى والباقيات الصَّالِحَات خير عِنْد رَبك ثَوابًا وَخير أملا
وَفِي رِوَايَة لَكَانَ مَا أعطي أفضل مِمَّا أَخذ(2/267)
- الأَصْل الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي ذكر جملَة من مَكَارِم الْأَخْلَاق
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا محق الاسلام محق الْبُخْل شَيْء قطّ وَمن كف غَضَبه كف الله عَنهُ عَذَابه وَمن حفظ لِسَانه ستر الله عَوْرَته وَمن اعتذر إِلَى الله فِي الدُّنْيَا قبل الله تَعَالَى معذرته
بني أس الْإِسْلَام على السماحة والجود لِأَنَّهُ هُوَ تَسْلِيم النَّفس وَالْمَال لحقوق الله تَعَالَى فَإِذا جَاءَ الْبُخْل فقد ذهب بذل المَال وَمن بخل بِالْمَالِ كَانَ بِالنَّفسِ أبخل وَمن جاد بِالنَّفسِ كَانَ بِالْمَالِ أَجود فالبخل يمحق الْإِسْلَام ويبطله ويدرس الْإِيمَان وَفِيه سوء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وَمنع حُقُوقه والاعتماد على المَال دون الله تَعَالَى
وَقَوله من حفظ لِسَانه ستر الله عَوْرَته إِنَّمَا يحفظ عَن أَعْرَاض الْمُسلمين كَيْلا يهتك استارهم فعاجل الله تَعَالَى ثَوَابه بِأَن ستر عَوْرَته
وَقَوله من كف غَضَبه كف الله عَنهُ عَذَابه فعذابه النَّار وحشوها غَضَبه وَإِنَّمَا تلظت وتسعرت بغضب الله تَعَالَى فَإِذا كف غَضَبه فقد(2/268)
تواضع لله تَعَالَى فَكف عَنهُ غَضَبه وَإِذا كف غَضَبه فَمن وَرَائه الرضى عَن الله تَعَالَى
وَقَوله من اعتذر إِلَى الله فِي الدُّنْيَا قبل الله معذرته فالكريم يقبل الْعذر إِذا اعتذر إِلَيْهِ صَادِقا كَانَ أَو كَاذِبًا لِأَن اعتذاره نَدم وتوبة وإقبال إِلَيْهِ فيأبى الْكَرِيم أَن يخيبه من معذرته
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من أحد يعْتَذر إِلَى أَخِيه فَلم يقبل عذره إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ كخطيئة صَاحب مكس وَهُوَ العشار(2/269)
- الأَصْل الثَّالِث وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي قدر تَعْظِيم الدُّنْيَا والمداهنة ووزر السيئآت
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا عظمت أمتِي الدُّنْيَا نزعت مِنْهَا هَيْبَة الْإِسْلَام وَإِذا تركت الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر حرمت بركَة الْوَحْي وَإِذا تَسَابَّتْ أمتِي سَقَطت من عين الله تَعَالَى
شَرط الْإِسْلَام تَسْلِيم النَّفس وبذلها لله تَعَالَى عبودة فَإِذا عظم مَا صغر الله تَعَالَى وحقرها وَقد أخذت بِقَلْبِه فسبته ذهبت العبودة وَلم يقدر على بذل النَّفس لله تَعَالَى فَكَانَ إِسْلَامه مَدْخُولا وَإِذا فسد الْبَاطِن ذهبت الهيبة لِأَنَّهُ لَو هابه لم يسْتَقرّ قرارا حَتَّى يصلح بَاطِنه وَإِنَّمَا يهابه من صلحت سَرِيرَته
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَمام الْبر أَن تعْمل فِي السِّرّ عمل الْعَلَانِيَة وَإِذا عظمت النَّفس الدُّنْيَا آثرها على حُقُوق الله تَعَالَى(2/270)
وَلَا يجْتَمع تَعْظِيم الْحُقُوق وتعظيم الدُّنْيَا فِي قلب فَأَما إِذا أسلم نَفسه وَوَجهه إِلَى الله تَعَالَى وبذل نَفسه لله تَعَالَى عبودة صَار من رجال الله تَعَالَى وعبيده وخاصته فتعلوه مهابة كَمَا إِذا صَار عبدا للْملك ظهر عَلَيْهِ من بهجة ملكه وغناه وَوجدت لَهُ هَيْبَة فعبيد الله صدقا عَلَيْهِم من الله تَعَالَى طلاوة وحلاوة وملاحة ومهابة فَإِذا غيروا وبدلوا فَعَظمُوا الدُّنْيَا بخراب قُلُوبهم فقد ارتجعوا فِي نُفُوسهم فَذَهَبت الهيبة لِأَنَّهُ الْآن لَيْسَ من عبيد الْملك إِنَّمَا هُوَ عبد نَفسه وهواه ودنياه وشهواته وسلطانه
وَقَوله وَإِذا تركت الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر حرمت بركَة الْوَحْي فَإِن فِي ترك ذَلِك خذلانا للحق تَعَالَى وجفوة للدّين وَفِي ذَلِك ذهَاب البصيرة وفقد النُّور فَيصير الْقلب محجوبا فَيحرم بركَة الْوَحْي فيقرأه وَلَا تعي اذنه مِنْهُ شَيْئا قد حرم فهمه وَهُوَ من أعلم النَّاس باللغة وأبصرهم بتفسيره وَقد عمي عَن لطائفه ومعانيه ووعده ووعيده وَأَمْثَاله لِأَنَّهُ إِذا وَقع من لِسَانه فِي أُذُنه صَار إِلَى قلب صَدره مظلما فَكَأَنَّهُ قد غرق فِي لجة إِنَّمَا هُوَ كَلَام يدْخل سَمعه فَإِذا صَار إِلَى الصَّدْر صَار فِي عمى وَالَّذِي أشرق صَدره بِالنورِ فعلى قلبه ينابيع الْفَهم يلتذ باللطائف أحلى من القطائف ويفرح بالوعد ويحذر الْوَعيد ويرغب ويرهب وَيعْتَبر ويتعظ فَهَذَا بركَة الْوَحْي
وَقَوله وَإِذا تَسَابَّتْ أمتِي سَقَطت من عين الله تَعَالَى لِأَن بدوه الْكبر والإستحقار للْمُسلمين والحسد وَالْبَغي والتنافس فِي أَحْوَال الدُّنْيَا فَبِهَذَا سقط من عين الله والساقط من عينه قد خرج من كلاءته وَحفظه ورعايته فليستعد للخذلان فِي نَوَائِب الدّين وَالدُّنْيَا فَإِنَّهُ إِذا زَالَت عَنهُ رعايته ذهبت عصمته وَله فِي كل نائبة ورطة حَتَّى تُؤَدِّيه إِلَى الورطة الْكُبْرَى سلب الدّين والانتكاص على العقبين وَمن سقط عَن عينه لم يبال فِي أَي وَاد هلك وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى مِنْهُ(2/271)
- الأَصْل الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي إِيدَاع الْعَهْد بِالدُّعَاءِ بعد الصَّلَاة
عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ فِي دبر الصَّلَاة بعد مَا يسلم هَؤُلَاءِ الْكَلِمَات كتبه ملك فِي رق فختم بِخَاتم ثمَّ رَفعهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَإِذا بعث الله العَبْد من قَبره جَاءَهُ الْملك وَمَعَهُ الْكتاب يُنَادي أَيْن أهل العهود حَتَّى يدْفع إِلَيْهِ والكلمات أَن تَقول
اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الرَّحْمَن الرَّحِيم إِنِّي أَعهد إِلَيْك فِي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا أَنَّك أَنْت الله لَا إِلَه إِلَّا أَنْت وَحدك لَا شريك لَك وَأَن مُحَمَّدًا عَبدك وَرَسُولك فَلَا تَكِلنِي إِلَى نَفسِي فَإنَّك أَن تَكِلنِي إِلَى نَفسِي تقربني من الشَّرّ وَتُبَاعِدنِي من الْخَيْر وَإِنِّي لَا أَثِق إِلَّا بِرَحْمَتك فَاجْعَلْ رحمتك لي عهدا عنْدك تُؤَدِّيه إِلَيّ يَوْم الْقِيَامَة إِنَّك لَا تخلف الميعاد
صَاحب هَذَا الْعَهْد يتحلى بِهَذَا الْعَهْد الَّذِي عهد إِلَى ربه من الْأَسْبَاب وَيكون مُتَعَلّقه رَحمته وَلَا يَثِق إِلَّا بهَا وَلَا يلحظ النجَاة إِلَّا بهَا(2/272)
وَيجْعَل هَذَا الْعَهْد فِي الدُّنْيَا كَالْوَدِيعَةِ عِنْد ربه وانه أمله ورجاؤه فَمن كرم رَبنَا أَن لَا يقطع رَجَاءَهُ وَلَا يخيب أمله قَالَ الله تَعَالَى {لَا يملكُونَ الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا}
واتخاذ الْعَهْد من صدق لَا إِلَه إِلَّا الله وَالْوَفَاء بهَا وَهُوَ أَن لَا يعْتَمد قَلْبك شَيْئا سواهُ فِي أَمر آخِرَة وَلَا دنيا فَيكون هُوَ كافيك وحسبك من الدَّاريْنِ(2/273)
- الأَصْل الْخَامِس وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر الْكَلِمَات الْعشْر بعد الصَّلَاة
عَن بُرَيْدَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ عشر كَلِمَات عِنْد دبر كل صَلَاة وجد الله عِنْدهن مكفيا مجزيا خمس للدنيا وَخمْس للآخرة حسبي الله لديني حسبي الله لدنياي حسبي الله لما أهمني حسبي الله لمن بغي عَليّ حسبي الله لمن حسدني حسبي الله لمن كادني بِسوء حسبي الله عِنْد الْمَوْت حسبي الله عِنْد المساءلة فِي الْقَبْر حسبي الله عِنْد الْمِيزَان حسبي الله عِنْد الصِّرَاط حسبي الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب
هَذِه مَوَاطِن نَوَائِب العَبْد فِي دُنْيَاهُ وآخرته وَقد جعل لَهُ فِي كل موطن سَببا وعدة يقطع بِهِ تِلْكَ النائبة فاذا أعرض عَن الْعدة وَالسَّبَب وَضرب عَنهُ صفحا واغتنى بِاللَّه تَعَالَى كَافِيا وحسيبا كَفاهُ الله تَعَالَى وَكَانَ عِنْد ظَنّه بِهِ فعدته فِي دينه الْعَهْد الَّذِي أنزل وَهُوَ الْحَبل الَّذِي أَمر بالاعتصام بِهِ وعدته فِي دُنْيَاهُ التَّوَكُّل وَالْكَسْب من الطّيب وعدته(2/274)
فِيمَا أهمه الْحِيَل الَّتِي وضعت لكل هم وحيلة وعدته فِي الْبَغي الِاحْتِرَاز والتجافي وَالْأَخْذ بالحزم وعدته فِي الْحَسَد التَّوَاضُع والمقاربة للحاسد وعدته فِي المكابدة بالسوء سد الْأَبْوَاب الَّتِي مِنْهَا يجد الكائد السَّبِيل عَلَيْهِ وعدته فِي الْمَوْت الْعَمَل الصَّالح وعدته فِي المساءلة فِي الْقَبْر تَصْحِيح الْأَمر للجواب وعدته عِنْد الْمِيزَان كَثْرَة الْأَعْمَال لثقل الْوَزْن وعدته عِنْد الصِّرَاط النُّور للْجُوَاز فَإِذا لَهَا عَن هَذِه الْعدَد وَكَانَ الله تَعَالَى شرح بهَا صَدره وَلم يشخص أمله إِلَى شَيْء سواهُ وَلَا لحظ إِلَى خلق وَلَا إِلَى فعل وَقَالَ حسبي الله عِنْد كل موطن فقد تعلق بربه تَعَالَى وَمن تعلق بِهِ لم يخيبه وَكَانَ لَهُ فِي تِلْكَ المواطن كظنه بِهِ
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يروي عَن ربه تَعَالَى أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي وَأَنا مَعَه إِذا دَعَاني
وَكَانَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لما وضع فِي المنجنيق ليرمي بِهِ فِي النَّار جأرت السَّمَوَات والأرضون وَالْمَلَائِكَة والخلق والخليقة بكاء وعويلا قَالَت يَا رب عَبدك يحرق بالنَّار فَأذن الله لَهُم فِي نصرته ان اسْتَغَاثَ بهم ودعاهم إِلَى نصرته وَرمي فِي الْهَوَاء إِذْ عَارضه جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام بلوى من الله تَعَالَى فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم هَل من حَاجَة(2/275)
فَقَالَ أما إِلَيْك فَلَا حسبي الله قَالَ الله تَعَالَى يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا على إِبْرَاهِيم
فولي الله تَعَالَى نصرته إِذْ لم يفزع إِلَى اُحْدُ سواهُ فَلم يكله إِلَى أحد من خلقه فَهَذَا صدق قَوْله حسبي الله فَإِذا لم يكن العَبْد فِي قلبه من الْحَقِيقَة مَا كَانَ لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن لكل مقَال حُرْمَة وَالله تَعَالَى لَا يضيع حرمته فَإِذا ردد هَذِه الْكَلِمَات نفعته فِي هَذِه المواطن بِأَن كن شُفَعَاء إِلَى الله تَعَالَى وَإِذا تكلم بهَا على يقظة وانشراح صدر وجد الله تَعَالَى فِي هَذِه المواطن قد كَفاهُ
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَالَ العَبْد حسبي الله سبع مَرَّات قَالَ الله تَعَالَى صدق عَبدِي لأكفينه صَادِقا أَو كَاذِبًا(2/276)
- الأَصْل السَّادِس وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن حسن الْجَواب فِي خلال الْخطاب من لطافة الْفَهم من قِرَاءَة الرَّحْمَن من الْوَحْي
عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَرَأَ علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُورَة الرَّحْمَن حَتَّى خَتمهَا ثمَّ قَالَ مَا لي أَرَاكُم سكُوتًا للجن كَانُوا أحسن ردا مِنْكُم مَا قَرَأت عَلَيْهِم هَذِه الْآيَة من مرّة فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ إِلَّا قَالُوا وَلَا بِشَيْء من نعم رَبنَا نكذب فلك الْحَمد
حسن الرَّد فِي الْجَواب من لطائف الْفَهم وأجساد الْجِنّ من نَار وَلم يشغلهم شغل الْآدَمِيّين فجوهرهم أرق وجوهر الْآدَمِيّ أغْلظ لأَنهم من تُرَاب وَهَذِه السُّورَة قد عدد الله تَعَالَى فِيهَا النعم وخاطب بتعديده الثقلَيْن وَقَالَ فِي ذكر كل نعْمَة فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ
فَكل هَذَا القَوْل سُؤال يحْتَاج إِلَى رد الْجَواب فِيهِ وَأثْنى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مُؤمن الْجِنّ بِحسن ردهم الْجَواب وَمن رُتْبَة الْخطاب(2/277)
أَن لَا يتْرك الْخطاب الَّذِي لَهُ جَوَاب مهملا ليَكُون المستمع كالغافل وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَوا على هَذِه الْآيَة {أَلَيْسَ ذَلِك بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى}
قَالُوا اللَّهُمَّ بلَى
وَإِذا مروا بِذكر النَّار استعاذوا بِاللَّه فاقتضاهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَقت قِرَاءَته عَلَيْهِم مَا وجده من الْجِنّ وَاسْتَحْسنهُ مِنْهُم وَكَانَ من أَصْحَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يشْغلهُ ذرو كَلَامه عَن النّظر فِي مَعْنَاهُ إجلالا لكَلَام الله تَعَالَى ودهشا فِي ذكره وَمِنْهُم من يتَعَلَّق قلبه بِأول الْآيَة فيشغله أَولهَا عَن ذكر مَا بعْدهَا كَمَا صلى عَليّ بن فُضَيْل بن عِيَاض رَضِي الله عَنهُ خلف إِمَام قَرَأَ سُورَة الرَّحْمَن فَلَمَّا انْفَتَلَ قيل لَهُ يَا عَليّ ألم تسمع إِلَى مَا أعد الله للْمُؤْمِنين من نعيم الْجنان فَقَالَ شغلني مَا قبلهَا عَن ذكر الْجنان يَعْنِي ذكر النَّار وسلطان كَلَام الله تَعَالَى على الْقُلُوب على قدر مَا فِيهَا من الْعلم بِاللَّه تَعَالَى والخشية لَهُ والحظ من الْقرْبَة وَإِنَّمَا ينزل من الْقلب كَلَام كل وَاحِد مِنْهُم على قدر مَنْزِلَته عِنْده
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أحب أَن يعلم مَا مَنْزِلَته عِنْد الله فَلْينْظر مَا لله عِنْده من الْمنزلَة فَإِن الله تَعَالَى ينزل من العَبْد حَيْثُ أنزلهُ العَبْد من نَفسه(2/278)
- الأَصْل السَّابِع وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي كَلِمَات الْفرج وَالْمَغْفِرَة والتلقين
عَن عبد الله بن جَعْفَر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لقنوا مَوْتَاكُم لَا إِلَه إِلَّا الله الْحَلِيم الْكَرِيم سُبْحَانَ الله رب السَّمَوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين قَالُوا يَا رَسُول الله فَكيف هِيَ للحي قَالَ أَجود وأجود
وتسمي هَذِه الْكَلِمَات عِنْد أهل الْبَيْت كَلِمَات الْفرج يدعونَ بهَا فِي النوائب والشدائد
وَذَلِكَ مَا روى عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا أعلمك كَلِمَات إِذا قلتهن غفرت لَك ذنوبك مَعَ أَنه مغْفُور لَك لَا إِلَه إِلَّا الله الْعلي الْعَظِيم لَا إِلَه إِلَّا الله الْحَلِيم الْكَرِيم سُبْحَانَ الله رب السَّمَوَات وَرب الْعَرْش الْعَظِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين(2/279)
- الأَصْل الثَّامِن وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي حِكْمَة الصَّدَقَة لم صَارَت بِعشر وَالْقَرْض بِثمَانِيَة عشر
عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت على بَاب الْجنَّة مَكْتُوبًا الْقَرْض بِثمَانِيَة عشر وَالصَّدَََقَة بِعشر فَقلت يَا جبرئيل مَا بَال الْقَرْض بِثمَانِيَة عشر وَالصَّدَََقَة بِعشر قَالَ لِأَن صَاحب الْقَرْض لَا يَأْتِيك إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاج وَرُبمَا وضعت الصَّدَقَة فِي غَنِي
الْمُتَصَدّق حسب لَهُ الدِّرْهَم بِعشْرَة فدرهم صدقته وَتِسْعَة زَائِدَة فَصَارَت لَهُ عشرَة وَالْقَرْض على ضعف الصَّدَقَة فدرهم قرضه يرجع إِلَيْهِ فَلَا يحْسب بَقِي تِسْعَة فتضاعف فَيكون ثَمَانِيَة عشر وَالله أعلم وَأحكم(2/280)
- الأَصْل التَّاسِع وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي بَيَان أفضل مَا أعطي النَّاس
عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ يخْطب وَقَالَ قَامَ فِينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كقيامي فِيكُم ثمَّ بَكَى ثمَّ أَعَادَهَا ثمَّ بَكَى ثمَّ أَعَادَهَا ثمَّ بَكَى فَقَالَ إِن النَّاس لم يُعْطوا شَيْئا أفضل من الْعَفو والعافية فأسألوههما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْعَفو والعافية مُشْتَقّ أَحدهمَا من الآخر أَلا إِن الْعَفو يسْتَعْمل فِي نَوَائِب الْآخِرَة والعافية تسْتَعْمل فِي نَوَائِب الدُّنْيَا وأصل ذَلِك التفضل عَلَيْهِ أَن يتفضل على عَبده فَلَا يُعَاقِبهُ وَلَا يَبْتَلِيه وَالْعَفو الدَّرْس وَمَعْنَاهُ أَن يدرس عَنهُ آثَار الذُّنُوب وَالْبَلَاء عَن جوارحه فَإِن لكل نعْمَة تبعة وَلكُل ذَنْب نقمة فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة فَإِذا درست عَنهُ التَّبعَات والنقمات تخلص بِهَذَا فِي الْعَفو وَالله أعلم(2/281)
- الأَصْل الثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي الإلحاح فِي الدُّعَاء وسر كَونه محبوبا
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله يحب الملحين فِي الدُّعَاء
الإلحاح ملق وَالْمُؤمن حبيب الله وَكلما كثر سُؤال الحبيب فَهُوَ أحب إِلَى محبه وَالله تَعَالَى يحب صَوته
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الله تَعَالَى لجبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام يَا جبرئيل قد قضيت حَاجَة فلَان وأجبت دَعوته وَلَكِن احبسها عَنهُ فَانِي أحب صَوته
وَعَن وهب رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِن الله تَعَالَى يَقُول أنزل الْبلَاء استخرج مِنْهُ الدعْوَة
وَإِنَّمَا صَار الْملح محبوبا لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِع رجاؤه فَهُوَ يسْأَل فَلَا يرى إِجَابَة فَلَا يزَال يلح وَلَا يَنْقَطِع رجاؤه وَلَا يدْخلهُ الْيَأْس فَذَلِك لعلمه بِاللَّه تَعَالَى وَصِحَّة قلبه وَصدق عبودته واستقامة وجهته فَمن صدق(2/282)
الله فِي دَعوته اسْتعْمل اللِّسَان وانتظر بِالْقَلْبِ مَشِيئَته فَلَا يضيق وَلَا ييأس لِأَن قلبه صَار مُعَلّقا بمشيئته فانتظاره الْمَشِيئَة من أفضل مَا يقدم بِهِ على ربه وَهُوَ صفو العبودة واستعماله اللِّسَان عبَادَة لِأَن فِي السُّؤَال اعترافا بِأَنَّهَا لَهُ وإنتظار مَشِيئَته لقضائه عبَادَة فَهُوَ بَين عبادتين وجهتين وَأفضل الدُّعَاء من داوم عَلَيْهِ
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليَدع أحدكُم وَلَا يَقُولَن قد سَأَلت وَلم يستجب لي قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن العَبْد الْمُؤمن يُسْتَجَاب لَهُ فَإِذا قَالَ العَبْد يَا رب قَالَ الله تَعَالَى لبيْك فَإِذا سَأَلَهُ حَاجَة فإمَّا أَن يعجل لَهُ حَاجته وَإِمَّا أَن يصرف عَنهُ شرا بدل حَاجته وَإِمَّا أَن يدّخر لَهُ فِي آخرته مَا هُوَ خير لَهُ مِمَّا سَأَلَ فَلم تسْقط دَعوته على كل حَال
وَأما أهل الْيَقِين فَإِنَّهُم يدعونَ ويلحون فَإِن أجَاب قبلوا وَإِن تَأَخّر صَبَرُوا وَإِن منع رَضوا وأحسنوا الظَّن وهم فِي الْأَحْوَال ساكنون مطمئنون ينتظرون مَشِيئَته
قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ رَحمَه الله أتيت أَبَا حبيب الْعَدوي أسلم عَلَيْهِ وَمَا كنت رَأَيْته قطّ قَالَ لي أَنْت سُفْيَان الثَّوْريّ الَّذِي يُقَال قلت نعم نسْأَل الله تَعَالَى بركَة مَا يُقَال ثمَّ قَالَ يَا سُفْيَان مَا(2/283)
رَأينَا خيرا قطّ إِلَّا من رَبنَا قلت أجل قَالَ فَمَا لنا نكره لِقَاء من لم نر خيرا قطّ إِلَّا مِنْهُ ثمَّ قَالَ لي يَا سُفْيَان منع الله إياك عَطاء مِنْهُ لَك وَذَاكَ أَنه لم يمنعك من بخل وَلَا عدم وَإِنَّمَا مَنعه نظرا واختيارا يَا سُفْيَان ان فِيك لأنسا ومعك شغلا سَلام عَلَيْك ثمَّ أقبل على غنيمته وَتَرَكَنِي
فالإعطاء أحب إِلَى أهل الْجُود من الْأَخْذ للسؤال وهم يلتذون بالجود والإعطاء أَكثر مِمَّا يلتذ الْآخِذ بالنوال لِأَن الْأَخْذ خلق الْفُقَرَاء والإعطاء خلق الْأَغْنِيَاء وَهُوَ خلق أهل الْجنان وَهُوَ خلق الله الْأَعْظَم وَكَانَ من دُعَاء سُفْيَان رَحمَه الله يَا من يحب أَن يسْأَل ويغضب على من لَا يسْأَل وَيَا من أحب عباده إِلَيْهِ من سَأَلَهُ فَأكْثر سُؤَاله وَلَيْسَ أحد غَيْرك كَذَلِك يَا كريم وَيَا من أبْغض عباده إِلَيْهِ من لَا يسْأَله وَلم يطْلب إِلَيْهِ وَلَيْسَ أحد غَيْرك كَذَلِك يَا كريم وَيَا من أحب عباده إِلَيْهِ من سَأَلَهُ الْعَظِيم وَلم يعظم عَلَيْك وَعزَّتك عَظِيم يَا عَظِيم
وَقَالَ الله تَعَالَى لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام اطلب الي الْعلف لشاتك وَلَا تَسْتَحي أَن تَسْأَلنِي صَغِيرا وَلَا تخف مني بخلا أَن تَسْأَلنِي وَالله أعلم(2/284)
- الأَصْل الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي قِرَاءَة الْقُرْآن فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَة
عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره أَن يقْرَأ الْقُرْآن فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَة فاستزاده حَتَّى رَجَعَ إِلَى سبع
فالأربعون مُدَّة الضُّعَفَاء وأولي الأشغال وَيكون خَتمه فِي السّنة تسع مَرَّات وَمُدَّة الْأَرْبَعين مرددة فِي الْأَشْيَاء كَثِيرَة وَأما تَوْقِيت السَّبع فَإِنَّهُ للأقوياء الَّذين يقوون على سهر اللَّيَالِي واحترفوا الْعِبَادَة وتفرغوا من أشغال النَّفس وَالدُّنْيَا
قَالَ رجل يَا رَسُول الله من قَرَأَ الْقُرْآن فِي سبع قَالَ ذَاك عمل المقربين قَالُوا يَا رَسُول الله فَمن قَرَأَهُ فِي خمس قَالَ ذَاك عمل الصديقين قَالُوا يَا رَسُول الله فَمن قَرَأَهُ فِي ثَلَاث قَالَ ذَاك عمل النَّبِيين وَذَاكَ الْجهد لَا أَرَاكُم تطيقونه إِلَّا أَن تصبروا على مكابدة اللَّيْل أَو يبدا أحدكُم بالسورة وهمه فِي آخرهَا قَالُوا يَا رَسُول الله وَفِي(2/285)
أقل من ثَلَاث قَالَ لَا وَمن وجد مِنْكُم نشاطا فليجعله فِي حسن تلاوتها
أَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك المداومة عَلَيْهِ وَأَن يصيرها عَادَة وَلَو قَرَأَ فِي يَوْم وَلَيْلَة لَكَانَ عَظِيم الْقدر وَكَانَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ختم فِي رَكْعَة وَاحِدَة وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يقرأه فِي سبع تيسيرا على الْأمة
عَن أَوْس رَضِي الله عَنهُ قَالَ احْتبسَ عَنَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة فَقُلْنَا لَهُ فَقَالَ إِنَّه طَرَأَ على حزب من الْقُرْآن فَأَحْبَبْت أَن لَا أخرج من الْمَسْجِد حَتَّى أقضيه فَقُلْنَا لأَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ تحزبون قَالُوا ثَلَاث سور وَخمْس سور وَسبع سور وتسع سور وَإِحْدَى عشرَة سُورَة وَثَلَاث عشرَة سُورَة وحزب الْمفصل مَا بَين قَاف فأسفل
ودلهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الأول على حسن التِّلَاوَة فَإِن الْقُرْآن موعظة وَالله تَعَالَى يحب أَن تعقل مواعظه ونصائحه ولطائفه فَإِذا خَاطب عَبده بِشَيْء يُرِيد إِظْهَار مَا لَهُم عِنْده من الأثرة والمحبة وَيُحب أَن يعجل أَوَائِل بره فِي عَاجل محياهم ليتلذذوا بِهِ ويفرحوا فَإِذا مر عَلَيْهِ التَّالِي يهذه هذاو قلبه فِي عماء من ذَلِك مقته كَمَا أَن وَاحِدًا منا إِذا كلم آخر بِشَيْء يُرِيد بِهِ بره والطافه فاستمع إِلَى كَلَامه باذنه لاهيا عَن ذَلِك بِقَلْبِه سقط عَن عَيْنَيْهِ فَكيف بِرَبّ الْعَالمين وَقد أدب الله تَعَالَى عباده ودلهم على الترتيل فَقَالَ تَعَالَى ورتل الْقُرْآن ترتيلا
وَقَالَ تَعَالَى وقرآنا فرقناه لتقرأه على النَّاس على مكث(2/286)
وَقَالَ تَعَالَى كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك ليدبروا آيَاته وليتذكر أولُوا الْأَلْبَاب
ودلهم على الترتيل والتؤدة والتدبر ليصل إِلَيْهِم نفع ذَلِك فأفضلهم قِرَاءَة أعقلهم عَنهُ فَمن أسْرع الْقِرَاءَة وعقل عَنهُ كَانَ فِي نور عَظِيم ومنزلة علية لفضل نوره وَمن قصر ذَلِك فالتفكر والتدبر خير لَهُ وأنفع(2/287)
- الأَصْل الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن النَّفس لَا تَمُوت حَتَّى تستكمل رزقها
عَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر فَدَعَا النَّاس بِيَدِهِ هَكَذَا فَقَالَ اجلسوا وَأَقْبل النَّاس فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا اجلسوا ثمَّ قَالَ إِنِّي رأيتكم تطلبون معايشكم هَذَا رَسُول رب الْعَالمين جبرئيل نفث فِي روعي أَن لَا تَمُوت نفس حَتَّى تستكمل رزقها وَإِن أَبْطَأَ عَلَيْهَا فَاتَّقُوا الله أَيهَا النَّاس وأجملوا فِي الطّلب وَلَا يحملنكم استبطاء شَيْء من الرزق أَن تأخذوه بِمَعْصِيَة فَإِن الله لَا يدْرك مَا عِنْده إِلَّا بِطَاعَتِهِ
الروع الْقلب والنفث هُوَ من الرّوح وَيُشِير فِي قَوْله هَذَا رَسُول رب الْعَالمين أَن جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام شَاهده فِي ذَلِك الْوَقْت(2/288)
والأرزاق مَعْلُومَة وقسط كل نفس وَاصل إِلَيْهَا وَإِن هربت مِنْهُ وَلَا تَمُوت حَتَّى تستوفي مَا قسم لَهَا فَحَذَّرَهُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْغَفْلَة ودلهم على إِجْمَال الطّلب وَهُوَ أَن يحسن نِيَّته فِي طلبه ويطلبه للعفة ولقوام الدّين وَالْقِيَام بِمَا أَمر الله تَعَالَى فِي ذَلِك ويحفظ فِيهِ الْجَوَارِح ويبذل النَّصِيحَة ويراعي الْأَمَانَة ويتجنب الْخِيَانَة وَالْحلف وَالْكذب والغش ويطلبه مَعَ ذكر آخرته كَمَا قَالَ تَعَالَى رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله
طهر قُلُوبهم خوف ذَلِك الْيَوْم وأذهل نُفُوسهم عَن شَهْوَة تستخفهم أَو فتْنَة فِي طلبَهَا تستفزهم وأمات خوف الْعقَاب مِنْهُم كل حرص وأكسلهم ثقل الْحساب عَن طلبه فتخلصوا بذلك من فتنته(2/289)
- الأَصْل الثَّالِث وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أجر الصَّبْر الْجَمِيل عِنْد الْمُصِيبَة
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله تَعَالَى إِذا وجهت إِلَى عبد من عبَادي مُصِيبَة فِي بدنه أَو فِي وَلَده أَو فِي مَاله فَاسْتَقْبلهُ بصبر جميل استحييت يَوْم الْقِيَامَة أَن أنصب لَهُ ميزانا أَو أنشر لَهُ ديوانا
الصَّبْر ثَلَاث الأول صَبر الْمُوَحِّدين وَهُوَ أَن لَا يسخطوا على رَبهم وَلَا يجوروه فلموجب إِيمَانهم صَبَرُوا واعترفوا أَنه عدل فِي ذَلِك ثمَّ أهملوا جوارحهم فِي الْمعاصِي لحرقة تِلْكَ الْمُصِيبَة فَهُوَ صَبر الظَّالِمين
وَالثَّانِي صَبر الْمُقْتَصِدِينَ فَإِنَّهُم صَبَرُوا بِالْقَلْبِ والجوارح فرضوا بِالْقَلْبِ عَن رَبهم وحفظوا جوارحهم عَن الْمعْصِيَة بِسَبَب مَا نزل بهم لَكِن فِي النَّفس شدَّة كزة ومرارة وعسر وَلم يملكُوا أَكثر من ذَلِك فَهَذَا صَبر قد أذهبت النَّفس بشؤمها جماله
وَالثَّالِث صَبر المقربين فَهُوَ الرضاء لم تَجِد لوعة الْمُصِيبَة مساغا(2/290)
فِي قُلُوبهم لما فِيهَا من الْحَلَاوَة واللذاذة بِقرب الله تَعَالَى لِأَن النُّور لما اشتعل فِي صُدُورهمْ بعد امتلاء الْقلب مِنْهُ وأحرقت شهوات النَّفس ومناها وَصَارَ الصَّدْر مستنيرا من نور الْقلب وَشرح الله صَدره بِالْإِسْلَامِ لم يبْق فِي النَّفس غل وَلَا كزة وَلَا مرَارَة وَلَا عسر انْتَبَهت النَّفس عَن نومتها وَخرجت من مشيئتها وأفاقت عَن سكرتها فَصَارَت مَشِيئَة الله تَعَالَى عِنْدهَا أحلى من مَشِيئَته وَصَارَ بدل المرارة حلاوة وَعوض الْعسر غنى فَأَيْنَ مَا برزت مَشِيئَته فِي شَيْء من حجب غيبه وقفت قُلُوبهم عِنْد مَشِيئَته وهم الصادقون فِي قَوْلهم مَا شَاءَ الله كَانَ
فَصَبر المخلطين صَبر إِيمَان محشو بالجزع وصبر الْمُقْتَصِدِينَ رِضَاء مَعَ كزة النَّفس وصبر المقربين رِضَاء الْقلب ورضاء النَّفس لِأَنَّهُ قد انْكَشَفَ لَهُم أَنه قد أوصلهم إِلَى أشرف الْأَشْيَاء لعطفه ورأفته وَهُوَ مَعْرفَته فَلم يتهموه بعد ذَلِك فِي حَال من أَحْوَال نُفُوسهم فَكيف مَا دبر لَهُم من مَحْبُوب أَو مَكْرُوه وَقع ذَلِك مِنْهُم موقع بر وَرَحْمَة وَعطف ورأفة كَمَا قَالَ معَاذ رَضِي الله عَنهُ حِين اشْتَدَّ بِهِ النزع فِي الطَّاعُون فيغشي عَلَيْهِ ثمَّ يفِيق فَيَقُول اخنقني خنقك رب فوعزتك لَا تزداد بذلك عِنْدِي إِلَّا حبا
وَكَانَ الرّبيع بن خَيْثَم رَضِي الله عَنهُ رُبمَا خرج إِلَى صلَاته فِي مَرضه فَغشيَ عَلَيْهِ فيجده إخوانه صَرِيعًا فِي الطَّرِيق فيرشون عَلَيْهِ المَاء حَتَّى يفِيق فَيَقُول يَا رب غط مَا شِئْت أَن تغط فوعزتك لَا تزداد بذلك عِنْدِي إِلَّا حبا فَيُقَال لَهُ إِنَّك لفي سَعَة أَن لَا تكلّف نَفسك هَذَا فَيَقُول فَكيف بِهَذَا الَّذِي يُنَادي حَيّ على الصَّلَاة لَا أقدر أَن لَا أُجِيبهُ(2/291)
وروى أَبُو مُوسَى رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الصَّبْر رِضَاء
قَوْله فَاسْتَقْبلهُ بصبر جميل استحييت أَن أنصب لَهُ ميزانا لِأَن العَبْد إِذا صَار يتلَقَّى أَحْكَامه بِالرِّضَا وَهُوَ جمال الصَّبْر صَار من أوليائه وخاصته والخاصة لَا يحاسبون وَلَا يفتشون وَلَا يقابلون فِي الثَّوَاب بِالْأَعْمَالِ بل يرفعون إِلَى معالي الدَّرَجَات بالحظوظ الَّتِي كَانَت فِي قُلُوبهم من رَبهم ويسامحون بالنوال فِي الدَّرَجَات كَمَا سامحوا بنفوسهم وَلم يكن لَهُم شَيْء أعظم مِنْهَا فألقوها بَين يَدَيْهِ عبيدا كَمَا خلقهمْ فثوابهم بِغَيْر حِسَاب ونوالهم بِغَيْر مِقْدَار وقربتهم بِغَيْر حد وَلَا ضبط(2/292)
- الأَصْل الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي طلب الْخَيْر والتعرض لنفحات رَحْمَة الله
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اطْلُبُوا الْخَيْر دهركم وتعرضوا لنفحات رَحمَه الله فَإِن لله تَعَالَى نفحات من رَحمته يُصِيب بهَا من يَشَاء من عباده وسلوا الله أَن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم
فالنفحة الدفعة من الْعَطِيَّة فيعطي فِي دفْعَة وَاحِدَة مَا يَأْتِي على كثير من النعم والنفحات من فتحات بَاب خَزَائِن المنن فَإِن خَزَائِن الثَّوَاب بِمِقْدَار وعَلى طَرِيق الْجَزَاء وخزائن المنن تغرق الْوَاحِدَة مِنْهَا لِأَنَّهَا مِنْهُ يمن جودا وعطفا وو قت الفتحة غير مَعْلُوم وَإِنَّمَا غيب علمه عَنْهُم ليداوموا على طلبَهَا بالسؤال المتدارك ويكونوا متعرضين لَهُ فِي كل وَقت وكل حَال فَإِنَّهُ إِذا داوم على ذَلِك كَانَ وشيكا أَن يُوَافق دَعوته الْوَقْت الَّذِي يفتح فَيكون قد ظفر بالغنى الْأَكْبَر وَسعد سَعَادَة الْأَبَد كملك قدر الأرزاق على عبيده وجنده شهرا شهرا ثمَّ لَهُ فِي خلال ذَلِك عَطِيَّة من سماحة وجود فَيفتح بَاب الخزانة فيعطي(2/293)
مِنْهَا مَا يعم ويستغرق فِي جَمِيع الأرزاق الدارة الَّتِي أخذوها مُدَّة سِنِين فَمن وَافق ذَلِك من الْملك اسْتغنى آخر الْأَبَد وَلَا يدْرِي أَي وَقت يسمح ويعطف فَيَنْبَغِي أَن يديم الِاخْتِلَاف إِلَيْهِ فِي الْيَوْم مرَارًا رَجَاء أَن يُوَافق تِلْكَ السَّاعَة
قَالَ لُقْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لِابْنِهِ يَا بني عود لسَانك أَن تَقول اللَّهُمَّ اغْفِر لي فَإِن لله سَاعَات لَا ترد
وَقَالَ الْحسن أَكْثرُوا الاسْتِغْفَار على أحوالكم فَإِنَّكُم لَا تَدْرُونَ أَي حِين تنزل الْمَغْفِرَة(2/294)
- الأَصْل الْخَامِس وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي عَثْرَة الْحَلِيم وتجربة الْكَرِيم الْحَكِيم
عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاحليم إِلَّا ذُو عَثْرَة وَلَا حَكِيم إِلَّا ذُو تجربة
الْحَلِيم المنشرح صَدره الَّذِي يَتَّسِع صَدره لمساوىء الْخلق وَسُوء سيرتهم وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَصْبِر النَّاس على أقذار الْخلق
وَقَالَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ مَا سَمِعت الله تَعَالَى نحل عباده شَيْئا أقل من الْحلم قَالَ تَعَالَى {إِن إِبْرَاهِيم لحليم} وَقَالَ {فبشرناه بِغُلَام حَلِيم}
إِنَّمَا عظم حلمهما بِمَا أتسع صدرهما لِلْأَمْرِ الْعَظِيم الَّذِي حل بهما(2/295)
من الذّبْح فاتسع صدر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لذبح وَلَده وَصدر الْغُلَام عَلَيْهِ السَّلَام لتسليم نَفسه لله تَعَالَى
فالحليم من يسلم النَّفس لرَبه عز وَجل عبودة فِي جَمِيع مَا يَأْمر وَفِيمَا يحكم عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَال والحلم وَالْملح وَاحِد كَمَا لَا تطيب الْأَطْعِمَة إِلَّا بالملح لَا تطيب النَّفس إِلَّا بالحلم
قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه الْحلم كظم الغيظ وملاك النَّفس وَفِي الْخَبَر أَن أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أحلم النَّاس وأصبره وأكظمه لغيظه
قَوْله لَا حَلِيم إِلَّا ذُو عَثْرَة أَي لَا يَتَّسِع الرجل لما يرى من الْخلق إِلَّا بعد مَا يعثر فَإِذا رأى عثرته رحم الْخلق واتسع لَهُم وَاتَّقَى أَن يلوم أحدا بِعَيْب أَو يعيره بذنب
وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام يشدد على الْخَطَّائِينَ وَلَا يجالسهم وَقَالَ يَا رب لَا تغْفر للخطائين لشدَّة الْغيرَة لله تَعَالَى وَكَثْرَة الحنق عَلَيْهِم فَلَمَّا عثر كَانَ ينظر إِلَى أغمص مجْلِس فِي بني إِسْرَائِيل وَيقْعد مَعَهم وَيَقُول مِسْكين بَين ظهراني مَسَاكِين رب اغْفِر للخطائين كي تغْفر لداود مَعَهم
وَقَوله لَا حَكِيم إِلَّا ذُو تجربة فالعقل يدل على الرشد وَالْحكمَة نور يكْشف عَن مَكْنُون الْأُمُور وَلَا تستكمل الْحِكْمَة مَعَ كشف الغطاء وإطلاعه بِالْقَلْبِ حَتَّى يطالع الْأُمُور بِمُبَاشَرَة النَّفس فَإِن كل شَيْء تَجدهُ الْقُلُوب فمباشرة النَّفس مَعَ الْقُلُوب أثبت وآكد فالحكيم قد انْكَشَفَ لَهُ الغطاء فَيرى عواقب الْأُمُور وزينها وشينها فَإِذا رأى ذَلِك بالجوارح كَانَ ذَلِك عيَانًا لَا يرفع وَلَا ينسى فَبعد التجارب تستكمل الْحِكْمَة لِأَنَّهَا كَانَت قبل التجربة مُعَاينَة الْقلب فَصَارَت مُعَاينَة الْعين وَكَانَ ذَلِك علم الْيَقِين فَصَارَ الْآن عين الْيَقِين وَلِهَذَا قيل إِن الْعقل بالتجارب(2/296)
- الأَصْل السَّادِس وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن فزع وعد الْقُرْآن يُورث الشيب وسر اللحظات
عَن أبي جُحَيْفَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالُوا يَا رَسُول الله نرَاك قد شبت قَالَ شيبتني هود وَأَخَوَاتهَا
الْفَزع يذهل النَّفس فينشف رُطُوبَة الْجَسَد وَتَحْت كل شَعْرَة منبع وَمِنْه يعرق فَإِذا انتشف الْفَزع رطوبته يَبِسَتْ المنابع فيبس الشّعْر فابيض لذهاب رطوبته ويبس جلده كالزرع إِذا ذهب سقياه يبس وابيض وَلِهَذَا يسْرع الشيب إِلَى المحرور لانتشاف المَاء لِأَن الْمرة يابسة فتأدت إِلَى المنابع فيبست وإبيض الشّعْر فَالنَّفْس تذهل لوعيد الله تَعَالَى فتذبل وينشف ماءها ذَلِك الْوَعيد والهول الَّذِي حل بهَا فَمِنْهُ تشيب قَالَ(2/297)
الله تَعَالَى {يَوْمًا يَجْعَل الْولدَان شيبا}
وَسورَة هود وَأُخُوَّتهَا مثل الحاقة وَسَأَلَ سَائل وَإِذا الشَّمْس كورت وَالْقَارِعَة فَفِيهَا ذكر الْأُمَم وَمَا حل بهم من عَاجل بَأْس الله تَعَالَى فَفِي تلاوتها ينْكَشف لقلوب العارفين سُلْطَان الله تَعَالَى وبطشه فتذهل مِنْهُ النُّفُوس وتشيب مِنْهُ الرؤوس وَلَو مَاتُوا من الْفَزع لحق لَهُم وَلَكِن الله تَعَالَى يلطف بهم فِي تِلْكَ الْأَحَايِين حَتَّى يعوا وحيه وتنزيله قَالَ تَعَالَى {لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعا من خشيَة الله}
وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَلا آيَة وَعِنْده شَاب فَخر مَيتا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْفرق فلذ كبده أَي قطعه
فَأهل الْيَقِين بارز على قُلُوبهم لحظات الله تَعَالَى وَالْعَفو جنايب لَوْلَا ذَلِك مَا اسْتَقر لَهُم قَرَار من هول أَخذه واللحظة قد شملت الْقُدْرَة والحلم إِلَّا أَن أهل الْيَقِين قد اطمأنت قُلُوبهم فارتفعت فِي سَعَة عَفوه
قَالَ مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رَضِي الله عَنهُ إِن لله ثلثمِائة وَسِتِّينَ لَحْظَة يلحظ بهَا إِلَى كل عبد من عبيده فِي كل صباح فَإِن أَخذ أَخذ بِقدر وَإِن عَفا عَفا بحلم وَكتب عَليّ بن الْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا إِلَى الْحجَّاج جَوَاب كِتَابه الَّذِي كَانَ يوعده فِيهِ بَلغنِي أَن(2/298)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن لله عز وَجل فِي كل يَوْم ثلثمِائة وَسِتِّينَ لَحْظَة يلحظ بهَا إِلَى أهل الأَرْض فَمن أدْركهُ تِلْكَ اللحظة صرف الله عَنهُ شَرّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأَعْطَاهُ خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأَرْجُو من الله أَن يدركني بعض لحظاته فَيصْرف عني شرك ويرزقني مَا وَعَدَني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبلغ هَذَا الْكَلَام هِرقل فَقَالَ لَا يخرج هَذَا إِلَّا من أهل بَيت نبوة(2/299)
- الأَصْل السَّابِع وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي النَّهْي عَن الاعتزاز بالعبيد
عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من اعتز بالعبيد أذله الله تَعَالَى
الاعتزاز الِامْتِنَاع من الْأَشْيَاء الَّتِي تنوبه فَإِن امْتنع بِمن لَا يملك لنَفسِهِ ضرا وَلَا نفعا فَذَاك من الْعِزَّة والاعتزاز بالعبيد من الْجَهْل بِاللَّه وجهله بِهِ سَبَب لضَعْفه فِي كل الْأُمُور وَقد دلهم الله تَعَالَى على مَا فِيهِ رشدهم فَقَالَ واعتصموا بِاللَّه هُوَ مولاكم
والاعتصام بِهِ والاعتزاز من ذرى الايمان وَمن اعْتصمَ بالمخلوقين واعتز لعرض الدُّنْيَا فَهُوَ المخذول فِي دينه السَّاقِط عَن عين الله تَعَالَى وَأوحى الله تَعَالَى إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام مَا من عبد يعتصم بِي دون خلقي فتكيده السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا جعلت لَهُ من ذَلِك مخرجا(2/300)
وَمَا من عبد يعتصم بمخلوق دوني إِلَّا قطعت أَسبَاب السَّمَاء من بَين يَدَيْهِ وأسخطت الأَرْض من تَحت قَدَمَيْهِ
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله تَعَالَى إِنِّي وَالْجِنّ وَالْإِنْس فِي نبأ عَظِيم أخلق ويعبد غَيْرِي وأرزق ويشكر غَيْرِي(2/301)
- الأَصْل الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي خِصَال طعم يحصل بهَا طعم الْإِيمَان
عَن عبد الله بن مُعَاوِيَة العامري رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ثَلَاث من فعلهن طعم طعم الْإِيمَان من عبد الله وَحده انه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأعْطى زَكَاة مَاله طيبَة بهَا نَفسه وَلم يُعْط الهرمة وَلَا الذُّرِّيَّة وَلَا الْمَرِيضَة وَلَكِن من أَوسط أَمْوَالكُم فَإِن الله يَأْمُركُمْ بخيره وَلم يَأْمُركُمْ بشره وزكى نَفسه فَقَالَ رجل وَمَا تَزْكِيَة نَفسه قَالَ أَن يعلم أَن الله مَعَه حَيْثُمَا كَانَ
فالزكاة ثَلَاثَة زَكَاة الْقلب لَا إِلَه إِلَّا الله وَزَكَاة المَال إِخْرَاج مَا افْترض الله فِيهِ مِنْهُ وَزَكَاة النَّفس علمهَا بِأَن الله تَعَالَى مَعَه حَيْثُمَا كَانَ فَإِذا علم ذَلِك اسْتَوَت سَرِيرَته وعلانيته وهابه واستحيى مِنْهُ كل الْخلق فِي كل وَقت وَمَكَان والهيبة وَالْحيَاء وثاقان لنَفس العَبْد من جَمِيع مَا كره الله سرا وجهرا وظاهرا وَبَاطنا وَالنَّفس فِي هَذِه الْأَحْوَال تخشع لهيبته وتذل وتخمد شهواته وتذبل حركاته وانبعاثه وتخجل وتنقبض للحياء مِنْهُ فَإِذا كَانَ من الله تَعَالَى لعَبْدِهِ تأييد بِهَذَيْنِ فاكتنفاه فقد استقام
وأردنا بِالْعلمِ علم الْقلب لَا علم اللِّسَان فَإِن علم اللِّسَان أَصله من(2/302)
الْقلب وَلَا قَرَار لَهُ لِأَنَّهُ شرارة من شرر الْإِيمَان وَهِي حجَّة الله تَعَالَى على ابْن آدم وَعلم الْقلب علم الْيَقِين
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعلم علمَان علم بِالْقَلْبِ فَذَاك الْعلم النافع وَعلم على اللِّسَان فَذَاك حجَّة الله على ابْن آدم
فالزكاة هِيَ الطهرة والنماء فَإِذا قَالَ العَبْد صَادِقا من قلبه هَذِه الْكَلِمَة فَإِنَّمَا قَوْله من النُّور الَّذِي أحيى الله تَعَالَى بِهِ قلبه فَذَلِك النُّور طهر جَمِيع جسده ولصدق هَذِه الْكَلِمَة ثَلَاث منَازِل أَولهَا الظَّالِمُونَ وأوسطها المقتصدون وَآخِرهَا المقربون فالظالمون زكوا قُلُوبهم وجوارحهم بِهَذَا القَوْل ثمَّ دنسوها بِالْمَعَاصِي فَهُوَ مَعَ ظلمه شرِيف الْمنزلَة رفيع الْقدر لم يخرج بظلمه نَفسه من ولَايَة الله تَعَالَى وَمن رَحمته وَلَا زَالَت عَنهُ حرمته وَإِن تابعوا زَالَت الأدناس وصاروا من أهل نورالطاعات
والمقتصدون زكوا قُلُوبهم بِهَذِهِ الْكَلِمَة وزكوا أَمْوَالهم وأجسادهم بالائتمار بِأَمْر الله والتناهي عَن نَهْيه ثمَّ ثبتوا على تَزْكِيَة الْأَمْوَال والأجساد ودنسوا قُلُوبهم بالرغبة والرهبة والشهوة والغفلة والحرص والعجلة ومحبة النَّفس وهواها ومحبة الدُّنْيَا وَأَحْوَالهَا
والمقربون زكوا بِمَا زكى بِهِ المقتصدون وَأَقْبلُوا على قُلُوبهم فرعوها عَن أَن تتدنس بِشَيْء مِمَّا ذكرنَا فَكَانَ مرعى قُلُوبهم بَين يَدَيْهِ لم يكن للدنيا وَلَا للنَّفس هُنَاكَ دنو وَلَا لحاظ فتزكية قُلُوب الظَّالِمين بِنور التَّوْحِيد وَجَاءَت الشَّهَوَات بظلمتها وأحاطت بِالْقَلْبِ وَلم يكن لنوره الَّذِي أعطي مَا يحرق هَذِه الشَّهَوَات(2/303)
وتزكية قُلُوب الْمُقْتَصِدِينَ بِنور الْإِنَابَة فَإِنَّهُ إِذا أناب العَبْد استنار قلبه بنوره فَأخْرجهُ من سكر الظَّالِمين فأفاق فخاف الْعقَاب وَرَجا الثَّوَاب وَأبْصر الْآخِرَة حَتَّى صَارَت نصب عَيْنَيْهِ
وتزكية قُلُوب المقربين نور الْقرْبَة فَأحرق الشَّهَوَات وامتلأ الْقلب من نور التَّوْحِيد وأشرق الصَّدْر بنوره فأيقظه من نومَة الغافلين فانتبه وَفِي المقربين قوم مصطفون مجتبون هم خَاصَّة المقربين وهم المحدثون فتزكية قُلُوبهم نور وَجهه الْكَرِيم فهم فِي قَبضته يتصرفون
فالظالمون علانيتهم أكبر من سريرتهم وَهُوَ الْجور
والمقتصدون اسْتَوَت سريرتهم وعلانيتهم وَهُوَ الْعدْل
والمقربون فضلت سريرتهم علانيتهم فللحظة من سرائرهم أعظم من أَعمال الثقلَيْن عمر نوح عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ إِبْنِ مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ إِن الرجل من هَذِه الْأمة يبلغ عمله يَوْمًا وَاحِدًا مَا يكون أثقل من سبع سموات وَسبع أَرضين فِي الْوَزْن
وَنظر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جبل أحد فَقَالَ رب رجل من أمتِي يعدل الْحَرْف الْوَاحِد من تَسْبِيحَة هَذَا الْجَبَل
وَقَوله أَن يعلم أَن الله مَعَه حَيْثُ مَا كَانَ فَهَذِهِ تَزْكِيَة النُّفُوس وَهَذَا الْعلم علم الْإِنَابَة فَإِنَّهُ إِذا أناب استنار فَبَقيَ خَوفه مَعَه فقيده عَن الْمعاصِي سرا وجهرا وَهُوَ علم الْقلب الَّذِي قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَاك الْعلم النافع والظالم إِنَّمَا يعلم علم إِيمَان أَن الله تَعَالَى مَعَه ثمَّ لَا تَأْخُذهُ مَخَافَة هذاالعلم حَتَّى يُقَيِّدهُ عَن الْمعاصِي سرا وجهرا فَذَاك هُوَ الْعلم الَّذِي قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ علم اللِّسَان وَأما المقرب فَعلمه علم يُقَارب المعاينة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ(2/304)
وكلم عُرْوَة بن الزبير عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم فِي الطّواف بِشَيْء من خطْبَة ابْنَته فَلم يجبهُ فَلَمَّا لقِيه بعد ذَلِك قَالَ إِنَّا كُنَّا نتراءى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الطّواف بَين أَعيننَا فَذَاك الَّذِي مَنَعَنِي من جوابك
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أفضل إِيمَان العَبْد أَن يعلم أَن الله مَعَه حَيْثُ مَا كَانَ
