بِالصَّوَابِ. وَقَالَ ابْن مَنْدَه: فِيهِ نظر. وَقَالَ الْمزي فِي «أَطْرَافه» : اخْتلف فِي صحبته، وَفِي إِسْنَاد حَدِيثه، وَلم يُورد لَهُ غير هَذَا الحَدِيث. وَكَانَ مَالك أَبُو مَاعِز قد أَوْصَى إِلَى هزال بِابْنِهِ مَاعِز، وَكَانَ فِي حجره فَكَفَلَهُ كَمَا سلف فِي الحَدِيث، وَهَذِه الْمَرْأَة الَّتِي زنَى بهَا مَاعِز قيل اسْمهَا «فَاطِمَة» ، وَقد وَقع (ذَلِك) فِي بعض طرق أبي دَاوُد. قَالَه الْخَطِيب، ثمَّ الْمُنْذِرِيّ. وَقيل: اسْمهَا «منيرة» : حَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي «مُخْتَصر المبهمات» .
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر برجم مَاعِز والغامدية وَلم يحضر»
هُوَ كَمَا ذكر، وَالْأَحَادِيث كلهَا مصرحة بِهِ، قَالَ الشَّافِعِي: أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - برجم مَاعِز وَلم يحضرهُ، وَأمر أنيسًا أَن يَأْتِي امْرَأَة فَإِن اعْترفت فارجمها، وَلم يقل أعلمني وَلَا حضرني.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «فِي قصَّة مَاعِز قَالَ: أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - برجمه، فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى أَن وصلنا إِلَى بَقِيع الْغَرْقَد، فَمَا أوثقناه وَلَا حفرنا لَهُ، ورميناه بالعظام والمدر والخزف، ثمَّ اشْتَدَّ واشتددنا إِلَيْهِ (حَتَّى أَتَى) عرض الْحرَّة، فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الْحرَّة حَتَّى سكن» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور،(8/623)
وَجَاء فِي «صَحِيح مُسلم» أَيْضا من حَدِيث بُرَيْدَة «أَنه حفر لماعز» واستدركه الْحَاكِم وَقَالَ: «حُفْرَة إِلَى صدرة» ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حفر للغامدية» .
هَذَا صَحِيح، أخرجه مُسلم، من حَدِيث بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَهَذَا لَفظه: «ثمَّ أَمر لَهَا فحفر لَهَا إِلَى صدرها، وَأمر النَّاس فرجموها» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يحْفر للجهنية» . قلت: هُوَ ظَاهر الحَدِيث، وَقد سلف بِطُولِهِ فِي أَوَائِل الْبَاب من حَدِيث عمرَان بن حُصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف: «أَن رجلا مقْعدا زنَى بِامْرَأَة، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يجلد بأثكال النّخل» وَيروَى: «أَنه أَمر أَن يَأْخُذُوا مائَة شِمْرَاخ، فَيَضْرِبُوهُ بهَا ضَرْبَة وَاحِدَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن يَحْيَى بن سعيد وَأبي الزِّنَاد كِلَاهُمَا، عَن أبي أُمَامَة (بن) سهل (بن حنيف «أَن رجلا -(8/624)
قَالَ أَحدهمَا: أحبن. وَقَالَ الآخر: مقْعدا - كَانَ عِنْد جوَار سعد) فَأصَاب امْرَأَة حَبل فرمته بِهِ، فَسئلَ فاعترف فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِهِ - قَالَ أَحدهمَا: فجلد بأثكال النّخل. وَقَالَ الآخر: بأثكول النّخل» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ عَن سُفْيَان مُرْسلا، وَرُوِيَ عَنهُ مَوْصُولا بِذكر أبي سعيد فِيهِ. وَقيل: عَن أبي الزِّنَاد، عَن أبي أُمَامَة، عَن أَبِيه. وَقيل: عَن (أبي) أُمَامَة، عَن سعيد بن سعد بن عبَادَة قَالَ: «كَانَ بَين (إمائنا) رجل مُخْدج ضَعِيف، فَلم نرع إِلَّا وَهُوَ عَلَى أمة من إِمَاء الدَّار يخْبث بهَا، فَرفع شَأْنه سعد بن عبَادَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: اجلدوه مائَة سَوط. (فَقَالُوا) : يَا نَبِي الله، هُوَ أَضْعَف من (ذَاك) لَو ضَرَبْنَاهُ مائَة سَوط مَاتَ، قَالَ: فَخُذُوا لَهُ عثْكَالًا فِيهِ مائَة شِمْرَاخ فَاضْرِبُوهُ وَاحِدَة» . وَرَوَى هَذَا أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَفِيه: «وَكَانَ مُسلما» وَفِي آخِره: «وخلوا سَبيله» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَرَوَى هَذَا الحَدِيث فليح، عَن أبي حَازِم، عَن سهل بن سعد، «أَن وليدة فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (حبلت) من الزِّنَا، فَسُئِلت: من أحبلك؟ قَالَت: أحبلني المقعد. فَسئلَ عَن ذَلِك فاعترف بِهِ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنَّه لضعيف عَن الْجلد، فَأمر بِمِائَة عثكول فَضَربهُ بهَا ضَرْبَة وَاحِدَة» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كَذَا قَالَ، وَالصَّوَاب، عَن أبي حَازِم، عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَعْنِي(8/625)
مُرْسلاً - وَكَذَا قَالَ فِي «علله» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، من حَدِيث ابْن شهَاب، عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف، عَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الْأَنْصَار: «أَنه اشْتَكَى رجل مِنْهُم حَتَّى أضني، فَعَاد جلده عَلَى عظم، فَدخلت عَلَيْهِ جَارِيَة لبَعْضهِم، فهش لهَا فَوَقع عَلَيْهَا، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ رجال قومه يعودونه أخْبرهُم بذلك، وَقَالَ: استفتوا لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَإِنِّي قد وَقعت عَلَى جَارِيَة دخلت عليّ. فَذكرُوا ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَقَالُوا: مَا رَأينَا بِأحد من الضّر مثل الَّذِي هُوَ بِهِ، وَلَو حملناه إِلَيْك لتفسخت عِظَامه، مَا هُوَ إِلَّا جلد عَلَى عظم، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يَأْخُذُوا لَهُ مائَة شِمْرَاخ فليضربوه بهَا ضَرْبَة وَاحِدَة» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» ، من حَدِيث أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف، عَن أَبِيه بِمثل لفظ أبي دَاوُد. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، من حَدِيث سعيد بن سعد بن عبَادَة، بِلَفْظ الْبَيْهَقِيّ السالف. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، من حَدِيث أبي أُمَامَة، عَن أبي سعيد، كَمَا ذكره الْبَيْهَقِيّ أَولا فَالْحَاصِل: أَن هَذَا الحَدِيث من «مُسْند أبي أُمَامَة» عَن أبي سعيد، وَمن «مسْند سعيد بن سعد بن عُبادة» لَا جرم قَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : اخْتلف فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث. قلت: وَالظَّاهِر أَن هَذَا الِاخْتِلَاف لَا يضرّهُ، وَفِي «أَحْكَام» ابْن الطلاع، عَن «أَحْكَام» القَاضِي إِسْمَاعِيل أَن هَذَا كَانَ خاصًّا.
فَائِدَة: فِي بَيَان أَلْفَاظ وَقعت فِي الحَدِيث. «الأحبن» بِالْحَاء(8/626)
الْمُهْملَة، ثمَّ بَاء مُوَحدَة: من بِهِ استسقاء و «المُخْدَج» بِضَم الْمِيم وَإِسْكَان الْخَاء وَفتح الدَّال: النَّاقِص الخِلقة قَالَه الْجَوْهَرِي، وَابْن الصّلاح فِي «مشكله» - وَفِي غَرِيب الحَدِيث أَن المُخدج السقيم. و «العِثكال» بِكَسْر (الْعين) الْمُهْملَة، ثمَّ مُثَلّثَة هُوَ الَّذِي يكون فِيهِ الرطب، وَهُوَ بِمَنْزِلَة العنقود فِي الْكَرم، وَيُقَال لَهُ: إثكال، بِأَلف بدل الْعين.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أقِيمُوا الْحُدُود عَلَى مَا ملكت أَيْمَانكُم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، من رِوَايَة عليّ - كرم الله وَجهه - قَالَ: «فجرت جَارِيَة لآل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا عليّ، انْطلق فأقم عَلَيْهَا الْحَد. قَالَ: فَانْطَلَقت فَإِذا بهَا دم يسيل لم يَنْقَطِع. فَأَتَيْته، فَقَالَ: يَا عليّ، أفرغت؟ قلت: أتيتها ودمها يسيل. فَقَالَ: دعها حَتَّى يَنْقَطِع دَمهَا، وأقم عَلَيْهَا الْحَد، أقِيمُوا الْحُدُود عَلَى مَا ملكت أَيْمَانكُم» . قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ [شُعْبَة] ، عَن عبد الْأَعْلَى (وَقَالَ) : «لَا تضربها حَتَّى تضع» وَالْأول أصح. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ، وَفِي إسنادهما عبد الْأَعْلَى بن عَامر الثَّعْلَبِيّ، قَالَ فِيهِ أَحْمد وَأَبُو زرْعَة: (ضَعِيف) الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى: تعرف وتنكر. وَقَالَ مرّة: ثِقَة. وَقَالَ(8/627)
النَّسَائِيّ فِي «سنَنه الْكُبْرَى» : لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي. وَقَالَ ابْن عدي: حدث بأَشْيَاء لَا يُتَابع عَلَيْهَا.
قلت: لَكِن تَابع عبد الْأَعْلَى السديُّ فَرَوَاهُ، عَن عبد خير، عَن عَليّ مَرْفُوعا: «إِذا زنت إماؤكم فأقيموا عَلَيْهِنَّ الْحُدُود أحصن أَو لم يحصن» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك، وَفِي «صَحِيح مُسلم» عَن عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه خطب فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، أقِيمُوا الْحُدُود عَلَى أرقائكم من أحصن مِنْهُم وَمن لم يحصن، فَإِن أمة لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زنت فَأمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أجلدها، فأتيتها فَإِذا هِيَ حَدِيثَة عهد بنفاس، فَخَشِيت إِن أَنا جلدتها أَن أقتلها، فَذكرت ذَلِك للنَّبِي «فَقَالَ) أَحْسَنت، حَتَّى تماثل» . وَأغْرب الْحَاكِم فاستدرك هَذَا الحَدِيث عَلَى مُسلم وَهُوَ فِيهِ. وَفِي «مُسْند أَحْمد» من رِوَايَة ابْنه عبد الله، عَن عَلّي قَالَ: «أَرْسلنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى أمة لَهُ سَوْدَاء زنت ... » الحَدِيث، وَفِي آخِره: «فاجلدها خمسين» .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا زنت أمة أحدكُم فَتبين زنَاهَا فليجلدها وَلَا تَثْرِيب عَلَيْهَا، ثمَّ إِن زنت فليجلدها الْحَد وَلَا تَثْرِيب عَلَيْهَا، فَإِن زنت الثَّالِثَة فَتبين زنَاهَا فليبعها وَلَو بِحَبل من شعر» .(8/628)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «فليحدها وَلَا يعيِّرها ثَلَاث (مرار) فَإِن عَادَتْ فِي الرَّابِعَة فليجلدها وليبعها بضفير أَو بِحَبل من شعر» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «قَالَ فِي كل مرّة فليضربها، كتاب الله، وَلَا تَثْرِيب عَلَيْهَا. وَقَالَ فِي الرَّابِعَة: فَإِن عَادَتْ فليضربها، كتاب الله، ثمَّ ليبعها وَلَو بِحَبل من شعر» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ وَمُسلم، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْأمة إِذا زنت، وَلم تحصن. قَالَ: إِن زنت فاجلدوها، وَإِن زنت فاجلدوها، ثمَّ إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ [بيعوها] وَلَو بضفير (قَالَ [ابْن شهَاب] : لَا أَدْرِي أبعد الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة. قَالَ [ابْن شهَاب] : والضفير) الْحَبل» .
فَائِدَة: «التثريب» : بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: (لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم) ، أَي: لَا توبيخ، وَلَا لوم. قَالَ الْخطابِيّ: وَمَعْنى لَا يثرب: لَا يقْتَصر عَلَى التثريب. وَحَكَى الرَّافِعِيّ قَوْلَيْنِ فِيهِ، أَحدهمَا:(8/629)
أَنه لَا يوبخها وَلَا يعيرها وَهَذَا مَا رَجحه غَيره. ثَانِيهمَا: لَا يُبَالغ فِي جلدهَا حَتَّى يدميها. وَهَذَا مَأْخُوذ من الثريب - بالثاء الْمُثَلَّثَة - وَهُوَ يتحتم يَعْنِي (الْإِيذَاء) أَي لَا تبالغ فِي الضَّرْب (بِحَيْثُ) يَنْتَهِي (إِلَى التثريب) قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلم يتَعَرَّض (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ فِي حَقّهَا للتغريب بل قَالَ: فليجلدها الْحَد» وَلم يتَعَرَّض) لغيره، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بالغامدية فرجمت، وصلَّى عَلَيْهَا، ودفنت» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» ، من حَدِيث بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَهَذَا لَفظه: «ثمَّ أَمر بهَا فَصَلى عَلَيْهَا، ودفنت» .
فَائِدَة: قَوْله: «فَصَلى عَلَيْهَا» (قَالَ القَاضِي عِيَاض) : هُوَ بِفَتْح الصَّاد وَاللَّام عِنْد جَمَاهِير رُوَاة مُسلم. قَالَ: وَعند الطَّبَرَانِيّ بِالضَّمِّ، قَالَ: وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة، وَأبي دَاوُد. قَالَ: وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «فَأَمرهمْ أَن يصلوا عَلَيْهَا» قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَصْحَابه أَن يصلوا عَلَى الجهنيَّة.(8/630)
قلت: الَّذِي جَاءَ فِي قصَّتهَا «أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صَلَّى (عَلَيْهَا) أَيْضا صَرِيحًا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل، وَهَذَا لفظ مُسلم من حَدِيث عمرَان بن الْحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «ثمَّ أَمر بهَا فرجمت ثمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، قَالَ عمر: أَتُصَلِّي عَلَيْهَا وَقد زنت؟ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لقد تابت تَوْبَة لَو قسمت بَين سبعين من أهل الْمَدِينَة لوسعتهم» . وَلَو ذكر الرَّافِعِيّ هَذَا عَلَى الْعَكْس لَكَانَ (الْعَكْس) أصوب لما تقدم من الِاخْتِلَاف فِي الأول. هَذَا آخر مَا ذكره الرَّافِعِيّ من الْأَحَادِيث فِي الْبَاب، وَذكر الرَّافِعِيّ بعد الحَدِيث الثَّالِث عشر أَن الْخَبَر ورد بِنَفْي المخنثين، قَالَ: وَهُوَ تَعْزِير. وَهُوَ كَمَا قَالَ ( ... بِكَسْر النُّون عَلَى الْأَفْصَح وَيجوز فتحهَا) وَهَذَا الْخَبَر أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ، من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لعن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - المتشبهين من الرِّجَال بِالنسَاء، والمتشبهات (من النِّسَاء بِالرِّجَالِ) » . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «لعن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - المخنثين من الرِّجَال، (والمترجلات) من النِّسَاء، وَقَالَ: (أخرجوهن) من بُيُوتكُمْ. (قَالَ) : فَأخْرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فلَانا، وَأخرج (عمر) (فُلَانَة) » . وَفِي(8/631)
رِوَايَة (لَهُ) : « (أخرجوهنَّ) من بُيُوتكُمْ. وَأخرج فلَانا، وَأخرج (فلَانا) » وَأخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أم سَلمَة: «لَا يدخلن هَؤُلَاءِ عَلَيْكُم» وَمن حَدِيث عَائِشَة: «لَا يدخلن عليكن. قَالَت: فحجبوه» . وَفِي البُخَارِيّ أَن اسْمه «هيت» وَأخرجه أَبُو دَاوُد، من حَدِيث أبي يسَار الْقرشِي، عَن أبي هَاشم، عَن أبي هُرَيْرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتي بمخنثٍ قد خضب يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا بَال هَذَا؟ فَقيل: يَا رَسُول الله، يتشبه بِالنسَاء. فَأمر بِهِ فنفي إِلَى النقيع. قَالُوا: يَا رَسُول الله، أَلا نَقْتُلهُ. قَالَ: إِنِّي نهيت عَن قتل الْمُصَلِّين» . قَالَ أَبُو أُسَامَة: و «النقيع» بالنُّون: نَاحيَة عَن الْمَدِينَة، وَلَيْسَ بِالبَقِيعِ.
قلت: وَأَبُو يسَار هَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم: مَجْهُول. وَاعْتَرضهُ صَاحب «الْمِيزَان» فَقَالَ: رَوَى عَنهُ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث، وَهَذَا شيخ لَيْسَ بضعيف، وَقد أخرجه أَبُو دَاوُد من طَرِيق مفضَّل بن يُونُس، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَنهُ، والمفضَّل هَذَا كُوفِي مَاتَ شابًّا، تفرد بِهَذَا، وَقد وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم. قلت: لَكِن أَبُو هَاشم الرَّاوِي عَن أبي هُرَيْرَة نكرَة لَا يعرف كَمَا نصَّ عَلَيْهِ هُوَ. وَقيل: إِنَّه ابْن عمّ أبي هُرَيْرَة وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» ، (من(8/632)
حَدِيث) ابْن إِسْحَاق، عَن يزِيد، عَن مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن بن عَيَّاش بن أبي ربيعَة قَالَ: «كَانَ المخنثون عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاثَة: ماتع، وَهدم، وهيت، وَكَانَ ماتع لفاختة بنت عَمْرو بن عَائِذ خَالَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَمَنعه عَلَيْهِ السَّلَام من الدُّخُول عَلَى نِسَائِهِ وَلَا الْمَدِينَة، ثمَّ اسْتثْنى لَهُ يَوْمًا فِي الْجُمُعَة يسْأَل ثمَّ يذهب، فَلم يزل كَذَلِك عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - و (أبي) بكر، وَعَلَى عهد عمر، وَنفي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَاحبه هدم، وَالْآخر هيت» . وفيهَا أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: أخرجُوا المخنثين من بُيُوتكُمْ فَأخْرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مخنثًا، وَأخرج عمر مخنثًا» . قَالَ: وأبنا معمر، عَن أَيُّوب، عَن عِكْرِمَة قَالَ: «أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِرَجُل من المخنثين فَأخْرج من الْمَدِينَة، وَأمر أَبُو بكر بِرَجُل مِنْهُم فَأخْرج أَيْضا» .
فَائِدَة: الْأَشْهر كَمَا قَالَ القَاضِي أَن اسْم المخنث السالف هيت بِالتَّاءِ فِي آخِره وَقبلهَا مثناة تَحت، وَقيل: صَوَابه بنُون ثمَّ بَاء مُوَحدَة. قَالَه ابْن درسْتوَيْه، وَقَالَ: إِن مَا سواهُ تَصْحِيف. قَالَ: والهنب: الأحمق. وَقيل: ماتع بِالْمُثَنَّاةِ فَوق، وَجَاء فِي حَدِيث أَنه غربه مَعَ هيت إِلَى الْحمى، ذكره الْوَاقِدِيّ، وَذكره أَبُو مَنْصُور الرَّمَادِي بِنَحْوِ هَذِه الْحِكَايَة عَن مخنث كَانَ بِالْمَدِينَةِ يُقَال لَهُ: أنّه، وَذكر أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَفَاهُ إِلَى حَمْرَاء(8/633)
الْأسد، وَحَكَى الْمُنْذِرِيّ عَن بَعضهم أَن هيتًا وماتعًا وأنّه أَسمَاء لثَلَاثَة من المخنثين كَانُوا عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلم يَكُونُوا يرْمونَ بالفاحشة الْكُبْرَى، وَإِنَّمَا (كَانَ) بهم لين فِي القَوْل، وخضاب فِي الْأَيْدِي والأرجل. قلت: وَفِي الطَّبَرَانِيّ أَيْضا أَنه نَفَى الخنِّثية، رَوَاهُ من حَدِيث عَنْبَسَة بن سعيد - وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، ضعفه ابْن معِين، وَأَبُو حَاتِم، وَوَثَّقَهُ أَبُو دَاوُد - عَن حَمَّاد مولَى بني أُميَّة - وَقد تَركه الْأَزْدِيّ - عَن جنَاح مولَى الْوَلِيد، عَن وَاثِلَة قَالَ: «لعن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - المخنثين من الرِّجَال، والمترجلات من النِّسَاء، وَقَالَ: أخروجهم من بُيُوتكُمْ. فَأخْرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الخنثية، وَأخرج (عمر) فلَانا» .
وَذكر فِيهِ من الْآثَار عشرَة آثَار:
أَحدهَا: سُئِلَ عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن الْأمة هَل تحصن الْحر؟ قَالَ: نعم، قيل: عَمَّن؟ قَالَ: أدركنا أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُولُونَ ذَلِك» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيقين: أَحدهمَا: من طَرِيق عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة قَالَ: «سَأَلَ عبد الْملك بن مَرْوَان عبد الله بن عتبَة عَن الْأمة هَل تحصن الْحر؟ قَالَ: نعم. قَالَ: (عمَّن) تروي هَذَا؟ قَالَ: أدركنا أَصْحَاب(8/634)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُولُونَ ذَلِك» .
الثَّانِي: من طَرِيق ابْن وهب، عَن يُونُس، عَن ابْن شهَاب «أَنه سمع عبد الْملك يسْأَل عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة ... » فَذكره (مثل) الأول سَوَاء. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: بَلغنِي عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى أَنه قَالَ: وجدت الْأَوْزَاعِيّ قد تَابع يُونُس فهما إِذا أولَى.
الْأَثر الثَّانِي: «أَن أمة لِابْنِ عمر زنت فجلدها وغربها إِلَى فدك» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فَقَالَ: رَوَى ابْن الْمُنْذر صَاحب «الخلافيات» عَن (عبد الله) بن عمر «أَنه حد مَمْلُوكَة لَهُ فِي الزِّنَا ونفاها إِلَى فدك» .
فَائِدَة: فَدَك بِفَتْح الْفَاء وَالدَّال الْمُهْملَة، قَرْيَة بِنَاحِيَة الْحجاز قَالَه المطرزي فِي «الْمغرب» قَالَ الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» : وَبَينهَا وَبَين الْمَدِينَة يَوْمَانِ. وَأطَال فِي تَعْرِيفهَا بِمَا هُوَ لَائِق بمحله، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : هِيَ مَدِينَة بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة مرحلتان، وَقيل: ثَلَاث.
الْأَثر الثَّالِث: «أَن عمر رضى الله عَنهُ غرب إِلَى الشَّام» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِنَحْوِهِ، وَهَذَا لَفظه: «وَكَانَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه(8/635)
يَنْفِي من الْمَدِينَة إِلَى الْبَصْرَة» وأصل تغريبه ثَابت فِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» ، و «سنَن النَّسَائِيّ» و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» من رِوَايَة ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ضرب وَغرب، وَأَن أَبَا بكر ضرب وَغرب، وَأَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ضرب وَغرب» هَذَا لفظ إِحْدَى روايتي التِّرْمِذِيّ، وَلم يذكر الْحَاكِم أَبَا بكر، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ ابْن الْقطَّان: إِسْنَاده مَا فِيهِ من يسْأَل عَنهُ لثقتهم وشهرتهم، وَعِنْدِي أَنه صَحِيح. قَالَ ذَلِك بعد قَول الدَّارَقُطْنِيّ: الصَّوَاب عَن ابْن عمر فِي هَذَا الحَدِيث أَن أَبَا بكر وَلَيْسَ فِيهِ ذكر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الْأَثر الرَّابِع: «أَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه غرب إِلَى مصر» .
وَهَذَا غَرِيب لَا يحضرني من خرجه عَنهُ.
الْأَثر الْخَامِس: أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «يرْجم اللوطي» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن فعل عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من طرق «أَنه رجم لوطيًّا» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه كَانَ مُحصنا» . قَالَ ابْن الطلاع: وَيروَى «أَنه هدم عَلَيْهِمَا حَائِطا» .
الْأَثر السَّادِس: «أَن رجلا قَالَ: إِنِّي زَنَيْت البارحة فَسئلَ، فَقَالَ: مَا علمنَا أَن الله حرمه. فَكتب بذلك إِلَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَكتب عمر: إِن كَانَ علم أَن الله حرمه فحدوه، فَإِن لم يعلم فأعلموه، فَإِن عَاد فارجموه» .(8/636)
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ عبد الْوَهَّاب بن عبد الرَّحِيم [الجوبري] فِي «فَوَائده» عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: سمع عَمْرو - يَعْنِي ابْن دِينَار - سعيد بن الْمسيب يَقُول: «ذكر الزِّنَا بِالشَّام فَقَالَ رجل: قد زَنَيْت البارحة. فَقَالُوا: مَا تَقول؟ فَقَالَ: أَو حرمه الله! مَا علمت أنَّ اللَّه حرَّمَه. فَكتب إِلَى عمر (فَكتب) : إِن كَانَ علم أَن الله حرمه فحدوه، وَإِن لم يكن علم فعلِّموه، فَإِن عَاد فحدوه» وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَيْهِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِنَحْوِهِ من رِوَايَة بكر بن عبد الله عَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه كتب إِلَيْهِ فِي رجل قيل لَهُ: مَتى عَهْدك بِالنسَاء؟ فَقَالَ: البارحة. قيل: بِمن؟ قَالَ: أم مثواي. فَقيل لَهُ: قد هَلَكت. قَالَ: مَا علمت (أَن الله) حرم الزِّنَا. (فَكتب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن يسُتحلف مَا علم أَن الله حرم الزِّنَا) ثمَّ يُخلى سَبيله» . (و) قَوْله: أم مثواي يَعْنِي ربة الْمنزل.
الْأَثر السَّابِع: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قطع عبدا لَهُ سرق» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور، ثَنَا هشيم، أبنا ابْن (أبي لَيْلَى) عَن نَافِع «أَن غُلَاما لِابْنِ عمر أبق فَسرق(8/637)
فِي إباقه فَأتي بِهِ ابْن عمر، فَقَالَ لَهُ ابْن عمر: (لن ينجيك) إباقك من حد من حُدُود الله. قَالَ: فَقَطعه» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن الشَّافِعِي، عَن مَالك، عَن نَافِع «أَن عبدا لِابْنِ عمر سرق وَهُوَ آبق، فَأرْسل بِهِ عبد الله إِلَى سعيد بن الْعَاصِ - وَهُوَ أَمِير الْمَدِينَة - لتقطع يَده، فَأَبَى سعيد أَن تقطع يَده، وَقَالَ: لَا تقطع يَد (الْآبِق) إِذا سرق. فَقَالَ لَهُ ابْن عمر: فِي أَي كتاب الله وجدت هَذَا؟ ! فَأمر بِهِ ابْن عمر فَقطعت يَده» . وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي «مُصَنفه» عَن معمر، عَن أَيُّوب (السّخْتِيَانِيّ) عَن نَافِع «أَن عمر قطع يَد غُلَام لَهُ سرق، وَجلد عبدا لَهُ زنا من غير أَن يرفعهما» . قَالَ: وثنا (عبيد الله) بن عمر بن (حَفْص) بن عَاصِم، عَن نَافِع قَالَ: «أبق غُلَام لِابْنِ عمر، فَمر عَلَى غلمة لعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، فَسرق مِنْهُم جرابًا فِيهِ تمر وَركب حمارا لَهُم فَأتي بِهِ ابْن عمر، فَبعث بِهِ إِلَى ابْن الْعَاصِ - وَهُوَ أَمِير عَلَى الْمَدِينَة - فَقَالَ سعيد: لَا تقطع (يَد) آبق. فَأرْسلت إِلَيْهِ عَائِشَة: إِن غلمتي غلمتك، وَإِنَّمَا جَاع وَركب الْحمار ليتبلغ عَلَيْهِ فَلَا تقطعه. فَقَطعه ابْن عمر» .
الْأَثر الثَّامِن: «أَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قطعت أمة لَهَا سرقت» .(8/638)
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ لكنهما قَالَا: «غُلَاما لبني عبد الله بن أبي بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» بدل «أمة» وَهَذَا لَفْظهمَا: عَن عبد الله بن أبي بكر، عَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن أَنَّهَا قَالَت: «خرجت عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها إِلَى مَكَّة وَمَعَهَا مولاتان، وَمَعَهَا غُلَام لبني عبد الله بن أبي بكر الصّديق [فَبعثت] مَعَ المولاتين ببردٍ مراجل قد خيط عَلَيْهِ (خرقَة خضراء) قَالَت: فَأخذ الْغُلَام الْبرد (ففتق) عَنهُ واستخرجه وَجعل مَكَانَهُ لبدًا أَو فَرْوَة وخاط عَلَيْهِ، فَلَمَّا قدمنَا الْمَدِينَة رفعنَا ذَلِك إِلَى أَهله (فَلَمَّا) فتقوا عَنهُ وجدوا فِيهِ اللبد وَلم يَجدوا الْبرد، فَكَلَّمُوا المولاتين فكلمتا عَائِشَة - أَو كتب إِلَيْهَا - واتهما العَبْد، فَسئلَ العَبْد عَن ذَلِك فاعترف، فَأمرت بِهِ عَائِشَة فَقطعت يَده، وَقَالَت عَائِشَة: الْقطع فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا» .
الْأَثر التَّاسِع: «أَن حَفْصَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قتلت أمة لَهَا سحرتها» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن سعد بن زُرَارَة أَنه بلغه «أَن حَفْصَة زوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قتلت جَارِيَة لَهَا سحرتها - وَكَانَت قد دبرتها - (فَأمرت) بهَا فقتلت» . وَرَوَاهُ عبد(8/639)
الرَّزَّاق عَن عبد الله [أَو] عبيد الله بن عمر [عَن] (نَافِع) عَن ابْن عمر قَالَ: «إِن جَارِيَة لحفصة سحرتها فَاعْترفت بذلك فَأمرت بهَا عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب فَقَتلهَا، فَأنْكر ذَلِك (عَلَيْهَا) عُثْمَان بن عَفَّان، فَقَالَ لَهُ ابْن عمر: مَا تنكر عَلَى أم الْمُؤمنِينَ؟ امْرَأَة سحرت وَاعْتَرَفت» .
الْأَثر الْعَاشِر: «أَن فَاطِمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها جلدت أمة لَهَا زنت» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن عَلّي «أَن فَاطِمَة بنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حدت جَارِيَة لَهَا زنت» وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، عَن عَمْرو بِهِ. وَرَوَاهُ ابْن وهب، عَن ابْن جريج، أَن عَمْرو بن دِينَار أخبرهُ «أَن فَاطِمَة بنت رَسُول الله كَانَت تجلد وليدتها خمسين إِذا زنت» .(8/640)
كتاب حد الْقَذْف(8/641)
كتاب حد الْقَذْف
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثا وأثرين:
أما الحَدِيث: فَهُوَ مَا أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: «اجتنبوا السَّبع الموبقات. قيل: وَمَا هن يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الشّرك بِاللَّه، وَالسحر، وَقتل النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأكل مَال الْيَتِيم، وَالزِّنَا، والتولي يَوْم الزَّحْف، وَقذف الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «من أَقَامَ (الصَّلَوَات) الْخمس، واجتنب السَّبع الْكَبَائِر نُودي يَوْم الْقِيَامَة، ليدْخل من أَي أَبْوَاب الْجنَّة شَاءَ» وَذكر من السَّبع قذف الْمُحْصنَات.
قلت: هَذِه الرِّوَايَة قد أخرجهَا بِنَحْوِ ذَلِك الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن أَحْمد بن دَاوُد الْمَكِّيّ، ثَنَا الْعَبَّاس بن الْفضل الْأَزْرَق، ثَنَا حَرْب بن شَدَّاد، عَن يَحْيَى بن (أبي) كثير، عَن عبد الحميد بن سِنَان أَنه حَدثهُ (عبيد) بن عُمَيْر اللَّيْثِيّ، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حجَّة الْوَدَاع: «إِن أَوْلِيَاء الله المصلون، وَمن يقم الصَّلَوَات الْخمس الَّتِي كتبهن الله عَلَى عباده، ويصوم رَمَضَان، ويحتسب صَوْمه،(8/643)
ويؤتي الزَّكَاة طيبَة بهَا نَفسه محتسبًا، ويجتنب الْكَبَائِر الَّتِي نهَى الله عَنْهَا، فَقَالَ رجل من أَصْحَابه: وَكم الْكَبَائِر يَا رَسُول الله؟ (قَالَ) : هِيَ (سَبْعَة) ، أعظمهن الْإِشْرَاك بِاللَّه، وَقتل الْمُؤمن بِغَيْر حق، والفرار (من) الزَّحْف، وَقذف (الْمُحْصنَات) ، وَالسحر، وَأكل مَال الْيَتِيم، وَأكل الرِّبَا، وعقوق الْوَالِدين الْمُسلمين، وَاسْتِحْلَال الْبَيْت الْحَرَام قبلتكم أَحيَاء وأمواتًا، لَا يَمُوت رجل لم يعْمل هَؤُلَاءِ الْكَبَائِر، وَيُقِيم الصَّلَاة، ويؤتي الزَّكَاة إِلَّا رافق مُحَمَّدًا (فِي بحبوحة جنَّة أَبْوَابهَا مصاريع الذَّهَب» .
وَالْعَبَّاس بن الْفضل الْمُتَقَدّم قَالَ البُخَارِيّ: ذهب حَدِيثه، وَفِي «سنَن النَّسَائِيّ» نَحوه أَيْضا إِلَّا أَنه لم يذكر فِيهِ «قذف الْمُحْصنَات» وَلَا «أَن الْكَبَائِر سبعا» هَذَا لَفظه عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ قَالَ: «من جَاءَ يعبد الله (لَا) يُشْرك بِهِ شَيْئا، وَيُقِيم الصَّلَاة، ويؤتي الزَّكَاة، ويجتنب الْكَبَائِر كَانَ لَهُ الْجنَّة. فَسَأَلُوهُ عَن الْكَبَائِر، فَقَالَ: الْإِشْرَاك بِاللَّه، وَقتل النَّفس الْمسلمَة، والفرار يَوْم الزَّحْف» .
وَأما الْأَثر الأول فَهُوَ: عَن عبد الله بن عَامر بن ربيعَة قَالَ: «أدْركْت أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان، وَمن بعدهمْ من الْخُلَفَاء، فَلم أرهم يضْربُونَ الْمَمْلُوك إِذا قذف إِلَّا أَرْبَعِينَ سَوْطًا» .(8/644)
وَهُوَ أثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور لكنه لم يذكر أَبَا بكر، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق آخر كَمَا ذكره المُصَنّف، وَرُوِيَ عَن عَلّي مثل ذَلِك بِإِسْنَادِهِ.
وَأما الْأَثر الثَّانِي فَهُوَ: أَنه رُوِيَ «أَنه شهد عِنْد عمر عَلَى الْمُغيرَة بن شُعْبَة بِالزِّنَا، أَبُو بكرَة وَنَافِع ونفيع وَلم يُصَرح بِهِ زِيَاد - وَكَانَ رابعهم - فجلد عمر الثَّلَاثَة، وَكَانَ بِمحضر من الصَّحَابَة وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد» .
هَذَا الْأَثر إِيرَاده هَكَذَا غَرِيب؛ فَإِن نفيعًا هُوَ اسْم أبي بكرَة، وَصَوَابه مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق (قسَامَة) بن زُهَيْر قَالَ: «لما كَانَ من شَأْن أبي بكرَة والمغيرة مَا كَانَ ... » وَذكر الحَدِيث قَالَ: «فَدَعَا الشُّهُود فَشهد أَبُو بكرَة وشبل بن معبد وَأَبُو عبد الله نَافِع، فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حِين شهد هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، شقّ عَلَى عمر شَأْنه، فَلَمَّا (قَامَ) زِيَاد قَالَ: إِن تشهد إِن شَاءَ الله إِلَّا بِحَق. قَالَ زِيَاد: أما الزِّنَا فَلَا أشهد بِهِ، وَلَكِن رَأَيْت أمرا قبيحًا. فَقَالَ عمر: الله أكبر، حدوهم (فجلدهم) قَالَ: فَقَالَ أَبُو بكرَة بَعْدَمَا ضربه: أشهد أَنه زَان. فهم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن يُعِيد عَلَيْهِ الْحَد، فَنَهَاهُ عَلّي(8/645)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقَالَ: إِن جلدت فارجم صَاحبك. فَتَركه وَمَا جلده» . وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن سعيد (عَن) قَتَادَة «أَن أَبَا بكرَة وَنَافِع بن الْحَارِث بن كلدة وشبل بن معبد شهدُوا عَلَى الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَنهم رَأَوْهُ يولجه ويخرجه، وَكَانَ زِيَاد رابعهم وَهُوَ الَّذِي أفسد (عَلَيْهِم) وَأما الثَّلَاثَة فَشَهِدُوا بذلك، فَقَالَ أَبُو (بكرَة) وَالله لكَأَنِّي ثَائِر فِي فَخذهَا. فَقَالَ عمر حِين رَأَى زيادًا: إِنِّي لأرَى غُلَاما كيسًا لَا يَقُول إِلَّا (جدًّا) وَلم يكن ليكتمني شَيْئا. فَقَالَ زِيَاد: لم أر مَا قَالَ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنِّي رَأَيْت رِيبَة وَسمعت نفسا عَالِيا. قَالَ: فجلدهم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وخلى عَن زِيَاد» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رَوَيْنَاهُ من وَجه آخر مَوْصُولا. قَالَ: وَفِي رِوَايَة (ابْن) زيد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة «أَن أَبَا بكرَة وزيادًا ونافعًا وشبل بن معبد كَانُوا فِي غرفَة والمغيرة فِي أَسْفَل الدَّار (فَهبت) ريح ففتحت الْبَاب وَرفعت السّتْر، فَإِذا الْمُغيرَة بَين رِجْلَيْهَا، فَقَالَ بَعضهم: قد ابتلينا ... » فَذكر الْقِصَّة، قَالَ: «فَشهد أَبُو بكرَة وَنَافِع وشبل، وَقَالَ (زِيَاد) : لَا أَدْرِي نَكَحَهَا أم لَا. فجلدهم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إِلَّا زيدا، فَقَالَ أَبُو بكرَة: أَلَيْسَ (قد)(8/646)
(جلدتموني) قَالَ: (بلَى. قَالَ) : فَأَنا أشهد بِاللَّه لقد فعل. فَأَرَادَ عمر أَن يجلده أَيْضا. فَقَالَ عَلّي: إِن كَانَت شَهَادَة أبي بكرَة بِشَهَادَة رجلَيْنِ فارجم صَاحبك، وَإِلَّا فقد جلدتموه - يَعْنِي لَا يجلد ثَانِيًا بِإِعَادَة الْقَذْف» . وَفِي رِوَايَة لِلْحَافِظِ أبي مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ قَالَ: «شهد أَبُو بكرَة وَنَافِع - يَعْنِي ابْن عَلْقَمَة - وشبل بن معبد عَلَى الْمُغيرَة أَنهم نظرُوا كَمَا ينظرُونَ المرود فِي المكحلة، فجَاء زِيَاد، فَقَالَ عمر: رجل لَا يشْهد إِلَّا بِالْحَقِّ. فَقَالَ: رَأَيْت مَجْلِسا قبيحًا وابتهارًا فجلدهم عمر الْحَد» . قَالَ الْحَافِظ أَبُو نعيم: [هم] الْأَرْبَعَة الَّذين شهدُوا عَلَى الْمُغيرَة إخْوَة لأم اسْمهَا [سميَّة] وَرَأَيْت ذَلِك فِي «مَعْرفَته» فِي تَرْجَمَة شبْل بن معبد أَنهم أَرْبَعَة إخْوَة لأم، وَذكر الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» قصَّة الْمُغيرَة مستوفاة من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن أبي بكرَة وَذكر فِيهِ أَن الشُّهُود شبْل بن معبد ونافعًا وَأَبا بكرَة وزيادًا، كَمَا سلف فِي رِوَايَات الْبَيْهَقِيّ، وَزَاد: «أَن الْمَرْأَة يُقَال لَهَا: أم جميل» . وَفِي البُخَارِيّ طَرِيق من هَذِه الْقِصَّة فِي الشَّهَادَات فَقَالَ:(8/647)
«وَجلد عمر أَبَا بكرَة وشبل بن معبد ونافعًا» . كَمَا سلف فِي رِوَايَات الْبَيْهَقِيّ، وَزَاد: «أَن الْمَرْأَة يُقَال لَهَا: أم جميل. فقذف الْمُغيرَة ثمَّ استتابهم، وَقَالَ: من تَابَ قبلت شَهَادَته» .
تَنْبِيه: الصَّحَابَة كلهم عدُول أَي مجردها كَافِيَة عَن عدالتهم إِنَّهَا من تحقق قيام الْمَانِع، والمغيرة كَانَ يرَى نِكَاح السِّرّ وَفعله فِي هَذِه الْقِصَّة بعد شَهَادَتهم قيل: وَمَا تفعل؟ قَالَ: أقيم الْبَيِّنَة أَنَّهَا زَوْجَتي.(8/648)
كتاب حد السّرقَة(8/649)
كتاب حد السّرقَة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا أما الْأَحَادِيث فسبعة عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تقطع الْيَد فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا» . وَيروَى: «لاتقطع إِلَّا فِي ربع دِينَار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» فَفِي لفظ: «لَا تقطع يَد السَّارِق إِلَّا فِي ربع دِينَار» وَفِي لفظ آخر « (كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) لم تقطع يَد السَّارِق عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي أدنَى من ثمن المجنّ - تُرس أَو حجفة - وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا ذُو ثمن» وَفِي لفظ لمُسلم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «لَا تقطع الْيَد إِلَّا فِي ربع دِينَار فَمَا فَوْقه» وَفِي لفظ النَّسَائِيّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «لَا تقطع الْيَد إِلَّا فِي ثمن الْمِجَن، ثلث دِينَار أَو نصف دِينَار فَصَاعِدا» وَأما حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه رَفعه: «لَا تقطع الْيَد إِلَّا فِي عشرَة دَرَاهِم» فضعيف جدًّا، وَمِمَّنْ بَين وهنه: ابْن الْجَوْزِيّ فِي «إِعْلَامه» .(8/651)
الحَدِيث الثَّانِي
«أَن صَفْوَان بن أُميَّة نَام فِي الْمَسْجِد فتوسد رِدَاءَهُ فجَاء سَارِق فَأَخذه من تَحت رَأسه، فَأخذ صَفْوَان السَّارِق وَجَاء بِهِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمر بِقطع يَده، فَقَالَ صَفْوَان: إِنِّي لم أرد هَذَا يَا رَسُول الله، وَهُوَ عَلَيْهِ صَدَقَة. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هلا كَانَ قبل أَن تَأتِينِي بِهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» بِأَلْفَاظ مُتَغَايِرَة، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور هُوَ رِوَايَة الشَّافِعِي سَوَاء وَنَحْوه رِوَايَة مَالك وَابْن مَاجَه، وَفِي رِوَايَة «أَن الرِّدَاء يُسَاوِي ثَلَاثِينَ [درهما] » رَوَاهُ كَذَلِك أَبُو داو وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم، وَفِي روايتهم فَقَالَ: «أتقطعه من أجل ثَلَاثِينَ [درهما] إِنَّمَا أبيعه وأنسئه ثمنهَا. قَالَ: فَهَلا كَانَ هَذَا قبل أَن تَأتِينِي بِهِ» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ عبد الْحق: لَا نعلم يتَّصل من وَجه يحْتَج بِهِ. قَالَ ابْن الْقطَّان: سَببه أَن فِي بعض أسانيده حميد ابْن أُخْت(8/652)
صَفْوَان وَلَا يعرف فِي غير هَذَا، وَفِي بعض طرقه عَن عبد الْملك بن أبي بشير، عَن عِكْرِمَة، عَن صَفْوَان، وَلَا نَعْرِف أَن عِكْرِمَة سَمعه من صَفْوَان، وَإِنَّمَا يرويهِ عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي بَعْضهَا عَن طَاوس، عَن صَفْوَان، وَقد قَالَ الْبَزَّار: إِن طاوسًا رَوَاهُ مُرْسلا. لَكِن قَالَ ابْن عبد الْبر: إِن سَماع طَاوس من صَفْوَان مُمكن؛ لِأَنَّهُ أدْرك زمَان عُثْمَان وَقَالَ طَاوس: أدْركْت سبعين شَيخا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق مَالك ثمَّ من طَرِيق الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن عَمْرو، عَن طَاوس، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمثل حَدِيث مَالك، قَالَ: هَذَا الْمُرْسل يُقَوي الأول. قَالَ: وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن سُفْيَان بِإِسْنَاد مَوْصُول فِيهِ عَن ابْن عَبَّاس، وَلَيْسَ بِصَحِيح.
قلت: فِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر بِقطع هَذَا السَّارِق من الْمفصل» لَكِن إِسْنَاده ضَعِيف فِيهِ الْعَرْزَمِي الْمَتْرُوك، وَغَيره.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن التَّمْر الْمُعَلق فَقَالَ: من سرق مِنْهُ شَيْئا بعد أَن يئويه الجرين فَبلغ ثمن الْمِجَن فَعَلَيهِ الْقطع» .
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث عبد(8/653)
الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن التَّمْر الْمُعَلق فَقَالَ: مَا أصَاب بِفِيهِ من ذِي حَاجَة غير متخذ خبنة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَمن خرج مِنْهُ بِشَيْء فَعَلَيهِ غَرَامَة مثلَيْهِ والعقوبة، وَمن سرق مِنْهُ شَيْئا بعد أَن يئويه الجرين فَبلغ ثمن الْمِجَن فَعَلَيهِ الْقطع، وَمن سرق دون ذَلِك فَعَلَيهِ غَرَامَة [مثلَيْهِ] والعقوبة» وَأخرج التِّرْمِذِيّ الْقطعَة الأولَى ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن. وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ «فِي كم تقطع الْيَد؟ قَالَ: لَا تقطع فِي ثَمَر مُعَلّق، فَإِذا ضمه الجرين قطعت فِي ثمن الْمِجَن، وَلَا تقطع فِي حريسة الْجَبَل، فَإِذا (ضمهَا) المراح قطعت فِي ثمن الْمِجَن» وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَن رجلا من مزينة أَتَى الرَّسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: [يَا] رَسُول الله، كَيفَ ترَى فِي حريسة الْجَبَل؟ قَالَ: هِيَ وَمثلهَا والنكال، وَلَيْسَ فِي شَيْء من الْمَاشِيَة قطع إِلَّا فِيمَا آواه المراح فَبلغ ثمن الْمِجَن فَفِيهِ قطع الْيَد، وَمَا لم يبلغ ثمن الْمِجَن فَفِيهِ غَرَامَة مثلَيْهِ وجلدات النكال. قَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ ترَى فِي الثَّمر الْمُعَلق؟ قَالَ: هُوَ وَمثله مَعَه والنكال، وَلَيْسَ فِي شَيْء من التَّمْر الْمُعَلق قطع إِلَّا فِيمَا آواه الجرين، فَمَا أَخذ من الجرين فَبلغ ثمن الْمِجَن فَفِيهِ الْقطع، وَمَا لم يبلغ ثمن الْمِجَن فَفِيهِ غَرَامَة [مثلَيْهِ] » ، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا بِلَفْظ: «أَن رجلا من مزينة سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(8/654)
عَن الثِّمَار، فَقَالَ: مَا أَخذ فِي أكمامه فَاحْتمل (قِيمَته) وَمثله مَعَه، وَمَا كَانَ فِي الجران فَفِيهِ الْقطع إِذا بلغ ذَلِك ثمن الْمِجَن، وَإِن أكل وَلم يَأْخُذ فَلَيْسَ عَلَيْهِ. قَالَ: الشَّاة الحريسة مِنْهُنَّ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: ثمنهَا وَمثله مَعَه والنَّكال، وَمَا كَانَ فِي المراح فَفِيهِ الْقطع إِذا كَانَ مَا يَأْخُذ من ذَلِك ثمن الْمِجَن» . وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ النَّسَائِيّ السالف الطَّوِيل، ثمَّ قَالَ: هَذِه سنة تفرد بهَا عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد عَن جده عبد الله بن عَمْرو، وَقد رويت عَن إمامنا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي أَنه قَالَ: إِذا كَانَ الرَّاوِي عَن عَمْرو بن شُعَيْب ثِقَة، فَهُوَ كأيوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر.
تَنْبِيهَات: أَحدهَا: قَالَ ابْن عبد الْبر فِي قَول «غَرَامَة مثلَيْهِ» : إِنَّه مَنْسُوخ لَا نعلم أحدا من الْفُقَهَاء قَالَ بِهِ، إِلَّا مَا جَاءَ عَن عمر فِي رَقِيق حَاطِب بن أبي بلتعة [حِين انتحروا نَاقَة رجل من مزينة] وَرِوَايَة عَن الإِمَام أَحْمد، وَيحمل هَذَا عَلَى الْعقُوبَة وَالتَّشْدِيد، وَالَّذِي عَلَيْهِ النَّاس الْعقُوبَة فِي الْغرم بِالْمثلِ؛ لقَوْله تَعَالَى: (فَمن اعْتَدَى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم) ، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: هَذَا الحَدِيث لَا يحْتَج الْعلمَاء بِهِ، ويطعنون فِي إِسْنَاده، وَلَا سِيمَا مَا فِيهِ مِمَّا يَدْفَعهُ الْإِجْمَاع من غرم المثلين.
ثَانِيهَا: قَالَ الرَّافِعِيّ: كَانَ ثمن الْمِجَن عِنْدهم ربع دِينَار ثَلَاثَة(8/655)
دَرَاهِم. وَهُوَ كَمَا قَالَ: فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قطع فِي مجن قِيمَته ربع دِينَار» وَفِي لفظ «ثمنه ثَلَاثَة دَرَاهِم» وَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَن الْقدر كَانَ ربع دِينَار، وَمَا رُوِيَ «أَن ثمنه عشرَة أَو خَمْسَة» فواه.
ثَالِثهَا: الخبنة - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة -: مَا تحمله فِي حضنك. وَقيل: هُوَ أَن تَأْخُذ فِي جيب ثَوْبك وَهُوَ ذيله وأسفله. و «الجرين» مَوضِع التَّمْر الَّذِي يجفف فِيهِ. و «حريسة الْجَبَل» مِنْهُم من جعلهَا السّرقَة نَفسهَا، قَالَ: حرس يحرس حرسًا إِذا سرق، وَمِنْهُم [من] جعلهَا المحروسة يَعْنِي فِيمَا يحرس بِالْجَبَلِ، إِذا سرق قطع؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِموضع حرز، وحريسة الْجَبَل (أَيْضا السَّائِمَة الَّتِي يُدْرِكهَا اللَّيْل قبل أَن تصل إِلَى مأواها، وَبِهَذَا جزم الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب حَيْثُ قَالَ: حريسة الْجَبَل) مَا يسرق من الْجَبَل من الْمَوَاشِي، وَيُقَال: إِن سارقها يُسمى حارسًا. وصحفه بعض شُيُوخنَا فَذكر لفظ الحَدِيث بِلَفْظ «وَلَا فِي خريسة جبل ثمَّ قَالَ: والخريسة - بخاء مُعْجمَة -: المسروقة يَعْنِي المخروسة، ثمَّ ذكر مَادَّة خرس فاحذر ذَلِك. و «المُراح» بِضَم الْمِيم -: الْموضع الَّذِي تأوي إِلَيْهِ الْمَاشِيَة لَيْلًا.
الحَدِيث الرَّابِع(8/656)
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا قطع فِي ثَمَر وَلَا كثر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَأحمد فِي «الْمسند» ، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث رَافع بن خديج رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: إِنَّه مُرْسل، وَحدث بِهِ أَيْضا مَوْصُولا. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رَوَى هَذَا الحَدِيث بَعضهم عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حبَان، عَن رَافع بن خديج مَرْفُوعا، وَلم يذكرُوا فِيهِ وَاسِعًا.
قلت: رَوَاهُ مَالك خَارج «موطئِهِ» فَذكر وَاسِعًا كَمَا أَفَادَهُ الْخَطِيب فِي كتاب «من رَوَى عَن مَالك» . وَقَالَ عبد الْحق: رَوَى هَذَا الحَدِيث النَّسَائِيّ عَن سُفْيَان، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حبَان، عَن عَمه وَاسع، عَن رَافع، يَعْنِي أَنه وَصله بِزِيَادَة وَاسع وَكَذَا هُوَ فِي «صَحِيح أبي حَاتِم بن حبَان» ، قَالَ: وَرَوَاهُ غَيره، وَلم يذكر وَاسِعًا، وَلم يُتَابع سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَلَى هَذِه الرِّوَايَة إِلَّا حَمَّاد بن دَلِيل، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن شُعْبَة، عَن يَحْيَى بن سعيد بِمثل رِوَايَة سُفْيَان، وَأما غير(8/657)
حَمَّاد فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن شُعْبَة، عَن يَحْيَى، وَلم يذكر وَاسِعًا، وَمُحَمّد بن يَحْيَى بن حبَان لم يسمع من رَافع. قَالَ ابْن الْقطَّان: هَذَا من عبد الْحق تَرْجِيح رِوَايَة من أرسل عَلَى رِوَايَة [من] وصل، وَإِن كَانَ ثِقَة، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: هَذَا الحَدِيث تلقت الْعلمَاء مَتنه بِالْقبُولِ، وَاحْتَجُّوا بِهِ.
قلت: وَله شَاهد لَكِن يقوى من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن مَاجَه من حَدِيث سعد بن سعيد المَقْبُري، عَن أَخِيه عبد الله بن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ السالف، وَضعف هَذَا الطَّرِيق الضياء الْمَقْدِسِي لأجل سعد الْمَذْكُور، وَنقل كَلَام ابْن عدي وَابْن حبَان فِيهِ.
فَائِدَة: قَالَ الرَّافِعِيّ: الكثر جمار النّخل وَهُوَ لَحْمه. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَعِنْدَ النَّسَائِيّ: والكثر الْجمار. قَالَ الْجَوْهَرِي: وَيُقَال: الكثر هُوَ الطّلع. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَمَعْنى الثَّمر فِي الحَدِيث مَا كَانَ مُعَلّقا فِي النّخل قبل أَن يجد ويحوز، وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَه الشَّافِعِي، وَقَالَ: حَوَائِط الْمَدِينَة لَيست بحرز، وأكثرها يدْخل من جوانبها، وَمن سرق من حوائطها من ثَمَر مُعَلّق لم يقطع، فَإِذا آواه الجرين قطع. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الخلافيات» : قَالَ الشَّافِعِي: احْتج بِهَذَا الحَدِيث بعض النَّاس(8/658)
فَقَالَ: من هَاهُنَا قُلْنَا: لَا يقطع فِي التَّمْر الرطب. قَالَ الشَّافِعِي: وَالتَّمْر اسْم جَامع للرطب من التَّمْر واليابس من التَّمْر، وَالزَّبِيب. وَغَيره، أفنسقط الْقطع عَمَّن سرق تَمرا فِي بَيت، وَإِنَّمَا أجَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين قَالَ: «لَا قطع فِي تمر وَلَا كثر» عَلَى مثل مَا سُئِلَ عَنهُ، وَكَانَ حيطان الْمَدِينَة لَيْسَ عَلَيْهَا حيطان؛ لِأَنَّهُ يَقُول: «وَإِذا آواه الجرين والمراح فَفِيهِ الْقطع» وَاحْتج بِحَدِيث عُثْمَان فِي الأترجة وَسَيَأْتِي.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا قطع فِي تمر مُعَلّق وَلَا فِي حريسة جبل، فَإِذا آواه المراح أَو الجرين فالقطع فِيمَا بلغ ثمن الْمِجَن» .
هَذَا الحَدِيث هُوَ الحَدِيث الثَّالِث من أَحَادِيث الْبَاب، وَقد سلف وَاضحا، وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي حُسَيْن الْمَكِّيّ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الحَدِيث السَّادِس
عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من نبش قطعناه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه «الْمعرفَة» من حَدِيث بشر بن حَازِم، عَن عمرَان بن يزِيد بن الْبَراء، عَن أَبِيه، عَن جده فِي حَدِيث(8/659)
ذكره أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَمن نبش قطعناه» وَفِي رِوَايَة: «وَمن حرق حرقناه» وَفِي أُخْرَى لَهُ «وَمن غرق غرقناه» ثمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد بعض من يجهل حَاله. وَرَوَاهُ فِي «خلافياته» بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور كَمَا ذكره فِي «الْمعرفَة» أَولا، وَلم يتَكَلَّم عَلَى إِسْنَاده بِشَيْء بل ذكره فِي معرض الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَرَوَى الْأَثْرَم عَن الْحسن وَابْن سِيرِين أَنَّهُمَا قَالَا: «يقطع النباش» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: «هُوَ سَارِق» وَفِي رِوَايَة عَنهُ: «نقطع فِي أمواتنا كَمَا نقطع فِي أحيائنا» وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ: «سَارِق الْأَمْوَات يُعَاقب بِمَا يُعَاقب بِهِ سَارِق الْأَحْيَاء» وَقَالَ البُخَارِيّ فِي «التَّارِيخ» : قَالَ هشيم: ثَنَا [سُهَيْل] قَالَ: « [شهِدت] ابْن الزبير قطع نباشًا» . وعزى ابْن الْجَوْزِيّ إِلَى رِوَايَة أَصْحَابهم «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قطع نباشًا» .
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى المختلس والمنتَهب والخائن قطع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَصْحَاب السّنَن(8/660)
الْأَرْبَعَة، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن جريج، عَن أبي الزبير، عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. قَالَ التِّرْمِذِيّ: [هَذَا] حَدِيث حسن صَحِيح. وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «من انتهب نهبة مَشْهُورَة فَلَيْسَ منَّا» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان من حَدِيث ابْن جريج عَن أبي الزبير، وَعَمْرو بن دِينَار، عَن جَابر رَفعه: «لَيْسَ عَلَى منتهب قطع، وَمن انتهب نهبة فَلَيْسَ منا» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا الحَدِيث لم يسمعهُ ابْن جريج من [أبي الزبير، بَلغنِي عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه قَالَ: إِنَّمَا سَمعه ابْن جريج من] ياسين الزيات. قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ الْمُغيرَة بن مُسلم، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا، وَأخرجه النَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه، وَقَالَ النَّسَائِيّ أَيْضا: رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن ابْن جريج عِيسَى بن يُونُس وَالْفضل بن مُوسَى وَابْن وهب وَابْن ربيعَة ومخلد بن يزِيد وَسَلَمَة بن سعيد الْبَصْرِيّ، وَلم يقل أحد مِنْهُم حَدثنِي أَبُو الزبير وَلَا أَحْسبهُ سَمعه من أبي الزبير. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي، وَأَبا زرْعَة عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَا: لم(8/661)
يسمع ابْن جريج هَذَا الحَدِيث من أبي الزبير، إِنَّمَا سَمعه من ياسين عَنهُ، قلت لَهما: مَا حَال ياسين؟ فَقَالَا: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قلت: وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء. وَقَالَ الْخَطِيب فِيمَا نَقله ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : لَا أعلم رَوَى هَذَا الحَدِيث عَن ابْن جريج مجودًا هَكَذَا غير مكي بن إِبْرَاهِيم، إِن كَانَ أَحْمد بن الْحباب حفظه، وَأَن الثَّوْريّ وَعِيسَى بن يُونُس وَغَيرهمَا رَوَوْهُ عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير، وَلم يذكرُوا فِيهِ «الخائن» وَكَانَ أهل الْعلم يَقُولُونَ: لم يسمع ابْن جريج هَذَا الحَدِيث من أبي الزبير، وَإِنَّمَا سَمعه من ياسين الزيات عَنهُ فدلسه فِي رِوَايَته عَن أبي الزبير. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ أَيْضا من مُعَنْعَن أبي الزبير.
قلت: قد تبين فِي غير طَرِيق سَمَاعه لهَذَا الحَدِيث مِنْهُ رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي «مُصَنفه» عَن ابْن جريج قَالَ: قَالَ أَبُو الزبير: قَالَ جَابر ... الحَدِيث، وَهَذَا صَرِيح فِي سَمَاعه لَهُ فِيهِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن حَاتِم، ثَنَا سُوَيْد - هُوَ ابْن نصر - ثَنَا عبد الله - هُوَ ابْن الْمُبَارك -[عَن] ابْن جريج قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الزبير ... فَذكره، وَهَذَا سَنَد صَحِيح(8/662)
[وَبِهَذَا اللَّفْظ أخرجه الطَّحَاوِيّ فَقَالَ: ثَنَا يَحْيَى بن عُثْمَان، ثَنَا نعيم - هُوَ ابْن حَمَّاد - ثَنَا ابْن الْمُبَارك فَذكره، وَهَذَا سَنَد صَحِيح] أَيْضا. يَحْيَى أخرجه لَهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، ونعيم من رجال البُخَارِيّ [وَقد صرح فِيهِ أَيْضا بِالسَّمَاعِ] ، فَيحمل عَلَى أَنه مرّة بِوَاسِطَة ياسين وَمرَّة بغَيْرهَا، وَقد أخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن جريج عَن أبي الزبير ثمَّ قَالَ: حسن صَحِيح. كَمَا تقدم فَدلَّ عَلَى سَمَاعه لَهُ مِنْهُ، وَمن نَفَاهُ فَهَذَا مقدم عَلَيْهِ، وَقد سلف قرن عَمْرو بن دِينَار بِابْن جريج من طَرِيق ابْن حبَان، والمغيرة عَن أبي الزبير كَمَا سلف عَن النَّسَائِيّ، وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا فِي «صَحِيحه» من حَدِيث سُفْيَان، عَن أبي الزبير، عَن جَابر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَيْسَ عَلَى المختلس وَلَا عَلَى الخائن قطع» فَهَذَا متابع ثَان لِابْنِ جريج، وَأخرج النَّسَائِيّ هَذَا، قَالَ: لم يسمعهُ سُفْيَان من أبي الزبير. لَكِن قد أخرجه ابْن حبَان وَمن شَرطه الِاتِّصَال.
وَله شَاهد أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قَالَ:(8/663)
[سَمِعت] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَيْسَ عَلَى المختلس قطع» . رَوَاهُ [ابْن] مَاجَه من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عَن أَبِيه بِهِ، وَرِجَاله رجال الصَّحِيح إِلَّا شيخ ابْن مَاجَه مُحَمَّد بن عَاصِم الْمعَافِرِي الْمصْرِيّ؛ فَإِن ابْن مَاجَه انْفَرد بِإِخْرَاج حَدِيثه لكنه ثِقَة، وَثَّقَهُ يُونُس وَلَا نعلم فِيهِ جرحا، وَله شَاهد ثَان من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «لَيْسَ عَلَى الخائن قطع» لكنه ضَعِيف كَمَا بَينه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» .
الحَدِيث الثَّامِن
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بِجَارِيَة سرقت فَوَجَدَهَا لم تَحض فَلم يقطعهَا» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده صَاحب «الْمُهَذّب» ، وَعَزاهُ إِلَى رِوَايَة ابْن مَسْعُود، وَهُوَ غَرِيب كَذَلِك، وَالَّذِي أعرفهُ «أَن ابْن مَسْعُود أُتِي بِجَارِيَة قد سرقت فَوَجَدَهَا لم تَحض فَلم يقطعهَا» كَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث مسعر عَن الْقَاسِم قَالَ: «أُتِي عبد الله بِجَارِيَة قد سَرقت فَوَجَدَهَا لم ... » فَذكره، وَترْجم عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ «بَاب السن الَّذِي إِذا(8/664)
بلغه الرجل وَالْمَرْأَة أُقِيمَت عَلَيْهِمَا الْحُدُود» وَذكر فِيهِ حَدِيث ابْن عمر فِي عرضه عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم أحد، الحَدِيث الْمَشْهُور، وَأَن عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ: «إِن هَذَا حد بَين الْكَبِير وَالصَّغِير» .
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أبدى لنا صفحته أَقَمْنَا عَلَيْهِ حد الله» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَقد سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الْبَاب قبله وَاضحا.
الحَدِيث الْعَاشِر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بسارق فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا إخالك سرقت. قَالَ: بلَى سرقت. فَأمر بِهِ فَقطع» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» من حَدِيث أبي أُميَّة المَخْزُومِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بلص قد اعْترف اعترافًا وَلم يُوجد مَعَه مَتَاع، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا إخَالُك سرقت. فَقَالَ: بلَى. فَأَعَادَ عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا كل ذَلِك يعْتَرف، فَأمر بِهِ فَقطع، وَجِيء بِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أسْتَغْفر الله وَتب. فَقَالَ: اسْتغْفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ ثَلَاثًا» هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَلَفظ النَّسَائِيّ مثله إِلَّا أَنه لم يقل «فَأَعَادَ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا» وَقَالَ فِي آخِره: «ثَلَاثًا»(8/665)
وَلَفظ ابْن مَاجَه كَلَفْظِ أبي دَاوُد إِلَّا أَنه قَالَ: «مَا إخالك سرقت - مرَّتَيْنِ» وَقَالَ فِي آخِره «اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ - مرَّتَيْنِ» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَقَالَ فِي آخِره: «اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ» وَلم يذكر غير ذَلِك، وَذكر الْخطابِيّ أَن فِي إِسْنَاده مقَالا، والْحَدِيث إِذا رَوَاهُ رجل مَجْهُول لم يكن حجَّة وَلم يجب الحكم بِهِ، وَقَالَ عبد الْحق: أَبُو الْمُنْذر الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده لَا أعلم رَوَى عَنهُ إِلَّا إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة.
وَله طَرِيق آخر من حَدِيث أبي هُرَيْرَة يَأْتِي فِي الْبَاب، وَهُوَ الحَدِيث الثَّامِن عشر، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بسارق قد سرق شملة، قَالَ: مَا إخالك سرقت. قَالَ: بلَى قد فعلت. قَالَ: فاذهبوا بِهِ فاقطعوه، ثمَّ احسموه، ثمَّ ائْتُونِي بِهِ. فَذَهَبُوا بِهِ فقطعوه ثمَّ حسموه ثمَّ أَتَوا بِهِ، قَالَ: تب إِلَى الله. قَالَ: تبت إِلَى الله. قَالَ: اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ» .
فَائِدَة: مَعْنَى «مَا إخالك» (مَا أُعْطِيك) ، وإخال بِكَسْر الْهمزَة أفْصح من فتحهَا وَأكْثر اسْتِعْمَالا، وَالْفَتْح هُوَ الْقيَاس قَالَ الْجَوْهَرِي: إخال بِكَسْر الْألف هُوَ الْأَفْصَح، وَبَنُو أَسد يَقُولُونَ: أخال، بِالْفَتْح وَهُوَ الْقيَاس.(8/666)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ستر مُسلما ستره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة أَحْمد بن حَنْبَل، ثَنَا مُحَمَّد بن بكر، أبنا ابْن جريج، عَن ابْن الْمُنْكَدر، عَن أبي أَيُّوب، عَن [مسلمة] بن مخلد مَرْفُوعا: «من ستر مُسلما فِي الدُّنْيَا ستره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة بِزِيَادَة فِيهِ، وَهَذَا لَفظه: «من نَفْس عَن (مُسلم) كربَة من كرب الدُّنْيَا نَفْس الله عَنهُ كربَة من كرب الْآخِرَة، وَمن ستر عَلَى مُسلم ستره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَالله فِي عون العَبْد (مَا دَامَ) العَبْد فِي عون أَخِيه» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ غير وَاحِد عَن الْأَعْمَش [عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَحْو رِوَايَة أبي عوَانَة، وَرَوَى أَسْبَاط بن مُحَمَّد عَن الْأَعْمَش] قَالَ: حدثت عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة. وَكَأن هَذَا أصح من الحَدِيث الأول، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا من رِوَايَة ابْن عمر مَرْفُوعا: «الْمُسلم أَخُو الْمُسلم لَا يَظْلمه وَلَا يُسلمهُ، وَمن كَانَ فِي حَاجَة أَخِيه كَانَ الله فِي حَاجته، وَمن فرج عَن مُسلم كربَة فرج الله عَنهُ كربَة من كرب يَوْم الْقِيَامَة، وَمن ستر مُسلما(8/667)
ستره الله يَوْم الْقِيَامَة» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح [غَرِيب] وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث مُحَمَّد بن وَاسع، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من ستر أَخَاهُ الْمُسلم فِي الدُّنْيَا ستره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة» وَالْبَاقِي بِمثل لفظ التِّرْمِذِيّ، قَالَ الْحَاكِم: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَرَوَى الْحَاكِم بِإِسْنَادِهِ عَن سُهَيْل، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «لَا يستر عبدٌ عبدا فِي الدُّنْيَا إِلَّا ستره الله يَوْم الْقِيَامَة» وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. قَالَ: وَهَذَا يصحح حَدِيث الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، (وَحَدِيث مُحَمَّد بن وَاسع، عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة) ، وَذَلِكَ أَن ابْن أَسْبَاط الْقرشِي رَوَاهُ عَن الْأَعْمَش، عَن بعض أَصْحَابه، عَن أبي صَالح، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن وَاسع، عَن رجل، عَن أبي صَالح.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لماعز: لَعَلَّك قبلت أَو غمزت أَو نظرت» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي «بَاب حد الزِّنَا» فَرَاجعه.(8/668)
الحَدِيث الثَّالِث عشر
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للسارق: أسرقت؟ قل لَا» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» فَإِنَّهُ قَالَ: وَقَوله: «أسرقت؟ قل لَا» لم يُصَحِّحهُ الْأَئِمَّة. وَتَبعهُ الرَّافِعِيّ فِي ذَلِك حَيْثُ قَالَ: لم يصححوا هَذَا الحَدِيث، وتبعا فِي ذَلِك الإِمَام فَإِنَّهُ قَالَ فِي «نهايته» : إِن صَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِلْمَرْفُوعِ بتهمة السّرقَة إِلَيْهِ: «مَا إخالك سرقت، أسرقت أم لَا» وَسمعت بعض أَئِمَّة الحَدِيث لَا يصحح هَذَا اللَّفْظ وَهُوَ: «قل» فيبقي الْمُتَّفق عَلَى صِحَّته، وَهُوَ قَوْله: «مَا إخالك سرقت» وَقَالَ فِي بَاب الشَّهَادَة عَلَى الْحُدُود: سَيَأْتِي الحَدِيث أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِلْمَرْفُوعِ إِلَيْهِ بتهمة السّرقَة: «مَا إخالك سرقت» ، وَفِي بعض الْأَلْفَاظ: «أسرقت؟ قل: لَا. قَالَ ذَلِك سرًّا» .
قَالَ: وغالب ظَنِّي أَن هَذِه الزِّيَادَة لم تصح عِنْد أَئِمَّة الحَدِيث. قَالَ: وَحَدِيث «مَا إخالك سرقت» إِمَّا يقدم فِيهِ الْحَث عَلَى الرُّجُوع لَا عَلَى الإيجاز فَإِنَّهُ اعْترف عِنْده مرّة، ثمَّ قَالَ لَهُ ذَلِك مرّة أُخْرَى.
قلت: وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَوْقُوفا «أَنه أُتِي بِجَارِيَة سرقت، فَقَالَ لَهَا: سرقت. قولي: لَا. قَالَت: لَا. فخلى سَبِيلهَا» .
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أَن ماعزًا لما ذكر لهزال أَنه زنَى قَالَ لَهُ: بَادر إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل أَن(8/669)
ينزل الله فِيك قُرْآنًا. فَذكر ذَلِك للنَّبِي (فَقَالَ: هلا سترته بثوبك يَا هزال» .
هَذَا الحَدِيث تقدم فِي بَابه.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بسارق فَقطع يَمِينه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَغَوِيّ فِي «مُعْجَمه» بِزِيَادَة فِي أَوله فِي تَرْجَمَة حَارِث بن عبد الله بن أبي ربيعَة فَقَالَ: ثَنَا هَارُون بن عبد الله، ثَنَا حَمَّاد بن مسْعدَة، عَن ابْن جريج، عَن عبد الْكَرِيم أبي أُميَّة، عَن حَارِث بن عبد الله بن أبي ربيعَة «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بسارق فَقيل: يَا رَسُول الله، إِنَّه لناس من الْأَنْصَار مَا لَهُم مَال غَيره فَتَركه، ثمَّ أُتِي بِهِ الثَّانِيَة فَتَركه، ثمَّ أُتِي بِهِ الثَّالِثَة فَتَركه، ثمَّ أُتِي بِهِ الرَّابِعَة فَتَركه، ثمَّ أُتِي بِهِ الْخَامِسَة فَقطع يَمِينه، ثمَّ أُتِي بِهِ السَّادِسَة فَقطع رجله، ثمَّ أُتِي بِهِ السَّابِعَة فَقطع يَده، ثمَّ أُتِي بِهِ الثَّامِنَة فَقطع رجله، ثمَّ قَالَ: أَربع بِأَرْبَع» . ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث أخرجه هَارُون فِي الْمسند وَلَا أَحسب لِلْحَارِثِ بن عبد الله صُحْبَة.
قلت: وَذكره أَبُو نعيم فِي «الصَّحَابَة» ثمَّ سَاق لَهُ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق الْبَغَوِيّ، ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ ابْن جريج عَن عبد الْكَرِيم أبي أُميَّة، عَن الْحَارِث بن عبد الله بن عَيَّاش بن أبي ربيعَة، عَن أَبِيه [عَن] عمر. وَعبد الْكَرِيم هَذَا كذبه أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَضرب أَحْمد عَلَى حَدِيثه،(8/670)
قَالَ: وَهُوَ يشبه الْمَتْرُوك. وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك.
الحَدِيث السَّادِس عشر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي السَّارِق: إِن سرق فَاقْطَعُوا يَده، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا يَده، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من حَدِيث أَحْمد بن الْعَبَّاس، ثَنَا إِسْمَاعِيل بن سعد، أبنا الْوَاقِدِيّ، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن خَالِد بن سَلمَة، أرَاهُ عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة. والواقدي حَالَته مَعْلُومَة، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فَقَالَ: أبنا بعض أَصْحَابنَا عَن ابْن [أبي] ذِئْب، عَن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «السَّارِق إِذا سرق فَاقْطَعُوا يَده، [ثمَّ] إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا يَده، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله» .(8/671)
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بسارق فَقطع يَده، ثمَّ أُتِي بِهِ ثَانِيًا فَقطع رجله، ثمَّ أُتِي بِهِ ثَالِثا فَقطع يَده، ثمَّ أُتِي بِهِ رَابِعا فَقطع رجله؛ ثمَّ أُتِي بِهِ خَامِسًا فَقتله» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلِك، وَقَالَ فِي آخِره «فَأمر بقتْله» وَهُوَ هُوَ، وَسبب ضعفه مُحَمَّد بن يزِيد بن سِنَان الرهاوي الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ ضَعِيف، وَأخرجه أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث جَابر أَيْضا قَالَ: «جِيءَ بسارق إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: اقْتُلُوهُ. فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا [سرق] قَالَ: اقطعوه. فَقطع ثمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيَة فَقَالَ: اقْتُلُوهُ. فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا سرق. قَالَ: اقطعوه [ثمَّ جِيءَ بِهِ الثَّالِثَة فَقَالَ: اقْتُلُوهُ. فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا سرق. فَقَالَ: اقطعوه] ثمَّ جِيءَ بِهِ الرَّابِعَة فَقَالَ: اقْتُلُوهُ. قَالُوا: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا سرق. قَالَ اقطعوه. فَأتي بِهِ الْخَامِسَة فَقَالَ: اقْتُلُوهُ. قَالَ جَابر: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى مربد النعم فاستلقى عَلَى ظَهره فقتلناه، ثمَّ اجتررناه فألقيناه فِي بِئْر، ورمينا عَلَيْهِ الْحِجَارَة» . وَفِي إِسْنَاده مُصعب بن ثَابت وَقد ضَعَّفُوهُ.(8/672)
قَالَ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث مُنكر، وَمصْعَب بن ثَابت قد ضَعَّفُوهُ. قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَلَا يَصح هَذَا الحَدِيث، وَلَا أعلم فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثا صَحِيحا. وَقَالَ ابْن الصّلاح: هَذِه الرِّوَايَة شَاذَّة وَإِن أخرجهَا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وَقَالَ صَاحب «الاستذكار» : قَالَ النَّسَائِيّ: مُصعب لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَإِن كَانَ الْقطَّان رَوَى عَنهُ، وَهَذَا الحَدِيث غير صَحِيح، وَلَا أعلم فِي الْبَاب حَدِيثا صَحِيحا عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِيهِ الْقَتْل فِي الْخَامِسَة، وَلَا أعلم أحدا من أهل الْعلم قَالَ بِهِ، إِلَّا مَا ذكره أَبُو مُصعب صَاحب مَالك فِي «مُخْتَصره» عَن أهل الْمَدِينَة - مَالك وَغَيره - قَالَ: فَإِن سرق الْخَامِسَة قتل كَمَا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعُثْمَان وَعمر بن عبد الْعَزِيز. قَالَ: وَكَانَ مَالك يَقُول: لَا يقتل. قَالَ أَبُو عمر: حَدِيث الْقَتْل (مُنكر) لَا أصل لَهُ، وَقد ثَبت عَنهُ أَنه «لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث» وَلم يذكر السَّارِق فِيهَا، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي السّرقَة: «فَاحِشَة وفيهَا عُقُوبَة» وَلم يذكر قتلا، وَعَلَى هَذَا جُمْهُور الْعلمَاء.
قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ لَا خلاف فِيهِ عِنْد أحدٍ من أهل الْعلم عَلَيْهِ. قَالَ الْمُنْذِرِيّ عقب هَذِه: السّنة مصرحة بالناسخ وَالْإِجْمَاع من الْأَئِمَّة عَلَى أَنه لَا يقتل. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: الْقَتْل مَنْسُوخ؛ لِأَنَّهُ وَقع إِلَيْهِ سَارِق فِي الْخَامِسَة فَلم يقْتله. وَأجَاب الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب عَنهُ(8/673)
بجوابين: أَحدهمَا: مَا قدمْنَاهُ من الشَّيْخ، وَثَانِيهمَا: أَنه مَجْهُول عَلَى أَنه قَتله بزنا أَو استحلال. وَأجَاب ابْن الصّباغ بخصوصيته ذَلِك السَّارِق وَمَا سلف من الْإِجْمَاع حَكَاهُ أَيْضا لَكِن حَكَى الرَّوْيَانِيّ عَن عُثْمَان وَعبد الله بن عَمْرو بن العاصِ وَعمر بن عبد الْعَزِيز أَنه يقتل.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي سَارِق سرق شملة: اذْهَبُوا بِهِ فاقطعوه ثمَّ احسموه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن الدَّرَاورْدِي، عَن يزِيد بن خصيفَة، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[أُتِي بسارق قد سرق شملة، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، إِن هَذَا سرق، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] مَا إخَاله سرق. قَالَ السَّارِق: بلَى يَا رَسُول الله. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اذْهَبُوا بِهِ فاقطعوه، ثمَّ احسموه، ثمَّ ائْتُونِي بِهِ. فَقطع فَأتي بِهِ، فَقَالَ: تب إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ: تبت إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: تَابَ الله عَلَيْك» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث وَصله يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن الدَّرَاورْدِي، وَتَابعه عَلَيْهِ غَيره، وأرسله عَنهُ عَلّي بن الْمَدِينِيّ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يسْندهُ وَاحِد مِنْهُم فَوق ابْن ثَوْبَان إِلَى أحد، وَبَلغنِي أَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق رَوَاهُ عَن(8/674)
يزِيد بن خصيفَة عَن ابْن ثَوْبَان عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَا أرَاهُ حفظه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ عَنهُ فِيهِ أَيْضا مُرْسلا.
قلت: رَجحه ابْن الْمَدِينِيّ وَابْن خُزَيْمَة، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: إِسْنَاد مُتَّصِل لَا بَأْس بِهِ. قَالَ: وَيزِيد بن خصيفَة لَا بَأْس بِهِ يَقع هَكَذَا فِي الْأَكْثَر مَنْسُوبا إِلَى جده، وَهُوَ يزِيد بن عبد الله بن خصيفَة ثِقَة بِلَا خلاف.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالسّنة أَن تعلق الْيَد المقطوعة فِي رقبته؛ لما رُوِيَ عَن فضَالة بن عبيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بسارق فَأمر بِهِ فَقطعت يَده، ثمَّ علقت فِي رقبته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه «أَصْحَاب [السّنَن] الْأَرْبَعَة» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن [محيريز] قَالَ: «سَأَلنَا فضَالة بن عبيد عَن تَعْلِيق الْيَد فِي الْعُنُق للسارق أَمن السّنة؟ قَالَ: أُتِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بسارق فَقطعت يَده، ثمَّ أَمر بهَا فعلقت فِي عُنُقه» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث عمر بن عَلّي، عَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة، وَعبد الرَّحْمَن أَخُو عبد الله(8/675)
بن [محيريز] وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: هَذَا خطأ إِنَّمَا هُوَ عبد الله بن محيريز قَالَ: سَأَلت فضَالة. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : لم يعرف التِّرْمِذِيّ بِشَيْء من حَال عبد الرَّحْمَن، وَهِي لَا تعرف، وَلم يذكرهُ البُخَارِيّ وَلَا ابْن أبي حَاتِم.
وَقَالَ النَّسَائِيّ: الْحجَّاج بن أَرْطَاة ضَعِيف، وَلَا يحْتَج بِخَبَرِهِ. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَذكر الإِمَام ثَلَاثَة أُمُور مستغربة مِنْهَا: أَن من الْأَصْحَاب من لم ير التَّعْلِيق وَلم يصحح الْخَبَر فِيهِ، انْتَهَى. وَقد علمت ضعف الْخَبَر غَرِيبا دَلِيلا وَإِن كَانَ غَرِيبا.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله ومنّه. وَأما آثاره فَثَلَاثَة عشر أثرا:
أَحدهَا: «أَن رجلا سرق من بَيت المَال، فَكتب بعض عُمَّال عمر إِلَيْهِ بذلك فَقَالَ: لَا قطع عَلَيْهِ، مَا من أحدٍ إِلَّا وَله فِيهِ حق» .
وَهَذَا الْأَثر غَرِيب عَن عمر، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه كَانَ يَقُول: «لَيْسَ عَلَى من سرق من بَيت المَال قطع» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن ابْن عبيد بن الأبرص قَالَ: «شهِدت عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي الرحبة وَهُوَ يقسم خمْسا(8/676)
بَين النَّاس، فَسرق رجل من حَضرمَوْت مغفر حَدِيد من الْمَتَاع، فَأتي بِهِ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ قطع هُوَ خائن وَله نصيب» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي قَالَ: قَالَ أَبُو يُوسُف: أخبرنَا بعض أشياخنا، عَن مَيْمُون بن مهْرَان، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَن عبدا من رَقِيق الْخمس [سرق من الْخمس] فَلم يقطعهُ، وَقَالَ: مَال الله بعضه فِي بعض» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ مَوْصُولا بِذكر ابْن عَبَّاس فِيهِ، وَفِي إِسْنَاده ضعف.
قلت: سَببه حجاج بن أَرْطَاة، وجبارة بن الْمُغلس.
الْأَثر الثَّانِي: «أَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سُرقَ فِي عَهده ثوب من مِنْبَر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقطع السَّارِق (وَمَا) يُنكر عَلَيْهِ أحد» .
وَهَذَا الْأَثر غَرِيب لَا يحضرني من خرجه.
الْأَثر الثَّالِث: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أُتِي بِعَبْد لرجل سرق مرْآة لزوجة الرجل قيمتهَا سِتُّونَ درهما فَلم يقطعهُ، وَقَالَ: خادمكم أَخذ مَتَاعكُمْ» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ فِي «مُسْنده» عَنهُ، عَن ابْن شهَاب، عَن السَّائِب بن يزِيد «أَن عبد الله بن عَمْرو الْحَضْرَمِيّ جَاءَ بِغُلَام إِلَى عمر بن الْخطاب فَقَالَ لَهُ: اقْطَعْ يَد هَذَا فَإِنَّهُ سرق. فَقَالَ لَهُ عمر: فَمَاذَا سرق؟ قَالَ: سرق مرْآة لامرأتي ثمنهَا سِتُّونَ درهما. فَقَالَ عمر: أرْسلهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قطع، خادمكم سرق مَتَاعكُمْ» .(8/677)
الْأَثر الرَّابِع: عَن عُثْمَان «أَنه قطع سَارِقا فِي أترجة قومت بِثَلَاثَة دَرَاهِم» (وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث سُفْيَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن السَّائِب بن يزِيد، عَن عبد الله بن عَمْرو الْحَضْرَمِيّ قَالَ: «أتيت عمر بن الْخطاب بِغُلَام لي ... » فَذكره) .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ عَنهُ فِي «مُسْنده» عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عَن أَبِيه، عَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن «أَن سَارِقا سرق أتْرُجة فِي عهد عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَأمر بهَا عُثْمَان فقومت ثَلَاثَة دَرَاهِم من صرف اثْنَي عشر [درهما] بِدِينَار فَقطع يَده» .
وَهِي الأترجة الَّتِي يأكلها النَّاس إِذْ لَو كَانَت من ذهب قدر الحمصة لم يقوم. قَالَ صَاحب الْمطَالع: قَالَ ابْن كنَانَة: كَانَت من ذهب قدر الحمصة يَجْعَل فِيهَا الطّيب. قَالَ صَاحب الْمطَالع: وَلَا يبعد قَول مَالك، فقد يُبَاع فِي كثير من الْبِلَاد بِثَلَاثَة دَرَاهِم فَكيف بِالْمَدِينَةِ، وَحين كثرت الدَّرَاهِم. قَالَ: وَهِي بِضَم الْهمزَة، وَتَشْديد الْجِيم، وَيُقَال أَيْضا: أترجة. قَالَ: وبالوجهين رُوِيَ فِي «الْمُوَطَّأ» . قَالَ: وَحَكَى أَبُو زيد «ترنجة» لُغَة ثَالِثَة، وَالْأول أفْصح.
الْأَثر الْخَامِس: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا قَالَت: «سَارِق مَوتَانا كسارق أحيائنا» .(8/678)
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من حَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ: حَدثنَا مَرْوَان بن عبد الْعَزِيز، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «سَارِق أمواتنا كسارق أحياءنا فِي المجاعة» .
الْأَثر السَّادِس: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه لَا قطع [فِي] عَام [المجاعة] » .
وَهَذَا الْأَثر لم أره فِي كتب السّنَن المسانيد، وَرَأَيْت من عزاهُ إِلَى السَّعْدِيّ والراوي عَن الإِمَام أَحْمد فَقَالَ: ثَنَا هَارُون بن إِسْمَاعِيل الخزاز، ثَنَا عَلّي بن الْمُبَارك، ثَنَا يَحْيَى بن أبي كثير، حَدثنِي حسان بن زَاهِر أَن ابْن حدير حَدثهُ عَن عمر قَالَ: «لَا تقطع الْيَد فِي عذق وَلَا عَام سنة» قَالَ [السَّعْدِيّ] : سَأَلت أَحْمد بن حَنْبَل عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: العذق: النَّخْلَة، وعام: سنة المجاعة. فَقلت لِأَحْمَد: تَقول بِهِ؟ قَالَ: إِي لعمري. قلت: إِن سرق فِي مجاعَة لَا تقطعه. قَالَ: لَا إِذا حَملته الْحَاجة إِلَى ذَلِك، وَالنَّاس فِي مجاعَة وَشدَّة.
الْأَثر السَّابِع: عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رجلا أنزل ضيفًا فِي مشربَة لَهُ فَوجدَ(8/679)
مَتَاعا قد أخفاه فَأتي بِهِ [أَبَا] بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالَ: خل عَنهُ فَلَيْسَ بسارق، وَإِنَّمَا هِيَ أَمَانَة أخفاها» .
وَهَذَا الْأَثر غَرِيب لَا يحضرني من خرجه، وَرَأَيْت بِخَط بَعضهم أَن أَبَا الزبير قَالَ: «أضَاف رجل رجلا فِي مشربَة لَهُ، فَوجدَ مَتَاعا لَهُ قد أخبأه، فَأتي بِهِ أَبَا بكر فَقَالَ: خل عَنهُ فَلَيْسَ بسارق، وَإِنَّمَا هِيَ أَمَانَة أخبأها» .
الْأَثر الثَّامِن: «أَن رجلا مَقْطُوع الْيَد وَالرجل قدم الْمَدِينَة فَنزل بِأبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَكَانَ يكثر الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ أَبُو بكر: مَا ليلك بلَيْل سَارِق. فلبثوا مَا شَاءَ الله ففقدوا حليًّا لَهُم، فَجعل ذَلِك الرجل [يَدْعُو] عَلَى من سرق من أهل هَذَا الْبَيْت الصَّالح، فَمر رجل بصائغ من أهل الْمَدِينَة فَرَأَى عِنْده حليًّا فَقَالَ: مَا أشبه هَذَا بحلي آل أبي بكر. فَقَالَ للصائغ: مِمَّن أشتريته؟ فَقَالَ: من ضيف أبي بكر. فَأخذ ذَلِك الرجل فَأقر، فَبَكَى أَبُو بكر وَقَالَ: أبْكِي لغرته بِاللَّه. ثمَّ أَمر بِهِ فَقطعت يَده» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «موطئِهِ» ، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه «أَن رجلا من أهل الْيمن أقطع الْيَد وَالرجل قدم عَلَى أبي بكر الصّديق، فَشَكا إِلَيْهِ أَن عَامل الْيمن ظلمه، وَكَانَ يُصَلِّي من اللَّيْل فَيَقُول أَبُو بكر: وَأَبِيك مَا ليلك بلَيْل سَارِق. ثمَّ أَنهم افتقدوا(8/680)
حليًّا لأسماء بنت عُمَيْس امْرَأَة أبي بكر، فَجعل الرجل يطوف مَعَهم وَيَقُول: اللَّهُمَّ عَلَيْك بِمن بيَّتَ أهل هَذَا الْبَيْت الصَّالح. فوجدوا الحُليَّ عِنْد الصَّائِغ وَأَن الأقَطع جَاءَ بِهِ، فاعترف الأقطع - أَو شهد عَلَيْهِ - فَأمر بِهِ أَبُو بكر فَقطعت يَده الْيُسْرَى، فَقَالَ أَبُو بكر: وَالله لدعاؤه عَلَى نَفسه أَشد عِنْدِي من سَرقته» .
قَالَ الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين الْمَقْدِسِي فِي «أَحْكَامه» : الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق لَا أرَاهُ أدْرك زمَان جده، وَإِنَّمَا يروي من الصَّحِيح عَن عمته عَائِشَة وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس.
وَقد رُوِيَ هَذَا عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد، عَن أبي بكر مثله، وَرُوِيَ عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد فِي هَذِه الْقِصَّة قَالَت: «فَأَرَادَ أَبُو بكر أَن يقطع رجله ويدع يَده ليستطيب بهَا، فَقَالَ عمر: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لتقطعن يَده الْأُخْرَى. فَأمر بِهِ أَبُو بكر فَقطعت» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحسن بن عَرَفَة، ثَنَا إِسْمَاعِيل بن علية، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع «أَن رجلا أقطع الْيَد وَالرجل نزل عَلَى أبي بكر الصّديق فَكَانَ يُصَلِّي من اللَّيْل، فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: مَا ليلك بلَيْل سَارِق، من قَطعك؟ قَالَ: يعْلى بن أُميَّة ظلما. فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: لأكتبن إِلَيْهِ وتوعده، فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ فقدوا حليًّا لأسماء بنت عُمَيْس قَالَ: فَجعل يَقُول: اللَّهُمَّ أظهر عَلَى صَاحبه. قَالَ:(8/681)
فَوجدَ عِنْد صائغ فألجئ حَتَّى ألجئ إِلَى الأقطع. قَالَ: فَقَالَ أَبُو بكر: وَالله لغرته بِاللَّه كَانَ أَشد مِمَّا صنع، اقْطَعُوا رجله. فَقَالَ عمر: بل تقطع يَده. كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فَقَالَ: دُونك» . وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر ... فَذكره، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق ... أَيْضا عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: «كَانَ رجل أسود يَأْتِي أَبَا بكر فيدنيه ويقرئه الْقُرْآن حَتَّى بعث ساعيًا - أَو قَالَ: سَرِيَّة - فَقَالَ: أَرْسلنِي مَعَه. قَالَ: بل تمكث عندنَا. فَأَبَى فَأرْسلهُ مَعَه واستوصى بِهِ خيرا، فَلم يغب عَنهُ إِلَّا قَلِيلا حَتَّى جَاءَ قد قُطعت يَده، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر فاضت عَيناهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنك؟ قَالَ: مَا زِدْت عَلَى أَنه كَانَ يوليني شَيْئا من عمله فخنت فَرِيضَة وَاحِدَة فَقطع يَدي. فَقَالَ أَبُو بكر: تَجِدُونَ الَّذِي قطع هَذَا يخون أَكثر من عشْرين فَرِيضَة، وَالله لَئِن كنت صَادِقا لأقيدنك مِنْهُ. قَالَ: ثمَّ أدناه وَلم يحول مَنْزِلَته الَّتِي كَانَت لَهُ مِنْهُ. قَالَ: فَكَانَ الرجل يقوم بِاللَّيْلِ فَيقْرَأ، فَإِذا سمع أَبُو بكر صَوته قَالَ: تالله لرجل قطع هَذَا لقد اجترأ عَلَى الله. قَالَ: فَلم يصبر إِلَّا قَلِيلا حَتَّى فقد آل أبي بكر حليًّا لَهُم ومتاعًا، فَقَالَ أَبُو بكر: طرق الْحَيّ اللَّيْلَة. فَقَامَ الأقطع فَاسْتقْبل الْقبْلَة وَرفع يَده الصَّحِيحَة وَالْأُخْرَى الَّتِي قطعت فَقَالَ: اللَّهُمَّ أظهر عَلَى من سرقهم - أَو [نَحْو هَذَا] ؛ وَكَانَ [معمر رُبمَا] قَالَ: اللَّهُمَّ أظهر من سرق أهل هَذَا الْبَيْت الصَّالِحين - قَالَ: فَمَا انتصف النَّهَار حَتَّى(8/682)
(عثروا) عَلَى الْمَتَاع عِنْده، فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: وَيلك إِنَّك لقَلِيل الْعلم بِاللَّه: فَأمر بِهِ فَقطعت يَده» .
فَائِدَتَانِ: الأولَى: قَالَ صَاحب «الاستذكار» : اخْتلف فِي هَذَا الحَدِيث فَروِيَ «أَنه إِنَّمَا قطع رجله، وَكَانَ مَقْطُوع الْيَد الْيُمْنَى فَقَط» ذكره عبد الرَّزَّاق عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة، فساقه كَمَا قدمْنَاهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «بَاب مَا جَاءَ فِي قتل الإِمَام» وخرَّجه كُله سَوَاء سندًا ومتنًا.
الثَّانِيَة: مَعْنَى «بيَّت الْأَمر» : أَتَاهُ لَيْلًا. وَقَوله: «لدعاؤه عَلَى نَفسه» كَذَا وَقع فِي رِوَايَة «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ، وَوَقع فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ السالفة «لغرته بِاللَّه» أَي لجرءته عَلَى الله، وَوَقع فِي تَعْلِيق القَاضِي حُسَيْن أَن الْحلِيّ كَانَ لعَائِشَة وَأَنه كَانَ عبدا لَهَا، وَذكره القَاضِي أَبُو الطّيب فِي «تَعْلِيقه» عَلَى الصَّوَاب فَقَالَ: إِن الْمَسْرُوق كَانَ لأسماء بنت عُمَيْس زوج الصّديق كَمَا سلف.
الْأَثر التَّاسِع: «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ لسارق [أقرّ عِنْده] : أسرقت؟ قل: لَا» .
وَهَذَا الْأَثر عزاهُ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب إِلَى تَعْلِيق الشَّيْخ أبي حَامِد، وَهُوَ غَرِيب عَنهُ لَا أعلم من خرجه عَنهُ، وَالْمَعْرُوف أَنه عَن أبي الدَّرْدَاء وَأبي مَسْعُود، كَذَلِك رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ فِي «سنَنه» .(8/683)
الْأَثر الْعَاشِر: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عرض لزياد بالتوقف فِي الشَّهَادَة عَلَى الْمُغيرَة بن شُعْبَة قَالَ: أرَى وَجه رجل لَا يفضح رجل من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
وَهَذَا تقدم فِي الْبَاب قبله مَعْنَاهُ قَالَ الرَّافِعِيّ: وَتَكَلَّمُوا فِي أَنه كَيفَ جَازَ لعمر هَذَا التَّعْرِيض لدفع الْحَد عَن الْمُغيرَة، وَفِيه إِثْبَات الْحَد عَلَى الثَّلَاثَة الَّذين شهدُوا صَرِيحًا عَلَى الْمُغيرَة، وَأَجَابُوا عَنهُ بِوُجُوه مِنْهَا: أَن الْحَد الَّذِي تعرض لَهُ الْمُغيرَة الرَّجْم، وحدهم حد الْقَذْف، وَهُوَ أَهْون من الرَّجْم، وَمِنْهَا: أَنهم كَانُوا مندوبين إِلَى السّتْر أَلا ترَى أَن ماعزًا لما ذكر لهزال أَنه زنا قَالَ لَهُ: «بَادر إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل أَن ينزل الله فِيك قُرْآنًا. فَذكر ذَلِك للنَّبِي (فَقَالَ: هلا سترته [بثوبك] يَا هزال» . فَلَمَّا تركُوا الْمَنْدُوب استحقوا التَّغْلِيظ.
الْأَثر الْحَادِي عشر: «أَن أَبَا مَسْعُود قَرَأَ: وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أيمانهما» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة مُسلم ابْن خَالِد الزنْجِي، عَن ابْن أبي نجيح، عَن مُجَاهِد «فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود «وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أيمانهما» ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي نجيح، وَهَذَا مُنْقَطع، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ إِلَّا أَنه قَالَ: فِي قراءتنا «والسارقون والسارقات تقطع أَيْمَانهم» قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالْقِرَاءَة الشاذة تنزل منزلَة أَخْبَار الْآحَاد.(8/684)
قلت: وَنقل الْحَاكِم عَن البُخَارِيّ وَمُسلم أَن تَفْسِير الصَّحَابِيّ فِي حكم الْمَرْفُوع، فيحتج بِهَذَا، و [مَا] ذكره الرَّافِعِيّ من تنزيلها منزلَة الْأَخْبَار صَحِيح، نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْبُوَيْطِيّ فِي بَاب الرَّضَاع، وَجزم بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي الصّيام وَالرّضَاع، وَالْمَاوَرْدِيّ فيهمَا، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب فِي الصّيام، وَوُجُوب الْعمرَة، وَالْقَاضِي حُسَيْن فِي الصّيام، والمحاملي فِي الْأَيْمَان فِي عدَّة الْمُسَافِر، وَابْن يُونُس فِي شَرحه فِي الْفَرَائِض فِي الْكَلَام عَلَى مِيرَاث الْأَخ للْأُم، وَذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي «الْبُرْهَان» أَن الظَّاهِر من مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه لَا يحْتَج بهَا، وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فَجزم بِهِ فِي «شرح مُسلم» فِي حَدِيث صَلَاة الْوُسْطَى، وَغَيره فَتنبه لذَلِك.
الْأَثر الثَّانِي عشر وَالثَّالِث عشر: عَن أبي بكر وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنَّهُمَا قَالَا: «إِذا سرق السَّارِق فَاقْطَعُوا يَده من الْكُوع» وَهَذَا غَرِيب عَنْهُمَا، نعم فِي الْبَيْهَقِيّ عَن عمر «أَنه كَانَ يقطع السَّارِق من الْمفصل» وَقد سلف مَرْفُوعا فِي الدِّيات وَأَنه ضَعِيف.(8/685)
كتاب قطاع الطَّرِيق(8/687)
كتاب قطاع الطَّرِيق
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيث «لَا يقطع إِلَّا فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا» .
وَقد سلف بَيَانه فِي الْبَاب قبله.
وَحَدِيث «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن تَعْذِيب الْحَيَوَان» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «بعثنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي بعث فَقَالَ: إِن وجدْتُم فلَانا وَفُلَانًا - لِرجلَيْنِ من قُرَيْش سماهما - فأحرقوهما بالنَّار. ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين أردنَا الْخُرُوج: إِنِّي كنت أَمرتكُم أَن تحرقوا فلَانا وَفُلَانًا، وَإِن النَّار لَا يعذب بهَا إِلَّا الله، فَإِن وجدتموهما فاقتلوهما» .
فَائِدَة: الرّجلَانِ هَبَّار بن الْأسود، وَنَافِع بن عبد عَمْرو، وَذكره الْبَزَّار فِي «مُسْنده» وَفِي سيرة ابْن إِسْحَاق: نَافِع بن عبد [قيس] الفِهري، وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر فَانْطَلق لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حمَّرة مَعهَا فرخان فأخذنا فرخيها، فَجَاءَت الحمَّرة فَجعلت تغرِّس، فجَاء النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(8/689)
فَقَالَ: من فجع هَذِه فِي وَلَدهَا؟ ردوا وَلَدهَا إِلَيْهَا [وَرَأَى] قَرْيَة نمل قد أحرقناها فَقَالَ: من حرق هَذِه؟ قُلْنَا: نَحن. قَالَ: إِنَّه لَا يَنْبَغِي أَن يعذّب بالنَّار إِلَّا رب النَّار» . وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَقَالَ: «فَجعلت تصيح» وانتهت رِوَايَته إِلَى عِنْد قَوْله: «ردوا وَلَدهَا إِلَيْهَا. قَالَ: فردوهما» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
فَائِدَة: قَرْيَة النَّمْل مَعْنَاهُ مَوضِع النَّمْل مَعَ النَّمْل.
وَذكر الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب من الْآثَار أثر ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى (إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض) أَنَّهَا [وَارِدَة] فِي حق قطاع الطَّرِيق من الْمُسلمين دون أهل الْكفْر والمرتدين، وَكَذَلِكَ هِيَ عِنْد أَكثر الْعلمَاء، وَاحْتَجُّوا لذَلِك بقوله تَعَالَى: (إِلَّا الَّذين تَابُوا من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم) الْآيَة، وتوبة الْكَافِر فِي (أَنَّهَا) تسْقط الْعقُوبَة عَنهُ لَا يخْتَلف بَين أَن يُوجد قبل الْقُدْرَة عَلَيْهِ أَو بعْدهَا، وَلم يقيموا وزنا لقَوْل من قَالَ: إِن الْمُؤمن لَا يحارب الله وَرَسُوله. فَقَالُوا: لفظ الْمُحَاربَة يَنْتَظِم عِنْد الجرأة بالمخالفة والعصيان، أَلا ترَى أَن الله - تَعَالَى - يَقُول (للْمُؤْمِنين) (فَإِن لم تَفعلُوا فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله) . قَالَ(8/690)
الرَّافِعِيّ: وَفسّر ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي - الْآيَة عَلَى مَرَاتِب وَالْمعْنَى أَن يُقتلوا إنَ قتلوا، أَو يصلبوا إِن أخذُوا المَال وَقتلُوا، أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف إِن اقتصروا عَلَى أَخذ المَال، وَكلمَة «أَو» للتنويع لَا للتَّخْيِير، كَمَا يُقَال: الزَّانِي يجلد أَو يرْجم. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَمَعْنى نفيهم من الأَرْض أَنهم إِذا هربوا من حبس الإِمَام يتبعُون ليرُدوا ويتفرق جمعهم، وَتبطل شوكتهم، (من) ظفر نابه نُقِيم عَلَيْهِ مَا تُؤَدِّيه جِنَايَته من الْحَد أَو التَّعْزِير. هَذَا آخر مَا ذكره الرَّافِعِيّ وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَأما الْآيَة فلأهل التَّفْسِير فِي سَبَب نُزُولهَا خلاف كَبِير لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره، وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» و «النَّسَائِيّ» : أَنَّهَا نزلت فِي الْمُشْركين فَمن تَابَ مِنْهُم قبل أَن يقدر عَلَيْهِ لم يمنعهُ ذَلِك أَن يُقَام فِيهِ الْحَد الَّذِي أَصَابَهُ. وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» أَنَّهَا نزلت فِي العرنيين.
وَأما الْأَثر فَرَوَاهُ الشَّافِعِي كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيّ فَقَالَ: أبنا إِبْرَاهِيم - هُوَ ابْن أبي يَحْيَى - عَن صَالح مولَى التوءمة، عَن ابْن عَبَّاس «فِي قطاع الطَّرِيق: إِذا قتلوا وَأخذُوا المَال [قتلوا وصلبوا، وَإِذا قتلوا وَلم(8/691)
يَأْخُذُوا المَال قتلوا وَلم يصلبوا، وَإِذا أخذُوا المَال] وَلم يقتلُوا قطعت أَيْديهم وأرجلهم من خلاف، وَإِذا أخافوا السَّبِيل وَلم يَأْخُذُوا مَالا نفوا من الأَرْض» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّافِعِي قَالَ: وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم عَن دَاوُد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْمُحَارب (إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله) إِذا عدى فَقطع الطَّرِيق فَقتل وَأخذ المَال صلب، فَإِن قتل [وَلم يَأْخُذ] مَالا قتل، فَإِن أَخذ المَال وَلم يقتل قطع من خلاف، فَإِن هرب وأعجزهم فَذَلِك نَفْيه» ثمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن سعد (بن مُحَمَّد) بن الْحسن بن عَطِيَّة، ثَنَا أبي، حَدثنِي عمي، حَدثنِي أبي، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس «فِي قَوْله تَعَالَى (إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله) الْآيَة، قَالَ: إِذا حَارب فَقتل فَعَلَيهِ الْقَتْل إِذا ظهر عَلَيْهِ قبل تَوْبَته، وَإِذا حَارب وَأخذ المَال وَقتل فَعَلَيهِ الصلب [وَإِن ظهر عَلَيْهِ قبل تَوْبَته، وَإِذا حَارب وَأخذ المَال] وَلم يقتل فَعَلَيهِ قطع الْيَد وَالرجل من خلاف إِن ظهر عَلَيْهِ قبل تَوْبَته، وَإِذا حَارب وأخاف السَّبِيل فَإِنَّمَا عَلَيْهِ النَّفْي، ونفيه أَن يطْلب» . قَالَ الشَّافِعِي: وَاخْتِلَاف حدودهم باخْتلَاف أفعالهم عَلَى مَا قَالَ ابْن عَبَّاس إِن شَاءَ الله.(8/692)
قلت: وَرَوَاهُ ابْن الْمُغلس عَن عبد الله بن أَحْمد، عَن أَبِيه، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة، ثَنَا حجاج، عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «إِذا خرج الرجل مُحَاربًا فَأَخَاف الطَّرِيق وَأخذ المَال قطعت يَدَاهُ وَرجلَاهُ من خلاف، وَإِذا أَخذ المَال وَقتل قطعت يَده وَرجله وصلب، وَإِذا قتل وَلم يَأْخُذ المَال قتل، وَإِذا أَخَاف الطَّرِيق وَلم يَأْخُذ مَالا وَلم يقتل نفي» .
ثمَّ اعْلَم أَن الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» جعل التَّفْسِير الْمَذْكُور عَن ابْن عَبَّاس من قَوْله مَرْفُوعا، وَهُوَ غَرِيب، وَقد أنكر عَلَيْهِ ابْن الصّلاح فِي «مشكله» فَقَالَ: إِنَّمَا يعرف ذَلِك من تَفْسِير ابْن عَبَّاس. كَذَلِك ذكره الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ وَالنَّاس، وَكَذَلِكَ ذكره شَيْخه، وَجعله إِيَّاه مَرْفُوعا قَالَ: وَتَفْسِير ابْن عَبَّاس أرجح من تَفْسِير غَيره؛ لِأَنَّهُ ترجمان الْقُرْآن، وَالْمعْنَى يعضده.(8/693)
كتاب حد شَارِب الْخمر(8/695)
كتاب حد شَارِب الْخمر
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا. أما الْأَحَادِيث فستة عشر حَدِيثا:
أَحدهَا
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كل مُسكر خمر، وكل خمر حرَام» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي [صَحِيحه] كَذَلِك.
وَفِي رِوَايَة لَهُ «كل مُسكر حرَام، وكل مُسكر خمر، وَمن شرب الْخمر فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يدمنها لم يتب مِنْهَا، لم يشْربهَا فِي الْآخِرَة» .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لعن الله الْخمر وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، ومعتصرها وحاملها والمحمولة إِلَيْهِ» .(8/697)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من الطَّرِيق الْمَذْكُور، وَفِي إِسْنَاده عبد الرَّحْمَن بن عبد الله الغافقي، وَسُئِلَ عَنهُ يَحْيَى بن معِين فَقَالَ: لَا أعرفهُ. وَذكره ابْن يُونُس فِي «تَارِيخه» وأوضح أَنه مَعْرُوف. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا من الْوَجْه الْمَذْكُور، وَهَذَا لَفظه قَالَ (: «لعنت الْخمر بِعَينهَا، وعاصرها، ومعتصرها ... » بِمثل لفظ أبي دَاوُد، وَزَاد أَحْمد فِي «مُسْنده» أَيْضا بِهِ سَوَاء إِلَّا أَنه قَالَ: «لعنت الْخمر عَلَى عشرَة وُجُوه: لعنت الْخمْرَة بِعَينهَا ... » إِلَى آخِره. وَفِي إسنادهما أَبُو طعمة مَوْلَاهُم، وَقد رَمَاه مَكْحُول الْهُذلِيّ بِالْكَذِبِ، وَوَقع فِي «سنَن أبي دَاوُد» من طَرِيق [اللؤْلُؤِي] «أَبُو عَلْقَمَة» بدل(8/698)
«طعمة» وَالَّذِي وَقع فِي رِوَايَة أبي الْحسن بن العَبْد، وَغير وَاحِد «أبي طعمة» قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «الْأَطْرَاف» : وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره، وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» بلفظين:
أَحدهمَا: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لعن الْخمر، وعاصرها وجالبها، وبائعها ومشتريها، وَحرم ثمنهَا» وَفِي رِوَايَة لَهُ «وشاربها» .
ثَانِيهَا: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «إِن الله لعن الْخمر وعاصرها والمعتصر لَهُ، والجالب والمجلوب إِلَيْهِ، وَالْبَائِع وَالْمُشْتَرِي، والساقي، وَحرم ثمنهَا عَلَى الْمُسلمين» .
وَله طَرِيق ثَانِي من حَدِيث أنس بن مَالك قَالَ: «لعن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْخمر عشرَة: عاصرها ومعتصرها، وشاربها، وحاملها والمحمولة إِلَيْهِ، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنهَا، وَالْمُشْتَرِي لَهَا [والمشتراة] لَهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَاللَّفْظ لَهُ، وَابْن مَاجَه بِنَحْوِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَإِنَّمَا لم يُصَحِّحهُ؛ لِأَن فِي إِسْنَاده شبيب بن بشر وَلم تثبت عَدَالَته، وَقَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم: لين الحَدِيث.(8/699)
قلت: لَكِن وَثَّقَهُ ابْن معِين فَيَنْبَغِي إِذن تَصْحِيحه. قَالَ: وَقد رُوِيَ نَحْو هَذَا من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر.
قلت: أما حَدِيث ابْن عمر فقد سلف من أخرجه، وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَنهُ أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «أَتَانِي جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِن الله لعن الْخمر وعاصرها، ومعتصرها وشاربها، وحاملها والمحمولة إِلَيْهِ، وبائعها ومبتاعها، وساقيها ومستقيها» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: وَشَاهده حَدِيث فليح بن سُلَيْمَان، عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن وَائِل، عَن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عَن أَبِيه أَن رَسُول (قَالَ: «لعن الله الْخمْرَة، وَلعن سَاقيهَا وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إِلَيْهِ، وبائعها ومبتاعها، وآكل ثمنهَا» .
قلت: وَرُوِيَ من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود أَيْضا، ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» من حَدِيث عِيسَى بن أبي عِيسَى الحناط، عَن(8/700)
الشّعبِيّ، عَن عَلْقَمَة، عَن عبد الله، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه لعن عشرَة: الْخمر وعاصرها ومعتصرها» قَالَ أَبُو حَاتِم: رَوَاهُ حسن بن صَالح، عَن عِيسَى الحناط، عَن الشّعبِيّ، عَمَّن حَدثهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ: لَا أبعد عِيسَى أَن يكون قَالَ مرّة كَذَا وَمرَّة كَذَا، هَذَا من عِيسَى.
قلت: وَهُوَ بِغَيْر ألف كَمَا سلف فِي بَاب الِاسْتِنْجَاء.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا أسكر كَثِيره فَالْفرق مِنْهُ حرَام» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه لَكِن لَفظهمْ: «مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب من حَدِيث جَابر انْتَهَى. وَفِي إِسْنَاده دَاوُد [بن] بكر بن أبي الْفُرَات الْأَشْجَعِيّ، وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا بَأْس بِهِ، لَيْسَ بالمتين. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلِهَذَا السَّبَب لم يُصَحِّحهُ التِّرْمِذِيّ.
قلت: وَلم يتفرد بِهِ دَاوُد، فقد تَابعه مُوسَى بن عقبَة.(8/701)
قلت: وَله شَاهد من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث زَكَرِيَّا بن مَنْظُور، عَن سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِهِ، وَفِيه عِلَّتَانِ: ضعف ابْن مَنْظُور وانقطاعه، فَإِن سَلمَة لم يسمع من ابْن عمر، وَشَاهد آخر من حَدِيث عَائِشَة وَسَيَأْتِي، قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصر السّنَن» : وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة عَلّي ابْن أبي طَالب، وَسعد بن أبي وَقاص، وَعبد الله بن عمر، وَعَائِشَة، وخوات بن جُبَير، وَحَدِيث سعد بن أبي وَقاص أَجودهَا إِسْنَادًا؛ فَإِن النَّسَائِيّ رَوَاهُ فِي «سنَنه» عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عمار الْموصِلِي - وَهُوَ أحد الثِّقَات - عَن الْوَلِيد بن كثير - وَقد احْتج [بِهِ] الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» - عَن الضَّحَّاك بن عُثْمَان - وَقد احْتج بِهِ مُسلم فِي «صَحِيحه» - عَن بكير بن عبد الله بن [الْأَشَج] عَن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص، وَقد احْتج بهما الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» . وَقَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ يرْوَى [عَن سعد] إِلَّا(8/702)
من هَذَا الْوَجْه، وَرَوَاهُ عَن الضَّحَّاك، وأسنده جمَاعَة [عَنهُ] 233) مِنْهُم الدَّرَاورْدِي، والوليد بن كثير وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن أبي كثير الْمَدِينِيّ.
قلت: وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الدَّرَاورْدِي، فَقَالَ: أبنا عبد الله بن قَحْطَبَةَ، ثَنَا أَحْمد بن أبان الْقرشِي، ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، أَخْبرنِي الضَّحَّاك بن عُثْمَان، عَن بكير بن عبد الله بن [الْأَشَج] ، عَن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص، عَن أَبِيه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن قَلِيل مَا أسكر كَثِيره» .
الحَدِيث الرَّابِع
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا أسكر مِنْهُ الْفرق فملء الْكَفّ مِنْهُ حرَام» .
هَذَا الحَدِيث وجدته فِي بعض النّسخ الْمُعْتَمدَة من الرَّافِعِيّ، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيث حسن. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي كتاب «الْأَشْرِبَة» لَهُ وَلَفظه: «مَا أسكر الْفرق مِنْهُ فالوقية حرَام» قَالَ(8/703)
الْمُنْذِرِيّ: وَالْأَمر كَمَا ذكره التِّرْمِذِيّ فَإِن رُوَاته [جَمِيعهم] مُحْتَج بهم فِي «الصَّحِيحَيْنِ» سُوَى أبي عُثْمَان عَمْرو - وَيُقَال: عمر - ابْن سَالم الْأنْصَارِيّ مَوْلَاهُم الْمدنِي ثمَّ الْخُرَاسَانِي، وَهُوَ مَشْهُور ولي الْقَضَاء بِمَكَّة، وَرَأَى عبد الله بن عمر، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَسمع من الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، وَعنهُ رَوَى هَذَا الحَدِيث، رَوَى عَنهُ غير وَاحِد، وَلم أر لأحد فِيهِ كلَاما.
قلت: وَكَذَا قَالَ ابْن الْقطَّان: أَبُو عُثْمَان هَذَا لَا نَعْرِف حَاله، وَكَانَ قَاضِيا بمرو، وَلم أجد ذكره فِي مظان وجوده فِي مصنفات الرِّجَال الروَاة.
قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث [بِصَحِيح] . كَذَا قَالَ، وَأَبُو عُثْمَان هَذَا، قَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد: هُوَ مَعْرُوف بكنيته، وَلَا أَحَق فِي اسْمه وَاسم أَبِيه شَيْئا، وَقد أحسن مهْدي بن مَيْمُون الثَّنَاء عَلَى أبي عُثْمَان وَوَثَّقَهُ أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَة أبي عبيد الْآجُرِيّ عَنهُ، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَأخرج الحَدِيث فِي «صَحِيحه» من جِهَته، وَأما الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ: رَفَعُوهُ وَخَالف خلف بن الْوَلِيد فَوَقفهُ عَلَى عَائِشَة وَالْقَوْل قَوْله.(8/704)
قلت: وَرَوَاهُ الْخَطِيب من طَرِيق آخر إِلَى عَائِشَة بِلَفْظ: «مَا أسكر كَثِيره فالقطرة مِنْهُ حرَام» وَفِيه عمر بن صهْبَان الْمَتْرُوك كَمَا قَالَه النَّسَائِيّ وَغَيره، ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق آخر عَنْهَا مَرْفُوعا: «من شرب نبيذًا فاقشعر مِنْهُ مفرق رَأسه فالحسوة مِنْهُ حرَام» وَإِسْنَاده غير ثَابت والعمدة عَلَى مَا سلف.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ فِي خطبَته: «نزل تَحْرِيم الْخمر، وَهِي من خَمْسَة أَشْيَاء: الْعِنَب، وَالتَّمْر، وَالْحِنْطَة، وَالشعِير، وَالْعَسَل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث ابْن عمر، عَن أَبِيه «أَنه قَالَ عَلَى مِنْبَر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أما بعد أَيهَا النَّاس، إِنَّه نزل تَحْرِيم الْخمر، وَهِي من خَمْسَة: من الْعِنَب وَالتَّمْر وَالْعَسَل وَالْحِنْطَة وَالشعِير، وَالْخمر مَا خامر الْعقل» .
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: فِيهِ دلَالَة عَلَى أَن قَوْله «وَالْخمر مَا خامر الْعقل» من قَول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث ابْن عمر أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من الْحِنْطَة خمر، وَمن الشّعير خمر، وَمن التَّمْر خمر، وَمن الزَّبِيب خمر، وَمن الْعَسَل خمر» ، وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث(8/705)
أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْخمر من هَاتين الشجرتين: النَّخْلَة وَالْعِنَب» وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» و «صَحِيح ابْن حبَان» بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح عَن النُّعْمَان بن بشير قَالَ: سَمِعت رَسُول (يَقُول: «إِن الْخمر من الْعصير، وَالزَّبِيب، وَالتَّمْر، وَالْحِنْطَة، وَالشعِير، والذرة، وَإِنِّي أنهاكم عَن كل مُسكر» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
تَنْبِيه: إِنَّمَا ذكرت حَدِيث [عمر] هَذَا فِي الْأَحَادِيث دون الْآثَار؛ لِأَن الظَّاهِر أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لَا يَقُوله إِلَّا عَن تَوْقِيف، وَقد صرح بِرَفْعِهِ فِي «مُسْند أَحْمد» كَمَا أسلفناه عَنهُ.
الحَدِيث السَّادِس
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَمَا لَا يسكر من الأنبذة لَا يحرم، لَكِن يكره شرب المنَصَّف والخليطين لوُرُود النَّهْي عَنْهُمَا فِي الحَدِيث.
كَمَا قَالَ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن ينْبذ التَّمْر وَالزَّبِيب جَمِيعًا، وَنَهَى أَن ينْبذ الرطب والبسر جَمِيعًا» وَفِي لفظ «أَن يخلط الزَّبِيب وَالتَّمْر، والبسر، وَالتَّمْر» وَفِي مُسلم(8/706)
من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَابْن عمر، وَأبي سعيد، وَابْن عَبَّاس مثله، وَفِي «سنَن النَّسَائِيّ» من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يجمع شَيْئَيْنِ فينبذا [يَبْغِي] أَحدهمَا عَلَى صَاحبه، قَالَ: وَسَأَلته عَن الفضيخ فنهاني عَنهُ. قَالَ: وَكَانَ يكره المذنب من الْبُسْر مَخَافَة أَن يَكُونَا شيئيين (فَكُنَّا) نقطعه» وَرَوَى الْبَزَّار من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: «نهَى عَن المُزَّاء - قَالَ: يَعْنِي: خلط الْبُسْر وَالتَّمْر» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عبد الْقَيْس عَن المُزَّاء» رَوَاهُ بِإِسْنَاد صَحِيح وَفِيه زِيَادَة، قَالَ صَاحب «الاقتراح» : عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن الخليطين» .
قَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : [لم يسمعهُ يَحْيَى بن أبي كثير من(8/707)
أبي سَلمَة عَن عَائِشَة إِنَّمَا سَمعه من أبي سَلمَة عَن] أبي قَتَادَة - أَي: كَمَا هُوَ فِي «صَحِيح مُسلم» وَغَيره - وَقد رَوَاهُ أَحْمد بن شُعَيْب - يَعْنِي: النَّسَائِيّ - من بَينهمَا كلاب بن عَلّي، وَمرَّة ثُمَامَة بن كلاب، وَلَا يُدْرَى من مِنْهُمَا فَسقط. قَالَ ابْن حزم: وَلَو صَحَّ لما كَانَ فِيهِ حجَّة؛ لِأَن الخليطين هَكَذَا مُطلقًا لَا نَدْرِي مَا هما، أَهما الخليطان فِي الزَّكَاة أم فِي مَاذَا، وَأَيْضًا فَإِن ثريد اللَّحْم وَالْخبْز خليطان، وَاللَّبن وَالْمَاء خليطان، فلابد من بَيَان مُرَاده عَلَيْهِ السَّلَام بذلك، وَلَا يُؤْخَذ بَيَان مُرَاده إِلَّا من لَفظه، فَبَطل تعلقهم بِهَذَا الْأَثر.
قلت: قد رُوِيَ هَذَا أَولا من حَدِيث جَابر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن الخليطين أَن يشربا، قُلْنَا: يَا رَسُول الله، وَمَا (الخليطين) ؟ قَالَ: التَّمْر وَالزَّبِيب» .
فَائِدَة: الفضيخ شراب يتَّخذ من التَّمْر وَحده من غير أَن تمسه النَّار، فَإِن كَانَ مَعَه زبيب فَهُوَ الخليط.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالْمنصف مَا عمل من تمر وَرطب، وشراب الخليطين مَا عمل من (نَبِيذ) وَرطب، وَقيل: مَا عمل من التَّمْر وَالزَّبِيب، وَسبب النَّهْي أَن الشدَّة والإسكار تتسارع إِلَيْهِ بِسَبَب الْخَلْط قبل أَن يتَغَيَّر الطّعْم، فيظن الشَّارِب أَنه لَيْسَ بمسكر [وَهُوَ مُسكر] (قَالَ: وَهَذَا كالنهي) عَن الظروف الَّتِي كَانُوا ينتبذون فِيهَا كالدَّباء: وَهُوَ(8/708)
القرع، والحنتم: وَهُوَ الجرار الْخضر، والنقير: وَهُوَ أصل الْجذع ينقر ويتخذ مِنْهُ الْإِنَاء، والمزفت: وَهُوَ المطلي بالزفت وَهُوَ القار، وَيُقَال لَهُ: المُقَيّْر أَيْضا. قَالَ: هَذِه الظروف أَيْضا لَا تَعَلُّق وَلَا يضْربهَا [الْهَوَاء، فقد يشْتَد مَا فِيهَا وَلَا يطلع عَلَيْهِ، بِخِلَاف الأسقية الَّتِي يضْربهَا] الْهَوَاء، وَتعلق. هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ، وَالنَّهْي الْمَذْكُور ثَابت، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الدُبَّاء والمزفَّت أَن ينْبذ فِيهِ» وَمن حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَفعه: «لَا تنتبذوا فِيهَا» وَعنهُ عَلَيْهِ السَّلَام «نهَى عَن المزفت والحنتم والنقير» . (وَأخرجه البُخَارِيّ مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث ابْن أبي أَوْفَى «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) عَن الْجَرّ الْأَخْضَر» قلت: أخرجه مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لوفد عبد الْقَيْس: أنهاكم عَن الدُّبَّاء والحنتم والنقير والمقيرَّ» وَأخرجه البُخَارِيّ بِمثلِهِ من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَله غير ذَلِك من الطّرق، فَادَّعَى ابْن حزم فِي «محلاه» فِي هَذَا الحَدِيث دَعْوَى فِيهَا وَقْفَة فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِن قَالُوا: قد صَحَّ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نسخ النَّهْي عَن نَبِيذ الْجَرّ قُلْنَا: النَّهْي وَالله عَن خليط(8/709)
الزَّبِيب وَالتَّمْر أصح عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[من نسخ] النَّهْي [عَن نَبِيذ الْجَرّ] فَكَانَ النَّهْي فِي أول الْإِسْلَام ثمَّ نسخ بِحَدِيث بُرَيْدَة الثَّابِت فِي الصَّحِيح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «كنت نَهَيْتُكُمْ عَن الانتباذ فِي الأسقية أَلا فانتبذوا فِي كل وعَاء وَلَا تشْربُوا مُسكرا» قَالَ الجبائي: وَالْقَوْل بالنسخ هُوَ أصح الْأَقَاوِيل. قَالَ: وَقَالَ قوم: التَّحْرِيم بَاقٍ وكرهوا الانتباذ فِي هَذِه الأوعية وَإِلَيْهِ ذهب مَالك، وَأحمد، وَإِسْحَاق، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عمر، وَابْن عَبَّاس.
فَائِدَة: الدُبَّاء - بدال مُهْملَة مَضْمُومَة، وهمزة آخِره - مفرده دباءة، وَوزن الدُّبَّاء فُعَّال، ولامه همزَة لَازِمَة؛ لِأَنَّهُ لم يعرف هَل انقلبت همزته عَن وَاو أَو يَاء. كَذَا قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَأخرجه الْجَوْهَرِي فِي المعتل فَإِنَّهُ جعله من مَادَّة «دبي» فَيكون وَزنه فعالاً أَيْضا إِلَّا أَن همزته منقلبة، قَالَ ابْن الْأَثِير: وَهَذَا أشبه. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: همزته زَائِدَة، ووزنه فعلا.
الحَدِيث السَّابِع
حَدِيث «كل مُسكر حرَام» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عَائِشَة، وَابْن عمر، وَبُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وَلَا يقبل مَا نقل عَن ابْن معِين فِيهِ.(8/710)
الحَدِيث الثَّامِن
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن التَّدَاوِي بِالْخمرِ فَقَالَ: إِن الله لم يَجْعَل شفاءكم فِيمَا حرم عَلَيْكُم» وَيروَى أَنه قَالَ: «إِنَّمَا ذَلِك دَاء وَلَيْسَ بشفاء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِنَحْوِ اللَّفْظ الثَّانِي مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ من رِوَايَة وَائِل بن حجر «أَن طَارق بن سُوَيْد الْجعْفِيّ سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْخمر فَنَهَاهُ عَنْهَا، [أَو كره أَن يصنعها] فَقَالَ: إِنَّمَا أصنعها [للدواء] فَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ بدواء، وَلكنه دَاء» وَرَوَاهُ بِهِ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه من حَدِيث طَارق أَيْضا قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِن بأرضنا أعنابًا نعتصرها فنشرب مِنْهَا؟ قَالَ: لَا. فراجعته فَقلت: إِنَّا نستشفي بِهِ للْمَرِيض. فَقَالَ: إِن ذَلِك لَيْسَ بشفاء، وَلكنه دَاء» قَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ أَيْضا فِي «مُسْنده» من حَدِيث سماك قَالَ: سَمِعت عَلْقَمَة بن وَائِل، يحدث عَن أَبِيه وَائِل «أَن سُوَيْد بن طَارق - وَهُوَ طَارق ابْن سُوَيْد - سَأَلَ رَسُول(8/711)
الله ( [عَن الْخمر، فَنَهَاهُ عَنْهَا أَن يصنعها، فَقَالَ: إِنَّهَا دَوَاء. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] : أَنَّهَا لَيست دَوَاء، وَلكنهَا دَاء» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث وَائِل أَيْضا «أَن سُوَيْد بن طَارق سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْخمر، وَقَالَ: إِنَّمَا نصنعها. فَنَهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن ذَلِك، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنَّهَا دَوَاء. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: إِنَّهَا لَيست بدواء، وَلكنهَا دَاء» وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا من حَدِيث عَلْقَمَة بن وَائِل، عَن طَارق بن سُوَيْد الْحَضْرَمِيّ قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِن بأرضنا أعنابًا نعتصرها، وَنَشْرَب مِنْهَا. فَقَالَ: لَا تشرب. قلت: أنشفي بهَا الْمَرْضَى؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: إِنَّمَا ذَلِك دَاء، وَلَيْسَ بشفاء» وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأول أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «نبذت نبيذًا فِي كوز (فَدخل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) وَهُوَ يغلي فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قلت: اشتكت ابْنة لي فنُعت لَهَا هَذَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إنَّ الله لم يَجْعَل شفاءكم فِيمَا حرم عَلَيْكُم» هَذَا لفظ الْبَيْهَقِيّ، وَلَفظ ابْن حبَان: «اشتكت ابْنة لي فنبذت لَهَا فِي كوز، فَدخل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يغلي، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَت: أَن ابْنَتي اشتكت فنبذنا لَهَا هَذَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن الله لم يَجْعَل شفاءكم فِي حرامٍ» وَوهم ابْن حزم فِي إعلاله هَذَا الحَدِيث حَيْثُ قَالَ: رَوَاهُ(8/712)
سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ، وَهُوَ مَجْهُول. وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ فَالَّذِي فِي إِسْنَاده إِنَّمَا هُوَ سُلَيْمَان [بن أبي سُلَيْمَان] ، وَهُوَ أحد الثِّقَات التَّابِعين الْمجمع عَلَيْهِ عَلَى توثيقهم، أَكثر عَنهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَأخرجه البُخَارِيّ مَوْقُوفا عَلَى ابْن مَسْعُود، أخرجه الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كتاب «الملتمس فِي إِيضَاح الملتبس» من حَدِيث مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: «إِن الله أنزل الدَّاء، وَأنزل الشِّفَاء فَمن تداوى بحلال الله كَانَ لَهُ شِفَاء، وَمن تداوى بِحرَام الله لم يكن لَهُ فِيهِ شِفَاء» وَقد أوضحت هَذَا الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث التَّاسِع
ورد فِي الْخَبَر «العينان تزنيان، وَالْيَدَانِ تزنيان» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف بَيَانه فِي كتاب اللّعان.
الحَدِيث الْعَاشِر
رَوَى الشَّافِعِي بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن أَزْهَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أُتِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بشارب فَقَالَ: اضْرِبُوهُ. فضربوه بِالْأَيْدِي وَالنعال وأطراف الثِّيَاب، وحثوا عَلَيْهِ التُّرَاب، ثمَّ قَالَ: بكّتُوه. فبكتوه، ثمَّ أرْسلهُ، فَلَمَّا كَانَ أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سَأَلَ من حضر ذَلِك الضَّرْب فقومه أَرْبَعِينَ - وَيروَى فقدره(8/713)
- فَضرب أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَرْبَعِينَ فِي الْخمر (حقّا لله) ثمَّ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ثمَّ تتايع النَّاس فِي الْخمر فَاسْتَشَارَ فَضَربهُ ثَمَانِينَ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي كَمَا ترَى، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ فِي «سنَنه» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِنَحْوِهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن أَزْهَر أَيْضا من طَرِيقين أَحدهمَا: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بشارب خمر وَهُوَ بحنين فَحَثَا فِي وَجهه التُّرَاب، ثمَّ أَمر أَصْحَابه فضربوه بنعالهم وَمَا كَانَ فِي أَيْديهم، حَتَّى قَالَ لَهُم: ارْفَعُوا [فَرفعُوا، فَتوفي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] ثمَّ جلد أَبُو بكر فِي الْخمر أَرْبَعِينَ، ثمَّ جلد عمر صَدرا من إمارته أَرْبَعِينَ، ثمَّ جلد ثَمَانِينَ فِي آخر خِلَافَته، وَجلد عُثْمَان الحدين كليهمَا ثَمَانِينَ وَأَرْبَعين، ثمَّ أثبت مُعَاوِيَة الْحَد ثَمَانِينَ» .
الثَّانِي: «قَالَ ابْن أَزْهَر: كَأَنِّي أنظر إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْآن وَهُوَ فِي الرّحال يلْتَمس رَحل خَالِد بن الْوَلِيد، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ أُتِي بِرَجُل قد شرب الْخمر، فَقَالَ للنَّاس: [أَلا] اضْرِبُوهُ. فَمنهمْ من ضربه بالنعال، وَمِنْهُم من ضربه بالعصى، وَمِنْهُم من ضربه بالمَيْتَخَة - قَالَ ابْن وهب: الجريدة الرّطبَة - ثمَّ أَخذ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تُرَابا من الأَرْض(8/714)
(فَرَمَى بِهِ وَجهه) » وَأخرجه الْحَاكِم بِنَحْوِ من هَذَا اللَّفْظ، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ، وَأَبا زرْعَة عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لم يسمع الزُّهْرِيّ هَذَا الحَدِيث من عبد الرَّحْمَن بن أَزْهَر، إِنَّمَا هُوَ عَن عقيل بن خَالِد عَنهُ. وَأخرج الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ضرب فِي الْخمر بِالْجَرِيدِ وَالنعال، وَجلد أَبُو بكر أَرْبَعِينَ» وَفِي رِوَايَة لَهما «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أُتي بِرَجُل قد شرب الْخمر فجلده بجريد نَحْو أَرْبَعِينَ، قَالَ: وَفعله أَبُو بكر، فَلَمَّا كَانَ عمر اسْتَشَارَ النَّاس فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: أخف الْحُدُود ثَمَانُون. فَأمر بِهِ عمر» وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ آخر عَن أنس قَالَ: «أَتَى رجل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد شرب الْخمر، (فَأمر بِهِ فَضرب بنعلين أَرْبَعِينَ، ثمَّ أُتِي أَبُو بكر بِرَجُل قد شرب الْخمر فَصنعَ بِهِ مثل ذَلِك،(8/715)
ثمَّ أُتِي عمر بِرَجُل قد شرب الْخمر) فَاسْتَشَارَ النَّاس، فَقَالَ ابْن عَوْف: أخف الْحَد ثَمَانِينَ. فَضرب عمر ثَمَانِينَ» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «أَن عمر اسْتَشَارَ فَقَالَ عَلّي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أرَى أَن يجلد ثَمَانِينَ؛ لِأَنَّهُ إِذا شرب سكر، وَإِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افتَرَى - أَو كَمَا قَالَ - فجلده عمر ثَمَانِينَ» .
قلت: رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» من رِوَايَة ثَوْر بن [زيد] الديلِي «أَن عمر اسْتَشَارَ ... » فَذكر الحَدِيث، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك بِهِ، وَهُوَ مُرْسل ثَوْر بن [زيد] لم يدْرك عمر. قَالَه عبد الْعَزِيز النحشبي، وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «وهج الْجَمْر فِي تَحْرِيم الْخمر» : لم يلْحق عمر، فروايته عَنهُ مُنْقَطِعَة. وَكَذَا جزم بِهِ الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا من طَرِيقين ثمَّ قَالَ فِي كل مِنْهُمَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
فَائِدَة: قَوْله «بكتوه» وَهُوَ بباء مُوَحدَة ثمَّ كَاف مُشَدّدَة ثمَّ مثناة فَوق، قَالَ ابْن الْأَثِير: التبكيت: التقريع والتوبيخ، بِأَن يُقَال لَهُ: يَا فَاسق أما(8/716)
اتَّقَيْت الله أما استحيت مِنْهُ. قَالَ الْهَرَوِيّ: وَيكون أَيْضا بِالْيَدِ والعصى وَنَحْوهمَا. وَقد جزم المارودي فِي «الْإِقْنَاع» بحث التُّرَاب والتبكيت كَمَا ورد فِي الحَدِيث، وَاقْتَضَى كَلَامه وُجُوبه. وَقَوله: «ثمَّ تتايع» هُوَ بمثناة تَحت قبل الْعين، وَهُوَ عبارَة عَن أَن يفعل من أَفعَال الْقبْح مَا يفعل غَيره من غير فِكْرة وَلَا رَويَّة.
فَائِدَة ثَانِيَة: من الغرائب المهمة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جلد فِي الْخمر ثَمَانِينَ» حَكَاهُ ابْن الطلاع عَن «مُصَنف عبد الرَّزَّاق» لَكِن قَالَ ابْن حزم فِي رسَالَته فِي إبِْطَال الْقيَاس: إِن النَّص الْجَلِيّ صَحَّ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه جلد فِي الْخمر أَرْبَعِينَ» وَأَنه ورد من طَرِيق لَا يَصح «ثَمَانِينَ» وَوَقع فِي «كِفَايَة ابْن الرّفْعَة» أَنَّهَا مُرْسلَة، وَرَأَيْت بِخَط بعض الْحفاظ العصريين أَن ابْن دحْيَة رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «لقد هَمَمْت أَن أكتب فِي الْمُصحف أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جلد فِي الْخمر ثَمَانِينَ» ثمَّ قَالَ - أَعنِي ابْن دحْيَة -: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح. قَالَ: وَقد أغفل هَذَا الحَدِيث الْأَئِمَّة الْحفاظ كَابْن عبد الْبر وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا. هَذَا آخِره فَليتبعْ.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر بجلد الشَّارِب أَرْبَعِينَ» .
هَذَا الحَدِيث هُوَ بِنَحْوِ من لفظ أبي دَاوُد الأول الْمَذْكُور قبل هَذَا.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بشارب، فَأمر عشْرين رجلا فَضَربهُ كل وَاحِد مِنْهُم ضربتين بِالْجَرِيدِ وَالنعال» .(8/717)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث قَتَادَة عَنهُ «أَن رجلا رفع إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد سكر، فَأمر قَرِيبا من عشْرين رجلا فجلدوه بِالْجَرِيدِ وَالنعال» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يحْتَمل أَن يكون رفع إِلَيْهِ بَعْدَمَا ذهب سكره.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَمن الْأَصْحَاب من رَأَى أَن الضَّرْب بِالْيَدِ وَالنعال جَائِز لَا محَالة، وَذكروا وَجْهَيْن فِي أَنه هَل يتَعَيَّن ذَلِك أَو يجوز الْعُدُول إِلَى السِّيَاط؟ وَظَاهر الْمَذْهَب أَن كلا مِنْهُمَا جَائِز، أما الأول فَلِأَنَّهُ الأَصْل وَبِه وَردت الْأَخْبَار. وَأما الثَّانِي فبفعل الصَّحَابَة واستمرارهم عَلَيْهِ.
قلت: أما الأول فقد عرفت فِيهِ حَدِيث أنس وَغَيره، وَأما الثَّانِي فَسَيَأْتِي فِي آخر الْبَاب فعله عَن عمر. وَعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - إِن شَاءَ الله.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «ضرب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالنعال وأطراف الثِّيَاب، وَضرب أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَعمر ثَمَانِينَ، وَالْكل سنة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة حضين بن المندُر - وَهُوَ أَبُو ساسان - قَالَ: «شهِدت عُثْمَان بن عَفَّان أُتي بالوليد قد صَلَّى الصُّبْح رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: أَزِيدكُم؟ فَشهد عَلَيْهِ رجلَانِ - أَحدهمَا حمْرَان - أَنه شرب الْخمر، وَشهد آخر أَنه رَآهُ يتقيأه، فَقَالَ عُثْمَان: إِنَّه لم يتقيأ حَتَّى شربهَا. فَقَالَ: يَا عَلّي، قُم فاجلده. فَقَالَ عَلّي: قُم يَا حسن فاجلده. فَقَالَ الْحسن: [ولِّ] حارَّها من تولَّى قارَّها.(8/718)
فَكَأَنَّهُ وجد عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا عبد الله بن جَعْفَر، قُم فاجلده. فجلده وَعلي يعد حَتَّى بلغ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أمسك. ثمَّ قَالَ: جلد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَرْبَعِينَ [وَأَبُو] بكر أَرْبَعِينَ وَعمر ثَمَانِينَ، وكلُ سنة، وَهَذَا أحب إليَّ» .
فَائِدَة: حُضين الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة، وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة فَتنبه لذَلِك.
فَائِدَة ثَانِيَة: إِن قلت: كَيفَ يجمع بَين هَذَا الحَدِيث والْحَدِيث الْآتِي فِي «بَاب ضَمَان الْوُلَاة» «مَا كنت لأقيم عَلَى أحدٍ حدًّا فَيَمُوت فأجد فِي نَفسِي مِنْهُ شَيْئا إِلَّا صَاحب الْخمر فَإِنَّهُ لَو مَاتَ وديته، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يسنه، قَالَ: وكلٌ سنة» ؟ فَالْجَوَاب: أَن الضَّرْب سنة، وَالْعدَد مُجْتَهد فِيهِ.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَرَادَ أَن يجلد رجلا فَأتي بِسَوْط خَلِق، فَقَالَ: فَوق هَذَا. فَأتي بِسَوْط جَدِيد، فَقَالَ: بَين هذَيْن» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي «بَاب حد الزِّنَا» فَرَاجعه مِنْهُ، وَلَفظ الحَدِيث فِيمَا مَضَى: «فَأتي بِسَوْط جَدِيد لم تقطع ثَمَرَته» . قَالَ ابْن الصّلاح: ثَمَرَته طرفه. قَالَ: واشتبه هَذَا عَلَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَغير أَلْفَاظ الحَدِيث، وَقَالَ فَأتي ثجر وبسرة الثَّمَرَة بعقدها الَّتِي هِيَ منابت الغصون الدقيقة وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك الْغَزالِيّ فِي «بسيطه» ونسأل الله الْعِصْمَة والتوفيق.(8/719)
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا ضرب أحدكُم فليتق الْوَجْه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِأَلْفَاظ، أَحدهَا: «إِذا ضرب أحدكُم أَخَاهُ فليجتنب الْوَجْه، فَإِن الله عَزَّ وَجَلَّ خلق آدم عَلَى صورته» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «إِذا ضرب أحدكُم فليجتنب الْوَجْه» وَرَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب الْعتْق من «صَحِيحه» عَن مُحَمَّد بن عبيد الله، عَن ابْن وهب، عَن مَالك وَابْن فلَان، كِلَاهُمَا عَن سعيد المَقْبُري، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا. قَالَ: وحَدثني عبد الله بن مُحَمَّد، ثَنَا عبد الرَّزَّاق [عَن معمر] أَنبأَنَا همام، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا. «إِذا قَاتل أحدكُم فليجتنب الْوَجْه» . قَالَ الْمزي فِي «أَطْرَافه» ابْن فلَان هَذَا قيل: إِنَّه عبد الله بن زِيَاد بن سمْعَان (أحد) الضُّعَفَاء، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث سَالم، عَن ابْن عمر «أَنه كره أَن تعلم الصُّورَة، وَقَالَ ابْن عمر: «نهَى(8/720)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تضرب - (وَفِي رِوَايَة أَن يُضرب - الْوَجْه» ذكره فِي آخر (الطِّبّ) فِي بَاب الوسم.
قَوْله: يَعْنِي الْوَجْه وَكَذَا أَن تعلم أَي يَبْقَى بعلامة. وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) عَن ضرب الْوَجْه وَعَن وسم الْوَجْه» وَاعْلَم أَن فِي إِسْنَاد أبي دَاوُد عمر بن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَضَعفه ابْن معِين، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: لَا يحْتَج بِهِ وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق لَا يحْتَج. وَوَثَّقَهُ غَيرهم، وَفِي إِسْنَاد النَّسَائِيّ مُحَمَّد بن عجلَان، وَهُوَ صَدُوق. قَالَ الْحَاكِم وَغَيره: هُوَ سيئ الْحِفْظ. وَخرج لَهُ مُسلم فِي الشواهد ثَلَاثَة عشر حَدِيثا.
الحَدِيث السَّادِس عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تُقَام الْحُدُود فِي الْمَسَاجِد» .(8/721)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه بِهَذَا الْإِسْنَاد مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ، وَقد تكلم فِيهِ بعض أهل الْعلم من قبل حفظه. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَفِي إِسْنَاده: سعيد بن بشير، وَأعله ابْن حزم بِهِ وبإسماعيل بن مُسلم، وَقَالَ: هما ضعيفان. وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» وَرَوَى من غير حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، وَابْن السكن من حَدِيث حَكِيم بن حزَام، وَفِي إِسْنَاده زفر بن وثيمة، وَمُحَمّد بن عبد الله الشعيثي، وَقد جهل الأول ابْن الْقطَّان، لَكِن ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، ثمَّ ادَّعَى - أَعنِي ابْن الْقطَّان - أمرا آخر فَقَالَ: وَقد تفرد عَنهُ مُحَمَّد بن عبد الله الشعيثي. وَلَيْسَ كَمَا ذكر فقد رَوَى عَنهُ ابْن عجلَان أَيْضا حَدِيث «إِذا خطب إِلَيْكُم من ترْضونَ دينه ... » الحَدِيث.
وَأما الثَّانِي فقد وَثَّقَهُ غير وَاحِد مِنْهُم: دُحَيْم، وَأَبُو حَاتِم وَالْفَلَّاس. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ضَعِيف الحَدِيث لَيْسَ بِالْقَوِيّ يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ. وَفِيه شَيْء آخر، وَهُوَ الْخلف فِي سَمَاعه من حَكِيم فقد قيل: إِنَّه لم يلقه. حَكَاهُ صَاحب «التذهيب مُخْتَصر(8/722)
التَّهْذِيب» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بإسقاطه فَقَالَ: ثَنَا وَكِيع، ثَنَا مُحَمَّد بن عبد الله الشعيثي، عَن الْعَبَّاس بن عبد الرَّحْمَن الْمدنِي، عَن حَكِيم بن حزَام قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تُقَام الْحُدُود فِي الْمَسَاجِد، وَلَا يستقاد فِيهَا» وَذكره ابْن حزم بِهِ وَمُحَمّد بن عبد الله الشعيثي، وَقَالَ: هما مَجْهُولَانِ.
وَقد علمت حَال الشعيثي، فدعواه جهالته عَجِيب، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من طَرِيق آخر عَن حَكِيم بن حزَام ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح فِيهِ مُحَمَّد بن سهل، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ مرّة: كَانَ يضع الحَدِيث وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى (أَن يجلد) الْحَد فِي الْمَسْجِد» وَفِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة، وحالته علمت غير مرّة. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه. وَأما آثاره فإحدى عشر أثرا:
الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث: عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «قَالُوا للجلاد: «لَا ترفع يَديك حَتَّى يرَى بَيَاض إبطك» . أما الأول فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَاصِم الْأَحول، عَن أبي عُثْمَان قَالَ: «أُتِي بِرَجُل عمر بن الْخطاب فِي حد، فَأتي بِسَوْط فِيهِ شدَّة فَقَالَ: أُرِيد أَلين من هَذَا. ثمَّ أُتِي بِسَوْط فِيهِ لين فَقَالَ: أُرِيد أَشد من هَذَا. فَأتي بِسَوْط بَين السوطين فَقَالَ: اضْرِب وَلَا يرَى إبطك، وَأعْطِ كل عُضْو حَقه» .(8/723)
وَأما الثَّانِي فَغَرِيب لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، وَأما الْأَثر الثَّالِث: فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي [ماجد] قَالَ: «جَاءَ رجل من الْمُسلمين بِابْن أَخ لَهُ وَهُوَ سَكرَان فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، إِن ابْن أخي سَكرَان. فَقَالَ: ترتروه ومزمزوه واستنكهوه. فَفَعَلُوا، فرفعه إِلَى السجْن، وَجَاء بِهِ من الْغَد ودعا بِسَوْط، ثمَّ أَمر بثمرته فدقت بَين حجرين حَتَّى صَارَت درة، ثمَّ قَالَ للجلاد: اجلد [وارجع] يدك، وَأعْطِ كل عُضْو حَقه. قلت: مَا أرجع؟ قَالَ: لَا يرَى بَيَاض إبطه. فَضَربهُ ضربا غير مبرح قَالَ: لَيْسَ بالشديد وَلَا بالهين. وضربه فِي قَمِيص وَإِزَار أَو قَمِيص (أَو) سَرَاوِيل» .
الْأَثر الرَّابِع: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «سَوط الْحَد بَين سوطين، وَضرب بَين ضربتين» .
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه عَنهُ، وَابْن الصّباغ ذكره مَرْفُوعا.
الْأَثر الْخَامِس: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَالَ للجلاد: أعْط كل عُضْو حَقه، وَاتَّقِ الْوَجْه والمذاكير» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» .
الْأَثر السَّادِس: عَن عمر أَنه قَالَ: «سَوط الْحَد بَين سوطين» .(8/724)
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا.
الْأَثر السَّابِع: عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ للجلاد: اضْرِب الرَّأْس فَإِن الشَّيْطَان فِيهِ» .
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه من أهل هَذَا الْفَنّ، وَذكره أَيْضا أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» فَقَالَ: «أُتِي أَبُو بكر بِرَجُل انْتَفَى من أَبِيه، فَقَالَ أَبُو بكر: اضْرِب الرَّأْس فَإِن الشَّيْطَان فِي الرَّأْس» .
الْأَثر الثَّامِن وَالتَّاسِع: عَن عمر، وَعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما « [لَا يجلد] إِلَّا بِالسَّوْطِ» وَاسْتقر الْأَمر عَلَيْهِ.
الْأَثر الْعَاشِر: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه رَجَعَ عَن رَأْيه فِي الْجلد ثَمَانِينَ، وَكَانَ يجلد فِي خِلَافَته أَرْبَعِينَ» .
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ.
الْأَثر الْحَادِي عشر: أثر عمر الْمُتَقَدّم فِي أثْنَاء الحَدِيث الْعَاشِر.(8/725)
بَاب التَّعْزِير
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فخمسة:
الحَدِيث الأول
حَدِيث «سَرقَة التَّمْر إِذا آواه الجرين، وَبلغ قِيمَته ثمن الْمِجَن فَفِيهِ الْقطع، وَإِن كَانَ دون ذَلِك فَفِيهِ غرم مثله وجلدات نكال» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي كتاب السّرقَة وَاضحا. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ التَّعْزِير من فعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ فَفِي «سنَن أبي دَاوُد» وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث معمر، عَن بهز بن حَكِيم، عَن أَبِيه، عَن جده: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حبس رجلا فِي تُهْمَة» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. ثمَّ سَاق من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حبس رجلا فِي تُهْمَة يَوْمًا وَلَيْلَة استظهارًا (أَو) احْتِيَاطًا» . قَالَ ابْن حبَان فِي «ضُعَفَائِهِ» : لَا يحفظ هَذَا الْمَتْن إِلَّا من هَذَا الطَّرِيق وَطَرِيق أبي هُرَيْرَة، وَالْأول مِمَّا ينْفَرد بِهِ معمر.(8/726)
قلت: لَا، فقد قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد رَوَى إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم هَذَا الحَدِيث عَن بهز بن حَكِيم أتم من هَذَا وأطول. فَذكره. وَفِي هَذَا نظر، وَالظَّاهِر أَنه يرويهِ عَن معمر فَسقط معمر، لَا جرم أخرجه الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن بهز بِهِ، وَابْن حزم قَالَ: هَذَا خبر واهٍ. وَذكره من حَدِيث أنس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حبس فِي تُهْمَة» وَمن حَدِيث عبد الرَّزَّاق السَّابِق، وَمن حَدِيث غَيرهمَا، ثمَّ قَالَ: كُله بَاطِل، فِي حَدِيث أنس أَبُو بكر بن عَيَّاش وَهُوَ ضَعِيف، وَانْفَرَدَ بِهِ إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا الوَاسِطِيّ وَلَا يُدْرَى من هُوَ، وَحَدِيث بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده ضَعِيف. وَقد عرفت جودة حَدِيث حَكِيم، لَا كَمَا قَالَه من ضعفه، وَسَيَأْتِي فِي آخر «كتاب السّير» حَدِيث تَحْرِيمه عَلَيْهِ السَّلَام مَتَاع الغال وَهُوَ تَعْزِير، وَسلف فِي «بَاب حد الزِّنَا» نفي المخنثين، قَالَ الرَّافِعِيّ فِيهِ أَثَره: وَهُوَ تعزيره.(8/727)
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أبي بردة بن ينار رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يجلد فَوق عشرَة أسواط إِلَّا فِي حد من حُدُود الله عَزَّ وَجَلَّ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَأَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة» ، وَغلط صَاحب «الْمُنْتَقَى» حَيْثُ قَالَ: رَوَاهُ الْجَمَاعَة إِلَّا النَّسَائِيّ. وَهُوَ فِيهِ فِي بَاب الرَّجْم من طرق، وَقد عزاهُ إِلَيْهِ ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» ، وَقد تكلم فِي إِسْنَاده ابْن الْمُنْذر والأصيلي، وَقد أوضحت ذَلِك مَعَ جَوَابه فِي «شرح الْعُمْدَة» فَرَاجعه مِنْهُ، وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ أورد الحَدِيث بِلَفْظ: «لَا يجلد فَوق الْعشْرَة إِلَّا فِي حد» بِإِطْلَاق النَّهْي عَن الزِّيَادَة مُطلقًا، والْحَدِيث إِنَّمَا ورد بتقييد النَّهْي عَن الزِّيَادَة بالأسواط لَا مُطلقًا، وَقد صرح الْإِصْطَخْرِي بذلك فِي تصنيفه فِي «أدب الْقَضَاء» فِي الْكَلَام عَلَى تَعْزِير من أَسَاءَ أدبه فَقَالَ: أحب أَن يضْرب بِالدرةِ، فَإِن ضرب بِالسَّوْطِ فَأحب أَن لَا يُزَاد عَلَى الْعشْرَة، فَإِن ضرب بِالدرةِ فَلَا يُزَاد عَلَى سَبْعَة وَثَلَاثِينَ. قَالَ(8/728)
الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ عَن الصَّحَابَة فِي مِقْدَار التَّعْزِير آثَار مُخْتَلفَة، وَأحسن مَا يُصَار إِلَيْهِ فِي هَذَا مَا ثَبت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ثمَّ ذكر الحَدِيث من طرق.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَصحح صَاحب التَّقْرِيب هَذَا الحَدِيث.
قلت: قد وثق، وَقد اعْترض الرَّافِعِيّ فِي «تذنيبه» عَلَى الْغَزالِيّ فِي قَوْله: إِن بعض الْأَئِمَّة (صَححهُ. فَقَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، (وَزَاد) بقوله: بعض الْأَئِمَّة) صَاحب التَّقْرِيب. قَالَ: والْحَدِيث أظهر من أَن يُضَاف تَصْحِيحه إِلَى فَرد من الْأَئِمَّة. قَالَ: وَقد اشْتهر عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: مذهبي مَا صَحَّ بِهِ الحَدِيث. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالْأَظْهَر أَنه يجوز الزِّيَادَة عَلَى الْعشْر، وَإِنَّمَا المراعى النُّقْصَان عَن الْحَد، والْحَدِيث الْمَذْكُور مَنْسُوخ عَلَى مَا ذكره بَعضهم، وَاحْتج بِعَمَل الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بِخِلَافِهِ من غير إِنْكَار، وَعَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه كتب إِلَى أبي مُوسَى الأشعرى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه لَا يبلغ بنكال أَكثر من عشْرين سَوْطًا» وَيروَى «ثَلَاثِينَ إِلَى أَرْبَعِينَ» . وَهَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ حَيْثُ قَالَ: بعد [أَن] رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى مُغيرَة: «كتب عمر بن عبد الْعَزِيز أَن لَا يبلغ فِي التَّعْزِير أدنَى الْحُدُود أَرْبَعِينَ سَوْطًا» : قد رُوِيَ عَن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم فِي مِقْدَار التَّعْزِير آثَار مُخْتَلفَة ... إِلَى آخر مَا أسلفناه عَنهُ.(8/729)
تَنْبِيه: من الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «لَا تَعْزِير فَوق عشْرين سَوْطًا» قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» : قَالَ أَبُو حَاتِم: فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ يضع الحَدِيث، ويروي مَا لَا أصل لَهُ من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ إِلَّا اعْتِبَارا.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أقيلوا ذَوي الهيئات عثراتهم إِلَّا فِي الْحُدُود» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَو دَاوُد من حَدِيث عبد الْملك بن زيد، عَن مُحَمَّد بن أبي بكر، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عطاف بن خَالِد، عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أبي بكر، عَن أَبِيه، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِهِ، ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق آخر كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، لَكِن زَاد بعد مُحَمَّد بن أبي بكر: عَن أَبِيه. وَرَوَاهُ من هَذَا الْوَجْه أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأعله عبد الْحق بِعَبْد الْملك وعطاف، وَقَالَ: هما ضعيفان.
فَأَما الأول: فَقَالَ فِيهِ ابْن الْجُنَيْد والأزدي: ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَأما الثَّانِي: فوثقه أَحْمد وَابْن معِين، وَقَالَ(8/730)
النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَتكلم فِيهِ مَالك وَلم يحمده، وَقَالَ الرَّازِيّ: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي عَن الثِّقَات مَا لَا يشبه حَدِيثهمْ، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ إِلَّا فِيمَا وَافق الثِّقَات.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَالزِّيَادَة الثَّانِيَة الَّتِي فِي النَّسَائِيّ تبين انْقِطَاع حَدِيث أبي دَاوُد فِيمَا بَين مُحَمَّد بن أبي بكر وَعمرَة وَقَالَ ابْن عدي: لم يرو هَذَا الحَدِيث غير عبد الْملك، وَهُوَ مُنكر بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَخْرِيجه أَحَادِيث الشهَاب» بعد ذكر مقَالَة ابْن عدي: وَرَوَى هَذَا الحَدِيث أَيْضا أَبُو حرَّة وَاصل بن عبد الرَّحْمَن الرقاشِي، عَن مُحَمَّد، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة، وَأَبُو حرَّة ضَعِيف، وَرَوَاهُ أَبُو بكر بن نَافِع، عَن مُحَمَّد بن أبي بكر، عَن عمْرَة.
قلت: وَأَبُو بكر هَذَا ضَعِيف أَيْضا، قَالَ أَبُو عُثْمَان (سعيد بن عُثْمَان) البرذعي: سَمِعت أَبَا زرْعَة الرَّازِيّ يَقُول: أَبُو بكر بن نَافِع رجل جليل، وَأَبُو بكر بن نَافِع صَاحب حَدِيث عَائِشَة: «أقيلوا ذَوي الهيئات» ضَعِيف.
قَالَ ابْن طَاهِر: وَرَوَى هَذَا الحَدِيث أَيْضا عبد الله بن هَارُون بن مُوسَى الْفَروِي أَبُو عَلْقَمَة، عَن عبد الله بن مُسلم القعْنبِي، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن ابْن شهَاب، عَن أنس، وَهَذَا بَاطِل، وَالْحمل فِيهِ عَلَى الْفَروِي؛ لِأَن من بعده ثِقَات، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِي السّنَن»(8/731)
بعد أَن ذكر حَدِيث أبي دَاوُد السالف، وَتكلم عَلَيْهِ: قد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من أوجه أخر لَيْسَ مِنْهَا شَيْء يثبت. وَسَبقه إِلَى ذَلِك الْعقيلِيّ الْحَافِظ، وَقد صَحَّ الحَدِيث الْمَذْكُور بِدُونِ الِاسْتِثْنَاء، أخرجه الشَّافِعِي، وَابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ وَاللَّفْظ لَهما من حَدِيث عَائِشَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أقيلوا ذَوي الهيئات زلاتهم» وَلَفظ الشَّافِعِي «تجافوا لِذَوي الهيئات عَن عثراتهم» . قَالَ الشَّافِعِي: وَسمعت من أهل الْعلم من يعرف هَذَا الحَدِيث وَيَقُول: «يتجافى للرجل ذِي الْهَيْئَة عَن عثرته مَا لم يكن حدًّا» . قَالَ عبد الْحق: ذكره ابْن عدي فِي بَاب وَاصل بن عبد الرَّحْمَن الرقاشِي وَلم يذكر لَهُ عِلّة.
قلت: وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن الْحسن بن سُفْيَان، ثَنَا سعيد بن [عبد الْجَبَّار] ، وَمُحَمّد بن الصَّباح، وقتيبة بن سعيد، قَالُوا: ثَنَا أَبُو بكر بن نَافِع العُمَري، عَن مُحَمَّد بن أبي بكر بن عَمْرو، بن حزم، عَن عمْرَة عَنْهَا، بِلَفْظ ابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ.(8/732)
فَائِدَة: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الرّبيع: قَالَ الشَّافِعِي: ذُو الهيئات الَّذين يقالون عثراتهم الَّذين لَيْسُوا يعْرفُونَ بِالشَّرِّ فيزل أحدهم الزلة. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: فيهم وَجْهَان، أَحدهمَا: أَصْحَاب الصَّغَائِر دون الْكَبَائِر.
وَثَانِيهمَا: من إِذا أذْنب تَابَ. قَالَ: وَفِي عثراتهم وَجْهَان: أَحدهمَا: الصَّغَائِر. وَثَانِيهمَا: أول مَعْصِيّة زل فِيهَا مُطِيع.
الحَدِيث الرَّابِع وَالْخَامِس
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعرض عَن جمَاعَة استحقوا التَّعْزِير كَالَّذي غل فِي الْغَنِيمَة، وَكَذَا لوى شدقه حِين حكم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - للزبير فِي شراج الْحرَّة وأساء الْأَدَب» .
أما حَدِيث شراج الْحرَّة فَتقدم بَيَانه فِي «بَاب إحْيَاء الْموَات» وَأما حَدِيث الغال فَلَعَلَّهُ يُشِير إِلَى مَا فِي أبي دَاوُد من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أصَاب غنيمَة أَمر بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاس، فيجيئون بغنائمهم فيخمَّسه ويقسمه، فجَاء رجل يَوْمًا بعد النداء بزمام من شعر فَقَالَ: يَا رَسُول الله، هَذَا كَانَ فِيمَا أصبناه من الْغَنِيمَة. فَقَالَ: سَمِعت بِلَالًا يُنَادي ثَلَاثًا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَمَا مَنعك أَن تَجِيء بِهِ؟ ! فَاعْتَذر. فَقَالَ: (كلا أَن) تَجِيء بِهِ يَوْم الْقِيَامَة فَلَنْ أقبله مِنْك» وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ:(8/733)
هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. ذكر ذَلِك فِي موضِعين من كِتَابه وَرَوَاهُ أَيْضا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَمثلهمْ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» .
فَائِدَة: مَعْنَى غل: سرق. والشدق - بالشين الْمُعْجَمَة وَالْقَاف - وليه هُوَ فعل المستهزئ بِالنَّاسِ. وشراج الْحرَّة تقدم فِي إحْيَاء الْموَات.
وَإِمَّا آثاره فَثَلَاثَة: أَحدهمَا: أثر عمر، وَقد سلف فِي أثْنَاء الحَدِيث الثَّانِي.
ثَانِيهَا: عَن عمر أَيْضا «أَنه عزّر من زوَّر كتابا» .
وَهُوَ أثر غَرِيب لَا يحضرني من خرجه عَنهُ.
ثَالِثهَا: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه سُئِلَ عَن قَول الرجل للرجل: يَا فَاسق يَا خَبِيث. فَقَالَ: هن فواحش فِيهِنَّ تَعْزِير وَلَيْسَ فِيهِنَّ حد» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من طَرِيقين: أَحدهمَا: من حَدِيث عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن أَصْحَابه، عَن عَلّي «فِي الرجل يَقُول للرجل: يَا خَبِيث يَا فَاسق. لَيْسَ عَلَيْهِ حد مَعْلُوم يُعَزّر الْوَالِي بِمَا يرَى» .
ثَانِيهمَا: من حَدِيث عبد الْملك أَيْضا، عَن شيخ من أهل الْكُوفَة، قَالَ: سَمِعت عليا يَقُول: «إِنَّكُم سَأَلْتُمُونِي عَن الرجل يَقُول للرجل: يَا كَافِر يَا فَاسق يَا خَبِيث. وَلَيْسَ فِيهِ حد وَإِنَّمَا فِيهِ عُقُوبَة من السُّلْطَان، فَلَا تعودوا فتقولوا» .(8/734)
كتاب ضَمَان الْوُلَاة(8/735)
كتاب ضَمَان الْوُلَاة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيث: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حد الشَّارِب أَرْبَعِينَ» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح سلف بَيَانه وَاضحا فِي «بَاب حد الشّرْب» قَالَ الرَّافِعِيّ: وأجمعت الصَّحَابَة عَلَى ذَلِك.
وَذكر من الْآثَار أثر عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «لَيْسَ أحد نُقِيم عَلَيْهِ حد فَيَمُوت، وَأَجد فِي نَفسِي مِنْهُ شَيْئا إِن قَتله إِلَّا حد الْخمر، فَإِنَّهُ شَيْء رَأَيْنَاهُ بعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، [فَمن] مَاتَ مِنْهُ فديته - إِمَّا قَالَ: فِي بَيت المَال، وَإِمَّا قَالَ: عَلَى عَاقِلَة الإِمَام» . شكّ فِيهِ الشَّافِعِي.
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن الْحَاكِم، عَن الْأَصَم، عَن الرّبيع، عَن الشَّافِعِي، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن عَلّي بن يَحْيَى، عَن الْحسن أَن عَلّي بن أبي طَالب قَالَ: «مَا أحد يَمُوت فِي حد من الْحُدُود فأجد فِي نَفسِي مِنْهُ شَيْئا، إِلَّا الَّذِي يَمُوت فِي حد الْخمر، فَإِنَّهُ شَيْء أحدثناه بعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَمن مَاتَ ... » إِلَى آخِره، وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عُمَيْر بن سعيد النَّخعِيّ قَالَ: سَمِعت عَلّي بن أبي طَالب يَقُول: «مَا كنت لأقيم عَلَى أحدٍ حدًّا فَيَمُوت فأجد فِي نَفسِي مِنْهُ شَيْئا، إِلَّا صَاحب الْخمر، فَإِنَّهُ لَو مَاتَ وديته؛ وَذَلِكَ أَن رَسُول(8/737)
الله (لم يسنه» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وَقَالا فِيهِ: «لم يسن فِيهِ شَيْئا، إِنَّمَا قُلْنَاهُ نَحن» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ السكن فِي «صحاحه» : «إِنَّمَا هُوَ شَيْء صنعناه» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» : أَرَادَ وَالله أعلم أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يسنه بالسياط، وَقد سنه بالنعال، وأطراف الثِّيَاب بِمِقْدَار أَرْبَعِينَ. وَقَالَ: الْمجد فِي «أَحْكَامه» : مَعْنَاهُ لم يقدره ويوقته بِلَفْظِهِ ونطقه. وَكرر الرَّافِعِيّ هَذَا الْأَثر فِي مَوَاضِع أخر من الْبَاب، وَقَالَ: «إِنَّه شَيْء أحدثناه بعد رَسُول الله» . وَقد أٍلفناه عَن رِوَايَة الشَّافِعِي خلاف مَا ذكره عَنهُ، وَذكر - أَعنِي الرَّافِعِيّ - فِي الْبَاب من الْآثَار «أَن الصَّحَابَة حكمُوا فِي الَّتِي بعث إِلَيْهَا عمر لريبة فأجهضت ذَا بَطنهَا بِوُجُوب دِيَة الْجَنِين» وَهَذَا الْأَثر سلف بَيَانه وَاضحا فِي كتاب الدِّيات فَرَاجعه من ثمَّ.(8/738)
كتاب الْخِتَان(8/739)
كتاب الْخِتَان
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَة أَحَادِيث:
أَولهَا
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر رجلا أسلم بالاختتان» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالطَّبَرَانِيّ، وَابْن عدي، وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة ابْن جريج قَالَ أخْبرت عَن عثيم بن كُلَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَنه جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأسلم، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ألق عَنْك شعر الْكفْر، واختتن» .
هَذَا لَفظهمْ خلا الْأَوَّلين فَإِن لَفْظهمَا: «لما قَالَ: أسلمت. قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ألق عَنْك شعر الْكفْر، يَقُول: احْلق. قَالَ: فَأَخْبرنِي آخر مَعَه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لآخر: ألق عَنْك شعر الْكفْر، واختتن» وَهَذَا الْإِسْنَاد رَمَاه عبد الْحق بالانقطاع فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث مُنْقَطع الْإِسْنَاد. وَتعقبه ابْن الْقطَّان فَقَالَ لم يردهُ عبد الْحق بِغَيْر ذَلِك فيظفر بِهِ من لَا يرد(8/741)
الْمُرْسل مُحْتَج بِهِ غير مُتَوَقف، وَهُوَ حَدِيث فِي إِسْنَاده مَعَ الإنقطاع مَجْهُولُونَ. ثمَّ سَاقه من طَرِيق أبي دَاوُد الَّتِي ذَكرنَاهَا، ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاده، وَهُوَ فِي غَايَة الضعْف مَعَ الِانْقِطَاع الَّذِي فِي قَول ابْن جريج «أخْبرت» وَذَلِكَ أَن عثيم بن كُلَيْب وأباه وجده مَجْهُولُونَ، وَمَعَ هَذَا فليته بَقِي هَكَذَا، بل فِيهِ زِيَادَة لَا أَقُول أَنَّهَا صَحِيحَة، وَلكنهَا مُحْتَملَة، وَهِي أَن من الْمُحدثين من قَالَ أَن قَول ابْن جريج «أُخبرتُ عَن عثيم بن كُلَيْب» إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى، وَقد علم ضعفه، وَأُمُور أخر فِي دينه، وَقد كَانَ من النَّاس من كَانَ حسن الرَّأْي فِيهِ مِنْهُم الشَّافِعِي، وَابْن جريج، (قد) رَوَى ابْن جريج أَحَادِيث قَالُوا: إِنَّه إِنَّمَا أَخذهَا عَنهُ فأسقطه وأرسلها عَنهُ، مِنْهَا هَذَا الحَدِيث. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك فِيهِ أَبُو أَحْمد بن عدي، والخطيب الْبَغْدَادِيّ.
قلت: وَنَقله عَن ابْن عدي الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» ، وَأقرهُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَعِنْدِي أَن هَذَا لَا يَصح عَن ابْن جريج فَإِنَّهُ من أهل الدَّين وَالْعلم، وَإِن كَانَ يُدَلس فَلَا يَنْتَهِي فِي التَّدْلِيس إِلَى مثل هَذَا الْفِعْل الْقَبِيح وَلَو قدرناه بِحسن الرَّأْي فِي إِبْرَاهِيم. هَذَا آخر كَلَامه. وَضَعفه أَيْضا الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي كِتَابه «الإِمَام» فَقَالَ: فِي إِسْنَاده مَجْهُول وَهُوَ الَّذِي أخبر ابْن جريج. وَأما النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» فِي بَاب مَا يُوجب الْغسْل: إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ؛ لِأَن عثيمًا وكليبًا ليسَا بمشهورين وَلَا وثقا، لَكِن أَبَا دَاوُد رَوَاهُ وَلم يُضعفهُ، وَقد(8/742)
قَالَ: أَنه إِذا ذكر حَدِيثا وَلم يُضعفهُ فَهُوَ عِنْده صَالح أَي حسن أَو صَحِيح.
قلت: وَذكر ابْن حبَان فِي «ثقاته» عثيم بن كُلَيْب حَيْثُ قَالَ: عثيم بن كُلَيْب يروي عَن أَبِيه عَن جده، رَوَى ابْن جريج عَن رجل عَنهُ. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» من طَرِيق أَحْمد مستدلاً بهَا.
فَائِدَة: عثيم بِضَم الْعين الْمُهْملَة، وَفتح الْمُثَلَّثَة تَصْغِير عُثْمَان، كَذَا قَيده النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب» وَصَاحب «الإِمَام» وَقد ورد مكبرًا فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من جِهَة عبد الرَّزَّاق، وَفِي إِسْنَاده مثل مَا فِي المصغر. قَالَ ابْن عَبْدَانِ: هُوَ عثيم بن كثير بن كُلَيْب الْجُهَنِيّ، والصحابي رَاوِيه هُوَ كُلَيْب. قَالَ: وَلَا أَقف عَلَى اسْم أَبِيه. وَظن ابْن أبي حَاتِم أَن كليبًا وَالِد عثيم، وَأَن عثيمًا رَوَى عَن كُلَيْب مُرْسلا، وَهُوَ وهم؛ فَإِن كليبًا جد عثيم، وعثيم رَوَى عَن أَبِيه كثير عَن جده كُلَيْب.
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْخِتَان سنة فِي الرِّجَال مكرمَة فِي النِّسَاء» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف بِمرَّة وَهُوَ مَرْوِيّ من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث أبي الْمليح بن أُسَامَة عَن أَبِيه رَفعه «الْخِتَان سنة للرِّجَال مكرمَة للنِّسَاء» رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن أبي الْمليح بِهِ، وَضَعفه لائح بِسَبَب(8/743)
الْحجَّاج هَذَا، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : ضَعِيف.
ثَانِيهَا: من حَدِيث أبي أَيُّوب مَرْفُوعا بِهِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْحجَّاج، عَن مَكْحُول، عَن أبي أَيُّوب بِهِ، وَهُوَ ضَعِيف مُنْقَطع كَمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: الَّذِي أتوهم أَنه خطأ، إِنَّمَا أَرَادَ حَدِيث حجاج مَا قد رَوَاهُ مَكْحُول [عَن] أبي الشمَال، عَن أبي أَيُّوب مَرْفُوعا: «خمس من سنَن الْمُرْسلين: التعطر والحناء والسواك ... » الحَدِيث، فَترك أَبَا الشمَال، فَلَا أَدْرِي هَذَا من الْحجَّاج أَو من عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الرَّاوِي عَنهُ. قَالَ: وَقد رَوَاهُ النُّعْمَان بن الْمُنْذر عَن مَكْحُول مُرْسلا.
ثَالِثهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِهِ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْوَلِيد بن [الْوَلِيد] عَن ابْن ثَوْبَان، عَن مُحَمَّد بن عجلَان، عَن عِكْرِمَة، عَنهُ بِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، وَالْمَحْفُوظ أَنه مَوْقُوف عَلَيْهِ. وَكَذَا قَالَ ابْن الرّفْعَة: لَا يَصح. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» : أَنه لَا يثبت رَفعه.(8/744)
ثَالِثهَا: من حَدِيث شَدَّاد بن أَوْس مَرْفُوعا بِهِ رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، وَابْن أبي حَاتِم فِي «علله» ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث حجاج بن أَرْطَاة، عَن أبي الْمليح، عَن أَبِيه، عَن شَدَّاد بِهِ. قَالَ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» بعد أَن رَوَاهُ: هَذَا الحَدِيث يَدُور عَلَى حجاج بن أَرْطَاة، وَلَيْسَ مِمَّن يحْتَج بِهِ قَالَ: وَالَّذِي أجمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ أَن الْخِتَان للرِّجَال كَذَا قَالَ، وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كتاب «أَحْكَام النّظر» : هَذَا حَدِيث مُنْقَطع الْإِسْنَاد.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأم عَطِيَّة وَكَانَت خافضة: اشمي وَلَا تنهكي» .
هَذَا الحَدِيث يرْوَى من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث مُحَمَّد بن حسان، [قَالَ] عبد الْوَهَّاب: الْكُوفِي، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن [أم] عَطِيَّة «أَن امْرَأَة كَانَت تختن بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تنهكي فَإِن ذَلِك أحظى للْمَرْأَة، وَأحب للبعل» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث مُحَمَّد بن حسان ثمَّ قَالَ: مُحَمَّد بن حسان مَجْهُول الحَدِيث، ضَعِيف.(8/745)
قلت: أما جَهَالَة مُحَمَّد بن حسان فَلَا نسلمها لَهُ؛ لِأَنَّهُ الشَّامي المصلوب فِي الزندقة التَّالِف، وَقد اسْتَفَدْت ذَلِك من كتاب «إِيضَاح [الْإِشْكَال] » لِلْحَافِظِ عبد الْغَنِيّ حَيْثُ قَالَ: بَاب مُحَمَّد بن سعيد الشَّامي المصلوب فِي الزندقة، ثمَّ ذكر لَهُ حَدِيثا، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مُحَمَّد بن أبي قيس، وَذكر لَهُ حَدِيثا، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مُحَمَّد بن الطَّبَرِيّ، وَذكر لَهُ حَدِيثا ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مُحَمَّد بن حسان وَرَوَى لَهُ هَذَا الحَدِيث وَذكر لَهُ حَدِيثا آخر وَهَذَا نَفِيس يتَعَيَّن عَلَى طَالب الحَدِيث الْوُقُوف عَلَيْهِ، وَقد تبع أَبُو دَاوُد فِي ذَلِك ابْن عدي فَقَالَ فِي «كَامِله» : مُحَمَّد بن حسان لَهُ أَحَادِيث لَا يُوَافق عَلَيْهَا ثمَّ أورد هَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: مُحَمَّد هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوف وَلَا يعرف إِلَّا من هَذَا الطَّرِيق قَالَ: وَلم [أر لمُحَمد غير] هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر، وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة فَقَالَ: رَوَاهُ أَيْضا مَرْوَان ابْن مُحَمَّد عَن مُحَمَّد بن حسان، ثمَّ ادَّعَى جهالته وَقد عرفت عَيبه وَأَنه كَذَّاب وَضاع وَأما قَوْله الحَدِيث ضَعِيف فَهُوَ كَمَا قَالَ. قَالَ ابْن الْقطَّان: يشْتَبه أَن عبد الْوَهَّاب لَا يعرف.
قلت: يَكْفِي فِي ضعفه مُحَمَّد بن حسان السالف التَّالِف، قَالَ أَبُو(8/746)
دَاوُد: وَقد رُوِيَ أَيْضا عَن عبد الله بن عَمْرو عَن عبد الْملك بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ وَلَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيّ، وَقد رُوِيَ مُرْسلا.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث عبيد الله بن عَمْرو قَالَ: حَدثنِي رجل من أهل الْكُوفَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن الضَّحَّاك بن قيس قَالَ: «كَانَ بِالْمَدِينَةِ امْرَأَة يُقَال لَهَا: أم عَطِيَّة تخْفض الْجَوَارِي، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا أم عَطِيَّة احفظي وَلَا تنهكي فَإِنَّهُ أَسْرَى للْوَجْه وأحظى عِنْد الزَّوْج» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ كَذَلِك وَالطَّبَرَانِيّ وَلَفظه: «أَنْضَرُ» بدل «أَسْرَى» وَذكره أَبُو نعيم فِي تَرْجَمَة الضَّحَّاك ابْن قيس الفِهري، ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ بِإِسْقَاط الْكُوفِي، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة الضَّحَّاك، وَقَالَ بدل رجل من أهل الْكُوفَة: عَن زيد بن أبي أنيسَة عَن عبد الْملك بِهِ بِلَفْظ الطَّبَرَانِيّ. وَقَالَ الْمفضل بن غَسَّان العلائي: سَأَلت أَبَا زَكَرِيَّا - يَعْنِي: يَحْيَى بن معِين - عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: الضَّحَّاك بن قيس هَذَا لَيْسَ بالفهري.
قلت: قد ذكره أَبُو نعيم فِي تَرْجَمته كَمَا مر وَذكره الْحَاكِم فِي تَرْجَمَة الضَّحَّاك بن قيس الْأَكْبَر، ثمَّ ذكر الْوَاقِدِيّ أَنه قَالَ: أَن الضَّحَّاك هَذَا لم يسمع من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ: وَالصَّوَاب قَول ابْن جرير أَنه سمع مِنْهُ فقد صَحَّ لَهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رِوَايَات ذكر فِيهَا سَمَاعه من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَذكر أَحَادِيث مِنْهَا هَذَا الحَدِيث.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث زَائِدَة [عَن] ثَابت عَن أنس مَرْفُوعا(8/747)
بِمثل مَا سلف رَوَاهُ ابْن عدي وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» من حَدِيث أبي خَليفَة مُحَمَّد بن سَلام الجُمَحِي عَن زَائِدَة بِهِ، قَالَ ابْن عدي: هَذَا يرويهِ عَن ثَابت زَائِدَة بن أبي [الرقاد] لَا أعلم يرويهِ عَنهُ غَيره.
قلت: وزائدة مُنكر الحَدِيث كَمَا قَالَه البُخَارِيّ، وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يروه عَن ثَابت إِلَّا زَائِدَة تفرد بِهِ مُحَمَّد بن سَلام الجُمَحِي.
قلت: وَاخْتلف فِي متن هَذَا الحَدِيث فَفِي لفظ: «يَا أم عَطِيَّة إِذا حفظت فأشمي وَلَا تنهكي فَإِنَّهُ أَضْوَأ للْوَجْه، وأحظى عِنْد الزَّوْج» وَفِي آخر ذكره ابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب «الْقِتَال» «إِذا حفظت فأشمي وَلَا تنهكي فَإِنَّهُ أَسْرَى للْوَجْه وأحظى عِنْد الزَّوْج» قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: ثَعْلَب: رَأَيْت يَحْيَى بن معِين بَين يَدي مُحَمَّد بن سَلام فَسَأَلَهُ عَن هَذَا الحَدِيث وَجَمَاعَة مَعَه.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن حَدِيث عَطِيَّة الْقرظِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «بِالْمَدِينَةِ خافضة تحفض النِّسَاء يُقَال لَهَا: أم عَطِيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أشمي وَلَا تخفي فَإِنَّهُ أَسْرَى للْوَجْه وأحظى عِنْد الزَّوْج» رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» من حَدِيث الْوَلِيد بن صَالح، عَن عبيد الله بن عَمْرو، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن عَطِيَّة بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد. قلت: قد مر وَسَيَأْتِي أَيْضا، قَالَ: وَأم عَطِيَّة هَذِه أظنها نسيبة الْأَنْصَارِيَّة.(8/748)
الطَّرِيق الْخَامِس: من حَدِيث سَالم، عَن أَبِيه، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «يَا معشر الْأَنْصَار اختضبن غمسًا، واختفضن وَلَا تنهكن فَإِنَّهُ أَسْرَى للْوَجْه وأحظى عِنْد الزَّوْج» . رَوَاهُ ابْن عدي وَفِيه خَالِد بن عَمْرو الْقرشِي وَهُوَ ضَعِيف جدا فِي حد من يتهم، وَرَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: «دخل عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نسْوَة من الْأَنْصَار فَقَالَ: يَا نسَاء الْأَنْصَار اختضبن غمسًا، واختفضن وَلَا تنهكن فَإِنَّهُ أحظى عِنْد أزواجكن، وإياكن وكفران النعم، قَالَ منْدَل: - يَعْنِي الْأزْوَاج» ومندل هَذَا ضَعِيف فتلخص أَن طرقه كلهَا ضَعِيفَة، وَقد صرح ابْن الْقطَّان الْحَافِظ فِي كِتَابه أَحْكَام النّظر أَيْضا بِأَنَّهُ لَا يَصح مِنْهَا شَيْء.
تَنْبِيهَات: أَحدهَا: أم عَطِيَّة هَذِه قد تقدم عَن الْحَافِظ أبي نعيم أَنه قَالَ: أظنها نسيبة، وَكَذَا قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ: أظنها نسيبة - يَعْنِي أم عَطِيَّة الْمَشْهُورَة - ثمَّ أورد بِإِسْنَادِهِ مثل مَا أوردهُ أَبُو نعيم سَوَاء، وَوَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ أَن الخافضة - وَهِي بِفَتْح الْخَاء وَالضَّاد المعجمتين أَي: الخاتنة - «أم طيبَة» بدل «أم عَطِيَّة» ، وَصَوَابه أم عَطِيَّة، وَقد أصلح فِي بعض النّسخ الْمُعْتَمدَة.
ثَانِيهَا: قَوْله: أشمي - هُوَ بشين مُعْجمَة - مَأْخُوذ من الشمم وَهُوَ ارتداع أَصله مَعَ اسْتِوَاء أَعْلَاهُ فَإِن كَانَ فِيهَا إحديداب فَهُوَ القنا تَقول رجل أَشمّ أَي طَوِيل الرَّأْس. وَقَوله: وَلَا تنهكي هُوَ من قَوْلهم نهكت(8/749)
الثَّوْب انهكه نهكًا عَلَى وزن دفعت أدفعه دفعا أَي لبسته حَتَّى خلق وبلي قَالَ الرَّافِعِيّ: مَعْنَاهُ اتركي الْموضع أَشمّ، وَهُوَ الْمُرْتَفع وَلَا تبالغي فِي الْقطع، وَقَالَ أَبُو عبيد: قَوْله لَا تنهكي تَفْسِير لقَوْله أشمي تَقول لَا تستقصي وَلَا تستأصلي وَلَا تبالغي فِي إسحابه وَقَالَ الْخطابِيّ قَوْله: لَا تنهكي مَعْنَاهُ لَا تبالغي فِي الْخَفْض والنهك الْمُبَالغَة فِي الضَّرْب وَالْقطع والشم وَغير ذَلِك، وَقد نهكته الْحمى إِذا بلغت بِهِ، واضرت بِهِ.
ثَالِثهَا: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام «لَا [تنهكي] قيد النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» فِي آخر بَاب السِّوَاك بِفَتْح التَّاء وَالْهَاء قَالَ: وَمَعْنَاهُ لَا تبالغي فِي الْقطع ورأيته مضبوطًا فِي نُسْخَة مُعْتَمدَة من «مُخْتَصر السّنَن» لِلْمُنْذِرِيِّ الْحَافِظ قُرِئت كلهَا عَلَيْهِ بِضَم التَّاء ضبط الْكَاتِب، وَكَذَا رَأَيْته فِي نُسْخَة مُعْتَمدَة من الْبَيْهَقِيّ.
رَابِعهَا: قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي «حاويه» فِي قَوْله: «أَسْرَى للْوَجْه» تَأْوِيلَانِ أَحدهمَا: [أصفى للون] ، وَثَانِيهمَا: مَا يحصل لَهَا فِي نَفْس الزَّوْج من الحظوة، وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي «الْإِحْيَاء» : أَي أَكثر لماء الْوَجْه، وَدَمه وَأحسن فِي جِمَاعهَا.
فَائِدَة: قَالَ ابْن الْمُنْذر: لَيْسَ فِي الْخِتَان خبر يرجع إِلَيْهِ وَلَا سنة تتبع [والأشياء] عَلَى الْإِبَاحَة.(8/750)
الحَدِيث الرَّابِع
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ختن الْحسن وَالْحُسَيْن يَوْم السَّابِع من ولادتهما» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الْحَاكِم ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا فِي الْبَاب قصَّة الْمَرْأَة الَّتِي بعث إِلَيْهَا عمر فأجهضت ذَا بَطنهَا وَقد سلفت فِي الدِّيات.(8/751)
كتاب [الصيال]
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا أما الْأَحَادِيث فسبعة:
أَحدهَا
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «انصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «انصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما [فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله أنصره إِذا كَانَ مَظْلُوما] أَفَرَأَيْت إِن كَانَ ظَالِما كَيفَ أنصره؟ قَالَ: تحجزه أَو تَمنعهُ عَن الظُّلم فَإِن ذَلِك نَصره» .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن سعيد بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من قتل دون أَهله فَهُوَ شَهِيد، وَمن قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب صَلَاة الْخَوْف.(9/7)
الحَدِيث الثَّالِث
عَن حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي وصف الْفِتَن: [كن] عبد الله الْمَقْتُول، وَلَا تكن عبد الله الْقَاتِل» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا أعلم من خرجه هَكَذَا من هَذِه الطَّرِيق بعد الْبَحْث عَنهُ، وَالْعجب من إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي «النِّهَايَة» كَونه قَالَ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح. وَلَا اعْتِمَاد عَلَيْهِ فِي هَذَا الشَّأْن، قَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : لم أجد هَذَا الحَدِيث فِي كتب الحَدِيث الْخَمْسَة الْمُعْتَمدَة وَغَيرهَا وَهُوَ زِيَادَة فِي حَدِيث حُذَيْفَة الثَّابِت فِي الْفِتَن.
قلت: لكنه يرْوَى من طرق أَحدهَا من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص أَنه قَالَ عِنْد فتْنَة عُثْمَان بن عَفَّان: أشهد أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّهَا سَتَكُون فتْنَة الْقَاعِد فِيهَا خير من الْقَائِم، والقائم خير من الْمَاشِي، والماشي خير من السَّاعِي، قَالَ: أَرَأَيْت إِن دخل عليَّ بَيْتِي وَبسط يَده إليَّ ليقتلني قَالَ: كن كَابْن آدم» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ كَذَلِك ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا.
ثَانِيهَا: من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا يمْنَع أحدكُم إِذا جَاءَهُ [من] يُرِيد قَتله أَن يكون مثل ابْني آدم الْقَاتِل فِي النَّار(9/8)
والمقتول فِي الْجنَّة» . رَوَاهُ أَحْمد.
ثَالِثهَا: من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْفِتْنَة: كسِّروا فِيهَا قسيكم وأوتاركم واضربوا بسيوفكم الْحِجَارَة فَإِن دخل أحدكُم بَيته فَلْيَكُن كخير بني آدم» رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر «الاقتراح» : أَنه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
رَابِعهَا: من حَدِيث شهر بن حَوْشَب، عَن جُنْدُب بن سُفْيَان مَرْفُوعا فِي حَدِيث طَوِيل « [لَا تكن] عبد الله الْقَاتِل» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَشهر تَرَكُوهُ.
خَامِسهَا: من حَدِيث خباب مَرْفُوعا «فَكُن عبد الله الْمَقْتُول» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» [وَأحمد] أَيْضا فِي «مُسْنده» وَزَاد. قَالَ أَيُّوب - أَعنِي: أحد رُوَاته وَلَا أعلمهُ إِلَّا قَالَ -: «وَلَا تكن عبد الله الْقَاتِل» .
سادسها: من حَدِيث خَالِد بن عرفطة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يَا(9/9)
خَالِد إِنَّه سَيكون أَحْدَاث، وَفرْقَة، وَفتن؛ فَإِن اسْتَطَعْت أَن تكون الْمَقْتُول لَا الْقَاتِل فافعل» . رَوَاهُ ابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» من حَدِيث حجاج بن الْمنْهَال، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَلّي بن زيد، عَن أبي عُثْمَان، عَن خَالِد بِهِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بالسند الْمَذْكُور وَاللَّفْظ، إِلَّا أَنه قَالَ: «سَتَكُون فتْنَة وأحداث، وَاخْتِلَاف وَفرْقَة» بدل مَا سلف، وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا فِي «مُسْنده» فَقَالَ: ثَنَا عبد الرَّحْمَن، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَلّي بن زيد، عَن أبي عُثْمَان، عَن خَالِد [بن] عرفطة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِنَّهَا سَتَكُون بعدِي أَحْدَاث، وَفتن، وَاخْتِلَاف، فَإِن اسْتَطَعْت أَن تكون عبد الله الْمَقْتُول لَا الْقَاتِل فافعل» . وَكَذَا أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمته قَالَ الرَّافِعِيّ: فِي بعض الْأَخْبَار «كن خير ابْني آدم - يَعْنِي قابيل وهابيل» .
قلت: قد سلف من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أَن سعد بن عبَادَة قَالَ: «يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت إِن وجدت مَعَ امْرَأَتي رجلا أمهله حَتَّى آتِي بأَرْبعَة شُهَدَاء كفَى بِالسَّيْفِ شا - أَرَادَ بقوله:(9/10)
شَاهدا، فَقطع الْكَلِمَة - ثمَّ قَالَ: [نعم] حَتَّى تَأتي بأَرْبعَة شُهَدَاء» .
هَذَا الحَدِيث وجد هَكَذَا فِي «سنَن أبي دَاوُد» من طَرِيق ابْن الْأَعرَابِي، وَهَذَا لَفظه عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قَالَ نَاس لسعد بن عبَادَة يَا أَبَا ثَابت قد نزلت الْحُدُود فَلَو أَنَّك وجدت مَعَ امْرَأَتك رجلا كَيفَ كنت صانعًا؟ قَالَ: كنت ضاربهما بِالسَّيْفِ حَتَّى يسكتا: أفأنا أذهب فأجمع أَرْبَعَة شُهَدَاء فَإِذا ذَلِك قد قَضَى الْحَاجة وَانْطَلق، فَاجْتمعُوا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُول الله ألم تَرَ إِلَى أبي ثَابت قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: كفَى بِالسَّيْفِ شَاهدا ثمَّ قَالَ: لَا لَا أَخَاف أَن يتتايع فِيهِ السَّكْرَان والغيران» . وَكَذَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» سَوَاء بِزِيَادَة «فَقَالُوا: يَا رَسُول الله إِنَّه أَشد النَّاس غيرَة. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هُوَ شَدِيد الْغيرَة وَأَنا أغير مِنْهُ، وَالله أَشد غيرَة مني وَلذَلِك جعل الْحُدُود» . وَفِي «مُصَنف عبد الرَّزَّاق» عَن معمر عَن كثير بن زِيَاد عَن الْحسن «أَنه سُئِلَ عَن الرجل يجد مَعَ امْرَأَته رجلا فَقَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: [كفَى] بِالسَّيْفِ شا» يُرِيد أَن يَقُول شَاهدا، فَلم يتم الْكَلِمَة،(9/11)
وَعَن معمر عَن الزُّهْرِيّ ذكر قَول سعد قَالَ: فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يَأْبَى الله إِلَّا الْبَيِّنَة» . وَهَذَا مُرْسل. قَالَ عبد الْحق وَغَيره: مَرَاسِيل الْحسن أَضْعَف الْمَرَاسِيل، وَعَزاهُ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» فِي ذكر الْغيرَة إِلَى رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث سعيد بن سعد بن عبَادَة قَالَ: « [حضر] سعد بن عبَادَة عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله [إِن] وجدت عَلَى بطن امْرَأَتي رجلا أضربه بسيفي؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: كتاب الله وَالشُّهَدَاء ثمَّ قَالَ: أَي بَيِّنَة أبين من السَّيْف، ثمَّ رَجَعَ فِي قَوْله فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: كتاب الله وَالشُّهَدَاء فَقَالَ: أَي بَيِّنَة أبين من السَّيْف فَقَالَ: كتاب الله وَالشُّهَدَاء، يَا معشر الْأَنْصَار هَذَا سيدكم استفزته الْغيرَة حَتَّى خَالف كتاب الله ... » . الحَدِيث بِطُولِهِ، وأصل الحَدِيث ثَابت فِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن سعد بن عبَادَة قَالَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَرَأَيْت لَو أَنِّي وجدت مَعَ أمراتي رجلا أمهله حَتَّى آتِي بأَرْبعَة شُهَدَاء؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: نعم» . وَفِي رِوَايَة لَهُ أَرَأَيْت الرجل يجد مَعَ امْرَأَته رجلا أَيَقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: [لَا] . قَالَ سعد: بلَى وَالَّذِي (بَعثك) بِالْحَقِّ.(9/12)
فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اسمعوا إِلَى مَا يَقُول سيدكم» .
تَنْبِيه: ذكر القَاضِي حُسَيْن من أَصْحَابنَا هَذَا الحَدِيث [الَّذِي] أوردهُ الرَّافِعِيّ، وَقَالَ فِيهِ بدل «سعد بن عبَادَة» «سعد بن أبي وَقاص» ، وَهُوَ غَرِيب.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن يعْلى بن أُميَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «غزوت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَيش الْعسرَة، وَكَانَ لي أجِير فقاتل إنْسَانا، فعض أَحدهمَا يَد الآخر، فَانْتزع المعضوض يَده من فيّ العاض، فَذَهَبت إِحْدَى ثنيتيه، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأهدر ثنيته وَقَالَ لَهُ: أيدع يَده فِي فِيك تقضمها كَأَنَّهَا فيّ فَحل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِنَحْوِهِ، وَهَذَا لَفْظهمَا: «غزوت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَيش الْعسرَة وَكَانَ من أوثق أعمالي فِي نَفسِي فَكَانَ لي أجِير فقاتل إنْسَانا فعض أَحدهمَا يَد صَاحبه فَانْتزع إصبعه فأندر ثنيته فَسَقَطت فَانْطَلق إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأهدر ثنيته وَقَالَ: أيدع إصبعه فِي فِيك تعضها كَمَا يعَض الْفَحْل» وَفِي رِوَايَة لَهما «فَانْتزع يَده من فِيهِ فَقطع ثنيته» . وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث عمرَان ابْن حُصَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رجلا عض يَد رجل ... » الحَدِيث.(9/13)
فَائِدَة: قَوْله: يقضمها كَمَا يقضم الْفَحْل هُوَ بِفَتْح الضَّاد فيهمَا عَلَى اللُّغَة الفصيحة، [وَمَعْنَاهَا] تعضها، قَالَ أهل اللُّغَة: القضم بأطراف الْأَسْنَان.
فَائِدَة ثَانِيَة: وَقع فِي «صَحِيح مُسلم» أَن المعضوض يعْلى بن منية - بِضَم الْمِيم وَإِسْكَان النُّون وَبعدهَا يَاء مثناة تَحت - وَيُقَال: ابْن أُميَّة - بِضَم الْهمزَة - ينْسب تَارَة إِلَى أَبِيه أُميَّة، وَتارَة إِلَى أمه منية، وَقيل: جدته، وَوَقع فِيهِ أَيْضا أَن المعضوض هُوَ أجِير ليعلى، لَا يعْلى، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح مُسلم» : قَالَ [الْحفاظ] : الصَّحِيح الْمَعْرُوف أَنه أجِير يعْلى، لَا يعْلى، وَيحْتَمل أَنَّهُمَا قضيتان جرتا ليعلى، وأجيره فِي وَقت أَو وَقْتَيْنِ.
الحَدِيث السَّادِس
عَن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رجلا اطلع من جُحر فِي حجرَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مدرى يحك بهَا رَأسه، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: لَو أعلم أَنَّك تنظرني لطعنت بِهِ فِي عَيْنك، إِنَّمَا جعل الاسْتِئْذَان من أجل النّظر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ(9/14)
الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة لَهما «يرجل بِهِ رَأسه» .
فَائِدَة: المِدْرى - بِكَسْر الْمِيم وَإِسْكَان الدَّال الْمُهْملَة وبالقصر - حَدِيدَة يسوى بهَا شعر الرَّأْس، وَقيل: سنة الْمشْط، وَقيل: أَعْوَاد تحدد تجْعَل شبه الْمشْط وتدل لَهما الرِّوَايَة الثَّانِيَة، وَقيل: عود تسوي بِهِ الْمَرْأَة شعرهَا. وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: «لَو أعلم أَنَّك تنتظرني» قَالَ القَاضِي عِيَاض: كَذَا رَوَاهُ الْجُمْهُور، وَفِي بعض النّسخ «تنظرني» بِحَذْف الثَّانِيَة وَهِي الصَّوَاب، وَتحمل الأولَى عَلَيْهَا.
والجحر - بِضَم الْجِيم، وَإِسْكَان الْحَاء - هُوَ الْبَيْت. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخاتل النّظر ليرمي عينه بالمدرى» .
قلت: هَذَا صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رجلا اطلع من بعض حجر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بمشقص أَو بمشاقص فَكَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يخْتل الرجل ليطعنه» وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ «أَن رجلا اطلع فِي بَيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِسدد إِلَيْهِ مشقصًا» وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ فِي بَيته فَاطلع عَلَيْهِ رجل فَأَهْوَى إِلَيْهِ بمشقص فَتَأَخر» وَفِي رِوَايَة للنسائي «أَن أَعْرَابِيًا أَتَى بَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فألقم عينه خصَاصَة الْبَاب(9/15)
فَبَصر بِهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فتوخاه بحديدة أَو عود ليفقأ عينه فَلَمَّا أَن بصر انقمع فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أما إِنَّك لَو ثَبت لفقأت عَيْنك» .
فَائِدَة: المشاقص جمع مشقص، وَقيل: نصل عريض السهْم، وَقيل غير ذَلِك، ويختله - بِفَتْح أَوله وَكسر التَّاء - أَي: [يُدَاورُه] ويطلبه من حَيْثُ لَا يشْعر، وَمَعْنى «ألقم عينه خصَاصَة الْبَاب فَبَصر بِهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» أَي جعل الشق الَّذِي فِي الْبَاب محاذي عينه فَكَأَنَّهُ جعل الْخَصَاصَة لعَينه لقْمَة. والخصاصة وَاحِد الخصاص، وَهِي الثقب، والشقوق الَّذِي يكون فِي الْأَبْوَاب. والانقماع: (الارتواء) .
الحَدِيث السَّابِع
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَو اطلع أحد فِي بَيْتك، وَلم تَأذن لَهُ فخذفته بحصاة ففقأت عينه مَا كَانَ عَلَيْك من جنَاح» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة لَهما: «من اطلع فِي بَيت قوم بِغَيْر إذْنهمْ فقد حل أَن يفقئوا عينه» .
فَائِدَة: خذفته - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة - أَي رميته بهَا من بَين إصبعيك(9/16)
ففقأت عينه، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى «فَلَا قَود وَلَا دِيَة» قلت: هَذِه الرِّوَايَة صَحِيحَة أخرجهَا أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من اطلع فِي بَيت قوم بِغَيْر إذْنهمْ [ففقؤا] عينه فَلَا دِيَة وَلَا قصاص» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الخلافيات» : إِسْنَاده صَحِيح. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» أَيْضا وَلَفظه «فقد هدرت عينه» قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الاقتراح» : وَهِي عَلَى شَرط مُسلم. وَوَقع فِي «تَحْقِيق ابْن الْجَوْزِيّ» عزو هَذَا الحَدِيث إِلَى رِوَايَة البُخَارِيّ وَمُسلم، وَلَعَلَّ مُرَاده أَنَّهُمَا أخرجَا أَصله لَا هَذَا اللَّفْظ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فيهمَا وَلَا فِي أَحدهمَا، وَفِي رِوَايَة للبيهقي من حَدِيث ابْن عمر «مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْء» . هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فَذكر فِيهِ: «أَن جَارِيَة كَانَت تحتطب فَرَاوَدَهَا رجل عَن نَفسهَا فرمته بفهر فَقتلته، فَرفع ذَلِك إِلَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالَ: قَتِيل الله، وَالله لَا يودى أبدا» .
وَهُوَ أثر جيد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث الْقَاسِم(9/17)
بن مُحَمَّد، عَن عبيد بن عُمَيْر «أَن رجلا أضَاف نَاسا من هُذَيْل فَذَهَبت جَارِيَة لَهُم تحتطب فأرادها رجل عَن نَفسهَا فرمته ... » إِلَى آخِره بِمثل مَا ذكره المُصَنّف سَوَاء. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الرّبيع: قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا عندنَا من عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن (السّنة) قَامَت عِنْده عَلَى الْمَقْتُول أَو عَلَى أَن [ولي] الْمَقْتُول أقرّ عِنْده بِمَا يُوجب لَهُ أَن يقتل الْمَقْتُول.
ذكر فِيهِ «أَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه منع عُبَيْدَة من الدّفع يَوْم الدَّار، وَقَالَ: من ألْقَى سلاحه فَهُوَ حر» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي «نهايته» أَنه صَحَّ عَنهُ فَقَالَ: وَصَحَّ عَن عُثْمَان «أَنه استسلم يَوْم الدَّار، وَقَالَ: لَا أحب أَن يراق فِي محجم دم. وَكَانَ مَعَه فِي الدَّار أَرْبَعمِائَة من الغلمان الشاكين فِي السِّلَاح فَقَالَ: من ألْقَى سلاحه فَهُوَ حر» قَالَ الرَّافِعِيّ: واشتهر ذَلِك فِي الصَّحَابَة وَلم يُنكره وَاحِد.(9/18)
بَاب ضَمَان مَا تتلفه الْبَهَائِم
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثا وَاحِدًا:
وَهُوَ حَدِيث حرَام بن سعد بن محيصة «أَن نَاقَة للبراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه دخلت حَائِط قوم فأفسدت فِيهِ، فَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن عَلَى أهل الْأَمْوَال حفظهَا بِالنَّهَارِ وَمَا أفسدته الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ فَهُوَ ضَامِن عَلَى أَهلهَا» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الْأَئِمَّة مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالْحَاكِم، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَابْن حبَان، وَالْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَنقل الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: أَخذنَا بِهَذَا الحَدِيث قَضَاء لثُبُوته واتصاله، وَمَعْرِفَة رِجَاله قَالَ: وَلَا يُخَالف هَذَا الحَدِيث حَدِيث «العجماء جرحها جَبَّار» وَلَكِن «العجماء جرحها جَبَّار» جملَة من الْكَلَام الْعَام الْمخْرج الَّذِي يُرَاد بِهِ الْخَاص فَلَمَّا قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «العجماء جَبَّار» وَقَضَى فِيمَا أفسدته العجماء بِشَيْء فِي(9/19)
حَال، دون حَال دلّ ذَلِك عَلَى أَن مَا أصَاب العجماء من جرح وَغَيره فِي حَال [جَبَّار] ، وَفِي حَال غير جَبَّار، وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بعد أَن ذكره من طَرِيق أبي دَاوُد، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حرَام بن محيصة، عَن الْبَراء، ثمَّ قَالَ: حرَام لم يسمع من الْبَراء. قَالَ: وَرَوَاهُ معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حرَام بن محيصة، عَن أَبِيه، عَن الْبَراء. وَلم يُتَابع عَلَى قَوْله: عَن أَبِيه. قَالَ: وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حرَام بن سعد، وَسَعِيد بن الْمسيب، عَن الْبَراء قَالَ: وَفِيه اخْتِلَاف أَكثر من هَذَا. وَهَذَا قَول أبي مُحَمَّد بن حزم: «وَرَوَاهُ الزُّهْرِيّ أَيْضا عَن أبي أُمَامَة [بن] سهل بن حنيف «أَن نَاقَة للبراء ... » فصح أَنه مُرْسل؛ لِأَن حَرَامًا لَيْسَ هُوَ ابْن محيصة لصلبه، إِنَّمَا هُوَ ابْن سعد بن محيصة، وَسعد لم يسمع من الْبَراء، وَلَا أَبُو أُمَامَة» .
قلت: رَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ جمَاعَة مِنْهُم الْأَوْزَاعِيّ، وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة، وَعبد الله بن عِيسَى، وَكلهمْ قَالُوا: عَن الزُّهْرِيّ، عَن حرَام، عَن الْبَراء لم يذكرُوا وَالِد حرَام، وَرَوَاهُ اللَّيْث بن سعد عَن الزُّهْرِيّ فَقَالَ: [أَن] ابْن محيصة أخبرهُ «أَن نَاقَة الْبَراء ... » وَانْفَرَدَ معمر وَحده فَقَالَ: عَن الزُّهْرِيّ، عَن حرَام، عَن أَبِيه، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق مُحَمَّد(9/20)
بن أبي حَفْصَة ميسرَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن الْبَراء، وَطَرِيق أبي أُمَامَة غَرِيبَة وَسَيَأْتِي، وَأخرج ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» الحَدِيث من طَرِيق معمر عَن الزُّهْرِيّ، وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَأخرجه أَحْمد من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ، وَقَول عبد الْحق: وَفِيه اخْتِلَاف، أَكثر من هَذَا بيَّنه ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه فَقَالَ: وَفِيه سَبْعَة أَقْوَال:
أَولهَا: معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن حرَام عَن أَبِيه فِي أبي دَاوُد.
ثَانِيهَا: الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن حرَام عَن الْبَراء فِيهِ أَيْضا. قلت: ومسند أَحْمد أَيْضا.
ثَالِثهَا: مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن حرَام.
رَابِعهَا: [معن] بن عِيسَى، عَن مَالك، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حرَام، عَن جده محيصة فِي مُسْند الْجَوْهَرِي لأحاديث الْمُوَطَّأ.
خَامِسهَا: ابْن عُيَيْنَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حرَام.
سادسها: ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ أَخْبرنِي أَبُو أُمَامَة «أَن نَاقَة للبراء ... » ذكره ابْن عبد الْبر.
سابعها: قَول ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ بَلغنِي «أَن نَاقَة للبراء ... »(9/21)
ذكره أَبُو عمر أَيْضا، قَالَ ابْن الْقطَّان: [وَلَا] أبعد عَلَى هَذَا.
فَائِدَة: قَالَ الرَّافِعِيّ: أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام بالأموال الزَّرْع والبساتين، وَقَوله: «ضَامِن عَلَى أَهلهَا» أَي: مَضْمُون كَقَوْلِهِم: سر كاتم، أَي مَكْتُوم.(9/22)
كتاب السّير(9/23)
كتاب السّير
وَفِيه ثَلَاثَة أَبْوَاب:
الأول: فِي وُجُوبه.
وَثَانِيها: فِي كيفيته.
وَثَالِثهَا: فِي تَركه بالأمان.
الْبَاب الأول
فِي وجوب الْجِهَاد. ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ اثْنَيْنِ وَعشْرين حَدِيثا.
أَحدهَا
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله ... » الحَدِيث.
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عبد الله بن عمر، وَقد تقدم بِطُولِهِ فِي كتاب الدِّيات وَكتاب الرِّدَّة.
الحَدِيث الثَّانِي
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ: أَي الْأَعْمَال أفضل؟ فَقَالَ: الصَّلَاة لوَقْتهَا. قيل: ثمَّ أَي؟ قَالَ: بر الْوَالِدين.، قيل: ثمَّ أَي؟ قَالَ: الْجِهَاد فِي سَبِيل الله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث(9/25)
عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَقد سلف فِي أثْنَاء التَّيَمُّم وَاضحا.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ [لغدوة] فِي سَبِيل الله أَو رَوْحَة خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « [لغدوة] فِي سَبِيل الله أَو رَوْحَة خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَأخرجه مُسلم من حَدِيث سهل بن سعد، وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
الحَدِيث الرَّابِع
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الْمُقدمَة الَّتِي افْتتح بهَا هَذَا الْكتاب: وَلما هَاجر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْمَدِينَة وَجَبت الْهِجْرَة إِلَيْهَا عَلَى من قدر قَالَ تَعَالَى: (إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة (إِلَى قَوْله (والولدان) فَلَمَّا فتحت مَكَّة ارْتَفَعت الْهِجْرَة مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة، وَعَلَى ذَلِك جَرَى حَدِيث «لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح» وَبَقِي وجوب الْهِجْرَة عَن دَار الْكفْر فِي الْجُمْلَة انْتَهَى.(9/26)
أما الحَدِيث الصَّحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك بِزِيَادَة «وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة، وَإِذا استنفرتم فانفروا» وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (كَمَا عزاهُ إِلَيْهِمَا) الْحميدِي فِي جمعه بَين الصَّحِيحَيْنِ فِي قسم الْمُتَّفق عَلَيْهِ، وَأما عبد الْحق فَقَالَ: لم يخرج البُخَارِيّ عَن عَائِشَة فِي هَذَا شَيْئا، وَأخرجه النَّسَائِيّ من حَدِيث صَفْوَان بن أُميَّة، وَأخرجه الْخَطِيب فِي «تلخيصه» من حَدِيث غزيَّة بن الْحَارِث مَرْفُوعا «لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح، إِنَّمَا هُوَ الْحَشْر وَالنِّيَّة وَالْجهَاد» .
وَإِنَّمَا التَّأْوِيل الذى أبداه فَهُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ فِيهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد: لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح كَامِلَة الْفضل كَالَّتِي قبل الْفَتْح، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى تَأْوِيل الحَدِيث تَوْفِيقًا بَينه وَبَين حَدِيث عبد الله بن السَّعْدِيّ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَا تَنْقَطِع الْهِجْرَة مَا قوتل الْكفَّار» .
أخرجه الْبَغَوِيّ وَابْن السكن وَأَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي(9/27)
«صَحِيحه» ، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : بَعْدَمَا أخرجه: وَفِي إِسْنَاده اخْتِلَاف.
الحَدِيث الْخَامِس
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَذكروا فِي خلال هَذِه الْمُقدمَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يعبد صنمًا قطّ» وَورد عَنهُ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «مَا كفر بِاللَّه نَبِي قطّ» انْتَهَى.
وَمَعْنَاهُ صَحِيح بِالْإِجْمَاع.
الحَدِيث السَّادِس
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «من جهز غازيًا فقد غزا، وَمن خلف غازيًا فِي أَهله وَمَاله فقد غزا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور إِلَّا أَنَّهُمَا لم يذكرَا «وَمَاله» وَهِي غَرِيبَة فِي هَذَا الحَدِيث وَلكنهَا ثَابِتَة فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الثَّابِت فِي «صَحِيح مُسلم» «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (بعث إِلَى بني(9/28)
لحيان) ليخرج من كل رجلَيْنِ رجل، ثمَّ قَالَ للقاعد: أَيّكُم خلَف الْخَارِج فِي أَهله وَمَاله [بِخَير] ؛ كَانَ لَهُ مثل نصف أجر الْخَارِج» .
تَنْبِيه: وَقع فِي «الْمُسْتَدْرك» للْحَاكِم أَن حَدِيث زيد أخرجه مُسلم وَحده وَأَن حَدِيث أبي سعيد لم يخرجَاهُ، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ فقد أخرجَا جَمِيعًا حَدِيث زيد، وَأخرج مُسلم حَدِيث أبي سعيد.
الحَدِيث السَّابِع
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غزا بَدْرًا فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة، وأُحُدًا فِي الثَّالِثَة، وَذَات الرّقاع فِي الرَّابِعَة، وغزوة الخَنْدَق فِي الْخَامِسَة، وغزوة بني النَّضِير فِي السَّادِسَة، وَفتح خَيْبَر فِي السَّابِعَة، وَفتح مَكَّة فِي الثَّامِنَة، وغزوة تَبُوك فِي التَّاسِعَة» .
هَذِه الْغَزَوَات ثَابِتَة مَشْهُورَة من أَرْبَاب الْمَغَازِي شهرة تغني عَن سرد الْأَحَادِيث فِيهَا، وَأما مَا ذكره من كَون غَزْوَة بدر فِي السّنة الثَّانِيَة فَلَا شكّ فِي ذَلِك وَلَا مرية، وَكَانَت فِي رَمَضَان قطعا لسبع عشر خلت مِنْهُ وَكَانَت يَوْم الْجُمُعَة عَلَى الْمَشْهُور، وَرَوَى ابْن عَسَاكِر فِي «تَارِيخه» فِي بَاب مولد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِإِسْنَاد فِيهِ ضعف أَنَّهَا كَانَت يَوْم الِاثْنَيْنِ، قَالَ: وَالْمَحْفُوظ أَنَّهَا كَانَت يَوْم الْجُمُعَة، وَوَقع فِي الْمَاوَرْدِيّ أَنَّهَا يَوْم السبت ثَانِي عشر(9/29)
من رَمَضَان، وَوَقع فِي «الْكِفَايَة» لِابْنِ الرّفْعَة أَنَّهَا يَوْم السبت سَابِع عشر فَالله أعلم، وَكَأَنَّهُ يَوْم الْخُرُوج وتاريخ الْوَقْعَة، فَإِن الْخُرُوج يَوْم السبت فِي الثَّانِي عشر وَقيل: فِي الثَّالِث والوقعة سَابِع عشر.
فَائِدَة: بدر مَاء مَعْرُوف وقرية عامرة عَلَى نَحْو أَربع مراحل من الْمَدِينَة، قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي «مغازيه» : وَهِي بِئْر لرجل يُدعَى بدر فسميت باسمه، قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْيَقظَان: كَانَ بدر رجل من بني غفار فنسب المَاء إِلَيْهِ. قَالَ ابْن دحْيَة فِي كتاب «التَّنْوِير فِي مولد السراج الْمُنِير» : هَذَا هذيان وَالزبير أوثق مِنْهُ، وَقد قَالَ: بدر بن مخلد بن الْحَارِث صَارَت بدر الَّذِي سميت بِهِ وَهُوَ احتفرها. وَقَالَ الْحَازِمِي فِي «المؤتلف والمختلف» : وَقيل: بل هُوَ رجل من بني ضَمرَة سكن هَذَا الْموضع فنسب إِلَيْهِ ثمَّ غلب اسْمه عَلَيْهِ. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «أَمَالِيهِ» : وتذكر وتؤنث.
فَائِدَة أُخْرَى: ثَبت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث الْبَراء «أَن عدد أهل بدر ثَلَاثمِائَة وَبضْعَة عشر» ، وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث (ابْن عمر) أَنهم كَانُوا ثَلَاثمِائَة وَتِسْعَة عشر» ، قَالَ الرَّافِعِيّ فِي «أَمَالِيهِ» : وَالْمَشْهُور أَنهم ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر، ثمَّ ذكره بِإِسْنَاد، وَعَن الْبَراء قَالَ: «كُنَّا نتحدث أَن أَصْحَاب بدر كَانُوا بِعَدَد أَصْحَاب طالوت ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر» ، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى سَبْعَة عشر، قَالَ: (وَكَانُوا) ذكرُوا مَا ذكرُوا عَلَى سَبِيل التَّقْرِيب. قَالَ: هَذِه عدَّة(9/30)
الْمُؤمنِينَ، وَأما الْمُشْركُونَ فَفِي الْخَبَر أَنهم كَانُوا ألفا فَرد الْأَخْنَس ثَلَاثمِائَة من بني زهرَة وَبَقِي سَبْعمِائة قَالَه مقَاتل.
وَالثَّانِي: أَنهم كَانُوا دون الْألف وَفَوق السبعمائة فَلَعَلَّ بَعضهم عد الْمُقَاتلَة وَبَعْضهمْ عد الْجَمِيع.
وَأما مَا ذكره من كَون غَزْوَة أحد فِي الثَّالِثَة فَلَا شكّ فِيهِ أَيْضا وَلَا مرية، وَكَانَت يَوْم السبت سَابِع شَوَّال كَذَا قَالَه ابْن الطلاع فِي «أَحْكَامه» ، وَابْن دحْيَة فِي «تنويره» ، والنووى فِي «روضته» ، وَقَالَ فِي «تهذيبه» : لإحدى عشرَة خلت مِنْهُ عَلَى رَأس اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شهرا من الْهِجْرَة وَقَالَ ابْن الطلاع: كَذَا ذكره ابْن الْمفضل وَقَالَ غَيره: لثلاث خلت من شَوَّال.
فَائِدَة: أحد - بِضَم الْهمزَة والحاء - جبل بِجنب الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة عَلَى ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَى نَحْو ميلين مِنْهُ كَانَت هَذِه الْوَقْعَة الْعُظْمَى قتل فِيهَا خَمْسَة وَسَبْعُونَ من الْمُسلمين، وَفِي «الصَّحِيح» «هَذَا جبل يحبنا ونحبه» .
وَأما مَا ذكره من كَون غَزْوَة ذَات الرّقاع فِي الرَّابِع فَهُوَ مَا جزم بِهِ [ابْن] الْجَوْزِيّ فِي «تلقيحه» ، وَكَذَا قَالَ ابْن الْقطَّان: أَنَّهَا كَانَت بعد بني النَّضِير فِي صدر السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة، وَبِه جزم شَيخنَا فتح الدَّين الْيَعْمرِي فِي سيرته الصُّغْرَى، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : هَذَا قَوْله(9/31)
وَالأَصَح أَنَّهَا فِي سنة خمس، وَجزم بِهِ الْمَاوَرْدِيّ، وَهُوَ فِي «الرَّوْضَة» قَالَ: وَهِي فِي أول الْمحرم.
فَائِدَة: فِي سَبَب تَسْمِيَتهَا بذلك خلاف، سلف فِي صَلَاة الْخَوْف الْخلاف فِي سَبَب تَسْمِيَتهَا بذلك ونقلنا هُنَاكَ عَن البُخَارِيّ أَنه ذكر أَنَّهَا بعد خَيْبَر.
وَأما مَا ذكره من كَون غزَاة الخَنْدَق فِي الْخَامِسَة هُوَ مَا جزم بِهِ أَيْضا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تلقيحه» ، وَابْن دحْيَة فِي «تنويره» وَالأَصَح أَنَّهَا فِي الرَّابِعَة فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» فِي أول بَاب غَزْوَة الخَنْدَق قَالَ: قَالَ مُوسَى بن عقبَة كَانَت غَزْوَة الخَنْدَق فِي سنة أَربع. وَقَالَ أَبُو عبيد فِي «الْأَمْوَال» : كَانَت بعد أحد بِسنتَيْنِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ذكر جمَاعَة أَنَّهَا فِي الْخَامِسَة، وَالأَصَح أَنَّهَا فِي الرَّابِعَة، وَقَالَ فِي «تهذيبه» : أَنه الصَّحِيح فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «عرضت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم أحد وَأَنا ابْن أَربع عشرَة سنة فَلم يجزني، وَعرضت عَلَيْهِ يَوْم الخَنْدَق، وَأَنا ابْن خمس عشرَة فأجازني» قَالَ: وَقد اجْمَعُوا أَن أحدا فِي الثَّالِثَة.
فَائِدَة: كَانَت فِي ذِي الْقعدَة، وَقيل: فِي شَوَّال حَكَاهُمَا ابْن الرّفْعَة فِي كِتَابيه، وَكَانَت مُدَّة حصارهم خَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ أرسل الله عَلَى الْكفَّار ريحًا وجنودًا لم يرهَا الْمُسلمُونَ فَهَزَمَهُمْ بهَا، وَالْخَنْدَق هُوَ خَنْدَق الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة حفره عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصْحَابه لما تحزبت عَلَيْهِم الْأَحْزَاب.(9/32)
وَأما غزَاة بني النَّضِير فِي السَّادِسَة فَغَرِيب جدا وَإِن كَانَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ سبقه إِلَى ذَلِك فِي «نهايته» وَنَقله فِي «كِفَايَته» وَأقرهُ عَلَيْهِ فَفِي البُخَارِيّ أَنَّهَا كَانَت بعد بدر بِسنة وَشهر قَالَه عُرْوَة، قَالَ ابْن شهَاب: فِي الْمحرم سنة ثَلَاث، وَقَالَ غَيره: سنة أَربع خرج إِلَيْهِم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَشِيَّة الْجُمُعَة لتسْع مضين من ربيع الأول، وحوصروا ثَلَاث وَعشْرين يَوْمًا وَجزم بِهَذَا الْمَاوَرْدِيّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهَا فِي ربيع الأول سنة أَربع، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» وَالنَّوَوِيّ فِي «روضته» و «تهذيبه» : أَنه سنة ثَلَاث.
قلت: نعم غَزْوَة بني المصطلق كَانَت سنة سِتّ عَلَى الْأَصَح، وَمِمَّنْ صَححهُ ابْن دحْيَة فِي «تنويره» ، وَقيل: سنة خمس (قَالَ) الدمياطي: وَهُوَ الصَّحِيح.
فَائِدَة: النَّضِير بضاد مُعْجمَة غير مشالة بِخِلَاف قُرَيْظَة فَإِنَّهَا بِظَاء مشالة وهما جَمِيعًا من يهود خَيْبَر، وينسبان إِلَى هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام، وَالنضْر هُوَ الذَّهَب، وَكَذَلِكَ النضار بِضَم النُّون.
وَأما كَون فتح خَيْبَر فِي السَّابِعَة فَهُوَ الْمَعْرُوف وَبِه جزم ابْن دحْيَة فِي «تنويره» حَيْثُ قَالَ: خرج إِلَيْهَا فِي صفر سنة سبع؛ لِأَنَّهُ قدم من الْحُدَيْبِيَة عشرَة آلَاف مقَاتل، وَنقل ابْن الطلاع عَن ابْن هِشَام أَنه قَالَ: إِنَّهَا كَانَت فِي صفر سنة سِتّ وَهُوَ غَرِيب، وَجزم فِي الْكِفَايَة هُنَا بِالْأولِ، وَخَالف(9/33)
فِي زَكَاة الثِّيَاب فاعلمه، وَذكر هُنَا أَنه خرج مَعَه من حضر عمْرَة الْحُدَيْبِيَة من الأجناد، وَخَالف فِي كتاب الْحَج.
فَائِدَة: أَقَامَ عَلَيْهِ السَّلَام عَن حِصَار خَيْبَر بضع عشرَة لَيْلَة قَالَ الْحَازِمِي: وخيبر نَاحيَة مَشْهُورَة، وَبَينهَا، وَبَين الْمَدِينَة مسيرَة أَيَّام، وَهِي تشْتَمل عَلَى حصون ومزارع، ونخل كثير قَالَ: وَيُقَال: لأراضي خَيْبَر الخبائر.
وَأما كَون فتح مَكَّة فِي سنة ثَمَان فَهُوَ كَذَلِك وَكَذَا كَون غَزْوَة تَبُوك فِي التَّاسِعَة، وَكَانَ فِي رَجَب وَوَقع فِي الزَّمَخْشَرِيّ فِي سُورَة بَرَاءَة أَنَّهَا فِي الْعَاشِرَة، وَهُوَ عَجِيب، قَالَ الْحَازِمِي فِي «مؤتلفه» : وتبوك بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ وَاو ثمَّ كَاف، قَرْيَة بِنَاحِيَة الشَّام بَينهَا وَبَين وَادي الْقرى مراحل انْتَهَى إِلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما أَرَادَ غَزْوَة الرّوم.
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أنكر عَلَى معَاذ التَّأْوِيل» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي أَوَاخِر كتاب صَلَاة الْجَمَاعَة فِي أثْنَاء بَاب الْمَوَاقِيت فَرَاجعه من ثمَّ.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث ... » الحَدِيث.
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي أثْنَاء بَاب الْمَوَاقِيت فَرَاجعه من ثمَّ.(9/34)
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن ابْن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رد يَوْم بدر نَفرا من أَصْحَابنَا استصغرهم» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه لَا يحضرني من خرجه من هَذَا الطَّرِيق، وَالَّذِي يحضرني مَا أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء قَالَ: «استصغرت أَنا، وَابْن عمر يَوْم بدر» وَأخرج الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عَامر بن سعد عَن أَبِيه قَالَ: «عرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَيْشًا فَرد عُمَيْر بن أبي وَقاص فَبَكَى عُمَيْر فَأَجَازَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَعقد عَلَيْهِ حمائل سَيْفه» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَفِي تَصْحِيحه لَهُ نظر، فَإِن فِي إِسْنَاده يَعْقُوب بن مُحَمَّد الزُّهْرِيّ، وَهُوَ واهٍ، وَأخرج أَيْضا فِي مَنَاقِب سعد بن خَيْثَمَة من «مُسْتَدْركه» «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام استصغره هُوَ، وَزيد بن (جَارِيَة) » ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: فِيهِ نَكَارَة كَيفَ يستصغر من [هُوَ] نقيب، وَرَوَى الْحَافِظ(9/35)
أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي «معرفَة الصَّحَابَة» بِإِسْنَادِهِ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام استصغر مُصعب ابْن عُمَيْر، ورده فَبَكَى فَأَجَازَهُ فَكَانَ سعد يَقُول: كنت أعقد لَهُ حمال سيف من صغره، وَقتل ببدر وَهُوَ ابْن سِتَّة عشر سنة» وَرَوَى الْحَاكِم ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث زيد بن (جَارِيَة) [أَن رَسُول الله استصغر نَاسا يَوْم أحد مِنْهُم زيد بن جَارِيَة]- يَعْنِي نَفسه - والبراء بن عَازِب، وَزيد بن أَرقم، وَسعد، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَعبد الله بن عمر، وَجَابِر بن عبد الله قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَل عَلَى النِّسَاء جِهَاد؟ قَالَ: نعم جِهَاد لَا قتال فِيهِ: الْحَج وَالْعمْرَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور بِإِسْنَاد صَحِيح قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَإسْنَاد ابْن مَاجَه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاده حسن، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : [من] مُحَمَّد(9/36)
بن فضل رَاوِيه إِلَى عَائِشَة كلهم من رجال الصَّحِيح، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور لَكِن لَفظه: «قلت: يَا رَسُول الله عَلَى النِّسَاء جِهَاد؟ قَالَ: لَا عَلَيْهِنَّ جِهَاد فِيهِ الْحَج وَالْعمْرَة» ، وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عمرَان بن حطَّان عَن عَائِشَة «يَا رَسُول الله هَل عَلَى النِّسَاء جِهَاد؟ ... » الحَدِيث، وَهَذِه الطَّرِيق معلولة بِأَن عمرَان لم يسمع من عَائِشَة كَمَا قَالَه صَاحب «الاستذكار» ، وبعمران نَفسه قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علل الصَّحِيحَيْنِ» : أخرج البُخَارِيّ حَدِيث عمرَان بن حطَّان عَن ابْن عمر، عَن عمر فِي لبس الْحَرِير، وَعمْرَان مَتْرُوك لسوء اعْتِقَاده، وخبث رَأْيه.
ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك أَنه وَقع فِي رِوَايَة الرَّافِعِيّ لهَذَا الحَدِيث «جِهَاد لَا شوك فِيهِ» بدل «لَا قتال فِيهِ - قَالَ: وَهُوَ السِّلَاح» وَهَذِه اللَّفْظَة غَرِيبَة من حَدِيث عَائِشَة نعم هِيَ مَوْجُودَة فِي حديثين آخَرين أَحدهمَا: عَن الْحُسَيْن بن عَلّي قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي جبان، وَإِنِّي ضَعِيف فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى جِهَاد لَا شوك فِيهِ» . أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَإِسْنَاده جيد وَمُعَاوِيَة بن إِسْحَاق الْمَذْكُور فِيهِ وَثَّقَهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَأَبُو حَاتِم، وَخَالف أَبُو زرْعَة فَقَالَ: شيخ واهٍ.(9/37)
الثَّانِي: عَن عُثْمَان بن أبي سُلَيْمَان عَن جدته أم أَبِيه قَالَت: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي أُرِيد الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فَقَالَ: أدلك عَلَى جِهَاد لَا شوك فِيهِ، قَالَ: بلَى، قَالَ: حج الْبَيْت» . فِي إِسْنَاده الْوَلِيد بن أبي ثَوْر، ضعفه النَّسَائِيّ وَغَيره، وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «اسْتَأْذَنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْجِهَاد فَقَالَ: جهادكن الْحَج، وَفِيه أَيْضا قلت: «يَا رَسُول الله نرَى الْجِهَاد أفضل [الْعَمَل] أَفلا نجاهد؟ قَالَ: لكنَّ أفضل الْجِهَاد حج مبرور» وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» عَنْهَا «يَا رَسُول الله أَلا نخرج ونجاهد مَعَك فَإِنِّي لَا أرَى عملا فِي الْقُرْآن أفضل من الْجِهَاد؟ قَالَ: (أَلا) إِن لكنَّ [أحسن] الْجِهَاد حج الْبَيْت حج مبرور» . وَفِي «سنَن النَّسَائِيّ» بِإِسْنَاد حسن عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «جِهَاد الْكَبِير [وَالصَّغِير] والضعيف، وَالْمَرْأَة الْحَج وَالْعمْرَة» .(9/38)
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُبَايع الْأَحْرَار عَلَى الْإِسْلَام وَالْجهَاد، وَالْعَبِيد عَلَى الْإِسْلَام دون الْجِهَاد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح لَا يحضرني من خرجه من هَذَا الْوَجْه، وَذكره ابْن الرّفْعَة فِي كِفَايَته من حَدِيث جَابر مطولا وَلم يعزه لأحد، وَهَذَا سياقته عَن جَابر «أَن عبدا قدم عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَبَايعهُ عَلَى الْجِهَاد وَالسَّلَام فَقدم صَاحبه فَأخْبرهُ أَنه مَمْلُوك فَاشْتَرَاهُ (مِنْهُ بعبدين، فَكَانَ بعد ذَلِك إِذا أَتَاهُ من لَا يعرفهُ ليبايعه سَأَلَهُ أحر هُوَ أم عبد، فَإِن قَالَ: حر بَايعه عَلَى الْإِسْلَام، وَالْجهَاد، وَإِن قَالَ: مَمْلُوك بَايعه عَلَى الْإِسْلَام دون الْجِهَاد» ويغني عَنهُ فِي الدّلَالَة [- و] الرَّافِعِيّ: ذكره دَلِيلا عَلَى عدم وُجُوبه عَلَى الرَّقِيق - مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد حسن عَن الْحَارِث بن عبد الله بن [أَبَى] ربيعَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ فِي بعض مغازيه فَمر بأناس من مزينة فَاتبعهُ عبد لامْرَأَة مِنْهُم فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الطَّرِيق سلم عَلَيْهِ قَالَ: فلَان؟ قَالَ: نعم، قَالَ: مَا شَأْنك؟ قَالَ: أجاهد مَعَك، قَالَ: أَذِنت لَك سيدتك؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِع إِلَيْهَا فَإِن مثلك مثل عبد لَا يُصَلِّي إِن مت قبل أَن ترجع إِلَيْهَا فاقرأ عَلَيْهَا السَّلَام فَرجع(9/39)
إِلَيْهَا فَأَخْبرهَا الْخَبَر قَالَت: آللَّهُ هُوَ أَمرك أَن تقْرَأ عَلّي السَّلَام؟ قَالَ: نعم، قَالَت: ارْجع فَجَاهد مَعَه» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث جَابر [بن] عبد الله قَالَ: «جَاءَ عبد فَبَايع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْهِجْرَة وَلم يشْعر أَنه عبد، فجَاء سَيّده يُريدهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: بعنيه فَاشْتَرَاهُ بعبدين أسودين، ثمَّ لم يُبَايع أحدا بعد حَتَّى يسْأَله أعبد هُوَ؟» .
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاستأذنه فِي الْجِهَاد فَقَالَ: أَحَي والداك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: ففيهما فَجَاهد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَقد سلف. فِي بَاب الْإِحْصَار والفوات وَاضحا. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى «أَن رجلا جَاءَ فاستأذنه فِي الْجِهَاد، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيد أَن أجاهد مَعَك. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَلَك أَبَوَانِ؟ قَالَ: نعم. قَالَ كَيفَ تركتهما؟ قَالَ: تركتهما وهما يَبْكِيَانِ. فَقَالَ: ارْجع إِلَيْهِمَا وأضحكهما كَمَا أبكيتهما» .
قلت: هَذِه الرِّوَايَة صَحِيحَة، رَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه(9/40)
من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة أَيْضا. وَقد سلفت فِي الْموضع الْمشَار إِلَيْهِ أَولا وَاضحا.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهَذَا فِي الْأَبَوَيْنِ الْمُسلمين. أما إِذا كَانَ الأبوان أَو الْحَيّ مِنْهُمَا مُشْركًا، فَلَا يحْتَاج فِي الْخُرُوج إِلَى إِذْنه (للتُّهمَةِ) الظَّاهِرَة بالميل إِلَى [أهل] الدَّين، وَكَانَ عبد الله بن أبي بن سلول يَغْزُو مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَمَعْلُوم أَن أَبَاهُ كَانَ يكره ذَلِك فَإِنَّهُ كَانَ يخذل الْأَجَانِب ويمنعهم عَن الْجِهَاد وَهُوَ كَمَا قَالَ.
الحَدِيث الرَّابِع عشر إِلَى [الثَّامِن] عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَردت أَخْبَار كَثِيرَة مَشْهُورَة فِي السَّلام وإفشائه. هُوَ كَمَا قَالَ فلنذكر من ذَلِك خَمْسَة أَحَادِيث: أَحدهَا: عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، أَي الْإِسْلَام خير؟ قَالَ: تطعم الطَّعَام، وتقرأ السَّلَام عَلَى من عرفت وَعَلَى من لم تعرف» أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» .
ثَانِيهمَا: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خلق الله عَزَّ وَجَلَّ آدم عَلَى صورته سِتُّونَ ذِرَاعا، فَلَمَّا خلقه قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَسلم عَلَى أُولَئِكَ [النَّفر - وهم] نفر من الْمَلَائِكَة جُلُوس - فاسمع مَا يحيونك فَإِنَّهَا(9/41)
تحيتك وتحية ذريتك [قَالَ: فَذهب فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم] [فَقَالُوا] : السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، فزادوه وَرَحْمَة الله» أَخْرجَاهُ أَيْضا.
ثَالِثهَا: عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِسبع ونهانا عَن سبع وعدَّ مِنْهَا إفشَاء السَّلَام» أَخْرجَاهُ أَيْضا.
رَابِعهَا: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تدخلون الْجنَّة حَتَّى تؤمنوا، وَلَا تؤمنوا حَتَّى تحَابوا، أَولا أدلكم عَلَى شَيْء إِذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السَّلَام بَيْنكُم» أخرجه مُسلم.
خَامِسهَا: عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «اعبدوا الرَّحْمَن، وأفشوا السَّلَام، وأطعموا الطَّعَام تدخلون الْجنَّة» أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَأخرجه الدَّارمِيّ وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم بأسانيد حَسَنَة من رِوَايَة ابْن سَلام رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «يَا أَيهَا النَّاس أفشوا السَّلَام وأطعموا(9/42)
الطَّعَام، وصلوا الْأَرْحَام، وصلوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نيام، تدخلون الْجنَّة بِسَلام» أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَأخرجه الدَّارمِيّ وَالتِّرْمِذِيّ. قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث صَحِيح، وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَالْأَحَادِيث فِي الْبَاب كَثِيرَة لَا يسعنا أَن نذكرها هُنَا لكثرتها وانتشارها وَهَذَا الْعدَد كافٍ فِيمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيّ.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
ورد فِي الْخَبَر «النَّهْي عَن السَّلَام عَلَى قَاضِي الْحَاجة» .
هُوَ كَمَا قَالَ وَقد مر حَدِيث جَابر وَابْن عمر، أما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيثه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر عَلَيْهِ رجل وَهُوَ يَبُول فسلَّم عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِذا رَأَيْتنِي عَلَى مثل هَذِه الْحَالة فَلَا تسلم عليَّ؛ فَإنَّك إِن فعلت لم أرد عَلَيْك» .
قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لَا أعلم رَوَاهُ غير هَاشم بن الْبَرِيد، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن جَابر.
وَأما حَدِيث ابْن عمر فَأخْرجهُ الشَّافِعِي، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد. قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن رجلا(9/43)
مر عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[وَهُوَ يَبُول فَسلم عَلَيْهِ الرجل فَرد عَلَيْهِ السَّلَام فَلَمَّا جاوزه ناداه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] فَقَالَ: إِنَّمَا حَملَنِي عَلَى الرَّد عَلَيْك خشيَة أَن تذْهب فَتَقول: إِنِّي سلمت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يرد عليَّ، قَالَ: فَإِذا رَأَيْتنِي عَلَى هَذِه الْحَالة فَلَا تسلم عليَّ فَإنَّك إِن تفعل فَإِنِّي لَا أرد عَلَيْك» وَأخرجه الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث سعيد بن سَلمَة، ثَنَا أَبُو بكر رجل من ولد عبد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَعَ اخْتِلَاف فِي بعض اللَّفْظ وَنقص يسير.
قَالَ عبد الْحق: وَأَبُو بكر هَذَا فِيمَا أعلم هُوَ ابْن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عمر، رَوَى عَنهُ مَالك وَغَيره، وَهُوَ لَا بَأْس بِهِ، وَلَكِن حَدِيث مُسلم أصح؛ لِأَنَّهُ من حَدِيث الضَّحَّاك بن عُثْمَان، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن رجلا سلم عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يَبُول فَلم يرد عَلَيْهِ» وَالضَّحَّاك أوثق من أبي بكر، أَو لَعَلَّه كَانَ ذَلِك فِي موطنين.
وَاعْترض ابْن الْقطَّان عَلَيْهِ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي ذكر فِي أبي بكر هَذَا يَنْبَغِي أَن يتَوَقَّف فِيهِ فَإِن الرجل الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد لم نعلم فِيهِ أَكثر من أَنه ولد عبد الله بن عمر، فَمن أَيْن لَهُ أَنه أَبُو بكر بن عمر بن عبد الرَّحْمَن الَّذِي رَوَى عَنهُ مَالك، وَقد كَانَ (مانعه من ذَلِك لَو ثَبت) أَن الَّذِي فِي(9/44)
الْإِسْنَاد، يروي عَن نَافِع، وَالَّذِي توهمه أَنه هُوَ مَعْلُوم الرِّوَايَة عَن ابْن عمر، ويروي عَنهُ مَالك وَغَيره، وَإِلَى هَذَا فَإِن الحَدِيث الْمَذْكُور إِنَّمَا يرويهِ عَن أبي بكر الْمَذْكُور سعيد بن سَلمَة [وَهُوَ ابْن] [أبي] الحسام أَبُو عمر مولَى عمر بن الْخطاب وَهُوَ قد أخرج لَهُ مُسلم، وَإِن كَانَ ابْن معِين سُئِلَ عَنهُ فَلم يعرفهُ وَإِنَّمَا نُرِيد حَاله، وَإِلَّا فقد عرف حَالَة عينه وَنسبه بِالْوَلَاءِ وَرِوَايَة من رَوَى عَنهُ وَعَمن رَوَى قَالَ صَاحب «الإِمَام» : أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق قد تثبت فِي ذَلِك بقوله أَبُو بكر فِيمَا أعلم، وَلم يجْزم بذلك، وَقد وَقع مَا دلّ عَلَى صِحَة ظَنّه؛ فَإِن هَذَا الحَدِيث قد أخرجه ابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» . وَقَالَ: ثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى، ثَنَا عبد الله بن رَجَاء، ثَنَا سعيد - يَعْنِي ابْن سَلمَة - عَن أبي بكر - هُوَ ابْن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب - عَن نَافِع، عَن عبد الله بن عمر [ «أَن رجلا مر برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يهريق المَاء فَسلم عَلَيْهِ الرجل] فَرد عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ قَالَ: إِذا رَأَيْتنِي هَكَذَا فَلَا تسلم عليَّ فَإنَّك إِن تفعل لَا أرد عَلَيْك السَّلَام» .
فَهَذِهِ الرِّوَايَة وَقع فِيهَا نسب أبي بكر هَذَا كَمَا ظن عبد الْحق،(9/45)
وَأَقْوَى من هَذَا رِوَايَة الْحَافِظ أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن إِسْحَاق السراج، ثَنَا مُحَمَّد بن إِدْرِيس الْحَنْظَلِي، ثَنَا عبد الله بن رَجَاء، ثَنَا سعيد بن سَلمَة، حَدثنِي أَبُو بكر بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب بِسَنَدِهِ وَفِيه ثمَّ قَالَ: «إِنَّه لم يحملني عَلَى السَّلَام عَلَيْك إِلَّا أَنِّي خشيت أَن تَقول: سلمت عليَّ فَلم ترد عليَّ السَّلَام» .
قلت: وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الشَّافِعِي السالفة أَيْضا.
فَائِدَة: فِي «شرح الْآثَار» للطحاوي حَدِيث الْمَنْع من رد السَّلَام مَنْسُوخ بِآيَة الْوضُوء وَقيل بِحَدِيث عَائِشَة: «كَانَ يذكر الله عَلَى كل أحيانه» وَزعم الْحسن أَنه لَيْسَ مَنْسُوخا وَتمسك بِمُقْتَضَاهُ.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«أَن أَعْرَابِيًا قعد عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَاسْتحْسن كَلَامه فاستأذنه فِي أَن يقبّل وَجهه فَأذن لَهُ، ثمَّ اسْتَأْذن أَن يقبّل يَده فَأذن لَهُ، ثمَّ اسْتَأْذن فِي أَن يسْجد لَهُ فَلم يَأْذَن لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي «دَلَائِل النُّبُوَّة» من حَدِيث بُرَيْدَة قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله قد أسلمت فأرني شَيْئا أزدد بِهِ يَقِينا، فَقَالَ: فَمَا الَّذِي تريده؟ قَالَ: أُدع تِلْكَ الشَّجَرَة فلتأتك ... » فَذكر حَدِيثا فِي إتْيَان الشَّجَرَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وتسليمها عَلَيْهِ ورجوعها، وَفِي آخِره «فَقَالَ الْأَعرَابِي: ائْذَنْ لي يَا رَسُول(9/46)
الله أَن أقبل رَأسك ورجليك فَفعل، ثمَّ قَالَ: ائْذَنْ لي أَن أَسجد لَك، فَقَالَ: لَا يسْجد أحد لأحد، وَلَو أمرت أحدا أَن يسْجد لأحدٍ لأمرت الْمَرْأَة أَن تسْجد لزَوجهَا لعظم حَقه عَلَيْهَا» . وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث بُرَيْدَة أَيْضا «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله عَلمنِي شَيْئا أزداد بِهِ يَقِينا. قَالَ فَقَالَ: ادْع تِلْكَ الشَّجَرَة، فَدَعَا بهَا فَجَاءَت حَتَّى سلمت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ قَالَ لَهَا: ارجعي فَرَجَعت. قَالَ: ثمَّ أذن لَهُ فَقبل رَأسه وَرجلَيْهِ، وَقَالَ: لَو كنت آمرًا أحدا أَن يسْجد لأحد لأمرت الْمَرْأَة أَن تسْجد لزَوجهَا» ثمَّ قَالَ هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد ذكره فِي كتاب الْبر والصلة وَفِي إِسْنَاده وَإسْنَاد أبي نعيم: حبَان بن عَلّي الْغَزِّي الْكُوفِي أَخُو منْدَل وَقد ضَعَّفُوهُ وَرَوَاهُ صَالح بن حبَان أَيْضا وَقد ضَعَّفُوهُ فَكيف يكون صَحِيح الْإِسْنَاد إِذا قَالَ أَبُو نعيم: وَرَوَاهُ تَمِيم الدَّارِيّ بن عبد الْمُؤمن عَن صَالح بن حبَان وَلَفظه «أَن أَعْرَابِيًا جَاءَ يسْأَل عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَيْن هُوَ؟ حَتَّى وَقع إِلَى قوم جُلُوس من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسلم ثمَّ قَالَ: أَي نَبِي الله آتِيك فَأقبل رَأسك؟ فَقَالَ: نعم. قَالَ: أقبل رجليك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَتَيْتُك مُسلما أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك عَبده وَرَسُوله. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ذَلِك خير لَك ... » فَذكر الحَدِيث فِي طلب إتْيَان الشَّجَرَة وإتيانها ورجوعها وَفِي آخِره «وَقَالَ: يَا نَبِي الله، أَسجد لَك؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا السُّجُود لله ... » الحَدِيث.
قلت: وَتَمِيم هَذَا لَا أعرف حَاله، ثمَّ اعْلَم أَن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَنه لَا يكره التَّعْظِيم بالتقبيل لزهد أَو علم وَكبر سنّ، ويغني(9/47)
عَنهُ فِي الدّلَالَة أَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث زارع رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «كَانَ فِي وَفد عبد الْقَيْس قَالَ: فَجعلنَا نتبادر من رواحنا فنقبل يَد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقبلنَا يَده» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَمِنْهَا حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فِي قصَّة قَالَ: «فَدَنَوْنَا - يَعْنِي من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقبلنَا يَده وَرجله» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا، وَمِنْهَا حَدِيث صَفْوَان بن عَسَّال الْمرَادِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قَالَ يَهُودِيّ لصَاحبه: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِي، فَأتيَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلَاهُ عَن تسع آيَات بَيِّنَات» فَذكر الحَدِيث إِلَى قَوْله: «فقبلوا يَده وَرجله، وَقَالا: نشْهد أَنَّك نَبِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه بأسانيد صَحِيحَة.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «حق الْمُؤمن عَلَى الْمُؤمن سِتَّة: أَن يسلم عَلَيْهِ إِذا لقِيه، وَأَن يجِيبه إِذا دَعَاهُ، وَأَن يشمته إِذا عطس، وَأَن يعودهُ إِذا مرض، وَأَن يشيع جنَازَته إِذا مَاتَ، وَأَن لَا يظنّ فِيهِ إِلَّا خيرا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إِلَّا أَنه قَالَ: «وَإِذا استنصحك فانصح لَهُ» بدل «وَأَن لَا تظن فِيهِ إِلَّا خيرا» وَهَذَا(9/48)
لَفظه «حق الْمُسلم عَلَى الْمُسلم سِتَّة إِذا لَقيته فَسلم عَلَيْهِ، وَإِذا دعَاك فأجبه، وَإِذا استنصحك فانصح، وَإِذا عطس فحمِدَ الله فشمّته، وَإِذا مرض فعده، وَإِذا مَاتَ فَاتبعهُ» وَفِي رِوَايَة لَهُ وللبخاري «حق الْمُسلم خمس: رد السَّلَام، وعيادة الْمَرِيض، وَاتِّبَاع الْجَنَائِز، وَإجَابَة الدعْوَة، وتشميت الْعَاطِس» وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» و «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث أبي إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عَلّي مَرْفُوعا «للْمُسلمِ عَلَى الْمُسلم سِتَّة بِالْمَعْرُوفِ: يسلم عَلَيْهِ إِذا لقِيه، ويجيبه إِذا دَعَاهُ، ويشمته إِذا عطس، ويعوده إِذا مرض، وَيتبع جنَازَته إِذا مَاتَ، وَيُحب لَهُ مَا يحب لنَفسِهِ» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن، وَفِي مُسْند أَحْمد من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن خَالِد بن أبي عمرَان، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَفعه «للمرء الْمُسلم عَلَى أَخِيه من الْمَعْرُوف سِتَّة: تشميته إِذا عطس، ويعوده إِذا مرض، وينصحه إِذا غَابَ أَو شهده، وَيسلم عَلَيْهِ إِذا لقِيه، ويجيبه إِذا دَعَاهُ، ويتبعه إِذا مَاتَ، وَنَهَى عَن هِجْرَة الْمُسلم أَخَاهُ فَوق ثَلَاث» .
وَفِي «مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه» من حَدِيث الأفريقي عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد بن أنعم، عَن أَبِيه، عَن أبي أَيُّوب رَفعه «للْمُسلمِ عَلَى الْمُسلم سِتّ خِصَال وَاجِبَة، فَمن ترك مِنْهَا خصْلَة ترك حَقًا وواجبًا لِأَخِيهِ: أَن(9/49)
يجِيبه إِذا دَعَاهُ، وَيسلم عَلَيْهِ إِذا لقِيه، ويشمته إِذا عطس، ويعوده إِذا مرض، ويشيع جنَازَته إِذا مَاتَ، وينصحه إِذا استنصحه» .
وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يطوف بِالْكَعْبَةِ وَيَقُول: مَا أطيبك (وَأطيب) رِيحك مَا أعظمك (مَا أعظم) حرمتك، وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لحُرْمَة الْمُؤمن أعظم عِنْد الله حُرْمَة منَكِ مَاله وَدَمه، وَأَن لَا يظنّ [بِهِ] إِلَّا خيرا» .
وَقد رُوِيَ حَدِيث غَرِيب جدا من طَرِيق عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَفعه «للْمُسلمِ عَلَى الْمُسلم ثَلَاثُونَ حَقًا لَا بَرَاءَة لَهُ مِنْهَا إِلَّا بِالْأَدَاءِ أَو الْعَفو: يغْفر لَهُ زلته وَيرْحَم عبرته، وَيسْتر عَوْرَته، ويقيل عثرته، وَيقبل معذرته، وَيرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمَّته، وَيعود مريضه، وَيشْهد ميته، ويجيب دَعوته، وَيقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشمت عطسته، وَيرد ضالته، ويشكر نعمه، وَيحسن نصرته، وَيَقْضِي حَاجته، ويتتبع سئلته، وَيرد سَلَامه، ويطيب كَلَامه، ويبر إنعامه، وَيصدق أقسامه، وينصره ظَالِما أَو مَظْلُوما، ويواليه (لَا) يعاديه، فَأَما نصرته ظَالِما فَيردهُ عَن ظلمه، وَأما نصرته مَظْلُوما فيعينه عَلَى أَخذ حَقه وَلَا يُسلمهُ وَلَا يَخْذُلهُ، وَيُحب لَهُ من الْخَيْر مَا يحب لنَفسِهِ، وَيكرهُ لَهُ من الشَّرّ مَا يكره لنَفسِهِ» وَهُوَ حَدِيث مُنكر بِهَذِهِ السِّيَاقَة كلهَا أَنبأَنَا بِهِ شَيخنَا صَلَاح الدَّين العلائي، أَنا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الصَّالِحِي، أَنبأَنَا أَحْمد بن عبد الدايم،(9/50)
أَنا يَحْيَى الثَّقَفِيّ، أبنا إِسْمَاعِيل بن الْفضل، أنبانا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن الذكواني، أبنا جدي أَبُو بكر بن أبي عَلّي، أَنبأَنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن عمر الْبَغْدَادِيّ، نَا أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن جَعْفَر، حَدثنِي أبي، عَن أَبِيه جَعْفَر، عَن أَبِيه مُحَمَّد بن عبد الله، عَن أَبِيه عَلّي بن أبي طَالب فَذكره.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
«أَن جَعْفَر بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما قدم من الْحَبَشَة عانقه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق أحْسنهَا: مَا سَاقه الْخَطِيب فِي كتاب من رَوَى عَن مَالك، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، نَا عبد الله بن طَاوس، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس «أَن جَعْفَر بن أبي طَالب لما قدم من الْحَبَشَة تَلقاهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - واعتنقه وَقبل مَا بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ: مرْحَبًا بأشبههم لي خَلقًا وخُلقًا» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث عمْرَة، عَن عَائِشَة. قَالَت: «لما قدم جَعْفَر من أَرض الْحَبَشَة خرج إِلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعانقه» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، فِي إِسْنَاده أَبُو قَتَادَة الْحَرَّانِي قَالَ: وَقد رُوِيَ عَنْهَا من طَرِيق آخر فِيهِ مُحَمَّد بن عبيد(9/51)
بن عُمَيْر، وَكِلَاهُمَا غير مَحْفُوظ. قَالَ: وهما ضعيفان.
قلت: وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ من طَرِيق مُحَمَّد هَذَا وَلَفظه عَنْهَا «أَنه لما قدم هُوَ وَأَصْحَابه استقبله النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقبل بَين عَيْنَيْهِ» .
ثَالِثهَا: من حَدِيث الشّعبِيّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تلقى جَعْفَر بن أبي طَالب فَالْتَزمهُ وَقبل مَا بَين عَيْنَيْهِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِيه مَعَ الْإِرْسَال الأحلج الْكِنْدِيّ وَهُوَ صَدُوق شيعي جلد ضَعِيف، ووثق. رَوَاهُ أَبُو نعيم مُتَّصِلا بِدُونِ الأحلج وَهَذَا لَفظه عَن عَامر الشّعبِيّ، عَن عبد الله بن جَعْفَر، عَن أَبِيه جَعْفَر قَالَ: «لما قدمت الْمَدِينَة من عِنْد النَّجَاشِيّ تَلقانِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاعتنقني ثمَّ قَالَ: مَا أَدْرِي أَنا بِفَتْح خَيْبَر أفرحْ أم بقدوم جَعْفَر. وَوَافَقَ ذَلِك فتح خَيْبَر» وَرَوَاهُ أَيْضا كَذَلِك الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث مجَالد، عَن الشّعبِيّ بِهِ سَوَاء، وَرَوَاهُ العُقيلي من حَدِيث عبد الله بن جَعْفَر قَالَ «لما قدم جَعْفَر من الْحَبَشَة أَتَاهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقبل بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ: مَا أَنا بِفَتْح خَيْبَر أَشد فَرحا مني بقدوم جَعْفَر» وَفِي إِسْنَاده إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن جَعْفَر. قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه «أَحْكَام النّظر» : حَاله لَا يعرف.
رَابِعهَا: من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «وَجه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَعْفَر بن أبي طَالب إِلَى بِلَاد الْحَبَشَة فَلَمَّا قدم اعتنقه وَقبل بَين عَيْنَيْهِ ثمَّ علمه صَلَاة التَّسْبِيح» .(9/52)
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي آخر بَاب صَلَاة التَّطَوُّع، ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح لَا غُبَار عَلَيْهِ.
قلت: بلَى؛ لِأَن فِيهِ أَحْمد بن دَاوُد بن عبد الْغفار الْحَرَّانِي. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك كَذَّاب. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ بالفسطاط يضع الحَدِيث لَا يحل ذكره فِي الْكتب إِلَّا عَلَى سَبِيل الْإِبَانَة لأَمره ليتنكب حَدِيثه.
خَامِسهَا: من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لما قدم جَعْفَر تَلقاهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقبل جَبهته» رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْفَضَائِل فِي تَرْجَمته من «مُسْتَدْركه» وإرساله هُوَ الصَّوَاب. وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ من حَدِيث مكي بن عبد الله الرعيني، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن أبي الزبير، عَن جَابر: قَالَ: «لما أَن قدم جَعْفَر إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حجل - قَالَ سُفْيَان: يَعْنِي مَشَى عَلَى رجل وَاحِدَة - إعظامًا لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقبل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا أخي أَنْت أشبه النَّاس بخلقي وَخلقِي» قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح وَلَا يعرف إِلَّا بمكي.(9/53)
الْبَاب الثَّانِي: فِي كَيْفيَّة الْجِهَاد
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وأثارًا أما الْأَحَادِيث فسبعة وَسَبْعُونَ حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
قَالَ الرَّافِعِيّ: «يسْتَحبّ إِذا بعث الإِمَام سَرِيَّة أَن يُؤمر عَلَيْهِم أَمِيرا، وَيَأْمُرهُمْ بِطَاعَتِهِ [ويوصيه بهم] » ، و «أَن يَأْخُذ الْبيعَة عَلَى الْجند حَتَّى لَا يَفروا» ، و «أَن يبْعَث الطَّلَائِع» و «يتجسس أَخْبَار الْكفَّار» ، و «يسْتَحبّ الْخُرُوج يَوْم الْخَمِيس» «فِي أول النَّهَار» ، و «أَن يعْقد الرَّايَات» ، و «يَجْعَل كل فريق تَحت راية» ، و «يَجْعَل لكل طَائِفَة شعارًا حَتَّى لَا يقتل بَعضهم بَعْضًا بياتًا» ، و «يسْتَحبّ أَن يدْخل دَار الْحَرْب بتعبئة الْحَرْب، لِأَنَّهُ أحوط وأهيب» ، «وَأَن يستنصر بالضعفاء» ، «وَأَن يَدْعُو عِنْد التقاء الصفين» ، «وَأَن يكبر من غير إِسْرَاف فِي رفع الصَّوْت» ، «وَأَن يحرض النَّاس عَلَى الْقِتَال وَعَلَى الصَّبْر والثبات» ، وكل ذَلِك مَشْهُور فِي سير النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ومغازيه. هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ وَهُوَ مُشْتَمل عَلَى عدَّة أَحَادِيث فلينفرد كل وَاحِد بِعقد.
أما الأول: فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَرِيَّة وَاسْتعْمل عَلَيْهِم رجلا من الْأَنْصَار وَأمرهمْ أَن يسمعوا(9/54)
لَهُ ويطيعوا، فأغضبوه فِي شَيْء فَقَالَ: اجْمَعُوا لي حطبًا فَجمعُوا لَهُ، ثمَّ قَالَ: أوقدوا نَارا فأوقدوا، ثمَّ قَالَ: ألم يَأْمُركُمْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قَالُوا: بلَى. قَالَ: فادخلوها. فَنظر بَعضهم إِلَى بعض وَقَالُوا: إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من النَّار، فَكَانُوا كَذَلِك حَتَّى سكن غَضَبه فطفئت النَّار، فَلَمَّا رجعُوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذكرُوا ذَلِك لَهُ. فَقَالَ: لَو دخلُوا فِيهَا مَا خَرجُوا مِنْهَا أبدا، وَقَالَ: لَا طَاعَة فِي مَعْصِيّة الله إِنَّمَا الطَّاعَة فِي الْمَعْرُوف» .
الحَدِيث الثَّانِي
قَالَ الرَّافِعِيّ: «وَأَن يَأْخُذ الْبيعَة عَلَى الْجند حَتَّى لَا يَفروا» .
هُوَ كَمَا قَالَ فَفِي صَحِيح مُسلم مُنْفَردا بِهِ، ثمَّ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» والسياق لَهُ من حَدِيث معقل بن يسَار رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «بَايع النَّاس رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زمن الْحُدَيْبِيَة وَهُوَ تَحت الشَّجَرَة، وَأَنا رَافع غصنًا من [أَغْصَانهَا] عَن وَجهه لم نُبَايِعهُ عَلَى الْمَوْت وَلَكِن بَايَعْنَاهُ عَلَى أَن لَا نفر، وهم يَوْمئِذٍ ألف وَأَرْبَعمِائَة» وَلَفظ ابْن حبَان «لقد رَأَيْتنِي يَوْم الشَّجَرَة وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُبَايع النَّاس، وَأَنا رَافع غصنًا من أَغْصَانهَا عَن رَأسه وَنحن أَربع عشرَة مائَة، وَقَالَ: لم نُبَايِعهُ عَلَى الْمَوْت وَلَكِن بَايَعْنَاهُ عَلَى أَن لَا نفر» .(9/55)
فَائِدَة: قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : الصَّحِيح أَنهم ألف وَخَمْسمِائة عَلَى مَا قَالَه ابْن الْمسيب.
وَفِي هَذَا الْخَبَر دحض لقَوْل من زعم أَن هَذِه السّنة تفرد بهَا جَابر بن عبد الله. قلت: وَحَدِيث جَابر هَذَا أخرجه مُسلم وَأَصله فِي حَدِيث البُخَارِيّ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو عبد الله بن (بُرَيْدَة) وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع.
الحَدِيث الثَّالِث
قَالَ الرَّافِعِيّ: «وَأَن يبْعَث الطَّلَائِع» .
هُوَ كَمَا قَالَ. فَفِي «صَحِيح مُسلم» مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. قَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[بُسيسة] عينا ينظر مَا صنعت عير أبي سُفْيَان فجَاء وَمَا فِي الْبَيْت أحد غَيْرِي وَغير رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: مَا اسْتثْنى بعض نِسَائِهِ - قَالَ: فَحَدَّثته الحَدِيث فَخرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتكلم فَقَالَ: إِن لنا طلبة فَمن كَانَ ظَهره حَاضرا فليركب مَعنا، فَجعل رجال يستأذنونه فِي ظُهُورهمْ فِي علو الْمَدِينَة فَقَالَ: لَا، إِلَّا من كَانَ ظَهره حَاضرا. فَانْطَلق(9/56)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَصْحَابه حَتَّى سبقوا الْمُشْركين إِلَى بدر، وَجَاء الْمُشْركُونَ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: [لَا يقدمن أحد مِنْكُم إِلَى شَيْء حَتَّى أكون أَنا دونه، فَدَنَا الْمُشْركُونَ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] : قومُوا إِلَى جنَّة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَقَالَ: يَقُول عُمَيْر بن الْحمام الْأنْصَارِيّ: يَا رَسُول الله، جنَّة عرضهَا السماوت وَالْأَرْض [قَالَ: نعم، قَالَ] : بخ بخ يَا رَسُول الله، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا يحملك عَلَى قَوْلك بخ بخ؟ ! قَالَ: لَا وَالله يَا رَسُول الله إِلَّا رَجَاء أَن أكون من أَهلهَا. قَالَ: فَإنَّك من أَهلهَا، قَالَ: فَأخْرج تمرات من قرنه فَجعل يَأْكُل مِنْهُنَّ، ثمَّ قَالَ: لَئِن أَنا حييت حَتَّى آكل تمراتي هَذِه إِنَّهَا لحياة طَوِيلَة. قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَه من التَّمْر ثمَّ قَاتلهم حَتَّى قتل» وَأما الْحَاكِم فَإِنَّهُ أخرجه من هَذِه الْوَجْه من عِنْد قَوْله «قومُوا إِلَى الْجنَّة» إِلَى آخِره فِي تَرْجَمَة عُمَيْر ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ، وَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ: أَن عُمَيْر بن الْحمام أنْشد عِنْد مقدمه إِلَى الْقِتَال.
«ركضنا إِلَى الله بِغَيْر زَاد
وَالصَّبْر فِي الله عَلَى الْجِهَاد
وَخير مَا قاد إِلَى الرشاد
إِلَى التقَى صَالح الْمعَاد
إِن التقَى من أعظم السداد
وكل حَيّ فَإلَى معاد
ثمَّ قَالَ: فَلم يزل يُقَاتل حَتَّى قتل» .
قَالَ ابْن نَاصِر فِي قصَّة عُمَيْر بن الْحمام الْأنْصَارِيّ: أَنه اسْتشْهد(9/57)
فِي وقْعَة أحد. وَهَذَا غَرِيب فَفِي الصَّحِيح كَمَا تقدم أَن ذَلِك فِي بدر وَكَذَا قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ إِن قصَّته كَانَت يَوْم بدر لَا يَوْم أحد وَهُوَ الصَّوَاب.
وَنقل الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي «معرفَة الصَّحَابَة» عَن عبد الْغَنِيّ أَنه قَالَ فِي حَدِيث جَابر يَوْم أحد، وَفِي حَدِيث أنس: يَوْم بدر وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
فَائِدَة: قَالَ أَبُو نعيم فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» ذكره أَعنِي عُمَيْر بن الْحمام بعض الواهمين وصحف فِيهِ. فَقَالَ: تَمِيم بن الْحمام قتل ببدر.
الحَدِيث الرَّابِع
قَالَ: «ويتجسس (الْكفَّار» ) .
هُوَ كَمَا قَالَ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث [جَابر] قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم الْأَحْزَاب «من يأتيني بِخَبَر الْقَوْم إِن لكل نَبِي حوارِي، وحواري الزبير» .
وَفِي مُسلم من حَدِيث أنس قَالَ: «بعث النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بسيسة عينا ينظر مَا صنعت عير أبي سُفْيَان فجَاء فحدثه الحَدِيث فَخرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتكلم، فَقَالَ: إِن لنا طلبة فَمن كَانَ ظَهره حَاضرا فليركب مَعنا، فَجعل رجال يستأذنون فِي ظُهُورهمْ فِي علو الْمَدِينَة، فَقَالَ: لَا، إِلَّا من كَانَ ظَهره حَاضرا، فَانْطَلق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَصْحَابه حَتَّى سبقوا الْمُشْركين إِلَى(9/58)
بدر» . وَفِيه أَيْضا من حَدِيث حُذَيْفَة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَيْلَة الْأَحْزَاب: «أَلا رجل يأتينا بِخَبَر الْقَوْم» الحَدِيث بِطُولِهِ.
الحَدِيث الْخَامِس
قَالَ: «وَيسْتَحب الْخُرُوج يَوْم الْخَمِيس» .
هُوَ كَمَا قَالَ فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» عَن كَعْب بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج من الْخَمِيس فِي غَزْوَة تَبُوك، وَكَانَ يحب أَن يخرج يَوْم الْخَمِيس» .
الحَدِيث السَّادِس
قَالَ: «فِي أول النَّهَار» .
وَهُوَ كَمَا قَالَ فَفِي «مُسْند أَحْمد» و «السّنَن الْأَرْبَعَة» من حَدِيث صَخْر بن ودَاعَة الغامدي - بالغين الْمُعْجَمَة و [الدَّال]- الْأَزْدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «اللَّهُمَّ بَارك لأمتي فِي بكورها، قَالَ: كَانَ إِذا بعث سَرِيَّة أَو جَيْشًا بَعثهمْ من أول النَّهَار، وَكَانَ صَخْر رجلا تَاجِرًا، وَكَانَ يبْعَث تِجَارَته من أول النَّهَار فَأُسْرِيَ وَكثر مَاله» .(9/59)
ونفاه الْمجد فِي «أَحْكَامه» عَن النَّسَائِيّ، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ فَهُوَ فِيهِ كَمَا عزيناه إِلَيْهِ. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن، وَخَالَفنَا ابْن الْقطَّان فَقَالَ فِي «علله» : تَحْسِين عبد الْحق لَهُ خطأ وَابْن الْجَوْزِيّ فَقَالَ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ يرويهِ عمَارَة بن حَدِيد، عَن صَخْر. قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: عمَارَة مَجْهُول. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا يعرف.
قلت: لَكِن ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» فِي التَّابِعين وَقَالَ: رَوَى عَن صَخْر الغامدي، وَرَوَى عَنهُ [يعْلى] بن عَطاء، وَأخرجه فِي «صَحِيحه» من طَرِيقين من جِهَته، وَله شَوَاهِد من غير هَذَا الحَدِيث كَمَا ستعلمه بعد. قَالَ ابْن طَاهِر الْحَافِظ فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الشهَاب» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ جماعات من الصَّحَابَة، وَلم يخرج مِنْهَا - يَعْنِي فِي الصَّحِيح - عَلَى كثرتها شَيْء، وأقربها إِلَى الصِّحَّة والشهرة هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي رُءُوس الْمسَائِل: قد حسن التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَكَذَا قَالَ غَيره من الْحفاظ؛ أَنه حَدِيث حسن صَحِيح. قَالَ: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طرق كَثِيرَة من حَدِيث عَلّي والعبادلة، وَجَابِر بن عبد الله، وَعبد الله بن مَسْعُود، وَعمْرَان بن حُصَيْن، وَعبد الله بن سَلام، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَبُرَيْدَة بن الْحصين، وَسَهل بن سعد السَّاعِدِيّ، وَأبي رَافع مولَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَعمارَة بن وثيمة، وَأبي بكرَة ذكر هَذِه الطّرق كلهَا(9/60)
الْحَافِظ عبد الْقَادِر الرهاوي فِي «أربعينه» ، وَطَرِيق بُرَيْدَة ذكرهَا ابْن السكن فِي «صحاحه» ، وَذكره ابْن مَنْدَه فِي «مُسْنده» من حَدِيث نبيط بن شريط، وواثلة بن الْأَسْقَع أَيْضا. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من حَدِيث عَلّي وَابْن مَسْعُود وَأبي ذَر وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَكَعب بن مَالك وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر وَبُرَيْدَة وَأنس و [العُرس] بن عميرَة، وَأبي رَافع وَعَائِشَة وَقَالَ: كلهَا لَا تثبت، ثمَّ ذكر سَبَب ذَلِك وَاضحا، وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» قَالَ: إِنِّي لَا أعلم فِي «اللَّهُمَّ بَارك لأمتي فِي بكورها» [حَدِيثا صَحِيحا] .
فَائِدَة: رَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث أنس بِزِيَادَة وَهَذَا لَفظه «اللَّهُمَّ بَارك لأمتي فِي بكورها يَوْم خميسها» . لَكِنَّهَا ذَاهِبَة بِسَبَب عَنْبَسَة بن عبد الرَّحْمَن الوضاع الْمَذْكُور فِي إسنادها. وَرَوَاهَا الْبَزَّار أَيْضا من حَدِيث أبي جَمْرَة عَن ابْن عَبَّاس رَفعه «اللَّهُمَّ بَارك لأمتي فِي بكورها يَوْم خميسها» وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تسألن رجلا حَاجَة [بلَيْل] وَلَا يسألن (رجل) أَعْمَى حَاجَة [فَإِن الْحيَاء] فِي الْعَينَيْنِ» قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث(9/61)
لَا نعلمهُ رَوَاهُ عَن أبي جَمْرَة إِلَّا عَمْرو بن مساور، وَعَمْرو رَوَى عَنهُ عَفَّان وَجَمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث وَلم يكن بِالْقَوِيّ وَلَا نعلم لَهُ غير هذَيْن الْحَدِيثين.
قلت: وَعَمْرو هَذَا نسبه مَجْهُول. قلت: وَرَوَى زِيَادَة نَسَبهَا أَيْضا وَهِي مفتعلة كَمَا شهد بذلك أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ الْحَافِظ.
فَائِدَة ثَانِيَة: قَالَ التِّرْمِذِيّ لَا نَعْرِف لصخر غير هَذَا الحَدِيث - يَعْنِي السالف - وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَالْبَغوِيّ وَابْن عبد الْبر.
قلت: وَله حَدِيث آخر لم يخرجَاهُ وَهُوَ حَدِيث «لَا تسبو الْأَمْوَات فتؤذوا الْأَحْيَاء» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، عَن عبد الله بن مُحَمَّد، نَا الْفرْيَابِيّ، نَا سُفْيَان، عَن شُعْبَة، عَن يعْلى بن عَطاء، عَن عمَارَة، عَن صَخْر بِهِ.