وَهَذَا علم الْيَقِين لَا علم الْقلب وَلَا اللِّسَان فالموحدون علمُوا أَن الله تَعَالَى مَعَهم وقررهم إِيمَانهم بِهِ ثمَّ لم يعملوا فِي قُلُوبهم وَرَاء ذَلِك شَيْئا والمقتصدون أعْطوا علم الْإِنَابَة وَهُوَ النُّور الَّذِي إِذا أناب أعطي فَوجدَ المخافة فقيده ذَلِك النُّور الَّذِي ورد على قلبه عَمَّا كره الله تَعَالَى ووقف بِهِ على سَبِيل الاسْتقَامَة والمقربون من أعطي الْيَقِين وانكشف الغطاء عَن قلبه بنوره وَهُوَ نور الْأَنْوَار فَنظر إِلَى جلال الله تَعَالَى وعظمته فاندست أعضاؤه بَعْضهَا فِي بعض وَصَارَت نَفسه الشهوانية كشجرة أَصَابَهَا الْحَرِيق فيبست حَتَّى صَارَت جذعا وَصَارَت أَرْكَانه كوعاء فِيهِ حبوب عذرا وضعفا وعجزا ثمَّ أحله مرتبَة من مراتبه بَين يَدَيْهِ فأحيا قلبه فقوي بِاللَّه تَعَالَى وخبت شهواته وَرطب جسده وانبسطت جوارحه وانفتقت أعضاؤه وعاش فِي غذائه ونجواه وبشراه بَقِيَّة محياه مراقبا لأموره كَأَنَّهُ يرَاهُ فحياؤه مِنْهُ أَكثر من حَيَاء ملاء عَظِيم ضمهم اشراف الْمُسلمين وهيبته لَهُ أَكثر من هيبته من ملك من مُلُوك الدُّنْيَا بل يدق حياؤهم فِي جنب حيائه مِنْهُ وهيبته لذَلِك الْملك فِي جنب هيبته لَهُ وَهُوَ الَّذِي قد علم حق الْحق أَن الله تَعَالَى مَعَه فلولا أَن الله تَعَالَى يلطف لَهُ حَتَّى ينبسط مِنْهُ ويؤنسه ويقويه لَا حتمال ذَلِك لما قدر عَلَيْهِ وَلَا صلح للمعاش وَالْعشرَة(2/305)
- الأَصْل التَّاسِع وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الأَرْض تنادي ابْن آدم كل يَوْم سبعين مرّة
عَن ثَوْبَان رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الأَرْض لتنادي كل يَوْم سبعين مرّة يَا بني آدم كلوا مَا شِئْتُم واشتهيتم فوَاللَّه لاكلن لحومكم وجلودكم
هَذَا نِدَاء متسخط فِيهِ وَعِيد يَقع على من أكل بِشَهْوَة ونهمة وغفلة فَإِن الله تَعَالَى سخر لنا لنشكر لَا لنكفر وَالشُّكْر ذكره عِنْد كل نعْمَة وقبولها وَالْحَمْد عَلَيْهَا فَإِذا غفل عَن هَذَا كُله فقد أكل مِنْهَا بِغَيْر حق فسلطت الأَرْض عَلَيْهِ لتأكله كَمَا أكل مِنْهَا بِغَيْر حق فَأَما الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام فَلَا تسخط الأَرْض عَلَيْهِم بل تفرح بكونهم على ظهرهَا وتفخر بقاعها بمنقلبهم عَلَيْهَا فَإِذا وَجَدتهمْ فِي بَطنهَا ضمتهم ضمة الوالدة الوالهة الواجدة بِوَلَدِهَا وَلِأَنَّهُم أكلُوا بِاللَّه وَللَّه وَفِي ذَات الله تَعَالَى وَمن كَانَ كَذَلِك فالأرض أذلّ وَأَقل من أَن تجترىء عَلَيْهِ لِأَن الأَرْض دون النَّار وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن النَّار تنادي جز يَا مُؤمن فقد أطفأ نورك لهبي(2/306)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن النَّار تنزوي وتنقبض عِنْد وُرُود الْمُؤمن وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَجْعَل الله النَّار على الْمُؤمن بردا وَسلَامًا كَمَا كَانَت على إِبْرَاهِيم
فَإِذا كَانَت النَّار تخمد لممر عبد فَكيف تجترىء الأَرْض على أكله وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الشُّهَدَاء لَا تأكلهم الأَرْض وَرُوِيَ أَن من أذن سبع سِنِين لم يدود فِي قَبره
فَإِذا كَانَ الشَّهِيد والمؤذن قد امتنعا من الأَرْض بحالتيهما فحالة الْأَنْبِيَاء وَالصديقين والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام أرفع من هَذَا وَأجل فانهم هم الشُّهَدَاء أَيَّام الْحَيَاة والدعاة إِلَى الله تَعَالَى على بَصِيرَة
وروى جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما أَرَادَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ أَن يجْرِي الْعين إِلَى جنب أحد عِنْد قُبُور الشُّهَدَاء أَمر مناديا فنادي فيهم من كَانَ لَهُ قَتِيل فَليخْرجْ إِلَيْهِ قَالَ جَابر فخرجنا إِلَيْهِم فوجدناهم رطابا فرأيتهم ينثون على رِقَاب الرِّجَال كَأَنَّهُمْ رجال نوم فأصابت المسحاة قدم حَمْزَة بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ فثارت إصبعه فانبعث دَمًا
ثمَّ الْأَوْلِيَاء على ثَلَاث مَرَاتِب مِنْهُم من أكل بِاللَّه تَعَالَى وَهُوَ الأرفع وَهُوَ من كَانَ فِي قَبضته قد انْفَرد بِهِ وخلص قلبه إِلَى وحدانيته فبه يقوم وَبِه يقْعد وَبِه ينْطق على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ فَإِذا أَحْبَبْت عَبدِي فَكنت سَمعه وبصره الحَدِيث
وَمِنْهُم من أكل لله تَعَالَى ومقامه دون مقَام الأول وَهُوَ عبد ألْقى نَفسه بَين يَدَيْهِ سلما يراقب أُمُوره فَهُوَ يمْضِي فِيهَا كالعبيد لَا يُؤثر أمرا على أَمر وَلَا يدبر لنَفسِهِ تدبيرا بل يراقب تَدْبيره وَيعْمل لَهُ
وَمِنْهُم من أكل فِي ذَات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ دون الثَّانِي بِدَرَجَة(2/307)
وَذَاكَ عبد قد شغف بحب الله تَعَالَى وَذكر آلائه يَبْتَغِي فِي جَمِيع متقلبه رِضَاهُ فهم كلهم أهل ولَايَة الله تَعَالَى وَحرَام على الأَرْض لحومهم ودماؤهم لأَنهم عبيد الله تَعَالَى وخاصته وَالْأَرْض سخرة لَهُم فالأرض تمْضِي فِي سخرتها وَالْعَبِيد يمضون فِي حُقُوق الله تَعَالَى فَإِن الله تَعَالَى جعل الأَرْض ممرا للآدميين ليأخذوا مِنْهَا الزَّاد ليقطعوا هَذِه السفرة فَهِيَ بلغتهم قل أَو كثر ضَاقَ أَو اتَّسع فالمنتبه اطلع على هَذَا المطلع فَأَخذهَا تزودا وَوَجهه إِلَى الله تَعَالَى وَقَلبه مَعَ الله تَعَالَى يسير إِلَيْهِ ركضا يقطع اللَّيْل وَالنَّهَار كلما ذكر الْمَوْت وارتاح لعلمه بِأَن الْمَوْت يذهب بِهِ إِلَيْهِ وَيقدم بِهِ عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ لأحد أَن يقدم على مَوْلَاهُ الَّذِي هُوَ عطشان إِلَى لِقَائِه إِلَّا بعد وُرُود الْمَوْت الَّذِي وَكله بِهِ وَالرَّسُول الَّذِي جعله بَين يَدَيْهِ فَإِذا صَار إِلَى ملحده لم يكن بَينه وَبَين الأَرْض إِلَّا كل جميل
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّهَا تستاذن رَبهَا فِي أَن تدخل عَلَيْهِ فِي لحده فِي صورتهَا الَّتِي خلقت فِيهَا فَإِن لكل شَيْء صُورَة فَيُؤذن لَهَا فَتدخل عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الصُّورَة وتؤنسه وتبشر بِهِ وَتقول طَال مَا كنت تمشي على ظَهْري وَأَنا إِلَيْك مشتاقة ويبكي ظهر الأَرْض عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ صباحا وَتقول فِي بكائها يَا رب عَبدك كَانَ يذكرك فِي فجاجي وبقاعي أسفا على مَا فاتها وافتقدت من ذَلِك وَالسَّمَاء تبْكي عَلَيْهِ فَتَقول يَا رب عَبدك كَانَ ينزل عَلَيْهِ رزقه مني ويصعد عمله إِلَيّ فَلَا يزَال ذَلِك دأبهما من الْبكاء وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى جعل هَذِه الأَرْض سخرة للآدمي لتَكون لَهُ قواما قطعا لعذره وَخلق الْآدَمِيّ لعبودته وَإِقَامَة حُقُوقه فَإِذا اشْتغل العَبْد فِي إِقَامَة حُقُوقه ونهمته وهمته وهواه ذَلِك فالسخرة لَهُ سليمَة طيبَة بِلَا وبال وَإِذا أحدث فِي السخرة حَدثا لم يكن لَهُ بِأَن إشتغل عَن إِقَامَة حَقه بهَا بِمَا سخر لَهُ عَادَتْ عَلَيْهِ وبالا وَصَارَت عَلَيْهِ فتْنَة وَقد تحولت العبودة عَن الْوَاحِد إِلَى الْأَعْدَاد قَالَ(2/308)
الله تَعَالَى ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هَل يستويان مثلا
فَهَذِهِ الْآيَة لَهَا ظهر وبطن فَأَما ظَاهره فَهُوَ الْمُشرك والموحد وباطنه رجل فِي شُرَكَاء متشاكسون أَي قلب فِيهِ شُرَكَاء قد سبوه وادعوه كل على ناحيته يَدعِيهِ فَكل همة لَهَا شقص من قلبه فقد صَار فِيهِ شُرَكَاء أحزابا فَفِي قلبه أفراح شهوات الدُّنْيَا وَأَحْوَالهَا اللذيذة وسلطان الْكل قَائِم على قلبه يزاحم صَاحبهَا فهم متشاكسون أَي متشاقصون فِيمَا بَينهم وَهُوَ مفتون بِكُل شَهْوَة قد سبت شُعْبَة من قلبه
رُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه بَاعَ حمارا لَهُ فَقَالَ كَانَ لنا مُوَافقا وَلكنه أذهب شُعْبَة من قلبِي فَبِعْته
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من تشعبت بِهِ همومه فِي دُنْيَاهُ لم يبال الله فِي أَي وَاد هلك
وَبَاعَ عمر رَضِي الله عَنهُ حمارا لَهُ فَقَالَ قد كَانَ مُوَافقا لنا وَلكنه أذهب شُعْبَة من قلبِي فَبِعْته
فَهَذَا قلب فِيهِ فتْنَة المَال والأهل وَالْولد والعز وَحب الرياسة وَالثنَاء والمحمدة وفتنة الْعلم ورجلا سالما لرجل أَي قلبا سلما للْوَاحِد الْفَرد(2/309)
فالمخذول من عبيده من قلبه بَين هَذِه الشُّرَكَاء فكلهم يَدعِيهِ ويستعبده وَكلهمْ ساخط عَلَيْهِ إِذْ لَا ينَال غَايَة نهمته والمؤيد من أَخذ الله تَعَالَى بِقَلْبِه فَجَذَبَهُ إِلَيْهِ جذبة فأقامة فِي فرديته
وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن هَذِه الدُّنْيَا خضرَة حلوة فاتقوها وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن هَذَا المَال خضر حُلْو فَمن أَخذه بِحقِّهِ بورك لَهُ فِيهِ وَنعم المعونة هُوَ وَمن أَخذه بِغَيْر حَقه لم يُبَارك لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذي يَأْكُل وَلَا يشْبع
فالأخذ بِحقِّهِ أَن يَأْخُذهُ بحاجة إِلَيْهِ للتزود وَالْأَخْذ بِغَيْر حَقه أَن يَأْخُذهُ بِشَهْوَة التَّمَتُّع(2/310)
- الأَصْل التِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر مَكَارِم الْأَخْلَاق
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تَقول كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول مَكَارِم الْأَخْلَاق عشرَة تكون فِي الرجل وَلَا تكون فِي ابْنه وَتَكون فِي الابْن وَلَا تكون فِي أَبِيه وَتَكون فِي العَبْد وَلَا تكون فِي سَيّده يقسمها الله تَعَالَى لمن أَرَادَ بِهِ السَّعَادَة صدق الحَدِيث وَصدق الْبَأْس وَإِعْطَاء السَّائِل والمكأفاة بالصنايع وَحفظ الْأَمَانَة وصلَة الرَّحِم والتذمم للْجَار والتذمم للصاحب واقراء الضَّيْف ورأسهن الْحيَاء وكل خلق من هَذِه الْأَخْلَاق مكرمَة لمن منحها
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْأَخْلَاق مخزونة عِنْد الله فَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا منحه مِنْهَا خلقا
والأخلاق الطبيعية كَالْأَكْلِ وَالشرب وَغير ذَلِك والأخلاق الَّتِي ركب عَلَيْهَا الْآدَمِيّ تِلْكَ أَخْلَاق الطبيعة وَقد عَم الْجَمِيع ثمَّ لله تَعَالَى منائح من فَضله لعبد من عبيده يختصهم بمشيئته منا مِنْهُ عَلَيْهِم من المخزونات عِنْده(2/311)
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا بعثت لأتمم مَكَارِم الْأَخْلَاق فَهَذَا يدل على أَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قبله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت مَعَهم هَذِه الْأَخْلَاق وَبقيت مِنْهَا بَقِيَّة بعث هُوَ ليتممها
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لله مائَة وَسَبْعَة عشر خلقا فَمن أَتَى بِوَاحِدَة مِنْهَا دخل الْجنَّة
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله تَعَالَى يحب معالي الْأَخْلَاق فَإِذا جعل من محابه فِي عبد من عبيده أَنْجَاهُ محبوبه
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى قسم بَيْنكُم أخلاقكم كَمَا قسم بَيْنكُم أرزاقكم
فَالله تَعَالَى يحب العَبْد على أخلاقه إِذا تخلق بهَا لَهُ فَإِذا تخلق بهَا لدُنْيَا كَانَ من حُرْمَة تِلْكَ المكرمة الَّتِي أعطيها أَن يعقبه مِنْهَا مَعْرُوفا فَإِن كَانَ ظَالِما يتب عَلَيْهِ ورزق الْإِنَابَة وَإِن مَاتَ على غير تَوْبَة غفر لَهُ بِحرْمَة ذَلِك الْخلق وَإِن كَانَ كَافِرًا خفف عَنهُ الْعَذَاب
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأم حَبِيبَة رَضِي الله عَنْهَا ذهب حسن الْخلق بِخَير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَقَالَ إِنَّه لينال بِحسن الْخلق دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت رجلا من أمتِي جاثيا على رُكْبَتَيْهِ بَينه وَبَين لله حجاب فَجَاءَهُ حسن خلقه فَأدْخلهُ على الله تَعَالَى(2/312)
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ سُبْحَانَ الله مَا أزهد النَّاس فِي الْخَيْر عجبت لرجل يَجِيئهُ أَخُوهُ الْمُسلم فِي حَاجته لَا يرى نَفسه للخير أَهلا فَلَو كُنَّا لَا نرجو جنَّة وَلَا نخشى نَارا وَلَا ثَوابًا وَلَا عقَابا لَكَانَ يَنْبَغِي لنا أَن نطلب مَكَارِم الْأَخْلَاق فانها مِمَّا تدل على سَبِيل النجاح
فَقَامَ رجل فَقَالَ فدَاك أبي وَأمي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/313)
قَالَ نعم وَمَا هُوَ خير مِنْهُ لما أَتَانَا سَبَايَا طيىء وَقعت لي جَارِيَة حماء حَوَّاء لعساء لمياء عيطاء مسنونة الْخَدين صلته الجبين مقرونة الحاجبين صَغِيرَة الْأُذُنَيْنِ شماء الْأنف مَقْبُوضَة الهامه درماء الْكَعْبَيْنِ خدلة السَّاقَيْن لفاء الفخذين خميصة الخصرين ممكورة الكحشين مسقولة المتنين فَلَمَّا رايتها أعجبت بهَا وَقلت لاطلبن إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَجْعَلهَا فِي فيئي فَلَمَّا تَكَلَّمت نسيت جمَالهَا لما رَأَيْت من فصاحتها فَقَالَت يَا مُحَمَّد إِن رَأَيْت أَن تخلي عني وَلَا تشمت بِي احياء الْعَرَب فَإِنِّي ابْنة سرة قومِي كَانَ أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضَّيْف ويشبع الجائع ويفرج عَن المكروب وَيطْعم الطَّعَام ويفشي السَّلَام وَلم يرد طَالب حَاجَة قطّ وَأَنا ابْنة حَاتِم طيىء فَقَالَ يَا جَارِيَة هَذِه صفة الْمُؤمن حَقًا لَو كَانَ أَبوك إسلاميا لترحمنا عَلَيْهِ خلوا عَنْهَا فَإِن أَبَاهَا كَانَ يحب مَكَارِم الْأَخْلَاق وَالله تَعَالَى يحب مَكَارِم الْأَخْلَاق فَقَامَ أَبُو بردة رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ يَا رَسُول الله الله يحب مَكَارِم الْأَخْلَاق فَقَالَ يَا أَبَا بردة لَا يدْخل الْجنَّة أحد إِلَّا بِحسن الْخلق
فَأَما مَا عده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرا مِنْهَا صدق الحَدِيث وَهُوَ من الْإِيمَان لِأَن الْكَذِب مُجَانب للْإيمَان لِأَنَّهُ إِذا كذب فَقَالَ كَانَ كَذَا وَلم يكن فقد افترى على الله تَعَالَى لِأَنَّهُ زعم أَن الله تَعَالَى قد كَونه وَإِن كَانَ ذَلِك فَزعم أَنه لم يكن فقد افترى على الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ الْكَذِب مُجَانب للْإيمَان(2/314)
وَقَوله صدق الْبَأْس لِأَنَّهُ من الثِّقَة بِاللَّه تَعَالَى شجاعة وسماحة وَإِعْطَاء السَّائِل من الرَّحْمَة والمكافأة بالصنايع من الشُّكْر وَحفظ الْأَمَانَة من الْوَفَاء وصلَة الرَّحِم من الْعَطف والتذمم للْجَار من نزاهة النَّفس وَكَذَلِكَ التذمم للصاحب وإقراء الضَّيْف من سخاوة النَّفس وَالْحيَاء من عفة الرّوح وكل خلق من هَذِه الْأَخْلَاق مكرمَة عَظِيمَة يسْعد بِالْوَاحِدِ مِنْهَا صَاحبه فَكيف لمن جمعت لَهُ المكارم والأخلاق الْحَسَنَة كَثِيرَة وَكلهَا تقرب إِلَى الله تَعَالَى وَلَكِن هَذِه مَكَارِم تِلْكَ الْأَخْلَاق فَكل مكرمَة مِنْهَا تمنح العَبْد فَهِيَ لَهُ شرف وفضيلة فِي الدُّنْيَا ورفعة ووسيلة فِي الْآخِرَة(2/315)
- الأَصْل الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي الْخِصَال الْأَرْبَع الَّتِي تطهر الْجَسَد وَالْقلب
عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَربع خِصَال إِذا أعطي العَبْد فَلَا يضرّهُ مَا عزل عَنهُ من الدُّنْيَا حسن خلقه وعفاف طعمه وَصدق حَدِيث وَحفظ أَمَانَة
هَذِه خِصَال كلهَا تطهر الْجَسَد وَالْقلب فَأَما حسن خلقه فَأن يكون حسن الْعشْرَة مَعَ الْخلق حسن الْخلق مَعَ أَمر الله تَعَالَى وَنَهْيه حسن الْعشْرَة والخلق مَعَ تَدْبِير الله تَعَالَى وَأَحْكَامه
وعفاف طعمه بِأَن يطعم مَا لَا يشوبه الْحَرَام وَلَا الشَّهْوَة وَلَا المطامع وَصدق الحَدِيث فَأن يعف لِسَانه وَحفظ أَمَانَة بِأَن يحفظ جوارحه وَمَا ائْتمن عَلَيْهِ(2/316)
- الأَصْل الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي فضل صَلَاة الْفجْر يَوْم الْجُمُعَة
عَن أبي عُبَيْدَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَيْسَ من الصَّلَوَات أفضل من صَلَاة الغدوة يَوْم الْجُمُعَة فِي جمَاعَة وَمَا أَحْسبهُ شَهِدَهَا أحد مِنْكُم إِلَّا مغفورا لَهُ
يَوْم الْجُمُعَة اصطفاه الله تَعَالَى واستأثر بِهِ على الْأَيَّام وَختم فِيهِ آخر الْخلق وَهُوَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَفِيه قَبضه وَجعله يَوْم الْجَزَاء وَفِيه تقوم السَّاعَة وَفِيه فصل الْقَضَاء وَفِيه زِيَارَة الأحباب إِلَى الله تَعَالَى فِي الفراديس وَصَلَاة الغدوة فَإِن الله تَعَالَى يشهدها وَمَلَائِكَته عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَرَأَ وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا
وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلى الصُّبْح فِي جمَاعَة فَهُوَ فِي(2/317)
ذمَّة الله تَعَالَى فَإِذا وَافق العَبْد شُهُوده فِي يَوْمه دخل فِي ستره وذمته
فالستر الْمَغْفِرَة والذمة الْجوَار والحصن من الْعَدو(2/318)
- الأَصْل الثَّالِث وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي تَمْثِيل بِلَال رَضِي الله عَنهُ بالنحلة
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر ببلال رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يقْرَأ من هَذِه السُّورَة وَهَذِه السُّورَة وَقَالَ أخلط الطّيب بالطيب فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إقرأ السُّورَة على نَحْوهَا ثمَّ قَالَ مثل بِلَال كَمثل نحلة غَدَتْ تآكل من الحلو والمر ثمَّ يُمْسِي حلوا كُله
النحلة مأمورة بذلك وَجعل الحلو والمر رزقا لَهَا فَإِن فِي الحلو شِفَاء وداء وَفِي المر شِفَاء وداء فَأمرت بِالْجمعِ بَين ذَلِك ليَكُون الدَّاء بالشفاء والشفاء بالداء فيعتدل فَلَا يضرّهُ وَيكون شِفَاء قَالَ الله تَعَالَى وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل
فذللت لله تَعَالَى مطيعة فاتخذت بُيُوتًا من الْأَمَاكِن الَّتِي تسير إِلَيْهَا وَاتَّبَعت رزقها من حَيْثُ ذكر لَهَا فالمر من الثِّمَار كريه على كل دَابَّة وَنَفس لَكِن النحلة كَمَا سخرت للآدمي فذلت وإنقادت كَذَلِك(2/319)
فِيمَا صرفت إِلَيْهَا من الرزق سخرت لأكلها حلوا كَانَ أَو مرا وَقد نجد الدَّوَابّ فِي مرعاهن يتقين كثيرا من الكلاء ونبات الأَرْض فَلَا يقربن وَذَوَات الأجنحة يتقين كثيرا من الثِّمَار فَلَا يقربنه وسخرت النحلة لأكل كل الثمرات حلوها ومرها ومحبوبها ومكروهها واتخذت النَّحْل بُيُوتًا بِمَا أُوحِي إِلَيْهَا لتَكون أوعية لما يَجْعَل الله تَعَالَى فِي مأكولها من الشِّفَاء للآدميين وَلَوْلَا تِلْكَ الْبيُوت لَكَانَ الَّذِي يخرج مِنْهَا يذهب فَسَادًا فَهَذِهِ الْبيُوت وَإِن كَانَت مساكنها فَهِيَ للعسل ولأمر الله تَعَالَى وَسَائِر الْهَوَام وَالدَّوَاب والطيور تتَّخذ المأوى والأوكار لقرارها ثمَّ أمرهَا الله تَعَالَى أَن تَأْكُل من كل الثمرات فَإِن لكل ثَمَرَة نفعا فَإِذا أكلت من الْكل فقد جمعت النَّفْع كُله فِي أكلهَا وَإِذا تركت شهوتها اسْتَوَى عِنْدهَا مَحْبُوب الثِّمَار ومكروهها لما ذلت لأمر الله تَعَالَى وَصَارَ هَذَا الْأكل لله تَعَالَى لَا لنَفسهَا إِذْ لَو آثرت المحبوب على الْمَكْرُوه لَكَانَ أكلهَا لنَفسهَا فَلَمَّا ذللت لَهُ عز وَجل فِي أكل الثمرات فِيمَا وافقته وَفِيمَا لم توافقه صَار ذَلِك شِفَاء بِمَنْزِلَة الْأَدْوِيَة يخلط من كل نوع فَإِذا ذلت النَّفس ذهبت الْكَرَاهَة وانتظمت الطَّاعَة فِي أكلهَا لله تَعَالَى لَا لنَفسهَا وَحسب شهوتها ونهمتها صَار مَا فِي جوفها من الْمَأْكُول حلوا وَصَارَ شِفَاء لأسقام الْآدَمِيّين أَلا ترى أَن الْبَقَرَة صَار لَبنهَا شِفَاء ولحمها دَاء لِأَنَّهَا تَأْكُل من كل الشّجر
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم بألبان الْبَقر فَإِنَّهَا ترم أَي تآكل من كل الشّجر
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَبنهَا دَوَاء وسمنها شِفَاء ولحمها دَاء(2/320)
إِنَّمَا صَار لَبنهَا دَوَاء لِأَنَّهَا تَأْكُل من كل شجر وَصَارَ لَحمهَا دَاء لِأَنَّهَا تَأْكُل بالنهمة لِأَنَّهَا جعمة وَلِهَذَا ترعى من كل الشّجر حلوه ومره لجعامتها لِأَنَّهَا ذللت لله تَعَالَى بِأَمْر رَبهَا كالنحل فَإِنَّهَا لم يلق إِلَيْهَا مَا ألقِي إِلَى النَّحْل إلهاما من الله تَعَالَى وَلِهَذَا ترعى من الْمَزَابِل وترتع من القاذورات لجعامتها فَصَارَت لَحمهَا دَاء وَاللَّبن الَّذِي حدث عَن أخلاط الشّجر دَوَاء للنهمة عَلَيْهَا صَارَت لحمانها منزوعة الْبركَة وكل شَيْء لَا يُبَارك فِيهِ فَهُوَ دَاء فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَأَما النحلة ذلت بالهام الله تَعَالَى وأكلت من الحلو والمر لله تَعَالَى فَصَارَ مَا فِي جوفها شِفَاء وَلِهَذَا نهى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل النحلة لِأَن فِي خلقهَا جوهرا يتَقَدَّم الْجَوَاهِر وَقد شرحناه فِيمَا قبله وَثَمَرَة هَذِه الْآيَة لمن صفا فكره فِيهَا أَن الله يعلمك أَن النحلة الَّتِي سخرتها لَك ذلت لي فَاسْتَوَى عِنْدهَا فِي الْمطعم محبوبها ومكروهها وَتركت نهمتها وشهوتها فَجعلت مَا فِي بَطنهَا حلوها ومرها حلوا كُله وَجَعَلته شِفَاء من الأسقام فَكيف بالآدمي المسخر لَهُ إِذا ذلت نَفسه لي فَتركت نهمتها وشهوتها رياضة لَهَا حَتَّى إستوي عِنْدهَا الْمَكْرُوه والمحبوب من أحوالها وَيصير ذَلِك الْمَكْرُوه كُله عِنْده حلوا محبوبا يكون كَلَامه شِفَاء للمذنبين وأفعاله شِفَاء للناظرين إِلَيْهِ من الْمعاصِي ورؤيته حَيَاة قُلُوبهم
وَأما تَمْثِيل فعل بِلَال رَضِي الله عَنهُ بالنحلة أَنه إِذا قَرَأَ قصد آيَات الرَّحْمَة وصفات الْجنَّة فيتلوها نظاما وَإِنَّمَا يقْصد من الْقُرْآن مَا طيب نَفسه فَأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقْرَأ السُّورَة على نَحْوهَا كَمَا(2/321)
جَاءَت ممزوجة وَالله تَعَالَى أعلم بدواء الْعباد وحاجتهم إِذْ وَلَو شَاءَ لصنفها أصنافا كل صنف عل حِدة لكنه مزجها ليعْمَل على الْقُلُوب على المزاج وَلَا يفهم نظامه إِلَّا الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام وَحرَام على قُلُوب التفتت إِلَى أَحْوَال النَّفس أَو حجبت عقولها عَنهُ لشَهْوَة أَن تفهم نظامه فنظامه فِي جَمِيع كَلَامه نظام يعجز عَنهُ الواصف والمفكر وَمن هَذَا النظام تخرج اللطائف وَكَانَ بِلَال رَضِي الله عَنهُ عجز عَن إِدْرَاكه فقصد مَا تطيب بِهِ النُّفُوس من آيَات الرَّحْمَة فَأمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقْرَأ على نظام رب الْعِزَّة وَهُوَ أعلم بالشفاء فانه سَمَّاهُ شِفَاء لما فِي الصُّدُور فَإِن فِي الصُّدُور دَاء النُّفُوس وَهِي الشَّهَوَات وَإِذا جَاءَت مواعظ الله تَعَالَى جَاءَت بالشفاء مَعهَا فَذهب الدَّاء ثمَّ مثل شَأْن بِلَال رَضِي الله عَنهُ بالنحلة تَغْدُو فتآكل حلوا وَمَرا ثمَّ يُمْسِي كلهَا حلوا فَكَذَلِك الْمُؤمن يَتْلُو آيَة الْوَعْد فيسر قلبه ثمَّ يَتْلُو آيَة الْوَعيد فينكسر قلبه فَهُوَ بَين خوف ورجاء فَهَذَا حُلْو وَذَاكَ مر ثمَّ يطمئن إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَإِلَى مَعْرفَته بربه فَيصير حلوا كُله قَالَ الله تَعَالَى تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله
اقشعرت الْجُلُود من هول الْوَعيد الَّذِي حل بقلوبهم فَهَذِهِ مرَارَة ثمَّ اطمأنت جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله تَعَالَى بِمَا عرفوه كَرِيمًا رحِيما سَمحا جوادا ودودا رؤوفا فطابت نُفُوسهم ولانت جُلُودهمْ فَإِذا تَلا وعده رجا وَإِذا تَلا وعيده خَافَ ثمَّ التَّوْحِيد لَا يَدعه حَتَّى يجذب قلبه إِلَى ربه تَعَالَى فيطمئن إِلَى عطفه فشبهه بالنحلة تَأْكُل حلوا وَمَرا ثمَّ أَمْسَى فَعَاد كُله حلوا(2/322)
- الأَصْل الرَّابِع وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر دعوات نبوية
عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قلت يَا رَسُول الله عَلمنِي دُعَاء أَدْعُو بِهِ قَالَ قل اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا وَلَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك وارحمني إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم
قد اعْترف بالظلم ثمَّ إلتجأ إِلَيْهِ التجاء مُضْطَر لَا يجد لذنبه ساترا غَيره ثمَّ سَأَلَهُ الْمَغْفِرَة من عِنْده وَإِن كَانَ الْأَشْيَاء كلهَا من عِنْد الله تَعَالَى إِلَّا أَن لله تَعَالَى رَحْمَة قد عَمت الْخلق فِي أَرْزَاقهم ومعاشهم وأحوالهم ثمَّ لَهُ رَحْمَة الْإِيمَان خص بهَا الْمُؤمنِينَ وَله رَحْمَة الطَّاعَة وَقد خص بهَا الْمُتَّقِينَ وَله رَحْمَة قد خص بهَا الْأَوْلِيَاء فبها نالوا الْولَايَة قَالَ الله تَعَالَى والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد(2/323)
رَبنَا) إِلَى أَن قَالَ {وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة}
وَله رَحْمَة قد خص بهَا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فبها نالوا النُّبُوَّة قَالَ الله تَعَالَى وَوَهَبْنَا لَهُم من رَحْمَتنَا سَأَلُوهُ رَحْمَة من عِنْده(2/324)
- الأَصْل الْخَامِس وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر قَوْله تَعَالَى هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ربكُم جلّ وَعز أَنا أهل أَن أتقى فَلَا يَجْعَل معي اله فَمن اتَّقى أَن يَجْعَل معي إِلَهًا كَانَ أَهلا أَن أَغفر لَهُ وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَنا أهل أَن أَغفر لَهُ
فَالْعَبْد إِذا اتَّقى أَن يَجْعَل مَعَه إِلَهًا آخر فربنا أهل لذَلِك لِأَنَّهُ لَا إِلَه غَيره فَهُوَ أهل أَن يَتَّقِي دَعْوَى الشّرك لأحد فِي ربوبيته وإلهيته وَلَو أشرك بِهِ لفعل محالا لَا يكون وَلَيْسَ بكائن فَمن اتَّقى كَانَ أَهلا أَن يستر عَلَيْهِ ذنُوبه وعيوبه ويقيه ظلمَة النَّار وحرها قَالَ تَعَالَى(2/325)
والزمهم كلمة التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا
وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فَأَنا أهل أَن أَغفر لَهُ وَمَعْنَاهُ أَغفر لمن وحدني وَاتَّقَى أَن يَجْعَل معي إِلَهًا وَهَذَا رد على من قَالَ إِن أهل التَّوْحِيد يبْقى فِي النَّار أبدا وَمَا أَتَى من لفظ الْخلد أَرَادَ بِهِ طول الْمكْث قَالَ الله تَعَالَى {أخلد إِلَى الأَرْض} أَي أَبْطَأَ عَن الْآخِرَة إِلَيْهَا
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خيرني رَبِّي بَين لِقَائِه وَبَين الْخلد فِي الدُّنْيَا فاخترت لِقَاء رَبِّي وَلَا شكّ أَن الْخلد فِي الدُّنْيَا لَا يكون أبدا
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله عز وَجل
إِنِّي لأجدني أستحيي من عَبدِي يرفع يَدَيْهِ ثمَّ أردهما
قَالَت الْمَلَائِكَة إلهنا لَيْسَ لذَلِك بِأَهْل
قَالَ الله تَعَالَى لكني أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة أشهدكم أَنِّي غفرت لَهُ(2/326)
- الأَصْل السَّادِس وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي ديدان الْقُرَّاء والتمسك بِالسنةِ
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكون فِي آخر الزَّمَان ديدان الْقُرَّاء فَمن أدْرك ذَلِك فليتعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم وَمِنْهُم وَهُوَ الأنتنون ثمَّ تظهر قلانس البرود فَلَا يستحيي يَوْمئِذٍ من الرِّيَاء والمتمسك يَوْمئِذٍ بِدِينِهِ كالقابض على جَمْرَة والمتمسك بِدِينِهِ أجره كَأَجر خمسين قَالُوا أمنا أَو مِنْهُم قَالَ بل مِنْكُم
وَفِي رِوَايَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْتِي على النَّاس زمَان المتمسك فِيهِ بِسنتي عِنْد اخْتِلَاف أمتِي كالقابض على الْجَمْر(2/327)
الْقُرَّاء على ثَلَاثَة أَنْوَاع ديدان الْقُرَّاء والصادقون وَالصِّدِّيقُونَ فَأَما ديدان الْقُرَّاء فهم الَّذين تنسكوا فِي ظَاهر الْأَحْوَال تصنعا ليأكلوا بِهِ الدُّنْيَا قد رموا أَبْصَارهم إِلَى الأَرْض ومدوا بأعناقهم تيها وتكبروا إعجابا بِظَاهِر أَحْوَالهم يقصرون الْخَطَأ ويتماوتون وَيَنْظُرُونَ إِلَى أهل الذُّنُوب بِعَين الإزدراء حقارة لَهُم وعجبا بِأَنْفسِهِم أعْطوا الْقُوَّة على لبس الخشن وَالصَّبْر على ترك ملاذ الدُّنْيَا وشهواتها وسخت نُفُوسهم بترك جَمِيع اللَّذَّات فِي جنب لَذَّة ثَنَاء الْخلق عَلَيْهِم والتعظيم لَهُم وَالنَّظَر إِلَيْهِم بِعَين الإجلال وسولت لَهُم نُفُوسهم أَنه إِنَّمَا تنَال الرّفْعَة الْعُظْمَى عِنْد الْخلق بترك ظَاهر الدُّنْيَا ولذاتها حَتَّى تنَال ملكا بِلَا سلَاح وجندا بِلَا إرتزاق وغنى بِلَا خزانَة وَعبيد بِلَا ملك فسبت قُلُوبهم بِمَا مُنَاهُمْ فَأَقْبَلُوا على ترك الدُّنْيَا وذمها وذم من تنَاولهَا والطعن على من وسم بالغنى من أَئِمَّة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أداهم جهلهم إِلَى أَن خَرجُوا على من وسع عَلَيْهِ هَذِه الدُّنْيَا من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام طَعنا ورميا فمرقوا من الدّين وَعظم شَأْن هَؤُلَاءِ فِي أعين الْخلق حِين تركُوا هَذَا الحطام وَكبر فِي صُدُورهمْ ذَلِك وَحَسبُوا أَنه لم يبْق وَرَاء هَذَا شَيْء وَإِن هَذَا عبد قد بلغ الْغَايَة وَلَا يعلمُونَ أَنه ترك شَيْئا قَلِيلا مِمَّا لَا يزن جَمِيع ذَلِك عِنْد الله تَعَالَى جنَاح بعوضة قد تركُوا الدُّنْيَا من حَيْثُ يظْهر لِلْخلقِ وأخذوها من حَيْثُ يخفى عَلَيْهِم اتَّخَذُوهَا بِتَرْكِهَا فِي الظَّاهِر واكتسبوا عِنْد الْخلق منزلَة نالوا فِي الْبَاطِن بِتِلْكَ الْمنزلَة أوفر مِمَّا تركوها وأسهل مِمَّا تناولوها يزرون على أهل الْغنى ويجفون أهل الذَّنب ويشمئزون عَن مُخَالطَة الْعَامَّة العبوس فِي وُجُوههم والتماوت فِي أركانهم وَعجب النَّفس فِي صُدُورهمْ وَسُوء الْخلق فِي أفعالهم وضيق الصَّدْر فِي عشرتهم الْوَاحِد مِنْهُم فِي نَفسه أعظم من(2/328)
ملْء بلدته رجَالًا يهابهم النَّاس هَيْبَة سوء الْخلق لَا هَيْبَة الْحق والخشية هم الأنتنون لأَنهم فِي نَتن من الْأُمُور ودناءة وصدورهم أنتن من أُمُورهم لأَنهم يموتون على الدُّنْيَا عشقا همتهم هواهم وَدينهمْ مُنَاهُمْ وتبعهم غواة وهم من الصدْق عُرَاة قد ملكوا الْقُلُوب بتصنعهم وريائهم وهجروا الْخلق من أجل دنياهم كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ضعوها حَتَّى نرفعها وتخلوا عَنْهَا حَتَّى نملكها
رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الله تَعَالَى يَقُول لتارك الدُّنْيَا زهدت فِي الدُّنْيَا رَاحَة تعجلتها وَيَقُول للعابد عبدتني فحملك الْعباد فَوق رؤوسهم هَل فِي وليا أَو عاديت فِي عدوا وَعِزَّتِي لَا ينَال رَحْمَتي من لم يوال فِي وَلم يُعَاد فِي
وصنف آخر تصنعوا لِلْخلقِ بزِي أهل المسكنة والفقر من حسن اللابس وَطول القلانس وطرة اللحى وصف الشَّوَارِب ليتمكنوا فِي صُدُور الْمجَالِس وليستدروا الحطام من الشَّيَاطِين والأبالس
فالمتمسك بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد ظُهُور هَذَا كالقابض على الْجَمْر لِأَن هذَيْن الصِّنْفَيْنِ قد تمكنوا من صُدُور الْخلق لغَلَبَة الْجَهْل فهم الْمُقْتَدِي بهم والمنظور إِلَيْهِم فهم عِنْد الْخلق عُلَمَاء وَفِي الملكوت جهال
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله لَا يقبض الْعلم ينتزعه إنتزاعا من قُلُوب النَّاس وَلَكِن يقبض الْعلمَاء فَإِذا مَاتُوا إتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا(2/329)
فَمن تمسك بِالسنةِ بَين ظهرانيهم بعد تمكنهم من الرياسة ونفاذ القَوْل فيهم فقد هتك سترهم وكشف عورتهم وَأَبَان كذبهمْ وَحط رياستهم وَقطع مآكلهم وَقد بارزهم بالمحاربة وهم يستعدون لمحاربته ينتقصونه وَيطْلبُونَ الغوايل مِنْهُ فَصَارَت مؤنتهم عَلَيْهِ أعظم من مُؤنَة محاربة الْكَافرين لِأَن الْكَافِر لَا حُرْمَة لَهُ وَالْقلب والأركان قد تعاونوا عَلَيْهِ فِي إهلاكه وَهَذَا مَعَه حُرْمَة الْإِيمَان فَاحْتَجت إِلَى أَن تداريه وتداهنه وتلاطفه وترفق بِهِ وتراقب الله تَعَالَى فِي شَأْنه وتحتمل أَذَاهُ وَتحفظ جوارحك حَتَّى لَا تعتدي وقلبك حَتَّى لَا يجور وهمك فِيهِ حَتَّى لَا يغش وتنتظر الْفرج من خالقك وَترى تَدْبيره فِيهِ وفيك فَلذَلِك شبهه بالقابض على الْجَمْر لِأَن الْجَمْر يحرق الْيَد وَهَذَا يحرق الْقلب والكبد من تَغْيِيره الْحق عَن جِهَته واغترار الْخلق بِهِ وتحتاج أَن تعاشره معاشرة يسلم إيمانك وإيمانه وتذب عَن الْحق الَّذِي بِهِ ألف الله تَعَالَى الْعباد وجمعهم عَلَيْهِ ذبا لَا يدْخل عَلَيْهِ من نَاحيَة أُخْرَى بِمَا يؤذية ويثلمه وَتحفظ قَلْبك مَعَ الله تَعَالَى فِي هَذِه الْأَحْوَال لِأَن هَذَا الْمِسْكِين قد غلب عَلَيْهِ سكرتان سكرة الْجَهْل وسكرة حب الدُّنْيَا وخطاب السكارى على سَبِيل الْعدْل والإنصاف أَمر من الصَّبْر وَأَشد من الْقَبْض على الْجَمْر
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه أَنْتُم الْيَوْم على بَيِّنَة من ربكُم تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتجاهدون فِي سَبِيل الله ثمَّ تظهر فِيكُم سكرتان سكرة الْعَيْش وسكرة الْجَهْل وستحولون إِلَى غير ذَلِك يفشو فِيكُم حب الدُّنْيَا فَإِذا كُنْتُم كَذَلِك لم تأمروا بِمَعْرُوف وَلم تنهوا عَن مُنكر وَلم تجاهدوا فِي سَبِيل الله والقائمون يَوْمئِذٍ بِالْكتاب وَالسّنة فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة السَّابِقُونَ الْأَولونَ(2/330)
هَذَا شَأْن ديدان الْقُرَّاء
وَأما الصادقون فهم قوم تَابُوا صدقا فَتَابَ الله عَلَيْهِم فَأَعْطَاهُمْ نورا قذفه فِي قُلُوبهم فشرح صُدُورهمْ من الَّذِي أشرق فِي قُلُوبهم وَبرد وهج حر نُفُوسهم وَسكن غليان شهواتهم فَأَقْبَلُوا على تَصْحِيح أُمُورهم فِيمَا بَينهم وَبَين الله تَعَالَى وَعَن التخلي عَن كل مَا نهى الله عَنهُ دق أَو جلّ وَجَاهدُوا أنفسهم فِي ذَات الله تَعَالَى حق جهاده فَلم يزل هَذَا دأب أحدهم يُجَاهد نَفسه فِي شَأْن الاسْتقَامَة لله تَعَالَى على سَبِيل الطَّاعَة ويأتيه المدد من الله تَعَالَى نورا على نور حَتَّى قوي على ترك كثير من الْحَلَال تَحَصُّنًا مِمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ حَتَّى دق نظره فِي الْأَشْيَاء وورعه عَن دَقِيق الْأُمُور الَّتِي يخَاف مِنْهَا غَدا فَثَبت على ذَلِك يَرْجُو الثَّوَاب وَيخَاف الْعقَاب وَيطْلب الْخَلَاص فِي الْإِتْيَان بِمَا امْر والتناهي عَن كل مَا نهى وَيعلم أَنه لَا يُثَاب غَدا إِلَّا على الصدْق مَشْغُول بِنَفسِهِ لَا يتفرغ لغيره فيعيبه أَو يزري عَلَيْهِ فِي ريبه قد أوثقه خَوفه من الله تَعَالَى وثاقا شغله عَن جَمِيع الْخلق برعاية هَذِه الْجَوَارِح السَّبع الَّتِي وكل برعايتهن وَأخذ عَلَيْهِ الْعَهْد والميثاق فِيهِنَّ يطْلب إِلَى الله تَعَالَى فكاكهن مِمَّا انْفَلق بِهِ من الْأَعْمَال السَّيئَة والعون على رعايته إياهن فِيمَا بَقِي من عمره المأتم نَهَاره وَالنوح ليله وَالصَّلَاة نحلته وَالصَّوْم عَادَته وكل مَا شغله عَن أمره فالهرب مِنْهُ عَزِيمَة قد تحصن من الْخلق بعزلته وباينهم بهمته مبتهلا إِلَى الله تَعَالَى فِي طلب الْمَغْفِرَة لجماعته وَأهل مِلَّته وَهُوَ على مثل هَذَا الْحَال يطْلب معيشته ويقوت عِيَاله وَيحسن إِلَيْهِم ويعطف عَلَيْهِم فَإِن كَانَ عِنْده سَعَة أنْفق من سعته وَألا يجْرِي من وُجُوه المكاسب أسلمها وأحمدها عُقبى وجد فِيهِ واجتهد حفظا للجوارح فِي طلبَهَا وَأَدَاء الْأَمَانَة وإنصاف الْخلق فِي تنَاولهَا واجتزاء باليسير لنَفسِهِ وسعة على عِيَاله وعفة عَن المطامع الخبيثة ونزاهة عَن شُبُهَات الدُّنْيَا والمكاسب الرَّديئَة وصيانة لوجهه وَدينه عَن المعايش الشائنة لدينِهِ وَكَانَ فِي طلبَهَا كالمضطر(2/331)
الَّذِي لَا يجد عَنهُ مندوحة ليطلبها على خطر وحذر مَخَافَة أَن تَدعُوهُ نَفسه إِلَى فتْنَة وبلية ويقصد بذلك أَن تطمئِن نَفسه كَمَا قَالَ سلمَان رَضِي الله عَنهُ النَّفس إِذا أحرزت رزقها اطمأنت يطْلبهَا على أحسن هَيْئَة وأجمل طلب مَعَ قلب واثق بِاللَّه تَعَالَى فِي رزقه وَنَفس قنعة لم يفتنها حرصها حَتَّى يدعوها إِلَى تنَاول شُبْهَة أَو طلب رخصَة قَالَ الله تَعَالَى رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله
فَهَؤُلَاءِ هم المقتصدون أهل الاسْتقَامَة أَعينهم مَادَّة إِلَى الثَّوَاب والتفاتهم إِلَى أَعْمَالهم عَلَيْهَا يعتمدون وَبهَا يدلون وفيهَا يفكرون وَعَلَيْهَا ينطقون وَإِيَّاهَا يطْلبُونَ حَتَّى إِذا وردوا عَرصَة الْقِيَامَة وانكشف الغطاء صَارَت رؤوسهم بَين أَرجُلهم من الْحيَاء فلولا رَحْمَة الله تَعَالَى الَّتِي قد شملتهم من الدُّنْيَا إِلَى ذَلِك الْموقف لكانوا من الهالكين
وَأما الصديقون فقوم فتح لَهُم الطَّرِيق إِلَى الله تَعَالَى فَمروا إِلَيْهِ لَا يعرجون على شَيْء وَلَا يلتفتون إِلَى جنَّة وَلَا نَار وَلَا ثَوَاب وَلَا عِقَاب حَتَّى وصلوا إِلَى الْبَاب فَمَا زَالُوا إِلَى بَابه يرفعون إِلَيْهِ شكواهم حَتَّى فتح لَهُم وأشرق على قُلُوبهم بِنور جَلَاله فشغفوا بِهِ وشغلوا عَن كل شَيْء سواهُ فوقفوا بَين يَدَيْهِ للعبودة صدقا وفوضوا إِلَيْهِ أُمُورهم وائتمنوا على نُفُوسهم وآثروا مختاره كَيفَ مَا دبر لَهُم وَاخْتَارَ رَضوا عَن الله تَعَالَى فِي الْأَحْوَال وَرَضي الله عَنْهُم عز وَجل فِي الْأُمُور يقبلُونَ النِّعْمَة مِنْهُ ويتلقون أوامره ونواهيه بالبشاشة والسماحة يراقبون أمره ويقفون عِنْد حكمه وهم مَعَ الله تَعَالَى فِي كل أَمر وَحَال فسلطان الله على قُلُوبهم قد أمات من نُفُوسهم الشَّهَوَات فَلَا يخَافُونَ من خِيَانَة النَّفس وخروجها عَلَيْهِم من مكامنها كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/332)
مَا لَقِي الشَّيْطَان عمر إِلَّا خر لوجهه وَمَا سمع حسه إِلَّا فر
فَهَؤُلَاءِ أهل الْيَقِين وهم السَّابِقُونَ المقربون {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم}(2/333)
- الأَصْل السَّابِع وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي شرف الْخبز وقوام الرّوح
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأى كسيرة ملقاة فَمشى إِلَيْهَا فمسحها وَقَالَ يَا عَائِشَة أحسني جوَار نعم الله فَإِنَّهَا قل مَا نفرت عَن أهل بَيت فَكَادَتْ ترجع إِلَيْهِم
الْخبز غذَاء الْجَسَد والغذاء قوام الرّوح وَقد جعل الله تَعَالَى الْخبز أشرف الأرزاق
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكْرمُوا الْخبز فَإِن الله عز وَجل أنزلهُ من بَرَكَات السَّمَاء وَأخرج لَهُ من بَرَكَات الأَرْض(2/334)
فاكرامه أَن لَا يُوطأ وَلَا يطْرَح فَإِذا رمي بِهِ أَو طَرحه مطرح الرَّفْض والهوان كَانَ قد كفر النِّعْمَة وجفاها وَفِي سَعَة الرزق قُوَّة عَظِيمَة على الدّين فَإِذا جفاها صيرت للنعمة الْعُظْمَى نفرة وَإِذا نفرت لم تكد ترجع لِأَنَّهَا قد وسمتهم بالجفاء
وَقَالَ بعض التَّابِعين الدُّنْيَا ظئر وَالْآخِرَة أم وَلكُل يتبعهَا بنوها فَإِذا جفوت الظِّئْر نفرت وأعرضت وَإِذا جفوت الْأُم عطفت لِأَن الظِّئْر لَيْسَ لَهَا عطف الْأُمَّهَات وَهَذِه النِّعْمَة تخرج من هَذِه الأَرْض المسخرة هِيَ بِمَنْزِلَة الظِّئْر تربيك(2/335)
- الأَصْل الثَّامِن وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْمُؤمن يبْلى ويصفى
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل الْمَرِيض إِذا برىء وَصَحَّ من مَرضه كَمثل الْبردَة تقع من السَّمَاء فِي صفائها ولونها
يقدم الله تَعَالَى إِلَى الْعباد أَن يحفظوا جوراحهم من أَن يتدنسوا لِيُصْلِحُوا لدار الْقُدس فِي جوَار القدوس فتركوا الرِّعَايَة وضيعوا الْحِفْظ فتدنسوا وتوسخوا فدلهم على أَن يَتَطَهَّرُوا بِالتَّوْبَةِ فَلم يَفْعَلُوا لأَنهم تَابُوا من الْبَعْض وأصروا على الْبَعْض على الْجهد من نُفُوسهم الشهوانية ثمَّ دعاهم إِلَى هَذِه الْفَرَائِض مثل الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحج وَصَوْم رَمَضَان ليتطهروا بهَا قَالَ تَعَالَى فِي شَأْن الصَّلَاة وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات(2/336)
وَقَالَ فِي الزَّكَاة خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا
وَقَالَ فِي الْحَج فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ أَي مغفورا لَهُ
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّوْم جنَّة
فدلهم على هَذِه الْفَرَائِض ليتطهروا بهَا خلطوها وغشوها وأدوها مَعَ النُّقْصَان والوسوسة والمكاسب الرَّديئَة
فَلم يَك هَذَا مِمَّا يطهرهم إِذْ لَا تطهر النَّجَاسَة بِالنَّجَاسَةِ وَلَا ينفى الْوَسخ بالوسخ فَلَمَّا رأى الله تَعَالَى حَالهم هَذِه وَأَنَّهُمْ قد توسخوا وتدنسوا وكدرت طينتهم فَأبى أَن يضيعهم وَقد اكتنفتهم رَحمته فداواهم بِهَذِهِ الأسقام ليمحصهم ويطهرهم ثمَّ يداويهم ويشفيهم كَمَا تداوي الشفيقة من الْأُمَّهَات لولدها بمر الْأَدْوِيَة البشعة لما تَأمل من شفائه عَن سقمه فَسلط الله تَعَالَى عَلَيْهِم الأسقام حَتَّى إِذا تمت مُدَّة(2/337)
التمحيص خرج مِنْهَا كالبردة فِي الصفاء فِي الْقلب واللون فِي الْوَجْه طلاوة وحلاوة
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الله تَعَالَى ابْتُلِيَ عَبدِي الْمُؤمن فَإِن لم يشكني إِلَى عواده أطلقته من أسَارِي ثمَّ أبدلته لَحْمًا هُوَ خير من لَحْمه ودما هُوَ خير من دَمه ثمَّ ليأتنف الْعَمَل
وشتان بَين مَا داويت بالفرائض جوارحك وَبَين مَا داواك رَبك فدواؤك قل مَا يَخْلُو من الْعجب والرياء والتخليط والشبه وَمَا داواك لَا رِيَاء فِيهِ وَلَا عجب وَلَا صلف ولاتخليط وَإِنَّمَا هِيَ أسقام حل بلحمك ودمك ومخك وقواك ليأخذها ويبدلك خيرا مِنْهَا أَو يقبضك إِلَيْهِ طَاهِرا حَتَّى إِذا وصلت إِلَى الْعَرَصَة واضطررت إِلَى الْجَوَاز على الصِّرَاط إِلَى دَار الله وَجَدْتُك النَّار قد تطهرت إِمَّا بِالتَّوْبَةِ أَو بالفرائض أَو بالأسقام والمصائب الَّتِي احتسبتها وَصَبَرت عَلَيْهَا فطهرك وأعطاك ثَوَاب الصابرين وَإِن حمدته كتبك من الحامدين وَقدم عَلَيْهِ بِغَيْر تمحيص مَعَ دنس الْمعاصِي وأوساخها فَالنَّار بالمرصاد قد أعدت منتقمة من الْأَعْدَاء ومطهرة للموحدين فَإِذا مر عَلَيْهَا أخذت فِي الْمَمَر من جوارحه تِلْكَ الأدناس فتأكل من لَحْمه وَدَمه ثمَّ يُبدل لَحْمًا طريا وجسدا يصلح لدار السَّلَام
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَنه وضع يَده على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِه حمى فَوَجَدَهَا من فَوق اللحاف فَقَالَ يَا رَسُول الله مَا أَشدّهَا عَلَيْك(2/338)
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّا كَذَلِك يشْتَد علينا الْبلَاء ويضاعف لنا الْأجر
فَقلت يَا رَسُول الله أَي النَّاس أَشد بلَاء
قَالَ الْأَنْبِيَاء
قلت ثمَّ من
قَالَ الصالحون إِن كَانَ الرجل ليبتلى بالفقر حَتَّى مَا يجد إِلَّا العباءة يحوها وَإِن كَانَ الرجل ليبتلى بالقملة حَتَّى تقتله وَإِن كَانَ أحدهم ليفرح بالبلاء كَمَا يفرح أحدكُم بالرخاء(2/339)
- الأَصْل التَّاسِع وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي تخير المغبون
عَن عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المغبون لَا مَحْمُود وَلَا مأجور إِذا استرسل فِي وَقت الْمُبَالغَة فَاشْترى فغبن لم يَقع عِنْد البَائِع موقع الْمَعْرُوف فيحمد وَلَا يحْتَسب بِمَا زَاد على قِيمَته ليسر فيؤجر
فالكيس يماكس مستقصيا وَلَا يخرج مَاله الَّذِي ائْتمن عَلَيْهِ وَجعل قواما لَهُ بَاطِلا بِلَا حمد وَلَا أجر وَفِي المكاس شَرَائِط وَهُوَ أَن يحفظ لِسَانه وأمانته وَعَهده يماكس لَا لحرص على الدُّنْيَا وَلَا رَغْبَة فِيهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك حَافظ لدينِهِ وَدين صَاحبه لِئَلَّا يَأْثَم أَو يؤثم
رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر برجلَيْن يتبايعان وَأَحَدهمَا يَقُول للْآخر لَا أُعْطِيك وَقَالَ الآخر لَا أزيدك فَمر الرجل بالسلعة قد اشْتَرَاهَا(2/340)