الحَدِيث السَّابِع
قَالَ: «وَأَن يعْقد الرَّايَات» .
وَهُوَ كَمَا قَالَ وَسَيَأْتِي ذَلِك من حَدِيث عُرْوَة بن الزبير بِطُولِهِ،(9/62)
وَتَنَاول أَيْضا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «لَأُعْطيَن الرَّايَة رجلا يحب الله وَرَسُوله، وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله فَأَعْطَاهَا لعَلي» الحَدِيث بِطُولِهِ، وَقد جَاءَت أَحَادِيث عدَّة فِي لون راية النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَفِي التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَت راية النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[سَوْدَاء، و] [لِوَاؤُهُ] أَبيض» وَفِي إِسْنَاده يزِيد بن حَيَّان أَخُو مقَاتل بن حَيَّان قَالَ البُخَارِيّ: عِنْده غلط كَبِير.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» مستشهدًا بِهِ بِلَفْظ «كَانَ لِوَاء النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبيض، ورايته سَوْدَاء» . وَفِي السّنَن الْأَرْبَعَة من حَدِيث الْبَراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَت راية النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَوْدَاء مربَّعة من نمرة» حسنه التِّرْمِذِيّ، وَأعله ابْن الْقطَّان بِيُونُس بن عبيد الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده، وَقَالَ: لَا يعرف إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث، وَفِي أبي دَاوُد من حَدِيث سماك بن حَرْب، عَن رجل من قومه، عَن آخر مِنْهُم قَالَ: «رَأَيْت راية النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صفراء» .(9/63)
وَفِي إِسْنَاده جَهَالَة كَمَا ترَى. وَفِي ابْن السكن من حَدِيث [مزيدة] العصري. قَالَ: «عقد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رايات الْأَنْصَار جَعلهنَّ صفراء» ألزم ابْن الْقطَّان عبد الْحق بِتَصْحِيحِهِ. وَفِي «السّنَن الْأَرْبَعَة» أَيْضا وصحيحي ابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل مَكَّة عَام الْفَتْح وَلِوَاؤُهُ أَبيض» . قَالَ التِّرْمِذِيّ وَالْبُخَارِيّ: غَرِيب، وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَفِي النَّسَائِيّ من حَدِيث أنس «أَن ابْن أم مَكْتُوم كَانَت مَعَه راية سَوْدَاء فِي بعض مشَاهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . قَالَ ابْن الْقطَّان: إِسْنَاده صَحِيح قَالَ: وَهِي بِلَا شكّ من رايات رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الحَدِيث الثَّامِن
قَالَ: «وَيجْعَل كل أَمِير تَحت راية» .
هُوَ كَمَا قَالَ [فَفِي] «صَحِيح البُخَارِيّ» من حَدِيث عُرْوَة(9/64)
بن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. قَالَ: «لما سَار رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام الْفَتْح فَبلغ ذَلِك قُريْشًا، خرج أَبُو سُفْيَان بن حَرْب وَحَكِيم بن حزَام وبُدَيل بن وَرْقَاء يَلْتَمِسُونَ الْخَبَر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوا مَرّ الظهْرَان، فَإِذا هم بنيران كَأَنَّهَا نيران عَرَفَة، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: مَا هَذِه؟ [لكأنها] نيران عَرَفَة. فَقَالَ بديل بن وَرْقَاء: نيران بني عَمْرو. فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: عَمْرو أقل من ذَلِك. فَرَآهُمْ نَاس من حرس رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأدركوهم فَأَخَذُوهُمْ فَأتوا بهم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَأسلم أَبُو سُفْيَان، فَلَمَّا سَار قَالَ للْعَبَّاس: أحبس أَبَا سُفْيَان عِنْد خطم الْجَبَل حَتَّى ينظر إِلَى الْمُسلمين فحبسه الْعَبَّاس، فَجعلت الْقَبَائِل تمر مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، تمر كَتِيبَة كَتِيبَة عَلَى أبي سُفْيَان، فمرت كَتِيبَة فَقَالَ: يَا عَبَّاس من هَذِه؟ قَالَ: هَذِه غفار. قَالَ: مَالِي وَلِغفار، ثمَّ مرت جُهَيْنَة فَقَالَ مثل ذَلِك، ثمَّ مرت سعد بن هذيم فَقَالَ مثل ذَلِك، ثمَّ مرت سُليم فَقَالَ مثل ذَلِك، حَتَّى أَقبلت كَتِيبَة لم ير مثلهَا، قَالَ: من هَذِه؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَار عَلَيْهِم سعد بن عبَادَة وَمَعَهُ الرَّايَة، فَقَالَ سعد بن عبَادَة: يَا أَبَا سُفْيَان، الْيَوْم يَوْم الملحمة الْيَوْم تستحل الْكَعْبَة. فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: يَا عَبَّاس حبذا يَوْم الذمار. ثمَّ جَاءَت كَتِيبَة وَهِي أقل الْكَتَائِب فيهم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَصْحَابه، وَرَايَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَعَ الزبير فَلَمَّا مر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِأبي سُفْيَان، قَالَ: ألم تعلم مَا قَالَ سعد بن عبَادَة؟ قَالَ: مَا قَالَ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: كذب سعد [وَلَكِن] هَذَا يَوْم يعظم الله فِيهِ الْكَعْبَة [وَيَوْم تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَة] . قَالَ: وَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تركز(9/65)
رايته بالحجون، وَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْمئِذٍ خَالِد بن الْوَلِيد أَن يدْخل من أَعلَى مَكَّة من كداء، وَدخل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من كدا فَقتل من خيل خَالِد بن الْوَلِيد رجلَانِ حُبَيْش بن الْأَشْعر وكرز بن جَابر الفِهري» .
الحَدِيث التَّاسِع
قَالَ: «وَيجْعَل لكل طَائِفَة شعارًا حَتَّى لَا يقتل بَعضهم بَعْضًا بياتًا» .
هُوَ كَمَا قَالَ فَفِي «سنَن النَّسَائِيّ» و «صَحِيح الْحَاكِم» من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب قَالَ: قَالَ لنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِنَّكُم سَتَلْقَوْنَ الْعَدو غَدا، فَلْيَكُن شِعَاركُمْ حم لَا ينْصرُونَ» وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث الْمُهلب بن أبي صفرَة، عَمَّن سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثله، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، قَالَ: وَالرجل الَّذِي لم يسمعهُ الْمُهلب هُوَ الْبَراء بن عَازِب، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا وَلَفظه - حَدثنِي رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَيْلَة الخَنْدَق « [إِنِّي] لَا أرَى الْقَوْم إِلَّا يبيتوكم اللَّيْلَة فَإِن شِعَاركُمْ [حم] لَا ينْصرُونَ» وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : سكت عبد الْحق عَنهُ وَهُوَ عَمَّن لم يسم.
قلت: لَا يضرّهُ؛ لِأَنَّهُ صَحَابِيّ فَلَا يضر جهالته، وَفِي «صَحِيح الْحَاكِم» من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «جعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(9/66)
شعار الْمُهَاجِرين يَوْم بدر عبد الرَّحْمَن [والأوس بني عبد الله] والخزرج عبيد الله» ثمَّ قَالَ: حَدِيث غَرِيب صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: لَا فَفِيهِ يَعْقُوب بن مُحَمَّد الزُّهْرِيّ، وَإِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن أبي حَبِيبَة وهما ضعيفان، وَفِي «صَحِيح الْحَاكِم» أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جعل شعار الأزد يَا مبرور يَا مبرور» . ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَفِيه نظر أَيْضا؛ لِأَن فِيهِ إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن زُرَارَة الرقي، قَالَ الْأَزْدِيّ فِي حَقه: مُنكر الحَدِيث، وَأما ابْن حبَان فوثقه. وَفِي النَّسَائِيّ من حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ سيمانا يَوْم بدر الصُّوف الْأَبْيَض» وَفِيه وَأبي دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع، قَالَ: «أمَّر علينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبَا بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لَيْلَة بيتنا هوَازن فَكَانَ من شعارنا أمت أمت» .
الحَدِيث الْعَاشِر
قَالَ: «وَيسْتَحب أَن يدْخل دَار الْحَرْب بتعبئة الْحَرْب؛ لِأَنَّهُ أحوط وأهيب» .(9/67)
وَهُوَ كَمَا قَالَ فَحَدِيث عُرْوَة السالف قَرِيبا فِي مرورهم عَلَى أبي سُفْيَان قَبيلَة قَبيلَة إِلَى آخر مَا سلف وَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَالْبَزَّار من حَدِيث عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. قَالَ: «عبأنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ببدر لَيْلًا ... » رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن حميد الرَّازِيّ، ثَنَا سَلمَة بن الْفضل، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن عِكْرِمَة. قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَنهُ فَلم يعرفهُ - يَعْنِي الحَدِيث - وَقَالَ: مُحَمَّد بن إِسْحَاق سمع من عِكْرِمَة؛ وَحين رَأَيْته كَانَ حسن الرَّأْي فِي مُحَمَّد بن حميد ثمَّ ضعفه بعد.
قلت: وَغير البُخَارِيّ نَفَى سَمَاعه مِنْهُ، وَأدْخل بَينهمَا يزِيد بن أبي حبيب وَسَلَمَة بن الْفضل ضَعِيف، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق الكوسج: أشهد عَلَى مُحَمَّد بن حميد [أَنه] كَذَّاب، وَرَوَاهُ الْبَزَّار، عَن عبد الله بن شبيب، ثَنَا إِبْرَاهِيم بن يَحْيَى بن هَانِئ، ثَنَا أبي، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن ثَوْر - يَعْنِي ابْن يزِيد - عَن عِكْرِمَة بِهِ وَيَحْيَى هَذَا. قَالَ أَبُو حَاتِم: ضَعِيف. وَقَالَ السَّاجِي: أَحَادِيثه مَنَاكِير وأغاليط، وَكَانَ ضريرًا يلقن بِحَدِيث عَن ابْن إِسْحَاق.(9/68)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
قَالَ: «وَأَن يستنصر بالضعفاء» .
وَهُوَ كَمَا قَالَ فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه رَأَى أَن لَهُ فضلا عَلَى من دونه. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَل ترزقون وتنصرون إِلَّا بضعفائكم» زَاد النَّسَائِيّ: «بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء د س ت وَصَححهُ، وَكَذَا ابْن حبَان وَالْحَاكِم.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
قَالَ: «وَأَن يَدْعُو عِنْد التقاء الصفين» .
وَهُوَ كَمَا قَالَ فَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث سهل بن سعد السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ساعتان تفتح فيهمَا أَبْوَاب السَّمَاء عِنْد حُضُور الصَّلَاة وَعند الصَّفّ فِي سَبِيل الله» وَفِي رِوَايَة لَهُ «ساعتان(9/69)
لَا ترد عَلَى داعٍ دَعوته حِين تُقَام الصَّلَاة وَفِي الصَّفّ فِي سَبِيل الله» . وَفِي رِوَايَة لَهُ فِي كتاب «وصف الصَّلَاة بِالسنةِ» وَهِي عَلَى شَرط صَحِيحه «عِنْد النداء بِالصَّلَاةِ، والصف فِي سَبِيل الله» ، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد «اثْنَان لَا يردان الدُّعَاء عِنْد النداء بِالصَّلَاةِ، والصف فِي سَبِيل الله، وَعند الْبَأْس حِين يلحم بَعضهم بَعْضًا» وَرَوَاهَا الْحَاكِم أَيْضا وَفِي إسنادها رجل مُتَكَلم فِيهِ، وصححها الْحَاكِم وَابْن خُزَيْمَة، وَفِي صَحِيح الْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «إِذا نَادَى الْمُنَادِي فتحت أَبْوَاب السَّمَاء، واستجيب الدُّعَاء، فَمن نزل بِهِ كرب أَو شدَّة فليتحين الْمُنَادِي» ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» بِإِسْنَاد ضَعِيف من حَدِيث أبي أُمَامَة رَفعه «الدُّعَاء يُسْتَجَاب وتفتح أَبْوَاب السَّمَاء فِي أَرْبَعَة مَوَاطِن عِنْد التقاء الصُّفُوف، ونزول الْغَيْث، وَإِقَامَة الصَّلَاة، ورؤية الْكَعْبَة» . وَفِي «الطَّبَرَانِيّ الصَّغِير» من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا «تفتح أَبْوَاب السَّمَاء لخمس: لقرأة الْقُرْآن، و (التقاء) الزحفين، ونزول (الْمَطَر) ، ولدعوة الْمَظْلُوم، وَالْأَذَان» ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع إِلَّا حَفْص تفرد بِهِ عَمْرو بن عون الوَاسِطِيّ.(9/70)
الحَدِيث الثَّالِث عشر
قَالَ: «وَأَن يكبر من غير إِسْرَاف فِي رفع الصَّوْت» .
وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي «البُخَارِيّ» من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «فتح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَيْبَر بكرَة وَقد خَرجُوا بِالْمَسَاحِي فَلَمَّا نظرُوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالُوا: مُحَمَّد وَالْخَمِيس، فَرفع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَدَيْهِ ثمَّ قَالَ: الله أكبر - ثَلَاث مَرَّات خربَتْ خَيْبَر إِنَّا إِذا نزلنَا بِسَاحَة قوم فسَاء صباح الْمُنْذرين» .
الحَدِيث الرَّابِع عشر
قَالَ: «وَأَن يحرض النَّاس عَلَى الْقِتَال وَعَلَى الصَّبْر والثبات» .
هُوَ كَمَا قَالَ: فَفِي «صَحِيح مُسلم» ؛ أَن [أَبَا] مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن [أَبْوَاب] الْجنَّة تَحت ظلال السيوف» و «البُخَارِيّ» مثله من رِوَايَة ابْن أبي أَوْفَى.(9/71)
الحَدِيث الْخَامِس عشر
رُوِيَ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتَعَانَ بيهود بني قينقاع فِي بعض الْغَزَوَات ورضخ لَهُم» .
هَذَا الحَدِيث، رَوَاهُ الشَّافِعِي فَقَالَ: قَالَ أَبُو يُوسُف، أبنا الْحسن بن عمَارَة، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «اسْتَعَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بيهود بني قينقاع ورضخ لَهُم وَلم يُسهم لَهُم» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث لم أَجِدهُ إِلَّا من حَدِيث الْحسن بن عمَارَة وَهُوَ ضَعِيف، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «اسْتَعَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بيهود بني قينقاع فرضخ لَهُم وَلم يُسهم لَهُم» قَالَ الشَّافِعِي: وروينا بإسنادٍ أصح من هَذَا عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ قَالَ: «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى إِذا خلف ثنية الْوَدَاع إِذا كَتِيبَة، قَالَ: من هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: بني قينقاع وَهُوَ رَهْط عبد الله بن سَلام. قَالَ: وَأَسْلمُوا؟ قَالُوا: لَا بل هم عَلَى دينهم. قَالَ: قل لَهُم فليرجعوا فَإنَّا لَا نستعين بالمشركين» .
وَفِي «مَرَاسِيل أبي دَاوُد» من حَدِيث الزُّهْرِيّ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتَعَانَ بناس من الْيَهُود فِي حربه فَأَسْهم لَهُم» وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[أسْهم] ليهود كَانُوا [غزوا] مَعَه مثل سِهَام الْمُسلمين» . وَفِي(9/72)
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ أَيْضا «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أسْهم لقوم من الْيَهُود قَاتلُوا مَعَه» . ومراسيل الزُّهْرِيّ ضَعِيفَة لَا جرم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُنْقَطع. قَالَ الشَّافِعِي: والْحَدِيث الْمُنْقَطع لَا يكون حجَّة.
فَائِدَة: قينقاع قَبيلَة مَعْرُوفَة من الْيَهُود. قَالَ ابْن مَالك فِي «مثلثه» : ونونه مُثَلّثَة، قَالَ: وَهُوَ شعب من الْيَهُود الَّذين كَانُوا بِالْمَدِينَةِ.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أَن صَفْوَان شهد مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَرْب حنين وَهُوَ مُشْرك» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الإِمَام الشَّافِعِي هَكَذَا وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَنه مَعْرُوف فِيمَا بَين أهل الْمَغَازِي.
قلت: وَقد سلف فِي بَاب قسم الصَّدقَات فَليُرَاجع مِنْهُ، وَوَقع فِي «الْكِفَايَة» بعد أَن ذكر أَنه استصحبه مَعَه وَهُوَ مُشْرك، قَالَ: واستصحبه مَعَه فِي غَزْوَة هوَازن، وَهُوَ غَرِيب عَجِيب فَإِنَّهَا وَاحِدَة فحنين اسْم لمَكَان الْقِتَال، وهوازن اسْم للقبيلة الْكَافِرَة الْمُقَاتلَة، وَنَظِير هَذَا مَا وَقع لَهُ فِي كتاب «الْقصاص» الْمطلب حَيْثُ نقل عَن الزُّهْرِيّ وَمُحَمّد بن شهَاب فظنهما اثْنَان و [هما] وَاحِد فَتنبه لَهُ.
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج إِلَى بدر فَتَبِعَهُ رجل من الْمُشْركين فَقَالَ: تؤمن بِاللَّه وَرَسُوله؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْجِع فَلَنْ نستعين(9/73)
بمشرك. ثمَّ أَتَاهُ بعد ذَلِك وَوصف الْإِسْلَام فَقبله واستصحبه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» وَفِيه «أَنه قَالَ للنَّبِي (لَا، مرَّتَيْنِ» جَوَابا لقولة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «تؤمن بِاللَّه وَرَسُوله؟ وَأَنه آمن فِي الثَّالِثَة» فَإِن قلت كَيفَ [الْجَواب عَن الِاخْتِلَاف] بَين هَذَا الحَدِيث، وَالَّذِي قبله قلت: بأوجه ذكرهَا الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب حَيْثُ قَالَ: تحكموا فِي الْجَواب عَن هَذَا الحَدِيث بأوجه. أَحدهَا: أَن الِاسْتِعَانَة كَانَت مَمْنُوعَة ثمَّ رخص فِيهَا.
ثَانِيهَا: [إِنَّمَا لم يستعن] حِينَئِذٍ لفَوَات بعض الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة.
ثَالِثهَا: أَن الْأَمر فِيهِ إِلَى رَأْي الإِمَام فَرَأَى أَن يَسْتَعِين فِي بعض الْغَزَوَات وَلم يره فِي بعض.
رَابِعهَا: أَنه تفرس فِيهِ الرَّغْبَة فِي الْإِسْلَام فَرده رَجَاء أَن يسلم فَصدق ظَنّه. وَهَذَا الْجَواب ذكره الْبَيْهَقِيّ عَن نَص الشَّافِعِي.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
« (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) كَانَ يخرج إِلَى الْغَزْو، وَمَعَهُ عبد الله بن سلول» .
هَذَا مَعْرُوف، أخرجه الْبَيْهَقِيّ وَغَيره قَالَ الرَّافِعِيّ: وَكَانَ عبد الله(9/74)
قد ظهر التخذيل مِنْهُ. قَالَ: والتخذيل هُوَ الَّذِي يتخوف النَّاس بِأَن يَقُول [عَددكم] قَلِيل، وخيولكم ضَعِيفَة، وَلَا طَاقَة لكم بالعدو، وَمَا أشبه ذَلِك. قَالَ: وَتَكَلَّمُوا فِي أَنه لما كَانَ خرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَعَهُ عبد الله بن أبي وحاله هَذَا! فَقيل: كَانَت الصَّحَابَة أقوياء فِي الدَّين لَا يبالون بتخذيله، وَقيل كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يطلع بِالْوَحْي عَلَى أَفعاله فَلَا يستضير بكيده.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من جهز غازيًا فِي سَبِيل الله فقد غزا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَقد تقدم بَيَانه فِي الْبَاب قبله، قَالَ الرَّافِعِيّ وَرُوِيَ «من جهز غازيًا أَو حاجًّا أَو مُعْتَمِرًا فَلهُ مثل أجره» .
قلت: هُوَ فِي «فَضَائِل الْجِهَاد» لِلْحَافِظِ بهاء الدَّين أبي مُحَمَّد الْقَاسِم بن الْحَافِظ أبي الْقَاسِم عَلّي بن عَسَاكِر من حَدِيث الْحسن بن عَطِيَّة وَهُوَ ضَعِيف، ثَنَا سوار الْهَمدَانِي، عَن زِيَاد المصفر، عَن ابْن الْحَنَفِيَّة، عَن أَبِيه. قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من جهز حَاجا أَو غازيًا أَو مُعْتَمِرًا أَو خَلفهم فِي أَهله كَانَ لَهُ مثل أُجُورهم من غير أَن ينتقص من أُجُورهم شَيْء» وَفِي «مُعْجم الصَّحَابَة» لِابْنِ قَانِع عَن إِسْحَاق بن الْحسن الْحَرْبِيّ، ثَنَا هَوْذَة بن خَليفَة، ثَنَا عَمْرو بن قيس، عَن عَطاء، عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من جهز غازيًا فِي(9/75)
سَبِيل الله أَو خَلفه فِي أَهله كَانَ لَهُ مثل أجره من غير أَن ينقص من أجره شَيْئا، وَمن جهز حاجًّا أَو خَلفه فِي أَهله كَانَ لَهُ مثل أجر الْحَاج من غير أَن ينقص من أجره شَيْئا، وَمن فطر صَائِما كَانَ لَهُ مثل أجره» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «المعجم الصَّغِير» من حَدِيث أبي إِسْمَاعِيل الْمُؤَدب عَن يَعْقُوب بن عَطاء، عَن أَبِيه عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ رَفعه «من جهز غازيًا أَو فطر صَائِما أَو جهز حَاجا كَانَ لَهُ مثل أجره من غير أَن ينقص من أجره شَيْئا» ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن يَعْقُوب بن عَطاء إِلَّا أَبُو إِسْمَاعِيل الْمُؤَدب.
الحَدِيث الْعشْرُونَ وحاديه أَيْضا
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - منع أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَوْم أحد عَن قتل ابْنه عبد الرَّحْمَن، وَأَبا حُذَيْفَة بن عتبَة عَن قتل أَبِيه يَوْم بدر» .
هَذَا الحَدِيث مَشْهُور فِي كتب الْمَغَازِي وَالسير وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، فَقَالَ فِي كتاب الْبُغَاة بَاب مَا يكره لأهل الْعدْل من أَن (يتَعَمَّد) قتل ذِي رَحمَه من أهل الْبَغي اسْتِدْلَالا بِمَا رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كف أَبَا حُذَيْفَة بن عتبَة عَن قتل أَبِيه وَأَبا بكر عَن قتل ابْنه» ثمَّ رَوَى من حَدِيث الْوَاقِدِيّ، عَن ابْن أبي الزِّنَاد، عَن أَبِيه. قَالَ: «شهد أَبُو حُذَيْفَة بَدْرًا ودعا أَبَاهُ عتبَة إِلَى البرَاز فَمَنعه عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
قَالَ الْوَاقِدِيّ: عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر لم يزل عَلَى دين قومه(9/76)
فِي الشّرك حَتَّى شهد بَدْرًا مَعَ الْمُشْركين ودعا إِلَى البرَاز فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو بكر ليبارزه فَذكر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأبي بكر: متعنَا بِنَفْسِك» ، ثمَّ إِن عبد الرَّحْمَن أسلم فِي هدنة الْحُدَيْبِيَة.
ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك أَنه وَقع فِي «بسيط الْغَزالِيّ» عَلَى الْعَكْس مِمَّا ذكره الرَّافِعِيّ وَغَيره، فَقَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حُذَيْفَة وَأَبا بكر عَن قتل أبويهما» وَهُوَ وهم وَكَأَنَّهُ صحف مَا ذكره إِمَامه فِي «نهايته» فَإِنَّهُ قَالَ فِي كتاب الْبُغَاة «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبَا حُذَيْفَة بن عتبَة، وَنَهَى أَبَا بكر عَن قتل ابْنه يَوْم أحد» فصحف ابْنه فِي الثَّانِي بِالْيَاءِ بدل النُّون لَا جرم.
قَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا الَّذِي وَقع فِي «الْوَسِيط» وَهُوَ تَصْحِيف وَإِنَّمَا هُوَ «نهَى أَبَا حُذَيْفَة بن عتبَة عَن قتل أَبِيه وَنَهَى أَبَا بكر عَن قتل ابْنه عبد الرَّحْمَن» فتصحف أَبُو حُذَيْفَة بحذيفة وَفِي أبي بكر ابْنه بالنُّون ثَانِيَة قَالَ: ثمَّ فِي ثُبُوت أصل الحَدِيث بعد سَلَامَته من التَّصْحِيف نظر، وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «تهذيبه» : هَذَا الَّذِي فِي «الْوَسِيط» غلط صَرِيح وتصحيف قَبِيح فِي الاسمين جَمِيعًا فَإِنَّمَا صَوَابه «نهَى أَبَا حُذَيْفَة - واسْمه مهشم وَقيل هشيم - عَن قتل أَبِيه يَوْم بدر وَهُوَ أَبُو حُذَيْفَة ابْن عتبَة بن ربيعَة بن عبد شمس بن عبد منَاف، وَأما أَبُو بكر فَهُوَ الصّديق، فَالصَّوَاب عَن قتل ابْنه بالنُّون، وَهُوَ ابْنه عبد الرَّحْمَن وَذَلِكَ يَوْم بدر. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من صَوَاب الاسمين هُوَ الْمَشْهُور الْمَعْرُوف الْمَوْجُود فِي كتب الْمَغَازِي وَكتب الحَدِيث الَّذِي ذكر فِيهَا هذَيْن الْحَدِيثين وَلَا خلاف بَينهم فِيمَا ذَكرْنَاهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي «أغاليط الْوَسِيط» المنسوبة(9/77)
إِلَيْهِ أَنه غلط مُتَّفق عَلَيْهِ وَلَا يخْفَى عَلَى من عِنْده أدنَى علم من النَّقْل، وَصَوَابه مَا سلف.
تَنْبِيه: من الأوهام أَيْضا مَا قَالَه ابْن دَاوُد من أَن ابْن أبي بكر الصّديق الْمشَار إِلَيْهِ غير مُحَمَّد [و] عبد الرَّحْمَن فَإِنَّهُمَا ولدا فِي الْإِسْلَام، وَمَا أسلفناه عَن الْوَاقِدِيّ فِي عبد الرَّحْمَن يردهُ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
رُوِيَ «أَن أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قتل أَبَاهُ حِين سَمعه يسب النَّبِي فَلم يُنكر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَيْهِ صَنِيعه» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب هَكَذَا لَا أعلم من خرجه كَذَلِك وَالَّذِي أعرفهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» ، عَن إِسْمَاعِيل بن سميع الْحَنَفِيّ عَن مَالك بن عُمَيْر. قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي لقِيت الْعَدو، وَلَقِيت أبي فيهم فَسمِعت مِنْهُ مقَالَة قبيحة فطعنته بِالرُّمْحِ فَقتلته فَسكت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . ثمَّ جَاءَ آخر فَقَالَ: «يَا نَبِي الله، إِنِّي لقِيت أبي فتركته [وأحببت] أَن يَلِيهِ غَيْرِي فَسكت عَنهُ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا وَقَالَ: إِنَّه مُرْسل جيد.
قلت: لَكِن إِسْمَاعِيل هَذَا تَركه زَائِدَة. قَالَ يَحْيَى الْقطَّان: إِنَّمَا تَركه لِأَنَّهُ كَانَ صُفريًا. قَالَ الْعقيلِيّ: كَانَ يرَى رَأْي الْخَوَارِج، وَقَالَ أَبُو(9/78)
نعيم: أَقَامَ جارًا لِلْمَسْجِدِ أَرْبَعِينَ سنة لَا يرَى فِي جُمُعَة وَلَا جمَاعَة. قَالَ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالْقطَّان: لَا بَأْس بِهِ. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَمَالك بن عُمَيْر مخضرم لم تصح صحبته وَإِنَّمَا يروي عَن عَلّي وحالته مَجْهُولَة.
قلت: فَإِن كَانَ هَذَا الرجل الْمُبْهم هُوَ الْجراح صَحَّ مَا قَالَه المُصَنّف، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن الْحَاكِم رَوَى فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمته ثمَّ الْبَيْهَقِيّ بإسنادهما، عَن عبد الله بن شَوْذَب قَالَ: «جعل أَبُو أبي عُبَيْدَة بن الْجراح ينصب الْآلهَة لأبي عُبَيْدَة يَوْم بدر وَجعل أَبُو عُبَيْدَة يحيد عَنهُ فَلَمَّا أَكثر الْجراح قَصده أَبُو عُبَيْدَة فَقتله فَأنْزل الله فِيهِ هَذِه الْآيَة حِين قتل أَبَاهُ: (لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم) وَهَذَا مُرْسل عَلَى قَول الْأَكْثَر وَعَلَى قَول من زعم أَن الْمُرْسل لَا يكون إِلَّا من التَّابِعين يكون معضلاً؛ لِأَن عبد الله هَذَا إِنَّمَا يروي عَن التَّابِعين.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن قتل النِّسَاء وَالصبيان» .(9/79)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث نَافِع عَنهُ قَالَ: «وجدت امْرَأَة مقتولة فِي مغازي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَنَهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن قتل النِّسَاء وَالصبيان» وَفِي رِوَايَة لَهما «فَأنْكر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قتل النِّسَاء وَالصبيان» .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بِامْرَأَة مقتولة فِي بعض غَزَوَاته فَقَالَ: مَا بَال هَذِه تُقتل وَلَا تقَاتل؟ !» .
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث ريَاح بن ربيع «أَنه خرج مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي غَزْوَة غَزَاهَا وَعَلَى مقدمته خَالِد بن الْوَلِيد، فَمر ريَاح وَأَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى امْرَأَة مقتولة مِمَّا أَصَابَت المقدِّمة، فوقفوا ينظرُونَ إِلَيْهَا - يَعْنِي: ويعجبون من خلقهَا حَتَّى لحقهم - رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى رَاحِلَته فانفرجوا عَنْهَا، فَوقف [عَلَيْهَا] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: مَا كَانَت هَذِه لتقاتل. فَقَالَ لأَحَدهم: الْحق خَالِدا فَقل لَهُ: لَا تقتلُوا ذُرِّيَّة وَلَا عسيفًا» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «لَا [تقتلن] امْرَأَة وَلَا(9/80)
عسيفًا» وَأَشَارَ إِلَى هَذَا التِّرْمِذِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن رَبَاح بن الرّبيع وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث حَنْظَلَة بن الرّبيع. أخي ريَاح قَالَ: «غزونا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فمررنا عَلَى امْرَأَة مقتولة قد اجْتمع عَلَيْهَا النَّاس فأفرجوا لَهُ، فَقَالَ: مَا كَانَت هَذِه لتقاتل فِيمَن يقاتِل. ثمَّ قَالَ لرجل: انْطلق إِلَى خَالِد بن الْوَلِيد فَقَالَ: قل لَهُ: إِن رَسُول (يَأْمُرك يَقُول: [لَا تقتلن] ذُرِّيَّة وَلَا عسيفًا» هَذَا لفظ ابْن مَاجَه، وَلَفظ النَّسَائِيّ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي غَزْوَة فَمر بِامْرَأَة مقتولة وَالنَّاس عَلَيْهَا ففرجوا لَهُ. فَقَالَ: مَا كَانَت هَذِه تقَاتل. الْحق خَالِدا فَقل لَهُ: لَا تقتل ذُرِّيَّة وَلَا عسيفًا» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن وَابْن جريج عَن أبي الزِّنَاد. وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، عَن المرقع بن صَيْفِي بن رَبَاح أخي حَنْظَلَة الْمكَاتب أَن جده رَبَاح أخبرهُ فَصَارَ الحَدِيث صَحِيحا عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَقَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : سمع هَذَا الْخَبَر المرقع بن صَيْفِي، عَن حَنْظَلَة الْمكَاتب، وسَمعه من جده وجده رَبَاح بن الرّبيع وهما محفوظان، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : لَا بَأْس(9/81)
بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ. فَقَالَ: الصَّحِيح الثَّانِي - يَعْنِي من اللَّذين قدمناهما وَكَذَا فِي «تَارِيخ البُخَارِيّ الْكَبِير» فَإِنَّهُ أخرجه من حَدِيث [المرقع] ، عَن رَبَاح، وَمن حَدِيث المرقع عَن حَنْظَلَة ثمَّ قَالَ: وَهَذَا وهم. وَقَالَ بَعضهم: ريَاح وَلم يثبت. هَذَا لَفظه.
تَنْبِيهَات: أَحدهَا: رَبَاح هَذَا يُقَال فِيهِ بِالْبَاء الْمُوَحدَة ورياح (بِالْيَاءِ) الْمُثَنَّاة تَحت. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: رَبَاح أصح - يَعْنِي بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَمن قَالَ ريَاح - يَعْنِي بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة تَحت - فقد وهم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَا قَالَ أَبُو عِيسَى - يَعْنِي التِّرْمِذِيّ - وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ فِي الصَّحَابَة من يُقَال لَهُ ريَاح - يَعْنِي بِالْمُثَنَّاةِ تَحت - إِلَّا عَلَى اخْتِلَاف فِيهِ أَيْضا. وَقَالَ الْحَازِمِي - عَلَى مَا نَقله الصريفيني عَنهُ - إِنَّه بِالْمُثَنَّاةِ تَحت هُوَ الصَّوَاب. وَقَالَ العسكري: إِن بَعضهم صحفه فَقَالَ: بِالْبَاء - يَعْنِي الْمُوَحدَة - فَقَالَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن الجهم السمري: إِنَّمَا تسمي الْعَرَب العبيد برباح، وَلَا نَعْرِف من الْمَشْهُورين غير رَبَاح بن المغترف.
ثَانِيهَا: فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث اخْتِلَاف مر بعضه.
قَالَ عبد الْحق: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن عمر بن مُرَقع بن صَيْفِي بن رَبَاح بن الرّبيع قَالَ: سَمِعت أبي يحدث، عَن جده رَبَاح بن ربيع. وَرَوَاهُ عَن الْمُغيرَة، عَن أبي الزِّنَاد، عَن المرقع، عَن جده(9/82)
رَبَاح. وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن أبي الزِّنَاد، عَن المرقع، عَن حَنْظَلَة الْكَاتِب، قَالَ: وَيُقَال حَدِيث سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد وهم، ومرقع بن صَيْفِي سمع ابْن عَبَّاس و [جده] رَبَاح بن الرّبيع وَيُقَال: ريَاح. رَوَى عَنهُ: ابْنه عَمْرو، وَأَبُو الزبير، وَأَبُو الزِّنَاد، ومُوسَى بن عقبَة، وَيُونُس بن إِسْحَاق. وَعمر بن مُرَقع لَا بَأْس بِهِ. قَالَه ابْن معِين وَكَذَا الْمُغيرَة لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَهُوَ الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن الْحزَامِي.
ثَالِثهَا: ذكر الشَّافِعِي فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن البغداد - فِيمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ عَنهُ - حَدِيث المرقع هَذَا ثمَّ ضعفه بِأَن مرقعًا لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ. وَكَذَا قَالَ ابْن الْقطَّان أَيْضا فِي «علله» : أَنه لَا يعرف حَاله، وَسَبقه إِلَى ذَلِك ابْن حزم فَإِنَّهُ رده بِهِ فِي «محلاه» مُدعيًا جهالته، وَلَك أَن تَقول قد رَوَى عَنهُ جمَاعَة، وَسمع ابْن عَبَّاس ورباحًا، ووثق كَمَا سلف، وَخرج ابْن حبَان وَالْحَاكِم لَهُ فِي «صَحِيحهمَا» وصححا حَدِيثه فَهُوَ إِذا مَعْرُوف الْحَال.
رَابِعهَا: العسيف: أجِير، وَقيل: الشَّيْخ الفاني، وَقيل: العَبْد. حكاهن الْمُنْذِرِيّ، والذرية: الْمَرْأَة. قَالَه الْهَرَوِيّ، وَعند الْجَوْهَرِي: ذُرِّيَّة الرجل: وَلَده.
خَامِسهَا: هَذِه الْغَزْوَة الَّتِي مر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيهَا بِالْمَرْأَةِ المقتولة غَزْوَة خَيْبَر، وَقيل: الخَنْدَق. حَكَاهُمَا ابْن الرّفْعَة فِي «كِفَايَته» .(9/83)
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بِامْرَأَة مقتولة يَوْم خَيْبَر. فَقَالَ: من قتل هَذِه؟ فَقَالَ رجل: أَنا يَا رَسُول الله، غنمتها فأردفتها خَلْفي، فَلَمَّا رَأَتْ الْهَزِيمَة فِينَا أهوت إِلَى قَائِم سَيفي لتقتلني فقتلتها. فَلم يُنكر عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» بِنَحْوِهِ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، عَن وهيب، عَن أَيُّوب، عَن عِكْرِمَة «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأَى امْرَأَة مقتولة بِالطَّائِف. فَقَالَ: ألم أنْه عَن قتل النِّسَاء؟ من صَاحب هَذِه المقتولة؟ قَالَ رجل من الْقَوْم: أَنا يَا رَسُول الله، أردفتها فَأَرَادَتْ أَن تصرعني فتقتلني، فَأمر بهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن توارى» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث حَفْص بن غياث، عَن الْحجَّاج، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بِامْرَأَة يَوْم الخَنْدَق مقتولة. فَقَالَ: من قتل هَذِه؟ فَقَالَ رجل: أَنا يَا رَسُول الله. قَالَ: وَلم؟ قَالَ: نازعتني سَيفي. فَسكت» .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْركين واستحيوا شرخهم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ أَحْمد فِي «مُسْنده» . فَقَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة، ثَنَا الحَجَّاج، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن سَمُرَة مَرْفُوعا(9/84)
بدل: «اسْتَحْيوا» وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب.
قلت: وَفِيه نظر؛ فَإِن فِي إِسْنَاده سعيد بن بشير، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى تَضْعِيفه كَمَا سلف وَاضحا فِي بَاب كَيْفيَّة الصَّلَاة، وَفِي إِسْنَاد أبي دَاوُد وَأحمد حجاج بن أَرْطَاة وَقد ضَعَّفُوهُ، وَقد ضعف عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» الحَدِيث بهما. فَقَالَ: بعد هَذَا عِلّة أُخْرَى وَهِي الْخلاف فِي سَماع الْحسن من سَمُرَة، وَقد أوضحنا لَك مذاهبهم فِي ذَلِك فِي بَاب صفة الصَّلَاة.
فَائِدَة: الشرخ جمع شارخ. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفسّر بالمراهقين. قلت: يُؤَيّدهُ سِيَاق الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب «الْمعرفَة» إِذْ فِي آخِره: بِمَعْنى الصغار. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فَإِذا كَانَ المُرَاد بالشرخ الصغار فَالْمُرَاد بالشيوخ فِي مُقَاتلَتهمْ الرِّجَال المطلقون. وَفِي «معالم الْخطابِيّ» : يُرِيد بالشرخ الصغار وَمن لم يبلغ مبلغ الرِّجَال والشيوخ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ الشَّبَاب، أَرَادَ بهم الصغار الَّذين لم يبلغُوا الْحلم. قَالَ: وَمِنْه أَرَادَ بالشرخ أهل الْجلد الَّذين يصلحون للْملك والخدمة. وَفِي «جَامع المسانيد» لِابْنِ الْجَوْزِيّ: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: فالشيخ لَا يكَاد يسلم، والشاب أقرب إِلَى الْإِسْلَام، والشرخ: الشَّاب.(9/85)
تَنْبِيه: حَدِيث ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه «قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا بعث سَرِيَّة - قَالَ: لَا تقتلُوا شَيخا كَبِيرا» قد يُعَارض حَدِيث سَمُرَة هَذَا، وَهُوَ حَدِيث أخرجه الطَّحَاوِيّ فِي «شرح الْآثَار» بإسنادٍ كل رِجَاله ثِقَات إِلَّا عَلّي بن [عَابس] فَإِنَّهُ مُتَكَلم فِيهِ وَأخرج لَهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» .
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تقتلُوا النِّسَاء وَلَا أَصْحَاب الصوامع» .
هَذَا الحَدِيث رَوَى أَحْمد بعضه من حَدِيث ابْن أبي حَبِيبَة، عَن دَاوُد بن الْحصين، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا بعث جيوشه قَالَ: اخْرُجُوا بِسم الله، قَاتلُوا فِي سَبِيل الله من كفر، لَا تغلوا، وَلَا تغدروا، وَلَا تمثلوا، وَلَا تقتلُوا الْولدَان وَلَا أَصْحَاب الصوامع» أعله ابْن حزم فِي «محلاه» بِابْن أبي حَبِيبَة. لكنه وَقع فِي النُّسْخَة: إِبْرَاهِيم بن أبي لَبِيبَة وَهُوَ تَصْحِيف من النَّاسِخ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث خَالِد بن زيد. قَالَ: «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(9/86)
مشيعًا لأهل مُؤْتَة حَتَّى بلغ ثنية الْوَدَاع فَوقف ووقفوا حوله فَقَالَ: اغزوا بِسم الله، فَقَاتلُوا عَدو الله وَعَدُوكُمْ بِالشَّام، وستجدون فيهم رجَالًا فِي الصوامع معتزلين من النَّاس فَلَا تعرضوا لَهُم، وستجدون آخَرين للشَّيْطَان فِي رُءُوسهم مفاحص فافلقوها بِالسُّيُوفِ، وَلَا تقتلُوا امْرَأَة وَلَا صَغِيرا ضرعًا وَلَا كَبِيرا فانيًا، وَلَا تقطعن شَجَرَة، وَلَا تعقرن نخلا، وَلَا تهدموا بَيْتا» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث مُنْقَطع وَضَعِيف. وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا بعث جَيْشًا من الْمُسلمين إِلَى الْمُشْركين قَالَ: انْطَلقُوا بِسم الله» وَفِيه: «لَا تقتلُوا وليدًا طفْلا وَلَا امْرَأَة وَلَا شَيخا كَبِيرا، وَلَا تغورنَّ عينا، وَلَا تعقرن شَجرا إِلَّا شَجرا يمنعكم قتالاً أَو يحجز بَيْنكُم وَبَين الْمُشْركين، وَلَا تمثلوا بآدمي وَلَا بَهِيمَة، وَلَا تعذبوا وَلَا تغلوا» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِي إِسْنَاده إرْسَال وَضعف. قَالَ: وَهُوَ بشواهده مَعَ مَا فِيهِ من الْإِرْسَال يقوى.
وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث جرير قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا بعث سَرِيَّة قَالَ: بِسم الله وَفِي سَبِيل الله وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله، لَا تغلوا، وَلَا تغدروا، وَلَا تمثلوا، وَلَا تقتلُوا الْولدَان» فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر بِهَذَا الْإِسْنَاد، فِيهِ ابْن لَهِيعَة وَغَيره، وَلَيْسَ لَهُ أصل بالعراق.(9/87)
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لخَالِد بن الْوَلِيد: لَا تقتل عسيفًا وَلَا امْرَأَة» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه قَرِيبا وَاضحا.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قطع نخل بني النَّضِير» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحهمَا» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حرق نخل بني النَّضِير وَقطع وَحرق البويرة» قَالَ: وَلها يَقُول حسان بن ثَابت:
- وَهَان عَلَى سراة لوي حريق بالبويرة مستطير.
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث:
أدام الله ذَلِك من صَنِيع
وَحرق فِي نَوَاحِيهَا السعير
ستعلم أَيّنَا لنا مِنْهَا بنزه
وَتعلم أَي أرضينا تصير
هَذَا لفظ إِحْدَى روايتي البُخَارِيّ وَلَفظ مُسلم. وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى لَهُ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قطع نخل بني النَّضِير وَحرق. وَلها يَقُول حسان:
وَهَان ... الْبَيْت.
وَفِي ذَلِك نزلت (مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة عَلَى أُصُولهَا فبإذن الله ... ) الْآيَة.(9/88)
وَفِي رِوَايَة للبيهقي بعد.
وَهَان عَلَى سراة ... الْبَيْت.
تركْتُم قدركم لَا شَيْء فِيهَا
وَقدر الْقَوْم حامية تَفُور
وَزَاد ابْن إِسْحَاق فِي الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين بعد تصير:
فَلَو كَانَ النّخل بهَا ركانا
لقالوا لَا مقَام لكم فسيروا
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وأجابه جبل بن حوار الثَّعْلَبِيّ أَيْضا فَذكر أبياتًا آخرهَا: تركْتُم قدركم ... الْبَيْت.
فَائِدَة: قَالَ الْحَازِمِي فِي «المؤتلف والمختلف» : البويرة - بِضَم الْبَاء وَفتح الْوَاو - من منَازِل الْيَهُود بِالْمَدِينَةِ.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
«أَن دُريد بن الصمَّة قتل يَوْم حنين وَقد نَيف عَلَى الْمِائَة، وَكَانُوا قد استحضروه ليدبر لَهُم الْحَرْب فَلم يُنكر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الإِمَام الشَّافِعِي فَقَالَ: «قتل يَوْم حنين دُرَيْد بن الصمَّة ابْن خمسين وَمِائَة سنة فِي شجار وَلَا يَسْتَطِيع الْجُلُوس، فَذكر للنَّبِي (فَلم يُنكر قَتله» .
وَالْمَاوَرْدِيّ قَالَ: «إِنَّه قتل وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرَاهُ فَلم ينْه عَنهُ» . ثمَّ قَالَ: كَانَ عُمره مائَة [و] خمس وَعِشْرُونَ سنة.(9/89)
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن مُحَمَّد بن يسَار فِي قصَّة أَوْطَاس: «فَأدْرك ربيعَة بن رفيع دُرَيْد بن الصمَّة فَأخذ بِخِطَام جمله وَهُوَ يظنّ أَنه امْرَأَة، وَذَلِكَ أَنه كَانَ فِي شجار لَهُ فَإِذا هُوَ بِرَجُل، فَأَنَاخَ بِهِ فَإِذا هُوَ شيخ كَبِير وَإِذا هُوَ دُرَيْد بن الصمَّة وَلَا يعرفهُ الْغُلَام، فَقَالَ دُرَيْد: [مَاذَا] تُرِيدُ؟ قَالَ: قَتلك. قَالَ: وَمن أَنْت؟ قَالَ أَنا ربيعَة بن رفيع السّلمِيّ. ثمَّ ضربه بِسَيْفِهِ فَلم يغن شَيْئا. قَالَ دُرَيْد: بئس مَا سلحتّك أمك، خُذ سَيفي هَذَا من مُؤخر الشجار، ثمَّ اضْرِب بِهِ، وارفع عَن الْعِظَام، واخفض عَن الدِّمَاغ فَإِنِّي بذلك كنت [اقْتُل] الرِّجَال. فَقتله» . وأصل قتلة دُرَيْد ثَابِتَة فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: لما فرغ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من حنين بعث أَبَا عَامر عَلَى جَيش إِلَى أَوْطَاس فلقي دُرَيْد بن الصمَّة فَقتله وَهزمَ الله أَصْحَابه» .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
عَن ابْن مَسْعُود رضى الله عَنهُ: «أَن رجلَيْنِ أَتَيَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رسولين لمُسَيْلمَة، فَقَالَ لَهما: [أتشهدان] أَنِّي رَسُول الله؟ فَقَالَا: نشْهد أَن مُسَيْلمَة رَسُول الله. فَقَالَ: إِنِّي لَو كنت قَاتلا رَسُولا لضَرَبْت أعناقكما» . فجرت السّنة أَن لَا تقتل الرُّسُل.(9/90)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ هَكَذَا الإمامان أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وسميا فِي روايتهما الرجلَيْن أَحدهمَا: عبد الله ابْن النواحة، وَالثَّانِي: ابْن أَثَال وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد «أَن ابْن مَسْعُود قَالَ لخرشة: قُم فَاضْرب عُنُقه. فَقَامَ فَضرب عُنُقه بعد موت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو دَاوُد من حَدِيث سَلمَة بن نعيم بن مَسْعُود، عَن أَبِيه قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول حِين جَاءَهُ رَسُولا مُسَيْلمَة الْكذَّاب بكتابه وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول لَهما: وأنتما تقولان مثل مَا يَقُول؟ قَالَا: نعم. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَوْلَا أَن الرُّسُل لَا تقتل لضَرَبْت أعناقكما» فَكَمَا قَالَ الْحَاكِم هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، ذكر ذَلِك فِي أَوَاخِر كتاب فَضَائِل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من «مُسْتَدْركه» وَذكره فِي كتاب قسم الْفَيْء وَالْغنيمَة من هَذَا الْوَجْه أَيْضا، ثمَّ قَالَ فِي هَذَا: حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
قلت: وَفِي إِسْنَاد كل مِنْهُمَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب «الْمَغَازِي» وَهُوَ من رجال مُسلم مُتَابعَة لَا اسْتِقْلَالا، وَقد عنعن فِي هَذَا الْموضع، وَصرح بِالتَّحْدِيثِ فِي الْموضع الأول [فانجبر] أَحدهمَا بِالْآخرِ، وَعَزاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» إِلَى رِوَايَة الشَّافِعِي فَقَالَ: وَعند الشَّافِعِي عَن عبد الله أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلَا أَنَّك رَسُول - يَعْنِي: رَسُول مُسَيْلمَة - لقتلتك» قَالَ الشَّيْخ: وَهُوَ فِي الصَّحِيح فِي قصَّة بِمَعْنَاهُ. وَرَوَى أَبُو نعيم فِي(9/91)
«معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة وبر بن مشهر «الْحَنَفِيّ أَن مُسَيْلمَة بَعثه هُوَ وَابْن شغَاف الْحَنَفِيّ وَابْن نواحة، فَأَما [وبر] فَإِنَّهُ أسلم، وَأما الْآخرَانِ فَإِنَّهُمَا شَهدا أَنه رَسُول الله وَأَن مُسَيْلمَة من بعده فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «خذوهما. فأُخذا، فأُخرج بهما إِلَى الْمبيت فحبسا. فَقَالَ رجل: هبهما لي يَا رَسُول الله. فَفعل» .
وَفِي إِسْنَاده مُوسَى بن يَعْقُوب وَالظَّاهِر أَنه الزمعِي الَّذِي لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَصَر أهل الطَّائِف شهر» .
أمَّا كَونه عَلَيْهِ السَّلَام حاصَر أهل الطَّائِف فَذَلِك ثَابت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيرهمَا من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أنس بن مَالك بعد أَن ذكر قصَّة فتح مَكَّة «ثمَّ انطلقنا إِلَى الطَّائِف فحاصرناهم أَرْبَعِينَ لَيْلَة ثمَّ رَجعْنَا إِلَى مَكَّة» وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» أبي عبد الله، عَن مُصعب بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه قَالَ: «افْتتح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَكَّة ثمَّ انْصَرف إِلَى الطَّائِف فَحَاصَرَهُمْ سَبْعَة أَو ثَمَانِيَة» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.(9/92)
قلت: فِيهِ نظر؛ لِأَن فِي إِسْنَاده طَلْحَة بن جبر وَلَيْسَ بعمدة.
قَالَ السَّعْدِيّ: هُوَ مَذْمُوم فِي حَدِيثه غير ثِقَة، وَاخْتلف قَول يَحْيَى فِيهِ فَقَالَ مرّة: لَا شَيْء. وَقَالَ مرّة: ثِقَة. وَأما كَونه حاصرها شهرا فَأخْرجهُ (أَبُو) دَاوُد فِي «مراسيله» ، عَن ابْن بشار، ثَنَا يَحْيَى بن سعيد، عَن سُفْيَان، عَن ثَوْر، عَن مَكْحُول «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نصب عَلَى أهل الطَّائِف المنجنيق» ثمَّ رَوَى أَيْضا، عَن أبي صَالح - وَهُوَ مَحْبُوب بن مُوسَى - عَن أبي إِسْحَاق الْفَزارِيّ، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن يَحْيَى - وَهُوَ ابْن أبي كثير - قَالَ: «حَاصَرَهُمْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شهرا» فَقلت: أبلغك أَنه رماهم (بالمجانيق) ؟ فَأنْكر ذَلِك وَقَالَ: مَا نَعْرِف مَا هَذَا. وَرَوَى فِي «سنَنه» من طَرِيقين «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حَاصَرَهُمْ بضعَة عشر لَيْلَة» وَمن طَرِيق ثَالِث عَن أبي عُبَيْدَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حاصر أهل الطَّائِف وَنصب عَلَيْهِم المنجنيق سَبْعَة عشر يَوْمًا» قَالَ أَبُو قلَابَة: وَكَانَ يُنكر عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث. قَالَ [الْبَيْهَقِيّ] كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنه كَانَ يُنكر عَلَيْهِ وصل إِسْنَاده قَالَ: وَيحْتَمل أَنه(9/93)
إِنَّمَا أنكر رميهم يَوْمئِذٍ [بالمجانيق] فقد رَوَى أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» ثمَّ ذكر الْمُرْسل الثَّانِي لأبي دَاوُد ثمَّ قَالَ: كَذَا قَالَ: لم يبلغهُ. وَزعم غَيره أَنه بلغه، ثمَّ ذكر الْمُرْسل الأول من مَرَاسِيل أبي دَاوُد، ثمَّ قَالَ: وَقد ذكره الشَّافِعِي أَيْضا فِي الْقَدِيم. ثمَّ قَالَ: وَقد ذكره الْوَاقِدِيّ عَن شُيُوخه كَمَا ذكره مَكْحُول، وَزعم أَن الَّذِي أَشَارَ بِهِ سلمَان الْفَارِسِي.
فَائِدَة: الطَّائِف بلد مَعْرُوف عَلَى مرحلَتَيْنِ من مَكَّة من جِهَة الْمشرق.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شن الْغَارة عَلَى بني المصطلق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحهمَا» من حَدِيث عبد الله بن عون. قَالَ: «كتبت إِلَى نَافِع أسأله عَن الدُّعَاء قبل الْقِتَال. فَكتب إليَّ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام، وَقد أغار رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى بني المصطلق وهم غَارونَ وأنعامهم تسقى عَلَى المَاء، فَقتل مُقَاتلَتهمْ وسبى ذَرَارِيهمْ، وَأصَاب يَوْمئِذٍ جوَيْرِية» . حَدثنِي بِهِ عبد الله بن [عمر] وَكَانَ فِي ذَلِك الْجَيْش.
فَائِدَة: غَزْوَة بني المصطلق هِيَ غَزْوَة الْمُريْسِيع. قَالَه البُخَارِيّ. قَالَ: وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَذَلِكَ سنة سِتّ. وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة: سنة أَربع. وَقَالَ النُّعْمَان بن رَاشد، عَن الزُّهْرِيّ: كَانَ حَدِيث الْإِفْك فِي غَزْوَة الْمُريْسِيع.(9/94)
فَائِدَة أُخْرَى: ادَّعَى ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» نسخ حَدِيث ابْن عَبَّاس: «مَا قَاتل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قوما حَتَّى دعاهم» بِحَدِيث ابْن عمر هَذَا، قَالَ: والناسخ هُوَ قَول نَافِع «إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام» وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ، وَقد تعقبه عَلَيْهِ ابْن الْجَوْزِيّ الْحَافِظ فِي كِتَابه «الْإِعْلَام» فِي الْفَنّ الْمَذْكُور، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا قَول من يعرف النَّاسِخ والمنسوخ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم يُقَاتل قوما إِلَّا بعد أَن دعاهم؛ لِأَنَّهُ لما شاعت الدعْوَة افْتتح اتساعها ومرورها عَلَى أسماعهم مرَارًا، فَلَمَّا أصروا عَلَى الْكفْر صَارَت الإغارة عَلَيْهِم عَلَى غرتهم من غير تَحْدِيد دَعْوَة حِينَئِذٍ.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بالبيات» .
الَّذِي ورد فِي التبييت مَا أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحهمَا» من حَدِيث الصعب بن جثَّامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسْأَل أهل الدَّار من الْمُشْركين يبيتُونَ فيصاب من نِسَائِهِم وذراريهم. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هم مِنْهُم» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مَا ورد فِي إِبَاحَة التبييت. قَالَ: وَاحْتج الشَّافِعِي أَيْضا فِي إِبَاحَة التبييت بِحَدِيث ابْن عمر فِي قصَّة بني المصطلق الحَدِيث الَّذِي قبله.
فَائِدَة: كَانَ الزُّهْرِيّ إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث يَقُول إِنَّه مَنْسُوخ(9/95)
بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن قتل النِّسَاء وَالصبيان» وَكَذَا ادَّعَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وقبلهما سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأنكر الشَّافِعِي ذَلِك. وَلما نَقله ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «الْإِعْلَام» نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه، عَن الزُّهْرِيّ. قَالَ: لَيْسَ قَوْله بِصَحِيح، وَإِنَّمَا النَّهْي عَن تعمد النِّسَاء وَالصبيان بِالْقَتْلِ، وَحَدِيث الصعب فِيمَا لم يتَعَمَّد، فَلَا تنَاقض.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نصب المنجنيق عَلَى أهل الطَّائِف» .
هَذَا الحَدِيث سلف قَرِيبا وَاضحا.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» فِي بَاب الاسْتِئْذَان عَن قُتَيْبَة، عَن وَكِيع، عَن رجل، عَن ثَوْر بن يزِيد الْحِمصِي «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نصب المنجنيق عَلَى أهل الطَّائِف» .
قَالَ قُتَيْبَة: قلت لوكيع: من هَذَا - يَعْنِي الرجل؟ قَالَ: صَاحبكُم عمر بن هَارُون. قلت: وَهُوَ ضَعِيف.
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الْمُشْركين يبيتُونَ فيصاب من نِسَائِهِم وذراريهم؟ فَقَالَ هم مِنْهُم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف.(9/96)
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن قتل النِّسَاء وَالصبيان» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَقد سلف قَرِيبا.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «زَوَال الدُّنْيَا أَهْون عِنْد الله من قتل مُسلم» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي أول الْخراج وَاضحا.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عدَّ الْفِرَار من الزَّحْف من الْكَبَائِر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف بَيَانه فِي بَاب حد الْقَذْف.
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
«أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت لَو انغمست فِي الْمُشْركين فقاتلتهم حَتَّى قتلت، أَلِي الْجنَّة؟ قَالَ: نعم. فانغمس الرجل فِي صف الْمُشْركين فقاتل حَتَّى قتل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من رِوَايَة ثَابت عَن أنس «أَن رجلا أسود أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي رجل أسود، منتن الرّيح، قَبِيح الْوَجْه، لَا مَال لي، فَإِن أَنا قَاتَلت هَؤُلَاءِ حَتَّى أقتل فَأَيْنَ أَنا؟ قَالَ: فِي الْجنَّة. فقاتل حَتَّى قتل. فَأَتَاهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(9/97)
فَقَالَ: قد بيض الله وَجهك، وَطيب رِيحك، وَأكْثر مَالك - وَقَالَ لهَذَا أَو لغيره -: لقد رَأَيْت زَوجته من الْحور الْعين نازعة جُبَّة لَهُ من صوف تدخل بَينه وَبَين جبته» وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
وَقَالَ الشَّافِعِي: «حمل رجل من الْأَنْصَار حاسرًا عَلَى جمَاعَة الْمُشْركين يَوْم بدر بعد إِعْلَام النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِيَّاه بِمَا فِي ذَلِك من الْخَيْر فَقتل» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هُوَ عَوْف بن عفراء فِيمَا ذكره ابْن إِسْحَاق عَن عمر بن عَاصِم، عَن قَتَادَة قَالَ: «وَلما التقَى النَّاس يَوْم بدر قَالَ عَوْف بن عفراء بن الْحَارِث: يَا رَسُول الله، مَا يضْحك الرب - تبَارك وَتَعَالَى - من [عَبده] ؟ قَالَ: أَن يرَاهُ غمس يَده فِي الْقِتَال يُقَاتل حاسرًا فَنزع عَوْف درعه ثمَّ تقدم فقاتل حَتَّى قتل» .
قلت: وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث جَابر بن عبد الله قَالَ: «قَالَ رجل: أَيْن أَنا يَا رَسُول الله إِن قتلت؟ [قَالَ] : فِي الْجنَّة؟ فَألْقَى تمرات كن فِي يَده، ثمَّ قَاتل حَتَّى قتل» وَفِي رِوَايَة «قَالَ رجل للنَّبِي (يَوْم أحد ... .» .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين
«أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَحَمْزَة وَعبيدَة بن الْحَارِث رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بارزوا يَوْم بدر عتبَة وَشَيْبَة ابْني ربيعَة والوليد بن عتبَة فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما طلبُوا أُولَئِكَ ذَلِك» .(9/98)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَلّي - كرم الله وَجهه - قَالَ: «لما كَانَ يَوْم بدر تقدم عتبَة بن ربيعَة وَتَبعهُ ابْنه وَأَخُوهُ فَنَادَى: من يبارز؟ فَانْتدبَ لَهُ شباب من الْأَنْصَار. فَقَالَ: مِمَّن أَنْتُم؟ فَأَخْبرُوهُمْ. فَقَالُوا: لَا حَاجَة لنا فِيكُم، إِنَّمَا أردنَا بني عمنَا. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قُم يَا حَمْزَة، قُم يَا عَلّي، قُم يَا عُبَيْدَة بن الْحَارِث. فَأقبل حَمْزَة إِلَى عتبَة، وَأَقْبَلت إِلَى شيبَة، وَاخْتلفت بَين عُبَيْدَة والوليد ضربتان فأثخن كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه، ثمَّ ملنا عَلَى الْوَلِيد فقتلناه واحتملنا عُبَيْدَة» وَفِي رِوَايَة للبيهقي فَقَالُوا: «نعم أكفاء كرام، ثمَّ أقبل حَمْزَة ... » بِمثل مَا تقدم، وَرَوَى البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن قيس بن عبَادَة، عَن عليّ قَالَ: «أَنا أول (من يجثو للخصومة) بَين يَدي الرَّحْمَن يَوْم الْقِيَامَة» . قَالَ قيس بن عباد: «وَنزلت فيهم هَذِه الْآيَة (هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم) قَالَ: هم الَّذين تبارزوا يَوْم بدر: عليّ وَحَمْزَة وَعبيدَة بن الْحَارِث، وَشَيْبَة بن ربيعَة وَعتبَة بن ربيعَة والوليد بن عتبَة» . وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَن عليًّا قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي مبارزتنا يَوْم بدر (هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم) » .
وَرَوَى هُوَ وَمُسلم وَهُوَ أحسن حَدِيث فِيهِ، عَن قيس بن عباد(9/99)
قَالَ: «سَمِعت أَبَا ذَر يقسم قسما أَن (هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم) أَنَّهَا نزلت فِي الَّذين بارزوا يَوْم بدر: حَمْزَة وعليّ وَعبيدَة بن الْحَارِث وَعتبَة وَشَيْبَة ابْني ربيعَة والوليد بن عتبَة» .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «أَن عليًّا - كرم الله وَجهه - بارز يَوْم الخَنْدَق عَمْرو بن عبد ود» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد [ذكره] الإِمَام الشَّافِعِي هَكَذَا وأسنده الْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن إِسْحَاق. قَالَ: «خرج - يَعْنِي يَوْم الخَنْدَق - عَمْرو بن عبد ود فَنَادَى: من يبارز؟ فَقَامَ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَهُوَ مقنع فِي الْحَدِيد. فَقَالَ: أَنا لَهَا يَا نَبِي الله. فَقَالَ: إِنَّه عَمْرو، أَجْلِس. فَنَادَى عَمْرو: أَلا رجل وَهُوَ يؤنبهم وَيَقُول: أَيْن جنتكم الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنه من قتل مِنْكُم دَخلهَا، (أَفلا تُبْرِزوا إليَّ رجلٌ) ؟ فَقَامَ عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. فَقَالَ: أَنا يَا رَسُول الله. فَقَالَ: اجْلِسْ. فَنَادَى الثَّالِثَة وَذكر شعرًا. فَقَامَ عَلّي فَقَالَ: أَنا يَا رَسُول الله. فَقَالَ: إِنَّه عَمْرو. قَالَ: وَإِن كَانَ عمرا. فَأذن لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[فَمَشى إِلَيْهِ] حَتَّى أَتَاهُ وَذكر شعرًا. فَقَالَ لَهُ عَمْرو: من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا عَلّي.(9/100)
قَالَ: ابْن عبد منَاف؟ فَقَالَ: أَنا عَلّي بن أبي طَالب. فَقَالَ: غَيْرك يَا ابْن أخي من أعمامك من هُوَ أسن مِنْك؛ فَإِنِّي أكره أَن أهريق دمك. فَقَالَ عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لكني وَالله مَا أكره أَن أهريق دمك. فَغَضب وَنزل وسل سَيْفه كَأَنَّهُ شعلة نَار، ثمَّ أقبل نَحْو عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مغضبًا، واستقبله عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بدرقته، فَضَربهُ عَمْرو فِي الدرقة فقدها وَأثبت فِيهَا السَّيْف، وَأصَاب رَأسه فَشَجَّهُ، وضربه عَلّي كرم الله وَجهه عَلَى حَبل العاتق فَسقط، وثار العجاج، وَسمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - التَّكْبِير فَعرف أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَتله» وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» من حَدِيث بهز بن حَكِيم، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا: «لمبارزة عَلّي لعَمْرو بن عبد ود [يَوْم الخَنْدَق] أفضل من أَعمال أمتِي إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا شَاهد عَجِيب لما تقدم.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْأَرْبَعين
قَالَ الرَّافِعِيّ: «وبارز مُحَمَّد بن [مسلمة] رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَوْم خَيْبَر مرْحَبًا» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد ذكره الشَّافِعِي أَيْضا، فَقَالَ: «بارز مُحَمَّد بن [مسلمة] مرْحَبًا يَوْم خَيْبَر بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن إِسْحَاق - وَمن السِّيرَة نقلت وَإنَّهُ أكمل رِوَايَة من(9/101)
الْبَيْهَقِيّ - قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن سهل أَخُو بني حَارِثَة، عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: «خرج مرحب الْيَهُودِيّ من حصن خَيْبَر قد جمع سلاحه، وَهُوَ يرتجز، وَيَقُول:
قد علمت خَيْبَر أَنِّي مرحب
شاكي السِّلَاح بَطل مجرب
أطعن أَحْيَانًا وحينًا أضْرب
إِذا الكثوب أَقبلت تحرَّب
إِن حِمَاي للحما لَا لَا يقرب
وَهُوَ يَقُول: من يبارز. فَأَجَابَهُ كَعْب بن مَالك. فَقَالَ:
قد علمت خَيْبَر أَنِّي كَعْب
مفرج الغمى جريء صلب
إِذا نشبت الْحَرْب ثمَّ الْحَرْب
معي حسام كالعقيق عضب
نطؤكم حَتَّى يذلَّ الصعب
نعطي الْجَزَاء أَو نفي النهب
بكف مَاض لَيْسَ فِيهِ (عيب)
فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من [لهَذَا] ؟ فَقَالَ مُحَمَّد بن [مسلمة] : أَنا [لَهُ] يَا رَسُول الله، أَنا واللهِ الموتور الثائر؛ قتلوا أخي بالْأَمْس. قَالَ: قُم إِلَيْهِ، اللَّهُمَّ أعنه عَلَيْهِ. قَالَ: فَلَمَّا دنا أَحدهمَا من صَاحبه دخلت بَينهمَا شَجَرَة عمرية من شجر العُشر، فَجعل أَحدهمَا يلوذ بهَا من صَاحبه، كلما لَاذَ بهَا مِنْهُ اقتطع صَاحبه بِسَيْفِهِ مَا دونه مِنْهَا، حَتَّى برز كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه وَصَارَت بَينهمَا كَالرّجلِ الْقَائِم مَا فِيهَا فنن، ثمَّ(9/102)
حمل مرحب عَلَى مُحَمَّد بن [مسلمة] فَضَربهُ، فاتقاه بالدرقة فَوَقع بِسَيْفِهِ فِيهَا فعضت بِهِ فأمسكته، وضربه مُحَمَّد بن [مسلمة] حَتَّى قَتله» .
وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: عَلَى أَن الْأَخْبَار متواترة بأسانيد كَثِيرَة أَن قَاتل مرحب أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلّي كرم الله وَجهه.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْأَرْبَعين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى أَنه بارزه عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَيْضا.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَهِي روايه صَحِيحَة أخرجهَا مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع قَالَ: «قدمنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ. قَالَ: «فَأرْسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَدعُوهُ وَهُوَ أرمد. فَقَالَ: لَأُعْطيَن الرَّايَة الْيَوْم رجلا يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله. فَقَالَ: فَأتيت عليًّا فَجئْت بِهِ أقوده وَهُوَ أرمد حَتَّى أتيت بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فبصق فِي عينه فبرئ. وَخرج مرحب فَقَالَ:
قد علمت خَيْبَر أَنِّي مرحب
شاكي السِّلَاح بَطل مجرب
إِذا الحروب أَقبلت تلهَّب
فَقَالَ عَلّي رضى الله عَنهُ:
أَنا الَّذِي سمتني أُمِّي حيدرة
كليث غابات كريه المنظرة
أوفيهم بالصاع كيل السندرة(9/103)
قَالَ: فَضرب رَأس مرحب فَقتله، ثمَّ كَانَ الْفَتْح عَلَى يَده» .
وَأما الْحَاكِم فَأخْرجهُ بأخصر من هَذَا. ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَيروَى وَفِي رِوَايَة: «فاختلفا ضربتين فبدره عَلّي فَضَربهُ فقدَّ الْحجر والمغفر وَرَأسه وَوَقع فِي الأضراس» وَفِي رِوَايَة. قَالَ: «فَجئْت بِرَأْسِهِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وَقد أسلفنا فِي بَاب قسم الْفَيْء الِاخْتِلَاف فِي أَن عليًّا هُوَ الَّذِي قتل أم مُحَمَّد بن [مسلمة] ، وَذكرنَا أَن الْأَصَح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر السّير أَن عليًّا هُوَ الَّذِي قَتله.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْأَرْبَعين
قَالَ الرَّافِعِيّ: «وبارز الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه [ياسرًا] » .
هُوَ كَمَا قَالَ. وَقد ذكره الشَّافِعِي كَذَلِك. قَالَ ابْن إِسْحَاق ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي قصَّة الخَنْدَق: «ثمَّ خرج يَاسر فبرز لَهُ الزبير. فَقَالَت صَفِيَّة لما برز إِلَيْهِ الزبير: يَا رَسُول الله، يقتل ابْني. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: بل ابْنك يقْتله إِن شَاءَ الله. فَخرج الزبير وَهُوَ يرتجز، ثمَّ التقيا فَقتله الزبير» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ ذكر أَن عليًّا هُوَ الَّذِي قتل ياسرًا.(9/104)
الحَدِيث السَّادِس وَالسَّابِع بعد الْأَرْبَعين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «أَن عوفًا ومعوذًا ابْني عفراء خرجا يَوْم بدر فَلم يُنكر عَلَيْهِمَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هُوَ كَمَا قَالَ. وَقد أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْهُمَا. وَقد سلف وَاضحا فِي كتاب قسم الْفَيْء وَالْغنيمَة.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْأَرْبَعين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «أَن عبد الله بن رَوَاحَة خرج يَوْم بدر إِلَى البرَاز، وَلم يُنكر عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق عَن عَاصِم بن عمر، [بن] قَتَادَة «أَن عتبَة بن ربيعَة خرج بأَخيه شيبَة وَابْنه الْوَلِيد حَتَّى وصل من الصَّفّ دَعَا إِلَى المبارزة فَخرج إِلَيْهِ ثَلَاثَة نفر من الْأَنْصَار: عبد الله بن رَوَاحَة ومعوذ وعَوْف ابْنا عفراء. فَقَالُوا: من أَنْتُم؟ قَالَ: نَحن رَهْط من الْأَنْصَار. فَقَالُوا: أكفاء كرام، مَا لنا بكم حَاجَة، إِنَّا نُرِيد قَومنَا. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قُم يَا عُبَيْدَة بن الْحَارِث، وقم يَا حَمْزَة، وقم يَا عَلّي. فَفَعَلُوا، فَلَمَّا دنوا مِنْهُم. قَالُوا: من أَنْتُم؟ فانتسبوا. فَقَالُوا: أكفاء كرام» ذكر هَذَا الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن الْحَافِظ أبي الْقَاسِم بن عَسَاكِر فِي كِتَابه «فَضَائِل الْجِهَاد» من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم. قَالَ: أَخْبرنِي غير وَاحِد عَن ابْن إِسْحَاق. . فَذكره. وَكَانَ السِّيَاق أَولا فِي حَدِيث بدر.(9/105)
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْأَرْبَعين
قَالَ الرَّافِعِيّ: فِي نقل رُءُوس الْكفَّار إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وَجْهَان: أَحدهمَا: لَا يكره؛ لِأَن أَبَا جهل لما قتل حمل رَأسه. وأصحهما: أَنه يكره، وَهُوَ الَّذِي أوردهُ أَصْحَابنَا الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقَاضِي الرَّوْيَانِيّ، قَالُوا: مَا حمل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأس كَافِر قطّ، وَحمل إِلَى عُثْمَان رُءُوس جمَاعَة من الْمُشْركين فَأنكرهُ. وَقَالَ: مَا فعل هَذَا فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا فِي أَيَّام أبي بكر وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وَمَا رُوِيَ من حمل الرَّأْس إِلَى أبي بكر فقد تكلمُوا فِي ثُبُوته، وَبِتَقْدِير الثُّبُوت فَإِنَّهُ حمل فِي الْوَقْعَة من مَوضِع إِلَى مَوضِع وَلم ينْقل من بلدٍ إِلَى بلد، فكأنهم أَرَادوا أَن ينظر النَّاس إِلَيْهِ فيتحققوا بِمَوْتِهِ.
هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ. وَقد اشْتَمَل عَلَى حَدِيث وأثرين، أما الحَدِيث وَهُوَ حمل رَأس أبي جهل فَأخْرجهُ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة معَاذ بن عَمْرو بن الجموح قَاتله وَأَن ابْن مَسْعُود حزَّها وَجَاء بهَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَرَوَاهُ كَذَلِك أَيْضا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن أبي بشر بكر بن خلف، نَا سَلمَة بن رَجَاء، عَن شعثاء الكوفية، عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى يَوْم بُشر بِرَأْس أبي جهل رَكْعَتَيْنِ» . إِسْنَاده جيد. وَلَا يضر(9/106)
كَلَام بَعضهم فِي سَلمَة بن رَجَاء فقد احْتج بِهِ البُخَارِيّ وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ. قَالَ الْعقيلِيّ: «صَلَّى رَكْعَتَيْنِ حِين أُتِي بِرَأْس أبي جهل» لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذِهِ الطّرق.
وَأما أثر عُثْمَان فَهُوَ كَذَلِك فِي بعض النّسخ الْمُعْتَمدَة وَهُوَ فِي بَعْضهَا: عَن أبي بكر وَهُوَ الصَّوَاب، وَقد أخرجه كَذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَبَوَّبَ بَابا فِيمَا جَاءَ فِي نقل الرُّءُوس. فروَى عَن عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ «أَن عَمْرو بن العَاصِي وشرحبيل ابْن حَسَنَة بعثا عقبَة بريدًا إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِرَأْس ينَّاق بطرِيق الشَّام - قلت: وَهُوَ بياء مثناة تَحت مَفْتُوحَة ثمَّ نون مُشَدّدَة ثمَّ ألف ثمَّ قَاف - فَلَمَّا قدم عَلَى أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنكر ذَلِك. فَقَالَ لَهُ عقبَة: [يَا] خَليفَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَإِنَّهُم يصنعون ذَلِك بِنَا. قَالَ: أفاستنان بِفَارِس وَالروم؟ ! لَا يحمل إليَّ رَأس وَإِنَّمَا يَكْفِي الْكتاب وَالْخَبَر» . وَإِسْنَاده صَحِيح.
والبطريق - بِكَسْر الْبَاء - وَهُوَ كالأمير. قَالَ ابْن الجواليقي: البطريق بلغَة الرّوم هُوَ الْقَائِد أَي: مقدم الجيوش وأميرها، وَجمعه بطارقة وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب.(9/107)
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن مُعَاوِيَة بن خديج قَالَ: «هاجرنا عَلَى عهد أبي بكر الصّديق فَبَيْنَمَا نَحن عِنْده إِذْ طلع الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ. قَالَ: إِنَّه قدم علينا بِرَأْس يناق البطريق وَلم يكن لنا بِهِ حَاجَة إِنَّمَا هَذِه سنة الْعَجم» . وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي» أَن أَبَا بكر الصّديق أُتِي بِرَأْس. فَقَالَ: بغيتم» . وَعَن معمر. قَالَ: حَدثنِي صَاحب لنا عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: «لم يكن يحمل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأس إِلَى الْمَدِينَة قطّ وَلَا يَوْم بدر. وَحمل إِلَى أبي بكر رَأس فَأنْكر ذَلِك. قَالَ: وَأول من حملت إِلَيْهِ الرُّءُوس عبد الله بن الزبير» . وَذكر الْبَيْهَقِيّ فِي الْبَاب قبله عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «جِئْت إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِرَأْس مرحب» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأما حَدِيث أبي دَاوُد الَّذِي رَوَاهُ فِي «مراسيله» عَن أبي نَضرة قَالَ: «لَقِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْعَدو. فَقَالَ: من جَاءَ بِرَأْس فَلهُ عَلَى الله مَا تمنى. فَجَاءَهُ رجلَانِ بِرَأْس فاختصما فِيهِ [فَقَضَى] بِهِ لأَحَدهمَا» فمنقطع. قَالَ أَبُو دَاوُد: فِي هَذَا أَحَادِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا يَصح مِنْهَا شَيْء. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِيه - إِن ثَبت - تحريض عَلَى قتل الْعَدو، وَلَيْسَ فِيهِ نقل الرَّأْس من بِلَاد الشّرك إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام.
قلت: وَأما الحَدِيث الْمَشْهُور فِي «النَّسَائِيّ» وَغَيره من حَدِيث عبد الله بن فَيْرُوز الديلمي، عَن أَبِيه. قَالَ: «أتيت [النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] بِرَأْس(9/108)
الْأسود الْعَنسِي» . فراويه ضَمرَة ثِقَة؛ لكنه لم يُتَابع عَلَيْهِ. قَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «الكنى» : هُوَ وهم لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام ذكر خُرُوج الْعَنسِي صَاحب صنعاء ومسيلمة صَاحب الْيَمَامَة بعده لَا فِي حَيَاته. الثَّانِي: أَن الْأسود بن كَعْب الْعَنسِي قتل سنة إِحْدَى عشرَة فِي عهد أبي بكر، قَتله فَيْرُوز الديلمي. وَخَالف ابْن الْقطَّان فَقَالَ: رِجَاله كلهم ثِقَات (وَمَا) يُقَال أَن ضَمرَة لَا يُتَابع عَلَيْهِ فَإِنَّهُ ثِقَة، وَلأَجل انْفِرَاده بِهِ قيل إِنَّه غَرِيب. قَالَ: وَأما قَول عبد الْحق إِثْر هَذَا الحَدِيث يُقَال إِن الْخَبَر بقتل الْأسود لم يجِئ إِلَّا إِثْر موت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَإِنَّهُ لَا يَصح، والإخباريين يَقُولُونَهُ عَلَى أَنه لَيْسَ فِيهِ نصًّا أَنه صَادف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، بل يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ أَنه أَتَى بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَاصِدا إِلَيْهِ وافدًا عَلَيْهِ مبادرًا بالتبشير بِالْفَتْح، فصادفه قد مَاتَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الحَدِيث الْخَمْسُونَ
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأما الرِّجَال الْأَحْرَار الكاملون إِذا أسروُا فالإمام يتَخَيَّر فيهم بَين أَرْبَعَة أُمُور: أَن يقتلهُمْ صبرا، وَأَن يمن عَلَيْهِم، وَأَن يفاديهم بِالْمَالِ أَو الرِّجَال، وَأَن يسترقهم، وَبِهَذَا قَالَ أَحْمد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يتَخَيَّر الإِمَام بَين الْقَتْل والاسترقاق لَا غير. وَقَالَ مَالك: يتَخَيَّر بَين الْقَتْل والاسترقاق وَالْفِدَاء وَإِنَّمَا يجوز الْفِدَاء بِالرِّجَالِ دون المَال، لنا قَوْله تَعَالَى: (فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء) وكل وَاحِد من الْأُمُور قد نقل من(9/109)
فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقتل يَوْم بدر عقبَة بن أبي معيط وَالنضْر بن الْحَارِث، ومنَّ عَلَى أبي عزة الجُمَحي عَن أَن لَا يقاتله فَلم يَفِ، فقاتله يَوْم أحد فَأسر وَقتل يَوْمئِذٍ. وَعَن عمرَان بن الْحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَادَى رجلا أسره أَصْحَابه برجلَيْن أسرتهمَا ثَقِيف من أَصْحَابه» وَأخذ المَال فِي فدَاء أَسْرَى بدر مَشْهُور، ومنّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى أبي الْعَاصِ بن الرّبيع وَعَلَى ثُمَامَة ابْن أَثَال الْحَنَفِيّ.
هَذَا آخر مَا ذكره الرَّافِعِيّ وَقد اشْتَمَل عَلَى أَحَادِيث: أَحدهَا: وَهُوَ الْخَمْسُونَ.
وَثَانِيهمَا: وَهُوَ الحَدِيث الْحَادِي بعد الْخمسين.
قَالَ الشَّافِعِي: أسر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أهل بدر فَمنهمْ من منَّ عَلَيْهِ بِلَا أَخْذَة مِنْهُ، وَمِنْهُم من أَخذ مِنْهُ فديَة، وَمِنْهُم من قَتله، وَكَانَ المقتولان بعد [الإسار] يَوْم بدر عقبَة بن أبي معيط وَالنضْر بن الْحَارِث.
قَالَ الشَّافِعِي: وَأَنا عدد من أهل الْعلم من قُرَيْش وَغَيرهم من الْعلم بالمغازي «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أسر النَّضر بن الْحَارِث الْعَبْدي يَوْم بدر وَقَتله بالنازية أَو الأُثَيِّل صبرا، وَأسر عقبَة بن أبي معيط يَوْم بدر فَقتله صبرا. وَفِي «الْإِكْمَال» لِابْنِ «مَاكُولَا أَن عليًّا قتل النَّضر بن الْحَارِث بِأَمْر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَفِي «أَحْكَام الطَّبَرِيّ» عَن ابْن هِشَام «أَن عليًّا قَتله صبرا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالصفراء» [فِيمَا] يذكرُونَ. وَذكر ابْن حبيب أَنه(9/110)
أسلم فَالله أعلم أَيهمَا أصح. وَأما ابْن قُتَيْبَة فَذكر أَنه قتل صبرا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن سهل بن أبي حثْمَة، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما أقبل بالأسارى حَتَّى إِذا كَانَ بعرق الظبية أَمر عَاصِم بن ثَابت بن أبي الأقلح أَن يضْرب عنق عقبَة بن أبي معيط فَجعل عقبَة يَقُول: يَا ويلاه، علام أقتل من بَين هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لعداوتك لله وَلِرَسُولِهِ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، منُّك أفضل، فَاجْعَلْنِي كَرجل من قومِي، إِن قَتلتهمْ قتلتني، وَإِن مننت عَلَيْهِم مننت عليَّ، وَإِن أخذت مِنْهُم الْفِدَاء كنت كأحدهم، يَا مُحَمَّد من للصبية؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: النَّار، يَا عَاصِم بن ثَابت، قدمه فَاضْرب عُنُقه. فَضرب عُنُقه» . قَالَ ابْن دحْيَة فِي «تنويره» : «ثمَّ أَمر بصلبه فَهُوَ أول مصلوب فِي الْإِسْلَام» . حَكَاهُ القعْنبِي وَفِي «أَفْرَاد» الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود: «النَّار لَهُم ولأبيهم» .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْخمسين
قَالَ الشَّافِعِي: كَانَ من الْمَمْنُون عَلَيْهِم بالأفدية أَبُو عزة الجُمَحِي تَركه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لبنَاته، وَأخذ عَلَيْهِ عهدا أَن لَا يقاتله، فأخفره وقاتله يَوْم أحد، فَدَعَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن لَا يفلت، فَمَا أسر يَوْمئِذٍ رجل غَيره. فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، اُمْنُنْ عليّ وَدعنِي لبناتي وَأُعْطِيك عهدا أَن لَا أَعُود لِقِتَالِك. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تمسح عَلَى عَارِضَيْك بِمَكَّة تَقول: قد(9/111)
خدعت مُحَمَّدًا مرَّتَيْنِ. فَأمر بِهِ فضربتْ عُنُقه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد روينَا فِي ذَلِك عَن غير الشَّافِعِي، وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «أَمن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الْأسَارَى يَوْم بدر أَبَا عزة عبد الله بن عَمْرو الجُمَحِي، وَكَانَ شَاعِرًا وَكَانَ قَالَ للنَّبِي (: يَا مُحَمَّد، إِن لي خمس بَنَات لَيْسَ لَهُنَّ شَيْء فَتصدق بِي عَلَيْهِنَّ فَفعل. وَقَالَ أَبُو عزة: أُعْطِيك موثقًا أَن لَا أقاتلك وَلَا أَكثر عَلَيْك أبدا. فَأرْسلهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَلَمَّا خرجت قُرَيْش إِلَى أحد جَاءَهُ صَفْوَان بن أُميَّة فَقَالَ: اخْرُج مَعنا. فَقَالَ: إِنِّي قد أَعْطَيْت مُحَمَّدًا موثقًا أَن لَا أقاتله. فضمن صَفْوَان أَن يَجْعَل بَنَاته مَعَ بَنَاته إِن قتل، وَإِن عَاشَ أعطَاهُ مَالا كثيرا، فَلم يزل بِهِ حَتَّى خرج مَعَ قُرَيْش يَوْم أحد فَأسر وَلم يؤسر غَيره من قُرَيْش. فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِنَّمَا خرجت كرها ولي بَنَات فَامْنُنْ عَلّي. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَيْن مَا أَعْطَيْتنِي من الْعَهْد والميثاق، لَا وَالله لَا تمسح بعارضيك بِمَكَّة تَقول: سخرت بِمُحَمد مرَّتَيْنِ. قَالَ سعيد بن الْمسيب: فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن الْمُؤمن لَا يلْدغ من جحرٍ مرَّتَيْنِ، يَا عَاصِم بن ثَابت، قدمه فَاضْرب عُنُقه. فقدمه فَضرب عُنُقه» .
قَالَ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» وَفِي كتاب السَّرقة: «إِن أول من علق رَأسه فِي الْإِسْلَام جعل فِي رمح وَحمل إِلَى الْمَدِينَة يَوْم أحد ... » .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْخمسين
عَن عمرَان بن الْحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «كَانَت ثَقِيف حلفا لبني عقيل، فأسرت ثَقِيف رجلَيْنِ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأسر أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(9/112)
رجلا من بني عقيل وَأَصَابُوا مَعَه العضباء، فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ فِي الوثاق، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد. فَأَتَاهُ قَالَ: مَا شَأْنك؟ فَقَالَ: بِمَ أخذتني وَأخذت سَابِقَة الْحَاج - يَعْنِي العضباء -؟ فَقَالَ: أخذتك بجريرة حلفائك ثَقِيف. ثمَّ انْصَرف عَنهُ، فناداه فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد. وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رحِيما رَقِيقا قَالَ: مَا شَأْنك؟ قَالَ: إِنِّي مُسلم. قَالَ: لَو قلتهَا وَأَنت تملك أَمرك أفلحت كل الْفَلاح. ثمَّ انْصَرف عَنهُ فناداه: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد. فَأَتَاهُ فَقَالَ: مَا شَأْنك؟ قَالَ: إِنِّي جَائِع فأطعمني وظمآن فاسقني. قَالَ: هَذِه حَاجَتك. ففدي بِالرجلَيْنِ» .
رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِكُل هَذِه الْحُرُوف. وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ و «صَحِيح ابْن حبَان» عَن عمرَان أَيْضا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام فدى رجلَيْنِ من الْمُسلمين بِرَجُل من الْمُشْركين» . قَالَ سُفْيَان: يَعْنِي أعْطى رجلا من الْمُشْركين وَأخذ رجلَيْنِ من الْمُسلمين.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْخمسين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأخذ المَال فِي فدَاء أَسْرَى بدر مَشْهُور.
هُوَ كَمَا قَالَ. وَقد ورد ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث: أَحدهَا: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «لما كَانَ يَوْم بدر نظر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْمُشْركين وهم ألف وَأَصْحَابه ثَلَاثمِائَة وَتِسْعَة عشر رجلا، فَاسْتقْبل نَبِي(9/113)
الله (الْقبْلَة ثمَّ مد يَده فَجعل يَهْتِف بربه يَقُول: اللَّهُمَّ أنْجز [لي] مَا وَعَدتنِي، اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة من أهل الْإِسْلَام لَا تعبد فِي الأَرْض. فَمَا زَالَ يَهْتِف بربه مادًّا يَدَيْهِ حَتَّى سقط رِدَاؤُهُ عَن مَنْكِبه، فَأَتَاهُ أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَأخذ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى (مَنْكِبه) ثمَّ الْتَزمهُ من وَرَائه، وَقَالَ: يَا نَبِي الله، كَذَاك مُنَاشَدَتك رَبك؛ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَك مَا وَعدك. فَأنْزل الله عَزَّ وَجَلَّ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ) (فأيده) الله بِالْمَلَائِكَةِ» . قَالَ (سماك) فَحَدثني ابْن عَبَّاس قَالَ: «بَيْنَمَا رجل من الْمُسلمين يومئذٍ يشْتَد فِي أثر [رجل] من الْمُشْركين أَمَامه إِذْ سمع ضَرْبَة بِالسَّوْطِ فَوْقه وَصَوت الْفَارِس يَقُول: أقدم حيْزُوم. إِذْ نظر إِلَى الْمُشرك أَمَامه خر [مُسْتَلْقِيا] فَنظر إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ قد خطم أَنفه وشق وَجهه (بِضَرْب) السَّوْط فاخضر ذَلِك أجمع، فجَاء الْأنْصَارِيّ فحدَّث بذلك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: صدقت، ذَلِك من مدد السَّمَاء الثَّالِثَة. فَقتلُوا يَوْمئِذٍ سبعين وأسروا سبعين. قَالَ ابْن عَبَّاس: فَلَمَّا أَسرُّوا الْأسَارَى قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لأبي بكر وَعمر: مَا ترَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأسَارَى؟ فَقَالَ أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يَا رَسُول الله، بَنو الْعم وَالْعشيرَة، أرَى أَن(9/114)
تَأْخُذ مِنْهُم فديَة فَتكون لنا قُوَّة عَلَى الْكفَّار، فَعَسَى الله أَن يهْدِيهم إِلَى الْإِسْلَام. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا ترَى يَا ابْن الْخطاب؟ قَالَ: قلت: لَا وَالله يَا رَسُول الله مَا أرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بكر، وَلَكِنِّي أرَى أَن تمَكنا من أَعْنَاقهم فَنَضْرِب أَعْنَاقهم، فَتمكن عليًّا من عقيل، وَتُمَكِّنِّي من فلَان - نسيبًا لعمر - فَأَضْرب عُنُقه؛ فَإِن هَؤُلَاءِ أَئِمَّة الْكفْر وصناديها؛ فهوى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا قَالَ أَبُو بكر وَلم يَهو مَا قلت. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد جِئْت فَإِذا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَبُو بكر قَاعِدين يَبْكِيَانِ. فَقلت: يَا رَسُول الله، أَخْبرنِي من أَي شَيْء تبْكي أَنْت وَصَاحِبك، فَإِن وجدت بكاء بَكَيْت وَإِن لم أجد بكاء تَبَاكَيْت ببكائكما. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (أبْكِي للَّذي عرض علىَّ أَصْحَابك من أَخذهم الْفِدَاء، لقد عرض عَلّي عَذَابهمْ أدنَى من هَذِه الشَّجَرَة - لشَجَرَة قريبَة) من نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأنْزل الله عَزَّ وَجَلَّ (مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض) إِلَى قَوْله (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم) وَأحل الْغَنِيمَة» . أخرجه مُسلم بِهَذِهِ الْحُرُوف كلهَا. وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: «فلقي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعد ذَلِك عمر فَقَالَ: كَاد أَن يصيبنا من خِلافك بلَاء» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْخمسين
وَهُوَ الحَدِيث الثَّانِي مِمَّا نَحن فِيهِ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جعل فدَاء أهل الْجَاهِلِيَّة يَوْمئِذٍ - يَعْنِي يَوْم بدر - أَرْبَعمِائَة» .(9/115)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِم، وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَأعله ابْن الْقطَّان بِأَن قَالَ: من أَبُو العنبس وَلَا يعرف اسْمه وَلَا حَاله. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ.
وَقَالَ أَحْمد فِي «مُسْنده» : ثَنَا عَلّي بن عَاصِم [عَن حميد] عَن أنس قَالَ: «اسْتَشَارَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - النَّاس فِي الْأسَارَى يَوْم بدر فَقَالَ أَبُو بكر: نرَى أَن (تَعْفُو عَنْهُم، وَتقبل مِنْهُم الْفِدَاء) » .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْخمسين
وَهُوَ الحَدِيث الثَّالِث مِمَّا نَحن فِيهِ عَن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَن رجَالًا من الْأَنْصَار اسْتَأْذنُوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: ائْذَنْ لنا فلنترك لِابْنِ أُخْتنَا عَبَّاس فداءه. فَقَالَ: لَا تدعون مِنْهُ درهما» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ. قَالَ ابْن إِسْحَاق فِي قصَّة بدر: وَكَانَ فِي الْأسَارَى أَبُو ودَاعَة السَّهْمِي، فَقدم ابْنه الْمطلب الْمَدِينَة فَأخذ أَبَاهُ بأَرْبعَة آلف دِرْهَم، فَانْطَلق بِهِ ثمَّ بعثت قُرَيْش أَن فدي الْأسَارَى، فَقدم مكرز بن حَفْص فِي فدَاء سُهَيْل بن عَمْرو، فَقَالَ: اجعلوا رجْلي مَكَان رجله وخلوا سَبيله حَتَّى يبْعَث إِلَيْكُم بفدائه، فَخلوا سَبِيل سُهَيْل وحبسوا مكرزًا(9/116)
قَالَ: [ففدى] كل قوم أسيرهم بِمَا رَضوا. قَالَ: وَكَانَ أكبر الْأسَارَى يَوْم بدر فدَاء الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُوسِرًا وافتدى نَفسه بِمِائَة أُوقِيَّة ذهب.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْخمسين
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «لما بعث أهل مَكَّة فِي فدَاء (أَسْرَاهُم) بعثت زَيْنَب فدَاء زَوجهَا أبي الْعَاصِ بن أبي الرّبيع بمالٍ، وَبعثت فِيهِ بقلادة لَهَا كَانَت عِنْد خَدِيجَة أدخلتها بهَا عَلَى أبي الْعَاصِ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رق لَهَا رقة شَدِيدَة، وَقَالَ: إِن رَأَيْتُمْ أَن تطلقوا لَهَا أَسِيرهَا وتردوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا. فَقَالُوا: نعم، وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَخذ عَلَيْهِ أَو وعده أَن يخلي سَبِيل زَيْنَب إِلَيْهِ، وَبعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زيد ين حَارِثَة ورجلًا من الْأَنْصَار، فَقَالَ لَهما: كونا بِبَطن يأجج حَتَّى تمر بكما زَيْنَب فتصحبها حَتَّى تأتيا بهَا» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد حسن، لَا جرم رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» إِلَى قَوْله: «نعم» بِزِيَادَة عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ. ذكره فِي تَرْجَمَة الْعَبَّاس رضى الله عَنهُ، وَكَذَا فِي ترجمتها، وَكَذَا فِي الْمَغَازِي والسرايا من المناقب. وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «الْمسند» إِلَى قَوْله: «نعم» وَزَاد «فأطلقوه وردوا عَلَيْهِ الَّذِي لَهَا» .(9/117)
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْخمسين
قَالَ الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ثمَّ أسر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثُمَامَة بن أَثَال الْحَنَفِيّ بعد فمنَّ عَلَيْهِ، ثمَّ عَاد ثُمَامَة ابْن أَثَال بعد وَأسلم وَكَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب.
قلت: وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَى مُسلم فِي «صَحِيحه» عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خيلًا قَبِل نجد فَجَاءَت بِرَجُل من بني حنيفَة يُقَال لَهُ ثُمَامَة بن أَثَال سيد أهل [الْيَمَامَة] فربطوه بِسَارِيَة من سواري الْمَسْجِد، فَخرج إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: مَاذَا عنْدك يَا ثُمَامَة؟ فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّد خير، إِن تقتل تقتل ذَا دم، وَإِن تنعم تنعم عَلَى شَاكر، وَإِن كنت تُرِيدُ المَال فسل تعط مِنْهُ مَا شِئْت. فَتَركه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى إِذا كَانَ من الْغَد، قَالَ: مَا عنْدك يَا ثُمَامَة؟ قَالَ مَا قلت: إِن تنعم تنعم عَلَى شَاكر، وَإِن تقتل تقتل ذَا دم، وَإِن كنت تُرِيدُ المَال فسل تعط مِنْهُ مَا شِئْت. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أطْلقُوا ثُمَامَة. فَانْطَلق إِلَى نخل قريب من الْمَسْجِد فاغتسل ثمَّ دخل الْمَسْجِد. فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، يَا مُحَمَّد، وَالله مَا كَانَ عَلَى وَجه الأَرْض أبْغض إليَّ من وَجهك، فقد أصبح وَالله وَجهك أحب الْوُجُوه كلهَا إليَّ، وَالله مَا كَانَ دين أبْغض إليَّ من دينك فقد أصبح دينك أحب الدَّين إليَّ، وَالله مَا كَانَ من بلدٍ أبْغض إليَّ من بلدك، فَأصْبح بلدك أحب(9/118)
الْبِلَاد كلهَا إليَّ، وَإِن خيلك أخذتني وَأَنا أُرِيد الْعمرَة فَمَاذَا ترَى؟ فبشره رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأمره أَن يعْتَمر فَلَمَّا قدم مَكَّة قَالَ لَهُ قَائِل: أَصَبَوْت؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أسلمت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا وَالله لَا تأتينكم من الْيَمَامَة حَبَّة حِنْطَة حَتَّى يَأْذَن فِيهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْخمسين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: (مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض) : إِن ذَلِك يَوْم بدر وَفِي الْمُسلمين قلَّة، فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سلطانهم أنزل الله تَعَالَى بعْدهَا فِي الْأسَارَى (فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء) فَجعل اللهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالْمُؤمنِينَ فيهم بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ قتلوهم، وَإِن [شَاءُوا] استعبدوهم، وَإِن شَاءُوا فادوهم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي أَبْوَاب الْأَنْفَال من حَدِيث عبد الله بن صَالح، ثَنَا مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن عَلّي بن أبي طَلْحَة، عَن ابْن عَبَّاس ... فَذكره بِمثلِهِ سَوَاء إِلَّا أَنه قَالَ بدل: «وَفِي الْمُسلمين قلَّة» «والمسلمون يَوْمئِذٍ قَلِيل» كَمَا سَاقه الْبَيْهَقِيّ، بعد أَن ترْجم عَلَيْهِ بَاب استعباد الْأَسير وَلم يعقبه بإعلال وَهُوَ مُنْقَطع.
قَالَ دُحَيْم: عَلّي بن أبي طَلْحَة لم يسمع التَّفْسِير من ابْن عَبَّاس. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: عَلّي بن أبي طَلْحَة، عَن ابْن [عَبَّاس: مُرْسل](9/119)
[وَقَالَ] أَحْمد: لَهُ أَشْيَاء مُنكرَات. وَقَالَ يَعْقُوب الْفَسَوِي: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ - إِن شَاءَ الله - مُسْتَقِيم الحَدِيث، وَلكنه كَانَ يرَى السَّيْف. نعم أخرج مُسلم حَدِيث «سُئِلَ عَن الْعَزْل» ، وَكَذَا أخرج مُسلم لمعاوية بن صَالح، وَإِن كَانَ ابْن أبي طَلْحَة لَا يحْتَج بِهِ، وَأخرج البُخَارِيّ لعبد الله ابْن صَالح.
الحَدِيث السِّتُّونَ
عَن معَاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ يَوْم حنين: لَو كَانَ الاسترقاق جَائِزا عَلَى الْعَرَب لَكَانَ الْيَوْم، إِنَّمَا هُوَ أسر أَو فدَاء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مُحَمَّد - هُوَ ابْن عمر الْوَاقِدِيّ - عَن مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث، عَن أَبِيه، عَن السَّلُولي، عَن معَاذ بن جبل «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ يَوْم حنين: لَو كَانَ ثَابتا عَلَى الْعَرَب سبي بعد الْيَوْم لثبت عَلَى هَؤُلَاءِ وَلَكِن إِنَّمَا هُوَ أسار وفدى. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف. قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِي: وَقد سَبَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بني المصطلق وهوازن وقبائل من الْعَرَب، وأجرى عَلَيْهِم [الرّقّ] حَتَّى منّ عَلَيْهِم بعد، فَاخْتلف أهل الْعلم بالمغازي فَزعم(9/120)
بَعضهم «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما أطلق سبي هوَازن قَالَ: لَو كَانَ تَامّ عَلَى أحد من الْعَرَب سبي لتم عَلَى هَؤُلَاءِ وَلكنه إسار وَفِدَاء» .
قَالَ الشَّافِعِي: فَمن ثبَّت هَذَا الحَدِيث زعم أَن الرّقّ لَا يجرى عَلَى عَرَبِيّ بِحَال، وَهَذَا قَول الزُّهْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ، وَيروَى عَن عمر بن الْخطاب، وَعمر بن عبد الْعَزِيز. قَالَ الشَّافِعِي: أخبرنَا سُفْيَان، عَن يَحْيَى بن يَحْيَى الغساني، عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، وأبنا سُفْيَان، عَن رجل، عَن الشّعبِيّ أَن عمر قَالَ: «لَا يسترق عَرَبِيّ» . وَأخْبرنَا عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن الْمسيب. قَالَ فِي الْمولى ينْكح الْأمة: يسترق وَلَده. وَفِي الْعَرَبِيّ ينْكح الْأمة: لَا يسترق وَلَده، عَلَيْهِ قِيمَته.
قَالَ الشَّافِعِي: وَمن لم يثبت الحَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذهب إِلَى أَن الْعَرَب والعجم سَوَاء وَأَنه يجْرِي عَلَيْهِم الرّقّ حَيْثُ جَرَى عَلَى الْعَجم. قَالَ الرّبيع: وَبِه يَأْخُذ الشَّافِعِي.
قلت: وَقد أخرج الطَّبَرَانِيّ هَذَا الحَدِيث فِي «أكبر معاجمه» من طَرِيق آخر، فَقَالَ: ثَنَا [أَحْمد بن رشدين] ، ثَنَا أَحْمد بن صَالح، ثَنَا ابْن وهب، أَخْبرنِي يزِيد بن عِيَاض، عَن مُوسَى [بن مُحَمَّد](9/121)
التَّيْمِيّ، عَن ابْن شهَاب، عَن البلوي، عَن معَاذ بن جبل أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَو كَانَ ثَابتا عَلَى أحد من الْعَرَب رق كَانَ الْيَوْم، إِنَّمَا هُوَ إسار أَو فدَاء» .
الحَدِيث الْحَادِي بعد السِّتين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله ... » . الحَدِيث
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح تقدم بَيَانه فِي الْبَاب قبله وَغَيره.
الحَدِيث الثَّانِي بعد السِّتين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الْقَوْم إِذا أَسْلمُوا أحرزوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من رِوَايَة أبان بن عبد الله بن أبي [حَازِم] . [عَن عُثْمَان بن أبي حَازِم] عَن أَبِيه، عَن جده صَخْر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غزا ثقيفًا، فَلَمَّا سمع صَخْر بذلك ركب فِي خيل يُمِدُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَوجدَ نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد انْصَرف ولمُ يُفْتَح، فَجعل صَخْر يَوْمئِذٍ عهد الله وذمته أَن لَا يُفَارق هَذَا الْقصر حَتَّى ينزلُوا عَلَى حكم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يفارقهم حَتَّى نزلُوا عَلَى حكم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَكتب إِلَيْهِ صَخْر:(9/122)
أما بعد، فَإِن ثقيفًا قد (نزلُوا) عَلَى حكمك يَا رَسُول الله وَأَنا مقبل بهم وهم فِي خيل. فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالصَّلَاةِ جَامِعَة فَدَعَا لأحمس عشر دعواتٍ: اللَّهُمَّ بَارك لأحمس فِي خيلها ورجالها. وَأَتَاهُ الْقَوْم فَتكلم الْمُغيرَة فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن صخرًا أَخذ عَمَّتي وَدخلت فِيمَا دخل فِيهِ الْمُسلمُونَ. فَدَعَاهُ فَقَالَ: يَا صَخْر، إِن الْقَوْم إِذا أَسْلمُوا أحرزوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ فادفع إِلَى الْمُغيرَة عمته. فَدَفعهَا إِلَيْهِ، وَسَأَلَ نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَاء لبني سليم قد هربوا عَن الْإِسْلَام، وَتركُوا ذَلِك المَاء، فَقَالَ: يَا نَبِي الله، أنزلنيه أَنا وقومي. قَالَ: نعم. فأنزله وَأسلم [يعْنى السلميين] فَأتوا صخرًا فَسَأَلُوهُ أَن يدْفع إِلَيْهِم المَاء فَأَبَى، فَأتوا نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: يَا نَبِي الله، أسلمنَا وأتينا صخرًا ليدفع إِلَيْنَا المَاء فَأَبَى علينا. فَدَعَاهُ فَقَالَ: يَا صَخْر، إِن الْقَوْم إِذا أَسْلمُوا أحرزوا أَمْوَالهم ودماءهم فادفع إِلَى الْقَوْم مَاءَهُمْ. قَالَ: نعم يَا نَبِي الله. فَرَأَيْت وَجه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تغير عِنْد ذَلِك حمرَة حَيَاء من أَخذه الْجَارِيَة وَأَخذه المَاء» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَيْسَ بِقَوي. وَقَالَ عبد الْحق: عُثْمَان بن [أبي] حَازِم لَا أعلم رَوَى عَنهُ إِلَّا أبان بن عبد الله. وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْن الْقطَّان: وَأَبُو حَازِم بن صَخْر لَا يعرف رَوَى عَنهُ إِلَّا ابْنه عُثْمَان وَلَا يعرف بِغَيْر هَذَا الحَدِيث.(9/123)
قلت: وَعُثْمَان ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» لَكِن لم يذكر لَهُ رَاوِيا غير أبان الْمَذْكُور، وَأَبَان هَذَا هُوَ ابْن عبد الله البَجلِيّ الْكُوفِي. قَالَ فِيهِ يَحْيَى بن معِين: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ.
وَقَالَ أَحْمد: صَدُوق، صَالح الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ مِمَّن فحش خَطؤُهُ وَانْفَرَدَ بِالْمَنَاكِيرِ، وَمَعَ هَذَا فَأخْرج لَهُ فِي [ «صَحِيحه» حَدِيثه] ، وصخر هَذَا هُوَ أَبُو حَازِم صَخْر ابْن العَيْلة، قَالَه البُخَارِيّ. وَيُقَال ابْن أبي العَيْلة البَجلِيّ الأحمسي عداده فِي صَخْر بن العيلي. قَالَ البُخَارِيّ: وَيُقَال ابْن أبي العَيٍْلة البَجلِيّ فِي الْكُوفِيّين، لَهُ صُحْبَة. والعيلة - بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُثَنَّاة تَحت وَبعدهَا لَام مَفْتُوحَة ثمَّ تَأْنِيث - اسْم أمه. قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ: لَيْسَ لصخر غير هَذَا الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالِاسْتِدْلَال إِنَّمَا وَقع بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: «إِن الْقَوْم إِذا أَسْلمُوا أحرزوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ» فَأَما اسْتِرْدَاد المَاء من صَخْر بعد مَا ملكه بِتَمْلِيك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِيَّاه فَإِنَّمَا يشبه أَن يكون باستطابة نَفسه وَلذَلِك كَانَ يظْهر فِي وَجهه أثر الْحيَاء. وعمة الْمُغيرَة إِن كَانَت أسلمت بعد الْأَخْذ فَكَأَنَّهُ رَأَى إسْلَامهَا قبل الْقِسْمَة يحرز مَا لَهَا، وَيحْتَمل أَن يكون إسْلَامهَا قبل الْأَخْذ.(9/124)
الحَدِيث الثَّالِث بعد السِّتين
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حاصر بني قُرَيْظَة فَأسلم ثَعْلَبَة وَأسد ابْنا سَعْية فأحرز لَهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الإِمَام الشَّافِعِي فَقَالَ: أسلم ابْنا سعية القرظيان وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - محاصرًا بني قُرَيْظَة، فأحرزهما إسلامهما نفسهما وأموالهما من النّخل وَالْأَرْض وَغَيرهمَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنِي عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة، عَن شيخ من بني قُرَيْظَة أَنه قَالَ: «هَل تَدْرِي [عمَّ] كَانَ إِسْلَام ثَعْلَبَة (وَأسد ابْني سعية) وَأسد بن عبيد نفر من هُذَيْل لم يَكُونُوا من بني قُرَيْظَة وَلَا [نضير] كَانُوا فَوق ذَلِك؟ قلت: لَا. قَالَ: فَإِنَّهُ قدم علينا رجل من الشَّام من يهود يُقَال لَهُ: ابْن الهيبان، فَأَقَامَ عندنَا، وَالله مَا رَأينَا رجلا قطّ لَا يُصَلِّي الْخمس خيرا مِنْهُ، فَقدم علينا قبل مبعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِسنتَيْنِ. فَكُنَّا إِذا قحطنا وَقل علينا الْمَطَر نقُول لَهُ [يَا] ابْن الهيبان، اخْرُج فاستسق لنا، فَيَقُول: لَا وَالله حَتَّى تقدمُوا أَمَام مخرجكم صَدَقَة. فَنَقُول: كم نقدم فَيَقُول: صَاعا من تمر [أَو] مَدين من شعير ثمَّ يخرج إِلَى ظَاهِرَة حرتنا وَنحن مَعَه فيستسقي، فوَاللَّه مَا يقوم من مَجْلِسه حَتَّى (يمر السَّحَاب) ، قد فعل ذَلِك غير مرّة وَلَا مرَّتَيْنِ(9/125)
(وَلَا) ثَلَاثَة فحضرته الْوَفَاة فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا معشر يهود، مَا تَرَوْنَهُ أخرجني من أَرض الْخمر والخمير إِلَى أَرض الْبُؤْس والجوع؟ فَقُلْنَا: أَنْت (تعلم) . فَقَالَ: إِنَّه إِنَّمَا أخرجني أتوقع خُرُوج نَبِي قد أظل زَمَانه هَذِه الْبِلَاد مهاجره فَأتبعهُ فَلَا تسبقن إِلَيْهِ إِذا خرج يَا معشر يهود؛ فَإِنَّهُ يسفك الدَّم، وَيَسْبِي الذَّرَارِي وَالنِّسَاء مِمَّن خَالفه، فَلَا يمنعنكم ذَلِك مِنْهُ. ثمَّ مَاتَ، فَلَمَّا كَانَت تِلْكَ اللَّيْلَة الَّتِي افتتحت فِيهَا قُرَيْظَة، قَالَ أُولَئِكَ الْفتية الثَّلَاثَة [وَكَانُوا] شبَابًا أحداثًا يَا معشر يهود، وَالله إِنَّه للرجل الَّذِي كَانَ ذكر لكم ابْن الهيبان. قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالُوا: بلَى وَالله إِنَّه لَهو يَا معشر يهود، إِنَّه وَالله لَهو بِصفتِهِ. ثمَّ نزلُوا فأسلموا وخلوا أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ وأهليهم قَالَ: وَكَانَت أَمْوَالهم فِي الْحصن مَعَ الْمُشْركين، فَلَمَّا فتح رد ذَلِك عَلَيْهِم» .
فَائِدَة: «سَعْية» بِفَتْح السِّين وَإِسْكَان الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ بعْدهَا يَاء مثناة تَحت، هَذَا صَوَابه، وَحَكَى صَاحب «التنقيب» فِي كتاب السّلم مِنْهُ أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: هَذَا. وَثَانِيها: بنُون بدل الْيَاء، وَجزم بِهِ أَولا وَقَالَ إِنَّه الصَّحِيح. وَثَالِثهَا: كَذَلِك لكنه بِضَم السِّين. وَرَابِعهَا: «سعبة» بسين وباء مُوَحدَة، قَالَ: وسعبة هَذَا هُوَ وَالِد زيد بن سعبة. قَالَ: ولسعبة ولدان: أَسد، وثعلبة. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» بعد الضَّبْط الأول: هَذَا هُوَ الصَّوَاب. قَالَ: وَقد حَكَى جمَاعَة مِمَّن صنف فِي أَلْفَاظ الْمُهَذّب، أَنه يُقَال بالشين الْمُعْجَمَة، وَأَنه يُقَال بالنُّون بدل الْيَاء، قَالَ: وَكله تَصْحِيف،(9/126)
وَالْمَعْرُوف فِي كتب أهل هَذَا الْفَنّ مَا ذَكرْنَاهُ أَولا، وَمَا ذكره هَذَا الْقَائِل إِنَّمَا أَخذه - وَالله أعلم - من بعض كتب الْفِقْه المضبوطة ضبطًا فَاسِدا. وَهُوَ وَالِد ثَعْلَبَة وَأسيد بِفَتْح الْهمزَة وَكسر السِّين، وَقيل بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين، كَذَا قَيده إِبْرَاهِيم بن سعد، عَن ابْن إِسْحَاق. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «تَنْبِيه المشتبه» : فَأَخْطَأَ، وَقيل: [أَسد] بِفَتْح الْهمزَة وَالسِّين من غير يَاء، وتوفيا فِي حَيَاة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، هَذَا جَمِيع مَا ذكره فِي النَّوْع الرَّابِع بِمَا قيل فِيهِ ابْن وأخو فلَان، وَقَالَ فِيهِ أَيْضا [النَّوَوِيّ] فِي «تهذيبه» فِي حرف الزَّاي فِي تَرْجَمَة زيد بن سعية: هُوَ أحد أَحْبَار الْيَهُود الَّذين أَسْلمُوا. توفّي فِي غَزْوَة تَبُوك. و «سعية» بسين مُهْملَة مَفْتُوحَة. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: إِنَّهَا مَضْمُومَة. قَالَ: وَهُوَ غَرِيب، وَهُوَ بالنُّون أَكثر، وَاقْتصر الْجُمْهُور عَلَى النُّون. و «الهيبان» بِفَتْح الْهَاء وَالْبَاء كَذَا ضَبطه المطرزي فِي «الْمغرب» وَقَالَ: لِأَنَّهُ من الهيبة وَهُوَ الْخَوْف.
الحَدِيث الرَّابِع بعد السِّتين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ يَوْم أَوْطَاس: أَلا لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع وَلَا حَائِل حَتَّى تحيض» .(9/127)
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب الِاسْتِبْرَاء وَاضحا.
الحَدِيث الْخَامِس بعد السِّتين
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أصبْنَا نسَاء يَوْم أَوْطَاس فكرهوا أَن يقعوا عَلَيْهِنَّ من أجل أَزوَاجهنَّ من الْمُشْركين، فَأنْزل الله عَزَّ وَجَلَّ: (وَالْمُحصنَات من النِّسَاء إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم) فاستحللناهن» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» وَهَذَا لَفظه عَن أبي سعيد «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم حنين بعث جَيْشًا إِلَى أَوْطَاس فَلَقوا عدوًّا فقاتلوهم، فظهروا عَلَيْهِم وَأَصَابُوا لَهُم سَبَايَا، فَكَأَن نَاسا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تحرجوا من غشيانهن من أجل أَزوَاجهنَّ من الْمُشْركين؛ فَأنْزل الله تَعَالَى (وَالْمُحصنَات من النِّسَاء إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم) أَي: فهن لكم حَلَال إِذا انْقَضتْ عدتهن» .
الحَدِيث السَّادِس بعد السِّتين
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قطع نخل بني النَّضِير وَحرق عَلَيْهِم، وَفِي ذَلِك نزل قَوْله تَعَالَى: (مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا) الْآيَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح تقدم بَيَانه وَاضحا فِي أَوَائِل هَذَا الْبَاب.(9/128)
الحَدِيث السَّابِع بعد السِّتين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قطع عَلَى أهل الطَّائِف كرُومًا»
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن هناد بن السّري، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَار إِلَى الطَّائِف فَأمر بحصن مَالك بن عَوْف فهدم وَأمر بِقطع الأعناب» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن الْأسود، عَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: «نزل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالأكمة عِنْد حصن الطَّائِف فَحَاصَرَهُمْ بضع عشرَة لَيْلَة (وَقَاتلهمْ) ثَقِيف بِالنَّبلِ وَالْحِجَارَة وهم فِي حصن الطَّائِف، وَكَثُرت الْقَتْلَى فِي الْمُسلمين وَفِي ثَقِيف، وَقطع الْمُسلمُونَ شَيْئا من كروم ثَقِيف (ليغيظونهم) بذلك، قَالَ عُرْوَة: وَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمُسلمين حِين حاصروا ثَقِيف أَن يقطع كل رجل من الْمُسلمين خمس نخلات - أَو حبلات من كرومهم - فَأَتَاهُ عمر بن الْخطاب فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنَّهَا (عقا لَا تُؤْكَل ثَمَرَتهَا) . فَأَمرهمْ أَن يقطعوا مَا أكلت ثَمَرَته الأول فَالْأول» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة فِي غَزْوَة الطَّائِف قَالَ: «وَنزل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالأكمة عِنْد حصن الطَّائِف بضع عشرَة لَيْلَة فَقَاتلهُمْ ... » فَذكره إِلَى أَن قَالَ: «وَقَطعُوا طَائِفَة من أعنابهم (ليغيظونهم) بهَا فَقَالَت ثَقِيف: لَا تفسدوا الْأَمْوَال فَإِنَّهَا لنا أَو لكم.(9/129)
قَالَ: واستأذنه الْمُسلمُونَ فِي مناهضة (الْجَيْش) . فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا أرَى أَن نفتتحه وَمَا أذن لنا فِيهِ الْآن» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَذكر أَن الطَّائِف كَانَ آخر غَزَوَاته.
قلت: أَي بِنَفسِهِ؛ فَإِنَّهَا فِي سنة ثَمَان وغزوة تَبُوك فِي سنة تسع لَكِن لم يُقَاتل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيهَا.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بعث جَيْشًا إِلَى الشَّام فنهاهم عَن قتل الشُّيُوخ وَأَصْحَاب الصوامع وَقطع الْأَشْجَار المثمرة» .
قلت: هَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن يَحْيَى بن سعيد «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بعث جيوشًا إِلَى الشَّام فَخرج يمشي مَعَ يزِيد بن أبي سُفْيَان وَكَانَ أَمِير ربع من [تِلْكَ] الأرباع، فَقَالَ يزِيد لأبي بكر: إِمَّا أَن تركب وَإِمَّا أَن أنزل. فَقَالَ أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: مَا أَنْت بنازل وَمَا أَنا رَاكب؛ إِنِّي احتسبت خُطاي هَذِه فِي سَبِيل الله، ثمَّ قَالَ: إِنَّك ستجد قوما زَعَمُوا أَنهم حبسوا أنفسهم [لله. فذرهم وَمَا زَعَمُوا أَنهم حبسوا أنفسهم لَهُ.] وستجد قوما فحصوا عَن (أَوسط) رُءُوسهم من الشّعْر، فَاضْرب مَا فحصوا عَنهُ بِالسَّيْفِ، وَإِنِّي مُوصِيك بِعشر: لَا تقتلن امْرَأَة وَلَا صبيًّا وَلَا كَبِيرا هرمًا، وَلَا تقطعن شَجرا مثمرًا، وَلَا تخربن عَامِرًا، وَلَا تعقرن شَاة وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لمأكلة، وَلَا تحرقن نحلًا وَلَا تفرقنه، وَلَا تغلل، وَلَا تجبن» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث يُونُس بن يزِيد، عَن ابْن شهَاب،(9/130)
عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بأطول من هَذَا، ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه قَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر، مَا أَظن من هَذَا شَيْء، هَذَا كَلَام أهل الشَّام. وَذكر فِي كتاب «الْمعرفَة» أَنه لم يقف عَلَى الْمَعْنى الَّذِي لأَجله أنكرهُ، وَكَانَ ابْنه عبد الله (زعم أَنه كَانَ مُنكر ذَلِك أَن يكون) من حَدِيث الزُّهْرِيّ. قَالَ الرّبيع: قَالَ الشَّافِعِي: وَلَعَلَّ أَمر أبي بكر بِأَن يكفوا عَن أَن يقطعوا شَجرا مثمرًا إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّهُ سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخبر أَن بِلَاد الشَّام تفتح عَلَى الْمُسلمين، فَلَمَّا كَانَ مُبَاحا لَهُ أَن يقطع وَيتْرك اخْتَار التّرْك؛ نظرا للْمُسلمين، لَا أَنه [رَآهُ] محرما؛ لِأَنَّهُ قد حضر مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تحريقه بالنضير وخيبر والطائف، وَهَذَا الْجَواب أجَاب بِهِ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب نقلا عَن الْمُخْتَصر.
الحَدِيث الثَّامِن بعد السِّتين
«أَن حَنْظَلَة بن الراهب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عقر بِأبي سُفْيَان فرسه يَوْم أحد فَسقط عَنهُ فَجَلَسَ، فَجَلَسَ حَنْظَلَة عَلَى صَدره ليذبحه، فجَاء ابْن شعوب وَقتل حَنْظَلَة [واستنقذ] أَبَا سُفْيَان، وَلم يُنكر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعل حَنْظَلَة»
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الرّبيع: قَالَ الشَّافِعِي: قد عقر حَنْظَلَة بن الراهب بِأبي سُفْيَان بن حَرْب يَوْم أحد(9/131)
(فاكتسعت) فرسه بِهِ فَسقط عَنْهَا فَجَلَسَ عَلَى صَدره ليذبحه فَرَآهُ ابْن شعوب فَرجع إِلَيْهِ يعدو كَأَنَّهُ سبع فَقتله، واستنقذ أَبَا سُفْيَان من تَحْتَهُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَان من بعد ذَلِك:
فَلَو شِئْت نجتني كنت رجيلة
وَلم أحمل النعماء لِابْنِ شعوب
وَمَا زَالَ مهري مزجر الْكَلْب مِنْهُم
كَذَا غدْوَة حَتَّى دنت لغروب
أقاتلهم [طرًّا] أدعوهم يآل غَالب
وأدفعهم عني بِرُكْن صَلِيب
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأَنا الْحَاكِم، ثَنَا الْأَصَم، ثَنَا أَحْمد بن عبد الْجَبَّار، ثَنَا يُونُس بن بكير، عَن [ابْن] إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ وَغَيره فِي قصَّة أحد فَذكر فِي قصَّة حَنْظَلَة مَعَ أبي سُفْيَان وَمَا كَانَ من مَعُونَة ابْن شعوب أَبَا سُفْيَان وَقَتله حَنْظَلَة، إِلَّا أَنه لم يذكر الْعقر وَذكر أَبْيَات أبي سُفْيَان بِنَحْوِ مَا ذكرهن الشَّافِعِي وَزَاد عَلَيْهِنَّ، وَذكر الْوَاقِدِيّ فِي هَذِه الْقِصَّة عقره فرسه.
أخبرنَا الْحَاكِم، أبنا مُحَمَّد بن أَحْمد الْأَصْبَهَانِيّ، ثَنَا الْحسن بن الجهم، ثَنَا الْحُسَيْن بن الْفرج، ثَنَا الْوَاقِدِيّ عَن شُيُوخه فَذكرُوا قصَّة حَنْظَلَة قَالُوا: «وَأخذ حَنْظَلَة بن أبي عَامر سلاحه فلحق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِأحد وَهُوَ يُسَوِّي الصُّفُوف، فَلَمَّا انْكَشَفَ الْمُشْركُونَ اعْترض حَنْظَلَة لأبي سُفْيَان بن حَرْب فَضرب عرقوب فرسه، قَالَ: فاكتسعت الْفرس وَوَقع أَبُو سُفْيَان إِلَى الأَرْض فَجعل يَصِيح: يَا معشر قُرَيْش، [أَنا] أَبُو سُفْيَان(9/132)
بن حَرْب. وحَنْظَلَة يُرِيد ذبحه بِالسَّيْفِ، فَأَسْمع الصَّوْت رجَالًا لَا يلتفتون إِلَيْهِ فِي الْهَزِيمَة، حَتَّى غاثه الْأسود بن شعوب فَحمل عَلَى حَنْظَلَة بِالرُّمْحِ فأنفذه وهرب أَبُو سُفْيَان» .
فَائِدَة: ابْن شَعُوب بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَضم الْعين الْمُهْملَة وبالباء الْمُوَحدَة، وَكَذَا ضَبطه النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» ، قَالَ ابْن سعد: اسْمه شَدَّاد بن أَوْس بن شعوب اللَّيْثِيّ. قَالَ ابْن إِسْحَاق: هُوَ شَدَّاد بن الْأسود اللَّيْثِيّ وَقد أسلفنا فِي أثْنَاء مَا ذَكرْنَاهُ عَن الْوَاقِدِيّ أَنه قَالَ اسْمه: الْأسود بن شعوب.
الحَدِيث التَّاسِع بعد السِّتين
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن ذبح الْحَيَوَان إِلَّا لمأكلة» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي كتاب الْغَصْب، فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث السبعون
«نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن قتل الْحَيَوَان صبرا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يقتل شَيْء من الْبَهَائِم صبرا» . وَمن حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعن من اتخذ شَيْئا فِيهِ الرّوح غَرضا» .(9/133)
وَأخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أنس «أَنه دخل دَار الحكم بن أَيُّوب فَإِذا قوم قد نصبوا دجَاجَة يَرْمُونَهَا فَقَالَ: نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[أَن] تصبر الْبَهَائِم» وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث بكير [عَن] عبيد بن تِعْلَى قَالَ: «غزونا مَعَ عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد فَأتي بأَرْبعَة أعلاج من الْعَدو، فَأمر بهم [فَقتلُوا] صبرا بِالنَّبلِ، فَبلغ ذَلِك أَبَا أَيُّوب فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (نهَى) عَن قتل الصَّبْر» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شُعْبَة عَن الْمنْهَال قَالَ: «كنت أَمْشِي مَعَ سعيد بن جُبَير فَقَالَ: قَالَ عبد الله بن عمر: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لعن الله من مثَّل بِالْحَيَوَانِ» وَفِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» للعقيلي من حَدِيث الْحسن عَن سَمُرة قَالَ: «نهَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تصبر الْبَهِيمَة وَأَن يُؤْكَل لَحمهَا إِذا صبرت» . قَالَ الْعقيلِيّ: قد رَوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي النَّهْي عَن صَبر الْبَهَائِم أَحَادِيث بأسانيد جِيَاد، وَأما أكل لَحمهَا فَلَا يحفظ إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث.(9/134)
الحَدِيث الْحَادِي بعد السّبْعين
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن جَيْشًا غنموا طَعَاما وَعَسَلًا عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يَأْخُذ مِنْهُم الْخمس» يَعْنِي مِمَّا تنَاوله.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع بِإِسْقَاط ابْن عمر، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَهَذَا أشبه.
الحَدِيث الثَّانِي بعد السّبْعين
عَن ابْن عمر أَيْضا قَالَ: «كُنَّا نصيب فِي مغازينا الْعَسَل وَالْعِنَب فنأكله وَلَا ندفعه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: «كُنَّا نصيب فِي الْمَغَازِي الْعَسَل والفاكهة فنأكله وَلَا ندفعه» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ ابْن الْمُبَارك عَن حَمَّاد بن زيد، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَنهُ: «كُنَّا نأتي الْمَغَازِي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فنصيب الْعَسَل وَالسمن فنأكله» .(9/135)
الحَدِيث الثَّالِث بعد السّبْعين
عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «أصبْنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِخَيْبَر طَعَاما فَكَانَ كل وَاحِد منا يَأْخُذ مِنْهُ قدر كِفَايَته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن أبي مجَالد، عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى قَالَ: «قلت: هَل كُنْتُم تخمسون الطَّعَام فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: أصبْنَا طَعَاما يَوْم خَيْبَر، فَكَانَ الرجل يَجِيء فَيَأْخُذ مِنْهُ مِقْدَار مَا يَكْفِيهِ ثمَّ ينْصَرف» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ، فقد احْتج (بِمُحَمد بن [أبي] المجالد وَعبد الله بن أبي المجالد) جَمِيعًا وَلم يخرجَاهُ. هَذَا مَا ذكره فِي الْجِهَاد، ذكره بعد فِي قسم الْفَيْء عَن مجَالد الْمَذْكُور قَالَ: بَعَثَنِي أهل الْمَسْجِد إِلَى ابْن أبي أَوْفَى أسأله: «مَا صنع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي طَعَام أهل خَيْبَر؛ فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقلت: هَل خمَّسَهُ؟ فَقَالَ: لَا، كَانَ أقل من ذَلِك، وَكَانَ أَحَدنَا إِذا أَرَادَ مِنْهُ أَخذ مِنْهُ حَاجته» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الصَّحِيحَيْنِ. أَحْمد فِي «مُسْنده» بِهَذِهِ السِّيَاقَة.
فَائِدَة: الصَّوَاب عبد الله بن أبي المجالد لَا مُحَمَّد بن أبي المجالد، وهم شُعْبَة فِي تَسْمِيَته مُحَمَّد كَمَا نبه عَلَى [ذَلِك] الْمزي.(9/136)
قَالَ الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كُنَّا نَأْخُذ من طَعَام الْمغنم مَا نشَاء.
قلت: هَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة هَكَذَا وَقد استغربها ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» وَقَالَ: لم يذكر فِي كتب الحَدِيث الْأُصُول، وَفِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» نَا معَاذ بن أبي الْمثنى، ثَنَا مُحَمَّد بن كثير الْعَبْدي، ثَنَا سُفْيَان الثَّوْريّ، ثَنَا أَشْعَث بن سوار، عَن رجل، عَن ابْن أبي أَوْفَى قَالَ: «لم يُخَمّس الطَّعَام يَوْم خَيْبَر» .
الحَدِيث الرَّابِع بعد السّبْعين
عَن رويفع بن ثَابت الْأنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا [يركب دَابَّة] من فَيْء الْمُسلمين حَتَّى إِذا أعجفها ردهَا إِلَيْهِ، وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يلبس ثوبا من فَيْء الْمُسلمين حَتَّى إِذا أخلقه رده إِلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي رواياتهم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ذَلِك يَوْم خَيْبَر.
فَائِدَة: خلق الثَّوْب - مثلت اللَّام - عَن «الْمَشَارِق» و «الْمطَالع» وَغَيرهمَا، وأخلق أَيْضا إِذا بلي وتمزَّق. وأخلقته إِمَّا يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى، والعجف - بِالتَّحْرِيكِ -: الهزال، وأعجفها: هزلها.(9/137)
الحَدِيث الْخَامِس بعد السّبْعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ حِين سُئِلَ عَن ضَالَّة الْغنم: هِيَ لَك أَو لأخيك أَو الذِّئْب» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَابه فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث السَّادِس بعد السّبْعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه وَاضحا فِي بَاب قسم الْفَيْء وَالْغنيمَة.
الحَدِيث السَّابِع بعد السّبْعين
«رَوَى أَن رجلا غلَّ فِي الْغَنِيمَة فَأحرق النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَحْله» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَبا بكر و [عمر] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أحرقوا مَتَاع الغال وضربوه وَمنعُوا سَهْمه» . وَزُهَيْر هَذَا هُوَ أَبُو الْمُنْذر الْمروزِي التَّمِيمِي الْعَنْبَري الْخُرَاسَانِي، سكن مَكَّة وَهُوَ من رجال الصَّحِيحَيْنِ، كَمَا سلف فِي الحَدِيث الرَّابِع بعد(9/138)
الْعشْرين، وَالثَّانِي من بَاب صفة الصَّلَاة، وأسلفنا هُنَاكَ عَن أَحْمد توثيقه وَأَنه قَالَ مرّة: هُوَ مُسْتَقِيم الحَدِيث. وَاخْتلف قَول يَحْيَى فِيهِ فَمرَّة قَالَ: إِنَّه ثِقَة. وَمرَّة قَالَ: إِنَّه ضَعِيف. وَقَالَ البُخَارِيّ: رَوَى عَنهُ أهل الشَّام أَحَادِيث مَنَاكِير. وَقَالَ ابْن عدي: لَعَلَّ الشاميين أخطئوا عَلَيْهِ؛ فَإِن رِوَايَة الْعِرَاقِيّين تشبه الْمُسْتَقيم. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بالقوى. وَأما الْحَاكِم فَقَالَ بعد أَن أخرجه فِي «الْمُسْتَدْرك» من طَرِيقه هَذَا: حَدِيث غَرِيب صَحِيح. لكنه قَالَ - فِيمَا نَقله عَنهُ الذَّهَبِيّ فِي جُزْء من تكلم فِيهِ وَهُوَ موثق -: إِن زهيرًا هَذَا مِمَّن خَفِي عَلَى مُسلم بعض حَاله، فَإِنَّهُ من الْعباد الصَّالِحين المجاورين بِمَكَّة، لَيْسَ فِي الحَدِيث بِذَاكَ، لينه أَحْمد؛ فيعترض عَلَيْهِ فِي تَصْحِيحه إِذن. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْغلُول لَيْسَ فِيهَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر بتحريق مَتَاع الغال قَالَ: وَفِي ذَلِك دَلِيل عَلَى ضعف هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَيُقَال: إِن زهيرًا هَذَا مَجْهُول وَلَيْسَ بِالْمَكِّيِّ. قلت: غَرِيب. وَقَالَ الرَّافِعِيّ عَن الشَّافِعِي: لَو صَحَّ هَذَا الحَدِيث قلت بِهِ. قَالَ الرَّافِعِيّ: يُرِيد أَنه لم تظهر صِحَّته. قَالَ: وَبِتَقْدِير الصِّحَّة فليحمل ذَلِك عَلَى أَنه كَانَ فِي مبدأ الْأَمر ثمَّ نسخ.
قلت: وَورد أَيْضا الْأَمر بذلك. رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث صَالح بن مُحَمَّد بن زَائِدَة قَالَ: «دخلت مَعَ مَسْلمة أَرض الرّوم فَأتي بِرَجُل قد غل(9/139)
فَسَأَلَ سالما عَنهُ فَقَالَ: سَمِعت أبي يحدث عَن عمر بن الْخطاب عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: إِذا وجدْتُم الرجل قد غل (فأحرقوا مَتَاعه) واضربوه. قَالَ: فَوَجَدنَا فِي مَتَاعه مُصحفا فَسَأَلَ سالما عَنهُ فَقَالَ: بِعْهُ وَتصدق بِثمنِهِ» . وَصَالح هَذَا ضعفه جماعات بل الْجُمْهُور، قَالَ يَحْيَى وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَفِي رِوَايَة عَن يَحْيَى: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يقلب الْأَسَانِيد وَلَا يعلم، ويسند الْمَرَاسِيل وَلَا يفهم، فَلَمَّا [كثر ذَلِك فِي حَدِيثه] اسْتحق التّرْك. وَلم أر فِي [توثيقه] إِلَّا قَول الإِمَام أَحْمد: مَا أرَى بِهِ بَأْسا. وَضعف الحَدِيث أَيْضا جماعات، وَقَالَ البُخَارِيّ: صَالح بن مُحَمَّد بن زَائِدَة [يروي عَن سَالم عَن ابْن عمر] عَن عمر رَفعه: «من غل فأحرقوا مَتَاعه» وَقد رَوَى ابْن عَبَّاس عَن عمر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْغلُول وَلم يحرق. قَالَ البُخَارِيّ: [وَعَامة] أَصْحَابنَا يحتجون بِهَذَا فِي الْغلُول، وَهَذَا بَاطِل لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: نَا أَبُو صَالح الْأَنْطَاكِي، ثَنَا أَبُو إِسْحَاق صَالح بن مُحَمَّد قَالَ: «غزونا مَعَ الْوَلِيد بن هِشَام [مَعنا] سَالم بن عبد الله بن عمر، وَعمر بن عبد الْعَزِيز فَغَلَّ(9/140)
رجل [منا] مَتَاعا، فَأمر الْوَلِيد بمتاعه فَأحرق وطيف بِهِ وَلم يُعْطه سَهْمه» . قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهَذَا أصح الْحَدِيثين رَوَاهُ غير وَاحِد «أَن الْوَلِيد بن هِشَام حرق رَحل [زِيَاد] وَكَانَ قد غل وضربه» وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَسَأَلت مُحَمَّدًا عَنهُ فَقَالَ: إِنَّه رَوَاهُ صَالح بن مُحَمَّد وَهُوَ مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أَنْكَرُوا هَذَا الحَدِيث عَلَى صَالح بن مُحَمَّد. وَقلت: هَذَا حَدِيث لم يُتَابع عَلَيْهِ وَلَا أصل لهَذَا الحَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: وَصَالح هَذَا ضَعِيف، قَالَ: وَالْمَحْفُوظ أَن سالما أَمر بِهَذَا وَلم يرفعهُ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا ذكره عَن أَبِيه وَلَا عَن عمر. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : هَذَا الحَدِيث يَدُور عَلَى صَالح بن مُحَمَّد وَهُوَ مُنكر الحَدِيث [ضَعِيف] لَا يحْتَج بِهِ، ضعفه البُخَارِيّ وَغَيره. قَالَ: وَفِي بعض أَلْفَاظه: «فاضربوا عُنُقه واحرقوا مَتَاعه» ذكره ابْن عبد الْبر وَخَالف الْحَاكِم فَقَالَ بعد أَن أخرجه من جِهَة صَالح الْمَذْكُور: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَاسْتدلَّ بِهِ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» لمذهبه حَيْثُ قَالَ: إِذا غل من الْغَنِيمَة أحرق رَحْله إِلَّا السِّلَاح والمصحف خلافًا لأكثرهم، كَذَا هَذَا الحَدِيث. ثمَّ ذكره من طَرِيق الإِمَام أَحْمد ثمَّ قَالَ: فَإِن قَالُوا: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فَبَطل كَلَامه السالف وَكَلَام يَحْيَى بن معِين فِيهِ أَيْضا. ثمَّ قَالَ:(9/141)
قُلْنَا: قَالَ أَحْمد: مَا أرَى بِهِ بَأْسا.
وَهَذَا غَرِيب مِنْهُ فقد ذكره فِي «ضُعَفَائِهِ» - أَعنِي صَالح بن مُحَمَّد - وَنقل كَلَام الْأَئِمَّة فِيهِ. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِفضل الله ومنّه.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار أحد عشر أثرا:
أَحدهَا «أَن أَبَا بكر الصّديق بعث جَيْشًا إِلَى الشَّام فنهاهم عَن قتل الشُّيُوخ وَأَصْحَاب الصوامع، وَعَن قطع الْأَشْجَار المثمرة» .
وَهَذَا الْأَثر تقدم بَيَانه فِي أثْنَاء الحَدِيث السَّابِع بعد السِّتين.
الْأَثر الثَّانِي: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «أَنا فِئَة لكل مُسلم. وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ وَجُنُوده بِالشَّام وَالْعراق» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الشَّافِعِي، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن ابْن أبي نجيح، عَن مُجَاهِد، أَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أَنا فِئَة لكل مُسلم» وَقد رُوِيَ هَذَا عَن ابْن عمر مَرْفُوعا أخرجه الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن عبد الله بن عمر قَالَ: «بعثنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سَرِيَّة فلقينا الْعَدو، فَحَاص الْمُسلمُونَ حَيْصَة وَكنت فِيمَن حَاص، قلت فِي نَفسِي: لَا(9/142)
ندخل الْمَدِينَة وَقد بؤنا بغضب من الله، ثمَّ قُلْنَا: ندْخلهَا فنمتار مِنْهَا، فَدَخَلْنَا فلقينا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ خَارج إِلَى الصَّلَاة فَقُلْنَا: نَحن الْفَرَّارُونَ، فَقَالَ: [بل] أَنْتُم الْعَكَّارُونَ. فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، أردنَا أَن لَا ندخل الْمَدِينَة وَأَن نزلنَا الْبَحْر. فَقَالَ: لَا تَفعلُوا فَإِنِّي فِئَة كل مُسلم» .
وَأخرجه الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن يزِيد نَحوه. وَأخرجه أَحْمد أَيْضا عَن حسن، عَن زُهَيْر، عَن يزِيد، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ نَحوه ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث [يزِيد ابْن أبي زِيَاد] .
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَإِنَّا لم نصححه؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة يزِيد بن أبي زِيَاد، وَقد عُلِم مَا فِيهِ.
فَائِدَة: مَعْنَى قَوْله: «فَحَاص النَّاس حَيْصَة» : فروا من الْقِتَال. قَالَه التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ ابْن الرّفْعَة فِي «كِفَايَته» : حا وصاد مهملتين أَي مالوا يُرِيدُونَ الْفِرَار. قَالَ: وَرُوِيَ بِالْجِيم بِمَعْنى فروا، وَمَعْنى قَوْله: «بل أَنْتُم الْعَكَّارُونَ» الْعَكَّارُ الَّذِي يفر إِلَى أَمَامه ليبصره لَيْسَ يُرِيد بِهِ الْفِرَار من الزَّحْف.
فَائِدَة أُخْرَى: هَذِه السّريَّة هِيَ عزوة مُؤْتَة كَمَا جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي بعض الرِّوَايَات وَكَانَ الْعَدو كثيرا جدا كَانُوا قَرِيبا من مِائَتي ألف من الرّوم(9/143)
ونصارى الْعَرَب وَكَانَ الْمُسلمُونَ نَحوا من ثَلَاثَة آلَاف فَقَط كَذَا قيل.
الْأَثر الثَّالِث: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «من فر من ثَلَاثَة لم يفر، وَمن فر من اثْنَيْنِ فقد فر» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن الْحَاكِم، ثَنَا الْأَصَم، ثَنَا أَحْمد بن شَيبَان، عَن ابْن أبي نجيح، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ. وَهُوَ [فِي] «مُسْند الشَّافِعِي» بِهَذَا الْإِسْنَاد لَكِن بِإِسْقَاط عَطاء، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» مَرْفُوعا عَن أبي حنيفَة الوَاسِطِيّ وعبدان [قَالَا] ثَنَا معمر بن سهل، ثَنَا [عَامر] بن مدرك، ثَنَا الْحسن بن صَالح، عَن ابْن أبي نجيح، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من فر من اثْنَيْنِ فقد فر، وَمن فر من ثَلَاثَة فَلم يفر» .
الْأَثر الرَّابِع إِلَى التَّاسِع: «أَن عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بارز يَوْم الخَنْدَق عَمْرو بن عبْدُ ود وَأَن مُحَمَّد بن مسلمة بارز يَوْم خَيْبَر مرْحَبًا، وَأَن عليًّا بارزه أَيْضا، وَأَن الزبير بارز ياسرًا، وَأَن عبد الله بن رَوَاحَة بارز أَيْضا» .
وَهَذِه الْآثَار تقدّمت فِي الْأَحَادِيث السالفة فَرَاجعهَا مِنْهُ.
الْأَثر الْعَاشِر: «أَن أَبَا جهل لما قتل حمل رَأسه، وَأَن أَبَا بكر حملت إِلَيْهِ رُءُوس» .(9/144)
وَهَذَانِ قد سلف بيانهما فِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْأَرْبَعين.
الْأَثر الْحَادِي عشر: عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «لَا يفرق بَين الْوَالِد وَولده» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن الْمُبَارك، عَن معمر، عَن أَيُّوب قَالَ: «أَمر عُثْمَان بن عَفَّان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن يُشْتَرَى لَهُ رَقِيق. وَقَالَ: لَا يفرق بَين الْوَالِد وَولده» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ هَذَا مَوْصُولا فَرَوَاهُ [الْأَشْجَعِيّ] عَن سُفْيَان، عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، عَن حميد بن هِلَال، عَن حَكِيم بن [عقال] قَالَ: «نهاني عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن أفرق بَين الْوَالِد وَولده فِي البيع» .
وأختم الْبَاب بفصول ذكرهَا الرَّافِعِيّ فِي أَثْنَائِهَا آثَار، فَأَرَدْت أَن أذكرها بأحكامها؛ لِأَن بذلك تتمّ فائدتها.
الْفَصْل الأول:
قَالَ الرَّافِعِيّ: أَرض الْكفَّار وعقارهم تملك بِالِاسْتِيلَاءِ كَمَا تملك المنقولات. وَعَن أبي حنيفَة أَنه يتَخَيَّر الإِمَام فِي الْعقار المغنوم بَين أَن يقسمها عَلَى الْغَانِمين كالمنقول وَبَين أَن يَتْرُكهَا فِي أَيدي الْكفَّار، كَمَا فعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعقار مَكَّة، وَبَين أَن يقفها عَلَى الْمُسلمين [و] إِذا أقرها(9/145)
عَلَى ملك أَرْبَابهَا ضرب عَلَيْهِم جزيتين: إِحْدَاهمَا عَلَى رُءُوسهم، وَالْأُخْرَى عَلَى الْأَرَاضِي، فَإِذا أَسْلمُوا أسقطت جِزْيَة الرُّءُوس دون الْأُخْرَى. هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ:
فَأَما فعله عَلَيْهِ السَّلَام بعقار مَكَّة فمشهور لَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل عَلَيْهِ وَأما فعل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَسَيَأْتِي بعد ذَلِك وَاضحا.
الْفَصْل الثَّانِي:
سَواد الْعرَاق، قَالَ أَبُو إِسْحَاق: فتح صلحا. وَالصَّحِيح الْمَنْصُوص أَن عمر بن الْخطاب [فتحهَا] عنْوَة قسمه بَين الْغَانِمين، ثمَّ استطاب قُلُوبهم واسترده. وَقَالَ: الأول أَن عمر ردهَا عَلَيْهِم بخراج يؤدونه كل سنة. وَاخْتلف الْأَصْحَاب فِيمَا فعله عمر عَلَى وَجْهَيْن، الصَّحِيح الْمَنْصُوص أَنه وَقفهَا عَلَى الْمُسلمين وأجره لأَهله، وَالْخَرَاج الْمَضْرُوب عَلَيْهِ أُجْرَة منجمة تُؤَدَّى كل سنة. قَالَ جرير بن عبد الله البَجلِيّ: «كَانَت بجيلة ربع النَّاس يَوْم الْقَادِسِيَّة فقسم لَهُم عمر ربع السوَاد فاشتغلوا ثَلَاث سِنِين أَو أَرْبعا ثمَّ قدمت عَلَى عمر، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي قَاسم مسئول [لنزكتكم] عَلَى مَا قسم لكم، وَلَكِنِّي أرَى أَن تردوا عَلَى النَّاس فغاصبني ثمن حَقي ونيفًا وَثَمَانِينَ دِينَارا، وَكَانَ معي امْرَأَة يُقَال لَهَا أم كرز، فَقَالَت: إِن أبي شهد الْقَادِسِيَّة وَثَبت سَهْمه وَلَا أسلمه حَتَّى تملأ كفي دَنَانِير وكمي لآلئ، وتركبني نَاقَة ذلولًا عَلَيْهَا قطيفة حَمْرَاء. فَفعل(9/146)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَتركت حَقّهَا» وَعَن عتبَة بن فرقد «أَنه اشْتَرَى أَرضًا من أَرض السوَاد فَأَتَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَأخْبرهُ فَقَالَ: مِمَّن اشْتَرَيْتهَا؟ فَقَالَ: من أَهلهَا، فَقَالَ: فَهَؤُلَاءِ الْمُسلمُونَ أبعتموه شَيْئا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَاذْهَبْ واطلب مَالك» .
وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ: «جعل عمر السوَاد وَقفا عَلَى الْمُسلمين مَا تَنَاسَلُوا» . وَعَن ابْن شبْرمَة أَنه قَالَ: لَا أُجِيز بيع أَرض السوَاد وَلَا هبتها وَلَا وَقفهَا. فعلَى هَذَا لَا يجوز بَيْعه وَرَهنه وهبته، وَيجوز لأَهله إِجَارَته بالِاتِّفَاقِ مُدَّة مَعْلُومَة، وَلَا يجوز إِجَارَته مُؤَبَّدًا عَلَى الْأَصَح بِخِلَاف إِجَارَة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مُؤَبَّدًا فَإِنَّهَا احتملت لمصْلحَة كُلية.
وَعَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «لَوْلَا أخْشَى أَن يَبْقَى آخر الزَّمَان ببّانًا لَا شَيْء لَهُم لتركتكم وَمَا قسم لكم، وَلَكِنِّي أحب أَن يلْحق آخر النَّاس أَوَّلهمْ. وتلا قَوْله تَعَالَى: (وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ) » قَوْله ببّانًا أَي: شَيْئا وَاحِدًا وَقيل: أَي متساوين فِي الْفقر.
وَعَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ أَنه قَالَ: أدْركْت النَّاس بِالْبَصْرَةِ وَإنَّهُ ليجاء بِالتَّمْرِ فَمَا يَشْتَرِيهِ إِلَّا أَعْرَابِي أَو من يتَّخذ النَّبِيذ. يُرِيد أَنهم كَانُوا يتجرون مِنْهُ، وَأَن ذَلِك كَانَ مَشْهُورا فِيمَا بَينهم. هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ مُلَخصا.
فَأَما أثر جرير فَرَوَاهُ الشَّافِعِي قَالَ: أَنا الثِّقَة، عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، عَن قيس بن أبي حَازِم، عَن جرير فَذكره مثله سَوَاء. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِي: فِي هَذَا الحَدِيث دلَالَة إِذا أعْطى جرير البَجلِيّ عوضا من سَهْمه وَالْمَرْأَة عوضا من سهم أَبِيهَا، أَنه(9/147)
استطاب أنفس الَّذين أوجفوا عَلَيْهِ فتركوا حُقُوقهم مِنْهُ، فَجعله وَقفا للْمُسلمين، وَهَذَا حَلَال للْإِمَام أَن يفعل ذَلِك كَذَلِك. وَأما أثر عتبَة ابْن فرقد أخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيقين فِي «سنَنه» قَالَ الشَّافِعِي: وَهَذَا أولَى الْأُمُور بعمر بن الْخطاب عندنَا فِي السوَاد وَيتَوَجَّهُ إِن كَانَت عنْوَة.
فَائِدَة: قَوْله: «ببَّانا» هُوَ بباء مُوَحدَة مَفْتُوحَة ثمَّ مثلهَا مُشَدّدَة ثمَّ ألف ثمَّ نون ثمَّ ألف، كَذَا ضَبطه الْجَوْهَرِي فِي بَاب الْبَاء من «صحاحه» وَذكر فِيهِ قَول عمر فِي الْقسم وَكَانَ يفضل الْمُهَاجِرين وَأهل بدر فِي الْعَطاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: وَهَكَذَا سمع مِنْهُم، وناس يجعلونه من هيَّان بن بيَّان وَمَا أرَاهُ بِمَحْفُوظ عَن الْعَرَب.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ «أَن عمر بن الْخطاب بعث عُثْمَان بن حنيف ماسحًا، فَفرض عَلَى كل جريب شعير دِرْهَمَيْنِ، وَعَلَى كل جريب حِنْطَة أَرْبَعَة دَرَاهِم، وَعَلَى كل جريب الشّجر وقصب السكر سِتَّة دَرَاهِم، وَعَلَى جريب النّخل عشرَة دَرَاهِم، وَعَلَى جريب الزَّيْتُون اثْنَا عشر دِرْهَم» .
وَعَن رِوَايَة أبي (مخلد «أَن ابْن حنيف فرض عَلَى جريب الْكَرم عشرَة دَرَاهِم، وَعَلَى جريب النّخل ثَمَانِيَة دَرَاهِم» وَلَيْسَ فِيهَا ذكر الزَّيْتُون، وَالْبَاقِي كَمَا سبق. هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن قَتَادَة عَن لَاحق بن حميد قَالَ: «بعث عمر بن الْخطاب عمار بن يَاسر وَعبد الله بن مَسْعُود وَعُثْمَان بن حنيف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم إِلَى الْكُوفَة، وَبعث عمار بن يَاسر عَلَى الصَّلَاة وَعَلَى الجيوش، وَبعث ابْن مَسْعُود عَلَى الْقَضَاء وَعَلَى بَيت(9/148)
المَال، وَبعث عُثْمَان بن حنيف [عَلَى] مساحة الأَرْض، وَجعل بَينهم كل يَوْم شَاة شطرها وسواقطها لعمَّار بن يَاسر، وَالنّصف بَين هذَيْن، ثمَّ قَالَ: أنزلتكم وإياي من هَذَا المَال كمنزلة وَالِي الْيَتِيم (من كَانَ غنيًّا فليستعفف، وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ) ، وَمَا أرَى قَرْيَة يُؤْخَذ مِنْهَا كل يَوْم شَاة إِلَّا (كَانَ ذَلِك [سَرِيعا] فِي خرابها قَالَ: فَوضع عُثْمَان بن حنيف عَلَى جريب الْكَرم عشرَة دَرَاهِم) وَعَلَى جريب النّخل أَظُنهُ قَالَ: ثَمَانِيَة، وَعَلَى جريب الْقصب سِتَّة دَرَاهِم، وَعَلَى جريب الْبر أَرْبَعَة دَرَاهِم، وَعَلَى جريب الشّعير دِرْهَمَيْنِ، وَعَلَى رُءُوسهم عَن كل رجل أَرْبَعَة وَعشْرين كل سنة، وعطل من ذَلِك النِّسَاء وَالصبيان، وَفِيمَا يخْتَلف فِيهِ من تجاراتهم نصف الْعشْر. قَالَ: ثمَّ كتب بذلك إِلَى عمر بن الْخطاب فَأجَاز ذَلِك وَرَضي بِهِ وَقيل لعمر: كَيفَ [نَأْخُذ] من تجار الْحَرْب إِذا قدمُوا علينا؟ فَقَالَ عمر: كَيفَ يَأْخُذُونَ مِنْكُم إِذا أتيتم بِلَادهمْ؟ قَالُوا: الْعشْر. قَالَ: فَكَذَلِك خُذُوا مِنْهُم» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَعَلَى كل جريب النّخل ثَمَانِيَة، وَعَلَى جريب الْقصب سِتَّة - لم يشك» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن الحكم «أَن عمر بن الْخطاب بعث عُثْمَان بن حنيف يمسح السوَاد، فَوضع عَلَى كل جريب عَامر - أوغامر - حَيْثُ يَنَالهُ المَاء قَفِيزا أَو درهما. قَالَ: وَكِيع: يَعْنِي الْحِنْطَة وَالشعِير - وَوضع عَلَى كل جريب الْكَرم عشرَة دَرَاهِم، وَعَلَى جريب الرطاب خَمْسَة دَرَاهِم» .(9/149)
وَهَذَا مُنْقَطع؛ الحكم لم يدْرك عمر، وَلَا يحضرني من خرجه من طَرِيق الشّعبِيّ عَن عمر كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ.
فَائِدَة: قَالَ الْحَازِمِي فِي «المعرب» : الْقصب المقطع من بَاب ضرب قَالَ: وَمِنْه الْقصب الاسفست؛ لِأَنَّهُ يجز. قَالَ: وَمِنْه حَدِيث الْجِزْيَة هَذَا. وحُنيف بِضَم أَوله تَصْغِير حَنيف بِمَعْنى المائل. قَالَ الرَّافِعِيّ. وَيذكر أَن الْحَاصِل من أَرض الْعرَاق عَلَى عهد عمر بن الْخطاب كَانَ مائَة ألف ألف وَسَبْعَة وَثَلَاثِينَ ألف ألف دِرْهَم. وَقيل: مائَة ألف ألف وَسِتِّينَ ألف ألف ثمَّ كَانَ يتناقص حَتَّى عَاد فِي زمَان الْحجَّاج إِلَى ثَمَانِيَة عشر ألف ألف دِرْهَم فَلَمَّا ولي عمر بن عبد الْعَزِيز ارْتَفع فِي السّنة الأولَى إِلَى ثَلَاثِينَ ألف ألف دِرْهَم، وَفِي الثَّانِيَة إِلَى سِتِّينَ ألف ألف دِرْهَم. وَقيل: فَوق ذَلِك. قَالَ: لَئِن عِشْت لأبلغنه إِلَى مَا كَانَ فِي أَيَّام عمر. فَمَاتَ فِي تِلْكَ السّنة.
الْفَصْل الثَّالِث:
مَكَّة فتحت صلحا خلافًا لأبي حنيفَة وَمَالك حَيْثُ قَالَا: إِنَّهَا فتحت عنْوَة، وَقد تعلل أَبُو حنيفَة امْتِنَاعه عَلَيْهِ السَّلَام عَن غنيمَة العقارات بِأَنَّهَا خلقت حرَّة وَيَقُول: لَا يجوز بيع دور مَكَّة. وَعِنْدنَا دورها وعِراضها المحياة مَمْلُوكَة كَمَا فِي سَائِر الْبِلَاد وَيصِح بيعهَا، وَلم يزل النَّاس يتبايعونها. وَقد رُوِيَ «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه اشْتَرَى حجرَة سَوْدَة بِمَكَّة» و «أَن حَكِيم بن حزَام بَاعَ دَار الندوة من مُعَاوِيَة» وَهَذَانِ الأثران سلف الْكَلَام عَلَيْهِمَا فِي كتاب(9/150)
الْبيُوع وَاضحا قبيل بَاب تَفْرِيق الصَّفْقَة لَكِن بِلَفْظ [عَن] عمر «أَنه اشْتَرَى دَارا بِمَكَّة» ، نعم عبد الله بن الزبير اشْتَرَى حجرَة سَوْدَة.(9/151)
الْبَاب الثَّالِث:
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فخمسة عشر حَدِيثا
أَحدهَا
حَدِيث أبي سُفْيَان فِي الْأمان.
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أقبل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى قدم مَكَّة فَبعث الزبير عَلَى إِحْدَى المُجنِّبتيْن، وَبعث خَالِدا عَلَى المُجنِّبة الْأُخْرَى، وَبعث أَبَا عُبَيْدَة عَلَى الحُسر فَأخذ بطن الْوَادي وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي كَتِيبَة. قَالَ: فَنظر فرآني فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَة قلت: لبيْك يَا رَسُول الله. فَقَالَ: اهتف: لَا [يأتيني إِلَّا أَنْصَارِي] قَالَ: فأطافوا بِهِ (وأوبشت) قُرَيْش أوباشًا لَهَا وأتباعًا، فَقَالُوا: نقدم هَؤُلَاءِ، فَإِن كَانَ لَهُم شَيْء كُنَّا مَعَهم وَإِن أصيبوا أعطينا الَّذِي سئلنا. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ترَوْنَ إِلَى أوباش قُرَيْش وأتباعهم. ثمَّ قَالَ بيدَيْهِ إِحْدَاهمَا عَلَى الْأُخْرَى: (احصدوهم حصدًا)(9/152)
ثمَّ قَالَ: حَتَّى توافوني بالصفا. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا شَاءَ أحد منا أَن يقتل أحدا إِلَّا قَتله، وَمَا أحد يُوَجه إِلَيْنَا شَيْئا. قَالَ: فجَاء أَبُو سُفْيَان فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أبيحت خضراء قُرَيْش، لَا قُرَيْش، بعد الْيَوْم. قَالَ: من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن، وَمن ألْقَى السِّلَاح فَهُوَ آمن، وَمن أغلق بَابه فَهُوَ آمن. فَقَالَت الْأَنْصَار: أما الرجل فقد أَخَذته رأفة بعشيرته ورغبة فِي قومه. وَنزل الْوَحْي عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ: قُلْتُمْ: أما الرجل فقد أَخَذته رأفة بعشيرته، ورغبة فِي قومه، أَلا فَمَا اسمِي إِذا - ثَلَاث مَرَّات - أَنا مُحَمَّد بن عبد الله وَرَسُوله، هَاجَرت إِلَى الله وَرَسُوله قَالَ: فَإِن الله وَرَسُوله يصدقانكم ويعذرانكم» .
فَائِدَة: الجنيبة: جَانب الْعَسْكَر، وَله مجنبتان: ميمنة وميسرة. والحسر: جمع حاسر، وَهُوَ الَّذِي لَا درع لَهُ وَلَا مغفر. والضن: الْبُخْل.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي قبله لَا بعده ذكرهمَا الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب قبله فذكرتهما هُنَا فاعلمه.
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتثْنى يَوْم فتح مَكَّة رجَالًا مخصوصين فَأمر بِقَتْلِهِم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَاللَّفْظ لَهُ من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص قَالَ: «لما كَانَ يَوْم فتح مَكَّة أَمن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - النَّاس إِلَّا أَرْبَعَة [نفر] وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِن وَجَدْتُمُوهُمْ(9/153)
معلقين بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة: عِكْرِمَة بن أبي جهل، وَعبد الله بن خطل، وَمقيس بن صبَابَة، وَعبد الله بن أبي سرح. فَأَما عبد الله بن خطل فأُدرك وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة، فَاسْتَبق إِلَيْهِ سعيد بن حُرَيْث وعمار بن يَاسر فَسبق سعيد عمارًا وَكَانَ أشب الرجلَيْن فَقتله [وَأما مقيس بن صبَابَة فأدركه النَّاس فِي السُّوق فَقَتَلُوهُ] وَأما عِكْرِمَة بن أبي جهل فَركب الْبَحْر فَأَصَابَتْهُمْ عاصفٌ فَقَالَ (أهل) السَّفِينَة: أَخْلصُوا فَإِن آلِهَتكُم لَا تغني عَنْكُم شَيْئا هَا هُنَا. فَقَالَ عِكْرِمَة: [وَالله لَئِن لم يُنجنِي من الْبَحْر إِلَّا الْإِخْلَاص لَا يُنجنِي فِي الْبر غَيره] اللَّهُمَّ [إِن] لَك عهدا إِن أَنْت عَافَيْتنِي مِمَّا أَنا فِيهِ أَن آتِي مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَع يَدي فِي يَده فلأجدنه عفوًّا (غَفُورًا) كَرِيمًا، فجَاء وَأسلم، وَأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْد عُثْمَان، فَلَمَّا دَعَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - النَّاس إِلَى الْبيعَة جَاءَ حَتَّى أوقفهُ عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، بَايع عبد الله. قَالَ: فَرفع رَأسه فَنظر إِلَيْهِ ثَلَاثًا كل ذَلِك يَأْبَى فَبَايعهُ بعد ثَلَاث، ثمَّ أقبل عَلَى أَصْحَابه فَقَالَ: أما كَانَ فِيكُم رجل رشيد يقوم إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْت يَدي عَن (مبايعته) فيقتله؟ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، مَا نَدْرِي مَا فِي نَفسك، أَلا أَوْمَأت إِلَيْنَا بِعَيْنِك. قَالَ: إِنَّه لَا يَنْبَغِي لنَبِيّ أَن تكون لَهُ خَائِنَة الْأَعْين» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ عبد الله أَخا عُثْمَان من الرضَاعَة. وَفِي رِوَايَة للبيهقي من رِوَايَة عمر بن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن سعيد المَخْزُومِي(9/154)
(عَن جده، عَن أَبِيه) «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ يَوْم فتح مَكَّة: أَمن النَّاس إِلَّا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة، لَا يُؤمنُوا لَا فِي حل وَلَا حرم: ابْن خطل، وَمقيس بن صبَابَة، وَعبد الله بن أبي سرح وَابْن معبد. فَأَما ابْن خطل فَقتله الزبير بن الْعَوام، وَأما ابْن أبي سرح فاستأمن لَهُ عُثْمَان فأمن وَكَانَ أَخَاهُ من الرضَاعَة فَلم يقتل، وَمقيس بن صبَابَة فَقتله ابْن عَم لَهُ لحا - قد سَمَّاهُ وَقتل عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ابْن معبد وقينتين كَانَتَا لمقيس فقتلت إِحْدَاهمَا وأفلتت الْأُخْرَى فَأسْلمت» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي حَدِيث أنس بن مَالك فِيمَن أَمر بقتْله أم سارة مولاة لقريش. وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق فِي «الْمَغَازِي» سارة مولاة لبَعض بني عبد الْمطلب، وَكَانَت مِمَّن تؤذيه بِمَكَّة.
وَذكر ابْن هِشَام أَن نميلَة قتل مقيس بن صبَابَة وَهُوَ رجل من قومه، وَابْن عبد الله بن خطل قَتله سعيد بن حُرَيْث وَأَبُو بَرزَة الْأَسْلَمِيّ اشْتَركَا فِي دَمه. وَجزم أَبُو نعيم فِي «الْمعرفَة» بِأَن الَّذِي قَتله هُوَ أَبُو بَرزَة وَحده.
قَالَ ابْن الطلاع: وَذكر صَاحب «كتاب السّرقَة» أَن أَبَا بَرزَة قَتله.(9/155)
وَذكر ابْن حبيب أَنه أَمر بقتل هِنْد بنت عتبَة بن ربيعَة وَقَرِيبَة أَيْضا، وَقتلت قريبَة وَسَارة وَأسْلمت هِنْد وبايعته. وَذكر ابْن إِسْحَاق أَن سارة أمنها النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعد أَن استؤمن لَهَا فَبَقيت حَتَّى أَوْطَأَهَا رِجْل فرسٍ فِي زمن عمر بن الْخطاب بِالْأَبْطح فَقَتلهَا. وَذكر أَبُو عبيد فِي «كتاب الْأَمْوَال» أَن سارة حملت كتاب حَاطِب إِلَى مَكَّة.
فَائِدَة: قَالَ المطرزي فِي «الْمغرب» : مقيس بن صبَابَة بالصَّاد غير الْمُعْجَمَة، عَن الْجَوْهَرِي وَغَيره. قَالَ: والمحدثون يَقُولُونَ: مقيس بِالسِّين. وَعَن ابْن دُرَيْد: مقيس بِوَزْن مَرْيَم، وضبابة بالضاد مُعْجمَة.
وَذكر ابْن مَنْدَه فِي «تَارِيخه» مقيس بن صبَابَة وَقَالَ: أرتد عَن الْإِسْلَام ثمَّ رَجَعَ، وَهِشَام أَخُوهُ قتل مُسلما.
رَوَى عَنهُ عبد الله بن عَبَّاس، وَقد ذكرنَا قبل أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر بقتْله يَوْم الْفَتْح وَأَن تُمَيْلة قَتله.
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن رجلا أَجَارَ رجلا من الْمُشْركين، فَقَالَ عَمْرو بن العَاصِي وخَالِد بن الْوَلِيد: لَا يجير ذَلِك. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح: لَيْسَ لَكمَا ذَلِك؛ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: يجير عَلَى الْمُسلمين بَعضهم. فأجاروه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» : ثَنَا إِسْمَاعِيل، ثَنَا إِسْرَائِيل، عَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن الْوَلِيد بن أبي مَالك، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة قَالَ: «أَجَارَ رجل من الْمُسلمين رجلا وَعَلَى الْجَيْش أَبُو(9/156)
عُبَيْدَة بن الْجراح فَقَالَ خَالِد بن الْوَلِيد وَعَمْرو بن العَاصِي: لَا تجيروه. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: نجيره سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: يجير عَلَى الْمُسلمين أحدهم» ثمَّ رَوَاهُ بالسند الْمَذْكُور إِلَى أبي أُمَامَة قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول «يجير عَلَى الْمُسلمين بَعضهم» .
الْحجَّاج قد عرفت حَاله سِيمَا وَقد عنعن، وَالقَاسِم حَاله تَالِف. وَرَوَى أَحْمد أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَفعه: «يجير عَلَى الْمُسلمين أَدْنَاهُم» وَرَوَى الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن الْوَلِيد بن أبي مَالك، عَن عبد الرَّحْمَن بن مسلمة، عَن عَمه، عَن أبي عُبَيْدَة بن الْجراح قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يجير عَلَى الْمُسلمين بَعضهم» ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا نعلم لَهُ طَرِيقا عَن أبي عُبَيْدَة إِلَّا هَذَا الطَّرِيق عبد الرَّحْمَن لَا يعلم رَوَى إِلَّا هَذَا الحَدِيث.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «مَا عِنْدِي إِلَّا كتاب الله وَهَذِه الصَّحِيفَة عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن ذمَّة الْمُسلمين وَاحِدَة، فَمن أَخْفَر مُسلما فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «مَا كتبنَا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا الْقُرْآن وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة. قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: الْمَدِينَة حرَام مِمَّا بَين عير إِلَى ثَوْر، فَمن أحدث فِيهَا(9/157)
حَدثا أَو آوَى مُحدثا فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ، لَا يقبل مِنْهُ عدل وَلَا صرف، ذمَّة الْمُسلمين وَاحِدَة يسْعَى بهَا أَدْنَاهُم فَمن أَخْفَر مُسلما فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ، لَا يقبل مِنْهُ عدل وَلَا صرف» وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور مُسلم من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
ذمَّة الْمُسلمين: أَي عَهدهم وأمانهم. وأخفره: نقض عَهده. كَذَا أسلفه الْجَوْهَرِي رباعيًّا. وَأما خفر الثَّانِي فَمَعْنَاه أجاره وأمَّنه، وَمِنْه الخفارة. وَالصرْف: النَّافِلَة. وَقيل: الْفَرِيضَة. وَقيل: الكفيلة. وَقيل: الْوَزْن. وَقيل: التَّوْبَة. وَقيل: الْحِيلَة. وَالْعدْل: الْفِدْيَة، أَي لَا يجد فِي الْقِصَّة فديًا يفتدى بِهِ بِخِلَاف غَيره من المذنبين الَّذين يفدون من النَّار باليهود وَالنَّصَارَى.
وَقَوله: «أَو آوَى مُحدثا» .
قَالَ الْخطابِيّ فِي «تصاحيف الروَاة» : الْوَجْه كسر الدَّال من «مُحدثا» قَالَ: وَقد يحْتَمل أَن يُقَال بِفَتْحِهَا.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُسلمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ، وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم،(9/158)
وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث قيس بن عباد قَالَ: «دخلت أَنا وَالْأَشْتَر عَلَى عليِّ بن [أبي] طَالب يَوْم الْجمل فَقلت: هَل عهد إِلَيْك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عهدا دون [الْعَامَّة؟ فَقَالَ: لَا إِلَّا هَذَا. وَأخرج من قرَاب سَيْفه فَإِذا فِيهَا] الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ، وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم، وهم يَد عَلَى من سواهُم، لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَشَاهده حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «قَالَ: الْمُسلمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ» . وَرَوَى ابْن مَاجَه من حَدِيث معقل بن يسَار مَرْفُوعا: «الْمُسلمُونَ يَد عَلَى من سواهُم [و] تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ» .
وَرَوَى أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا: «يَد الْمُسلمين عَلَى من سواهُم تكافأ دِمَاؤُهُمْ، وَيُجِير عَلَى الْمُسلمين أَدْنَاهُم، وَيرد عَلَيْهِم أَقْصَاهُم، وهم يَد عَلَى من سواهُم» .
وَرَوَى ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن عمر رَفعه فِي حَدِيث طَوِيل: «الْمُؤْمِنُونَ يَد عَلَى من سواهُم، تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ، يجير(9/159)
عَلَيْهِم أَدْنَاهُم، وَيرد عَلَيْهِم أَقْصَاهُم» .
فَائِدَة: «يجير» ضَبطه الْمُحب فِي «أَحْكَامه» بالراء الْمُهْملَة، أَي للْمُسلمِ أَن يجير الْكَافِر وَلَو كَانَ بعيد الدَّار عَن بِلَاد الْكَافِر.
الحَدِيث السَّادِس
عَن أم هَانِئ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «أجرت رجلَيْنِ من أحمائي، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أمنا من أمنت» .
هَذَا الحَدِيث أَصله فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ عَن أم هَانِئ قَالَت: «ذهبت إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام الْفَتْح فَوَجَدته يغْتَسل وَفَاطِمَة ابْنَته تستره بِثَوْب فَسلمت عَلَيْهِ، فَقَالَ: من هَذِه؟ فَقلت: أم هَانِئ بنت أبي طَالب. فَقَالَ: مرْحَبًا يَا أم هَانِئ.، فَلَمَّا فرغ من غسله قَامَ يُصَلِّي ثَمَان رَكْعَات ملتحفًا فِي ثوب وَاحِد. فَلَمَّا انْصَرف قلت: يَا رَسُول الله [زعم] ابْن أُمِّي عَلّي بن أبي طَالب أَنه قَاتل رجلا أجرته فلَان بن هُبَيْرَة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قد أجرنا من أجرت يَا أم هَانِئ، قَالَت: وَذَلِكَ ضحى» .
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء.
وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» «إِنِّي أجرت حموي» .(9/160)
فَائِدَتَانِ: الأولَى: الرّجلَانِ اللَّذَان أجرتهما أم هَانِئ فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، هما الْحَارِث وَعبد الله بن أبي ربيعَة. كَذَا سَاقه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة الْحَارِث بن هِشَام المَخْزُومِي بِسَنَدِهِ إِلَى الْوَاقِدِيّ إِلَى عبد الله بن عِكْرِمَة أَن أم هَانِئ أجارت يَوْم الْفَتْح الْحَارِث بن هِشَام وَعبد الله بن أبي ربيعَة.
وَفِي كتاب الزبير بن بكار عَنْهَا: أجارت هِشَام بن الْحَارِث المَخْزُومِي. وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي فِي تَرْجَمَة عبد الله بن أبي ربيعَة: قَالَ بعض أهل الْعلم: عبد الله بن أبي ربيعَة هُوَ الَّذِي استجار بِأم هَانِئ فَأَرَادَ عَلّي قَتله وَمَعَهُ الْحَارِث بن هِشَام وَكَذَا فِي «تَارِيخ مَكَّة» للأزرقي أَنَّهَا أجارت رجلَيْنِ أَحدهمَا عبد الله بن أبي ربيعَة بن الْمُغيرَة وهما من بني مَخْزُوم. وَقَالَ ابْن الطلاع: اسْم الَّذِي أجارته أم هَانِئ هُبَيْرَة بن أبي وهب وَهُوَ زوج أم هَانِئ وَهُوَ مخزومي. وَقيل إِن الَّذِي أجارته ولد هُبَيْرَة. حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن مَالك وَهُوَ بعيد، وَأبْعد مِنْهُ قَول من قَالَ أَنه جعدة بن هُبَيْرَة.
وَقَالَ ابْن شُرَيْح: أَنه كَانَ الشرذمة الَّذين قَاتلُوا خَالِدا وَلم يقبلُوا الْأمان وَلَا ألقوا السِّلَاح وَأَرَادَ عَلّي قَتلهَا فأجارتها أم هَانِئ وَكَانَا من - أحمائها. الثَّانِيَة: اسْم أم هَانِئ فَاخِتَة كَمَا جزم بِهِ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي ترجمتها وَكَذَا الْأَمِير فِي «الْإِكْمَال» وَهُوَ الْمَشْهُور كَمَا قَالَه الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ وَغَيره.(9/161)
وَقَالَ ابْن سعد: فَاخِتَة عندنَا أَكثر. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» أَن الْأَخْبَار تَوَاتَرَتْ بِهِ.
قلت: وَفِي «مُعْجم الطَّبَرَانِيّ» فِي هَذَا الحَدِيث أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهَا: «مرْحَبًا بفاختة أم هَانِئ وفيهَا خَمْسَة أَقْوَال أخر: أَحدهَا: هِنْد، قَالَه الإمامان الشَّافِعِي وَأحمد بن حَنْبَل، وَغَيرهمَا. ثَانِيهَا: فَاطِمَة، حَكَاهُ ابْن الْأَثِير. ثَالِثهَا: عَاتِكَة. حَكَاهُ ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَأَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» . رَابِعهَا: حمانة. حَكَاهُ الزبير بن بكار عَلَى مَا نَقله ابْن دحْيَة فِي «تنويره» . وَقَالَ الْحَافِظ شرف الدَّين الدمياطي مقاتلة بن حمانة أَخِيهَا، وَزعم ابْن الحدان من قَالَ: اسْمهَا حمانة فقد أَخطَأ؛ حمانة ابْنَتهَا. خَامِسهَا: رَملَة. حَكَاهُ ابْن الطلاع عَن البرقي. أسلمت عَام الْفَتْح.
فَائِدَة ثَالِثَة: هَانِئ بِهَمْزَة فِي آخِره. قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : لَا خلاف فِي ذَلِك بَين أهل اللُّغَة والأسماء، وَكلهمْ مصرحون بِهِ.
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَنا بَرِيء من كل مُسلم مَعَ [مُشْرك] » .
هَذَا الحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من رِوَايَة جرير(9/162)
بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث سَرِيَّة إِلَى خثعم، فاعتصم نَاس بِالسُّجُود، فأسرع فيهم الْقَتْل، فَبلغ ذَلِك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمر لَهُم بِنصْف الْعقل. وَقَالَ: أَنا بَرِيء من كل مُسلم يُقيم بَين أظهر الْمُشْركين. قَالُوا: يَا رَسُول الله، وَلم؟ قَالَ: لَا ترايا نارَاهُما» قَالَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: وَقد رَوَاهُ جمَاعَة وَلم يذكرُوا فِيهِ جَرِيرًا وَهُوَ أصح. وَذكر عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: الصَّحِيح أَنه مُرْسل. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» لما سُئِلَ عَنهُ.
قلت: وَأخرجه كَذَلِك مُرْسلا الشَّافِعِي وَكَذَا النَّسَائِيّ فِي الْقصاص من «سنَنه» وَلَفظه عَن إِسْمَاعِيل عَن قيس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث سَرِيَّة إِلَى قوم من خثعم فاستعصموا بِالسُّجُود فَقتلُوا، فَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِنصْف الْعقل وَقَالَ: أَنا بَرِيء من كل مُسلم مَعَ مُشْرك. ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: [لَا] ترَاءَى ناراهما» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» مُتَّصِلا من حَدِيث قيس، عَن جرير قَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(9/163)
جَيْشًا إِلَى خثعم، فَلَمَّا غشيتهم الْخَيل اعتصموا بِالصَّلَاةِ، فَقتل رجل مِنْهُم، فَجعل لَهُم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نصف الْعقل لصلاتهم. وَقَالَ: أَنا بَرِيء من كل مُسلم مَعَ مُشْرك» .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : الَّذِي أسْندهُ عِنْدهم ثِقَة. يَعْنِي فَيكون مقدما عَلَى رِوَايَة الْإِرْسَال عَلَى الْقَاعِدَة المقررة.
فَائِدَة: قَوْله: «لَا ترَاءَى (ناراهما) أَي: يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا بِحَيْثُ يرَى نَار صَاحبه، فَجعل الرُّؤْيَة للنار وَلَا رُؤْيَة لَهَا يَعْنِي أَن يعرفوا هَذِه من هَذِه. [يُقَال] : دَاري تنظر إِلَى دَار فلَان أَي تقَابلهَا. وَقيل: مَعْنَاهُ أَرَادَ [نَار] الْحَرْب تَقول ناراهما تخْتَلف، هَذِه تَدْعُو إِلَى الله، وَهَذِه تَدْعُو إِلَى الشَّيْطَان، فَكيف تتَّفقَانِ، وَكَيف يساكنهم فِي بِلَادهمْ وَهَذِه حَال هَؤُلَاءِ وَهَذِه حَال هَؤُلَاءِ؟ حَكَاهُمَا أَبُو عبيد فِي «غَرِيبه» وَابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» .
الحَدِيث الثَّامِن
عَن عدي بن حَاتِم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كَأَنِّي بِالْحيرَةِ قد فتحت فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، هَب لي مِنْهَا جَارِيَة. فَقَالَ: قد فعلت. فَلَمَّا فتحت الْحيرَة بعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعُطي الرجل الْجَارِيَة، فاشتراها مِنْهُ بعض أقاربها بِأَلف دِرْهَم» .(9/164)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة ابْن أبي عمر، نَا سُفْيَان، عَن ابْن أبي خَالِد، عَن قيس، عَن عدي بن حَاتِم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مثلت لي الْحيرَة كأنياب الْكلاب وَإِنَّكُمْ ستفتحونها. فَقَامَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله هَب لي ابْنة بقيلة. فَقَالَ: هِيَ لَك. فَأَعْطوهُ إِيَّاهَا، فجَاء أَبوهَا فَقَالَ: أتبيعها؟ قَالَ: نعم. قَالَ: بكم؟ قَالَ: احكم بِمَا شِئْت. قَالَ: ألف دِرْهَم. قَالَ: قد أَخَذتهَا. قَالُوا لَهُ: لَو قلت ثَلَاثِينَ ألفا لأخذتها. قَالَ: وَهل (عقد) أَكثر من ألف» .
وَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان هَكَذَا قَالَ غَيره: عَنهُ عَن عَلّي بن زيد بن جدعَان. وَالْمَشْهُور أَن هَذَا الحَدِيث عَن خريم بن أَوْس، وَهُوَ الَّذِي جعل لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَذِه الْمَرْأَة، فقد رَوَيْنَاهُ فِي كتاب «دَلَائِل النُّبُوَّة» فِي آخر غَزْوَة تَبُوك.
قلت: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد ذكره ابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمته فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ قَالَ: «هَاجَرت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأسْلمت فَقَالَ: هَذِه الْحيرَة الْبَيْضَاء قد رفعت إِلَيّ وَهَذِه الشيماء بنت بَقيِلة(9/165)
الْأَزْدِيّ عَلَى [بغلة] شهباء معتجرة بخمار أسود. قلت: يَا رَسُول الله، إِن نَحن دَخَلنَا الْحيرَة فَوَجَدتهَا كَمَا تصف فَهِيَ لي؟ قَالَ: هِيَ لَك. فَلَمَّا دخلت الْحيرَة لقيتها عَلَى بغلة شهباء كَمَا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بخمار أسود فتعلقت بهَا وَقلت: قد وَهبهَا لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فدعاني خَالِد بِالْبَيِّنَةِ فَأَتَيْته بِمُحَمد بن مسلمة وَمُحَمّد بن بشير الْأنْصَارِيّ فَقَسمهَا لي فَلَمَّا وَقع الصُّلْح بَاعهَا من أَخِيهَا بِأَلف» .
وَقَالَ أَبُو نعيم وَالطَّبَرَانِيّ: بَلغنِي أَن الشَّاهِدين كَانَا مُحَمَّد بن مسلمة وَعبد الله بن عَمْرو. وَفِي «علل بن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث عدي بن حَاتِم قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مثلت لي الْحيرَة كأنياب الْكلاب، وَإِنَّكُمْ ستفتحونها فَقَامَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، هَب ابْنة بقيلة. قَالَ: هِيَ لَك. قَالَ: فأعطوها إِيَّاه ... » . وَذكر الحَدِيث فَقَالَ: هَذَا حَدِيث بَاطِل، وَهَذَا عجب مِنْهُ. وَلم يبين سَبَب بُطْلَانه، وَفِي بعض رِوَايَات الطَّبَرَانِيّ أَن أخاها اسْمه عبد الْمَسِيح بن حبَان بن بقيلة، وفيهَا: «وَقيل لَهُ: لَو قلت مائَة ألف لدفعتها إِلَيْك. فَقَالَ: مَا أَحسب مَالا أَكثر من عشر مائَة» .
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن بني قُرَيْظَة نزلُوا عَلَى حكم سعد بن معَاذ، وَهُوَ قتل مقاتلهم(9/166)
وَسبي ذَرَارِيهمْ وَأخذ أَمْوَالهم» .
هَذَا كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «نزل أهل قُرَيْظَة عَلَى حكم سعد بن معَاذ فَأرْسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى سعد، فَأَتَى عَلَى حمَار، فَلَمَّا دنا من الْمَسْجِد - وَقَالَ مُسلم: قَرِيبا من الْمَسْجِد - قَالَ للْأَنْصَار: قومُوا إِلَى سيدكم - أَو قَالَ: خَيركُمْ - فَقَالَ: هَؤُلَاءِ نزلُوا عَلَى حكمك. فَقَالَ: تقتل مُقَاتلَتهمْ، وتسبيى ذَرَارِيهمْ. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: حكمت فيهم بِحكم الله» وَرُبمَا قَالَ: «بِحكم الْملك» وَلمُسلم: «لقد حكمت فيهم بِحكم الله» وَلَهُمَا أَيْضا مثله من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا بِزِيَادَة: «وَأَن تقسم أَمْوَالهم» وَلأَحْمَد فِي «مُسْنده» من حَدِيث اللَّيْث بن سعد، عَن أبي الزبير، عَن جَابر «أَن سَعْدا حكم أَن تقتل رِجَالهمْ، وتستحيا نِسَاؤُهُم وذراريهم ليستعين بهم [الْمُسلمُونَ] فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أصبت حكم الله فيهم. وَكَانُوا أَرْبَعمِائَة» وَذكر فِيهِ قصَّة.
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ قَوْله: «لقد حكمت بِحكم الله» يرويهِ بَعضهم «بِحكم الْملك» وَالْأول أَجود؛ لِأَن الْملك هُوَ الله - تَعَالَى - وَله الحكم، وَمن أَرَادَ الْملك أَرَادَ الحكم الَّذِي أوحاه الْملك إِلَيْهِ عَن الله - عَزَّ وَجَلَّ.
قلت: قد يُؤَيّد الأول الرِّوَايَة السالفة: «لقد حكمت فيهم بِحكم الله» .(9/167)
قَالَ الْخطابِيّ فِي هَذِه الْقِصَّة: «لقد حكمت بِحكم الله فَوق سَبْعَة أَرقعَة» هُوَ بِالْقَافِ - أَي سبع سماوات - قَالَ: وَمن رَوَاهُ بِالْفَاءِ فقد غلط.
فَائِدَة ثَانِيَة: قَوْله: «فَلَمَّا دنا من الْمَسْجِد» قَالَ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» فِي بَاب قيام الرجل للرجل: لَعَلَّه وهم؛ لِأَن الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم من ذَلِك إِرَادَة مَسْجده عَلَيْهِ السَّلَام، وَعند مَجِيء سعد كَانَ نازلًا عَلَى بني قُرَيْظَة، وَمن هُنَاكَ وَجه إِلَى سعد ليَأْتِيه إِلَّا أَن يُرِيد مَسْجِدا اختطه عَلَيْهِ السَّلَام هُنَاكَ ليُصَلِّي فِيهِ مُدَّة مقَامه.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُ: وَإِن حاصرت أهل حصن فأرادوك أَن تنزلهم عَلَى حكم الله فَلَا تنزلهم عَلَى حكم الله، وَلَكِن أنزلهم عَلَى حكمك، فَإنَّك لَا تَدْرِي أتصيب حكم الله فيهم أم لَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل وَقَالَ فِي أَوله: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أمَّر أَمِيرا عَلَى جَيش أَو سَرِيَّة أوصاه فِي خاصته بتقوى الله وَمن مَعَه من الْمُسلمين خيرا ثمَّ قَالَ: اغزوا باسم الله، فِي سَبِيل الله قَاتلُوا من كفر بِاللَّه، اغزوا وَلَا تغلوا، وَلَا تغدروا، وَلَا تمثلوا، وَلَا تقتلُوا وليدًا، وَإِذا لقِيت [عَدوك] من الْمُشْركين فادعهم إِلَى ثَلَاث خِصَال فأيتهن مَا أجابوك فاقبل مِنْهُم وكف عَنْهُم، ثمَّ ادعهم [إِلَى] التَّحَوُّل من دَارهم(9/168)
إِلَى دَار الْمُهَاجِرين، وَأخْبرهمْ إِن فعلوا ذَلِك فَلهم مَا للمهاجرين وَعَلَيْهِم مَا عَلَى الْمُهَاجِرين فَإِن أَبَوا [أَن] يَتَحَوَّلُوا عَنْهَا فَأخْبرهُم أَنهم يكونُونَ كأعراب الْمُسلمين يجْرِي عَلَيْهِم حكم الله الَّذِي يجْرِي عَلَى (الْمُسلمين) وَلَا يكون لَهُم فِي الْغَنِيمَة والفيء شَيْء إِلَّا أَن يجاهدوا مَعَ الْمُسلمين فَإِن هم أَبَوا فسلهم الْجِزْيَة، فَإِن هم أجابوك فاقبل مِنْهُم وكف عَنْهُم، فَإِن لم يجيبوك فَاسْتَعِنْ بِاللَّه عَلَيْهِم وَقَاتلهمْ، وَإِذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أَن تجْعَل لَهُم ذمَّة الله وَذمَّة نبيه فَلَا تجْعَل لَهُم ذمَّة الله وَلَا ذمَّة نبيه، وَلَكِن اجْعَل لَهُم ذِمَّتك وَذمَّة أَصْحَابك؛ فَإِنَّكُم إِن تخفروا ذمتكم وذمم أصحابكم أَهْون من أَن تخفروا ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله» .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
رُوِيَ «أَن سعد بن معَاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما حكم بقتل الرِّجَال استوهب لَهُ ثَابت بن قيس الزبير ابْن باطا من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فوهبه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عُرْوَة قَالَ: «أقبل ثَابت بن قيس بن شماس إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: هَب لي الزبير الْيَهُودِيّ أجزيه بيد كَانَت لَهُ عِنْدِي يَوْم بُعَاث. فَأعْطَاهُ إِيَّاه، فَأقبل ثَابت حَتَّى أَتَاهُ فَقَالَ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، هَل تعرفنِي؟ فَقَالَ: نعم، وَهل يُنكر الرجل أَخَاهُ. قَالَ ثَابت: أردْت أَن أجزيك الْيَوْم بيد لَك عِنْدِي يَوْم بُعَاث. قَالَ: فافعل؛ فَإِن الْكَرِيم يَجْزِي الْكَرِيم. قَالَ: قد فعلت، قد سَأَلت لَك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فوهبك لي فَأطلق عَنهُ إساره. فَقَالَ الزبير: لَيْسَ لي قَائِد(9/169)
وَقد أَخَذْتُم امْرَأَتي وَبني. فَرجع ثَابت إِلَى الزبير فَقَالَ: رد إِلَيْك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - امْرَأَتك وبنيك. فَقَالَ الزبير: حَائِط لي فِيهِ أعذق لَيْسَ لي وَلَا لأهلي عَيْش إِلَّا بِهِ. فَرجع ثَابت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فوهب لَهُ، فَرجع ثَابت إِلَى الزبير فَقَالَ: قد رد إِلَيْك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أهلك وَمَالك فَأسلم تسلم. قَالَ: مَا فعل الجيشان وَذكر رجال قومه؟ قَالَ ثَابت: قد قتلوا وَفرغ مِنْهُم، وَلَعَلَّ الله - تبَارك وَتَعَالَى - أَن يكون أبقاك لخير. قَالَ الزبير: أَسأَلك بِاللَّه يَا ثَابت وَبِيَدِي الخصيم عنْدك يَوْم بُعَاث إِلَّا ألحقتني بهم؛ فَلَيْسَ فِي الْعَيْش خير بعدهمْ. فَذكر ذَلِك ثَابت لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمر بالزبير فَقتل» وَذكره أَيْضا ابْن إِسْحَاق فِي «السِّيرَة» وَذكر أَنه الزبير بن باطا الْقرظِيّ، وَذكره أَيْضا مُوسَى بن عقبَة وَذكر أَنه كَانَ يَوْمئِذٍ كَبِيرا أَعْمَى.
فَائِدَة: «الزبير» بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء بِلَا خلاف كَمَا نَقله صَاحب «الْمطَالع» وَغَيره. و «باطا» بموحدة بِلَا مد وَلَا همزَة. قَالَ صَاحب «الْمطَالع» وَيُقَال: باطيا، وَهُوَ وَالِد عبد الرَّحْمَن بن الزبير الْمَذْكُور فِي بَاب مَا يحرم من النِّكَاح، وَقتل الزبير بن باطا يَوْم سبي قُرَيْظَة كَافِرًا قَتله الزبير بن الْعَوام رَضِيَ اللَّهُ عَنْه صبرا.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أَن رجلا أسرته الصَّحَابَة فَنَادَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يمر بِهِ: إِنِّي مُسلم. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَو أسلمت وَأَنت تملك أَمرك أفلحت كل الْفَلاح. ثمَّ فدَاه برجلَيْن من الْمُسلمين أسرتهمَا ثَقِيف» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من طَرِيق عمرَان(9/170)
بن الْحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد تقدم بِطُولِهِ فِي الْبَاب قبله وَهُوَ الحَدِيث الثَّالِث بعد الْخمسين مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن عمرَان [بن] حُصَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن الْمُشْركين أَغَارُوا عَلَى سرح الْمَدِينَة وذهبوا بالعضباء وأسروا امْرَأَة، فَانْقَلَبت ذَات لَيْلَة فَأَتَت بالعضباء فَقَعَدت فِي عجزها، ونذرت إِن نجاها الله عَلَيْهَا لتنحرنها، فَلَمَّا قدمت الْمَدِينَة ذكرُوا ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ: بئْسَمَا جزيتهَا، لَا وَفَاء لنذر فِي مَعْصِيّة، وَلَا فِيمَا لَا يملكهُ ابْن آدم. وَأخذ نَاقَته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» وَهُوَ بعض من الحَدِيث الَّذِي قبله وَبِه يتم.
الحَدِيث الرّبع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أسلم عَلَى شَيْء فَهُوَ لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي إِسْنَاده ياسين بن معَاذ أَبُو خلف الزيات الْكُوفِي وَهُوَ ضَعِيف بِمرَّة. قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء. وَقَالَ مرّة: ضَعِيف. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: كَانَ رجلا صَالحا لَا يعقل مَا يحدث مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: مَتْرُوك الحَدِيث.(9/171)
وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَن الثِّقَات، وينفرد بالمعضلات عَن الْأَثْبَات، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هُوَ ضَعِيف خرجه يَحْيَى وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهمَا من الْحفاظ. قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث إِنَّمَا يرْوَى عَن ابْن أبي مليكَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا، وَعَن عُرْوَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا.
وَقَالَ ابْن [أبي] حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: لَا أصل [لَهُ] .
قَالَ الشَّافِعِي: وَكَأن مَعْنَى هَذَا الحَدِيث من أسلم عَلَى شَيْء يجوز لَهُ ملكه فَهُوَ لَهُ. وَفِي «مُسْند أَحْمد» ثَنَا وَكِيع، ثَنَا أبان بن عبد الله البَجلِيّ، حَدثنِي عمومتي، عَن جدهم صَخْر بن عيلة «أَن قوما من بني سليم فروا عَن أَرضهم حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام، فأخذتها فأسلموا، فخاصموني فِيهَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَردهَا عَلَيْهِم وَقَالَ: إِذا أسلم الرجل فَهُوَ أَحَق بأرضه وَمَاله» .
الحَدِيث الْخَامِس عشر
يرْوَى فِي الْخَبَر «الدُّعَاء وَالْبَلَاء يعتلجان، أَي: يتدافعان» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ عقب الحَدِيث السَّابِع - وأخرته هُنَا - سَوَاء، وَهُوَ حَدِيث أخرجه الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث زَكَرِيَّا(9/172)
بن مَنْظُور - شيخ من الْأَنْصَار - أَخْبرنِي عطاف بن خَالِد، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا ينفع حذر من قدر، وَالدُّعَاء ينفع - أَحْسبهُ قَالَ. مَا لم ينزل الْقدر، وَإِن الدُّعَاء لِيلْقَى الْبلَاء فيتعالجان إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا نعلمهُ يرْوَى إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد.
قلت: وزَكَرِيا هَذَا ضعفه وَقَالَ أَبُو زرْعَة: واه مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ أَحْمد بن عدي: مَعَ ضعفه يكْتب حَدِيثه. وعطاف بن خَالِد هُوَ المَخْزُومِي وَفِيه خلاف قَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن معِين: ثِقَة صَالح الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَقَالَ ابْن عدي: لم أر بحَديثه بَأْسا.
وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي بَاب الدُّعَاء بالسند الْمَذْكُور وَلَفظه: «لَا يُغني حذر من قدر، وَالدُّعَاء ينفع مِمَّا نزل وَمِمَّا لم ينزل، وَإِن الْبلَاء لينزل فيتلقاه الدُّعَاء فيعتلجان إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ. قلت: مَا اقْتصر فِي ذَلِك لضعف ابْن مَنْظُور، وَالْكَلَام فِي عطاف لَا جرم تعقبه الذَّهَبِيّ فِي «مُخْتَصره» فَقَالَ عقب قَوْله «هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد» : فِيهِ زَكَرِيَّا بن مَنْظُور وَهُوَ مجمع عَلَى ضعفه. لَكِن فِي نَقله الْإِجْمَاع نظر، وَقد نقل هُوَ فِي «تذهيبه» عَن ابْن معِين من رِوَايَة عَبَّاس عَنهُ أَنه قَالَ: لَا بَأْس بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ شَيْء(9/173)
زَعَمُوا أَنه طفيلي. ثمَّ نقل عَنهُ الرِّوَايَة الْأُخْرَى السالفة، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من الطَّرِيق الْمَذْكُور ثمَّ قَالَ: حَدِيث لَا يَصح. ثمَّ ذكر كَلَامهم فِي زَكَرِيَّا بن مَنْظُور.
قلت: لَكِن لَهُ شَوَاهِد مِنْهَا حَدِيث سلمَان الْفَارِسِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يرد الْقَضَاء إِلَّا الدُّعَاء، وَلَا يزِيد فِي الْعُمر إِلَّا الْبر» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث يَحْيَى بن الضريس. ذكره بعد أَن ترْجم عَلَيْهِ فِي أَبْوَاب الْقدر بَاب: مَا جَاءَ لَا يرد الْقدر إِلَّا الدُّعَاء ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي أسيد.
قلت: وثوبان أَيْضا أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» وَابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي الْجَعْد عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الرجل يحرم الرزق بالذنب يُصِيبهُ، وَلَا يرد الْقدر إِلَّا الدُّعَاء، وَلَا يزِيد فِي الْعُمر إِلَّا الْبر» ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ ابْن حبَان: لم يرد بِهِ عُمُومه؛ لِأَن الذَّنب لَا يحرم الرزق الَّذِي رزق العَبْد، بل يكدر عَلَيْهِ صفاءه [إِذا فكَّر فِي تعقيب الْحَالة فِيهِ] ودوام الْمَرْء عَلَى الدُّعَاء يطيب لَهُ وُرُود الْقَضَاء [فَكَأَنَّهُ رده لقلَّة حسه بألمه] وَالْبر يطيب الْعَيْش حَتَّى كَأَنَّهُ يُزَاد فِي عمره (لطيب) عيشه.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب وَأما آثاره فستة:(9/174)
أَحدهَا: «أَن الهرمزان لما حمله أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ إِلَى عمر فَقَالَ لَهُ عمر: تكلم لَا بَأْس عَلَيْك. ثمَّ أَرَادَ قَتله، فَقَالَ أنس: لَيْسَ لَك إِلَى قَتله سَبِيل قلت لَهُ: تكلم لَا بَأْس عَلَيْك» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ [الْبَيْهَقِيّ] من طَرِيق الشَّافِعِي، أَنا الثَّقَفِيّ، عَن حميد، عَن أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «حاصرنا تستر فَنزل الهرمزان عَلَى حكم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقدمت بِهِ عَلَى عمر، فَلَمَّا انتهينا إِلَيْهِ قَالَ لَهُ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تكلم. قَالَ: كَلَام حَيّ أَو كَلَام ميت؟ قَالَ: تكلم لَا بَأْس. قَالَ: إِنَّا وَإِيَّاكُم يَا (معشر) الْعَرَب مَا خَلى الله بَيْننَا وَبَيْنكُم، كُنَّا نتعبدكم ونقتلكم ونغصبكم، فَلَمَّا كَانَ الله مَعكُمْ لم يكن لنا يدان. فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: مَا تَقول؟ فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، تركت بعدِي عدوًّا كثيرًّا وشوكة شَدِيدَة، فَإِن قتلته يئس الْقَوْم من الْحَيَاة وَيكون أَشد لشوكتهم. فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أستحيي قَاتل الْبَراء بن مَالك ومجزأة بن ثَوْر! فَلَمَّا خشيت أَن يقْتله، قلت: لَيْسَ إِلَى قَتله سَبِيل؛ قد قلت لَهُ: تكلم لَا بَأْس. فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. ارتشيت وأصبت مِنْهُ؟ ! فَقَالَ: وَالله مَا ارتشيت وَلَا أصبت مِنْهُ. قَالَ: لتَأْتِيني عَلَى مَا شهِدت [بِهِ] بغيرك أَو لابد أَن تشهد بعقوبتك. قَالَ: فَخرجت فَلَقِيت الزبير بن الْعَوام فَشهد معي، وَأمْسك عمر، وَأسلم [الهرمزان] وَفرض لَهُ» .(9/175)
فَائِدَة: «الهرمزان» بِضَم الْهَاء وَالْمِيم وَهُوَ اسْم لبَعض أكَابِر الْفرس وَهُوَ دهقانهم الْأَصْغَر. قَالَ المطرزي فِي كتاب «المعرب» : الهرمزان ملك الأهواز أسلم وَقَتله عبيد الله بن عمر اتهامًا أَنه قَاتل أَبِيه أَو الْآمِر بِهِ. و «تستر» بتاءين مثناتين من فَوق الأولَى مَضْمُومَة وَفتح الثَّانِيَة بَينهمَا سين مُهْملَة سَاكِنة، وَهِي مَدِينَة مَشْهُورَة بخراسان.
الْأَثر الثَّانِي: عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «الله يعلم كل لِسَان، فَمن أَتَى مِنْكُم أعجمًّا فَقَالَ: مترس. فقد أَمنه»
وَهَذَا الْأَثر لَا أعلمهُ مرويًّا من طَرِيق ابْن مَسْعُود، وَإِنَّمَا هُوَ عَن عمر رضى الله، عَنهُ كَذَلِك ذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» فَقَالَ: قَالَ عمر: «إِذا قَالَ: مترس فقد آمنهُ؛ أَن الله يعلم الْأَلْسِنَة كلهَا. وَقَالَ: تكلم لَا بَأْس» . وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن رجل من أهل الْكُوفَة عَنهُ أَنه كتب إِلَى عَامل جَيش كَانَ بَعثه: «إِنَّه بَلغنِي أَن رجَالًا مِنْكُم يطْلبُونَ العلج حَتَّى إِذا أسْند فِي الْجَبَل وَامْتنع قَالَ رجل: مترس - وَفِي رِوَايَة: مطرس. لَا تخف - فَإِذا أدْركهُ قَتله، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا أعلم مَكَان أحد فعل ذَلِك إِلَّا ضربت عُنُقه» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن أبي وَائِل، قَالَ: «جَاءَنَا كتاب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: وَإِذا قَالَ الرجل للرجل: لَا تخف فقد أَمنه، وَإِذا قَالَ: مترس. فقد أَمنه؛ فَإِن الله يعلم الْأَلْسِنَة» .
فَائِدَة: «مترس» بِفَتْح الْمِيم وَالتَّاء وَسُكُون الرَّاء ثمَّ سين وَكَذَا ضَبطه(9/176)
صَاحب «الِاسْتِقْصَاء» وَيُقَال بِالطَّاءِ بدل التَّاء كَمَا سلف، وَهِي كلمة فارسية كَمَا نَص عَلَيْهِ ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» وَمَعْنَاهَا: لَا تخف، كَمَا سلف.
الْأَثر الثَّالِث: عَن فُضَيْل الرقاشِي قَالَ: «جهز عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه جَيْشًا كنت فيهم، فحصرنا قَرْيَة رامهرمز فَكتب عبد أَمَانًا فِي صحيفَة شدها مَعَ سهم رَمَى بِهِ إِلَى الْيَهُود، فَخَرجُوا بأمانه فَكتب إِلَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالَ: العَبْد الْمُسلم رجل من الْمُسلمين، ذمَّته ذمتهم» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَاصِم الْأَحول، عَن فُضَيْل بن زيد قَالَ: «كُنَّا مصافي الْعَدو. قَالَ: فَكتب عبد فِي سهم لَهُ أَمَانًا للْمُشْرِكين فَرَمَاهُمْ بِهِ فَجَاءُوا فَقَالُوا: قد أمنتمونا. فَقَالُوا: لم نؤمنكم، إِنَّمَا أمنكم عبد. فَكَتَبُوا فِيهِ إِلَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَكتب عمر: إِن العَبْد من الْمُسلمين وذمته ذمتهم. وأمنهم» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ فِي حَدِيث أهل الْبَيْت عَن عَلّي مَرْفُوعا: «أَمَان العَبْد جَائِز» .
فَائِدَة: وَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ «فضل» وَصَوَابه «فُضَيْل» بِزِيَادَة يَاء كَمَا قَدمته، وكنيته أَبُو حسان، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «جرحه وتعديله» : فُضَيْل بن زيد الرقاشِي يكنى أَبَا حسان، كناه حَمَّاد بن سَلمَة. قَالَ يَحْيَى بن معِين: هُوَ رجل صَدُوق ثِقَة. وَوَقع فِي «الْمُهَذّب» : فضل بن يزِيد بِإِثْبَات الْيَاء فِي يزِيد وحذفها من فُضَيْل. قَالَ(9/177)
النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» كَذَا وَجَدْنَاهُ فِي نسخ «الْمُهَذّب» قَالَ: وَنقل بعض الْأَئِمَّة عَن خطّ المُصَنّف أَنه واهٍ فحذفها مِنْهُمَا. قَالَ النَّوَوِيّ: وكل هَذَا غلط وتصحيف، وَالصَّوَاب فُضَيْل بن زيد، بِإِثْبَات الْيَاء فِي فُضَيْل وحذفها من زيد هَكَذَا ذكره أَئِمَّة هَذَا الْفَنّ ابنُ أبي حَاتِم، وَغَيره.
و «الرقاشِي» بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْقَاف مَنْسُوب إِلَى رقاش قَبيلَة مَعْرُوفَة من ربيعَة.
و «رَامْهُرمُز» الْمَذْكُور فِي رِوَايَة المُصَنّف - بِفَتْح الْمِيم الأولَى وَضم الْهَاء وَإِسْكَان الرَّاء وَضم الْمِيم الثَّانِيَة - وَهِي من بِلَاد خوزستان بِقرب شيراز.
الْأَثر الرَّابِع: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَو أَن أحدكُم أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى مُشْرك فْنْزل عَلَى ذَلِك ثمَّ قَتله لقتلته» .
وَهَذَا الْأَثر غَرِيب لَا يحضرني من خرجه عَنهُ.
الْأَثر الْخَامِس: «أَن ثَابت بن قيس بن شمَّاس أَمن الزبير بن باطا يَوْم قُرَيْظَة فَقتله» .
وَهَذَا الْأَثر تقدم بَيَانه فِي الْبَاب فِي الحَدِيث الْحَادِي عشر مِنْهُ. وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ السالفة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر بِهِ فَقتل. وَقد قدمنَا فِيمَا مَضَى من الْبَاب أَن الزبير هَذَا قَتله الزبير بن الْعَوام صبرا فَالله أعلم.(9/178)
الْأَثر السَّادِس: «أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ حاصر مَدِينَة السوس وَصَالَحَهُ [دهقانها] عَلَى أَن يُؤمن مائَة رجل من أَهلهَا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إِنِّي لأرجو أَن يخدعه الله عَن نَفسه. قَالَ: اعزلهم. فَلَمَّا عزلهم، قَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: أفرغت؟ قَالَ: نعم. فَأَمنَهُمْ وَأمر بقتل الدهْقَان، فَقَالَ: أتغدر بِي وَقد أمنتني؟ ! فَقَالَ: أمنت (الْعدَد) الَّذِي سميت، وَلم تسم نَفسك» .
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه الْآن وَزَاد الْمَاوَرْدِيّ فِي آخِره: «فَنَادَى بِالْوَيْلِ وبذل مَالا كثيرا فَلم يقبل مِنْهُ فَقتله» .(9/179)
كتاب الْجِزْيَة(9/181)
كتاب الْجِزْيَة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فاثنان وَعِشْرُونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أَمر أَمِيرا عَلَى جَيش أَو سَرِيَّة أوصاه، وَقَالَ: إِذا لقِيت عَدوك فادعهم إِلَى الْإِسْلَام، فَإِن أجابوك فاقبل مِنْهُم، فَإِن أَبَوا فسلهم الْجِزْيَة، فَإِن أَبَوا فَاسْتَعِنْ بِاللَّه وَقَاتلهمْ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل، وَقد سلف بِطُولِهِ فِي الْبَاب قبله، وَهُوَ الحَدِيث الْحَادِي عشر مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه قَالَ لِمعَاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما بَعثه إِلَى الْيمن: إِنَّك سترد عَلَى قوم أَكْثَرهم أهل الْكتاب، فاعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام، فَإِن امْتَنعُوا فاعرض عَلَيْهِم الْجِزْيَة، وَخذ من كل حالم دِينَارا، فَإِن امْتَنعُوا فَقَاتلهُمْ» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» كَذَلِك، وَكَأن الرَّافِعِيّ تبعه فِي إِيرَاده وَلَا أعرفهُ مرويًّا عَلَى الْوَجْه الْمَذْكُور، وَكَذَا قَالَ [ابْن] الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» . وَالْمَعْرُوف فِيهِ عَن معَاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي(9/183)
(لما وَجهه إِلَى الْيمن أمره أَن يَأْخُذ من كل حالم دِينَارا أَو عدله من المعافر - ثِيَاب تكون بِالْيمن» كَذَلِك رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِم وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. وَذكر أَن بَعضهم رَوَاهُ مُرْسلا وَأَنه أصح، وَأعله ابْن حزم بالانقطاع وَقَالَ: لم يسمع مَسْرُوق من معَاذ. وَكَذَا قَالَ عبد الْحق: يرويهِ مَسْرُوق بن الأجدع، عَن معَاذ. ومسروق هَذَا لم يلق معَاذًا وَلَا ذكر من حَدثهُ عَن معَاذ، ذكره ابْن عبد الْبر وَغَيره، وَفِي بعض نسخ أبي دَاوُد أَن هَذَا حَدِيث مُنكر. قَالَ: وَبَلغنِي عَن أَحْمد أَنه كَانَ يُنكر هَذَا الحَدِيث إنكارًا شَدِيدا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِنَّمَا الْمُنكر رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة، عَن الْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم، عَن مَسْرُوق عَن معَاذ، فَأَما رِوَايَة الْأَعْمَش، عَن أبي وَائِل، عَن مَسْرُوق، فَإِنَّهَا مَحْفُوظَة قد رَوَاهَا عَن(9/184)
الْأَعْمَش جمَاعَة مِنْهُم: سُفْيَان الثَّوْريّ، وَشعْبَة، وَمعمر، وَجَرِير، وَأَبُو عوَانَة، وَيَحْيَى بن سعيد، وَحَفْص بن غياث. وَقَالَ بَعضهم: عَن معَاذ. وَقَالَ بَعضهم: إِن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن. أَو مَا فِي مَعْنَاهُ، وَأما حَدِيث الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم فَالصَّوَاب عَن الْأَعْمَش عَن [شَقِيق] عَن مَسْرُوق [وَالْأَعْمَش] عَن إِبْرَاهِيم قَالَا: قَالَ معَاذ ... الحَدِيث، هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ حَدِيث الْأَعْمَش، عَن أبي وَائِل [شَقِيق] بن سَلمَة عَن مَسْرُوق، وَحَدِيثه عَن إِبْرَاهِيم مُنْقَطع لَيْسَ فِيهِ ذكر مَسْرُوق، وَقد رَوَيْنَاهُ عَن عَاصِم بن أبي النجُود، عَن أبي وَائِل، عَن مَسْرُوق، عَن معَاذ.
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث خَالِد بن الْوَلِيد إِلَى أكيدر فَأَخَذُوهُ فَأتوا بِهِ، فحقن دَمه وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَة» .
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق أنس بن مَالك وَعُثْمَان بن أبي سُلَيْمَان «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث خَالِد بن الْوَلِيد إِلَى أكيدر دومة، فَأَخَذُوهُ وَأتوا بِهِ، فحقن لَهُ دَمه وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَة» . وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد عنعنة ابْن إِسْحَاق، وَإِنَّمَا حسنا حَدِيثه هَذَا؛ لِأَنَّهُ صرح بِالتَّحْدِيثِ فِي طَرِيق آخر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيثه فَقَالَ: حَدثنِي يزِيد بن رُومَان وَعبد الله بن أبي بكر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث خَالِد بن الْوَلِيد(9/185)
إِلَى أكيدر بن عبد الْملك - رجل من كِنْدَة كَانَ ملكا عَلَى دومة، وَكَانَ نَصْرَانِيّا - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لخَالِد: إِنَّك ستجده يصيد الْبَقر فَخرج [خَالِد] حَتَّى إِذا كَانَ من حصنه منظر الْعين، وَفِي لَيْلَة مُقْمِرَة صَافِيَة وَهُوَ عَلَى سطح وَمَعَهُ امْرَأَته، فَأَتَت الْبَقر تحك بقرونها بَاب الْقصر فَقَالَت لَهُ امْرَأَته: هَل رَأَيْت مثل هَذَا قطّ؟ ! قَالَ: لَا وَالله. قَالَت: فَمن يتْرك مثل هَذَا؟ قَالَ: لَا أحد. فَنزل فَأمر بفرسه فأسرج وَركب مَعَه نفر من أهل بَيته فيهم أَخ لَهُ يُقَال لَهُ: حسان، فَخَرجُوا مَعَه بمطاردهم - فلقيتهم خيل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَخَذته وَقتلُوا أَخَاهُ حسان، وَكَانَ عَلَيْهِ قبَاء ديباج مخوص بِالذَّهَب فاستلبه إِيَّاه خَالِد بن الْوَلِيد، فَبعث بِهِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل قدومه عَلَيْهِ ثمَّ إِن خَالِدا قدم بالأكيدر عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فحقن لَهُ دَمه، وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَة، وخلى سَبيله، فَرجع إِلَى قريته» .
فَائِدَة: «أكيدر» بِضَم الْهمزَة تَصْغِير أكدر، وَهُوَ الَّذِي فِي لَونه كدرة. وَفِي «دومة» ثَلَاث لُغَات: دومة ودمة ودوما وَهِي من بِلَاد الشَّام، قَالَ الْحَازِمِي فِي «المؤتلف والمختلف فِي أَسمَاء الْأَمَاكِن» : دُوما بِضَم الدَّال - وَيُقَال: بِفَتْحِهَا -: دومة الجندل فِي أَرض الشَّام، وَبَينهَا وَبَين دمشق خمس لَيَال، وَبَينهَا وَبَين الْمَدِينَة خمس عشرَة لَيْلَة، وصاحبها أكيدر.
فَائِدَة: يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث أَن الْجِزْيَة لَا تخْتَص بالعجم؛ لِأَن أكيدر دومة عَرَبِيّ من غَسَّان وَقيل: من كِنْدَة. وَيُقَال: إِنَّه أسلم ثمَّ ارْتَدَّ إِلَى النَّصْرَانِيَّة، فَقتل عَلَى نصرانيته.(9/186)
الحَدِيث الرَّابِع
قَالَ الرَّافِعِيّ: لَو قَالَ الإِمَام أَو الْوَالِي: أقركم مَا شِئْت. قَالَ الإِمَام: من لم يمْنَع التَّأْقِيت بِالْوَقْتِ الْمَعْلُوم لم يمْنَع هَذَا، وَمن منع [ذَلِك] اخْتلفُوا فِي هَذَا، وَسبب الِاخْتِلَاف مَا رُوِيَ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأهل الْكتاب فِي جَزِيرَة الْعَرَب: أقركم مَا أقركم الله» . وَالْوَجْه منع هَذَا منا، وَحمل قَول النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى توقع النّسخ وانتظار الْوَحْي، وَحَكَى صَاحب «الْوَجِيز» نَحْو هَذَا، وَالَّذِي أوردهُ غَيرهمَا أَن قَوْله: «أقركم مَا أقركم الله» جَرَى فِي المهادنة حِين وادع يهود خَيْبَر لَا فِي عقد الذِّمَّة، وَأَنه لَو قَالَ غير النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أقركم [مَا أقركم] الله، أَو هادنتكم إِلَى أَن يَشَاء الله» لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام يعلم مَا عِنْد الله بِالْوَحْي بِخِلَاف غَيره. انْتَهَى.
وَالْأَمر كَمَا قَالَ غير الإِمَام وَمن تبعه؛ فَفِي «الْمُوَطَّأ» و «مُسْند الشَّافِعِي» عَنهُ [عَن ابْن شهَاب] عَن سعيد بن الْمسيب «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ ليهود خَيْبَر يَوْم افْتتح خَيْبَر: أقركم مَا أقركم الله عَلَى أَن الثَّمر بَيْننَا وَبَيْنكُم. قَالَ: وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يبْعَث [عبد الله بن] رَوَاحَة الْأنْصَارِيّ فيخرص بَينه وَبينهمْ ثمَّ يَقُول: إِن شِئْتُم فلكم، وَإِن شِئْتُم فلي. فَكَانُوا يأخذونه» وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن عمر(9/187)
أجلى الْيَهُود وَالنَّصَارَى من أَرض الْحجاز، وَأَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما ظهر عَلَى خَيْبَر أَرَادَ إِخْرَاج [الْيَهُود] مِنْهَا، فَسَأَلت الْيَهُود رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يقرهم بهَا عَلَى أَن يكفوا الْعَمَل وَلَهُم نصف الثَّمر، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: نقركم بهَا عَلَى ذَلِك مَا شِئْنَا. فقروا بهَا. حَتَّى أجلاهم عمر فِي إمارته إِلَى تيماء وأريحاء» . وَفِي أَفْرَاد البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عمر أَيْضا قَالَ: «لما فَدَع أهل خَيْبَر عبد الله بن عمر قَامَ عمر خَطِيبًا، فَقَالَ: [إِن] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (كَانَ) عَامل أهل خَيْبَر عَلَى أَمْوَالهم وَقَالَ: نقركم مَا أقركم الله ... » وَذكر الحَدِيث.
الحَدِيث الْخَامِس
فِي الحَدِيث «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول لمن يؤمِّره: إِذا لقِيت عَدوك من الْمُشْركين فادعهم إِلَى الْإِسْلَام، فَإِن أجابوك فاقبل مِنْهُم وكف عَنْهُم، وَإِن أَبَوا فادعهم إِلَى إِعْطَاء الْجِزْيَة، فَإِن أجابوك فاقبل مِنْهُم» .
هَذَا الحَدِيث هُوَ حَدِيث بُرَيْدَة وَقد تقدم أول الْبَاب.
الحَدِيث السَّادِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لِمعَاذ: خُذ من كل حالم دِينَارا» .
هَذَا الحَدِيث سلف فِي أول الْبَاب وَاضحا. قَالَ الرَّافِعِيّ: «وَكتب(9/188)
عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إِلَى أُمَرَاء الأجناد أَن لَا يَأْخُذُوا الْجِزْيَة من النِّسَاء وَالصبيان» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من طَرِيق زيد بن أسلم عَنهُ «أَنه كتب إِلَى أُمَرَاء أهل الْجِزْيَة أَن لَا يضْربُوا الْجِزْيَة إِلَّا عَلَى من جرت عَلَيْهِ الموسى. قَالَ: وَكَانَ لَا يضْرب الْجِزْيَة عَلَى النِّسَاء وَالصبيان» قَالَ يَحْيَى بن آدم: وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد أَصْحَابنَا.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: رَوَاهُ نَافِع، عَن أسلم، عَن عمر. وَرَوَاهُ الثَّوْريّ، عَن عبيد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. قلت: فَأَيّهمَا الصَّحِيح؟ قَالَ: الثَّوْريّ حَافظ، وَأهل الْمَدِينَة أعلم بِحَدِيث نَافِع من أهل الْكُوفَة.
وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَن أسلم أَيْضا قَالَ: «كتب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إِلَى أُمَرَاء الْجِزْيَة أَن لَا يضعوا الْجِزْيَة إِلَّا عَلَى من جرت عَلَيْهِ المواسي، وَلَا يضعوا عَلَى النِّسَاء وَالصبيان، وَكَانَ عمر يخْتم أهل الْجِزْيَة فِي أَعْنَاقهم» .
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وموقوفًا عَلَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «لَا جِزْيَة عَلَى العَبْد» .
هَذَا الحَدِيث لَا يحضرني من خرجه مَرْفُوعا وَلَا مَوْقُوفا، وَقد ورد(9/189)
(عَلَيْهِ) فِي عدَّة أَحَادِيث كلهَا ضَعِيفَة من طَرِيق ابْن عَبَّاس، وَعَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده، وَأبي زرْعَة بن سيف بن ذِي يزن أخرجهَا الْبَيْهَقِيّ وَلَكِن ضعفها.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه كَانَ لَا يَأْخُذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس حَتَّى شهد لَهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَخذ الْجِزْيَة من مجوس هجر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من رِوَايَة [بجالة] بن عَبَدة الْبَصْرِيّ - وَيُقَال: الْمَكِّيّ - قَالَ: «كنت كَاتبا لجزء بن مُعَاوِيَة عَم الْأَحْنَف بن قيس (آنِفا) فجاءنا كتاب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قبل مَوته بِسنة (اقْتُلُوا [كل] سَاحر) وَفرقُوا بَين كل ذِي محرم من الْمَجُوس. وَلم يكن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس حَتَّى شهد الحَدِيث» .
فَائِدَة: هجر هَذِه هِيَ هجر الْبَحْرين، قَالَ الْحَازِمِي: بَين هجر(9/190)
الْبَحْرين وسِرَّين سَبْعَة أَيَّام. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هجر اسْم بلد مُذَكّر مَعْرُوف. قَالَ: وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا هاجري. وَقَالَ الزجاجي فِي «الْجمل» : هجر تذكر وتؤنث.
تَنْبِيه: حَدِيث أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله قَضَى فيهم بِالْإِسْلَامِ أَو الْقَتْل» ضَعِيف؛ لِأَن فِيهِ [قُشَيْر] بن عَمْرو وَهُوَ مَجْهُول الْحَال.
فَائِدَة أُخْرَى: قَالَ الرَّافِعِيّ: يهود خَيْبَر كغيرهم فِي ضرب الْجِزْيَة، وَسُئِلَ ابْن سُرَيج فِيمَا يدَّعونه أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كتب لَهُم كتابا باسقاطها، فَقَالَ: لم ينْقل ذَلِك أحد من الْمُسلمين. قَالَ ابْن الصّباغ: وَفِي زَمَاننَا هَذَا أظهرُوا كتابا وَذكروا أَنه بِخَط عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَأَنه كتب عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَبَان تزويرهم وكذبهم فِيهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِ شَهَادَة سعد بن معَاذ وَمُعَاوِيَة، وتاريخه بعد موت سعد وَقبل إِسْلَام مُعَاوِيَة. وَفِي «الْبَحْر» أَن ابْن أبي هُرَيْرَة أسقط الْجِزْيَة عَنْهُم؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام ساقاهم وجعلهم بذلك حولا، وَلِأَنَّهُ قَالَ: «أقركم مَا أقركم الله» فَأَمنَهُمْ بذلك، وَهَذَا شَيْء تفرد بِهِ، وَأَيْضًا [فَإِنَّهَا] مُعَاملَة لَا تقتضى إِسْقَاط الْجِزْيَة. وَقَوله: «أقركم» أَي بالجزية.(9/191)
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يجْتَمع دينان فِي جَزِيرَة الْعَرَب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «آخر مَا عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن قَالَ: لَا ينزك بِجَزِيرَة الْعَرَب دينان» وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن إِسْمَاعِيل بن أبي حَكِيم أَنه سمع مُسلم بن عبد الْعَزِيز يَقُول: «بَلغنِي أَنه كَانَ من آخر مَا تكلم بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن قَالَ: قَاتل الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد، لَا يبْقين دينان بِأَرْض الْعَرَب» قَالَ مَالك: وَعَن ابْن شهَاب أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يجْتَمع دينان فِي جَزِيرَة الْعَرَب» قَالَ ابْن شهَاب: ففحص عَن ذَلِك عمر بن الْخطاب حَتَّى أَتَاهُ الثَّلج وَالْيَقِين عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «لَا يجْتَمع دينان فِي جَزِيرَة الْعَرَب. فَأَجْلَى يهود خَيْبَر» قَالَ مَالك: وَقد أجلى عمر بن الْخطاب أَيْضا يهود نَجْرَان وفدك.
الحَدِيث الْعَاشِر
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «لَئِن عِشْت إِلَى قَابل لأخْرجَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من حَدِيث عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَزَاد فِي آخِره: «حَتَّى لَا أدع فِيهَا إِلَّا مُسلما» ثمَّ عزاهُ إِلَى «صَحِيح مُسلم» وَكَذَا عزاهُ من الْمُتَأَخِّرين ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع(9/192)
المسانيد» وَأَرَادَ أَصله، فَإِنَّهُ فِيهِ من حَدِيث أبي الزبير أَنه سمع جَابِرا يَقُول: أَخْبرنِي عمر بن الْخطاب أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لأخْرجَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب حَتَّى لَا أدع فِيهَا إِلَّا مُسلما» . وَلَيْسَ فِيهَا: «لَئِن عِشْت»
وَأخرجه أَحْمد بِلَفْظ: «لَئِن عِشْت لأخْرجَن الْيَهُود والنصاري من جَزِيرَة الْعَرَب حَتَّى لَا أترك فِيهَا إِلَّا مُسلما» .
قَالَ الشَّافِعِي: كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام وقف عَلَى الْحَال حِين قَالَ: «لَئِن عِشْت» فَلم يَعش (إِلَى قَابل، وَلم يتفرغ أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لإخراجهم لقصر مدَّته واشتغاله بِقِتَال أهل الرِّدَّة ومانعي الزَّكَاة، فَأخْرجهُمْ عمر بعد صدر من خِلَافَته فَيُقَال: إِنَّه أخرج من الْيَهُود زُهاء أَرْبَعِينَ ألفا، وَإِن بَعضهم الْتحق بأطراف الشَّام وَبَعْضهمْ بأطراف الْكُوفَة.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَوْصَى فَقَالَ: أخرجُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث سعيد بن جُبَير عَنهُ أَنه قَالَ: «اشْتَدَّ الوجع برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَوْصَى عِنْد مَوته بِثَلَاث: أخرجُوا الْمُشْركين من جَزِيرَة الْعَرَب، وأجيزوا الْوَفْد بِنَحْوِ مَا كنت أجيزهم. ونسيت الثَّالِثَة» .(9/193)
فَائِدَة: قيل: الثَّالِثَة تجهيز أُسَامَة. وَقيل: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وثنًا» حَكَاهُمَا الْمُنْذِرِيّ. قَالَ: فِي «الْمُوَطَّأ» مَا يُشِير إِلَى الثَّانِي.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن جَابر عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لأخْرجَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب، وَلَا أدع أَن ينزلها إِلَّا مُسلم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم وَقد سلف أَيْضا.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن أبي عُبَيْدَة بن الْجراح رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «آخر مَا تكلم بِهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن قَالَ: أخرجُوا الْيَهُود من الْحجاز، وَأهل نَجْرَان من جَزِيرَة الْعَرَب» .
أخرجه أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ وَلَفْظهمَا عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ: «آخر مَا تكلم بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: أخرجُوا يهود أهل الْحجاز، وَأهل نَجْرَان من جَزِيرَة الْعَرَب» وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي كتاب «التَّمْيِيز» أَيْضا.
فَائِدَة: «نَجْرَان» بِفَتْح أَوله وَإِسْكَان ثَانِيه: مَدِينَة بالحجاز من شقّ (الْيمن) مَعْرُوفَة. قَالَه الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» قَالَ الْحَازِمِي فِي «مؤتلفه» : وَهِي من مخاليف مَكَّة من جنوب الْيمن. قَالَ الْبكْرِيّ: وَسميت بِنَجْرَان بن زيد بن يشجب بن يعرب، وَهُوَ أول من نزلها، وَأطيب الْبِلَاد نَجْرَان من الْحجاز، وَصَنْعَاء من الْيمن، ودمشق من الشَّام، والري من خُرَاسَان.(9/194)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَالح أهل نَجْرَان عَلَى أَن لَا يَأْكُلُوا الرِّبَا، فنقضوا الْعَهْد وأكلوه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «صَالح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أهل نَجْرَان عَلَى ألفي حُلة، النّصْف فِي صفر وَالنّصف فِي رَجَب، يؤدونها إِلَى الْمُسلمين وعارية ثَلَاثِينَ درعًا، وَثَلَاثِينَ فرسا، وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وَثَلَاثِينَ من كل صنف من أَصْنَاف السِّلَاح يغزون بهَا، والمسلمون ضامنون لَهَا حَتَّى يردوها عَلَيْهِم إِن كَانَ بِالْيمن كيدُ أَو غُدرة عَلَى أَن لَا تهدم لَهُم بيعَة، وَلَا يخرج لَهُم قس، وَلَا يفتنوا عَن دينهم مَا لم يحدثوا حَدثا أَو يَأْكُلُوا الرِّبَا» .
قَالَ إِسْمَاعِيل: فقد أكلُوا الرِّبَا. وَإِسْمَاعِيل هَذَا هُوَ السُدي الْكَبِير وَفِيه مقَال، قَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ ابْن معِين: فِي حَدِيثه ضعف.
وَقَالَ ابْن مهْدي: ضَعِيف. وذمه الشّعبِيّ فِي التَّفْسِير، ورماه بَعضهم بِالْكَذِبِ، وَبَعْضهمْ بالتشيع. وَقَالَ أَحْمد: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: لَا بَأْس بِهِ، مَا رَأَيْت أحدا يذكرهُ إِلَّا بِخَير، وَمَا تَركه أحد. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ عِنْدِي صَدُوق. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لين.(9/195)
قلت: وَفِيه عِلّة وَهِي أَن [فِي] سَماع السّديّ من ابْن عَبَّاس نظر؛ كَمَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ، وَإِنَّمَا قيل: إِنَّه رَآهُ وَرَأَى ابْن عمر وَسمع من أنس.
فَائِدَة: الكيدُ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث: الْحَرْب. والبيعة - بِكَسْر الْبَاء - لِلنَّصَارَى أَو للْيَهُود أَو كَنِيسَة أهل الْكتاب، أَقْوَال حكاهن الْمُنْذِرِيّ. والقس - بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة - والقسيسين - بِكَسْرِهَا وَتَشْديد السِّين -: رَئِيس النَّصَارَى فِي الدَّين وَالْعلم.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَخذ من مجوس هجر ثَلَاثمِائَة دِينَار، وَكَانُوا ثَلَاثمِائَة نفر» .
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من خرجه كَذَلِك، ويغني عَنهُ مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: سَأَلت مُحَمَّد بن خَالِد وَعبد الله بن عَمْرو بن مُسلم وعددًا من عُلَمَاء أهل الْيمن وَكلهمْ يَحْكِي لي عَن عدد مضوا قبلهم كلهم ثِقَة، يحكون عَن عدد مضوا قبلهم كلهم ثِقَة «أَن صلح النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لأهل ذمَّة الْيمن عَلَى دِينَار لكل سنة» وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» عقب حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف قبل هَذَا عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: قد سَمِعت بعض أهل الْعلم من الْمُسلمين وَمن أهل الذِّمَّة من أهل نَجْرَان يذكر أَن قيمَة مَا أَخذ من كل وَاحِد أَكثر من دِينَار.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَالح أهل أَيْلَة عَلَى ثَلَاثمِائَة دِينَار - فَكَانُوا ثَلَاثمِائَة(9/196)
رجل - وَعَلَى ضِيَافَة من يمر بهم من الْمُسلمين» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي، أبنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن أبي الْحُوَيْرِث «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ضرب عَلَى نَصْرَانِيّ بِمَكَّة يُقَال لَهُ موهب دِينَارا كل سنة، وَأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ضرب عَلَى نَصَارَى أَيْلَة ثَلَاثمِائَة دِينَار كل سنةٍ، وَأَن يضيفوا من مر [بهم من الْمُسلمين] ثَلَاثًا، وَأَن لَا يغشوا مُسلما» .
قَالَ الشَّافِعِي: وأنبأنا إِبْرَاهِيم قَالَ: أبنا إِسْحَاق بن عبد الله «أَنهم كَانُوا ثَلَاثمِائَة فَضرب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْمئِذٍ ثَلَاثمِائَة دِينَار كل سنة» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا الحَدِيث مُنْقَطع، والاعتماد فِي ذَلِك عَلَى مَا سَاق بِإِسْنَادِهِ إِلَى الشَّافِعِي: أبنا مَالك، عَن نافعٍ، عَن أسلم مولَى عمر بن الْخطاب «أَن عمر بن الْخطاب ضرب الْجِزْيَة عَلَى أهل الذَّهَب أَرْبَعَة دَنَانِير، وَعَلَى أهل الْوَرق أَرْبَعِينَ درهما، وَمَعَ ذَلِك أرزاق الْمُسلمين، وضيافة ثَلَاثَة أَيَّام» ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ أَيْضا إِلَى الشَّافِعِي: أَنا سُفْيَان بن عيينةٍ، عَن أبي إسحاقٍ، عَن حَارِثَة [بن] مضرب « [أَن عمر بن الْخطاب] رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فرض عَلَى أهل السوَاد ضِيَافَة يَوْم وليلةٍ، فَمن حَبسه مطر أَو مرض أنْفق من مَاله» قَالَ الشَّافِعِي: حَدِيث أسلم بضيافة ثَلَاثَة أَيَّام أشبه؛ لِأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جعل الضِّيَافَة ثَلَاثَة، وَقد يجوز أَن يكون جعلهَا عَلَى قوم ثَلَاثًا، وَعَلَى قوم يَوْمًا وَلَيْلَة، وَلم يَجْعَل عَلَى آخَرين ضِيَافَة،(9/197)
كَمَا يخْتَلف صلحه لَهُم فَلَا يرد بعض الحَدِيث بَعْضًا.
فَائِدَة: «أَيْلَة» الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الحَدِيث بِفَتْح الْهمزَة وَإِسْكَان الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت وَفتح اللَّام: بَلْدَة مَعْرُوفَة فِي طرف الشَّام عَلَى سَاحل الْبَحْر متوسطة بَين الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة ودمشق وَبَلَدنَا مصر، بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة نَحْو [خمس عشرَة] مرحلة، وَبَينهَا وَبَين دمشق نَحْو [اثْنَتَا عشرَة] مرحلة، وَبَينهَا وَبَين بلدنا مصر نَحْو ثَمَان مراحل.
قَالَ صَاحب «الْمطَالع» : قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هِيَ مَدِينَة بَين الشَّام.
وَقَالَ الْحَازِمِي فِي «مؤتلفه» : هِيَ بَلْدَة بحريّة، قيل: هِيَ آخر الْحجاز وَأول الشَّام.
الحَدِيث السَّابِع عشر
يرْوَى فِي الْخَبَر «أَن الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام» .
وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَليُكرم ضَيفه جائزته. قَالُوا: وَمَا جائزته يَا رَسُول الله؟ قَالَ: يَوْمه وَلَيْلَته، والضيافة ثَلَاثَة أَيَّام، فَمَا كَانَ وَرَاء ذَلِك فَهُوَ صَدَقَة(9/198)
عَلَيْهِ، وَلَا يحل لرجل مُسلم يُقيم عِنْد أَخِيه حَتَّى يؤثمه. قَالُوا: يَا رَسُول الله، وَكَيف يؤثمه؟ قَالَ: يُقيم عِنْده وَلَا شَيْء لَهُ يقريه بِهِ» .
وَأما الْحَاكِم فَإِنَّهُ أخرجه فِي كتاب الْبر والصلة من «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: هَذَا صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قَالَ وَقد صحت الرِّوَايَة فِيهِ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، وأظنهما قد خرجاه. قَالَ: وَعِنْدِي أَن الشَّيْخَيْنِ أهملا حَدِيث أبي شُرَيْح لرِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة، ثمَّ أخرجه وَذكر لَهُ مُتَابعًا، وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ، فقد أخرجَا حَدِيث أبي شُرَيْح كَمَا سَاقه، وَلم يخرجَاهُ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة كَمَا ظن أَنَّهُمَا أَخْرجَاهُ.
فَائِدَة: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَعَ أبي شُرَيْح وَأبي هُرَيْرَة، جَابر بن عبد الله، وَعَائِشَة، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَأَبُو مَسْعُود، وَابْن عمر، وَعقبَة بن عَامر، و (أَحْمد) بن خَالِد كَمَا أَفَادَهُ ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» .
فَائِدَة ثَانِيَة: رَوَى أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن أَشهب قَالَ: سُئِلَ مَالك عَن قَول النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «جائزته يَوْم وَلَيْلَة» قَالَ: يُكرمهُ ويتحفه ويحفظه يَوْمًا وَلَيْلَة وَثَلَاثَة أَيَّام ضِيَافَة.
وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَنه يتَكَلَّف لَهُ فِي الْيَوْم الأول مَا اتَّسع لَهُ من بر وإلطاف، وَأما فِي الْيَوْم الثَّانِي وَالثَّالِث فَيقدم مَا كَانَ بِحَضْرَتِهِ وَلَا يزِيد عَلَى عَادَته، وَمَا كَانَ بعد الثَّلَاثَة فَهُوَ صَدَقَة ومعروف، إِن شَاءَ فعل(9/199)
وَإِن شَاءَ ترك. قَالَ: وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «وَلَا يحل أَن يُقيم عِنْده حَتَّى (يؤثمه) » مَعْنَاهُ: لَا يحل للضيف أَن يُقيم عِنْده بعد الثَّلَاث من غير استدعاء مِنْهُ حَتَّى يوقعه فِي الْإِثْم.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يعْلى عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» من حَدِيث عمر بن الْخطاب «فِي حَدِيث الْأَعرَابِي الَّذِي صَاد ضبًّا، وَأَن الضَّب حكم للنَّبِي (وَشهد لَهُ بالرسالة، وَأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للأعرابي: الْحَمد لله الَّذِي هداك إِلَى هَذَا الدَّين الَّذِي يَعْلُو وَلَا يعْلى» وَهُوَ حَدِيث طَوِيل. قَالَ الطَّبَرَانِيّ: ثَنَا [مُحَمَّد] بن عَلّي بن الْوَلِيد السُلمي الْبَصْرِيّ، ثَنَا مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيّ، ثَنَا مُعْتَمر بن سُلَيْمَان، ثَنَا كهمس بن الْحسن، ثَنَا دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن الشّعبِيّ، عَن عبد الله بن عمر، عَن أَبِيه عمر ابْن الْخطاب [بِحَدِيث] الضَّب «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ فِي محفل من أَصْحَابه إِذْ جَاءَ أَعْرَابِي من بني سُليم قد صَاد ضبًّا وَجعله فِي كمه فَذهب بِهِ إِلَى رَحْله (فَأَتَى) جمَاعَة فَقَالَ: عَلَى من هَذِه الْجَمَاعَة؟ فَقَالُوا: عَلَى الَّذِي يزْعم أَنه نَبِي. فشق النَّاس، ثمَّ أقبل عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، مَا اشْتَمَلت (الدُّنْيَا) عَلَى ذِي لهجة أكذب مِنْك(9/200)
وَأبْغض [إليَّ مِنْك] وَلَوْلَا أَن يسميني قومِي عجولاً لعجلت عَلَيْك فقتلتك، فسررت بقتلك النَّاس أَجْمَعِينَ. فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، دَعْنِي أَقتلهُ. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أما علمت أَن الْحَلِيم كَاد يكون نبيًّا. ثمَّ أقبل عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: وَاللات والعزى لَا آمَنت بك. وَقد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا أَعْرَابِي، مَا حملك عَلَى أَن قلت مَا قلت، وَقلت غير الْحق، وَلم تكرم مجلسي؟ قَالَ: وتكلمني أَيْضا - اسْتِخْفَافًا برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَاللات والعزى لَا آمَنت بك، أَو يُؤمن [بك] هَذَا الضَّب. فَأخْرج الضَّب من كمه فطرحه بَين يَدي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ: إِن آمن بك هَذَا الضَّب آمَنت بك. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا ضَب. فَتكلم الضَّب بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين يفهمهُ الْقَوْم جَمِيعًا: لبيْك وَسَعْديك يَا رَسُول رب الْعَالمين. فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من تعبد؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاء عَرْشه، وَفِي الأَرْض سُلْطَانه، وَفِي الْبَحْر سَبيله، وَفِي الْجنَّة رَحمته، وَفِي النَّار عَذَابه. قَالَ: فَمن أَنا يَا ضَب؟ فَقَالَ: أَنْت رَسُول الله رب الْعَالمين وَخَاتم النَّبِيين، قد أَفْلح من صدقك وَقد خَابَ من كَذبك. فَقَالَ الْأَعرَابِي: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله حقًّا، وَالله لقد أَتَيْتُك وَمَا عَلَى وَجه الأَرْض أحد هُوَ أبْغض إليَّ مِنْك، وَالله [لأَنْت] السَّاعَة أحب إليَّ من نَفسِي وَمن وَلَدي (وَقد آمَنت بك بشعري) وبشري وداخلي وخارجي وسري وعلانيتي. فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: الْحَمد لله الَّذِي هداك [إِلَى] هَذَا(9/201)
الدَّين الَّذِي يَعْلُو وَلَا يعْلى، لَا يقبله الله إِلَّا بِصَلَاة، وَلَا يقبل الصَّلَاة إِلَّا بقرآن. فَعلمه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «الْحَمد» و «قل هُوَ الله أحد» فَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَالله مَا سَمِعت [فِي] الْبَسِيط وَلَا فِي الرجز أحسن من هَذَا. فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن هَذَا كَلَام رب الْعَالمين، وَلَيْسَ بِشعر [و] إِذا قَرَأت «قل هُوَ الله أحد» مرّة فَكَأَنَّمَا قَرَأت ثلث الْقُرْآن، وَإِذا قَرَأت «قل هُوَ الله أحد» مرَّتَيْنِ فَكَأَنَّمَا قَرَأت ثُلثي الْقُرْآن، وَإِذا قَرَأت «قل هُوَ الله أحد» ثَلَاث مَرَّات فَكَأَنَّمَا قَرَأت الْقُرْآن كُله. فَقَالَ الْأَعرَابِي: نِعْمَ (إِلَه) إلهنا؛ يقبل الْيَسِير وَيُعْطِي الجزيل. ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أعْطوا الْأَعرَابِي. فَأَعْطوهُ حَتَّى أبطروه، فَقَامَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أُرِيد أَن أعْطِيه نَاقَة أَتَقَرَّب بهَا إِلَى الله - عَزَّ وَجَلَّ - دون البختي وَفَوق الْأَعرَابِي وَهِي عشراء. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: [إِنَّك] قد [وصفت] مَا تُعْطِي فأصف لَك مَا يعطيك الله - عَزَّ وَجَلَّ - جَزَاء؟ قَالَ: نعم. قَالَ: لَك نَاقَة من درة جوفاء، قَوَائِمهَا من زبرجد أَخْضَر، وعنقها من زبرجد أصفر، عَلَيْهَا هودج، وَعَلَى الهودج السندس والإستبرق، تمر بك عَلَى الصِّرَاط كالبرق الخاطف. فَخرج الْأَعرَابِي من عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَقِيَهُ ألف أَعْرَابِي عَلَى ألف دَابَّة بِأَلف رمح وَألف سيف، فَقَالَ لَهُم: أَيْن تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُقَاتِل هَذَا الَّذِي يكذب وَيَزْعُم أَنه نَبِي. فَقَالَ الْأَعرَابِي: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله. فَقَالُوا: صبوت؟ ! فَقَالَ: مَا صبوت. وَحَدَّثَهُمْ هَذَا الحَدِيث فَقَالُوا بأجمعهم: لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله.(9/202)
فَبلغ ذَلِك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتَلقاهُمْ [فِي رِدَاء] فنزلوا عَن ركبهمْ [يقبلُونَ] مَا ولوا مِنْهُ وهم يَقُولُونَ: لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله. فَقَالُوا: مرنا [بِأَمْرك] يَا رَسُول الله. فَقَالَ: تدخلون تَحت راية خَالِد بن الْوَلِيد. قَالَ: وَلَيْسَ أحد من الْعَرَب آمن مِنْهُم ألف جَمِيعًا إِلَّا بَنو سليم» .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يروه عَن دَاوُد بن أبي هِنْد بِهَذَا التَّمام إِلَّا كهمس، وَلَا عَن كهمس إِلَّا مُعْتَمر، تفرد بِهِ مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
قلت: وَأخرجه أَبُو نعيم وَالْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابَيْهِمَا «دَلَائِل النُّبُوَّة» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْحمل فِيهِ عَلَى السّلمِيّ. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : صدق وَالله الْبَيْهَقِيّ فَإِنَّهُ خبر بَاطِل.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تبدءوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذا لَقِيتُم أحدهم فِي طَرِيق فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أضيقها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.(9/203)
الحَدِيث الْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا امْرَأَة خلعت ثوبها فِي غير بَيت زَوجهَا فَهِيَ ملعونة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِنَحْوِهِ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم من رِوَايَة أبي الْمليح - بِفَتْح الْمِيم - قَالَ: «دخل نسْوَة من أهل الشَّام عَلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فَقَالَت: مِمَّن أنتن؟ فَقُلْنَ: من أهل الشَّام. فَقَالَت: لعلكن من الكورة الَّتِي يدْخل نساؤها الحمامات؟ قُلْنَ: نعم. قَالَت: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: مَا من امْرَأَة تخلع ثِيَابهَا فِي غير بَيتهَا إِلَّا هتكت مَا بَينهَا وَبَين الله - تَعَالَى» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لم يسمع أَبُو الْمليح من عَائِشَة. وَقَالَ الْبَزَّار: أَحْسبهُ عَن أبي الْمليح عَن مَسْرُوق عَنْهَا.
قلت: وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن عَمْرو بن مرّة، عَن سَالم بن أبي الْجَعْد عَنْهَا.(9/204)
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قتل ابْن خطل والقينتين وَلم يؤمنهم» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد سلف وَاضحا فِي أَوَائِل الْبَاب الَّذِي قبله.
فَائِدَة: الْقَيْنَة الْأمة سَوَاء كَانَت تغني أم لَا.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
قَالَ الرَّافِعِيّ: إِذا كذب الْمُسلم عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عمدا فَعَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد أَنه يكفر ويراق دَمه. قَالَ الإِمَام: وَهَذِه زلَّة وَلم أر مَا قَالَه لأحدٍ من الْأَصْحَاب، وَالظَّاهِر أَنه يُعَزّر وَلَا يكفر وَلَا يقتل، وَمَا رُوِيَ «أَن رجلا انْطلق إِلَى طَائِفَة من الْعَرَب وَأخْبرهمْ أَنه رَسُول رَسُول الله إِلَيْهِم فأكرموه، ثمَّ ظهر الْحَال فَأَمرهمْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بقتْله» فَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَن الرجل كَانَ كَافِرًا. انْتَهَى كَلَامه.
وَهَذَا الحَدِيث ذكره الْحَافِظ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي مُقَدّمَة كِتَابه «الموضوعات» من طرق فِي أول حَدِيث «من كذب عَلّي مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار» ، قَالَ: وَهَذَا حَدِيث رَوَاهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[ثمانيةو] تسعون نفسا. ثمَّ ذكرهَا بأسانيده. قَالَ: وَهَذِه الطّرق هِيَ سَبَب هَذَا الحَدِيث:
أَحدهَا: من طَرِيق ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى قوم فِي جَانب الْمَدِينَة فَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمرنِي أَن أحكم فِيكُم برأيي وَفِي(9/205)
أَمْوَالكُم، وَفِي كَذَا وَفِي كَذَا. وَكَانَ خطب امْرَأَة مِنْهُم فِي الْجَاهِلِيَّة فَأَبَوا أَن يزوجوه، ثمَّ ذهب حَتَّى نزل عَلَى الْمَرْأَة، فَبَعثه الْقَوْم إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: كذب عَدو الله. ثمَّ أرسل رجلا فَقَالَ: إِن وجدته حيًّا فاقتله، وَإِن وجدته مَيتا فحرقه بالنَّار. فَانْطَلق فَوَجَدَهُ قد لدغ فَمَاتَ فحرقه بالنَّار، فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من كذب عَلّي مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار» ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه أَيْضا قَالَ: «كَانَ حَيّ من بني لَيْث من الْمَدِينَة عَلَى ميلين، وَكَانَ رجل قد خطب مِنْهُم فِي الْجَاهِلِيَّة فَلم يزوجوه، فَأَتَاهُم وَعَلِيهِ حلَّة فَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كساني هَذِه الْحلَّة وَأَمرَنِي أَن أحكم فِي أَمْوَالكُم ودمائكم. ثمَّ انْطلق فَنزل عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَة الَّتِي كَانَ يُحِبهَا، فَأرْسل الْقَوْم إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: كذب عَدو الله. ثمَّ أرسل رجلا فَقَالَ: إِن وجدته حَيا - وَمَا أَرَاك تَجدهُ حيًّا - فَاضْرب عُنُقه، وَإِن وجدته مَيتا فأحرقه بالنَّار. قَالَ: فَجَاءَهُ فَوَجَدَهُ قد لدغته أَفْعَى فَمَاتَ فحرقه بالنَّار. قَالَ: فَذَلِك قَول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من كذب عَلّي مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار» .
قلت: وَأخرج هَذَا الْبَغَوِيّ فِي «مُعْجَمه» عَن يَحْيَى الْحمانِي، عَن عَلّي بن مسْهر، عَن صَالح بن حَيَّان، عَن ابْن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور إِلَى أَن قَالَ: «فَنزل عَلَى الْمَرْأَة الَّتِي كَانَ يخطبها» بدل «يُحِبهَا» . وَصَالح هَذَا ضعَّفه ابْن معِين وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ البُخَارِيّ: فِيهِ نظر. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يُعجبنِي(9/206)
الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا انْفَرد. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ غير مَحْفُوظ.
الطَّرِيق الثَّانِي: من طَرِيق عَطاء بن السَّائِب عَن عبد الله بن الْحَارِث رَفعه قَالَ: «تَدْرُونَ فِيمَن كَانَ الحَدِيث: «من كذب عَلَى مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار» ؟ كَانَ فِي أبي خدعة رجلا أَعْجَبته امْرَأَة من أهل قبَاء، فطلبها فَلم يقدر عَلَيْهَا، فَأَتَى السُّوق فَاشْتَرَى حُلة مثل حُلة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ جَاءَ إِلَى الْقَوْم فَقَالَ: إِنِّي رَسُول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَيْكُم، وَهَذِه حُلة كسانيها، وَقد أَمرنِي أَن أتخير أَي بُيُوتكُمْ شِئْت فأتضيفه. فَلَمَّا رَأَوْهُ ينظر بيتوتة اللَّيْل قَالَ بَعضهم لبَعض: وَالله لعهدنا برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ نهَى عَن الْفَوَاحِش فَمَا هَذَا؟ يَا فلَان وَيَا فلَان، انْطَلقَا فاسألاه عَمَّا جَاءَ بِهِ هَذَا. فجَاء إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد قَالَ فاستنظراه حَتَّى اسْتَيْقَظَ. فَقَالَا: يَا رَسُول الله، أَتَانَا رَسُولك أَبُو خدعة. قَالَ: وَمن أَبُو خدعة؟ قَالَا: زعم أَنَّك أَرْسلتهُ وَعَلِيهِ حلتك زعم أَنَّك كسوتها إِيَّاه، فَجِئْنَا نَسْأَلك عَمَّا جَاءَ بِهِ. فَغَضب حَتَّى احمر وَجهه ثمَّ قَالَ: من كذب عليَّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار. ثمَّ قَالَ: يَا فلَان [و] يَا فلَان انْطَلقَا فأسرعا فَإِن أدركتماه فاقتلاه، ثمَّ أحرقاه بالنَّار، وَلَا أراكما إِلَّا ستكفيانه فَإِن كفيتماه فَحَرقَاهُ بالنَّار. فجاءا وَقد ذهب يَبُول فَذهب يَأْخُذ مَاء فِي جدول فَخرجت (مِنْهُ) حَيَّة أَو أَفْعَى فَقتلته» .
الطَّرِيق الثَّالِث: من طَرِيق عَطاء أَيْضا عَن عبد الله بن الزبير قَالَ: «قَالَ يَوْمًا لأَصْحَابه: أَتَدْرُونَ مَا تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث «من كذب عليَّ(9/207)
مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار» ؟ قَالَ: عشق رجل امْرَأَة فَأَتَى أَهلهَا مسَاء فَقَالَ: إِنِّي رَسُول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَعَثَنِي إِلَيْكُم أَن أتضيف فِي أَي بُيُوتكُمْ شِئْت. قَالَ: وَكَانَ ينْتَظر بيتوتة الْمسَاء. قَالَ: فَأَتَى رجل مِنْهُم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن فلَانا يزْعم أَنَّك أَمرته أَن يبيت فِي أَي بُيُوتنَا مَا شَاءَ. فَقَالَ: كذب، يَا فلَان انْطلق مَعَه، فَإِن أمكنك الله مِنْهُ فَاضْرب عُنُقه وَأحرقهُ بالنَّار، وَلَا أَرَاك إِلَّا قد كفيته. فَلَمَّا خرج الرَّسُول قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ادعوهُ. فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: إِنِّي كنت أَمرتك أَن تضرب عُنُقه وَأَن تحرقه بالنَّار، فَإِن أمكنك الله فَاضْرب عُنُقه وَلَا تحرقه بالنَّار؛ فَإِنَّهُ لَا يعذب بالنَّار إِلَّا رب النَّار، وَلَا أَرَاك إِلَّا قد كفيته. فَجَاءَت السَّمَاء فصبت فَخرج ليتوضأ فلسعته أَفْعَى، فَلَمَّا بلغ ذَلِك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: هُوَ فِي النَّار» .
قلت: وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن عَلّي بن عبد الْعَزِيز، ثَنَا أَبُو نعيم، ثَنَا أَبُو حَمْزَة، عَن سَالم بن أبي الْجَعْد، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قَالَ: انْطَلَقت مَعَ أبي إِلَى صهر لنا من أسلم فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[يَقُول] أَرحْنَا بهَا يَا بِلَال. قَالَ: قلت لَهُ: أَنْت سمعته من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ فَغَضب [وَأَقْبل عَلَى الْقَوْم يُحَدِّثهُمْ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث رجلا إِلَى حَيّ من الْعَرَب، فَلَمَّا أَتَاهُم قَالَ: إِن] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[أَمرنِي] أَن أحكم فِي(9/208)
نِسَائِكُم. فَقَالُوا: إِن كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمرك أَن تحكم فِي نسائنا فَسمع وَطَاعَة لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ثمَّ [صدقوه] وبيتوه، وبعثوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[فَقَالُوا] : إِن فلَانا أَتَانَا فَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمرنِي أَن أحكم فِي نِسَائِكُم، فَإِن كنت أَمرته فَسمع وَطَاعَة. فَبعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجلا من الْأَنْصَار فَقَالَ: اقتله وَأحرقهُ بالنَّار. فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من كذب عَلّي مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار. أَترَانِي أكذب عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : تفرد بِهِ الْحجَّاج بن الشَّاعِر، عَن زَكَرِيَّا بن عدي، عَن عَلّي بن مسْهر، وَرَوَى سُوَيْد عَن عَلّي قِطْعَة من آخر الحَدِيث.
قلت: لَا؛ فقد رَوَاهُ الْبَغَوِيّ عَن يَحْيَى الْحمانِي، عَن عَلّي بن مسْهر. قَالَ الذَّهَبِيّ: وَرَوَاهُ صَاحب «الصارم المسلول» من طَرِيق الْبَغَوِيّ عَن يَحْيَى الْحمانِي، عَن عَلّي بن مسْهر وَصَححهُ، وَلم يَصح بِوَجْه. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فَأَرْبَعَة عشر:
أَحدهَا: «أَن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أخذُوا الْجِزْيَة من نَصَارَى الْعَرَب» .
وَهَذَا صَحِيح وَقد نَقله الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن الشَّافِعِي حَيْثُ(9/209)
قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله [عَنهُ] .
الْأَثر الثَّانِي: «عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه أجلى الْيَهُود من الْحجاز، ثمَّ أذن لمن قدم مِنْهُم تَاجِرًا أَن يُقيم ثَلَاثًا» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن نَافِع عَن أسلم مولَى عمر عَنهُ. وَقد ذكره الرَّافِعِيّ أَيْضا فِي بَاب صَلَاة الْمُسَافِر وتكلمنا عَلَيْهِ هُنَاكَ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مَالك أَيْضا بِهِ «أَنه ضرب للْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس بِالْمَدِينَةِ إِقَامَة ثَلَاث لَيَال يتسوقون بهَا ويقضون حوائجهم، وَلَا يُقيم أحد مِنْهُم فَوق ثَلَاث لَيَال» .
الْأَثر الثَّالِث: أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «دِينَار الْجِزْيَة اثْنَا عشر درهما» .
وَهَذَا الْأَثر يرْوَى عَنهُ بِإِسْنَاد ثَابت أَنه قَالَ: هُوَ عشرَة دَرَاهِم. قَالَ: وَوجه ذَلِك التَّقْوِيم باخْتلَاف السّعر.
الْأَثر الرَّابِع: «عَن عمر أَيْضا أَنه ضرب فِي الْجِزْيَة عَلَى الْغَنِيّ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين درهما، وَعَلَى الْمُتَوَسّط أَرْبَعَة وَعشْرين، وَعَلَى الْفَقِير المكتسب اثْنَا عشر» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: إِنَّه مُرْسل. رَوَاهُ من حَدِيث مُحَمَّد بن (عبيد) الثَّقَفِيّ. قَالَ: «وضع عمر بن الْخطاب - يَعْنِي فِي الْجِزْيَة - عَلَى رُءُوس الرِّجَال عَلَى الْغَنِيّ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين درهما، وَعَلَى الْمُتَوَسّط(9/210)
أَرْبَعَة وَعشْرين درهما، وَعَلَى الْفَقِير اثْنَي عشر درهما» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ قَتَادَة عَن أبي مخلد عَن عمر، وَهُوَ مُرْسل أَيْضا. وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَنهُ «أَنه كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد أَن لَا يضع الْجِزْيَة إِلَّا عَلَى من مرت عَلَيْهِ المواسي، وجزيتهم [أَرْبَعُونَ] درهما عَلَى أهل الْوَرق مِنْهُم، وَأَرْبَعَة دَنَانِير عَلَى أهل الذَّهَب» .
الْأَثر الْخَامِس: عَن عمر أَيْضا: «أَنه وضع عَلَى أهل الذَّهَب أَرْبَعَة دَنَانِير، وَعَلَى أهل الْوَرق ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين درهما، وضيافة ثَلَاثَة أَيَّام لكل من يمر بهم من الْمُسلمين» .
وَهَذَا الْأَثر تقدم بَيَانه قَرِيبا فِي أثْنَاء الحَدِيث السَّادِس عشر لَكِن فِيهِ «أَنه وضع عَلَى أهل الْوَرق أَرْبَعِينَ درهما» ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» .
الْأَثر السَّادِس: يرْوَى «أَن جمَاعَة من أهل الذِّمَّة أَتَوا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالُوا: إِن الْمُسلمين إِذا مروا بِنَا كلفونا ذَبَائِح الْغنم والدجاج. فَقَالَ: أطعموهم مِمَّا تَأْكُلُونَ وَلَا تزيدوهم عَلَيْهِ» .
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، وَفِي «علل بن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث (يزِيد) بن صعصعة قلت لِابْنِ عَبَّاس: إِنَّا ننزل بِأَهْل الذِّمَّة فمنا من تذبح لَهُ الشَّاة وَمنا من تذبح لَهُ الدَّجَاج، وَإِن استفتحنا فَلم يفتح لنا كسرنا الْبَاب. قَالَ: فَكيف تَقولُونَ فِي ذَلِك؟ قَالَ: منا من لَا يرَى بذلك بَأْسا. قَالَ: أَنْتُم تَقولُونَ كَمَا قَالَ أهل(9/211)
الْكتاب (لَيْسَ علينا فِي الْأُمِّيين سَبِيل وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِب وهم يعلمُونَ) فَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا يحل لكم أَن تَأْكُلُوا من أَمْوَال أهل الذِّمَّة إِلَّا بِطيب نَفْس مِنْهُم، وكلوا مَا أكلْتُم بِثمن» ، فَقَالَ: الصَّحِيح صعصعة بن يزِيد. وَرَوَاهُ شُعْبَة معكوسًا فَأَخْطَأَ، قَالَ: وَخطأ شُعْبَة أَكْثَره فِي أَسمَاء الرِّجَال - يَعْنِي الروَاة.
الْأَثر السَّابِع: أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد: أَن لَا يَأْخُذُوا الْجِزْيَة من النِّسَاء وَالصبيان» .
هَذَا الْأَثر سلف وَاضحا فِي الحَدِيث السَّادِس.
الْأَثر الثَّامِن: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه طلب الْجِزْيَة من نَصَارَى الْعَرَب وهم تنوخ وبهراء وَبَنُو تغلب. فَقَالُوا: نَحن عرب لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجم، فَخذ منا مَا يَأْخُذ بَعْضكُم من بعض - يعنون الزَّكَاة - فَقَالَ عمر: هَذَا فرض الله عَلَى الْمُسلمين. فَقَالُوا: زِدْنَا مَا شِئْت بِهَذَا الِاسْم، لَا باسم الْجِزْيَة. فرضاهم عَلَى أَن يضعف عَلَيْهِم الصَّدَقَة، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ حمقى رَضوا بِالِاسْمِ وأبوا بِالْمَعْنَى» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره الشَّافِعِي فَقَالَ: قد ذكره حفظَة الْمَغَازِي وَسَاقُوا أحسن سِيَاقَة أَن عمر ... فَذكره بِمثلِهِ إِلَى قَوْله: «الصَّدَقَة» .
فَائِدَة: قَالَ المطرزي فِي «المعرب» بَنو تغلب قوم من مُشْركي الْعَرَب طالبهم عمر بالجزية فَأَبَوا، فصولحوا عَلَى أَن يُعْطوا الصَّدَقَة مضاعفة فرضوا، وَقيل: الْمصَالح كرْدُوس التغلبي، وَقيل: ابْنه دَاوُد.(9/212)
هَكَذَا فِي كتاب «الْأَمْوَال» لأبي عبيد. قَالَ المطرزي: وَهُوَ أقرب. قَالَ: وَقيل: زرْعَة بن النُّعْمَان أَو النُّعْمَان بن زرْعَة.
الْأَثر التَّاسِع: عَن عمر أَيْضا «أَنه أذن للحربي فِي دُخُول دَار الْإِسْلَام بِشَرْط أَخذ عشر مَا مَعَه من أَمْوَال التِّجَارَة» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن سِيرِين، قَالَ: «جعل عمر بن الْخطاب أنس بن مَالك عَلَى صَدَقَة الْبَصْرَة فَقَالَ لي أنس بن مَالك: أَبْعَثك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ عمر بن الْخطاب؟ فَقلت: لَا أعمل (لَك) حَتَّى تكْتب لي عهد عمر الَّذِي عهد إِلَيْك. فَكتب (إِلَيّ أَن نَأْخُذ) من أَمْوَال الْمُسلمين ربع الْعشْر، وَمن أَمْوَال أهل الذِّمَّة إِذا اخْتلفُوا فِيهَا للتِّجَارَة نصف الْعشْر، وَمن أَمْوَال أهل الْحَرْب الْعشْر» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم، وَمن أهل الذِّمَّة [من كل عشْرين دِرْهَم، وَمِمَّنْ لَا زمة لَهُ من كل عشرَة دَرَاهِم دِرْهَم. قَالَ: قلت:] من لَا ذمَّة لَهُ؟ قَالَ: الرّوم كَانُوا يقدمُونَ الشَّام» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «خُذ من الْمُسلمين ربع الْعشْر، وَمن أهل الذِّمَّة نصف الْعشْر، وَمن لَا ذمَّة لَهُ الْعشْر» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة عَنهُ «أَنه شَرط فِي الْمُسلمين نصف الْعشْر، وَمن لَا ذمَّة لَهُ الْعشْر» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة عَنهُ «أَنه شَرط مَعَ شَرط الْعشْر فِي سَائِر التِّجَارَات» .(9/213)
قلت: رَوَى الشَّافِعِي عَن مَالك [عَن] ابْن شهَاب، عَن سَالم، عَن أَبِيه «أَن عمر كَانَ يَأْخُذ من القبط من الْحِنْطَة وَالزَّبِيب نصف الْعشْر يُرِيد، بذلك أَن يكثر الْحمل إِلَى الْمَدِينَة، وَيَأْخُذ من القطنية الْعشْر من تجاراتهم» . قلت: هُوَ ظَاهر الرِّوَايَات السالفة وَغَيرهَا عَنهُ.
الْأَثر الْعَاشِر وَالْحَادِي عشر: عَن عمر وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا قَالَا: «لَا يُمكن أهل الذِّمَّة من إِحْدَاث بيعَة فِي بِلَاد الْمُسلمين» .
أما أثر عمر؛ فقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث حرَام بن مُعَاوِيَة قَالَ: «كتب إِلَيْنَا عمر: أَن أدبوا الْخَيل، وَلَا ترفعن بَين ظهرانيكم الصَّلِيب، وَلَا تجاورنكم الْخَنَازِير» وَرَوَى أَيْضا بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث يَحْيَى بن عقبَة بن أبي الْعيزَار - وَهُوَ ضَعِيف وَإِن سكت عبد الْحق عَلَى إِسْنَاده - عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَغَيره، عَن طَلْحَة بن مصرف، عَن مَسْرُوق، عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم. أَنبأَنَا بِهِ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي، أبنا زَيْنَب بنت مكي وَغَيرهَا، أبنا ابْن طبرزد، أبنا ابْن عبد الْبَاقِي، أبنا ابْن غَالب الْحَرْبِيّ، أبنا ابْن بَشرَان، أبنا ابْن السماك، ثَنَا أَبُو مُحَمَّد عبيد بن مُحَمَّد بن خلف الْبَزَّار [أبنا] صَالح بن أبي ثَوْر، ثَنَا الرّبيع بن ثَعْلَب أَبُو الْفضل، ثَنَا يَحْيَى بن عقبَة إِلَى عبد الرَّحْمَن بن غنم قَالَ: «كتبت لعمر بن الْخطاب حِين صَالح نَصَارَى من أهل الشَّام: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، هَذَا كتاب لعبد الله عمر أَمِير الْمُؤمنِينَ من نَصَارَى مَدِينَة كَذَا وَكَذَا، إِنَّكُم لما قدمتم علينا سألناكم الْأمان لأنفسنا وذرارينا(9/214)
[وَأَمْوَالنَا] وَأهل ملتنا، وشرطنا لكم عَلَى أَنْفُسنَا أَن لَا نُحدث فِي مدينتنا وَلَا فِي حولهَا ديرًا وَلَا كَنِيسَة وَلَا [قلاية] وَلَا صومعة رَاهِب، وَلَا نجدد مَا خرب مِنْهَا، وَلَا نحيي مَا كَانَ مِنْهَا فِي حطط الْمُسلمين، وَلَا نمْنَع كنائسنا أَن ينزلها أحد من الْمُسلمين فِي ليل وَلَا نَهَار، ونوسع أَبْوَابهَا للمارة وَابْن السَّبِيل، وَأَن ننزل من مر بِنَا من الْمُسلمين ثَلَاثَة أَيَّام ونطعمهم، وَأَن لَا نؤمن فِي كنائسنا ومنازلنا جاسوسًا، وَلَا نكتم غشًّا للْمُسلمين، وَلَا نعلم أَوْلَادنَا الْقُرْآن، وَلَا نظهر شركا، وَلَا نَدْعُو إِلَيْهِ أحدا، وَلَا نمْنَع أحدا من قرابتنا الدُّخُول فِي الْإِسْلَام إِن أرادوه، وَأَن نوقر الْمُسلمين، وَأَن نقوم لَهُم من مجالسنا إِن أَرَادوا جُلُوسًا، وَلَا نتشبه بهم فِي شَيْء من لباسهم من قلنسوة وَلَا عِمَامَة وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فرق شعر، وَلَا نتكلم بكلامهم وَلَا نكتني بكناهم [وَلَا نركب السُّرُوج] وَلَا نتقلد السيوف، وَلَا نتَّخذ شَيْئا من السِّلَاح وَلَا نحمله مَعنا، وَلَا ننقش خواتمنا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا نبيع الْخُمُور، وَأَن نجز مقاديم رءوسنا وَأَن نلزم زينا حَيْثُمَا كُنَّا، وَأَن نَشد الزنانير عَلَى أوساطنا، وَأَن لَا نظهر صلبنًا وكتبنا فِي شَيْء من طرق الْمُسلمين وَلَا أسواقهم، وَأَن لَا نظهر الصَّلِيب عَلَى كنائسنا، وَلَا نضرب بناقوس فِي كنائسنا بَين حَضْرَة الْمُسلمين، وَأَن لَا نخرج سعانينًا وَلَا باعونًا، وَلَا نرفع أصواتنا مَعَ أمواتنا، وَلَا نظهر النيرَان مَعَهم فِي شَيْء من طَرِيق الْمُسلمين، وَلَا نجاوزهم مَوتَانا، وَلَا(9/215)
نتَّخذ من الرَّقِيق مَا جَرَى عَلَيْهِ [سِهَام] الْمُسلمين وَأَن نرشد الْمُسلمين وَلَا نطلع عَلَيْهِم فِي مَنَازِلهمْ. فَلَمَّا أتيت عمر بِالْكتاب زَاد فِيهِ: وَأَن لَا نضرب أحدا من الْمُسلمين، شرطنا (لكم) ذَلِك عَلَى أَنْفُسنَا وَأهل ملتنا، وَقَبلنَا (عَنْهُم) الْأمان، فَإِن نَحن خَالَفنَا شَيْئا فَمَا شرطناه لكم وضمناه عَلَى أَنْفُسنَا فَلَا ذمَّة لنا، وَقد حل لكم مَا يحل لكم من أهل المعاندة والشقاق» وَرَوَى ابْن عدي عَن عمر رَفعه: «لَا تبنى كَنِيسَة فِي الْإِسْلَام، وَلَا يجدد مَا خرب مِنْهَا» وَفِي إِسْنَاده سعيد بن سِنَان وَهُوَ ضَعِيف.
وَأما أثر ابْن عَبَّاس؛ فقد رَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث حَنش، عَن عِكْرِمَة، عَنهُ أَنه قَالَ: «كل مصر مصَّره الْمُسلمُونَ لَا يُبْنَى فِيهِ بيعَة وَلَا كَنِيسَة، وَلَا يضْرب فِيهِ ناقوس، وَلَا يُبَاع فِيهِ لحم خِنْزِير» وَرَوَاهُ عَنهُ أَيْضا من هَذِه الطَّرِيق بِزِيَادَة فِيهِ.
الْأَثر الثَّانِي عشر: عَن عمر أَيْضا «أَنه شَرط عَلَى أهل الذِّمَّة من أهل الشَّام أَن يركبُوا عرضا عَلَى الأكف» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كتاب «الْأَمْوَال» عَن عبد الرَّحْمَن - يَعْنِي ابْن مهْدي - عَن عبد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن أسلم «أَن عمر بن الْخطاب أَمر فِي أهل الذِّمَّة أَن تجز نواصيهم، وَأَن يركبُوا عَلَى(9/216)
الأكف، وَأَن يركبُوا عرضا، وَلَا يركبون كَمَا يركبَ الْمُسلمُونَ، وَأَن يُوثقُوا المناطق» . قَالَ أَبُو عبيد: يَعْنِي الزنانير. ثمَّ رَوَى عَن عمر بن عبد الْعَزِيز مثله. وَالْمرَاد بالركوب عرضا أَن يَجْعَل الرَّاكِب رجلَيْهِ من جَانب وَاحِد، كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ.
الْأَثر الثَّالِث عشر: عَن عمر أَيْضا «أَنه كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد أَن يختموا رِقَاب أهل الذِّمَّة بِخَاتم الرصاص، وَأَن يجزوا نواصيهم، وَأَن يشدوا المناطق» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أسلم قَالَ: «كتب عمر إِلَى أُمَرَاء الأجناد أَن اختموا رِقَاب أهل الْجِزْيَة فِي أَعْنَاقهم» وَبَاقِي الْأَثر سلف بَيَانه قَرِيبا وَفِي السالف الطَّوِيل أَيْضا قَالَ الرَّافِعِيّ: قَالَ أَبُو عبيد: المناطق هِيَ الزنانير. وَهَذَا أسلفته عَنهُ.