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد وَجب إِثْم أَحدهمَا وساوم معَاذ رَضِي الله عَنهُ رجلا سلْعَة فَقَالَ لَا أُعْطِيك فَانْصَرف معَاذ ثمَّ دَعَاهُ فَقَالَ هَل لَك فِيهِ قَالَ لَا إِنِّي أكره أَن أعينك على إِثْم(2/341)
- الأَصْل المائتان
-
فِيمَا يُقَال عِنْد إهلال الْهلَال
عَن طَلْحَة بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رأى الْهلَال قَالَ اللَّهُمَّ أَهله علينا بِالْيمن وَالْإِيمَان والسلامة وَالْإِسْلَام رَبِّي وَرَبك الله
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى قَالَ إلهي وَإِلَهك وربي وَرَبك الله الْحَمد لله الَّذِي سخرك لنا
الْيمن السَّعَادَة وَالْإِيمَان الطُّمَأْنِينَة بِاللَّه تَعَالَى كَأَنَّهُ سَأَلَهُ دوامها والسلامة وَالْإِسْلَام أَن يَدُوم لَهُ الْإِسْلَام وَيسلم لَهُ شهره
وَقَوله رَبِّي وَرَبك الله فَإِن من النَّاس من كَانَ يسْجد للشمس وَالْقَمَر دون الله تَعَالَى فَقَالَ تَعَالَى لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ(2/342)
وَقَوله الْحَمد لله الَّذِي سخرك لنا فخاطبه أَن الْإِلَه إِلَيْهِ الربوبية وَهُوَ الْملك لَهُ وَأَنت مسخر لنا يحمده على تسخيره إِيَّاه شكرا لَهُ فقد سَخَّرَهُ ليضيء لأهل الأَرْض وَقدره منَازِل ليعلم عدد السنين والحساب وَيكون معلم مَوَاقِيت حجنا وديوننا وَعدد نسائنا وَعند مستهل كل شهر حكم وَأمر مَعْلُوم وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ(2/343)
- الأَصْل الْحَادِي والمائتان
-
فِي الْحَسَنَة الحديثة والذنب الْقَدِيم
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لم أر شَيْئا أحسن طلبا وَلَا أسْرع إدراكا من حَسَنَة حَدِيثَة لذنب قديم إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات ذَلِك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ
الْحَسَنَة نور والسيئة ظلمَة فإدراك النُّور الظلمَة سريع لِأَن الْحَسَنَة نور مُبتَدأَة من نور الْإِيمَان وَالْإِيمَان هدى الله فبنور الْإِيمَان يحسن طلبه وبقوة هدى الله تَعَالَى يسْرع إِدْرَاكه
فَلَمَّا كَانَ فِي الْحَسَنَة نور ربه كَانَ هادي الْحَسَنَة حَتَّى يلْحق السَّيئَة بِسُرْعَة ومركب الْحَسَنَة فَإِن مركب الْحَسَنَة نِيَّته وَالنِّيَّة من نور التَّوْحِيد فَمن كَانَ مركبه نور التَّوْحِيد فلحاقه بِمن يطْلب سريع فِي أسْرع من الطّرف فَطَلَبه أحسن طلب لِأَن مَعَه هداه وَمن ولى الله هداه فهداه فِي لَحْظَة أَو أسْرع وَمن ولى الله إبلاغه فدركه فِي أسْرع من الطرفة وَالْقَدِيم والْحَدِيث عِنْد الله بِمَنْزِلَة وَإِنَّمَا يتَفَاوَت هَذَا عِنْد الْآدَمِيّ وَسَائِر المخلوقين وَلِأَن السَّيئَة قد تقدّمت فِي الصَّحِيفَة مَوضِع(2/344)
تخليطها مُنْذُ أَعْوَام كَثِيرَة والحسنة الحديثة لذَلِك الذَّنب هِيَ التَّوْبَة وَهِي طالبة لموضعها من الصَّحِيفَة أحسن طلب وأسرع إِدْرَاك حَتَّى تصير مَكْتُوبَة تَحت السَّيئَة أَنه تَابَ ثمَّ تضيء تِلْكَ الْحَسَنَة فِي مَكَانهَا حَتَّى تعلو الظلمَة الَّتِي على السَّيئَة
وَفِي الْخَبَر أَنه إِذا تنَاول العَبْد الصَّحِيفَة يَوْم الْقِيَامَة أعطي مِنْهَا مَا يَلِي السَّيِّئَات فيجد تَحت كل سَيِّئَة مَكْتُوبَة تَابَ وَتلك حَسَنَة تضيء بمكانها فتستر على السَّيئَة فيقرأها العَبْد فَرُبمَا أَتَى العَبْد على عَظِيمَة يشْتَد عَلَيْهِ النّظر إِلَيْهَا فَتُدْرِكهُ رَحْمَة من ربه فِي ذَلِك الْمَكَان فتستر عَلَيْهِ تِلْكَ الْعَظِيمَة وَيُقَال لَهُ جاوزها لِأَنَّهُ قد كَانَ دَعَاهُ أَيَّام الْحَيَاة بِأَحْسَن التجاوز فَإِذا انْتهى إِلَى آخرهَا غفر لَهُ مَا فِيهَا فَيصير جَمِيع مَا فِيهَا بَيَاضًا لِأَن التَّوْبَة قد علت السَّيئَة بضوئها ثمَّ يقلب الصَّحِيفَة فَيقْرَأ الْحَسَنَات والخلق ينظرُونَ إِلَى صَحِيفَته حَسَنَات فَإِذا قَلبهَا نظرُوا إِلَى الْوَجْه الآخر فرأوها قد علت بضوئها فَيَقُولُونَ طُوبَى لهَذَا العَبْد لم يُذنب ذَنبا قطّ فَقبل حَسَنَاته فَعِنْدَ ذَلِك يُنَادي هاؤم إقرءوا كِتَابيه الْآيَة(2/345)
- الأَصْل الثَّانِي والمائتان
-
فِي أَن عرامة الصَّبِي من ذَكَاة فُؤَاده
عَن عَمْرو بن معد يكرب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرامة الصَّبِي فِي صغره زِيَادَة فِي عقله فِي كبره
العرم الْمُنكر وَصَارَ ذَلِك من ذكاوة فُؤَاده وحرارة رَأسه وَالنَّاس يتفاضلون فِي أصل البنية فِي الفطنة والكياسة والحظ من الْعقل
وَالْعقل على ضَرْبَيْنِ ضرب مِنْهُ يبصر أَمر دُنْيَاهُ وَهُوَ من نور الرّوح وَهُوَ مَوْجُود فِي عَامَّة ولد آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا من كَانَ فِيهِ خلل أَو عِلّة وَبينهمْ فِي ذَلِك الْعقل تفَاوت عَظِيم
وَضرب مِنْهُ يبصر أَمر آخرته وَهُوَ من نور الْهِدَايَة والقربة وَذَاكَ مَوْجُود فِي الْمُوَحِّدين مَفْقُود فِي الْمُشْركين وَبَين الْمُوَحِّدين فِي ذَلِك الْعقل تفَاوت عَظِيم وَسمي عقلا لِأَن الْجَهْل ظلمَة وَعَمله على الْقلب فَإِذا غلب النُّور وبصره فِي تِلْكَ الظلمَة زَالَت الظلمَة وَأبْصر فَصَارَ عقَالًا للْجَهْل(2/346)
فالصبي إِذا رُؤِيَ مِنْهُ زِيَادَة بَصِيرَة فِي الْأُمُور وذكاوة فهم قيل عَارِم والعرم بلغَة أهل الْعَرَب المسناة وَهِي السد وَهِي عَرَبِيَّة يَمَانِية فالصبي يسد أَبْوَاب البلاهة بِزِيَادَة ذَلِك النُّور فيكايس فِي الْأَعْمَال ويهتدي للطائف الْأُمُور ومحاسنه بِالنورِ الزَّائِد المتقد فِي دماغه فَإِذا أدْرك مدرك الرِّجَال وجاءه نور الْهِدَايَة من الله تَعَالَى فأمن كَانَ الَّذِي ركب فِي صغره عونا لَهُ فِي جَمِيع أُمُوره فَصَارَ بذلك زِيَادَة فِي عقله وَمن لم يكن لَهُ ذَلِك فِي صغره فَيكون فِيهِ نقص الْعُقُول الديناوية من البلة والحمق فَإِذا جَاءَهُ الْعقل الثَّانِي إفتقد العون وَلم يكن لَهُ فِي النوائب هِدَايَة الطَّبْع وَإِنَّمَا لَهُ هِدَايَة الْإِيمَان فَحسب وَقد إجتمع للعارم هِدَايَة الطَّبْع وهداية الْإِيمَان وَالله أعلم(2/347)
- الأَصْل الثَّالِث والمائتان
-
فِي حق الْوَلَد على الْوَالِد
عَن أبي رَافع رَضِي الله عَنهُ قَالَ قلت يَا رَسُول الله للْوَلَد علينا حق كحقنا عَلَيْهِم قَالَ نعم حق الْوَلَد على الْوَالِد أَن يُعلمهُ الْكِتَابَة والسباحة والرماية وَأَن لَا يرزقه إِلَّا طيبا
الْكِتَابَة عون لَهُ على الدّين وَالدُّنْيَا والسباحة منجاة من الْهَلَاك والرماية دفع عَن مهجته وحريمه وَشرف لَهُ عِنْد لِقَائِه الْعَدو وَلَا يرزقه إِلَّا طيبا لِئَلَّا ينْبت لَحْمه على سحت فتنزع مِنْهُ الْبركَة وَهَذِه الْخِصَال رُؤُوس الْآدَاب(2/348)
- الأَصْل الرَّابِع والمائتان
-
فِي حَال التائب وإتباع الذَّنب بِالْحَسَنَة
عَن أبي سعيد الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ والندم تَوْبَة التائب حبيب الله تَعَالَى إِن الله يحب التوابين
والحبيب يستر الحبيب وَيُحب زينه فَإِن بدا شين ستره فَإِذا أحب الله عبدا فأذنب ستره فَصَارَ كمن لَا ذَنْب لَهُ فَإِن الذَّنب يدنس العَبْد وَالرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ يطهره لِأَن بالرجعة يصير فِي مَحل الْقرْبَة مِنْهُ وَمحل الْقرْبَة ينوره وَيذْهب دنسه(2/349)
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أذْنب العَبْد نكتت فِي قلبه نُكْتَة سَوْدَاء فَإِذا عَاد نكتت أُخْرَى فَإِذا تَابَ صقل قلبه فَذَهَبت النُّكْتَة وَصَارَت كالمرآة تتلألأ وَمن هَهُنَا قَالَ الشّعبِيّ رَضِي الله عَنهُ إِذا أحب الله عبدا لم يضرّهُ ذَنبه حَدثنَا بذلك عبد الله بن الوضاح النَّخعِيّ قَالَ حَدثنَا ابْن يمَان عَن سُفْيَان عَن عَاصِم الْأَحول عَن الشّعبِيّ وَاعْتبر بِهَذِهِ الرأفة وَالرَّحْمَة الَّتِي وَضعهَا فِي الْآبَاء والأمهات ثمَّ تراهم كَيفَ مَحل أَوْلَادهم مِنْهُم فِي مَحل البطالة وَالْفساد من الرَّحْمَة عَلَيْهِم والشفقة والرفق بهم والتأني والانتظار والاحتراق عَلَيْهِم مِمَّا يخَافُونَ عَلَيْهِم من الوبال وفرحهم بِالتَّوْبَةِ إِذا هم تَابُوا إِلَى الله تَعَالَى فَاعْتبر بِهَذِهِ الرأفة الَّتِي فِي جَمِيع الْأُمَّهَات والآباء لَو جمعهَا فوضعها فِي أم وَاحِدَة أَو أَب وَاحِد لولد وَاحِد لَكَانَ لَا يتَرَاءَى لَهُ فَسَاد هَذَا الْوَلَد وسيئ عمله من عَظِيم الشَّفَقَة عَلَيْهِ والمحبة لَهُ وَكَانَ ذَلِك ساترا لَهُ فَكيف بالخالق الْبَارِي الْمَاجِد الْكَرِيم الْبر الرَّحِيم الَّذِي يدق جَمِيع رأفة أهل الدُّنْيَا ورحمتهم جنب رَحْمَة من الْمِائَة المخلوقة ثمَّ مَاذَا تكون تِلْكَ فِي جنب الرَّحْمَة الْعُظْمَى الَّتِي شملت كل الْخَيْر للعبيد فَهَذَا العَبْد الْمُؤمن لَهُ كل هَذَا الْحَظ فَإِذا تَابَ صَار فِي كنفه وَهُوَ فِي الأَصْل حَبِيبه فَيدق ذنُوبه فِي جنب مَا لَهُ عِنْده من الرأفة وَالرَّحْمَة وَإِن الله تبَارك وَتَعَالَى اسْمه لما وَقعت خيرته وجبايته على عبد من عبيده ثمَّ أخرجه امهِ إِلَى الدُّنْيَا فَأَدْرَكته الْهِدَايَة بِمَا سبقت لَهُ من الجباية وَكتب عَلَيْهِ هَذَا الذَّنب أَنه سيصيبه لَا محَالة فَلَمَّا أَصَابَهُ لم يتْركهُ حيران فَلم يغلق عَنهُ بَاب التَّوْبَة وتكرم على أَن يرجع إِلَيْهِ عَبده صدق الرُّجُوع أَن لَا يقبله وَإِذا قبله صَار كمن لَا ذَنْب لَهُ فِي معنى الْقبُول(2/350)
- الأَصْل الْخَامِس والمائتان
-
فِي أَن الالتفاع لبسة أهل الْإِيمَان
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الالتفاع لبسة أهل الْإِيمَان والتردي لبسة الْعَرَب
الإلتفاع الالتحاف بِالثَّوْبِ متقنعا وَهُوَ أستر وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكثر التقنع وَذَلِكَ للحياء من الله تَعَالَى لِأَن الْحيَاء فِي الْعين والفم وَهُوَ من عمل الرّوح وسلطانه فِي الرَّأْس ثمَّ هُوَ متفش فِي جَمِيع الْجَسَد
وَرُوِيَ أَن من أَخْلَاق النَّبِيين التقنع وَهَذَا من آدَاب الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام لأَنهم أبصروا بقلوبهم أَن الله تَعَالَى يراهم فَصَارَت الْأُمُور كلهَا لَهُم مُعَاينَة يعبدونه كَأَن هم يرونه فَفِي الْأَعْمَال الَّتِي فِيهَا حشمة يعلوهم الْحيَاء وَالْحيَاء من الْإِيمَان فَلذَلِك قَالَ لبسة أهل الْإِيمَان
قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ إِنِّي لأدخل الْخَلَاء فأقنع رَأْسِي حَيَاء من الله تَعَالَى(2/351)
والتردي لبسة الْعَرَب توارثوه فِي الْجَاهِلِيَّة من آبائها كَانُوا فِي إِزَار ورداء والالتفاع وَرثهُ بَنو إِسْرَائِيل على أَنْبِيَائهمْ عَلَيْهِم السَّلَام لأَنهم قطعُوا أعمارهم بِالْعبَادَة وَكَانُوا أَصْحَاب لفاع(2/352)
- الأَصْل السَّادِس والمائتان
-
فِي أَن الِاعْتِبَار فِي الِاجْتِهَاد بِعقد الْعقل
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا بلغه عَن رجل شدَّة عبَادَة سَأَلَ كَيفَ عقله فَإِن قَالُوا غير ذَلِك قَالَ لن يبلغ
وَذكر لَهُ عَن رجل من أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم شدَّة عبَادَة واجتهاد فَقَالَ كَيفَ عقله قَالُوا لَيْسَ بِشَيْء قَالَ لن يبلغ صَاحبكُم حَيْثُ تظنون
الْعقل نور خلقه الله تَعَالَى وقسمه بَين عباده على مَشِيئَته فيهم وَعلمه بهم فَروِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لما خلق الله الْعقل قَالَ لَهُ أقبل فَأقبل ثمَّ قَالَ لَهُ أدبر فَأَدْبَرَ ثمَّ قَالَ لَهُ أقعد فَقعدَ ثمَّ قَالَ لَهُ انطق فَنَطَقَ ثمَّ قَالَ لَهُ اصمت فَصمت فَقَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وكبريائي وسلطاني وجبروتي مَا خلقت خلقا أحب إِلَيّ مِنْك وَلَا أكْرم عَليّ مِنْك بك أعرف وَبِك أَحْمد وَبِك أطَاع وَبِك آخذ وَبِك أعطي وَإِيَّاك أعاتب وَلَك الثَّوَاب وَعَلَيْك الْعقَاب وَمَا أكرمتك بِشَيْء أفضل من الصَّبْر(2/353)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أول شَيْء خلق الله تَعَالَى الْقَلَم ثمَّ خلق النُّون وَهِي الدواة ثمَّ قَالَ لَهُ أكتب قَالَ وَمَا أكتب قَالَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من عمل أَو أثر أَو رزق أَو أجل فَكتب مَا يكون وَمَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ن والقلم}
ثمَّ ختم على فِي الْقَلَم فَلم ينْطق وَلَا ينْطق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ خلق الْعقل فَقَالَ وَعِزَّتِي لأكملنك فِيمَن أَحْبَبْت ولأنقصنك فِيمَن أبغضت
قسم الله تَعَالَى الْعقل بَين خلقه على علمه بهم ثمَّ قسم بَين الْمُوَحِّدين عقل الْهِدَايَة على علمه بهم فتفاوت الْقسم فَكل مَا اسْتَقر فِي عبد كَانَ دَلِيله على مقاديره الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمئِذٍ فَكل فعل فعله يلهم الْعقل صَاحبه فِي كل مَا أذن لَهُ وَمَا خطر عَلَيْهِ فَكل من كَانَ حَظه من الْعقل أوفر فسلطان الدّلَالَة فِيهِ أعظم وأنور
وَمن شَأْن الْعقل الدّلَالَة على الرشد وَالنَّهْي عَن الغي فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ذكر لَهُ عَن رجل شدَّة اجْتِهَاد وَعبادَة سَأَلَ عَن عقله لما قد علم أَن الْعقل هُوَ الَّذِي يكْشف عَن مقادير العبودة ومحبوب الله تَعَالَى ومكروهه لِأَن الْعِبَادَة الظَّاهِرَة قد تكون من الْعَادة وَقد تكون من المساعدة فَإِن كَانَ الْعقل يدله على الْعِبَادَة الظَّاهِرَة كَانَ علامته أَن يتورع عَن مساخط الله تَعَالَى فَكَانَ الْعقل مِمَّا عقل عَن(2/354)
الله تَعَالَى مَا أمره وَنَهَاهُ فائتمر بِمَا أمره وانزجر عَمَّا نَهَاهُ فَتلك عَلامَة الْعقل فَإِذا تعبد عَن عقل تعبد عَن بَصِيرَة وَإِذا تعبد عَن عَادَة ومساعدة فَلم يحسن الظَّن بِهِ
وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يعجبنكم إِسْلَام رجل حَتَّى تعلمُوا مَا عقده عقله
مَعْنَاهُ لَا يعجبنكم ظَاهر مَا ترَوْنَ حَتَّى تعلمُوا بِأَيّ شَيْء عقد عقله بِهِ فَإِن كَانَ عقله عقيد هَوَاهُ لَا يتورع وَلَا يَتَّقِي قَالَ لن يبلغ صَاحبكُم حَيْثُ تظنون
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَرع سيد الْعَمَل وَمن لم يكن لَهُ ورع يردهُ عَن مَعْصِيّة الله تَعَالَى إِذا خلا بهَا لم يعبأ الله سَائِر عمله شَيْئا
فَذَلِك مَخَافَة الله تَعَالَى فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة والاقتصاد فِي الْفقر والغنى والصدق عِنْد الرضاء والسخط الا وَأَن الْمُؤمن حَاكم على نَفسه يرضى للنَّاس مَا يرضى لنَفسِهِ وَالْمُؤمن حسن الْخلق وَأحب الْخلق إِلَى الله تَعَالَى أحْسنهم خلقا ينَال بِحسن الْخلق دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم وَهُوَ رَاقِد على فرَاشه
قَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ إِنَّكُم لتعملون أعمالا لهي أدق عنْدكُمْ من الشّعْر كُنَّا نعدها على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الموبقات
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا عَائِشَة إياك والمحقرات فَإِن لَهَا من الله تَعَالَى طَالبا(2/355)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله ناجى مُوسَى فَكَانَ فِيمَا قَالَ يَا مُوسَى إِنَّه لن يتَقرَّب إِلَيّ المتقربون بِمثل الْوَرع عَمَّا حرمت عَلَيْهِم فَإِنَّهُ لَيْسَ من عبد يلقاني يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا ناقشته الْحساب وفتشته عَمَّا كَانَ فِي يَدَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ من الورعين فَإِنِّي أَجلهم وَأكْرمهمْ وأدخلهم الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث من لم يَأْتِ بِهن يَوْم الْقِيَامَة فَلَا شَيْء لَهُ ورع يحجره عَن محارم الله تَعَالَى وَخلق يُدَارِي بِهِ النَّاس وحلم يرد بِهِ جهل السَّفِيه
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قلت يَا رَسُول الله بِأَيّ شَيْء يتفاضل النَّاس قَالَ بِالْعقلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
قلت أَلَيْسَ يجزى النَّاس بأعمالهم قَالَ يَا عَائِشَة وَهل يعْمل بِطَاعَة الله تَعَالَى إِلَّا من عقل فبقدر عُقُولهمْ يعْملُونَ وعَلى قدر مَا يعْملُونَ يجزون
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الرجل لينطلق إِلَى الْمَسْجِد فَيصَلي فَصلَاته لَا تعدل جنَاح بعوضة وَإِن الرجل ليَأْتِي الْمَسْجِد فَيصَلي فَصلَاته تعدل جبل أحد إِذا كَانَ أحسنهما عقلا قيل وَكَيف يكون أحسنهما عقلا فَقَالَ أورعهما عَن محارم الله تَعَالَى وأحرصهما على أَسبَاب الْخَيْر وَإِن كَانَ دونه فِي الْعَمَل والتطوع
وَعَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قضي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين مُهَاجِرِي وأنصاري فَقَالَ الْمُهَاجِرِي يَا رَسُول الله حَقي ثَابت وَمَا قضى لي شَيْئا قَالَ الْأنْصَارِيّ صدق يَا رَسُول الله إِن(2/356)
حَقه ثَابت وَمَا قَضيته شَيْئا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأد إِلَيْهِ فَقَالَ أما دَعْوَاهُ فقد أدّيت إِلَيْهِ وَأما حق ثَوَاب معروفه فَإِنَّهُ عَليّ أكافئه فَقَالَ الْمُهَاجِرِي صدق يَا رَسُول الله فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تبَارك الَّذِي قسم الْعقل بَين عباده أشتاتا ان الرجلَيْن ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما لكنهما يتفاوتان فِي الْعقل كالذرة فِي جنب أحد وَمَا قسم الله تَعَالَى لخلقه حظا هُوَ أفضل من الْعقل وَالْيَقِين
قَالَ وهب رَضِي الله عَنهُ أجد فِي سبعين كتابا أَن جَمِيع مَا أعطي النَّاس من بَدو الدُّنْيَا إِلَى انقطاعها من الْعقل فِي جنب عقل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا كحبة رمل رفعت من بَين جَمِيع رمال الدُّنْيَا
وَقَالَ إِن الشَّيْطَان لم يكن يكابد شَيْئا أَشد عَلَيْهِ من الْمُؤمن الْعَاقِل إِنَّه ليكابد مائَة ألف جَاهِل فيسخرهم ويكابد الْمُؤمن الْعَاقِل فيضعف عَنهُ وَمَا من شَيْء أحب إِلَيْهِ من فتْنَة الْعَاقِل وفتنة عَاقل أحب إِلَيْهِ من غواية ألف جَاهِل
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الأحمق يُصِيب بحمقه أعظم من فجور الْفَاجِر وَإِنَّمَا يقرب النَّاس الزلف على قدر عُقُولهمْ
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قيل يَا رَسُول الله رجل يكون قَلِيل الْعَمَل كثير الذُّنُوب قَالَ كل آدَمِيّ خطاء فَمن كَانَت لَهُ سجية عقل وغريزة يَقِين لم يضرّهُ ذنُوبه شَيْئا قيل وَكَيف ذَاك يَا رَسُول الله قَالَ كلما أخطألم يلبث أَن يَتُوب فيمحى ذنُوبه وَيبقى فضل يدْخلهُ الْجنَّة
قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَمن أَعقل مِمَّن خَافَ ذنُوبه واستحقر عمله(2/357)
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا عُوَيْمِر إزدد عقلا تَزْدَدْ من رَبك قربا قلت يَا رَسُول الله كَيفَ قَالَ اجْتنب مساخط الله وأد فَرَائض الله تكن عَاقِلا ثمَّ تنفل بالصالحات من الْأَعْمَال تَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا عقلا وَمن رَبك قربا وَعَلِيهِ عزا
عَن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ تَجِد الرجل يستكثر من أَنْوَاع الْبر ويحتاط فِي صنائع الْمَعْرُوف ويكابد سهر اللَّيْل وَشدَّة ظماء الهواجر وَهُوَ فِي ذَلِك لَا يُسَاوِي عِنْد الله جيفة حمَار قَالُوا وَكَيف قَالَ ذَاك من قلَّة عقله وَسُوء رعايته ولعلك تَجِد الرجل الْعَاقِل نَائِما بِاللَّيْلِ مُفطرا بِالنَّهَارِ لَا يظْهر لَك بره وَلَا ينْسب إِلَى صنائع الْمَعْرُوف وَبَينهمَا كَمَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قيل وَكَيف ذَاك قَالَ لِأَن رَبنَا افْترض على عباده أَن يعرفوه ويطيعوه ويعبدوه وَإِنَّمَا يطيعه ويعرفه ويعبده من يعقل فَأَما الْجَاهِل فَإِنَّهُ لَا يعرفهُ وَلَا يطيعه وَلَا يعبده
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله عز وَجل خلق الْعقل أَكثر من عدد الرمل فَمن النَّاس من أعطي حَبَّة من ذَلِك وَمِنْهُم من أعطي حبتين وَمِنْهُم من أعطي مدا وَمِنْهُم من أعطي صَاعا وَمِنْهُم من أعطي فرقا وَبَعْضهمْ وسْقا فَقَالَ ابْن سَلام من هم يَا رَسُول الله قَالَ الْعمَّال بِطَاعَة الله على قدر عُقُولهمْ ويقينهم وجدهم والنور الَّذِي فِي قُلُوبهم(2/358)
عَن مهْدي قَالَ شهِدت عمر وَعِنْده ابْن مَسْعُود وَأَبُو مُوسَى رَضِي الله عَنْهُم فَقَالَ أَبُو مُوسَى سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول رب رجل يعْمل بِطَاعَة الله فَلَعَلَّ الْحَرْف الْوَاحِد من تسبيحه وتحميده وبره أثقل من أحد ثمَّ على قدر ذَلِك يتفاضل عمله
قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ إِن من الْمُؤمنِينَ من يكون عمله يَوْمًا وَاحِدًا أثقل من السَّمَوَات وَالْأَرْض
قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فَكيف ذَاك قَالَ إِن الله قسم الْأَشْيَاء بَين عباده على قدر مَا أحب أَن يقسمهُ وَلما خلق الْخلق أقسم بعزته أَنه أحب خلقه إِلَيْهِ وأعزهم عَلَيْهِ وأفضلهم عِنْده وأرجح عباده أحْسنهم عقلا وَأَحْسَنهمْ من كَانَ فِي ثَلَاث خِصَال صدق الْوَرع وَصدق الْيَقِين وَصدق الْحِرْص على الْبر وَالتَّقوى فَبكى عمر رَضِي الله عَنهُ بكاء نشج مِنْهُ
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم الله الْعقل ثَلَاثَة أَجزَاء فَمن كَانَ فِيهِ فَهُوَ الْعَاقِل حسن الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى وَحسن الطَّاعَة لله وَحسن الصَّبْر لله تَعَالَى فَحسن الْمعرفَة الثِّقَة بِاللَّه فِي كل أَمرك والتفويض إِلَيْهِ والائتمار على نَفسك وأحوالك فِي الْوُقُوف عِنْد مَشِيئَته لَك فِي كل أمره دينا وَدُنْيا وَحسن الطَّاعَة أَن تُطِيعهُ فِي كل أَمر ثمَّ لَا تلْتَفت إِلَى نوال فتتخذه عدَّة دون الله تَعَالَى
وَحسن الصَّبْر أَن تصبر فِي النوائب صبرا لَا يرى عَلَيْك أثر النائبة من الاستكانة وَأَن تتلقى حكمه بالرضاء كَمَا تتلقى مَا وَافق نَفسك فيستوي عنْدك المحبوب وَالْمَكْرُوه(2/359)
- الأَصْل السَّابِع والمائتان
-
فِي تَفْسِير المغربين
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن فِيكُم مغربون قلت يَا رَسُول الله مَا المغربون قَالَ الَّذين يشْتَرك فيهم الْجِنّ
فالجن وَالْإِنْس ابتليا بِالْعبَادَة وَلَهُمَا الثَّوَاب وَعَلَيْهِمَا الْعقَاب وَأمر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنذارة إِلَى الْجِنّ والرسالة إِلَى الْآدَمِيّين فأنذرهم وعلمهم الْقُرْآن فللجن مُسَاوَاة بِابْن آدم فِي الْأُمُور والاختلاط فَمنهمْ من يتَزَوَّج فيهم وَكَانَت بلقيس ملكة سبأ أحد أَبَوَيْهَا من الْجِنّ وَرُبمَا غلب الْجِنّ الْآدَمِيّ على أَهله فَيَأْخُذ بقلبها ويعذبها والامتناع مِنْهُم باسم الله تَعَالَى فَإِذا أحب الْآدَمِيّ أَن يطرده من مشاركته طرده باسم الله
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ستر بَين عورات بني آدم وَبَين أعين الْجِنّ إِذا وضع الرجل ثَوْبه أَن يَقُول باسم الله قَالَ مُجَاهِد رَضِي الله(2/360)
عَنهُ إِذا جَامع الرجل وَلم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع مَعَه
قَالَ فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان}(2/361)
- الأَصْل الثَّامِن والمائتان
-
فِي سر شَهَادَة العطاس
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من حدث بِحَدِيث فعطس عِنْده فَهُوَ حق)
العطسة تنفس الرّوح وتحننه إِلَى الله تَعَالَى لِأَنَّهَا من الملكوت فَإِذا تحرّك ساطعا عِنْد حَدِيث فَهُوَ شَاهد يُخْبِرك عَن صدقه وَحقه
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (إِن الله يحب العطاس وَيكرهُ التثاؤب فَإِذا(3/5)
عطس أحدكُم فَحَمدَ الله فَحق على كل مُسلم سَمعه يشمته والتثاؤب من الشَّيْطَان فَإِذا تثاءب أحدكُم فليرده مَا اسْتَطَاعَ فَإِن أحدكُم إِذا قَالَ هاه ضحك الشَّيْطَان مِنْهُ)
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لعطسة وَاحِدَة عِنْد حَدِيث أحب إِلَيّ من شَاهد عدل
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الفال مُرْسل والعاطس شَاهد عدل
قَوْله (الفال مُرْسل) مثل مَا يرْوى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع رجلا يَقُول فِي الْعَسْكَر يَا حسن فَقَالَ أَخذنَا فالك من فِيك واستقبله بُرَيْدَة فِي طَرِيق الْهِجْرَة فَقَالَ مَا اسْمك قَالَ بُرَيْدَة فَالْتَفت إِلَى أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ برد أمرنَا قَالَ مِمَّن قَالَ من أسلم قَالَ سلمنَا يَا أَبَا بكر
وَمَعْنَاهُ أَن هَذِه الْأَسْمَاء مِمَّا يُرْسِلهُ الله تَعَالَى حَتَّى يستقبلك كالبشير لَك فَإِذا تفاءلت فقد أَحْسَنت بِهِ الظَّن وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِنْد ظن عَبده
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ عطس عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث عطسات مُتَوَالِيَات فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا عُثْمَان أَلا أُبَشِّرك هَذَا جِبْرَائِيل يُخْبِرنِي عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ (مَا من مُؤمن يعطس ثَلَاث عطسات مُتَوَالِيَات إِلَّا كَانَ الْإِيمَان فِي قلبه ثَابتا)(3/6)
- الأَصْل التَّاسِع والمائتان
-
فِي النَّهْي عَن الْجُلُوس على الْقُبُور
عَن أبي مرْثَد الغنوي رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (لَا تجلسوا على الْقُبُور وَلَا تصلوا إِلَيْهَا)
نهى أَن يُوطأ الْقَبْر أَو يجلس عَلَيْهِ استهانة بِهِ إِقَامَة لحُرْمَة الْمُسلم بعد مَوته
وَعَن معَاذ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكره أَن تُوطأ الْقُبُور إعظاما للْمُسلمين وإكراما لَهُم وَيكرهُ أَن يتَّخذ الْقُبُور مَسْجِدا وقبلة يصلى إِلَيْهَا فَإِن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك
وروى بشر بن الخصاصية أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يمشي فِي الْقُبُور فِي نَعْلَيْنِ فَقَالَ (يَا صَاحب السبتين اخلع)(3/7)
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى (ألق سبتيك لَا تشغله)
هَذَا يدل على إِقَامَة الْحُرْمَة وتعظيم شَأْن الْمُسلم أَن يمشي الْمَرْء على أعظم مدفونة قد اختبأها الرب عز وَجل واختارها لمحبته ملكا فِي الْجنان فِي جواره
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لمن رَآهُ جَالِسا على قبر (انْزِلْ عَن الْقَبْر لَا تؤذ صَاحبك وَلَا يُؤْذِيك)
مَعْنَاهُ أَن الْأَرْوَاح تعلم بترك إِقَامَة الْحُرْمَة وبالاستهانة فتتأذى بذلك(3/8)
- الأَصْل الْعَاشِر والمائتان
-
فِي أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ ويومه خير من مُؤمن آل فِرْعَوْن
عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ مَا نيل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا نيل مِنْهُ ذَات يَوْم أَنه كَانَ يطوف بِالْبَيْتِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقطعُوا عَلَيْهِ الطّواف وَأخذُوا بتلابيبه وَقَالُوا أَنْت الَّذِي تَنْهَانَا أَن نعْبد مَا يعبد آبَاؤُنَا قَالَ (هُوَ ذَاك) وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ ملتزمه من خَلفه وَهُوَ يَقُول أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَعَيناهُ تهملان فَخلوا سَبيله
مرتبَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ من الدّين وَمحله من الْإِسْلَام أَن يذب عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحده وَلم يهب شَرْقي الدُّنْيَا وغربيها(3/9)
وَقَالَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ عَاتب الله تَعَالَى جَمِيع أهل الأَرْض غير أبي بكر فَقَالَ {إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا}
وَعَن سَالم بن عبيد قَالَ لما قبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رجل من الْأَنْصَار منا أَمِير ومنكم أَمِير قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ سيفين فِي غمد لَا يصطلحان ثمَّ أَخذ بيد أبي بكر فَقَالَ من لَهُ هَذِه الثَّلَاثَة {ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا} ثمَّ بَايعه فَبَايع النَّاس أحسن بيعَة وأجملها
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ اجْتمعت قُرَيْش بعد وَفَاة أبي طَالب بِثَلَاث فأرادوا قتل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأقبل هَذَا يجاؤه وَهَذَا يتلتله إِلَّا أَبُو بكر وَله ضفيرتان فَأقبل يجَأ ذَا ويتلتل ذَا وَيَقُول بِأَعْلَى صَوته وَيْلكُمْ أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَالله إِنَّه لرَسُول الله فَقطعت إِحْدَى ضفيرتي أبي بكر يَوْمئِذٍ فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ ليَوْم من أبي بكر خير من مُؤمن آل فِرْعَوْن إِن ذَلِك رجل كتم إيمَانه فَأثْنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابه وَهَذَا أَبُو بكر أظهر إيمَانه وبذل مَاله وَدَمه لله تَعَالَى
وَعَن أَسمَاء بنت أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنهم قَالُوا لَهَا(3/10)
مَا أَشد شَيْء رَأَيْت الْمُشْركين بلغُوا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت كَانَ الْمُشْركُونَ قعُودا فِي الْمَسْجِد الْحَرَام يتذاكرون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَقُول فِي آلِهَتهم فَبينا هم كَذَلِك إِذْ دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامُوا إِلَيْهِ بأجمعهم وَكَانُوا إِذا سَأَلُوهُ عَن شَيْء صدقهم فَقَالُوا لَهُ أَلَسْت تَقول فِي آلِهَتنَا كَذَا قَالَ بلَى فتشبسوا بِهِ بأجمعهم فَأتى الصَّرِيخ إِلَى أبي بكر فَقيل لَهُ أدْرك صَاحبك فَخرج من عندنَا وَإِن لَهُ غدائر فَدخل الْمَسْجِد وَهُوَ يَقُول وَيْلكُمْ أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله فلهوا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَقْبلُوا إِلَى أبي بكر فَرجع إِلَيْنَا أَبُو بكر فَجعل لَا يمس شَيْئا من غدائره إِلَّا جَاءَ مَعَه وَهُوَ يَقُول تَبَارَكت يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام(3/11)
- الأَصْل الْحَادِي عشر والمائتان
-
فِي المصافحة وسرها
عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إِذا التقى المسلمان كَانَ أحبهما إِلَى الله أحسنهما بشرا لصَاحبه فَإِذا تصافحا أنزل الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا مائَة رَحْمَة تسعون مِنْهَا للَّذي بَدَأَ بالمصافحة وَعشرَة للَّذي صوفح)
الْمُؤمن عَلَيْهِ سمة الْإِيمَان ووقاره وبهاء الْإِسْلَام وجماله فأحسنهما بشرا أعقلهما عَن الله تَعَالَى مَا من الله عز وَجل عَلَيْهِ وَيظْهر بشره لعلمه بِاللَّه تَعَالَى ولمنة الله على عَبده وَلِأَن الْمُؤمن عطشان إِلَى لِقَاء ربه شوقا إِلَيْهِ فَإِذا رأى الْمُؤمن اهتش إِلَى ذَلِك روحه وتنسم قلبه روح مَا وجد من آثَار مَوْلَاهُ فيطمئن ويبشر بذلك فَيظْهر بشره وَإِنَّمَا صَار أحب إِلَى الله تَعَالَى بِمَا لَهُ من الْحَظ من الله تَعَالَى وَلِأَن الَّذِي يظْهر الْبشر لِأَخِيهِ يسر أَخَاهُ الْمُؤمن لِأَن فِي ذَلِك إِظْهَار الْمَوَدَّة لَهُ(3/12)
وَرُوِيَ أَن يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام إِذا لقى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بَدَأَ بِالسَّلَامِ فَسلم عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يلقاه إِلَّا باشا مُتَبَسِّمًا وَلَا يلقى عِيسَى إِلَّا مَحْزُونا شبه الباكي فَقَالَ لَهُ عِيسَى إِنَّك تَبَسم تَبَسم رجل يضْحك كَأَنَّك آمن فَقَالَ يحيى إِنَّك لتعبس تعبس رجل يبكي كَأَنَّك آيس فَأوحى الله تَعَالَى إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن أحبكما إِلَيّ أكثركما تبسما
وَأما المصافحة هُوَ الْأَخْذ بِالْيَدِ وَهُوَ كالبيعة لِأَن من شَرَائِط الْإِسْلَام الْأُخوة قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة} وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض ...
شَرط الله تَعَالَى فِيمَا بَينهم الْأُخوة وَالْولَايَة فَإِذا لقِيه فصافحه كَأَنَّهُ يبايعه على هَاتين الخصلتين فَفِي كل مرّة يلقى يجدد بيعَته فيجدد الله تَعَالَى لَهما ثَوابًا كَمَا يجدد الْمُصَاب الاسترجاع فيجدد لَهُ ثَوَاب الْمُصِيبَة ويجدد صَاحب النِّعْمَة الْحَمد فيجدد لَهُ ثَوَاب الشُّكْر فللسابق إِلَى تَجْدِيد لَهُ تسعون رَحْمَة كتمسكه بِالْولَايَةِ والأخوة وَإِقَامَة الْحُرْمَة وَأول مَا ظَهرت الْبيعَة يَوْم الْمِيثَاق
وَلذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الرُّكْن يَمِين الله يُصَافح بِهِ عباده يَوْم الْقِيَامَة لأَنهم يَوْم الْمِيثَاق بَايعُوا الله فصافحوا الْحجر فَلَمَّا أنزلهُ من الفردوس وضع فِي ركن الْبَيْت ودعى النَّاس إِلَيْهَا ليجددوا بيعتهم فَكلما تَمسحُوا فَذَلِك مِنْهُم بيعَة متجددة(3/13)
- الأَصْل الثَّانِي عشر والمائتان
-
فِي فضل يَوْم عَاشُورَاء وسر التوسيع فِيهِ
عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من وسع على أَهله يَوْم عَاشُورَاء وسع الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي سنته كلهَا)
الأَصْل فِي ذَلِك أَن سفينة نوح عَلَيْهِ السَّلَام اسْتَوَت على الجودي يَوْم عَاشُورَاء فَقيل لَهُ {اهبط بِسَلام منا وبركات عَلَيْك وعَلى أُمَم مِمَّن مَعَك} أَي الْمُوَحِّدين {وأمم سنمتعهم ثمَّ يمسهم منا عَذَاب أَلِيم} وهم الْمُشْركُونَ وَكَانُوا كلهم فِي صلبه وَهَذَا السَّلَام والبركات إِلَى آخر الدَّهْر
وَقيل لَهُ اهبط لتبوء لأهْلك وولدك متبوأ صدق ومستقرا لمعاشك بِهَذَا السَّلَام وَهَذِه البركات فَمن أَرَادَ أَن يَأْخُذ بحظه من تِلْكَ البركات فَوَافى ذَلِك الْيَوْم كَانَ فِي تِلْكَ الْهَيْئَة هَيْئَة من يبوء لأَهله وَعِيَاله مرمة(3/14)
لمعاشهم وَيزِيد فِي وظائفهم ويهيئ لَهُم لينالهم حَظه من ذَلِك السَّلَام وَتلك البركات لِأَن الله تَعَالَى اسْتَقْبَلَهُمْ بالدنيا بعد أَن غرقها وخربها شرقا وغربا فَلم يبْق فِي جَمِيع الدُّنْيَا إِلَّا سفينة نوح عَلَيْهِ السَّلَام بِمن فِيهَا فَرد عَلَيْهِم دنياهم يَوْم عَاشُورَاء وَأمرُوا بالهبوط للتبوئة والتهيؤ لأمر المعاش مَعَ السَّلَام والبركات عَلَيْهِم وعَلى الْأُمَم الْمُوَحِّدين الَّذين فِي صلبه فَمن أَتَى عَلَيْهِ ذَلِك الْيَوْم فَكَأَنَّهُ فِي وقته يهْبط من السَّفِينَة ويهيئ لِعِيَالِهِ معاشا وتناله السَّلامَة والبركات لذَلِك
وَرُوِيَ أَن من اكتحل يَوْم عَاشُورَاء بكحل أثمد لم تتوجع عينه تِلْكَ السّنة وعوفي من الرمد وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام خير أكحالكم الأثمد فَإِنَّهُ ينْبت الشفر ويجلو الْبَصَر
فالاكتحال مرمة الْعين وَفِي الْكحل قُوَّة لِلْبَصَرِ ومدد للروح لِأَنَّهُ ينْبت الأشفار وَهُوَ ستر الناظرين وَيُقَوِّي الْبَصَر فَإِنَّهُ يجليه وَيذْهب بالغشاوة وَمَا يتحلب من الماقين من فضول الدُّمُوع والبلة الطبيعية ينشفه الأثمد وَلَا يَدعه يتلبث فَيصير غشاوة وغيما على حدقتيه وَفِيه مدد للروح لِأَن بصر الرّوح فِي الْبَاطِن مُتَّصِل ببصر الْعين فَإِذا ذهبت الغشاوة وصل النَّفْع إِلَى بصر الرّوح وَوجد لذهابه رَاحَة وخفة فَإِذا كَانَ مِنْهُ فِي هَذَا الْيَوْم مرمة النَّفس نَالَ الْبركَة والسلامة وعوفي من الضّيق ووسع عَلَيْهِ سَائِر سنته وَإِن كَانَت مرمة الرّوح عوفي من الرمد(3/15)
- الأَصْل الثَّالِث عشر والمائتان
-
فِي أَن العَبْد يسْأَل عَن صدق لَا إِلَه إِلَّا الله وَالْفرق بَين أهل الْكَلِمَة وَأهل القَوْل بِالْكَلِمَةِ
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله تَعَالَى {فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ} قَالَ عَن لَا إِلَه إِلَّا الله
مَعْنَاهُ عَن صدق لَا إِلَه إِلَّا الله وَالْوَفَاء بهَا
قَالَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ لَيْسَ الْإِيمَان بالتحلي وَلَا بالتمني وَلَكِن مَا وقر فِي الْقُلُوب وصدقته الْأَعْمَال
وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصا دخل الْجنَّة) قيل يَا رَسُول الله مَا إخلاصها قَالَ (أَن يحجره عَن محارم الله تَعَالَى)(3/16)
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (إِن الله تَعَالَى عهد إِلَيّ أَن لَا يأتيني أحد من أمتِي بِلَا إِلَه إِلَّا الله لم يخلط بهَا شَيْئا إِلَّا وَجَبت لَهُ الْجنَّة) قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا الَّذِي يخلط بِلَا إِلَه إِلَّا الله قَالَ (حرصا على الدُّنْيَا وجمعا لَهَا ومنعا لَهَا يَقُولُونَ قَول الْأَنْبِيَاء ويعملون أَعمال الْجَبَابِرَة)
وَثَمَرَة هَذِه الْكَلِمَة لأَهْلهَا وَأَهْلهَا من رعاها حَتَّى قَامَ بوفائها وصدقها وَمن لم يرعها فَلَيْسَ من أهل لَا إِلَه إِلَّا الله إِنَّمَا هم من أهل قَول لَا إِلَه إِلَّا الله فَأهل قَول لَا إِلَه إِلَّا الله من كَانَ مرجعه إِلَى القَوْل بِهِ وَالْعَمَل بهواه وَأهل لَا إِلَه إِلَّا الله من كَانَ مرجعه إِلَى إِقَامَة هَذَا القَوْل وَفَاء وصدقا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (لَا إِلَه إِلَّا الله يمْنَع الْعباد من سخط الله تَعَالَى مَا لم يؤثروا صَفْقَة دنياهم على دينهم فَإِذا آثروا صَفْقَة دنياهم على دينهم ثمَّ قَالُوا لَا إِلَه إِلَّا الله ردَّتْ عَلَيْهِم وَقَالَ الله تَعَالَى كَذبْتُمْ)
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يزَال قَول لَا إِلَه إِلَّا الله يرفع سخط الله عَن الْعباد حَتَّى إِذا نزلُوا بالمنزل الَّذِي لَا يبالون مَا نقص من دينهم إِذا سلمت دنياهم فَقَالُوا عِنْد ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى لَهُم كَذبْتُمْ كَذبْتُمْ)
وَصدق لَا إِلَه إِلَّا الله أَن يقف عِنْد صنع الله تَعَالَى وَعند أمره كالعبيد أما صنعه فَهُوَ أَحْكَامه عَلَيْك وتدبيره فِيك مثل الْعِزّ والذل وَالصِّحَّة والسقم والفقر والغنى وكل حَال مَحْبُوب ومكروه فتقف هُنَاكَ كالعبيد لَا تعصى الله فِي جنب مَا حكم عَلَيْك ودبر لَك وَيحكم بِهِ عَلَيْك وَأما أمره فَهُوَ أَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمَحَارِم فَلَا تعصيه فِي ترك فَرِيضَة وَلَا انتهاك محرم وَهَذَا أدنى منزلَة فِي صدق لَا إِلَه إِلَّا الله لِأَنَّهُ بعد فِي حفظ الْجَوَارِح وَأما الْمنزلَة الْأَعْلَى أَن(3/17)
يكون مَعَ هذَيْن حَافِظًا لِقَلْبِهِ قد رَاض نَفسه وَمَاتَتْ شهواته فَمَا ورد عَلَيْهِ من أَحْكَام الله تَعَالَى رَضِي بهَا واهتشت نَفسه إِلَى قبُولهَا حبا لَهُ وإعظاما وَمَا أعطي من الدُّنْيَا قنع بهَا وَكَانَ كالخازن الَّذِي يُعْطِيهِ مَوْلَاهُ شَيْئا يأتمنه عَلَيْهِ فَهُوَ يمْسِكهَا بالأمانة يرقب مَتى يُومِئ إِلَيْهِ حَتَّى يبذلها من غير تلجلج وَمَا ورد عَلَيْهِ من أمره وَنَهْيه أنفذ من غير أَن يلْتَفت إِلَى عوض عَنْهَا فِي عَاجل أَو ثَوَاب فِي آجل
فَهَؤُلَاءِ هم السَّابِقُونَ راضوا أنفسهم وفطموها عَن الشَّهَوَات فَلَمَّا جَاءَهُم أَمر الله وَأَحْكَامه انقادوا وذلت نُفُوسهم لأَمره إعظاما لجلاله ذلة العبيد الَّذين قد استسلموا لسيدهم وهم المبهوتون فِي طَاعَة الله تَعَالَى لَا يفرقون بَين أُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قد اسْتَوَت عِنْدهم لأَنهم لله وَبِاللَّهِ لَا يخْطر على بالهم عِنْد تصرفهم فِي الْأُمُور اخْتِيَار الْأُمُور وَالْأَحْوَال فَإِن كَانَ فِي مرمة نفس أَو إصْلَاح معاش فَهُوَ لله وَإِن كَانَ فِي أَمر الْآخِرَة فَهُوَ لله تَعَالَى فأعمارهم غير معطلة كلهَا عبَادَة لمليكهم عبدُوا الله بنومهم كَمَا عبدوه بسهرهم وبأكلهم كَمَا عبدوه بجوعهم وعبدوه بتناول الدُّنْيَا وَأَخذهَا كَمَا عبدوه بِتَرْكِهَا إِنَّمَا نظرهم إِلَى تَدْبيره لَهُم فعلى أَي حَال سَار بهم إِلَيْهِ سَارُوا طيبَة بذلك نُفُوسهم حَسَنَة أَخْلَاقهم فَإِنَّهُم نظرُوا إِلَى الْمُقْتَصِدِينَ الَّذين لم يرْضوا أنفسهم وَلَا فطموها عَن الشَّهَوَات إِلَّا أَن خوف الْوَعيد حَال بَين نُفُوسهم وَبَين الْمعاصِي فحجرهم عَن أَعمال أهل الهلكى وَحَملهمْ على أَعمال أهل النوال لما أطمعوا من الثَّوَاب كَفعل الدَّوَابّ تتلكأ وتبطئ فِي السّير حَتَّى إِذا أحست بالدنو من الْمنزل اسْتَقَلت الحمولة وجدت للسير تحننا إِلَى الاوازي أَو أحست بِالسَّوْطِ من راكبها فتهتاج فِي السّير مجدا فَهَؤُلَاءِ قد اسْتَحْيوا من أَن يكون شَبِيها بهم وَأَن تكون عِبَادَتهم طَمَعا فِي الثَّوَاب أَو رهبة من الْعقَاب فَإِن هَؤُلَاءِ انقادوا لله تَعَالَى من أجل نُفُوسهم وَلَيْسَ هَذَا بخالص العبودة إِنَّمَا خَالص(3/18)
العبودة لقوم هامت قُلُوبهم فِي حب الله تَعَالَى وهامت فِي جَلَاله وعظمته فانبعثوا لأعمال الْبر شفوفا بهم لعلمهم أَنه يحب ذَلِك وامتنعوا عَن الآثام هَيْبَة لَهُ وإجلالا لمعرفتهم أَنه مساخطه ومكروهه فهذان الصنفان هم أهل لَا إِلَه إِلَّا الله إِلَّا أَن أَحدهمَا أَعلَى من الآخر وَمن لم يكن فِيهِ ذَلِك فَهُوَ من أهل قَول لَا إِلَه إِلَّا الله
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (لَيْسَ على أهل لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْشَة فِي الْقُبُور وَلَا فِي النشور كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِم وهم يَنْفضونَ التُّرَاب عَن رؤوسهم وهم يَقُولُونَ الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن)
وَالنَّاس فِي الْحزن على دَرَجَات وكل يحمد الله على إذهاب حزنه فالمتقون حزنهمْ قطع النَّار وفوت الْجنَّة ومجاهدة النَّفس أَيَّام الْحَيَاة وَالصِّدِّيقُونَ حزنهمْ تَقْصِير شكر مَا لَزِمَهُم من الْعِصْمَة والتوفيق بِأَن وفقهم للطاعات وعصمهم من الآثام فوجدوا أنفسهم مقصرين فِي شكره ينتظرون الْعَفو والعارفون على صنفين وحزنهم على وَجْهَيْن فصنف مِنْهُم حزنهمْ حزن الْعَاقِبَة وَهُوَ الْغَالِب على قلبه فَإِنَّهُ اشتاق إِلَى الله تَعَالَى فرقي بِهِ إِلَى دَرَجَة الْجلَال وَالْجمال فسكن شوقه لطعم لَذَّة مَا نَالَ من الْقرْبَة فَمر فِي العبودة بِقُوَّة حَظه من الْجلَال وَعظم عمله لغد بِقُوَّة حَظه من الْجمال فَهُوَ مطمئن سَاكن
وَلِهَذَا قيل لوَاحِد مِنْهُم أما تشتاق فَقَالَ إِنَّمَا يشتاق الْغَائِب فاستعظموا هَذَا وصيروه غَايَة الْأَمر وَلَا يعلمُونَ أَن وَرَاء هَذَا دَرَجَة فِيهَا تنافس الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام المجذوبين الْمُحدثين وَهُوَ حزن القلق فَإِنَّهُ يقلقل أحشاءهم إِلَى آخر رَمق من الْحَيَاة حَتَّى تخرج أَرْوَاحهم بغصة من الكمد لأَنهم خلصوا إِلَى فردانيته وتعلقوا بوحدانيته(3/19)
فظمئت أكبادهم عطشا إِلَى لِقَائِه وَهَذَا هُوَ الَّذِي أقلق مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى حمله على سُؤال الرُّؤْيَة ثمَّ عَاشَ أَيَّام الدُّنْيَا عطشان إِلَى لِقَائِه فمحال أَن يسْتَقرّ الْعَارِف حَتَّى ينْكَشف لَهُ الغطاء يَوْم الزِّيَادَة ويصل إِلَى مَا سَأَلَ كليم الله عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ كلما ازْدَادَ العَبْد إِلَيْهِ قربا زَاده مَوْلَاهُ دنوا فازداد هيمانا وولها حَتَّى يقلق ويكمد ويحترق من نيران الشوق(3/20)
- الأَصْل الرَّابِع عشر والمائتان
-
فِي أَن الْأَمْثَال من مَعْدن الْحِكْمَة وَأَن الْمَرْأَة لم مثلت بِالسَّيْفِ المصقول
عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر لُقْمَان عَلَيْهِ السَّلَام على جَارِيَة فِي الْكتاب فَقَالَ لمن يصقل هَذَا السَّيْف
هَذِه كلمة تَمْثِيل من مَعْدن الْحِكْمَة وَعَامة الْحِكْمَة فِي الْأَمْثَال لِأَن الْأَمْثَال أنموذج الْآخِرَة والملكوت وبالخلق حَاجَة إِلَى مُعَاينَة الْأَجَل وَإِنَّمَا يعاينوه بالعاجل وَلِهَذَا مَا ضرب الله تَعَالَى الْأَمْثَال فِي تَنْزِيله الْكَرِيم وَعجل لأهل الدُّنْيَا من نعيم الْجنان أنموذجا من الْأَنْوَار وَالطّيب وَالذَّهَب وَالْفِضَّة واللؤلؤ والزبرجد وَسَائِر الْجَوَاهِر لأَنهم لَو لم يرَوا ذَلِك فِي الدُّنْيَا لم يفهموا مِنْهُ تِلْكَ الصّفة فوصف لَهُم ثَلَاث دَرَجَات دَرَجَة فضَّة ودرجة ذهب ودرجة نور وَأمْسك عَن وصف سَائِر الدَّرَجَات إِذْ لَيْسَ عِنْدهم أنموذجاتها فيفهمون بهَا عَنهُ مَا يصفه فَقَالَ {لَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين}(3/21)
وَالسيف أمره وجي لَا يكَاد يلبث بِصَاحِبِهِ فَكَذَلِك الْمَرْأَة شهوتها من بَين الشَّهَوَات كالسيف من بَين الأسلحة
رُوِيَ أَن إِبْلِيس لما خلقت الْمَرْأَة قَالَ أَنْت نصف جندي وَأَنت مَوضِع سري وَأَنت سهمي الَّذِي أرمي بك فَلَا أخطئ
وَذكر الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم حب الشَّهَوَات فَبَدَأَ بِذكر النِّسَاء فَقَالَ عز من قَائِل {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين} ليعلم أَنَّهَا أقوى الشَّهَوَات وَقَالَ {وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا} أَي فِي شَأْن النِّسَاء وَقَالَ تَعَالَى {لتسكنوا إِلَيْهَا} وَلَا يكون السكن إِلَّا من الِاضْطِرَاب والجولان
وَذكر الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم شَأْن ثَلَاثَة من أنبيائه وأعلام أرضه ابتلوا بِهن يُوسُف وَدَاوُد وَمُحَمّد عَلَيْهِم السَّلَام
فَأَما يُوسُف فابتلي بِامْرَأَة الْعَزِيز فَلَمَّا تزينت لَهُ وراودته {قَالَ معَاذ الله إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي}
فَلم تزل فِي مراودته ومخادعته حَتَّى خلت بِهِ فِي بَيتهَا وغلقت الْأَبْوَاب
فَقَالَت لَهُ يَا يُوسُف مَا أحسن صُورَة وَجهك
قَالَ فِي الرَّحِم صورني
قَالَت مَا أحسن شعرك
قَالَ هُوَ أول شَيْء يبْلى مني فِي قَبْرِي(3/22)
قَالَت مَا أحسن عَيْنَيْك
قَالَ بهما أنظر إِلَى رَبِّي
قَالَت ارْفَعْ بَصرك فَانْظُر فِي وَجْهي
قَالَ أَخَاف الْعَمى فِي آخرتي
قَالَت أدنو مِنْك وتتباعد عني
قَالَ أُرِيد الاقتراب من رَبِّي
قَالَت فَادْخُلْ القيطون معي
قَالَ القيطون لَا يسترني من رَبِّي
قَالَت فرَاش الْحَرِير قد فرشته قُم فَاقْض حَاجَتي
قَالَ إِذن يذهب من الْجنَّة نَصِيبي
قَالَت إِنَّك لجريء على سخطي
قَالَ أُرِيد بِذَاكَ مرضاة رَبِّي
قَالَت أَنْت عَبدِي اشتريتك بِمَالي فتعظم عَليّ
قَالَ بجرمي وخطيئتي اشتريتني
قَالَت ضع يدك على صَدْرِي
قَالَ إِنَّه لَا صَبر لي على احتراق جَسَدِي إِذا زرعت فِي أَرض غَيْرِي
قَالَت يَا يُوسُف الجنينة قد عطشت قُم فاسقها
قَالَ الَّذِي بِيَدِهِ مفاتيحها أَحَق بسقيها
قَالَت أَعتَقتك من الرّقّ وجعلتك بِمَنْزِلَة زَوجي فَبِأَي حول امْتنعت مني
قَالَ بحول رَبِّي الَّذِي فِي السَّمَاء معمره وَمَكَان سَيِّدي الَّذِي فِي الأَرْض سُلْطَانه أخافه على نَفسِي
قَالَت إِنِّي مسلمتك إِلَى الْمُعَذَّبين
قَالَ ذَاك فعل إخوتي
قَالَت النَّار قد التهبت قُم فاطفئها(3/23)
قَالَ أَخَاف أَن يحرقني بهَا رَبِّي
فَلم تزل تخدعه وتراوده حَتَّى هم بهَا فَلَمَّا حل سراويله ورد يَده إِلَى جيب قَمِيصه ليخلعه وَيدخل مَعهَا فِي فراشها ناداه مُنَاد من السَّمَاء ثَلَاث مَرَّات مهلا يَا يُوسُف فَإنَّك إِن واقعت الْخَطِيئَة مُحي اسْمك من ديوَان النُّبُوَّة
فَلم يكترث لذَلِك الصَّوْت وغلبه مَا حدث فِيهِ من الشَّهْوَة فَمثل الله تَعَالَى لَهُ أَبَاهُ فِي مثل صورته الَّتِي عَهده فِيهَا فَنظر إِلَيْهِ غَضْبَان عاضا على أنملته المسبحة يوعده فَلَمَّا رأى ذَلِك يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كف وهرب موليا نَحْو الْبَاب واتبعته سيدته فتداركا عِنْد الْبَاب ينازعها ليخرج وتجره من خَلفه ليرْجع فانقد قَمِيصه من دبر وألفيا سَيِّدهَا لَدَى الْبَاب {قَالَت مَا جَزَاء من أَرَادَ بأهلك سوءا إِلَّا أَن يسجن أَو عَذَاب أَلِيم}
فَلَمَّا رأى ذَلِك يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أفشاها فَقَالَ {هِيَ راودتني عَن نَفسِي} حَتَّى آل الْأَمر إِلَى أَن شاع أمرهَا فِي النِّسَاء وقبح عَلَيْهَا الْأَمر فَجمعت النِّسَاء وَجعلت عيدا واستعانت بِهن عَلَيْهِ وأوعدته وهددته إِن لم يفعل ذَلِك ليسجنن أَو عَذَاب أَلِيم وليكونن من الصاغرين {قَالَ رب السجْن أحب إِلَيّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن
فَلبث فِي السجْن بضع سِنِين أَي عشر سِنِين فَلَمَّا انْتَهَت مُدَّة عُقُوبَة الْهم وَجَاء أَوَان الْخُرُوج مِنْهُ قَالَ لذَلِك الَّذِي كَانَ حَبسه الْملك(3/24)
ثمَّ أخرجه {اذْكُرْنِي عِنْد رَبك} {فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه فَلبث فِي السجْن بضع سِنِين} أَي ثَلَاث سِنِين
فَلَمَّا انْتَهَت مُدَّة عُقُوبَة قَوْله {اذْكُرْنِي عِنْد رَبك} جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لَهُ إِن الله تَعَالَى يَقُول لَك أَتُحِبُّ أَن يكلك الله فِي شَيْء من أَمرك إِلَى فِرْعَوْن عِنْده
قَالَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أعوذ من ذَلِك برأفة رَبِّي وَرَحمته فَخرج من السجْن وآتاه الله تَعَالَى ملك مصر وخوله خَزَائِن أرْضهَا حَتَّى جمع بَينه وَبَين يَعْقُوب عَلَيْهِمَا السَّلَام وَجمع شَمله فِي إخْوَته وَأهل بَيته وانتقلوا إِلَى مصر
وَرُوِيَ أَن امْرَأَة الْعَزِيز أصابتها حَاجَة فَقَالُوا لَهَا لَو أتيت يُوسُف فَسَأَلته فاستشارت النَّاس فِي ذَلِك فَقَالُوا لَهَا لَا تفعلي ذَلِك فَإنَّا نَخَاف عَلَيْك قَالَت كلا إِنِّي لَا أَخَاف مِمَّن يخَاف الله تَعَالَى فَدخلت عَلَيْهِ فرأته فِي ملكه فَقَالَت الْحَمد لله الَّذِي جعل العبيد ملوكا بِطَاعَتِهِ وَجعل الْمُلُوك عبيدا بمعصيته فَقضى لَهَا جَمِيع حوائجها ثمَّ تزَوجهَا فَوَجَدَهَا بكرا فَقَالَ لَهَا أَلَيْسَ هَذَا أجمل مِمَّا أردْت
فَقَالَت يَا نَبِي الله إِنِّي ابْتليت فِيك بِأَرْبَع كنت أجمل النَّاس كلهم وَكنت أَنا أجمل أهل زماني وَكنت بكرا وَكَانَ زَوجي عنينا
وَأما دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ قعد فِي الْمِحْرَاب وَالزَّبُور فِي حجره يقرأه إِذا طَائِر بَين يَدَيْهِ عَلَيْهِ من الألوان أَكْثَرهَا وَسليمَان عَلَيْهِ السَّلَام صَغِير يلْعَب عِنْده فَلَمَّا أَهْوى ليأخذه طَار من الكوة وَقيل إِنَّه كَانَ إِبْلِيس فَظهر لَهُ فِي هَيْئَة طَائِر ليفتنه فَأخْرج دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام(3/25)
رَأسه فَوَقع بَصَره على امْرَأَة حسناء تَغْتَسِل على رَأس بركَة فِي بستانها تَحت محراب دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فرأت ظله فِي الْبركَة وَأَنه قد اطلع عَلَيْهَا إِنْسَان فحركت شعرهَا فجللت جَمِيع جَسدهَا بشعرها فَرجع دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام من الكوة بجسده وَبَقِي الْقلب هُنَاكَ فَخرج من الْمِحْرَاب وَقصد بَيت الْمَرْأَة لينقلها إِلَى نِسَائِهِ لتَكون لنَفسِهِ فِي ذَلِك شِفَاء مِمَّا حدث حَتَّى يقدم زَوجهَا أَو ينْتَظر مَا يكون فَوقف على مدرجته ملكان يَقُول أَحدهمَا لصَاحبه لقد أكْرم الله إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب عَن مثل هَذَا الممشى فَلم ينْتَفع بِمَا سمع حَتَّى صَار من أمره إِلَى أَن كتب لصَاحب الْبَعْث أَن يقدم زَوجهَا إِلَى التابوت وَكَانَ من قدم لذَلِك لَا يرجع حَتَّى تفتح الْمَدِينَة أَو يقتل فَقدم زَوجهَا فِي نفر إِلَى التابوت فَقَاتلُوا حَتَّى قتلوا
واعتدت الْمَرْأَة فَخَطَبَهَا وَتَزَوجهَا واشتغل عَنْهَا بِالتَّوْبَةِ وَأَقْبل على الْعِبَادَة متداركا لما سلف مِنْهُ حَتَّى شغل عَن أُمُور بني إِسْرَائِيل وَجعل يَأْكُل قويهم ضعيفهم فَلَا يجد الضَّعِيف غياثا وَيُقِيم شهرا بِبَابِهِ فَلَا يصل إِلَيْهِ لشغله بِمَا أحدث من الْأَمر حَتَّى طمع فِيهِ سُفَهَاء بني إِسْرَائِيل وائتمروا فِي خلعه فَانْطَلقُوا إِلَى إِبْنِ لَهُ أكبرهم سنا وأعزهم عَلَيْهِ وَهُوَ يكرههُ فخدعوه ومنوه الْملك وَقَالُوا أَنْت أكبر ولد أَبِيك وَقد كبر أَبوك وشغل وَعجز عَن السياسة وضاعت حُقُوق النَّاس وأحكامهم وَأَنت أَحَق من يدارك ذَلِك وَلَا نرَاهُ يكره ذَلِك فَإِن هُوَ عاتبك فِي ذَلِك أخْبرته أَنَّك إِنَّمَا فعلت ذَلِك نظرا لَهُ وشفقة عَلَيْهِ حِين خشيت(3/26)
الْأُمَم وضياع النَّاس وخشيت على ملكه الْأَعْدَاء فَلم يزَالُوا يخدعونه حَتَّى بايعهم فَلم يشْعر دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى خلع وَأصْبح ابْنه يُبَايع النَّاس وَيَدْعُو إِلَى نَفسه
فَلَمَّا بلغ ذَلِك دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام عرف أَنه عُقُوبَة لذنبه فخاف الْفِتْنَة وَالْبَلَاء فهرب بِنَفسِهِ وَمَعَهُ أَمِير جنده وَصَاحب مشورته حَتَّى إِذا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق وَهُوَ يُرِيد جبلا يتحصن فِيهِ لقِيه رجل من بني إِسْرَائِيل قد غلب الْقُضَاة والحكام قبل دَاوُد فَلَمَّا ولي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أنصف مِنْهُ الضَّعِيف وَأقَام عَلَيْهِ الْحُدُود فَلَمَّا نظر الرجل دَاوُد فِي مذلة الْبلَاء قَالَ الْحَمد لله الَّذِي نزع ملكك وأهانك وأذلك وأفردك إِلَى نَفسك وَفرق عَنْك جموعك فسل ابْن أُخْت دَاوُد الَّذِي هُوَ أَمِير جُنُوده سَيْفه ليضربه فَقَالَ لَهُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام مهلا فَإِن هَذَا لَيْسَ هُوَ الَّذِي يسبني على لِسَانه وَلَكِن الله هُوَ الَّذِي يسبني على لساني بذنبي وخطيئتي وَمَتى كَانَ يطْمع هَذَا أَو يرومني حَتَّى يَأْذَن الله لَهُ فِي فَلم يظلمني رَبِّي وَأَنا الَّذِي ظلمت نَفسِي فَلَمَّا انْطَلقُوا هاربين كمنوا فِي تِلْكَ الْجبَال لَا يأمنون الْقَتْل
وَكَانَ لداود عَلَيْهِ السَّلَام صَاحب شُورَى يُقَال لَهُ نوفيل فَغَضب عَلَيْهِ وعزله واستبدل بِهِ فَقَالَ ابْن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام لنوفيل كَيفَ الرَّأْي فِي أمره قَالَ أَن تطَأ فرَاشه حَتَّى يستيقن النَّاس أَنه لَيست لداود بَقِيَّة عنْدك
قَالَ كَيفَ الرَّأْي فِي قِتَاله
قَالَ إِن كنت تُرِيدُ من يَوْم من الْأَيَّام فعجله الْيَوْم مَا دَامَ مخذولا مسخوطا عَلَيْهِ وَإِن أخرت أمره حَتَّى يَتُوب الله عَلَيْهِ وَيغْفر لَهُ لم تطقه فَهُوَ الَّذِي قتل جالوت وبز طالوت ملكه وأذل رِقَاب الْمُلُوك
ثمَّ اسْتَشَارَ ابْن دَاوُد آخر فَقَالَ لَهُ سَمِعت بِابْن نَبِي قتل أَبَاهُ(3/27)
أم هَل سَمِعت بِنَبِي أذْنب فَلم تقبل تَوْبَته أم مَاذَا تَقول لِرَبِّك يَوْم الْقِيَامَة وَقد قتلت نبيه وأباك ووطئت فرَاشه وَمَا وَجه من قتل أَبَا نَبيا ونكح أمه مَا أعلم يقبل مِمَّن فعل هَذَا صرف وَلَا عدل فَإِن كَانَ لَا محَالة أَنْت ضَابِط هَذَا الْملك وَبِمَا أَجمعت عَلَيْهِ من عقوق أَبِيك وخلعه فَلَا تطلبه وَلَا تقتله فَإِن كَانَ الله تَعَالَى قد أذن بفنائه فَمَا أَكثر معاريض الْبلَاء الَّتِي تكفيك ذَلِك مِنْهُ وَإِن كَانَت لَهُ مُدَّة وحياة يستكملها ألفيتك لم تأثم بِرَبِّك وَلم تفرط بوالدك
فَقَالَ الرَّأْي رَأْيك وَمَا أسمعك عرضت بغش وَلَا ادخرت نصيحة وَأَنا متابعك على مَا فِي قَلْبك وكاف عَن دَاوُد مَا كف عني فَإِن قاتلني حميت نَفسِي مَخَافَة أَن يظفر فَيَقْتُلنِي فَقَالَ لَهُ الرجل إِن دَاوُد لن يقاتلك حَتَّى يقبل الله تَوْبَته وَيَأْذَن لَهُ لِقِتَالِك وَإِن ظفر بك أحياك وأمنك فَإِنَّهُ أعظم حلما وأوسع عفوا من أَن يقتل وَلَده
ولبث دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام من يَوْم خرج إِلَى أَن رَجَعَ إِلَى ملكه سنتَيْن وَانْقطع الْوَحْي فَلَمَّا رد الله تَعَالَى إِلَيْهِ ملكه سرح ابْن أُخْته وَهُوَ أَمِير جنده فَأمره أَن يدْخل الْمَدِينَة ثمَّ يَدْعُو إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ويخبر بني إِسْرَائِيل أَن الله تَعَالَى قد قبل تَوْبَته ورد إِلَيْهِ ملكه فَاتَّبعُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُم انحازوا إِلَى ابْنه وكرهوا أَن ينْظرُوا إِلَى وَجه دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام بعد الَّذِي كَانَ مِنْهُم فَاسْتَقْبلُوا فَقَاتلُوا قتالا شَدِيدا حَتَّى قتلوا وكف ابْن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَلم يُقَاتل حَتَّى قتل أَصْحَابه
ثمَّ إِنَّه هرب حَيَاء من أَبِيه وَأَن لَا يرى أَبوهُ وَجهه فَتَبِعَهُ ابْن أُخْت دَاوُد وعهد إِلَيْهِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وحذره أَن يقْتله وَقَالَ لَهُ إياك أَن تقتله فَإِنِّي قَاتلك بِهِ إِذا خَالَفت أَمْرِي فَإِنَّهُ أعز وَلَدي عَليّ ابتلاني الله تَعَالَى بِهِ ليذلني وينقمني بذنبي ويهينني بخطيئتي وَينْزع ملكي ثمَّ تداركني عَفوه وَرَحمته فَعَفَا عني وَقبل مني وَقبل(3/28)
تَوْبَتِي فَيَنْبَغِي لي أَن أعفو كَمَا عَفا وَأَرْجُو لَهُ من التَّوْبَة مَا رَجَوْت لنَفْسي فَلَيْسَ هُوَ بأعظم جرما مني فالحذر على دَمه
فَلحقه فَوَجَدَهُ قد علقته شَجَرَة دخل عود مِنْهَا برنسه فاقتلعه من السرج وزلت الدَّابَّة من تَحْتَهُ حَتَّى اقتلعه الْعود فَبَقيَ مُعَلّقا وَذَهَبت الدَّابَّة فطعنه ابْن أُخْت دَاوُد بِالرُّمْحِ حَتَّى اعتدل فِيهِ وَترك وَصِيَّة دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ انْصَرف وَتَركه حَتَّى مَاتَ مُعَلّقا فَغَضب دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ إِنِّي قَاتلك عَاجلا أَو آجلا فوطن نَفسك على ذَلِك واستبقاه دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ كَانَ رجلا منصورا بعيد الصَّوْت والنكاية فِي الْعَدو فكره أَن يعجل قَتله فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة أوصى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام بقتْله فَقتله سَاعَة رفع يَده من قَبره
فَلَمَّا تيب عَلَيْهِ التَّوْبَة الظَّاهِرَة ورد الله تَعَالَى إِلَيْهِ ملكه وَاطْمَأَنَّ نزل عَلَيْهِ الْملكَانِ فتسورا الْمِحْرَاب على مَا قصّ الله تَعَالَى وانكشف عَنهُ الغطاء عَن فعله فبرز صَارِخًا متململا وَسجد سَجْدَة العويل وَالنوح دَامَ فِي ذَلِك أَرْبَعِينَ صباحا حَتَّى نبت العشب حول رَأسه من دموع عَيْنَيْهِ فَأَتَاهُ جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ يَا دَاوُد ارْفَعْ رَأسك فقد غفر لَك فَقَالَ يَا جبرئيل كَيفَ بِالرجلِ قَالَ إِن الله تَعَالَى قد أعاضه الْجنَّة وَقد غفر لَك فارفع رَأسك
وَأما مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ وافى بَاب زيد بن حَارِثَة وَوَقع بَصَره على امْرَأَته زَيْنَب بنت جحش رَضِي الله عَنْهَا وَهِي فِي خمار أسود وَكَانَت وسيمة وَذَات هَيْئَة وَهِي واقفة فِي صحن الدَّار فَوَقَعت فِي نَفسه فَقَالَ بكفيه على عَيْنَيْهِ وَتَوَلَّى وَقَالَ سُبْحَانَ مُقَلِّب الْقُلُوب والأبصار فَرجع إِلَى منزله فَلَمَّا آوى زيد إِلَى فرَاشه عجز عَنْهَا وحيل بَينه وَبَين إتيانها فَلَمَّا رأى ذَلِك أحس بِأَمْر حَادث من الله فجَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليُطَلِّقهَا فاعتل بعلل تطييبا لقلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ (اتَّقِ الله يَا زيد وَأمْسك عَلَيْك زَوجك) فَلم يزل زيد(3/29)
عَن عزمه الَّذِي عزم الله على قلبه فَكَمَا قلب قلب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهويها كَذَلِك قلب قلب زيد حَتَّى طَلقهَا وَانْقَضَت عدتهَا فَنزل الْقُرْآن الْكَرِيم بتزويجها مِنْهُ على لِسَان جبرئيل فَلَمَّا نزل قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} قَامَ عَلَيْهِ السَّلَام فَدخل عَلَيْهَا بِغَيْر إِذن وَهِي لَا تعلم شَيْئا فَقعدَ عِنْدهَا
فَأَما يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام حِين الْبلَاء قَالَ معَاذ الله إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي اعْتصمَ بِاللَّه تَعَالَى وَأخذ الْعدة من التَّعَوُّذ بِهِ وَذكر إِحْسَان من ملكه وكفران نعْمَته أَن يخون فِي أَهله
وَأما دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام حِين شخص لَهُ الْبلَاء اعْتصمَ بالحيل وَنقل تِلْكَ الْمَرْأَة إِلَى نِسَائِهِ لتطمئن النَّفس وَأما مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فزع إِلَى الله تَعَالَى فَردا حِين شخص لَهُ الْبلَاء واعتصم بفردانيته فَقَالَ سُبْحَانَ مُقَلِّب الْقُلُوب فَذكر نزاهته ومشيئته فَتعلق بهَا وتضرع إِلَيْهِ أَن لَا يقلبها إِلَى مَا لَا يَلِيق بِهِ وَلَا يحسن عِنْده فَكَانَ عُقبى نطق يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أَن تَركه حَتَّى هم بهَا وَكَاد الْأَمر أَن يكون ثمَّ تَدَارُكه برحمته الَّتِي بهَا نَالَ الاستخلاص وَصرف عَنهُ بالبرهان وَهُوَ جبرئيل فِي صُورَة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ سَبَب من الْأَسْبَاب وَكَانَ عُقبى تعلق دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَن تَركه حَتَّى هم بِمَا هم من شَأْن أوريا حَتَّى مضى الْأَمر إِلَى آخِره ثمَّ نبهه بالملكين وعاتبه وملأ الْمشرق وَالْمغْرب جزعا على مأتمه للمصيبة الَّتِي حلت بِهِ وللحرقات الَّتِي هَاجَتْ مِنْهُ وَصَارَت إنابته وتوبته حَدِيثا فِي الْعَالمين ليَكُون مدَدا للنواحين أَيَّام الدُّنْيَا
وَكَانَ عُقبى تعلق مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ولي خلاصه من ذَلِك بِنَفسِهِ فَردا وَمنع زيدا من إتيانها وَأخذ بِقَلْبِه عَنْهَا حَتَّى طَلقهَا ثمَّ ولي تَزْوِيجهَا(3/30)
مِنْهُ فَردا وَأَنْبَأَهُ من طَرِيق الْوَحْي أَن قد زَوَّجْنَاكهَا وَأخرج ذَلِك من تَدْبِير أهل الدُّنْيَا حَيْثُ تزوجوا بولِي ورضاء وشاهدان وَمهر فَهَذِهِ مرتبَة رفيعة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين أخرج تَزْوِيجه زَيْنَب من تَدْبيره لعامة من خلقه فزوج أمته من عَبده وَولي ذَلِك بكرمه وَرَحمته وَأشْهد الْوَحْي على ذَلِك وَجعل مرتبته صَدَاقا لَهَا مِنْهُ وَأعلم الْأمة مَحل هَذِه الْقُلُوب الثَّلَاثَة أَيْن كَانَت مِنْهُ وبروز قلب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سَائِر الْقُلُوب(3/31)
- الأَصْل الْخَامِس عشر والمائتان
-
فِي أَن أَبَا مُوسَى أُوتِيَ مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (لقد أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد) فَبلغ ذَلِك أَبَا مُوسَى فَقَالَ يَا رَسُول الله لَو علمت أَنَّك تسمع لقراءتي لحبرته لَك تحبيرا
الرَّمْز وَالزمر بِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن الرَّمْز بالشفتين وَالزمر بالحنجرة وَالرَّمْز بتحريك الشفتين فَإِذا كَانَ بِصَوْت فَهُوَ كَلَام لِأَنَّهُ يدْخل السّمع فيكلم الْقلب أَي يُؤثر فيصور مَعَاني ذَلِك الصَّوْت(3/32)
الَّذِي نطق بِهِ فِي الصَّدْر وَإِذا كَانَ بِغَيْر صَوت فَهُوَ رمز لِأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى حُرُوف شَفَتَيْه فَيقوم مقَام الصَّوْت فيفهم مِنْهُ وَأما الرَّمْز فَإِذا خرج الصَّوْت من جو الصَّدْر إِلَى جو الرَّأْس حرك الحنجرة المركبة بَعْضهَا على بعض حَتَّى يرد الصَّوْت ويرجعه فَإِذا تردد صَارَت لَهُ صداء وَبِذَلِك الصداء يَتلون الصَّوْت فَيصير ألوانا فتلذذ بِهِ لِأَن بَين اللونين تدبيرا من تَدْبِير الله تَعَالَى ولطفا من لطفه ففصل بَين اللونين حَتَّى إِذا سَمِعت الأول ورد الثَّانِي ثمَّ عَاد الأول فورد على السّمع طريا ثمَّ عَاد الثَّانِي فورد طريا فَتلك الطراوة على السماع وجود اللَّذَّة وَلِهَذَا إِذا دَامَ اللَّوْن سمج وفقدت لذته فَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن هَذِه الْأَصْوَات الزَّائِدَة على أصوات الْعَامَّة من عَطاء رَبنَا وفضله وَإِنَّمَا يُؤْتِي من يَشَاء من رَحمته فَلَمَّا بلغ ذَلِك أَبَا مُوسَى رَضِي الله عَنهُ عظمت منَّة الله تَعَالَى عَلَيْهِ أَن ركب فِي جِسْمه وخلقته شَيْئا لَهُ موقع عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عطايا ربه فَقَالَ لَو علمت أَنَّك تسمع لقراءتي لحبرته تحبيرا
والتحبير تلوين الصَّوْت وَمِنْه برد حبرَة إِذا كَانَ ذَا ألوان وَقَالَ تَعَالَى {فِي رَوْضَة يحبرون}
وَخص أهل الْيَقِين بِهَذَا لِأَن النُّور يفتح سدد تِلْكَ الطّرق الَّتِي هِيَ مخارج الصَّوْت فيصفو
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (لم يبْعَث نَبِي إِلَّا حسن الصَّوْت حسن الصُّورَة)
وَأَبُو مُوسَى رَضِي الله عَنهُ كَانَ من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى المشتعلة(3/33)
قُلُوبهم بنوره سَلام الله عَلَيْهِم وَالَّذين لَا تملكهم نُفُوسهم بل أوفرهم حظا فَلم يكن تَأْخُذهُ محمدة الْخلق فتملكه فَلذَلِك أمكنه أَن يَقُول لَو علمت أَنَّك تستمع لقراءتي لحبرته تحبيرا يَبْتَغِي بذلك سرُور رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (المخلص من لَا يحب أَن يحمده النَّاس فِي شَيْء من عمله)
وأحق من ينْفق عَلَيْهِ صَوته الْمَمْنُون عَلَيْهِ بذلك هُوَ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن الصَّوْت الْحسن حلية الْقُرْآن
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لكل شَيْء حلية وزينة وَحلية الْقُرْآن الصَّوْت الْحسن
وَالدَّلِيل أَن أَبَا مُوسَى رَضِي الله عَنهُ كَانَ من الْأَوْلِيَاء أَنه نزل قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (نعم قوم هَذَا) وَأَشَارَ إِلَى أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ فَمَا لَبِثُوا إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قدمت سفائن الْأَشْعَرِيين وقبائل الْيَمين من طَرِيق الْبَحْر وَكَانَ لَهُم بلَاء فِي الْإِسْلَام فِي زمن(3/34)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَت عَامَّة فتوح الْعرَاق على يَدي قبائل الْيمن فِي زمن عمر رَضِي الله عَنهُ
وَعَن زيد بن أسلم رَضِي الله عَنهُ أَن الْأَشْعَرِيين أَبَا مُوسَى وَأَبا مَالك وَأَبا عَامر فِي نفر مِنْهُم لما هَاجرُوا قدمُوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي فلك وَقد أرملوا من الزَّاد فأرسلوا رجلا مِنْهُم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَله فَلَمَّا انْتهى إِلَى بَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَمعه يقْرَأ هَذِه الْآيَة {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} فَقَالَ الرجل مَا الأشعريون بِأَهْوَن الدَّوَابّ على الله فَرجع وَلم يدْخل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لأَصْحَابه (أَبْشِرُوا أَتَاكُم الْغَوْث) وَلَا يظنون إِلَّا أَنه قد كلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوعده
فَبينا هم كَذَلِك إِذْ أَتَاهُم رجلَانِ يحْملَانِ قَصْعَة بَينهمَا مملوءا خبْزًا وَلَحْمًا فَأَكَلُوا مِنْهَا مَا شَاءُوا ثمَّ قَالَ بَعضهم لبَعض لَو أَنا رددنا هَذَا الطَّعَام إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليقضي بِهِ حَاجته فَقَالُوا للرجلين اذْهَبَا بِهَذَا الطَّعَام إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّا قد قضينا مِنْهُ حاجتنا ثمَّ إِنَّهُم أَتَوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا يَا رَسُول الله فَمَا رَأينَا طَعَاما أَكثر وَلَا أطيب من طَعَام أرْسلت بِهِ فَقَالَ يَا رَسُول الله فَمَا رَأينَا طَعَاما أَكثر وَلَا أطيب من طَعَام أرْسلت بِهِ فَقَالَ (مَا أرْسلت إِلَيْكُم شَيْئا) فأخبروه أَنهم أرْسلُوا صَاحبهمْ فَسَأَلَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ مَا صنع وَمَا قَالَ لَهُم فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك شَيْء رزقكموه الله سُبْحَانَهُ
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (يقدم عَلَيْكُم قوم هم أرق أَفْئِدَة مِنْكُم) فَقدم الأشعريون فيهم أَبُو مُوسَى(3/35)
رَضِي الله عَنهُ فَجعلُوا يرتجزون وَيَقُولُونَ غَدا نلقى الْأَحِبَّة مُحَمَّدًا وَحزبه
وَقَوله (من مَزَامِير آل دَاوُد) فَإِن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام يقْرَأ الزبُور بسبعين صَوتا يلون فِيهَا وَكَانَ يقْرَأ قِرَاءَة يطرب مِنْهَا المحموم وَكَانَ إِذا أَرَادَ أَن يبكي نَفسه لم تبْق دَابَّة فِي بر وَلَا بَحر إِلَّا سمعن لصوته
وَعَن عبيد بن عُمَيْر رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام يَأْخُذ المعزفة فَيضْرب بهَا ثمَّ يقْرَأ عَلَيْهِم يُرِيد أَن يبكي بذلك ويبكي والمعزفة تهيج من مَعْدن السرُور مَا فِيهِ لَا من مَوضِع الْحزن فَدلَّ أَن هَذَا بكاء الشوق يبكي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ويبكي المشتاقين لِأَن المشتاق الهائم من طول الْغَيْبَة عَمَّن اشتاق إِلَيْهِ يشْتَد حزنه وَفِي بَاطِن حزنه السرُور لِأَن الْحبّ أَصله وَالسُّرُور من الْحبّ والشوق من السرُور والحزن من أجل الشوق فَإِذا لَاقَى قلبه أصوات السرُور بكي.(3/36)
- الأَصْل السَّادِس عشر والمائتان
-
فِي بئس العَبْد من ثَمَانِيَة أوجه والتحذير مِنْهَا
عَن أَسمَاء بنت عُمَيْس رَضِي الله عَنْهَا قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (بئس العَبْد عبد تجبر واعتدى وَنسي الْجَبَّار الْأَعْلَى بئس العَبْد عبد سهى وَلها وَنسي المبدأ والمنتهى بئس العَبْد عبد بغى وعتا وَنسي الْمَقَابِر والبلى بئس العَبْد عبد يحتال بِالدّينِ وَالدُّنْيَا بئس العَبْد عبد يخْتل الدُّنْيَا بِالشُّبُهَاتِ بئس العَبْد عبد يذله الرعب عَن الْحق بئس العَبْد عبد طمع يَقُودهُ بئس العَبْد عبد هوى يضله)
قَوْله (تجبر واعتدي) احتشى من الشَّهَوَات وَعمل بهواه وجبر الْخلق على هَوَاهُ وَصَارَ ذَلِك لَهُ عَادَة واعتدى فِي جبريته وَنسي(3/37)
الْجَبَّار الْأَعْلَى الَّذِي لَهُ الْجَبْر وَقد صغرت الدُّنْيَا بِمن فِيهَا والملكوت فِي ملك جبروته ودق
وَقَوله (سَهَا وَلها) سَهْوه بالأماني ولهوه بالشهوات وَنسي المبدأ من أَيْن خلق وَنسي الْمُنْتَهى إِلَى أَيْن يرد
وَقَوله (بغى وعتا) أَي طلب الْعُلُوّ كلما رأى من الدُّنْيَا دَرَجَة أحب أَن ينَال ذَلِك ويسلب غَيره ليتفرد بهَا دون نظرائه (وعتا) يبس قلبه فَإِن حرارة شَهْوَته انتشفت رُطُوبَة قلبه وَمَا ركب فِيهِ من الرأفة وَالرَّحْمَة الخلقية وَنسي أَن الْقَبْر متضمنه ومحتوى على أَرْكَانه ومبلي لَحْمه وَدَمه أكلا
وَقَوله (يحتال الدُّنْيَا بِالدّينِ) فَهُوَ متصنع مداهن همته فِيمَا يعرض لَهُ فِي العاجل من النهمة مَتى ينالها لبعد قلبه عَن الْآخِرَة مترصد للتوثب على الدُّنْيَا لينالها وليظفر بهَا منتهزا لفرصتها يتحلى بِظَاهِر الْإِيمَان ليطارد بِهِ الدُّنْيَا وصير معالم الْإِيمَان شبكة لحطامها وأوساخها يظْهر الْخُشُوع بالتماوت ليحظى عِنْد أهل الدُّنْيَا فينال من عزها وجاهها ويتحازن عِنْد لِقَاء الْخلق ويتنفس الصعداء يظْهر الاهتمام لدينِهِ والتحسر على إدبار أمره وأسفه على مَا يفوتهُ من الدُّنْيَا وَيمْتَنع من قبُول النزر الْيَسِير من الدُّنْيَا ليَكُون فِي هَيْئَة الزاهدين وَلِئَلَّا ينكسر جاهه عِنْد الْخلق وَيصير عِنْدهم فِي صُورَة الراغبين وَمَعَ ذَلِك قد هيأ على كل بَاب من منالات الدُّنْيَا بَابا من أَبْوَاب الدّين ليختله من أَيْديهم يظْهر الزهادة ليمال عَلَيْهِم الدُّنْيَا وَيظْهر الْعِبَادَة لتكفي مؤنه وَيظْهر الْوَرع ليؤتمن على الْأَمْوَال وَيظْهر الانقباض ليهاب وَيظْهر الشره على أهل الريب ليشار إِلَيْهِ بالأصابع وَيطْلب الرياسة ليحكم فِي الْخلق فِي مُعَامَلَته تحكم الْمُلُوك وَيطْلب الْعِزّ لنفاذ مشيآته فيهم
قَوْله (يخْتل الدُّنْيَا بِالشُّبُهَاتِ) فَهُوَ رجل فر من الْحَرَام ويغمص عِنْد الشُّبْهَة يُخَادع الله تَعَالَى بذلك وَيَقُول أفر من الْحَرَام(3/38)
وَقَوله (يذله الرعب عَن الْحق) إِذا استقبله حق من حُقُوق الله تَعَالَى فَأَرَادَ أَن يقيمه جَاءَت النَّفس بِسوء ظَنّهَا فخوفته وُجُوه المهالك حَتَّى ترعبه فتذله قد علاهُ الرعب من سوء الظَّن فانكسر قلبه وانخلع جبنا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (شَرّ مَا فِي الْإِنْسَان حرص هَالِع وَجبن خَالع)
وَقَوله (طمع يَقُودهُ) هُوَ أَن يتَمَنَّى أمرا من شهوات الدُّنْيَا فَلَا يزَال يتَمَنَّى ويفكر حَتَّى يجد طمعه فِي الْفِكر الَّذِي جال فِي صَدره فَإِذا وجد الْقلب طمعه قادته تِلْكَ الشَّهْوَة
وَقَوله (هوى يضله) هُوَ ترك الْحق فِي أُمُوره وَفِي سيره إِلَى الله تَعَالَى حَتَّى يَقع فِي الْبَاطِل والهوى والزيغ عَن سَوَاء السَّبِيل(3/39)
- الأَصْل السَّابِع عشر والمائتان
-
فِي سر دعوات أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ
عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَتَاهُ جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَام فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْده إِذْ أقبل أَبُو ذَر فَنظر إِلَيْهِ جبرئيل فَقَالَ هُوَ أَبُو ذَر قلت يَا أَمِين الله وتعرفون أَنْتُم أَبَا ذَر فَقَالَ نعم وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ ان أَبَا ذَر أعرف فِي أهل السَّمَاء مِنْهُ فِي أهل الأَرْض وَإِنَّمَا ذَلِك لدعاء يَدْعُو بِهِ كل يَوْم مرَّتَيْنِ وَقد تعجبت الْمَلَائِكَة مِنْهُ فَادع بِهِ فسل عَن دُعَائِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (يَا أَبَا ذَر دُعَاء تَدْعُو بِهِ كل يَوْم مرَّتَيْنِ) قَالَ نعم فدَاك أبي وَأمي مَا سمعته من بشر وَإِنَّمَا هُوَ عشرَة أحرف ألهمني رَبِّي إلهاما وَأَنا أَدْعُو بِهِ كل يَوْم مرَّتَيْنِ أستقبل الْقبْلَة فأسبح الله مَلِيًّا وَأهْلك مَلِيًّا وأحمده مَلِيًّا وأكبره مَلِيًّا ثمَّ أَدْعُو بِتِلْكَ الْعشْر الْكَلِمَات اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك إِيمَانًا دَائِما وَأَسْأَلك قلبا خَاشِعًا وَأَسْأَلك علما نَافِعًا وَأَسْأَلك يَقِينا صَادِقا وَأَسْأَلك دينا قيمًا وَأَسْأَلك الْعَافِيَة من(3/40)
كل بلية وَأَسْأَلك تَمام الْعَافِيَة وَأَسْأَلك دوَام الْعَافِيَة وَأَسْأَلك الشُّكْر على الْعَافِيَة وَأَسْأَلك الْغنى عَن النَّاس
قَالَ جبرئيل يَا مُحَمَّد وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا يَدْعُو أحد من أمتك هَذَا الدُّعَاء إِلَّا غفرت لَهُ ذنُوبه وَإِن كَانَت أَكثر من زبد الْبَحْر وَعدد تُرَاب الأَرْض وَلَا يلقاك أحد من أمتك وَفِي قلبه هَذَا الدُّعَاء إِلَّا اشتاقت إِلَيْهِ الْجنان واستغفر لَهُ الْمَكَان وَفتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة وَنَادَتْ الْمَلَائِكَة يَا ولي الله أَدخل من أَي بَاب شِئْت
(إِيمَانًا دَائِما) أَن يَدُوم لَهُ توحيده حَتَّى يخْتم لَهُ بذلك فَلَا يسلبه فَيلقى ربه بإيمانه وَأَن يكون لَهُ يَقِين يصير أُمُوره مُعَاينَة وَلَا يَنْقَطِع ذكر الله تَعَالَى عَن قلبه على كل حَال وَيصير قلبه خَالِيا عَن ذكر كل شَيْء وينفرد للفرد الْوَاحِد فيأنس بِهِ ويطمئن إِلَى حكمه وَإِذا غلبته شَهْوَة أَو رَغْبَة أَو رهبة أَو غضبة فملكته نَفسه صَار إيمَانه فِي قلبه كشمس قد انكسفت فَذهب ضوؤها فَسَأَلَ إِيمَانًا دَائِما أَي يَدُوم لَهُ شمسه فَلَا تنكسف حَتَّى يكون صَدره مستنيرا بِنور الْيَقِين فِي كل أَمر
وَمِنْه قَول أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ حِين بلغه أَن فلَانا أعتق مائَة رَقَبَة إِيمَان ملزوم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَلِسَانك رطب بِذكر الله تَعَالَى أفضل من ذَلِك
وَقَالَ ابْن رَوَاحَة رَضِي الله عَنهُ إِذا دَامَ الْإِيمَان على الْقلب دَامَ الذّكر
وَمن هَهُنَا قَالَ معَاذ رَضِي الله عَنهُ تعال نؤمن سَاعَة(3/41)
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَشد الْأَعْمَال ذكر الله تَعَالَى على كل حَال
(وَقَلْبًا خَاشِعًا) مَاتَت شهواته فذلت النَّفس لله تَعَالَى وخشع الْقلب مِمَّا طالع من جلال الله تَعَالَى وعظمته
(وعلما نَافِعًا) هُوَ الَّذِي تمكن فِي الصَّدْر وتصور بِالنورِ الَّذِي أشرق فِي الصَّدْر فتصور الْأُمُور حسنها وسيئها فَيَأْتِي حسنها ويجتنب سيئها فَذَلِك الْعلم النافع من نور الْقلب وَالْعلم الَّذِي تعلمه فَذَلِك علم اللِّسَان إِنَّمَا هُوَ شَيْء قد استودع الْحِفْظ والشهوة غالبة عَلَيْهِ قد أحاطت وأذهبت بظلمتها ضوءه
(ويقينا صَادِقا) يَنْفِي الشَّك وَلَا يغلب الشَّهْوَة وَهُوَ يَقِين التَّوْحِيد ويقين آخر نور مشرق للصدر غَالب للشهوات صَارَت لَهُ أُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأمر الملكوت مُعَاينَة قد ورث قلبه الخشية والمحبة والهيبة والتعظيم لله عز وَجل
(ودينا قيمًا) أَي الخضوع لله تَعَالَى بأَمْره وَنَهْيه بِأَن يكون مسيره إِلَيْهِ فِي الشَّرِيعَة على سَبِيل الاسْتقَامَة لَا زيغ فِيهِ وَلَا بِدعَة فَيحل مَا أحله وَيحرم مَا حرمه وَيُؤَدِّي فَرَائِضه ويجتنب مساخطه قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} الْآيَة وَأَعلاهُ أَن يدين لله تَعَالَى حَتَّى لَا يلْتَفت إِلَى أحد سواهُ فَيكون هُوَ ملجأه ومفزعه
(والعافية من كل بلية) بلية تَعْجِيل عُقُوبَة العَبْد مثل مَا نزل بِيُوسُف(3/42)
عَلَيْهِ السَّلَام من لبثه فِي السجْن بالهم وبلية امتحان مثل مَا نزل بِأَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}
وبلية كَرَامَة مثل مَا نزل بِيَحْيَى بن زَكَرِيَّا الَّذِي لم يعْمل خَطِيئَة قطّ وَلم يهم بهَا فذبح ذبحا وأهدي رَأسه إِلَى بغي من بَغَايَا بني إِسْرَائِيل فَسَأَلَ الْعَافِيَة من ذَلِك كُله
والعافية أَن لَا يكله إِلَى نَفسه وَلَا يَخْذُلهُ بل يكلؤه ويرعاه فِي كل هَذِه الْوُجُوه
(ودوام الْعَافِيَة) أَن تدوم لَهُ فَلَا تَنْقَطِع وَتَمام الْعَافِيَة أَن تكون عَافِيَة لَا شوب فِيهَا وَالشُّكْر على الْعَافِيَة فَإِن بِهِ ترتبط النِّعْمَة ويجلب الْمَزِيد والغنى عَن النَّاس بالاستغناء بِاللَّه تَعَالَى وَفِيه الْخُرُوج من الرّقّ إِلَى الْحُرِّيَّة(3/43)
- الأَصْل الثَّامِن عشر والمائتان
-
فِي أَن الْعين حق
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْعين حق وَلَو كَانَ شَيْء سَابِقًا الْقدر لسبقه الْعين وَإِذا استغسلتم فَاغْسِلُوا)
قَالَ أَبُو عبد الله رَحمَه الله كَانَ الله وَلَا شَيْء ثمَّ أبدا ملكه وربوبيته ثمَّ خلق الْخلق لإِظْهَار ملكه ليدينوا لَهُ عبودة وَلَا يشغلوا بالأشياء عَن صانع الْأَشْيَاء فيلهيهم عَنهُ ويفتتنوا بهم فَإِذا أعجب وَاحِد بِشَيْء من خلقه غير ذَلِك الْحَال ليفسد إعجابه وَكَانَ هَذَا حق من فعله لِأَن شَرطه حِين خلق الْخلق أَن ينتظروا إِلَى صنعه ويرونه مَحْمُودًا
قَوْله (لَو كَانَ شَيْء سَابِقًا الْقدر لسبقته الْعين) فَإِن الله تَعَالَى(3/44)
قدر الْمَقَادِير قبل الْخلق بِخَمْسِينَ ألف سنة فَلَيْسَ شَيْء من الْخلق سبق الْقدر لأَنهم خلقُوا بعد الْقدر وَإِنَّمَا قدر الْخلق ليخلق وَيظْهر ملكه وربوبيته فيحمدوه ويعبدوه ويضيفوا الْأَشْيَاء إِلَى وَليهَا وصانعها كَمَا رُوِيَ أَن الله تَعَالَى قَالَ (مَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس لحَاجَة كَانَت بِي إِلَيْهِ وَلَكِن لأبين بِهِ قدرتي ولأعرف بِهِ الناظرين نَفسِي ولينظروا فِي ملكي وتدبير حكمتي وليدين الْخَلَائق كلهَا لعزتي ويسبح الْخلق بحمدي ولتعنو الْوُجُوه كلهَا لوجهي)
فَمن غفل عَن الله تَعَالَى وَنظر إِلَى الْأَشْيَاء بِعَين الْغَفْلَة فيعجب بهَا وَتصير فتْنَة عَلَيْهِ وَمن شَرط الله تَعَالَى أَن يعتبروا وعبروا عَن الْأَشْيَاء إِلَى خَالِقهَا فَإِذا لم يعتبروا وبقوا مَعَ الْأَشْيَاء عجبا وفتنة فسد ذَلِك الشَّيْء عَلَيْهِم كي ينبئهم ويعير عَلَيْهِم عجبهم وَقد تقدم شَرط الْقدر على الْخلق فَلَو كَانَ شَيْء سَابق الْقدر لسبقته الْعين لقُرْبه وجواره لَهُ وَلَا يسْبقهُ لِأَن الْقدر قبل أَن يخلق الْخلق
وَقَوله (فَإِذا استغسلتم فَاغْسِلُوا) هَكَذَا جرت السّنة أَن العاين يتَوَضَّأ أَو يغْتَسل ليغسل بِتِلْكَ الغسالة هَذَا المعان فيخف مَا بِهِ وينحل من ثقله كَمَا ينْحل صَاحب الأخذة من سحره
فَإِن أَخذه المعان من قبل الْحق فَإِن الْحق عز وَجل يَقْتَضِي أَن ينسبوا الْأَشْيَاء إِلَى وَليهَا ومالكها وَلَا يرضى أَن تُضَاف إِلَى غير خَالِقهَا فَإِذا أخذت الْأَشْيَاء عَن الْأَسْبَاب فِي حَالَة الْغَفْلَة عَن الله تَعَالَى وَالشّرط النّظر إِلَى صنع الله تَعَالَى ولطفه فِي صنعه وبره بِالْعَبدِ وَعطفه عَلَيْهِ فَاقْتضى الْحق تَعَالَى شكره لوَلِيّ الْخلق فَإِذا نظرُوا إِلَى الْأَشْيَاء فَأُعْجِبُوا بهَا نَاشد الْحق وَليهَا فِي إِفْسَاد مَا بِهِ أعجبوا لِأَن تِلْكَ النِّعْمَة(3/45)
حدثت من الْملك من خَزَائِن الْمِنَّة على أَيدي لطفه فغيرها الْعباد بعمى النُّفُوس عَن جِهَتهَا فَغير الله تَعَالَى مَا بهم قَالَ الله تَعَالَى {ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} الْآيَة
فَغير الله تَعَالَى الْحَال وأفسد عَلَيْهَا إعْجَابهَا رَحْمَة للنَّاظِر والمنظور إِلَيْهِ ليَكُون للنَّاظِر عِبْرَة وللمنظور إِلَيْهِ خُرُوجًا من أَن يكون سَببا لما كره الله تَعَالَى من فتْنَة الْعباد من دونه فَأمر هَذَا العاين أَن يغْتَسل فَإِن الغسالة مرفوضة تعافها النَّفس وَجعل الله الشِّفَاء فِيمَا رفضت نَفسهَا وعافته إِذْ لَيْسَ شَيْء فِي الأَرْض مِمَّا يلائم النَّفس إِلَّا وَلها فِيهِ شَهْوَة وإليها نزوع فَإِذا استشفي هَذَا المعان بِمَا قد رفضت نفس العاين وَلَيْسَ لَهَا فِيهِ شَهْوَة وَلَا إِرَادَة تخلصت من آفَة النَّفس تقربا إِلَى الله تَعَالَى بِخِلَافِهَا وَالرَّدّ عَلَيْهَا تأميلا للشفاء وَحسن ظَنّه بِهِ فحقق الله تَعَالَى أمله ويفي بِالظَّنِّ فيعافيه وَصَارَت النَّفس مزجورة مذمومة بِفِعْلِهَا
وَعَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَكثر من يَمُوت من أمتِي بِالنَّفسِ بعد كِتَابه وقضائه) يَعْنِي بِالْعينِ
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتِيم مَرِيض فَسَأَلَ عَنهُ يَوْمًا فَقَالُوا إِنَّه لمثبت يَا رَسُول الله قَالَ (أَفلا استرقيتم فَإِن ثلث منايا أمتِي من الْعين) وَإِنَّمَا صَار كَذَلِك لِأَن هَذِه الْأمة فضلت بِالْيَقِينِ على سَائِر الْأُمَم فحجبوا يقينهم بالشهوات فعوقبوا(3/46)
بِآفَة رَحْمَة من الله لَهُم فَإِنَّهُ لما فَضلهمْ بِالْيَقِينِ وَهُوَ التأييد الْأَعْظَم لم يرض مِنْهُم بِأَن ينْظرُوا إِلَى الْأَشْيَاء بِعَين الْغَفْلَة وتتعطل منَّة الله تَعَالَى عَلَيْهِم وتفضيله إيَّاهُم وَالله أعلم(3/47)
- الأَصْل التَّاسِع عشر والمائتان
-
فِي الِاسْتِعَاذَة بِاللَّه تَعَالَى
عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من استعاذكم بِاللَّه فأعيذوه وَمن سألكم بِاللَّه فَأَعْطوهُ وَمن استجاركم بِاللَّه فأجيروه وَمن أَتَى إِلَيْكُم مَعْرُوفا فكافئوه فَإِن لم تَجدوا فَادعوا لَهُ حَتَّى تعلمُوا أَن قد كافأتموه)
الِاسْتِعَاذَة بِاللَّه تَعَالَى دُخُول فِي مأمنه وحريمه وَمن التجأ إِلَى ملك فِي الدُّنْيَا هاب طَالبه أَن يتَكَلَّف عَنهُ أَذَى وكف عَنهُ إعظاما لمن التجأ إِلَيْهِ وَلم يرض الْملك أَن يتَكَلَّف الطَّالِب مِنْهُ بعد ذَلِك مَكْرُوها وَإِن خذله عد ذَلِك منقصة فَكيف مِمَّن دخل فِي عياذ الله وجواره
وَقَوله (من سألكم بِاللَّه فَأَعْطوهُ) فالسؤال بِاللَّه أَن يسْأَل ربه أَن يسْأَل هَذِه الْحَاجة لَهُ فَكَأَنَّهُ صير الرب عز وَجل سَائِلًا بَينه وَبَين صَاحبه إِذا سَأَلَ بِحَق وَالله تَعَالَى لَا يرد وَإِذا سَأَلَ بباطل فَإِنَّهُ لن يسْأَل بِاللَّه تَعَالَى وَإِنَّمَا يسْأَل بالشيطان(3/48)
سَأَلَ رجل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ شَيْئا فَلم يُعْطه فَقَالَ أَسأَلك بِوَجْه الله تَعَالَى فَقَالَ لَهُ كذبت لَيْسَ بِوَجْه الله سَأَلتنِي إِنَّمَا وَجه الله الْحق وَلَكِن سَأَلت بِوَجْهِك الْخلق
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من سألكم بِاللَّه فَأَعْطوهُ وَإِن شِئْتُم فَدَعوهُ)
قَالَ معَاذ رَضِي الله عَنهُ فَإِن سَأَلَ وَهُوَ مُسْتَحقّ فَإِن لم تعطوه فَأنْتم ظلمَة وَإِن عَرَفْتُمْ أَنه غير مُسْتَحقّ أَو اشْتبهَ عَلَيْكُم فَلم تعرفوا أَنه سَأَلَ بِحَق فَيجوز أَن لَا تعطوه وَأما الْمَعْرُوف فَإِنَّهُ يُكَافِئ فَإِن لم يجد الْمُكَافَأَة فالدعاء أكبر من الْمُكَافَأَة بالشَّيْء لِأَن الَّذِي أعطَاهُ عوضا من الدُّنْيَا وَهَذَا قد كافأه بِالْمَسْأَلَة من الله تَعَالَى نوالا ونوال العَبْد يدق فِي جنب نوال الله تَعَالَى وَالْعَبْد إِذا صنع إِلَيْهِ مَعْرُوف فَلم يجد مَا يُكَافِئ اشْتَدَّ عَلَيْهِ لكرم طبعه وَكَونه عَارِفًا بالصنائع شاكرا لَهُ فَأَثْقَله مَعْرُوفَة فأوعزته الْحَاجة من الْخَلَائق من أثقال مَعْرُوفَة فَفَزعَ إِلَى الله تَعَالَى وَسَأَلَهُ أَن يُكَافِئهُ عَنهُ وَهُوَ يحب هَذَا الْخلق من الْمُؤمن فَإِنَّهُ مَحْض الشُّكْر فقمن أَن يستجيب لَهُ(3/49)
- الأَصْل الْعشْرُونَ والمائتان
-
فِي أَن الْقلب ملك والأركان عبيد
عَن النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله أَلا وَهِي الْقلب
الْقلب ملك والأركان عبيد وَإِنَّمَا يعْمل كل ركن فِي معمله بِمَشِيئَة الْقلب وَأمره وَالْقلب عَن مَشِيئَة الله تَعَالَى شَاءَ لم يكله إِلَى أحد سواهُ وَلم يطلع عَلَيْهِ أحدا يضع فِيهِ مَا يَشَاء وَيرْفَع مِنْهُ مَا شَاءَ والنور والتوحيد فِيهِ والطاعات مِنْهُ وفكر ذَلِك كُله فِي الصَّدْر وَعنهُ تصدر الْأُمُور وَلذَلِك سمي صَدرا وَالْقلب لتقلبه وَالْقلب مَعْدن النُّور ومستقر التَّوْحِيد ومنظر الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والصدر مَوضِع التَّدْبِير والفكر وَالنَّفس مَعْدن الشَّهَوَات فَإِذا وجدت النَّفس طَرِيقا إِلَى الْقلب مرت بشهواتها إِلَيْهِ فدنست الْإِيمَان(3/50)
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (الْغَضَب يفْسد الْإِيمَان كَمَا يفْسد الصَّبْر الْعَسَل)
وَقَالَ أَيْضا عَلَيْهِ السَّلَام (الْإِيمَان حُلْو نزه فنزهوه ونزاهته أَن تفطم نَفسك عَن الشَّهَوَات حَتَّى لَا يصل إِلَى قَلْبك مِنْهُ بِمَنْزِلَة مَاء صَاف جرى إِلَيْهِ مَاء كدر فَذهب بصفائه أَو عسل ماذي وصل إِلَيْهِ الصَّبْر فَغَيره عَن حَالَته لِأَنَّهُ إِذا اسْتَقر فِي قلب الْمُؤمن تَوْحِيد رب كريم ودود ظهر لَهُ وداده وَكَرمه وبره فقد وجد حلاوة التَّوْحِيد ونزاهته فَإِذا جَاءَت شهوات النَّفس سَبِيلا إِلَى الْقلب فخالطته وكدرته ومازجت حلاوته فدنست وكدرت فَأَي خسران أعظم من هَذَا وَمن خلع عَلَيْهِ ملك خير خلعه فِي خزانته فدنسها بقلة التوقي لَهَا عَن مَوَاضِع الدنس أَو لم يكن محقوقا أَن يسلب فيهان أم لَيْسَ على حَيَاء من فعله فِي الْيَوْم الَّذِي دخل على الْملك بِتِلْكَ الخلعة فَمَا ظَنك بِمن خلع الله تَعَالَى عَلَيْهِ التَّوْحِيد فدنسه فَانْظُر مَاذَا حل بِهِ إِذا دخل عَلَيْهِ وَالْقلب مثله مثل ملك لَهُ عبيد لَهُم هَيْئَة وشارة ومراكب وزي الْأَغْنِيَاء وَالْملك فَقير معدم لَيْسَ لَهُ مَادَّة وَلَا كنز فَإِذا نظر إِلَيْهِ الْعَاقِل يَقُول لَيْسَ لهَذَا الْأَمر نظام وَلَا لَهُ دوَام فَإِنَّهُ معدم