الْأَثر الرَّابِع عشر: «أَن نَصْرَانِيّا استكره مسلمة عَلَى الزِّنَا فَرفع إِلَى أبي عُبَيْدَة بن الْجراح فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا صالحناكم. وَضرب عُنُقه» .
وَهَذَا الْأَثر الْمَعْرُوف أَنه من رِوَايَة مجَالد، عَن الشّعبِيّ، عَن سُوَيْد بن غَفلَة قَالَ: «كُنَّا [مَعَ عمر بن الْخطاب] أَمِير الْمُؤمنِينَ بِالشَّام فَأَتَاهُ نبطي مَضْرُوب مشجج مستعدى، فَغَضب غَضبا شَدِيدا فَقَالَ لِصُهَيْب: انْظُر من صَاحب هَذَا. فَانْطَلق فَإِذا هُوَ عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ قَالَ لَهُ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد غضب غَضبا شَدِيدا فَلَو أتيت معَاذ بن جبل يمشي مَعَك إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْك بادرته.(9/217)
فجَاء مَعَه معَاذ، فَلَمَّا انْصَرف عمر من الصَّلَاة قَالَ: أَيْن صُهَيْب؟ فَقَالَ: هَا أَنا ذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: أجئت بِالرجلِ الَّذِي ضربه؟ قَالَ: نعم. فَقَامَ إِلَيْهِ معَاذ بن جبل فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّه عَوْف بن مَالك فاسمع مِنْهُ وَلَا تعجل عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ عمر: مَا لَك وَلِهَذَا؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، رَأَيْته يَسُوق بِامْرَأَة مسلمة فَنَخَسَ الْحمار ليصرعها فَلم تصرع، ثمَّ دَفعهَا فخرت عَن الْحمار فغشيها فَفعلت مَا ترَى. قَالَ: ائْتِنِي بِالْمَرْأَةِ لتصدقك. فَأَتَى عَوْف الْمَرْأَة فَقَالَ مَا قَالَه عمر، قَالَ أَبوهَا وَزوجهَا: مَا أردْت بصاحبتنا فضحتها؟ فَقَالَت الْمَرْأَة: وَالله لأذهبن مَعَه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَلَمَّا أَجمعت عَلَى ذَلِك قَالَ أَبوهَا وَزوجهَا: [نَحن] نبلغ عَنْك أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَأتيَا فصدقا عَوْف بن مَالك بِمَا قَالَ. قَالَ: فَقَالَ عمر لِلْيَهُودِيِّ: وَالله مَا عاهدناكم عَلَى هَذَا. فَأمر بِهِ فصلب ثمَّ قَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، فوا بِذِمَّة مُحَمَّد (فَمن فعل مِنْهُم هَذَا فَلَا ذمَّة لَهُ. قَالَ سُوَيْد: إِنَّه لأوّل مصلوب رَأَيْته» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تَابعه ابْن أَشوع، عَن الشّعبِيّ، عَن عَوْف.
وَمِمَّا حذفته من هَذَا الْبَاب مَا ذكره الرَّافِعِيّ [من] فتوح بعض الْبِلَاد وَهُوَ شهير فِي كتب السّير فَلذَلِك حذفته، هَذَا آخِره بِحَمْد الله وَمِنْه.(9/218)
كتاب المهادنة(9/219)
كتاب المهادنة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ عشرَة أَحَادِيث
أَحدهَا
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَالح سُهَيْل بن عَمْرو بِالْحُدَيْبِية عَلَى وضع الْقِتَال عشر سِنِين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد كَذَلِك - وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من غير ذكر الْمدَّة - كِلَاهُمَا من حَدِيث عُرْوَة بن الزبير، عَن الْمسور ومروان، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل مُشْتَمل عَلَى أَحْكَام فِي عدَّة وَرَقَات ذكره فِي الشُّرُوط. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالْمَحْفُوظ أَن الْمدَّة كَانَت عشر سِنِين، وَأما مَا رَوَاهُ عَاصِم بن عمر الْعمريّ، عَن ابْن دِينَار، عَن ابْن عُمَيْر «وَأَنَّهَا كَانَت أَربع سِنِين» فعاصم مِمَّا لَا يُتَابع عَلَيْهِ، ضعفه يَحْيَى [و] البُخَارِيّ وَغَيرهمَا.
قلت: وينكر إِذن عَلَى الْحَاكِم كَيفَ أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح. وَكَذَا ابْن السكن كَيفَ أخرجه فِي «صحاحه» .(9/221)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَحكي عَن الشّعبِيّ وَغَيره أَنه قَالَ: لم يكن فِي الْإِسْلَام [فتح] كصلح الْحُدَيْبِيَة.
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما بلغه تَأَلُّبُ الْعَرَب واجتماع الْأَحْزَاب، قَالَ للْأَنْصَار: إِن الْعَرَب قد كالبتكم ورمتكم عَن قَوس وَاحِدَة فَهَل ترَوْنَ أَن ندفع شَيْئا من ثمار الْمَدِينَة إِلَيْهِم؟ قَالُوا: يَا رَسُول الله، إِن قلت عَن وَحي فَسمع وَطَاعَة، وَإِن قلت عَن رأيٍ فرأيك مُتبع، كُنَّا لَا ندفع إِلَيْهِم ثَمَرَة إِلَّا بشرى أَو قِرى وَنحن كفار، فَكيف وَقد أعزنا الله بِالْإِسْلَامِ؟ ! فسر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بقَوْلهمْ» .
هَذَا الحَدِيث ذكره ابْن إِسْحَاق فِي «السِّيرَة» قَالَ: حَدثنِي عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة وَمن لَا أتهم، عَن مُحَمَّد بن مُسلم ابْن عبيد الله الزُّهْرِيّ قَالَ: «لما اشْتَدَّ عَلَى النَّاس الْبلَاء بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى عُيَيْنَة بن حصن بن حُذَيْفَة بن بدر وَإِلَى الْحَارِث ابْن عَوْف بن أبي حَارِثَة المري - وهما قائدا غطفان - فَأَعْطَاهُمَا ثلث ثمار الْمَدِينَة عَلَى أَن يرجعا بِمن مَعَهُمَا عَنهُ وَعَن أَصْحَابه، فَجَرَى بَينه وَبَينهمَا الصُّلْح حَتَّى كتبُوا الْكتاب وَلم تقع الشَّهَادَة وَلَا عَزِيمَة الصُّلْح إِلَّا المراوضة فِي ذَلِك، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يفعل ذَلِك بعث إِلَى سعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة فَذكر ذَلِك لَهما واستشارهما فِيهِ، فَقَالَا لَهُ: يَا رَسُول الله، أمرا تحبه فنصنعه أم شَيْئا أنزل الله لابد لنا من الْعَمَل، أم شَيْئا تَصنعهُ لنا؟ قَالَ: بل شَيْء أصنعه لكم، وَالله مَا أصنع ذَلِك إِلَّا أَنِّي رَأَيْت الْعَرَب قد رمتكم عَن(9/222)
قَوس وَاحِدَة وكالبوكم من كل جَانب، فَأَرَدْت أَن أكسر عَنْكُم من شوكتهم إِلَى أَمر مَا. فَقَالَ لَهُ سعد ابْن معَاذ: يَا رَسُول الله، قد كُنَّا نَحن وَهَؤُلَاء الْقَوْم عَلَى الشّرك بِاللَّه وَعبادَة الْأَوْثَان لَا نعْبد الله وَلَا نعرفه وهم لَا يطمعون أَن يَأْكُلُوا منا ثَمَرَة إِلَّا قرَى أَو بيعا، أفحين أكرمنا الله بِالْإِسْلَامِ وهدانا لَهُ وأعزنا بك وَبِه؛ نعطيهم أَمْوَالنَا، مَا لنا بِهَذَا من حَاجَة، وَالله لَا نعطيهم إِلَّا السَّيْف حَتَّى يحكم الله بَيْننَا. قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَأَنت وَذَاكَ. فَتَنَاول سعد الصَّحِيفَة فمحا مَا فِيهَا من الْكتاب ثمَّ قَالَ: ليجهدوا علينا. فَأَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - والمسلمون وعدوهم يحاصروهم» .
ثمَّ سَاق ابْن إِسْحَاق أحسن سِيَاقَة عَلَى عَادَته، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ آخر فَقَالَ: ثَنَا زَكَرِيَّا السَّاجِي، ثَنَا عقبَة بن سِنَان الدارع، ثَنَا عُثْمَان بن عُثْمَان الْغَطَفَانِي، ثَنَا مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «جَاءَ الْحَارِث الْغَطَفَانِي إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، شاطرنا ثَمَر الْمَدِينَة. قَالَ: حَتَّى أَستَأْمر السُّعُود. فَبعث إِلَى سعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة وَسعد ابْن الرّبيع، وَسعد بن خَيْثَمَة وَسعد بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم فَقَالَ لَهُم: قد علمْتُم أَن الْعَرَب قد رمتكم عَن قَوس وَاحِدَة، وَأَن الْحَارِث يسألكم أَن تشاطروه ثَمَر الْمَدِينَة، فَإِن أردتم أَن تدفعوه عامكم هَذَا حَتَّى ينْظرُوا فِي أَمركُم بعد. فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، أُوحِي هَذَا من السَّمَاء فالتسليم لأمر الله، أَو عَن رَأْيك أَو هَوَاك فَرَأَيْنَا تبع لهواك ورأيك، فَإِن كنت إِنَّمَا تُرِيدُ الْإِبْقَاء علينا فوَاللَّه لقد رَأَيْتنَا وإياهم عَلَى سَوَاء، مَا ينالون مِنْهَا ثَمَرَة إِلَّا بشرَاء أَو قرَى. فَقَالَ رَسُول الله: (هَؤُلَاءِ يسمعُونَ مَا تَقولُونَ. قَالَ: غدرت يَا مُحَمَّد. فَقَالَ(9/223)
حسان بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:
أبدا فَإِن مُحَمَّدًا لَا يغدر
كسر الزجاجة صَدعهَا لَا يجْبر
واللؤم ينْبت فِي أصُول السنحبر
[يَا] جَار من يغدر بِذِمَّة جَاره
وأمانه [المرى] حِين لقيتها
إِن تغدروا فالغدر من عاداتكم
فَائِدَة: «التألب» بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فَوق ثمَّ همزَة ثمَّ لَام ثمَّ بَاء مُوَحدَة: الِاجْتِمَاع. يُقَال: ألب الْإِبِل - بِالتَّخْفِيفِ عَلَى وزن ضرب - إِذا جمعهَا فَهُوَ يألبها - بِضَم الْبَاء وَكسرهَا - وتألبوا إِذا اجْتَمعُوا، وهم ألب - بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا - إِذا كَانُوا مُجْتَمعين. قَالَه الْجَوْهَرِي.
قَالَ: وَأما «كالبتكم» فمقتضاه ساررتكم، فالمكالبة: المساررة. وَكَذَلِكَ التكالب، تَقول: هم يتكالبون عَلَى كَذَا. أَي: يتواثبون عَلَيْهِ.
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هادن صَفْوَان بن أُميَّة أَرْبَعَة أشهر فَأسلم قبل مُضِيّ الْمدَّة» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي كَذَلِك، وَقد ذكرنَا فِي بَاب نِكَاح الْمُشرك أَنه عَلَيْهِ السَّلَام ستره شَهْرَيْن لَيْسَ إِلَّا، قَالَ الشَّافِعِي: وَقَول الله - تَعَالَى - (فسيحوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر) كَانَ عِنْد منصرف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من تَبُوك فِي أول الْأَمر، يَعْنِي فَيجوز أَكثر من ذَلِك كَمَا تقدم فِي قصَّة الْحُدَيْبِيَة.(9/224)
الحَدِيث الرَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هادن قُريْشًا بِالْحُدَيْبِية عشر سِنِين وَكَانَ قد خرج ليعتمر لَا بأهبة الْقِتَال، وَكَانَ بِمَكَّة مستضعفون، فَأَرَادَ أَن يظهروا وَيكبر الْمُسلمُونَ» .
هَذَا الحَدِيث هُوَ بعض من الحَدِيث الأول، وَقد نبهنا هُنَاكَ عَلَى من خرجه.
الحَدِيث الْخَامِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هادن قُريْشًا ثمَّ أبطل الْعَهْد قبل تَمام الْمدَّة» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَاخْتلف الْأَصْحَاب فِي ذَلِك فَقيل: نسخت الزِّيَادَة عَلَى أَرْبَعَة أشهر فَلذَلِك أبْطلهُ، وَالأَصَح أَنَّهَا مَا نسخت وَإِنَّمَا أَقَامَ عَلَى الْهُدْنَة سِنِين، وَإِنَّمَا أبطل الْعَهْد؛ لِأَنَّهُ وَقع شَيْء بَين حلفاء النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وهم خُزَاعَة وَبَين حلفاء قُرَيْش وهم بَنو بكر، [فأعانت قُرَيْش حلفاءها] عَلَى حلفاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فانتقضت هدنتهم.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما هادن قُريْشًا عَام الْحُدَيْبِيَة دخل بَنو خُزَاعَة عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَبَنُو بكر فِي عهد قُرَيْش، ثمَّ عدا بَنو بكر عَلَى خُزَاعَة وَأَعَانَهُمْ ثَلَاثَة نفر من قُرَيْش، فَجعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَلِك نقضا للْعهد وَسَار إِلَى مَكَّة وَفتحهَا» .(9/225)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنِي الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة بن الزبير، عَن مَرْوَان بن الحكم والمسور بن مخرمَة أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ جَمِيعًا [قَالَا] : «كَانَ فِي صلح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم الْحُدَيْبِيَة بَينه وَبَين قُرَيْش: أَنه من شَاءَ أَن يدْخل فِي عقد مُحَمَّد وَعَهده دخل، وَمن شَاءَ أَن يدْخل فِي عقد قُرَيْش وَعَهْدهمْ دخل. فتواثبت خُزَاعَة فَقَالُوا: نَحن ندخل فِي عهد مُحَمَّد وَعَهده. وتواثبت بَنو بكر فَقَالُوا: نَحن ندخل فِي عقد قُرَيْش وَعَهْدهمْ. فَمَكَثُوا فِي تِلْكَ الْهُدْنَة نَحْو السَّبْعَة أَو الثَّمَانِية عشر شهرا، ثمَّ إِن بني بكر الَّذين كَانُوا دخلُوا فِي عقد قُرَيْش وَعَهْدهمْ وَثبُوا عَلَى خُزَاعَة الَّذين دخلُوا فِي عقد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعَهده لَيْلًا بِمَاء لَهُم يُقَال لَهُ: الْوَتِير، قريب من مَكَّة فَقَالَت [قُرَيْش] : مَا يعلم بِنَا مُحَمَّد وَهَذَا اللَّيْل وَمَا يَرَانَا أحد. فأعانوهم عَلَيْهِم بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاح، فقاتلوهم مَعَهم لِلضِّغْنِ عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَإِن عَمْرو بن سَالم ركب إِلَى رَسُول الله عِنْدَمَا كَانَ من أَمر بني خُزَاعَة وَبني بكر بالْوَتِير حَتَّى قدم الْمَدِينَة عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُخبرهُ الْخَبَر وَقد قَالَ أَبْيَات شعر، فَلَمَّا قدم عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أنْشدهُ إِيَّاهَا:
حلف أَبينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
اللَّهُمَّ إِنِّي نَاشد مُحَمَّدًا
ثمت أسلمنَا وَلم ننزع يدا
كُنَّا والدا وَكنت ولدا
وَادعوا [عباد] الله [يَأْتُوا مدَدا] .
فانصر رَسُول الله نصرا عتدَا(9/226)
إِن سيم خسفا وَجهه تربدا
فيهم رَسُول الله قد تجردا
إِن قُريْشًا (أخْلفُوا) الْمَوْعِدَا
فِي [فيلق] كالبحر يجْرِي مزبدا
وَزَعَمُوا أَن لست أَدْعُو أحدا
وَنَقَضُوا مِيثَاقك الْمُؤَكَّدَا
قد جعلُوا إِلَى بكداك المرصدا
فهم أذلّ وَأَقل عددا
فَقَتَلُونَا ركعا وَسجدا
هم بَيَّتُونَا بالْوَتِير هُجَّدا
فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: نصرت يَا عَمْرو بن سَالم. فَمَا برح حَتَّى مرت (غمامة) فِي السَّمَاء فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن هَذِه السحابة تستهل بنصر بني كَعْب. وَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - النَّاس بالجهاز وكتمهم مخرجه، وَسَأَلَ الله أَن يعمي عَلَى قُرَيْش خَبره حَتَّى يبغتهم فِي بِلَادهمْ» وَفِي رِوَايَة للبيهقي أَيْضا من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة «أَن أَبَا بكر قَالَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: تُرِيدُ قُريْشًا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَلَيْسَ بَيْنك وَبينهمْ مُدَّة؟ ! قَالَ: ألم يبلغك مَا صَنَعُوا ببني كَعْب؟ وَأذن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي النَّاس بالغزو» وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث مُجَاهِد عَن ابْن عمر قَالَ: «كَانَت خُزَاعَة حلفاء لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَكَانَت بَنو بكر رهطًا من بني كنَانَة حلفاء لأبي سُفْيَان. قَالَ: وَكَانَت بَينهم موادعة أَيَّام الْحُدَيْبِيَة، فأغارت بَنو بكر عَلَى خُزَاعَة فِي تِلْكَ الْمدَّة، فبعثوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يشهدونه) فَخرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ممدًّا لَهُم فِي شهر رَمَضَان، فصَام حَتَّى بلغ قديدًا، ثمَّ أفطر وَقَالَ: ليصم النَّاس فِي السّفر ويفطروا، فَمن صَامَ أَجْزَأَ عَنهُ صَوْمه، وَمن أفطر(9/227)
وَجب عَلَيْهِ الْقَضَاء. فَفتح الله مَكَّة، فَلَمَّا دَخلهَا أسْند ظَهره إِلَى الْكَعْبَة ثمَّ قَالَ: كفوا السِّلَاح إِلَّا خُزَاعَة وَبكر ... » ثمَّ سَاق الحَدِيث.
الحَدِيث السَّادِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وادع يهود خَيْبَر وَقَالَ: أقركم مَا أقركم الله» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الْبَاب قبله فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وادع بني قُرَيْظَة، فَلَمَّا قصد الْأَحْزَاب الْمَدِينَة آواهم سيد بني قُرَيْظَة وَأَعَانَهُمْ بِالسِّلَاحِ، وَلم يُنكر الْآخرُونَ ذَلِك، فَجعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[ذَلِك] نقضا للْعهد من الْكل، وقتلهم وسبى ذَرَارِيهمْ إِلَّا ابْني سعية فَإِنَّهُمَا فارقاهم وأسلما» .
وَأما موادعته عَلَيْهِ السَّلَام بني قُرَيْظَة؛ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك عَن رجل من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَدا بني النَّضِير بِالْكَتَائِبِ، وَنزل ببني النَّضِير ودعاهم إِلَى أَن يعاهدوا، فعاهدوه، فَانْصَرف عَنْهُم ... » وَهُوَ حَدِيث طَوِيل.
وَأما نقضهم للْعهد؛ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث يُونُس بن بكير، عَن ابْن إِسْحَاق قَالَ: ثَنَا يزِيد بن رُومَان، عَن عُرْوَة بن الزبير. وحَدثني يزِيد بن زِيَاد، عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَعُثْمَان بن يهوذا -(9/228)
أحد بني عَمْرو بن قُرَيْظَة - عَن رجال من قومه قَالَ: «كَانَ الَّذين حزبوا [الْأَحْزَاب] نفر من بني النَّضِير وَنَفر من بني وَائِل، وَكَانَ من بني النَّضِير حييّ بن أَخطب، وكنانة بن الرّبيع بن أبي الْحقيق [وَأَبُو عمار، وَمن بني وَائِل حَيّ من الْأَنْصَار من أَوْس الله وحوج بن عَمْرو وَرِجَال مِنْهُم] خَرجُوا حَتَّى قدمُوا عَلَى قُرَيْش فدعوهم إِلَى حَرْب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فنشطوا لذَلِك» ثمَّ ذكر الْقِصَّة فِي خُرُوج أبي سُفْيَان بن حَرْب والأحزاب قَالَ: «وَخرج حييّ بن أَخطب حَتَّى أَتَى كَعْب بن أَسد صَاحب عقد بني قُرَيْظَة وَعَهْدهمْ، فَلَمَّا سمع بِهِ كَعْب أغلق حصنه دونه فَقَالَ: وَيحك يَا كَعْب، افْتَحْ لي حَتَّى أَدخل عَلَيْك. فَقَالَ: وَيحك يَا حييّ إِنَّك امْرُؤ مشئوم، وَإنَّهُ لَا حَاجَة لي بك وَلَا بِمَا جئتني بِهِ، إِنِّي لم أر من مُحَمَّد إِلَّا صدقا ووفاء، وَقد وادعني ووادعته فَدَعْنِي وارجع عني. فَقَالَ: وَالله إِن غلقت دوني إِلَّا عَن خشيتك أَن آكل مَعَك مِنْهَا. فأحفظه فَفتح لَهُ، فَلَمَّا [دخل عَلَيْهِ] قَالَ لَهُ: وَيحك يَا كَعْب، جئْتُك بعز الدَّهْر بِقُرَيْش مَعهَا قادتها حَتَّى أنزلهَا برومة، وجئتك بغطفان عَلَى قادتها وسادتها حَتَّى أنزلتها إِلَى جَانب أحد، جئْتُك ببحر طام لَا يردهُ شَيْء. فَقَالَ: جئتني وَالله بالذل، وَيلك فَدَعْنِي وَمَا أَنا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا حَاجَة لي بك وَلَا بِمَا تَدعُونِي إِلَيْهِ. فَلم يزل حييّ بن أَخطب يفتله فِي الذرْوَة وَالْغَارِب حَتَّى أطَاع لَهُ، وَأَعْطَاهُ الْعَهْد والميثاق: لَئِن رجعت قُرَيْش وغَطَفَان قبل أَن يُصِيبُوا مُحَمَّدًا لأدخلن مَعَك فِي حصنك حَتَّى يُصِيبنِي مَا أَصَابَك. فنقض كَعْب الْعَهْد وَأظْهر الْبَرَاءَة من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَا كَانَ بَينه وَبَينه» . قَالَ(9/229)
ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة قَالَ: «لما بلغ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خبر كَعْب وَنقض بني قُرَيْظَة بعث إِلَيْهِم سعد بن عبَادَة، وَسعد بن معَاذ، وخوات بن جُبَير، وَعبد الله بن رَوَاحَة، ليعلموا خبرهم، فَلَمَّا انْتَهوا إِلَيْهِم وجدوهم عَلَى أَخبث مَا بَلغهُمْ» . قَالَ ابْن إِسْحَاق: فَحَدثني عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة عَن شيخ [من] بني قُرَيْظَة ... فَذكر قصَّة سَبَب إِسْلَام ثَعْلَبَة وَأسيد ابْني سعية وَأسد بن عبيد، ونزولهم عَن حصن بني قُرَيْظَة، وإسلامهم، ثمَّ سَاق ابْن إِسْحَاق الْقِصَّة بكمالها.
الحَدِيث الثَّامِن
«أَنه كَانَ فِي مهادنة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قُريْشًا عَام الْحُدَيْبِيَة وَقد جَاءَ سُهَيْل بن عَمْرو رَسُولا مِنْهُم: من جَاءَنَا مِنْكُم مُسلما رددناه، وَمن جَاءَكُم منا فسحقًا سحقًا» .
هَذَا الحَدِيث هَكَذَا ذكره الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا بعد عقد الْهُدْنَة جَوَابا لبَعض الصَّحَابَة؛ فقد رَوَى مُسلم فِي «صَحِيحه» وَهُوَ من أَفْرَاده من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن قُريْشًا صَالحُوا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فيهم سُهَيْل بن عَمْرو ... » فَذكره إِلَى أَن قَالَ: «فَاشْتَرَطُوا فِي ذَلِك: أَن من جَاءَ مِنْكُم لم نرده عَلَيْكُم، وَمن جَاءَ منا رددتموه علينا. فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، أنكتب هَذَا؟ قَالَ: نعم، إِنَّه من ذهب منا إِلَيْهِم فَأَبْعَده الله، وَمن جَاءَنَا مِنْهُم فسيجعل الله لَهُم [فرجا ومخرجًا] » .(9/230)
[الحَدِيث التَّاسِع]
«أَن أم كُلْثُوم ابْنة عقبَة بن أبي معيط جَاءَت مسلمة فِي مُدَّة الْهُدْنَة وَجَاء أَخُوهَا فِي طلبَهَا، فَأنْزل الله - تَعَالَى - (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات (إِلَى قَوْله: (فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار) وَكَانَ (لَا يرد النِّسَاء وَيغرم مهورهن» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق عُرْوَة بن الزبير، عَن الْمسور بن مخرمَة ومروان بن الحكم فِي الحَدِيث الطَّوِيل إِلَى أَن قَالَا: «وَلم يَأْتِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أحد من الرِّجَال إِلَّا رده فِي تِلْكَ الْمدَّة وَإِن كَانَ مُسلما، وَجَاءَت الْمُؤْمِنَات مهاجرات وَكَانَت أم كُلْثُوم بنت عقبَة بن أبي معيط مِمَّن خرج إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْمئِذٍ وَهِي عاتق، فجَاء أَهلهَا يسْأَلُون رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يرجعها إِلَيْهِم حَتَّى أنزل الله فِي الْمُؤْمِنَات مَا أنزل» قَالَ ابْن شهَاب: وَأَخْبرنِي عُرْوَة أَن عَائِشَة زوج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَت: «إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يمْتَحن من هَاجر من الْمُؤْمِنَات بِهَذِهِ الْآيَة (يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات مهاجرات» ) وَعَن عَمه قَالَ: «بلغنَا حِين أَمر الله - سُبْحَانَهُ - رَسُوله أَن يرد إِلَى الْمُشْركين مَا أَنْفقُوا عَلَى من هَاجر من أَزوَاجهم ... » فَذكر الحَدِيث كَذَا ذكره فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة، وَقَالَ فِي بَاب الشُّرُوط: قَالَ عقيل عَن الزُّهْرِيّ: قَالَ عُرْوَة: فأخبرتني عَائِشَة «أَن(9/231)
رَسُول الله [كَانَ] يمتحنهن» وبلغنا «أَنه لما أنزل الله أَن يردوا إِلَى الْمُشْركين مَا أَنْفقُوا عَلَى من هَاجر من أَزوَاجهم وَحكم عَلَى الْمُسلمين أَن لَا يمسكوا بعصم الكوافر، أَن عمر طلق امْرَأتَيْنِ: قريبَة بنت أبي أُميَّة وَابْنَة جَرْوَل الْخُزَاعِيّ، فَتزَوج قريبَة مُعَاوِيَة وَتزَوج الْأُخْرَى أَبُو جهم، فَلَمَّا أَبَى الْكفَّار أَن يقرُّوا بأَدَاء مَا أنْفق الْمُسلمُونَ عَلَى أَزوَاجهم أنزل الله (وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار فعاقبتم) والعقب: مَا يُؤَدِّي الْمُسلمُونَ إِلَى من هَاجَرت امْرَأَته من الْكفَّار، فَأمر أَن يُعْطَى من ذهب لَهُ زوج من الْمُسلمين مَا أنْفق من صدَاق نسَاء الْكفَّار اللائي هَاجَرْنَ، وَمَا نعلم أحدا من الْمُهَاجِرَات ارتددن بعد إيمَانهَا» . وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث ابْن إِسْحَاق حَدثنِي الزُّهْرِيّ وَعبد الله بن أبي بكر قَالَا: «هَاجَرت أم كُلْثُوم بنت عقبَة بن أبي معيط إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام الْحُدَيْبِيَة، فجَاء أَخُوهَا الْوَلِيد وَفُلَان ابْنا عقبَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَبَى أَن يردهَا عَلَيْهِمَا» .
الحَدِيث الْعَاشِر
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رد أَبَا جندل وَهُوَ يرسف فِي قيوده عَلَى أَبِيه سُهَيْل بن عَمْرو، وَأَبا بَصِير وَقد جَاءَ فِي طلبه رجلَانِ فَرده إِلَيْهِمَا، فَقتل أَحدهمَا فِي الطَّرِيق وأفلت الآخر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أَيْضا وَهُوَ بعض من الحَدِيث الَّذِي قبله. قَالَ(9/232)
الرَّافِعِيّ: وَيروَى «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ لأبي جندل حِين رد إِلَى أَبِيه: إِن دم الْكَافِر عِنْد الله كَدم الْكَلْب. فعرَّض لَهُ بقتل أَبِيه» .
قلت: أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» فِي سياقته لهَذَا الحَدِيث الطَّوِيل فِي أوراق عدَّة من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن الْمسور ومروان ... فَذَكَرَاهُ إِلَى أَن قَالَا «فَلَمَّا رَأَى سُهَيْل أَبَا جندل قَامَ إِلَيْهِ فَضرب وَجهه وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، قد (تمت) الْقَضِيَّة بيني وَبَيْنك قبل أَن يَأْتِيك هَذَا. قَالَ: صدقت. فَقَامَ إِلَيْهِ [فَأخذ] بتلبيبه. قَالَ: وصرخ أَبُو جندل بِأَعْلَى صَوته: يَا معشر الْمُسلمين، أتردونني إِلَى أهل الشّرك فيفتنوني فِي ديني [فَزَاد النَّاس شرًّا إِلَى مَا بهم] فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا أَبَا جندل، اصبر واحتسب؛ فَإِن الله جَاعل لَك وَلمن مَعَك من الْمُسْتَضْعَفِينَ فرجا ومخرجًا، إِنَّا قد عَقدنَا بَيْننَا وَبَين الْقَوْم صلحا فأعطيناهم عَلَى ذَلِك وأعطونا عَلَيْهِ عهدا، وَإِنَّا لن نغدر بهم. قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ عمر بن الْخطاب مَعَ أبي جندل فَجعل يمشي إِلَى جنبه وَيَقُول: اصبر يَا أَبَا جندل؛ فَإِنَّمَا هم الْمُشْركُونَ، وَإِنَّمَا دم أحدهم كَدم كلب. قَالَ: ويدني قَائِم السَّيْف مِنْهُ. قَالَ: رَجَوْت أَن يَأْخُذ السَّيْف فَيضْرب بِهِ أَبَاهُ. قَالَ: فضن الرجل بِأَبِيهِ ... » الحَدِيث بِطُولِهِ.
فَائِدَة: «أَبُو بَصِير» بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة، اسْمه عتبَة بن أسيد - بِفَتْح الْهمزَة وَكسر السِّين - حَلِيف بني زهرَة. و «أَبُو(9/233)
جندل» بِفَتْح الْجِيم وَإِسْكَان النُّون، اسْمه القَاضِي عَلّي. كَمَا قَالَه الرّبيع بن بكار وَغَيره. والجندل مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة الْحجر، وَجمعه جنادل. و «يرسف» بالراء وَالسِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ أَي: يمشي فِي الْقُيُود، يُقَال: رَسَفَ يَرْسُف ويرسِف - بِالضَّمِّ وَالْكَسْر - ورسفْا - بِالسُّكُونِ - ورَسَفَانًا.(9/234)
كتاب الصَّيْد والذبائح(9/235)
كتاب الصَّيْد والذبائح
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث اثْنَيْنِ وَعشْرين حَدِيثا، وَمن الْآثَار أثرا وَاحِدًا.
الحَدِيث الأول
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعدي بن حَاتِم: إِذا أرْسلت كلبك الْمعلم وَذكرت اسْم الله عَلَيْهِ فَكل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِأَلْفَاظ، ومدار هَذَا الْبَاب عَلَيْهِ وَعَلَى أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي، فَأَنا أذكرهُ بطرق وأحيل مَا بعده عَلَيْهِ فَأَقُول: أخرج الشَّيْخَانِ من حَدِيثه «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقلت: إِنَّا قوم نصيد بِهَذِهِ الْكلاب. فَقَالَ: إِذا أرْسلت كلابك المعلمة وَذكرت اسْم الله فَكل مِمَّا أمسكن عَلَيْك، إِلَّا أَن يَأْكُل الْكَلْب فَلَا تَأْكُل؛ فَإِنِّي أَخَاف أَن يكون مِمَّا أمسك عَلَى نَفسه، وَإِن خالطها كلب من غَيرهَا فَلَا تَأْكُل» . وَفِي رِوَايَة لَهما: «سَأَلته عَن صيد المعراض فَقَالَ: مَا أصَاب بحده فَكل، وَمَا أصَاب بعرضه فَهُوَ وقيذ فَلَا تَأْكُل. وَسَأَلته عَن صيد الْكَلْب فَقَالَ: مَا أمسك عَلَيْك [وَلم يَأْكُل مِنْهُ] فكله، فَإِن أَخذ الْكَلْب ذَكَاته، فَإِن وجدت مَعَ كلبك أَو كلابك كَلْبا غَيره فَخَشِيت أَن(9/237)
يكون أَخذه مَعَه وَقد قَتله فَلَا تَأْكُل؛ فَإِنَّمَا ذكرت اسْم الله عَلَى كلبك وَلم تذكر عَلَى غَيره» .
وَفِي رِوَايَة لَهما بعد: «فَإِذا أرْسلت كلبك وَسميت فَكل» : «قلت: فَإِن أكل؟ قَالَ: فَلَا تَأْكُل؛ فَإِنَّهُ لم يمسك عَلَيْك إِنَّمَا أمسك عَلَى نَفسه» .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ «قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا نرسل الْكلاب المعلمة. قَالَ: كل مَا أمسكن عَلَيْك. قلت: وَإِن قتلن؟ قَالَ: وَإِن قتلن. قلت: إِنَّا نرمي بالمعراض. قَالَ: كل مَا خرق، وَمَا أصَاب بعرضه فَلَا تَأْكُل» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَإِن رميت الصَّيْد فَوَجَدته بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلَّا أثر سهمك فَكل، فَإِن وَقع فِي المَاء فَلَا تَأْكُل» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ «إِن أَحَدنَا يَرْمِي الصَّيْد (فيقتفي) أَثَره الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة ثمَّ يجده مَيتا وَفِيه سَهْمه. قَالَ: يَأْكُل إِن شَاءَ» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «إِنِّي أرسل الْكلاب المعلمة فيمسكن عَلّي وأذكر اسْم الله [عَلَيْهِ] فَقَالَ: إِذا أرْسلت كلبك الْمعلم وَذكرت اسْم الله فَكل. قلت: وَإِن قتلن؟ قَالَ: وَإِن قتلن مَا لم يشركها كلب لَيْسَ مَعهَا. فَقلت لَهُ: فَإِنِّي أرمي بالمعراض الصَّيْد فأصيبه، فَقَالَ: إِذا رميت(9/238)
بالمعراض فخرق فكله، وَإِن أَصَابَهُ بعرضه فَلَا تَأْكُله» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِذا أرْسلت كلبك فاذكر اسْم الله عَلَيْهِ، فَإِن أمسك عَلَيْك فَأَدْرَكته حيًّا فاذبحه، وَإِن أَدْرَكته قد قتل وَلم يَأْكُل مِنْهُ فكله، وَإِن وجدت مَعَ كلبك كَلْبا غَيره وَقد قتل فَلَا تَأْكُل فَإنَّك لَا تَدْرِي أَيهمَا قَتله، وَإِن ر ميت بسهمك فاذكر اسْم الله، فَإِن غَابَ عَنْك يَوْمًا فَلم تَجِد فِيهِ إِلَّا أثر سهمك فَكل إِن شِئْت، وَإِن وجدته غريقًا فِي المَاء فَلَا تَأْكُل» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فانك لَا تَدْرِي المَاء قَتله أَو سهمك» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: «إِذا رميت سهمك وَذكرت اسْم الله فَوَجَدته من الْغَد وَلم تَجدهُ فِي مَاء وَلَا فِيهِ أثر غير سهمك فَكل [وَإِذا اخْتَلَط بكلابك كلب من غَيرهَا فَلَا تَأْكُل، لَا تَدْرِي لَعَلَّه قَتله الَّذِي لَيْسَ مِنْهَا» وَفِي رِوَايَة لَهما أَيْضا: «مَا علمت من كلب أَو باز ثمَّ أَرْسلتهُ وَذكرت اسْم الله فَكل] مِمَّا أمسك عَلَيْك. قلت: وَإِن قتل؟ قَالَ: إِذا قَتله وَلم يَأْكُل مِنْهُ شَيْئا فَإِنَّمَا أمسك عَلَيْك» .
وَفِي إسنادهما مجَالد بن سعيد وَقد ضَعَّفُوهُ كَمَا ستعلمه فِي الْبَاب، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «قلت: يَا رَسُول الله، أرمي الصَّيْد وَأَجد فِيهِ من الْغَد(9/239)
سهمي؟ قَالَ: إِذا علمت أَن سهمك قَتله وَلم تَرَ فِيهِ أثر سبع فَكل» .
فَائِدَة: «المعراض» الْمَذْكُور فِي الحَدِيث - بِكَسْر الْمِيم وَإِسْكَان الْعين الْمُهْملَة -: سهم عريض لَا ريش فِيهِ وَلَا نصل. وَقيل: هُوَ حَدِيدَة. وَقيل: خَشَبَة محدودة الطّرف. و «الوقذ» - بِالْقَافِ والذال الْمُعْجَمَة -: الموقوذ وَهُوَ الْمَضْرُوب بالعصا حَتَّى يَمُوت، فعل بِمَعْنى مفعول. وَقَوله: «إِن أُصِيب بعَرضه» - هُوَ بِفَتْح الْعين - أَي الْعرض الَّذِي هُوَ خلاف الطول، وَخرج السهْم إِذا أصَاب وَبعد فِي الرَّمية، والاقتفاء: تتبع الْأَثر.
فَائِدَة ثَانِيَة: عدي هَذَا كُوفِي صَحَابِيّ كَانَ جوادًا شريفًا فِي قومه، مُعظما عِنْدهم وَعند غَيرهم.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَكَانَ طوَالًا إِذا ركب الْفرس كَادَت رجلَيْهِ تخط الأَرْض، وَأَبوهُ حَاتِم هُوَ الْمَشْهُور بِالْكَرمِ.
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا أبين من حَيّ فَهُوَ ميت» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه وَاضحا فِي أَوَائِل الْكتاب فِي بَاب النَّجَاسَات مِنْهُ، فَرَاجعه من ثمَّ.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِن لي كلابًا مكلبة فأفتني فِي صيدها. فَقَالَ: كل مَا أمسكن. قلت: ذكي وَغير ذكي؟ ! [قَالَ: ذكي أَو غير ذكي] » .(9/240)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور بِزِيَادَة: «وَإِن أكل مِنْهُ؟ قَالَ: وَإِن أكل مِنْهُ. قَالَ: يَا رَسُول الله، أَفْتِنِي فِي قوسي؟ قَالَ: كل مَا ردَّتْ عَلَيْك قوسك. قَالَ: ذكي وَغير ذكي؟ قَالَ: وَإِن تغيَّب عني؟ قَالَ: وَإِن تغيب عَنْك مَا لم تصل أَو تَجِد فِيهِ أثرا غير سهمك» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح، فَإِنَّهُ أخرجه عَن يزِيد بن زُرَيْع، عَن حبيب الْمعلم - وَهُوَ من الثِّقَات الْحفاظ من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» - عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده - وَقد علمت فِي أَوَائِل الْكتاب أَن الْأَكْثَر عَلَى الِاحْتِجَاج بِهِ -[عَن] أبي ثَعْلَبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عَمْرو بن عَلّي، عَن ابْن سَوَاء، عَن سعيد، عَن أبي مَالك، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن لي كلابًا مكلبة فأفتني فِيهَا. فَقَالَ: مَا أمسك عَلَيْك كلابك فَكل. قلت: وَإِن قتلن؟ قَالَ: وَإِن قتلن. قَالَ: أَفْتِنِي فِي قوسي. قَالَ: مَا رد عَلَيْك سهمك فَكل. قَالَ: وَإِن تغيب عَلّي؟ [قَالَ: وَإِن تغيب عَلَيْك] مَا لم تَجِد فِيهِ أثر سهم غير سهمك أَو تَجدهُ قد صل - يَعْنِي قد أنتن» قَالَ ابْن سَوَاء: وسمعته من أبي مَالك عبيد الله بن الْأَخْنَس، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَهَذَا إِسْنَاد لَا يسْأَل عَنهُ، احْتج بهم كلهم فِي الصَّحِيح. شيخ النَّسَائِيّ عَمْرو بن عَلّي هُوَ الفلاس أحد الْحفاظ الْأَعْلَام، أخرج لَهُ السِّتَّة. وَشَيْخه ابْن سَوَاء وَهُوَ مُحَمَّد بن سَوَاء أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ وَوَثَّقَهُ(9/241)
ابْن حبَان. وَشَيْخه سعيد هُوَ ابْن [أبي] عرُوبَة أحد الْأَعْلَام، احْتج بِهِ السِّتَّة. وَأَبُو مَالك هُوَ عبيد الله بن الْأَخْنَس كَمَا سَاقه ثَانِيًا، احْتج بِهِ السِّتَّة وَوَثَّقَهُ الْأَئِمَّة، فَهَذِهِ الطَّرِيق صَحِيحَة أَيْضا، لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث مُوَافق لحَدِيث أبي دَاوُد، عَن مُحَمَّد بن عِيسَى، عَن [هشيم] عَن دَاوُد بن عَمْرو، عَن بسر بن عبيد الله، عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ، عَن أبي ثَعْلَبَة قَالَ: قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي صيد الْكَلْب: «إِذا أرْسلت كلبك وَذكرت اسْم الله فَكل وَإِن أكل مِنْهُ، وكل مَا ردَّتْ عَلَيْك يدك» إِلَّا أَن حَدِيث أبي ثَعْلَبَة مخرج فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ربيعَة بن يزِيد الدِّمَشْقِي، عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ، عَن أبي ثَعْلَبَة وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْأكل. وَحَدِيث عدي فِي النَّهْي عَنهُ إِذا أكل أصح من رِوَايَة أبي دَاوُد فِي الْأكل. قَالَ: وَقد رَوَى شُعْبَة عَن عبد ربه بن سعيد، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن رجل من هُذَيْل «أَنه سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْكَلْب يصطاد، قَالَ: كل، أكل أَو لم يَأْكُل» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فَصَارَ حَدِيث عَمْرو بِهَذَا معلولاً.
وَأما ابْن حزم فَإِنَّهُ أعل فِي «محلاه» الحَدِيث من طريقيه فَقَالَ: لَا يَصح الأول؛ لِأَنَّهُ عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده. وَقد أسلفنا لَك آنِفا أَن الْأَكْثَر عَلَى الِاحْتِجَاج بِهِ.(9/242)
وَقَالَ فِي الثَّانِي: دَاوُد بن عَمْرو ضَعِيف ضعفه أَحْمد بن حَنْبَل، وَقد ذكر بِالْكَذِبِ، فَإِن لجوا وَقَالُوا: هُوَ ثِقَة. قُلْنَا: لَا عَلَيْكُم وثقتموه هُنَا، وَأما نَحن فَمَا نحتج بِهِ وَلَا نقبله.
قلت: دَاوُد هَذَا مُخْتَلف فِيهِ، وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ أَحْمد: حَدِيثه مقارب. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ ابْن عدي: لَا أرَى بروايته بَأْسا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ. وَقَالَ الْعجلِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: صَالح. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : انْفَرد بِحَدِيث: «أَحْسنُوا أسماءكم» وَبِهَذَا الحَدِيث وَهَذَا حَدِيث مُنكر.
وَلقَائِل أَن يَقُول لَيْسَ بَين حَدِيث عَمْرو وَدَاوُد وَبَين حَدِيث عدي الْمخْرج فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مُنَافَاة؛ لِأَنَّهُ علل «وَلَا يَأْكُل» فِي حَدِيث عدي بِكَوْنِهِ أمسك عَلَى نَفسه، وَفِي هَذَا الحَدِيث يحْتَمل أَنه أكل مِنْهُ بعد أَن قَتله وَانْصَرف عَنهُ فَلَا تنَافِي إِذن.
الحَدِيث الرَّابِع
«أَن بَعِيرًا ندَّ فَرَمَاهُ رجل مِنْهُم فحبسه الله، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن لهَذِهِ الْبَهَائِم أوابد كأوابد الْوَحْش، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث رَافع بن خديج رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد فرقه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب فأذكره بِكَمَالِهِ،(9/243)
فَأَقُول: أخرج الشَّيْخَانِ من حَدِيث رَافع الْمَذْكُور قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِذِي الحليفة من تهَامَة فَأصَاب النَّاس جوع، فَأَصَابُوا إبِلا وَغنما، وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي أخريات الْقَوْم، فعجلوا وذبحوا ونصبوا الْقُدُور (فَأمر النَّبِي) (بالقدور فأكفئت، ثمَّ قسم فَعدل عشرَة من الْغنم بِبَعِير، فند مِنْهَا بعير فطلبوه فأعياهم، وَكَانَ فِي الْقَوْم خيل يسيرَة فَأَهْوَى رجل بِسَهْم فحبسه الله، فَقَالَ: إِن لهَذِهِ الْبَهَائِم أوابد كأوابد الْوَحْش فَمَا [ند] عَلَيْكُم مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا لاقو الْعَدو غَدا وَلَيْسَت مَعنا مُدى أفنذبح بالقصب؟ قَالَ: مَا أنهر الدَّم وَذكر اسْم الله عَلَيْهِ فكلوه، لَيْسَ السن وَالظفر، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَن ذَلِك؛ أما السن فَعظم، وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة» وَزَاد الْحميدِي بعد قَوْله: «فَاصْنَعُوا بِهِ هَذَا» : «وكلوه» .
تَنْبِيه: قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : وَقع شكّ فِي كَونه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «أما السن فَعظم ... » إِلَى آخِره أما الرَّاوِي فَبين ذَلِك وَاضحا.
فَائِدَة: «نَدَّ» هُوَ بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الدَّال، أَي: هرب من صَاحبه وَذهب لوجهه. و «الأوابد» بِفَتْح الْهمزَة وبالباء الْمُوَحدَة وَهِي النفور والتوحش، جمع آبدة - بِالْمدِّ وَكسر الْبَاء - يُقَال: أبدت - بِكَسْر الْبَاء(9/244)
وَالتَّخْفِيف - تأبد، و [أما مدية] بِكَسْر [الْمِيم] وَضمّهَا وَفتحهَا سَاكِنة الدَّال، وَهِي السكين، سميت مدية؛ لِأَنَّهَا تقطع مدى حَيَاة الْحَيَوَان. و «أنهر الدَّم» أَي: أساله، وَالْمَشْهُور أَنه بالراء الْمُهْملَة.
قَالَ القَاضِي عِيَاض - وَذكره يَحْيَى بالزاي -: والنهز بِمَعْنى الدّفع. وَهُوَ غَرِيب، وَقَوله: «لَيْسَ السن وَالظفر» هما منصوبان بليس، وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَى هَذِه الْأَلْفَاظ وَغَيرهَا فِي شرحي للعمدة، فراجع ذَلِك مِنْهُ فَإِنَّهُ مُهِمّ.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن أبي العشراء الدَّارمِيّ، عَن أَبِيه أَنه قَالَ: «يَا رَسُول الله، أما تكون الذَّكَاة إِلَّا فِي الْحلق واللبة؟ فَقَالَ (: وَأَبِيك لَو طعنت فِي فَخذهَا لأجزأك» ، وَيروَى «أَنه سَأَلَ عَن بعير نادٍ - وَيروَى أَنه لَو تردى لَهُ بعير فِي بِئْر - فَقَالَ (: لَو طعنت فِي خاصرته لحل لَك» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأول بِدُونِ الْقسم أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة وَالْبَيْهَقِيّ وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف؛ فَإِن أَبَا العشراء(9/245)
الدَّارمِيّ - بِضَم الْعين وبالمد عَلَى الْهَمْز - فِيهِ جَهَالَة وَقد تكلم البُخَارِيّ وَغَيره فِي حَدِيثه.
قَالَ الْمَيْمُونِيّ: سَأَلت الإِمَام أَحْمد عَن حَدِيثه هَذَا فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي غلط، وَلَا يُعجبنِي، وَلَا أذهب إِلَيْهِ إِلَّا فِي مَوضِع ضَرُورَة.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث حَمَّاد.
وَقَالَ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» : فِي حَدِيث أبي العشراء واسْمه وسماعه من أَبِيه نظر.
وَأما ابْن حبَان فَذكره فِي «ثقاته» فِي التَّابِعين فَقَالَ: أَبُو العشراء الدَّارمِيّ اسْمه عَامر بن أُسَامَة بن مَالك بن قهطم، يروي عَن أَبِيه وَله صُحْبَة، رَوَى عَنهُ حَمَّاد بن سَلمَة.
وَقَالَ ابْن سعد فِي «الطَّبَقَات» : أُسَامَة بن مَالك بن قهطم أَبُو العشراء الدَّارمِيّ لَهُ حَدِيث، رَوَى عَنهُ حَمَّاد بن سَلمَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: ضعفوا هَذَا الحَدِيث؛ لِأَن رَاوِيه مَجْهُول، وَأَبُو العشراء لَا يُدْرَى من أَبوهُ، وَلم يروه غير حَمَّاد بن سَلمَة. وَكَذَا قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كتاب «الْوَهم وَالْإِيهَام» : عِلّة هَذَا الحَدِيث أَن أَبَا العشراء لَا يعرف حَاله وَلَا يعرف لَهُ وَلَا لِأَبِيهِ إِلَّا هَذَا الحَدِيث، وَلَا نَعْرِف رَوَى عَنهُ إِلَّا حَمَّاد بن سَلمَة. وَقَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ حَمَّاد بن سَلمَة(9/246)
عَن أبي العشراء الدَّارمِيّ عَن أَبِيه.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث ضَعِيف؛ فقد اتَّفقُوا عَلَى أَن مَدَاره عَلَى أبي العشراء، قَالُوا: وَهُوَ مَجْهُول لَا يعرف إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث، وَلم يرو عَنهُ غير حَمَّاد بن سَلمَة، وَقد اتّفق أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ عَلَى أَن من لم يرو عَنهُ غير وَاحِد فَهُوَ مَجْهُول إِلَّا أَن يكون مَشْهُورا بِعلم أَو صَلَاح أَو شجاعة وَنَحْو ذَلِك، وَلم يُوجد شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء فِي أبي العشراء فَهُوَ مَجْهُول، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنه لم يرو عَنهُ غير حَمَّاد بن سَلمَة. وَأما عبد الْحق فَذكره من طَرِيق أبي دَاوُد وَسكت عَلَيْهِ وَهُوَ قَاض بِصِحَّتِهِ كَمَا قَرَّرَهُ فِي خطْبَة كِتَابه، وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ، وقولة ابْن حبَان الشائعة «تفرد بهَا» فَلَا تصلح أَن تكون سندًا لَهُ.
وَأما اللَّفْظ الثَّانِي الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ فَغَرِيب جدًّا، ونقلها ابْن الصّلاح عَن الشَّيْخ أبي حَامِد أَنه قَالَ فِي بعض الْأَخْبَار «أَنه سُئِلَ عَن بعير تردى فِي بِئْر فَقَالَ: أما تصلح الذَّكَاة إِلَّا فِي الْحلق واللبة؟ ... » وَذكر الحَدِيث. ثمَّ قَالَ ابْن الصّلاح: وَذَلِكَ بَاطِل لَا يعرف. وَأما الرِّوَايَة الثَّالِثَة الَّتِي فِيهَا ذكر الخاصرة فتبع الرَّافِعِيّ فِي إيرادها الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» وَالْغَزالِيّ تبع فِي إيرادها شَيْخه إِمَام الْحَرَمَيْنِ.
قَالَ ابْن الصّلاح فِي «مشكلات الْوَسِيط» : وَهُوَ غلط، وَالْمَعْرُوف فِي الحَدِيث ذكر الْفَخْذ. قَالَ: وَذكر الخاصرة ورد فِي أثر رَوَيْنَاهُ، وَذكره الشَّافِعِي قَالَ: «تردى بعير إِلَى بِئْر فطعن فِي شاكلته، فَسئلَ عبد الله بن عمر عَن أكله فَأمر بِهِ» . قَالَ: والشاكلة: الخاصرة. هَذَا آخر كَلَامه.(9/247)
وَلَيْسَ بغلط من هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة بل هُوَ مَرْوِيّ كَمَا ذكره، رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي جمعه لأحاديث أبي العشراء من حَدِيث حَمَّاد بن زيد، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أبي العشراء الدَّارمِيّ، عَن أَبِيه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا تكون الذَّكَاة إِلَّا فِي اللبة أَو الْحلق؟ قَالَ: لَو طعنت فَخذهَا أَو شاكلتها وَذكر اسْم الله - تَعَالَى - لأجزأ عَنْك» وَورد فِي حَدِيث آخر بدل «الْحلق» : «الخاصرة» .
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي «مُعْجَمه» : ثَنَا عَلّي بن مسْهر، وَبِه حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب، ثَنَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان، ثَنَا مَالك بن أنس، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أبي العشراء، عَن أَبِيه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، أما تكون الذَّكَاة إِلَّا فِي الخاصرة واللبة؟ قَالَ: لَو طعنت فِي فَخذهَا لأجزأت عَنْك» .
تَنْبِيهَات: أَحدهَا: وَقع غلط لإِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي هَذَا الحَدِيث فِي موضِعين أَحدهمَا: أَنه جعل أَبَا العشراء الدَّارمِيّ هُوَ الَّذِي خاطبه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَإِنَّمَا هُوَ أَبوهُ، وَأَبُو العشراء تَابِعِيّ مَشْهُور. ثَانِيهَا: أَنه ذكر تردي الْبَعِير فِي متن الحَدِيث، وَلَيْسَ ذَلِك من الحَدِيث، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِير من أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، قَالُوا: هَذَا عِنْد الضَّرُورَة فِي المتردي فِي الْبِئْر وأشباهه.
الثَّانِي: اخْتلف أهل الحَدِيث فِي اسْم أبي العشراء وَاسم أَبِيه، فَقَالَ البُخَارِيّ: هُوَ أُسَامَة بن مَالك بن قحطم - يَعْنِي بحاء مُهْملَة وبكسر الْقَاف - وَكَذَا قَالَه أَحْمد بن حَنْبَل وَيَحْيَى بن معِين، وَقيل: عُطَارِد بن برز - بِفَتْح الرَّاء وسكونها - وَقيل: عُطَارِد بن بَلْز. وَقيل: يسَار بن بلز(9/248)
بن خولى، نزل الجفرة (قَالَ ابْن عبد) وَقيل: اسْمه بكر بن جَهْضَم. وَقيل: عُطَارِد بن برد. وَهُوَ من بني دارم بن مَالك بن زيد بن تَمِيم. وَقَالَ أَبُو نعيم فِي «الْمعرفَة» : بلز، وَقيل: برز، وَقيل: رزن، وَقيل: مَالك بن قحطم بن أبي العشراء الدَّارمِيّ. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: مَالك بن قهطم، وَقيل: عُطَارِد بن بدر.
الثَّالِث: قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نَعْرِف لأبي العشراء عَن أَبِيه غير هَذَا الحَدِيث. وَكَذَا قَالَه الإِمَام أَحْمد: لَا نَعْرِف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث. وَكَذَا قَالَه أَيْضا غَيرهمَا، وَلم يذكر لَهُ [أَبُو] نعيم فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» سواهُ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا فَلهُ عدَّة أَحَادِيث.
قَالَ ابْن حبَان فِي «ثقاته» فِي تَرْجَمَة أبي العشراء: رَوَى عَنهُ حَمَّاد بن سَلمَة ثَلَاثَة أَحَادِيث الْمَشْهُور مِنْهَا هَذَا الحَدِيث ... فَذكره. وأفرد الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي حَدِيث جُزْء مُنْفَرد ذكر لَهُ فِيهِ خَمْسَة عشر حَدِيثا، وَقد ذكرتها فِي «تخريجي لأحاديث الْوَسِيط» فَرَاجعهَا مِنْهُ فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات الَّتِي يرحل إِلَيْهَا.
الحَدِيث السَّادِس
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كل إنسية توحشت فذكاتها ذَكَاة الوحشية» .(9/249)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث حرَام، عَن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد ابْني جَابر، عَن أَبِيهِمَا أَنه قَالَ: «ندت علينا بقرة ممتنعة نافرة، وَلَا تمر عَلَى أحد إِلَّا نطحته، وندت عَلَيْهِ فخرجنا نكدها حَتَّى بلغنَا الصماء، ومعنا غُلَام قبْطِي لبني حرَام وَمَعَهُ مُشْتَمل، فشدت عَلَيْهِ لتنطحه فضربها أَسْفَل من المنحر وَفَوق مرجع الْكَتف، فركبت ردعها فَلم يدْرك لَهَا ذَكَاة. قَالَ جَابر: فَأخْبرت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بشأنها فَقَالَ: إِذا استوحشت الإنسية وتمنعت فَإِنَّهُ يحلهَا مَا يحل الوحشية، ارْجعُوا إِلَى بقرتكم فكلوها. فرجعنا إِلَيْهَا فاجتزرناها» . وَرَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن حرَام بن عُثْمَان أَيْضا، عَن أبي عَتيق، عَن جَابر مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف بِسَبَب حرَام بن عُثْمَان وَهُوَ واهٍ.
قَالَ الشَّافِعِي - فِيمَا نَقله ابْن غَانِم فِي فضائله -: حَدِيث حرَام [حرَام] والرياحي ريَاح، ومجالد [يخالد] .، وَمن رَوَى عَن جَابر البياضي بيض الله عينه، وَالشعْبِيّ بالعراق مثل عرق بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد وَغَيره: ترك النَّاس حَدِيثه. وَقَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى وَالسَّعْدِي: مُنكر الحَدِيث، يقلب الْأَسَانِيد، وَيرْفَع الْمَرَاسِيل. وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» عَن الشَّافِعِي مثل هَذِه الْعبارَة فِيهِ أَيْضا. وَقَالَ عبد الْحق: هُوَ عِنْد أهل الحَدِيث كَمَا قَالَ فِيهِ(9/250)
الشَّافِعِي. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي الِاسْتِظْهَار: ضَعِيف لَا تقوم بِمثلِهِ الْحجَّة. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: مَتْرُوك بِاتِّفَاق مِنْهُم. قلت: وَأَبُو عَتيق لَا يعرف من هُوَ كَمَا قَالَ ابْن الْقطَّان فِي حَقه.
الحَدِيث السَّابِع
عَن عدي بن حَاتِم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت أَحَدنَا صَاد صيدا وَلَيْسَ مَعَه سكين، أيذبح بالمروة؟ فَقَالَ: أَمر الدَّم بِمَا شِئْت، وَاذْكُر اسْم الله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل - وَهُوَ التَّبُوذَكِي الْحَافِظ -[عَن حَمَّاد]- وَهُوَ ابْن سَلمَة بن دِينَار - عَن سماك بن حَرْب، عَن مُري بن قطري، عَن عدي بن حَاتِم قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت إِن أَحَدنَا أصَاب صيدا وَلَيْسَ مَعَه سكي، ن أيذبح بالمروة وشقة الْعَصَا؟ فَقَالَ: أمرر الدَّم بِمَا شِئْت، وَاذْكُر اسْم الله» وَهَذَا إِسْنَاد كل رِجَاله فِي الصَّحِيح خلا مُري بن قطري فَإِن ابْن حبَان وَثَّقَهُ [و] التَّبُوذَكِي من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» . وَحَمَّاد بن سَلمَة وَسماك من رجال مُسلم وَإِن تكلم فِي سماك، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَإِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، عَن خَالِد، عَن شُعْبَة، عَن سماك قَالَ:(9/251)
سَمِعت مري بن قطري [عَن عدي بن حَاتِم] يَقُول: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أرسل [كَلْبِي] فآخذ الصَّيْد فَلَا أجد مَا أذكيه بِهِ فأذبحه بالمروة وبالعصا فَقَالَ: (أهرق) الدَّم بِمَا شِئْت وَاذْكُر اسْم الله عَلَيْهِ» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن بشار - وَهُوَ الْحَافِظ أخرج لَهُ أَصْحَاب الْكتب السِّتَّة - عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، عَن سُفْيَان - وناهيك بهما - عَن سماك بن حَرْب، عَن [مري] بن قَطَري، عَن عدي بن حَاتِم قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا نصيد الصَّيْد فَلَا نجد سكينًا إِلَّا الظرار وشقة الْعَصَا. فَقَالَ: أمرر الدَّم بِمَا شِئْت وَاذْكُر اسْم الله - عَزَّ وَجَلَّ» وَرَوَاهُ الْحَاكِم بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور والسند الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن أَحْمد بن عَلّي بن الْمثنى، ثَنَا عَلّي بن الْجَعْد الْجَوْهَرِي، أبنا شُعْبَة، عَن سماك بن حَرْب قَالَ: سَمِعت مري بن قطري يحدث عَن عدي بن حَاتِم قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أرسل (كَلْبا) فَيَأْخُذ صيدا وَلَا آخذ مَا أذبح بِهِ إِلَّا الْمَرْوَة أَو الْعَصَا. قَالَ: أَمر الدَّم بِمَا شِئْت وَاذْكُر اسْم الله» . رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من هَذِه الطَّرِيق وَلَفظه: «إِنِّي أرمي الصَّيْد وَلَا أجد(9/252)
مَا أذكيه بِهِ إِلَّا الْمَرْوَة والعصا. قَالَ: أَمر الدَّم بِمَا شِئْت وَاذْكُر اسْم الله. قلت: طَعَام مَا أَدَعهُ [إِلَّا] تحرجًا. قَالَ: وَمَا ضارعت فِيهِ نَصْرَانِيَّة فَلَا تَدعه» . وَأما ابْن حزم فقد قَالَ فِي «محلاه» : فَإِن ذكرُوا مَا رَوَيْنَاهُ عَن شُعْبَة، عَن سماك بن حَرْب، عَن مري بن قطري، عَن عدي بن حَاتِم، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أنهر الدَّم بِمَا شِئْت وَاذْكُر اسْم الله» قُلْنَا: هَذَا خبر سَاقِط؛ لِأَنَّهُ عَن سماك بن حَرْب وَهُوَ يقبل التَّلْقِين، عَن مري بن قطري وَهُوَ مَجْهُول. انْتَهَى. وَقد رَوَاهُ عَن سماك: شُعْبَة وسُفْيَان الثَّوْريّ وَحَمَّاد بن سَلمَة، وَصَححهُ الْحَاكِم من حَدِيث الثَّوْريّ - كَمَا تقدم - وَسماك يكفينا احتجاج مُسلم بِهِ، وَقد تقدم أَن ابْن حبَان وثق مري بن قطري وَصحح الحَدِيث من جِهَته وَكَذَا الْحَاكِم فَزَالَتْ الْجَهَالَة.
فَائِدَة: «شقة الْعَصَا» - بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة - أَي: بِمَا يشق مِنْهَا وَيكون محددًا. و «أمرر» براءين أَي: اجْعَل الدَّم يمر أَي يذهب. وَهَذِه الرِّوَايَة تؤيد رِوَايَة «أَمر» الْوَاقِعَة فِي إِحْدَى روايتى ابْن مَاجَه بتَشْديد الرَّاء غلط، وَذكر الْخطابِيّ فِي كِتَابه «تصاحيف الروَاة» أَن هَذِه الرِّوَايَة «أَمر» بتَشْديد الرَّاء غلط، وَذكر غَيره أَنه لَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ يكون قد أدغم، وَالصَّوَاب عِنْد الْخطابِيّ رِوَايَة من رَوَاهُ «أَمر الدَّم» سَاكِنة الْمِيم خَفِيفَة الرَّاء، وَمَعْنى ذَلِك أسِلْهُ وأجره. قَالَ الْهَرَوِيّ: والظرار وَاحِدهَا ظرر وَهُوَ حجر محدد صلبِ.(9/253)
الحَدِيث الثَّامِن
عَن رَافع بن خديج قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا لاقو الْعَدو غَدا وَلَيْسَ مَعنا مدى. فَقَالَ: مَا أنهر الدَّم وَذكر اسْم الله عَلَيْهِ فَكل، لَيْسَ السن وَالظفر، وسأحدثك؛ أما السن فَعظم، وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَقد تقدم بِطُولِهِ وفوائده فِي أَوَائِل الْبَاب، وَهُوَ الحَدِيث الرَّابِع مِنْهُ.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن عدي بن حَاتِم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن صيد المعراض، فَقَالَ: إِن قتل بحده فَكل، وَإِن قتل بنصله فَلَا تَأْكُل» وَرَوَى: «إِذا أصبت بحده فَكل، وَإِذا أصبت بعرضه فَلَا تَأْكُل فَإِنَّهُ وقيذ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي البُخَارِيّ وَمُسلم كَمَا تقدم فِي أول الْبَاب، وَأما الرِّوَايَة الأولَى فروياها أَيْضا إِلَّا أَنَّهُمَا لم يذكرَا: «وَإِن قتل بنصله فَلَا تَأْكُل» وَلم أرها أَيْضا فِي رِوَايَة غَيرهمَا.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن عدي بن حَاتِم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا علمت من كلب أَو باز ثمَّ أرْسلت وَذكرت اسْم الله - تَعَالَى - فَكل مَا أمسك عَلَيْك» .(9/254)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد - كَمَا تقدم فِي أول الْبَاب - وَكَذَلِكَ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن عدي، وَلكنه حَدِيث ضَعِيف قَالَ: مجَالد لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ يَحْيَى مرّة وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ يَحْيَى مرّة: لَا يحْتَج بحَديثه. وَقَالَ مرّة: صَالح. وَقَالَ ابْن حبَان: يقلب الْأَسَانِيد فيرفع الْمَرَاسِيل لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ذكر «الْبَازِي» فِي هَذِه الرِّوَايَة لم يَأْتِ بِهِ الْحفاظ عَن الشّعبِيّ وَإِنَّمَا أَتَى بِهِ مجَالد. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مُخْتَصرا ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا وَمن حَدِيث مجَالد.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصيد بكلبي الْمعلم وكلبي الَّذِي لَيْسَ بمعلم. فَقَالَ: مَا صدت بكلبك الْمعلم فاذكر اسْم الله عَلَيْهِ وكل، وَمَا صدت بكلبك الَّذِي لَيْسَ بمعلم فأدركت ذَكَاته فَكل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة، وَهَذَا سياقهما عَن أبي ثَعْلَبَة قَالَ: «أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(9/255)
فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا بِأَرْض قومِ أهل كتاب أفنأكل فِي آنيتهم وَفِي أَرض صيد [أصيد] بقوسي وبكلبي الَّذِي لَيْسَ بمعلم وبكلبي الْمعلم، فَمَا يصلح لي؟ قَالَ: أما مَا ذكر - يَعْنِي من آنِية أهل الْكتاب - فَإِن وجدْتُم غَيرهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِن لم تَجدوا فاغسلوها وكلوا فِيهَا، وَمَا صدت [بقوسك فَذكرت اسْم الله فَكل، وَمَا صدت بكلبك الْمعلم فَذكرت اسْم الله فَكل، وَمَا صدت] بكلبك غير معلم فأدركت ذَكَاته فَكل» .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
فِي الْخَبَر «فَإِن أكل فَلَا تَأْكُل فَإِنَّمَا أمسك عَلَى نَفسه» .
هَذَا الحَدِيث هُوَ بعض من حَدِيث عدي، وَقد تقدم فِي أول الْبَاب بِطُولِهِ.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أرْسلت كلبك الْمعلم وَذكرت اسْم الله فَكل. قَالَ: وَإِن قتل؟ قَالَ: وَإِن قتل. قَالَ: وَإِن أكل؟ قَالَ: وَإِن أكل» .
هَذَا الحَدِيث الثَّالِث الْمَذْكُور فِي أول الْبَاب وَقد سلف قَرِيبا وَاضحا.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
عَن عدي بن حَاتِم أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أرْسلت كلبك وَسميت وَأمْسك وَقتل فَكل، وَإِن أكل فَلَا تَأْكُل فَإِنَّمَا أمسك عَلَى نَفسه» .(9/256)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَقد سلف وَاضحا فِي أول الْبَاب.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
حَدِيث عدي الَّذِي فِيهِ ذكر الْبَازِي. وَقد تقدم بَيَانه قَرِيبا.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كل مَا رد عَلَيْك قوسك» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ قَالَ: حَدثنِي أَبُو ثَعْلَبَة الْخُشَنِي قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يَا أَبَا ثَعْلَبَة، كل مَا ردَّتْ عَلَيْك قوسك وكلبك الْمعلم ويدك (ذكي) وَغير ذكي» فِي إِسْنَاده بَقِيَّة عَن الزبيدِيّ، وَهُوَ مُحَمَّد بن الْوَلِيد الْحِمصِي القَاضِي ثِقَة من رجال الصَّحِيح، وَقد أسلفنا فِيمَا مَضَى عَن جماعات الِاحْتِجَاج بِبَقِيَّة إِذا رَوَى عَن ثِقَة، فَيكون هَذَا الحَدِيث صَحِيحا إِذن لَوْلَا مَا عرف من عنعنته. وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» وَقد سُئِلَ عَن حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن أبي ثَعْلَبَة مَرْفُوعا: «كل مَا ردَّتْ عَلَيْك قوسك» فَقَالَ: يرويهِ الْأَوْزَاعِيّ، وَاخْتلف عَنهُ فَرَوَاهُ ضَمرَة بن ربيعَة عَنهُ، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بِهِ. وَغَيره يرويهِ عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن أبي ثَعْلَبَة مُرْسلا، والمرسل أصح.(9/257)
قلت: وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق آخر قَالَ أَحْمد فِي «مُسْنده» : ثَنَا حسن، ثَنَا ابْن لَهِيعَة، ثَنَا عَمْرو بن الْحَارِث، عَن عَمْرو ابْن شُعَيْب أَنه [حَدثهُ] أَن مولَى شُرَحْبِيل [بن] حَسَنَة حَدثهُ أَنه سمع عقبَة بن عَامر وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان يَقُولَانِ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «كل مَا ردَّتْ عَلَيْك قوسك» .
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن أبي ثَعْلَبَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «إِذا رميت بسهمك فَغَاب عَنْك فَأَدْرَكته فكله مَا لم ينتن» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة لَهُ قَالَ «فِي الَّذِي يدْرك صَيْده بعد ثَلَاث: فكله مَا لم ينتن» . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «إِذا رميت الصَّيْد فَأَدْرَكته بعد ثَلَاث لَيَال وسهمك فِيهِ فَكل مَا لم ينتن» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وأصحابنا النَّهْي عَن أكله إِذا أنتن للتنزيه لَا التَّحْرِيم. ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أكل إهالة سنخة» وَهِي الْمُتَغَيّر الرّيح.(9/258)
قلت: وَأما أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَقَالَ: وَسَوَاء أنتن أَو لم ينتن. قَالَ: وَلَا يَصح الْأَثر الَّذِي فِيهِ الَّذِي يدْرك صَيْده بعد ثَلَاث: «فكله مَا لم ينتن» لِأَنَّهُ من طَرِيق مُعَاوِيَة بن صَالح. هَذَا كَلَامه، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: مُعَاوِيَة بن صَالح لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قلت: مُعَاوِيَة هَذَا قَاضِي الأندلس. قَالَ أَحْمد وَابْن سعد وَالْعجلِي وَأَبُو زرْعَة: ثِقَة. وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي يوثقه، وَكَانَ يَحْيَى بن سعيد لَا يرضاه. وَأخرج مُسلم الحَدِيث من جِهَته - كَمَا مَرَّ - وَكَذَا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
عَن عدي بن حَاتِم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَعْنَى حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الَّذِي قبله، وَقَالَ: «كُله إِلَّا أَن تَجدهُ وَقع فِي مَاء»
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَقد تقدم أول الْبَاب، لَا جرم قَالَ الرَّافِعِيّ فِيهِ وَفِي الحَدِيث قبله: هما حديثان.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
عَن عدي بن حَاتِم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا أهل صيد،(9/259)
وَإِن أَحَدنَا يَرْمِي الصَّيْد فيغيب عَنهُ الليلتين وَالثَّلَاث فيجده مَيتا. فَقَالَ (: إِذا وجدت فِيهِ أثر سهمك وَلم يكن فِيهِ سبع وَعلمت أَن سهمك قَتله فَكل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ بِنَحْوِهِ، وَقد تقدم لَفْظهمَا فِي الحَدِيث الأول من أَحَادِيث الْبَاب.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنه قَالَ: «كل مَا أصميت ودع مَا أنميت» . وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد فِيهِ رجل مَسْتُور أَو مَجْهُول عَن مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ: «أَتَى أَعْرَابِي عبد الله بن عَبَّاس وَأَنا عِنْده فَقَالَ: أصلحك الله، إِنِّي أرمي الصَّيْد فأصمي وأنمي. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: كل مَا أصميت ودع مَا أنميت» ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن أبي الْهُذيْل قَالَ: «أَمرنِي نَاس من أَهلِي أَن أسأَل لَهُم عبد الله بن عَبَّاس عَن أَشْيَاء، فكتبتها فِي صحيفَة فَأتيت لأسأله فَإِذا عِنْده نَاس يسألونه فَسَأَلُوهُ (حَتَّى سَأَلُوهُ) عَمَّا فِي صحيفتي، وَمَا سَأَلته عَن شَيْء، فَجَاءَهُ رجل أَعْرَابِي فَسَأَلَهُ فَقَالَ: إنى(9/260)
مَمْلُوك أكون فِي إبل أَهلِي فيأتيني الرجل يستسقيني أفأسقيه؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِن خشيت أَن [يهْلك] قَالَ: فاسقه مَا يبلغهُ ثمَّ أخبر بِهِ أهلك. قَالَ: فَإِنِّي رجل أرمي فأصمي وأنمي. قَالَ: مَا أصميت فَكل، وَمَا أنميت فَلَا تَأْكُل. قلت للْحكم: مَا الإصماء؟ قَالَ: الإقعاص. قلت: فَمَا الإنماء؟ [قَالَ] مَا توارى عَنْك» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ هَذَا من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «كل مَا أصميت ودع مَا أنميت» وَهُوَ ضَعِيف.
قَالَ فِي «خلافياته» : فِيهِ عُثْمَان الوقاصي وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث لَا يحْتَج بروايته. قَالَ: وَالْمَشْهُور وَقفه عَلَى ابْن عَبَّاس.
قلت: وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي «معرفَة الصَّحَابَة» مَرْفُوعا أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن تَمِيم، عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا أهل بَدو. قَالَ: إِذا رميت الصَّيْد فَكل مَا أصميت، وَلَا تَأْكُل مَا أنميت» وَفِيه مُحَمَّد بن سُلَيْمَان ابْن مسمول وَقد ضَعَّفُوهُ.
قَالَ الرّبيع: قَالَ الشَّافِعِي: «مَا أصميت» مَا قتلته الْكلاب وَأَنت ترَاهُ، و «مَا أنميت» مَا غَابَ عَنْك مَقْتَله.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن قوما حَدِيث عهد بجاهلية يأْتونَ بلحمان لَا نَدْرِي أذكروا اسْم الله عَلَيْهَا أم لم يذكرُوا، أنأكل مِنْهَا أم لَا؟(9/261)
فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اذْكروا اسْم الله وكلوا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَأَبُو دَاوُد - بِإِسْنَاد عَلَى شَرط البُخَارِيّ - وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَهُوَ عمدتنا فِي أَن مَتْرُوك التَّسْمِيَة حَلَال، وَرُوِيَ مُرْسلا وموصولاً، وَقد علمت أَن الْوَصْل مقدم، وانتصر ابْن عبد الْبر وَابْن الْجَوْزِيّ لمذهبهما فَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» : فِي هَذَا الحَدِيث أَن مَا ذبحه الْمُسلم وَلم يعرف اسْم الله عَلَيْهِ أم لَا أَنه لَا بَأْس بِأَكْلِهِ، وَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنه قد سَمّى وَالْمُؤمن لَا يظنّ بِهِ إِلَّا الْخَيْر، وذبيحته وصيده أبدا مَحْمُول عَلَى السَّلامَة حَتَّى يَصح فِيهِ غير ذَلِك من تعمد ترك التَّسْمِيَة وَنَحْوه.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مُشكل الصَّحِيحَيْنِ» : الظَّاهِر من الْمُسلم والكتابي أَنه يُسَمِّي، فَيحْتَمل أمره عَلَى سَائِر أَحْوَاله، وَلَا يلْزمنَا سُؤَاله عَلَى هَذَا. وَقَوله: «سموا أَنْتُم وكلوا» لَيْسَ بِمَعْنى أَنه يُجزئ عَمَّا لم يسم عَلَيْهِ وَلَكِن لِأَن التَّسْمِيَة عَلَى الطَّعَام سنة. هَذَا آخر كَلَامهمَا وَلَا يخْفَى مَا فِيهِ.(9/262)
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُسلم يذبح عَلَى اسْم الله سَمّى أَو لم يسم» .
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من رَوَاهُ من هَذَا الْوَجْه بعد الْبَحْث عَنهُ، وَأغْرب الْغَزالِيّ فِي «الْإِحْيَاء» فَقَالَ: حَدِيث الْبَراء صَحِيح. وَلَا أعلمهُ مرويًّا من هَذَا الْوَجْه عوضا عَن كَونه صَحِيحا، وَالَّذِي يحضرني رِوَايَته من حَدِيث ثَوْر بن يزِيد عَن الصَّلْت قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ذَبِيحَة الْمُسلم حَلَال ذكر اسْم الله أَو لم يذكر؛ لِأَنَّهُ إِن ذكر لم يذكر إِلَّا اسْم الله» رَوَاهُ كَذَلِك أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» قَالَ عبد الْحق: هَذَا مُرْسل وَضَعِيف، وَقد أسْندهُ [الدَّارَقُطْنِيّ] من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُسلم يَكْفِيهِ اسْمه، فَإِن نسي أَن يُسَمِّي حِين يذبح فليسم، وليذكر اسْم الله عَلَيْهِ ثمَّ ليَأْكُل» وَعَن أبي هُرَيْرَة فِيمَن نسي التَّسْمِيَة أَيْضا [قَالَ] قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «اسْم الله عَلَى فَم كل مُسلم» وكلا الْحَدِيثين ضَعِيف. وَلم يبين سَبَب ذَلِك، وَبَينه ابْن الْقطَّان فِي كَلَامه عَلَيْهِ فَقَالَ: سَبَب الضعْف فِي الأول هُوَ أَن الصَّلْت لَا يعرف لَهُ حَال، وَلَا يعرف بِغَيْر هَذَا، وَلَا رَوَى عَنهُ إِلَّا ثَوْر بن يزِيد.
قلت: لَكِن ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَأما سَبَب الضعْف فِي(9/263)
الثَّانِي - فَلَيْسَ فِي إِسْنَاده عَلَى أصل عبد الْحق إِلَّا ثِقَة - مُحَمَّد بن يزِيد وَهُوَ ابْن سِنَان الرهاوي، وَقد رَوَى عَنهُ النَّاس مِنْهُم أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَمُحَمّد بن مُسلم بن وارة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بالمتين، هُوَ أَشد غَفلَة من أَبِيه مَعَ أَنه كَانَ رجلا صَالحا صَدُوقًا [لم يكن من أحلاس الحَدِيث وَكَانَ يرجع إِلَى ستر وَصَلَاح] وَكَانَ النُّفَيْلِي يرضاه. وَقَالَ أَبُو أَحْمد: لَهُ أَحَادِيث لَا يُتَابع عَلَيْهَا. قَالَ: (وَأما معقل بن عبيد الله الْمَذْكُور) فِي إِسْنَاده فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ يضعف فَإِن عبد الْحق يقبله.
قلت: وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَإِنَّهُ أعله فِي «تَحْقِيقه» بِهِ وَأغْرب فَقَالَ: إِنَّه مَجْهُول. وَهُوَ عجب؛ فَإِنَّهُ معقل بن عبيد الله الْجَزرِي الْحَرَّانِي، كَمَا صرح بِهِ الْبَيْهَقِيّ وَابْن الْقطَّان، وَهُوَ من رجال مُسلم. وَقَالَ ابْن معِين وَغَيره: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن معِين فِي رِوَايَة الكوسج: ثِقَة. وَقَالَ فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن صَالح: ضَعِيف. والغريب مِنْهُ أَنه ذكره فِي كتاب «الضُّعَفَاء» وَاقْتصر فِيهِ عَلَى هَذِه القولة الثَّالِثَة فَكيف يكون مَجْهُولا إِذن؟ ! وَأما سَبَب الضعْف فِي الثَّالِثَة فَهُوَ أَن فِيهِ مَرْوَان بن سَالم الْغِفَارِيّ، وَلَيْسَ بِثِقَة بل هُوَ ضَعِيف، وَلَيْسَ بِمَرْوَان بن سَالم الْمَكِّيّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: إِن الْمَحْفُوظ وَقفه عَلَيْهِ.
قلت: وَقد أخرجه ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» كَذَلِك،(9/264)
وَعنهُ أَنه قَالَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: إِنَّه حَدِيث مُنكر.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَصْحَابه مروا بِظَبْيٍ حَاقِف، فهم أَصْحَابه بِأَخْذِهِ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: دَعوه حَتَّى يَجِيء صَاحبه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث الضمرِي [عَن الْبَهْزِي] واسْمه زيد بن كَعْب - عَلَى مَا قَالَه الْخَطِيب فِي مبهماته وَغَيره - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج يُرِيد مَكَّة وَهُوَ محرم حَتَّى إِذا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ إِذا حمَار وَحشِي عقير، فَذكر ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ رَسُول الله: دَعوه فَإِنَّهُ يُوشك أَن يَأْتِي صَاحبه. فجَاء الْبَهْزِي - وَهُوَ صَاحبه - إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، شَأْنكُمْ بِهَذَا الْحمار. فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبَا بكر فَقَسمهُ بَين الرفاق، ثمَّ مَضَى حَتَّى إِذا كَانَ بالأثاية بَين الرُّوَيْثَة وَالْعَرج إِذا ظَبْي حَاقِف وَفِيه سهم، فَزعم أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر رجلا يقف عِنْده لَا يرِيبهُ أحد من النَّاس حَتَّى يُجَاوِزهُ» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِنَحْوِهِ.
فَوَائِد: الأولَى: قَالَ الْخَطِيب فِي «مبهماته» : الرجل الْمَأْمُور(9/265)
بِالْإِقَامَةِ عَلَيْهِ ليحفظه هُوَ أَبُو بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قلت: وَوَقع فِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث عِيسَى بن طَلْحَة بن عبيد الله، عَن أَبِيه طَلْحَة «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعطَاهُ حمَار وَحش وَأمره أَن يفرقه فِي الرفاق» قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «أَطْرَافه» : قَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: هَذَا الحَدِيث لَا أعلم رَوَاهُ هَكَذَا غير ابْن عُيَيْنَة، وَأَحْسبهُ أَرَادَ أَن يختصره فَأَخْطَأَ فِيهِ، وَقد خَالفه النَّاس فِي هَذَا الحَدِيث، رَوَاهُ مَالك وجماعات من حَدِيث عِيسَى بن طَلْحَة، عَن عُمَيْر بن سَلمَة، عَن رجل من بهز، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالُوا جَمِيعًا فِي حَدِيثهمْ: «فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبَا بكر أَن يقسمهُ فِي الرفاق وهم محرمون» وَلَعَلَّ ابْن عُيَيْنَة حِين اخْتَصَرَهُ لحقه الْوَهم؛ لِأَن فِي إِسْنَاد الحَدِيث عِيسَى بن طَلْحَة فَقَالَ: عَن أَبِيه. والبهزي يُقَال إِن اسْمه زيد بن كَعْب وَهُوَ من بني سليم، وَهُوَ صَاحب الظبي الحاقف.
قلت: وَقد رَوَاهُ كَمَا رَوَاهُ النَّاس أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي آخر كتاب المناقب فِي تَرْجَمَة عُمَيْر بن سَلمَة الضمرِي قَالَ: «بَينا نَحن نسير مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ محرم إِذا نَحن بِحِمَار وَحش معقور فَذَكرته للنَّبِي (فَقَالَ: دَعوه. فَأَتَاهُ الَّذِي عقره وَهُوَ رجل من بهز ... » الحَدِيث كَمَا سلف، وَإِسْنَاده صَحِيح. ثمَّ اعْلَم أَنه وَقع فِي «الْمُهَذّب» للشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ تَغْيِير فِي اسْم رَاوِي هَذَا(9/266)
الحَدِيث الَّذِي أوردناه فَقَالَ: رجل من فهر بهاء مَكْسُورَة وَرَاء.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : وَكَذَا نَقله بعض الْأَئِمَّة الْفُضَلَاء عَن خطّ المُصَنّف وَهُوَ غلط وتصحيف، وَالصَّوَاب: رجل من بهز. بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالزاي.
الْفَائِدَة الثَّانِيَة: «الروحاء» مَمْدُود: قَرْيَة جَامِعَة لمزينة عَلَى لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة بَينهمَا أحد وَأَرْبَعُونَ ميلًا. قَالَه أَبُو عبيد الْبكْرِيّ. وَقَالَ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» : الروحاء منهل مَعْرُوف قَرِيبا من الْمَدِينَة.
الْفَائِدَة الثَّالِثَة: مَعْنَى «عقير» : معقور، كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
الرَّابِعَة: فِي ضَبطه أَسمَاء الْأَمَاكِن الْوَاقِعَة فِيهِ: «الأُثاية» بِضَم أَولهَا ثمَّ مُثَلّثَة وبهاء فِي الْآخِرَة قبلهَا يَاء مثناة تَحت. كَذَا ضَبطهَا الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» بِضَم أَولهَا. وَقَالَ الْحَازِمِي فِي «المؤتلف والمختلف» : أثاية رَوَاهُ قوم أَثَاثَة وأثانة بالثاء الْمُثَلَّثَة وبالنون، وَالصَّحِيح هُوَ الأول بِفَتْح همزته وكسرتها مَوضِع فِي طَرِيق الْجحْفَة، بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة خَمْسَة وَعِشْرُونَ فرسخًا. وَعبارَة الْمُحب فِي «أَحْكَامه» أَنه مَوضِع مَعْرُوف بغرب مَكَّة، وَهِي مقَالَة بِالضَّمِّ وَبَعْضهمْ يكسرها. والرويثة اسْم مَوضِع قريب مِنْهَا. و «العرج» بِفَتْح الْعين وَسُكُون الرَّاء، كَذَا ضَبطه الْحَازِمِي فِي «أَسمَاء الْأَمَاكِن» : عقبَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة عَلَى جادة الْحَاج.
وَقَالَ الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» : هِيَ عقبَة بَينهَا وَبَين الرُّوَيْثَة أَرْبَعَة و [عشر] ميلًا، وَبَين الرُّوَيْثَة وَالْمَدينَة أحد وَعِشْرُونَ فرسخًا، وَمن(9/267)
العرج إِلَى السقيا سَبْعَة عشر ميلًا، وَالْعَرج من بِلَاد [أسلم] . قَالَ كثير: إِنَّمَا سمي العرج لتعريجه. وَعبارَة الْمُحب فِي «أَحْكَامه» : «العرج» - بِإِسْكَان الرَّاء ثمَّ جِيم - قَرْيَة جَامِعَة من عمل الْفَرْع عَلَى إِمَام الْمَدِينَة و «العرج» أَيْضا مَوضِع بِالطَّائِف، وَإِلَيْهِ ينْسب العرجي من ولد عُثْمَان بن عَفَّان لشكاية من أجل مَال كَانَ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ الْقَائِل: أضاعوني ... الْبَيْت.
الْفَائِدَة الْخَامِسَة: «الحاقف» هُوَ المنحني الْعَاجِز عَن الِامْتِنَاع. قَالَه الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب، وَعبارَة الْمُحب فِي «أَحْكَامه» : حَاقِف أَي: منحني كَأَنَّهُ قَائِم قد انحنى فِي نَومه لَا يرِيبهُ وَلَا يزعجه وَلَا يتَعَرَّض إِلَيْهِ.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثرا وَاحِدًا وَقد سلف فِي أثْنَاء الحَدِيث التَّاسِع عشر.(9/268)
كتاب الضَّحَايَا(9/269)
كتاب الضَّحَايَا
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فزائدة عَلَى الْأَرْبَعين.
الحَدِيث الأول
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُضحي بكبشين أملحين أقرنين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزَادا: «ذبحهما بِيَدِهِ وَسَمَّى وكب، ر وَوضع رجله عَلَى صفاحهما» .
فَائِدَة: فِي «الأملح» أَقْوَال ذكرتها فِي «شرحي للعمدة» اخْتَار الرَّافِعِيّ مِنْهَا أَنه الَّذِي فِيهِ بَيَاض وَسَوَاد وَالْبَيَاض أَكثر، وَهُوَ قَول أبي زيد وَأبي عبيد. وَقَوله: «أقرنين» أَي لكل وَاحِد مِنْهُمَا قرنان حسنان. وَقَوله: «وَوضع رجله عَلَى صفاحهما» أَي صفحة الْعُنُق وَهِي جَانِبه. وَسبب اخْتِيَار الأملح قيل: إِنَّه لحسن منظره، وَقيل: لِكَثْرَة شحمه. حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ وَسَبقه إِلَيْهَا الْمَاوَرْدِيّ فِي «حاويه» .
الحَدِيث الثانى
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بكبش أقرن يطَأ فِي(9/271)
سَواد، وَينظر فِي سَواد، ويبرك فِي سَواد، فأتيِ بِهِ ليضحي بِهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَائِشَة، هَلُمِّي المدية. ثمَّ قَالَ: اشحذيها بِحجر. فَفعلت، ثمَّ أَخذهَا وَأخذ الْكَبْش فأضجعه ثمَّ ذبحه، ثمَّ قَالَ: بِسم الله، اللَّهُمَّ تقبل من مُحَمَّد وَمن أمة مُحَمَّد. ثمَّ ضحى» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِكُل هَذِه الْحُرُوف وَمِنْه نقلته وَفِيه زِيَادَة عَلَى مَا فِي الرَّافِعِيّ، وَزَاد النَّسَائِيّ «وَيَأْكُل فِي سَواد» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «ضحى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بكبش أقرن يمشي فِي سَواد [وَيَأْكُل] فِي سَواد، وَينظر فِي سَواد» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر «الاقتراح» بعد أَن عزاهُ من هَذِه الطَّرِيق إِلَى أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة وَتَصْحِيح التِّرْمِذِيّ: هُوَ عَلَى شَرط مُسلم.
فَائِدَة: مَعْنَى «يطَأ فِي سَواد، وَينظر فِي سَواد، ويبرك فِي سَواد» قوائمه وبطنه وَمَا حول عَيْنَيْهِ أسود. قَالَه النَّوَوِيّ فِي «شَرحه لمُسلم» وَسَبقه إِلَيْهِ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب وَقَالَ: وَقيل إِنَّه إِشَارَة إِلَى كَثْرَة ظله لسمِنه وضخامة جسده. وَمَعْنى «هَلُمِّي المدية» : هاتيها، وَهِي مُثَلّثَة الْمِيم، أَعنِي: المدية. و «اشحذيها» بالشين الْمُعْجَمَة والحاء الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة(9/272)
وبالذال الْمُعْجَمَة أَي: حدديها. وَوَقع فِي «سنَن أبي دَاوُد» : «اشحثيها» بالثاء الْمُثَلَّثَة وَهِي بِمَعْنى اشحذيها؛ لِأَن الذَّال والثاء متقاربان. وَقَوله: «وَأخذ الْكَبْش فأضجعه ثمَّ ذبحه ثمَّ قَالَ: بِسم الله ... » إِلَى آخِره فِيهِ تَقْدِيم وتأخي، ر وَالتَّقْدِير: فأضجعه ثمَّ أَخذ فِي ذبحه قَائِلا بِسم الله ... إِلَى آخِره مضحيًا بِهِ، وَلَفظه «ثمَّ» هُنَا متأولة عَلَى مَا ذكرته بِلَا شكّ.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «عظموا أضحياكم فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاط مَطَايَاكُمْ» .
هَذَا الحَدِيث لَا يحضرني من خرَّجه بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ، وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : إِنَّه غير مَعْرُوف وَلَا ثَابت فِيمَا علمناه. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي «الأحوذي شرح التِّرْمِذِيّ» : لَيْسَ فِي فضل الْأُضْحِية حَدِيث صَحِيح. قَالَ: وَمِنْهَا قَوْله: «إِنَّهَا مَطَايَاكُمْ إِلَى الْجنَّة» وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» بَاب مَا جَاءَ فِي فضل الْأُضْحِية. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا عمل آدَمِيّ من عمل يَوْم النَّحْر أحب إِلَى الله من إهراق الدَّم، [إِنَّهَا] لتأتي يَوْم الْقِيَامَة بقرونها وَأَشْعَارهَا وأظلافها، وَإِن الدَّم ليَقَع [من] الله بمَكَان قبل أَن يَقع من الأَرْض، فطيبوا نفسا لَهَا» قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» بَاب مَا جَاءَ فِي فضل الْأُضْحِية: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب لَا(9/273)
نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. قلت: وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَفِيه نظر؛ فَإِن فِي إِسْنَاده سُلَيْمَان بن يزِيد أَبُو الْمثنى الكعبي الْخُزَاعِيّ تَركه بَعضهم، وَقَالَ الرَّازِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. وَخَالف فِي «ثقاته» فَذكره فِيهَا.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن عمرَان بن حُصَيْن، وَزيد بن أَرقم. قَالَ: وَيروَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ فِي الْأُضْحِية: «لصَاحِبهَا بِكُل شَعْرَة حَسَنَة» وَيروَى «بقرونها» .
قلت: أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث زيد بن أَرقم: «قُلْنَا: يَا رَسُول الله، مَا هَذِه الْأَضَاحِي؟ قَالَ: سنة أبيكم إِبْرَاهِيم. قُلْنَا: فَمَا لنا مِنْهَا؟ قَالَ: بِكُل شَعْرَة حَسَنَة. قُلْنَا: يَا رَسُول الله فالصوف؟ قَالَ: بِكُل شَعْرَة من الصُّوف حَسَنَة» ثمَّ قَالَ: صَحِيح. وَفِيه نظر؛ لِأَن فِيهِ عَائِذ الله الْمُجَاشِعِي قَالَ البُخَارِيّ: لَا يَصح حَدِيثه.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الْمَنَاكِير، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ.
فَائِدَة: قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي تَفْسِير هَذَا الحَدِيث الَّذِي أوردهُ الرَّافِعِيّ: قيل: المُرَاد بهَا تهَيَّأ مراكب المضحين يَوْم الْقِيَامَة. وَقيل: المُرَاد أَن التَّضْحِيَة بهَا تسهل الْجَوَاز عَلَى الصِّرَاط.(9/274)
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاث هِيَ عَلّي فَرَائض وَلكم تطوع: النَّحْر، وَالْوتر، وركعتي الضُّحَى»
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب صَلَاة التَّطَوُّع وأسلفنا الْكَلَام عَلَيْهِ هُنَاكَ. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى: «ثَلَاث كتبت عليّ وَلم تكْتب عَلَيْكُم: الضُّحَى، والأضحى، وَالْوتر» وَهَذِه الرِّوَايَة بِمَعْنى الأولَى.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا دخل الْعشْر وَأَرَادَ أحدكُم أَن يُضحي فَلَا يمس من شعره وبشره شَيْئا» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِذا دخل الْعشْر وَعِنْده أضْحِية يُرِيد أَن يُضحي فَلَا يَأْخُذن شعرًا وَلَا يقلمن ظفرًا» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِذا رَأَيْتُمْ هِلَال ذِي الْحجَّة وَأَرَادَ أحدكُم أَن يُضحي فليمسك من شعره وأظافره» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور الثَّانِي مَرْفُوعا ثمَّ قَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَرَوَاهُ مَوْقُوفا عَلَى أم سَلمَة ثمَّ قَالَ: هَذَا شَاهد للَّذي قبله.(9/275)
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الصَّحِيح عِنْدِي أَنه مَوْقُوف. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِاللَّفْظِ الثَّانِي مَرْفُوعا ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره: قَالَ الشَّافِعِي: فِي هَذَا الحَدِيث دلَالَة عَلَى أَن الضحية لَيست بِوَاجِب لقَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «وَأَرَادَ أحدكُم أَن يُضحي» وَلَو كَانَت الضحية وَاجِبَة أشبه أَن يَقُول: فَلَا يمس من شعره حَتَّى يُضحي. قَالَ أَصْحَابنَا: وَالْحكمَة فِي النَّهْي أَن يَبْقَى كَامِل الْأَجْزَاء ليعتق من النَّار.
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الْبَاب: وَقد ورد أَن الله - تَعَالَى - يعْتق بِكُل عُضْو من الضحية عضوا من المضحي. وَهَذَا غَرِيب لَا يحضرني من خرجه.
وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : إِنَّه حَدِيث غير مَعْرُوف وَإنَّهُ لم يجد لَهُ سندًا يثبت بِهِ. هَذَا كَلَامه.
قلت: وَفِي «مُعْجم الطَّبَرَانِيّ» نَحوه من حَدِيث أبي دَاوُد النَّخعِيّ، عَن عبد الله بن حسن بن حسن، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا: «من ضحى طيبَة بهَا نَفسه محتسبًا بأضحيته كَانَت لَهُ حِجَابا من النَّار» .
وَأَبُو دَاوُد هَذَا كَذَّاب، قَالَ أَحْمد: كَانَ يضع الحَدِيث. وَمن الْعلمَاء من أبدى لذَلِك حِكْمَة أُخْرَى وَهِي التَّشَبُّه بالمحرم، وَللشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْله: «لَا يمس من شعره وبشره» تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من الشّعْر شعر الرَّأْس وَمن الْبشر شعر الْبدن. وَعَلَى هَذَا لَا يكره تقليم الْأَظْفَار، وَقد سلف التَّصْرِيح بِأَنَّهُ لَا يقلم الظفر، فَالْقَوْل بِعَدَمِ الْكَرَاهَة بعيد.(9/276)
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي حَدِيث الْعَقِيقَة: «لَا يضركم ذكرانًا كن أَو إِنَاثًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أم كرز الْكَعْبِيَّة الصحابية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَنَّهَا سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْعَقِيقَة فَقَالَ: عَن الْغُلَام شَاتَان (وَعَن الْجَارِيَة شَاة) وَلَا يضركم ذكرانًا كن أم إِنَاثًا» . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح. وَاللَّفْظ الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ لفظ التِّرْمِذِيّ أخرجه عَن الْحسن بن عَلّي، ثَنَا عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن جريج، أَخْبرنِي عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن سِبَاع بن ثَابت أَن مُحَمَّد بن ثَابت بن سِبَاع أخبرهُ أَن أم كرز أخْبرته «أَنَّهَا سَأَلت ... .» الحَدِيث، وَلَفظ أبي دَاوُد: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «عَن الْغُلَام شَاتَان، وَعَن الْجَارِيَة شَاة، لَا يضركم ذكرانًا كن أم إِنَاثًا» . أخرجه هَكَذَا عَن مُسَدّد، نَا سُفْيَان، عَن عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن سِبَاع بن ثَابت بِهِ. إِلَى قَوْله: «شَاة» ثمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الحَدِيث، وَحَدِيث سُفْيَان وهم. وَلَفظ النَّسَائِيّ: «أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْحُدَيْبِية أسأله عَن لُحُوم الْهَدْي فَسَمعته يَقُول: عَلَى الْغُلَام شَاتَان وَعَلَى الْجَارِيَة شَاة، لَا يضركم ذكرانًا كن أم إِنَاثًا» . أخرجه هَكَذَا عَن قُتَيْبَة، ثَنَا سُفْيَان، عَن عبيد الله - وَهُوَ ابْن أبي يزِيد - عَن سِبَاع، عَن أم كرز ... الحَدِيث. قَالَ: وأبنا عَمْرو بن عَلّي،(9/277)
ثَنَا يَحْيَى، ثَنَا ابْن جريج، حَدثنِي عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن سِبَاع بن ثَابت، عَن أم كرز مَرْفُوعا: «عَن الْغُلَام شَاتَان وَعَن الْجَارِيَة شَاة، لَا يضركم ذكرانًا كن أَو إِنَاثًا» .
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَرِوَايَة أبي دَاوُد معلولة بِأبي يزِيد وَالِد عبيد الله وَهُوَ لَا يعرف حَاله وَلَا رَوَى عَنهُ غير ابْنه، وَعلة أُخْرَى وَذَلِكَ أَن مَا بَين سِبَاع وَأم كرز مُنْقَطع، يتَبَيَّن ذَلِك من رِوَايَة التِّرْمِذِيّ - وَقد تقدّمت - فَإِنَّهَا تورث شكًّا فِي سَماع سِبَاع من أم كرز، لَا جرم أَن أَبَا دَاوُد قَالَ: إِنَّه وهم. وَقد تبين عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ أَن عبيد الله سمع من سِبَاع، وَأَن سباعًا سمع من أم كرز فَصَارَ حَدِيث سُفْيَان وهما. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ثَنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي، ثَنَا يزِيد بن سِنَان، ثَنَا مُحَمَّد بن بكر البرْسَانِي، ثَنَا ابْن جريج، أَخْبرنِي عبيد الله بن أبي يزِيد أَن سِبَاع بن ثَابت ابْن عَم مُحَمَّد بن ثَابت أخبرهُ أَن أم كرز أخْبرته «أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْعَقِيقَة فَقَالَ: يعق عَن الْغُلَام شَاتَان، وَعَن الْجَارِيَة شَاة، وَلَا يضركم ذكرانًا كن أم إِنَاثًا» قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلَا بعد فِي أَن يكون عبيد الله سَمعه من سِبَاع، فدليل قَوْله آنِفا أَنه أخبرهُ وسَمعه من أَبِيه عَنهُ فَحدث بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
قلت: وَقد أخرجه الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» ، وَخرج فِيهِ بِأَن أَبَاهُ حَدثهُ بِهِ، أخرجه من حَدِيث الْحميدِي، ثَنَا سُفْيَان، عَن عبيد الله بن أبي يزِيد، حَدثنِي أبي، عَن سِبَاع بن ثَابت، عَن أم كرز قَالَت: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «أقرُّوا الطير عَلَى مكناتها» وسمعته يَقُول: «عَن الْغُلَام(9/278)
شَاتَان وَعَن الْجَارِيَة شَاة، لَا يَضرك ذكرانًا كن أَو إِنَاثًا» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ. وَرَوَاهُ كَذَلِك أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» فَقَالَ: أَنا أَحْمد بن عَلّي بن الْمثنى، ثَنَا أَبُو خَيْثَمَة، نَا سُفْيَان بِهِ سَوَاء، لكنه قَالَ: «لَا يضركم» .
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ضحوا بالجذع من الضَّأْن» .
هَذَا الحَدِيث ذكره أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي «محلاه» من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي يَحْيَى، عَن أمه، عَن أم بِلَال مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء، وَعَزاهُ إِلَى رِوَايَة مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ، ثمَّ أعله بِأم مُحَمَّد بن أبي يَحْيَى، وَقَالَ: إِنَّهَا مَجْهُولَة. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بلفظين عَن أم بِلَال مَرْفُوعا: أَحدهمَا: «ضحوا بالجذع من الضَّأْن فَإِنَّهُ جَائِز» . ثَانِيهمَا: «يجوز الْجذع من الضَّأْن أضْحِية» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِاللَّفْظِ الأول من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة.
وَأم بِلَال هَذِه ذكرهَا ابْن عبد الْبر، وَأَبُو نعيم، وَابْن مَنْدَه فِي كتب الصَّحَابَة، وَذكرهَا الْعجلِيّ فِي «ثقاته» وَقَالَ: تابعية ثِقَة. فَخَالف،(9/279)
وَاقْتصر الْمزي فِي «تهذيبه» وتلميذه الذَّهَبِيّ عَلَى ذَلِك، وَلَيْسَ بجيد لما عَلمته، وَالْأَمر كَمَا قَالَه أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي جَهَالَة أم مُحَمَّد هَذِه، فَلَا أعلم حَالهَا بعد الْكَشْف التَّام عَنْهَا.
وَرَوَى هَذَا الحَدِيث ابْن مَاجَه بالسند الْمَذْكُور عَن أم بِلَال بنت هِلَال، عَن أَبِيهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يجوز الْجذع من الضَّأْن أضْحِية» . وهلال ذكره ابْن مَنْدَه فِي الصَّحَابَة، وَذكره ابْن حزم بعد ذَلِك من الطَّرِيق السالفة ثمَّ قَالَ: أم مُحَمَّد لَا يُدْرَى من هِيَ، وَزَاد هُنَا أَن أم بِلَال مَجْهُولَة لَا يُدْرَى ألها صُحْبَة أم لَا. وَقد علمت حَالهَا فِيمَا قدمنَا.
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «نعمت الْأُضْحِية الْجذع من الضَّأْن» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي كباش قَالَ: «جلبت غنما جذعًا إِلَى الْمَدِينَة فكسدت عليّ، فَلَقِيت أَبَا هُرَيْرَة فَسَأَلته فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: نعم - أَو نعمت - الْأُضْحِية الْجذع من الضَّأْن. قَالَ: فانتهبه النَّاس» رَوَاهُ من حَدِيث عُثْمَان بن وَاقد - وَهُوَ مِمَّن اخْتلف فِي توثيقه، وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وَقَالَ أَحْمد: لَا أرَى بِهِ بَأْسا. وَضَعفه أَبُو دَاوُد - عَن كدام - بِالدَّال - بن عبد الرَّحْمَن - وَهُوَ(9/280)
السّلمِيّ - عَن أبي كباش، وَلَا أعلم حَالهمَا فَيَأْتِي فيهمَا الْخلاف فِي الِاحْتِجَاج بالمستور. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب وَفِي بعض نسخه: حسن. قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا عَن أبي هُرَيْرَة مَوْقُوفا. قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن ابْن عَبَّاس، وَأم بِلَال بنت هِلَال عَن أَبِيهَا، وَجَابِر، وَعقبَة بن عَامر، وَغَيرهم. وَرَوَاهُ أَبُو أَحْمد فِي «الكنى» بِالْإِسْنَادِ السالف لَكِن بِلَفْظ: «نعم الْأُضْحِية الْجذع السمين من الضَّأْن» وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» ، والسياق لَهُ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث هِشَام بن سعد، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم الْأَضْحَى فَقَالَ [لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا جِبْرِيل] كَيفَ رَأَيْت نسكنا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، لقد باهى بِهِ أهل السَّمَاء، وَاعْلَم يَا مُحَمَّد أَن الْجذع من الضَّأْن خير من الثَّنية من الْمعز وَالْإِبِل وَالْبَقر، وَلَو علم الله - تَعَالَى - فِيهِ [ذبحا] أفضل مِنْهُ لفدى بِهِ إِبْرَاهِيم» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: مُنكر، إِنَّمَا فدى بِهِ ابْن إِبْرَاهِيم، وَقَالَ الْعقيلِيّ: هَذَا حَدِيث رَوَاهُ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْجَنبي، وَقد قَالَ البُخَارِيّ: فِي حَدِيثه نظر، وَلَا يُتَابِعه عَلَى هَذَا الحَدِيث ثِقَة.
قلت: هُوَ هَالك، وَهِشَام بن سعد لَيْسَ بمعتمد، قَالَ ابْن عدي: مَعَ ضعفه يكْتب حَدِيثه. قَالَ الْعقيلِيّ: وَيروَى من حَدِيث زِيَاد بن مَيْمُون(9/281)
أَيْضا عَن أنس، وَزِيَاد هَذَا يكذب. وَأما أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَإِنَّهُ ذكره من حَدِيث أبي هُرَيْرَة - التِّرْمِذِيّ - وَمن طَرِيق الْعقيلِيّ وَالْحَاكِم، لَكِن أخرج هَذَا مُخْتَصرا بِلَفْظ: «إِن جِبْرِيل قَالَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا مُحَمَّد، إِن الْجذع من الضَّأْن خير من المسنة من الْمعز» ثمَّ قَالَ: وَطَرِيق أبي هُرَيْرَة الأول أسقطها كلهَا وفضيحة الدَّهْر؛ لِأَنَّهُ عَن عُثْمَان بن وَاقد - وَهُوَ مَجْهُول - عَن كدام بن عبد الرَّحْمَن - وَلَا نَدْرِي من هُوَ - عَن أبي كباش الَّذِي جلب الكباش الْجَذعَة إِلَى الْمَدِينَة فبارت عَلَيْهِ. هَذَا نَص حَدِيثه، وَهنا جَاءَ مَا جَاءَ أَبُو كباش، وَمَا أَدْرَاك مَا [أَبُو] كباش. والطريقة الثَّانِيَة فِيهَا هِشَام بن سعد وَهُوَ ضَعِيف.
قلت: أما كدام فقد رَوَى عَنهُ أَبُو حنيفَة [و] ابْن وَاقد، فارتفعت جَهَالَة عينه كَمَا سلف، وَبقيت جَهَالَة حَاله. وَأما عُثْمَان بن وَاقد فحاشاه من الْجَهَالَة، وَقد علمت أَنه مِمَّن اخْتلف فِيهِ كَمَا سلف لَك، وَقد رَوَى عَنهُ خلق. وَأما أَبُو كباش فَلَا أعلم رَوَى عَنهُ غير كدام، وَلَا رَوَى عَن غير أبي هُرَيْرَة. وَأما هِشَام فَقَالَ فِيهِ هُنَا مَا عَلمته، وَذكر عقبه أَنه ضَعِيف ضعفه أَحْمد بن حَنْبَل، وأساء القَوْل فِيهِ جدًّا وأطرحه، وَلم يجز الرِّوَايَة عَنهُ يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان، وَلَا ابْن معِين وَلَا غَيرهمَا، وَهِشَام هَذَا قَالَ ابْن معِين فِي حَقه فِي رِوَايَة صَالح: لَيْسَ بمتروك الحَدِيث. وَقَالَ فِي أُخْرَى: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: مَحَله الصدْق. وَقَالَ الْعجلِيّ: جَائِز(9/282)
الحَدِيث حسن الحَدِيث. وَاحْتج بِهِ مُسلم، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، وَقد أخرج الْحَاكِم حَدِيثه كَمَا تقدم، وَقَالَ: صَالح الْإِسْنَاد. وَذكر ابْن حزم هَذَا الحَدِيث مرّة وَقَالَ: إِنَّه كذب ظَاهر، وَهُوَ قَوْله: «الَّذِي فدى الله إِبْرَاهِيم» وَلم يفد إِبْرَاهِيم بِلَا شكّ، وَإِنَّمَا فدى ابْنه.
فَائِدَة: الْجذع من الضَّأْن مَا لَهُ سنة تَامَّة، هَذَا هُوَ الْأَصَح وَالْأَشْهر فِي اللُّغَة، وَقيل: سِتَّة أشهر. وَقيل: وَدخل فِي السَّابِعَة. وَقيل: ثَمَانِيَة. وَقيل: عشرَة. وَقيل: إِن كَانَ ابْن شابين فستة إِلَى سَبْعَة، وَإِن كَانَ ابْن هرمين فثمانية.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم النَّحْر بعد الصَّلَاة، فَقَالَ: من صَلَّى صَلَاتنَا ونسك نسكنا فقد أصَاب النّسك، وَمن نسك قبل الصَّلَاة فَلَا نسك لَهُ. فَقَامَ أَبُو بردة بن نيار خَال الْبَراء بن عَازِب فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لقد نسكت قبل أَن أخرج إِلَى الصَّلَاة. فَقَالَ: تِلْكَ شَاة لحم. قَالَ: فَإِن عِنْدِي عنَاقًا جَذَعَة هِيَ خير من شاتي لحم فَهَل تجزي عني؟ قَالَ: نعم، وَلنْ تجزي عَن أحد بعْدك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَهَذَا اللَّفْظ هُوَ لفظ إِحْدَى روايتي أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا بدل(9/283)
«فَلَا نسك لَهُ» : «فَتلك شَاة لحم» وَقَالا بعد قَوْله «قبل أَن أخرج إِلَى الصَّلَاة» : «وَعرفت أَن الْيَوْم يَوْم أكل وَشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أَهلِي وجيراني. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: تِلْكَ شَاة لحم ... » الحَدِيث، وَلَفظ الشَّيْخَيْنِ عَن الْبَراء أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن أول مَا نبدأ بِهِ فِي يَوْمنَا هَذَا نصلي ثمَّ نرْجِع فننحر، فَمن فعل ذَلِك فقد أصَاب سنتنا، وَمن ذبح قبل فَإِنَّمَا هُوَ لحم قدمه لأَهله لَيْسَ من النّسك فِي شَيْء. وَكَانَ أَبُو بردة بن نيار قد ذبح فَقَالَ: عِنْدِي جذع خير من مُسِنَّة. فَقَالَ: اذْبَحْهَا وَلنْ تجزي عَن أحد بعْدك» . وَفِي لفظ لَهما: «ذبح أَبُو بردة بن نيار قبل الصَّلَاة فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أبدلها. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لَيْسَ عِنْدِي إِلَّا جَذَعَة وَهِي خير من مُسنة. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اجْعَلْهَا مَكَانهَا وَلنْ تجزي عَن أحد بعْدك» وَفِي رِوَايَة لَهما: «إِن عِنْدِي داجنًا جَذَعَة من الْمعز» وَفِي رِوَايَة لَهما: «عنَاق لبن» وَفِي أُخْرَى: «عنَاق جَذَعَة» .
فَائِدَة: «العناق» بِفَتْح الْعين: الْأُنْثَى من الْمعز إِذا قويت مَا لم تستكمل سنة. وَقَوله: «تجزي» هُوَ بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة فَوق غير مَهْمُوز فَهُوَ بِمَعْنى الْكِفَايَة. وَقَوله: «عنَاق لبن مَعْنَاهُ (صَغِيرَة) قريبَة بِمَا ترْضع. وَقَوله: «وَلنْ تجزي [عَن] أحد بعْدك» أَي جَذَعَة الْمعز، وَهُوَ مُقْتَضَى(9/284)
سِيَاق الْكَلَام، وَإِلَّا فجذعة الضَّأْن تجزى، وَالْمعْنَى أَنَّهَا الْوَاجِب عَن أحد بعْدك.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن عقبَة [بن] عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قسم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ضحايا [فَأَعْطَانِي] عنَاقًا جَذَعَة فَقلت: عنَاق. فَقَالَ: ضح بِهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «قسم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَين أَصْحَابه ضحايا فَصَارَت لعقبة جَذَعَة فَقلت: يَا رَسُول الله، أصابني جذع. فَقَالَ: ضح بِهِ أَنْت» . وَفِي رِوَايَة لَهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعطَاهُ غنما يقسمها عَلَى أَصْحَابه فَبَقيَ عتود، فَذكره للنَّبِي (فَقَالَ: ضح بِهِ أَنْت» . وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث، وَالْجمع بَينه وَبَين الَّذِي قبله فِي شرحي للعمدة فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن مَاذَا يتقَى من الضَّحَايَا، فَقَالَ (: العرجاء الْبَين ظلعها - وَيروَى: عرجها - والعوراء(9/285)
الْبَين عورها، والمريضة الْبَين مَرضهَا، والعجفاء الَّتِي لَا تنقي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَأحمد فِي «مُسْنده» ، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة د ت ق ن وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَهُوَ حَدِيث عَظِيم، أصل من أصُول هَذَا الْبَاب، قَالَ الإِمَام أَحْمد: مَا أحْسنه من حَدِيث. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح لَا أعرفهُ إِلَّا من حَدِيث عبيد بن فَيْرُوز عَن الْبَراء، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أهل الْعلم. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح.
قلت: ومداره عَلَى عبيد بن فَيْرُوز، وَهُوَ أَبُو الضَّحَّاك مولَى بني شَيبَان عَن الْبَراء، وَرَوَاهُ جمَاعَة عَنهُ مِنْهُم عَمْرو بن الْحَارِث. قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: عبيد بن فَيْرُوز هَذَا من أهل مصر، وَلم يدر ألقيه عَمْرو بن الْحَارِث أم لَا، فَنَظَرْنَا فَإِذا عَمْرو بن الْحَارِث لم يسمعهُ من عبيد بن فَيْرُوز، إِنَّمَا سَمعه من يزِيد بن أبي حبيب عَنهُ، ثمَّ نَظرنَا فَإِذا يزِيد بن أبي حبيب لم يسمعهُ من عبيد بن فَيْرُوز، إِنَّمَا سَمعه من سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن، عَن عبيد بن فَيْرُوز لَكِن لم يذكر سَماع سُلَيْمَان بن عبد(9/286)
الرَّحْمَن من عبيد، ثمَّ نَظرنَا فَإِذا سُلَيْمَان هَذَا لم يسمعهُ من عبيد بن فَيْرُوز، وَإِنَّمَا رَوَاهُ لَيْث بن سعد، عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن، عَن الْقَاسِم مولَى خَالِد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة، عَن عبيد بن فَيْرُوز. قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: فَإِذا الحَدِيث حَدِيث لَيْث بن سعد، عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن ... إِلَى أَن قَالَ: قَالَ عُثْمَان بن عمر: فَقلت لليث بن سعد: يَا أَبَا الْحَارِث، إِن شُعْبَة يروي هَذَا الحَدِيث عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن أَنه سمع عبيد بن فَيْرُوز. قَالَ: لَا، إِنَّمَا حَدثنَا بِهِ سُلَيْمَان، عَن الْقَاسِم مولَى خَالِد، عَن عبيد بن فَيْرُوز. قَالَ عُثْمَان بن عمر: فَلَقِيت شُعْبَة فَقلت لَهُ: إِن ليثًا حَدثنَا بِهَذَا الحَدِيث عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن، عَن الْقَاسِم، عَن عبيد بن فَيْرُوز. قَالَ: فَقَالَ شُعْبَة: هَكَذَا حفظته كَمَا حدثت بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا رَوَاهُ عُثْمَان بن عمر، عَن لَيْث بن سعد. وَقد رَوَاهُ يَحْيَى بن بكير، عَن اللَّيْث بن سعد، عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن، عَن عبيد بن فَيْرُوز، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يزِيد بن أبي حبيب وَشعْبَة بن الْحجَّاج عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن، وَذكر شُعْبَة سَماع سُلَيْمَان من عبيد بن فَيْرُوز. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِيمَا بَلغنِي عَن التِّرْمِذِيّ، عَن البُخَارِيّ أَنه كَانَ يمِيل إِلَى تَصْحِيح رِوَايَة شُعْبَة وَلَا يرْضَى رِوَايَة عُثْمَان بن عمر.
قلت: وَكَذَلِكَ أخرجه أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، رَوَاهُ أَحْمد، عَن عَفَّان، نَا شُعْبَة، أَخْبرنِي سُلَيْمَان بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة شُعْبَة بِهِ، وَمن رِوَايَة يزِيد بن أبي حبيب عَن سُلَيْمَان بِهِ، وَرَوَاهُ(9/287)
النَّسَائِيّ من رِوَايَة شُعْبَة بِهِ، وَمن رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث وَاللَّيْث، عَن سُلَيْمَان بِهِ، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة شُعْبَة بِهِ. قَالَ الْمزي فِي «أَطْرَافه» : وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل ابْن أبي أويس، عَن مَالك بن أنس، عَن عَمْرو بن الْحَارِث، عَن عبيد، عَن الْبَراء، وَخَالف روح بن عبَادَة فَرَوَاهُ عَن أُسَامَة بن زيد، عَن عَمْرو بن الْحَارِث، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن عبيد.
وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة شُعْبَة أَيْضا ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح وَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ وَمُسلم لقلَّة رِوَايَات سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن، وَقد أظهر عَلّي بن الْمَدِينِيّ فضائله وإتقانه. قَالَ: وَلِهَذَا الحَدِيث شَوَاهِد مُتَفَرِّقَة بأسانيد صَحِيحَة ثمَّ سَاقهَا بِإِسْنَادِهِ. هَذَا كَلَامه فِي أَوَاخِر كتاب الْحَج من «مُسْتَدْركه» ثمَّ أَعَادَهُ فِي كتاب الضَّحَايَا مِنْهُ من رِوَايَة أَيُّوب بن سُوَيْد - وَقد ضعفه أَحْمد - عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عبد الله بن عَامر، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن الْبَراء، وَمن رِوَايَة أَيُّوب الْمَذْكُور، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن الْبَراء. قَالَ الْحَاكِم: قَالَ الرّبيع فِي (كتابي) بالإسنادين. قَالَ الْحَاكِم: وَهَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: إِنَّمَا أخرج مُسلم حَدِيث سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن عَن عبيد(9/288)
بن فَيْرُوز، وَهُوَ مِمَّا أَخذ عَلَى مُسلم لاخْتِلَاف الناقلين فِيهِ. هَذَا آخر كَلَامه، ودعواه أَن مُسلما أخرج الحَدِيث من الطَّرِيق الْمَذْكُور عَجِيب مِنْهُ؛ فَلَيْسَ هُوَ فِيهِ أصلا، بل لم يخرج مُسلم فِي «صَحِيحه» عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن وَلَا عَن عبيد بن فَيْرُوز أصلا [لَا] الحَدِيث الْمَذْكُور وَلَا غَيره، وَالْحَاكِم مِمَّن قَالَ فِي أَوَاخِر كتاب الْحَج فِي حَدِيث سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن عَن عبيد بن فَيْرُوز: لم يُخرجهُ البُخَارِيّ وَمُسلم. ثمَّ شرع بعد ذَلِك يعْتَذر عَن السَّبَب الْمُوجب لعدم تخريجهما لَهُ، وَهَذَا من أعجب الْعجب مِنْهُ إِذا عرفت طرق هَذَا الحَدِيث فهاك أَلْفَاظه:
فَلفظ أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن عبيد بن فَيْرُوز قَالَ: «سَأَلنَا الْبَراء عَمَّا لَا يجوز فِي الْأَضَاحِي فَقَالَ: قَامَ فِينَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وأصابعي أقصر من أَصَابِعه، وأناملي أقصر من أنامله - فَقَالَ: أَربع - وَأَشَارَ بِأَرْبَع أَصَابِعه - لَا تجوز فِي الْأَضَاحِي: العوراء بيَّن عورها، والمريضة بيِّن مَرضهَا، والعرجاء بيِّن ظلعها، والكسير الَّتِي لَا تنقي. ثمَّ قَالَ: قلت: فَإِنِّي أكره أَن يكون فِي السن نقص. قَالَ: مَا كرهت فَدَعْهُ وَلَا تحرمه عَلَى أحد» وَفِي رِوَايَة للنسائي: «والعجفاء الَّتِي لَا تنقي» بدل «الكسير» وَلَفظ التِّرْمِذِيّ أَن الْبَراء قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يضحى بالعرجاء بَين ظلعها، وَلَا العوراء بَين عورها، وَلَا بالمريضة بَين مَرضهَا، وَلَا بالعجفاء الَّتِي لَا تنقي» .
وَلَفظ «الْمُوَطَّأ» نَحْو رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ إِلَى قَوْله: «لَا تنقي» ،(9/289)
وَجعل بدل «الكسير» : «الْعَجْفَاء» .
وَلَفظ ابْن مَاجَه عَن عبيد بن فَيْرُوز: «قلت للبراء بن عَازِب: حَدثنِي مَا كره أَو نهَى عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الْأَضَاحِي، فَقَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَكَذَا بِيَدِهِ - ويدي [أقصر] من يَده -: أَربع لَا تُجزئ فِي الْأَضَاحِي: العوراء الْبَين عورها، والمريضة الْبَين مَرضهَا، والعرجاء الْبَين ظلعها، والكسير الَّتِي لَا تنقي. قلت: فَإِنِّي أكره أَن يكون نقص الْأذن قَالَ: فَمَا كرهت مِنْهُ فَدَعْهُ وَلَا تحرمه عَلَى أحد» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِكُل هَذِه الْأَلْفَاظ، وَلَفظ أَحْمد وَالْحَاكِم وَابْن حبَان بِنَحْوِ مَا تقدم.
فَائِدَة: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «الْبَين ظلعها» هُوَ بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَاللَّام. قَالَ صَاحب «المعرب» : وَهُوَ الصَّوَاب. وَقَالَ غَيره: قد تسكن اللَّام، وَهُوَ العرج. قَالَ الْجَوْهَرِي فِي «ظلع» بالظاء الْمُعْجَمَة: ظلع الْبَعِير يظلع ظلعًا: أَي غمز فِي مَشْيه. انْتَهَى. وَكتبه بَعضهم بالصَّاد الساقطة غير الْمُعْجَمَة. وَقَوله: «الَّتِي لَا تُنْقِي» هُوَ بِضَم التَّاء، وَإِسْكَان النُّون، وَكسر الْقَاف أَي: لَا (نِقْى) لَهَا - بِكَسْر النُّون، وَإِسْكَان الْقَاف - وَهُوَ المخ. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقيل: هِيَ الَّتِي يُوجد فِيهَا شَحم يُقَال: أنقت الْإِبِل وَغَيرهَا إِذا سمنت، وَصَارَ فِيهَا نقي وَهُوَ المخ، وَهَذِه نَاقَة منقية، وناقة لَا تُنقى.(9/290)
الحَدِيث الثَّانِي عشر
ورد النَّهْي عَن التَّضْحِيَة بالثولاء.
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا أعلم من خرجه بعد شدَّة الْبَحْث عَنهُ، وَكَذَا قَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : هَذَا الحَدِيث لم أَجِدهُ ثَابتا.
قلت: وَفِي «نِهَايَة» ابْن الْأَثِير من حَدِيث الْحسن: لَا بَأْس أَن يضحى بالثولاء.
فَائِدَة: «الثولاء» بثاء مُثَلّثَة مَفْتُوحَة مَأْخُوذ من الثول وَهُوَ الْجُنُون، وتستعمل فِي الأناسي مجَازًا فَيَقُولُونَ: رجل أثول وَامْرَأَة ثولاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: الثول - بِفَتْح الثَّاء وَالْوَاو -: جُنُون يُصِيب الشَّاة فَلَا تتبع الْغنم وتستدير فِي مرعاها، يُقَال: شَاة ثولاء، وتيس أثول.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نستشرف الْعين وَالْأُذن، وَأَن لَا نضحي بِمُقَابلَة، وَلَا مدابرة، وَلَا شرقاء، وَلَا خرقاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد، وَالْبَزَّار فِي «مسنديهما» وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة د ت ن ق وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه»(9/291)
وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَالْبَيْهَقِيّ بأسانيد صَحِيحَة. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ غير وَاحِد عَن سَلمَة بن كهيل عَن حجية عَن عَلّي، وَلَا نعلم رَوَى أَبُو إِسْحَاق عَن سَلمَة حَدِيثا مُسْندًا سواهُ، وَلَا [رَوَاهُ] عَن أبي إِسْحَاق إِلَّا جرير بن حَازِم، وَاللَّفْظ الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ هُوَ لفظ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، زَاد التِّرْمِذِيّ فِي رِوَايَته الْأُخْرَى: «والمقابلة: مَا قطع من طرف أذنها، والمدابرة: مَا قطع من جَانب الْأذن، والشرقاء: المشقوقة، والخرقاء: المثقوبة» .
وَلَفظ أبي دَاوُد، وَإِحْدَى روايتي النَّسَائِيّ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نستشرف الْعين وَالْأُذن، وَلَا نضحي بعوراء وَلَا مُقَابلَة وَلَا مدابرة وَلَا خرقاء وَلَا شرقاء» . قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ زُهَيْر: فَقلت لأبي إِسْحَاق: أَذَكر عضباء؟ قَالَ: لَا. قلت: فَمَا الْمُقَابلَة؟ قَالَ: يقطع طرف الْأذن. قلت: فَمَا المدابرة؟ قَالَ: يقطع مُؤخر الْأذن. قلت: فَمَا الشرقاء؟ قَالَ: تشق الْأذن. قلت: فَمَا الخرقاء؟ قَالَ: تخرق أذنها للسِّمَة» وَلَفظ ابْن مَاجَه: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يضحى بِمُقَابلَة أَو مدابرة أَو شرقاء أَو خرقاء أَو جَدْعَاء» وَهَذَا لفظ أَحْمد وَهُوَ يرد عَلَى قَول ابْن حزم فِي «محلاه» : حَدِيث «لَا تُجزئ الجدعاء» لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ من طَرِيق جَابر الْجعْفِيّ. وَهَذَا طَرِيق لَيْسَ هُوَ فِيهَا، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نستشرف الْعين وَالْأُذن» وَهَذَا الثَّانِي هُوَ لفظ الْبَزَّار وَابْن حبَان، وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ كَلَفْظِ د ت ق، وَلَفظ الْحَاكِم فِي أَوَاخِر كتاب الْحَج من(9/292)
«مُسْتَدْركه» كَلَفْظِ ابْن مَاجَه الْأَخير وَمن تبعه. ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح. وَلَفظه فِي كتاب الْأَضَاحِي مِنْهُ بِلَفْظ ابْن مَاجَه الأول ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. ثمَّ رَوَاهُ بِلَفْظ أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ إِلَّا أَنه لم يذكر فِيهِ العَوَر، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح أسانيده كلهَا، وَلم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ لزِيَادَة ذكرهَا قيس بن الرّبيع عَن أبي إِسْحَاق عَلَى أَنَّهُمَا لم يحْتَجَّا بقيس. قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضا سُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة، عَن سَلمَة بن كهيل، عَن حجية بن عدي ... ثمَّ ذكر ذَلِك بأسانيده عَنْهُمَا ثمَّ قَالَ: هَذِه الْأَسَانِيد كلهَا صَحِيحَة وَلم يحْتَجَّا بحجية بن عدي، وَهُوَ من كبار أَصْحَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلّي بن أبي طَالب.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إرْسَال هَذَا الحَدِيث عَن عَلّي هُوَ الْأَشْبَه، وَفِي رِوَايَة للْجَمَاعَة الْمَذْكُورين كلهم عَن عَلّي قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يضحى بأعضب الْقرن وَالْأُذن» قَالَ قَتَادَة: فَذكرت ذَلِك لسَعِيد بن الْمسيب، فَقَالَ: العضب مَا بلغ النّصْف فَمَا فَوق ذَلِك. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَخَالف ابْن عبد الْبر وَالْمُنْذِرِي فَقَالَا: لَا [يحْتَج] بِمِثْلِهَا. وَسبب مقالتهما أَن مَدَاره عَلَى جُرَي بن كُلَيْب الْبَهْزِي، قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: مَجْهُول لَا أعلم رَوَى عَنهُ غير قَتَادَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم(9/293)
الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بحَديثه. وَقَالَ الْبَزَّار: لَا نعلم روىَ قَتَادَة عَن جري غير هَذَا الحَدِيث، وَحَدِيث النَّهْي عَن الْمُتْعَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لم يرو عَنهُ غير قَتَادَة، وَأَثْنَى عَلَيْهِ - يَعْنِي قَتَادَة - وَوَثَّقَهُ الْعجلِيّ فَقَالَ: بَصرِي ثِقَة. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَيَنْبَغِي أَن نعلم أَن لَهُم آخر اسْمه جري بن كُلَيْب، والفارق بَينهمَا أَن هَذَا بَصرِي، وَذَاكَ كُوفِي، وَهَذَا نهدي، وَذَاكَ سدوسي، كَذَا فرق بَينهمَا أَبُو دَاوُد. قَالَ الْمزي: وَرَوَى عَن هَذَا أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، وَابْنه يُونُس بن أبي إِسْحَاق.
قلت: وَعَاصِم بن بَهْدَلَة، كَمَا ذكره ابْن مَاكُولَا وَأغْرب الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» ، فَقَالَ: رَوَى [عَنهُ] أَبُو إِسْحَاق السبيعِي. وَأما ابْن أبي حَاتِم فَاقْتَضَى كَلَامه أَنَّهُمَا وَاحِد فَإِنَّهُ ذكر جري النَّهْدِيّ، وَقَالَ: رَوَى عَنهُ قَتَادَة وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي. فَتنبه لَهُ، وَأما ابْن حزم فَقَالَ فِي «محلاه» : وَرُوِيَ فِي الأعضب أَنه لَا يُجزئ وَلَا يَصح؛ لِأَنَّهُ من طَرِيق جري بن كُلَيْب وَلَيْسَ مَشْهُورا، وَعَمن لم يسم عَن عَلّي. هَذَا كَلَامه، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة كَمَا تقدم من حَدِيث قَتَادَة عَن جري عَن عَلّي نَفسه لَيْسَ بَينه وَبَين جري أحد، وَقد صرح جري بِالسَّمَاعِ أَنه عَن عَلّي. قَالَ ابْن مَاجَه: ثَنَا حميد بن مسْعدَة، ثَنَا خَالِد بن الْحَارِث، ثَنَا(9/294)
سعيد [عَن قَتَادَة] أَنه ذكر أَنه سمع جري بن كُلَيْب يحدث أَنه سمع عليًّا عَلَيْهِ السَّلَام يحدث «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يضحى بأغضب الْقرن أَو الْأذن» وَكَذَا أوردهُ ابْن الْمُغلس الظَّاهِرِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى جري قَالَ: سَمِعت عليًّا يَقُول: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يضحى بأعضب الْقرن» .
فَائِدَة: فِي تَفْسِير مَا وَقع فِي هَذَا الحَدِيث من الْغَرِيب فَإِنَّهُ مُهِمّ:
مَعْنَى استشراف الْأذن وَالْعين: أَن تشرف عَلَيْهِمَا ويتأملان كَيْلا يَقع فيهمَا نقص وعيب. وَقيل: إِن ذَلِك مَأْخُوذ من الشُرْف - بِضَم الشين وَإِسْكَان الرَّاء - وَهُوَ خِيَار المَال أَي أمرنَا أَن نتخيرها. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقيل: مَعْنَى الحَدِيث أَن نضحي بواسع الْعين طَوِيل الْأُذُنَيْنِ. والمقابَلة والمدابَرة: بِفَتْح الْبَاء فيهمَا، قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من أهل اللُّغَة والغريب وَالْفُقَهَاء: الْمُقَابلَة هِيَ الَّتِى قطع من مقدم أذنها فلقَة وتدلت مِنْهُ وَلم تنفصل، والمدابرة الَّتِي قطع من مُؤخر أذنها فلقَة وتدلت مِنْهُ وَلم تنفصل. والفلقة الأولَى تسمى الإقبالة، وَالْأُخْرَى تسمى الإدبارة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى فِي كِتَابه «غَرِيب الحَدِيث» : الْمُقَابلَة الموسومة بالنَّار فِي بَاطِن أذنها، والمدابرة فِي ظَاهر أذنها. وَالْمَشْهُور الأول، والشرقاء والخرقاء ممدودان، وَالْأولَى المشقوقة وَالثَّانيَِة الَّتِي فِي أذنها ثقب مستدير وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَالَّذِي قَالَه جماعات، وَمِنْهُم الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب، وَفسّر صَاحب «الْمُهَذّب» الشرقاء بِالَّتِي ثقبت أذنها من الكي، والخرقاء الَّتِي شقّ أذنها بالطول. وأنكروه عَلَيْهِ وغلطوه فِيهِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيّ، وَالصَّوَاب الأول، وَعَن الشَّافِعِي أَن الشرقاء: المشقوقة(9/295)
الْأذن طولا - وَهُوَ الْمَذْكُور فِي «الْحَاوِي» لَا غير - والجدعاء: المقطوعة الْأذن كلهَا. والعضباء: الَّتِي قد ذهب مُعظم أذنها وقرنها. قَالَ ابْن عقيل الْحَنْبَلِيّ لما قَالَ: (ولآمرنهم فليبتكن آذان الْأَنْعَام) وَكَانَ شقّ الْأذن أثرا حصل من الْأَذَى بِطَاعَة الشَّيْطَان، حسن أَن ينْهَى عَن التَّضْحِيَة بِمَا هَذِه صفته؛ لِأَنَّهَا هَدْيه إِلَى الله.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يضحى بالمصفرة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي حميد الرعيني قَالَ: أَخْبرنِي يزِيد ذُو مِصْر - بِكَسْر الْمِيم وَإِسْكَان الصَّاد الْمُهْملَة هَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي ضَبطه، وَمِمَّنْ ضَبطه كَذَلِك ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» وَقَيده الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِي السّنَن» بِضَم الْمِيم وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَبعدهَا رَاء مُهْملَة، وَهُوَ غَرِيب مِنْهُ - قَالَ: «أتيت عتبَة بن عبد السّلمِيّ، فَقلت: يَا أَبَا الْوَلِيد، خرجت ألتمس الضَّحَايَا فَلم أجد شَيْئا يُعجبنِي غير ثرماء فَمَا تَقول؟ قَالَ: أَفلا جئتني أضحي بهَا. قَالَ: سُبْحَانَ الله، تجوز عَنْك وَلَا تجوز عني؟ ! قَالَ: نعم، أَنْت تشك وَأَنا لَا أَشك، إِنَّمَا نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن المصفرة والمستأصلة(9/296)
والبخقاء [والمشيعة] والكسراء. والمصفرة: الَّتِي تستأصل أذنها حَتَّى يَبْدُو صماخها، والمستأصلة [هى الَّتِى استؤصل] قرنها من أَصله، والبخقاء: الَّتِي تُبْخق عينهَا، والمشيَّعة: الَّتِي لَا تتبع الْغنم، والكسراء: الكسير» .