فَهَذِهِ الهيئآت الَّتِي أَرَاهَا لَا تدوم وسيحتاج إِلَى مثلهَا وَلَيْسَ لَهُ مدد وَإِن برز لَهُ مناوئ يكون زَوَال ملكه وضياع هَؤُلَاءِ العبيد وَنظر أَحْوَالهم وَإِن كَانَ الْملك ذَا كنوز ومادة وَالْعَبِيد فِي هَيْئَة بذة يَقُول فِي نَفسه لَهُ بيُوت أَمْوَال من الْكُنُوز فَفِي سَاعَة وَاحِدَة يصيرهم فُرْسَانًا بِجَمِيعِ آلتهم ويكسوهم من الْكسْوَة ويعطيهم من الْعدة مَا يعرفهُمْ لغناه فَكَذَلِك من كَانَ قلبه بَين يَدي الله تَعَالَى فِي غناهُ وسلطانه وَقد احتظى(3/51)
مِنْهُ الْحَظ الأوفى من جَلَاله وعظمته وكبريائه ومجده فَهُوَ فِي تِلْكَ الْأَنْوَار مشرق صَدره بهَا
فَإِذا رأى أَرْكَانه معطلة من أَعمال الْبر لم يحيره ذَلِك لِأَن الْملك غَنِي فعري الأرقام لَا يضرّهُ إِذْ لَا يتْرك فرضا وَإِنَّمَا يتْرك فضلا وَلَا تستبين الْفَضَائِل فِي جنب مَا تفضل الله تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ من مَعْرفَته الَّتِي برز بهَا على الْخلق وَقد عرف الله تَعَالَى معرفَة وثق بِهِ فِي جَمِيع أَحْوَاله وفوض أُمُوره إِلَيْهِ
فَانْظُر إِلَى تَدْبيره مراقبا لَهُ قَابلا لأحكامه قنعا بِالَّذِي يُؤْتى من دُنْيَاهُ مؤتمرا بأَمْره مطمئنا بِهِ لَيست لَهُ همة وَلَا نهمة وَلَا قَرَار إِلَّا الْخَلَاص من هَذَا السجْن الَّذِي أَخذ بِنَفسِهِ قد ضَاعَت عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَصَارَت سجنا لطول احتباسه لِأَنَّهُ ظمآن إِلَى لِقَاء مَوْلَاهُ
وَأي شَيْء ألذ من لِقَاء العَبْد سَيّده الَّذِي كَانَ أمله من الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَأَما الْإِبَاق من العبيد الَّذين جهلوا سيدهم لَا يحب لِقَاء سَيّده وَهل شَيْء أثقل عَلَيْهِ من لِقَائِه لأَنهم استطابوا الْحُرِّيَّة وتعجلوها بتقلبهم فِي دنياهم وشهواتهم وهربوا من العبودة فهم وَإِن كَانُوا قد عرفوه وَلم يشكوا فِيهِ بعد أَن أيقنوا وعلموه علم اللِّسَان إِلَّا أَنهم جهال بِهِ لم ينكروه لِأَنَّهُ لم يتراء على قُلُوبهم نور جَلَاله وَلَا حل بقلوبهم عَظمته وَلَا تجلل عَلَيْهَا كبرياؤه وَلَا طالعت مجده وسلطانه وَلَا عَايَنت منته وإحسانه وَلَا فهمت تَدْبيره ولطفه فِي الْأُمُور وَلَا انْتَبَهت لربوبيته وَلَا شربت بالكأس الأوفى من محبته وَلَا ظمئت من الشوق إِلَيْهِ وَلَا ولهت وَله العكف بِبَابِهِ وَلَا تفسحت فِي ساحات توحيده متأنسا بجماله وَلَا انْفَرَدت لأحديته وَلَا حييت بحياته وَلَا خلصت لوحدانيته وَلَا طابت بنسيم قربه وَلَا انشرحت صُدُورهمْ بذلك من قُلُوبهم بل علمُوا علما مُجملا اقتضاهم الْإِيمَان الْإِقْرَار بذلك قولا(3/52)
والاعتقاد لَهُ قلبا وصدورهم غير منشرحة بباطن علمه فَمن جهل هَذَا اكْتفى بهيئة العبيد وَالْملك فَقير مَعْدُوم
والعاقل ينظر إِلَى صلَاته وصيامه وحجه وجهاده وأعمال بره وَكَأَنَّهُ نظر إِلَى أَرْكَان وجوارح كَهَيئَةِ العبيد عَلَيْهِم هَيْئَة مُرْتَفعَة ومراكب سَرِيَّة وأسلحة وافرة وَإِذا نظر إِلَى بَاطِن أحدهم وجد خوف الرزق على قلبه كالجبال كَاد يَمُوت من همه وَخَوف الْخلق وَسُقُوط مَنْزِلَته عَن قُلُوبهم وَوجد فيهم الْفَرح بمدح الْخلق لَهُم وَالثنَاء عَلَيْهِم وَحب الرياسة وَطلب الْعُلُوّ والتبصبص للأغنياء والاستحقار للْفُقَرَاء والأنفة مِنْهُم والاستكبار فِي مَوضِع الْحق والحقد على أَخِيه الْمُسلم والعداوة والبغضة وَترك الْحق لمخافة ذل ينزل بِهِ وَالْقَوْل بالهوى وَالرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا والحرص عَلَيْهَا وَالشح وَالْبخل وَطول الأمل والأشر والبطر والغل والغش والمباهاة والرياء والسمعة والاشتغال بعيوب الْخلق والمداهنة والإعجاب بِالنَّفسِ والتزين للمخلوقين والصلف والتجبر وغرة النَّفس وَالْقَسْوَة والفظاظة وَغلظ الْقلب والغفلة وَسُوء الْخلق وضيق الصَّدْر والفرح بالدنيا والحزن على فَوتهَا وَترك القناعة والمراء فِي الْكَلَام والجفاء والطيش والعجلة والحدة وَقلة الرَّحْمَة وَقلة الْحيَاء والاتكال على الطَّاعَات وفضول الْكَلَام والشهوة الْخفية وَطلب الْعِزّ واتخاذ الأخوان فِي الْعَلَانِيَة على عَدَاوَة فِي السِّرّ والتماس المغالبة والانتصار للنَّفس والتعظيم للأغنياء من أجل غناهم والاستهانة بالفقراء من أجل فَقرهمْ والغيبة والحسد والنميمة والجور والعدوان
فَهَذِهِ كلهَا مزابل قد انضمت عَلَيْهَا طويات صَدره وَظَاهره الْعِبَادَة وأنواع أَعمال الْبر فَإِذا انْكَشَفَ الغطاء عَن هَذِه الْأَشْيَاء بَين يَدي الله تَعَالَى كَانَ كمزبلة فِيهَا أَنْوَاع الأقذار غشيت بالديباج فَلَمَّا رفع عَنهُ الغطاء أخذت بالأنف من نتنها وَأعْرض الناظرون عَن قبحها فَهَذَا المتصنع الْمرَائِي عبد شهواته لم يقدر أَن يخلص من عمله وَنَفسه(3/53)
متقدة بِنَار الشَّهْوَة وَقَلبه مشحون بهوى نَفسه وَلَو اجْتهد فِي إخلاص الصَّلَاة وَالصَّوْم فَهُوَ مُحْتَاج إِلَى أَن يخلص فِي مشيته وركوبه ونزوله وَأكله وشربه ومنطقه وصمته وَأَخذه وإعطائه وَجَمِيع معاملاته وَلَو أخْلص هَذَا كُله أَلَيْسَ هَذِه الْمَزَابِل مَعَه فَهَذِهِ كلهَا عُيُوب وَالْعَبْد إِذا كثرت عيوبه انحطت قِيمَته
والعاقل لَا يغره مَا رأى من ظَاهر أَحْوَاله إِذا اطلع على بَاطِنه فَوَجَدَهُ كَمَا وَصفنَا كمن رأى ملكا لَهُ عبيد فِي زِيّ وهيئة ومراكب وَالْملك بِنَفسِهِ لَيست لَهُ مَادَّة من الْأَمْوَال وَإِذا رأى عبدا أَرْكَانه معطلة من أَعمال الْبر وَقَلبه ملك من الْمُلُوك مَمْلُوءَة خزائنه أَمْوَالًا وبيوته جَوَاهِر وَالْأَمْوَال غناهُ بِاللَّه تَعَالَى وَأي غَنِي أغْنى مِمَّن اسْتغنى بِاللَّه تَعَالَى إِذْ الْغنى بالأموال مُنْقَطع والغنى بِاللَّه تَعَالَى دَائِم إِذْ هُوَ حَيّ لَا يَزُول وَأما الْجَوَاهِر فحكمة صِفَاته وَقد عجز عَن دركها الْعَامَّة وَإِنَّمَا خص بهَا الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام أهل خدمَة الله تَعَالَى فَإِنَّهُ قد انْفَرد بالفرد الْوَاحِد واحتظي من جَلَاله وعظمته وكبريائه ومجده وجماله فتواضع لَهُ وخشعت جوارحه لخشوع قلبه وَعظم أَمر الله وَحفظ حُدُوده وراقب تَدْبيره إعظاما لجلاله وهيبته وتذللا لربوبيته فَعنده الرأفة بالخلق وَالرَّحْمَة لَهُم واللين والرأفة والحلم وسعة الصَّدْر وتعظيم أَمر الله تَعَالَى وَالْإِخْلَاص لَهُ وحراسة الْقلب ودوام الْفِكر والقناعة والرضى والإنابة والشوق إِلَيْهِ والتبرم بِالْحَيَاةِ واليقظة فِي الْأُمُور والمعاينة لَهَا والرزانة والصيانة والشفقة والعطف والتأني وَالْوَقار والسكون وَالذكر الدَّائِم والرهبة وَالرَّغْبَة وَالْخَوْف والرجاء والأنس بِاللَّه تَعَالَى وَالسُّرُور بِهِ والسخاء والجود والبشاشة والنصيحة وسلامة الصَّدْر صَار كمن رأى عبدا فِي هَيْئَة رثَّة وَالْملك صَاحب كنوز وجواهر فَعلم هَذَا الْعَاقِل أَن هَذِه الْهَيْئَة لَا تضر عبيده لِأَنَّهُ مَتى عرض لَهُم أَمر فتح لَهُم بَابا من خزائنه فعرفهم فَكَذَا هَذَا الْقلب قد امْتَلَأَ خيرا(3/54)
وامتلأ جوارحه من هَذَا الْخَيْر فلساعة من عمره بِهَذِهِ الصّفة أفضل من أَعمال الثقلَيْن دهرا وَإِذا تعطلت أَرْكَانه عَن كثير من أَعمال الْبر فَهُوَ فِي الْخَيْر كُله دَائِم عَلَيْهِ بدوام قلبه على ذَلِك وَقَلِيل من عمله أزكى من عمل ذَلِك المخلط سِنِين كَثِيرَة
يرْوى أَن رجلا جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا رأى مَا بِهِ من الضّر قَالَ (مَا بلغ بك مَا أرى) قَالَ بِأبي أَنْت وَأمي السقم وَالْحَاجة قَالَ لَهُ (أَفلا أعلمك كَلِمَات إِذا أَنْت قلتهن أذهب الله عز وَجل عَنْك مَا بك) قَالَ بِأبي أَنْت وَأمي مَا أحب أَن لي مِمَّا ترى بِي وقْعَة بدر وَأحد فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (يَا أَخا الْأَنْصَار وَأَيْنَ تقع وقْعَة بدر وَأحد من مَوضِع الْفَقِير القانع) وَشهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا بِالْجنَّةِ فَلم ير لَهُ صَوْم وَلَا صَلَاة فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ إِنِّي أَبيت وَلَيْسَ لأحد فِي قلبِي غل وَلَو أَعْطَيْت الدُّنْيَا مَا فرحت بهَا وَلَو أخذت مني لم أَحْزَن عَلَيْهَا
وَعَن أبي بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لم يفضل النَّاس بِكَثْرَة صَلَاة وَلَا صَوْم وَإِنَّمَا فَضلهمْ بِشَيْء كَانَ فِي قلبه
وَعَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ قَالَ إِن عمر لم يغلب النَّاس بِالْأَعْمَالِ إِنَّمَا غلبهم بِالصبرِ وَالْيَقِين والزهد
وَقَالَ عبد الله رَضِي الله عَنهُ أَنْتُم الْيَوْم أَكثر صَلَاة وصوما وجهادا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم كَانُوا خيرا مِنْكُم قَالُوا مِم ذَاك قَالَ كَانُوا أزهد فِي الدُّنْيَا وأرغب فِي الْآخِرَة
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/55)
فِيمَا يَحْكِي عَن ربه عز وَجل أَنه قَالَ يَا مُوسَى إِنَّه لن يتصنع المتصنعون بِمثل الزّهْد فِي الدُّنْيَا وَلنْ يتَقرَّب المتقربون بِمثل الْوَرع عَمَّا حرمت عَلَيْهِم وَلم يعبدني العابدون بِمثل الْبكاء من خَشْيَتِي فَأَما الزاهدون فأبيحهم الْجنَّة حَتَّى يتبوؤا مِنْهَا حَيْثُ شَاءُوا وَأما الورعون عَمَّا حرمت عَلَيْهِم فَإِنَّهُ لَيْسَ من عبد يلقاني يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا ناقشته الْحساب وفتشته عَمَّا فِي يَدَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ من الورعين فَإِنِّي أَجلهم وَأكْرمهمْ وأدخلهم الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب وَأما البكاءون من خَشْيَتِي فَلهم الرفيق الْأَعْلَى لَا يشركُونَ فِيهِ
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (الْوَرع سيد الْعَمَل)
وَمن لم يكن لَهُ ورع يردهُ عَن مَعْصِيّة الله تَعَالَى إِذا خلا بهَا لم يعبأ الله بِسَائِر عمله شَيْئا فَذَلِك مَخَافَة الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة والاقتصاد فِي الْفقر والغنى والصدق عِنْد الرضى والسخط أَلا وَإِن الْمُؤمن حَاكم لنَفسِهِ يرضى للنَّاس مَا يرضى لنَفسِهِ وَهَذِه الْخِصَال لَا تكون إِلَّا لأهل الْقُلُوب
وَقَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ مَا أعرف الْيَوْم فِيكُم شَيْئا كنت عهدته على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبس قَوْلكُم لَا إِلَه إِلَّا الله
فصلاح الْقلب صَلَاح الْجَسَد وعمارته عمَارَة دينه
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (من كَانَ لَهُ قلب صَالح تَحَنن الله عَلَيْهِ)
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (بالقلوب الصَّالِحَة يعمر الله الأَرْض وَبهَا يخرب الأَرْض إِذا كَانَت على غير ذَلِك)(3/56)
- الأَصْل الْحَادِي وَالْعشْرُونَ والمائتان
-
فِي أَن الوسوسة من برازخ الْإِيمَان
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شكا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ من الوسوسة فَقَالَ (كَيفَ أَنْتُم فِي ربكُم) قَالُوا لَا نشك فِي رَبنَا وَلِأَن يَقع أَحَدنَا من السَّمَاء فيتقطع أحب إِلَيْهِ من أَن يتَكَلَّم بِمَا يجد فِي صَدره فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (الله أكبر ذَاك مَحْض الْإِيمَان)
وَكَانَ ثَابت يَقُول اللَّهُمَّ أَكثر لنا مِنْهُ
قَالَ أَبُو عبد الله أحكم الله تَعَالَى الْإِيمَان فِي قُلُوب من اجتباهم وهداهم وأبرز أَسْمَاءَهُم بالسعادة فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وأخرجهم يَوْم الْمِيثَاق فِي أَصْحَاب الْيَمين وفزع الشَّيْطَان من أَن يوسوس إِلَيْهِم فِي توحيدهم مَا يُبطلهُ عَنْهُم وَكَيف يجوز ذَلِك وَقد أَخذ الله بِقَلْبِه وناصيته وَفِي قلبه نوره فَكيف يقوم الْعَدو لنوره حَتَّى يطفئه إِذْ لَيْسَ أحد ينشرح صَدره بِاللَّه تَعَالَى وبالنطق بِلَا إِلَه إِلَّا الله إِلَّا بمنة الله عَلَيْهِ(3/57)
فَلَنْ يُسَلط عَلَيْهِ الْعَدو حَتَّى يُبطلهُ وَالله عز وَجل أكْرم من أَن يرتجع فِي منته ويسلط عَلَيْهِ الْعَدو أَلا ترى إِلَى قَوْله لِلْعَدو {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان وَكفى بِرَبِّك وَكيلا} أَي مَانِعا شَيْطَانه من أَن يدْخل عَلَيْهِ فِي قلبه فَيفْسد توحيده لِأَن التَّوْحِيد هُوَ الْإِيمَان وَذَلِكَ نور الله تَعَالَى فِي قلبه قَالَ تَعَالَى {حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ}
وَالْقلب هُوَ الْبضْعَة الْبَاطِنَة والبضعة الظَّاهِرَة يُقَال لَهَا فؤاد وفيهَا العينان والأذنان وَالْقلب يقلبه الله تَعَالَى وَلم يكله إِلَى أحد وَلم يطلع عَلَيْهَا أحدا من خلقه وَإِنَّمَا سُلْطَان الشَّيْطَان فِي الصَّدْر لِأَنَّهُ بَيت الْقلب وَالنَّفس مَعْدن الشَّهَوَات قَالَ تَعَالَى {يوسوس فِي صُدُور النَّاس}
فالشيطان يزين وَيُشِير ويمني وَيحدث فِي صُدُور النَّاس الشَّهْوَة الَّتِي فِي النَّفس حَتَّى يضله ويفتنه وَلَيْسَ يجد الْمُؤمن فِي نَفسه شَهْوَة الْكفْر لِأَن الله تَعَالَى نَزعهَا بإيصال الْإِيمَان إِلَى حَبَّة قلبه ثمَّ بَقِي شَهْوَة الْأَشْيَاء فِي قلبه ثمَّ حرم وَأحل ليبلغه بالمجاهدة فِي هَذِه الشَّهَوَات فاذن الْمُؤمن قد حلاه الله تَعَالَى بِالْإِيمَان وطهره وطيبه وزين قلبه وَلَيْسَ للكفر شَهْوَة فِي النَّفس حَتَّى يدْخل الشَّيْطَان فِيهِ بظلمته فيزين لَهُ الشّرك حَتَّى يفْسد توحيده وَلَا لَهُ إِلَيْهِ سَبِيل فَإِذا وسوس فِي صَدره أنكر الْقلب بِمَا فِيهِ من النُّور وإنكاره مَحْض الْإِيمَان لِأَنَّهُ اهتاج فَاسْتَنَارَ وَصَارَ كجمرة قد علاها الرماد لخمودها فَلَا تكَاد تضيء مِمَّا علاها فوصلت إِلَيْهِ نفحة فطار عَنْهَا رمادها فتوقدت وتلظت واستضاء الْبَيْت بتوقده فازدادت تِلْكَ الْجَمْرَة فَصَارَت مَحْضَة لما طَار عَنْهَا الرماد(3/58)
فَكَذَلِك الْقلب فِيهِ الْإِيمَان وَقد سقم وعلاه رماد حريق الشَّهَوَات فَإِذا جَاءَهُ الوسواس بكيده وَحَدِيثه يُرِيد بِهِ نقض توحيده كَانَ ذَلِك كمن ينْفخ فِي تِلْكَ الْجَمْرَة لتتقد ويطير عَنهُ الْغُبَار وَتلك النفخة هِيَ أَمر من الله تَعَالَى خَفِي يلطف لَهُ من لطفه ليفي لَهُ بِمَا توكل لَهُ من قَوْله {وَكفى بِرَبِّك وَكيلا}
فَلَمَّا صَار إيمَانه ذَا غُبَار رَحمَه ولطف لَهُ من حَيْثُ خَفِي على الْعباد بالعصمة فَمنع كَيده من أَن يفْسد عَلَيْهِ توحيده واهتاج الْإِيمَان مُنْكرا لما جَاءَ بِهِ ونافرا عَنهُ فطار عَنهُ رماد الشَّهَوَات ودخانه واستوقدت جَمْرَة الْإِيمَان فَأَضَاءَتْ الصَّدْر فَلذَلِك صَار مَحْض الْإِيمَان لِأَنَّهُ فِي ذَلِك بِلَا رماد وَلَا دُخان
وَلِهَذَا قَالَ ثَابت رَضِي الله عَنهُ اللَّهُمَّ زِدْنَا مِنْهُ سَأَلَ الزِّيَادَة من لطف الله تَعَالَى لعَبْدِهِ
وَقَالَ عبد الله رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ سُئِلَ عَن الوسوسة فَقَالَ ذَاك برازخ الْإِيمَان والبرزخ الحاجز بَين الشَّيْئَيْنِ
وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (مثل الْمُؤمن مثل الْفرس فِي آخيته يحول ويجول ثمَّ يرجع إِلَى آخيته)
فيحق على الْمُؤمن أَن يقل عبؤه بوسوسته فأخسأ مَا يكون إِذا استحقر لَهُ وَلم يعبأ بِهِ فَمن اعتراه ضعف فِي قلبه حَتَّى يخَاف على نَفسه فَذَاك لضيق صَدره وَقلة انشراحه وظلمة الشَّهَوَات والذنُوب فَإِن وسوس إِلَيْهِ فِي التَّشْبِيه فالرد عَلَيْهِ أَن يَقُول فِي نَفسه كل مَا(3/59)
تصور فِي صَدْرِي فالرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر فِي صَدْرِي إِلَّا مَخْلُوق لَهُ كيفيه وَمثل وربي لَا يدْرِي كَيفَ هُوَ وَلَا مثل لَهُ وَلَا كَيْفيَّة فَمَا تمثل فِي صَدْرِي فَهُوَ غير رَبِّي ثمَّ جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الله الله رَبِّي لَا أشرك بِهِ شَيْئا) لتطيب بهَا نَفسه بِمَا ضَاقَ مِنْهُ صَدره ليخرج من ضيقه بهَا إِلَى السعَة(3/60)
- الأَصْل الثَّانِي وَالْعشْرُونَ والمائتان
-
فِي أَن النُّجُوم أَمَان لأهل السَّمَاء
وَالْعُلَمَاء الصديقين أهل بَيت النُّبُوَّة أَمَان للْأمة
عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (النُّجُوم أَمَان لأهل السَّمَاء وَأهل بَيْتِي أَمَان لأمتي)
فالنجوم هن الطوالع السوائر الغوارب عُطَارِد والمريخ وزحل وَالْمُشْتَرِي والزهرة وَسميت نجوما لِأَنَّهَا تنجم أَي تطلع من مطالعها فِي أفلاكها
قَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي جعل لكم النُّجُوم لتهتدوا بهَا} وَمَا عدا ذَلِك كواكب(3/61)
قَالَ تَعَالَى {إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بزينة الْكَوَاكِب} فالكواكب معلقات من السَّمَاء كالقناديل والنجوم لَهَا مطالع ومغارب فهن أَمَان لأهل السَّمَاء فَإِذا ذهبت أَتَى أهل السَّمَاء مَا يوعدون وعَلى هَذَا يأول قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام (مثل أَصْحَابِي مثل النُّجُوم بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ)
وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ من لَقِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو بَايعه أَو رَآهُ رُؤْيَة وَاحِدَة وَإِنَّمَا أَرَادَ من لَازمه غدْوَة وَعَشِيَّة وَكَانَ يتلَقَّى الْوَحْي مِنْهُ طريا وَيَأْخُذ عَنهُ الشَّرِيعَة الَّتِي جعلت منهجا للْأمة وَينظر مِنْهُ إِلَى آدَاب الْإِسْلَام وشمائله فصاروا من بعده أَئِمَّة أَدِلَّة فبهم الإقتداء وعَلى سيرتهم الاحتذاء فَكَانُوا يسمون عِنْده ويصبحون عِنْده ولازموه فِي السّفر والحضر وتفقهوا فِي دين الله وَعرفُوا النَّاسِخ والمنسوخ وَالسّنَن وهم الَّذين أثنى الله عَلَيْهِم وَأمر نبيه عَلَيْهِ السَّلَام بِالصبرِ مَعَهم فَقَالَ {واصبر نَفسك مَعَ الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي}
فَهَؤُلَاءِ هم النُّجُوم الْأَدِلَّة وشبههم عَلَيْهِ السَّلَام بالنجوم لِأَن بهم الإقتداء وهم من الْأَصْحَاب قَلِيل عَددهمْ كَالنُّجُومِ لأَنهم أهل بصائر ويقين وَجَاز لَهُم اجْتِهَاد الرَّأْي بِفضل الْيَقِين والبصائر فَلَمَّا اخْتلفُوا فِي اجتهادهم جَازَ لكل أحد لم يكن من أهل النّظر والتمييز أَن يَأْخُذ بقول من أَقْوَالهم تقليدا لَهُ وَمن كَانَ من أهل النّظر فَاخْتَارَ قولا من أَقْوَالهم مُجْتَهدا مستنبطا كَانَ لَهُ ذَلِك وَأما غير هَؤُلَاءِ فهم مِثَال الْكَوَاكِب يضئن لأَنْفُسِهِمْ وَلَيْسوا بأدلة وَلَا أَئِمَّة(3/62)
وَقَوله (أهل بَيْتِي أَمَان لأمتي) فَأهل بَيته من خَلفه من بعده على منهاجه وهم الصديقون والأبدال الَّذين روى عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
(إِن الأبدال يكونُونَ بِالشَّام وهم أَرْبَعُونَ رجلا كلما مَاتَ مِنْهُم رجل أبدل الله مَكَانَهُ رجلا بهم يسْقِي الْغَيْث وينصر بهم على الْأَعْدَاء وَيصرف عَن أهل الأَرْض بهم الْبلَاء)
فَهَؤُلَاءِ أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأمان هَذِه الْأمة فَإِذا مَاتُوا فَسدتْ الأَرْض وَخَربَتْ الدُّنْيَا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض}
وَهَذَا لِأَن الْبَيْت من تبوئة الذّكر وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث ليبوئ لذكره فِي الأَرْض فَبَدَأَ بِمَكَّة فطرد وَنفى الذّكر ثمَّ جعل الله تَعَالَى لَهُ مُهَاجرا ومستقرا فَمن هَاجرُوا إِلَيْهِ ولزموه فصاروا أهل الذّكر فهم أهل بَيته وَمن آووا إِلَيْهِ وَلم يصيروا من أهل الذّكر فليسوا من أهل بَيته بل هم من أَصْحَابه وَأَتْبَاعه قَالَ تَعَالَى {فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ فقد وكلنَا بهَا قوما لَيْسُوا بهَا بكافرين} وهم الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار فتبوئوا الدَّار وَالْإِيمَان فصاروا أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتبوئه الذّكر(3/63)
وَإِنَّمَا يكون من أهل التبوئة من بوأ لذكره على طَرِيقه صافيا غير مغشوش صادر من إِيمَان غير مغشوش وَلَا سقيم وسقمه أَن يمازجه شَهْوَة النَّفس حَتَّى تميل بِهِ عَن الله تَعَالَى وتثقله عَن أمره وتلهيه عَن ذكره قَالَ تَعَالَى {لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم عَن ذكر الله}
إِذْ الْإِيمَان هُوَ طمأنينة الْقلب إِلَى الله تَعَالَى فِي كل أَمر فَإِذا آمن بِهِ على الْجُمْلَة ثمَّ مَال يَمِينا وَشمَالًا لِيَطمَئِن إِلَى الْخلق والأسباب فَذَلِك غش الْإِيمَان إِذْ خلط بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَأَما الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام قد اطمأنوا إِلَيْهِ يراقبون مَا يخرج من حجب الْغَيْب من مَشِيئَته وتدبيره فيقبلون مِنْهُ اهتشاشا وتسارعا لمشيئآته وَأَحْكَامه قد أخبتوا لَهُ وانخشعت نُفُوسهم لِأَن شهواتهم قد مَاتَت من هَيْبَة جَلَاله تَعَالَى وتقدس فالمستحقون للذّكر هم أهل الذّكر وهم الَّذِي ذكرهم الله تَعَالَى بِحَقِيقَة الذّكر وَهُوَ أَن لَا يبْقى على قلبه مَعَ ذكره فِي ذَلِك الْوَقْت ذكر نَفسه وَلَا ذكر مَخْلُوق فَذَاك الذّكر الصافي الَّذِي لَا غش فِيهِ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (يَقُول الله عز وَجل من شغله ذكري عَن مَسْأَلَتي أَعْطيته أفضل مَا أعطي السَّائِلين) هَذَا فِيمَن شغله ذكر الْخَالِق فَكيف بِمن شغله الْخَالِق بأنسه هَذَا فِيمَن شغله الْخَالِق بأنسه فَكيف بِمن شغله الْخَالِق بجلاله وجماله وَكَيف بِمن شغله الْخَالِق فِي فردانيته بِنَفسِهِ فِي وحدانيته وهم الَّذين أَشَارَ إِلَيْهِم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ (سِيرُوا فقد سبق المفردون) قيل يَا رَسُول الله من المفردون(3/64)
قَالَ (الَّذين اهتروا فِي ذكر الله يأْتونَ يَوْم الْقِيَامَة خفافا يضع الذّكر عَنْهُم أثقالهم)
فالمهتر إِذا نطق يشبه كَلَامه كَلَام من لم يَسْتَعْمِلهُ عقله لِأَن الْعقل يخرج الْكَلَام على اللِّسَان بتدبير وتؤدة وتأني وَهَذَا المهتر إِنَّمَا ينْطق بِهِ فَكَأَنَّهُ المَاء على لِسَانه يجْرِي حَتَّى يشبه الهذيان فِي بعض أَحْوَاله عِنْد الْعَامَّة وَهُوَ فِي الْبَاطِن مَعَ الله تَعَالَى من أصفي الناطقين وأصدقهم والمهتر فِي اللُّغَة الشَّيْخ الْكَبِير الَّذِي قد أفند عقله وَهُوَ يهتر فِي الْكَلَام كالخرف فَهَذَا قد خمد نور عقله لنُور وَجهه الْكَرِيم بِمَنْزِلَة قمر طلع عَلَيْهِ شمس فخمد نور الْقَمَر بضوء الشَّمْس فَلم يعْمل عقله ذَلِك الْعَمَل وَمن خمد عقله للقرب والدنو فقد اسْتوْجبَ من الله تَعَالَى كَرَامَة أنطق لِسَانه وَحفظ عَلَيْهِ شَأْنه وأيده وَعَصَمَهُ فَصَارَ بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتبوئة الذّكر على الْوَجْه الَّذِي بَينا
والأهل والآل بِمَنْزِلَة وَاحِدَة إِذْ الْهَاء والهمزة أختَان تجزي أحديهما عَن الْأُخْرَى وَإِنَّمَا قيل أهل لِأَنَّهُ حَيْثُ مَا ذهب بِهِ فَهُوَ رَاجع إِلَى ذَلِك المستقر فَكَذَا الْآل حَيْثُ مَا تفرق وَالنّسب يؤول إِلَى الأَصْل فَأهل الْبَيْت كل من رَجَعَ نسبه إِلَى ذَلِك الأَصْل فَكَذَا أهل بَيت الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الله تَعَالَى قد أَخذ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام من خلقه فاختصه لنَفسِهِ واصطفاه لذكره فَكَانَ فِي كل أَمر قلبه رَاجعا إِلَى الله تَعَالَى من عِنْده يصدر وَمَعَهُ يَدُور وَإِلَيْهِ يرجع فَكَانَ هَذَا بَيْتا أشرف وَأَعْلَى من الْبَيْت الَّذِي هيأ لَهُ فِي أرضه وَهُوَ النّسَب فَكَانَ هَذَا الْبَيْت عَالِيا على ذَلِك الْبَيْت أَلا ترى أَنه غلب على النّسَب نِسْبَة مَا أكْرمه الله تَعَالَى بِهِ من الْأَمَانَة فَكَانَ يُقَال مُحَمَّد بن عبد الله ثمَّ يُقَال مُحَمَّد(3/65)
الْأمين لِأَنَّهُ أَعلَى مِنْهُ فَلَمَّا جَاءَت الْكَرَامَة غلب على هَذَا الِاسْم فَقيل نَبِي الله وَرَسُوله
فَكَذَا كَانَ لَهُ بَيت النِّسْبَة وَأهل بَيت النِّسْبَة فَلَمَّا جَاءَهُ بَيت الْكَرَامَة والنبوة فغلب على ذَلِك الْبَيْت كَانَ كل من رَجَعَ قلبه إِلَى الله تَعَالَى على طَرِيقه من أهل ذَلِك الْبَيْت وهم الْأَرْبَعُونَ الَّذِي خلفوه من بعده حَتَّى تقوم بهم الأَرْض وبهم يمطرون وَيُرْزَقُونَ وَلَا يجوز أَن يحمل على أهل بَيت النّسَب لمعان أَحدهَا أَنه رُوِيَ فِي الحَدِيث (فَإِذا ذهب أهل بَيْتِي أَتَى أمتِي مَا يوعدون)
فَكيف يتَصَوَّر أَن يذهب أهل بَيته حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُم أحد وهم أَكثر من أَن يُحْصى وبركة الله تَعَالَى عَلَيْهِم دائمة وَرَحمته مظلة من فَوْقهم وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (كل سَبَب يَنْقَطِع إِلَّا سببي ونسبي)
وَالثَّانِي أَن أهل بَيته نِسْبَة بَنو هَاشم وَبَنُو عبد الْمطلب وَلم يَكُونُوا أَمَانًا لهَذِهِ الْأمة حَتَّى إِذا ذَهَبُوا ذهبت الدُّنْيَا
وَالثَّالِث أَنه قد يُوجد مِنْهُم الْفساد كَمَا يُوجد فِي غَيرهم وَمِنْهُم المحسن وَمِنْهُم الْمُسِيء
فَبِأَي شَيْء صَارُوا أَمَانًا لأهل الأَرْض فَعلم أَن المُرَاد بِهِ من بِهِ(3/66)
تقوم الدُّنْيَا وهم أَعْلَامه وأدلة الْهدى فِي كل وَقت فَإِذا تفانوا لم يبْق للْأَرْض حُرْمَة فعمهم بالبلاء
فَإِن قَالَ قَائِل بِحرْمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقربهم مِنْهُ صَارُوا أَمَانًا لأهل الأَرْض قيل حُرْمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَظِيمَة جليلة وَفِي الأَرْض مَا هُوَ أعظم من حُرْمَة ذُريَّته وَهُوَ كتاب الله فَلَا نجد ذكره فِي الحَدِيث ثمَّ الْحُرْمَة لأهل التَّقْوَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا عظمت حُرْمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لفضل النُّبُوَّة مَا أكْرمه الله تَعَالَى بِهِ
وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فَاطِمَة وَعِنْدهَا صَفِيَّة عمَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
(يَا بني عبد منَاف يَا بني عبد الْمطلب يَا فَاطِمَة بنت مُحَمَّد يَا صَفِيَّة عمَّة رَسُول الله اشْتَروا أَنفسكُم من الله لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا سلوني من مَالِي مَا شِئْتُم وَاعْلَمُوا أَن أولى النَّاس بِي يَوْم الْقِيَامَة المتقون وَإِن تَكُونُوا أَنْتُم مَعَ قرابتكم فَذَلِك لَا يأتيني النَّاس بِالْأَعْمَالِ وتأتوني بالدنيا تحملونها على أَعْنَاقكُم فتقولون يَا مُحَمَّد فَأَقُول هَكَذَا ثمَّ تَقولُونَ يَا مُحَمَّد فَأَقُول هَكَذَا أعرض بوجهي عَنْكُم فتقولون يَا مُحَمَّد أَنا فلَان ابْن فلَان فَأَقُول أما النّسَب فأعرف وَأما الْعَمَل فَلَا أعرف نبذتم الْكتاب فَارْجِعُوا إِلَى قرَابَة بيني وَبَيْنكُم)
وَرُوِيَ أَنه قَالَ جهارا غير سرا (أَلا إِن أوليائي مِنْكُم لَيْسُوا بِأبي فلَان لَكِن أوليائي مِنْكُم المتقون من كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا)(3/67)
وَمَا زَالَت الطَّبَقَة الزائفة المفتونة بحب أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نسبا مازالت بهم فتنتهم حَتَّى عَمدُوا إِلَى كل شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء فنسبوه إِلَيْهِم وحرموا غَيرهم ذَلِك إعجابا بهم وفتنة وَإِن الله فَضلهمْ بِأَن طيب عنصرهم وطهر أَخْلَاقهم وَاخْتَارَ قبيلتهم على الْقَبَائِل فَلهم حُرْمَة التَّفْضِيل والأثرة وَحُرْمَة الِاتِّصَال برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيحق علينا أَن نحبهمْ حبا لَا يرجع علينا بوبال وظلمة وَهَؤُلَاء الغلاة جَاءُوا بِأَحَادِيث مُخْتَلفَة وأكاذيب مُنكرَة حَتَّى أداهم ذَلِك إِلَى أَن طعنوا فِي الشَّيْخَيْنِ المهديين المرضيين الَّذين كَانَ عَليّ كرم الله وَجهه ينكل من فَضله عَلَيْهِمَا فَقَالَ لَا أجد أحدا يُفَضِّلُنِي عَلَيْهِمَا إِلَّا جلدته حد المفترين
وَبلغ من إفراط هَؤُلَاءِ أَن رووا أَحَادِيث مُخْتَلفَة يُرِيدُونَ أَن يقيموا لعَلي رَضِي الله عَنهُ فضلا وَقد فضل الله عليا رَضِي الله عَنهُ بأَشْيَاء كَثِيرَة وفضائل جمة قد أغناه عَن مثل ذَلِك لكِنهمْ تركُوا لظلمة قُلُوبهم وشقاء جدهم تِلْكَ الْأَشْيَاء وَأَقْبلُوا على الْكَذِب وتأولوا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} إِنَّمَا هم عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن رضوَان الله عَلَيْهِم وَهِي لَهُم خَاصَّة وَكَيف يجوز هَذَا ومبتدأ هَذَا الْخطاب قَوْله عز وَجل {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك} إِلَى قَوْله {أجرا عَظِيما}
ثمَّ قَالَ {يَا نسَاء النَّبِي} إِلَى قَوْله {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت}
ثمَّ قَالَ {واذكرن مَا يُتْلَى فِي بيوتكن}(3/68)
وَهَذَا كَلَام منسوق بعضه على أثر بعض فَكيف صَارَت هَذِه المخاطبات كلهَا لِنسَاء النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قبلا وبعدا وينصرف مَا فِي الْوسط إِلَى غَيْرهنَّ وَهُوَ على نسق ونظام وَاحِد لِأَنَّهُ قَالَ {ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} ثمَّ قَالَ على أَثَره {فِي بيوتكن}
فَكيف صَار الْكَاف الثَّانِي خطابا للنِّسَاء وَالْأول لعَلي وَفَاطِمَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَأَيْنَ ذكرهمَا فِي هَذِه الْآيَات فَإِن قَالَ إِن كَانَ الْخطاب لنسائه فَكيف قَالَ {ليذْهب عَنْكُم} وَلم يقل (عنكن)
قُلْنَا إِنَّمَا ذكره لينصرف إِلَى الْأَهْل والأهل مُذَكّر فسماهن باسم التَّذْكِير وَإِن كن إِنَاثًا
وَقد يرْوى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة دخل عَلَيْهِ عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن رضوَان الله عَلَيْهِم فَعمد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى كسَاء فلفها عَلَيْهِم ثمَّ ألوى بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاء فَقَالَ (هَؤُلَاءِ أَهلِي أذهب عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا)
فَهَذِهِ دَعْوَة مِنْهُ لَهُم بعد نزُول الْآيَة أحب أَن يدخلهم فِي الْآيَة الَّتِي خُوطِبَ بهَا الْأزْوَاج رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ(3/69)
- الأَصْل الثَّالِث وَالْعشْرُونَ والمائتان
-
فِي أَخْلَاق الْمُسَافِرين
عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا اجْتمع الْقَوْم فِي سفر فليجمعوا نفقاتهم عِنْد أحدهم فَإِنَّهُ أطيب لنفوسهم وَأحسن لأخلاقهم)
فِي النُّفُوس ضيق وشح وللشيء عِنْدهم قدر وَمَا أَتَى الشُّح وَالْبخل وتعظيم الشَّيْء إِلَّا لضعف يقينهم وظلمة صُدُورهمْ لِأَن الْيَقِين نور فِي قَلْبك فَإِذا تمكن صَارَت عين قَلْبك ذَا بَصِيرَة أبْصر الْغَيْب بذلك النُّور فتريك مَا فِي الملكوت فتصغر عنْدك الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا كَمَا أَن بصر عين الرَّأْس يُرِيك الْأَشْيَاء فِي الدُّنْيَا فَإِذا ضعف الْيَقِين يعجزك عَن رُؤْيَة الْآخِرَة وعظيم مَا فِي الملكوت فتصغر عنْدك بِمَا فِيهَا كَمَا أَن بصر عين الرَّأْس يُرِيك الْأَشْيَاء فِي الدُّنْيَا فَإِذا ضعف الْيَقِين يعجزك عَن رُؤْيَة الْآخِرَة وعظيم مَا فِي الملكوت وَبَين الْيَقِين تفَاوت فأوفرهم حظا من الْيَقِين أَكْثَرهم معرفَة وأغزرهم علما بِمَا فِي الملكوت وأخشاهم لله تَعَالَى وأعلمهم بتدبيره وأغناهم بغناه وَهَذَا قَلِيل فِي النَّاس(3/70)
وَقد عجزت الْعَامَّة من هَذَا لما يرَوْنَ الْأَشْيَاء بالأسباب وتعلقت بذلك قُلُوبهم وَمِنْهَا افتتنوا حَتَّى عصوا الله فِي جنبه فمحال أَن لَا يكون للشَّيْء قدر عِنْدهم إِلَّا أَن الله تَعَالَى عصم طَائِفَة مِنْهُم لخوف الْعقَاب عَن تنَاول حرامها وأوساخها
ثمَّ هم مَعَ ذَلِك لَهَا يغضبون وَلها يرضون وَبهَا يفرحون وَمن أجلهَا يَحْزَنُونَ وَعظم قدر مَا فِي أَيْديهم من الحطام حَتَّى لَا تسخوا نفس أحدهم أَن يخرج من يَده فلسًا إِلَّا على ذكر الْخلف من الله تَعَالَى فِي دُنْيَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه أَو على ذكر الثَّوَاب فِي الْآخِرَة أَن يُعْطِيهِ قصورا وحورا وحبورا وسرورا وَلَا تسخو نُفُوسهم على إتعاب جوارحهم وأعمالهم لله تَعَالَى فِي شَيْء من أَعمال الْبر إِلَّا على نوال الثَّوَاب غَدا وَلم ينْتَهوا عَن محارم الله تَعَالَى إِلَّا على خوف الْعقَاب ركضا
فَهَؤُلَاءِ عبيد عبدُوا الله من أجل نُفُوسهم لم تأخذهم هَيْبَة عَظمته وسلطان كبريائه فيركض بهم فِي ميدان الطَّاعَة ركضا وميدان الْهَرَب عَن مساخطه ركضا إجلالا لرؤية الله تَعَالَى إيَّاهُم على الْأَحْوَال وتوخيا لمحابه وتلذذا لعبودته فَإِذا اجْتمعت هَذِه الطَّائِفَة الَّتِي للشَّيْء عِنْدهم قدر فِي السّفر وَانْفَرَدَ كل وَاحِد مِنْهُم لطعامه كَانَت فِي ذَلِك وَحْشَة ونزعت الْبركَة وَفِيه ذهَاب الألفة وَظُهُور الْفرْقَة والتصور بِصُورَة أهل الْبُخْل والدناءة وَإِذا أنْفق أحدهم على الْجَمَاعَة لم يقم بذلك وَعجز عَنهُ فالسبيل فِي ذَلِك مَا ندبهم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَيْهِ أَن يجمعوا نفقاتهم إِلَى أحدهم حَتَّى ينفقها عَلَيْهِم فَيكون أطيب لنفوسهم وَأحسن لأخلاقهم فَكل وَاحِد إِنَّمَا خرج من يَده مِقْدَار كِفَايَته وَهُوَ طيب النَّفس بذلك وَلَا يحتشم من الْأكل وَلَو أنْفق وَاحِد وَاحِد يحتشم أحدهم من صَاحبه ويستحيي ويثقل عَلَيْهِ حَتَّى تَجِيء نوبَته(3/71)
وَرُبمَا انْقَطع السّفر وَذَهَبت النّوبَة فَفِيمَا دلّ عَلَيْهِ السَّلَام تسكين النُّفُوس من وَجْهي الحشمة والتثاقل والنفوس سَاكِنة وَالْأَيْدِي مجتمعة والألفة بَاقِيَة وَالْبركَة نازلة وَالْبخل وَالشح زائل وَخلق الْإِسْلَام قَائِم وَسمي التناهد لِأَن النَّفس تنهد أَي تسارع إِلَيْهَا
وَقد سبق ذكر النهد فِي التَّنْزِيل مِمَّا قصّ الله تَعَالَى فِي شَأْن أهل الْكَهْف من قَوْله {فَابْعَثُوا أحدكُم بورقكم هَذِه إِلَى الْمَدِينَة فَلْينْظر أَيهَا أزكى طَعَاما فليأتكم برزق مِنْهُ}
وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (إِن أحب الطَّعَام إِلَى الله مَا كثرت عَلَيْهِ الْأَيْدِي)
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (أَلا أنبئكم بشراركم قَالُوا بلَى يَا رَسُول الله قَالَ من أكل وَحده وَمنع رفده وَجلد عَبده) وَقَالَ أَبُو أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله عز وَجل {إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود} وَهُوَ الَّذِي يَأْكُل وَحده
فأرشد عَلَيْهِ السَّلَام الْعَامَّة إِلَى النهد فَأَما الْكِرَام مُلُوك الدّين فهم أرفع شَأْنًا من أَن يتناهدوا لِأَن قدر الشَّيْء عَن قلبهم سَاقِط وَمن طبيعتهم السخاء والجود وَقل مَا يجْرِي فِيمَا بَينهم إِذا انفردوا عَن الْعَامَّة وزن أَو عدد ومجرى أُمُورهم على صدق الْأُخوة يَأْخُذ أحدهم من مَال أَخِيه عِنْد الْحَاجة فطابت بذلك نُفُوسهم لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذ لرغبة فِيهِ أَو شَهْوَة أَو قَضَاء نهمة بل يتَنَاوَل لله تَعَالَى وَعرف أَخُوهُ ذَلِك(3/72)
مِنْهُ وأمنه على نَفسه وَمَاله وَشهد لَهُ قلبه بالشفقة والعطف وَالرَّحْمَة فَلَا يتهمه على نفقه وَلَا على إمْسَاك
قَالَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ إِن كَانَ الرجل ليدْخل يَده فِي كيس أَخِيه فَمَا يسْأَله كم أخذت
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر رَضِي الله عَنهُ يدْخل أحدكُم يَده فِي كيس أَخِيه قُلْنَا لَا قَالَ لَسْتُم بأخوة
وَجَاء رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله لَيْسَ لي ثوب أتوارى بِهِ قَالَ (فَمَا لَك جيران) قَالَ بلَى قَالَ (فَهَل مِنْكُم أحد لَهُ ثَوْبَان) قَالَ نعم قَالَ (فَيعلم أَن لَا ثوب لَك) قَالَ نعم قَالَ (فَيَعُود عَلَيْك بِأحد ثوبيه) قَالَ لَا قَالَ مَا ذَاك بِأَخ
وَدخل عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ على عمر رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَعمد إِلَى مزوده فَأخذ مِنْهُ سويقا وَتَمْرًا فَأَكله وَفعل الْحسن رَضِي الله عَنهُ مثل ذَلِك
وَدخل أَبُو أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ رَحمَه الله كرم صديق لَهُ فَأكل مِنْهُ بِغَيْر إِذن
وَإِنَّمَا كف النَّاس عَن ذَلِك بعد مُضِيّ السّلف رَحِمهم الله لتغير الْقُلُوب فَلَا يَأْمَن بَعضهم بَعْضًا لفقد الرَّحْمَة والعطف وَذَهَاب الألفة وَظُهُور الْحَسَد فامتنعوا من أَن يتَنَاوَل أحدهم شَيْء صَاحبه إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمن بعد الْإِذْن تأن وَنظر واحتياط وحذر وَلم يبْق لأحد على غَيره أَمن وثقة إِلَّا أُولَئِكَ الْأَرْبَعُونَ البدلاء العارفون الَّذين دقَّتْ الدُّنْيَا فِي أَعينهم فِي جنب الْآخِرَة ودقت الْآخِرَة فِي جنب ملك الله تَعَالَى وعظيم مَا أبرز من غيبه ودق مَا أبرز من ملكه فِي جنب عَظمته(3/73)
وجلاله فهم الَّذين لَا قسْمَة بَينهم وَلَا وزن وَلَا عدد يتَنَاوَل أحدهم مَا شَاءَ من مَال أَخِيه من غير إِذن وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يعْمل فِي مَال أبي بكر رَضِي الله عَنهُ كَمَا يعْمل فِي مَال نَفسه كَمَا قد عرف مِنْهُ وَهل كَانَ يفعل فِي مَال غَيره مثل ذَلِك فَإِن مُخَالطَة المطبوع على السخاء أطيب والتناول من مَاله أشهى وَالْأكل من طَعَامه أطيب وَأحلى لأجل سُقُوط قدر ذَلِك عَن قلبه
وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ تصدق بِمَالِه كُله وَلَا يكَاد أهل الانتباه واليقظة يدْخلُونَ بيُوت البخلاء ويتناولون من أطعمتهم إِلَّا ويجدون ثقل ذَلِك على قُلُوبهم ويفتقدون ذَلِك الطّيب وَتلك الْحَلَاوَة واللذة من طعامهم لأَنهم قد أحسوا بِمَا فِي نُفُوسهم من قدر ذَلِك الشَّيْء عِنْدهم فَيذْهب طعمه وطيبه
وَرُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أسرِي بِهِ نزل على الْقَوْم الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} وعلمهم الشَّرِيعَة ومستقرهم بِأَرْض الصين من وَرَاء نهر الرمل فَسَأَلَهُمْ عَن معاشهم فَقَالُوا نَزْرَع ونحصد ونجمعه فِي بَريَّة من الأَرْض فَيخرج كل من احْتَاجَ إِلَى شَيْء فَيَأْخُذ مِنْهُ وسائره مَتْرُوك هُنَاكَ
فَهَذَا صدق الْأُخوة فِي أهل الْهِدَايَة بِالْحَقِّ وَالْعَدَالَة فَصَارَ الْعدْل مقومهم وَالْحق عز وَجل هاديهم وَقد كَانَت أَوَائِل هَذِه الْأمة على هَذَا السَّبِيل وَقد أثنى الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم عَلَيْهِم فَقَالَ عز من قَائِل {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} {وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا}(3/74)
وَذَلِكَ لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما افْتتح خَيْبَر قسم الْغَنَائِم بَين الْمُهَاجِرين دون الْأَنْصَار فَلم يَجدوا فِي صُدُورهمْ ضيقا وَلَا حسدا وَلَا شكا وَلَا وجدا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي فعله حِين ضربوا بِالسُّيُوفِ حَتَّى غنموا ثمَّ أعْطى الْغَنِيمَة للمهاجرين دونهم فَأثْنى الله تَعَالَى عَلَيْهِم وَشهد لَهُم بِالصّدقِ وَسُقُوط قدر الشَّيْء عَن قُلُوبهم وَقَول الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَأْكُلُوا من بُيُوتكُمْ ... إِلَى قَوْله (. . أَو صديقكم) إِذن بَالغ
لَكِن الصّديق لَهُ حَقِيقَة فَمَا لم يعرف حَقِيقَة صداقته لم يغرر المتقي المتورع بِنَفسِهِ فِي ذَلِك وَأول حَقِيقَة الصداقة فِي سُقُوط قدر الشَّيْء من قلبه فَإِذا لم يعرف بِهَذَا وَإِن صادقه بِكُل قلبه فَهُوَ مُجْتَهد فِي صداقته وَلَا يَخْلُو من كَرَاهِيَة وَثقل أَن تناولت من ملكه شَيْئا وَقد أذن الله تَعَالَى فِي الْأَمْوَال عَن طيب النَّفس قَالَ عز من قَائِل فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه هَنِيئًا مريئا وَلم يقل قلبا لِأَن الْقلب رُبمَا طَابَ وَرَضي بِمَا فِيهِ من الْإِيمَان وَالنَّفس تكره بِمَا فِيهَا من الشَّهْوَة
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (لَا يحل لامرئ من عَطاء أَخِيه إِلَّا بِطيب نَفسه) فالإقدام فِي هَذَا الْيَوْم على مثل هَذَا جرْأَة عَظِيمَة إِذْ لَا تعلم هَذِه الْخصْلَة إِلَّا لأولئك الَّذين خلت قُلُوبهم من نُفُوسهم وتعلقت بالخالق الْكَرِيم فَلَا يبالون مَا أقبل وَمَا أدبر وَمن أَخذ وَمن أعْطى يتناولون من الدُّنْيَا لله تَعَالَى ويمسكونها لله على نَوَائِب الْحق ويعطونها لله تَعَالَى فَإِن تناولت من أَمْوَالهم لم يرجع عَلَيْك وبال مِنْهُم إِذْ أَخَذتهَا لله تَعَالَى فَإِن تناولته بِغَيْر حق يثقل فعله عَلَيْهِم(3/75)
أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أسخى الْبشر وَالدُّنْيَا سَاقِطَة عَن قلبه فَقَالَ (إِنَّمَا أَنا خَازِن الله تَعَالَى يُعْطي وَأَنا أقسم فَمن أَخذ مني شَيْئا بِطيب النَّفس بورك لَهُ فِيهِ وَمن أَخذ مني شَيْئا وَأَنا لَهُ كَارِه فَإِنَّمَا يتأبطها نَارا)
وحاشا أَن يظنّ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كره من أجل قدر ذَلِك الشَّيْء فَإِن ذَلِك بخل وَلَكِن إِنَّمَا كَانَ تطيب نَفسه بالإعطاء لمن سَأَلَ بِحَق وَأخذ بِحَق فَأَما من أحس بِهِ أَنه يَأْخُذهُ أشرا وبطرا وحرصا وجمعا فَكَانَ يُعْطِيهِ على كَرَاهَة نفس ويخبرهم أَنه لَا يُبَارك لَهُم فِيهِ
وَرُوِيَ فِي الحَدِيث أَنه قيل يَا رَسُول الله فَلم تعطيه قَالَ (يَأْبَى الله لي الْبُخْل)
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يزن وَلَا يحصي وَقَالَ لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا (لَا توكي فيوكى عَلَيْك وَلَا تحصي فيحصى عَلَيْك)
وَكَانَ لَا يدّخر شَيْئا لغد ليرى الْخلق عِنْده قلَّة قدره وَقَالَ جَابر رَضِي الله عَنهُ مَا سُئِلَ شَيْئا قطّ فَقَالَ لَا(3/76)
- الأَصْل الرَّابِع وَالْعشْرُونَ والمائتان
-
فِي قُوَّة الْإِيمَان وَيسر الْعَمَل
وَهُوَ التأييد وَالصَّبْر والاستعفاف والاستغناء
عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من تصبر يصبره الله وَمن يستعف يعفه الله وَمن يسْتَغْن يغنه الله وَمَا أعطي عبد عَطاء هُوَ خير وأوسع من الصَّبْر)
قَالَ أَبُو عبد الله أَعْطَاهُم الله تَعَالَى الْعُقُول وَمن عَلَيْهِم بِالْإِيمَان وَالصَّبْر والعفة والغنى إِنَّمَا يخرج كُله من الْإِيمَان فَإِذا أعطي الْإِيمَان فقد أعطي هَذَا كُله فبقوة الْإِيمَان يصبر على طَاعَة الله ويستعف عَن مَحَارمه وَتَنَاول شُبُهَات الدُّنْيَا وَيقوم فِي العبودة على سَبِيل الاسْتقَامَة ثمَّ لَا يتم لَهُ ذَلِك إِلَّا بعون من الله تَعَالَى لِأَن النَّفس تقوم بهدم ذَلِك وَتَدْعُو إِلَى خِلَافه وَوَقع العَبْد فِي المجاهدة مَعهَا فلولا عون الله تَعَالَى العَبْد لمالت النَّفس وَلَكِن سَبِيل العَبْد أَن لَا يتَخَيَّر(3/77)
فَإِذا جَاءَ مَوضِع الصَّبْر تصبر وعزم عَلَيْهِ فوشيكا يَجِيئهُ العون من الله تَعَالَى فَوجدَ الْيُسْر فِي أمره فَذَاك عون الله تَعَالَى فَإِنَّهُ قبل ذَلِك يدْخل فِي الْأُمُور مَعَ الْجهد لِأَن النَّفس تأبى ذَلِك فَدخلت فِيهِ بإكراه صَاحبهَا لَهَا على ذَلِك فَجَاءَهُ العون من الله تَعَالَى فيسر عَلَيْهَا وعَلى ذَلِك دلّ عباده {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين}
أمره بِالْعبَادَة وسؤال العون لِأَنَّهُ أعطي الْقُوَّة على الْقيام بِمَا أمره إِلَّا أَن النَّفس تَدْعُو إِلَى خلاف ذَلِك فَجَاءَت شهواتها تُرِيدُ أَن تغلب الْقلب على مَا أَمر فَاحْتَاجَ عِنْد مجاهدة النَّفس إِلَى عون من الله تَعَالَى وَهُوَ نور على الْقلب يَسْتَنِير الْإِيمَان ويمتزج بِهِ فيقوى الْقلب وتذل النَّفس وتخمد شهواتها فتذل النَّفس
فَيَنْبَغِي للْعَبد أَن يقوم على كل أَمر أَمر بِهِ وَأَن يَنْتَهِي عَن كل نهي نهي عَنهُ بِمَا أعطي من الْعلم وَالْعقل وَالْإِيمَان وَذَلِكَ مَعَ جهد شَدِيد ينْتَظر العون من الله تَعَالَى وَلَا يلقِي بِيَدِهِ للتهلكة فَإِذا العون من الله تَعَالَى يَجِيء وييسر عَلَيْهِ كل ذَلِك فَإِن الله تَعَالَى لم يَأْمُرنَا بِأَن نقُول {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} ثمَّ يحبس عَنَّا العون وَقَالَ الله تَعَالَى {فَإِن مَعَ الْعسر يسرا إِن مَعَ الْعسر يسرا}
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (لن يغلب عسر يسرين)
فاليسر الأول هُوَ مَا أعطي العَبْد من الْآلَة والمعرفة وَالْعلم وَالْقُوَّة فلولا النَّفس الَّتِي يحارب صَاحبهَا بِدفع مَا تُرِيدُ لَكَانَ الْأَمر قد تمّ(3/78)
فَإِنَّهُ قد أعطي يسر بِهِ يقوم الْأَمر الَّذِي أَمر وَلَكِن جَاءَت النَّفس بشهوتها فَاحْتَاجَ العَبْد إِلَى يسر آخر فوعده الله تَعَالَى فَقَالَ عسر عَلَيْك الْأَمر فأعطيتك مَعَ الْعسر يسرا وَهُوَ الْعقل الَّذِي هُوَ حجَّة الله تَعَالَى على عباده إِذْ لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا ويسرا بعد الْأَمر حِين تَأْخُذهُ فِيهِ وَهُوَ العون فَإِذا جَاءَ العون انْهَزَمت النَّفس وخمدت الشَّهْوَة وهرب الْعَدو وَبَطل كَيده فهما يسران لم يغلبهما هَذَا الْعسر الَّذِي بَينهمَا من مجاهدة النَّفس حَتَّى يَأْتِيك بحربه وجهاده ليصدك ويقهرك بشهواته وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام (لن يغلب عسر يسرين) فبشرهم أَن العَبْد إِذا اسْتعْمل مَا أعطي من الْيُسْر فِي وَقت هَذَا الْعسر الَّذِي عارضته النَّفس بِهِ جَاءَ الْيُسْر الثَّانِي فَلَنْ يغلب هَذَا الْعسر هذَيْن اليسرين واليسر الثَّانِي هُوَ عونه وَهُوَ عطف الله على الْعباد وَرَحمته وَإِذا عطف على عَبده لم يبْق للنَّفس عَلَيْهِ سَبِيل وَلَا لِلْعَدو مطمع
وَقَوله (من تصبر يصبره الله تَعَالَى) أَي من اسْتعْمل مَا أعطي من الصَّبْر الَّذِي يخرج لَهُ من الْإِيمَان صبره الله أَي جَاءَهُ المدد والعون حَتَّى يتم لَهُ صبره فِي يسر وَهَكَذَا قَالَ الله تَعَالَى {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} أَي لَا يتم ذَلِك إِلَّا بعون الله تَعَالَى وغياث مِنْهُ
وَهَكَذَا قَوْله (من يستعفف يعفه الله) فَأَما قَوْله (فَمن يسْتَغْن يغنه الله) أَي من التجأ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِج صدقا فَهُوَ أكْرم من أَن يردك ويلجئك إِلَى عبيده
روى ثَابت رَضِي الله عَنهُ قَالَ حبس ابْن أَخ لِصَفْوَان بن مُحرز فَلم يبْق بِالْبَصْرَةِ رجل لَهُ وَجه عِنْد الْأَمِير إِلَّا تحمل بِهِ عَلَيْهِ فَلم يزده إِلَّا شدَّة فَبَاتَ لَيْلَة فَقيل لَهُ فِي مَنَامه يَا صَفْوَان اطلب الْأَمر(3/79)
من وَجهه فَقَامَ وَتَوَضَّأ وَصلى رَكْعَتَيْنِ وَسَأَلَ ربه ثمَّ عَاد إِلَى مضجعه فَنُوديَ بِالْبَابِ يَا صَفْوَان هَذَا ابْن أَخِيك قد جِئْنَا بِهِ فَصَارَ إِلَى الْبَاب فَإِذا ابْن أَخِيه فَقَالَ نبه الْأَمِير فِي جَوف اللَّيْل فَبعث إِلَى السجْن فَنُوديَ أَيْن ابْن أخي صَفْوَان فَطلب حَتَّى جِيءَ بِهِ فَإِذا هُوَ ذَا
وَخرج ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي سفر لَهُ فَإِذا بِجَمَاعَة على طَرِيق فَقَالَ مَا هَذِه الْجَمَاعَة فَقَالُوا أَسد قطع الطَّرِيق فَنزل فَمشى إِلَيْهِ حَتَّى قفده بِيَدِهِ ونحاه عَن الطَّرِيق فَقَالَ مَا كذب عَلَيْك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِنَّمَا يُسَلط على ابْن آدم من خافه ابْن آدم وَلَو أَن ابْن آدم لم يخف غير الله لم يُسَلط الله عَلَيْهِ غَيره وَإِنَّمَا وكل ابْن آدم لمن رجا ابْن آدم فَلَو أَن ابْن آدم لم يرج إِلَّا الله لم يكله الله إِلَى غَيره)
وَقَوله (وَمَا أعطي عبد عَطاء هُوَ أوسع من الصَّبْر) لِأَن الصَّدْر قد اتَّسع وانشرح للنور الْوَارِد على قلبه وَإِذا اتَّسع الصَّدْر يسرت عَلَيْهِ الْأُمُور كلهَا وَإِذا اسْتَقر النُّور فِي الْقلب اِنْفَسَحَ الصَّدْر وانشرح وَألقى بيدَيْهِ سلما لمَوْلَاهُ فِي أمره وَنَهْيه وَجَمِيع أَحْكَامه عَلَيْهِ وتدبيره لَهُ وَلم يبْق للقلب مُنَازع لِأَن النَّفس تذل وَتَمُوت شهوتها وتلقى بِيَدَيْهَا حِين يشرق الصَّدْر فَيحل بهَا من ذَلِك الْإِشْرَاق خوف الله(3/80)
تَعَالَى وَخَوف عِقَابه فَتحل بِهِ الرهبة ثمَّ يزْدَاد النُّور فتدخله العظمة فَتحل بهَا الهيبة وَالْخَوْف الْخَالِص مِنْهُ فتيبس وَتذهب شهوتها وتخشع لله تَعَالَى فَتَصِير تَابِعَة للقلب فحين بَدَأَ أول النُّور وجد العَبْد متسعا فِي صَدره فَقيل صابر ثمَّ زيد فَهُوَ صابر قَانِع ثمَّ زيد فَهُوَ صابر رَاض مراقب واله ثمَّ زيد فَهُوَ مُنْفَرد لرَبه وَلها عَن الصَّبْر والرضى والمراقبة والوله وَهَذَا كُله لَهُ والانفراد غَالب عَلَيْهِ فَهُوَ فِي قَبضته يَسْتَعْمِلهُ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
(كنت سَمعه وبصره وَيَده وَرجله وَلسَانه وفؤاده فَبِي ينْطق وَبِي يعقل وَبِي يمشي وَبِي يبصر وَبِي يبطش)
وَهُوَ قَول عمر رَضِي الله عَنهُ حِين شج عَليّ رجلا فَقَالَ لعمر رَضِي الله عَنهُ مَرَرْت بِهِ وأصغيت إِلَيْهِ سَمْعِي فَإِذا هُوَ يكلم امْرَأَة بِكَلَام فَلم أملك حَتَّى ضَربته فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَيهَا الرجل أصابتك عين من عُيُون الله وَإِن لله فِي الأَرْض عيُونا
وَالصَّبْر ثبات النَّفس على حكم الله تَعَالَى وتدبيره وَأمره وَنَهْيه وَرمي شَهْوَته ومنيته وَإِنَّمَا يبصر ذَلِك بِالنورِ الْوَارِد على الْقلب فيطيب ويستقر ويوقن وَأي شَيْء أوسع مِنْهُ وَبِذَلِك يثقل مِيزَانه ويملأ مِيزَانه وسعة كفته سَعَة السَّمَوَات وَالْأَرْض(3/81)
- الأَصْل الْخَامِس وَالْعشْرُونَ والمائتان
-
فِي النَّهْي عَن إسكان النِّسَاء الغرف وتعليمهن الْكِتَابَة
عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تسكنوا نساءكم الغرف وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَة)
حذرهم ذَلِك لِأَن فِي إسكانهن الغرف تطلعا إِلَى الرِّجَال وَلَيْسَ فِي ذَلِك تحصين لَهُنَّ وَلَا ستر فَإِنَّهُنَّ لَا يملكن أَنْفسهنَّ حَتَّى يشرفن على الرِّجَال فَيحدث الْبلَاء والفتنة فَحَذَّرَهُمْ أَن يجْعَلُوا لَهَا ذَرِيعَة إِلَى الْفِتْنَة
وَهُوَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (لَيْسَ للنِّسَاء شَيْء خير لَهُنَّ من أَن لَا يراهن الرِّجَال وَلَا يرين الرِّجَال) لِأَنَّهَا خلقت من الرِّجَال فهمتها فِيهِ وَخلق فِي الرجل الشَّهْوَة فَجعلت سكنا لَهُ فَغير مَأْمُون كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي صَاحبه وَكَذَلِكَ تَعْلِيم الْكِتَابَة رُبمَا كَانَت سَببا(3/82)
للفتنة وكتبت إِلَى من تهوى وَفِي الْكِتَابَة عين من الْعُيُون بِهِ يبصر الشَّاهِد الْغَائِب وَفِي ذَلِك تَعْبِير عَن الضَّمِير بِمَا لَا ينْطق بِهِ اللِّسَان فَهُوَ أبلغ من اللِّسَان فَأحب عَلَيْهِ السَّلَام أَن يقطع عَنْهُن أَسبَاب الْفِتْنَة تحصينا لَهُنَّ وطهارة لقلوبهن(3/83)
- الأَصْل السَّادِس وَالْعشْرُونَ والمائتان
-
فِي أَن رَأس الْحِكْمَة لم صَار مَخَافَة الله
عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (رَأس الْحِكْمَة مَخَافَة الله تَعَالَى)
فمخافة الله تَعَالَى هِيَ الَّتِي ألهت عَن الْأَسْبَاب حَتَّى صَارَت رَأس الحكم وَهِي تعلق الْقلب بِمَشِيئَة الله تَعَالَى وَلما صَار إِلَى الْمَشِيئَة(3/84)
أبهم عَلَيْهِ الْأُمُور فَإِنَّهُ يعلم أَنه شَاءَ فخلقه وَلَا يعلم أَنه لماذا خلقه فَظهر لَهُ بعض الْمَشِيئَة وخفي عَلَيْهِ آخر شَأْنه من مَشِيئَته وأقلقه وألهاه وأذهله عَن النَّفس وَعَن دُنْيَاهُ فَلَمَّا زايلته نَفسه ودنياه انْشَرَحَ صَدره واتسع فِي الْحِكْمَة وَالله أحكم(3/85)
- الأَصْل السَّابِع وَالْعشْرُونَ والمائتان
-
فِي حَقِيقَة الفراسة ودواعيها
عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله تَعَالَى)
الفراسة مُشْتَقَّة من الفروسية فركضه بالجوارح على الْفرس فروسية وركضه ببصر قلبه بِنور الله تَعَالَى هِيَ فراسة فبالفرس يقطع مَسَافَة(3/86)
الدُّنْيَا وبنور الله تَعَالَى يقطع مَسَافَة الْقلب وَذَلِكَ أَن على الْأَشْيَاء دَلَائِل وسمات وَقد وسم الله تَعَالَى خلقه بذلك فبنوره تدْرك تِلْكَ السمات حَتَّى يدْرك مَا لم يَأْتِ بعد وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ تفرس روى عبد الله بن سَلمَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ دَخَلنَا على عمر معاشر وَفد مذْحج وَكنت من أقربهم مِنْهُ مَجْلِسا فَجعل ينظر عمر إِلَى الأشتر ويصوب بَصَره فَقَالَ لي أمنكم هَذَا قلت نعم فلأي باله تسأله مَا لَهُ قَاتله الله كفى الله أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَره وَالله أَنِّي لأحسب أَن للْمُسلمين مِنْهُ يَوْمًا عصيبا
وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ مَا حذر عمر شَيْئا قطّ فَتكلم بِهِ إِلَّا كَانَ
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن لله عبادا يعْرفُونَ النَّاس بالتوسم)
وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين} قَالَ للمتفرسين
فالتوسم مَأْخُوذ من السمة وَهُوَ أَن يعرف سمات الله تَعَالَى وعلائمه(3/87)
فِي الْأُمُور والتفرس أَن يرْكض قلبه فَارِسًا بِنور الله تَعَالَى إِلَى أَمر لم يكن بعد فيدركه مثل مَا أدْركهُ عمر رَضِي الله عَنهُ وَمَا أدْركهُ الْحسن الْبَصْرِيّ رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنه قَالَ لعَمْرو بن عبيد هَذَا سيد فتيَان أهل الْبَصْرَة إِن لم يحدث وَقَالَ لأيوب هَذَا سيد فتيَان أهل الْبَصْرَة وَلم يسْتَثْن
وَقَالَ الشّعبِيّ رَحمَه الله لداود الأودي وَهُوَ يماريه إِنَّك لَا تَمُوت حَتَّى تكوى فِي رَأسك فَكَانَ كَمَا قَالَ
وَإِذا امْتَلَأَ الْقلب من نور الله تَعَالَى نظرت عينا قلبه بنوره فأبصر فِي صَدره مَا لَا يحاط بِهِ وَصفا فالفراسة من الله تَعَالَى لعَبْدِهِ كائنة(3/88)
- الأَصْل الثَّامِن وَالْعشْرُونَ والمائتان
-
فِي تَفْسِير الِاسْتِئْنَاس
عَن أبي أَيُّوب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُول الله هَذَا السَّلَام فَمَا الِاسْتِئْنَاس قَالَ (يتَكَلَّم الرجل بِالتَّسْبِيحَةِ وَالتَّكْبِيرَة وَالتَّحْمِيدَة وَأَن ينحنح فَيُؤذن أهل الْبَيْت)
الِاسْتِئْنَاس تَنْبِيه والاستئذان عهد فندب إِلَى أَن يَبْتَدِئ بالتنبيه ثمَّ بالعهد ليَكُون أوكد للْعهد وَأقوى للحجة وَأَنه إِذا فوجئ بِالسَّلَامِ وَالْإِنْسَان فِي غَفلَة وَالْعقل عَازِب عَنهُ كَانَت الْحجَّة عَلَيْهِ أَضْعَف يَقُول فوجئت بِالسَّلَامِ وعوجلت بِهِ فَلم أقبله بالتثبيت أَلا ترى أَن الله تَعَالَى خَاطب الْخلق فَقدم على الدعْوَة تَنْبِيها فَقَالَ {يَا} وَهُوَ كلمة تَنْبِيه حُرُوف ذَات أصداء لينبهك عَمَّا أَنْت بِهِ مشتغل ليرْجع إِلَيْك عقلك بِصَوْتِهِ كَأَنَّهُ يَعْنِي بِهَذَا أَن يَقُول يَا دَعْوَة دَعْوَة ثَانِيَة ثمَّ قَالَ أَي وَهِي كلمة الفتش مضمرة فِيهَا من كَأَنَّهُ قَالَ أَيهمْ أُرِيد بدعوتي ثمَّ قَالَ هَا هُوَ تَنْبِيه آخر يُشِير إِلَى شَيْء مَعْلُوم عينه مَعْنَاهُ(3/89)
من أذكر اسْمه أُرِيد بدعوتي ثمَّ قَالَ (النَّاس) أَو الَّذين آمنُوا فَهَذِهِ التَّنْبِيهَات من إِلْقَاء الْعذر وإتمام الْحجَّة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ}
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا أحد أحب إِلَيْهِ الْعذر من الله تَعَالَى وَلذَلِك بعث الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام)
فَقَالَ تَعَالَى {لَا تدْخلُوا بُيُوتًا غير بُيُوتكُمْ حَتَّى تستأنسوا وتسلموا على أَهلهَا}
فالاستئناس التَّنْبِيه ثمَّ يكون بعده التَّسْلِيم وَعِنْدهم كَانَ التَّسْلِيم هُوَ الاسْتِئْذَان فَإِذا ردوا جَاءَ الْإِذْن بعد ذَلِك وَإِن قيل ارْجعُوا رجعُوا وَأدنى الاسْتِئْذَان النحنحة لِأَن الْحس حس الْمَجِيء وَقد يخْتَلف فَإِذا سمع لم يدر السَّامع أَسَبْعٌ أم بَهِيمَة أم داهية من الدَّوَاهِي فَإِذا تنحنح عرف أَنه من جنسه فأنس بِهِ لِأَن الْآدَمِيّ يأنس بِجِنْسِهِ ويستوحش من غير جنسه وأعلا الاسْتِئْذَان التسبيحة ليعلم السَّامع أَنه أَخُوهُ الْمُسلم وَذَلِكَ أفضل لِأَن بالتنحنح لَا يعرف السَّامع أمسلم هُوَ أم كَافِر ولي هُوَ أم عَدو فتدخله روعة لمجيئه فَإِذا ذكر الله كَانَ أوفر للاستئناس
وَمَا رَوَاهُ شُعْبَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم أَن هَذَا خطأ من الْكَاتِب إِنَّمَا هُوَ (تستأذنوا وتسلموا(3/90)
على أَهلهَا) فَهَذَا كَلَام جَاهِل أَو ملحد يكيد الدّين أَو لَيْسَ فِيمَا روى أَبُو أَيُّوب رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَفْسِير الِاسْتِئْنَاس مَا يبطل هَذَا وَكَانَ كتاب الله تَعَالَى بَين ظهراني أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مضيعة حَتَّى كتب الْكَاتِب فِيهَا مَا شَاءُوا أَو زادوا أَو نَقَصُوا وَكَانَ الصَّحَابَة أهملوا أَمر دينهم حَتَّى فَوضُوا عهد رَبهم إِلَى كَاتب يُخطئ فِيهِ ثمَّ يَقْرَؤُهُ أَبُو بكر وَعمر وَأبي رَضِي الله عَنْهُم حَيْثُ جَمَعُوهُ فِي خلَافَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ ثمَّ من بعده مرّة أُخْرَى فِي زمن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وهم على الْخَطَأ وَشعْبَة وَأَبُو بشر رُوَاة لَا يعْرفُونَ مَا غور هَذَا وَإِنَّمَا يُنكر هَذِه الْأَشْيَاء ويدفعها الرُّعَاة عقلوا عَن الله تَعَالَى وَعَن تَدْبيره فَهموا وهم المقربون أهل الْيَقِين الَّذين وَصفهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله (كنت سَمعه وبصره) فَهُوَ الَّذِي يَنْفِي هَذِه الْأَشْيَاء ويدفعه فَإِذا نَفَاهُ وَدفعه فبه يَنْفِي وَبِه يدْفع لِأَنَّهُ بِهِ يعقل وَبِه ينْطق وَهُوَ حجَّة الله تَعَالَى على خلقه وراعي غنمه وطبيب عباده فَمن عَارضه هلك وَهُوَ لَا يشْعر
وَلِهَذَا حذر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عَن ربه عز وَجل (من آذَى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وَإِنِّي لأسرع شَيْء فِي نصْرَة أوليائي أفيظن أَن يفوتني كَيفَ وَأَنا الثائر لَهُم)(3/91)
- الأَصْل التَّاسِع وَالْعشْرُونَ والمائتان
-
فِي أَن أهل الغرف فِي الْجنَّة ومراتب الدَّرَجَات
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أهل الْجنَّة ليتراءون أهل الغرف من فَوْقهم كَمَا يتراءون الْكَوْكَب الدُّرِّي الغائر فِي الْأُفق من الْمشرق أَو الْمغرب لتفاضل مَا بَينهم قَالُوا يَا رَسُول الله تِلْكَ منَازِل الْأَنْبِيَاء فَلَا يبلغهَا إِلَّا هم قَالَ (بلَى وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ رجال آمنُوا بِاللَّه وَصَدقُوا الْمُرْسلين)
فَأهل الغرف أهل العليين الَّذين قد ارْتَفَعت درجاتهم إِلَى قرب الْعَرْش والإغتراف الإرتفاع وَسميت الغرفة لارتفاعها وَالْجنَّة ثَلَاثَة أَثلَاث أَعْلَاهَا للسابقين وأوسطها للمقتصدين وأدانيها وَمَا فِيهَا دني للمخلطين وعدن مَقْصُورَة الرَّحْمَن وجنات عدن مَحل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام والفردوس مَحل الْأَوْلِيَاء وَهِي الغرف وَهِي سرة الْجنَّة بحيال بَاب(3/92)
الْعَرْش فتوهموا أَن تِلْكَ منَازِل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَا يبلغهَا غَيرهم فأعلمهم أَن ذَلِك لَيست بمنازل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَإِنَّمَا هُوَ منَازِل الْأَوْلِيَاء والأنبياء فَوْقهم لِأَن دَرَجَة النُّبُوَّة أَعلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَوق الغرف فِي جنَّات عدن وعدن كالمدينة وجنات عدن كالقرى حولهَا والفردوس حول جنَّات عدن مضموم إِلَيْهَا مَنْسُوب مِنْهَا كعوالي الْقرى وَمَا دونهَا من الْجنان كالخيام والمراعي حول عوالي الْقرى فَأعْلم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الغرف منَازِل رجال آمنُوا بِاللَّه وَصَدقُوا الْمُرْسلين أَرَادَ بِهِ إِيمَان الصديقين لَا إِيمَان المخلطين من الْمُوَحِّدين لِأَن أهل الغرف أهل الدَّرَجَات العلى
قَالَ تَعَالَى {وَمن يَأْته مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات فَأُولَئِك لَهُم الدَّرَجَات العلى} ثمَّ قَالَ {وَذَلِكَ جَزَاء من تزكّى} أَي تطهر من مساخط الله قلبا وقولا وفعلا
وَهَذَا شَأْن الصديقين لِأَن إِيمَانهم إِيمَان طمأنينة بِهِ وبجميع أَحْكَامه وتصديقهم الْمُرْسلين تَصْدِيق لله تَعَالَى وَسُكُون
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ يجزون الغرفة بِمَا صَبَرُوا} قَالَ الغرفة من ياقوتة حَمْرَاء أَو زبرجد خضراء أَو درة بَيْضَاء لَيْسَ فِيهَا فَصم وَلَا وصم وَإِن أهل الْجنَّة ليتراءون الغرفة فِيهَا كَمَا يتراءون الْكَوْكَب الدُّرِّي الشَّرْقِي أَو الغربي فِي أفق السَّمَاء وَإِن أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا مِنْهُم وانعما
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ إِن المتحابين فِي الله لعلى عَمُود من ياقوتة حَمْرَاء فِي رَأس العمود(3/93)
سَبْعُونَ ألف غرفَة يضيء حسنهم أهل الْجنَّة كَمَا تضيء الشَّمْس أهل الدُّنْيَا يَقُول أهل الْجنَّة بَعضهم لبَعض انْطَلقُوا بِنَا حَتَّى نَنْظُر إِلَى المتحابين فِي الله فَإِذا أشرفوا عَلَيْهِم أَضَاء حسنهم أهل الْجنَّة كَمَا تضيء الشَّمْس أهل الدُّنْيَا عَلَيْهِم ثِيَاب خضر من سندس مَكْتُوب على جباههم هَؤُلَاءِ المتحابون فِي الله
فَهَؤُلَاءِ أهل الغرف وهم أهل محبَّة الله فِي الله تَعَالَى وَإِنَّمَا تحَابوا فِي الله لمحبة الله تَعَالَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى (حقت محبتي للمتحابين بجلالي)
وَقد وصف الله تَعَالَى أهل الغرفة فَقَالَ {وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا} إِلَى قَوْله {واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا}
وصف مشيهم وخطابهم وانتصابهم لَهُ ودعاءهم ونفقاتهم ونزاهتهم وانتباههم وَصدقهمْ ومحبتهم ونصحهم ثمَّ قَالَ {أُولَئِكَ يجزون الغرفة بِمَا صَبَرُوا}
وَالصَّبْر بذل النَّفس والثبات لَهُ وقوفا بَين يَدَيْهِ بالقلوب عبَادَة وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم} إِلَى قَوْله {وهم فِي الغرفات آمنون}
ذكر أَن الْقرْبَة لَا تنَال بالأموال وَالْأَوْلَاد وَإِنَّمَا تنَال بِالْعَمَلِ الصَّالح يعلمك أَن هَذَا إِيمَان طمأنينة وَتعلق قلب بِهِ فِي كل مَا نابه وبجميع أُمُوره وَأَحْكَامه وَالْعَمَل الصَّالح الَّذِي لَا يخلطه بضده(3/94)
فَأَما المخلط فَغير مطمئن بأموره وَأَحْكَامه بل هُوَ تَابع لهوى نَفسه يعْمل على شَهْوَته وَقَضَاء منيته
وَهَذَانِ وَإِن كَانَ إِيمَانهم إيمانهما بِرَبّ وَاحِد إِلَّا أَن ذَلِك قد جثمت على قلبه شهوات نَفسه فأظلمت صَدره وانكمن نوره فَلَا يعْمل شَيْئا من الْإِشْرَاق والإنارة وَهَذَا الْبَالِغ من الله تَعَالَى بنوره وهتك هَذِه الْحجب من الظُّلُمَات وأمات مِنْهُ الشَّهَوَات وولج قلبه من عَظمَة الله تَعَالَى وجلاله فأذهل نَفسه واستقام الْقلب لله تَعَالَى
فعنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَهْل الغرف هَؤُلَاءِ إِذْ لَو جَازَ أَن تنَال الغرف بِالْإِيمَان والتصديق الَّذِي للعامة لَكَانَ جَمِيع الْمُوَحِّدين فِي أعالي الدَّرَجَات(3/95)
- الأَصْل الثَّلَاثُونَ والمائتان
-
فِي مَرَاتِب أهل الْجنَّة
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ترك الْكَذِب وَهُوَ بَاطِل بني لَهُ فِي ربض الْجنَّة وَمن ترك المراء وَهُوَ محق بني لَهُ فِي وَسطهَا وَمن حسن خلقه بني لَهُ فِي أَعْلَاهَا
ترك الْكَذِب هُوَ ترك الشّرك وَلَا كذب بأعظم من الشّرك فَمحل تَاركه فِي ربض الْجنَّة وَهُوَ أدانيها فَهَذَا الصِّنْف هُوَ الظَّالِم
وَترك المراء إِذا اقْتَضَاهُ الْحق أَمر الله من آداء فَرَائِضه وَاجْتنَاب مَحَارمه أَن يخضع للحق وَلَا يماريه فَيذْهب بِرَقَبَتِهِ من حق الله تَعَالَى فِي أمره وَنَهْيه فَهَذَا مقتصد فمحله فِي وسط الْجنَّة
وَأما حسن الْخلق فَإِن الله تَعَالَى دبر لعَبْدِهِ قبل أَن يخلقه شَأْنه من الرزق وَالْأَحْوَال والْآثَار كل ذَلِك موقت مُقَدّر يبرز لَهُ فِي وقته(3/96)
كَمَا قدره وَدبره مرّة سقم وَمرَّة صِحَة وَمرَّة غنى وَمرَّة فقر وَمرَّة عز وَمرَّة ذل وَمرَّة مَحْبُوب وَمرَّة مَكْرُوه فأحوال الدُّنْيَا تتداوله لَا يَنْفَكّ من تَدْبيره وقضائه وَالْعَبْد يُرِيد مَا وَافقه واشتهاه وتدبير الله تَعَالَى فِيهِ غير ذَلِك فَإِذا رَاض نَفسه وقمعها وخشعت لله تَعَالَى بِمَا أريده من نور الْيَقِين حسن خلقه واستقام قلبه وَترك جَمِيع مشيئآته لمشيئته ينْتَظر مَا يبرز لَهُ من تَدْبيره فِي جَمِيع أَحْوَاله فيتلقاه بهشاشة قلب وَطيب نفس فَهَذَا حسن الْخلق فمحله فِي أعالي الدَّرَجَات وَسُوء الْخلق حجاب بَين العَبْد وَبَين ربه لِأَنَّهُ من نفس شهوانية وَالنَّفس مَا لم تمت شهوتها لَا تنقاد للحق وَلَا يتَخَلَّص الْقلب من مخاليبها وَلَا يبرأ الْإِيمَان من سقمه
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث الرُّؤْيَا (رَأَيْت رجلا من أمتِي جاثيا على رُكْبَتَيْهِ وَبَينه وَبَين الله تَعَالَى حجاب فَجَاءَهُ حسن خلقه فَأدْخلهُ على الله تَعَالَى)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أوحى الله إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام يَا إِبْرَاهِيم حسن خلقك وَلَو مَعَ الْكفَّار تدخل مدَاخِل الْأَبْرَار فَإِن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أَن أظلهُ فِي عَرْشِي وَأَن أسْكنهُ فِي حَظِيرَة قدسي وَأَن أدنيه من جواري)
وَحسن الْخلق على ثَلَاث منَازِل
أَولهَا أَن يحسن خلقه مَعَ أمره وَنَهْيه
الثَّانِيَة أَن يحسن خلقه مَعَ جَمِيع خلقه
الثَّالِثَة أَن يحسن خلقه مَعَ تَدْبِير ربه فَلَا يَشَاء إِلَّا مَا يَشَاء لَهُ ربه
وَمن أسوء خلقا مِمَّن دبر الله الْمَطَر من بَرَكَات السَّمَاء سقيا لِعِبَادِهِ وبلاده يَجْعَل فِيهِ أَرْزَاقهم ومعاشا لَهُم ويحيي بذلك أمة من الْأُمَم وَالْعَبْد يكرههُ ويأباه لأجل إِنَّه يبتل ثِيَابه أَو يتَأَخَّر عَن سفر يُريدهُ(3/97)
فثقل عَلَيْهِ تَدْبِير الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة لشهوته لذَلِك الْعَمَل الَّذِي هُوَ فِيهِ وَمن كَانَ ميت الشَّهْوَة فأعماله كلهَا عبودة لله تَعَالَى وَمن كَانَ يثقل عَلَيْهِ تَدْبيره وَحسن خلقه فِي جَمِيع أُمُوره وَأَحْكَامه وَإِن محَاسِن الْأَخْلَاق جَاءَت من الله تَعَالَى وَقد خزنه الله تَعَالَى عَن خلقه فَلَا يُعْطِيهِ إِلَّا من أحبه وَسعد جده فَمن منحه خلقا من تِلْكَ الْأَخْلَاق وتخلق بهَا يرى بهجة ذَلِك فِي شمائله وَفِي مَنْطِقه ومعاشرته حَتَّى فِي سيماء وَجهه وَالله أعلم(3/98)
- الأَصْل الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ والمائتان
-
فِي ظن العَبْد بربه إِن كَانَ حسنا حقق لَهُ ذَلِك وَإِن كَانَ سَيِّئًا وَكله إِلَيْهِ
عَن وَاثِلَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الله تَعَالَى أَنا عِنْد ظن عَبدِي فليظن بِي مَا يَشَاء
فالظن مَا تردد فِي الصَّدْر وَإِنَّمَا يحدث من الْوَهم وَهُوَ هاجسة النَّفس وأيد الله تَعَالَى الْمُؤمن بِنور التَّوْحِيد فِي الْقلب وَنور فِي الصَّدْر وَيَطوف حول الْقلب حِجَابا لذَلِك النُّور الْأَعْظَم فَإِذا هجست النَّفس بِعَارِض أَمر وَنور الصَّدْر بمكانه يضيء اسْتَقَرَّتْ النَّفس فاطمأن الْقلب وَحسن الظَّن لِأَن النُّور الَّذِي فِي قلبه يُؤَدِّي إِلَيْهِ أَن الله تَعَالَى كافيه وحسبه فِي كل أُمُوره وَأَنه كريم رؤوف رَحِيم عطوف وَإِذا كَانَت(3/99)
النَّفس ذَات شَهْوَة غالبة فارت بِدُخَان شهوتها فأظلمت الصَّدْر فَصَارَ الصَّدْر مظلما وَجَاءَت النَّفس بهواجسها فاضطربت فَذَلِك سوء ظَنّهَا بِاللَّه تَعَالَى وَالظَّن ظنان ظن عَطاء فَذَاك الَّذِي تَسْتَقِر عَلَيْهِ النَّفس ويطمئن الْقلب ويوفي لَهُ بذلك وَلَا يخيبه
قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَالله الَّذِي لَا إِلَه غَيره مَا أعطي عبد عَطاء خيرا من حسن الظَّن بِاللَّه
وَالظَّن الآخر ظن خالطه تُهْمَة فَلم يطمئن الْقلب فَإِن خيب فَغير مستنكر
وَقَوله أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي أَي أَن الْقلب بيَدي لم أكلهَا إِلَى أحد فَإِذا ظن عَبدِي بِي حسنا حققت لَهُ ذَلِك وَلم أخيبه وَإِذا ظن بِي سَيِّئًا وكلته إِلَى سيئ مَا ظن وتخليت عَنهُ لِأَنِّي أَعْطيته من النُّور فِي الْقلب مَا يُؤَدِّي إِلَى الصَّدْر وَفِي الصَّدْر مَا يضيء فيتصور لَهُ مَا يُؤَدِّي الْقلب إِلَيْهِ وَضاع ذَلِك الضَّوْء لقُوَّة مَا أَتَت بِهِ النَّفس من دُخان شهواتها وتقوية الشَّهَوَات من العَبْد فَعُوقِبَ عَلَيْهِ وَنسب إِلَيْهِ بِتَرْكِهِ تعاهد الْقلب حَتَّى استولت النَّفس عَلَيْهِ فألهته عَن ذكر الله
وَقَوله فليظن بِي مَا شَاءَ أَي يجدني قَرِيبا وفيا بِمَا أمل وَرَجا وَإِنَّمَا يحسن ظَنّه من انْفَرد لَهُ بَين يَدَيْهِ وَأعْرض عَن نَفسه وَرفع عَنهُ بالها فانكشف لَهُ الغطاء عَن رأفته وَرَحمته فاستقر قلبه وَمن كَانَ صَاحب شهوات واشتغال بِنَفسِهِ فَلَو انْكَشَفَ لَهُ الغطاء عَن رأفته وَرَحمته لأفسد أمره وضيع حُدُوده وَركب شهواته واجترأ فَستر عَنهُ حَتَّى يكون فِي مَخَافَة وحذر وَلِهَذَا كَانَت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لما سكنت شهواتهم وَمَاتَتْ نُفُوسهم وحييت بِاللَّه تَعَالَى قُلُوبهم بشروا بالنجاة فَلم تَضُرهُمْ الْبُشْرَى بل زادهم ألها أَي شكرا(3/100)
- الأَصْل الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ والمائتان
-
فِي حِكْمَة دُعَاء الرمد
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَصَابَهُ الرمد أَو أحدا من أَهله وَأَصْحَابه دَعَا هَؤُلَاءِ الدَّعْوَات اللَّهُمَّ أمتعني ببصري واجعله الْوَارِث مني وَأَرِنِي ثَأْرِي فِيهِ وَانْصُرْنِي على من ظَلَمَنِي
جعل الله لِلْبَصَرِ فِي الْجَسَد محلا رفيعا ومكانا عَالِيا وَفِي الْخَبَر أَن العَبْد يُؤْخَذ يَوْم الْقِيَامَة بِنِعْمَة الْبَصَر فيوجد قد استفرغ جَمِيع حَسَنَات العَبْد وَبَقِي سَائِر النعم عَلَيْهِ مَعَ التبعة
وَمن رفيع درهته على سَائِر الْجَوَارِح أَنه ينظر بِهِ إِلَى الله تَعَالَى يَوْم الزِّيَادَة وَبِه يلذ تنعما بِرُؤْيَتِهِ وَبِه ينظر إِلَى العبر فِي الدُّنْيَا فالعين قالب الْبَصَر وَالْبَصَر من نور الرّوح وَلكُل ذِي جسم لطافة فالروح مَسْكَنه فِي الدِّمَاغ ومعلقة فِي الوتين وَهُوَ نِيَاط الْقلب ثمَّ هُوَ منفش(3/101)
فِي سَائِر الْجَسَد من الظفر إِلَى شعر الرَّأْس نفخ فِيهِ الرّوح من طرف إبهامه فِي الْمُبْتَدَأ ثمَّ يخرج مِنْهُ عِنْد الْقَبْض من طرف لِسَانه لِأَن الله تَعَالَى رفع دَرَجَة اللِّسَان على سَائِر الْجَوَارِح بِالتَّوْحِيدِ وَبِه يظْهر مَا فِي الْقلب
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا من شَيْء أحب إِلَى الله من بضعَة لحم وَذَلِكَ لِسَان الْمُؤمن وَمَا من شَيْء أبْغض إِلَى الله من بضعَة لحم وَذَلِكَ لِسَان الْكَافِر)
فَجعل سَبِيل الرّوح عِنْد خُرُوجه من طرف لِسَانه ليَكُون آخر الْجَوَارِح موتا وَتَكون حَرَكَة لِسَانه عِنْد خُرُوج الرّوح مِنْهُ بِالتَّوْحِيدِ والحياة مَعَ الرّوح وَالْعقل والمعرفة فالروح نور وَالْعقل نور والمعرفة نور وَلكُل نور بصر فَبَصر الْعقل مُتَّصِل ببصر الرّوح ولطافة الرّوح فَمَا رق مِنْهَا وَصفا فَهُوَ فِي الْعين وَإِذا أبْصر النَّاظر إِلَى حدقة رأى الرقة واللطافة فِي الحدقة فِي ذَلِك السوَاد فَتلك لطافة الرّوح كَالْمَاءِ وبصر الرّوح فِي تِلْكَ الإنسانة فِي الحدقة فَذَلِك النُّور الْمشرق فِيهِ هُوَ بصر الرّوح والضوء من خَارج وَإِدْرَاك الألوان من بَين هَذَا النُّور الَّذِي فِي الإنسانة وَبَين الضَّوْء الَّذِي هُوَ خَارج وَحَتَّى لَا يَجْتَمِعَانِ لَا يدْرك النَّاظر بِعَيْنِه الألوان فَهَذَا لعامة الْآدَمِيّين
ثمَّ خص الْمُوَحِّدين بِأَن أَرْوَاحهم من النُّور وأرواح الْكَافرين من النَّار وَلَيْسَ للْكَافِرِ عقل فَخص الموحد بِالْعقلِ فَاجْتمع نور التَّوْحِيد وَنور الْعقل وَنور الْمعرفَة وَنور الرّوح فِي تِلْكَ الإنسانة فبها تبصر الْعين فِي الدُّنْيَا وتتمثل لَهُ أُمُور الْآخِرَة(3/102)
ثمَّ خص الْأَوْلِيَاء مِنْهُم بِنور الْقرْبَة وَلذَلِك النُّور أَيْضا بصر فالنور فِي الْقلب وبصره فِي بصر الْعين فبقوة ذَلِك يتفرس والفراسة أَمر جليل من أُمُور الْغَيْب خص بهَا الْأَوْلِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ينظرُونَ بِنور الله تَعَالَى إِلَى سمات الْقُدْرَة على عبيد الله تَعَالَى فِي الْغَيْب فتوسمهم نظرهم ببصر ذَلِك الْعين الَّذِي اتَّصَلت الْأَبْصَار فِيهَا بَعْضهَا بِبَعْض وغشيها بصر الْقُدْرَة فيدركون سمات الْقُدْرَة وَالتَّدْبِير فيخبرون بالعجائب فَهَذَا بصر الْأَوْلِيَاء ثمَّ للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام زِيَادَة نور فِي أَبْصَارهم وَهُوَ بصر النُّبُوَّة ثمَّ للرسل عَلَيْهِم السَّلَام بصر الرسَالَة ثمَّ لرسولنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصر سيادة الرُّسُل صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فاجتمعت هَذِه الْأَبْصَار كلهَا فِي إنسانة تِلْكَ الحدقة من عينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (رَأَيْت لَيْلَة أسرِي بِي من العلى الذّرة تدب على وَجه الأَرْض من السِّدْرَة الْمُنْتَهى)
قَوْله (أمتعني ببصري) والإمتاع بالبصر أَن يرى هَذِه الْعَجَائِب من تَدْبِير الله تَعَالَى من أُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَيرى كل شَيْء كَمَا خلقه الله تَعَالَى بِمَا ينظر إِلَيْهِ من العبر قَالَ تَعَالَى {وأنبتنا فِيهَا من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}
والمنيب الَّذِي قد أناب بِقَلْبِه فَأقبل على الله تَعَالَى وَفرغ قلبه لَهُ من حَشْو الدُّنْيَا وطهره من أدناس الْمعاصِي وكدورة الْأَخْلَاق وفضول الدُّنْيَا فقربه ربه وَأَدْنَاهُ ونقى قلبه بنوره واحتد بَصَره فِي خلقه وصنعه وتدبيره فَلَو نظر إِلَى ورقة لحار عقله فِيهَا من الْعَجَائِب الَّتِي فِيهَا من رطوبتها ولونها وطعمها وريحها ولينها ومقدارها وتقطيعها وهيئتها ونقوشها وتخطيطها واللطف الَّذِي حواها على(3/103)
هَذِه الصّفة ثمَّ كل شَجَرَة لَهَا ورق لَا يشبه الْأُخْرَى فللمؤمن الْمُنِيب فِي هَذَا الْبَصَر بهجة
فَأَما المكب على نَفسه فِي خلو من لطائف الله تَعَالَى فِيهِ الَّتِي هِيَ عِنْد الْعَارِف أحلى من القطايف وبره وتدبيره وَرَحمته وَإِنَّمَا بِهِ شغل نَفسه مَاذَا ينَال مِنْهَا من عَاجل النَّفْع أكلا وتمتعا واعتقادا لما فضل مِنْهُ حرصا على الدُّنْيَا وجمعا لَهَا قد اتَّخذهُ عدَّة لنوائبه دون الله تَعَالَى وَاعْتمد عَلَيْهِ فاستولت بهجة النَّفس عَلَيْهِم لينالوا بهَا عزا ويتمتعوا لهوا وسهوا فوقعوا فِي الخسران وحرموا رُؤْيَة الْبَهْجَة وَصَارَ عَاقِبَة أَمرهم إِلَى الكفران قَالَ الله تَعَالَى {لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم عَن ذكر الله وَمن يفعل ذَلِك فَأُولَئِك هم الخاسرون}
فَسَأَلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يمتعه ببصره الَّذِي ينَال بِهِ هَذِه الْأَشْيَاء حَتَّى يتوسم بِهِ آيَات الله وَينظر بِهِ إِلَى سمات الْقُدْرَة وَيكون مِمَّن يعبد الله بِكُل نظرة فَإِنَّمَا أعطي الْعباد ليعبدوا الله تَعَالَى بهَا لَا ليتمتعوا بهَا تمتّع الْكفَّار قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين كفرُوا يتمتعون ويأكلون كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام وَالنَّار مثوى لَهُم}
فالمؤمن يتزود فِي جَمِيع نظره وسعيه وَعَمله ينظر بِعَين الْعبْرَة والفكرة فِي أَمر الله تَعَالَى ويتقرب إِلَى الله تَعَالَى بِهِ ويتزود لآخرته وَالْكَافِر يتمتع وَإِذا نظر الْمُؤمن بِعَين الْغَفْلَة والشهوة كَانَ تمتعا فالمتنبه كلما نظر إِلَى شَيْء ازْدَادَ علما وَكَانَ بَصَره رَأس مَاله والمزيد من الْعلم ربحه وَلِهَذَا جَاءَت بِهِ الْأَخْبَار أَن النّظر إِلَى الْبَحْر عبَادَة وَإِلَى الْعَالم عبَادَة وَإِلَى وَجه الْأَبَوَيْنِ عبَادَة لِأَنَّهُ عبد الله بِتِلْكَ النظرة(3/104)
وَقَوله (واجعله الْوَارِث مني) أَي اجْعَل بَصرِي آخر مَا يخرج مني فَيكون قد ختمت لي بِالنُّبُوَّةِ والتوحيد وَالْعقل فَيكون بَصرِي هُوَ الْوَارِث لجوارحي فَإِن هَذِه الْأَبْصَار قد اجْتمعت فِي هَذَا الْبَصَر فَكَانَ آخر مَا يخرج مني لطافة الرّوح وَهُوَ بصر الْعين فَقَط فالسعيد من قبض روحه وَكَانَ آخر مَا يخرج مِنْهُ بصر توحيده وعقله والشقي من سلب ذَلِك ثمَّ قبض روحه فَكَانَ آخر مَا يخرج مِنْهُ بصر روحه فَقَط
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الرّوح إِذا فَارق الْجَسَد تبعه الْبَصَر أَلا ترى إِلَى شخوص عينه)
فَسَأَلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الإمتاع ببصره أَن يديم لَهُ ذَلِك إِلَى أَن تُفَارِقهُ روحه وَكَانَ آخر مَا يخرج عَنهُ بَصَره لِأَنَّهُ كَانَ مُتَّصِلا ببصر الْعقل والتوحيد وَالْولَايَة والنبوة والرسالة والقيادة والسيادة حَتَّى يكون ذَلِك ختاما لأَمره
وَقَوله (وَأَرِنِي ثَأْرِي) مَعْنَاهُ أَرِنِي ببصري هَذَا مَا يكون فِي أمتِي إِلَى آخر الدَّهْر من النُّصْرَة لما جِئْت بِهِ فاستجيب لَهُ فأري ملك فَارس وَالروم فِي أمته ومنازل الْحُكَمَاء وَالْعُلَمَاء وَالْأَئِمَّة الهادية بِالْحَقِّ والقائمة بِالْعَدْلِ والفتن الَّتِي هِيَ كائنة فِي أمته وَالرَّحْمَة الَّتِي عمتهم
وَقَوله (وَانْصُرْنِي على من ظَلَمَنِي) ظلم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكذب وتنفى عَنهُ منَّة الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي شَأْن النُّبُوَّة فَسَأَلَ إِظْهَار حَقه الَّذِي جَاءَ بِهِ فَكَانَت تِلْكَ نصْرَة النُّبُوَّة فَكَانَ المستعدي عَلَيْهِ على أحد أَمريْن إِمَّا أَن يهديه الله تَعَالَى وَإِمَّا أَن يقْتله(3/105)
- الأَصْل الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ والمائتان
-
فِي حَقِيقَة الْخَوْف وَحَقِيقَة الْمعرفَة
عَن معَاذ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو خِفْتُمْ الله تَعَالَى حق خيفتة لعلمتم الْعلم الَّذِي لَا جهل مَعَه وَلَو عَرَفْتُمْ الله تَعَالَى حق مَعْرفَته لزالت بدعائكم الْجبَال)
حَقِيقَة الْخَوْف لمن وصل قلبه إِلَى فردانيته فَامْتَلَأَ من عَظمَة الفردية باهت فِي جَلَاله فأينما وَقع بَصَره على شَيْء وأينما دارت فكره واطلعت نَفسه تِلْكَ الْمطَالع علم الْعلم الصافي الَّذِي لَا يمازجه شُبْهَة وَلَا جهل بِمَنْزِلَة الشَّمْس إِذا أشرقت على أهل الدُّنْيَا بضوئه يُرِيك الْأَشْيَاء كلهَا حَتَّى لَا يخفى عَلَيْك مِنْهُ شَيْء لعُمُوم إشراقه على الْأَشْيَاء كلهَا فَكَذَا شَأْن الْقلب إِذا كمل علمه وأشرق نور الله تَعَالَى فِي صَدره فَذَلِك الضَّوْء يُرِيك أَمر الملكوت وَأُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِنَّمَا ينَال هَذَا الْعلم بِنور الْخَوْف وَنور الْخَوْف مَا أشرق فِي صَدره من نور العظمة الفردية فخافه حق خيفته وَعلم الْعلم الَّذِي لَا جهل مَعَه(3/106)
لِأَنَّهُ يُرِيك ذَلِك النُّور بَاطِن الْأُمُور والأسرار الَّتِي فِي الغيوب الَّتِي خص الله تَعَالَى بالكشف عَنْهَا الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام
وَقَوله (حق مَعْرفَته) أَن تعرفه بصفاته العلى وأسمائه الْحسنى معرفَة يَسْتَنِير قَلْبك بهَا فَإِذا عَرفته بذلك كَانَ دعاؤك عَن معرفَة وَحسن الظَّن بِهِ وَقَالَ عز من قَائِل أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي والكريم يستحيي أَن يعرف بِشَيْء ثمَّ لَا يكون لَهُ من ذَلِك الشَّيْء مِنْهُ نوال فَمَا ظَنك بِعَبْد يعرف ربه بِالْكَرمِ ثمَّ يَدعُوهُ فَيَقُول يَا كريم هَل يخيب الْعَارِف لَهُ بذلك وَقد عرفه بِالْكَرمِ معرفَة يَقِين
وَقد عرف الموحدون كلهم أَنه كريم وَلَكِن تِلْكَ معرفَة التَّوْحِيد لَا معرفَة الْيَقِين وَلِهَذَا يعاملونه مُعَاملَة اللئام وَلَا يأتمنونه على أَحْوَالهم إِذْ لَو ائتمنه لم يتَخَيَّر الْأَحْوَال وَألقى مَفَاتِيح الْأُمُور إِلَيْهِ حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي يخْتَار لَهُ وَإِذا اخْتَار لَهُ مَا تكره نَفسه ويثقل عَلَيْهَا رَاض نَفسه وأدبها حَتَّى إِذا اخْتَار الله تَعَالَى لَهُ ذَلِك اهتش إِلَى الْمَكْرُوه كَمَا يهتش إِلَى المحبوب ثِقَة بِهِ وتفويضا إِلَيْهِ فَهَؤُلَاءِ الراضون عَن الله تَعَالَى رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ فهم أهل الخشية وَالَّذين عرفوه بِالْكَرمِ معرفَة التَّوْحِيد يتخيرون لَهُ الْأَحْوَال فيهربون من الْفقر والذل ويحتالون لأَنْفُسِهِمْ الْأَحْوَال المحبوبة ويطلبونها ويدبرون لأَنْفُسِهِمْ أمورا وَإِذا جَاءَهُم الْمَكْرُوه من الْأُمُور وَذَلِكَ لَهُ صنع من الله جميل رَأَيْت لَهُ نفسا دنية وخلقا شكسا فَلَا يزَال ذَلِك السوء يتَرَدَّد فِي صَدره حَتَّى يتكدر عَلَيْهِ عيشه فَإِن كَانَ صَاحب تقوى اتَّقى الله بجوارحه وصدره بِهَذِهِ الصّفة وَإِن خذل فَترك تقواه خرج ذَلِك من صَدره إِلَى الْجَوَارِح فافتضح عِنْد الْمَلَائِكَة وعقلاء خلقه فِي الأَرْض(3/107)
- الأَصْل الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ والمائتان
-
فِي أَن الطاعم الشاكر لم صَار بِمَنْزِلَة الصَّائِم الصابر وَأَن الصَّبْر أفضل
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الطاعم الشاكر بِمَنْزِلَة الصَّائِم الصابر)
الصَّوْم هُوَ أَن يعزم على أَن يكف عَن الطَّعَام وَالشرَاب ومباشرة النِّسَاء طول النَّهَار والصائم كل سَاعَة تَتَرَدَّد فِيهِ شَهْوَة الطَّعَام وَالشرَاب وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَمْنُوع مِنْهُ فَرد شَهْوَته وتجرعت نَفسه مرَارَة الرَّد فَهُوَ صابر يَتَجَدَّد عَلَيْهِ الصَّبْر سَاعَة بعد سَاعَة عِنْد تحرّك كل شَهْوَة فِي نَفسه وَمنعه مِنْهَا فَهُوَ يردهَا وَيثبت على الْوَفَاء بنذره فَسُمي(3/108)
الصَّائِم الصابر وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) إِنَّمَا صَار مُخْتَصًّا من بَين الْأَعْمَال بِأَن نسبه إِلَى نَفسه الْكَرِيمَة وَإِن كَانَ الْأَعْمَال كلهَا لله تَعَالَى لِأَن الصَّوْم لَيْسَ بِعَمَل الْأَركان وَيَقَع سرا فِيمَا بَينه وَبَين ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والحفظة لَا تعلم ذَلِك وَلَا تطلع عَلَيْهِ وخفي عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَمِقْدَار ثَوَابه فولي الله تَعَالَى ذَلِك لعَبْدِهِ لِأَنَّهُ كلما ترددت شَهْوَة تَجَدَّدَتْ للْعَبد عَزمَة على الثَّبَات فَلهُ بِكُل عَزمَة ثَوَاب جَدِيد
وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا من نعْمَة وَإِن تقادم عهدها فَذكرهَا العَبْد فَحَمدَ الله عَلَيْهَا إِلَّا جدد الله تَعَالَى لَهُ ثَوَاب شكرها كَيَوْم شكره وَمَا من مُصِيبَة وَإِن تقادم عهدها فَذكرهَا العَبْد فَاسْتَرْجع إِلَّا جدد الله لَهُ ثَوَابهَا كَهَيْئَته يَوْم أُصِيب)
فللصائم بِكُل عَزمَة اسْتِئْنَاف صَبر قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} فقد خرج هَذَا من عمل الْحفظَة وإدراكهم
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْأَعْمَال كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّهُ لَا يعلم ثَوَاب عَامله إِلَّا الله تَعَالَى)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَعْمَال عِنْد الله سَبْعَة عملان موجبان(3/109)
وعملان بأمثالهما وَعمل بِعشر أَمْثَاله وَعمل بسبعمائة ضعف وَعمل لَا يعلم ثَوَاب عَامله إِلَّا الله تَعَالَى فَأَما الموجبان فَمن لَقِي الله يعبده مخلصا لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا وَجَبت لَهُ الْجنَّة وَمن لَقِي الله قد أشرك بِهِ وَجَبت لَهُ النَّار وَمن عمل سَيِّئَة جزي بِمِثْلِهَا وَمن عمل حَسَنَة جزي عشرا وَمن أنْفق مَاله فِي سَبِيل الله ضعفت بسبعمائة وَالصِّيَام الَّذِي لَا يعلم ثَوَاب عَامله إِلَّا الله تَعَالَى
وَقَوله (الطاعم الشاكر بِمَنْزِلَة الصَّائِم الصابر) فالإيمان منقسم على الشُّكْر وَالصَّبْر
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْإِيمَان نِصْفَانِ نصف للشكر وَنصف للصبر)
لِأَن العَبْد فِي جَمِيع عمره بَين مَحْبُوب ومكروه فالإيمان يَقْتَضِي الشُّكْر عِنْد المحبوب وَالصَّبْر عِنْد الْمَكْرُوه فَإِذا وفى لَهما وفر إيمَانه فَإِذا طعم وَهُوَ مَحْبُوب النَّفس فَشكر فقد أَتَى بِنصْف وَفَاء الْإِيمَان وَإِذا جَاع وَهُوَ مَكْرُوه النَّفس فَصَبر فقد أَتَى بِنصْف وَفَاء الْإِيمَان وَهَكَذَا فِي جَمِيع الْأَعْمَال وَهَذَا لِأَن العَبْد لما آمن بِقَلْبِه واعترف بِلِسَانِهِ امتحن صدق مَا فِي قلبه وطمأنينة نَفسه بِالْإِيمَان بالمحبوب وَالْمَكْرُوه فَإِن أبرز عِنْد المحبوب شكرا وَعند الْمَكْرُوه صبرا فقد أَتَى بوفاء الْإِيمَان
قَالَ تَعَالَى {الم أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون وَلَقَد فتنا الَّذين من قبلهم فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين}(3/110)
لِأَن الشَّهْوَة الَّتِي فِي ابْن آدم من المحفوف بِبَاب النَّار فَإِذا أثارها مَحْبُوب من الْأُمُور فَهِيَ حِرْفَة يَقْتَضِي عَلَيْهَا الشُّكْر وَهُوَ رؤيتها من خَالِقهَا والمقدر لَهُ وَإِذا آثرها بمكروه فَهِيَ حِرْفَة يَقْتَضِي عَلَيْهَا الصَّبْر للمقدر الْحَاكِم عَلَيْهِ بذلك لتظهر صِحَة إيمَانه فيباهي الله تَعَالَى بِهِ يَوْم الْموقف مَلَائكَته عليم السَّلَام إِذا أَتَى الله تَعَالَى بِالصبرِ وَالشُّكْر(3/111)
- الأَصْل الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ والمائتان
-
فِي أدب شرب المَاء وفوائد كل شربة وَحِكْمَة الشُّكْر والشفاء والوترية
عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا شربتم فَاشْرَبُوا بِثَلَاثَة أنفاس فَالْأول شكر لشرابه وَالثَّانِي شِفَاء فِي جَوْفه وَالثَّالِث مطردَة للشَّيْطَان وَإِذا شربتم فمصوه مصا فَإِنَّهُ أَجْدَر أَن يجْرِي مجْرَاه وَأَنه أهنا وأمرأ)
النَّفس الأول صَار شكرا للمنتهين لما خلص إِلَيْهِ عذوبة المَاء ورطوبته وبرودته ترَاءى لِقَلْبِهِ لطف الله تَعَالَى فِي ذَلِك المَاء كَيفَ جرت ربوبيته فِيهِ حَتَّى رطبه وأعذبه وبرده فَكَانَت رُؤْيَته لذَلِك شكرا وَإِذا كَانَ النَّفس الأول بِهَذِهِ الْهَيْئَة ذهب بالداء وَإِذا ذهب الدَّاء جَاءَت نوبَة الشِّفَاء فَلَمَّا شكر هَذَا العَبْد فِي النَّفس الأول اسْتوْجبَ من الله تَعَالَى الْمَزِيد قَالَ تَعَالَى {لَئِن شكرتم لأزيدنكم}(3/112)
فاجتلب فِي النَّفس الثَّانِي الْمَزِيد فَصَارَ شِفَاء لِأَن الْبركَة قد اشْتَمَلت على الْمَزِيد