وَلم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد فَهُوَ صَالح الِاحْتِجَاج بِهِ عِنْده، وَقَالَ الْحَاكِم فِي أَوَاخِر كتاب الْحَج: إِسْنَاده صَحِيح. وَقَالَ فِي هَذَا الْبَاب: إِنَّه حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَفِي رِوَايَة الْحَاكِم «عَن يزِيد بن خَالِد» بدل «يزِيد ذُو مصر» وَأعله عبد الْحق فَقَالَ: أَبُو حميد وَيزِيد ليسَا بمشهورين - فِيمَا أعلم - وَلَا أعلم رَوَى عَن يزِيد إِلَّا أَبُو حميد وَلَا عَن [أبي] حميد إِلَّا ثَوْر بن يزِيد.
قلت: تبع فِي ذَلِك ابْن حزم فَإِنَّهُ أعله بهما لَكِن صحَّفها فَقَالَ فِي «محلاه» : وَجَاء خبر «أَنه لَا تُجزئ المستأصلة قرنها» وَلَا يَصح؛ لِأَنَّهُ من طَرِيق أبي جميل الرعيني عَن أبي مصر وهما مَجْهُولَانِ. هَذَا كَلَامه. وَكَذَا فِي نُسْخَة مُعْتَمدَة مِنْهُ - وَصَوَابه عَن أبي حميد - بِالْحَاء وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ - عَن يزِيد ذِي مصر - كَمَا قَدمته - وَيزِيد هَذَا رَوَى عَنهُ أَبُو حميد الرعيني وَغَيره، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَهُوَ أحد الْأَشْرَاف، وَعَن صَفْوَان بن عَمْرو عَن أمه قَالَت: قدم يزِيد ذُو مصر عَلَى(9/297)
مُعَاوِيَة فِي ثَلَاثَة آلَاف فَقَالَ: من هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: عَبِيدِي وموالي. فَقَالَ: إِنِّي لأمير الْمُؤمنِينَ وَمَا لي هَذَا. وَأَبُو حميد قد أخرج الْحَاكِم لَهُ وَصحح حَدِيثه كَمَا تقدم، فَهُوَ مُؤذن بِالْوُقُوفِ عَلَى معرفَة حَاله.
فَائِدَة: فِي بَيَان مَا وَقع فِيهِ من الْغَرِيب:
«الثرماء» بِالْمدِّ: (الَّذِي) ذهب بعض أسنانها. وَقيل: هُوَ سُقُوط الثَّنية. وَقيل: لَا يُقَال ذَلِك إِلَّا لمن سنه من قُدَّام كالثنية والرباعية. وَقيل: أَن تنقلع السن من أَصْلهَا. والمصفرة - بِضَم الْمِيم وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء - سميت بذلك؛ لِأَن صماخيها صَفِرا من الْأذن أَي: خلوا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هِيَ من أصفره إِذا أخلاه. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «نهايته» : وَإِن رويت المصفرة بِالتَّشْدِيدِ فللتكثير. قَالَ: وَقيل: هِيَ المهزولة لخلوها من السّمن. وَلِهَذَا جزم الْمَاوَرْدِيّ حَيْثُ قَالَ: الهزيلة الَّتِي اصفر لَوْنهَا من الهزال قَالَ الْأَزْهَرِي: وَرَوَاهُ شمر بالغين وَفَسرهُ عَلَى مَا فِي الحَدِيث وَلَا أعرفهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: رَوَاهُ شمر بالغين وَهِي حِينَئِذٍ من الصغار. والبخقاء: العوراء، وَقيل: البخق أَن يذهب الْبَصَر بِفَتْح الْعين. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: البخقاء: العوراء، وَقيل: البخق أَن يذهب الْبَصَر وَتَبقى الْعين قَائِمَة منفتحة. والمشيِّعة - بِكَسْر الْيَاء -: هِيَ الَّتِي لَا تزَال تتبع الْغنم، فَهِيَ أبدا تمشي وَرَاءَهَا. وَأما من فتح الْبَاء فَلِأَنَّهَا تحْتَاج إِلَى من يسقيها أَو يَسُوقهَا لتأخرها عَن الْغنم.(9/298)
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ضحى بكبشين موجوءين» .
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَابْن مَاجَه، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة عَائِشَة أَو [أبي] هُرَيْرَة قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ضحى دَعَا بكبشين عظيمين سمينين أملحين موجوءين أقرنين، فذبح أَحدهمَا عَن أمته من شهد لَهُ بالبلاغ وَشهد لله بِالتَّوْحِيدِ، ويذبح الآخر عَن مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد» . فِي إِسْنَاده عبد الله بن عقيل، وَقد أسلفنا فِي أَوَائِل هَذَا الْكتاب فِي بَاب الْوضُوء أَن جماعات احْتَجُّوا بِهِ وَأَن التِّرْمِذِيّ حسن حَدِيثه، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ سُفْيَان عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن عَائِشَة أَو عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ زُهَيْر بن مُحَمَّد [عَن عبد الله] بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن عَلّي بن الْحُسَيْن، عَن أبي رَافع مَرْفُوعا. وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ابْن عقيل، عَن عبد الرَّحْمَن بن جَابر، عَن أَبِيه مَرْفُوعا. قَالَ البُخَارِيّ: لَعَلَّه سمع من هَؤُلَاءِ. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي بَاب التَّفْسِير من «مُسْتَدْركه» فِي تَفْسِير سُورَة الْحَج من حَدِيث أبي رَافع الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ، وَلم يذكر فِيهِ «موجوءين» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح(9/299)
الْإِسْنَاد. وَفِيمَا قَالَه نظر؛ لِأَن فِي إِسْنَاده زُهَيْر بن مُحَمَّد وَهُوَ ذُو مَنَاكِير، وَابْن عقيل لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة فِيمَا حَكَاهُ أَبُو حَاتِم فِي «علله» عَنهُ: الَّذِي رَوَوْهُ عَن ابْن عقيل كلهم ثِقَات. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي عَيَّاش، عَن جَابر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذبح يَوْم النَّحْر كبشين أقرنين أملحين موجوءين» فِيهِ مَعَ أبي عَيَّاش هَذَا عنعنة ابْن إِسْحَاق، وَأَبُو عَيَّاش هَذَا رَوَى عَنهُ خَالِد بن أبي عمرَان، وَيزِيد بن أبي حبيب وَهُوَ مَسْتُور لم يتَحَقَّق حَاله. قَالَ عبد الْحق: لم أسمع فِيهِ بتجريح وَلَا بتعديل، وَذكر عَنهُ راويان. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء قَالَ: «ضحى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بكبشين أقرنين أملحين جدعين موجوءين» . فِيهِ قيس بن الرّبيع صَدُوق وَلَا يحْتَج بِهِ. ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق آخر فِيهِ الْحجَّاج بن أَرْطَاة، وَمن هَذَا الطَّرِيق أخرجه أَحْمد وَلَفظه: «بكبشين جدعين موجوءين» .
فَائِدَة: «الوجاء» بِكَسْر الْوَاو وَالْمدّ -: رض عروق الْأُنْثَيَيْنِ. قَالَ الْهَرَوِيّ: الخصيتان بحالهما. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَالصَّحِيح «موجوءين» أَي منزوعي الْأُنْثَيَيْنِ، قَالَه الْجَوْهَرِي وَغَيره.
قلت: وَيُؤَيّد هَذَا رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ [وَأحمد] عَن أبي الدَّرْدَاء «أَن(9/300)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ضحى بخصيين» وَقَالَ ابْن الْأَثِير: مِنْهُم من يرويهِ «موجيين» بِغَيْر همز عَلَى التَّخْفِيف، وَيكون من وجيته وجيًا فَهُوَ موجيّ فَقَالَ المطرزي فِي كتاب المعرب: موجيين وموجوين خطأ، وَالصَّوَاب موجوءين.
الحَدِيث السَّادِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خير الضحية الْكَبْش الأقرن» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عبَادَة بن نسي، عَن أَبِيه، عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خير الْكَفَن الْحلَّة، وَخير الضحية الْكَبْش الأقرن» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: نسي لَا يعرف حَاله وَآخر مَعَه فِي الْإِسْنَاد وَهُوَ حَاتِم بن أبي نصر. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: «خير الضَّحَايَا الْكَبْش الأقرن» وَفِي إِسْنَاده عفير بن معدان أَبُو عَائِذ الْحِمصِي وَهُوَ ضَعِيف،(9/301)
قَالَ أَحْمد: ضَعِيف مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: عفير بن معدان ضَعِيف فِي الحَدِيث، وَهَذَا حَدِيث غَرِيب. وَذكر حَدِيثه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من هَذِه الطَّرِيق وَضَعفه بقول التِّرْمِذِيّ، وَنقل عَن يَحْيَى وَالنَّسَائِيّ [أَنَّهُمَا قَالَا] فِي عفير: لَيْسَ بِثِقَة.
تَنْبِيه: قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي كتاب الْجَنَائِز عقب هَذَا الحَدِيث: الْحلَّة: ثَوْبَان أَحْمَرَانِ غَالِبا. هَذَا لَفظه، وَمَا رَأَيْت أحدا من أهل اللُّغَة قيدهما بالحمرة.
الحَدِيث السَّابِع عشر
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن التَّضْحِيَة بالهتماء» . يَعْنِي بِالْمُثَنَّاةِ فَوق.
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، قَالَ الرَّافِعِيّ: والهتماء هِيَ الَّتِي انْكَسَرَ سنّهَا أَو سَائِر أسنانها. وَفِي «الْغَرِيب» لأبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام مَا نَصه: وَأما حَدِيث طَاوس «فِي الهتماء يضحى بهَا» فَإِنَّهَا الْمَكْسُورَة الْأَسْنَان. وَنقل القَاضِي حُسَيْن عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: لَا يحفظ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْأَسْنَان شَيْئا.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بكبش أقرن فأضجعه وَقَالَ: بِسم الله، اللَّهُمَّ تقبل من مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد. ثمَّ ضحى بِهِ» .(9/302)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وَقد تقدم بِطُولِهِ فِي أول الْبَاب وَهُوَ الحَدِيث الثَّانِي مِنْهُ، وَقد رُوِيَ من غير طريقها أَيْضا.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «نحرنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْحُدَيْبِية الْبَدنَة عَن سَبْعَة وَالْبَقَرَة عَن سَبْعَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم وَأَصْحَاب «السّنَن» الْأَرْبَعَة من هَذَا الْوَجْه وَبِهَذَا اللَّفْظ، وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث حُذَيْفَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أشرك بَين الْمُسلمين الْبَقَرَة عَن سَبْعَة» قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ أَنه قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نشترك كل سَبْعَة فِي بَدَنَة وَنحن متمتعون» .
قلت: هَذِه الرِّوَايَة صَحِيحَة أخرجهَا مُسلم فِي «صَحِيحه» وَهَذَا لَفظه عَن جَابر قَالَ: «كُنَّا نتمتع مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْعُمْرَةِ فنذبح الْبَقَرَة عَن سَبْعَة نشترك فِيهَا» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مهلين بِالْحَجِّ فَأمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نشترك فِي الْإِبِل وَالْبَقر كل سَبْعَة منا فِي بَدَنَة» وَفِي رِوَايَة: «اشتركنا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْحَج وَالْعمْرَة كل سَبْعَة(9/303)
فِي بَدَنَة، فَقَالَ رجل: أيشترك فِي الْبَدنَة مَا يشْتَرك فِي الْجَزُور؟ قَالَ: مَا هِيَ إِلَّا من الْبدن. وَحضر جَابر الْحُدَيْبِيَة فَقَالَ: نحرنا يَوْمئِذٍ سبعين بَدَنَة اشتركنا كل سَبْعَة فِي بَدَنَة» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي «صَحِيحه» عَن جَابر قَالَ: «نحرنا يَوْم [الْحُدَيْبِيَة] سبعين بَدَنَة، الْبَدنَة عَن سَبْعَة اشْترك النَّفر فِي الْهَدْي» وَفِي رِوَايَة للبرقاني عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ قَالَ لنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «اشْتَركُوا فِي الْإِبِل وَالْبَقر كل سَبْعَة فِي بَدَنَة» وَفِي «صَحِيح الْحَاكِم» بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث أبي الْأسود السّلمِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «كنت سَابِع سَبْعَة [مَعَ] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر فَأَدْرَكنَا الْأَضْحَى فَأمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَجمع كل رجل منا درهما، فاشترينا أضْحِية بسبعة دَرَاهِم وَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، لقد غلينا بهَا. فَقَالَ: إِن أفضل الضَّحَايَا أغلاها وأسمنها. قَالَ: ثمَّ أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخذ رجل بِرَجُل، وَأخذ رجل بِرَجُل، وَرجل بيد، وَرجل بيد، وَرجل بقرن، وَرجل بقرن، وَذبح السَّابِع وَكَبرُوا عَلَيْهَا جَمِيعًا» وَفِي «الْمُسْتَدْرك» و «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر فَحَضَرَ الْأَضْحَى، فاشتركنا فِي الْبَقر سَبْعَة وَفِي الْبَعِير عشرَة» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب. وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا فِي «سنَنه» وَجَمِيع رِجَاله ثِقَات.(9/304)
قلت: وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر فَحَضَرَ النَّحْر فاشتركنا فِي الْبَقر سَبْعَة، وَفِي الْبَعِير سَبْعَة أَو عشرَة» قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : وَفِي حَدِيث رَافع بن خديج: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَجْعَل فِي قسم الْغَنَائِم عشر من الشياه بِبَعِير» دَلِيل عَلَى أَن الْبَدنَة تقوم عَن عشرَة إِذا (ذبحت) .
الحَدِيث الْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تذبحوا إِلَّا الثَّنية إِلَّا أَن يعسر عَلَيْكُم فاذبحوا الْجذع من الضَّأْن» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إِلَّا أَن لَفظه: «لَا تذبحوا إِلَّا مُسِنَّة إِلَّا أَن يعسر عَلَيْكُم فتذبحوا جَذَعَة من الضَّأْن» وَهَكَذَا رَوَاهُ د س ق فِي «سُنَنهمْ» : «لَا تذبحوا إِلَّا مُسِنَّة» وَلم أجد فِي شَيْء من طرق الحَدِيث الثَّنية كَمَا ذكره المُصَنّف، نعم هِيَ هِيَ. قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح مُسلم» نقلا عَن الْعلمَاء: المسنة هِيَ الثَّنية من كل شَيْء من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم فَمَا فَوْقهَا. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: والمسنة من الْبَقر مَا لَهَا ثَلَاث وَدخلت فِي الرَّابِعَة. وَقيل: هِيَ الَّتِي كَمَا(9/305)
دخلت فِي الثَّالِثَة. ثمَّ اعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث ظَاهِرَة مُشكل؛ فَإِن مُقْتَضَاهُ الْجَذعَة من الضَّأْن لَا تُجزئ إِلَّا إِذا عجز عَن المسنة، وَلكنه مِمَّا يجب تَأْوِيله؛ لِأَن الْأمة مجتمعة عَلَى خلاف ظَاهره؛ فَإِنَّهُم كلهم جوزوا جذع الضَّأْن إِلَّا مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر وَالزهْرِيّ أَنه لَا يُجزئ سَوَاء قدر عَلَى مُسِنَّة أم لَا، فَيحمل هَذَا الحَدِيث عَلَى الْأَفْضَل والأكمل، وَيكون تَقْدِيره يسْتَحبّ لكم أَن لَا تذبحوا إِلَّا مُسِنَّة فَإِن عجزتم فجذعة.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من رَاح فِي السَّاعَة الأولَى فَكَأَنَّمَا قرب بَدَنَة. ثمَّ ذكر الْبَقَرَة، ثمَّ ذكر الْكَبْش الأقرن» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد سبق بِطُولِهِ وفوائده فِي بَاب صَلَاة الْجُمُعَة وَاضحا.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «دم عفراء أحب إِلَى الله من دم سوداوين» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا [مَوْقُوفا] عَلَى أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ: قَالَ البُخَارِيّ: لَا يَصح رَفعه. وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ(9/306)
الِاخْتِلَاف فِي رَفعه وَوَقفه، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَأَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» من حَدِيث كَبِيرَة بنت سُفْيَان مَرْفُوعا: «أهريقوا فَإِن دم عفراء أَزْكَى عِنْد الله من دم سوداوين» وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن مسمول وَقد ضعفه غير وَاحِد، وَرَوَى الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «دم الشَّاة الْبَيْضَاء عِنْد الله أَزْكَى من دم السوداوين» وَفِيه حَمْزَة النصيبي قَالَ ابْن عدي: كَانَ يضع الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من ذبح قبل الصَّلَاة فَإِنَّمَا يذبح لنَفسِهِ، وَمن ذبح بعد الصَّلَاة فقد تمّ نُسكه، وَأصَاب سنة الْمُسلمين» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ، وَأخرجه مُسلم أَيْضا بِنَحْوِهِ، قَالَ الرَّافِعِيّ: فِي رِوَايَة: «من صَلَّى صَلَاتنَا هَذِه وَذبح بعْدهَا فقد أصَاب النّسك» .
قلت: هَذِه الرِّوَايَة صَحِيحَة من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَقد(9/307)
سلف بِطُولِهِ فِي الْبَاب، لَكِن لَيْسَ فِيهِ لَفْظَة «هَذِه» وَلَفْظَة: «من صَلَّى صَلَاتنَا ونسك نسكنا فقد أصَاب النّسك» وَهِي بِمَعْنَاهُ سَوَاء. قَالَ الرَّافِعِيّ: «وَكَانَ (يقْرَأ فِي الأولَى «ق» وَفِي الثَّانِيَة «اقْتَرَبت» ويخطب خطْبَة متوسطة» . قلت: قِرَاءَته عَلَيْهِ السَّلَام «ق» و «اقْتَرَبت» تقدم فِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ، وخطبته خطْبَة متوسطة تقدم فِي الْجُمُعَة قَالَ: و «كَانَ لَا يطول الصَّلَاة» .
قلت: لَا شكّ فِي ذَلِك فَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ من أخف النَّاس صَلَاة فِي تَمام» وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَقد سبق بَعْضهَا فِي كتاب صَلَاة الْجَمَاعَة.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَرَفَة كلهَا موقف، وَأَيَّام منى كلهَا منحر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث جُبَير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «كل عَرَفَات موقف، وَارْفَعُوا عَن عُرَنَة، وكل مُزْدَلِفَة موقف، وَارْفَعُوا عَن محسر، وكل فجاج منى منحر، وَفِي كل أَيَّام التَّشْرِيق ذبح» روياه من حَدِيث سعيد بن عبد الْعَزِيز، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي حُسَيْن، عَن جُبَير بن مطعم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالصَّحِيح أَنه عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن جُبَير مُرْسلا. يَعْنِي أَن سُلَيْمَان الْمَذْكُور لم يدْرك جُبَير عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «أَيَّام التَّشْرِيق(9/308)
كلهَا ذبح» قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو معبد، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى أَن عَمْرو بن دِينَار حَدثهُ عَن جُبَير بن مطعم مَرْفُوعا بِمثلِهِ. قَالَ: وَرَوَاهُ ابْن جريج، عَن عَمْرو بن دِينَار أَن نَافِع بن جُبَير بن مطعم أخبرهُ، عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد سَمَّاهُ نَافِع فَنسيته - «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لرجل من غفار: قُم فَأذن، أَنه لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا مُؤمن، وَأَنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب أَيَّام منى» زَاد سُلَيْمَان بن مُوسَى: «وَذبح» يَقُول ابْن جريج: «أَيَّام ذبح» قَالَ: [وَرَوَاهُ] مُعَاوِيَة بن يَحْيَى الصَّدَفِي [عَن الزُّهْرِيّ] عَن سعيد بن الْمسيب [مرّة عَن أبي سعيد، و] مرّة عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «أَيَّام التَّشْرِيق كلهَا ذبح» قَالَ ابْن عدي: وهما جَمِيعًا غير محفوظين لَا يرويهما غير الصَّدَفِي. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَمَا رُوِيَ أَن الْأَضَاحِي إِلَى آخر الشَّهْر لمن أَرَادَ أَن يستأني بهَا فَفِي بعضه إرْسَال وَفِي بعضه جَهَالَة.
قلت: وَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا وَقَالَ: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مَوْضُوع عِنْدِي، وَلم يقرأه عَلَى النَّاس. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر عَنهُ: إِنَّه حَدِيث كذب.(9/309)
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الذّبْح لَيْلًا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث سُلَيْمَان بن سَلمَة الخبائري، ثَنَا بَقِيَّة بن الْوَلِيد، حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يضحى لَيْلًا» والخبائري هَذَا مَتْرُوك كَمَا قَالَه أَبُو حَاتِم وَغَيره. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: كَانَ يكذب. وَبَقِيَّة قد عرفت الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مَضَى غير مرّة. وَأَبُو مُحَمَّد هَذَا لَا أعرفهُ، وَذكره عبد الْحق من حَدِيث بَقِيَّة، عَن مُبشر بن عبيد، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الذّبْح بِاللَّيْلِ» ثمَّ أعله بمبشر وَقَالَ: إِنَّه مَتْرُوك.
قلت: وَنسبه أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ إِلَى الْوَضع أَيْضا، وَبَوَّبَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بَابا فِي التَّضْحِيَة لَيْلًا من أَيَّام منى، وَذكر فِيهِ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد أَنه سُئِلَ عَن الْأَضْحَى بِاللَّيْلِ فَقَالَ: لَا. وَعَن الْحسن قَالَ: «نهي عَن جدَاد اللَّيْل وحصاد اللَّيْل والأضحى بِاللَّيْلِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك من شدَّة حَال النَّاس، كَانَ الرجل يَفْعَله لَيْلًا فنهي عَن ذَلِك، ثمَّ رخص فِي ذَلِك» .
وَهَذَا مُرْسل أَو مَوْقُوف.(9/310)
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أهْدَى مائَة بَدَنَة فَنحر مِنْهَا بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ وَأمر عليًّا فَنحر الْبَاقِي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر الطَّوِيل، وَقد أسلفناه بِطُولِهِ فِي الْحَج، وَوَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ: «فَنحر مِنْهَا ستًّا وَسِتِّينَ» وَهُوَ من النَّاسِخ، وَقد ذكره عَلَى الصَّوَاب بعد هَذَا الْموضع بأوراق فِي أثْنَاء الحكم الثَّالِث فِي الْأكل من الْأُضْحِية. وَوَقع فِي «مُسْند أَحْمد» و «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث عَلّي - كرم الله وَجهه - قَالَ: «لما نحر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بدنه فَنحر ثَلَاثِينَ بِيَدِهِ وَأَمرَنِي فنحرت سائرها» وَفِي إِسْنَاده ابْن إِسْحَاق، حَدثنِي رجل، عَن عبد الله بن أبي نجيح. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَجَاء فِي حَدِيث غرفَة بن الْحَارِث «أَنه أُتِي بِالْبدنِ فَقَالَ: ادعوا لي أَبَا حسن. فدعي لَهُ عَلّي بن أبي طَالب فَقَالَ لَهُ: خُذ بِأَسْفَل الحربة. وَأخذ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِأَعْلَاهَا ثمَّ طَعنا بهَا الْبدن» . فَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نحر بِيَدِهِ وَحده ثَلَاثِينَ، وَنحر هُوَ وَعلي بن أبي طَالب ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فأضاف الْجَمِيع إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَيحصل الْجمع بَين الْأَحَادِيث.
قلت: وَإِنَّمَا يلتجأ إِلَى الْجمع عِنْد صِحَة الْمعَارض، وَهَذَا(9/311)
الْمعَارض ضَعِيف؛ فَإِن فِي إِسْنَاده عبد الله بن الْحَارِث وَلَا يعرف لَهُ حَال وَإِن ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَلَا يعرف لَهُ راوٍ غير حَرْمَلَة بن [عمرَان] قَالَ ابْن الْقطَّان: وَقد أخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث فِي غير «صَحِيحه» كَمَا أخبر بذلك ابْن السكن، وَإِنَّمَا لم يُخرجهُ فِيهِ لجَهَالَة عبد الله.
فَائِدَة: ذكر ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَوْصَى بذلك سني عمره وَهِي ثَلَاث وَسِتُّونَ بَدَنَة عَن كل سنة بَدَنَة» .
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يذبح أضحيته بالمصلى» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَهَذَا لَفظه: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يذبح أَو ينْحَر بالمصلى» وَاللَّفْظ الَّذِي ذكره المُصَنّف هُوَ لفظ أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَأْمر نِسَاءَهُ أَن يلين ذبح هديهن» .(9/312)
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لفاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «قومِي إِلَى أضحيتك فاشهديها، فَإِنَّهُ بِأول قَطْرَة من دَمهَا يغْفر لَك مَا سلف من ذنوبك» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من حَدِيث عمرَان بن الْحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول (قَالَ لفاطمة: قومِي إِلَى أضحيتك فاشهديها؛ فَإِنَّهُ يغْفر لَك عِنْد أول قَطْرَة تقطر من دَمهَا كل ذَنْب عملتيه. وَقَوْلِي: إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي [ومماتي] لله رب الْعَالمين لَا شريك لَهُ، وَبِذَلِك أمرت وَأَنا من الْمُسلمين. قَالَ عمرَان: يَا رَسُول الله، هَذَا لَك وَلأَهل بَيْتك خَاصَّة - وَأهل ذَلِك أَنْتُم - أم للْمُسلمين عَامَّة؟ قَالَ: بل للْمُسلمين عَامَّة» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: فِيهِ نظر؛ لِأَن فِي إِسْنَاده أَبَا حَمْزَة الثمالِي ثَابت بن أبي صَفِيَّة مولَى الْمُهلب بن أبي صفرَة وَهُوَ ضَعِيف جدًّا. قَالَ أَحْمد وَابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن حبَان: فحش خَطؤُهُ، وَكثر وهمه فَاسْتحقَّ التّرْك. قَالَ الْحَاكِم: وَلِهَذَا الحَدِيث شَاهد من حَدِيث عَطِيَّة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لفاطمة: «يَا فَاطِمَة، قومِي إِلَى أضحيتك فاشهديها فَإِن لَك بِأول قَطْرَة تقطر من دَمهَا يغْفر لَك(9/313)
مَا سلف من ذنوبك. قَالَت: يَا رَسُول الله، هَذَا لنا أهل الْبَيْت خَاصَّة أَو لنا وللمسلمين عَامَّة؟ قَالَ: بل لنا وللمسلمين عَامَّة - مرَّتَيْنِ» .
قلت: هَذَا الشَّاهِد يحْتَاج إِلَى دعائم؛ فعطية واه، وَفِيه مَعَه دَاوُد بن عبد الحميد الْكُوفِي، قَالَ أَبُو حَاتِم: حَدِيثه يدل عَلَى ضعفه. وَقَالَ الْعقيلِيّ: رَوَى عَن عَمْرو بن قيس الْملَائي أَحَادِيث لَا يُتَابع عَلَيْهَا مِنْهَا هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَفِيه رِوَايَة أُخْرَى من غير هَذَا الْوَجْه فِيهَا لين أَيْضا.
قلت: لَعَلَّه أَرَادَ الطَّرِيقَة الأولَى فتلخص ضعف الْأَصْلِيّ وَالشَّاهِد، لَا جرم قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث سعيد هَذَا [فَقَالَ] حَدِيث مُنكر. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ، وَمن طَرِيق عَمْرو بن خَالِد، عَن مُحَمَّد بن عَلّي، عَن آبَائِهِ، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لفاطمة: «يَا فَاطِمَة [قومِي] فاشهدي أضحيتك، أما إِن لَك بِأول قَطْرَة تقطر من دَمهَا مغْفرَة لكل ذَنْب، أما إِنَّه ليجاء بهَا يَوْم الْقِيَامَة بِلُحُومِهَا ودمائها سبعين ضعفا حَتَّى تُوضَع فِي ميزانك. فَقَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: يَا رَسُول الله، أهذه لأهل مُحَمَّد خَاصَّة - فهم أهل لما خصوا بِهِ من خير - أَو لآل مُحَمَّد وَالنَّاس عَامَّة؟ [فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: بل هِيَ لآل مُحَمَّد وَالنَّاس عَامَّة] » قَالَ الْبَيْهَقِيّ: عَمْرو بن خَالِد ضَعِيف. وَسكت عَن الطَّرِيقَيْنِ الْأَوَّلين، وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ، وَذكره الْحَاكِم فِي كتاب مَنَاقِب فَاطِمَة من هَذِه الطَّرِيق الَّتِي ضعفها الْبَيْهَقِيّ وَلم(9/314)
يُضعفهُ وَقَالَ بدل «عَن آبَائِهِ» : «عَن مُحَمَّد بن عَلّي بن الْحُسَيْن، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عَلّي» وَهُوَ المُرَاد أَيْضا.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
عَن شَدَّاد بن أَوْس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله كتب الْإِحْسَان فِي كل شَيْء، فَإِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة، وَإِذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة، وليحد أحدكُم شفرته، وليرح ذَبِيحَته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم مُنْفَردا بِهِ، وَقد سلف فِي بَاب الْقصاص وَاضحا، وَوَقع فِي الرَّافِعِيّ «فِي كل شَيْء» بدل: «عَلَى كل شَيْء» وَالْمَوْجُود فِي أَحْمد وَمُسلم وَالسّنَن الْأَرْبَعَة «عَلَى» وَقد ذكره كَذَلِك الرَّافِعِيّ فِي الْموضع السالف.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ضحى بكبشين أملحين، فَلَمَّا وجههما قَرَأَ (وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض حَنِيفا) الْآيَتَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد ... بن إِسْحَاق، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي عَيَّاش عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «ذبح النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم النَّحْر كبشين أملحين أقرنين موجوءين، فَلَمَّا أوجههمَا قَالَ: إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض عَلَى مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين، إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين لَا(9/315)
شريك لَهُ، وَبِذَلِك أمرت وَأَنا من الْمُسلمين، اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك، اللَّهُمَّ عَن مُحَمَّد وَأمته، بِسم الله وَالله أكبر ثمَّ ذبح» . وَقد تقدم قَرِيبا - بأوراق فِي هَذَا الْبَاب - الْكَلَام عَلَى إِسْنَاده وَهُوَ الحَدِيث الْخَامِس عشر مِنْهُ. وَأخرجه أَحْمد [وَالْحَاكِم] فِي «مُسْتَدْركه» مُصَرحًا بِالتَّحْدِيثِ لِابْنِ إِسْحَاق، وَبِزِيَادَة أُخْرَى فَإِنَّهُ أخرجه من حَدِيثه قَالَ: حَدثنِي يزِيد بن أبي حبيب، عَن خَالِد بن أبي عمرَان، عَن أبي عَيَّاش، عَن جَابر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام ذبح يَوْم الْعِيد كبشين ثمَّ قَالَ حِين وجههما: (إِنِّي وجهت وَجْهي) إِلَى قَوْله (وَأَنا أول الْمُسلمين) بِسم الله وَالله أكبر، اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك من مُحَمَّد وَأمته» وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا فِي «سنَنه» من طَرِيق أبي دَاوُد بِنَحْوِ من لَفْظهمَا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: قد يرْوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من وَجه لَا يثبت مثله «أَنه ضحى بكبشين» فَقَالَ فِي أَحدهمَا بعد ذكر الله: «اللَّهُمَّ عَن مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد» وَفِي الآخر: «اللَّهُمَّ عَن مُحَمَّد وَأمة مُحَمَّد» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِي حَدِيث عَائِشَة أَو أبي هُرَيْرَة. ثمَّ ذكر الحَدِيث الْخَامِس عشر من أَحَادِيث هَذَا الْبَاب ثمَّ قَالَ: وَفِيمَا ذكرنَا قبل هَذَا كِفَايَة.
استنادًا إِلَى حَدِيث عَائِشَة الثَّابِت فِي مُسلم، وَهُوَ الحَدِيث الثَّانِي من هَذَا الْبَاب، وَإِلَى حَدِيث جَابر الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَيْضا.(9/316)
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ عِنْد الضحية بذلك الْكَبْش: اللَّهُمَّ تقبل من مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الْبَاب، وَمِمَّا لم يقدمهُ هُنَاكَ أَن أَحْمد فِي «مُسْنده» أخرجه من حَدِيث زُهَيْر بن عبد الله بن مُحَمَّد، عَن عَلّي بن حُسَيْن، عَن أبي رَافع «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا ضحى اشْتَرَى كبشين سمينين أملحين أقرنين، فَإِذا صَلَّى وخطب النَّاس أَتَى بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِم فِي مُصَلَّاهُ فذبحه بِنَفسِهِ بالمدية ثمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا عَن أمتِي جَمِيعًا مِمَّن شهد لَك بِالتَّوْحِيدِ وَشهد لي بالبلاغ. ثمَّ يُؤْتَى بِالْآخرِ فيذبحه بِنَفسِهِ وَهُوَ يَقُول: هَذَا عَن مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد. ويطعمهما جَمِيعًا الْمَسَاكِين وَيَأْكُل هُوَ وَأَهله مِنْهُمَا، فَمَكثْنَا سِنِين لَيْسَ رجل من بني هَاشم يُضحي قد كَفاهُ الله الْمُؤْنَة برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالْغُرْم» .
الحَدِيث [الثَّالِث] بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا دخل الْعشْر وَأَرَادَ أحدكُم أَن يُضحي فَلَا يمس من شعره وَلَا بشره شَيْئا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح تقدم بَيَانه وَالْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي أول الْبَاب، وَوَقع هُنَا فِي الرَّافِعِيّ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أهْدَى» وَلم ينْقل أَنه يتَلَفَّظ بِشَيْء، فحدفته اعْتِمَادًا عَلَى ذكري لَهُ فِي آخر الْحَج.(9/317)
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كنت أفتل قلائد هدي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ يقلدها هُوَ بِيَدِهِ، ثمَّ يبْعَث بهَا فَلَا يحرم عَلَيْهِ شَيْء أحله الله - تَعَالَى - لَهُ حَتَّى ينْحَر الْهَدْي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتهَا.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أوجبت عَلَى نَفسِي بَدَنَة وَهِي تطلب مني بسوق. فَقَالَ: انحرها وَلَا تبعها وَلَو طلبت بِمِائَة بعير» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من رِوَايَة الجهم بن الْجَارُود، عَن سَالم بن عبد الله، عَن أَبِيه قَالَ: «أهْدَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بختيًّا، فَأعْطَى بهَا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ثَلَاثمِائَة دِينَار فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أهديت بختيًّا، فَأعْطيت بهَا ثَلَاثمِائَة دِينَار فأبيعها وأشتري بِثمنِهَا بدنًا؟ قَالَ: لَا، انحرها إِيَّاهَا» . قَالَ البُخَارِيّ: لَا يعرف لجهم سَمَاعا من سَالم. نَقله الْمُنْذِرِيّ عَنهُ، وَتَابعه عبد الْحق فَقَالَ فِي «أَحْكَامه» : لَا يعرف لَهُ سَماع من سَالم.(9/318)
قَالَ ابْن الْقطَّان: وجهم مَجْهُول الْحَال، لَا يعرف رَوَى عَنهُ غير أبي عبد الرَّحِيم خَالِد بن أبي [يزِيد] وَبِذَلِك من غير مزِيد ذكره البُخَارِيّ وَابْن أبي حَاتِم.
وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فَقَالَ فِي «الْمِيزَان» : [فِيهِ] جَهَالَة. وَقَالَ فِي «الضُّعَفَاء» : مَجْهُول.
فَائِدَة: قَوْله: «أهديت بختيًّا» رَأَيْته فِي نُسْخَة مُعْتَمدَة من «سنَن أبي دَاوُد» بنُون ثمَّ جِيم ثمَّ مثناة تَحت ثمَّ بَاء مُوَحدَة ثمَّ ألف ومكتوب عَلَى ذَلِك عَلامَة تَصْحِيح، وَكَذَلِكَ رَأَيْته عَلَى هَذَا الضَّبْط فِي كتاب ابْن الْقطَّان عَلَى عبد الْحق وَكَذَلِكَ شَرحه ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» فَقَالَ: النجيب من الْإِبِل نوع مِنْهُ مَعْرُوف وَهُوَ من خِيَارهَا. وَذكره الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «أَطْرَافه» أَنه قَالَ: نجيبة بِالْهَاءِ فِي آخِره. وَكَذَا شَرحه ابْن [معن] فِي «تنقيبه عَلَى الْمُهَذّب» فَقَالَ: قَوْله «أهديت نجيبة» النجائب من الْإِبِل: الَّتِي يركبهَا أَصْحَاب الْبَرِيد وَالسَّابِقُونَ إِلَى المَاء. وَقيل: المُرَاد هُنَا الْكَرِيمَة. والنجب: النجباء نوع من الْإِبِل نجاب الرّكُوب. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَقع فِي «الْمُهَذّب» : «نجيبة» وَالَّذِي قَالَه المحدثون وَوَقع فِي روايتهم «نجيبًا» بِغَيْر هَاء. قلت:(9/319)
لَا إنكارها عَلَى صَاحب «الْمُهَذّب» فقد وجدت كَمَا عَرفته، وَأما الْمُنْذِرِيّ فضبطه فِي «اختصاره للسنن» بباء مُوَحدَة مَضْمُومَة ثمَّ خاء مُعْجمَة سَاكِنة ثمَّ مثناة فَوق ثمَّ من تَحت مُشَدّدَة. وَكَذَا وَقع فِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» لكنه قَالَ بُخْتِيَّة بهاء التَّأْنِيث ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد ذَلِك: كَذَا قَالَ: «بُخْتِيَّة» وَفِي ذَلِك إِشَارَة إِلَى توقف فِي ذَلِك. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَالْبخْت من الْإِبِل مَعْرُوف، وَقيل: هُوَ عَرَبِيّ، وَهِي طوال الْأَعْنَاق. وَقيل: إبل غِلَاظ ذَات سنَامَيْنِ الْوَاحِدَة بختى وَالْأُنْثَى بُخْتِيَّة وَجَمعهَا بخاتى غير مَصْرُوف وَلَك أَن تخفف التَّاء فَتَقول بَخَاتِي وَهَذِه قَاعِدَة مَشْهُورَة لأهل الْعَرَبيَّة.
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «اشْتريت كَبْشًا لأضحي، فَعدا الذِّئْب فَأخذ مِنْهُ الألية، فَسَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: ضح بِهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد عَن وَكِيع، ثَنَا سُفْيَان، عَن جَابر، عَن مُحَمَّد بن قرظة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «اشْتريت كَبْشًا أضحي بِهِ فَعدا الذِّئْب [فَأخذ الألية] فَسَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: ضح بِهِ» . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث جَابر بن يزِيد، عَن مُحَمَّد بن قرظة الْأنْصَارِيّ، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «ابتعنا كَبْشًا نضحي بِهِ،(9/320)
فَأصَاب الذِّئْب من أليته» وَفِي بعض النّسخ «أَو من أُذُنه، فسألنا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمرنَا أَن نضحي بِهِ» وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «ثقاته» بالسند الْمَذْكُور وَلَفظه: «اشْتريت كَبْشًا أضحي بِهِ فَقطع الذِّئْب أليته - أَو من الألية فَسَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمرنِي أَن أضحي بِهِ» وَرَوَاهُ ابْن حزم فِي «محلاه» بالسند الْمَذْكُور وَلَفظه: «فَعدا الذِّئْب عَلَى ذَنبه فَقَطعه، فَسَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: ضح بِهِ» وَجَابِر هَذَا هُوَ الْجعْفِيّ، وَقد سلفت حَالَته فِي بَاب الْأَذَان، قَالَ أَبُو دَاوُد: لَيْسَ فِي كتابي لَهُ سُوَى حَدِيث فِي السَّهْو. وَمُحَمّد بن قرظة لَا يعرف لَهُ حَال كَمَا قَالَه ابْن الْقطَّان، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : مَا رَوَى عَنهُ سُوَى جَابر الْجعْفِيّ.
قلت: لَكِن ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَأما ابْن حزم فَإِنَّهُ أعله فِي «محلاه» بجابر فَقَالَ: أثر رَدِيء، وَجَابِر كَذَّاب. وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بالسند الْمَذْكُور بِلَفْظ: «اشْتريت شَاة لأضحي بهَا، فَخرجت فَأخذ الذِّئْب أليتها، فَسَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: ضح بهَا» قَالَ: وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: «اشترينا كَبْشًا لنضحي بِهِ فَقطع الذِّئْب أليته أَو من أليته - فَسَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمرنِي أَن أضحي بِهِ» قَالَ: وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ شُعْبَة بن الْحجَّاج [وَشريك] بن عبد الله عَن جَابر الْجعْفِيّ، إِلَّا أَن جَابِرا غير مُحْتَج بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَى الْحجَّاج ابْن أَرْطَاة، عَن شيخ من أهل الْمَدِينَة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا بَأْس بالأضحية المقطوعة الذَّنب»(9/321)
قَالَ: وَهَذَا مُخْتَصر من الحَدِيث الأول؛ فقد رَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة، عَن حجاج، عَن عَطِيَّة، عَن أبي سعيد «أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن شَاة قطع [الذِّئْب] ذنبها يضحى بهَا؟ فَقَالَ: ضح بهَا» .
وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» بعد أَن أخرجه من رِوَايَة جَابر، عَن مُحَمَّد بن قرظة، عَن أبي سعيد بِمثل حَدِيث سُفْيَان: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِقَوي. قَالَ: وَقيل: إِن مُحَمَّدًا بن قرظة لم يسمع من أبي سعيد الْخُدْرِيّ. قَالَ: وَكَانَ شُعْبَة يصف جَابر بن يزِيد بِالْحِفْظِ وَيحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: رَوَاهُ شُعْبَة وسُفْيَان وَاخْتلف فِيهِ فَقَالَ شُعْبَة: عَن جَابر، عَن مُحَمَّد بن قرظة عَن أبي سعيد. وَقَالَ الثَّوْريّ: عَن جَابر، عَن قرظة، عَن أبي سعيد. قَالَ: وَالثَّوْري أحفظ. وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» مثله سَوَاء.
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن عليًّا قدم ببدن من الْيمن وسَاق النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مائَة بَدَنَة، فَنحر مِنْهَا ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَة بِيَدِهِ، وَنحر عَلّي مَا بَقِي، ثمَّ أَمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تُؤْخَذ بضعَة من كل بَدَنَة فتجعل فِي قدر، فأكلا من لَحمهَا وحسيا من مرقها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» وَقد سلف فِي الْحَج بِطُولِهِ.(9/322)
فَائِدَة: البَضعة بِفَتْح الْبَاء لَا غير، وَإِنَّمَا أَخذ عَلَيْهِ السَّلَام من كل بَدَنَة بضعَة وَشرب من مرقها ليَكُون قد تنَاول من كل وَاحِدَة شَيْئا.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أقوم عَلَى بدنه وَأقسم جلودها وجلالها، وَأَن لَا أعطي الجزار مِنْهَا شَيْئا، وَقَالَ: نَحن نُعْطِيه من عندنَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
فَائِدَة: الْجلَال - بِكَسْر الْجِيم - جمع جلّ.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَأْكُل من كبد أضحيته» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ - كَمَا سلف - فِي بَاب صَلَاة الْعِيدَيْنِ فِي الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين مِنْهُ.
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «دف نَاس من أهل الْبَادِيَة حَضْرَة الْأُضْحِية زمن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ادخروا ثَلَاثًا - وَفِي رِوَايَة: لثلاث - ثمَّ تصدقوا بِمَا بَقِي، فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك قَالُوا: يَا رَسُول الله، إِن(9/323)
النَّاس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون مِنْهَا الودك. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: وَمَا ذَاك؟ قَالُوا: نهيت أَن نَأْكُل لُحُوم الْأَضَاحِي بعد ثَلَاث. قَالَ: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ من أجل الدافة الَّتِي دفت، فَكُلُوا وتصدقوا وَادخرُوا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَاللَّفْظ لمُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ قَالَت: «الضحية كُنَّا نملح مِنْهُ فنقدم بِهِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا [إِلَّا] ثَلَاثَة أَيَّام. وَلَيْسَت بعزيمة، وَلَكِن أَرَادَ أَن نطعم مِنْهُ وَالله أعلم» وَفِي لفظ لَهُ عَن عَابس بن ربيعَة قلت لعَائِشَة: «أنهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُؤْكَل من لُحُوم الْأَضَاحِي فَوق ثَلَاث؟ قَالَت: مَا فعله إِلَّا فِي عَام جَاع النَّاس فِيهِ فَأَرَادَ أَن يطعم الْغَنِيّ وَالْفَقِير» .
قلت: وَفِي الْبَاب عَن جَابر، وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع - أخرجهُمَا الشَّيْخَانِ - وَبُرَيْدَة، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ.
(أخرجهُمَا مُسلم) قَالَ الرَّافِعِيّ: وَجَاء فِي رِوَايَة: «كلوا وَادخرُوا، وَاتَّجرُوا» .(9/324)
قلت: هَذِه الرِّوَايَة حَسَنَة رويناها فِي سنَن أبي دَاوُد من حَدِيث نُبَيْشَة - عَلَى وزن عُيَيْنَة - الْهُذلِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «كُنَّا نَهَيْنَاكُمْ عَن لحومها أَن تَأْكُلُوهَا فَوق ثَلَاث لكَي تَسَعكم، (جَاءَكُم) الله بِالسَّعَةِ، فَكُلُوا وَادخرُوا وَاتَّجرُوا، أَلا وَإِن هَذِه الْأَيَّام أَيَّام أكل وَشرب وَذكر الله» وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» .
فَائِدَة: قَالَ الرَّافِعِيّ: «اتَّجرُوا» أَي اطْلُبُوا الْأجر بِالصَّدَقَةِ. قَالَ: وَتعرض للادخار لأَنهم أرجعوه فِيهِ فَقَالَ: كلوا فِي الْحَال إِن شِئْتُم. وَادخرُوا إِن شِئْتُم وَكَذَا قَالَ ابْن الْأَثِير أَنه أَمر من الْأجر، أَي: اطْلُبُوا بِهِ الْأجر وَالثَّوَاب. قَالَ: وَلَو كَانَ من التِّجَارَة لَكَانَ بتَشْديد الرَّاء، وَالتِّجَارَة فِي الضَّحَايَا لَا تصح؛ لِأَن بيعهَا فَاسد، إِنَّمَا يُؤْكَل وَيتَصَدَّق مِنْهَا. وَقَالَ ابْن الصّلاح: «اتَّجرُوا» عَلَى وزن اتَّخذُوا وَهُوَ بِمَعْنى ائتجروا بِالْهَمْز من الْأجر؛ لقَولهم فِي الْإِزَار: يتزر وَقد [صحّح ذَلِك من حَيْثُ] اللُّغَة الْخطابِيّ والهروي. قَالَ الْخطابِيّ: أَصله ايتجروا عَلَى وزن افتعلوا يُرِيد الصَّدَقَة الَّتِي يبتغى [أجرهَا وثوابها] ثمَّ قيل اتَّجرُوا كَمَا يُقَال: اتَّخذت [الشَّيْء] وَأَصله ايتخذته، وَهَذَا من الْأَخْذ هُوَ من الْأجر، وَلَيْسَ من بَاب التِّجَارَة. وَقد أَبَى الزَّمَخْشَرِيّ الْهَمْز؛ لِأَن الْهَمْز(9/325)
لَا يدْخل فِي التَّاء قَالَ: وَقد غلط من قَرَأَ «الَّذِي أتمن أَمَانَته» . وَقَوْلهمْ: اتزر عَامي والفصحاء عَلَى ائتزر.
فَائِدَة ثَانِيَة: قَوْلهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «دف نَاس» هُوَ بتَشْديد الْفَاء أَي: جَاءَ. قَالَ أهل اللُّغَة: الدافة: قومٍ يَسِيرُونَ جمَاعَة سيرًا لَيْسَ بالشديد يُقَال لَهُم: يدففون تدفيفًا. والبادية والبدو بِمَعْنى، وَهُوَ مَأْخُوذ من البُدُو وَهُوَ الظُّهُور. وَقَوْلها: «حضر» هُوَ بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة، هَكَذَا رَوَاهُ الْأَكْثَر، وَقَيده بَعضهم بِفَتْح الضَّاد، وَالْمعْنَى وَاحِد وَهُوَ الترف، وَيجوز فتح الْحَاء وَكسرهَا وَضمّهَا ثَلَاث لُغَات حكاهن ابْن السّكيت وَغَيره. وَقَوْلها: «ويجملون الودك» هُوَ بِالْجِيم وَيجوز ضم الْيَاء وَفتحهَا وَهُوَ أفْصح وَهُوَ الإذابة.
تَنْبِيه: حَكَى الرَّافِعِيّ هُنَا خلافًا فِي أَنه لَو دفت دافة الْيَوْم فَهَل نحكم بِتَحْرِيم الادخار؟ قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالظَّاهِر عدم التَّحْرِيم وَتَبعهُ فِي «الرَّوْضَة» .
قلت: لَكِن نَص الشَّافِعِي فِي «الرسَالَة» عَلَى خِلَافه، ذكره فِي بَاب «الْعِلَل» فِي الحَدِيث فاستفده.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن ذَبَائِح الْجِنّ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «ضُعَفَائِهِ» من حَدِيث عبد الله بن أذينة، عَن ثَوْر بن يزِيد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور ثمَّ قَالَ: وَعبد الله بن أذينة شيخ(9/326)
رَوَى عَن ثَوْر مَا لَيْسَ من حَدِيثه، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ بِحَال. قَالَ: وَهَذِه نُسْخَة كتبناها عَنهُ، لَا يحل ذكرهَا فِي الْكتب إِلَّا عَلَى سَبِيل الْقدح فِيهَا. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» من هَذَا الْوَجْه ثمَّ ذكر الْكَلَام الْمَذْكُور فِيهِ عَن ابْن حبَان أَيْضا، وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي «غَرِيبه» ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيثه عَن عمر بن هَارُون، عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي، عَن الزُّهْرِيّ يرفع الحَدِيث «أَنه نهَى عَن ذَبَائِح الْجِنّ» . قَالَ: وذبائح الْجِنّ أَن يَشْتَرِي الرجل الدَّار أَو يسْتَخْرج الْعين وَمَا أشبه ذَلِك فَيذْبَح لَهَا ذَبِيحَته للطيرة» . قَالَ أَبُو عبيد: وَهَذَا التَّفْسِير فِي الحَدِيث مَعْنَاهُ أَنهم يَتَطَيَّرُونَ فيخافون إِن لم يذبحوا أَن يمسهم فِيهَا شَيْء من الْجِنّ يؤذيهم فَأبْطل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَلِك وَنَهَى عَنهُ.
قلت: وَهَذِه الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا أَبُو عبيد وَالْبَيْهَقِيّ ضَعِيفَة لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: لانقطاعها وَهُوَ ظَاهر.
ثَانِيهمَا: أَن عمر بن هَارُون واهٍ مُتَّهم، قَالَ يَحْيَى: كَذَّاب خَبِيث لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فستة:
أَحدهَا وَثَانِيها: عَن أبي بكر وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنَّهُمَا كَانَا لَا يضحيان مَخَافَة أَن يعْتَقد النَّاس وُجُوبهَا» .
وَهَذَا الْمَرْوِيّ عَنْهُمَا قَالَ الشَّافِعِي: بلغنَا أَن «أَبَا بكر الصّديق وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما كَانَا لَا يضحيان كَرَاهَة أَن يُقْتَدَى بهما فيظن من [رآهما(9/327)
أَنَّهَا] وَاجِبَة» ثمَّ سَاق الْبَيْهَقِيّ عقب ذَلِك من حَدِيث الْفرْيَابِيّ ثَنَا سُفْيَان، عَن أَبِيه ومطرف وَإِسْمَاعِيل، عَن الشّعبِيّ، عَن أبي سريحَة الْغِفَارِيّ قَالَ: « (أدركنا) أَبَا بكر - أَو رَأَيْت أَبَا بكر - وَعمر لَا يضحيان كَرَاهِيَة أَن يُقْتَدَى بهما» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَبُو سريحَة الْغِفَارِيّ هُوَ حُذَيْفَة بن أسيد صَاحب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ثمَّ ذكره بِإِسْنَادِهِ كَذَلِك، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِن الصَّحِيح رِوَايَة إِسْمَاعِيل عَن الشّعبِيّ؛ لِأَنَّهُ سَمعه مِنْهُ. ثمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيّ مثل ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَأبي مَسْعُود البدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
الْأَثر الثَّالِث: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «من عين أضحيته فَلَا يسْتَبْدل بهَا» .
وَهَذَا الْأَثر غَرِيب لَا يحضرني من خرجه عَنهُ، ويغني فِي الدّلَالَة عَنهُ حَدِيث عمر السَّابِق.
الْأَثر الرَّابِع: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَنَّهَا أَهْدَت هديين فأضلتهما، فَبعث ابْن الزبير إِلَيْهَا هديين فنحرتهما، ثمَّ عَاد الضالان فنحرتهما وَقَالَت: هَذِه سنة الْهَدْي» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة الْقَاسِم عَنْهُمَا بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ ابْن الْقطَّان: كل إِسْنَاده ثِقَات إِلَّا سعد بن سعيد(9/328)
الْأنْصَارِيّ فَإِنَّهُ ضَعِيف بِالنِّسْبَةِ إِلَى من فَوْقه، وَقد أخرج لَهُ مُسلم حَدِيث: «من صَامَ رَمَضَان ثمَّ أتبعه ستًّا من شَوَّال» وَأعله عبد الْحق بِأَن قَالَ: لَا يحْتَج بِإِسْنَادِهِ. فَاعْترضَ عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان بِمَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ قَالَ: وَلَعَلَّه اشْتبهَ عَلَيْهِ سعد هَذَا بِسَعْد بن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري.
الْأَثر الْخَامِس: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَالَ فِي خطبَته بِالْبَصْرَةِ: إِن أميركم هَذَا قد رَضِي من دنياكم بطمريه وَإنَّهُ لَا يَأْكُل اللَّحْم فِي السّنة إِلَّا الفلذة من كبد أضحيته» .
هَذَا الْأَثر غَرِيب لَا يحضرني من خرجه عَنهُ، قَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : هَذَا الْأَثر إِن صَحَّ فَيكون «طمريه» بِكَسْر الطَّاء الْمُهْملَة وَإِسْكَان الْمِيم أَي: ثوباه الخلقان. قَالَ: والفِلذة - بِكَسْر الْفَاء ثمَّ لَام سَاكِنة ثمَّ ذال مُعْجمَة -: الْقطعَة.
الْأَثر السَّادِس: عَن عَلّي أَيْضا «أَنه رَأَى رجلا يَسُوق بَدَنَة مَعهَا وَلَدهَا، فَقَالَ: لَا تشرب من لَبنهَا إِلَّا مَا فضل عَن وَلَدهَا» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة سُفْيَان، عَن زُهَيْر بن أبي ثَابت، عَن مُغيرَة بن حذف الْعَبْسِي قَالَ: «كُنَّا مَعَ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بالرحبة فجَاء رجل من هَمدَان يَسُوق بقرة مَعهَا وَلَدهَا فَقَالَ: إِنِّي اشْتَرَيْتهَا أضحي بهَا وَإِنَّهَا ولدت. قَالَ: فَلَا تشرب من لَبنهَا إِلَّا فضلا عَن وَلَدهَا، فَإِذا كَانَ يَوْم النَّحْر فانحرها هِيَ وَوَلدهَا عَن سَبْعَة» وَقَالَ أَبُو زرْعَة فِيمَا حَكَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» عَنهُ -: هَذَا حَدِيث صَحِيح.(9/329)
كتاب الْعَقِيقَة(9/331)
كتاب الْعَقِيقَة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث أحد عشر حَدِيثا:
أَحدهَا:
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نعق عَن الْغُلَام بشاتين، وَعَن الْجَارِيَة بِشَاة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَاللَّفْظ الْمَذْكُور نَحْو لفظ ابْن مَاجَه، وَهَذَا لَفظه: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نعق عَن الْغُلَام شَاتَان مكافئتان وَعَن الْجَارِيَة شَاة» وَرَوَاهُ أَحْمد كَذَلِك، وَلَفظ ابْن حبَان: «عَن الْغُلَام شَاتَان وَعَن الْجَارِيَة شَاة» وَتقدم فِي الْبَاب قبله ضبط قَوْله: «مكافئتان» .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْغُلَام مُرْتَهن بعقيقته تذبح عَنهُ فِي الْيَوْم السَّابِع ويحلق رَأسه وَيُسمى» .(9/333)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة الْحسن الْبَصْرِيّ عَن سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ عبد الْحق: سَماع الْحسن من سَمُرَة هَذَا الحَدِيث صَحِيح. أَي لِأَن الْحسن صرح فِيهِ بِسَمَاعِهِ من سَمُرَة لما سُئِلَ عَن ذَلِك، ذكره البُخَارِيّ وَغَيره وَاللَّفْظ الَّذِي ذكره المُصَنّف هُوَ لفظ التِّرْمِذِيّ وَإِحْدَى روايتي الْحَاكِم، وَلَفظ أَحْمد: «كل غُلَام رهينة بعقيقته تذبح عَنهُ يَوْم سابعه - وَقَالَ بهز: ويدمى وَيُسمى فِيهِ، ويحلق فِي الْيَوْم السَّابِع - ويحلق رَأسه وَيُسمى» زَاد أَبُو دَاوُد: قَالَ همام فِي رِوَايَته: «ويدمى» وَكَانَ قَتَادَة إِذا سُئِلَ عَن الدَّم كَيفَ يصنع بِهِ قَالَ: إِذا ذبحت الْعَقِيقَة أخذت مِنْهَا صوفة واستقبلت مِنْهَا أوداجها، ثمَّ تُوضَع عَلَى يافوخ الصَّبِي حَتَّى تسيل عَلَى رَأسه مثل الْخَيط، ثمَّ تغسل رَأسه بعد ويحلق. قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا وهم من همام، وَجَاء تَفْسِيره عَن قَتَادَة وَهُوَ «يدمى» قَالَ: و «يُسمى» أصح، هَكَذَا قَالَ سَلام بن أبي مُطِيع عَن قَتَادَة وَإيَاس بن دَغْفَل عَن الْحسن قَالَ: «وَيُسمى» وَفِي «جَامع المسانيد»(9/334)
لِابْنِ الْجَوْزِيّ أَنه رَوَى عَن الْحسن أَنه قَالَ: تطلى رَأسه بِدَم الْعَقِيقَة. وَقد كره هَذَا أَكثر الْعلمَاء مِنْهُم الزُّهْرِيّ، وَالشَّافِعِيّ، وَمَالك، وَأحمد وَقَالُوا: كَانَ هَذَا من أَعمال الْجَاهِلِيَّة. قَالَ: وَقَوله «يدمى» غلط من همام إِنَّمَا هُوَ «يُسمى» كَذَلِك رَوَاهُ عَن قَتَادَة شُعْبَة وَسَلام بن أبي مُطِيع، وَأقر الْبَيْهَقِيّ مقَالَة أبي دَاوُد السالفة، وَقَالَ عبد الْحق: قَالَ غير أبي دَاوُد: همام ثَبت، وَقد سبق أَنهم سَأَلُوا قَتَادَة عَن صفة التدمية الْمَذْكُورَة فوصفها.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن أم كرز رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَن الْغُلَام شَاتَان وَعَن الْجَارِيَة شَاة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ د ت ن وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم كَمَا تقدم فِي الْبَاب قبله، وَرَوَاهُ أَيْضا ابْن مَاجَه من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عبيد الله، عَن أَبِيه، عَن سِبَاع، عَن أم كرز بِلَفْظ: «عَن الْغُلَام شَاتَان مكافئتان، وَعَن الْجَارِيَة شَاة» ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث حَمَّاد عَن قيس بن سعد، عَن عَطاء وَطَاوُس [و] مُجَاهِد، عَن أم كرز مَرْفُوعا: «فِي الْغُلَام شَاتَان مكافئتان، وَعَن الْجَارِيَة شَاة» ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث سُفْيَان قَالَ: قَالَ عَمْرو، عَن عَطاء، عَن حَبِيبَة بنت ميسرَة، عَن أم كرز مَرْفُوعا:(9/335)
«عَن الْغُلَام ... » بِمثل الَّذِي قبله وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، أبنا ابْن جريج، أَخْبرنِي عَطاء، عَن حَبِيبَة بنت ميسرَة، عَن أم بني كرز مَرْفُوعا «فِي الْعَقِيقَة عَن الْغُلَام شَاتَان مكافئتان، وَعَن الْجَارِيَة شَاة» . فَقلت لَهُ - يَعْنِي عَطاء -: مَا المكافئتان؟ قَالَ: مثلان، وذكرانهما أحب إِلَيْهِ من إناثهما. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي هَذَا الْبَاب من رِوَايَة عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن أَبِيه - كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِيمَا تقدم - ثمَّ قَالَ: هَكَذَا قَالَه سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أَبِيه، وَذكر أَبِيه فِيهِ وهم؛ فقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد، عَن حَمَّاد بن زيد، عَن عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن سِبَاع، عَن أم كرز. قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا هُوَ الحَدِيث، وَحَدِيث سُفْيَان وهم. وَاعْترض ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» عَلَى أبي دَاوُد فَقَالَ: لَا أَدْرِي من أَيْن قَالَ [هَذَا أَبُو دود] ، وَابْن عُيَيْنَة حَافظ، وَقد زَاد فِي الْإِسْنَاد، وَله عَن عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن أَبِيه، عَن سِبَاع، عَن أم كرز ثَلَاثَة أَحَادِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ الْمُزنِيّ فِي «الْمُخْتَصر» عَن الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن سِبَاع بن وهب، عَن أم كرز. قَالَ: والمزني واهم فِيهِ فِي موضِعين: أَحدهمَا: أَن سَائِر الروَاة رَوَوْهُ عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن أَبِيه، عَن سِبَاع. وَالثَّانِي: أَنهم قَالُوا فِيهِ: سِبَاع بن ثَابت، وَقد رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ فِي كتاب «السّنَن» فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الصَّوَاب كَمَا رَوَاهُ سَائِر النَّاس عَن سُفْيَان.(9/336)
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، فقد أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب «الْمعرفَة» من حَدِيث الطَّحَاوِيّ، عَن الْمُزنِيّ، ثَنَا الشَّافِعِي، حَدثنَا سُفْيَان، عَن عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن أَبِيه، عَن سِبَاع. وَهَكَذَا هُوَ فِي «السّنَن المأثورة» من طَرِيق الطَّحَاوِيّ أَيْضا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ ابْن جريج، عَن عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن سِبَاع بن ثَابت أَن مُحَمَّد بن ثَابت بن سِبَاع أخبرهُ أَن أم كرز أخْبرته، وَرُوِيَ أَيْضا من طَرِيق آخر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عَطاء، عَن حَبِيبَة بنت ميسرَة، عَن أم كرز.
قلت: أخرجه التِّرْمِذِيّ من طَرِيق ابْن جريج الأولَى ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق سُفْيَان الَّتِي ذكرهَا الْبَيْهَقِيّ بعد، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة، عَن قيس بن سعد، عَن عَطاء، وَطَاوُس وَمُجاهد ثَلَاثَتهمْ، عَن أم كرز. وَأَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث سُفْيَان، عَن عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن أَبِيه، عَن سِبَاع، عَن أم كرز. وَعَن حَمَّاد بن زيد، عَن عبيد الله ابْن أبي يزِيد عَن سِبَاع. وَلم يقل: عَن أَبِيه. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن سُفْيَان وَلم يقل: عَن أَبِيه. وَعَن ابْن جريج عَن عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن سِبَاع بِهِ.(9/337)
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَهِشَام بن عمار كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان، وَقَالا: عَن أَبِيه بِهِ. وَقد تقدم فِي الْبَاب قبله كل هَذَا وَاضحا. وَقَالَ الْمزي فِي «أَطْرَافه» : اخْتلف فِيهِ عَن عَطاء وَغَيره اخْتِلَافا كثيرا قَالَ: وَحَدِيث سِبَاع ابْن ثَابت عَن أم كرز هُوَ الْمَحْفُوظ. وَاعْترض النَّوَوِيّ فِي «شَرحه للمهذب» عَلَى تَصْحِيح التِّرْمِذِيّ لهَذَا الحَدِيث بِأَن قَالَ: فِي إِسْنَاده عبيد الله بن أبي [يزِيد] ، وَقد ضعفه الْأَكْثَرُونَ قَالَ: فَلَعَلَّهُ اعتضد عِنْده فصححه.
قلت: قد صَححهُ الْحَاكِم من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة، وَقَالَ أَحْمد فِي عبيد الله هَذَا: إِنَّه صَالح. وَقَالَ ابْن عدي: لم أر لَهُ شَيْئا مُنْكرا عَلَى أَنه لم ينْفَرد بل قد رَوَاهُ جماعات كَذَلِك كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا.
فَائِدَة: تقدم فِي طَرِيق هَذِه الْأَحَادِيث قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «مكافئتان» قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: مَعْنَاهُ متساويتان أَو متقاربتان. قَالَ الْخطابِيّ: وَقد فسره أَبُو عبيد بقريب من هَذَا إِلَّا أَن المُرَاد من هَذَا بذلك التكافؤ فِي السن، يُرِيد شَاتين مُسنَّتَيْنِ يجوز أَن تَكُونَا فِي الضَّحَايَا لَا تكون إِحْدَاهمَا غير مُسِنَّة وَالْأُخْرَى مُسِنَّة. و «متكافئتان» بِكَسْر الْفَاء يُقَال: كافئته مكافئة فَهُوَ مكافئه أَي مساويه. قَالَ الْخطابِيّ والجوهري: والمحدثون يَقُولُونَ: «مكافأتان» بِالْفَتْح وكل من سَاوَى شَيْئا يكون مثله فقد كافأه. وَقَالَ بَعضهم فِي تَفْسِير الحَدِيث: يذبح إِحْدَاهمَا مُقَابل(9/338)
الْأُخْرَى. قَالَ ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» : وَأرَى الْفَتْح أولَى؛ فَإِنَّهُ يُرِيد شَاتَان قد سُوَى بَينهمَا، أَي: شَاتَان متساوٍ بَينهمَا، وَأما بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاه أَنَّهُمَا متساويتان فَيحْتَاج أَن يذكر [أَي شَيْء ساويا] وَقَالَ النَّوَوِيّ - أَظُنهُ فِي «شرح الْمُهَذّب» -: هُوَ بِكَسْر الْفَاء وَبعدهَا همزَة هَكَذَا صَوَابه عِنْد أهل اللُّغَة، وَمِمَّنْ صرح بِهِ الْجَوْهَرِي قَالَ: ويقوله المحدثون بِفَتْح الْفَاء وَالصَّحِيح كسرهَا. وَقَالَ ابْن [معن] فِي «تنقيبه» : المحدثون يَقُولُونَ: «مكافئتان» بِالْهَمْز يَعْنِي لَيست إِحْدَاهمَا مُسِنَّة وَالْأُخْرَى غير مُسِنَّة، بل هما بِحَيْثُ تجوزان فِي الْأَضَاحِي. وَقيل: «متكافئتان» بِمَعْنى متساويتان. وَقيل: مَعْنَاهُ أَن تذبح إِحْدَاهمَا مُقَابلَة الْأُخْرَى. قَالَ: وَضبط «مُقَابلَة» بِفَتْح الْبَاء، وَيجوز كسرهَا.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[عق] عَن نَفسه بعد النُّبُوَّة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الله بن مُحَرر - بالراء الْمُهْملَة المكررة فِي آخِره - عَن قَتَادَة، عَن أنس «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عق عَن نَفسه بعد النُّبُوَّة» . وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف بِمرَّة؛ لِأَن(9/339)
عبد الله هَذَا واه بالِاتِّفَاقِ (وَقد سلف أَقْوَال الْأَئِمَّة) فِيهِ فِي بَاب صَلَاة التَّطَوُّع فِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين مِنْهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ عبد الرَّزَّاق: إِنَّمَا تركُوا عبد الله بن مُحَرر لحَال هَذَا الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هُوَ حَدِيث مُنكر. قَالَ: وَقد رُوِيَ من وَجه آخر عَن قَتَادَة، وَمن وَجه آخر عَن أنس، وَلَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا حَدِيث بَاطِل.
الحَدِيث الْخَامِس
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عق عَن الْحسن وَالْحُسَيْن» .
هَذَا صَحِيح وَقد ورد ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث:
مِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عق عَن الْحسن وَالْحُسَيْن كَبْشًا كَبْشًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهَذَا لَفظه، وَالنَّسَائِيّ بِلَفْظ «بكبشين كبشين» قَالَ عبد الْحق: هَذَا حَدِيث صَحِيح. قَالَ: وَقَالَ ابْن حزم: ولد الْحسن عَام أحد، وَولد الْحُسَيْن فِي الْعَام الثَّانِي. وَذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي آخر «اقتراحه» فِي الْقسم الْخَامِس فِي ذكر أَحَادِيث رَوَاهَا قوم خرَّج عَنْهُم البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح وَلم يخرج عَنْهُم مُسلم أَو خرج عَنْهُم مَعَ الاقتران بِالْغَيْر.
وَمِنْهَا حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «عق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن(9/340)
الْحسن وَالْحُسَيْن يَوْم السَّابِع، وسماهما، وَأمر أَن يماط عَن رءوسهما الْأَذَى» . رَوَاهُ ابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ. قَالَ الْحَاكِم: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَرَوَاهُ ابْن السكن فِي «صحاحه» مطولا، وَهَذَا لَفظه عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يعق عَن الْغُلَام شَاتَان مكافئتان، وَعَن الْجَارِيَة شَاة. قَالَت: وعق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْحسن وَالْحُسَيْن شَاتين لكل وَاحِد، وَقَالَ: اذبحوا وَقُولُوا: بِسم الله، اللَّهُمَّ مِنْك وَإِلَيْك، هَذِه عقيقة فلَان. وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يجْعَلُونَ قطنة فِي دم الْعَقِيقَة، ويجعلونها عَلَى رَأس الْمَوْلُود، فَأَمرهمْ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يجْعَلُوا مَكَان الدَّم خلوقًا» .
وَمِنْهَا حَدِيث بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام عق عَن الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما» . رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه» بِسَنَد صَحِيح.
وَمِنْهَا حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عق عَن الْحسن وَالْحُسَيْن عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا كبشين اثْنَيْنِ مثلين متكافئين» رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَسكت عَلَيْهِ، وَفِي إِسْنَاده سوار أَبُو حَمْزَة وَهُوَ ضَعِيف.
وَمِنْهَا حَدِيث فَاطِمَة الْآتِي قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِنْهَا حَدِيث قَتَادَة عَن أنس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عق عَن الْحسن وَالْحُسَيْن وختنهما لسبعة أَيَّام» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» ثمَّ(9/341)
قَالَ: لم يروه عَن ابْن الْمُنْكَدر إِلَّا زُهَيْر، وَلم يقل أحد مِمَّن رَوَى هَذَا الحَدِيث عَن زُهَيْر: «وختنهما لسبعة أَيَّام» إِلَّا الْوَلِيد بن مُسلم.
الحَدِيث السَّادِس
عَن [عبد الله] بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه قَالَ: «كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا ولد لِأَحَدِنَا غُلَام ذبح شَاة ولطخ رَأسه بدمها، فَلَمَّا جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ كُنَّا نذبح شَاة ونحلق رَأسه ونلطخه بزعفران» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَائِشَة قَالَت: «كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يجْعَلُونَ قطنة فِي دم الْعَقِيقَة، ويجعلونها عَلَى رَأس الْمَوْلُود، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يَجْعَل مَكَان الدَّم خلوقًا» . وَهَذَا الحَدِيث أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيّ فَذَكرته بِكَمَالِهِ.
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «سموا السقط» .
هَذَا الحَدِيث أوردهُ الرَّافِعِيّ وَلَا أعرفهُ بعد الْبَحْث عَنهُ، وَذكره الْبَغَوِيّ وَغَيره من أَصْحَابنَا فَقَالُوا: يسْتَحبّ تَسْمِيَة السقط لحَدِيث ورد فِيهِ.(9/342)
وَرَأَيْت فِيمَا انتخبه الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السِّلَفي من كتب شَيْخه أبي الْحُسَيْن الصَّيْرَفِي الْمَعْرُوف بِابْن الطيوري بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي هُرَيْرَة رَفعه: «إِذا اسْتهلّ الصَّبِي صَارِخًا سمي، وَصلي عَلَيْهِ، وتمت دِيَته، ووُرِّث، وَإِن لم يستهل صَارِخًا، لم يسم، وَلم تتمّ دِيَته، وَلم يصل عَلَيْهِ، وَلم يوُرَّث» .
وَإِسْنَاده ضَعِيف؛ لِأَن فِيهِ عبد الله بن شبيب وَهُوَ واهٍ، قَالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم: ذَاهِب الحَدِيث. وَبَالغ فضلك الرَّازِيّ فَقَالَ: يحل ضرب عُنُقه. وَنسبه ابْن خرَاش إِلَى سَرقَة الحَدِيث، وَفِي «عمل يَوْم وَلَيْلَة» لِابْنِ السّني من حَدِيث عبد الله بن أَيُّوب المَخْزُومِي، ثَنَا دَاوُد بن المحبر، ثَنَا مُحَمَّد بن عُرْوَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة [عَن أَبِيه] عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «أسقطت من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سقطا فَسَماهُ عبد الله، وَكَنَّانِي بِأم عبد الله. قَالَ مُحَمَّد: وَلَيْسَ فِينَا امْرَأَة اسْمهَا عَائِشَة إِلَّا كنيت أم عبد الله» . وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف؛ لِأَن دَاوُد بن المحبر قَالَ فِي حَقه ابْن حبَان: إِنَّه يضع الحَدِيث عَلَى الثِّقَات، وَمُحَمّد بن عُرْوَة هُوَ ابْن هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير فِيهِ جَهَالَة، وَقَالَ ابْن حبَان فِي حَقه: لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ، مُنكر الحَدِيث جدًّا. أما كنيتها رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بذلك - وَلَا محَالة فِي صِحَّتهَا - فَفِي سنَن أبي دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «يَا رَسُول الله، كل صواحبي لَهُنَّ كنى. قَالَ: فاكتني بابنك(9/343)
عبد الله» . قَالَ الرَّاوِي: يَعْنِي عبد الله [بن] الزبير وَهُوَ ابْن أُخْتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر، وَكَانَت عَائِشَة تكنى أم عبد الله. وَفِي «المعجم الْكَبِير» للطبراني من حَدِيث سيف بن مُحَمَّد، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه [عَن] عَائِشَة قَالَت: «كناني النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أم عبد الله، وَلم يكن لي ولد [قطّ] » وَفِيه: ثَنَا إِسْحَاق، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كناها أم عبد الله فَكَانَ يُقَال لَهَا: أم عبد الله. حَتَّى مَاتَت وَلم تَلد [قطّ] » .
قلت: وَهَذَا أَيْضا مِمَّا يضعف حَدِيث ابْن الْمسيب.
الحَدِيث الثَّامِن
«أَن فَاطِمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وزنت شعر الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وَزَيْنَب وَأم كُلْثُوم فتصدقت بوزنه فضَّة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَأَبُو دَاوُد فِي «الْمَرَاسِيل» عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَلّي بن حُسَيْن «فِي حسن وحسين عَلَيْهِمَا السَّلَام» وَرَوَاهُ أَيْضا الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُلَيْمَان(9/344)
بن بِلَال، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جده أَن فَاطِمَة بنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذبحت عَن حسن وحسين [حِين] ولدتهما شَاة، وحلقت شعورهما، ثمَّ تَصَدَّقت بوزنه فضَّة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن عبد الله بن أبي بكر، عَن مُحَمَّد بن عَلّي بن حُسَيْن، عَن أَبِيه عَلّي قَالَ: «عق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْحسن بِشَاة، وَقَالَ: يَا فَاطِمَة، احلقي رَأسه، وتصدقي بزنة شعره فضَّة. فوزناه فَكَانَ وَزنه دِرْهَم أَو بعض دِرْهَم» .
وَهَذِه الرِّوَايَة رَوَاهَا التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم من الطَّرِيق الْمَذْكُور، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور ثمَّ قَالَ - أَعنِي التِّرْمِذِيّ -: حسن غَرِيب، وَإِسْنَاده لَيْسَ بِمُتَّصِل، وَأَبُو جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَلّي بن الْحُسَيْن لم يدْرك عَلّي بن أبي طَالب.
قلت: إِذا كَانَ هَذَا حَاله فَكيف يكون حسنا؟ ! وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ أَنه مُنْقَطع، قَالَ: وَقيل فِي رِوَايَته: عَن مُحَمَّد بن عَلّي بن الْحُسَيْن، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَلَا أَدْرِي مَحْفُوظًا هُوَ أم لَا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن ابْن الْحُسَيْن، عَن أبي رَافع قَالَ: «لما ولدت فَاطِمَة حسنا قَالَت: يَا رَسُول الله، أَلا أعق عَن ابْني بِدَم؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن احلقي شعره، وتصدقي بوزنه من الورِق عَلَى الأوقاض أَو عَلَى الْمَسَاكِين - قَالَ عَلّي: قَالَ شريك: يَعْنِي بالأوقاض أهل الصّفة - فَفعلت ذَلِك، فَلَمَّا ولدت(9/345)
حُسَيْنًا فعلت مثل ذَلِك» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَحدث بِهِ أَبُو نعيم الْحلَبِي، عَن عبيد الله بن عَمْرو، عَن ابْن عقيل، عَن أبي سَلمَة، عَن عَلّي بن الْحُسَيْن، وَذكر أبي سَلمَة عَنهُ وهم. وَفِي رِوَايَة للبيهقي أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عَلّي بن حُسَيْن، عَن أبي رَافع أَن الْحسن بن عَلّي حِين وَلدته أمه أَرَادَت أَن تعق عَنهُ بكبش عَظِيم، فَأَتَت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ لَهَا: لَا تعقي عَنهُ بِشَيْء وَلَكِن احلقى شعر رَأسه، ثمَّ تصدقي بوزنه من الورِق فِي سَبِيل الله أَو عَلَى ابْن السَّبِيل. وَولدت الْحُسَيْن من الْعَام الْمقبل فصنعت مثل ذَلِك» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ ابْن عقيل، وَهُوَ إِن صَحَّ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن يتَوَلَّى الْعَقِيقَة عَنْهُمَا بِنَفسِهِ - كَمَا رَوَيْنَاهُ - فَأمرهَا بغَيْرهَا وَهُوَ التَّصَدُّق بِوَزْن شعرهما من الْوَرق. وَرَوَى الْحَاكِم ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْحُسَيْن، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر فَاطِمَة فَقَالَ: زني شعر الْحُسَيْن، وتصدقي بوزنه فضَّة، وَأعْطِي الْقَابِلَة رجل الْعَقِيقَة» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد ذكره فِي مَنَاقِب الْحُسَيْن وَفِي صِحَّته نظر؛ فَإِن ابْن الْمَدِينِيّ قَالَ فِي حق الْحُسَيْن بن زيد: إِنَّه ضَعِيف. - وَقَالَ أَبُو حَاتِم: - تعرف وتنكر. وَقَالَ ابْن عدي: وجدت فِي حَدِيثه بعض النكرَة، وَأَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَكَذَا فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَرَوَى الْحميدِي عَن الْحُسَيْن بن زيد، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه «أَن(9/346)
عَلّي بن أبي طَالب أعْطى الْقَابِلَة رجل الْعَقِيقَة» قَالَ: وَرَوَاهُ حَفْص بن غياث، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا «فِي أَن يبعثوا إِلَى الْقَابِلَة مِنْهَا بِرَجُل» وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث رُوِيَ من هَذِه الطّرق كلهَا وَهِي متفقة عَلَى التَّصَدُّق بزنة الشّعْر فضَّة لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا ذكر الذَّهَب، بِخِلَاف مَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَسَائِر أَصْحَابنَا فَإِنَّهُم قَالُوا: يسْتَحبّ أَن يتَصَدَّق بِوَزْن شعره ذَهَبا، فَإِن لم يفعل ففضة. والعجيب أَن الرَّافِعِيّ وأصحابنا يذكرُونَ الْمَسْأَلَة هَكَذَا ويستدلون بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور وَلَا دلَالَة فِيهِ عَلَى اللَّفْظ الَّذِي قَالُوهُ.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَذََّنَ فِي أُذنِ الْحُسَيْن حِين وَلدته فَاطِمَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق سُفْيَان، عَن عَاصِم بن [عبيد الله] عَن عبيد الله بن أبي رَافع، عَن أَبِيه أبي رَافع قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أذن فِي أذن الْحسن بن عَلّي حِين وَلدته فَاطِمَة بِالصَّلَاةِ» كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أَحْمد وَأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ الْحسن مكبرًا فِي غير مَا نُسْخَة. وَكَذَا ذكره الْمزي فِي «أَطْرَافه» عَن أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ(9/347)
وَالْبَيْهَقِيّ، وَوَقع فِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» : الْحُسَيْن بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة تَحت، وَذكره فِي تَرْجَمَة الْحُسَيْن بِالْيَاءِ، وَقَالَ: مِمَّا يُقَوي عدم التَّصْحِيف. وَكَذَا وَقع فِي نسخ الرَّافِعِيّ كلهَا، وَكِلَاهُمَا صَحِيح؛ فقد رَوَاهُمَا أَبُو نعيم فِي حَدِيث وَاحِد من طَرِيق أبي رَافع الْمَذْكُور «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَذَّنَ فِي أُذنِ الْحسن وَالْحُسَيْن» وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَزَاد: «وَأمر بِهِ» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَسكت عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد، وَعبد الْحق فِي «أَحْكَامه» فَهُوَ إِمَّا حسن أَو صَحِيح، لَكِن عَاصِم بن عبيد الله الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده فِيهِ مقَال سلف وَاضحا فِي بَاب الْوضُوء فِي فضل السِّوَاك للصَّائِم، ونقلنا عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ فِي حَقه: مُنكر الحَدِيث. وانتقد عَلَيْهِ ابْن حبَان رِوَايَة هَذَا الحَدِيث وَغَيره، وَأعله ابْن الْقطَّان أَيْضا بِهِ وَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف الحَدِيث مُنكر ومضطرب. فَلَعَلَّهُ اعتضد عِنْدهمَا بطرِيق آخر فَصَارَ صَحِيحا عَلَى أَنِّي لم أجد لَهُ طَرِيقا غير الطَّرِيق الْمَذْكُورَة.
الحَدِيث الْعَاشِر
حَدِيث فَاطِمَة فِي إِعْطَاء رجل الْعَقِيقَة للقابلة.(9/348)
تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ قبل هَذَا الحَدِيث وَاضحا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» من طَرِيق جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْعَقِيقَة الَّتِي عقتها فَاطِمَة عَن الْحسن وَالْحُسَيْن أَن يبعثوا إِلَى الْقَابِلَة مِنْهَا رجل وكلوا وأطعموا وَلَا تكسروا مِنْهَا عظما» .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا فرع وَلَا عتيرة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة. قَالَ أهل اللُّغَة: «الْفَرْع» بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء وبالعين الْمُهْملَة، وَيُقَال لَهَا أَيْضا: الفرعة بِالْهَاءِ: أول نتاج الْبَهِيمَة، كَانُوا يذبحونه وَلَا يملكونه رَجَاء الْبركَة فِي الْأُم وَكَثْرَة نسلها. و «العتيرة» بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: ذَبِيحَة كَانُوا يذبحونها فِي الْعشْر الأول من رَجَب ويسمونها الرجبية أَيْضا. وَقد جَاءَ فِي أَحَادِيث أخر صَحِيحَة الْأَمر بالفرع وَالْعَتِيرَة مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره بِإِسْنَاد صَحِيح عَن نُبَيْشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «نَادَى رجل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: إِنَّا كُنَّا نعتر عتيرة فِي الْجَاهِلِيَّة فِي رَجَب فَمَا تَأْمُرنَا؟ قَالَ: اذبحوا لله فِي أَي شهر كَانَ، وبروا لله وأطعموا. قَالَ: إِنَّا كُنَّا نفرع فرعا فِي الْجَاهِلِيَّة فَمَا تَأْمُرنَا؟ قَالَ: فِي كل سَائِمَة فرع تغذوه ماشيتك حَتَّى إِذا استحمل ذبحته فتصدقت بِلَحْمِهِ» .(9/349)
قَالَ ابْن الْمُنْذر: هُوَ حَدِيث صَحِيح. قَالَ أَبُو قلَابَة: أخذُوا بِهِ السَّائِمَة مائَة. وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الثَّابِتَة فِي الْأَمر بهما. وَقد ذكر الْبَيْهَقِيّ جملَة مِنْهَا فِي «سنَنه» فَإِذا تقرر هَذَا فيجاب عَن حَدِيث «لَا فرع وَلَا عتيرة» السالف بأجوبة:
أَحدهَا: جَوَاب الشَّافِعِي: أَن المُرَاد الْوُجُوب، أَي: لَا فرع وَاجِب وَلَا عتيرة وَاجِبَة.
ثَانِيهَا: أَن المُرَاد نفي مَا كَانُوا يذبحونه لأصنامهم إِلَيْهَا فَإِنَّهُمَا ليسَا كالأضحية فِي الِاسْتِحْبَاب وَفِي ثَوَاب إِرَاقَة الدَّم، فَأَما تَفْرِقَة اللَّحْم عَلَى الْمَسَاكِين فبر وَصدقَة، وَقد نَص الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «سنَن حَرْمَلَة» أَنَّهُمَا إِن تيسرا كل شهر كَانَ حسنا. وَادَّعَى القَاضِي عِيَاض أَن جَمَاهِير الْعلمَاء عَلَى نسخ الْأَمر بالفرع وَالْعَتِيرَة.
هَذَا آخر مَا ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي هَذَا الْبَاب من الْأَحَادِيث، وَذكر فِيهِ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - أَنه كَانَ إِذا ولد لَهُ ابْن أذن فِي أُذُنه الْيُمْنَى وَأقَام فِي الْيُسْرَى. وأصحابنا يتواترون عَلَى نقل هَذَا عَنهُ، وَلَعَلَّه بلغه مَا رَوَى ابْن السّني عَن الْحُسَيْن بن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من ولد لَهُ مَوْلُود فَأذن فِي أُذُنه الْيُمْنَى وَأقَام فِي الْيُسْرَى لم تضره أم الصّبيان» .(9/350)
وَأم الصّبيان هِيَ التابعة من الْجِنّ. قَالَ ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» : وَرَوَى رزين زِيَادَة من حَدِيث أبي رَافع السالف «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أذن فِي أذن الْحُسَيْن» : «وَقَرَأَ فِي أُذُنه سُورَة الْإِخْلَاص وحنكه بِتَمْر وَسَماهُ» قَالَ ابْن الْأَثِير: وَلم أجد هَذِه الزِّيَادَة فِي الْأُصُول.(9/351)
كتاب الْأَطْعِمَة(9/353)
كتاب الْأَطْعِمَة
ذكر فِيهِ من الْأَحَادِيث أَرْبَعِينَ حَدِيثا.
أَحدهَا
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَي لحم نبت من حرَام فَالنَّار أولَى بِهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل رَوَاهُ من حَدِيث كَعْب بن عجْرَة وَقَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أُعِيذك بِاللَّه يَا كَعْب بن عجْرَة من أُمَرَاء [يكونُونَ] بعدِي، فَمن غشي أَبْوَابهم فَصَدَّقَهُمْ فِي كذبهمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظلمهم فَلَيْسَ مني وَلست مِنْهُ وَلَا يرد عليَّ الْحَوْض، وَمن غشي أَبْوَابهم أَو لم يغش (وَلم) يُصدقهُمْ فِي كذبهمْ وَلم يُعِنْهُمْ عَلَى ظلمهم فَهُوَ مني وَأَنا مِنْهُ وَسَيَرِدُ عليَّ الْحَوْض، يَا كَعْب بن عجْرَة، الصَّلَاة برهَان، وَالصَّوْم جنَّة حَصِينَة، وَالصَّدَََقَة تُطْفِئ الْخَطِيئَة كَمَا يُطْفِئ المَاء النَّار، يَا كَعْب بن عجْرَة، إِنَّه لَا يَرْبُو لحم نبت من سحت إِلَّا كَانَت النَّار أولَى [بِهِ] » قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَسَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَن هَذَا الحَدِيث [فَلم يعرفهُ إِلَّا من حَدِيث عبيد الله بن مُوسَى وَاسْتَغْرَبَهُ جدًّا] .(9/355)
طَرِيق ثانٍ: رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّه لَا يدْخل الْجنَّة لحم نبت من سحت، النَّار أولَى بِهِ» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَذكره شَاهدا لحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُ: «إِن الله أبي عَلّي أَن يدْخل الْجنَّة لحم نبت من سحت، النَّار أولَى بِهِ» ثمَّ قَالَ فِي هَذَا: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه - أَعنِي من حَدِيث جَابر رَفعه - بِلَفْظ: «يَا كَعْب ابْن عجْرَة، إِنَّه لَا يدْخل الْجنَّة لحم نبت من سحت» . وَهُوَ حَدِيث طَوِيل. قَالَ الْحَاكِم: وَقد رُوِيَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «لحم نبت من سحت» عَن أبي بكر وَعمر. ثمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من نبت لَحْمه من السُّحت فَالنَّار أولَى بِهِ» ثمَّ رَوَى أَيْضا مرقوفًا عَلَى عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «من نبت لَحْمه من السُّحت فَإلَى النَّار» وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» عَنهُ مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الَّذِي قبله، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث يزِيد بن عبد الْملك النَّوْفَلِي، عَن يزِيد بن خصيفَة، عَن السَّائِب بن يزِيد، عَن عمر بن الْخطاب مَرْفُوعا: «من نبت لَحْمه عَلَى السُّحت فَالنَّار أولَى بِهِ» .
وَله طَرِيق آخر من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَفعه: «من نبت لَحْمه من السُّحت فَالنَّار أولَى بِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن أبي عبلة إِلَّا مُحَمَّد بن حمير تفرد بِهِ سعيد بن رَحْمَة وَرَوَاهُ فِي(9/356)
«الْكَبِير» أَيْضا لَكِن عَن أَحْمد بن حَنْبَل، ثَنَا مُحَمَّد بن أبان الوَاسِطِيّ، ثَنَا أَبُو شهَاب، عَن أبي مُحَمَّد الْجَزرِي - وَهُوَ حَمْزَة النصيبي، وَهُوَ آفته؛ فَإِنَّهُ وَضاع - عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِهِ. وَرَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا مطولا وَفِي آخِره: «وَمن نبت لَحْمه من سحت فَالنَّار أولَى بِهِ» ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده إِبْرَاهِيم بن زِيَاد الْقرشِي، قَالَ الْخَطِيب: فِي حَدِيثه نكرَة. قَالَ يَحْيَى: لَا أعرفهُ.
وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث أَيُّوب بن سُوَيْد، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن ربعي بن حِرَاش، عَن حُذَيْفَة مَرْفُوعا: «كل لحم أَنْبَتَهُ السُّحت فَالنَّار أولَى بِهِ» فَقَالَ: هَذَا خطأ أَخطَأ فِيهِ أَيُّوب بن سُوَيْد، رَوَى هَذَا الثَّوْريّ، عَن أبي حَيَّان، عَن شَدَّاد بن أبي الْعَالِيَة، عَن أبي دَاوُد الأحمري، عَن حُذَيْفَة مَوْقُوفا.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَام خَيْبَر عَن نِكَاح الْمُتْعَة، وَعَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحه» ،(9/357)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى ذَلِك - يَعْنِي تَحْرِيم لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة - من حَدِيث جَابر وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث جَابر وَعبد الله بن عمر، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَأبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي، وَأنس بن مَالك، والبراء، وَعبد الله بن أبي أَوْفَى، وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع، وَأخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار، وزاهر الْأَسْلَمِيّ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، والعرباض بن سَارِيَة، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث خَالِد(9/358)
بن الْوَلِيد، وَعَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب. وَهَذِه الْأَحَادِيث كلهَا مؤذنة بِضعْف حَدِيث ابْن أبجر، ثمَّ عَلَى تَقْدِير صِحَّته هُوَ فِي حَالَة الِاضْطِرَاب.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه رَأَى حمارا وحشيًّا فِي طَرِيق مَكَّة فَقتله، فَأكل مِنْهُ بعض أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَبَى بَعضهم؛ لأَنهم كَانُوا محرمين، فسألوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ طعمة أطعمكموها الله هَل مَعكُمْ من لَحْمه شَيْء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ وَقد سلف بَيَانه وَاضحا فِي بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «ذبحنا يَوْم خَيْبَر الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير فنهانا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن البغال وَالْحمير، وَلم ينهنا عَن الْخَيل» .(9/359)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظ بِإِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم وَزَاد: «وَكُنَّا قد أصابتنا مجاعَة» وَذكر بعده «فنهانا» لَا جرم أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَهَذَا لَفظه: عَن حَمَّاد بن سَلمَة، [عَن] أبي الزبير، عَن جَابر «أَنهم ذَبَحُوا يَوْم خَيْبَر الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير، فَنَهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن البغال وَالْحمير وَلم ينْه عَن الْخَيل» وَهُوَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من غير ذكر البغال وَهَذَا لَفْظهمَا «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وأَذِن فِي الْخَيل» وَفِي رِوَايَة لَهما: «أكلنَا زمن خَيْبَر الْخَيل وحمير الْوَحْش، وَنَهَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْحمار الأهلي» وَفِي رِوَايَة: «فَرخص فِي لُحُوم الْخَيل» قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة عَن جَابر قَالَ: «أطعمنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لُحُوم الْخَيل ونهانا عَن لُحُوم الْحمر» .
قلت: هَذِه الرِّوَايَة صَحِيحَة رَوَاهَا التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور عَن قُتَيْبَة بن سعيد، عَن سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن جَابر مَرْفُوعا. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح ثمَّ قَالَ: كَذَا رَوَى غير وَاحِد عَن عَمْرو. وَرَوَى حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو، عَن مُحَمَّد بن عَلّي، عَن جَابر. وَرِوَايَة ابْن عُيَيْنَة أصح، وَسمعت مُحَمَّدًا(9/360)
يَقُول: ابْن عُيَيْنَة أحفظ من حَمَّاد بن زيد.
قلت: وَلم يرو أصل الحَدِيث البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة، إِنَّمَا رَوَاهُ هُوَ وَمُسلم من حَدِيث حَمَّاد. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَا أعلم أحدا وَافق حَمَّاد بن زيد عَلَى. مُحَمَّد بن عَلّي، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث [سُفْيَان] بِهِ ثمَّ قَالَ: يشبه أَن يكون عَمْرو لم يسمع هَذَا الْخَبَر من جَابر؛ لِأَن حَمَّاد بن زيد رَوَاهُ عَن عَمْرو، عَن مُحَمَّد بن عَلّي عَن جَابر. وَيحْتَمل أَن يكون عَمْرو سمع جَابِرا و [سمع] مُحَمَّد بن عَلّي [عَن جَابر] وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق حَمَّاد هَذَا لَكِن لَفظه: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم خَيْبَر عَن لُحُوم الْحمر وَأذن فِي لُحُوم الْخَيل» ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث حُسَيْن بن وَاقد، عَن أبي الزبير، عَن جَابر، وَعَمْرو بن دِينَار عَن جَابر، وَعَن ابْن أبي نجيح، عَن عَطاء، عَن جَابر قَالَ: «أطعمنَا رَسُول الله يَوْم خَيْبَر لُحُوم الْخَيل ونهانا عَن لُحُوم الْحمر» .
وَأما مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه(9/361)
وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من مُعَارضَة مَا نَحن فِيهِ عَن خَالِد بن الْوَلِيد «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن أكل لُحُوم الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير وكل ذِي نَاب من السبَاع» وَفِي بعض رواياتهم أَن ذَلِك يَوْم خَيْبَر فضعيف بِمرَّة. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: هَذَا حَدِيث مُنكر. قلت: فَلم أخرجته فِي مسندك؟ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: إِنَّه مَنْسُوخ. وَقد أوضحت مقالاتهم فِيهِ فِي شرحي للعمدة، فراجع ذَلِك مِنْهُ.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن أَسمَاء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «نحرنا فرسا عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأكلنا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَزَاد: «وَنحن بِالْمَدِينَةِ» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «نحرنا فرسا عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأكلناه نَحن وَأهل بَيته» .
الحَدِيث السَّادِس
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع، وَذي مخلب من الطير» .(9/362)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ من هَذَا الطَّرِيق عبد الله بن أَحْمد فِي مُسْند أَبِيه فَقَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن يَحْيَى، ثَنَا عبد الصَّمد، ثَنَا أبي، حَدثنِي حُسَيْن بن ذكْوَان، عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن كل ذِي نَاب من السبَاع، وَعَن كل ذِي مخلب من الطير، وَعَن ثمن الْميتَة، وَعَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وَعَن مهر الْبَغي، وَعَن عسب الْفَحْل، وَعَن المياثر الأرجوان» كَذَا وَقع فِي «الْمسند» : حُسَيْن بن ذكْوَان وَهُوَ خطأ وَالصَّوَاب «حسن بن ذكْوَان» وَكَذَا أخرجه أَبُو يعْلى عَن أبي خَيْثَمَة، عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، عَن أَبِيه، عَن الْحسن بن ذكْوَان بِهِ، كَذَا أخرجه الإِمَام إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي «مُسْنده» عَن عبد الصَّمد، عَن أَبِيه بِهِ، وَلَفظه «نهَى عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع، وكل ذِي مخلب من الطير، وَثمن الْميتَة، وَثمن الْخمر، والحمر الْأَهْلِيَّة، وَكسب الْبَغي، وعسب كل ذِي فَحل، والمياثر الأرجوان» وَفِي هَذَا الحَدِيث عِلّة غَرِيبَة لَا يعرفهَا إِلَّا العريق فِي هَذَا الْفَنّ وَهِي الِانْقِطَاع بَين الْحسن بن ذكْوَان وحبِيب، قَالَ يَحْيَى بن معِين: الْحسن بن ذكْوَان لم يسمع من حبيب ابْن أبي ثَابت شَيْئا إِنَّمَا سمع من عَمْرو بن خَالِد عَنهُ، وَعَمْرو بن خَالِد لَا يسوى حَدِيثه شَيْئا إِنَّمَا هُوَ كَذَّاب مَا تَقول فِيهِ؟ قَالَ: أَحَادِيثه بَوَاطِيلُ، يروي عَن حبيب بن أبي(9/363)
ثَابت. فَقلت لَهُ: نعم، عِنْده غير حَدِيث عَجِيب عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي «فِي الْمَسْأَلَة وعسيب الْفَحْل» فَقَالَ أَبُو عبد الله: هُوَ لم يسمع من حبيب بن أبي ثَابت، إِنَّمَا هَذِه أَحَادِيث عَمْرو بن خَالِد الوَاسِطِيّ. وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: لم يرو حبيب بن أبي ثَابت عَن عَاصِم بن ضَمرَة إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا تثبت لحبيب رِوَايَة عَن عَاصِم. وَقَالَ ابْن مهْدي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ: حبيب لم يرو عَن عَاصِم بن ضَمرَة شَيْئا.
قلت: وَقد اخْتلف الْأَئِمَّة فِي تَوْثِيق عَاصِم بن ضَمرَة فَهَذَا حَدِيث لَا يحْتَج بِهِ، ويستغنى عَنهُ بِمَا سَيَأْتِي.
فَائِدَة: قَالَ أهل اللُّغَة: «المخلب» بِكَسْر الْمِيم وَإِسْكَان الْمُعْجَمَة وَهُوَ للطير وَالسِّبَاع كالظفر للْإنْسَان وَإِنَّمَا نهَى عَن المياثر لِأَنَّهَا حَرِير والأرجوان: الشَّديد الْحمرَة.
الحَدِيث السَّابِع
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كل ذِي نَاب من السبَاع فَأَكله حرَام» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور مُنْفَردا بِهِ.
الحَدِيث الثَّامِن
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر خَالِد بن الْوَلِيد عَام خَيْبَر حَتَّى نَادَى: أَلا لَا يحل(9/364)
لكم الْحمار الأهلي، وَلَا كل ذِي نَاب من السبَاع» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه قَرِيبا فِي آخر الحَدِيث الرَّابِع وَلَيْسَ فِيهِ أَن خَالِد بن الْوَلِيد نَادَى لكنه رَاوِي الحَدِيث، وَتقدم أَنه حَدِيث ضَعِيف لَا يحْتَج بِمثلِهِ، وَهَذَا لَفظه فِي «مُسْند أَحْمد» : «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن أكل لُحُوم الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «غزونا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَزْوَة خَيْبَر، فأسرع النَّاس فِي حظائر يهود، فَأمرنِي أَن أنادي: الصَّلَاة جَامِعَة وَلَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا مُسلم. ثمَّ قَالَ: يَا أَيهَا النَّاس [إِنَّكُم] قد أسرعتم فِي حظائر يهود، أَلا لَا تحل أَمْوَال المعاهدين إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحرَام عَلَيْكُم الْحمر الْأَهْلِيَّة وخيلها وبغالها، وكل ذِي نَاب من السبَاع، وكل ذِي مخلب من الطُّيُور» .
وَالَّذِي ثَبت فِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أنس أَن الَّذِي نَادَى بِتَحْرِيم الْحمر الْأَهْلِيَّة هُوَ أَبُو طَلْحَة. وَأغْرب النَّوَوِيّ فِي «مبهماته» فَقَالَ: الرجل الَّذِي نَادَى بِتَحْرِيم الْحمر الْأَهْلِيَّة يَوْم خَيْبَر هُوَ أَبُو طَلْحَة رَوَاهُ أَبُو يعْلى الْموصِلِي فِي «مُسْنده» من رِوَايَة أنس. وَعَزوه إِلَى مُسلم أولَى، وَفِي «مُسْند أَحْمد» أَنه عبد الرَّحْمَن بن عَوْف ذكره من حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي.(9/365)
الحَدِيث التَّاسِع
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن كل ذِي نَاب من السبَاع وكل ذِي مخلب من الطير» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة مَيْمُون بن مهْرَان عَنهُ وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم وَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ، قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلم يسمعهُ من ابْن عَبَّاس بل بَينهمَا فِيهِ سعيد بن جُبَير، كَذَلِك ذكره أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَالْبَزَّار فِي «مُسْنده» وَقَالَ الْخَطِيب: الصَّحِيح عَن مَيْمُون عَن ابْن عَبَّاس، لَيْسَ بَينهمَا أحد. وَهَذَا الحَدِيث مَوْجُود فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ، وَرَوَى البُخَارِيّ وَمُسلم مثله عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي إِلَى قَوْله: «السبَاع» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة الْمِقْدَام بن معدي كرب. وَرَوَاهُ أَحْمد من رِوَايَة أبي الدَّرْدَاء مُقْتَصرا عَلَى الْقطعَة الأولَى، وَقَالَ أَبُو مُوسَى: وَرَوَاهُ عبد الله بن شبْل قَالَ: وَنقل ساربه رَوَاهُ أَيْضا وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عدي من حَدِيث الْمِقْدَام «أَنه كَانَ مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِخَيْبَر فَخَطب النَّاس فَقَالَ: وَإِنِّي أحرم عَلَيْكُم كل ذِي نَاب من السبَاع وَمَا سخر من الدَّوَابّ إِلَّا مَا سُمي الله عَلَيْهِ» وَفِي إسنادها ضعف أوضحه عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» وَغَيره.(9/366)
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «سَأَلَ رجل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن أكل الضَّب فَقَالَ: لَا آكله وَلَا أحرمهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «لَا آكله وَلَا أنهَى عَنهُ» .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «دخلت أَنا وخَالِد بن الْوَلِيد مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَيت مَيْمُونَة فَأتي بضب محنوذ، فَرفع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَده فَقلت: أحرام هُوَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: لَا، وَلكنه لم يكن بِأَرْض قومِي فأجدني أعافه. قَالَ خَالِد: فاجتررته فأكلته وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينظر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَقد ذكرت فَوَائده وَضبط أَلْفَاظه وَالْجَوَاب عَمَّا عَارضه فِي شرح الْعُمْدَة فَليُرَاجع مِنْهُ.(9/367)
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه سَأَلَ عَن الضبع أصيد هُوَ؟ قَالَ: نعم. قيل: أيؤكل؟ قَالَ: نعم. قيل: أسمعته من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: نعم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا، وَلَفظه: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الضبع، فَقَالَ: هِيَ صيد وَيجْعَل فِيهِ كَبْش إِذا صَاده الْمحرم» وَقد تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام، وَأعله ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» بِأَن قَالَ: انْفَرد بِهِ عبد الرَّحْمَن بن أبي عمار، وَلَيْسَ بِمَشْهُور بِنَقْل الْعلم، وَلَا بِمن يحْتَج بِهِ إِذا خَالفه من هُوَ أثبت مِنْهُ، يَعْنِي حَدِيث «النَّهْي عَن كل ذِي نَاب من السبَاع» . وَهَذَا عجب مِنْهُ؛ فقد وَثَّقَهُ أَبُو زرْعَة وَالنَّسَائِيّ وَأخرج لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» وَكَانَ من عباد أهل مَكَّة كَبِيرا بهَا حَتَّى سمي [بالقس] ، وَلَا أعلم أحدا تكلم فِيهِ، وَبَعض هَذَا كَاف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ، كَيفَ وَقد صحّح حَدِيثه الْأَئِمَّة: البُخَارِيّ - كَمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ - وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ، وَلم ينْفَرد بِهِ بل(9/368)
تَابعه عَطاء كَمَا سَاقه الْحَاكِم، وَصَححهُ الْبَيْهَقِيّ. قَالَ الشَّافِعِي: وَمَا يُبَاع لحم الضباع إِلَّا بَين الصَّفَا والمروة، وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَة الضبع عَلّي بن أبي طَالب، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَأَبُو ثَوْر، وَأحمد، وَدَاوُد، وخلائق من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.
وَحرمه أَبُو حنيفَة، وَكَرِهَهُ مَالك، وَورد فِي الْبَاب حَدِيث ظَاهره التَّحْرِيم وَهُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن حِبَّان - بِكَسْر الْحَاء - ابْن جُزْء، عَن أَخِيه خُزَيْمَة قَالَ: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن أكل الضبع فَقَالَ: أَو يَأْكُل الضبع أحد؟ ! وَسَأَلته عَن أكل الذِّئْب، فَقَالَ: أَو يَأْكُل الذِّئْب أحد؟ !» لكنه حَدِيث ضَعِيف، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيّ، لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن عبد الْكَرِيم أبي أُميَّة وَقد تكلم فيهمَا بعض أهل الحَدِيث. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده ضَعِيف. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: فِي إِسْنَاده حبَان بن جُزْء؛ وَهُوَ مَجْهُول الْحَال. وَقَالَ ابْن حزم: إِسْمَاعِيل بن مُسلم ضَعِيف وَابْن أبي الْمخَارِق سَاقِط، وحبان مَجْهُول. وَقَالَ عبد الْحق: ضَعِيف، وَقد صَحَّ أكل الضبع بِإِسْنَاد آخر تقدم فِي الْحَج. وَأَشَارَ إِلَى الحَدِيث الْمُتَقَدّم حَدِيث جَابر.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أنفجنا أرنبًا بمر الظهْرَان فأدركتها وأتيت بهَا(9/369)
أَبَا طَلْحَة فذبحها، وَبعث فَخذهَا إِلَى رَسُول الله فَقبله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم بِزِيَادَة فِيهِ، وَهَذَا لَفْظهمَا عَن أنس رَضِي الله [عَنهُ] قَالَ: «أنفجنا أرنبًا بمر الظهْرَان فسعى الْقَوْم فلغبوا وأدركتها، فَأتيت بهَا أَبَا طَلْحَة فذبحها، وَبعث إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بوركها وفخذها فَقبله» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «بعجزها» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة: «فَأكل مِنْهُ» . قلت: هَذِه الرِّوَايَة رَوَاهَا البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» فِي آخر الحَدِيث عِنْد قَوْله: «بوركها وفخذها» . وَقَالَ هِشَام بن زيد بن أنس: «قلت لأنس: وَأكل مِنْهَا. قَالَ: أكل مِنْهَا، ثمَّ قَالَ بعد: قَبِلَه» .
مَعْنَى «أنفجنا» : أثرنا ونفَّرنا. و «مر الظهْرَان» بِفَتْح الْمِيم والظاء: مَوضِع قريب من مَكَّة. وَقَوله: «فلغبوا» : هُوَ بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة فِي اللُّغَة الفصيحة الْمَشْهُورَة، وَفِي لُغَة ضَعِيفَة بِكَسْرِهَا حَكَاهَا الْجَوْهَرِي وَغَيره، وضعفوا أَي أعيوا.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
عَن بعض الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: « [اصطدت] أرنبين فذبحتهما(9/370)
بمروة، وَسَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمرنِي بأكلها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من رِوَايَة مُحَمَّد بن صَفْوَان، وَهُوَ المُرَاد بقول الرَّافِعِيّ: عَن بعض الصَّحَابَة. قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «الكنى» من حَدِيث مُحَمَّد بن صَفْوَان، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : الصَّحِيح مُحَمَّد بن صَفْوَان، وَمن قَالَ «مُحَمَّد بن صَيْفِي» فقد وهم، ذَلِك يروي حَدِيث عَاشُورَاء يروي عَنهُ الشّعبِيّ. وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيّ إِن مُحَمَّد بن صَفْوَان أصح. وَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان، وَالْبَيْهَقِيّ مثل ذَلِك من حَدِيث جَابر، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَابْن حبَان من رِوَايَة زيد بن ثَابت لكنهما قَالَا: «إِن ذئبًا نيَّب فِي(9/371)
شَاة فذبحوها بمروة، فسألوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمر بأكلها فأكلوها» وَكَذَا أخرجه أَحْمد، وَهُوَ فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» عَن كَعْب بن مَالك «أَنه سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن مَمْلُوكَة ذبحت شَاة بمروة فَأمره بأكلها» . وَأخرج هَذَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن ابْن عمر «أَن خَادِمًا كَانَت لكعب ... » الحَدِيث، وَهُوَ فِي «الْمسند» أَيْضا.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
ورد فِي الْخَبَر «الْهِرَّة سبع» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي بَاب النَّجَاسَات وَالْمَاء النَّجس.
الحَدِيث السَّادِس عشر
عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكره لحم مَا يَأْكُل الْميتَة» .
هَذَا الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه غَرِيب، وكرره الرَّافِعِيّ فِي هَذَا الْبَاب، وَذكر عَن مُجَاهِد أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ مَا يَأْكُل الْجِيَف - يَعْنِي الصَّحَابَة - ويغني عَن ذَلِك حَدِيث ابْن عمر وَغَيره «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن أكل الْجَلالَة» . وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِر هَذَا الْبَاب بَيَانه وَاضحا حَيْثُ ذكره.(9/372)
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خمس فواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم: الْحَيَّة، والفأرة، والغراب الأبقع، وَالْكَلب، والحدأة» .
وَهَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى تَقْيِيد الْكَلْب بالعقور.
قلت: وَهُوَ كَذَلِك فِي كل رِوَايَات الحَدِيث.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بدل «الْغُرَاب» : «الْعَقْرَب» .
قلت: ظَاهر هَذَا الْكَلَام من الإِمَام الرَّافِعِيّ أَن هَذِه اللَّفْظَة وَهِي «الْعَقْرَب» لم تُوجد فِي حَدِيث عَائِشَة، وَلَيْسَ كَذَلِك بل رَوَاهَا البُخَارِيّ وَمُسلم فِي حَدِيث عَائِشَة، واتفقا عَلَى إخْرَاجهَا عَنْهَا، وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي ذكره المُصَنّف فِيهِ هَذِه اللَّفْظَة فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَهَذَا لَفظه: «خمس قتلهن حَلَال فِي الْحرم: الْحَيَّة، وَالْعَقْرَب، والحدأة، والفأرة، وَالْكَلب الْعَقُور» وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن عجلَان الْمدنِي. وَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن معِين، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» . قَالَ غَيرهم: سيئ الْحِفْظ. وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: خرج لَهُ مُسلم ثَلَاثَة(9/373)
عشر حَدِيثا كلهَا فِي الشواهد، ويغني عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا الحَدِيث فِي الصَّحِيح وَفِيه اللَّفْظَة الْمَذْكُورَة؛ فقد رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا كَذَلِك من حَدِيث حَفْصَة، وَعبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة: «وكل سبع عَاد» . قلت: هَذِه الرِّوَايَة رَوَاهَا أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَغَيرهمَا وَقد تقدم بَيَانهَا وَاضحا فِي بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن أكل الرخمة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ عَن الْمَالِينِي عَنهُ عَن ابْن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن عبد الله بن نصر الرَّمْلِيّ قَالَا: ثَنَا وَارِث بن الْفضل، ثَنَا خلف بن أَيُّوب، نَا خَارِجَة - وَهُوَ ابْن مُصعب - عَن [عبد الْمجِيد] بن سُهَيْل، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور. قَالَ [الْبَيْهَقِيّ] : لم أكتبه إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. قلت: وَسَببه أَن(9/374)
خَارِجَة بن مُصعب، عَن [عبد الْمجِيد] بن سُهَيْل ضَعِيف جدًّا حَتَّى قَالَ ابْن حبَان: [لَا يحل] الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن قتل الخطاف» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن قتل النملة والنحلة والصرد» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام أَيْضا، وَمِمَّا لم أقدمه هُنَاكَ حَدِيث ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الذُّبَاب كُله فِي النَّار إِلَّا النحلة. وَكَانَ ينْهَى عَن قتلهن، وَعَن إحراق الْعِظَام. قَالَ سُفْيَان: أَي فِي أَرض الْعَدو» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَإِسْنَاده لَا أعلم بِهِ بَأْسا.
الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ
قَالَ الرَّافِعِيّ: فِي اللقلق وَجْهَان: أَحدهمَا - وَإِلَيْهِ ميل الشَّيْخ أبي مُحَمَّد - أَنه حَلَال كالكُرْكي، وَجعله الْغَزالِيّ أظهر، وَفِي «التَّهْذِيب» أَن(9/375)
الْأَصَح التَّحْرِيم، وَهُوَ الَّذِي أوردهُ (الْعَبَّادِيّ) وَاحْتج بِأَنَّهُ يطعم الْخَبَائِث وَبِأَنَّهُ يصف، وَقد رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[قَالَ] : «كل مَا دف ودع مَا صف» . يُقَال: دف الطَّائِر فِي طيرانه إِذا حرك جناحيه كَأَنَّهُ يضْرب بهما دفة، وصف إِذا لم يَتَحَرَّك كَمَا تفعل الْجَوَارِح. هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث مَذْكُور غَرِيب.
الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا من إِنْسَان يقتل عصفورًا فَمَا فَوْقهَا بِغَيْر حَقّهَا إِلَّا سَأَلَهُ الله - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْهَا. قيل: وَمَا حَقّهَا؟ قَالَ: يذبحها ويأكلها، وَلَا يقطع رَأسهَا فيطرحها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: فِيهِ صُهَيْب مولَى بني عَامر وَلَا يعرف لَهُ حَال، هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ وَأبي نعيم بسندهما، عَن عَمْرو بن يزِيد عَن أَبِيه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «مَا من أحد يقتل عصفورًا إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة. فَقَالَ: يَا رب، هَذَا قتلني عَبَثا، فَلَا هُوَ(9/376)
انْتفع بقتلي، وَلَا هُوَ تركني فأعيش فِي أَرْضك» وَفِي «مُسْند أَحْمد» و «سنَن النَّسَائِيّ» و «صَحِيح ابْن حبَان» ، عَن عَمْرو بن الشَّريد مَرْفُوعا: «من قتل عصفورًا عَبَثا عج إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة يَقُول: إِن فلَانا قتلني عَبَثا، وَلم يقتلني مَنْفَعَة» .
قَالَ ابْن الْأَثِير فِي «شرح مُسْند الشَّافِعِي» : العصفور مُذَكّر وَالْأُنْثَى عصفورة، وَقد ورد الضَّمِير فِي هَذَا الحَدِيث تَارَة إِلَى الْمُؤَنَّث فَقَالَ: «فَمَا فَوْقهَا بِغَيْر حَقّهَا» هَكَذَا جَاءَ فِي نسخ «الْمسند» عَلَى مَا وصل إِلَيْنَا مِنْهَا، فَإِن لم يكن سَهوا من الْكَاتِب فَيكون ذَلِك ردًّا إِلَى النَّفس أَي: من قتل نفسا. ورده تَارَة إِلَى الْمُذكر، فَقَالَ: «يسْأَله عَزَّ وَجَلَّ عَن قَتله» ردًّا إِلَى اللَّفْظ، ثمَّ أعَاد فَقَالَ: «وَمَا حَقّهَا؟» . فَأثْبت الضَّمِير. وَهَذَا وَأَمْثَاله فَاش فِي الْعَرَبيَّة أَن يحمل تَارَة عَلَى اللَّفْظ وَتارَة عَلَى الْمَعْنى فَيُقَال كل وَاحِد من الْأَمريْنِ مَا يَقْتَضِيهِ من تذكير وتأنيث وَجمع وإفراد، وَغير ذَلِك.
الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ
عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَأْكُل الدَّجَاج» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم. والدجاج مثلث الدَّال حَكَاهُ غير وَاحِد وَقد ذكرته مَبْسُوطا فِي كتابي الْمُسَمَّى «بالإشارات(9/377)
إِلَى مَا وَقع فِي الْمِنْهَاج من الْأَسْمَاء وَالْمعْنَى واللغات» .
الحَدِيث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أكلت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لحم حبارى» .
هَذَا الحَدِيث كَذَا وجدته فِي نُسْخَة أَصْلِيَّة مُقَابلَة عَلَى نُسْخَة منعوت عَلَيْهَا وَوَجَدته فِي أُخْرَى منعوت عَلَيْهَا «عَن شُعْبَة» وَكِلَاهُمَا خطأ بِلَا ريب، وَصَوَابه «عَن سفينة» بسين مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ فَاء ثمَّ يَاء مثناة تَحت ثمَّ نون ثمَّ هَاء، لَا يشك فِيهِ من لَهُ أدنَى إِلْمَام بِهَذَا الْفَنّ، كَذَلِك رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَغَيرهمَا من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن عمر بن سفينة، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «أكلت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لحم حبارى» . وَالْأول غلط بِلَا شكّ، وَقد ظهر غلط مَا تقدم؛ فَإِن فِي الأَصْل الْمَذْكُور أَولا «عَن سفينة» ثمَّ خرَّج الْكَاتِب تَخْرِيجه وَكتب «الْمُغيرَة بن» ، ثمَّ صحّح عَلَى ذَلِك، وَهَذَا كُله تَحْرِيف من الْكَاتِب، فَإِن كَانَ كَبِيرا فَإِنِّي أُجل الإِمَام الرَّافِعِيّ من الْوُقُوع فِي مثل ذَلِك، هَذَا الَّذِي يتداول مَعْرُوف عَلَى أَن هَذَا الحَدِيث إِسْنَاده ضَعِيف. قَالَ البُخَارِيّ: عمر بن سفينة مولَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، عَن أَبِيه، رَوَى عَنهُ ابْنه بُرَية - يَعْنِي عَن إِبْرَاهِيم - بِإِسْنَاد مَجْهُول. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِبْرَاهِيم ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: إِبْرَاهِيم هَذَا يُخَالف(9/378)
الثِّقَات فِي الرِّوَايَات، يروي عَن أَبِيه مَا لَا يُتَابع عَلَيْهِ من رِوَايَات الْأَثْبَات، فَلَا يحل الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ بِحَال ... ثمَّ ذكر لَهُ الحَدِيث الْمَذْكُور وَغَيره.
وَقَالَ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» : بُرية بن عمر بن سفينة لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه وَلَا يعرف إِلَّا بِهِ. ثمَّ ذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث وَسَاقه أَيْضا إِلَى تَرْجَمَة عمر بن سفينة، عَن أَبِيه ثمَّ قَالَ: حَدِيثه غير مَحْفُوظ، وَلَا يعرف إِلَّا بِهِ. وَخَالف أَبُو زرْعَة فَقَالَ: هُوَ صَدُوق. كَذَا نقل هَذِه القولة صَاحب الْمِيزَان والحبارى: طَائِر مَعْرُوف. قَالَه الْجَوْهَرِي وَغَيره.
الحَدِيث الْخَامِس وَالْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْبَحْر: «هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته» .
هَذَا الحَدِيث قد ذَكرْنَاهُ مَبْسُوطا بِطرقِهِ وفوائده فِي أول هَذَا الْكتاب.
الحَدِيث السَّادِس وَالْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب النَّجَاسَات.
الحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ
«أَن طَائِفَة من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَصَابَتْهُم المجاعة فِي غزَاة فَلفظ(9/379)
الْبَحْر حَيَوَانا عَظِيما يُسمى العنبر، فَأَكَلُوا مِنْهُ، ثمَّ أخبروا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما قدمُوا، فَلم يُنكر عَلَيْهِم، وَقَالَ: هَل حملتم لي مِنْهُ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَفِي رِوَايَة لمُسلم قَالَ: «بعثنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَنحن ثَلَاثمِائَة رَاكب وأميرنا أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح نرصد عيرًا لقريش، فَأَقَمْنَا بالسَّاحل نصف شهر، وأصابنا جوع شَدِيد حَتَّى أكلنَا الْخبط فَسُمي جَيش الْخبط، فَألْقَى لنا [الْبَحْر] دَابَّة يُقَال لَهَا العنبر، فأكلنا مِنْهَا نصف شهر، وادهنا من ودكها حَتَّى ثَابت أجسامنا، قَالَ: فَأخذ أَبُو عُبَيْدَة ضلعًا من أضلاعه فنصبه، ثمَّ نظر إِلَى أطول رجل فِي الْجَيْش وأطول جمل فَحَمله عَلَيْهِ فَمر تَحْتَهُ، وَجلسَ فِي حجاج عينه نفر، وأخرجنا من [وَقب عينه] كَذَا وَكَذَا قلَّة ودك، وَكَانَ مَعنا جراب من تمر، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة يُعْطي كل رجل قَبْضَة قَبْضَة، ثمَّ أَعْطَانَا تَمْرَة تَمْرَة، فَلَمَّا فني وَجَدْنَاهُ [فَقده] وَفِي رِوَايَة لَهُ: «بعثنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمر علينا أَبَا عُبَيْدَة نتلقى عيرًا لقريش وزودنا جرابًا من تمر لم نجد لنا غَيره، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة يُعْطِينَا تَمْرَة تَمْرَة، فَلَمَّا فني وَجَدْنَاهُ» . وَفِي رِوَايَة: «فَقلت لَهُ: كَيفَ تَصْنَعُونَ بهَا؟ قَالَ: نمصها(9/380)
كَمَا يمص الصَّبِي، ثمَّ نشرب عَلَيْهَا المَاء فتكفينا يَوْمنَا إِلَى اللَّيْل، وَكُنَّا نضرب بعصينا الْخبط ثمَّ نبله بِالْمَاءِ فنأكله. قَالَ: وانطلقنا عَلَى سَاحل الْبَحْر فَرفع لنا سَاحل الْبَحْر كَهَيئَةِ الْكَثِيب الضخم فأتيناه فَإِذا هُوَ دَابَّة تُدعَى: العنبر. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ميتَة. ثمَّ قَالَ: لَا بل نَحن رسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد اضطررتم، فَكُلُوا. قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا شهرا وَنحن ثَلَاثمِائَة حَتَّى سمنا. قَالَ: وَلَقَد رَأَيْتنَا نغترف من وَقب عينه بالقلال الدّهن، ونقطع مِنْهُ الفدر كالثور أَو كَقدْر الثور، فَلَقَد أَخذ منا أَبُو عُبَيْدَة ثَلَاثَة عشر رجلا فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقب عينه، وَأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها، ثمَّ رَحل أعظم بعير مَعنا فَمر من تَحْتَهُ، وتزودنا [من] لَحْمه وشائق، فَلَمَّا قدمنَا الْمَدِينَة أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذَكرنَا ذَلِك لَهُ. فَقَالَ: هُوَ رزق أخرجه الله لكم، فَهَل مَعكُمْ من لَحْمه شَيْء فتطعمونا؟ قَالَ: فَأَرْسَلنَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِنْهُ فَأَكله» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بسرية [وَأَنا] إِلَى سيف الْبَحْر» وسَاق الحَدِيث، وَفِيه: «فَأكل مِنْهَا الْجَيْش ثَمَانِي عشرَة لَيْلَة» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «بعث بعثًا إِلَى أَرض جُهَيْنَة وَاسْتعْمل عَلَيْهِ رجلا ... » وسَاق الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «غزونا جَيش الْخبط وأميرنا أَبُو عُبَيْدَة فجعنا جوعا شَدِيدا، فَألْقَى الْبَحْر حوتًا مَيتا لم نر مثله يُقَال لَهُ: العنبر، فأكلنا مِنْهُ نصف شهر، وَأخذ أَبُو عُبَيْدَة عظما من عِظَامه(9/381)
فَمر الرَّاكِب تَحْتَهُ» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَإِذا حوت مثل الظرب فَأكل مِنْهُ الْقَوْم ثَمَانِي عشرَة لَيْلَة، ثمَّ أَمر أَبُو عُبَيْدَة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثمَّ أَمر براحلة فرحلت، ثمَّ مرت تحتهَا فَلم تصبها» وَفِي رِوَايَة لَهُ وَلمُسلم: «وَكَانَ فِينَا رجل فَلَمَّا اشْتَدَّ الْجُوع نحر ثَلَاث جزائر ثمَّ ثَلَاث جزائر، ثمَّ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَة» وَجَاء فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: «إِن هَذَا الرجل هُوَ [قيس بن] سعد بن عبَادَة» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَلَمَّا (قدمنَا ذكرنَا ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ:) كلوا رزقا أخرجه الله لكم، أطعمونا إِن كَانَ مَعكُمْ. فَأَتَاهُ بَعضهم فَأَكله» وَفِي رِوَايَة للنسائي «أَنهم كَانُوا ثَلَاثمِائَة وَبضْعَة عشر» . وَهَذَا الحَدِيث هُوَ الْعُمْدَة فِي أَن السّمك الطافي - وَهُوَ الَّذِي يَمُوت فِي الْبَحْر بِلَا سَبَب - حَلَال. وَقد قَالَ جَمَاهِير الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بعدهمْ مِنْهُم أَبُو بكر الصّديق، وَأَبُو أَيُّوب، وَعَطَاء، وَمَكْحُول، وَالنَّخَعِيّ، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، وَأَبُو ثَوْر، وَدَاوُد، وَغَيرهم.
وَقَالَ جَابر بن عبد الله، وَجَابِر بن زيد، وَطَاوُس، وَأَبُو حنيفَة: لَا يحل. وَدَلِيل الْجُمْهُور الحَدِيث الْمَذْكُور بعد قَوْله تَعَالَى: (أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه مَتَاعا لكم) قَالَ ابْن عَبَّاس وَالْجُمْهُور: صَيْده مَا(9/382)
صدتموه وطافيه مَا قذفه. وَبِغير ذَلِك من الْأَدِلَّة الَّذِي لَيْسَ هَذَا مَوضِع بسطها، وَمن ذَلِك الحَدِيث الصَّحِيح: «هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته» . وَأما الحَدِيث الْمَرْوِيّ عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «مَا أَلْقَاهُ الْبَحْر أَو حرز مِنْهُ فكلوه، وَمَا مَاتَ فِيهِ فَلَا تأكلوه» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: إِنَّه حَدِيث ضَعِيف بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ لَو لم يُعَارضهُ شَيْء، فَكيف وَهُوَ معَارض بِمَا ذَكرْنَاهُ؟ ! وَقد أطنب الْبَيْهَقِيّ القَوْل فِي تَضْعِيفه فِي «سنَنه» و «خلافياته» ، وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» و «علله» وَغَيرهمَا، وَيَكْفِينَا من ذَلِك قَول البُخَارِيّ فِيهِ: إِنَّه حَدِيث لَيْسَ بِمَحْفُوظ. وَقَول الإِمَام أَحْمد: إِنَّه حَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح.
الثَّانِي: إِنَّه مَنْسُوخ بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف «هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته» . قَالَه الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «عُلُوم الحَدِيث» فَإِن قيل: لَا حجَّة لكم فِي حَدِيث العنبر؛ لأَنهم كَانُوا مضطرين. قُلْنَا: الِاحْتِجَاج بِهِ بِأَكْل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِنْهُ فِي الْمَدِينَة من غير ضَرُورَة.
الحَدِيث الثَّامِن وَالْعشْرُونَ
ورد النَّهْي عَن قتل الضفدع.
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام. وَفِي(9/383)
الضفدع أَربع لُغَات ذكرتها مُوضحَة فِي لُغَات «الْمِنْهَاج» . وَهُوَ الْمُسَمَّى بالإشارات.
الحَدِيث التَّاسِع وَالْعشْرُونَ
قَالَ الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الحشرات كلهَا مستخبثة مَا يدرج مِنْهَا وَمَا يطير، وَمِنْهَا مَا هِيَ ذَوَات السمُوم وإبر فَتحرم لما فِيهِ من الضَّرَر، وَفِي النَّهْي عَن الوزغ دَلِيل عَلَى تَحْرِيم أَنْوَاعهَا.
وعددهم الرَّافِعِيّ، وَهَذَا الَّذِي ذكره من النَّهْي عَن قَتلهَا شَيْء لَا نعرفه، بل هُوَ خلاف الْمَنْقُول عَن سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَفِي «صَحِيح مُسلم» عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بقتل الوزغ وَسَماهُ فويسقًا» . وَرَوَى البُخَارِيّ وَمُسلم عَن أم شريك «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أمرهَا بقتل الأوزاغ» . وَفِي رِوَايَة لَهما «أَمر» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «وَكَانَ ينْفخ النَّار عَلَى إِبْرَاهِيم» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «من قتل وزغًا فِي أول ضَرْبَة كتبت لَهُ [مائَة] حَسَنَة، وَفِي الثَّانِيَة دون ذَلِك، وَفِي الثَّالِثَة دون ذَلِك» وَفِي رِوَايَة لَهُ «فِي ضَرْبَة سبعين حَسَنَة» . وَفِي(9/384)
رِوَايَة لِابْنِ حبَان من حَدِيث عَائِشَة: «لم يكن دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا أطفأت عَن إِبْرَاهِيم النَّار غير الوزغ فَإِنَّهُ كَانَ ينْفخ عَلَيْهِ النَّار، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بقتْله» فَغَفَلَ الإِمَام الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرَادَ أَن يكْتب: وَمِنْهَا مَا أَمر بقتْله، فَسبق الْقَلَم إِلَى: مَا نهي عَن قَتله. وَرَأَيْت فِي «صَحِيح ابْن حبَان» تَرْجَمَة تدل عَلَى أَن بعض الْعلمَاء كره قَتلهَا، يُقَال ذكر الْأَمر بقتل الأوزاغ ضد قَول من كره قَتلهَا ثمَّ ذكر حَدِيث أم شريك السالف.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
قَالَ الرَّافِعِيّ: فِي الْقُنْفُذ وَجْهَان: أَحدهمَا - وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد -: يحرم؛ لما رُوِيَ فِي الْخَبَر أَنه من الْخَبَائِث. وَالثَّانِي: - وَهُوَ الْأَصَح - الْحل؛ لقَوْله تَعَالَى: (قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَى محرما
(الْآيَة. وَيروَى أَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سُئِلَ عَن الْقُنْفُذ فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة، فَقَالَ شيخ عِنْده: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَقُول: ذكر الْقُنْفُذ عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: خَبِيث من الْخَبَائِث. فَقَالَ ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إِن كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَه فَهُوَ كَمَا قَالَ» فَإِن كَانَ الشَّيْخ مَجْهُولا فَلم نر قبُول رِوَايَته، وَحمله بَعضهم عَلَى أَنه خَبِيث الْفِعْل؛ لِأَنَّهُ يخفي رَأسه عِنْد التَّعَرُّض لذبحه ويؤذي شوكه إِذا صيد. وَعَن الْقفال: إِن صَحَّ الْخَبَر فَهُوَ حرَام، وَإِلَّا رَجعْنَا إِلَى الْعَرَب هَل يستطيبونه؟ وَالْمَنْقُول عَنْهُم الاستطابة. انْتَهَى كَلَام الرَّافِعِيّ.(9/385)
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من رِوَايَة عِيسَى بن نميلَة - بالنُّون - عَن أَبِيه قَالَ: «كنت عِنْد ابْن عمر ... » الحَدِيث فَذَكَرَاهُ. قَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لم يرو إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد وَهُوَ إِسْنَاد فِيهِ ضعف (وَرِوَايَة شيخ مَجْهُول) . وَذكر الذَّهَبِيّ فِي «الكاشف» أَن ابْن حبَان وثق عِيسَى بن نميلَة. وَذكر هَذَا الحَدِيث عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» ، وَسكت عَنهُ، وَاحْتج بِهِ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «التَّحْقِيق» .
والقُنفذ بِضَم الْقَاف قطعا وَفِي فائه لُغَتَانِ بِالضَّمِّ وَالْفَتْح.
الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن أكل الْجَلالَة وَشرب أَلْبَانهَا حَتَّى تحبس» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ لَكِن من رِوَايَة عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وَلَعَلَّ إِسْقَاط الْوَاو من النساخ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الْإِبِل الْجَلالَة أَن يُؤْكَل لَحمهَا وَلَا يشرب(9/386)
أَلْبَانهَا وَلَا يركبهَا النَّاس حَتَّى تعلف أَرْبَعِينَ لَيْلَة» . قَالَ الْحَاكِم هَذَا لفظ الدَّارَقُطْنِيّ، وَلَفظ الْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْجَلالَة أَن يُؤْكَل لَحمهَا أَو يشرب لَبنهَا، وَلَا يحمل عَلَيْهَا الْأدم، وَلَا يركبهَا النَّاس حَتَّى تعلف أَرْبَعِينَ لَيْلَة» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَأما عبد الْحق فَقَالَ: فِي إِسْنَاده إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر البَجلِيّ عَن أَبِيه، وَإِسْمَاعِيل: ضَعِيف، وَأَبوهُ لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» بعد أَن أوردهُ: إِسْمَاعِيل وَأَبوهُ ضعيفان.
قلت: أما إِسْمَاعِيل فضعفوه، وَتَصْحِيح الْحَاكِم حَدِيثه هَذَا يُؤذن بِثِقَتِهِ عِنْده، وَأما أَبوهُ فروَى لَهُ مُسلم، وَقَالَ الثَّوْريّ وَأحمد: لَا بَأْس بِهِ. وَضَعفه ابْن معِين، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث.
قلت: قد جَاءَ النَّهْي عَن الْجَلالَة وَالشرب من لَبنهَا وَالرُّكُوب عَلَيْهَا من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَعَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَيْضا، وَأبي هُرَيْرَة.
أما حَدِيث عبد الله بن عمر فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن جلالة الْإِبِل أَن يركب عَلَيْهَا أَو(9/387)
يشرب من أَلْبَانهَا» . هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَفِي رِوَايَة لَهُ نهَى عَن الْجَلالَة فِي الْإِبِل أَن يركب عَلَيْهَا. وَفِي رِوَايَة لَهُ: «نهَى عَن ركُوب الْجَلالَة» وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن أكل الْجَلالَة وَأَلْبَانهَا» . وَلَفظ ابْن مَاجَه « [نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] عَن لُحُوم الْجَلالَة وَأَلْبَانهَا» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن ابْن أبي نجيح. وَذكر التِّرْمِذِيّ أَن سُفْيَان الثَّوْريّ رَوَاهُ عَن ابْن أبي نجيح، عَن مُجَاهِد، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: خَالف شريكُ ابنَ أبي نجيح، فَرَوَاهُ عَن لَيْث بن أبي سليم، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: وَرُوِيَ أَيْضا من وَجه آخر عَن ابْن عمر ... فَذكره من حَدِيث أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. وَرَوَاهُ عبد الْوَارِث، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر.
وَأما حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس، فَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم وَابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن أكل الْمُجثمَة وَهِي المصبورة للْقَتْل، وَعَن أكل(9/388)
الْجَلالَة وَشرب أَلْبَانهَا» وَفِي لفظ: «عَن لبن الْجَلالَة، وَعَن الشّرْب [من] فِي السقاء» وَلَفظ أَحْمد « [أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى] عَن الْمُجثمَة وَالْجَلالَة، وَأَن يشرب من فِي السقاء» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم فِي كتاب الْجِهَاد: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر «الاقتراح» فِي الْقسم الْخَامِس فِي ذكر أَحَادِيث رَوَاهَا قوم خرَّج عَنْهُم البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَلم يخرج عَنْهُم مُسلم إِذْ خرج عَنْهُم مَعَ الاقتران بِالْغَيْر.
وَأما حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده؛ فَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ عَنهُ قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وَعَن الْجَلالَة وَعَن ركُوبهَا وَأكل لحومها» . وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يشرب [من] فِي السقاء وَالْمُجَثمَة وَالْجَلالَة» .
الْمُجثمَة: الَّتِي تُجعل هدفًا ليرميها بِالسِّهَامِ حَتَّى تَمُوت. وَالْجَلالَة: الَّتِي تَأْكُل الْعذرَة.(9/389)
الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قُلْنَا: يَا رَسُول الله، إِنَّا لننحر الْإِبِل ونذبح الْبَقر وَالشَّاة، فنجد فِي بَطنهَا الْجَنِين أفنلقيه أم نأكله؟ فَقَالَ: كلوه إِن شِئْتُم، فَإِن ذَكَاته ذَكَاة أمه» .
هَذَا الحَدِيث من هَذَا الطَّرِيق لَهُ طرق: أَحدهَا عَن مجَالد، عَن أبي الوداك - واسْمه: جبر بن نوف - عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِهَذَا اللَّفْظ، وَأَبُو دَاوُد بلفظين أَحدهمَا مَا ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ، إِلَّا أَنه قَالَ «النَّاقة» بدل «الْإِبِل» . الثَّانِي: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْجَنِين، فَقَالَ: كلوه إِن شِئْتُم. قَالَ: ذَكَاته ذَكَاة أمه» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بلفظين: أَحدهمَا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن الْجَنِين [يخرج مَيتا] فَقَالَ: إِن شِئْتُم فكلوه» . الثَّانِي. «أَنه سُئِلَ عَن الْجَزُور وَالْبَقَرَة يُوجد فِي بَطنهَا الْجَنِين، فَقَالَ: إِذا سميتم عَلَى الذَّبِيحَة فذكاته ذَكَاة أمه» ثمَّ ذكره بِلَفْظ أبي دَاوُد المطول، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. قَالَ: وَقد رُوِيَ من غير هَذَا الْوَجْه عَن أبي سعيد. قَالَ: وَالْعَمَل عَلَى هَذَا الحَدِيث عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَغَيرهم.(9/390)
قلت: مدَار الحَدِيث عَلَى مجَالد بن سعيد الْهَمدَانِي ضَعَّفُوهُ، وَفِي روايةٍ عَن النَّسَائِيّ توثيقه، وَأخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا مَعَ غَيره، وَادَّعَى النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» الِاتِّفَاق عَلَى ضعفه فَكيف يُحسنهُ التِّرْمِذِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَقد رُوِيَ من غير هَذَا الْوَجْه عَن أبي سعيد. وَأما ابْن حزم فِي «محلاه» فَقَالَ: وَاحْتج المخالفون بأخبار واهية مِنْهَا هَذَا الْخَبَر ... فَذكره بِلَفْظ أبي دَاوُد الثَّانِي، وَذكر من حَدِيث مجَالد، عَن الشّعبِيّ، عَن أبي الوداك، ثمَّ قَالَ: ومجالد ضَعِيف، وَأَبُو الوداك كَذَلِك.
قلت: قد تقدم القَوْل فِي مجَالد، وَأما أَبُو الوداك فَقَالَ ابْن معِين: ثِقَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ: صَالح. وَاحْتج بِهِ مُسلم وَلَا أعلم فِيهِ جرحا وَأما الإِمَام فِي «نهايته» فَإِنَّهُ ذكره بِلَفْظ الرَّافِعِيّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ ابْن الصّلاح: حَدِيث ثَابت، ثُبُوت الْحسن مَرْوِيّ من حَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم أَبُو سعيد.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَفعه: «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه» . ذكره ابْن حزم فِي «محلاه» . وَقَالَ: ابْن أبي لَيْلَى سيئ الْحِفْظ، وعطية هَالك.
قلت: أخرجه الْحَاكِم من حَدِيث أبي حَمْزَة مُحَمَّد بن مَيْمُون(9/391)
السكرِي، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن عَطِيَّة، عَن أبي سعيد رَفعه بِمثلِهِ سَوَاء. فَهَذَا طَرِيق لَيْسَ فِيهِ ابْن أبي لَيْلَى، وَعبد الْملك من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَإِن لين. وَفِي «التَّهْذِيب» أَنه رَوَى عَن عَطِيَّة الْقرظِيّ فَليُحرر عَطِيَّة هَذَا هُوَ الْقرظِيّ أَو الْعَوْفِيّ.
الطَّرِيق الثَّالِث وَهُوَ أجدرها بالتقدم: عَن يُونُس بن أبي إِسْحَاق، عَن أبي الوداك، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه» رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، عَن أبي عُبَيْدَة الْحداد، عَن يُونُس بِهِ. وَأَبُو عُبَيْدَة هَذَا اسْمه [عبد الْوَاحِد] بن وَاصل، احْتج بِهِ البُخَارِيّ وَوَثَّقَهُ الْأَئِمَّة ابْن معِين وَغَيره، لَا جرم أخرجهَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الثَّقَفِيّ، ثَنَا عَلّي بن أنس العسكري، ثَنَا أَبُو عُبَيْدَة ... فَذكره، وَاقْتصر عَلَى هَذَا الطّرق الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» وَعَزاهَا إِلَى ابْن حبَان وَحده، وَقَالَ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» : هَذَا بَاب كَبِير مَدَاره عَلَى طَرِيق عَطِيَّة عَن أبي سعيد(9/392)
الْخُدْرِيّ وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَطَرِيق أبي الوداك، عَن أبي سعيد تفرد بِهِ عَلان. كَذَا قَالَ، وَلَا أعرف هَذَا فِي طرقه. ثمَّ قَالَ: وَفِيه زيادات فِي اللَّفْظ وَلَا تقوم بِهِ حجَّة. قَالَ: وَمن تَأمل هَذَا الْبَاب من أهل الصَّنْعَة قَضَى [فِيهِ] بالعجب أَن الشَّيْخَيْنِ لم يخرجَاهُ فِي الصَّحِيح.
قلت: حاشاهما من إِخْرَاج كل طرقه، نعم بَعْضهَا جيد كَمَا عَرفته وستعرفه، وَلما ذكر التِّرْمِذِيّ حَدِيث أبي سعيد هَذَا قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن جَابر، وَأبي أُمَامَة، وَأبي الدَّرْدَاء، وَأبي هُرَيْرَة. زَاد الْبَيْهَقِيّ بِدُونِ أبي أُمَامَة: وَعلي بن أبي طَالب، وَابْن مَسْعُود، وَابْن عمر، وَابْن عَبَّاس، وَأبي أَيُّوب، والبراء بن عَازِب.
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن كَعْب بن مَالك، ولنذكر طرق هَذِه الْأَحَادِيث ونتكلم عَلَيْهَا، فَإِن هَذَا الحَدِيث قَاعِدَة عَظِيمَة، فَنَقُول:
أما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ الدَّارمِيّ، وَأَبُو دَاوُد، من حَدِيث إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، عَن عتاب بن بشير، عَن عبيد الله بن أبي زِيَاد القداح، عَن أبي الزبير، عَن جَابر رَفعه «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه» .
أعله عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بعبيد الله القداح وَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف الحَدِيث. وَتعقبه ابْن الْقطَّان بِأَنَّهُ لم يبين أَنه من روايه عتاب بن بشير عَنهُ، قَالَ: وعتاب هُوَ الْحَرَّانِي، زَعَمُوا أَنه رَوَى بِأخرَة أَحَادِيث مُنكرَة وَأَنه اخْتَلَط عَلَيْهِ الْعرض وَالسَّمَاع فتكلموا فِيهِ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي من(9/393)
الوسواس وَلَا يضرّهُ ذَلِك؛ فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا تحمل صَحِيح. واستمداد هَذَا التَّعْلِيل من كتاب أبي مُحَمَّد بن حزم فَهُوَ عَن مَجْهُول، ثمَّ لم يَأْتِ عَن [أبي] الزبير إِلَّا من طَرِيق حَمَّاد بن شُعَيْب وَالْحسن بن بشر وعتاب بن بشير عَن عبيد الله القداح وَكلهمْ ضعفاء. انْتَهَى. فَأَما القداح هَذَا فَقَالَ ابْن معِين فِيهِ مرّة: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَحْمد: صَالح الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عدي: لم أر لَهُ شَيْئا مُنْكرا. وَصحح التِّرْمِذِيّ حَدِيثه عَن الْقَاسِم، عَن: «عَائِشَة إِنَّمَا جعل الطّواف (وَالسَّعْي والجمار لإِقَامَة ذكر الله تَعَالَى» . وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ) وَلَا بالمتين يحول من الضُّعَفَاء. وَأما عتاب بن بشير، فقد احْتج بِهِ البُخَارِيّ. وَوَثَّقَهُ ابْن معِين مرّة. وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. وَقَول ابْن حزم لم يَأْتِ عَن [أبي] الزبير إِلَّا من الطّرق الَّذِي ذكرهَا للتبين كَذَلِك هَذَا خرجه الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من حَدِيث زُهَيْر، عَن أبي الزبير، عَن جَابر: «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه» . ثمَّ قَالَ: تَابعه من الثِّقَات عبيد الله(9/394)
بن زِيَاد، عَن أبي الزبير ... فَذكره بِإِسْنَادِهِ، ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ، وَإِنَّمَا يعرف من حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى وَحَمَّاد بن شُعَيْب، عَن أبي الزبير. وَهَذَا طَرِيق آخر لم يذكرهُ ابْن حزم وَهُوَ طَرِيق ابْن أبي لَيْلَى، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أبان، عَن صباح بن يَحْيَى الْمدنِي، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن أبي الزبير، عَن جَابر رَفعه: «كل الْجَنِين فِي بطن أمه» وَفِي لفظ: «فِي بطن النَّاقة»
وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث يُوسُف بن عدي، نَا بشر بن عمَارَة، عَن الْأَحْوَص بن حَكِيم، عَن رَاشد بن سعد، عَن عتبَة بن عبد، عَن أبي أُمَامَة وَأبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه» ثمَّ أخرجه من حَدِيث رَاشد بن سعد، عَن أبي أُمَامَة وَأبي الدَّرْدَاء. وَرَاشِد هَذَا ثِقَة، والأحوص بن حَكِيم ضَعْفه مَحْض وَعتبَة بن عبد كَأَنَّهُ صَحَابِيّ.
وَأما حَدِيث أبي الدَّرْدَاء فقد عَرفته الْآن. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عمر بن قيس، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه قَالَ فِي الْجَنِين: ذَكَاته ذَكَاة أمه» . قَالَ عبد الْحق: لَا يحْتَج بِإِسْنَادِهِ. وَلم يبين مَوضِع الْعلَّة، وَبَينهَا(9/395)
ابْن الْقطَّان بعمر بن قيس فَقَالَ: هُوَ مَتْرُوك. وَهُوَ كَمَا قَالَ لَكِن ابْن الْقطَّان ذكره عَن طَاوس، عَن [ابْن] عَبَّاس، عَن أبي هُرَيْرَة. وَذكره الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا وَلم [يذكر] أَبَا هُرَيْرَة. وَقَالَ: حَدِيث مُنكر لَكِن ذكره الْحَاكِم من رِوَايَة يَحْيَى بن سعيد عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن سعيد المَقْبُري، عَن جده، عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه بِهِ ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح.
وَفِيه وَقْفَة، فعبد الله هَذَا قَالَ البُخَارِيّ: تَرَكُوهُ.
وَأما حَدِيث عَلّي فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَفِيه الْحَارِث الْأَعْوَر الْكذَّاب وَعنهُ مُوسَى بن عُثْمَان الْكُوفِي. ادَّعَى ابْن الْقطَّان جهالته وَغلط، نعم هُوَ ضَعِيف، قَالَ ابْن عدي: حَدِيثه لَيْسَ بالمحفوظ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَتْرُوك.
وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من رِوَايَة عَلْقَمَة عَنهُ أرَاهُ رَفعه: «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه» . وَرِجَاله رجال الصَّحِيح إِلَّا أَن شيخ شَيْخه أَحْمد بن حجاج بن الصَّلْت ذكره الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» وَذكر لَهُ [حَدِيثا] وَأَنه آفته وَالظَّاهِر أَنه هُوَ.(9/396)
وَأما حَدِيث ابْن عمر فَلهُ طرق عَنهُ أَحدهَا: عَن عِصَام بن يُوسُف، عَن مبارك بن مُجَاهِد، عَن عبيد الله [بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْجَنِين: ذَكَاته ذَكَاة أمه أشعر أم لم] يشْعر» قَالَ عبيد الله: وَلكنه إِذا خرج من بطن أمه يُؤمر بذَبْحه حَتَّى يخرج الدَّم من جَوْفه. قَالَ عبد الْحق: إِسْنَاده ضَعِيف، فِيهِ عِصَام ومبارك. قَالَ ابْن الْقطَّان: لم يبين حَال عِصَام، وَهُوَ رجل لَا تعرف حَاله قَالَ: وَأرَاهُ الَّذِي ذكره ابْن أبي حَاتِم وَلم يعرف من حَاله. شَيْء غير أَنه قَالَ فِيهِ: الزَّاهِد.
قلت: قد تكلم فِيهِ ابْن عدي فَقَالَ: رَوَى عَن الثَّوْريّ وَغَيره أَحَادِيث لَا يُتَابع عَلَيْهَا. ومبارك بن مُجَاهِد ضعفه البُخَارِيّ وَقَالَ عَن قُتَيْبَة: كَانَ قدريًّا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَا أرَى بحَديثه بَأْسا.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن وهب بن بَقِيَّة، ثَنَا مُحَمَّد بن الْحسن الوَاسِطِيّ، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَفعه: «ذَكَاة الْجَنِين إِذا أشعر ذَكَاة أمه وَلكنه يذبح حَتَّى ينصاب مَا فِيهِ من الدَّم» أخرجه الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه الْأَوْسَط» من هَذِه الطَّرِيق بِلَفْظ: «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه إِذا أشعر» ثمَّ قَالَ: لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق إِلَّا مُحَمَّد بن الْحسن، تفرد بِهِ وهب بن بَقِيَّة، وَأخرجه ابْن حبَان فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» من هَذِه الطَّرِيق(9/397)
بِلَفْظ الْحَاكِم ثمَّ قَالَ: مُحَمَّد هَذَا يرفع الْمَوْقُوفَات ويسند الْمَرَاسِيل، وَإِنَّمَا هُوَ قَول ابْن عمر. وَأخرجه الْخَطِيب فِي كتاب «من رَوَى عَن مَالك» من حَدِيث أَحْمد بن عِصَام، ثَنَا مَالك، عَن نَافِع بِهِ وَلم يذكر «إِذا أشعر» ثمَّ قَالَ: هُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» مَوْقُوف وَذَلِكَ أصح.
قلت: وَأحمد تكلم فِيهِ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: ضَعِيف. وَلَفظ «الْمُوَطَّأ» عَن نَافِع عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول: «إِذا نحرت النَّاقة فذكاة مَا فِي بَطنهَا فِي ذكاتها إِذا كَانَ قد تمّ خلقه وَنبت شعره، فَإِذا خرج من بطن أمه ذبح حَتَّى يخرج الدَّم من جَوْفه» .
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن أَحْمد بن يَحْيَى الْأَنْطَاكِي، عَن عبد الله بن نصر بِهِ. ثمَّ قَالَ: لم يروه مَرْفُوعا عَن عبيد الله إِلَّا أَبُو أُسَامَة، تفرد بِهِ عبد الله بن نصر.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن أبي حُذَيْفَة، نَا مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي، عَن أَيُّوب بن مُوسَى قَالَ: ذُكِرَ [لي] عَن ابْن عمر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «فِي الْجَنِين إِذا أشعر فذكاته ذَكَاة أمه» .
ذكره ابْن حزم فِي «محلاة» ، ثمَّ قَالَ: أَبُو حُذَيْفَة ضَعِيف، وَمُحَمّد بن مُسلم أسقط مِنْهُ، ثمَّ هُوَ مُنْقَطع. قلت: أَبُو حُذَيْفَة هُوَ مُوسَى بن مَسْعُود الْبَصْرِيّ، أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَقيل ليحيى بن معِين: إِن بندارًا يَقع فِيهِ. قَالَ يَحْيَى: هُوَ خير من بنْدَار وَمن ملْء الأَرْض مثله. وَقَالَ أَحْمد: صَدُوق، هُوَ من أهل الصدْق. وَقَالَ الْعجلِيّ:(9/398)
ثِقَة صَدُوق. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق. نعم قَالَ التِّرْمِذِيّ: يضعف [فِي] الحَدِيث. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: لَا أحتج بِهِ. وَقَالَ الفلاس: لَا يحدث عَنهُ من يبصر الحَدِيث.
وَأما مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي فاحتج بِهِ مُسلم فِي «صَحِيحه» وَله فِيهِ حَدِيث وَاحِد، وَقَالَ ابْن معِين: لَا بَأْس بِهِ، فَإِذا حدث من حفظه يُخطئ. وَقَالَ البُخَارِيّ: قَالَ ابْن مهْدي: كتبه صِحَاح. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن عدي: لم أر لَهُ حَدِيثا مُنْكرا. وَقَالَ: اخْتلف فِي رَفعه عَن نَافِع. فَذكر الِاخْتِلَاف ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ أَيُّوب وَجَمَاعَة عدَّدهم عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَوْقُوفا وَهُوَ الصَّحِيح.
وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُوسَى بن عُثْمَان الْكِنْدِيّ، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عِكْرِمَة، عَنهُ مَرْفُوعا بِلَفْظ: «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه» . أعله ابْن الْقطَّان بِجَهَالَة مُوسَى هَذَا وَهُوَ الْمُتَقَدّم ذكره فِي حَدِيث عَلّي.
وَأما حَدِيث أبي أَيُّوب فَأخْرجهُ الْحَاكِم من حَدِيث شُعْبَة، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن أَخِيه، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن أبي أَيُّوب مَرْفُوعا بِهِ، وَقَالَ: رُبمَا توهم متوهم أَن حَدِيث أبي أَيُّوب صَحِيح وَلَيْسَ(9/399)
كَذَلِك. وَأخرجه ابْن حزم فِي «محلاه» من طَرِيق ابْن أبي لَيْلَى، عَن أَخِيه عِيسَى، عَن أَبِيه عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه إِذا أشعر» . ثمَّ قَالَ ابْن أبي لَيْلَى: سيئ الْحِفْظ ثمَّ هُوَ مُنْقَطع.
قلت: قد ذكر بذلك مَوْصُولا.
وَأما حَدِيث الْبَراء فَلَا يحضرني غير مَا ذكرته عَن الْبَيْهَقِيّ.
وَأما حَدِيث كَعْب بن مَالك فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث الْحسن بن عَمْرو بن شَقِيق، عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك ( ... ) أخرجه من حَدِيث عبد الله بن الجهم، ثَنَا عبد الله بن الْعَلَاء بن شبيب، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن ( ... ) عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن كَعْب رَفعه بِهِ.
فَهَذِهِ طرق هَذَا الحَدِيث وَهِي إِحْدَى عشر طَرِيقا مُوضحَة الْكَلَام عَلَيْهَا، وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : لَا يحْتَج بأسانيدها كلهَا. وَأقرهُ ابْن الْقطَّان عَلَى ذَلِك، وَسَبقه بذلك ابْن حزم فَإِنَّهُ قَالَ فِي «محلاه» : وَاحْتج المخالفون بأخبار واهية. ثمَّ ذكره من أَربع طرق ووهاها، وَقد عرفت أَن بَعْضهَا يصلح للاحتجاج بِهِ، وَهُوَ طَرِيق أبي سعيد الَّتِي أخرجهَا أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْن حبَان، وَطَرِيق جَابر الَّتِي أخرجهَا الْحَاكِم، ويقابل قَول ابْن حزم وَعبد الْحق فِي تَضْعِيف مَا ورد من ذَلِك عَلَى سَبِيل الْإِجْمَال قَول الْغَزالِيّ فِي كِتَابه «الْإِحْيَاء» تبعا لإمامه(9/400)
إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي «الأساليب» : وَقد صَحَّ فِي الصِّحَاح من الْأَخْبَار حَدِيث الْجَنِين «فَإِن ذَكَاته ذَكَاة أمه» صِحَة لَا يتَطَرَّق احْتِمَال إِلَى مَتنه وَلَا ضعف إِلَى سَنَده، وَهَذَا من الْعجب العجاب، وَخير الْأُمُور أوسطها، وَإِن طرقه ضَعِيفَة خلا طَريقَة أبي سعيد وَجَابِر الْمُتَقَدِّمين وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق. كَيفَ وَقد رَوَى ابْن حزم من طَرِيق سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن كَعْب بن مَالك قَالَ: كَانَ أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُولُونَ: «ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه» وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مَا يُقَوي ذَلِك.
فَائِدَة: قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «ذَكَاة الْجَنِين حَاصِلَة بِذَكَاة أمه» .
قَالَ النَّوَوِيّ، ويوضحه أَن فِي رِوَايَة للبيهقي «ذَكَاة الْجَنِين فِي ذَكَاة أمه» وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا «ذَكَاة الْجَنِين بِذَكَاة أمه» ، قَالَ: وَبَعض النَّاس ينصب «ذَكَاة» ويجعله بِالنّصب دَلِيلا لأَصْحَاب أبي حنيفَة فِي أَنه لَا يحل إِلَّا بِذَكَاة وَيَقُول: ذَكَاته كذكاة أمه، حذفت الْكَاف [فانتصب] . قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَن الرِّوَايَة الْمَعْرُوفَة بِالرَّفْع، وَكَذَا نَقله الْخطابِيّ وَغَيره، وَتَقْدِيره عَلَى الرّفْع يحْتَمل أوجهًا أحْسنهَا أَن «ذَكَاة الْجَنِين» خبر مقدم و «ذَكَاة أمه» مُبْتَدأ وَالتَّقْدِير: ذَكَاة أم الْجَنِين ذَكَاة لَهُ. كَقَوْل الشَّاعِر: بنونا بَنو أَبْنَائِنَا.
ونظائر ذَلِك؛ لِأَن الْخَبَر مَا حصلت بِهِ الْفَائِدَة، وَلَا تحصل [إِلَّا] بِمَا ذَكرْنَاهُ، وَأما رِوَايَة النصب عَلَى تَقْدِير صِحَّتهَا فتقديرها: ذَكَاة الْجَنِين(9/401)
حَاصِلَة وَقت ذَكَاة أمه. وَأما قَوْلهم بتقديره كذكاة أمه، فَلَا يَصح عِنْد النَّحْوِيين بل هُوَ لحن، وَإِنَّمَا جَاءَ النصب بِإِسْقَاط [الْحَرْف] فِي مَوَاضِع مَعْرُوفَة عِنْد الْكُوفِيّين بِشَرْط لَيْسَ مَوْجُودا هُنَا. هَذَا آخر كَلَام النَّوَوِيّ فِي «التَّهْذِيب» .
الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ
«أَن أَبَا طيبَة حجم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمر لَهُ بِصَاع من تمر، وَأمر أَهله أَن يخففوا من خراجه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه سُئِلَ عَن أجر الْحجام فَقَالَ: احْتجم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حجمه أَبُو طيبَة وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ من طَعَام، وكلم موَالِيه فخففوا عَنهُ وَقَالَ: إِن أمثل مَا تداويتم بِهِ الْحجامَة والقسط البحري» . وَفِي رِوَايَة: «دَعَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غُلَاما حجامًا فحجمه فَأمر لَهُ بِصَاع أَو صَاعَيْنِ أَو مد أَو مَدين، وكلم فِيهِ موَالِيه فخفَّف من ضريبته» وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَأَبُو دَاوُد عَنهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي أوردهُ الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب، وَفِي رِوَايَة لأبي حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن جَابر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر أَبَا طيبَة أَن يَأْتِيهِ(9/402)
مَعَ غيبوبة الشَّمْس فَأمره أَن يضع المحاجم مَعَ إفطار الصَّائِم ثمَّ سَأَلَهُ: كم خراجك قَالَ: صَاعَيْنِ» . فَوضع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَنهُ صَاعا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن عِكْرِمَة قَالَ: «احْتجم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأعْطَى [الْحجام] عمالته دِينَارا» . وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس « [أَنه] عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى أبي طيبَة لَيْلًا فحجمه وَأَعْطَاهُ أجره» . وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث جَعْفَر بن أبي وحشية، عَن سُلَيْمَان بن قيس، عَن جَابر قَالَ: «دَعَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبَا طيبَة فحجمه، فَسَأَلَهُ: كم ضريبتك؟ قَالَ: ثَلَاثَة آصَع. فَوضع [عَنهُ] صَاعا» .
فَائِدَة: «أَبُو طيبَة» بِفَتْح الطَّاء واسْمه نَافِع. وَقيل: ميسرَة. وَقيل: دِينَار ( ... ) لبني بياضة.
الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن كسب الْحجام فَنَهَى عَنهُ، وَقَالَ: أطْعمهُ رقيقك وأعلفه ناضحك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن ابْن محيصة الْأنْصَارِيّ «أَنه اسْتَأْذن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي أُجْرَة الْحجام فِيهَا، وَكَانَ لَهُ(9/403)
مولَى حجامًا، فَلم يزل يسْأَله ويستأذنه حَتَّى قَالَ آخرا: أعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة ابْن محيصة عَن أَبِيه. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ حَدِيث حسن. وَصَححهُ ابْن حبَان، وَقَالَ الْعقيلِيّ: إِسْنَاده صَالح. وَقَالَ عبد الْحق: ابْن محيصة هُوَ حرَام بن سعد بن محيصة ينْسب تَارَة إِلَى جده. قَالَ: وَلَيْسَت لِابْنِ محيصة صُحْبَة.
قلت: بلَى، لَهُ ولأبيه. وَقيل: سعيد. وَقيل: سَاعِدَة. قَالَ عبد الْحق: وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، عَن شُعْبَة، نَا أَبُو بلج قَالَ: سَمِعت عَبَايَة بن رِفَاعَة بن رَافع يحدث «أَن جده هلك وَترك غُلَاما حجامًا وناضحًا وأرضًا وَأمة، فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يَجْعَل كسب الْحجام فِي علف الناضح ... » الحَدِيث. قَالَ: وَلَا أعلم هَذَا أَيْضا مُتَّصِل.
قلت: وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن سُفْيَان، عَن أبي الزبير، عَن جَابر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن كسب الْحجام فَقَالَ: أعلفه ناضحك ... »
[الحَدِيث] الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ
رُوِيَ فِي الْخَبَر «إِن من الذُّنُوب مَا لَا يكفره صَوْم وَلَا صَلَاة، ويكفره عرق الجبين فِي الحرفة» .(9/404)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِنَحْوِهِ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كتاب «تَلْخِيص الْمُتَشَابه» من حَدِيث يَحْيَى بن بكير، عَن مَالك بن أنس، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَلْقَمَة، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن من الذُّنُوب ذَنبا لَا يكفرهَا الصَّلَاة وَلَا الصَّوْم وَلَا الْحَج وَلَا الْعمرَة. قيل: فَمَا يكفرهَا يَا رَسُول الله؟ قَالَ: يكفرهَا الهموم فِي طلب الْمَعيشَة» . وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» عَن الْمِقْدَام بن معدي كرب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا أكل [أحد] طَعَاما قطّ خير من أَن يَأْكُل من عمل يَده، وَإِن نَبِي الله دَاوُد (كَانَ يَأْكُل من عمل يَده» . وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «إِن الله يحب الْمُؤمن المحترف» سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: حَدِيث مُنكر.
الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كسر عِظَام الْمَيِّت ككسر عِظَام الْحَيّ» .(9/405)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد تقدم بَيَانه مَبْسُوطا فِي آخر كتاب الْغَصْب.
الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر الرَّهْط العرنيين أَن يشْربُوا من أَبْوَال الْإِبِل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من روايه أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن نَاسا من عكل أَو عرينة اجتووا الْمَدِينَة، فَأمر لَهُم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بلقاح وَأمرهمْ أَن يشْربُوا من أبوالها وَأَلْبَانهَا، وَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صحُّوا قتلوا الرَّاعِي وَاسْتَاقُوا الْغنم، فجَاء الْخَبَر فِي أول النَّهَار فَبعث فِي آثَارهم، فَلَمَّا ارْتَفع النَّهَار جِيءَ فَأمر بِقطع أَيْديهم وأرجلهم وسملت أَعينهم، وَتركُوا فِي الْحرَّة يستسقون فَلَا يسقون.
قَالَ أَبُو قلَابَة أحد رُوَاة الحَدِيث: هَؤُلَاءِ سرقوا وَقتلُوا وَكَفرُوا بعد إِيمَانهم وحاربوا الله وَرَسُوله» .
قَالَ قَتَادَة: فَحَدثني ابْن سِيرِين أَن ذَلِك كَانَ قبل أَن تنزل الْحُدُود.
فَائِدَة: قَالَ ابْن شاهين: هَذَا الحَدِيث نسخه حَدِيث عمرَان بن حُصين قَالَ: «مَا قَامَ فِينَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَطِيبًا إِلَّا أمرنَا بِالصَّدَقَةِ ونهانا عَن الْمثلَة» . قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث ينْسَخ كل مثلَة كَانَت فِي الْإِسْلَام. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «الْإِعْلَام» : ادِّعَاء النّسخ يحْتَاج إِلَى تَارِيخ، وَقد قَالَ الْعلمَاء: إِنَّمَا سمل أعين أُولَئِكَ، لأَنهم سملوا الرعاء فاقتص مِنْهُم بِمثل(9/406)
مَا فعلوا، وَالْحكم بذلك ثَابت. وَمَا ادَّعَاهُ ابْن شاهين من نسخ حَدِيث العرنيين هَذَا سبقه بِهِ إمامنا الشَّافِعِي فَحَكَى الإِمَام فِي «نهايته» عَنهُ أَنه قَالَ: هَذَا حَدِيث مَنْسُوخ؛ إِذْ فِيهِ أَنه مثل بهم ثمَّ مَا قَامَ فِي مقَام الْأَمر بِالصَّدَقَةِ وَنَهَى عَن الْمثلَة.
فَائِدَة ثَانِيَة: اسْم راعي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَذْكُور «يسَار» ذكره ابْن عبد الْبر فِي «الِاسْتِيعَاب» . قيل: كَانَ نوبيًّا وَكَذَا قَالَ الْبَغْدَادِيّ فِي «مبهماته» : إِن اسْم الرَّاعِي «يسَار» . قَالَ: وَكَانَ غُلَاما للنَّبِي (فَأعْتقهُ. وَكَذَا جزم بِهَذَا أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» . وَفِي رِوَايَته «أَنهم ذبحوه وَجعلُوا الشوك فِي عَيْنَيْهِ» . قَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين: وَكَانَت قصَّة العرنيين سنة سِتّ من الْهِجْرَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «المبهمات» : عدد العرنيين ثَمَانِيَة. كَذَلِك رَوَاهُ أَبُو يعْلى الْموصِلِي فِي «مُسْنده» ، وَهَذَا عجب مِنْهُ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنهم ثَمَانِيَة فعزوه إِلَيْهَا أولَى.
وَمَعْنى «اجتووا الْمَدِينَة» : استوخموها. وَفِي «مُسْند أَحْمد» «شكوا حمى الْمَدِينَة» . وَفِي «الْمُسْتَدْرك» لأبي عبد الله الْحَاكِم، عَن أنس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِنَّمَا سمل أَعينهم؛ لأَنهم سملوا أعين الرعاء» وَهَذَا لَا يسْتَدرك؛ لِأَنَّهُ فِي «صَحِيح مُسلم» . وَوَقع فِي «مُصَنف عبد الرَّزَّاق» «أَنهم من بني فَزَارَة قد مَاتُوا هزلا» . قَالَ ابْن الطلاع: وَفِي حَدِيث آخر «من بني سليم» .(9/407)
الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا جعل شفاؤكم فِيمَا حرم عَلَيْكُم» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي كتاب حد الشّرْب.
الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ
قَالَ الرَّافِعِيّ: إِذا استضاف مُسلم لَا اضطرار بِهِ مُسلما لم تجب عَلَيْهِ ضيافته، وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب مَحْمُولَة عَلَى الِاسْتِحْبَاب.
قلت: فلنذكر من ذَلِك خَمْسَة أَحَادِيث:
الأول: حَدِيث أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ الْمُتَقَدّم فِي كتاب الْجِزْيَة وَهُوَ الحَدِيث السَّابِع عشر مِنْهُ.
الثَّانِي: عَن الْمِقْدَام بن معدي كرب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْلَة الضَّيْف حق عَلَى كل مُسلم فَمن أصبح بفنائه فَهُوَ عَلَيْهِ دين إِن شَاءَ (اقْتَضَى) وَإِن شَاءَ ترك» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح. الثَّالِث: عَن عقبَة بن عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قُلْنَا: يَا رَسُول الله، إِنَّك تبعثنا فَنَنْزِل بِقوم فَلَا يقرونا، فَمَا ترَى؟ فَقَالَ لنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن نزلتم بِقوم فَأمروا لكم بِمَا يَنْبَغِي للضيف فاقبلوا، فَإِن لم يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُم حق الضَّيْف الَّذِي يَنْبَغِي لَهُم» . رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه.
الرَّابِع: عَن الْمِقْدَام بن معدي كرب قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَيّمَا رجل أضَاف قوما فَأصْبح الضَّيْف محرومًا فَإِن نَصره حق عَلَى كل مُسلم(9/408)
حَتَّى يَأْخُذ [بقرى] ليلته من زرعه وَمَاله» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح.
الْخَامِس: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام فَمَا سُوَى ذَلِك فَهُوَ صَدَقَة» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح.
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي تعليقة إِبْرَاهِيم الْمروزِي: إِنَّه وَردت أَخْبَار فِي النَّهْي عَن الطين الَّذِي يُؤْكَل، وَلَا يثبت شَيْء مِنْهَا، وَيَنْبَغِي أَن يحكم بِالتَّحْرِيمِ إِذا ظَهرت الْمضرَّة فِيهِ، وَإِن لم تثبت الْأَخْبَار. انْتَهَى مَا ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد وَردت فِي ذَلِك أَخْبَار كَثِيرَة وَلَا يَصح شَيْء مِنْهَا. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «من انهمك عَلَى أكل الطين فقد أعَان عَلَى قتل نَفسه» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: عبد الله بن مَرْوَان الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده مَجْهُول.
قلت: بل مَعْرُوف الْحَال واهٍ. قَالَ ابْن عدي: أَحَادِيثه فِيهَا نظر. وَقَالَ ابْن حبَان: يلزق الْمُتُون الصِّحَاح [الَّتِي لَا يعرف لَهَا إِلَّا طَرِيق وَاحِد] بطرِيق آخر لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ.(9/409)
ثمَّ رَوَى عَن أبي هُرَيْرَة الحَدِيث الْمُتَقَدّم ثمَّ قَالَ: قَالَ ابْن عدي: فِي إِسْنَاده مَجْهُول.
قلت: رَوَى عَنهُ بَقِيَّة وَسَهل بن عبد الله الْمَرْوذِيّ، قَالَ الْعقيلِيّ: صَاحب مَنَاكِير، غَلبه الْوَهم، لَا يُقيم شَيْئا من الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا لَو صَحَّ لم يدل عَلَى التَّحْرِيم، وَإِنَّمَا دلّ عَلَى كَرَاهَة الْإِكْثَار مِنْهُ، والإكثار مِنْهُ وَمن غَيره حَتَّى يضر بِبدنِهِ مَمْنُوع.
قلت: بل هُوَ دَال عَلَى التَّحْرِيم؛ لِأَن الْإِعَانَة عَلَى قتل النَّفس مُحرمَة فَكَذَا هَذِه، وَلِهَذَا قطع جمَاعَة من أَصْحَابنَا بِتَحْرِيمِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَذكر لعبد الله بن الْمُبَارك حَدِيث: «إِن أكل الطين حرَام» فَأنكرهُ، وَقَالَ: لَو علمت أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَه لحملته عَلَى الرَّأْس وَالْعين والسمع وَالطَّاعَة.
هَذَا آخر مَا ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث، وَذكر فِيهِ عَن مُجَاهِد أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ مَا يأمل الْجِيَف - يَعْنِي الصَّحَابَة - وَلم أره.
وَمن الْآثَار أثرا وَاحِدًا، وَهُوَ عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «مَا فِي الْبَحْر شَيْء إِلَّا قد ذكاه الله لكم» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَمْرو(9/410)
بن دِينَار، قَالَ: سَمِعت شَيخا يكنى أَبَا عبد الرَّحْمَن قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر ... فَذكره بِلَفْظِهِ سَوَاء. وَرَوَاهُ أَيْضا من رِوَايَة شريك، عَن ابْن أبي بشير، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر يَقُول: «إِن الله ذكى لكم صيد الْبَحْر» ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ. قَالَ: وَرُوِيَ عَن عَمْرو بن دِينَار وَأبي الزبير أَنَّهُمَا سمعا رجلا أدْرك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كل شَيْء فِي الْبَحْر مَذْبُوح» . قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِك [عَن] أبي الزبير عَن شُرَيْح مَرْفُوعا، وَرُوِيَ عَن جَابر وَعبد الله بن سرجس مَرْفُوعا. وَفِي «الطّهُور» لأبي عبيد: ثَنَا مُحَمَّد، ثَنَا خلف بن هِشَام، ثَنَا خَالِد بن عبد الله، عَن وَاصل مولَى أبي عُيَيْنَة، عَن أبي الزبير، عَن عبد الرَّحْمَن مولَى بني مَخْزُوم أَن أَبَا بكر قَالَ: «مَا فِي الْبَحْر شَيْء إِلَّا وَقد كَانَ ذكاه الله لكم» وَفِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» عَن ابْن عمر رَفعه: «كل دَابَّة من دَوَاب الْبر وَالْبَحْر لَيْسَ لَهَا دم ينْعَقد فَلَيْسَتْ لَهَا ذَكَاة» .
وَعَن عصمَة بن مَالك مَرْفُوعا: «إِن الله ذكى لكم صيد الْبَحْر» . فِي الأول سُوَيْد بن عبد الْعَزِيز الدِّمَشْقِي قَالَ أَحْمد: مَتْرُوك الحَدِيث. [و] وهنه ابْن حبَان أَولا، ثمَّ أُخْرَى قَالَ: وَهُوَ مِمَّن أستخير الله(9/411)
فِيهِ، وَهُوَ بقريب من الثِّقَات. وَفِي الثَّانِي: الْفضل بن الْمُخْتَار قَالَ أَبُو حَاتِم: مَجْهُول يحدث بالأباطيل.
وَذكر فِيهِ «أَن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم كَانُوا يكتسبون بِالتِّجَارَة» وَهَذَا مَشْهُور عَنْهُم لَا حَاجَة لنا إِلَى عزوه وإطالة الْكَلَام فِيهِ.(9/412)
كتاب السَّبق وَالرَّمْي(9/413)
كتاب السَّبق وَالرَّمْي
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فسبعة عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَابق بَين الْخَيل الَّتِي قد ضُمِّرت من الحفياء إِلَى ثنية الْوَدَاع، وسابق بَين الْخَيل الَّتِي لم تضمر من الحفياء إِلَى ثنية الْوَدَاع، وسابق بَين الْخَيل الَّتِي لم تضَمَّر من الثَّنية إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِيهِمَا عَن مُوسَى بن عقبَة: «إِن بَين الحفياء إِلَى ثنية الْوَدَاع خَمْسَة أَمْيَال أَو سَبْعَة» وللبخاري قَالَ سُفْيَان: من الحفياء إِلَى ثنية الْوَدَاع خَمْسَة أَمْيَال أَو سِتَّة، وَمن ثنية الْوَدَاع إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق ميل.
فَائِدَة: يُقَال: أضمرت وضمرت، وَمَعْنَاهُ أَن يقلل عَلفهَا مُدَّة وَتدْخل بَيْتا وتجلل فِيهِ فتعرق ويجف عرقها فيخف لَحمهَا وتقوى عَلَى الجري. والحفياء بحاء مُهْملَة ثمَّ فَاء سَاكِنة، وبالمد وَالْقصر، الفصيح(9/415)
الْأَشْهر الْمَدّ، وَعَلِيهِ اقْتصر الْبكْرِيّ فِي مُعْجَمه والحاء مَفْتُوحَة بِلَا خلاف، وَأَخْطَأ من ضمهَا، كَمَا نبه عَلَيْهِ صَاحب «الْمطَالع» وَيُقَال: بِتَقْدِيم الْيَاء عَلَى الْفَاء. حَكَاهُ الْحَازِمِي قَالَ: وَالْأَشْهر تَقْدِيم الْفَاء. وَقَوله: «لم تضمر» رُوِيَ بِسُكُون الضَّاد وتحريكها. وثنية الْوَدَاع عِنْد الْمَدِينَة، سميت بذلك؛ لِأَن الْخَارِج من الْمَدِينَة يمشي مَعَه المودعون إِلَيْهَا. وَبَنُو زُرَيْق [بِتَقْدِيم] الزَّاي عَلَى الرَّاء، وزريق أَخُو بياضة ابْنا عَامر بن زُرَيْق بن عبد جَارِيَة بن مَالك بن غصب - بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة - بن حسيم بن الْخَزْرَج أخي الْأَوْس ابْني جَارِيَة بَطنا من الْأَنْصَار، قَالَ ابْن دحْيَة فِي «تنويره» : وَفِي السّنة السَّادِسَة من الْهِجْرَة سَابق النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْخَيْلِ أول سباق كَانَ بِالْمَدِينَةِ.
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ «أَن العضباء نَاقَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَت لَا تسبق، فجَاء أَعْرَابِي عَلَى قعُود لَهُ فسبقها فَاشْتَدَّ ذَلِك عَلَى الْمُسلمين، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن حقًّا عَلَى الله أَن لَا يرفع شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة حميد عَن أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه والعضباء: المشقوقة الْأذن وَلم تكن نَاقَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عضباء، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا اسْما لَهَا كَمَا تقدم فِي كتاب الْحَج فِي الْقَصْوَاء، وَوَقع فِي «الْمُهَذّب» : «أَن لَا يرفع من هَذِه الْقُدْرَة شَيْء إِلَّا(9/416)
وَضعه» قيل: لفظ «الْقُدْرَة» بِالدَّال الْمُهْملَة بِمَعْنى الْمَقْدُور، وَقيل: بِمَعْنى القذرة - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى قوم من أسلم يتناضلون بِالسُّيُوفِ، فَقَالَ: ارموا بني إِسْمَاعِيل؛ فَإِن أَبَاكُم كَانَ راميًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَهَذَا لَفظه: «مر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى نفر من أسلم يتنضلون، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ارموا بني إِسْمَاعِيل، فَإِن أَبَاكُم كَانَ راميًا [ارموا] وَأَنا مَعَ بني فلَان. قَالَ: فَأمْسك أحد الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا لكم لَا ترمون؟ ! قَالُوا: كَيفَ نرمي وَأَنت مَعَهم؟ ! فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ارموا وَأَنا مَعكُمْ كلكُمْ» وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ «وَلَقَد رموا عَامَّة يومهم ذَلِك ثمَّ تفَرقُوا عَلَى السوَاء مَا نضل بَعضهم بَعْضًا» وَقَالا فِي أَوله: «حسن» لهَذَا اللَّهْو، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا. قَالَ الْحَاكِم: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «قَالُوا: يَا رَسُول الله، من كنت مَعَه غلب! ... » ثمَّ سَاق الحَدِيث قَالَ: وَهُوَ صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم قَالَ: وَهُوَ شَاهد لحَدِيث(9/417)
ابْن عَبَّاس - الَّذِي عَلَى شَرطه أَيْضا - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بِقوم يرْمونَ، فَقَالَ: (ارموا) بني إِسْمَاعِيل؛ فَإِن أَبَاكُم كَانَ راميًا» .
الحَدِيث الرَّابِع
عَن عقبَة بن عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر يَقُول: (وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة) أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي، أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي، أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ من «ستفتح لكم أرضون ويكفيكم الله؛ فَلَا يعجز أحدكُم أَن يلهو بأسهُمه» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره المُصَنّف، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. قَالَ: وَإِنَّمَا لم يُخرجهُ البُخَارِيّ؛ لِأَن صَالح بن كيسَان أوقفهُ.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو نصل أَو حافر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ نَافِع الْبَزَّاز الْمدنِي مولَى أبي أَحْمد - وَقد وَثَّقَهُ - عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَكَذَا قَالَ(9/418)
ابْن الصّلاح أَيْضا، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: إِنَّه حَدِيث صَحِيح. وَلما ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» قَالَ عَن يَحْيَى بن معِين أَن نَافِع بن أبي نعيم ثِقَة.
قلت: وَله طرق عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِمثلِهِ، وفروخ يُخَالف فِي حَدِيثه، قَالَ: وَالصَّحِيح مَا رَوَاهُ النَّاس عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن نَافِع بن أبي نَافِع، عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة من حَدِيث أبي بكر الْحَنَفِيّ عَن نَافِع، وَرَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي الحكم مولَى بني لَيْث، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ مُحَمَّد بن عمر - أحد رُوَاته -: وَيَقُولُونَ «أَو نصل» وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا من حَدِيث ابْن أبي فديك، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن عباد بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا سبق إِلَّا فِي حافر أَو خف» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة أبي عبد الله مولَى الجندعيين - حَيّ من بني لَيْث - قَالَ مُحَمَّد بن يَحْيَى الذهلي: وَهُوَ [نَافِع] بن أبي نَافِع، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا يحل سبق إِلَّا بخف أَو حافر» .(9/419)
قلت: (وَرُوِيَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة) ، رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَمن حَدِيث عبد الله بن عمر، وَلم يذكر فِي رِوَايَة ابْن عمر «أَو خف» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» - وَقد سُئِلَ عَن حَدِيث أبي الفوارس عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر» -: هَذَا الحَدِيث يرويهِ الثَّوْريّ، وَاخْتلف عَنهُ فِي رَفعه، فرفعه ابْن وهب عَن الثَّوْريّ، وَوَقفه مُعَاوِيَة [بن] هِشَام وَغَيره، وَالْمَوْقُوف أشبه، قَالَ: وَلَا يعرف أَبُو الفوارس إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث.
وَرَوَاهُ عبد الله بن مُحَمَّد بن حبَان الْمَعْرُوف بِأبي الشَّيْخ فِي كتاب السَّبق من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «لَا سبق إِلَّا [فِي] نصل أَو حافر أَو خف» والنصل: هُوَ السهْم، والحافر: هُوَ الْفرس، والخف: هُوَ الْبَعِير، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من هَذَا الْوَجْه إِلَى قَوْله: «أَو خف» وَهُوَ من رِوَايَة قدامَة بن مُحَمَّد بن خشرم قَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي المقلوبات، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا انْفَرد.
قلت: وَحدث غياث بن إِبْرَاهِيم أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي هَذَا الحَدِيث وَزَاد فِيهِ بعد «أَو نصل» : «أَو جنَاح» لِأَن الْمهْدي كَانَ يحب(9/420)
الْحمام، فَأمر لَهُ الْمهْدي بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، فَلَمَّا خرج قَالَ: أشهد أَن قفاك قفا كَذَّاب! ثمَّ أَمر بالحمام فذبحت.
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ: السَّبق - بِفَتْح الْبَاء -: مَا يَجْعَل للسابق عَلَى سبقه من جعل ونوال، وَأما السَّبق بِسُكُون الْبَاء فَهُوَ مصدر سبقت الرجل أسبقه سبقًا. قَالَ: وَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة فِي هَذَا الحَدِيث السَّبق مَفْتُوحَة الْبَاء، يُرِيد أَن الْعَطاء والجعل لَا يسْتَحق إِلَّا فِي سباق الْخَيل وَالْإِبِل وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا من النضال وَهُوَ الرَّمْي، وَهَكَذَا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: إِن الرِّوَايَة الصَّحِيحَة فِيهِ فتح الْبَاء. وَكَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب: إِن الأثبت فِي الرِّوَايَة فتح الْبَاء. وَذكر ابْن دُرَيْد فِي «الجمهرة» لغتين فِي السَّبق بِمَعْنى الْخَيل أَنه بِفَتْح الْبَاء وإسكانها. وَقَوله: «أَو نصل» قَالَ المطرزي فِي «المعرب» : نصل السَّيْف: حديدته، وَالْجمع: نصول ونصال. قَالَ: وَأما قَوْله: «لَا سبق إِلَّا فِي كَذَا وَكَذَا» فَالْمُرَاد بِهِ: الموافاة. قَالَ: وَالضَّاد الْمُعْجَمَة تَصْحِيف؛ إِنَّمَا ذَاك المناضلة والنضال.
الحَدِيث السَّادِس
يرْوَى أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رهان الْخَيل طلق. أَي: حَلَال» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فَقَالَ فِي تَرْجَمَة يَحْيَى: عَن أبي إِسْحَاق، عَن أمه، عَن أَبِيهَا - واسْمه: رِفَاعَة ابْن رَافع -: ثَنَا عبد الله بن جَعْفَر، ثَنَا إِسْمَاعِيل بن عبد الله، نَا أَبُو نعيم، ثَنَا عبد السَّلَام بن حَرْب، عَن يزِيد بن عبد الرَّحْمَن، عَن يَحْيَى بن إِسْحَاق(9/421)
بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، عَن أمه حميدة - أَو عُبَيْدَة - عَن أَبِيهَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «رهان الْخَيل طلق» قَالَ أَبُو نعيم: سَمّى أَبُو نعيم أَبَاهَا، فَقَالَ: رِفَاعَة بن رِفَاعَة.
قلت: أما أَبُو نعيم فَهُوَ الْملَائي، أحد الْحفاظ الْأَعْلَام، وَعبد السَّلَام بن حَرْب شريك أبي نعيم فِي بيع الملاء، ثِقَة بِإِجْمَاع، وَيزِيد بن عبد الرَّحْمَن هُوَ أَبُو خَالِد الدالاني، قد عرفت أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ فِي حَدِيث النّوم فِي بَاب الْأَحْدَاث، وَيَحْيَى بن إِسْحَاق وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَأمه ذكرهَا الْمزي ثمَّ الذَّهَبِيّ وَلم يذكر لَهَا حَالا، وَقد أسلفت لَك حَالهَا فِي بَاب النَّجَاسَات فِي حَدِيث الْهِرَّة «إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم أَو الطوافات» .
الحَدِيث السَّابِع
عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قيل لَهُ: أَكُنْتُم تراهنون عَلَى عهد رَسُول الله؟ قَالَ: نعم» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طَرِيقين، لَكِن لَا ذكر لعُثْمَان فيهمَا.
أَحدهمَا: عَن أبي لبيد قَالَ: «أرسل الحكم بن أَيُّوب الْخَيل يَوْمًا فَقُلْنَا: لَو أَتَيْنَا أنس بن مَالك. فأتيناه فَسَأَلْنَاهُ: أَكُنْتُم تراهنون عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: نعم لقد رَاهن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى فرس لَهُ يُقَال لَهَا: سبْحَة، جَاءَت سَابِقَة. فبهش لذَلِك وَأَعْجَبهُ» رَوَاهُ أَحْمد(9/422)
وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» . و «سبْحَة» من قَوْلهم: فرس سباح إِذا كَانَ حسن مد الْيَدَيْنِ فِي الجري. وَقَوله: «فبهش» أَي: هش وَفَرح. قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» وَأخرجه الدَّارمِيّ بِلَفْظ «فانهش» ثمَّ قَالَ: أنهشه، يَعْنِي: أعجبه.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، عَن حَمَّاد بن زيد أَو سعيد بن زيد، عَن وَاصل مولَى أبي عُيَيْنَة قَالَ: حَدثنِي مُوسَى بن عبيد قَالَ: « [أَصبَحت] فِي الْحجر بَعْدَمَا صلينَا الْغَدَاة، فَلَمَّا أسفرنا إِذا فِينَا عبد الله بن عمر فَجعل يستقرئنا رجلا رجلا يَقُول: أَيْن صليت يَا فلَان؟ قَالَ: يَقُول: هَاهُنَا. حَتَّى أَتَى عَلّي فَقَالَ: أَيْن صليت يَا ابْن عبيد؟ فَقلت: هَاهُنَا. فَقَالَ: بخ بخ! مَا نعلم صَلَاة أفضل عِنْد الله من صَلَاة الصُّبْح جمَاعَة يَوْم الْجُمُعَة، فَسَأَلُوهُ [فَقَالُوا] : يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، أَكُنْتُم تتراهنون عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: نعم؛ لقد رَاهن عَلَى فرس يُقَال لَهَا: سبْحَة، فَجَاءَت سَابِقَة» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» قَالَ: قَالَ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: كَانَ سُلَيْمَان بن حَرْب ثَنَا بِهَذَا الحَدِيث عَن حَمَّاد بن زيد، ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: حَمَّاد بن زيد أَو سعيد بن زيد. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ أَحْمد بن سعيد الدَّارمِيّ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد من غير شكّ، وَرَوَاهُ أَسد بن مُوسَى عَن حَمَّاد بن زيد قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا إِن صَحَّ فَإِنَّمَا أَرَادَ إِذا سبق أحد الفارسين صَاحبه فَيكون(9/423)
السَّبق مِنْهُ دون صَاحبه، وَأعله الْحَافِظ شرف الدَّين الدمياطي، فَقَالَ فِي كتاب «الْخَيل» : سقط بَين مُوسَى بن عُبَيْدَة وَابْن عمر: نَافِع أَو عبد الله بن دِينَار.
الحَدِيث الثَّامِن
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تسابق هُوَ وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «السّنَن المأثورة» عَنهُ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «سابقت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فسبقته، فَلَمَّا حملت اللَّحْم سابقته فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِه بِتِلْكَ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أَبَى إِسْحَاق الْفَزارِيّ عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، وَعَن أَبَى سَلمَة عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَنَّهَا كَانَت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر (فسابقني) فسبقته عَلَى رجْلي، فَلَمَّا حملت اللَّحْم سابقته فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِه بِتِلْكَ السبقة» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْفَزارِيّ عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن [أَبَى] سَلمَة عَنْهَا «أَنَّهَا كَانَت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر وَهِي جَارِيَة، فَقَالَ لأَصْحَابه: تقدمُوا. فتقدموا، ثمَّ قَالَ: تعالي أسابقك. فسابقته(9/424)
فسبقته عَلَى رجْلي، فَلَمَّا كَانَ بعد خرجت مَعَه فِي سفر فَقَالَ لأَصْحَابه: تقدمُوا. ثمَّ قَالَ: تعالي أسابقك. ونسيت الَّذِي كَانَ، وَقد حملت اللَّحْم فَقلت: كَيفَ أسابقك يَا رَسُول الله وَأَنا عَلَى هَذِه الْحَال؟ ! فَقَالَ: لتفعلن. فسابقته فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِه بِتِلْكَ السبقة» . وَرَوَاهُ أَيْضا من رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة، عَن رجل غير مُسَمَّى، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث سُفْيَان، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَنْهَا قَالَت: «سابقني رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فسبقته» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا من رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «سابقني النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فسبقته، فلبثنا حَتَّى إِذا أرهقني اللَّحْم سابقني فَسَبَقَنِي، فَقَالَ (: هَذِه بِتِلْكَ» . وَفِي علل ابْن أبي [حَاتِم] عَن أبي زرْعَة أَنه قَالَ: رَوَى هَذَا الحَدِيث هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، وَرَوَاهُ هِشَام، عَن رجل، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا قَالَ أَبُو زرْعَة: وَهَذَا أصح. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي إِسْحَاق الْفَزارِيّ، عَن هِشَام، عَن أَبِيه وَأبي سَلمَة، عَن عَائِشَة، قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو أُسَامَة، عَن هِشَام، عَن رجل، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة، وَرَوَاهُ جرير، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة.
قلت: وَكَذَا أخرجه الْأَئِمَّة: أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، كَمَا(9/425)
تقدم، وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا هُوَ الصَّوَاب؛ لِاجْتِمَاع عدَّة من الروَاة عَلَيْهِ لَا كَمَا قَالَ أَبُو زرْعَة، وَيحْتَمل أَنه سمع الحَدِيث من أَبِيه وَمن أبي سَلمَة.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صارع ركَانَة عَلَى شِيَاه» .
هَذَا الحَدِيث [رَوَاهُ] أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ فِي كتاب اللبَاس من «سُنَنهمَا» عَن قُتَيْبَة بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن ربيعَة، عَن أبي الْحسن الْعَسْقَلَانِي، عَن أبي جَعْفَر بن مُحَمَّد بن ركَانَة، عَن أَبِيه «أَن ركَانَة صارع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فصرعه، قَالَ ركَانَة: وَسمعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: فرق مَا بَيْننَا وَبَين الْمُشْركين العمائم عَلَى القلانس» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَلَيْسَ إِسْنَاده بالقائم، وَلَا نَعْرِف أَبَا الْحسن وَلَا ابْن ركَانَة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: مُرْسل. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الكاشف» : لَا يَصح. قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «الْأَطْرَاف» : هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو الْحسن بن العَبْد، وَغير وَاحِد عَن أبي دَاوُد بِمثل رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَذكر أَبُو الْقَاسِم - يَعْنِي: ابْن عَسَاكِر - أَن أَبَا دَاوُد قَالَه عَن أبي جَعْفَر [بن] مُحَمَّد بن ركَانَة قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو الْحُسَيْن بن قَانِع فِي «مُعْجَمه» عَن أَحْمد(9/426)
بن عبد الرَّحْمَن بن بشار النَّسَائِيّ، ومُوسَى بن هَارُون، عَن قُتَيْبَة، عَن مُحَمَّد بن ربيعَة، عَن أبي الْحسن، عَن مُحَمَّد بن يزِيد بن ركَانَة، عَن أَبِيه «أَن ركَانَة صارع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » وَلم يذكر أَبَا جَعْفَر. هَذَا آخر كَلَام الْحَافِظ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ بالبطحاء فَأَتَى عَلَيْهِ يزِيد بن ركَانَة - أَو ركَانَة بن يزِيد - وَمَعَهُ أعنز لَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّد، هَل لَك أَن تصارعني؟ فَقَالَ: مَا تسبقني؟ قَالَ: شَاة من غنمي. فصارعه [النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] فصرعه، فَأخذ شَاة، فَقَالَ ركَانَة: هَل لَك فِي الْعود؟ قَالَ: مَا تسبقني. قَالَ: أُخْرَى. ذكر ذَلِك مرَارًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، وَالله مَا وضع أحد جَنْبي إِلَى الأَرْض وَمَا أَنْت الَّذِي تصرعني! يَعْنِي: فَأسلم، فَرد عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غنمه» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (هَذَا مُرْسل) قَالَ: وَقد رُوِيَ بِإِسْنَاد آخر مَوْصُولا إِلَّا أَنه ضَعِيف.
وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى رِوَايَة أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ الَّتِي قدمناها أَو إِلَى رِوَايَة أبي بكر الشَّافِعِي؛ فَإِنَّهُ رَوَاهُ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس قَالَ: «جَاءَ زيد بن ركَانَة إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَعَهُ ثَلَاثمِائَة من الْغنم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، هَل لَك أَن تصارعني [قَالَ] وَمَا تجْعَل لي إِن صرعتك؟ قَالَ: مائَة من غنمي. قَالَ: فصارعه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فصرعه، ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، هَل لَك فِي الْعود؟ قَالَ: وَمَا تجْعَل لي إِن صرعتك؟ قَالَ: مائَة أُخْرَى. قَالَ فصارعه(9/427)
فصرعه، ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، هَل لَك فِي الْعود؟ قَالَ: وَمَا تجْعَل لي؟ قَالَ: مائَة من الْغنم. قَالَ: فصارعه فصرعه، قَالَ: يَا مُحَمَّد، وَمَا وضع ظَهْري أحد عَلَى الأَرْض فَتلك، وَمَا كَانَ أحد أبْغض إِلَيّ مِنْك؛ فَأَنا أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله. فَقَامَ عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ورد عَلَيْهِ غنمه» . وَأخرجه أَبُو نعيم فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» من حَدِيث الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة مطولا وَفِيه: أَن واديه أجم يُقَال لَهُ: إضم، وَأَنه صارعه عَلَى عشرَة فصرعه، ثمَّ مثلهَا فصرعه. ثمَّ مثلهَا فصرعه. وَفِيه: أَنه دَعَا الشَّجَرَة ثمَّ ردهَا ... وَفِي آخِره «فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنِّي دَعَوْت رَبِّي فَأَعَانَنِي عَلَيْهِ، وَإِن رَبِّي أعانني عَلَيْهِ ببضع عشرَة وبقوة عشرَة» .
فَائِدَتَانِ: أَحدهمَا: ركَانَة - بتَخْفِيف الْكَاف وَضم الرَّاء وبالنون - هُوَ ابْن عبد يزِيد بن هَاشم بن الْمطلب بن عبد منَاف بن قصي قرشي حجازي مكي مدنِي، أسلم يَوْم فتح مَكَّة هَذَا الَّذِي نعرفه، وَإِن كَانَ ظَاهر رِوَايَة أبي دَاوُد وَأبي بكر الشَّافِعِي يُخَالف ذَلِك، لَا جرم قَالَ الْحَافِظ شرف الدَّين الدمياطي فِي كتاب «الْخَيل» - بعد أَن سَاق مثل رِوَايَة أبي دَاوُد عَن العسكري وَالصَّحِيح أَنه من مسلمة الْفَتْح -: وَلَيْسَ فِي الْأَسْمَاء ركَانَة غَيره. هَكَذَا قَالَه البُخَارِيّ وَابْن أبي حَاتِم وَغَيرهمَا، قَالَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ: وَهَذَا الحَدِيث أمثل مَا رُوِيَ فِي مصارعة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[فَأَما مَا رُوِيَ فِي مصارعته (] أَبَا جهل فَلَا أصل لَهُ، وركانة هَذَا هُوَ الَّذِي طلق امْرَأَته سهيمة أَلْبَتَّة، وَلَا أعرف لَهُ غير هذَيْن الْحَدِيثين.(9/428)
الثَّانِيَة: وَقع فِي «الْمُهَذّب» للشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي هَذَا الْبَاب «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صارع يزِيد بن ركَانَة» وَهُوَ مُوَافق لرِوَايَة أبي بكر السالفة، وَكَذَا رِوَايَة أبي دَاوُد، فَإِن فِيهَا يزِيد بن ركَانَة - أَو ركَانَة بن يزِيد - بِالشَّكِّ، لَكِن ركَانَة بن يزِيد هُوَ الْمَشْهُور؛ فَاشْتَدَّ إِنْكَار النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فَقَالَ فِي «التَّهْذِيب» : إِن هَذَا مِنْهُ غلط لَا شكّ فِيهِ. وَلم يطلع عَلَى رِوَايَة أبي دَاوُد الَّتِي ذكرهَا فِي «الْمَرَاسِيل» .
فَائِدَة ثَالِثَة: هَذَا الحَدِيث يسْتَدلّ بِهِ من يجوز الْمُسَابقَة بالمصارعة بعوض، وَالْأَظْهَر عدم جَوَاز هَذَا لحَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمُتَقَدّم، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيُجَاب عَن الحَدِيث بِأَنَّهُ كَانَ الْغَرَض فِي الْقِصَّة أَن يرِيه شدته ليسلم، فَلَمَّا أسلم رد عَلَيْهِ غنمه.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَدخل فرسا بَين فرسين وَقد أَمن أَن يسبقهما فَهُوَ قمار، وَإِن لم يُؤمن أَن يسبقهما فَلَيْسَ بقمار» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مَحْمُود بن خَالِد، عَن الْوَلِيد بن مُسلم، عَن سعيد بن بشير، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة. وَعَن مُسَدّد، عَن حُصَيْن بن نمير، وَعَن عَلّي بن مُسلم، عَن عباد بن الْعَوام، عَن سُفْيَان بن حُسَيْن، عَن الزُّهْرِيّ، عَن(9/429)
سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن يَحْيَى، كِلَاهُمَا عَن يزِيد بن هَارُون عَن سُفْيَان بِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمد عَن يزِيد ثَنَا سُفْيَان بِهِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» عَن سعيد بن أَوْس الدِّمَشْقِي الإسكاف، عَن هِشَام بن خَالِد الْأَزْرَق، عَن الْوَلِيد بن مُسلم، عَن سعيد بن بشير، عَن قَتَادَة، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن قَتَادَة إِلَّا سعيد، وَلَا عَنهُ إِلَّا الْوَلِيد، تفرد بِهِ هِشَام بن خَالِد.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طريقي أبي دَاوُد ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ سُفْيَان بن حُسَيْن وَسَعِيد بن بشير.
وَرَوَاهُ شَيْخه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، فَإِن خَ وم وَإِن لم يخرجَا حَدِيث سعيد بن بشير وسُفْيَان بن حُسَيْن فهما إمامان بِالشَّام وَالْعراق، وَمِمَّنْ يجمع حَدِيثهمَا. قَالَ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُمَا اعتمدا [حَدِيث] معمر عَلَى الْإِرْسَال؛ فَإِنَّهُ أرْسلهُ عَن الزُّهْرِيّ.
وَأقر الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» مقَالَة الْحَاكِم فِي أَنه حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَسَعِيد بن بشير حَافظ وَثَّقَهُ شُعْبَة ودحيم وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، تكلم فِيهِ غَيره، وسُفْيَان بن حُسَيْن صَدُوق تكلم فِيهِ وَاسْتشْهدَ بِهِ خَ(9/430)
وَذكره م فِي مُقَدّمَة «صَحِيحه» وَصحح التِّرْمِذِيّ حَدِيثه عَن يُونُس بن عبيد عَن عَطاء عَن جَابر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن المحاقلة والمزابنة وَالْمُخَابَرَة والثُّنْيَا إِلَّا أَن تعلم» وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» بعد أَن رَوَاهُ: سُفْيَان هَذَا ثِقَة أخرج لَهُ مُسلم، إِلَّا أَنه قد استضعف فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» رَوَى هَذَا الحَدِيث: معمر وَشُعَيْب وَعقيل، عَن الزُّهْرِيّ، عَن رجال من أهل الْعلم. ثمَّ قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهَذَا أصح عندنَا.
قَالَ ابْن الْقطَّان: هَذَا الَّذِي قَالَه أَبُو دَاوُد من أَن وقف هَذَا الحَدِيث هُوَ الْأَصَح عِنْده لَيْسَ بعلة فِي الْحَقِيقَة لَو كَانَ سُفْيَان وَسَعِيد [رافعاه] ثقتين؛ إِذْ لَا بعد أَن يكون فِي الْخَبَر عِنْد الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَعَن رجال من أهل الْعلم ذَهَبُوا إِلَيْهِ ورأوه رَأيا لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا الشَّأْن فِي سُفْيَان وَسَعِيد. وَصَححهُ أَيْضا أَبُو مُحَمَّد بن حزم كَمَا صَححهُ الْحَاكِم وَأعله جماعات بِالْوَقْفِ، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: هَذَا خطأ لم يعْمل سُفْيَان بن حُسَيْن شَيْئا لاشتبه أَن يكون عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأحسن أَحْوَاله(9/431)
أَن يكون عَن سعيد بن الْمسيب قَوْله، وَقد رَوَاهُ يَحْيَى بن سعيد - يَعْنِي: الْأنْصَارِيّ - عَن سعيد قَوْله. وَقَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ سُفْيَان مَرْفُوعا وَغَيره لَا يرفعهُ. وَقَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة: سَأَلت ابْن معِين فَقَالَ: بَاطِل. وَخط عَلَى أبي هُرَيْرَة، وَرجح ابْن عبد الْبر أَيْضا وَقفه عَلَى سعيد، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي [الْحِلْية] مُخْتَصرا من طَرِيق أبي دَاوُد الأولَى، لكنه قَالَ بدل «سعيد بن بشير» : «سعيد بن عبد الْعَزِيز» عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. ثمَّ قَالَ: غَرِيب من حَدِيث سعيد تفرد بِهِ الْوَلِيد.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَابق بَين الْخَيل، وَجعل بَينهمَا سبقًا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن الْحسن بن سُفْيَان، ثَنَا [إِبْرَاهِيم] بن الْمُنْذر الْحزَامِي، ثَنَا عبد الله بن نَافِع، عَن عَاصِم بن عمر، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَابق بَين الْخَيل وَجعل بَينهمَا [سبقا] وَجعل بَينهمَا محللاً وَقَالَ: لَا سبق إِلَّا فِي حافر أَو نصل» وَعَاصِم هَذَا قد صحّح ابْن حبَان حَدِيثه كَمَا ترَى، وَذكره فِي «ثقاته» وَقَالَ: يُخطئ وَيُخَالف.(9/432)
(وَذكره فِي الضُّعَفَاء وَقَالَ: لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ) .
فَخَالف كَلَامه فِي «ثقاته» وَقَالَ: يُخطئ وَيُخَالف. وَذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» وَلم يعقبه بِتَضْعِيف، وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر أَحْمد بن عَمْرو بن أبي عَاصِم النَّبِيل فِي كتاب «الْجِهَاد» فَقَالَ: ثَنَا عبد الله بن كاسب، ثَنَا عبد الله بن نَافِع، عَن عَاصِم بن عمر، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سبق بَين الْخَيل، وَجعل بَينهمَا محللاً» وَقَالَ قبيله: ثَنَا يَعْقُوب بن حميد، ثَنَا عبد الله بن نَافِع، عَن عَاصِم بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سَابق بَين الْخَيل، وَجعل بَينهمَا سبقًا» قَالَ أَبُو مُوسَى: عَن معمر، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن عبيد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سبق بَين الْخَيل وراهن» وَرَوَاهُ الْجَلِيّ فِي كتاب «فرق الفروسية» من حَدِيث عبد الله بن دِينَار أَيْضا عَن ابْن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَابق بَين الْخَيل وَجعل بَينهمَا محللاً، وَقَالَ: لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو نصل» وَرَوَى فِيهِ أَيْضا من حَدِيث عبد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سَابق بَين الْخَيل ... » فَذكره بِمثلِهِ، وَرَوَى فِيهِ أَيْضا بِهَذَا السَّنَد «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سَابق بَين الْخَيل وراهن» وَهَذَا أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: إِذا [سبق أحرز مَا] أخرج وَلَا شَيْء لَهُ عَلَى(9/433)
الآخر، وَإِن سبق الآخر أَخذ مَا أخرج الأول جَازَ؛ لما رُوِيَ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بحزبين من الْأَنْصَار يتناضلون وَقد سبق أَحدهمَا الآخر، فأقرهما عَلَى ذَلِك» وَعَن مَالك أَنه لَا يجوز، لِأَنَّهُ قمار، وَأجَاب الْأَصْحَاب بِأَن الْقمَار أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مترددًا بَين أَن يغنم وَيغرم، وليسا أَولا أحد مِنْهُمَا كَذَلِك، أما الْمخْرج فَإِنَّهُ يتَرَدَّد بَين أَن يغرم وَبَين أَن لَا يغرم وَلَا يغنم بِحَال وَأما الآخر فمتردد بَين أَن يغنم وَبَين أَن لَا يغنم وَلَا يغرم بِحَال. هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث لَا أعلم من خرجه وَلَا دلَالَة فِيهِ للْمُدَّعِي.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِن ذكرا غَايَة لَا يصبهَا السهْم بَطَل العقد، وَإِن كَانَت الْإِصَابَة فِيهَا نادرة فَفِيهِ الْوَجْهَانِ وَالْقَوْلَان فِي الشُّرُوط النادرة، وَقدر الْأَصْحَاب الْمسَافَة الَّتِي تقرب بِموضع الْإِصَابَة فِيهَا بمائتين وَخمسين ذِرَاعا، وَقد رُوِيَ عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قيل لَهُ: كَيفَ كُنْتُم تقاتلون الْعَدو؟ فَقَالَ: إِذا كَانُوا عَلَى مِائَتَيْنِ وَخمسين ذِرَاعا قاتلناهم بِالْحِجَارَةِ، وَإِذا كَانُوا عَلَى أقل من ذَلِك قاتلناهم بِالسَّيْفِ. قَالَ: وقدروا الْمسَافَة [الَّتِي يتَعَذَّر فِيهِ] الْإِصَابَة بِمَا زَاد عَلَى ثَلَاثمِائَة وَخمسين، وَرووا أَنه لم يرم إِلَى أَرْبَعمِائَة إِلَّا عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ، وَجعلُوا مَا بَين المقدارين فِي حد النَّادِر. هَذَا كَلَام الرَّافِعِيّ.
وَأخرج الحَدِيث الْمَذْكُور بِنَحْوِهِ وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه»(9/434)
عَن أَحْمد بن [مابهرام] الإيذجي ثَنَا إِسْحَاق بن زيد الْقطَّان الْأَيْلِي، ثَنَا يَعْقُوب بن محمدٍ ثَنَا عَاصِم بن سُوَيْد، ثَنَا مُحَمَّد بن الْحجَّاج، عَن حُسَيْن بن السَّائِب بن أبي لبَابَة، ثَنَا أبي، عَن أَبِيه قَالَ: «قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم بدر: كَيفَ تقاتلون الْقَوْم إِذا لقيتموهم؟ فَقَامَ عَاصِم بن ثَابت فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِذا كَانَ الْقَوْم منا حَيْثُ ينالهم النبل كَانَت المراماة بِالنَّبلِ، فَإِذا اقتربوا حَتَّى ينالنا وإياهم الْحِجَارَة كَانَت المراضخة بِالْحِجَارَةِ فَأخذ ثَلَاثَة أَحْجَار: حجرا فِي يَده، وحجرين فِي حجزته، فَإِذا اقتربوا حَتَّى ينالنا وإياهم الرماح كَانَت المداعسة بِالرِّمَاحِ فَإِذا انْقَضتْ الرماح كَانَت الجلاد بِالسُّيُوفِ. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: بِهَذَا أنزلت الْحَرْب، من قَاتل فَيُقَاتل قتال عَاصِم» .
قلت: وَعَاصِم بن ثَابت هَذَا هُوَ ابْن أبي الأقلح - بِالْقَافِ لَا بِالْفَاءِ - كَمَا ورد فِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي نعيم، فَإِنَّهُ سَاقه كَذَلِك، وَهَذَا سياقته: ثَنَا أَبُو [عَمْرو] بن حمدَان، ثَنَا [الْحسن] بن سُفْيَان، ثَنَا مُحَمَّد بن الصَّباح، ثَنَا عَاصِم بن سُوَيْد، حَدثنِي رِفَاعَة بن الْحجَّاج(9/435)
الْأنْصَارِيّ، عَن أَبِيه، عَن حُسَيْن بن السَّائِب قَالَ: «لما كَانَ لَيْلَة الْعقبَة - أَو لَيْلَة الْبَدْر - قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لمن مَعَه: كَيفَ تقاتلون؟ فَقَامَ [عَاصِم] بن ثَابت بن الأقلح، فَأخذ الْقوس وَأخذ النبل فَقَالَ: أَي رَسُول الله، إِذا كَانَ الْقَوْم قَرِيبا من مِائَتي ذِرَاع أَو نَحْو ذَلِك كَانَ الرَّمْي بالقسي، وَإِذا دنا الْقَوْم حَتَّى تنالنا وتنالهم الْحِجَارَة كَانَت المراضخة بِالْحِجَارَةِ، فَإِذا دنا الْقَوْم حَتَّى تنالنا وتنالهم الرماح كَانَت المداعسة بِالرِّمَاحِ حَتَّى تتقصف [فَإِذا تقصفت] وَضعنَا وَأخذ [السَّيْف فتقلد] واستُل السَّيْف، وَكَانَت السلَّة والمجالدة بِالسُّيُوفِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: بِهَذَا أنزلت الْحَرْب، من قَاتل فليقاتل قتال عَاصِم» .
الحَدِيث الرَّابِع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا بَين الهدفين رَوْضَة من رياض الْجنَّة» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن أبي الزبير، عَن جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَجَبت محبتي عَلَى من سَعَى بَين الغرضين بقوسي لَا بقوس كسْرَى» . وَرَوَاهُ أَيْضا من رِوَايَة عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: «رَأَيْت جَابر بن عبد الله وَجَابِر بن عُمَيْر الأنصاريين يرميان [فملَّ أَحدهمَا] فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ صَاحبه! أجلست(9/436)
أما سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: كل [شَيْء] لَيْسَ من ذكر الله فَهُوَ سَهْو وَلَهو إِلَّا أَربع: مشي الرجل بَين الغرضين، وتأديبه فرسه، وتعلمه السباحة، وملاعبته أَهله» .
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بحزبين من الْأَنْصَار يتناضلون، فَقَالَ: أَنا من الحزب الَّذِي فِيهِ ابْن الأدرع» .
هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه مَرْوِيّ من طَرِيقين فِي أَحدهمَا عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقوم من أسلم يرْمونَ، فَقَالَ: ارموا بني (أسلم) فَإِن أَبَاكُم كَانَ راميًا، ارموا وَأَنا مَعَ ابْن الأدرع. فَأمْسك الْقَوْم (رميهم) فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، من كنت مَعَه غلب. قَالَ: ارموا وَأَنا مَعَ كلكُمْ» . رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَفِي الطَّرِيق الثَّانِي عَن مُحَمَّد بن إِيَاس بن سَلمَة بن الْأَكْوَع، عَن أَبِيه عَن جده «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر عَلَى نَاس من أسلم يتناضلون، فَقَالَ: حسن هَذَا اللَّهْو - مرَّتَيْنِ - ارموا فَإِنَّهُ كَانَ لكم أَب يَرْمِي، ارموا وَأَنا مَعَ ابْن الأدرع. فَأمْسك الْقَوْم أَيْديهم، فَقَالَ: مَا لكم؟ فَقَالُوا: لَا وَالله لَا نرمي وَأَنت مَعَه يَا رَسُول الله، إِذا ينضلنا. فَقَالَ رَسُول(9/437)
الله (: ارموا وَأَنا مَعكُمْ جَمِيعًا. قَالَ: فرموا عَامَّة يومهم، ثمَّ تفَرقُوا عَلَى السوَاء مَا نضل بَعضهم بَعْضًا» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد. وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من طَرِيقين، وَلم أر فِي طَرِيق من طرق هَذَا الحَدِيث وَلَا غَيره «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مر بحزبين من الْأَنْصَار» وَإِنَّمَا فِيهَا «أَنه [مر] بِقوم من أسلم» وَفِي بَعْضهَا «بِنَفر من أسلم» وَابْن الأدرع صَحَابِيّ نزل الْبَصْرَة واختط مَسْجِدهَا، واسْمه: محجن وَاسم الأدرع: سَلمَة بن ذكْوَان، والأدرع بِفَتْح الْهمزَة، وَإِسْكَان الدَّال وَفتح الرَّاء وبالعين المهملات.
الحَدِيث السَّادِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا جلب وَلَا جنب فِي الرِّهَان» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب أَدَاء الزَّكَاة وتعجيلها وَهُوَ الحَدِيث الْخَامِس مِنْهُ وَمِمَّا لم يقدمهُ هُنَاكَ أَن الْحَافِظ إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب الْجوزجَاني رَوَى هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا جلب وَلَا جنب وَإِذا لم يدْخل المراهنان فرسا يَسْتَبِقَانِ عَلَى السهْم فِيهِ فَهُوَ حرَام» وَفِي إِسْنَاده مَجْهُول وَرَوَاهُ القَاضِي أَبُو بكر أَحْمد بن عَمْرو بن أبي عَاصِم النَّبِيل عَن رجل من ولد الْحَارِث بن هِشَام عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «لَا جنب وَلَا جلب وَإِذا أَدخل المرتهنان فرسا يَسْتَبِقَانِ عَلَى سَيْفه فَهُوَ حرَام» .(9/438)
الحَدِيث السَّابِع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أجلب عَلَى الْخَيل يَوْم الرِّهَان فَلَيْسَ منا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث ضرار بن صرد - وَهُوَ أَبُو نعيم - ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن ثَوْر بن زيد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «من جلب عَلَى الْخَيل يَوْم الرِّهَان فَلَيْسَ منا» وَضِرَار هَذَا كذبه ابْن معِين وَقَالَ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق صَاحب قُرْآن وفرائض وَلَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره: ضَعِيف. وَرَوَاهُ ابْن أبي عَاصِم السالف عَن أبي شُعَيْب صَالح بن دِينَار السُّوسِي، ثَنَا مُوسَى بن دَاوُد، ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن ثَوْر بن زيد الديلِي عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من أجلب عَلَى الْخَيل يَوْم الرِّهَان فَلَيْسَ منا» . انْتَهَى الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «علمُوا أَوْلَادكُم الرَّمْي وَالْمَشْي بَين الغرضين» .
وَلَا أعلم من رَوَاهُ عَنهُ هَكَذَا، وَالَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ أَنه كتب إِلَى أبي عُبَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن علمُوا غِلْمَانكُمْ العوم، ومقاتلتكم الرَّمْي. قَالَ: وَكَانُوا يَخْتَلِفُونَ بَين الْأَغْرَاض، فجَاء سهم غرب فَأصَاب غُلَاما فَقتله» وَهَكَذَا هُوَ فِي مُسْند أَحْمد، وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة(9/439)
عِيسَى بن إِبْرَاهِيم، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سُلَيْمَان مولَى أبي رَافع، عَن أبي رَافع قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله أللولد علينا حق كحقنا عَلَيْهِم؟ قَالَ: نعم، حق الْوَلَد عَلَى الْوَالِد، أَن يُعلمهُ الْكِتَابَة والسباحة وَالرَّمْي [وَأَن يورثه طيبا] » قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، عِيسَى بن إِبْرَاهِيم الْهَاشِمِي هَذَا من شُيُوخ بَقِيَّة، مُنكر الحَدِيث ضعفه يَحْيَى بن معِين وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهمَا.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى «الرَّمْي بَين الغرضين» عَن عقبَة وَابْن عمر وَأنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
قلت: أثر عقبَة أخرجه مُسلم فِي «أَفْرَاده» من حَدِيث الْحَارِث بن يَعْقُوب، عَن عبد الرَّحْمَن بن شماسَة «أَن فقيمًا اللَّخْمِيّ قَالَ لعقبة بن عَامر: تخْتَلف بَين هذَيْن الغرضين وَأَنت كَبِير يشق عَلَيْك ذَلِك! فَقَالَ عقبَة: لَوْلَا كَلَام سمعته من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم أَعَانَهُ. قَالَ الْحَارِث: فَقلت لِابْنِ شماسَة: وَمَا ذَلِك قَالَ: إِنَّه [قَالَ] «من علم الرَّمْي ثمَّ تَركه فَلَيْسَ منا - أَو قد عَصَانِي» وَفِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» بِسَنَد جيد عَن مُجَاهِد قَالَ: «رَأَيْت ابْن عمر يشْتَد بَين الغرضين وَيَقُول: (إِنِّي) بهَا ثمَّ أخرج بِسَنَدِهِ عَن أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: «من مَشَى بَين الغرضين كَانَ لَهُ بِكُل خطْوَة(9/440)
حَسَنَة» وَفِي النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء من حَدِيث عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: رَأَيْت جَابر بن عبد الله وَجَابِر بن عُمَيْر (الْأنْصَارِيّ) يرميان، فمل أَحدهمَا فَجَلَسَ، فَقَالَ الآخر: [كسلت!] : سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «كل شَيْء لَيْسَ من ذكر الله فَهُوَ لَغْو وسهو إِلَّا أَربع خِصَال: مشي الرجل بَين الغرضين، وتأديب فرسه، وملاعبته أَهله، وَتَعْلِيم السباحة» .(9/441)
كتاب الْأَيْمَان(9/443)
كتاب الْأَيْمَان
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا. أما الْأَحَادِيث فستة وَعِشْرُونَ حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَالله لأغزون قُريْشًا - وَفِي رِوَايَة «قَالَ ذَلِك» وَفِي رِوَايَة «قَالَ ذَلِك ثَلَاثًا» - ثمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَة: «إِن شَاءَ الله» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة عِكْرِمَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَالله لأغزون قُريْشًا [قَالَهَا ثَلَاثًا] ، ثمَّ قَالَ إِن شَاءَ الله» وَذكر أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» (وَابْن حبَان فِي غير «صَحِيحه» ) أَنه أسْندهُ غير وَاحِد عَن عِكْرِمَة عَن [ابْن] عَبَّاس، وَأخرجه فِي «صَحِيحه» من حَدِيث معمر عَن سماك، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه ... فَذكره بِمثلِهِ سَوَاء إِلَّا أَنه قَالَ فِي آخِره: «ثمَّ سكت فَقَالَ: إِن شَاءَ الله» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد عَن(9/445)
عِكْرِمَة - يرفعهُ - أَنه قَالَ: «وَالله لأغزون قُريْشًا. ثمَّ قَالَ: إِن شَاءَ الله [ثمَّ قَالَ: وَالله لأغزون قُريْشًا إِن شَاءَ الله. ثمَّ قَالَ: وَالله لأغزون قُريْشًا. ثمَّ سكت، ثمَّ قَالَ:] إِن شَاءَ الله زَاد فِيهِ بعض الروَاة: «ثمَّ لم يغزهم» وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من هَذِه الطّرق، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي: «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: الْأَشْبَه إرْسَاله.
وَكَذَا قَالَ عبد الْحق: الصَّحِيح أَنه مُرْسل وَأَن الرِّوَايَة الموصولة ضَعِيفَة؛ لِأَن فِيهَا عبد الْوَاحِد بن صَفْوَان عَن عِكْرِمَة، وَهُوَ لَيْسَ [حَدِيثه] بِشَيْء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يحْتَمل أَن يكون النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِن صَحَّ هَذَا عَنهُ - يَعْنِي حَدِيث عِكْرِمَة الْأَخير - لم يقْصد رد الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْيَمين، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك امتثالاً (لكتابه) . وَأخرجه ابْن حبَان فِي «تَارِيخه الضُّعَفَاء» من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْبَلْخِي، ثَنَا سُفْيَان، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر - رَفعه - وَقَالَ فِي الثَّالِثَة: «إِن شَاءَ الله» ثمَّ قَالَ: مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْبَلْخِي يروي المقلوبات عَن الثِّقَات بِمَا لَا يشبه حَدِيث الْأَثْبَات كَأَنَّهُ كالمتعمد، لَا يكْتب حَدِيثه إِلَّا للاعتبار. وَقَالَ: لَيْسَ هُوَ من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة، وَهَذَا شَيْء رَوَاهُ مسعر وَشريك عَن سماك، عَن(9/446)
عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، أَرْسلَاهُ مرّة ورفعا أُخْرَى. وَقَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: مُحَمَّد هَذَا لم يكن [يوثق] فِي علمه، كَانَ قُتَيْبَة يذكرهُ بِأَسْوَأ الذّكر وَيَقُول: حدثت أَنه شتم أَمِير الْمُؤمنِينَ بِالْكُوفَةِ فَطلب فهرب.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ كثيرا مَا يحلف فَيَقُول: لَا ومقلب الْقُلُوب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَلَفظه: «أَكثر مَا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يحلف: لَا ومقلب الْقُلُوب» وأرسله مَالك قَالَ: بَلغنِي أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول: «لَا ومقلب الْقُلُوب» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ مُسْندًا، وَلَفظه الْأَوَّلين «كثيرا مَا كَانَ يحلف بِهَذِهِ الْيَمين: لَا ومقلب الْقُلُوب» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «أَكثر مَا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يحلف بِهَذِهِ الْيَمين: لَا ومقلب الْقُلُوب» . وَلَفظ النَّسَائِيّ «كَانَت يَمِين يحلف عَلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا ومقلب الْقُلُوب» وَفِي رِوَايَة لَهُ «كَانَت يَمِين رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الَّتِي يحلف بهَا لَا ومصرف(9/447)
الْقُلُوب. وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه «كَانَت أَكثر أَيْمَان النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا ومصرف الْقُلُوب» .
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا اجْتهد فِي الْيَمين قَالَ: لَا وَالَّذِي نَفْس أبي الْقَاسِم بِيَدِهِ، أَو نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من رِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا اجْتهد فِي الْيَمين قَالَ: لَا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ» وَمن ذَلِك حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمخْرج فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَو تعلمُونَ مَا أعلم لضحكتم قَلِيلا ولبكيتم كثيرا» . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا الثَّابِت فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ، لَو أَن عِنْدِي ملْء أحد ذَهَبا لأحببت أَن لَا يَأْتِي عَلّي ثَلَاث لَيَال وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَار أجد من يقبله، إِلَّا شَيْء أرصده لدين عَلّي» .
وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث المستفيضة الْمَعْرُوفَة.(9/448)
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْكَبَائِر: الْإِشْرَاك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين، وَقتل النَّفس، وَالْيَمِين الْغمُوس» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من رِوَايَة عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وَفِي رِوَايَة لَهُ أَن أعرابيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: مَا الْكَبَائِر يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الْإِشْرَاك [بِاللَّه] قَالَ: ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ: [عقوق الْوَالِدين. قَالَ ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ:] الْيَمين الْغمُوس. قلت: وَمَا الْيَمين الْغمُوس؟ قَالَ: الَّذِي يقتطع بهَا مَال امْرِئ مُسلم - يَعْنِي: يَمِين هُوَ فِيهَا كَاذِب» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث أبي أُمَامَة عَن عبد الله بن أنيس - الْجُهَنِيّ مَرْفُوعا: «من أكبر الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاللَّه وعقوق الْوَالِدين وَالْيَمِين الْغمُوس، مَا حلف حَالف بِاللَّه يَمِين صَبر (فأحل مِنْهَا) مثل جنَاح الْبَعُوضَة إِلَّا جعلهَا الله [نُكْتَة] فِي قلبه يَوْم الْقِيَامَة» . قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي هَذَا: حَدِيث حسن غَرِيب. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ(9/449)
ابْن الْقطَّان - تبعا لِلتِّرْمِذِي -: أَبُو أُمَامَة هَذَا قد رَوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يعرف اسْمه.
قلت: بلَى اسْمه: إِيَاس بن ثَعْلَبَة، وَقيل: عبد الله، وَقيل غير ذَلِك، قَالَ: وَفِيه أَيْضا: هِشَام بن سعد.
قلت: قد أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِدُونِهِ أخرجه [عَن] عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن زيد، عَن عبد الله بن أبي أُمَامَة، عَن عبد الله بن أنيس - رَفعه -: «من أكبر الْكَبَائِر: الْإِشْرَاك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين، وَالْيَمِين الْغمُوس، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَا يحلف رجل عَلَى مثل جنَاح بعوضة إِلَّا كَانَت لَهُ كيَّة فِي قلبه يَوْم الْقِيَامَة» .
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْيَمين عَلَى من أنكر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «لَو أعطي النَّاس بدعواهم لادعى رجال دِمَاء قوم وَأَمْوَالهمْ، وَلَكِن الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى من أنكر» وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن ابْن عَبَّاس، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدعَى عَلَيْهِ» وَلمُسلم أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: لَو يُعْطَى النَّاس بدعواهم لادعى نَاس(9/450)
دِمَاء رجال وَأَمْوَالهمْ وَلَكِن الْيَمين عَلَى الْمُدعَى عَلَيْهِ.
الحَدِيث السَّادِس
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مَرْفُوعا وموقوفًا «إِن لَغْو الْيَمين: لَا وَالله، وبلى وَالله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أما رِوَايَة الرّفْع فرواها أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن عَطاء بن أبي رَبَاح: اللَّغْو فِي الْيَمين [قَالَ:] قَالَت عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «هُوَ كَلَام الرجل فِي بَيته: كلا وَالله وبلى وَالله» وَأما رِوَايَة الْوَقْف فرواها البُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَن هِشَام قَالَ: حَدثنِي أبي عَن عَائِشَة فِي هَذِه الْآيَة: «لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم» . قَالَ: هُوَ قَول الرجل: لَا وَالله وبلى وَالله» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الرّبيع قَالَ: قلت للشَّافِعِيّ: مَا لَغْو الْيَمين؟ قَالَ: الله أعلم، أما الَّذِي نَذْهَب [إِلَيْهِ] فَمَا قَالَت عَائِشَة، أخبرنَا مَالك، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «لَغْو الْيَمين: قَول الْإِنْسَان: لَا وَالله وبلى وَالله» .(9/451)
وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» أَيْضا كَذَلِك، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان؛ أخبرنَا سُفْيَان، أَنا عَمْرو [عَن] ابْن جريج، عَن عَطاء قَالَ: «ذهبت أَنا وَعبيد بن عُمَيْر إِلَى عَائِشَة وَهِي معتكفة، فسألناها عَن قَول الله - تَعَالَى -: «لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم» قَالَت: هُوَ لَا وَالله وبلى وَالله.
قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ غير وَاحِد عَن عَطاء، عَن عَائِشَة مَوْقُوفا عَلَيْهَا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من طرق مَوْقُوفا عَلَيْهَا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَالصَّحِيح فِيهِ الْوَقْف.
الحَدِيث السَّابِع
عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بِسبع: بعيادة الْمَرِيض، وَاتِّبَاع الْجَنَائِز، وتشميت الْعَاطِس، ورد السَّلَام، وَإجَابَة الدَّاعِي، وإبرار الْقسم، وَنصر الْمَظْلُوم» .
وَهَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحهمَا» وَقد تقدم فِي كتاب السّير.
الحَدِيث الثَّامِن
أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من حلف عَلَى يَمِين فَقَالَ: إِن شَاءَ الله، لم يَحْنَث» .(9/452)
هَذَا الحَدِيث أخرجه الْأَئِمَّة التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة فِي «سُنَنهمَا» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من طَرِيق عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن [ابْن] طَاوس، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لِلتِّرْمِذِي، وَلَفظ النَّسَائِيّ: «من حلف عَلَى يَمِين فَقَالَ: إِن شَاءَ الله، فقد اسْتثْنى» وَلَفظ ابْن مَاجَه: «من حلف فَقَالَ: إِن شَاءَ الله، فَلهُ ثنياه، وَلَفظ ابْن حبَان: «من حلف فَقَالَ: إِن شَاءَ الله، فقد اسْتثْنى» قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل - يَعْنِي: البُخَارِيّ - عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: هَذَا حَدِيث خطأ أَخطَأ فِيهِ عبد الرَّزَّاق، اخْتَصَرَهُ من حَدِيث معمر عَن ابْن طَاوس عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن سُلَيْمَان بن دَاوُد قَالَ: لأطوفن اللَّيْلَة عَلَى سبعين امْرَأَة، تَلد كل امْرَأَة غُلَاما فَطَافَ عَلَيْهِنَّ فَلم تَلد امْرَأَة مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَة نصف غُلَام، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله. لَكَانَ كَمَا قَالَ» . رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «السّنَن المأثورة» عَنهُ للمزني، وَأحمد فِي «مُسْنده» وَأَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من حلف عَلَى يَمِين فَقَالَ: إِن شَاءَ الله.(9/453)
فَلَا حنث عَلَيْهِ» هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ، وَلَفظ البَاقِينَ - خلا أَحْمد -: من حلف عَلَى يَمِين فَقَالَ: إِن شَاءَ الله. فقد اسْتثْنى» وَفِي رِوَايَة لَهُم «من حلف عَلَى يَمِين فاستثنى، فَإِن شَاءَ رَجَعَ وَإِن شَاءَ ترك غير حنث وَلَفظ أَحْمد: «إِذا حلف الرجل فَقَالَ: إِن شَاءَ الله. فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ فليمض وَإِن شَاءَ فليترك» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. قَالَ: وَقد رَوَاهُ [عبيد الله] بن عمر وَغَيره عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَوْقُوفا، وَهَكَذَا رُوِيَ، عَن سَالم، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا.
قلت: وَقد أخرجه مَالك فِي «موطئِهِ» مَوْقُوفا. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَلَا نعلم أحدا رَفعه غير أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم: كَانَ أَيُّوب أَحْيَانًا يرفعهُ وَأَحْيَانا لَا يرفعهُ.
قلت: وَأَيوب ثِقَة إِمَام مجمع عَلَى جلالته، فَلَا يضر تفرده بِالرَّفْع عَلَى أَنه لم ينْفَرد؛ فقد رَوَاهُ مُوسَى بن عقبَة وَعبد الله بن عمر وحبان بن عَطِيَّة وَكثير بن فرقد، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا يَصح رَفعه إِلَّا من جِهَة أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَأَيوب يشك فِيهِ أَيْضا، وَرَوَاهُ الْجَمَاعَة من أوجه صَحِيحَة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر من قَوْله غير مَرْفُوع.
قلت: وَلما رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث كثير بن فرقد، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «من حلف عَلَى يَمِين ثمَّ(9/454)
قَالَ: إِن شَاءَ الله. فَإِن لَهُ ثنياه» قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَلم يُخرجهُ هَكَذَا، وَلما أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أَيُّوب، عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «من حلف فَقَالَ: إِن شَاءَ الله. فقد اسْتثْنى» ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن هَذَا الْخَبَر تفرد بِهِ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. ثمَّ أخرج عَن شَيْخه ابْن خُزَيْمَة بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن وهب، عَن سُفْيَان، عَن أَيُّوب بن مُوسَى، عَن نَافِع، وَلَفظه «فَقَالَ: إِن شَاءَ الله. لم يَحْنَث» ثمَّ أخرج من حَدِيث عبد الْوَارِث بن سعيد، ثَنَا أَيُّوب، عَن نَافِع، وَلَفظه: «من حلف فاستثنى فَهُوَ بِالْخِيَارِ؛ إِن شَاءَ أَمضَى وَإِن شَاءَ ترك غير حنث» .
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تحلفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا تحلفُوا إِلَّا بِاللَّه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تحلفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تحلفُوا [إِلَّا](9/455)
بِاللَّه [وَلَا تحلفُوا إِلَّا] وَأَنْتُم صَادِقُونَ» وَعَزاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» إِلَى أبي دَاوُد، وَلم أره فِيهِ، وَلم يذكرهُ ابْن عَسَاكِر فِي أَطْرَافه أَيْضا، نعم قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: هُوَ مَوْجُود فِي رِوَايَة أبي الْحسن بن العَبْد، وَأبي بكر بن داسة فِي كتاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور.
الحَدِيث الْعَاشِر
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أدْرك عمر بن الْخطاب وَهُوَ يسير فِي ركب، فَسَمعهُ وَهُوَ يحلف بِأَبِيهِ، فَقَالَ: إِن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ؛ فَمن كَانَ حَالفا فليحلف بِاللَّه أَو ليصمت. قَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: فَمَا حَلَفت بهَا بعد ذَلِك ذَاكِرًا وَلَا آثرًا - أَي: حاكيًا عَن غَيْرِي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سمع عمر يحلف بِأَبِيهِ، فَقَالَ: إِن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ؛ فَمن كَانَ حَالفا فليحلف بِاللَّه أَو ليصمت» وَفِي رِوَايَة لَهما «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سمع عمر يَقُول: وَأبي(9/456)
وَأمي. فَقَالَ: إِن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ؛ فَمن كَانَ حَالفا فَلَا يحلف إِلَّا بِاللَّه أَو لِيَسْكُت» . وَفِي أُخْرَى لَهما: «كل من كَانَ حَالفا فَلَا يحلف إِلَّا بِاللَّه. وَكَانَت قُرَيْش تحلف بِآبَائِهَا، فَقَالَ: لَا تحلفُوا بِآبَائِكُمْ» وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «وَكَانَت الْعَرَب تحلف بِآبَائِهَا» وَفِي رِوَايَة لمُسلم «قَالَ عمر: وَالله مَا حَلَفت بهَا مُنْذُ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينْهَى عَنْهَا ذَاكِرًا وَلَا آثرًا «وَرِوَايَة الإِمَام الرَّافِعِيّ هِيَ عَن رِوَايَة الشَّافِعِي، عَن مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر إِلَى قَوْله «أَو ليصمت» وَقَالَ بعد قَوْله: «فِي ركب وَيحلف بِاللَّه» بدل قَوْله: «فَسَمعهُ وَهُوَ يحلف بِأَبِيهِ» وَقَالَ: «من» بدل «فَمن» ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه قَالَ: «سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عمر يحلف بِأَبِيهِ فَقَالَ: إِن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ، قَالَ عمر: فوَاللَّه مَا حَلَفت بهَا ذَاكِرًا وَلَا آثرًا» .
فَائِدَة: تَفْسِير الإِمَام الرَّافِعِيّ: «آثرًا» أَي: حاكيًا عَن غَيره. هُوَ مَا جزم بِهِ الْأَزْهَرِي والجوهري، وَحَكَى القَاضِي حُسَيْن قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا هَذَا، وَقَالَ: هُوَ الْأَصَح. وَالثَّانِي: إِنَّه اتِّبَاع لذاكر، تَأْكِيدًا لقَولهم شَيْطَان بيطان، جَامع مَانع. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: فِيهِ تَأْوِيلَانِ أَحدهمَا - يَعْنِي: عَامِدًا وَلَا نَاسِيا. وَالثَّانِي: مُعْتَقدًا لنَفْسي.(9/457)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للأعرابي الَّذِي قَالَ: لَا أَزِيد عَلَيْهَا وَلَا أنقص: أَفْلح (وَالله) إِن صدق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة طَلْحَة بن عبيد الله، وَقد تقدم بِطُولِهِ فِي كتاب الصّيام.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من حلف بِغَيْر الله فقد كفر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور: الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي أَوَائِله من رِوَايَة [سعد] بن عُبَيْدَة، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، قَالَ: وَهَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم، فقد احتجا بِمثل إِسْنَاده، وخرجاه فِي كِتَابَيْهِمَا، وَلَيْسَ [لَهُ] عِلّة وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَله شَاهد عَلَى شَرط مُسلم ... فَذكره بِإِسْنَادِهِ عَن شريك بن عبد الله النَّخعِيّ، عَن الْحسن بن عبيد الله، عَن سعد بن عُبَيْدَة، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «كل يَمِين يحلف بهَا دون الله شرك» وَذكره أَيْضا بعد هَذَا بأوراق بِاللَّفْظِ الأول، ثمَّ قَالَ: هَذَا(9/458)
حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وخلا الْمَوْضِعَيْنِ فِي كتاب الْأَيْمَان فِي أَوَائِل كِتَابه. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من حلف بِغَيْر الله فقد أشرك» .
قلت: هُوَ صَحِيح أَيْضا بِهَذَا اللَّفْظ، وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث سعد بن عُبَيْدَة عَن ابْن عمر، عَن عمر أَنه قَالَ: «لَا وَأبي. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَه! إِنَّه من حلف بِشَيْء دون الله فقد أشرك» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» [فِي كتابي] الْإِيمَان والأيمان من حَدِيث سعد بن عُبَيْدَة، عَن ابْن عمر وَحده قَالَ: قَالَ رَسُول (: «لَا تحلفُوا بِآبَائِكُمْ، من حلف بِشَيْء دون الله فقد أشرك» وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة سعد بن عُبَيْدَة «أَن ابْن عمر سمع رجلا يَقُول: والكعبة. فَقَالَ ابْن عمر: لَا يُحلف بِغَيْر الله؛ فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: من حلف بِغَيْر الله فقد كفر أَو أشرك» كَذَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ ب «أَو» الَّتِي هِيَ للشَّكّ، وَفِي الْحَاكِم وَابْن حبَان بحذفها، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد.(9/459)
قلت: ومدار طرق هَذَا الحَدِيث عَلَى سعد بن عُبَيْدَة أَبُو حَمْزَة الْكُوفِي وَهُوَ ثِقَة ثَبت أخرج لَهُ أَصْحَاب «الْكتب السِّتَّة» رَوَى عَن ابْن عمر والبراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث لم يسمعهُ سعد بن عُبَيْدَة من ابْن عمر.
قلت: وَفِي ذَلِك نظر؛ فقد صرح بِسَمَاعِهِ من ابْن عمر، وَقد بَين ذَلِك الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «الْأَطْرَاف» فَقَالَ بعد أَن أخرجه من طريقي أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: رَوَى هَذَا الحَدِيث عبد الْوَاحِد بن زِيَاد وفضيل بن سُلَيْمَان، عَن الْحسن بن عبيد الله عَن سعد بن عُبَيْدَة، وَرَوَاهُ شُعْبَة عَن مَنْصُور عَن سعد بن عُبَيْدَة: «كنت عِنْد ابْن عمر ... » فَذكر فِيهِ قصَّة، وَقَالَ: روح (وَسَعِيد) عَن مَنْصُور، عَن سعد بن عُبَيْدَة: «كنت عِنْد ابْن عمر - فَذكر الْقِصَّة، وَقَالَ: وَمَعِي رجل من كِنْدَة - فَقُمْت من عِنْد ابْن عمر فَأتيت سعيد بن الْمسيب فَأَتَانِي الْكِنْدِيّ وَأَنا عِنْد سعيد، فَقَالَ: مَا سَمِعت مَا حدث ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سمع عمر يحلف بِأَبِيهِ فَنَهَاهُ وَقَالَ: لَا تحلفُوا بِآبَائِكُمْ» قَالَ أَبُو عوَانَة الإِسْفِرَايِينِيّ: يُقَال: إِنَّه مُحَمَّد الْكِنْدِيّ. وَقَالَ الْأَعْمَش عَن سعد بن عُبَيْدَة، عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، عَن ابْن عمر، زَاد فِيهِ: عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ. هَذَا آخر كَلَام الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي، وَمُلَخَّصه أَن هَذَا الحَدِيث رُوِيَ من طَرِيقين:
أَحدهمَا: عَن سعد بن عُبَيْدَة عَن ابْن عمر. الثَّانِي: عَن سعد(9/460)
بن عُبَيْدَة عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ عَن ابْن عمر. وَمن طَرِيق ثَالِث عَن سعد الْمَذْكُور عَن ابْن عمر، وَله طَرِيق آخر شَاهد لَهُ، أدْركهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ من كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة مَكْحُول الْأَسدي بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ مَرْفُوعا: «من حلف بالشرك وآثم فقد أشرك، وَمن حلف (بالْكفْر) وآثم فقد أشرك» .
فَائِدَة: قَالَ التِّرْمِذِيّ: فسر بعض الْعلمَاء قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «كفر أَو أشرك» عَلَى التَّغْلِيظ، كَمَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «الرِّيَاء شرك» قَالَ: وَقد فسر بعض أهل الْعلم قَوْله تَعَالَى: (وَلَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدا) قَالَ: لَا يرائي. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: قَوْله: «فقد أشرك» فِيهِ تَأْوِيلَانِ أَحدهمَا: فقد أشرك بَين الله وَبَين غَيره فِي التَّعْظِيم، وَإِن لم يصر من الْمُشْركين الْكَافرين. وَثَانِيهمَا: صَار كَافِرًا بِهِ إِن اعْتقد لُزُوم يَمِينه بِغَيْر الله، كاعتقاد لُزُومهَا بِاللَّه.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي حَدِيث ركَانَة: «آللَّهُ مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي كتاب الطَّلَاق، قَالَ الرَّافِعِيّ: رَوَاهُ صَاحب «الْبَيَان» بِالرَّفْع، وَالْقَاضِي الرَّوْيَانِيّ بِالْجَرِّ. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لِابْنِ مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: « [آللَّهُ] قتلتَ أَبَا جهل» بِالنّصب.(9/461)
قلت: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أبي إِسْحَاق، عَن الحكم، عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «انْتَهَى عبد الله بن مَسْعُود إِلَى أبي جهل يَوْم بدر وَهُوَ وقيذ، فاستل سَيْفه فَضرب عُنُقه، فقدَّ رَأسه ثمَّ أَخذ سلبه، فَأَتَى إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخْبرهُ أَنه قتل أَبَا جهل، فأحلفه بِاللَّه ثَلَاث مَرَّات، فَحلف فَجعل لَهُ سلبه» ثمَّ أخرجه من حَدِيث أبي إِسْحَاق، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن أَبِيه، وَفِيه «فَقلت: قتلت أَبَا جهل. فَقَالَ: آللَّهُ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ؟ فاستحلفه ثَلَاث مَرَّات» وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ من هَذِه الطَّرِيق: «يَا رَسُول الله، لقد قتل الله أَبَا جهل. قَالَ: آللَّهُ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ؟ فَقلت: آللَّهُ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، لقد قتلته» ثمَّ أخرجه من رِوَايَة عَمْرو بن مَيْمُون عَنهُ، وَفِيه «فَقتلته ثمَّ قلت: يَا رَسُول الله ألم تَرَ أَن الله قتل أَبَا جهل. قَالَ: آللَّهُ؟ قلت: آللَّهُ. حَتَّى حلَّفَنى ثَلَاثًا» . وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث أبي إِسْحَاق عَن أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه، كَمَا سَاقه الطَّبَرَانِيّ إِلَّا أَنه لم يقل: «فاستحلفه ثَلَاث مَرَّات» .
الحَدِيث الرَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَايْم الله [إِنَّه] لخليق بالإمارة» .(9/462)
هَذَا الحَدِيث كَذَا وَقع فِي نسخ الإِمَام الرَّافِعِيّ، وَهُوَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عمر رضى الله عَنْهُمَا قَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعثًا وَأمر عَلَيْهِم أُسَامَة بن زيد فطعن النَّاس فِي إمارته، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن [تطعنوا] فِي إمارته فقد كُنْتُم تطعنون فِي إِمَارَة أَبِيه من قبل، وَايْم الله إِن كَانَ لخليقًا بالإمارة، إِن كَانَ لمن أحب النَّاس إليّ، وَإِن هَذَا من أحب النَّاس إِلَيّ بعده» .
الحَدِيث الْخَامِس عشر
عَن عقبَة بن عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كَفَّارَة النّذر كَفَّارَة الْيَمين» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ بِزِيَادَة فِيهِ، وَهَذَا لَفْظهمَا: «كَفَّارَة النّذر إِذا لم يسم شَيْئا كَفَّارَة الْيَمين» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ كَمَا رَوَاهُ مُسلم، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِنَّه مَحْمُول عندنَا عَلَى اللِّجاج الَّتِي تخرج مخرج الْأَيْمَان.(9/463)
تَنْبِيه: ذكر الرَّافِعِيّ هُنَا الْمُبَايعَة كَانَت فِي زمن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالمصافحة، وَهَذَا صَحِيح؛ فَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، حَدثنِي يزِيد بن أبي حبيب عَن [مرْثَد] بن عبد الله، عَن أبي عبد الرَّحْمَن الْجُهَنِيّ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحن عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - طلع راكبان، فَلَمَّا رآهما قَالَ: كنديان مَذْحِجِيَّان. حَتَّى أَتَيَاهُ، فَإِذا رجلَانِ من مذْحج، قَالَ: فَدَنَا أَحدهمَا إِلَيْهِ ليبايعه قَالَ: فَلَمَّا أَخذ بِيَدِهِ قَالَ: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت من رآك فَآمن بك وصدقك ثمَّ اتبعك، مَاذَا لَهُ؟ فَقَالَ: طُوبَى لَهُ. فَمسح عَلَى يَده فَانْصَرف، ثمَّ أقبل الآخر حَتَّى أَخذ بِيَدِهِ ليبايعه، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت من آمن بك وصدقك واتبعك وَلم يَرك. قَالَ: طُوبَى لَهُ ثمَّ طُوبَى لَهُ [ثمَّ طُوبَى لَهُ] قَالَ: فَمسح عَلَى يَده وَانْصَرف» . وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» وَمُسلم من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «كَانَ الْمُؤْمِنَات إِذا هَاجَرْنَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يمْتَحن) بقول الله - تَعَالَى -: (يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات ... ) الْآيَة. قَالَت عَائِشَة: فَمن (آمن) بِهَذَا من الْمُؤْمِنَات، فقد أقرّ بالمحنة، وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أقررن بذلك من قولهن قَالَ لَهُنَّ: انطلقن؛ فقد بايعتكن. وَلَا وَالله مَا مست يَد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَد امْرَأَة قطّ غير أَنه يُبَايِعهُنَّ بالْكلَام» .(9/464)
وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث [الشريد بن] سُوَيْد قَالَ: «كَانَ فِي وَفد ثَقِيف رجل مجذوم، فَأرْسل إِلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِنَّا قد بايعناك فَارْجِع» .
وَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي نعيم فِي تَرْجَمَة قريبَة العتوارية، عَنْهَا ابْنَتهَا عقيلة بنت عبيد بن الْحَارِث - وَقيل: غقيلة بالغين - من حَدِيث بكار بن عبد الْعَزِيز، ثَنَا مُوسَى بن عُبَيْدَة، ثَنَا زيد بن عبد الرَّحْمَن، عَن أمه حجَّة بنت (قُرَيْظَة) عَن أمهَا عقيلة بنت عبيد بن الْحَارِث قَالَت: «جِئْت أَنا وَأمي قريرة بنت الْحَارِث العتوارية فِي نسَاء من [الْمُهَاجِرَات] إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ ضَارب عَلَيْهِ بقبة بِالْأَبْطح، فَأخذ علينا أَن لَا نشْرك بِاللَّه شَيْئا. قَالَت: فأقررنا وبسطنا أَيْدِينَا لنبايعه، فَقَالَ: إنى لَا أمس يَد النِّسَاء. فَاسْتَغْفر لنا (وَكَانَ ذَلِك بيعتنا» ) قَالَ أَبُو نعيم: كَذَا وَقع فِي كتابي: قريرة. وفيهَا أَيْضا من حَدِيث أُمَيْمَة بنت رقيقَة «أَنَّهَا لما بَايَعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَت: قد ذهبت أصافحه، فَقَالَ: إِنِّي لَا أُصَافح النِّسَاء؛ إِنَّمَا قولي لمِائَة مِنْكُن كَقَوْلي لامْرَأَة» وَهَذَا فِي «صَحِيح(9/465)
ابْن حبَان» بأطول مِنْهُ، وفيهَا أَيْضا من حَدِيث بهية بنت عبد الله البكرية قَالَت: «وفدت مَعَ أبي عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَبَايع الرِّجَال وصافحهم، وَبَايع النِّسَاء وَلم يُصَافِحهُنَّ، وَنظر إليّ فدعاني وَمسح عَلَى رَأْسِي ودعا لي ولوالدي. قَالَ: فولد لَهَا سِتُّونَ ولد: أَرْبَعُونَ رجلا وَعِشْرُونَ امْرَأَة، وَاسْتشْهدَ مِنْهُم عشرُون» . وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» الْحَدِيثين الْأَوَّلين من هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِى أخرجهَا أَبُو نعيم، وَفِيه أَيْضا من حَدِيث يُونُس بن عبيد عَن الْحسن عَن [معقل] بن يسَار «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام فِي بيعَة الرضْوَان كَانَ يُصَافح النِّسَاء من تَحت الثَّوْب» وَفِي [مُسْند] أَحْمد من حَدِيث عبد الله بن [عَمْرو] «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَا يُصَافح النِّسَاء» .
الحَدِيث السَّادِس عشر
عَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يَا عبد الرَّحْمَن، لَا تسْأَل الْإِمَارَة؛ فَإنَّك إِن أتتك عَن مَسْأَلَة وكلت إِلَيْهَا، وَإِن أتتك عَن غير مَسْأَلَة أعنت عَلَيْهَا، وَإِذا حَلَفت عَلَى يَمِين فَرَأَيْت غَيرهَا(9/466)
خيرا مِنْهَا فَائت الَّذِي هُوَ خير وَكفر عَن يَمِينك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «كفر عَن يَمِينك وائت الَّذِي هُوَ خير» . وَفِي رِوَايَة للنسائي: «إِذا حلف أحدكُم عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفر عَن يَمِينه، ولينظر الَّذِي هُوَ خير فليأتيه» وَفِي رِوَايَة لَهما: «فَكفر عَن يَمِينك ثمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خير» . وَهَذِه الرِّوَايَة ذكرهَا الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الْبَاب، وَذكر رِوَايَة أُخْرَى وَهِي: «من حلف عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيرهَا خيرا مِنْهَا، فليأت الَّذِي هُوَ خير وليكفر عَن يَمِينه» وَهِي رِوَايَة صَحِيحَة أخرجهَا مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: «أعتم رجل عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ رَجَعَ إِلَى أَهله، فَوجدَ الصبية قد نَامُوا، فَأَتَاهُ أَهله بطعامه فَحلف أَن لَا [يَأْكُل] من أجل صبيته، ثمَّ بدا لَهُ فَأكل، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من حلف عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأتها وليكفر عَن يَمِينه» وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «من حلف عَلَى يَمِين فَرَأَى [غَيرهَا] خيرا مِنْهَا فليكفر عَن يَمِينه وليفعل»(9/467)
وَفِي أُخْرَى «فليأت الَّذِي هُوَ خير وليكفر عَن يَمِينه» .
قَالَ عبد الْحق: وَلم يخرج البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا شَيْئا. وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث عبد الله بن عمر مَرْفُوعا: «من حلف عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير، وليكفر عَن يَمِينه» . وَهَذِه طبق رِوَايَة الرَّافِعِيّ سَوَاء، وأخرجها أَيْضا أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك.
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا أَحْلف عَلَى يَمِين فَأرَى غَيرهَا خيرا مِنْهَا إِلَّا أتيت الَّذِي هُوَ خير وتحللت عَن يَمِيني» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِيه قصَّة أَخْرَجَاهَا بِطُولِهَا عَن أبي مُوسَى قَالَ: «أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي رَهْط من الْأَشْعَرِيين نستحمله، فَقَالَ: وَالله لَا أحملكم، وَمَا عِنْدِي مَا أحملكم. ثمَّ لبثنا مَا شَاءَ الله، فَأتي بِإِبِل فَأمر لنا بِثَلَاث ذود فَانْطَلَقْنَا، قَالَ بَعْضنَا لبَعض: لَا يُبَارك الله لنا، أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نستحمله فَحلف لَا يحملنا! قَالَ أَبُو مُوسَى: فأتينا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذَكرنَا ذَلِك(9/468)
لَهُ، فَقَالَ: مَا أَنا حملتكم؛ بل الله حملكم، إِنِّي وَالله لَا أَحْلف ... » الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَلا وَإِن فِي الْجَسَد مُضْغَة، إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله ... » الحَدِيث. حَدِيث صَحِيح جليل حفيل، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إِن الْحَلَال وَالْحرَام بَين وَبَينهمَا مُشْتَبهَات لَا يعلمهُنَّ كثير من النَّاس، فَمن اتَّقَى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لدينِهِ وَعرضه، وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام كَالرَّاعِي يرْعَى حول الْحمى يُوشك أَن يواقعه، أَلا وَإِن لكل ملك حمى، أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه، أَلا وَإِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فَسدتْ فسد كُله، أَلا وَهِي الْقلب» .
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه وَاضحا فِي بَاب النَّجَاسَات وَالْمَاء النَّجس.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَا يَأْكُل الصَّدَقَة وَيقبل الْهَدِيَّة» .(9/469)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مَشْهُور؛ فقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «إِنَّا أهل بَيت لَا تحل لنا الصَّدَقَة» وَقبل هَدَايَا كَثِيرَة، وَقد تقدم جملَة من ذَلِك فِي كتاب الْهِبَة وَكتاب قسم الصَّدقَات، وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا أُتِي بِطَعَام سَأَلَ عَنهُ؛ فَإِن قيل: هَدِيَّة. أكل مِنْهَا، وَإِن قيل: صَدَقَة. لم يَأْكُل مِنْهَا» وَقَالَ البُخَارِيّ: «فَإِن قيل: صَدَقَة. قَالَ لأَصْحَابه: كلوا. وَلم يَأْكُل، وَإِن قيل: هَدِيَّة. ضرب بِيَدِهِ فَأكل مَعَهم» خرجه فِي كتاب الْهِبَة من «صَحِيحه» وَمُسلم فِي الزَّكَاة، وَقد ذكره الطَّبَرَانِيّ مُصَرحًا بِهِ فِي حَدِيث وَاحِد رَوَاهُ عَن عبد الله بن أَحْمد، ثَنَا أبي. حَدثنَا هَاشم بن سعيد، ثَنَا الْحسن بن أَيُّوب، عَن عبد الله بن بسر قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقبل الْهَدِيَّة وَلَا يقبل الصَّدَقَة» وَكَذَا هُوَ فِي «مُسْند أَحْمد» لَكِن فِيهِ هِشَام بن سعيد، وَهِشَام بن سعيد قَالَ فِيهِ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بشىء. وَذكره ابْن حبَان فِي «الثِّقَات» وَالْحسن بن أَيُّوب لم أره فِي كتب الْجرْح وَالتَّعْدِيل مكبرًا؛ بل مُصَغرًا فِي كتاب الْأَزْدِيّ، وَقَالَ: إِنَّه مَجْهُول. نعم الْحسن بن أَيُّوب ضعفه ابْن معِين؛ فَالله أعلم هَل هُوَ أم لَا.
أبنا الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه إليَّ من دمشق سنة نَيف وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة، نَا مُحَمَّد بن صاعد، أَنا الْحسن بن إِسْمَاعِيل، أَنا أَبُو طَاهِر السلَفِي، أبنا أَبُو بكر الطريثيثي وَابْن خشيش قَالَا: أبنا أَبُو عَلّي ابْن شَاذ، شَاذان، أبنا(9/470)
عبد الله بن جَعْفَر، ثَنَا يَعْقُوب بن سُفْيَان الْفَسَوِي، ثَنَا مكي بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا بهز بن حَكِيم ذكره عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أُتِي بِالطَّعَامِ سَأَلَ عَنهُ: أهدية أم صَدَقَة؟ فَإِن قَالُوا: هَدِيَّة. بسط يَده، وَإِن قَالَ: صَدَقَة. قَالَ: لأَصْحَابه: كلوا» . غَرِيب.
الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ جماعات، وَقد رَأَيْت تَأْخِير الْكَلَام عَلَيْهِ إِلَى كتاب الْكِتَابَة؛ فَهُوَ أليق بِهِ.
الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل لمُسلم أَن يهجر أَخَاهُ فَوق ثَلَاث» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة أنس وَأبي أَيُّوب، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرطهمَا وَلأبي دَاوُد عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «لَا يكون لمُسلم أَن يهجر مُسلما فَوق ثَلَاثَة أَيَّام» ، وَلأبي أَحْمد الْحَاكِم فِي «كِتَابه» فِي هَذَا الحَدِيث(9/471)
بعد «لَا يحل لمُسلم أَن يهجر أَخَاهُ فَوق ثَلَاث إِلَّا أَن يكون مِمَّن لَا تؤمن بوائقه» . قَالَ الْحَاكِم: قَالَ أَبُو أُميَّة: فألقيت هَذَا الحَدِيث عَلَى أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: فكذَّبه وَأنكر هَذَا الْكَلَام، وَقَالَ: لَيْسَ كَلَام النَّبِي - يَعْنِي: الْحَرْف الْأَخير. وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث أبي خرَاش السّلمِيّ أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «من هجر أَخَاهُ سنة فَهُوَ كسفك دَمه» .
الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ
قَالَ الرَّافِعِيّ: إِذا حلف ليحمدن الله بِمَجَامِع الْحَمد - وَقَالَ فِي «التَّتِمَّة» : بِأَجل التحاميد - الْبر أَن يَقُول: الْحَمد لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده. يرْوَى «أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام علم آدم هَذِه الْكَلِمَات وَقَالَ: علمتك مجامع الْحَمد» .
هَذَا لم أَجِدهُ بعد [الْبَحْث] وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : ضَعِيف الْإِسْنَاد غير مُتَّصِل ... فَذكره، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «الرَّوْضَة» : لَيْسَ لهَذِهِ الْمَسْأَلَة دَلِيل مُعْتَمد. فَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ بتضعيفه.
الحَدِيث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
حَدِيث «إِمَامَة جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، تقدم بَيَانه فِي كتاب الصَّلَاة.(9/472)
الحَدِيث الْخَامِس وَالْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي أَوَاخِر بَاب شُرُوط الصَّلَاة.
الحَدِيث السَّادِس وَالْعشْرُونَ
«رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: [قَالَ] لَيْسَ عَلَى مقهور يَمِين» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي بكر مُحَمَّد بن الْحسن الْمُقْرِئ، ثَنَا الْحُسَيْن بن إِدْرِيس، ثَنَا خَالِد بن الْهياج، ثَنَا أبي، عَن عَنْبَسَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن الْعَلَاء، عَن مَكْحُول، عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع وَعَن أبي أُمَامَة قَالَا: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَيْسَ عَلَى مقهور يَمِين» . وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، أما أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن الْمُقْرِئ فَهُوَ النقاش صَاحب «التَّفْسِير» وَهُوَ كَذَّاب، قَالَ طَلْحَة بن مُحَمَّد بن جَعْفَر: كَانَ النقاش يكذب. وَقَالَ البرقاني: كل حَدِيثه مُنكر. وَقَالَ الْخَطِيب: أَحَادِيثه مَنَاكِير بأسانيد مَشْهُورَة.
وَأما خَالِد بن الْهياج فَلَا أعرفهُ، قَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يعرف حَاله، وَرَوَى عَنهُ الْحُسَيْن بن إِدْرِيس أَحَادِيث أنْكرت عَلَيْهِ لَا أصل لَهَا، مِنْهَا هَذَا الحَدِيث.(9/473)
وَأما وَالِده الْهياج فَهُوَ ابْن بسطَام الترجمي الْهَرَوِيّ وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث، كَمَا قَالَه أَحْمد وَغَيره، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ. وَأما عَنْبَسَة بن عبد الرَّحْمَن فَهُوَ قرشي بَصرِي، وَهُوَ مَتْرُوك، كَمَا قَالَه البُخَارِيّ وَغَيره، قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: كَانَ يضع الحَدِيث. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: كَذَّاب. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ مِمَّن يضع الحَدِيث ونسأل الله الْعَافِيَة. وَقد ضعفه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» بِسَبَب عَنْبَسَة، وَعبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِسَبَب هياج، وَابْن الْقطَّان بِالْكُلِّ، ثمَّ هُوَ بعد ذَلِك مُنْقَطع، مَكْحُول لم ير أَبَا أُمَامَة، وَفِي سَمَاعه من وَاثِلَة خلاف أوضحته فِي تَخْرِيج أَحَادِيث «الْمُهَذّب» فَرَاجعه مِنْهُ، وَاحْتج الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي الْمَسْأَلَة بِحَدِيث عَائِشَة أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: لَا طَلَاق وَلَا عتاق فِي إغلاق وَبِحَدِيث: «وضع عَن أمتِي الْخَطَأ والنسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» . هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب. وَمَا ذكر فِيهِ من الْآثَار ثَلَاثَة:
أَحدهَا: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَنَّهَا سُئِلت [عَمَّن] جعل مَاله فِي رتاج الْكَعْبَة إِن كلم ذَا قرَابَة لَهُ، فَقَالَت: يكفر [مَا يكفر] الْيَمين» .(9/474)
وَثَانِيهمَا: عَن عمر رَضِي الله [عَنهُ] «أَنه قيل لَهُ: لَو لينت طَعَامك وشرابك! فَقَالَ: سَمِعت الله - تَعَالَى - يَقُول: (لأقوام أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ [فِي حَيَاتكُم الدُّنْيَا] ) .
وَثَالِثهَا: عَن عمرَان بن حُصَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه سُئِلَ: هَل تُجزئ القلنسوة فِي الْكَفَّارَة؟ فَقَالَ: إِذا وَفد عَلَى الْأَمِير فَأَعْطَاهُمْ قلنسوة قيل: قد كساهم» .
أما الْأَثر الأول: فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن، عَن أمه صَفِيَّة بنت شيبَة، عَن عَائِشَة ... فَذكره بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» وَلَفظه عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «من جعل مَاله فِي سَبِيل الله أَو فِي رتاج الْكَعْبَة فكفارته كَفَّارَة يَمِين» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن سعيد بن الْمسيب «أَن أَخَوَيْنِ من الْأَنْصَار كَانَ بَينهمَا مِيرَاث، فَسَأَلَ أَحدهمَا صَاحبه الْقِسْمَة فَقَالَ: إِن عدت تَسْأَلنِي الْقِسْمَة فَكل مَالِي فِي رتاج الْكَعْبَة. فَقَالَ لَهُ عمر: إِن الْكَعْبَة غنية عَن مَالك، كفر عَن يَمِينك وكلم أَخَاك، سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا يَمِين عَلَيْك، وَلَا نذر فِي مَعْصِيّة الرب، وَلَا فِي قطيعة الرَّحِم، وَلَا فِيمَا لَا يملك» قَالَ ابْن أبي حَاتِم: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: سعيد بن الْمسيب عَن عمر عندنَا حجَّة؛ قد رَأَى عمر وَسمع مِنْهُ، إِذا لم يقبل سعيد عَن عمر فَمن يقبل؟ ! وَقَالَ(9/475)
مَالك وَيَحْيَى بن معِين: لم يسمع مِنْهُ. وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن أَيُّوب بن مُوسَى، عَن مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن الحَجبي، عَن أمه، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا سُئِلت عَن رجل قَالَ: مَالِي فِي رتاج الْكَعْبَة. فَقَالَت عَائِشَة: يكفر مَا يكفر الْيَمين» .
فَائِدَة: الرتاج: الْبَاب. وَقَوله فِي «رتاج الْكَعْبَة» أَي: للكعبة، وكنى عَنْهَا بِالْبَابِ؛ لِأَن مِنْهُ يدْخل إِلَيْهَا، وَجمع الرتاج: رتج، ككتاب وَكتب.
وَأما الْأَثر الثَّانِي: فَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَلَى «الصَّحِيحَيْنِ» فِي أَوَائِله فِي آخر بَاب الْعلم من حَدِيث مُصعب بن سعد «أَن حَفْصَة قَالَت لَهُ: أَلا تلبس ثوبا أَلين من ثَوْبك وتأكل طَعَاما أطيب من طَعَامك هَذَا وَقد فتح الله عَلَيْك الْأَمر وأوسع عَلَيْك الرزق! فَقَالَ: سأخاصمك إِلَى نَفسك. فَذكر أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَا كَانَ [يلقى] من شدَّة الْعَيْش فَلم [يزل يُنكر] حَتَّى بَكت، فَقَالَ: إِنِّي قد قلت: لأشاركنهما فِي مثل عيشهما الشَّديد؛ لعَلي أدْرك مَعَهُمَا عيشهما الرخي» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرطهمَا؛ فَإِن مُصعب بن سعد كَانَ يدْخل عَلَى أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ من كبار التَّابِعين و [من] أَوْلَاد الصَّحَابَة. وَاعْترض عَلَيْهِ الذَّهَبِيّ فِي «مُخْتَصره للمستدرك» فَقَالَ: فِي هَذَا الحَدِيث انْقِطَاع.
قلت: وَهُوَ قَول مُصعب بن سعد أَن حَفْصَة قَالَت؛ فَإِن ثَبت سَمَاعه مِنْهَا فَلَا اعْتِرَاض إِذن.(9/476)
فِي «الْمُسْتَدْرك» أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر «أَن عمر رَأَى فِي يَد جَابر بن عبد الله درهما فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الدِّرْهَم؟ ! قَالَ: أُرِيد أَن اشْترِي لأهلي بدرهم لَحْمًا [فرموا إِلَيْهِ] فَقَالَ عمر: أكل مَا اشتهيتم اشتريتموه؟ ! فَمَا يُرِيد أحدكُم أَن يطوي بَطْنه لِابْنِ عَمه وجاره، أَيْن تذْهب عَنْكُم هَذِه الْآيَة: (أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم الدُّنْيَا
(إِلَى قَوْله: (بهَا ... ) ؟ ! . وَلم يتَكَلَّم عَلَيْهِ، وَفِي سَنَده الْقَاسِم بن عبد الله الْعمريّ وَهُوَ واه.
وَأما الْأَثر الثَّالِث: فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن الزبير الْحَنْظَلِي، عَن أَبِيه أَن رجلا حَدثهُ «أَنه سَأَلَ عمرَان بن الْحصين عَن رجل حلف أَن لَا يُصَلِّي فِي مَسْجِد قومه، فَقَالَ عمرَان: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا نذر فِي مَعْصِيّة [الله] وكفارته كَفَّارَة يَمِين. فَقلت: يَا أَبَا [نجيد] إِن صاحبنا لَيْسَ بالموسر فَبِمَ يكفر؟ ! فَقَالَ: [لَو] أَن قوما قَامُوا إِلَى أَمِير من الْأُمَرَاء (فكساهم) كل إِنْسَان مِنْهُم قلنسوة لقَالَ النَّاس: قد كساهم» .