وَأما النَّفس الثَّالِث صَار مطردَة للشَّيْطَان للوترية الَّتِي فِيهِ فَإِن الله تَعَالَى وتر يحب الْوتر فَالنَّفْس الأول رَحمته وَالنَّفس الثَّانِي شكره لعَبْدِهِ وَهُوَ مزيده وَالنَّفس الثَّالِث محبوبه لسمة الوترية فوتريته تَعَالَى نفت كل خلط فِي الْأَعْمَال مِمَّا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يزاوجه لِأَنَّهُ مستعد لِأَن يزاوج بِمَا يُورد على الْقُلُوب فِي ملك الصُّدُور والموحد يَنْفِي مزاوجته بحظه من وترية الله تَعَالَى حَتَّى يبطل كَيده ويصفو عمله لله تَعَالَى الْوتر وَلذَلِك كَانَت الْعلمَاء يتوخون الْوتر فِي كل شَيْء فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ وترا وَإِذا تكلم فَأَعَادَ الحَدِيث أعَاد وترا وَكَانَ يتوخى الوترية فِي كل شَيْء وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ يتوخى الوترية فِي كل شَيْء حَتَّى أَنه كَانَ يقْرَأ فِي صلَاته بِأم الْقُرْآن بِثَلَاثَة أنفاس وَكَانَ ابْن سِيرِين رَضِي الله عَنهُ يتفقد بِطَلَب ذَلِك حَتَّى يَأْمر الْخَادِم أَن يضع على مائدته من كل شَيْء وترا يتوخون بذلك مَحْبُوب الله تَعَالَى والتماس الْبركَة وانطراد الشَّيْطَان ونفوره وَإِذا انطرد الشَّيْطَان بَقِي الشِّفَاء على هَيئته وَثَبت الشُّكْر لصَاحبه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله ليرضى على العَبْد بالشربة الْوَاحِدَة والأكلة الْوَاحِدَة يشْربهَا أَو يأكلها فيحمد الله عَلَيْهَا)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا أنعم الله على عبد من نعْمَة صَغِيرَة وَلَا(3/113)
كَبِيرَة فَحَمدَ الله عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ قد أعطي خيرا مِمَّا أَخذ)
فَالنَّفْس الأول للشكر وَإِنَّمَا يثبت الشُّكْر للوترية فِي النَّفس الثَّالِث لانطراد الشَّيْطَان لِأَنَّهُ لم يكن مطرودا دخل عَلَيْهِ بوسوسة مَا يبطل شكره بِأَن يوسوس إِلَيْهِ فِي عذوبته أَو فِي صفائه أَو فِي برده خللا ينغص عَلَيْهِ النِّعْمَة حَتَّى يغيب عَن قلبه لطف ربوبية الله تَعَالَى فِي ذَلِك المَاء فِي وَقت الشّرْب
وَقد اسْتوْجبَ العَبْد رِضَاء الله تَعَالَى فِي شربة وَاحِدَة لهَذِهِ الْآدَاب الَّتِي دأب عَلَيْهَا مُطيعًا لله تَعَالَى طَالبا فِيهَا حسن الْعَمَل وَهَذِه الشربة الْوَاحِدَة إِنَّمَا رَضِي الله بهَا عَن العَبْد لِأَنَّهُ سمى فِي أَولهَا وتنفس حِين قطع الشُّكْر للمزيد ليجتلبه فَإِن الْمَزِيد أَكثر من الشُّكْر ثمَّ تنفس فَقطع ليجتلب الوترية فينفي الْعَدو الْحَاسِد الَّذِي قد أعد لَهُ فِي كل شَيْء حسدا فَيثبت لَهُ الشُّكْر فيدوم فَإِذا حمد الله فقد خَتمه بِكَلِمَة الصدْق فَرضِي عَنهُ بِتِلْكَ الْكَلِمَة الصادقة وَإِذا حمد حمدا مَعَ ترك الْأَدَب كَانَت كَلمته مدخولة فَلَا يسْتَوْجب الرضى لِأَنَّهُ مَعَ اسْتِيلَاء الْغَفْلَة كحمد السكارى وَإِذا رَضِي الله تَعَالَى عَن عَبده أثنى عَلَيْهِ وأحبه مَلَائكَته
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من شرب المَاء بِثَلَاثَة أنفاس بَدَأَ فَسمى فِي كل مرّة وَحمد كل مرّة سبح المَاء فِي جَوْفه حَتَّى يشرب مَاء غَيره)(3/114)
وَقَوله (إِذا شربتم فمصوا) لِأَن اللهاة تيبس من حرارة الْجوف ولهبان الكبد فتعطش اللهاة فَإِذا مص المَاء كَانَ كثير الْبُرُودَة على اللهاة فيسكن الْعَطش فاستغنى عَن كثرته إِذْ كَثْرَة المَاء تتخم وتحدث دَاء كَثِيرَة فَإِذا مص أسْرع إِلَى تسكين الْعَطش فاستغنى عَن الازدياد وَلِأَنَّهُ أرْفق لمجراه فِي الْعُرُوق
قَالَ (لَا تَعبه عبا فَإِن الكباد من العب)
فَإِنَّهُ إِذا عب أضرّ بالكبد لِأَنَّهُ مجمع الْعُرُوق وَمِنْه تَنْقَسِم فِي الْعُرُوق فَإِذا عبه فِي دفْعَة وَاحِدَة كَانَ بِمَنْزِلَة نهر فتحت مفتحه دفْعَة وَاحِدَة فَدخل المَاء جملَة لم يُؤمن البثق وَالْفساد فَكَذَا إِذا شربه عبا لَا مصا لم تحْتَمل الْعُرُوق وفاضت من الْمعدة إِلَى الْعُرُوق فَرُبمَا كَانَ على الطَّرِيق سدة فِي الْعُرُوق فاحتبس المَاء هُنَاكَ فدوي فَصَارَ خاما وَقَوي البلغم فَحدثت مِنْهُ أدواء فِي النَّفس وأورثت كسلا عَن عبَادَة الله تَعَالَى وفتورا فَمن لَهَا عَن تفقد ذَلِك يُوشك أَن يُؤَدِّيه إِلَى مَا هُوَ أكبر مِنْهُ فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفيقا على الْأمة رؤوفا رحِيما أَن يؤديهم إِلَى الله تَعَالَى مَعَ زِينَة الْإِسْلَام وبهاء الْإِيمَان فعلمهم تنَاول الطَّعَام وَالشرَاب وكل شَيْء للنَّفس فِيهِ حق وَقد طهره الله تَعَالَى وأدبه وَأَحْيَا قلبه وَنَفسه فَقبل أدبه وَصَارَ مهذبا وأمرنا بالاتساء بِهِ فَقَالَ تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} وَجعل الإتباع لَهُ عَلامَة محبته فِي قُلُوب الْعباد فَقَالَ {إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} فَأوجب محبته لمن اتبعهُ(3/115)
- الأَصْل السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ والمائتان
-
فِي أَن النّوم مَعَ الطُّهْر كَالصَّوْمِ مَعَ الْقيام
عَن عَمْرو بن حُرَيْث رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (النَّائِم الطَّاهِر كالصائم الْقَائِم)
الصَّائِم بترك الشَّهَوَات يطهر وبقيامه بِاللَّيْلِ يحيا والنائم نوم الْعدة محتسبا إِذا نَام على طَهَارَة بِمَنْزِلَتِهِ فَإِن نَفسه تعرج إِلَى الله تَعَالَى فَإِذا كَانَ طَاهِرا قرب فَسجدَ تَحت الْعَرْش
قَالَ عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا تعرج الْأَرْوَاح إِلَى الله تَعَالَى فِي منامها فَمَا كَانَ طَاهِرا سجد تَحت الْعَرْش وَمَا كَانَ غير طَاهِر سجد قاصيا فَلذَلِك يسْتَحبّ أَن لَا ينَام الرجل إِلَّا وَهُوَ طَاهِر
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ إِذا نَام الْإِنْسَان عرج بِنَفسِهِ(3/116)
حَتَّى يُؤْتى بهَا إِلَى الْعَرْش فَإِذا كَانَ طَاهِرا أذن لَهَا فِي السُّجُود وَإِن كَانَ حنبا لم يُؤذن لَهَا فِي السُّجُود
وَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ إِن النَّفس تعرج أصوب فَإِنَّهُ يرْوى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (وكل بالنفوس شَيْطَان يُقَال لَهُ الهو فَهُوَ يخيل إِلَيْهَا ويتراءى إِلَى أَن يَنْتَهِي إِذا عرج بهَا فَإِذا انْتَهَت إِلَى السَّمَاء فَمَا رَأَتْ فَهُوَ الرُّؤْيَا الَّتِي تصدق) إِلَّا أَن عبد الله بن عَمْرو إستجاز أَن يُسَمِّي الرّوح باسم قرينها كالقلب والفؤاد وَالنَّفس وَالروح قرينان إِلَّا أَن الرّوح سماوي يَدْعُو إِلَى الطَّاعَة ومسكنه فِي الرَّأْس وَالنَّفس أرضية تَدْعُو إِلَى الشَّهَوَات وَقد وضع فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا شَيْء من الْحَيَاة فَيعْمل بِتِلْكَ الْحَيَاة فبالنفس يَأْكُل وَيشْرب وَيسمع ويبصر وبالروح يعف ويستحيي ويتكرم ويتلطف ويعبد ربه ويطيع وَالنَّفس هِيَ الأمارة بالسوء وَهِي حارة وَالروح بَارِد فَإِذا نَام العَبْد خرجت النَّفس بحرارتها فعرج بهَا إِلَى الملكوت وَالروح بَاقٍ مُعَلّق بنياط الْقلب يحرس الْقلب بِمَا فِيهِ من التَّوْحِيد وأصل النَّفس بَاقٍ يتَقَيَّد بِالروحِ وَقد خرج شعاعها قَالَ الله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى}
وَلذَلِك تَجِد النَّائِم اسْتَيْقَظَ فِي أَعْضَائِهِ بردا فِي أَيَّام الصَّيف لخُرُوج حرارة النَّفس
والنفوس تشترك بَين الْآدَمِيّ والبهائم وَفضل الْآدَمِيّ بِالروحِ السماوي ليَكُون دَاعيا لنَفسِهِ إِلَى الطَّاعَة وَإِذا نَام العَبْد خرجت النَّفس فَلَقِيت من أُمُور الملكوت وأخبار الْغَيْب مَا يرجع إِلَى صَاحبهَا بِالْعلمِ الشافي(3/117)
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (رُؤْيا الْمُؤمن جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة)
وَقَالَ أَيْضا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لم يبْق بعدِي من النُّبُوَّة شَيْء إِلَّا الْمُبَشِّرَات رُؤْيا الْمُؤمن)
فَإِذا عرجت النَّفس صَارَت إِلَى فنَاء الْعَرْش فظهرت بِقرب الله تَعَالَى وبالسجود الَّذِي أذن لَهَا فَرَجَعت إِلَى صَاحبهَا طَاهِرَة بِالْقربِ محبوة بكرامة السُّجُود فَصَارَت بِمَنْزِلَة الصَّائِم الَّذِي طهر بترك الشَّهَوَات وحيى بِقِيَام اللَّيْل فَهَذِهِ منزلَة الصَّادِقين اسْتَوَى نَومه على طَهَارَة بصيامه وقيامه
وَلِهَذَا قَالَ معَاذ رَضِي الله عَنهُ لأبي مُوسَى إِنِّي أَنَام نصف اللَّيْل وأقوم نصفه فأحتسب نومتي كَمَا أحتسب قومتي
فَأَما منزلَة الصديقين خَاصَّة الله تَعَالَى فَهِيَ أرفع من هَذَا فَإِن النّوم(3/118)
عِنْدهم أثر من الْقيام لِأَن نُفُوسهم قد قلقت بَين الأحشاء فَهِيَ تطلب الانفلات إِلَى فسحة التَّوْحِيد إِلَى فحص الْعَرْش وَطلبت الْعُقُول الْوُصُول إِلَى الله تَعَالَى فاغتنم مَا تطلب النَّفس فاقترنا فَخرج الْعقل بحظه من الْقلب اشتياقا إِلَى الله تَعَالَى وَخرجت النَّفس اشتياقا إِلَى فسحة الْعَرْش وَالروح الَّذِي هُنَاكَ فَإِذا رجعا إِلَى الْبدن أوردا على الرّوح من الطهارات والكرامات مَا لَا يخْطر على قلب بشر حَتَّى يرتاح ويطهر وَلذَلِك كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتوخى نوم السحر
قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَا أَلْقَاهُ السحر عِنْدِي إِلَّا نَائِما
فالسحر سَاعَة نزُول الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا واطلاعه على الْخلق والعطف عَلَيْهِم والنداء أَلا هَل من دَاع فأستجيب لَهُ أَلا هَل من تائب فأتوب عَلَيْهِ أَلا هَل من سَائل فَأعْطِيه أَلا هَل من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ وَهُوَ باسط يَده لمسيء النَّهَار أَن يَتُوب بِاللَّيْلِ ثمَّ يَقُول من يقْرض غير مَعْدُوم وَلَا مطول
فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتوخى النّوم فِي ذَلِك الْوَقْت لعروج نَفسه إِلَى الله تَعَالَى فَتَلقاهُ فِي سمائه وَهَذَا أفضل عِنْده من قِيَامه لِأَنَّهُ فِي حَال الْقيام إِنَّمَا يعرج إِلَيْهِ قلبه بعقله وَفِي حَالَة النّوم تعرج النَّفس وَالْعقل وَالْقلب فاجتماع الثَّلَاثَة أفضل عِنْده فخاصة الله تَعَالَى نالوا هَذَا الْحَظ وتوخوا بنومهم ذَلِك فصاروا أفضل من الصائمين القائمين وَأما الصَّادِق فقد اعتدل نَومه بصومه ومكثه فِي نَومه بقومته وإليهم أَشَارَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث وَهَذَا مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الطاعم الشاكر بِمَنْزِلَة الصَّائِم الصابر)
فَهَذَا شكر الصَّادِقين عدل شكره على طَعَامه بصبره فِي صِيَامه فَأَما شكر الصديقين فقد فاق وبرز على صَبر الصائمين لِأَن الصَّبْر ثبات العَبْد فِي مركزه عَن الشَّهَوَات برد مَا يهتاج مِنْهُ من الشَّهَوَات(3/119)
فِي وَجه النَّفس والشاكر من الصديقين يطعم ويفتتح طَعَامه بِبسْم الله الَّذِي يمْلَأ تَسْمِيَته مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض ويطفئ حرارة شَهْوَته وَيرى لطف الله تَعَالَى فِي ذَلِك الطَّعَام ورأفته بِهِ فِي سياقته إِلَيْهِ ويحمد الله تَعَالَى على مَا يرى من صَنْعَة الله تَعَالَى فِي ذَلِك الطَّعَام حمدا لَا يَنْتَهِي فقد بَان تفَاوت مَا بَين هذَيْن الْحَالين
وَعند معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ قَالَ أَبْطَأَ عَنَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَلَاة الْفجْر حَتَّى كَادَت الشَّمْس تدركنا ثمَّ خرج فصلى بِنَا فَخفف فِي صلَاته ثمَّ انْصَرف فَأقبل علينا بِوَجْهِهِ فَقَالَ على مَكَانكُمْ أخْبركُم بإبطائي عَنْكُم الْيَوْم فِي هَذِه الصَّلَاة إِنِّي صليت فِي لَيْلَتي هَذِه مَا شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ ملكتني عَيْني فَرَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة وأجملها فَقَالَ يَا مُحَمَّد قلت لبيْك يَا رب قَالَ فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى قلت لَا أَدْرِي يَا رب ثمَّ قَالَ يَا مُحَمَّد قلت لبيْك يَا رب قَالَ فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى قلت لَا أَدْرِي يَا رب قَالَ فَوضع كَفه بَين كَتِفي فَوجدت برد أنامله بَين ثديي فَعلمت من كل شَيْء وبصرته ثمَّ قَالَ يَا مُحَمَّد قلت لبيْك يَا رب قَالَ فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى قلت فِي الْكَفَّارَات قَالَ وَمَا هن قلت فِي الْمَشْي على الْأَقْدَام إِلَى الْجَمَاعَات وَفِي إسباغ الْوضُوء فِي السبرات وَفِي الْقعُود فِي الْمَسَاجِد بعد الصَّلَوَات قَالَ ثمَّ فيمَ قَالَ قلت وَفِي إطْعَام الطَّعَام ولين الْكَلَام وَالصَّلَاة بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نيام قَالَ سل قلت اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك حب الْحَسَنَات وَترك الْمُنْكَرَات وَحب الْمَسَاكِين وَأَن تغْفر لي وترحمني وَإِذا أردْت فتْنَة فِي خلقك فنجني إِلَيْك مِنْهَا غير مفتون اللَّهُمَّ وَأَسْأَلك حبك وَحب من يحبك وَحب عمل يقرب إِلَى حبك ثمَّ أقبل علينا فَقَالَ تُعَلِّمُوهُنَّ وادرسوهن فَإِنَّهُنَّ حق(3/120)
فَانْظُر كم بَين النومة والقومة فَهُوَ قصد المشتاقين إِلَى الله تَعَالَى فِي الْمَنَام يتوخون بهَا تجدّد أَحْوَال النُّفُوس ويتوقعون من الله تَعَالَى المنن وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يَقُول لِأَن أسمع برؤيا صَالِحَة أحب إِلَيّ من كَذَا وَكَذَا(3/121)
- الأَصْل السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ والمائتان
-
فِي التَّعَوُّذ بِاللَّه من الرغب
عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تعوذوا بِاللَّه من الرغب) قَالَ وَكَانَت ابْنة رغيبة فَدَعَا الله عَلَيْهَا فَمَاتَتْ
الرغب كَثْرَة الْأكل والشبع مَفْقُود حَتَّى يحْتَاج صَاحبه أَن يثابر عَلَيْهِ فِي الْيَوْم مَرَّات وَذَلِكَ من غَلَبَة الْحِرْص ولهبان ناره يهضم ذَلِك الطَّعَام وينشف رطوبته حَتَّى يسْرع فِي يبسه فَيصير تفلا يحْتَاج إِلَى أَن ينفضه نفضا
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الرغب شُؤْم) لِأَن ذَلِك من جعامة النَّفس وَإِذا كَانَت النَّفس جعمة فصاحبها مفتون وجعامة النَّفس من قلَّة حَظه من الله تَعَالَى وَبعد قلبه مِنْهُ وربة نفس مَالَتْ جعامتها إِلَى بَطْنه فَيكون مفتونا ببطنه وَلَذَّة حلقه هالعا لَا يدع رطبا وَلَا يَابسا وربة نفس مَالَتْ جعامتها بهَا إِلَى فرجه فَكَانَ منهوما بذلك وَإِذا عجز عَنهُ فعلا لكبر أَو ضعف فقلبه منهوم وَلسَانه رافث وعينه طماحة(3/122)
خَائِنَة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَكثر مَا يدْخل النَّاس الْجنَّة حسن الْخلق وَأكْثر مَا يدْخل النَّاس النَّار الأجوفان الْبَطن والفرج)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أشر مَا فِي الْإِنْسَان شح هَالِع وَجبن خَالع)
وَالشح الهالع هُوَ الْحِرْص الَّذِي لَهُ حريق فِي الْجوف وَصَاحبه لَا يشْبع والجبن الخالع هُوَ الَّذِي إِذا وَقع الْخَوْف فِي الرئة انتفخ من الْجُبْن وَسُوء الظَّن حَتَّى يرحل الْقلب من مَكَانَهُ فَيبقى مُعَلّقا كالمتخلع والرغب مُشْتَقّ من الرَّغْبَة وَالرَّغْبَة خلقت من أَخْلَاق الْكفْر
قَالَ وهب رَضِي الله عَنهُ وجدت فِي الْحِكْمَة مَكْتُوبًا بني الْكفْر على أَرْبَعَة أَرْكَان على الرَّغْبَة والرهبة والشهوة وَالْغَضَب
فالرغبة ربع الْكفْر وَالْمُؤمن لَا يرغب بل يتَنَاوَل على الْحَاجة وَلَا يسْتَمْتع بل يتزود لِأَنَّهُ مُسَافر قد أَيقَن بِالْبَعْثِ فَهُوَ فِي السّير إِلَى ربه فَمَا أَخذه من الدُّنْيَا أَخذه تزودا ليقطع مَسَافَة أَيَّام الدُّنْيَا إِلَى يَوْم مقدمه عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ الَّذِي حل بِهِ وَالْكَافِر قد ركن إِلَى الدُّنْيَا وَنَعِيمهَا وَلم يقر بِالْبَعْثِ وَلَا اطْمَأَن إِلَى أَنه صائر إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى مَا يأمله الْمُؤمن من الرَّجَاء الْعَظِيم والأمل الفسيح فَيَأْخُذ من الدُّنْيَا متمتع وَيَأْكُل أكل متشبع
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا مَلأ آدَمِيّ وعَاء شرا لَهُ من بطن بِحَسب(3/123)
ابْن آدم لقمات يقمن صلبه فَإِن كَانَ لَا بُد فثلث طَعَام وَثلث شراب وَثلث نفس)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي جُحَيْفَة رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ تجشأ (يَا أَبَا جُحَيْفَة أقصر من جشائك فَإِن أطول النَّاس جوعا يَوْم الْقِيَامَة أَكْثَرهم شبعا فِي الدُّنْيَا)
وَيُقَال الشِّبَع أَب الْكفْر لِأَنَّهُ يحدث مِنْهُ الأشر والبطر ومنهما يتكبر ويتجبر
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله تَعَالَى يحب القتير من أمتِي قيل يَا رَسُول الله وَمَا القتير قَالَ قَلِيل الطّعْم
وَرُوِيَ عَن يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ لإبليس هَل وجدت مني شَيْئا قطّ قَالَ لَا إِلَّا أَنَّك رُبمَا شبعت فَثقلَتْ عَن الصَّلَاة فعاهد الله تَعَالَى أَن لَا يشْبع حَتَّى يخرج من الدُّنْيَا فَأمر عَلَيْهِ السَّلَام بالتعوذ مِنْهُ ليعافى من هَذِه الْآفَات إِن شَاءَ الله تَعَالَى(3/124)
- الأَصْل الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ والمائتان
-
فِي سَبَب زِيَادَة الْعُمر
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا بني أَسْبغ الْوضُوء يزدْ فِي عمرك)
فَزِيَادَة الْعُمر على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن العَبْد إِذا عمر بِالْإِيمَان وبحياة الْقلب بِهِ فَذَاك كثير وَإِن قل مدَّته لِأَن الْقصير من الْعُمر إِذا احتشى من الْإِيمَان أربى على الْكثير لِأَن المبتغي من الْعُمر العبودة لله تَعَالَى كي يصير عِنْد الله تَعَالَى وجيها أَلا ترى أَن المعمرين من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام كلهم عمروا مَا بَين الْمِائَتَيْنِ إِلَى الْألف وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبث فِي النُّبُوَّة نيفا وَعشْرين سنة فأربى على الْجَمِيع وتقدمهم لعَظيم حشوه ووفور حَظه ودنو قربه حَتَّى قَالَ (أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر وَإِن الله تَعَالَى أَعْطَانِي خِصَالًا لم يُعْط أحدا قبلي سميت(3/125)
أَحْمد ونصرت بِالرُّعْبِ وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا وَأحلت لي الْغَنَائِم)
الْوَجْه الثَّانِي أَن الله تَعَالَى قدر الْآجَال والأرزاق والحظوظ من أَهلهَا فَجعل بَعْضهَا وَاجِبَة وَبَعضهَا هَدِيَّة ثمَّ أثبت ذَلِك فِي الْكتاب الَّذِي عِنْده لَا يطلع عَلَيْهِ أحد وَمِنْه نسخ إِلَى اللَّوْح فَيَمْحُو من ذَلِك الْأُم مَا شَاءَ وَيثبت مَا شَاءَ وَإِنَّمَا يمحو من الْهَدَايَا بالأحداث الَّتِي تكون من أَهلهَا فِي الأَرْض فَأَما الْوَاجِبَات فقد وَجَبت لأَهْلهَا فَإِذا حَافظ الْمُؤمن على الْوضُوء وأسبغه فَإِنَّمَا يَدُوم هَذَا الْفِعْل لوفارة إيمَانه واتساع صَدره شرحا لِلْإِسْلَامِ فهداياه فِي أم الْكتاب مثبتة تربو بحفظه وصونه للهدايا فَإِذا استخف بهَا دخل التَّخْلِيط فِي إيمَانه وَذَهَبت الوفارة وانتقص من كل شيئ بِمَنْزِلَة الشَّمْس الَّتِي ينكسف طرف مِنْهَا فبقدر مَا انكسف وَلَو مِقْدَار رَأس إبرة انْتقصَ من شعاعها وإشراقها فَكَذَلِك نور الْمعرفَة بِقدر مَا ينكسف من شمسها ينتقص من جَمِيع أَعماله وأخلاقه وَسيرَته فِي الدّين بَين يَدي الله تَعَالَى لِأَن الْقلب صَار محجوبا وَمن حجب عَن الله تَعَالَى بِمِقْدَار رَأس إبرة فزوال الدُّنْيَا بكليتها أَهْون من ذَلِك فَلَا يزَال العَبْد ينتقص ويدوم ويتراكم نقصانه وَهُوَ أبله لَا ينتبه بذلك حَتَّى يسْتَوْجب الحرمان فتمحى الْهَدِيَّة وَيبقى العَبْد خَالِيا وَلَو قد عقل لما حل بِهِ وانتبه لَهُ لم يزل صَارِخًا إِلَى الله تَعَالَى حَتَّى تثبت لَهُ الْهَدِيَّة وَيُزَاد فِي الْعُمر فيؤخر أَجله ويزداد فِي رزقه وقوته فِي أَعمال الدّين وَالدُّنْيَا وَيُزَاد فِي الْبركَة فِي كل شَيْء مِنْهُ
وَقد جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (إِن الرجل ليبقى من أَجله ثَلَاثَة أَيَّام فيصل رَحمَه فيزيد الله تَعَالَى فِي عمره ثَلَاثِينَ سنة)(3/126)
وَكَيف لَا يُزَاد فِي عمره وَقد تعلق بقميص الرَّحْمَة وَالْأَخْبَار مستفيضة فِي نسأ من أَعمال الْبر أَنه يُزَاد فِي عمره ثَوابًا لتِلْك الْأَعْمَال فَذَلِك عَاجل الثَّوَاب بشرى لما أعد لَهُ فِي الْآخِرَة من الثَّوَاب
وَعَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ تَذَاكرنَا زِيَادَة الْعُمر عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (لن يُؤَخر الله نفسا إِذا جَاءَ أجلهَا زِيَادَة الْعُمر ذُرِّيَّة صَالِحَة يرزقها الله تَعَالَى العَبْد يدعونَ لَهُ بعد مَوته يلْحقهُ دعاؤهم فَذَلِك الزِّيَادَة فِي الْعُمر)
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من كَانَ يُرِيد أَن يبسط عَلَيْهِ فِي رزقه وينسأ فِي أَثَره فَليصل رَحمَه)(3/127)
- الأَصْل التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ والمائتان
-
فِي خَصَائِص النَّبِي الْأُمِّي وَفِي سر قَوْله أَعْطَيْت خمْسا ... إِلَخ
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَعْطَيْت خمْسا لم يُعْطهنَّ نَبِي من قبلي وَلَا أَفْخَر بعثت إِلَى الْأسود والأحمر وَكَانَ النَّبِي قبلي يبْعَث إِلَى قومه وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا ونصرت بِالرُّعْبِ أَمَامِي مسيرَة شهر وَأحلت لي الْغَنَائِم وَلم تحل لأحد قبلي وَأعْطيت الشَّفَاعَة فدخرتها لأمتي فَهِيَ نائلة إِن شَاءَ الله تَعَالَى لمن لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا)
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَبْعُوث إِلَى الْخلق بِمَنْزِلَة الْأَمِير المؤمر يُعْطي الْإِمَارَة وَالْولَايَة وَالرِّعَايَة فَهُوَ بِمَنْزِلَة الرَّاعِي يرْعَى غنمه فِي مرَاعِي تسمن عَلَيْهَا ويوردهم صفو المَاء ويرتاد لَهُم فِي الصَّيف مشتاهم وَفِي الشتَاء(3/128)
مصيفهم ويعد لَهُم لكل لَيْلَة مأوى قبل هجومه ويفر بهَا عَن مراتع الهلكة ويجنبها الْأَرْضين الوبئة ويحرسها من السبَاع ويحوطها عَن الشذوذ وَيلْحق شذاذها وَيجْبر كسيرها ويداوي مريضها وَيجمع رسلها من الألبان وَالصُّوف لرب الْغنم فَهَذَا رَاع نَاصح لمَوْلَاهُ وأجره موفور عَلَيْهِ يَوْم الْجَزَاء ومتوقع من رب الْغنم أفضل هَدِيَّة على قدر ملكه
فالرسول عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ راعي الْخلق والخلق غنمه بعث ليرعاهم فشرع لكل خَارِجَة فِي واديها مَاذَا تباشر وماذا تجتنب فأحل من كل خَارِجَة بَعْضًا وَحرم بَعْضًا وأوردهم من الْمِيَاه أصفاها وَهُوَ الْعلم الصافي وهيأ لَهُم المشتى والمصيف وَهُوَ الاستعداد فِي الْحَيَاة وَأَيَّام الصِّحَّة وَالْقُوَّة قبل الْهَرم وَالْمَرَض قبل الْمَوْت وَأعد لَهُم المأوى فَبين لَهُم عِنْد حُدُوث الْفِتَن كالليل المظلم إِلَى أَيْن يأوون وبمن يعتصمون ويعزلهم عَن مراتع الهلكة وَهِي الشَّهَوَات الدُّنْيَوِيَّة المشوبة بالحرص ويجنبهم الأَرْض الوبئة وَهِي الأفراح الَّتِي تحل بِالْقَلْبِ مِنْهَا فيوبأ ويمرض مِنْهَا الْقلب ويحرسهم عَن الشذوذ مَخَافَة الذئاب وَهُوَ الْعَدو وَيجْبر كسيرهم إِذا وَقَعُوا فِي الْمعاصِي ويدعوهم إِلَى التَّوْبَة ويعينهم عَلَيْهَا حَتَّى يجْبر كسيرهم ويداوي مريضهم وَهُوَ أَن يعظ مفتونهم حَتَّى يخلصهم بالمواعظ من فتن النُّفُوس وَيحمل بهماتهم وَهُوَ أَن يَدْعُو لَهُم ويستغفر لَهُم وَيسْأل الله تَعَالَى قبُول أَعْمَالهم فَهَذَا رَاع
وَهُوَ مَعَ ذَلِك أَمِير يؤدبهم ويحملهم على المكاره ويسوقهم ويسير بهم بِسَوْط الْأَدَب على مشارع الاسْتقَامَة ليوافي بهم الْموقف بَين يَدي الله عز وَجل فَكل رَاع إِلَّا وَمَعَهُ عَصا يهش بهَا على الْغنم ويؤدبهم بهَا وَقد ذكر سُبْحَانَهُ عَصا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي تَنْزِيله فَكل رَاع مُؤْنَته على قدر غنمه وكل أَمِير مُؤْنَته على قدر رَعيته فالأمير الْمَبْعُوث إِلَى كورة مُحْتَاج على قدر ولَايَته إِلَى آلَة الْولَايَة من(3/129)
الخدم وَالدَّوَاب والمراكب والكنوز على قدر ولَايَته لينفق فِي إمارته فَمن أَمر على مجارستان فَهُوَ أقل حظا من هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي وَصفنَا وَمن أَمر على خُرَاسَان كَانَت حَاجته إِلَى مَا ذكرنَا أَكثر وَمن كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يحْتَاج إِلَى كنز عَظِيم وَمن ملك الْمشرق وَالْمغْرب احْتَاجَ إِلَى خَزَائِن الْأَمْوَال حَتَّى يضْبط بهَا ذَلِك الْملك فَكَذَلِك كل رَسُول بعث إِلَى قوم أعطي من كنز التَّوْحِيد وجواهر الْمعرفَة على قدر مَا حمل من الرسَالَة فالمرسل إِلَى قومه فِي نَاحيَة من الأَرْض إِنَّمَا يعْطى من النُّبُوَّة والكنوز على قدر مَا يقوم بِهِ من شَأْن نبوته ورعاية قومه والمرسل إِلَى جَمِيع أهل الأَرْض كَافَّة إنسها وجنها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعطي من الْمعرفَة بِقدر مَا يقوم بهَا فِي شَأْن النُّبُوَّة إِلَى جَمِيع أهل الأَرْض كَافَّة فحظنا من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود وَقَوله تَعَالَى لَهُ {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} كحظه من ولَايَة ملك يملك الدُّنْيَا وجواهر شرقها وغربها وَمَا بَينهمَا وَمن ملك الأَرْض كلهَا جواهرها ومعادنها وَمن ملك نَاحيَة من الأَرْض لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْدن ناحيته وجوهر ذَلِك الْمَعْدن فَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اختصر لي الْكَلَام وَأُوتِيت جَوَامِع الْكَلم)
وَلذَلِك صَار كِتَابه مهيمنا على الْكتب وَصَارَ الْقُرْآن الْكَرِيم مُشْتَمِلًا على التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفرْقَان وَبَقِي الْمفصل نَافِلَة لهَذِهِ الْأمة خَاصَّة وأوحي إِلَيْهِ بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي برزت على سَائِر اللُّغَات بالاتساع وَهِي لِسَان أهل الْجنَّة وَلما أعطي الرسَالَة إِلَى الكافة أعطي من الْكُنُوز(3/130)
مِقْدَار الْكِفَايَة للْجَمِيع وأوتي من الْحِكْمَة وجواهرها كلهَا وأوتي ختم الرسَالَة والرعب فبجواهر الرسَالَة قوي على علم مُخْتَصر الحَدِيث وجوامع الْكَلم
وَكَانَ التَّوْرَاة يحملهَا سَبْعُونَ جملا موقرة وَالزَّبُور من بعْدهَا وَالْإِنْجِيل من بعده فَجمع لَهُ ذَلِك كُله فِي الْقُرْآن الْكَرِيم وَالْفرْقَان فِي فَاتِحَة الْكتاب وَلذَلِك سمي أم الْكتاب قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم} وَهِي سبع آيَات سميت مثاني لِأَن الله تَعَالَى جمع الْكتب كلهَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ ثمَّ أنزل مِنْهَا على كل رَسُول مَا علم أَنه مُحْتَاج إِلَيْهِ هُوَ وَأمته وَاسْتثنى فَاتِحَة الْكتاب من جَمِيع ذَلِك وخزنها لهَذِهِ الْأمة فَجَمِيع علم التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفرْقَان مستخرج من أم الْقُرْآن وَالْقُرْآن مستخرج من أمه وَسَائِر الْكتب فِي الْقُرْآن
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أُوتيت السَّبع يَعْنِي الطول مَكَان التَّوْرَاة وَأعْطيت المثاني مَكَان الْإِنْجِيل وَأعْطيت المتين مَكَان الزبُور وفضلت بالمفصل)
فَمن عمي قلبه عَن الله وَلم يكن فِي قلبه نور الْهِدَايَة لم يبصر آثَار النُّبُوَّة على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا يبصر مِنْهُ شخصه وجثته قَالَ تَعَالَى {وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون}
وَمن هداه الله تَعَالَى لنوره فانفتح عين قلبه بذلك واستقرت الْمعرفَة(3/131)
فِي قلبه أبْصر مِنْهُ شخص النُّبُوَّة بارزا من الْحَيَاة والذكاء واليقظة والانقياد والسرعة وَالْبرَاز والسبق والسماحة وَالْكَرم وَالسعَة والجود وَالْحيَاء والسكينة وَالْوَقار والحلم وَمن الْأَفْعَال السِّوَاك والحجامة والتعطر وَالْجِمَاع وَيرى على شخص النُّبُوَّة شخص الرسَالَة فائقا من الْجلَال والبهاء والنزاهة والحلاوة والطلاوة والملاحة والمهابة وَالسُّلْطَان وأصل هَذَا كُله من الْيَقِين وَالْحب والحياة وَإِنَّمَا نَالَ الْمُؤْمِنُونَ من معرفَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قدر معرفتهم بِاللَّه وعلمهم بِهِ فَمن صدق مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصُّحْبَة كَانَ صدق صحبته على قدر مَعْرفَته إِيَّاه وَعلمه بِهِ وعَلى حسب ذَلِك كَانَ يترآى لبصر عينه فِي الظَّاهِر مَا عددنا من الْخلال فأوفرهم حظا من نور الله أوفرهم علما بِهِ وقدرة وجلاله وخطير مَنْزِلَته وأوفرهم علما بِهِ أسرعهم إِجَابَة لدعوته وأبذلهم نفسا ومالا
أَلا ترى أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لما أفشى إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه مَبْعُوث صدقه على الْمَكَان وَلم يتَرَدَّد وَلم يضطرب وَقَالَ عَليّ كرم الله وَجهه حَتَّى أسأَل أبي ثمَّ رَجَعَ عَن الطَّرِيق وَصدقه وَصدقه عمر بعد مُدَّة وَبَعْدَمَا أسلم تسع وَثَلَاثُونَ نفسا فتم بِإِسْلَامِهِ عدد الْأَرْبَعين بعد دَعْوَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسلم من الْغَد (اللَّهُمَّ أعز الدّين بعمر بن الْخطاب أَو بِعَمْرو بن هِشَام) يَعْنِي أَبَا جهل فجرت الدعْوَة من عَدو الله عَمْرو إِلَى محق الله عمر(3/132)
رَضِي الله عَنهُ فسعد عمر رَضِي الله عَنهُ وشقي عَمْرو وَدلّ اسماهما على حظيهما من الله تَعَالَى وَمِقْدَار الْكَائِن من أمريهما لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ أول اسْمه مضموم مثقل والمضموم الَّذِي قد آواه الله وضمه إِلَى باله وَعَمْرو أول اسْمه مَفْتُوح مخفف والمفتوح هُوَ الَّذِي أهمله الله تَعَالَى وَأخرجه من باله فضمة أول اسْم عمر رَضِي الله عَنهُ دَلِيل على أَنه كَانَ مضموما إِلَى بَال الله تَعَالَى فأعز الله تَعَالَى بِهِ الْإِسْلَام عزا حَتَّى صَار بِمحل أَن جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ يَا مُحَمَّد أَقْْرِئ عمر السَّلَام وَأخْبرهُ أَن غَضَبه عز وَرضَاهُ حكم
وفتحة أول الِاسْم فِي عَمْرو تدل على أَنه خرج من بَال الله تَعَالَى وَقد انْكَشَفَ الغطاء عَن شَأْنه فَكَانَت كنيته فِي قُرَيْش أَبَا الحكم فجرت كنيته فِي أهل الْإِسْلَام بِأبي جهل وعَلى حسب خُرُوجه من بَال الله تَعَالَى عظمت آفته على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى الْإِسْلَام حَتَّى قَتله الله تَعَالَى أذلّ قتلة وَقد أكْرم الله رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأبرز فضيلته وكرامته بِأَن جعل لكل نَبِي وزيرا وَجعل لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة من الوزراء فَأَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وزيرا الرسَالَة وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا وزيرا النُّبُوَّة ثمَّ نحلهم من الحظوظ من عِنْده فحظ أبي بكر رَضِي الله عَنهُ مِنْهُ الْعِصْمَة وَالْحيَاء وحظ عمر رَضِي الله عَنهُ الْحق وَالْوكَالَة وحظ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ النُّور وَالْحيَاء وحظ عَليّ رَضِي الله عَنهُ الْحُرْمَة والخلة فتفاوت أَعْمَالهم فِي صحبتهم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيَّام الْحَيَاة وَفِي سيرتهم فِي الْأمة بعده على قدر حظوظهم فَلَمَّا أحس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالإرتحال إِلَى الله تَعَالَى من الدُّنْيَا وابتدئ لَهُ فِي وَجَعه وَعجز عَن الْخُرُوج إِلَى الصَّلَاة بالأمة أَمر أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ بِالصَّلَاةِ فاتفقت الْأمة على أَنه هُوَ الَّذِي ولي الصَّلَاة
وَكَانَ من صنع الله تَعَالَى للْأمة أَن خفف الله عَنهُ يَوْم قبض فَخرج(3/133)
والمسلمون فِي صَلَاة الْغَدَاة وَرجلَاهُ يخطان الأَرْض حَتَّى جلس إِلَى جنب أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فصلى ليعلم الْجَمِيع أَنه رَضِي بذلك من فعله لِئَلَّا يبْقى لمعاند أَو طَاعن مقَال أَنه لم يَأْمر بذلك أَو أمره وَهُوَ مغلوب على عقله لشدَّة علته فأظهر الله ذَلِك بِمَا خفف عَنهُ حَتَّى خرج وَقعد إِلَى جنبه فصلى من حَيْثُ انْتهى أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ ثمَّ صَار المتأولون لذَلِك على صنفين مِنْهُم من يَقُول أَبُو بكر هُوَ الإِمَام وَصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَلَاتِهِ وَمِنْهُم من قَالَ بل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الإِمَام وَأَبُو بكر الْمُقْتَدِي
قَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ آخر صَلَاة صلاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلف أبي بكر
وَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ آخر صلاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَلْفي فِي ثوب وَاحِد
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت مرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَاءَهُ بِلَال يُؤذنهُ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ مروا أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ قلت إِن أَبَا بكر رجل أسيف وَمَتى مَا يقوم مقامك يبكي فَلَا يَسْتَطِيع فَلَو أمرت عمر يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَ مروا أَبَا بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صواحبات يُوسُف قَالَت فَأَرْسَلنَا إِلَى أبي بكر فَخرج يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَوجدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَفسه خفَّة فَخرج وَهُوَ يهادي بَين رجلَيْنِ وَرجلَاهُ يخطان بِالْأَرْضِ فَلَمَّا أحس بِهِ أَبُو بكر ذهب ليتأخر فَأَوْمأ إِلَيْهِ أَن مَكَانك فجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى جلس(3/134)
إِلَى جنبه فَكَانَ أَبُو بكر يأتم بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس يأتمون بِأبي بكر
وروى عبد الله بن زَمعَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مروا من يُصَلِّي بِالنَّاسِ) فَخرجت فَإِذا عمر فِي النَّاس وَكَانَ أَبُو بكر غَائِبا فَقلت يَا عمر صل بِالنَّاسِ فَقَامَ فَلَمَّا كبر سمع صَوته رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ رجلا مجهرا فَقَالَ هَذَا صَوت ابْن الْخطاب فَأَيْنَ أَبُو بكر يَأْبَى الله ذَلِك والمسلمون فَقَالَ عمر وَيحك يَا ابْن زَمعَة مَاذَا صنعت بِي مَا ظَنَنْت إِذْ قلت لي إِلَّا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرك بذلك وَلَوْلَا ذَلِك مَا صليت بِالنَّاسِ فَقَالَ وَالله مَا أَمرنِي وَلَكِن لم أر أَبَا بكر فرأيتك أَحَق من حضر بِالصَّلَاةِ
وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا حَيْثُ قَالَت إِن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ يُصَلِّي فَصَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محسبة مِنْهَا هَكَذَا حسبت وَهِي فِي الْبَيْت
وَحَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ أصح لِأَنَّهُ خَارج مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رَأْي الْعين وَلِأَنَّهُ روى أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ ذهب ليتأخر وَلَو كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الإِمَام لَكَانَ لَا يحْبسهُ عَن التَّأَخُّر وَكَانَ يقوم مقَام الْأَئِمَّة وَلِأَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ قَالَ آخر صَلَاة صلاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَلْفي وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أعلم بِهَذِهِ الْقِصَّة من جَمِيع النَّاس فَثَبت أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ هُوَ الَّذِي ولي الصَّلَاة وَالصَّلَاة عماد الدّين وَأول شَيْء فَرْضه الله تَعَالَى يَوْم أوحى إِلَيْهِ وَالصَّلَاة إقبال الله تَعَالَى على العبيد ليقبلوا إِلَيْهِ(3/135)
فِي صُورَة العبيد تذللا بِالْوُقُوفِ وتسلما بِالتَّكْبِيرِ وتبذلا بالثناء والتلاوة وتخضعا بِالرُّكُوعِ وتخشعا بِالسُّجُود وترغبا بِالْجُلُوسِ وتملقا بالتشهد
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الصَّلَاة عماد الدّين) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الصَّلَاة نور) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله تَعَالَى جعل قُرَّة عَيْني فِي الصَّلَاة)
فَأَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا لَهما وزارة الرسَالَة وحاجة الْخلق إِلَى الرسَالَة أمس وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقتدوا بالذين من بعدِي أَبُو بكر وَعمر
فالحاجة إِلَى الإقتداء بالرسالة آكِد وَلذَلِك أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا عَلَيْهِ مدَار الدّين أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ أَن يتَقَدَّم ليتبعه الْأمة ويقتدي فَلَمَّا رأى أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ قُوَّة مَا أعطي من تقلده لضمان الصَّلَاة عَن الله تَعَالَى لعبيده وَعَن العبيد لله تَعَالَى ثمَّ عَن الله(3/136)
تَعَالَى فِي مرض الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحس بالتأييد من الله تَعَالَى بعد وَفَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى مؤيده فِيمَا دون الصَّلَاة من أُمُور الشَّرِيعَة وتقلد خلَافَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمته وَلذَلِك قَالَت الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم فِي وَقت المشورة قدمك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن يؤخرك فَبَايعُوهُ
وَمِمَّا يُحَقّق أَنَّهُمَا وزيرا الرسَالَة مَا روى أَبُو أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي رَأَيْتنِي أدخلت الْجنَّة فَلَمَّا خرجت مِنْهَا أتيت بكفة فَوضعت وَوضعت أمتِي فِي الكفة الْأُخْرَى فرجحت بأمتي ثمَّ رفعت ثمَّ جِيءَ بِأبي بكر فَوضع فِي كفة الْمِيزَان وَجِيء بأمتي فَوضعت فِي الكفة الْأُخْرَى فرجح بهَا ثمَّ رفع أَبُو بكر وَجِيء بعمر فَوضع فِي كفة الْمِيزَان ثمَّ جِيءَ بأمتي فَوضعت فِي الكفة الْأُخْرَى فرجح بهَا ثمَّ رفع الْمِيزَان إِلَى السَّمَاء
وَفِي رِوَايَة سفينة مولى أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهُمَا خلَافَة النُّبُوَّة ثَلَاثُونَ عَاما ثمَّ يكون ملكا فَقَالَ سفينة أمسك سنتي أبي بكر وَعشر عمر وثنتي عشر عُثْمَان وست عَليّ(3/137)
فَمضى أَبُو بكر مَحْمُودًا بِنِعْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْخلَافَة ثمَّ نظر بحظه من الله تَعَالَى وَبِمَا وجد من تأييد الله تَعَالَى بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نظرا شافيا لحق الله ثمَّ لنَفسِهِ فَلم ير أحدا أَحَق بِأَن يخلف خلَافَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عمر رَضِي الله عَنهُ وَقد كَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار حوله فَاخْتَارَ مِنْهُم عمر رَضِي الله عَنهُ وَرَأى الْحق لَهُ حَتَّى جادلوه فَقَالُوا لَهُ اسْتخْلفت علينا فظا غليظا فَمَاذَا تَقول لِرَبِّك قَالَ أتهددوني وتخوفوني بربي أَقُول اسْتخْلفت عَلَيْهِم يَا رب خير أهلك فَمضى بسبيله وَولي الْأَمر عمر من بعده فحقق فراسة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وإلهامه ووطأ الْإِسْلَام ومهده وزينه وأعزه
وَقَالَ فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا من أمة إِلَّا وَلها مُحدث فَإِن يَك فِي أمتِي فعمر مِنْهُم) وَقَالَ (إِن الله جعل الْحق على لِسَان عمر وَقَلبه)
وَقَالَ أَيْضا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْحق بعدِي مَعَ عمر حَيْثُ كَانَ)
وَقَالَ (لَو كَانَ بعدِي نَبِي لَكَانَ عمر)
قد امتثل أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْأَشْيَاء مَعَ إلهامه وفراسته فاستخلفه فَفتح الله الْفتُوح على يَده ومصر الْأَمْصَار ودر الأرزاق وَبث السَّرَايَا وجنود الله فِي نواحي أقطار الأَرْض حَتَّى تمهد الْإِسْلَام(3/138)
فِي الوطن الَّذِي مِنْهُ بدا ثمَّ أكْرمه الله تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ ففوض ذَلِك إِلَى سِتَّة نفر أزكن فيهم الْخَيْر وَأحسن بهم الظَّن وَلَو وجد فيهم مساغا للفراسة أَو حظا من الإلهام لنصه باسمه وَلكنه انسد عَلَيْهِ بَاب الفراسة وَانْقطع حَظّ الإلهام فَرَأى التَّفْوِيض إِلَى هَؤُلَاءِ خيرا من إهمال أَمر الْأمة فَقبض إِلَى الله وَترك الْأَمر شُورَى بَينهم فَاخْتَارُوا من بَينهم وَاحِدًا بعد الِاحْتِيَاط والتأني والتشاور وافتقدت الْأمة وزارة الرسَالَة وَحَضَرت نوبَة وزارة النُّبُوَّة فاتفق أَمر السِّتَّة على أحد وزيري النُّبُوَّة إِذْ لم يبْق مِنْهُم من الْأَرْبَعَة إِلَّا هذَيْن عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا فَلم يزَالُوا يستخيرون الله تَعَالَى حَتَّى اتَّفقُوا على عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ثمَّ أَقبلت الدُّنْيَا وَجَاء كفران النِّعْمَة وهاجت الْفِتْنَة وَعز الْيَقِين وَأدبر الْحق رَاجعا إِلَى الله تَعَالَى عِنْد إقبال الدُّنْيَا وَذَهَبت حَيَاة الْقُلُوب لكفران النِّعْمَة وتبديل الْأُمُور وَغَلَبَة الْهوى حَتَّى قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَجَاءَت نوبَة عَليّ كرم الله وَجهه وَالزَّمَان بِتِلْكَ الْحَال فَلم يبْق لوزارة النُّبُوَّة من الْقُوَّة مَا يقوم مقَام أبي بكر وَلَا عمر رَضِي الله عَنْهُمَا بَايعُوا أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ وسلوا على أهل الرِّدَّة سيوفهم فَلم يغمدوها وَلم يخذلوه وَلم ينكثوا الْبيعَة وَبَقِي السَّيْف مسلولا إِلَى انْقِضَاء وزارة الرسَالَة بِمَوْت عمر رَضِي الله عَنهُ وَبَايَعُوا عليا كرم الله وَجهه فِي وقته ثمَّ نكثوا بيعَته وسلوا السيوف عَلَيْهِ وَآخَرُونَ بَايعُوهُ وسلوا السيوف لَهُ ثمَّ خَرجُوا عَلَيْهِ مارقين وَآخَرُونَ بَايعُوهُ وسلوا السيوف لَهُ وهم أهل الْكُوفَة ثمَّ خذلوه وَآخَرُونَ امْتَنعُوا من بيعَته وأبوا خِلَافَته وحاربوه وَلَو كَانَت لَهُ وزارة الرسَالَة لَصَارَتْ الْقُلُوب كلهَا كقلب وَاحِد وَكَانَت الفئة القليلة المستضعفة يغلبُونَ الفئة الْكَثِيرَة كَمَا كَانَ فِي زمن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَمن لحظ إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِالْقَرَابَةِ والختونة ومعاني لَيْسَ فِي هَذَا الْأَمر من شَيْء إِنَّمَا هَذَا أَمر الرسَالَة وَإِنَّمَا يقوم بهَا الْقَائِم ويقوى بهَا بحظه من الله الَّذِي ضمن حَشْو الرسَالَة(3/139)
وَأما الْقَرَابَة وَالْمِيرَاث ومقالات جَاءَت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَال من وَالَاهُ وَعَاد من عَادَاهُ) فلعلي رَضِي الله عَنهُ من الْفَضَائِل والمناقب مَا يسْتَحق أَن يوالي من وَالَاهُ ويعادي من عَادَاهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِك مَا يثبت لَهُ الْخلَافَة وَيقدم على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ
قَالَ فُضَيْل بن مَرْزُوق سَأَلت عمرَان بن عَليّ هَل فِيكُم إِنْسَان مفترض طَاعَته تعرفُون لَهُ ذَلِك وَمن لم يعرفهُ فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة قَالَ لَا وَالله مَا هَذَا فِينَا فَهُوَ كَذَّاب قلت لَهُ إِن نَاسا يَقُولُونَ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوصى إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَإِن عليا رَضِي الله عَنهُ أوصى إِلَى الْحسن رَضِي الله عَنهُ وَأَن الْحسن أوصى إِلَى الْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا وَأَن الْحُسَيْن أوصى إِلَى عَليّ ابْن الْحُسَيْن فَقَالَ وَالله لما مَاتَ أبي وَمَا أوصى بحرفين وَإِن هَؤُلَاءِ لمتأكلون بِنَا
قَالَ وَسمعت الْحسن بن الْحُسَيْن أَخا عبد الله بن الْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم وَهُوَ يَقُول لرجل مِمَّن يغلوا فيهم وَيحكم أحبونا فِي الله فَإِن أَطعْنَا الله فأحبونا وَإِن عصينا الله فابغضونا فَقَالَ الرجل إِنَّكُم لذُو قرَابَة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ وَالله لَو كَانَ الله نَافِعًا بِقرَابَة مِنْهُ لنفع بذلك أقرب مِنْهُ أَبَاهُ وَأمه وَالله إِنِّي لأخاف أَن يُضَاعف للعاصي منا الْعَذَاب ضعفين كَمَا يُؤْتِي المحسن منا أجره مرَّتَيْنِ
وَلَو كَانَ الْأَمر على مَا يَقُولُونَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوصِي إِلَى عَليّ وَأمره بِالْقيامِ بِالْأَمر بعده ثمَّ ترك على مَا أمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ عَليّ فِي ذَلِك أعظم النَّاس خَطِيئَة وجرما إِذْ ترك مَا أمره رَسُول الله(3/140)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ الرافضي ألم يقل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من كنت مَوْلَاهُ) فعلي مَوْلَاهُ فَقَالَ وَالله لَو عَنى بِهِ الامرة وَالسُّلْطَان لأفصح لَهُم كَمَا أفْصح لَهُم بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة فَقَالَ هَذَا ولي أَمركُم من بعدِي فَمَا كَانَ وَرَاء هَذَا فَإِن أنصح النَّاس للنَّاس كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَعَن زيد بن عَليّ قَالَ لبَعْضهِم وَيلك من يخَاف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تعرض بالخلافة
فَهَؤُلَاءِ الغلاة قد تعلقوا بِمثل هَذِه الْأَشْيَاء حَتَّى خَرجُوا إِلَى شتم وزيري رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونسبوهما إِلَى الاغتصاب لحق الله تَعَالَى
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن لي وزيرين من أهل السَّمَاء ووزيرين من أهل الأَرْض فوزيري من أهل السَّمَاء جبرئيل وَمِيكَائِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام ووزيري من أهل الأَرْض أَبُو بكر وَعمر)
وَخرج صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَمِينه على أبي بكر وشماله على عمر فَقَالَ هَكَذَا نبعث يَوْم الْقِيَامَة(3/141)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أحْشر أَنا وَأَبُو بكر وَعمر وَنحن مشرفون على النَّاس هَكَذَا) وَأَشَارَ بأصابعه الثَّلَاث وَكَانَ سبابته أطول من الْوُسْطَى
وَعَن أسيد بن صَفْوَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما قبض أَبُو بكر ارتجت الْمَدِينَة بالبكاء كَيَوْم قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسجوه وَجَاء عَليّ رَضِي الله عَنهُ باكيا مسرعا مسترجعا وَهُوَ يَقُول الْيَوْم انْقَطَعت خلَافَة النُّبُوَّة حَتَّى وقف على بَاب الْبَيْت الَّذِي فِيهِ أَبُو بكر مسجى فَقَالَ
رَحِمك الله يَا أَبَا بكر كنت إلْف رَسُول الله وأنيسه وثقته وَمَوْضِع سره ومشاورته كنت أول الْقَوْم إسلاما وأخلصهم إِيمَانًا وأشدهم يَقِينا وأخوفهم لله وأعظمهم عناء فِي دين الله وأحوطهم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَجد بهم على الْإِسْلَام وأيمنهم على أَصْحَابه وَأَحْسَنهمْ صُحْبَة وَأَكْثَرهم مَنَاقِب وأفضلهم سوالف وأرفعهم دَرَجَة وأقربهم وَسِيلَة وأشبههم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَديا وسمتا وَرَحْمَة وفضلا وخلقا وأشرفهم منزلَة وَأكْرمهمْ عَلَيْهِ وأوثقهم عِنْده فجزاك الله عَن الْإِسْلَام وَعَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمُسْلِمين خيرا
كنت عِنْده بِمَنْزِلَة السّمع وَالْبَصَر صدقت رَسُول الله حِين كذبه النَّاس فسماك الله فِي التَّنْزِيل صديقا فَقَالَ {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ} وآسيته حِين بخلوا وَقمت مَعَه عِنْد المكاره حِين قعدوا وصحبته فِي الشدَّة أحسن الصُّحْبَة ثَانِي اثْنَيْنِ وَصَاحبه فِي الْغَار والمنزل عَلَيْهِ السكينَة ورفيقه فِي الْهِجْرَة خلفته فِي دين الله وَأمته أحسن الْخلَافَة حِين ارْتَدَّ النَّاس
وَقمت بِالْأَمر مَا لم يقم بِهِ خَليفَة نَبِي نهضت حِين وَهن أَصْحَابك(3/142)
وبرزت حِين اسْتَكَانُوا وقويت حِين ضعفوا ولزمت منهاج رَسُوله إِذْ وهنوا
كنت خَلِيفَته حَقًا لم تنَازع وَلم تصدع برغم الْمُنَافِقين وكبت الْكَافرين وَكره الكارهين وَصغر الْفَاسِقين وغيظ الباغين
قُمْت بِالْأَمر حِين فشلوا ونطقت حِين تتعتعوا مضيت بِنور إِذْ وقفُوا فاتبعوك فهدوا
كنت أخضعهم صَوتا وَأَعْلَاهُمْ فوقا أقلهم كلَاما وأصوبهم منطقا أطولهم صمتا وأبلغهم قولا أكبرهم رَأيا وأشجعهم نفسا وأعرفهم بالأمور وأشرفهم عملا
كنت وَالله فِي الدّين يعسوبا أَولا حِين نفر النَّاس عَنهُ وآخرا حِين قَفَلُوا كنت للْمُؤْمِنين أَبَا رحِيما إِذْ صَارُوا عَلَيْك عيالا فَحملت أثقال مَا ضعفوا ورعيت مَا أهملوا وحفظت مَا أضاعوا لعلمك مَا جهلوا فشمرت إِذْ خنعوا وعلوت إِذْ هلعوا وَصَبَرت إِذْ جزعوا فأدركت أوتار مَا طلبُوا وراجعوا رشدهم بِرَأْيِك فظفروا ونالوا بك مَا لم يحتسبوا
كنت على الْكَافرين عذَابا صبيبا ونهبا وَلِلْمُؤْمنِينَ رَحْمَة وإنسا فطرت وَالله بفنائها وفزت بحبائها وَذَهَبت بفضائلها وَأدْركت سوابقها لم تغلل حجتك وَلم تضعف بصيرتك وَلم تجبن نَفسك وَلم يزغ قَلْبك وَلم يخف
كنت كالجبل لَا تحركه العواصف وَلَا تزيله القواصف وَكنت كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أأمن النَّاس عَلَيْهِ فِي صحبتك وَذَات يدك وكما(3/143)
قَالَ ضَعِيفا فِي بدنك قَوِيا فِي أَمر الله متواضعا فِي نَفسك عَظِيما عِنْد الله جَلِيلًا فِي أعين الْمُؤمنِينَ كَبِيرا فِي أنفسهم لم يكن لأحد فِيك مغمز وَلَا لقَائِل مهمز وَلَا لأحد مطمع وَلَا لمخلوق عنْدك هوادة الضَّعِيف الذَّلِيل عنْدك قوي عَزِيز حَتَّى تَأْخُذ لَهُ بِحقِّهِ وَالْقَوِي الْعَزِيز عنْدك ضَعِيف حَتَّى تَأْخُذ مِنْهُ الْحق الْقَرِيب والبعيد عنْدك فِي ذَلِك سَوَاء أقرب النَّاس إِلَيْك أطوعهم لله وأتقاهم لَهُ شَأْنك الْحق والرفق والصدق قَوْلك حكم وحتم وأمرك حلم وحزم ورأيك علم وعزم فأقلعت وَقد نهج السَّبِيل وَسَهل العسير وأطفئت النيرَان واعتدل بك الدّين وَقَوي الْإِيمَان وَثَبت الْإِسْلَام والمسلمون وَظهر أَمر الله وَلَو كره الْكَافِرُونَ فجليت عَنْهُم فَأَبْصرُوا وسبقت وَالله سبقا بَعيدا وأتعبت من بعْدك أتعابا شَدِيدا وفزت بِالْخَيرِ فوزا مُبينًا فجللت عَن الْبكاء وعظمت رزيتك فِي السَّمَاء وهدت مصيبتك الْأَنَام فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
رَضِينَا بِقَضَاء الله وَسلمنَا لَهُ أمره فوَاللَّه لن يصاب الْمُسلمُونَ بعد رَسُول الله بمثلك أبدا كنت للدّين عزا وحرزا وكهفا فألحقك الله بِنَبِيِّهِ وَجمع بَينه وَبَيْنك وَلَا حرمنا الله أجرك وَلَا أضلنا بعْدك فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
قَالَ وَسكت الْقَوْم حَتَّى انْقَضى كَلَامه فَبكى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى علت أَصْوَاتهم فَقَالُوا صدقت يَا ختن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَوْله (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا) وفر الله تَعَالَى حَظّ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمته على الرُّسُل كلهم وعَلى سَائِر الْأُمَم فَحَيْثُ مَا انتصبوا لله قيَاما كَانَ لَهُم من النُّور مَا يتهيأ لَهُم الإقبال على الله وَأَقْبل الله عَلَيْهِم فطهرت لَهُم بقاع الْأَرْضين
وَقَوله وَطهُورًا إِذا لم يَجدوا المَاء الَّذِي جعله الله طهُورا لِلْخلقِ(3/144)
وَتعذر عَلَيْهِم وجوده أَمرهم أَن يَتَطَهَّرُوا من أحداثهم بالصعيد الطّيب وَهُوَ التُّرَاب الَّذِي يصعدونها ويمشون عَلَيْهَا فَجعل مَا تَحت أَقْدَامهم طهُورا لَهُم إِذا لم يَجدوا مَا فَوق رؤوسهم من المَاء وَهُوَ مَاء الْحَيَاة الراكد تَحت الْعَرْش الَّذِي خلقه الله حَيَاة لكل شَيْء قَالَ تَعَالَى وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ
فَمِنْهُ حَيَاة الْقُلُوب والأرواح وَمِنْه يحيون فِي قُبُورهم يَوْم النشور وَإِذا دخلُوا الْجنَّة يغتسلون بِهِ حَتَّى يكون ذَلِك لَهُم طهُورا من الذُّنُوب والأدران وَمن شرب مِنْهُ زايلهم كل أَذَى فِي أَجْوَافهم وصفت ألوانهم وَجَرت النضرة فِي أَجْسَادهم ووجوههم وأمنوا الْمَوْت لقُوَّة الْحَيَاة الَّتِي فِي ذَلِك المَاء وَقد جعل الله تَعَالَى أرزاق الْخلق من ذَلِك المَاء يقدر فِي لَيْلَة الْقدر وَهِي لَيْلَة يحكم أرزاق المرتزقة من خلقه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى مثلهَا من قَابل فَإِذا نفذ ذَلِك الْبَحْر نفخ فِي الصُّور وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَفِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون}
وَأنزل الله تَعَالَى هَذَا المَاء وَسَماهُ طهُورا فَإِن الشَّيْطَان بِنَجَاسَتِهِ ورجاسته قد وجد السَّبِيل إِلَى الولوج فِي جَوف ابْن آدم وبدء ذَلِك كَانَ حِين أكل آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الشَّجَرَة الَّتِي أَشَارَ الْعَدو إِلَيْهِ بِأَكْلِهِ فَجعل الْعَدو السَّبِيل إِلَى الْمعدة فَجعل لَهُ هُنَاكَ موطنا فَلذَلِك نَتن مَا فِي جَوْفه حِين أخرج من الْجنَّة لرجاسة الْعَدو ونجاسته ثمَّ ورث ذَلِك وَلَده فَأمر آدم وَولده بِالْوضُوءِ لذَلِك وأعلمهم أَن هَذَا المَاء طهُور لَهُم يطهرهم من الْآفَات الظَّاهِرَة والباطنة فالظاهرة مَا يخرج من الْآدَمِيّ من الْبَوْل وَالْغَائِط فَإِنَّهُ بلغ من عداوته أَن جعل فِي ذَلِك الموطن الَّذِي صير لَهُ مِنْك معدنا وَهُوَ مجمع الطَّعَام فَإِذا انطبخ صَار رَوْثًا ودما وَالدَّم غذاؤه وَمَوْضِع الروث مِنْك مَجْلِسه(3/145)
وَبلغ من عداوته أَنه ينْفخ عَلَيْك فَإِذا خرج مِنْك الصَّوْت هيج الضحك من الطحال فَإِن الطحال بَيته وَمِنْه يتسخط الْآدَمِيّ فِي أُمُوره وَفِيه مجمع نفاية الْبدن من كدورة الدَّم وَغَيره وَذَاكَ الضحك الَّذِي يهيج مِنْك وَمِمَّنْ سَمعه من النَّاس وَهُوَ سخرية مِنْهُ وشماتة يُرِيد أَن يعلمك أَنِّي هَهُنَا ليصغرك عِنْد نَفسك ويريك فِي باطنك مَا يستر عَنْك ليفسد منن الله تَعَالَى عَلَيْك فِي جسدك الَّذِي خلقه لَك وَقَالَ تَعَالَى {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم}
فَهَذَا الْعَدو يحسدك فِي كل شَيْء ويصيبك مِنْهُ آفاته سَاعَة فساعة من همزه ونفخه ونفثه ونزغته وَلذَلِك أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتعوذ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى {وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون}
وَقَالَ تَعَالَى {فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم}
وَقَالَ تَعَالَى {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس ملك النَّاس إِلَه النَّاس من شَرّ الوسواس الخناس الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس}
فَهَل أَمر أَن يتَعَوَّذ مِنْهُ إِلَّا من تتَابع الْآفَات وتواليها فَجعل هَذَا المَاء طهُورا من هَذِه الْآفَات الَّتِي تعتوره من هَذَا الْعَدو الَّذِي لَا يُفَارِقهُ وَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا من أحد من الْآدَمِيّين إِلَّا وَله قرين من الشَّيْطَان مُوكل بِهِ) قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن الله تَعَالَى أعانني عَلَيْهِ فَأسلم فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَير(3/146)
ووسواس هَذَا الْعَدو ونزغاته وهمزاته ونفثاته تطمس وَجه الْقلب وَتذهب بحياته وَذَهَاب حَيَاة الْقلب يوهن عقد الْإِيمَان ويرخي عراه ويخمد توقده فيجد الْعَدو سَبِيلا إِلَى إهاجة النَّفس شهواتها وخدايعها وأمانيها واغترارها فَإِذا هَاجَتْ النَّفس هَاجَتْ ريَاح الْهوى فنسفت النَّفس وَالْقلب والأركان فرمته فِي آبار الْمعاصِي إِلَّا فِيمَن دخل فِي مأمن الله وحرزه ووكالته ومعاقله فَجعل الله تَعَالَى هَذَا المَاء طهُورا للْمُؤْمِنين من آفاته الظَّاهِرَة والباطنة فَأَما فِي الظَّاهِرَة فليطهر جوارحه من تِلْكَ الْأَحْدَاث الَّتِي جرت عَلَيْهَا وَفِي الْبَاطِن يرد عَلَيْهِ مَا ذهب من حَيَاة الْقلب قَالَ تَعَالَى {لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا}
فالبلدة فِي الظَّاهِر هِيَ الأَرْض الَّتِي إِذا وصل إِلَيْهَا ذَلِك المَاء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج والبلدة فِي الْبَاطِن الْقُلُوب تخلص إِلَيْهَا آفَات الْعَدو فتموت عَن الله فيحييها الله بذلك الْوضُوء
قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {اعلموا أَن الله يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا} يلين الْقُلُوب من بعد قسوتها
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام (لن يحافظ على الْوضُوء إِلَّا مُؤمن)(3/147)
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام لأنس رَضِي الله عَنهُ (يَا بني إِن اسْتَطَعْت أَن لَا تزَال على الْوضُوء فافعل فَإِنَّهُ من أَتَاهُ الْمَوْت وَهُوَ على وضوء أعطي الشَّهَادَة)
وَالْمُؤمن الْبَالِغ إيمَانه إِذا أحدث لم يقدر أَن يَدُوم على حَدثهُ وَلَا يطمئن حَتَّى يتَوَضَّأ فَيكون أبدا على الْوضُوء لِأَن قلبه فِي وَقت الْحَدث يفتقد نزاهة الْإِيمَان وطيبه ووسواسه يصير عَامله على الْقلب فانطفأ بعض توقد ناره فَإِذا تَوَضَّأ عَاد إِلَى الْحَالة الأولى فَإِذا لم يجد المَاء صَار الصَّعِيد لَهُم طهُورا بدل المَاء لهَذِهِ الْأمة خَاصَّة لِأَن الأَرْض لما أحست بمولود مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبظهوره من بطن أمه انبسطت وتمددت وتطاولت ولبست ثِيَاب الدَّالَّة وافتخرت على السَّمَوَات وَسَائِر الْخلق بِأَنَّهُ مني خلق وعَلى ظَهْري تَأتيه كرامات الله تَعَالَى وعَلى متني يتقلب نَبيا يعبد ربه وعَلى بقاعي تسْجد جَبهته وَفِي خلال أوديتي يتنزل كَلَام الله ووحيه البارز على الْكتب كلهَا وَفِي بَطْني مدفنه وَأَنا الَّذِي أتضمن جسده وعَلى ظَهْري يكون خَاصَّة الله من أمته وورثة مِيرَاثه فجرت الأَرْض رِدَاء فخرها فَجعل ترابها طهُورا لأمته فبالأرض يتطهرون وينتصبون بهَا بَين يَدي الله تَعَالَى فَحَيْثُمَا ضربوا بأقدامهم بَين يَدي الله تَعَالَى صَارَت الأَرْض من تَحت أَقْدَامهم مَسْجِدا
قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا يَا رَسُول الله إِنَّك إِذا دخلت صليت فِي مَوَاضِع من الْبَيْت أَفلا نهيئ لَك موضعا تصلي فِيهِ فَقَالَ (يَا عَائِشَة أما علمت أَن الْمُؤمن إِذا وضع جَبينه لله طهرت تِلْكَ الْبقْعَة إِلَى سبع أَرضين)
وَإِنَّمَا صَار التَّيَمُّم لهَذِهِ الْأمة عوضا عَن الْوضُوء بِالْمَاءِ دون سَائِر الْأُمَم لِأَنَّهُ بمجيء مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طهرت الأَرْض فَلَمَّا جَاءَ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى الْأمة قبلوه فَحَيْثُمَا مدوا أَيْديهم إِلَى بقْعَة صَار ذَلِك التُّرَاب طَاهِرا(3/148)
بِمد أَيْديهم وزايلته أنجاس الشّرك والمعاصي الَّتِي عَلَيْهَا وَإِنَّمَا صَارَت طَاهِرَة بِمد أَيْديهم على ذَلِك الْقبُول الَّذِي قبلوه عَن الله تَعَالَى قَاصِدا بِالْقَلْبِ التطهر قَابلا لما جَاءَ بِهِ الْهَدِيَّة وَهُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمهْدي هَذِه الْعَطِيَّة وَالتَّيَمُّم كالطرفة والتحفة يتحف بهَا الْملك عَبده يُرِيد بِهِ لطفه وبره فَيظْهر ذَلِك التُّرَاب بِمد الْيَد إِلَيْهِ وقبوله للهدية وَهُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَار يطهر مَا جَاءَ بِهِ تُرَاب الأَرْض طهُورا كطهور المَاء الَّذِي أنزلهُ الله من بَحر الْحَيَاة قَالَ تَعَالَى {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} ثمَّ قَالَ {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون}
وَقَوْلنَا إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْهَدِيَّة صَحِيح فَإِنَّهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بعثت إِلَيْكُم وَإِنَّمَا أَنا رَحْمَة مهداة)
فَهُوَ من الله لنا هَدِيَّة وَالرسل قبله بعثوا على الْأُمَم حجَّة وعطية والهدية لَيست كالعطية فَمن قبل الْعَطِيَّة بورك لَهُ وَمن لم يقبل تأكدت الْحجَّة عَلَيْهِ وعوجل بالعقوبة ورسولنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ عَطِيَّة وهدية فَمن قبل مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَطِيَّة وهدية سعد ورشد وَصَارَ سَابِقًا ومقربا وَمن قبل عَطِيَّة وَلم يفْطن للهدية سعد وَلم يصب ثَمَرَة الرشد وَنَجَا بالسعادة وَمن أَبَاهُ وَكفر النِّعْمَة وجحدها كَانَ حَظه من السَّعَادَة النجَاة من عقوبات الْأُمَم الَّتِي عوجلوا بهَا فِي الدُّنْيَا فسعدوا بِهَذَا الْقدر وَتَأَخر عَنْهُم الْعَذَاب إِلَى يَوْم الْقِيَامَة والأولون عوجلوا بالعقوبة فِي الدُّنْيَا إِلَى أَن ألْحقُوا بِعَذَاب الْآخِرَة فَمن قبل مُحَمَّد عَطِيَّة وهدية اجتباه الله وَمن قبله(3/149)
عَطِيَّة هداه الله إِلَيْهِ بالإنابة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الله يجتبي إِلَيْهِ من يَشَاء وَيهْدِي إِلَيْهِ من ينيب}
والعطية من الرَّحْمَة والهدية من الْمحبَّة فَمن رق لعَبْدِهِ ورحمه إِذا رَآهُ فِي بؤس أَو ضعف قواه وجبره بِمَا يذهب ضعفه وبؤسه فَهَذِهِ عَطِيَّة من الرَّحْمَة وَمن أحب عَبده أهْدى إِلَيْهِ خلعا وحملانا يُرِيد بذلك أَن يختصه ويستميل قلبه وَلذَلِك سميت هَدِيَّة لاستمالة الْقلب بِهِ فالرسل إِلَى الْخلق عطايا من رَبنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَحِمهم فبعثهم إِلَيْهِم ليهديهم وَيذْهب عَنْهُم بؤس فقر الْكفْر وَيجْبر كسيرهم وربنا عز وَجل قد رحمنا فَبعث إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَطِيَّة وهدية فَجعل الْإِيمَان وَالْإِسْلَام فِي الْعَطِيَّة وَحِكْمَة الْإِيمَان وَالْإِسْلَام فِي الْهَدِيَّة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم} إِلَى أَن قَالَ {ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة}
فحكمة الْإِيمَان وَالْإِسْلَام هَدِيَّة لهَذِهِ الْأمة بمبعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة فضلا على الْأُمَم والهدية كنوز الْمعرفَة من خَزَائِن السَّمَوَات احتظى بهَا هَذِه الْأمة حَتَّى صَارُوا موصوفين فِي التَّوْرَاة صفوة الرَّحْمَن وَفِي الْإِنْجِيل حكماء عُلَمَاء أبرارا أتقياء كَأَنَّهُمْ من الْفِقْه أَنْبيَاء وَقَالَ تَعَالَى {قل إِن الْهدى هدى الله} الْآيَة
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا أَعْطَيْت أمة من الْيَقِين مَا أَعْطَيْت أمتِي)
فَإِنَّمَا صير مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنا ليهدينا إِلَى أعالي دَرَجَات الدُّنْيَا عبودة(3/150)
لنكون غَدا فِي أعالي دَرَجَات الْجنَّة بِالْقربِ من رَسُولنَا لتقر عينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَا
وَقَوله (نصرت بِالرُّعْبِ) أَصله من فورة سُلْطَان الله تَعَالَى من بَاب النَّار فَإِذا جعل نصرته من الرعب فقد أعطي جندا لَا يقاومه أحد وَلم يُعْط أحد من الرُّسُل ذَلِك فَكَانَ أَيْن مَا ذكر من مسيرَة شهر وَقع ذَلِك الرعب فِي قلب عدوه فذل بمكانه
وَقَوله (أحلّت لي الْغَنَائِم) كَانَت الْغَنَائِم نَجِسَة لِأَنَّهَا أخذت من الْعَدو وَملك الْعَدو كُله نجس أَلا يرى أَن الله ذكر حلي آل فِرْعَوْن فَقَالَ {أوزارا من زِينَة الْقَوْم}
فَكَانَت لَا تحل لَهُم لنجاستها فَكَانُوا يضعونها فتجيء نَار من السَّمَاء فتأكلها وَكَانَ هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام أَمرهم أَن يقذفوا مَا فِي أَيْديهم من تِلْكَ الحلى الَّتِي استعاروها من آل فِرْعَوْن وَقَالَ لَهُم تطهروا فرموا بهَا فجمعها السامري فاتخذها عجلا وَقذف فِيهَا التُّرَاب الَّذِي كَانَ رَفعه من حافر فرس جبرئيل فرس الْحَيَاة للفتنة الَّتِي كتب الله عَلَيْهِم بلوى بهَا فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلَكنَّا حملنَا أوزارا من زِينَة الْقَوْم} تسمى أوزارا لنجاستها وَأحلت لي الْغَنَائِم لهَذِهِ الْأمة قَالَ تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم حَلَالا طيبا} لمُحَمد وَأمته لأَنهم ضربوا السيوف بحرارة حمية حب الله وزايلها رجاسة الْكفْر وَأَهله لِأَن حرارة الْحبّ تقطع علائق النَّفس وَتحرق أَسبَابهَا
وعلائق النَّفس من أَسبَاب الشّرك وَسَائِر الْأُمَم لم يُعْطوا هَذَا فَلم تطب لَهُم الْغَنَائِم وَلم تزل رجاسة أهل الْكفْر مِنْهَا فَلم تحل لَهُم(3/151)
لِأَن بني إِسْرَائِيل قَاتلُوا على الديار والأرضيين الَّتِي كَانَت لِآبَائِهِمْ قَاتلُوا عَلَيْهَا ليردوها إِلَى ملكهم وأنبياؤهم بعثوا للدعوة إِلَى الله تَعَالَى وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث للتَّوْبَة والملحمة يَعْنِي إِن لم يتوبوا لحموا بِالسُّيُوفِ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَنا نَبِي التَّوْبَة وَأَنا نَبِي الملحمة)
وَمعنى ذَلِك أَنِّي بعثت إِلَى الْأمة بِأَن أدعوا إِلَى لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِن أجابت وَإِلَّا أمهلهم حَتَّى يتوبوا وللتوبة انْتِظَار وَمُدَّة وَالْعَذَاب مَأْمُون فيهم يَتَقَلَّبُونَ فِي الشّرك مَعَ الْمدَّة فَإِن تَابُوا قبل الله ذَلِك مِنْهُم بِأَن جعلني نَبِي التَّوْبَة وَمن تَمَادى فِي ذَلِك لحمت أَجْسَادهم بِالسُّيُوفِ فَكَمَا صَارَت الْغَنَائِم طيبَة من رجاسة الْكفْر فَكَذَلِك طابت الأَرْض من رجاسة الْكفْر والمعاصي بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَنْوَار القدسية فَصَارَت لَهُم مَسْجِدا وَطهُورًا وَطَابَتْ أَيْضا بليلة الْقدر ومشاهدة الرب أهل الأَرْض بالقربة وَكَانَت الْمُشَاهدَة لِلنَّبِيِّينَ على أَجْسَادهم وَأعْطيت هَذِه الْأمة على أرْضهَا حَتَّى يَرَاهَا من سبقت لَهُ الْحسنى من الله بِعَيْنِه أشواق الْمُشَاهدَة
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (هَذِه لَيْلَة كشف غطاؤها)
وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ اسْتَأْذَنت مَلَائِكَة الرّوح فِي النُّزُول إِلَى الأَرْض طَمَعا أَن ينالوا مَا لم يكن عِنْدهم فِي مقاومهم
قَالَ الله تَعَالَى {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح}(3/152)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يَرْمِي فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بِنَجْم وَلَا يحدث فِيهَا دَاء) لِأَن الشَّيَاطِين قد اختنست من أجل الْمُشَاهدَة والخلق فِي مأمن من مُشَاهدَة السَّلَام فَهَذَا كُله لهَذِهِ الْأمة
وَقَوله (أَعْطَيْت الشَّفَاعَة) فَإِن تِلْكَ دَعْوَة كَانَت لكل نَبِي فتعجلتها الْأَنْبِيَاء فِي الدُّنْيَا وأخرها مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذخْرا لأمته ونصيحة لله فِي عباده فاستوجب بنصيحة الله برأفته على عبيده أَن وضع دَعوته فِي مَحل التربية حَتَّى تربو وتتضاعف حَتَّى تخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة تِلْكَ الدعْوَة بهيجة يحْتَاج الْخلق كلهم إِلَيْهَا حَتَّى إِبْرَاهِيم خَلِيل الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أَتَانِي جبرئيل بِهَذِهِ الدعْوَة قلت إِنِّي ادخرتها لأمتي فَيحْتَاج الْخلق كلهم إِلَيّ فِي هَذِه حَتَّى إِبْرَاهِيم خَلِيل الله عَلَيْهِ السَّلَام(3/153)
- الأَصْل المائتان وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي فضل الْأَمَانَة
عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ)
الْإِيمَان عش الْأَمَانَة وَالْأَمَانَة فِي جَوْفه كالفرخ الَّذِي يتفقأ عَن الْبَيْضَة ووكل الْعباد بتربيتها كَمَا يُربي الطير فرخه فِي عشه ويزقه وَيَغْدُو فِي طلب تَرْبِيَته حَتَّى ينْقل إِلَيْهِ من أقطار الأرضيين ويكتنفه ويذب عَنهُ وَيُقَاتل من يرومه فِي عشه تحننا عَلَيْهِ وشفقة وصيانة حَتَّى ينْبت لَهُ جنَاح ويطير مَعَه فَكَذَا الْمُؤمن مُوكل بِحِفْظ الْأَمَانَة وَقد قبلهَا مَعَ قبُول الْإِيمَان وَلم يتم لَهُ الْإِيمَان إِلَّا بِقبُول الْأَمَانَة وَكَانَت مستورة فَأحب الله أَن يبرزها حَتَّى يقبلهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام ظَاهرا فمثلها لَهُ درة بَيْضَاء وَجعلهَا مستورة فِي جَوْفه فعرضت على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فهبنها وأشفقن مِنْهَا لِأَنَّهُ انْكَشَفَ الغطاء عَن ذَلِك لَهُنَّ وَستر عَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام لطفا من الله حَتَّى قبلهَا لتحرك مَا فِي قلبه من الْإِيمَان فَلم يملك أَن أسْرع إِلَى الْقبُول مقتدرا فابتلي باقتداره(3/154)
فَسُمي ظلوما لقبوله على الاقتدار جهولا بِمَا فِي بَاطِن تِلْكَ الدرة فوضعها على العاتق فألزمها عُنُقه كطوق العبيد وذلت لله رقبته فتكرر عَلَيْهِ الْأَمر للاقتدار وَإِنَّمَا عمل فِيهِ الاقتدار وانسد عَلَيْهِ بَاب التَّعَلُّق بِاللَّه لما كَانَ فِي ظَهره من الْأَعْدَاء فابتلي بِقبُول الْأَمَانَة ليميز الْخَبيث من الطّيب فَقبله على الاقتدار فَصَارَ الْقبُول حَظّ الأحباب وَصَارَ الاقتدار حَظّ الإهداء وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة} الْآيَة
ثمَّ أعلم الْعباد لم فعل هَذَا فَقَالَ {ليعذب الله الْمُنَافِقين والمنافقات} الْآيَة
وَمَعْنَاهُ لأعذب الْأَعْدَاء وَأَتُوب على الأحباب فَأغْفِر لَهُم سيئ مَا عمِلُوا وارحمهم فِي تقصيرهم حَتَّى تؤديهم الرَّحْمَة إِلَى دَار رَحْمَتي فتقلد حفظ هَذِه الْأَمَانَة فَجرى قبُولهَا من الْقلب إِلَى الْجَوَارِح السَّبع فتجزأ حملهَا على هَذِه الْجَوَارِح فللعين جُزْء وللسمع جُزْء ولليد جُزْء وللرجل جُزْء وللبطن جُزْء وللفرج جُزْء وللسان جُزْء وَجعل أَمَانَة الْفرج من بَين الْجَوَارِح كلهَا مستورة وَسميت فَاحِشَة إِذا كشف عَنْهَا بِغَيْر حق والاستعمال لَهَا بِغَيْر حق هلكة وتأديبه الْقَتْل بِالْحِجَارَةِ والتنكيل والناظر إِلَيْهَا عَامِدًا مَلْعُون والكاشف عَنْهَا منزوع الْحيَاء ممقوت
وَقَالَ عبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا أول مَا خلق الله من الْإِنْسَان فرجه ثمَّ قَالَ (هَذِه أَمَانَة خبأتها عنْدك فَلَا تبسل مِنْهَا شَيْئا) إِلَّا بِحَقِّهَا
فالسمع أَمَانَة وَالْبَصَر أَمَانَة والفرج أَمَانَة والبطن أَمَانَة وَاللِّسَان(3/155)
أَمَانَة وَالْيَد أَمَانَة وَالرجل أَمَانَة فَالَّذِي يكْشف لَك عَمَّا خبأه الله إهمالا وَاسْتعْمل بِغَيْر حق اسْتوْجبَ هَذِه الْعُقُوبَات وَالَّذِي فِي الدُّنْيَا النكال وَالرَّجم وَأما الَّذِي فِي الْآخِرَة فَإِن أهل النَّار يتأذون من نَتن فروج الزناة ويزدادون بذلك عذَابا وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَكثر مَا يدْخل النَّاس النَّار الأجوفان الْبَطن والفرج)
فقد قلد كل جارحة بِقسْطِهِ من الْأَمَانَة فَمن استبدل بهَا خِيَانَة انْتقصَ من وزن إيمَانه وَمن ضوئه مَا دَامَ حَيا وضوء الْإِيمَان رَأس مَال الْمُوَحِّدين بِهِ يستضيئون فِي السّير إِلَى الله تَعَالَى فِي الطَّاعَات فَإِذا غَابَ الضَّوْء ضل الْقلب بِمَنْزِلَة قمر وَقع فِي كسوف فكسوف ضوء الْأَمَانَة فِي ظلمَة الْخِيَانَة فَكل فعل حرم الله على جارحة من الْجَوَارِح فهتك تِلْكَ الْجَارِحَة ذَلِك السّتْر وانهتكت تِلْكَ الْحُرْمَة بِرَفْع حجابها فقد خَان الْأَمَانَة فالمتقون فَهموا هَذِه الْقِصَّة فخرست ألسنتهم عَن أَن تنطق بِمَا نهى الله عَنهُ والسمع إِلَى الِاسْتِمَاع إِلَى مَا نهى الله عَنهُ وكل عُضْو كَذَلِك وحفظوا الْقلب وساحته وَهِي الصَّدْر مَعَ الله تَعَالَى وَفِيمَا بَينه وَبَين الْخلق فَكلما زلت جارحة من جوارحك بِفعل حظر الله عَلَيْك فقد ضيعت الْأَمَانَة بِقَدرِهَا وانكسف من ضوء قمرك بِقَدرِهِ وَنقص من وزن إيمانك غَدا بِقَدرِهِ فَإِذا حكمت شَأْن الْجَوَارِح السَّبع وجعلتها فِي وثاق الْأَمَانَة فقد نجوت فَإِن كَانَ مِمَّن فتح لَهُم الطَّرِيق فَسَار إِلَى الله صَار حفظ الْأَمَانَة أصعب وَأعظم خطرا وأوفر حظا من ثَمَرَته لِأَنَّهُ حَتَّى الْآن كَانَ فِي كسب الْجَوَارِح عملا ينَال بِهِ أجرا والآن قد وَقع فِي كسب الْقلب سعيا إِلَى الله ينَال(3/156)
بِهِ الْقرْبَة فالحراسة هَهُنَا للأمانة من الخواطر فَإِن حرسها بِحَقِّهَا وصدقها تحول الضَّوْء الَّذِي كَانَ بدءا شعاعا يتوهج يخطف بصائر النَّفس فضوء الْإِيمَان للصادقين مَعَ جهدهمْ وشعاعه للصديقين مَعَ تفويضهم فَإِن الْكفْر كليل مظلم وَالْإِيمَان فِي الصَّدْر كَالْقَمَرِ فالموحدون يَأْخُذ كل من ذَلِك الْقَمَر بِقَدرِهِ وكل مُطِيع يَأْخُذ بِقَدرِهِ من الضَّوْء فَإِذا كَانَ صَادِقا مُطيعًا لله فِي كل جارحة فَالظَّاهِر مُسْتَقِيم وَالْبَاطِن فَاسد مجهود صَار كمن أقمر لَيْلَة بدر أَو صَار ضوء إيمَانه كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر
إِلَّا أَن الضَّوْء لَيْسَ لَهُ شُعَاع وَلَا حريق وَمن فتح لِقَلْبِهِ الطَّرِيق إِلَى الله تَعَالَى فَصَارَ على مَنْهَج الصدْق وَهُوَ الْبَذْل لنَفسِهِ لله غير ملتفت إِلَيْهَا تحول قمره شمسا فَإِنَّمَا يَبْدُو لِقَلْبِهِ من شُعَاع تِلْكَ الشَّمْس بِمِقْدَار مَا كَانَ يَبْدُو من الْقَمَر فِي مُبْتَدأ أمره فَلَا يزَال يسير حَافِظًا للأمانة فِي العطايا حَتَّى تَزُول عَنهُ الْخِيَانَة ويتبرأ من النَّفس وينسيها وافتقد مَشِيئَته بِمَشِيئَة مَوْلَاهُ وَنسي أَحْوَال نَفسه لما طالع من العظائم وأشرقت شمسه بِتَمَامِهَا بِجَمِيعِ شعاعها وَذَلِكَ قَوْله لداود عَلَيْهِ السَّلَام (يمشي تَمامًا وَيَقُول صَوَابا) وَقَوله تَعَالَى {ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب تَمامًا على الَّذِي أحسن} وَهُوَ الْمُؤمن المستكمل لوقارة الْإِيمَان وبهائه
قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وددت أَنِّي شَعْرَة فِي صدر مُؤمن
وَقَالَ تَعَالَى حِين أثنى على إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام {إِنَّه من عبادنَا الْمُؤمنِينَ}
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ثَلَاثَة تَحت الْعَرْش الْقُرْآن لَهُ ظهر وبطن يحاج الْعباد(3/157)
وَالرحم تنادي صل من وصلني وإقطع من قطعني وَالْأَمَانَة)
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْطلق ثَلَاثَة نفر فَدَخَلُوا غارا فَأرْسل الله عَلَيْهِم صَخْرَة فانطبق الْغَار عَلَيْهِم فَقَالَ بَعضهم لبَعض قد ترَوْنَ مَا نَحن فِيهِ وَمَا قد ابتلينا بِهِ فَلْينْظر كل رجل مِنْكُم أفضل عمل عمله فِيمَا بَينه وَبَين ربه فليذكره ثمَّ يَدْعُو الله تَعَالَى لَعَلَّ الله يفرج عَنَّا مَا نَحن فِيهِ ويلقي عَنَّا هَذِه الصَّخْرَة فَقَالَ رجل مِنْهُم اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنه كَانَت لي بنت عَم وَكَانَت من أحب النَّاس إِلَيّ فطلبت مِنْهَا نَفسهَا فَأَبت عَليّ إِلَّا أَن أعطيها مائَة دِينَار فجمعتها من حسي وَنسي حَتَّى جِئْتهَا بهَا فدفعتها إِلَيْهَا فَلَمَّا قعدت مِنْهَا مقْعد الرجل من امْرَأَته أرعدت وبكت فَقَالَت يَا عبد الله اتَّقِ الله وَلَا تفتح هَذَا الْخَاتم إِلَّا بِحقِّهِ فَقُمْت عَنْهَا وَتركت الدَّنَانِير لَهَا من مخافتك اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي إِنَّمَا تركتهَا وَتركت الدَّنَانِير لَهَا من مخافتك فافرج لنا من هَذِه الصَّخْرَة فُرْجَة نرى مِنْهَا السَّمَاء فَفرج الله عَنْهُم مِنْهَا فُرْجَة فنظروا إِلَى السَّمَاء وَقَالَ الثَّانِي اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنه كَانَ لي أَبَوَانِ وَكَانَت لي صبية صغَار فَكنت أرعى على أَبَوي وَكنت أجيء بالحلاب فأبدأ بأبوي فأسقيهما ثمَّ أجيء بفضلهما على الصبية فأسقيهم وَإِنِّي جِئْت ذَات لَيْلَة بالحلاب فَوجدت أَبَوي نائمين والصبية يتضاغون من الْجُوع فَلم أزل بهم حَتَّى نَامُوا ثمَّ قُمْت بالحلاب على أَبَوي لَيْلَتي حَتَّى قاما وشربا ثمَّ جِئْت بفضلهما إِلَى الصبية فأسقيتهم اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي إِنَّمَا فعلت ذَلِك من مخافتك فأفرج عَنَّا مِنْهَا فُرْجَة فَفرج الله عَنْهُم مِنْهَا فُرْجَة وَقَالَ الثَّالِث اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنه كَانَ لي أجِير يعْمل عِنْدِي فأعطيته أجره فغمضه وَذهب وَتَركه فَعمِلت لَهُ بأجره حَتَّى صَار لَهُ بقر وغنم ثمَّ أَتَانِي بعد حِين يطْلب أجره فَقلت لَهُ(3/158)
دُونك هَذَا الْبَقر وَالْغنم وراعيها فَخذهَا وَهِي لَك فَانْطَلق فَأَخذهَا اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي إِنَّمَا فعلت ذَلِك من مخافتك فَأَلْقِهَا عَنَّا فَألْقى الله عَنْهُم فَخَرجُوا يَمْشُونَ
وَعَن عَطاء قَالَ كَانَ رجل من بني إِسْرَائِيل لَهُ مَكَان من الْمُلُوك لَيْسَ مِنْهُم ملك يَمُوت فيخلفه ملك إِلَّا أنزلهُ مِنْهُ بِمَنْزِلَتِهِ من الْملك الأول فَبعث على بني إِسْرَائِيل ملك صَالح دَعَا النَّاس إِلَى الْحُقُوق والمظالم فارتحلت الْأَحْيَاء إِلَيْهِ حَيّ حَيّ لَيْسَ مِنْهُم أحد إِلَّا وَهُوَ ينظر فِي شَأْنه وَمن كَانَت لَهُ مظْلمَة يرد عَلَيْهِ مظلمته وَمن كَانَ لَهُ حق أنصفه من حَقه وَمن كَانَت لَهُ حَاجَة قضى لَهُ حَاجته حَتَّى ارتحل حَيّ الْفَتى وارتحل هُوَ فيهم وهم يظنون أَن الْملك سينزله مِنْهُ مَنْزِلَته من الْمُلُوك قبله
فَدخل على الْملك بعض قومه فَقضى حوائجهم ورد عَلَيْهِم مظالمهم حَتَّى دخل الْفَتى فَكَلمهُ بِمثل مَا كَانَ يكلم بِهِ الْمُلُوك قبله فيعجبهم ويقربونه فَقَالَ لَهُ الْملك أَولا تتقي الله وَتُؤَدِّي الْأَمَانَة قَالَ أَيَّة أَمَانَة فَأخذ رجل من حرسته بِيَدِهِ فَأخْرجهُ فَانْصَرف إِلَى قومه فَقَالَ لَعَلَّ بَعْضكُم سبقني عِنْد الْملك فَحَلَفُوا لَهُ فَصَدَّقَهُمْ فَانْصَرف إِلَى أَهله
فَمَاتَ ذَلِك الْملك وَبعث عَلَيْهِم ملك صَالح فَدَعَا النَّاس إِلَى مَا دعاهم إِلَيْهِ الْملك قبله فارتحل النَّاس إِلَيْهِ فارتحل الْفَتى مَعَ حيه فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ كلمة الْفَتى بالْكلَام الَّذِي يكلم بِهِ الْمُلُوك قبله فيقربونه فَقَالَ لَهُ الْملك أَولا تتقي الله وَتُؤَدِّي حق الْأَمَانَة فَقَالَ أَيَّة أَمَانَة(3/159)
فَأخذ رجل من حرسته بِيَدِهِ فَأخْرج فَانْصَرف إِلَى قومه فَقَالَ لَعَلَّ بَعْضكُم سبقني عِنْد الْملك فَحَلَفُوا لَهُ فَصَدَّقَهُمْ فانصرفوا وَانْصَرف الْفَتى إِلَى أَهله فَقَالَ لَا أَحسب هَذَا إِلَّا لما كنت أصبت مِمَّا لَا يصلح لي فَوضع يَده الْيُمْنَى على الْيُسْرَى ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُبَايِعك على أَن لَا أسأَل أحدا شَيْئا أبدا فَمَكثَ بذلك ثمَّ قَالَ لَا حَاجَة لي بِقرب النَّاس ومخالطتهم
فَانْطَلق إِلَى بَريَّة فتعبد فِيهَا وتخرق عَنهُ ثِيَابه وَصَارَ كَهَيئَةِ المسمار المحترق وَجعل يَأْكُل من نَبَات الأَرْض فَبينا هُوَ على ذَلِك إِذْ هُوَ بشخين بَين أَيْدِيهِمَا طَعَام يأكلانه فتعرض لَهما فَرَفعهَا رؤوسهما ونظرا إِلَيْهِ حَتَّى إِذا علما أَنه قد علم أَنَّهُمَا قد نظرا إِلَيْهِ أكبا على طعامهما ثمَّ رفعا رؤوسهما فدعواه فَأقبل فَإِذا هما يأكلان خبز شعير فَنَظَرا إِلَيْهِ ثمَّ قَالَا اجْلِسْ فَجَلَسَ ثمَّ مد يَده إِلَى كسرة فأمسكاها فنظروا إِلَيْهِ ثمَّ أكبا على طعامنا ثمَّ قَالَا كل فَكبر فأمسكا بِيَدِهِ وَقَالا لم كَبرت على كعامنا قَالَ إِنِّي كنت حَلَفت أَن لَا أسأَل أحدا شَيْئا فلولا أنكما قلتما كل لم أتناول طعامكما قَالَا أَو لَا تتقي الله وَتُؤَدِّي الْأَمَانَة قَالَ وأية أَمَانَة فوَاللَّه مَا أخرجني من النَّاس إِلَّا هَذِه الْكَلِمَة وَلَا لقِيت مَا تريان إِلَّا لَهَا قَالَا أشرف هَذَا الشّرف فَانْظُر مَا ترى وَرَاءه ثمَّ ارْجع إِلَيْنَا
فَأَشْرَف ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ رَأَيْت خَمْسمِائَة ضائنة أَو سِتّمائَة لم أر مثلهَا حسنا جَمِيعًا قَالَا أتأخذها بأمانة الله على أَن تؤدها إِلَيْنَا إِذْ نَحن سألناكها صحاحا شقّ الشعرة شطرين قَالَ نعم فدفعا إِلَيْهِ هَذَا الْغنم وانطلقا فَنمت وَبَارك الله فِيهَا فَنزل قَرْيَة من الْقرى وَبَاعَ مِنْهَا فَاشْترى مِنْهَا رعاء فَجعلت ترعى جناب الْقرْيَة وتأوي إِلَيْهَا فكثرت ونمت وَبَارك الله وَجعل لَا يَبِيع مِنْهَا فيتخذ صنفا من أَصْنَاف الْأَمْوَال إِلَّا بَارك الله فِيهَا ونما فَتزَوج النِّسَاء وَاتخذ السراري وَكثر(3/160)
لَهُ الْوَلَد وَكَانَ فِي ذَلِك رجلا صَالحا يقري الضَّيْف وينول ابْن السَّبِيل وَيُعْطِي السَّائِل
فَبينا هم على ذَلِك وَقد أَتَى على ذَلِك سنُون إِذْ هُوَ بشيخين يقرعان عَلَيْهِ بَاب دَاره فَنَادَى غُلَامه فَقَالَ أنظر من يقرع بَاب الدَّار فَخرج غُلَامه فَإِذا هُوَ بشيخين قَالَ مَا حاجتكما قَالَا حاجتنا إِلَى سيدك فَرجع إِلَى سَيّده فَأخْبرهُ قَالَ انْطلق بهما ففرغ لَهما بَيْتا فِي نَاحيَة الدَّار ثمَّ أفرشهما وأتحفهما وأطعمهما وأسقهما فليبيتا بِخَير ثمَّ ليغدوا لحاجتهما وَهُوَ يحْسب أَنه كَانَ كمن يضيف فَرجع الْغُلَام إِلَيْهِمَا فَقَالَ إِن سَيِّدي أَمرنِي أَن أفرغ لَكمَا بَيْتا وَأَن أفرشكما وأتحفكما وأطعمكما وأسقيكما فتبيتا بِخَير ثمَّ تغدوا لحاجتكما قَالَا هَذَا مَكَاننَا أَو يَأْذَن لنا عَلَيْهِ قَالَ وَهِي لَيْلَة قُرَّة بَارِدَة شَدِيدَة الْبرد فَرجع إِلَى سَيّده فَأخْبرهُ فَقَالَ قل لَهما إِنِّي قد وضعت ثِيَابِي وخلوت بأهلي فبيتا ثمَّ أغدوا على حاجتكما فَرجع إِلَيْهِمَا فَأَخْبرهُمَا قَالَا هَذَا مَكَاننَا أَو يَأْذَن لنا فَغَضب العَبْد فأغلق الْبَاب دونهمَا وَانْصَرف إِلَى مضجعه
فَلَمَّا أصبح دَعَا غُلَامه فَقَالَ وَيحك مَا فعل ضيفاي قَالَ عرضت عَلَيْهِمَا مَا أَمرتنِي فأبيا فأغلقت الْبَاب وانصرفت قَالَ وَيحك تركت ضَيْفِي فِي سقيع بِغَيْر عشَاء لَا جرم لَأَفْعَلَنَّ بك وَلَأَفْعَلَن ائْذَنْ لَهما فدخلا إِلَيْهِ فَجعل يعْتَذر إِلَيْهِمَا أتيتماني فِي سَاعَة لَا يدْخل عَليّ فِيهَا فَأمرت الْغُلَام بقراكما فغمضتما ذَلِك فَذكر لي أَنه أغلق الْبَاب دونكما لَا جرم لَأَفْعَلَنَّ بِهِ وَلَأَفْعَلَن
قَالَا إِن لنا حَاجَة فأخلنا لحاجتنا فَأمر من حوله فارتفع حَتَّى إِذا خلوا بِهِ قَالَا هَل تعرفنا قَالَ لَا قَالَا أَتَذكر شيخين أتيتهما ببرية كَذَا وَكَذَا وَبَين أَيْدِيهِمَا خبز شعير يأكلانه وَأَنت كالمسمار المحترق قَالَ أذكر قَالَا فَمَا فعلت الْغنم قَالَ فعلت خيرا كثرت ونمت واتخذت أَصْنَاف الْأَمْوَال قَالَا أَلَسْت قد عرفت شرطنا عَلَيْك قَالَ(3/161)
بلَى صحاحا بشطرين قَالَا فَادع لنا بِمَا لنا قَالَ فَدَعَا بدواوينه وَإِذ الْأَمْوَال أَكثر من أَن تحصى إِلَّا بِكِتَاب فَدَعَا بالغنم فقسمت شطرين ثمَّ دَعَا بِالْإِبِلِ وَالْبَقر وَسَائِر الْأَمْوَال فقسمت شطرين فَقَالَ قد فعلت ووفيت لَكمَا بِالشّرطِ قَالَا ائتنا بأمهات أولادك قَالَ وَمَا لَكمَا وَأُمَّهَات أَوْلَادِي نسَاء قد ولدن وعتقن قَالَا إِن أَثْمَانهنَّ من مالنا قَالَ لَا أفعل قَالَا اتَّقِ الله وأد الْأَمَانَة تعلم أَنا لسنا نأخذك بسُلْطَان وَلَيْسَ لنا عَلَيْك بَيِّنَة وَإنَّك إِن تجحد يصدقك النَّاس ويكذبوننا
قَالَ فَبَاتَ يتسلق على فرَاشه وَيَقُول أيتها النَّفس اصْبِرِي واذكري الْحَال الَّذِي كنت عَلَيْهِ صدقا لعمري إِن أُمَّهَات أَوْلَادِي وَالنَّفقَة عَلَيْهِنَّ لمن مَالهمَا فَلَمَّا أصبح قَالَ ادعوا بأمهات أَوْلَادِي فَدَعَا بِهن فقسمهن شطرين فَجعل يبكي بَعضهم إِلَى بعض قَالَ قد فعلت فَقَالَا ائتنا بنسائك قَالَ وَمَا شَأْن نسَائِي بَنَات قوم أَحْرَار فَأَما أُمَّهَات أَوْلَادِي فهن من مالكما قَالَا إِن صدقاتهن وَالنَّفقَة عَلَيْهِنَّ من مالنا قَالَ لَا أفعل قَالَا اتَّقِ الله وأد الْأَمَانَة تعلم أَنا لسنا نأخذك بسُلْطَان وَلَيْسَت لنا عَلَيْك بَيِّنَة وَإنَّك إِن تجحد يصدقك النَّاس ويكذبوننا
قَالَ يَا نفس اذكري الْحَال الَّذِي أتيتهما عَلَيْهِ صدقاتهن عَلَيْهِنَّ وَالنَّفقَة عَلَيْهِنَّ من مَالهمَا ائْتُونِي بِنِسَائِي فَأتي بِهن فقسمهن شطرين قَالَ قد فعلت قَالَا ائتنا بولدك قَالَ وَمَا شَأْن وَلَدي أما أُمَّهَات أَوْلَادِي فالثمن وَالنَّفقَة من مالكما وَأما النِّسَاء فالصدقات وَالنَّفقَة من مالكما وَأما وَلَدي فَخَرجُوا من صلبي فَلم أكن لَأَفْعَلَنَّ قَالَا اتَّقِ الله وأد الْأَمَانَة تعلم أَنا لسنا نأخذك بسُلْطَان وَلَيْسَت لنا عَلَيْك حجَّة وَإنَّك إِن تجحد يصدقك النَّاس ويكذبوننا
قَالَ أيتها النَّفس اصْبِرِي واذكري الْحَال الَّذِي أتيتهما عَلَيْهِ أَرَأَيْت كسْوَة الْوَلَد وَالنَّفقَة عَلَيْهِم أليست من مَالهمَا ائْتُونِي ببني فَأتي بهم فقسموا شطرين فَإِذا مِنْهُم غُلَام لَا يعدل بِهِ أحد من الْوَلَد قَالَ(3/162)
قد قسمت وَهَذَا غُلَام فَإِن أحببتما أَن تقوما قِيمَته ثمَّ أرد عَلَيْكُمَا الشّطْر فعلت قَالَا لَا نُرِيد أَن تشتري منا شَيْئا قَالَ فهبا لي نصيبكما قَالَا مَا نُرِيد أَن نعطي أحدا من حَقنا شَيْئا قَالَ فَأَنا أهب لَكمَا نَصِيبي قَالَا مَا نُرِيد أَن تكون لَك عندنَا منَّة قَالَ فَمَاذَا قَالَا قد عرفت شرطنا عَلَيْك صحاحا كشق الشعرة قَالَ أفأشقه قَالَا أَنْت أعلم قَالَ وَالله لَا أفعل هَذَا أبدا قَالَا اتَّقِ الله وأد الْأَمَانَة تعلم أَنا لَا نأخذك بسُلْطَان وَلَيْسَت لنا عَلَيْك بَيِّنَة وَإنَّك إِن تجحد يصدقك النَّاس ويكذبوننا
قَالَ يَا نفس اصْبِرِي واذكري الْحَال الَّذِي أتيتهما عَلَيْهِ قربوا الْمِنْشَار فَأتي بِالْمِنْشَارِ قَالَ خذا بناصيته وآخذ بناحيته قَالَا نعم ذَاك لَك قَالَ فأخذا بِنَاحِيَة الْمِنْشَار وَأخذ بناحيته ثمَّ أَدْرَكته رقة الْوَالِد فَقَالَ ابدءا فأشعراه بِهِ قَالَا أَنْت أَحَق من بَدَأَ قَالَ إِنِّي لأجد لَهُ مَا لَا تجدان فأشعراه لي قَالَا أَنْت أَحَق من بدا فتقاعس فِي الْمِنْشَار ليأشره ورفعاه قَالَا إِن كنت لفاعلا قَالَ نعم وَالله حَتَّى أوفي لله بِمَا جعلت لَهُ وأؤدي الْأَمَانَة قَالَا إذهب فلك أهلك وولدك وَمَالك بَارك الله لَك لسنا من الْبشر كَانَ هَذَا بلَاء قَضَاهُ الله عَلَيْك فبررت وأوفيت وَنحن منعنَا ملكي بني إِسْرَائِيل أَن يعطياك شَيْئا لما قَضَاهُ الله عَلَيْك من الْبلَاء فاطمئن فِي مَالك
وَعَن عَطاء قَالَ لما أعتق لُقْمَان أعطَاهُ مَوْلَاهُ مَالا فَبَارك الله للقمان فِي ذَلِك المَال فَكثر ونما وَجعل لَا يَأْتِيهِ أحد يستقرضه قرضا إِلَّا أقْرضهُ لَا يَأْخُذ عَلَيْهِ حميلا وَلَا رهنا إِلَّا أَنه إِذا أَرَادَ أَن يدْفع إِلَيْهِ المَال قَالَ تَأْخُذهُ بأمانة الله لتؤدينه إِلَيّ عَام قَابل فَإِذا قَالَ نعم دَفعه إِلَيْهِ فَجعل النَّاس يَأْخُذُونَ مِنْهُ ويؤدون فَذكر فعل لُقْمَان لرجل يسكن سَاحل الْبَحْر تِجَارَته فِي الْبَحْر لص ملط فَاجر فَقَالَ وَالله إِن رَأَيْت مَالا أضيع من هَذَا مَا يَأْخُذ مني رهنا وَلَا حميلا وَالله لَآتِيَن هَذَا(3/163)