وَمُحَمّد بن الزبير هَذَا ضَعِيف، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث،(9/477)
وَفِيه نظر. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ غَيره: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَذكر الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الْبَاب أَن ابْن كج رَوَى عَن بعض التصانيف أَن الْحلف بِأَيّ اسْم كَانَ من الْأَسْمَاء التِّسْعَة وَالتسْعين الَّتِي ورد بهَا الْخَبَر صَرِيح، وَهَذَا الْخَبَر الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الإِمَام الرَّافِعِيّ كَانَ من حَقنا أَن نذكرهُ فِي الْأَحَادِيث لَكِن أَخَّرته سَهوا، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما، من حفظهَا دخل الْجنَّة، إِن الله وتر يحب الْوتر» . هَذَا لفظ مُسلم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: لله تِسْعَة وَتسْعُونَ اسْما، مائَة إِلَّا وَاحِدًا، من أحصاها دخل الْجنَّة، إِنَّه وتر يحب الْوتر» . وَلَفظ البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ: «لله تِسْعَة وَتسْعُونَ اسْما مائَة إِلَّا وَاحِدًا لَا يحفظها أحد إِلَّا دخل الْجنَّة، وَهُوَ وتر يحب الْوتر» ذكره فِي آخر الدَّعْوَات، وَأخرجه من حَدِيث شُعَيْب بن أبي حَمْزَة، عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن لله (تسعا) وَتِسْعين اسْما، مائَة إِلَّا وَاحِدًا، من أحصاها دخل الْجنَّة» قَالَ البُخَارِيّ: من أحصاها: حفظهَا.(9/478)
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة بِنَحْوِهِ مُسْندًا، وَمن حَدِيث همام عَن أبي هُرَيْرَة بِنَحْوِهِ، وَأخرجه بسرد الْأَسْمَاء، وَالْأَئِمَّة: التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث صَفْوَان بن صَالح الثَّقَفِيّ، ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، ثَنَا شُعَيْب بن أبي حَمْزَة أَبُو الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن لله (تسعا) وَتِسْعين اسْما، مائَة إِلَّا وَاحِدَة، من أحصاها دخل الْجنَّة، إِنَّه وتر يحب الْوتر: هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن، الرَّحِيم، الْملك، القدوس، السَّلَام، الْمُؤمن، الْمُهَيْمِن، الْعَزِيز، الْجَبَّار، المتكبر، الْخَالِق، البارئ، المصور، الْغفار، القهار، الْوَهَّاب، الرَّزَّاق، الفتاح، الْعَلِيم، الْقَابِض، الباسط، الْخَافِض، الرافع، الْمعز، المذل، السَّمِيع، الْبَصِير، الحكم، الْعدْل، اللَّطِيف، الْخَبِير، الْحَلِيم، الْعَظِيم، الغفور، الشكُور، الْعلي، الْكَبِير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الْجَلِيل، الْكَرِيم، الرَّقِيب، الْمُجيب، الْوَاسِع، الْحَكِيم، الْوَدُود، الْمجِيد، الْبَاعِث، الشَّهِيد، الْحق، الْوَكِيل، الْقوي، المتين، الْوَلِيّ، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الْحَيّ، القيوم، الْوَاجِد، الْمَاجِد، الْوَاحِد، الْأَحَد، الصَّمد، الْقَادِر،(9/479)
المقتدر، الْمُقدم، الْمُؤخر، الأول، الآخر، الظَّاهِر، الْبَاطِن، الْوَالِي، المتعالي، الْبر، التواب، المنتقم، الْعَفو، الرءوف، مَالك الْملك، ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام، المقسط، الْجَامِع، الْغَنِيّ، الْمُغنِي، الْمَانِع، الضار، النافع، النُّور، الْهَادِي، [البديع] ، الْبَاقِي، الْوَارِث، الرشيد، الصبور» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، ثَنَا بِهِ غير وَاحِد عَن صَفْوَان بن صَالح، وَهُوَ ثِقَة عِنْد أهل الحَدِيث [وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث] من غير وَجه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا نعلم فِي كثير شَيْء من الرِّوَايَات [لَهُ إِسْنَاد صَحِيح] ذكر الْأَسْمَاء إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَقد رَوَى آدم بن أبي إِيَاس هَذَا الحَدِيث بِإِسْنَاد آخر عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَذكر فِيهِ الْأَسْمَاء وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَاد صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله عقب إِخْرَاجه لهَذَا الحَدِيث بِهَذِهِ الْأَسْمَاء فِيهِ: هَذَا حَدِيث قد خرجاه فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بأسانيد صَحِيحَة دون ذكر الْأَسَامِي، فِيهِ وَالْعلَّة فِيهِ عِنْدهمَا أَن الْوَلِيد بن مُسلم تفرد بسياقته بِطُولِهِ وَذكر الْأَسْمَاء فِيهِ وَلم يذكرهَا غَيره، وَلَيْسَ هَذَا بعلة؛ فَإِنِّي لَا أعلم اخْتِلَافا بَين أَئِمَّة الحَدِيث أَن الْوَلِيد بن مُسلم أوثق وأحفظ وَأعلم وَأجل من أبي الْيَمَان وَبشر بن شُعَيْب وَعلي بن عَيَّاش وأقرانهم من أَصْحَاب [شُعَيْب] ثمَّ نَظرنَا فَوَجَدنَا الحَدِيث قد رَوَاهُ عبد الْعَزِيز بن الْحصين عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ [و] هِشَام بن حسان جَمِيعًا، عَن(9/480)
مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما، من أحصاها دخل الْجنَّة: الله، الرَّحْمَن، الرَّحِيم، الْإِلَه، الرب، الْملك، القدوس، السَّلَام، الْمُؤمن، الْمُهَيْمِن، الْعَزِيز، الْجَبَّار، المتكبر، الْخَالِق، البارئ، المصور، الْحَلِيم، الْعَلِيم، السَّمِيع، الْبَصِير، الْحَيّ، الْكَافِي، الْوَاسِع، اللَّطِيف، الْخَبِير، الحنان، المنان، البديع، الْوَدُود، الغفور، الشكُور، الْمجِيد، المبدئ، المعيد، النُّور، البارئ، الأول، الآخر، الظَّاهِر، الْبَاطِن، الْغفار، الْوَهَّاب، القهار، الْأَحَد، الصَّمد، الْبَاقِي، الْوَكِيل، المغيث، الدَّائِم، المتعال، ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام، الْوَلِيّ، الْبَصِير، الْحق، الْمُبين، الْبَاعِث، الْمُجيب، المحيي، المميت، الْجَمِيل، الْعَادِل، الحفيظ، الْكَبِير، الْقَرِيب، الرَّقِيب، الفتاح، الْعَلِيم، التواب، الْقَدِيم، الأكرم، الرءوف، الْمُدبر، الفاطر، الرَّزَّاق، العلام، الْعلي، الْعَظِيم، الْمُغنِي، المليك، المقتدر، الْمَالِك، الْقَدِير، الْهَادِي، الشاكر، الرفيع، الْكَفِيل، الْجَلِيل، الْكَرِيم، ذُو المعارج، ذُو الْفضل» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث مَحْفُوظ من حَدِيث أَيُّوب وَهِشَام، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة مُخْتَصرا دون ذكر الْأَسَامِي الزَّائِدَة فِيهَا كلهَا فِي الْقُرْآن، وَعبد الْعَزِيز بن الْحصين ثِقَة و [إِن] لم يخرجَاهُ، وَإِنَّمَا جعلته شَاهدا للْحَدِيث الأول.
قلت: إِنَّمَا لم يخرجَا لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا جرحاه، قَالَ مُسلم فِيهِ: ذَاهِب الحَدِيث. وَقَالَ البُخَارِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَضَعفه عَلّي وَيَحْيَى، وَقَالَ يَحْيَى مرّة: لَا يُسَاوِي حَدِيثه شَيْئا لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ(9/481)
ابْن حبَان: يروي المقلوبات عَن الْأَثْبَات والموضوعات عَن الثِّقَات؛ فَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. وَلم أر أحدا وَثَّقَهُ، لَا جرم قَالَ الْبَيْهَقِيّ - بعد إِخْرَاجه من هَذِه الطَّرِيق -: تفرد بِهَذِهِ الرِّوَايَة عبد الْعَزِيز هَذَا، وَهُوَ ضَعِيف عِنْد أهل النَّقْل، ضعفه يَحْيَى بن معِين وَالْبُخَارِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون التَّفْسِير وَقع من بعض الروَاة، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم، وَلِهَذَا الِاحْتِمَال [ترك] خَ م إِخْرَاج حَدِيث الْوَلِيد فِي الصَّحِيح؛ فَإِن [كَانَ] مَحْفُوظًا عَن رَسُول الله فَكَأَنَّهُ قصد أَن من [أحصى] من أَسمَاء الله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما دخل الْجنَّة، أحصاها من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم أَو من عبد الْعَزِيز أَو من سَائِر مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: هَذِه الْأَسْمَاء رويت مَعْدُودَة فِي الحَدِيث نَفسه عَن أبي هُرَيْرَة من طَرِيق ابْن سِيرِين بِزِيَادَة وَنقص. رَوَاهُ عَنهُ أَيُّوب وَهِشَام، رَوَاهُ عَنْهُمَا عبد الْعَزِيز بن الْحصين وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْد أهل الحَدِيث وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة - وَإِن كَانَ عِنْدهم مَأْمُونا - لَكِن لَا يعلم هَل تَفْسِير هَذِه الْأَسْمَاء فِي الحَدِيث هَل هِيَ من قَول الرَّاوِي أَو من قَول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ والظواهر أَنَّهَا من قَول الرَّاوِي؛ لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن أَصْحَاب الحَدِيث لم يذكروها. وَالثَّانِي: أَن فِيهَا تَفْسِيرا بِزِيَادَة ونقصان، وَذَلِكَ لَا يَلِيق بالمرتبة الْعليا النَّبَوِيَّة، قَالَ(9/482)
الإقليسي: عبد الْعَزِيز هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث، وَأولَى الرِّوَايَات بالتعويل مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ؛ فَإِنَّهُ حكم بهَا أصح. وَكَذَا أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» سَوَاء وباقيها مُضْطَرب. وَقَالَ ابْن حزم فِي «الْمُحَلَّى» بعد أَن رَوَى حَدِيث الصَّحِيح: قَالَ الله: (إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم) فصح أَنه لَا يحل لأحدٍ أَن يُسَمِّي الله إِلَّا بِمَا سَمّى بِهِ نَفسه، وَصَحَّ أَن أسماءه لَا تزيد عَلَى تِسْعَة وَتِسْعين شَيْئا، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «مائَة إِلَّا وَاحِدًا» فنفى الزِّيَادَة وأبطلها [لَكِن يخبر عَنهُ بِمَا يفعل تَعَالَى] وَجَاءَت أَحَادِيث فِي إحصائها مضطربة لَا يَصح مِنْهَا شَيْء أصلا، وَإِنَّمَا تُؤْخَذ من [نَص] الْقُرْآن وَبِمَا صَحَّ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد بلغ [إحصاؤنا مِنْهَا] إِلَى مَا نذكرهُ، وَهِي: الله [الرَّحْمَن، الرَّحِيم] الْعَلِيم، الْحَكِيم، الْكَرِيم، الْعَظِيم، الْحَلِيم، القيوم [الأكرم] السَّلَام، التواب، الرب، الْوَهَّاب، الْإِلَه، الْقَرِيب، السَّمِيع، الْمُجيب، الْوَاسِع، الْعَزِيز، الشاكر، القاهر، الآخر، الظَّاهِر، الْكَبِير، الْخَبِير، الْقَدِير [الْبَصِير] الغفور، الشكُور، الْغفار، القهار، الْجَبَّار، المتكبر، المصور، الْبر، المقتدر، البارئ،(9/483)
الْعلي [الْغَنِيّ] الْوَلِيّ، الْقوي، (المحيي) الْمجِيد، الحميد، الْوَدُود، الصَّمد، الْأَحَد، الْوَاحِد، الأول، الْأَعْلَى، المتعال، الْخَالِق، الخلاق، الرَّزَّاق، الْحق، اللَّطِيف، رءوف، عَفْو، الفتاح، المتين، الْمُبين، الْمُؤمن، الْمُهَيْمِن، الْبَاطِن، القدوس، [الْملك] ، مليك، الْأَكْبَر، الْأَعَز، السَّيِّد، سبوح، وتر، محسان، جميل، رَفِيق (الْمعز) الْقَابِض، الباسط، الشافي، الْمُعْطِي، الْمُقدم، الْمُؤخر، الدَّهْر» . قَالَ الْقُرْطُبِيّ: عجب لِابْنِ حزم لم يكمل التِّسْعَة وَالتسْعين اسْما من الْكتاب، وَإِنَّمَا ذكر مِنْهَا أَرْبَعَة وَثَمَانِينَ، وَالله يَقُول: (مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء) فَترك: اللَّهُمَّ، والصادق، والمستعان، ومحيطًا، وحافظًا، وفعالاً، وكاف، وَنور، ومخرج، فاطر، فالق، بديع، رَافع، وَفِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ: «الْخَافِض، الرافع» قَالَ أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ: وَلم أعرف أحدا من الْعلمَاء اعتنى بِطَلَب الْأَسْمَاء وَجَمعهَا سُوَى رجل من حفاظ أهل الْمغرب يُقَال لَهُ: عَلّي بن حزم؛ فَإِنَّهُ قَالَ: صَحَّ عِنْدِي قريب من ثَمَانِينَ اسْما [اشْتَمَل] عَلَيْهَا الْكتاب والصحاح من الْأَخْبَار؛ ليطلب الْبَاقِي بطرِيق الِاجْتِهَاد، وَأَظنهُ لم يبلغهُ الحَدِيث الَّذِي فِي عدد الْأَسَامِي، وَإِن كَانَ بلغه فَكَأَنَّهُ استضعف إِسْنَاده؛ إِذْ عدل عَنهُ إِلَى الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي الصِّحَاح وَإِلَى استنباط ذَلِك مِنْهَا.(9/484)
قلت: قد بلغه وَضَعفه كَمَا تقدم، وتحامل القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ عَلَى ابْن حزم، فَقَالَ فِي «أَحْكَامه» : قَالَ سخيف من المغاربة: [عددت] أَسمَاء الله فَوَجَدتهَا ثَمَانِينَ. قَالَ: وَلَيْسَ الْعجب مِنْهُ؛ إِنَّمَا الْعجب من [الطوسي] أَن يَقُول: وَقد عد بعض حفاظ الْمغرب [الْأَسْمَاء] فَوَجَدَهَا ثَمَانِينَ حسب مَا نَقله إِلَيْهِ طريد [طريف] ببورقة الْحميدِي؛ وَإِنَّمَا وَقع أَبُو حَامِد فِي ذَلِك بجهله [بالصناعة] إِنَّمَا كَانَ فصيحًا ذَرِب اللِّسَان، ذَرِب القَوْل فِي الاسترسال عَلَى الْكَلِمَات الصائبة لَكِن القانون كَانَ عَنهُ نَائِيا.
وَقَالَ ابْن عَطِيَّة فِي «تَفْسِيره» : حَدِيث التِّرْمِذِيّ لَيْسَ بالمتواتر، وَفِي بعض أَسْمَائِهِ شذوذ؛ إِنَّمَا الْمُتَوَاتر مِنْهُ إِلَى قَوْله: «دخل الْجنَّة» .
وَورد فِي بعض دُعَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يَا حنان يَا منان» وَلم يَقع هَذَانِ الاسمان فِي تَسْمِيَة التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الجناد: رُوَاة هَذَا الحَدِيث كلهم ثِقَات، وَإِنَّمَا لم يُصَحِّحهُ التِّرْمِذِيّ، لِأَن هَذِه الرِّوَايَة الَّتِي ذكر فِيهَا الْأَسْمَاء مُعَارضَة عَنهُ لمن ذكر الحَدِيث بِدُونِهَا، وَأَنت تعلم(9/485)
بِأَدْنَى نظر أَن لَيست هَذِه مُعَارضَة فَيحْتَاج إِلَى التَّرْجِيح بَين الروَاة، وَإِذا كَانَ الرَّاوِي الَّذِي ذكر الْأَسْمَاء فِي رِوَايَته عدلا فرواية الْعدْل مَقْبُولَة، وَمَا ذكره ابْن العربى من أَنه لَا يعلم هَذِه الْأَسْمَاء فِي الحَدِيث من قَول الرَّاوِي أَو من قَول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاحتمال يتَطَرَّق لكل حَدِيث، فَيكْرَه طرح كل حَدِيث والتوقف عَنهُ، وكل حَدِيث مَرْوِيّ إِلَى هَذَا فَهُوَ بَاطِل مَرْدُود، وَلَا يَبْقَى أَن ترو الْآي وَالْأَحَادِيث بِالِاحْتِمَالِ الْعقلِيّ، وَإِنَّمَا تحمل الْآي وَالْأَحَادِيث عَلَى الِاحْتِمَال اللّغَوِيّ، وَهَذَا أصل عَظِيم فِي التَّأْوِيل فِي سَائِر أَحْكَام الشَّرِيعَة، فَكيف فِي أَسمَاء الله - تَعَالَى - الَّتِي اتّفق الْجَمِيع عَلَى أَنه لَا يجوز وَضعهَا بِالِاجْتِهَادِ فَكيف يظنّ بالصاحب أَنه وَضعهَا من عِنْد نَفسه أَو وَضعهَا بِالِاجْتِهَادِ؛ بل الْأَقْرَب أَن يُقَال: إِنَّمَا أسقطها من قصر حفظه عَن الْإِتْيَان بهَا عَلَى وَجههَا. قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث يجب قَوْله وَالْعَمَل بِهِ وَالرُّجُوع إِلَيْهِ، وَقد ورد فِي هَذَا الحَدِيث من غير هَذَا السَّنَد زِيَادَة وَنقص وتبديل، وَلكنه بطرِيق معتل؛ فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ.
قلت: يُرِيد حَدِيث عبد الْعَزِيز بن الْحصين، وَبَقِي لهَذَا الحَدِيث طَريقَة أُخْرَى لم يذكرهَا: أخرجه ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من طَرِيق هِشَام بن عمار، ثَنَا عبد الْملك بن مُحَمَّد الصَّنْعَانِيّ، ثَنَا زُهَيْر بن مُحَمَّد التَّمِيمِي، ثَنَا مُوسَى بن عقبَة، ثَنَا عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لله تِسْعَة وَتسْعُونَ اسْما، مائَة إِلَّا وَاحِدًا، إِنَّه وتر يحب الْوتر، من حفظهَا دخل الْجنَّة ... » . فَذكرهَا، وعلته مِنْهَا مَا لم يَقع فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ وَإِن كَانَ بَعْضهَا قد وَقع فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ. فَأَما(9/486)
مَا لم يَقع فِيهَا: الْبَار، الراشد، الْبُرْهَان، الشَّديد، الوافي، الغانم، الْحَافِظ، النَّاظر، السَّامع، الْمُعْطِي، الْأَبَد، الْمُنِير، التَّام. قَالَ زُهَيْر: فَبَلغنَا من غير وَاحِد من أهل الْعلم أَن أَولهَا يفْتَتح بقول: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد بِيَدِهِ الْخَيْر، وَهُوَ عَلَى كل شَيْء قدير، لَا إِلَه إِلَّا الله، لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِسْنَاده حسن. هِشَام أخرج لَهُ البُخَارِيّ وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَغَيره، وَعبد الْملك قَالَ أَبُو حَاتِم (الرَّازِيّ) : يكْتب حَدِيثه، وَسُئِلَ عَنهُ دُحَيْم فَكَأَنَّهُ ضجعه. وَزُهَيْر خرج لَهُ خَ م، وَسَائِر السَّنَد مَعْرُوف رِجَاله.
قلت: عبد الْملك قَالَ فِيهِ سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن: ثِقَة. ووهاه ابْن حبَان فَقَالَ: يُجيب فِيمَا يسْأَل عَنهُ حَتَّى ينْفَرد بالموضوعات، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بروايته. وَزُهَيْر ثِقَة فِيهِ لين وَإِن كَانَ بِنَفسِهِ، وَلَا يتقاصر هَذَا السَّنَد عَن الْحسن كَمَا قَالَه الْقُرْطُبِيّ، هَذَا مَجْمُوع مَا حضر لي من طرق حَدِيث أَسمَاء الله الْحُسْنَى وَكَلَام الْحفاظ عَلَيْهَا، وَهُوَ جليل حفيل، فَلَا يَضرك طوله، وأختم الْكَلَام فِيهِ بأمرين:(9/487)
أَحدهمَا: اخْتلف الْعلمَاء فِي مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام «من أحصاها دخل الْجنَّة» عَلَى أَرْبَعَة أَقْوَال حَكَاهَا الْخطابِيّ.
أَحدهَا: وَبِه فسر البُخَارِيّ وَالْأَكْثَرُونَ أَن مَعْنَاهُ: حفظهَا. وتؤيدها رِوَايَة مُسلم السَّابِقَة: «من حفظهَا دخل الْجنَّة» وَكَذَا رَوَاهُ الْمحَاربي عَلَى مَا سبق.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: من عرف مَعَانِيهَا وآمن بهَا.
وَالثَّالِث: من أطاقها بِحسن الرِّعَايَة لَهَا وتخلق بِمَا يُمكنهُ من الْعَمَل بمعانيها.
وَالرَّابِع: مَعْنَاهُ أَن يقْرَأ الْقُرْآن حَتَّى يختمه [فَإِنَّهُ] يَسْتَوْفِي هَذِه الْأَسْمَاء كلهَا فِي أَضْعَاف التِّلَاوَة؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: من حفظ الْقُرْآن وقرأه فقد اسْتحق دُخُول الْجنَّة، وَذهب إِلَى نَحْو من هَذَا: أَبُو عبد الله الزبيري، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: جعل - أَعنِي: الزبيري - عَلَى هَذَا التَّأْوِيل أَسمَاء الله كلهَا مَوْجُودَة فِي الْقُرْآن. قَالَ: وَقد أخرجهَا عَنهُ فَوَجَدَهَا مائَة وَثَلَاثَة عشر اسْما. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي «أَحْكَامه» أَنَّهَا نزلت إِلَى ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَة من الْكتاب وَالسّنة، وَذكر الْأَئِمَّة. وَذكر فِي كتاب «الأمد» أَنه اجْتمع لَهُ مِائَتَا اسْم وَسَبْعَة وَسِتُّونَ اسْما. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَالصَّحِيح أَن المُرَاد الإحصاء أَمر زَائِد عَلَى الْعد وَالْحِفْظ. قَالَ ابْن الْحصار: وأظن أَنِّي رَأَيْت فِي بعض التواليف أَنه لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا من أحصى جَمِيع الْأَسْمَاء الْحُسْنَى. وَهَذَا إفراط وَجَهل، وَقَائِل هَذِه الْمقَالة يكفر كثيرا(9/488)
مِمَّن ينتمي إِلَى الْعلم وَالْعُلَمَاء فضلا عَن الْمُسلمين، وَفِي «الصَّحِيح» : «مَا من عبد يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله إِلَّا حرمه الله عَلَى النَّار» قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وأحصاها مَهْمُوز اللَّام وَغير مَهْمُوز لُغَتَانِ.
الْأَمر الثَّانِي: أسميت هَذِه الْأَسْمَاء حَتَّى تسْأَل لما فِيهَا من الْعُلُوّ، وَقيل: لما وعد فِيهَا من الثَّوَاب، وَقيل: لكَونهَا حَسَنَة فِي الأسماع والقلوب.
و «المقيت» رُوِيَ بِالْقَافِ، قَالَ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» : بِالْقَافِ ذهب إِلَيْهِ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» وَرُوِيَ «الْمُبين» بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ «الرافع» بدل «الْمَانِع» وَمحل الْخَوْض فِي هَذَا كتب الْأَسْمَاء الْحُسْنَى، وَقد أفردها بالتصنيف جمع كَابْن الْعَرَبِيّ وَالْغَزالِيّ والحليمي وَالْبَيْهَقِيّ، وَغَيرهم، وَآخرهمْ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الْقُرْطُبِيّ فِي مجلدين ضخمين، فأجاد وَأفَاد رَحْمَة الله عَلَيْهِم، وَهَذَا الْقدر الَّذِي كتبنَا هُوَ مَقْصُود الْحَلِيمِيّ، وَلَعَلَّه فهم مَا فِي هَذِه الْكتب، وَالله أعلم.(9/489)
كتاب النَّذر(9/491)
كتاب النَّذر
ذكر فِيهِ من الْأَحَادِيث عشْرين حَدِيثا:
الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من نذر أَن يطع الله فليطعه، وَمن نذر أَن يعْص الله فَلَا يَعْصِهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» كَذَلِك من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. زَاد الطَّحَاوِيّ: «وليكفر عَن يَمِينه» قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذِه الزِّيَادَة عِنْدِي مَشْكُوك فِي [رَفعهَا] .
الحَدِيث الثَّانِي
أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا نذر فِي مَعْصِيّة الله وَلَا فِيمَا [لَا] يملكهُ ابْن آدم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث(9/493)
عمرَان بن حُصَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل ذَكرْنَاهُ بِطُولِهِ فِي بَاب الْأمان.
الحَدِيث الثَّالِث
أَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أوف بِنَذْرِك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحهمَا» وَقد سلف فِي كتاب الِاعْتِكَاف.
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا النّذر مَا ابْتغِي بِهِ وَجه الله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَا نذر إِلَّا فِيمَا يبتغى بِهِ وَجه الله - تَعَالَى - وَلَا يَمِين فِي قطيعة رحم» وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نظر إِلَى أَعْرَابِي قَائِم فِي الشَّمْس وَهُوَ يخْطب فَقَالَ: مَا شَأْنك؟ قَالَ: نذرت يَا رَسُول الله أَن لَا أَزَال فِي الشَّمْس حَتَّى تفرغ فَقَالَ رَسُول الله: لَيْسَ هَذَا نذرا، إِنَّمَا النّذر مَا ابْتغِي بِهِ وَجه الله!» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «لَا نذر إِلَّا فِيمَا ابْتغِي [بِهِ] وَجه الله» وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أدْرك رجلَيْنِ وهما مقترنان يمشيان إِلَى الْبَيْت، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا بَال الْقرَان؟ قَالَا: يَا رَسُول الله، نذرنا أَن نمشي إِلَى(9/494)
الْبَيْت مقترنين. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَيْسَ هَذَا نذرا - فَقطع قرانهما - إِنَّمَا النّذر مَا ابْتغِي بِهِ وَجه الله» وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ «أَن امْرَأَة أبي ذَر جَاءَت عَلَى الْقَصْوَاء - رَاحِلَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى أناخت عِنْد الْمَسْجِد، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، نذرت لَئِن نجاني الله عَلَيْهَا لآكلن من كَبِدهَا وسنامها. قَالَ: بئس مَا جزيتيها، لَيْسَ هَذَا نذرا إِنَّمَا النّذر مَا ابْتغِي بِهِ وَجه الله» .
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا نذر فِي مَعْصِيّة، وكفارته كَفَّارَة يَمِين» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق: أَحدهَا - وَهُوَ أمثلها - من طَرِيق عمرَان بن الْحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما مَرْفُوعا، رَوَاهُ كَذَلِك النَّسَائِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ. قَالَ الْحَاكِم: [هَذَا حَدِيث رَوَاهُ مُحَمَّد بن الزبير بن الْحسن عَن عمرَان، وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن يَحْيَى بن مُحَمَّد بن الزبير الْحَنْظَلِي، عَن أَبِيه، عَن عمرَان] قَالَ: وَقد أعضله معمر عَن يَحْيَى بن أبي كثير، قَالَ: حَدثنِي رجل من بني حنيفَة عَن عمرَان. قَالَ: وَهَذَا الرجل هُوَ مُحَمَّد بن الزبير بِلَا شكّ، فَإِنَّهُ أَرَادَ أَن يَقُول من بني حَنْظَلَة فَقَالَ: من بني حنيفَة، فَأَما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «لَا نذر فِي مَعْصِيّة الله» فقد(9/495)
اتّفق عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، ومدار الحَدِيث عَلَى مُحَمَّد بن الزبير الْحَنْظَلِي، وَلَيْسَ يَصح. هَذَا آخر كَلَام الْحَاكِم، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: رَوَاهُ جمَاعَة مِنْهُم يَحْيَى بن أبي كثير وَالثَّوْري وَأَبُو بكر النَّهْشَلِي وَغَيرهم، فَقَالُوا: عَن مُحَمَّد بن الزبير، عَن أَبِيه، عَن عمرَان، وَلم يذكرُوا السماع كَمَا [ذكره] جرير بن حَازِم، عَن مُحَمَّد بن الزبير، عَن أَبِيه، سَمِعت عمرَان بن حُصَيْن ... الحَدِيث. قَالَ: وَرَوَاهُ عبد الْوَارِث، عَن مُحَمَّد بن الزبير، عَمَّن سمع من عمرَان مَرْفُوعا. قَالَ: وَحَدِيث عبد الْوَارِث هَذَا أشبه؛ لِأَنَّهُ قد بَين عَورَة الحَدِيث. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن مُحَمَّد بن الزبير الْحَنْظَلِي، عَن أَبِيه، عَن عمرَان. ثمَّ أخرجه الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن رجل من بني حَنْظَلَة، عَن عمرَان بن عدي. هَذَا الحَدِيث مَشْهُور بِمُحَمد بن الزبير الْحَنْظَلِي، عَن أَبِيه عَن عمرَان، وَاخْتلف عَلَيْهِ فِي إِسْنَاده وَمَتنه، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ مُنْقَطع، الزبير لم يسمع من عمرَان. قَالَ يَحْيَى بن معِين: قيل لمُحَمد بن الزبير: أسمع أَبوك من عمرَان؟ (قَالَ: لَا) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالَّذِي يدل عَلَى هَذَا أَن ابْن الْمُبَارك رَوَاهُ عَن عبد الْوَارِث بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن الزبير الْحَنْظَلِي، عَن أَبِيه أَن رجلا حَدثهُ(9/496)
«أَنه سَأَلَ عمرَان بن الْحصين ... » قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقيل: عَن مُحَمَّد بن الزبير الْحَنْظَلِي، عَن رجل صَحبه، عَن عمرَان. وَقيل: عَن مُحَمَّد بن الزبير، عَن الْحسن، عَن عمرَان قَالَ: وَهَذَا مُنْقَطع؛ فَلَا يَصح عَن الْحسن عَن عمرَان سَماع من وَجه صَحِيح يثبت مثله، قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: لم يَصح عَن الْحسن عَن عمرَان سَماع من وَجه صَحِيح يثبت. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَمُحَمّد بن الزبير الْحَنْظَلِي لَيْسَ بِالْقَوِيّ، قَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث.
وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: إِن الْحسن لم يسمع من عمرَان. وَقَالَ هُوَ وجماعات: إِن الْحسن سمع من عمرَان. فَجزم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِأَنَّهُ سمع مِنْهُ، ذُكِرَ ذَلِك فِي حَدِيث الْحسن، عَن سَمُرَة «كَانَت لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سكتتان» وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ إِيرَاد شَيْخه ابْن خُزَيْمَة أَيْضا؛ فَإِن [الْحَاكِم] أخرج لَهُ حَدِيثا «فِي طيب الرِّجَال: ريح لَا لون لَهُ، وَطيب النِّسَاء لون لَا ريح لَهُ» وَهَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ؛ فَإِن مَشَايِخنَا - وَإِن اخْتلفُوا فِي سَماع الْحسن عَن عمرَان فَإِن - أَكْثَرهم عَلَى أَنه سمع مِنْهُ. وَقَالَ الْحَاكِم أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» فِي(9/497)
أواخره فِي أَوَائِل بَاب الْأَهْوَال: لم يخرج البُخَارِيّ وَمُسلم هَذِه التَّرْجَمَة وَهِي الْحسن عَن عمرَان. قَالَ: وَذكر أَن الْحسن لم يسمع مِنْهُ. قَالَ: وَالَّذِي عِنْدِي أَن الْحسن قد سمع من عمرَان بن حُصَيْن. وَجزم بِهِ فِي أَوَائِل «الْمُسْتَدْرك» فِي كتاب الْإِيمَان، وَكَذَا صَاحب «الْكَمَال» وَنقل الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» عَن عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ: قلت ليحيى بن معِين: الْحسن لَقِي عمرَان بن الْحصين؟ قَالَ: أما حَدِيث الْبَصرِيين فَلَا، وَأما حَدِيث الْكُوفِيّين فَنعم. وَذكر الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب لَا تَفْرِيط عَلَى من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا، حَدِيثا مُصَرحًا فِيهِ بِأَن الْحسن سمع مِنْهُ، وَهُوَ حَدِيث «التَّعْرِيس آخر اللَّيْل» ، وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم وَقَالَ صَاحب «الإِمَام» : رِجَاله ثِقَات.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث الزُّهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، رَوَاهُ أَحْمد وَأَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة» وَهُوَ مُنْقَطع وَإِن ذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» لِأَن الزُّهْرِيّ لم يسمع هَذَا الحَدِيث من أبي سَلمَة. كَذَا قَالَه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أَيُّوب(9/498)
بن سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن أبي بكر بن أبي أويس، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن مُحَمَّد بن أبي عَتيق ومُوسَى بن عقبَة، كِلَاهُمَا عَن ابْن شهَاب عَن سُلَيْمَان بن أَرقم، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة. قَالَ أَحْمد بن شبويه: قَالَ ابْن الْمُبَارك فِي هَذَا الحَدِيث: حدث أَبُو سَلمَة فَدلَّ عَلَى أَن الزُّهْرِيّ لم يسمعهُ من أبي سَلمَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب. قَالَ: وَهُوَ أصح من حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ: سُلَيْمَان بن أَرقم مَتْرُوك الحَدِيث، خَالفه غير وَاحِد من أَصْحَاب يَحْيَى فِي هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا حَدِيث مقلوب الْإِسْنَاد. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث رُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا، وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: حدث [أَبُو] سَلمَة. وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ عَن سُلَيْمَان بن أَرقم، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَرُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ، عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث لم يسمعهُ الزُّهْرِيّ من أبي سَلمَة؛ فقد جَاءَ من طَرِيق آخر عَنهُ قَالَ: بَلغنِي أَن أَبَا سَلمَة قَالَ: (رُبمَا) يدل عَلَى أَن الزُّهْرِيّ لم يسمعهُ من أبي سَلمَة؛ وَإِنَّمَا سَمعه من (سُلَيْمَان بن أَرقم مَا أَنبأَنَا بِهِ شَيخنَا)
وَذكر بِإِسْنَادِهِ عَن الزُّهْرِيّ، عَن سُلَيْمَان بن أَرقم،(9/499)
عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، وَهَذَا وهم من سُلَيْمَان؛ فيحيى بن أبي كثير إِنَّمَا رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن الزبير الْحَنْظَلِي عَن أَبِيه عَن عمرَان مَرْفُوعا كَمَا تقدم، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث غَالب بن عبيد الله الْعقيلِيّ الْجَزرِي، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «من جعل عَلَيْهِ نذر فِي مَعْصِيّة، فكفارته كَفَّارَة يَمِين» .
وغالب هَذَا ضَعِيف بِمرَّة، قَالَ الْأَزْدِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ.
فتلخص ضعف هَذِه الطّرق بالانقطاع وَغَيره، وَمِمَّنْ ضعفه من الْمُتَأَخِّرين: النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدرقطني من رِوَايَة عَائِشَة وَعمْرَان. وَضعفهمَا فَقَالَ: وَاتفقَ الْحفاظ عَلَى ذَلِك. وَقَالَ فِي «الرَّوْضَة» : حَدِيث «لَا نذر فِي مَعْصِيّة وكفارته كَفَّارَة يَمِين» ضَعِيف بِاتِّفَاق الْمُحدثين.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث كريب عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من نذر نذرا فِي مَعْصِيّة فكفارته كَفَّارَة يَمِين» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِيه طول، وَذكر أَنه رُوِيَ مَوْقُوفا عَلَى ابْن عَبَّاس وَإِسْنَاده جيد، وَأعله ابْن حزم فِي «محلاه» فَقَالَ: فِيهِ طَلْحَة بن يَحْيَى، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف جدًّا.(9/500)
قلت: قد قَالَ يَحْيَى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا بَأْس بِهِ. وَاحْتج بِهِ الشَّيْخَانِ؛ نعم قَول ابْن حزم فِيهِ هُوَ قَول يَعْقُوب بن شيبَة، وَقَالَ أَحْمد: مقارب الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِقَوي. قَالَ ابْن حزم: وَرُوِيَ مثله عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن أَبِيه، وَأَبُو أويس ضَعِيف. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث الْحسن الْبَصْرِيّ مَرْفُوعا وَهُوَ مُرْسل، قَالَ عبد الْحق: وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَاد مُرْسل ومنقطع عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن رجل من بني حنيفَة وَأبي سَلمَة، كِلَاهُمَا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... الحَدِيث.
الحَدِيث [السَّادِس]
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْقصر: إِن الله تصدق [عَلَيْكُم] فاقبلوا صدقته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث يعْلى بن أُميَّة، عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَقد تقدم بِطُولِهِ فِي بَاب الْوضُوء وَبَاب صَلَاة الْمُسَافِر.
الحَدِيث السَّابِع وَالثَّامِن وَالتَّاسِع
قَالَ الرَّافِعِيّ: رغب فِي عِيَادَة الْمَرْضَى وَفِي إفشاء السَّلَام عَلَى الْمُسلمين وَفِي زِيَارَة القادمين.(9/501)
هُوَ كَمَا قَالَ، أما الأول: فصح فِي عدَّة أَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «من أَتَى أَخَاهُ الْمُسلم عَائِدًا مشي فِي خرفة الْجنَّة حَتَّى يجلس؛ فَإِذا جلس غمرته الرَّحْمَة، فَإِن كَانَ غدْوَة صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألف ملك حَتَّى يُمْسِي، وَإِن كَانَ مسَاء صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألف ملك حَتَّى يصبح» رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِنَحْوِهِ، وبيَّن بِذكر أَوله وَزَاد: «وَكَانَ لَهُ خريف فِي الْجنَّة» ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب.
وَمِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من عَاد مَرِيضا نَادَى مُنَاد من السَّمَاء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الْجنَّة منزلا» روياه أَيْضا.
وَمِنْهَا حَدِيث ثَوْبَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن (الْمُؤمن) إِذا عَاد أَخَاهُ الْمُسلم لم يزل فِي [خرفة] الْجنَّة» رَوَاهُ مُسلم.
وَمِنْهَا حَدِيث جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «من عَاد مَرِيضا لم يزل يَخُوض فِي الرَّحْمَة حَتَّى يجلس؛ فَإِذا جلس اغتمس فِيهَا» رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» .(9/502)
وَأما الثَّانِي: وَهُوَ ترغيبه فِي إفشاء السَّلَام عَلَى الْمُسلمين، فَصَحِيح عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ، وَقد تقدم جملَة مِمَّا ورد فِي ذَلِك فِي أَوَائِل كتاب السّير وَاضحا.
وَأما الثَّالِث: فَالَّذِي يحضرني مِنْهُ فِي اسْتِحْبَاب الزِّيَارَة مُطلقًا حَدِيث أبي هُرَيْرَة الثَّابِت فِي مُسلم عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَن رجلا زار أَخا لَهُ فِي قَرْيَة أُخْرَى، فأرصد الله [لَهُ] عَلَى مدرجته ملكا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْن تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيد أَخا لي فِي هَذِه الْقرْيَة. قَالَ لَهُ: هَل لَك من نعْمَة ترُبُها؟ قَالَ: لَا؛ غير أَنِّي أحببته فِيهِ» . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من عَاد مَرِيضا أَو زار أَخا لَهُ فِي الله ناداه مناديان: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الْجنَّة منزلا» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَلَا يحضرني الْآن شَيْء من الْأَحَادِيث عَلَى طبق مَا ذكره المُصَنّف لَهُ.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخْطب إِذا هُوَ بِرَجُل قَائِم فِي الشَّمْس فَسَأَلَ عَنهُ، فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيل، نذر أَن يقوم وَلَا يقْعد، وَلَا يستظل وَلَا يتَكَلَّم، ويصوم. فَقَالَ (: مروه فَلْيَتَكَلَّمْ وليستظل، وليقعد وليتم صَوْمه» .(9/503)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَلَيْسَ فِيهَا «فِي الشَّمْس» نعم هُوَ فِي «صَحِيح ابْن حبَان» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه كَذَلِك، وَكلهمْ من رِوَايَة عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس.
قَالَ البُخَارِيّ: رَوَاهُ عبد الْوَهَّاب، عَن عِكْرِمَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَعْنِي: مُرْسلا. وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن حميد بن قيس وثور بن يزِيد مُرْسلا «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأَى رجلا قَائِما فِي الشَّمْس ... » وَذكر الحَدِيث، وَزَاد قَالَ: «مَالك فَأمره رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بإتمام مَا كَانَ لله طَاعَة وَترك مَا كَانَ مَعْصِيّة» وَلم يبلغنِي أَنه أمره بكفارة. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن جريج أَخْبرنِي ابْن طَاوس، عَن أَبِيه، عَن أبي إِسْرَائِيل قَالَ: «دخل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَسْجِد وَأَبُو إِسْرَائِيل يُصَلِّي، [فَقيل] لرَسُول الله: هُوَ ذَا يَا رَسُول الله لَا يقْعد وَلَا يكلم النَّاس، وَلَا يستظل وَهُوَ يُرِيد الصّيام. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ليقعد وليكلم النَّاس وليستظل وليصم» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن طَاوس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بِأبي إِسْرَائِيل وَهُوَ قَائِم فِي الشَّمْس ... » الحَدِيث، وَفِي آخِره: «وَلم يَأْمر بكفارة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُرْسل جيد. قَالَ: وَفِيه وَفِيمَا قبله(9/504)
دلَالَة عَلَى أَنه لم يَأْمُرهُ بكفارة. قَالَ: وَرَوَاهُ الْحسن بن عمَارَة عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس بِمثلِهِ، وَفِي آخِره: «وَلم يَأْمُرهُ بِالْكَفَّارَةِ» . وَرُوِيَ [عَن] مُحَمَّد بن كريب عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، وَفِيه الْأَمر بِالْكَفَّارَةِ، وَمُحَمّد بن كريب ضَعِيف. ثمَّ ذكره بِإِسْنَادِهِ، وَفِي آخِره: «فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اقعد واستظل وَتكلم وَكفر» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا وجدته: «وَكفر» وَعِنْدِي أَن ذَلِك خطأ وتصحيف، وَإِنَّمَا هُوَ «وصم» كَمَا فِي سَائِر الرِّوَايَات.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة إِسْحَاق بن مُحَمَّد الْفَروِي، نَا عبد الله بن عمر، عَن أَخِيه عبيد الله بن عمر، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بِرَجُل قَائِم فِي الشَّمْس، فَقَالَ: مَا هَذَا ... » الحَدِيث، عبد الله - المكبر فِيهِ - ضَعِيف، وَرَوَى لَهُ مُسلم مَقْرُونا، وَقَالَ ابْن معِين: صُوَيْلِح. وَتكلم فِيهِ غَيره، والاعتماد فِي طرق هَذَا الحَدِيث عَلَى مَا تقدم.
(فَائِدَة) أَبُو إِسْرَائِيل الْمَذْكُور فِي الحَدِيث قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي «المبهمات» : هُوَ أَبُو إِسْرَائِيل العامري، قيل: اسْمه: قَيْصر.
قَالَ عبد الْغَنِيّ بن سعيد الْبَصْرِيّ: لَيْسَ فِي أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من كنيته أَبُو إِسْرَائِيل غير هَذَا، وَلَا من اسْمه: قَيْصر. غَيره، وَلَا يعرف إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث.
قلت: وَقيل اسْمه قُشَيْر، قَالَه المنيعي، وَلَعَلَّه الشَّيْخ زكي الدَّين فِي(9/505)
«حَوَاشِي السّنَن» عَن أبي الْقَاسِم الْبَغَوِيّ، وَابْن [معن] فِي «التنقيب» عَن أبي نعيم، وَقَالَهُ أَيْضا الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي «معرفَة الصَّحَابَة» وَهَذَا نَصه: قُشَيْر أَبُو إِسْرَائِيل الَّذِي نذر أَن يَصُوم وَلَا يتَكَلَّم وَيقوم فِي الشَّمْس. ذكره الْبَغَوِيّ وَسَماهُ قشيرًا، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «نذر أَبُو إِسْرَائِيل قُشَيْر» رَوَاهُ كريب عَنهُ، وَوَقع فِي بعض نسخ «الْمُهَذّب» : ابْن إِسْرَائِيل، وَهُوَ غلط، وَالصَّوَاب أَبُو إِسْرَائِيل، كَمَا وَقع فِي بعض نسخه، نبه عَلَى ذَلِك النَّوَوِيّ فِي «التَّهْذِيب» وَغَيره.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أَن الْمُشْركين استاقوا سرح الْمَدِينَة وَفِيه العضباء نَاقَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وأسروا امْرَأَة من الْأَنْصَار، فَلَمَّا نَامُوا قَامَت وَركبت العضباء، ونذرت لَئِن نجاها الله عَلَيْهَا لتنحرنها، فَلَمَّا أَتَت الْمَدِينَة أخْبرت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بذلك، فَأخذ النَّاقة وَقَالَ: لَا نذر فِيمَا لَا يملك ابْن آدم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة عمرَان بن الْحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَقد تقدم بِطُولِهِ فِي بَاب الْأمان.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حج رَاكِبًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح متكرر فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الثَّابِتَة، وَمِنْهَا(9/506)
حَدِيث أنس فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حج عَلَى رَحل (وَكَانَ) زاملته» .
الحَدِيث الثَّالِث عشر
اشْتهر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه قَالَ لعَائِشَة: أجرك عَلَى قدر نصبك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح عَنهُ (وَقد رَوَاهُ كَذَلِك البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَفِي رِوَايَة «عَلَى قدر عنائك ونصبك» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» رَوَى عَنْهَا «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهَا فِي [عمرتها] : إِن لَك [من] الْأجر عَلَى قدر نصبك ونفقتك» ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَله شَاهد صَحِيح ... فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهَا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهَا: إِنَّمَا أجرك فِي عمرتك عَلَى قدر نَفَقَتك» .
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أَن أُخْت عقبَة نذرت أَن تحج مَاشِيَة، فَسئلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقيل: إِنَّهَا(9/507)
[لَا] تطِيق ذَلِك، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فلتركب ولتهد هَديا» . وَفِي رِوَايَة «بَدَنَة» .
هَذَا الحَدِيث أَصله فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من طَرِيق أبي الْخَيْر [عَن] عقبَة بن عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «نذرت أختى أَن تمشي إِلَى بَيت الله، وأمرتني أَن أستفتي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: لتمش ولتركب» .
وَمَعْنَاهُ - وَالله أعلم -: لتمش إِذا قدرت وتركب إِذا عجزت أَو شقّ عَلَيْهَا الْمَشْي. وَكَذَا ترْجم لَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَله طَرِيق آخر أوضحتها فِي «شرحي للعمدة» فَرَاجعهَا مِنْهُ تَجِد مَا يشفي العليل.
فَائِدَة: أُخْت عقبَة هِيَ أم حبَان - بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة، ثمَّ بَاء مُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ نون - بنت عَامر أسلمت وبايعت، أغفلها ابْن عبد الْبر فِي «استيعابه» واستدركته عَلَيْهِ، أَفَادَهُ الْمُنْذِرِيّ وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فِي «مُعْجَمه» .
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر أُخْت عقبَة بن عَامر، وَقد نذرت أَن تمشي بِحَجّ أَو عمْرَة» وَهَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة لَا يحضرني من خرجها بعد الْبَحْث عَنْهَا.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: الْمَسْجِد(9/508)
الْحَرَام، ومسجدي هَذَا، وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «إِنَّمَا يُسَافر إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: مَسْجِد الْكَعْبَة، ومسجدي، وَمَسْجِد إيلياء» .
فَائِدَة: أَكثر الرِّوَايَات: «لَا تشد الرّحال» بِضَم التَّاء، عَلَى مَا لم يسم فَاعله. وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن أبي سعيد: «لَا تشدوا» فَسَمَّى الْفَاعِل.
الحَدِيث السَّادِس عشر
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي نذرت إِن فتح الله عَلَيْك مَكَّة أَن أُصَلِّي فِي بَيت الْمُقَدّس رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ: صل هَا هُنَا. فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: صل هَا هُنَا - ثَلَاثًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَجزم بِكَوْنِهِ عَلَى شَرط مُسلم الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي آخر «الاقتراح» وَاللَّفْظ الْمَذْكُور للبيهقي إِلَّا أَنه قَالَ فِي آخِره: «فَأَعَادَ عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فشأنك إِذا» وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: «قَالَ ذَلِك مرّة وَاحِدَة» زَاد أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ: «فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا(9/509)
بِالْحَقِّ، لَو صليت هَا هُنَا لأجزأ عَنْك صَلَاة فِي بَيت الْمُقَدّس» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَلَفظه: عَن إِبْرَاهِيم بن عمر [قَالَ: سَمِعت عَطاء] بن أبي رَبَاح [قَالَ] : «جَاءَ الشريد إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم الْفَتْح، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي نذرت إِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - فتح عَلَيْك مَكَّة أَن أُصَلِّي فِي بَيت الْمُقَدّس. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَا هُنَا (أفضل) ثَلَاث مَرَّات» .
فَائِدَة: قَوْله: «شَأْنك» هُوَ مَنْصُوب، أَي: الزم شَأْنك؛ أَي: إِن أَن تَفْعَلهُ فافعله.
فَائِدَة أُخْرَى: هَذَا الرجل اسْمه: الشريد بن سُوَيْد الثَّقَفِيّ، كَذَا جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ السالفة، وَكَذَا قَالَه الْخَطِيب فِي «مبهماته» وَالنَّوَوِيّ فِي «مختصرها» وَابْن معن فِي «تنقيبه عَلَى الْمُهَذّب» قَالَ: وَهُوَ الَّذِي أردفه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَلفه، واستنشده فِي شعر أُميَّة بن أبي الصَّلْت فَأَنْشد مائَة قافية.
الحَدِيث السَّابِع عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: ورد النَّهْي عَن طروق الْمَسَاجِد إِلَّا لحَاجَة.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَله طرق:(9/510)
أَحدهَا: من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خِصَال لَا تنبغي فِي الْمَسْجِد: لَا يتَّخذ طَرِيقا، وَلَا يشهر فِيهِ سلَاح، وَلَا ينتثر فِيهِ بقوس، وَلَا ينشر فِيهِ بنبل، وَلَا يمر بِلَحْم فِيهِ، وَلَا يضْرب فِيهِ حد، وَلَا يقْتَصّ فِيهِ من أحد» .
قَالَ عبد الْحق فِي «علله» إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. وَله طَرِيق آخر من حَدِيث ابْن عمر: «أَيْضا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى أَن تتَّخذ الْمَسَاجِد طرقًا، أَو تُقَام فِيهَا الْحَد، أَو تنشد فِيهَا الْأَشْعَار، أَو ترفع فِيهِ الْأَصْوَات» . ذكره ابْن عدي وَأعله عبد الْحق بفرات بن السَّائِب، وَقَالَ: إِنَّه مُنكر الحَدِيث ضعيفه. هُوَ كَمَا قَالَ. وَفِي «صَحِيح الْحَاكِم» و «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا: «لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تتَّخذ الْمَسَاجِد طرقًا» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا صَحِيح الْإِسْنَاد.
ثَانِيهَا: من طَرِيق أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «من أَمَارَات السَّاعَة أَن تتَّخذ الْمَسَاجِد طرقًا، وَأَن يظْهر موت الْفُجَاءَة» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : يرويهِ الشّعبِيّ مُرْسلا.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَفِيه مَعَ ذَلِك انْقِطَاع.
ثَالِثهَا: من طَرِيق خَارِجَة بن الصَّلْت قَالَ: «دَخَلنَا مَعَ عبد الله فِي الْمَسْجِد وَالْإِمَام رَاكِع، فَرَكَعَ عبد الله فَرَكَعْنَا مَعَه، وَجعل يمشي إِلَى الصَّفّ وَنحن رُكُوع، فَمر رجل فَسلم عَلَيْهِ، فَقَالَ: صدق الله وَرَسُوله. فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاة قَالَ: كَانَ يُقَال: من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يسلم الرجل(9/511)
عَلَى الرجل بالمعرفة، وَأَن تتَّخذ الْمَسَاجِد طرقًا، وَأَن يتجر الرجل وَامْرَأَته، وَأَن تغلوا الْخَيل وَالنِّسَاء ثمَّ يرخصن ثمَّ لَا تغلوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب مَا يجوز من قِرَاءَة الْقُرْآن وَالذكر فِي الصَّلَاة يُرِيد بِهِ جَوَابا، من حَدِيث عبد الْأَعْلَى بن الحكم عَن خَارِجَة بِهِ.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا تعدل ألف صَلَاة فِي غَيره، وَصَلَاة فِي إيلياء تعدل صَلَاة فِي غَيره، وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام تعدل مائَة ألف صَلَاة فِي غَيره» .
هَذَا الحَدِيث كَذَا ذكره الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» وَلَا نعلم هَذَا فِي حَدِيث وَاحِد. وَكَذَا قَالَ ابْن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْوَسِيط» أَن الْغَزالِيّ سَاقه مساق حَدِيث وَاحِد، قَالَ: وَهُوَ هَكَذَا بِتَمَامِهِ غير ثَابت - فِيمَا أعلم - أما الصَّلَاة فِي مَسْجِد الْمَدِينَة فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا أفضل من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ من الْمَسَاجِد إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام» . وَفِي «صَحِيح مُسلم» من ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا أفضل من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام» . وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عبد الْبر: «صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا أفضل من ألف صَلَاة(9/512)
فِي غَيره إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام؛ فَإِنَّهُ أفضل مِنْهُ بِمِائَة صَلَاة» . وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث جَابر بِلَفْظ مُسلم، وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث مَيْمُونَة بنت الْحَارِث مثل حَدِيث ابْن عمر.
وَأما الصَّلَاة فِي مَسْجِد إيلياء - وَهُوَ الْبَيْت الْمُقَدّس - فَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث مَيْمُونَة بنت سعد - وَيُقَال: بنت سعيد - مولاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنَّهَا قَالَت: «قلت: يَا رَسُول الله: أَفْتِنَا فِي بَيت الْمُقَدّس؟ قَالَ: أَرض الْمَحْشَر والمنشر، ائتوه فصلوا فِيهِ؛ فَإِن صَلَاة فِيهِ كألف صَلَاة فِي غَيره. قلت: أَرَأَيْت إِن لم أستطع أَن أحمل إِلَيْهِ؟ قَالَ: فتهدى إِلَيْهِ زيتًا يسرج فِيهِ. وَلم يذكر فضل الصَّلَاة» .
وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب بِلَفْظ: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بَيت الْمُقَدّس، قَالَ: نعم السكن بَيت الْمُقَدّس، وَمن صَلَّى فِيهِ صَلَاة بِأَلف صَلَاة فِيمَا سواهُ وَقَالَت: فَمن لم يطق ذَلِك؟ قَالَ: فليهد لَهُ زيتًا» . وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» و «كنى الْحَاكِم أبي أَحْمد» من حَدِيث أنس بن مَالك عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «صَلَاة الرجل فِي بَيته بِصَلَاة، وَصلَاته فِي مَسْجِد الْقَبَائِل بِخمْس وَعشْرين صَلَاة، وَصلَاته فِي الْمَسْجِد الَّذِي يجمع فِيهِ بِخَمْسِمِائَة صَلَاة، وَصلَاته فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى بِخَمْسِينَ ألف صَلَاة، وَصلَاته فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بِمِائَة ألف صَلَاة، وَصَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا بِخَمْسِينَ ألف صَلَاة» .(9/513)
وَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي «تلخيصه» بِلَفْظ: «صَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بِمِائَة ألف صَلَاة، وَالصَّلَاة فِي مَسْجِدي بِخَمْسِينَ صَلَاة، وَالصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الَّذِي تجمع فِيهِ الْجُمُعَة بِخمْس وَعشْرين ألف صَلَاة، وَالصَّلَاة فِي مَسْجِد الْقَبَائِل بِخمْس وَعشْرين ألف صَلَاة» وَرَوَاهُ فِي غير هَذَا الْكتاب بِلَفْظ: «وَصَلَاة فِي مَسْجِد الْقَبَائِل بست وَعشْرين ألف صَلَاة» وَفِي إِسْنَاده رُزَيْق - بِتَقْدِيم الرَّاء الْمُهْملَة - الْأَلْهَانِي. قَالَ أَبُو زرْعَة: فَلَا بَأْس بِهِ. نَقله عَنهُ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي مُقْتَصرا، وَقَالَ ابْن حبَان فِيمَا نَقله عَنهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «الضُّعَفَاء» : ينْفَرد بالأشياء الَّتِي لَا تشبه حَدِيث الْأَثْبَات لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ إِلَّا عِنْد الْوِفَاق.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح.
وَقَالَ الْخَطِيب: رُزَيْق هَذَا فِي عداد المجهولين.
قلت: وَرَأَيْت ابْن حبَان ذكره فِي «ثقاته» والراوي عَن رُزَيْق لَا يعرف، وَهُوَ أَبُو الْخطاب حَمَّاد. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : لَيْسَ بالمشهور. وَوَقع فِي كَلَام ابْن بدر الْموصِلِي الْحَنَفِيّ أَمر غَرِيب، فَقَالَ فِي كِتَابه الْمُسَمَّى «بالمغني عَن الْحِفْظ وَالْكتاب بقَوْلهمْ لم يَصح شَيْء فِي هَذَا الْبَاب» : بَاب فَضَائِل بَيت الْمُقَدّس والصخرة وعسقلان وقزوين. ثمَّ قَالَ: لَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب شَيْء عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غير ثَلَاث أَحَادِيث فِي بَيت الْمُقَدّس:(9/514)
أَحدهَا: «لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاث مَسَاجِد» .
ثَانِيهَا: «أَنه سُئِلَ عَن أول بَيت وضع فِي الأَرْض، فَقَالَ: الْمَسْجِد الْحَرَام. ثمَّ قيل: مَاذَا؟ قَالَ: الْمَسْجِد الْأَقْصَى. قيل: كم بَينهمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ عَاما.
ثَالِثهَا: «إِن الصَّلَاة تعدل فِيهِ سَبْعمِائة صَلَاة» . كَذَا قَالَ، وَفِي الثَّالِث، وَفِيه: بل لَا أعلمهُ ورد عوضا عَن صِحَة. وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» عَن عبد الله بن الصَّامِت، عَن أبي ذَر مَرْفُوعا: «صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا أفضل من أَربع صلوَات فِي بَيت الْمُقَدّس» وَكَذَا اخْتِلَافا فِي إِسْنَاده، وَرَوَاهُ الْحَاكِم كَذَلِك، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَمُقْتَضَى هَذَا أَن تكون الصَّلَاة فِي بَيت الْمُقَدّس بمائتين وَخمسين صَلَاة. وَرَوَى ابْن عدي فِي «كَامِله» من حَدِيث يَحْيَى بن أبي حَيَّة، عَن عُثْمَان [بن] الْأسود، عَن مُجَاهِد، عَن جَابر مَرْفُوعا: «الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بِمِائَة ألف صَلَاة، وَالصَّلَاة فِي مَسْجِدي بِأَلف صَلَاة، وَفِي مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس خَمْسمِائَة صَلَاة» .
وَقد افْتَرَقت أَقْوَال الْأَئِمَّة فِي يَحْيَى هَذَا (فِي الصَّلَاة) وَأما الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فقد تقدم فِيهِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر ومَيْمُونَة، وَرَوَى الإِمَام أَحْمد وَابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح(9/515)
عَن عبد الله بن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا أفضل من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ من الْمَسَاجِد إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام، وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أفضل من مائَة صَلَاة فِي مَسْجِدي» .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من رِوَايَة أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: «الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بِمِائَة ألف صَلَاة، وَالصَّلَاة فِي مَسْجِدي بِأَلف صَلَاة، وَالصَّلَاة فِي بَيت الْمُقَدّس خَمْسمِائَة صَلَاة» وَسَنَده مُحْتَمل وَفِيه عَن عطاف بن خَالِد، عَن عُثْمَان بن عبد الله بن الأرقم، عَن جده الأرقم مَرْفُوعا: «صَلَاة (هُنَا) خير من ألف صَلَاة ثمَّ» . يَعْنِي: مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس. قَالَ ابْن عبد الْبر فِي «التَّمْهِيد» هَذَا حَدِيث ثَابت لَا مطْعن لأحد فِيهِ. قَالَ الرَّافِعِيّ: قَالَ الْأَمَام: كَانَ شَيْخي يَقُول: لَو نذر صَلَاة فِي الْكَعْبَة فَصَلى فِي أَطْرَاف الْمَسْجِد الْحَرَام خرج عَن النّذر، وَإِن الزِّيَادَة الَّتِي رويت فِي الحَدِيث السَّابِق - يَعْنِي: الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ أَولا أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَصَلَاة فِي الْكَعْبَة تعدل مائَة ألف صَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام» . لم يصححها الْأَثْبَات؛ فَلَا تعويل عَلَيْهَا وَالْعلم عِنْد الله. انْتَهَى.
وَهَذِه الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة غَرِيبَة جدًّا وبعيدة أَيْضا، نعم فِي «سنَن النَّسَائِيّ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا(9/516)
أفضل من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ من الْمَسَاجِد إِلَّا الْكَعْبَة» وَفِيه أَيْضا من حَدِيث مَيْمُونَة مَرْفُوعا «صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا أفضل من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ [من الْمَسَاجِد] إِلَّا الْمَسْجِد الْكَعْبَة» .
خَاتِمَة: نقل ابْن دحْيَة فِي كتاب «التَّنْوِير فِي مولد السراج الْمُنِير» أَنه حسب الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام عَلَى رِوَايَة ابْن عمر وَابْن الزبير، فبلغت صَلَاة وَاحِدَة فِيهِ عمر خمس وَخمسين سنة وَسِتَّة أشهر وَعشْرين لَيْلَة، وَصَلَاة يَوْم وَلَيْلَة فِيهِ مِائَتي وَسبع وَسبعين سنة وَتِسْعَة أشهر وَعشر لَيَال، وَهَذَا قد سبقه بِهِ أَبُو بكر النقاش؛ فَإِنَّهُ لما رَوَى عَن أَحْمد بن فياض، ثَنَا أَبُو أَحْمد أَخُو الإِمَام، ثَنَا عبد الله بن عَمْرو، عَن عبد الْكَرِيم، عَن عَطاء، عَن جَابر - رَفعه -: «صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا أفضل من ألف فِيمَا سواهُ إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام، وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أفضل من مائَة ألف صَلَاة» قَالَ: فَحسب ذَلِك عَلَى هَذِه الرِّوَايَة فَذكر مثله حرفا بِحرف، ذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» فِي الْحَج، وَقَوله: «عَن عبد الله بن عَمْرو» خطأ، صَوَابه: عبيد الله - بِالتَّصْغِيرِ - وَحَدِيث جَابر هَذَا أخرجه أَحْمد فِي «الْمسند» بِإِسْنَاد صَحِيح، فَقَالَ أَحْمد: [ثَنَا] ابْن عبد الْملك، حَدثنَا عبيد الله، عَن عبد الْكَرِيم، عَن عَطاء، عَن جَابر مَرْفُوعا: «صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا أفضل من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام، وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أفضل من(9/517)
مائَة ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ» وَعبد الْكَرِيم هُوَ ابْن مَالك الْجَزرِي، أحد الثِّقَات.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
«أَن رجلا نذر أَن ينْحَر إبِلا فِي مَوضِع - سَمَّاهُ - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَل فِيهِ وثن من أوثان الْجَاهِلِيَّة يعبد؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أوف بِنَذْرِك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم، كل رِجَاله أَئِمَّة، مجمع عَلَى عدالتهم من رِوَايَة ثَابت بَين الضَّحَّاك، قَالَ «نذر رجل عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن ينْحَر [إبِلا ببوانة، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي نذرت أَن أنحر إبِلا] ببوانة. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَل كَانَ فِيهَا وثن من أوثان الْجَاهِلِيَّة يعبد؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَهَل فِيهَا عيد من أعيادهم؟ قَالُوا: لَا. فَقَالَ رَسُول الله: أوف بِنَذْرِك؛ فَإِنَّهُ لَا وَفَاء لنذر فِي مَعْصِيّة الله وَلَا فِيمَا لَا يملكهُ ابْن آدم» .
وَرَوَاهُ أَحْمد بِسَنَدِهِ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن ابْنة كردم، عَن أَبِيهَا «أَنه سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي نذرت أَن أنحر ثَلَاثَة من إبلي. فَقَالَ: إِن كَانَ عَلَى جمع من جمع الْجَاهِلِيَّة أَو عَلَى عيد من أعياد الْجَاهِلِيَّة أَو عَلَى وثن من أوثان الْجَاهِلِيَّة فَلَا، وَإِن كَانَ عَلَى [غير] ذَلِك فَاقْض نذرك. قَالَ: يَا رَسُول الله، إِن عَلَى أم هَذِه الْجَارِيَة مشيًا،(9/518)
أفأمشي، عَنْهَا؟ قَالَ نعم» . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة ابْن عَبَّاس «أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي نذرت أَن أنحر ببوانة؟ فَقَالَ: فِي نَفسك شَيْء من أَمر الْجَاهِلِيَّة؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أوف بِنَذْرِك» وَرَوَاهُ أَيْضا من رِوَايَة مَيْمُونَة بنت كردم الثقفية «أَن أَبَاهَا لَقِي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وهى رديفة كردم، فَقَالَ: إِنِّي نذرت أَن أنحر ببوانة. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَل فِيهَا وثن؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أوف بِنَذْرِك» وإسنادهما حسن.
وَفِي رِوَايَة لأبي نعيم تعْيين المنحور خلاف مَا وَقع فِي «مُسْند أَحْمد» وَهَذَا لَفظه: «إِنِّي نذرت أَن أذبح عددا من الْغنم. قَالَ: لَا أعلم إِلَّا [خمسين] شَاة عَلَى رَأس بوانة ... » الحَدِيث.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: ذكر ابْن دحْيَة فِي كتاب «الْآيَات الْبَينَات» هَذَا الحَدِيث من طَرِيق أَحْمد، وَفِيه زِيَادَة أنكرها، فعقب ذَلِك بِأَن قَالَ: هَذَا حَدِيث بَاطِل بِيَقِين إِذْ لم يَنْقُلهُ أحد من ثِقَات الْمُسلمين. وَهَذَا الْإِطْلَاق لَيْسَ بجيد مِنْهُ.
ثَانِيهَا: بُوانة - بِضَم أَوله وبالنون عَلَى بِنَاء فعالة -: مَوضِع بَين الشَّام وَبَين ديار بني عَامر. كَذَا ضَبطه أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» وَكَذَا الْحَازِمِي؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كتاب «الْمُخْتَلف والمؤتلف فِي أَسمَاء الْأَمَاكِن» : بوان بِضَم الْبَاء. وَكَذَا النَّوَوِيّ فِي «مُخْتَصر المبهمات» قَالَ: بوانة، أَولهَا بَاء مُوَحدَة مَضْمُومَة، وَألف ثمَّ نون ثمَّ هَاء. وَحَكَى(9/519)
ابْن الْأَثِير فِي «نهايته» ثمَّ الْمُنْذِرِيّ فتح الْبَاء أَيْضا.
قَالَ الْجَوْهَرِي فِي «صحاحه» : وَيُقَال: بوان. بِلَا هَاء، قَالَ ابْن الْأَثِير، ثمَّ الْمُنْذِرِيّ: وبوانة هضبة من وَرَاء يَنْبع قَرْيَة من سَاحل الْبَحْر. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: بوانة أَسْفَل مَكَّة أَسْفَل يَلَمْلَم.
ثَالِثهَا: هَذَا الرجل هُوَ كردم بن سُفْيَان، كَمَا سلف عَن رِوَايَة ابْن ماجة، وَقد نبه عَلَيْهِ الْخَطِيب فِي «مبهماته» أَيْضا.
رَابِعهَا - وَهُوَ مُهِمّ -: وَهُوَ أَن صَاحب «الْمُهَذّب» ذكر فِي هَذَا الْموضع من كِتَابه حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده «أَن امْرَأَة قَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي نذرت أَن أذبح مَكَان كَذَا وَكَذَا - مَكَان يذبح فِيهِ أهل الْجَاهِلِيَّة - قَالَ: لصنم؟ قَالَت: لَا. قَالَ: لوثن؟ قَالَت: لَا. قَالَ: أوف بِنَذْرِك» فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث غَرِيب، وَلَكِن مَعْنَاهُ مَشْهُور من رِوَايَة ثَابت بن الضَّحَّاك. ثمَّ سَاق الحَدِيث السالف، وَهَذَا من أغرب مَا اتّفق لَهُ؛ فَحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب هَذَا الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» حَدِيث ثَابت فِي كل النّسخ و «الْأَطْرَاف» للمزي وَغَيرهمَا من كتب الْأَحْكَام؛ فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
حَدِيث «الرواح فِي السَّاعَة الأولَى فَكَأَنَّمَا قرب بَدَنَة ... » الحَدِيث.(9/520)
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَقد سلف فِي بَابه.
خَاتِمَة: قَالَ الرَّافِعِيّ - قبل الحَدِيث الثَّانِي عشر -: إِذا نذر صَوْم بعض يَوْم، هَل ينْعَقد نَذره؟ فِيهِ وَجْهَان: أصَحهمَا: الْمَنْع، وَبَنَى الْمُتَوَلِي الْمَسْأَلَة عَلَى أَن المتنفل إِذا نَوى الصَّوْم نَهَارا يكون صَائِما من وَقت النِّيَّة، أَو من ابْتِدَاء النَّهَار، فَإِن قُلْنَا الأول انْعَقَد نَذره، وَإِن قُلْنَا الثَّانِي؛ فَوَجْهَانِ أَحدهَا: لَا، وَثَانِيها: نعم؛ لِأَنَّهُ ورد أَنه نذر بإمساك بعض النَّهَار [كَمَا] فِي حق من أصبح مُفطرا يَوْم الشَّك ثمَّ بَان أَنه من رَمَضَان. هَذَا آخر مَا ذكره.
وَترْجم الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بَاب من أصبح يَوْم الشَّك لَا يَنْوِي الصَّوْم ثمَّ علم أَنه من رَمَضَان أمسك بَقِيَّة يَوْمه اسْتِدْلَالا بِحَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث رجلا من أسلم إِلَى قومه يَوْم عَاشُورَاء، فَقَالَ: مرهم فليصوموا [هَذَا الْيَوْم] فَقَالَ: [يَا] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا [أَرَانِي آتيهم] حَتَّى يطعموا! فَقَالَ: من طعم مِنْهُم فليصم بَقِيَّة يَوْمه» رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَرَوَاهُ مُسلم من وَجه آخر عَن يزِيد. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ فِي الحَدِيث «أَنه أَمر بِالْقضَاءِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن مسلمة عَن عَمه «أَن أسلم أَتَت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم عَاشُورَاء، فَقَالَ: صمتم يومكم هَذَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأتمُّوا بَقِيَّة يومكم واقضوه» هَذَا مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي هَذَا الْبَاب.(9/521)
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن الرّبيع بنت معوذ بن عفراء قَالَت: «أرسل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَدَاة عَاشُورَاء إِلَى قرَى الْأَنْصَار الَّتِي حول الْمَدِينَة: من كَانَ أصبح صَائِما فليتم صَوْمه، وَمن كَانَ أصبح مُفطرا فليتم بَقِيَّة يَوْمه. وَكُنَّا بعد ذَلِك نصومه ونصوم صبياننا الصغار» .
قَالَ الطَّحَاوِيّ فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنه من تعين عَلَيْهِ صَوْم يَوْم وَلم يُنَوّه لَيْلًا أَن يُجزئهُ نَهَارا قبل الزَّوَال. وَفِيمَا ذكره نظر.(9/522)
كتاب الْقَضَاء(9/523)
كتاب الْقَضَاء
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فَأَرْبَعَة عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
نقل عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر، وَإِن أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من طَرِيق عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور - قَالَ يَعْنِي: ابْن الْهَاد - فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث أَبَا بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم فَقَالَ: هَكَذَا حَدثنِي أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: وَأخرجه من هَذَا الْوَجْه التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» .(9/525)
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نعرفه من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ عَن يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ إِلَّا من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ عبد الرَّزَّاق عَن معمر.
قلت: وَلَا يضر تفرده بِهِ؛ لِأَنَّهُ ثِقَة، أحد الْأَعْلَام، وَلَا عِبْرَة بِمن تكلم فِيهِ.
وَقَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : مَا رَوَى معمر عَن الثَّوْريّ مُسْندًا غير هَذَا الحَدِيث.
قلت: وَلِلْحَدِيثِ لفظ آخر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو وَعقبَة بن عَامر وَأبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر، وَإِن أصَاب فَلهُ عشرَة أجور» . وَرَوَى الْحَاكِم حَدِيث عبد الله بن عَمْرو ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: وَفِيه: فرج بن فضَالة التنوخي ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره، وَقواهُ الإِمَام أَحْمد، وَأخرجه فِي «مُسْنده» بِدُونِ «فرج» هَذَا، نعم فِيهِ ابْن لَهِيعَة، وَلَفظ رِوَايَته: «فَإِذا اجْتهد وَأَخْطَأ كَانَ لَهُ [أجر أَو] أَجْرَانِ» .
وَأخرجه من حَدِيث عَمْرو بن العَاصِي بِلَفْظ: «إِن أصبت الْقَضَاء(9/526)
فلك عشرَة [حَسَنَات] وَإِن أَنْت اجتهدت فأخطأت فلك حَسَنَة» وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَإِذا أَخطَأ كَانَ لَهُ أَجْرَانِ» .
تَنْبِيه: يحْتَاج إِلَى الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث؛ فَإِن ظَاهرهَا الِاخْتِلَاف، وَجمع بَينهمَا الْمَاوَرْدِيّ فِي «حاويه» بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه جعل لَهُ أَجْرَيْنِ إِذا وصل إِلَى الصَّوَاب بِأول اجْتِهَاده، وَعشرَة أجور [إِذا] وصل بتكرار الِاجْتِهَاد وكثرته، وَثَانِيهمَا: أَنه أخبر بِالْحَسَنَة لمضاعفة الْحَسَنَة بِعشْرَة أَمْثَالهَا، وَأخْبر فِي الْأجر أَمريْن من غير مضاعفة؛ لِأَنَّهُ فِي الأَصْل أجر وَفِي المضاعفة عشر. هَذَا لَفظه.
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «السَّابِقُونَ إِلَى ظلّ الله يَوْم الْقِيَامَة: الَّذين إِذا أعْطوا الْحق قبلوه، وَإِذا سئلوه بذلوه، وَإِذا حكمُوا بَين النَّاس حكمُوا كحكمهم لأَنْفُسِهِمْ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْند» عَن حسن [وَيَحْيَى بن إِسْحَاق] ثَنَا ابْن لَهِيعَة، نَا خَالِد بن أبي عمرَان، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَتَدْرُونَ من السَّابِقُونَ إِلَى ظلّ الله تَعَالَى [يَوْم الْقِيَامَة] قَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: الَّذين إِذا أعْطوا الْحق قبلوه، وَإِذا سئلوه بذلوه، وحكموا للنَّاس(9/527)
كحكمهم نفسهم» وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي كِتَابه «حلية الْأَوْلِيَاء» من هَذَا الْوَجْه سَوَاء، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، تفرد بِهِ ابْن لَهِيعَة عَن خَالِد بن أبي عمرَان، حدث بِهِ أَحْمد بن حَنْبَل فِي «مُسْنده» رِوَايَته عَن حسن، عَن ابْن لَهِيعَة، وَكَذَا ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» وَرَوَاهُ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس بن الْقَاص - بتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة، من أَصْحَاب الشَّافِعِيَّة - فِي كتاب «الْقَضَاء» من حَدِيث يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن ابْن زحر، عَن عَلّي بن زيد، عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مَرْفُوعا: «هَل تَدْرُونَ من السَّابِقُونَ إِلَى ظلّ الله يَوْم الْقِيَامَة؟ ... » فَذكره إِلَّا أَنه قَالَ: «وَإِذا حكمُوا للْمُسلمين حكمُوا كحكمهم لأَنْفُسِهِمْ» بدل مَا ذكر.
وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «المقسطون عِنْد الله عَلَى مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن، وكلتا يَدَيْهِ يَمِين: الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهلهم وَمَا ولوا» . قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث عبد الله بن عَمْرو هَذَا، فَقَالَ: الصَّحِيح أَنه مَوْقُوف.
الحَدِيث الثَّالِث
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا جلس الْحَاكِم للْحكم بعث الله لَهُ ملكَيْنِ يسددانه ويوفقانه (ويرشدانه مَا لم يجر) ، فَإِذا جَار عرجا وتركاه» .(9/528)
سكت عَنهُ الْبَيْهَقِيّ وَفِي إِسْنَاده: يَحْيَى بن (يزِيد) بن أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، يكنى أَبَا بردة، وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ أَحْمد وَيَحْيَى: وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: رَوَى أَحَادِيث مُنكرَة. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: واهي الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ أَبُو عَلّي صَالح بن مُحَمَّد الْحَافِظ: هُوَ ضَعِيف الحَدِيث. قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ لَهُ أصل. قَالَ ابْن جريج: لَا يحْتَمل هَذَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : خبر مُنكر أخرجه البُخَارِيّ - أَي: فِي «تَارِيخه» - وَهُوَ [سَاقِط] لِأَنَّهُ من رِوَايَة الْعَلَاء بن عَمْرو الْحَنَفِيّ عَنهُ، والْعَلَاء واه، وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث ابْن أبي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - « [إِن] الله مَعَ القَاضِي مَا لم يجر» وَفِي رِوَايَة للبيهقي «فَإِذا جَار تخلى عَنهُ وَلَزِمَه الشَّيْطَان» وَلابْن حبَان مِنْهُ إِلَى قَوْله: «مَا لم يجر» وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: «برِئ الله(9/529)
مِنْهُ وَلَزِمَه الشَّيْطَان» . وَفِي رِوَايَة لَهُ وَلابْن مَاجَه: «إِن الله مَعَ القَاضِي مَا لم يجر؛ فَإِذا جَار وَكله إِلَى نَفسه» وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: «فَإِذا جَار تَبرأ الله مِنْهُ» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث عمرَان الْقطَّان. وَقَالَ الْحَاكِم: إِسْنَاده صَحِيح.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ ابْن صاعد: رَوَاهُ عَمْرو بن عَاصِم عَن عمرَان الْقطَّان. فَلم يذكر فِي إِسْنَاده حُسَيْنًا - يَعْنِي: الْمعلم.
وَفِي «المعجم الْكَبِير» للطبراني من حَدِيث عَنْبَسَة بن سعيد، عَن حَمَّاد مولَى بني أُميَّة، عَن جنَاح مولَى الْوَلِيد، عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع مَرْفُوعا: «مَا من مُسلم ولي من أَمر الْمُسلمين شَيْئا إِلَّا بعث الله إِلَيْهِ ملكَيْنِ يسددانه مَا (نَوى) الْحق؛ فَإِذا نَوى الْجور عَلَى عمله كلأه إِلَى نَفسه» .
الحَدِيث الرَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث عليًّا - كرم الله وَجهه - إِلَى الْيمن قَاضِيا، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، بعثتني أَقْْضِي بَينهم وَأَنا شَاب لَا أَدْرِي مَا الْقَضَاء! قَالَ: فَضرب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ اهده وَثَبت لِسَانه. فوالذي فلق الْحبَّة مَا شَككت فِي قَضَاء بَين اثْنَيْنِ» .(9/530)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث شريك عَن سماك بن حَرْب، عَن حَنش، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن قَاضِيا، فَقلت: يَا رَسُول الله، ترسلني وَأَنا حَدِيث السن وَلَا علم لي بِالْقضَاءِ؟ قَالَ: فَقَالَ لي: إِن لله سيهدي قَلْبك وَيثبت لسَانك؛ فَإِذا جلس بَين يَديك خصمان فَلَا تقضين (لأَحَدهمَا مَا لم) تسمع من الآخر كَمَا سَمِعت من الأول؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يتَبَيَّن لَك الْقَضَاء. قَالَ: فَمَا زلت قَاضِيا [أَو] مَا شَككت فِي قَضَاء قطّ» .
وحنش هَذَا هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَيُقَال: ابْن ربيعَة، كُوفِي وَثَّقَهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ البُخَارِيّ: يَتَكَلَّمُونَ فِي حَدِيثه. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ عبد الْحق: كَانَ رجلا صَالحا، وَفِي حَدِيثه ضعف.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهُوَ من رِوَايَة شريك عَن سماك عَنهُ وَلم يبين ذَلِك عبد الْحق وَسَبقه إِلَى ذَلِك ابْن حزم وَأَنه قَالَ هَذَا خبر سَاقِط لِأَن شَرِيكا مُدَلّس وَسماك ابْن حَرْب يقبل التَّلْقِين، وحنش سَاقِط مطرح، وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث عَمْرو بن مرّة عَن عبد الله بن سَلمَة، عَن عَلّي قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن، فَقلت: يَا رَسُول الله، بعثتني وَأَنا شَاب وهم كهول، وَلَا علم لي بالْكلَام! فَقَالَ: إِن(9/531)
الله - تبَارك وَتَعَالَى - سيهدي قَلْبك وَيثبت لسَانك. قَالَ: فوَاللَّه مَا تعاييت فِي شَيْء بعد» . ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا نعلم رَوَاهُ عَن عَمْرو بن مرّة عَن [عبد الله] بن سَلِمة عَن عَلّي إِلَّا أَبُو إِسْحَاق، وَلَا عَن أبي إِسْحَاق إِلَّا عَمْرو بن أبي الْمِقْدَام، وَقد رُوِيَ عَن عَلّي من وُجُوه.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَاهُ هُوَ بعد ذَلِك من حَدِيث جَارِيَة بن مضرب عَن عَلّي قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن، فَقلت: تبعثني إِلَى قوم هم أسن مني! فَكيف أَقْْضِي بَينهم؟ ! فَقَالَ: اذْهَبْ، فَإِن الله سيهدي قَلْبك وَيثبت لسَانك» ثمَّ قَالَ هَذَا أحسن أسانيده. وَرَوَاهُ بعد ذَلِك بِنَحْوِ مَا سَاقه أَبُو دَاوُد - أَعنِي من رِوَايَة حَنش.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة عَلّي، وَابْن مَاجَه فِي هَذَا الْبَاب من حَدِيث أبي البخْترِي، عَن عَلّي قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي رجل شَاب وَإنَّهُ يرد عَلّي من الْقَضَاء مَا لَا علم لي بِهِ! قَالَ: فَوضع يَده فِي صَدْرِي وَقَالَ: (ثَبت الله لِسَانه) واهد قلبه. فَمَا شَككت فِي الْقَضَاء أَو فِي (فصل) بعد هَذَا» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
قلت: فِي تَصْحِيحه عوضا عَن كَونه عَلَى شَرطهمَا نظر؛ فَإِنَّهُ مُنْقَطع.(9/532)
قَالَ شُعْبَة وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو زرْعَة وَالْبَزَّار: أَبُو البخْترِي لم يدْرك عليًّا، وَلم يره. وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي أَوَائِل بَاب الْأَحْكَام من رِوَايَة حَنش الْمَذْكُور فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، عَن عَلّي قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن، فَقلت: بعثتني إِلَى قوم ذَوي أَسْنَان وَأَنا حَدِيث السن! قَالَ: إِذا جلس إِلَيْك الخصمان فَلَا تقض لأَحَدهمَا حَتَّى تسمع من الآخر كَمَا سَمِعت من الأول. قَالَ عَلّي: فَمَا زلت قَاضِيا» ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِي رِوَايَة عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن عليًّا فَقَالَ: علمهمْ الشَّرَائِع واقض بَينهم. قَالَ: لَا علم لي بِالْقضَاءِ. فَدفع فِي صَدره، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهده للْقَضَاء» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سماك بن حَرْب، عَن حَنش، عَن عَلّي قَالَ: «قَالَ [لي] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِذا تقاضى إِلَيْك رجلَانِ فَلَا تقض للْأولِ حَتَّى تسمع كَلَام الآخر، فَسَوف تَدْرِي كَيفَ تقضي. قَالَ عَلّي: فمازلت قَاضِيا بعد» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَأما ابْن حزم فأعله بسماك كعادته، وَفِي «مَرَاسِيل أبي دَاوُد» ، نَا [عبد الله] بن مُحَمَّد بن يَحْيَى، نَا مُحَمَّد بن الْمُغيرَة الْمدنِي المَخْزُومِي، نَا سُلَيْمَان بن مُحَمَّد(9/533)
بن يَحْيَى بن عُرْوَة، عَن [عبد الله بن] عبد الْعَزِيز الْعمريّ قَالَ: «لما اسْتعْمل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عليًّا عَلَى الْيمن (دَعَاهُ فَأَوْصَاهُ) قَالَ: قَدِّم الوضيع عَلَى الشريف، والضعيف عَلَى الْقوي، وَالرِّجَال عَلَى النِّسَاء» .
لم يرمه عبد الْحق بسوى الْإِرْسَال، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: فِي إِسْنَاده جمَاعَة لَا يعْرفُونَ. قَالَ: والعمري هُوَ الزَّاهِد، وحاله فِي الحَدِيث مَجْهُولَة، وَلَا أعلم لَهُ رِوَايَة غير هَذِه.
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما أَرَادَ أَن يبْعَث معَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إِلَى الْيمن قَالَ لَهُ: كَيفَ تقضي إِذا غلبك قَضَاء؟ قَالَ: أَقْْضِي بِكِتَاب الله قَالَ: فَإِن لم تَجِد فِي كتاب الله؟ قَالَ: بِسنة رَسُول الله. قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: أجتهد برأيي وَلَا آلو. فَضرب صَدره وَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُول الله - (- لما يرضاه رَسُول الله» .
هَذَا الحَدِيث كثيرا مَا يتَكَرَّر فِي كتب الْفُقَهَاء وَالْأُصُول والمحدثين ويعتمدون عَلَيْهِ، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف بِإِجْمَاع أهل النَّقْل - فِيمَا أعلم - وَقد أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث الْحَارِث بن عَمْرو عَن أنَاس من أهل حمص من أَصْحَاب معَاذ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما أَرَادَ أَن يبْعَث معَاذًا إِلَى الْيَمين ... » فَذكره بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ رَوَاهُ من رِوَايَة الْحَارِث بن عَمْرو، عَن أنَاس من أَصْحَاب [معَاذ عَن] معَاذ بن جبل «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما بَعثه إِلَى الْيَمين ... » بِمَعْنَاهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْحَارِث(9/534)
بن عَمْرو عَن [رجال] من أَصْحَاب معَاذ [أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] من حَدِيث الْحَارِث أَيْضا عَن أنَاس من أهل حمص عَن معَاذ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث الْحَارِث بن عَمْرو عَن معَاذ، كَذَا وجدت فِي النُّسْخَة الَّتِي نظرت مِنْهَا. وَأخرجه أَحْمد كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد ثَانِيًا. قَالَ ابْن عدي فِي «كَامِله» : قَالَ البُخَارِيّ فِي «التَّارِيخ» : الْحَارِث بن عَمْرو بن أخي الْمُغيرَة بن شُعْبَة الثَّقَفِيّ، عَن أَصْحَاب معَاذ، عَن معَاذ، وَرَوَى عَنهُ أَبُو عون وَلَا يَصح وَلَا يعرف إِلَّا بِهَذَا، وَهُوَ مُرْسل. قَالَ ابْن عدي: والْحَارث بن عَمْرو وَهُوَ مَعْرُوف بِهَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكره البُخَارِيّ عَن معَاذ لما وَجهه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَلَيْسَ إِسْنَاده عِنْدِي مُتَّصِل.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : رَوَاهُ شُعْبَة، عَن أبي عون، عَن الْحَارِث بن عَمْرو، عَن أَصْحَاب معَاذ، عَن مُعاذ. وأرسله عبد الرَّحْمَن(9/535)
بن مهْدي وجماعات، وَقَالَ أَبُو دَاوُد عَن شُعْبَة قَالَ مرّة: عَن معَاذ، وَأكْثر مَا كَانَ يحدثنا عَن أَصْحَاب معَاذ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَرُوِيَ [عَن مسعر] عَن أبي عون مُرْسلا، والمرسل أصح. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي كِتَابه «الْمُحَلَّى شرح المجلى» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ لم يروه أحد إِلَّا الْحَارِث بن عَمْرو - وَهُوَ مَجْهُول لَا نَدْرِي من هُوَ - عَن رجال من أهل حمص - لم يسمهم - عَن معَاذ. وَقَالَ فِي رسَالَته فِي إبِْطَال الْقيَاس: هَذَا الحَدِيث الْمَأْثُور وَهُوَ عِنْدهم، وَهُوَ حَدِيث غير صَحِيح؛ لِأَنَّهُ عَن الْحَارِث بن عَمْرو الْهُذلِيّ أخي الْمُغيرَة بن شُعْبَة الثَّقَفِيّ، وَلَا يدْرِي أحد من هُوَ، وَلَا يعرف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث. ذكر ذَلِك البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه الْأَوْسَط» فِي الطَّبَقَات ثمَّ هُوَ أَيْضا عَن رجال من أهل حمص من أَصْحَاب معَاذ، وَلَا يجوز الْأَخْذ بِالدّينِ عَمَّن لَا يُدْرَى من هُوَ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ عَن الثِّقَات المعروفين. قَالَ: وَقد اتّفق الْجَمِيع عَلَى أَنه لَا يجوز شَهَادَة من لَا يُدْرَى حَاله، وَنقل الحَدِيث شَهَادَة من أعظم الشَّهَادَات؛ لِأَنَّهَا شَهَادَة عَلَى الله وَعَلَى رَسُوله، فَلَا يحل أَن يتساهل فِي ذَلِك أصلا. قَالَ: وقدموه قوم لم ينألوا بِالْكَذِبِ فَقَالُوا: إِن هَذَا الْخَبَر مَنْقُول نقل التَّوَاتُر. وَهَذَا كذب ظَاهر؛ لِأَن نقل التَّوَاتُر هُوَ أَن يكون نَقله فِي عصر متواتر من مبتدئه إِلَى مبلغه، وَأما مَا رَجَعَ من مبدئه إِلَى وَاحِد مَجْهُول فَهَذَا ضد التَّوَاتُر، وَهَذَا لم يعرف قطّ قَدِيما، وَلَا ذكره أحد من الصَّحَابَة عَنْهُم وَلَا من التَّابِعين عَن مسلمة عَن أبي عون حَتَّى(9/536)
يعلق بِهِ الْمُتَأَخّرُونَ، فانبثق إِلَى أتباعهم ومقلديهم فعرفوه، وَمَا احْتج بِهِ قطّ أحد من الْمُتَقَدِّمين؛ لِأَن مخرجه واه ضَعِيف، وَرَوَاهُ مَعَ ذَلِك عَن أبي عون شُعْبَة، وَأبي إِسْحَاق: سُلَيْمَان بن فَيْرُوز الشَّيْبَانِيّ فَقَط لم يروه غَيرهمَا، وَكِلَاهُمَا ثِقَة حَافظ، وَاخْتلفَا فِيهِ فَرَوَاهُ شُعْبَة، عَن أبي عون، عَن نَاس من أَصْحَاب معَاذ من أهل حمص «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن عبيد الله الثَّقَفِيّ - هُوَ أَبُو عون - قَالَ: «لما بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » الحَدِيث، قَالَ: وَأَيْضًا فَمن الْبَاطِل الْمَقْطُوع بِهِ أَن يُضَاف مثل هَذَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ أَن يَقُول عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام لِمعَاذ: «إِن لم تَجِد فِي كتاب الله - تَعَالَى - وَلَا فِي سنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قد سُئِلَ عَن الحمُرُ فَقَالَ: «مَا أنزل الله عَلّي فِيهَا شَيْء إِلَّا هَذِه الْآيَة الفاذة (فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره) فَلم يحكم فِيهَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بِحكم الْبَتَّةَ بِغَيْر الْوَحْي، فَكيف يُجِيز ذَلِك لغيره وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قد أَتَانَا بقوله من ربه الصَّادِق (مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم) فَلَا سَبِيل إِلَى وجود شَرِيعَة لله - تَعَالَى - فَرضهَا فِي الْكتاب وَلم يسنها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ: فصح أَن هَذَا اللَّفْظ لَا يجوز أَن يَقُوله رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. هَذَا آخر كَلَام الْحَافِظ أبي مُحَمَّد بن حزم مُلَخصا.
وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : هَذَا الحَدِيث لَا يسند وَلَا يُوجد(9/537)
من وَجه صَحِيح. فَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كتاب «الْوَهم وَالْإِيهَام» : الْحَارِث هَذَا لَا يعرف لَهُ حَال، وَلَا نَدْرِي رَوَى عَنهُ غير أبي عون مُحَمَّد بن عبيد الله الثَّقَفِيّ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح وَإِن كَانَ الْفُقَهَاء كلهم يذكرُونَهُ فِي كتبهمْ ويعتمدون عَلَيْهِ. قَالَ: (ولعمري مَعْنَاهُ صَحِيح) إِنَّمَا ثُبُوته لَا يعرف؛ لِأَن الْحَارِث بن عَمْرو مَجْهُول، وَأَصْحَاب معَاذ من أهل حمص لَا يعْرفُونَ، وَمَا هَذَا طَرِيقه فَلَا وَجه لثُبُوته. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل بن طَاهِر فِي المُصَنّف الَّذِي لَهُ عَلَى هَذَا الحَدِيث: اعْلَم أنني فحصت عَن هَذَا الحَدِيث فِي المسانيد الْكِبَار وَالصغَار، وَسَأَلت من لَقيته من أهل الْعلم بِالنَّقْلِ عَنهُ، فَلم أجد لَهُ غير طَرِيقين: أَحدهمَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَن حَفْص بن عمر، عَن شُعْبَة، عَن أبي عون، عَن الْحَارِث بن عَمْرو بن أخي الْمُغيرَة بن شُعْبَة، عَن أنَاس من أهل حمص من أَصْحَاب معَاذ، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَثَانِيهمَا: عَن مُحَمَّد بن جَابر اليمامي، عَن أَشْعَث بن أبي الشعْثَاء، عَن رجل من ثَقِيف، عَن معَاذ، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَالطَّرِيق الأول مَدَاره عَلَى الْحَارِث بن عَمْرو وَهُوَ مَجْهُول. وأناس من حمص لَا يعْرفُونَ، وَلم يبين أَنهم سَمِعُوهُ من معَاذ. قَالَ: وبمثل هَذَا الْإِسْنَاد لَا يعْتَمد فِي أصل من أصُول الشَّرِيعَة وَيحمل بذا الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع. وَالطَّرِيق الثَّانِي: رَوَاهُ مُحَمَّد بن جَابر اليمامي - عَلَى ضعفه - عَن أَشْعَث، عَن رجل من ثَقِيف وَرجل لَا يعرف لَا يعْتَمد عَلَيْهِ. ثمَّ نقل كَلَام ابْن عدي فِي «كَامِله» الَّذِي قدمْنَاهُ أَولا، ثمَّ قَالَ: وأقبح مَا رَأَيْت عَلَى هَذَا الحَدِيث قَول الْجُوَيْنِيّ فِي(9/538)
كِتَابه «أصُول الْفِقْه» فِي بَاب إِثْبَات الْقيَاس: والعمدة فِي هَذَا الْبَاب عَلَى حَدِيث معَاذ. قَالَ: وَهَذِه زلَّة مِنْهُ آفتها التَّقْلِيد، وَلَو كَانَ عَالما بِالنَّقْلِ لم يرتكب هَذِه الْجَهَالَة؛ لِأَنَّهُ جعل عمدته حَدِيثا بِهَذَا الْوَهم الْوَاضِح. قَالَ: ثمَّ يَقُول: قد رَأينَا الْأَحَادِيث الْوَاضِحَة الْمُتَّصِلَة المخرجة فِي الْكتب الْمَعْرُوفَة تصرح بِخِلَاف هَذَا؛ فَمن ذَلِك حَدِيث أبي مُوسَى «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن وَأَبا مُوسَى قَالَ لَهما: يسرا وَلَا تعسرا، وتطاوعا وَلَا تنفرا. فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى إِن لنا شرابًا يصنع بأرضنا من الْعَسَل يُقَال لَهُ: البتع، وَمن الشّعير يُقَال: المزر؟ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: كل مُسكر حرَام» حَدِيث مخرج فِي الصَّحِيح وَغَيرهَا من الْكتب، لم يخْتَلف فِي صِحَّته اثْنَان من أهل الْمعرفَة فيظن بِخِلَاف مَا ورد فِي الحَدِيث الْمُتَقَدّم الْمَقْطُوع الْمَجْهُول رُوَاته، وَأَن الْوَصِيَّة كَانَت لَهما، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء من ذَلِك. قَالَ: وَمِمَّا يدل عَلَى إبِْطَال حَدِيث معَاذ أَيْضا أَنا وجدنَا معَاذًا لما سُئِلَ لما لم يكن عِنْده فِيهِ نَص توقف وَلم يجْتَهد رَأْيه، من ذَلِك مَا رَوَى طَاوس عَنهُ قَالَ: «أُتِي معَاذ بن جبل بوقص الْبَقر وَالْعَسَل حسب، فَقَالَ: لم يَأْمُرنِي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فيهمَا بِشَيْء» وَرَوَى التِّرْمِذِيّ فِي «سنَنه» عَن عِيسَى بن طَلْحَة، عَن معَاذ «أَنه كتب إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسْأَله(9/539)
عَن الخضراوات وهى الْبُقُول، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْء» قَالَ: وَمِمَّا يدل عَلَى بُطْلَانه مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم، عَن معَاذ قَالَ: «لما بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: لَا تقضين وَلَا تفصلن إِلَّا بِمَا تعلم، فَإِن أشكل عَلَيْك أَمر فقف حَتَّى تبينه أَو تكْتب إِلَيّ فِيهِ» .
قَالَ ابْن طَاهِر: فقد صَحَّ عِنْدِي فَسَاد حَدِيث معَاذ الْمَذْكُور لما أوضحته من وَهن إِسْنَاده، وَبِمَا أتبعته من الْأَحَادِيث الْمُتَّصِلَة المخرجة فِي الصَّحِيح وَوَجَب ترك الِاحْتِجَاج بِهِ. هَذَا ملخص كَلَامه فِي التَّأْلِيف الْمَذْكُور. الحَدِيث الَّذِي أوردهُ من طَرِيق ابْن مَاجَه عجبت مِنْهُ سُكُوته عَلَى إِسْنَاده وَفِيه مُحَمَّد ابْن (سعيد) المصلوب وَهُوَ كَذَّاب وَضاع كَمَا أسلفته فِي كتاب الْجِنَايَات. وَقَالَ أَبُو عمر وَعُثْمَان بن الإِمَام أبي عَلّي حسن بن عَلّي بن دحْيَة «إرشاد البائنية وَالرَّدّ عَلَى المعتدي مِمَّا وهم فِيهِ الْفَقِيه أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ» : هَذَا الحَدِيث لَا أصل لَهُ، وَرِجَاله مَجْهُولُونَ، وَلَا يَصح عِنْد أحد من الْأَئِمَّة النقاد، وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور عِنْد ضعفاء أهل الْفِقْه لَا أصل لَهُ، يُوجب إطراحه. وَقَالَ: أحسن مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب مَا رَوَاهُ الشّعبِيّ عَن شُرَيْح القَاضِي «أَنه كتب إِلَى عمر بن الْخطاب يسْأَله فَكتب إِلَيْهِ عمر أَن اقْضِ بِمَا [فِي] كتاب الله، فَإِن لم يكن فِي كتاب الله فَفِي سنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَإِن لم [يكن] فِي سنة رَسُول الله وَإِلَّا فبمَا قَضَى بِهِ الصالحون، فَإِن لم يكن فِي كتاب الله وَلَا(9/540)
سنة رَسُول الله فَإِن شِئْت فَقدم وَإِن شِئْت فَأخر، وَلَا أرَى لنا خيرا إِلَّا خيرا لَك وَالسَّلَام عَلَيْك» فقد اتَّضَح بِحَمْد الله وَمِنْه ضعف هَذَا الحَدِيث وَصَحَّ دعوانا الْإِجْمَاع فِي ذَلِك، وَالْحَمْد لله عَلَى ذَلِك وَأَمْثَاله. وَلم يصب بعض العصريين فِيمَا وَضعه عَلَى أَدِلَّة التَّنْبِيه حَيْثُ قَالَ: عقب قَول التِّرْمِذِيّ «إِنَّه لَيْسَ بِمُتَّصِل» : بل هُوَ حَدِيث مَشْهُور اعْتمد عَلَيْهِ أَئِمَّة الْإِسْلَام فِي إِثْبَات الْقيَاس. وَكَأَنَّهُ جنح إِلَى قَول إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي «الْبُرْهَان» أَن الشَّافِعِي احْتج ابْتِدَاء عَلَى إِثْبَات الْقيَاس بِهِ، ثمَّ وهم الإِمَام فَقَالَ: والْحَدِيث مدون فِي الصِّحَاح مُتَّفق عَلَى صِحَّته لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ تَأْوِيل. هَذَا كَلَامه وَهُوَ من الْأَعَاجِيب.
فَائِدَة: مِمَّا يدل عَلَى إِبَاحَة المقايسات فِي الدَّين كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» الحَدِيث الصَّحِيح عَن أبي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مثل الجليس الصَّالح وَمثل جليس السوء كحامل الْمسك ونافخ الْكِير، فحامل الْمسك إِمَّا أَن تبْتَاع مِنْهُ، وَإِمَّا أَن تَجِد [مِنْهُ] ريحًا طيبَة، ونافخ الْكِير إِمَّا أَن يحرق ثِيَابك، وَإِمَّا أَن تَجِد مِنْهُ ريحًا خبيثة» .
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله لَا يقدس أمة لَيْسَ فيهم من يَأْخُذ للضعيف حَقه» .(9/541)
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق يحضرنا مِنْهَا عشرَة:
أَحدهَا:
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «كَيفَ تقدس أمة لَا يُؤْخَذ لضعيفهم من شديدهم» .
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» هَكَذَا فِي رِوَايَته وَهُوَ [عِنْد] ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» فِي أثْنَاء الْفِتَن بِلَفْظ: «كَيفَ يقدس الله أمة لَا يُؤْخَذ لضعيفهم من شديدهم» وَذكر فِيهِ قصَّة، وَجَمِيع رِجَاله احْتج بهم مُسلم فِي «صَحِيحه» وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «فَوَائده» الَّتِي خرجها لنَفسِهِ بِلَفْظ: «كَيفَ يقدس الله قوما لَا يُؤْخَذ من شديدهم لضعيفهم» .
الطَّرِيق الثَّانِي:
عَن عُثْمَان بن جبلة [أَخْبرنِي أبي، ثَنَا شُعْبَة] قَالَ: حَدثنَا سماك بن حَرْب قَالَ: كُنَّا مَعَ مدرك بن الْمُهلب بسجستان فِي سرادق فَسمِعت شَيخا يحدث، عَن أبي سُفْيَان بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله لَا يقدس أمة لَا يَأْخُذ الضَّعِيف من الْقوي حَقه وَهُوَ غير متعتع» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي هَذَا الْبَاب وَالْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «الكنى» وتلميذه الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة أبي سُفْيَان قَالَ: وَالشَّيْخ الَّذِي لم يسمه عُثْمَان بن جبلة قد سَمَّاهُ غنْدر، غير أَنه لم يذكر أَبَا سُفْيَان فِي الْإِسْنَاد. أخبرنَا مُحَمَّد بن صَالح بن هَانِئ، ثَنَا إِبْرَاهِيم(9/542)
بن أبي طَالب، ثَنَا أَبُو مُوسَى وَبُنْدَار قَالَا: ثَنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر، ثَنَا شُعْبَة، عَن سماك بن حَرْب، عَن عبد الله بن أبي سُفْيَان بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب قَالَ: «كَانَ لرجل عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تمر فَأَتَاهُ يتقاضاه، فَاسْتقْرض النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من خَوْلَة بنت حَكِيم تَمرا وَأَعْطَاهُ إِيَّاه. وَقَالَ: أما إِنَّه قد كَانَ عِنْدِي تمر وَلكنه [قد] كَانَ عثريًّا. ثمَّ قَالَ: كَذَلِك يفعل عباد الله الْمُؤمنِينَ، إِن الله لَا يترحم عَلَى أمة لَا يَأْخُذ الضَّعِيف فيهم حَقه غير متعتع» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُرْسل وَهُوَ الصَّحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: وَلم يسند أَبُو سُفْيَان عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَيره.
الطَّرِيق الثَّالِث:
عَن محَارب بن دثار، عَن ابْن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه: «لما قدم جَعْفَر من الْحَبَشَة قَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا أعجب شَيْء رَأَيْته؟ قَالَ: رَأَيْت امْرَأَة عَلَى رَأسهَا مكتل من طَعَام، فَمر فَارس يرْكض فأذراه، فَجعلت تجمع طعامها وَقَالَت: ويل لَك يَوْم يضع الْملك كرسيه ليَأْخُذ للمظلوم من الظَّالِم. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَصْدِيقًا لقولها: لَا قدست أمة - أَو كَيفَ قدست - لَا يُؤْخَذ لضعيفها من شديدها وَهُوَ غير مُنْقَطع» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ.
الطَّرِيق الرَّابِع:
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتقاضاه دينا كَانَ عَلَيْهِ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ: أحرِّج عَلَيْك إِلَّا قضيتني. فانتهره(9/543)
أَصْحَابه وَقَالُوا لَهُ: وَيحك تَدْرِي من تكلم! فَقَالَ: إِنِّي أطلب حَقي. فَقَالَ النَّبِي: (هلاّ مَعَ صَاحب الْحق كُنْتُم. ثمَّ أرسل إِلَى خَوْلَة بنت قيس فَقَالَ لَهَا: إِن كَانَ عنْدك تمر فأقرضينا حَتَّى يأتينا تمر فنقضيك. فَقَالَت: نعم بِأبي أَنْت يَا رَسُول الله. قَالَ: فأقرضته، فَقَضَى الْأَعرَابِي وأطعمه، فَقَالَ: أوفيت أَوْفَى الله لَك. فَقَالَ: أُولَئِكَ خِيَار النَّاس، إِنَّه لَا قدست أمة لَا يَأْخُذ الضَّعِيف (مِنْهَا) حَقه غير متعتع» . رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن أبي عُبَيْدَة أَظُنهُ قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح بِهِ. وَابْن أبي عُبَيْدَة هَذَا هُوَ مُوسَى بن عُبَيْدَة بن نشيط أَبُو عبد الْعَزِيز الربذي الْمدنِي أَخُو مُحَمَّد وهاه أَحْمد حَتَّى إِنَّه قَالَ: لَا تحل عِنْدِي الرِّوَايَة عَنهُ. وَقَالَ مرّة: لَا يشْتَغل بِهِ. وَقَالَ ابْن معِين: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ وَغَيره: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عدي: الضعْف عَلَى رِوَايَته بَين. وَوَقع لَهُ فَائِدَة حَدِيثِيَّةٌ مستطرفة عِنْد أهل هَذَا الْفَنّ لَا بَأْس أَن نذكرها وَهِي أَن مُوسَى هَذَا رَوَى عَن أَخِيه مُحَمَّد وَهُوَ أكبر مِنْهُ بِثَمَانِينَ سنة، قَالَه الْحَازِمِي.(9/544)
الْخَامِس:
عَن قَابُوس بن الْمخَارِق، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا قدست أمة لَا يُؤْخَذ لضعيفها من قويها غير متعتع» . رَوَاهُ ابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» عَن مطين. وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الوادعي القَاضِي قَالَا: ثَنَا عَلّي بن حَكِيم، نَا شريك، عَن سماك، عَن قَابُوس بِهِ.
السَّادِس:
عَن يَحْيَى بن جعدة رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ، وَقد تقدم بِطُولِهِ فِي إحْيَاء الْموَات.
السَّابِع:
عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «كَيفَ تقدس أمة لَا يُؤْخَذ لضعيفها من قويها» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، نَا عبد الرَّحْمَن بن [أبي بكر الْمليكِي عَن ابْن أبي مليكَة] عَنهُ بِهِ.
التَّاسِع:
عَن خَوْلَة - غير منسوبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا يقدس الله لأمة لَا يُؤْخَذ لضعيفها [الْحق] من قويها غير(9/545)
متعتع. قَالَ: من انْصَرف عَن غَرِيمه وَهُوَ راضٍ عَنهُ صَلَّتْ عَلَيْهِ دَوَاب الأَرْض وَنون [المَاء] وَمن انْصَرف عَنهُ غَرِيمه وَهُوَ ساخط كتب عَلَيْهِ فِي كل يَوْم وَلَيْلَة وجمعة وَشهر ظلم» . رَوَى الحافظان الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه الْكَبِير» وَأَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» فِي إِسْنَاده بَقِيَّة وعنعنه. هَذَا أحد طرقي الطَّبَرَانِيّ أخرجه من حَدِيث حبَان بن عَلّي، عَن سعد بن طريف، عَن مُوسَى بن طَلْحَة، عَن خَوْلَة وَقَالَ: إِنَّهَا امْرَأَة حَمْزَة بِقصَّة، وَلَفظه: «لَا قدس الله أمة لَا يَأْخُذ ضعيفها حَقه من قويها وَهُوَ غير مضطهد» وَذكر فِيهِ قصَّة. أخرجه أَيْضا من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم، عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز، عَن ربيعَة بن يزِيد، عَن سَلمَة بن خَالِد، عَنهُ بِهِ.
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من جعل قَاضِيا بَين النَّاس فقد ذبح بِغَيْر سكين» .
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ(9/546)
وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عَمْرو بن أبي عَمْرو مولَى الْمطلب، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «من ولي للْقَضَاء فقد ذبح بِغَيْر سكين» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب من هَذَا الْوَجْه. وَأخرجه أَحْمد من حَدِيث عبد الله بن سعيد بن أبي هِنْد عَن المَقْبُري. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة دَاوُد بن خَالِد اللَّيْثِيّ، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة بِاللَّفْظِ الأول، وَذَلِكَ ثَابت فِي رِوَايَة الأسيوطي للنسائي، وَلم يذكرهُ ابْن عَسَاكِر فِي «الْأَطْرَاف» واستدركه الْمزي عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي بعض طرقهما عَن الأخنسي [عَن الْأَعْرَج و] سعيد عَن أبي هُرَيْرَة.(9/547)
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : عُثْمَان الأخنسي وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين وَمَشاهُ النَّسَائِيّ. وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَإِنَّهُ ذكره فِي «علله المتناهية» من طَرِيقين ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ أما الأول فَفِي إِسْنَاده دَاوُد بن خَالِد اللَّيْثِيّ، قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَا أعرفهُ.
قلت: فَفِي إِسْنَاده دَاوُد وَهَذِه الطَّرِيقَة قد تقدّمت عَن «سنَن النَّسَائِيّ» . وَذكره ابْن عدي وَقَالَ: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَأما الثَّانِي فَلَا يرويهِ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ غير بكر بن بكار، قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء.
قلت: وَثَّقَهُ أَبُو عَاصِم النَّبِيل وَكَذَا ابْن حبَان وَقَالَ: رُبمَا يُخطئ. واقتصار ابْن الْجَوْزِيّ عَلَى هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ لَيْسَ بجيد، وَكَذَا قَوْله فِيهِ أَولا. وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ فِي «علله» إِنَّه يرْوَى عَن أبي هُرَيْرَة عَلَى وُجُوه فَقيل: عَن (سعيد) المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة. وَقيل: سعيد عَن زيد بن أسلم، عَن أبي هُرَيْرَة. وَقيل: عَن سعيد أَو أبي سعيد عَن أبي هُرَيْرَة. وَقيل: عَن أبي سعيد - بِغَيْر شكّ - عَن أبي هُرَيْرَة. وَقيل: عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة. وَهُوَ وهم، إِنَّمَا هُوَ سعيد المَقْبُري فَقيل: عَن سعيد بن الْمسيب مُرْسلا. وهم فِي قَوْله:(9/548)
ابْن الْمسيب. وَقيل: عَن سعيد المَقْبُري، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: وَالْمَحْفُوظ: عَن المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة.
فَائِدَة: قَالَ ابْن الصّلاح: مَعْنَى الحَدِيث - وَالله أعلم - فقد ذبح من حَيْثُ الْمَعْنى لَا من حَيْثُ الصُّورَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَين عَذَاب الدُّنْيَا إِن رشد وَعَذَاب الْآخِرَة إِن فسد. وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَالشَّيْخ زكي الدَّين وقبلهما الْخطابِيّ: قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ «بِغَيْر سكين» يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الذّبْح فِي ظَاهر الْعرف وغالب الْعَادة إِنَّمَا هُوَ بالسكين، فَعدل (عَن ذَلِك ليعلم أَن المُرَاد مَا يخَاف عَلَيْهِ من هَلَاك دينه دون هَلَاك بدنه. وَالثَّانِي: الذّبْح الوجأ الَّذِي تقع بِهِ إراحة الذَّبِيحَة وخلاصها من الْأَلَم إِنَّمَا يكون بالسكين، وَإِذا ذبح بِغَيْر سكين كَانَ ذبحه خنقًا وتعذيبًا، فَضرب بِهِ الْمثل ليَكُون فِي الحذر أبلغ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّيْخ نجم الدَّين بن الرّفْعَة فِي «الْكِفَايَة» : الذّبْح فِي الحَدِيث قيل: إِنَّه تعرض للذبح فَإِنَّهُ يُرِيد أَن يحكم عَلَى الصّديق والعدو بِحكم وَاحِد فليحذر. وَقيل: صَار كمذبوح وَأَنه يحْتَاج إِلَى إماتة شَهْوَته وقهر نَفسه بِالْمَنْعِ من المخالطة. وَقَوله: «بِغَيْر سكين» كِنَايَة عَن شدَّة الْأَلَم؛ فَإِنَّهُ بالسكين موجئ مريح ويغيرها تَعْذِيب. وَقيل: إِنَّه عدل عَن السكين ليدل عَلَى أَنه مُفسد للدّين لَا للبدن؛ فَإِن الْمُفْسد للبدن الذّبْح بالسكين، وَهَذَا ذبح بغَيْرهَا. انْتَهَى مَا أوردهُ. وَقَالَ ابْن البياضي من أَصْحَابنَا فِي كِتَابه «أدب الْقَضَاء» : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ عِنْدِي فِي كَرَاهِيَة الْقَضَاء وذمه؛ إِذْ الذّبْح(9/549)
بِغَيْر سكين مجاهدة النَّفس بِتَرْكِهِ وَالله - تَعَالَى - يَقُول: (وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا) وَثمّ أيد ذَلِك بِحَدِيث أوردهُ.
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ليجاء بِالْقَاضِي الْعدْل يَوْم الْقِيَامَة، فَيلْقَى من شدَّة الْحساب مَا يتَمَنَّى أَنه لم يقْض بَين اثْنَيْنِ فِي تَمْرَة قطّ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «الْمسند» والعقيلي فِي «تَارِيخه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. وَلما رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» بِإِسْنَادِهِ قَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. ثمَّ أتبعه بقول الْعقيلِيّ: عمرَان بن حطَّان لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه.
قلت: وَعمْرَان هَذَا من رجال البُخَارِيّ وَوَثَّقَهُ الْعجلِيّ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَيْسَ أهل الْأَهْوَاء أصح حَدِيثا من الْخَوَارِج. فَذكر عمرَان بن حطَّان وَغَيره. وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ لَا يتهم فِي الحَدِيث. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من طَرِيقه بِلَفْظ: «يُدعَى بِالْقَاضِي الْعَادِل يَوْم الْقِيَامَة فَيلْقَى من شدَّة الْحساب مَا يتَمَنَّى أَنه لم يقْض بَين اثْنَيْنِ فِي عمره» وَأعله الْعقيلِيّ بِوَجْه آخر فَقَالَ: لَا يتَبَيَّن لي سَمَاعه من عَائِشَة.
قلت: فِي رِوَايَة الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: دخلت عَلَى عَائِشَة فذاكرتها حَتَّى ذكرنَا القَاضِي فَقَالَت عَائِشَة: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «ليَأْتِيَن(9/550)
عَلَى القَاضِي الْعدْل يَوْم الْقِيَامَة سَاعَة يتَمَنَّى أَنه لم يقْض ... » الحَدِيث، رَوَاهُ الخلعي.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة: «لَا تسْأَل الْإِمَارَة فأنك إِن أعطيتهَا عَن غير مَسْأَلَة أعنت عَلَيْهَا، وَإِن أعطيتهَا عَن مَسْأَلَة وكلت إِلَيْهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» [من] طَرِيق الْحسن بن أبي الْحسن عَن عبد الرَّحْمَن.
الحَدِيث الْعَاشِر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[قَالَ] : «إِنَّا لَا نكره أحدا عَلَى الْقَضَاء» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ، وَأورد ابْن الرّفْعَة أَيْضا بِلَفْظ: «إِنَّا لَا نلزم» وَلم يعزه لأحد.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لن يفلح قوم وليتهم امْرَأَة» .(9/551)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي بكرَة - بهاء التَّأْنِيث فِي آخِره - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «بلغ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أهل فَارس ملكوا عَلَيْهِم بنت كسْرَى قَالَ: لن يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة» .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْقُضَاة ثَلَاثَة: وَاحِد فِي الْجنَّة، وَاثْنَانِ فِي النَّار، فَأَما الَّذِي فِي الْجنَّة فَرجل عرف الْحق ففى بِهِ، والَّلذان فِي النَّار رجل عرف الْحق فجار فِي الحكم، وَرجل قَضَى فِي النَّاس عَلَى جهل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من خلال سعد بن عُبَيْدَة السّلمِيّ، عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه بُرَيْدَة مَرْفُوعا. وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هَاشم الرماني الْكَبِير - واسْمه يَحْيَى. وَقيل: نَافِع - عَن عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه بُرَيْدَة مَرْفُوعا. وَفِي إِسْنَاد أبي دَاوُد رجل فِيهِ لين. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ، وَالْحَاكِم من حَدِيث عبد الله بن بكير، عَن حَكِيم بن جُبَير، عَن عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح. قَالَ: وَله شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم ... فَذكره بطرِيق التِّرْمِذِيّ الَّتِي قدمناها.(9/552)
وَقَالَ الْحَاكِم فِي كِتَابه «عُلُوم الحَدِيث» : هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ الخراسانيون فَإِن رُوَاته عَن [آخِرهم] مراوزة، وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث أَيْضا من رِوَايَة ابْن عمر فِي أول الْآثَار من هَذَا الْبَاب من صَحِيح ابْن حبَان.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من سُئِلَ فَأفْتَى بِغَيْر علم فقد ضل وأضل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعًا ينتزعه من النَّاس - وَفِي رِوَايَة: من الْعباد - وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم [يبْق] عَالما اتخذ النَّاس رُءُوسًا جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «إِن الله لَا ينْزع الْعلم بعد (إِعْطَائِهِ) وَلَكِن يَنْزعهُ مِنْهُم مَعَ قبض الْعلمَاء بعلمهم فَيَأْتِي نَاس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون» .
وَفِي سنَن أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه و «الْمُسْتَدْرك» للْحَاكِم(9/553)
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أُفْتِي فتيا غير ثَبت فَإِنَّمَا إثمه عَلَى [من] أفتاه» لفظ ابْن مَاجَه، وَلَفظ أبي دَاوُد: من أُفْتِي فتيا بِغَيْر علم كَانَ إِثْم ذَلِك عَلَى الَّذِي أفتَى» .
رَوَاهُ الْحَاكِم باللفظين فِي كتاب الْعلم من «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: حَدِيث قد احْتج الشَّيْخَانِ بِجَمِيعِ رُوَاته عَن عَمْرو بن أبي نعيمة، وَقد وَثَّقَهُ بكر بن عَمْرو الْمعَافِرِي - وَهُوَ أحد أَئِمَّة أهل مصر - وَالْحَاجة بِنَا عَلَى لفظ التثبت فِي الْفتيا شَدِيدَة. هَذَا لفظ الْحَاكِم هُنَا [و] ذكره فِي آخر كتاب الْعلم بِنَحْوِ ورقة مِنْهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ، وَلَا أعرف لَهُ عِلّة.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان: عَمْرو مَجْهُول الْحَال، وَبُكَيْر لَا تعلم عَدَالَته، وَوَصفه أَحْمد بِأَنَّهُ يرْوَى عَنهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ.
وَفِيه يَحْيَى بن أَيُّوب الغافقي، قَالَ الْحَاكِم فِي «الْمدْخل» : أخرج حَدِيثه جَمِيعًا عَنهُ. وَقَالَ النَّسَائِيّ فِيهِ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. ذكره فِيمَن عيب عَلَى مُسلم إِخْرَاج حَدِيثه وَضَعفه أَحْمد. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحْتَج بِهِ. قَالَ ابْن الْقطَّان: لسوء حفظه.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من حكم بَين اثْنَيْنِ تَرَاضيا بِهِ فَلم يعدل فَعَلَيهِ لعنة الله» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا يحضرني من خرَّجه من أَصْحَاب الْكتب(9/554)
الْمُعْتَمدَة وَلَا غَيرهَا، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» عَن بعض أَصْحَابهم فَقَالَ: مَسْأَلَة يَصح التَّحْكِيم خلافًا لأحد قولي الشَّافِعِي، ثمَّ لنا مَا رَوَى أَبُو بكر بن عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا من حَدِيث عبد الله بن جَراد قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من حكم بَين اثْنَيْنِ تحاكما إِلَيْهِ وارتضيا بِهِ فَلم يقل بَينهمَا بِالْحَقِّ فَعَلَيهِ لعنة الله» .
قلت: هَذَا الحَدِيث لَا يَصح للاحتجاج بِهِ؛ لِأَنَّهُ من نُسْخَة ابْن جَراد وَهِي نُسْخَة بَاطِلَة - وَقد ذكر ابْن الْجَوْزِيّ مرّة أَنَّهَا نُسْخَة مَوْضُوعَة، وَبَالغ فِي الْحَط عَلَى الْخَطِيب الْحَافِظ لما احْتج بِحَدِيث مِنْهَا. وَلما ترْجم الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» مَا جَاءَ فِي التَّحْكِيم لم يذكر فِيهِ هَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا ذكر فِيهِ حَدِيثا وَاحِدًا وَهُوَ حَدِيث أبي دَاوُد، عَن الرّبيع بن نَافِع، عَن يزِيد بن الْمِقْدَام بن شُرَيْح، عَن أَبِيه، عَن جده (شُرَيْح) عَن أَبِيه هَانِئ «أَنه لما وَفد إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَى الْمَدِينَة فسمعهم يكنونه بِأبي الحكم، فَدَعَاهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن الله هُوَ الحكم وَإِلَيْهِ يرجع الحكم فَلم تكنى أَبَا الحكم؟ قَالَ: إِن قومِي إِذا اخْتلفُوا فِي شَيْء أَتَوْنِي فحكمت بَينهم فَرضِي كلا الْفَرِيقَيْنِ. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَمَا أحسن هَذَا! فَمَا لَك من الْوَلَد؟ قَالَ: لي شُرَيْح وَمُسلم وَعبد الله. قَالَ: فَمن أكبرهم؟ قَالَ: قلت: شُرَيْح. قَالَ: فَأَنت أَبُو شُرَيْح» .(9/555)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ أَن عمر وَأبي بن كَعْب تحاكما إِلَى زيد بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل عَن عَامر قَالَ: «كَانَ بَين عمر وَأبي خُصُومَة فِي حَائِط فَقَالَ عمر بيني وَبَيْنك زيد بن ثَابت. فَانْطَلقَا فطرق عمر الْبَاب، فَعرف زيد صَوته [فَفتح الْبَاب] فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَولا بعثت إِلَيّ حَتَّى آتِيك. قَالَ فِي بَيته يُؤْتَى الحكم ... » .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى أَن عُثْمَان وَطَلْحَة تحاكما إِلَى جُبَير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا فِي الْبيُوع فِي بَاب: من قَالَ يجوز بيع الْغَائِب. من حَدِيث عبيد الله بن عبد الْمجِيد، نَا رَبَاح بن أبي مَعْرُوف، عَن ابْن أبي مليكَة «أَن عُثْمَان ابْتَاعَ من طَلْحَة بن عبيد الله أَرضًا بِالْمَدِينَةِ ناقله بِأَرْض لَهُ بِالْكُوفَةِ، فَلَمَّا تباينا نَدم عُثْمَان ثمَّ قَالَ: بِعْتُك مَا لم أره. فَقَالَ طَلْحَة: إِنَّمَا النّظر لي، إِنَّمَا ابتعت مغيبًا، وَأما أَنْت فقد رَأَيْت مَا ابتعت. فَجعلَا بَينهمَا حكما جُبَير [بن] مطعم فَقَضَى عَلَى عُثْمَان أَن البيع جَائِز، وَأَن النّظر لطلْحَة أَن ابْتَاعَ مغيبًا» . وَلما ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» حَدِيث: «من اشْتَرَى مَا لم يره فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذا رَآهُ» . وَضَعفه قَالَ: لَا أصل فِي هَذَا. ثمَّ سَاق الْأَثر الْمَذْكُور.
فَائِدَة: مَعْنَى ناقله: بادله. ومُغَيبًا: بِضَم الْمِيم وَفتح الْغَيْن(9/556)
الْمُعْجَمَة، وَفتح الْمُثَنَّاة تَحت المتعددة. وَذكر الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب حَدِيث معَاذ السالف حَيْثُ قَالَ فِي إثْبَاته: إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام اختبر معَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وَقد سلف بَيَانه وَاضحا، هَذَا آخر أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فثمانية:
أَحدهَا: «أَن عبد الله بن عمر امْتنع من الْقَضَاء لما استقضاه عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» من حَدِيث عبد الْملك - وَهُوَ ابْن جميلَة - عَن عبد الله بن موهب القَاضِي «أَن عُثْمَان قَالَ لِابْنِ عمر: اذْهَبْ فَاقْض [بَين النَّاس. قَالَ: أَو تعافيني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: فَمَا تكره من ذَلِك وَقد كَانَ أَبوك يقْضِي؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: من كَانَ قَاضِيا فَقَضَى] بِالْعَدْلِ فبالحري أَن يَنْقَلِب مِنْهُ كفافًا. فَمَا أَرْجُو بعد ذَلِك؟ !» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَيْسَ إِسْنَاده عِنْدِي بِمُتَّصِل. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: عبد الْملك بن أبي جميلَة و [عبد الله] بن موهب عَن عُثْمَان مُرْسل.
قلت: أما جَهَالَة عبد الْملك فَهِيَ كَمَا قَالَ، لَكِن ابْن حبَان ذكره فِي (ثقاته) . وَرَوَى عَن عبد الله بن موهب وَغَيره، وَعنهُ مُعْتَمر بن أبي سُلَيْمَان. وَأما الْإِرْسَال بَين عبد الله بن موهب فَلَا شكّ فِيهِ، وَقد قَالَ(9/557)
البُخَارِيّ أَيْضا: إِنَّه مُرْسل. وَأما ابْن حبَان فَخَالف وَأخرج الحَدِيث فِي «صَحِيحه» فَقَالَ: أَنا الْحسن بن سُفْيَان، نَا أُميَّة بن بسطَام، ثَنَا مُعْتَمر بن سُلَيْمَان، سَمِعت عبد الْملك بن أبي جميلَة يحدث، عَن عبد الله بن وهب «أَن عُثْمَان قَالَ لِابْنِ عمر: اذْهَبْ وَكن قَاضِيا. قَالَ: أَو تعفيني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: عزمت عَلَيْك إِلَّا ذهبت فَقضيت. قَالَ: لَا تعجل، سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: من عاذ بِاللَّه فقد عاذ بمعاذ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَإِنِّي أعوذ بِاللَّه أَن أكون قَاضِيا. قَالَ: وَمَا يمنعك وَقد كَانَ أَبوك يقْضِي؟ قَالَ: لِأَنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول [من كَانَ قَاضِيا فَقَضَى بِالْجَهْلِ كَانَ من أهل النَّار] وَمن كَانَ قَاضِيا فَقَضَى بالجور كَانَ من أهل النَّار، وَمن كَانَ قَاضِيا عَالما يقْضِي بِحَق أَو بِعدْل سَأَلَ التفلت كفافا. فَمَا أَرْجُو مِنْهُ بعد ذَا؟ !» ثمَّ قَالَ ابْن حبَان: ابْن وهب هَذَا هُوَ عبد الله بن وهب بن ربيعَة ابْن الْأسود الْقرشِي من أهل [الْمَدِينَة] رَوَى عَنهُ الزُّهْرِيّ. هَذَا كَلَامه وَعَلِيهِ بعد تَسْلِيم ثِقَة عبد الْملك اعتراضان: أَحدهمَا: إرْسَاله، كَمَا شهد بذلك التِّرْمِذِيّ وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم. ثَانِيهمَا: يُخَالف التِّرْمِذِيّ فِي إِبْدَال عبد الله بن موهب بِعَبْد الله بن وهب، وَيُمكن أَن يكون رَوَاهُ أَيْضا؛ فَإِنَّهُ رَوَى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة. وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق آخر قَالَ أَحْمد فِي «مُسْنده» : نَا [عَفَّان] نَا حَمَّاد بن سَلمَة، أَنا أَبُو سِنَان، عَن يزِيد بن موهب أَن(9/558)
عُثْمَان قَالَ لِابْنِ عمر: «اقْضِ بَين النَّاس. فَقَالَ: لَا أَقْْضِي بَين اثْنَيْنِ وَلَا [أؤم] رجلَيْنِ، أما سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: من عاذ بِاللَّه فقد عاذ بمعاذ؟ قَالَ عُثْمَان: بلَى. قَالَ: فَإِنِّي أعوذ بِاللَّه أَن تَسْتَعْمِلنِي. فأعفاه، وَقَالَ: لَا تخبر بِهَذَا أحدا» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وهرب أَبُو قلَابَة من الْقَضَاء.
هُوَ كَمَا قَالَ، قَالَ أَبُو بكر بن أبي خَيْثَمَة: نَا مُسَدّد نَا ابْن علية، عَن أَيُّوب: «لما توفّي عبد الرَّحْمَن بن أذينة ذكر أَبُو قلَابَة للْقَضَاء، فهرب حَتَّى أَتَى الشَّام فَوَافَقَ ذَلِك عزل قاضيها، فَذكر هُنَاكَ للْقَضَاء، فهرب فَلَقِيَهُ بعد ذَلِك فَقَالَ: مَا وجدت القَاضِي الْعَالم إِلَّا مثل سابح وَقع فِي الْبَحْر كم عَسى أَن يسبح حَتَّى يغرق» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وهرب الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة مِنْهُ، وَرُوِيَ أَن الشَّافِعِي أَوْصَى الْمُزنِيّ فِي مرض مَوته بِأَن لَا يتَوَلَّى الْقَضَاء، وَفرض عَلَيْهِ كتاب الرشيد بِالْقضَاءِ، فَلم يجبهُ الْبَتَّةَ، وَانْتَهَى امْتنَاع أبي عَلّي بن خيران - من أَصْحَابنَا - لما استقضاه الْوَزير ابْن الْفُرَات حَتَّى ختمت دوره بالطين أَيَّامًا. وَهُوَ كَمَا ذكر فَلَا نطول بِهِ.
الْأَثر الثَّانِي
قَالَ الرَّافِعِيّ: ذكر أَن القَاضِي الْعَادِل إِذا استقضاه أَمِير بَاغ أَجَابَهُ إِلَيْهِ، فقد سُئِلت عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عَن ذَلِك لمن استقضاه زِيَاد فَقَالَت: «إِن لم يقْض لكم خياركم قَضَى لكم شِرَاركُمْ» .
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ.(9/559)
الْأَثر الثَّالِث
أَن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أحالوا فِي الْفَتَاوَى بَعضهم عَلَى بعض مَعَ مشاهدتهم التَّنْزِيل.
وَهَذَا مَشْهُور عَنْهُم فِي عدَّة وقائع قد يطول بهَا.
الْأَثر الرَّابِع
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنه سُئِلَ عَمَّن [قتل أَله] تَوْبَة؟ [فَقَالَ مرّة: لَا. وَقَالَ مرّة: نعم.] فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: رَأَيْت فِي عَيْني الأول أَنه يقْصد الْقَتْل فقمعته، وَكَانَ الثَّانِي صَاحب وَاقعَة يطْلب الْمخْرج» .
وَهَذَا الْأَثر مَشْهُور عَنهُ وتكرر ذكره فِي تصانيف آدَاب الْمُفْتِي والمستفتي.
الْأَثر الْخَامِس وَالسَّادِس وَالسَّابِع وَالثَّامِن فِي التَّحْكِيم وَقد أسلفناه قَرِيبا فَرَاجعهَا مِنْهُ.(9/560)
بَاب أدب الْقَضَاء
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فستة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا
أَحدهَا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام [كتب] كتابا لعَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما وَجهه إِلَى الْيمن» .
هَذَا صَحِيح وَقد أسلفناه بِطُولِهِ فِي الدِّيات.
الحَدِيث الثَّانِي
[كتب أَبُو بكر لأنس كتابا] .
هَذَا صَحِيح وَقد أسلفته بِطُولِهِ فِي كتاب الزَّكَاة.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل دَار الْهِجْرَة يَوْم الِاثْنَيْنِ» .
هَذَا صَحِيح مَشْهُور عَنهُ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام من ذَلِك حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت «لم أَعقل أَبَوي قطّ إِلَّا وهما يدينان الدَّين ... » الحَدِيث بِطُولِهِ ذكره البُخَارِيّ فِي الْهِجْرَة من «صَحِيحه» فِي أوراق وَفِيه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نزل فِي بني عَمْرو بن عَوْف فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ من شهر ربيع الأول ... » .(9/561)
فَائِدَة غَرِيبَة: أخرج الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حَمْزَة الدِّمَشْقِي، نَا [يَحْيَى] بن صَالح الوحاظي، ثَنَا جَمِيع بن ثوب، نَا [أَبُو] سُفْيَان الرعيني، عَن أبي أُمَامَة قَالَ: « [كَانَ] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا يولي واليًا حَتَّى يعممه ويرخي لَهُ [عذبة] من جَانب الْأَيْمن نَحْو الْأذن» .
الحَدِيث الرَّابِع
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل يَوْم الْفَتْح وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَهُوَ من رِوَايَة مُعَاوِيَة بن عمار الدهني عَن أبي الزبير عَن جَابر.
قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِمُعَاوِيَة بَأْس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحْتَج بِهِ. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان: وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده وَإِن أخرجه مُسلم. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي التَّذْكِرَة هُوَ من حَدِيث شُعْبَة [بَاطِل،(9/562)
وَأحمد بن طَاهِر كَذَّاب، وَشعْبَة لم يحدث] عَن أبي الزبير إِلَّا بِحَدِيث وَاحِد وَهُوَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيّ» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عَفَّان، نَا حَمَّاد، نَا أَبُو الزبير، عَن جَابر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل يَوْم الْفَتْح وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء» .
فَائِدَة: قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» فِي حَدِيث أنس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام دخل مَكَّة وَعَلَى رَأسه المغفر» قَالَ: وَفِي خبر جَابر هَذَا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام دَخلهَا وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء» قَالَ: وَلم يدْخل عَلَيْهِ السَّلَام مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَهُوَ يَوْم الْفَتْح. قَالَ: وَيُشبه أَن يكون الْمُصْطَفَى [ (] فِي ذَلِك الْيَوْم كَانَ عَلَى رَأسه المغفر وَقد تعمم بعمامة سَوْدَاء فَوْقه، فَإِذا جَابر ذكر الْعِمَامَة الَّتِي عاينها وَإِذا أنس ذكر المغفر الَّذِي (رَوَاهُ) من غير أَن يكون بَين الْخَبَرَيْنِ تضَاد.
الحَدِيث الْخَامِس
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَمن الْمَشْهُور «أَنه كَانَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كُتَّاب مِنْهُم: زيد بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَهُوَ صَحِيح مَشْهُور، وَقد عَددهمْ ابْن عَسْكَر فِي «تَارِيخ دمشق» بأسانيد فَذكر مِنْهُم الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وَالزبير، وَأبي بن كَعْب، وَزيد بن ثَابت، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، وَمُحَمّد بن مسلمة،(9/563)
[وأرقم] ابْن أبي الأرقم، وَأَبَان بن سعيد بن أبي العَاصِي، وَأَخُوهُ خَالِد بن سعيد وثابت بن قيس، وحَنْظَلَة بن الرّبيع، وخَالِد بن الْوَلِيد، وَعبد الله بن الأرقم، وَعبد الله بن زيد بن عبد ربه، والْعَلَاء بن عقبَة، والمغيرة بن شُعْبَة، والسّجل، وَزَاد غَيره: شُرَحْبِيل بن حَسَنَة قَالُوا: وَكَانَ أَكْثَرهم كِتَابَة زيد بن ثَابت وَمُعَاوِيَة. وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي «تنويره» : كِتَابه سِتَّة وَعِشْرُونَ فَزَاد: يزِيد بن أبي سُفْيَان أَخا مُعَاوِيَة، ومعيقيب بن أبي فَاطِمَة، وَعَمْرو بن العَاصِي، وجهم بن الصَّلْت، وَعبد الله بن رَوَاحَة، وَعبد الله بن أبي السَّرْح، وَعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، قَالَ ابْن دحْيَة: وَكتب لَهُ رجل من بني النجار فَتَنَصَّرَ فأظهر الله لنَبيه فِيهِ معْجزَة عَظِيمَة وَدفن وَلم تقبله الأَرْض. قلت: أخرج حَدِيثه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أنس.
الحَدِيث السَّادِس
أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[قَالَ:] «أَيّمَا عَامل استعملناه وفرضنا لَهُ رزقا فَمَا أصَاب بعد رزقه فَهُوَ غلُول» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَالْحَاكِم وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ(9/564)
وَهُوَ كَمَا قَالَ لَا جرم ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن دَقِيق الْعِيد فِي آخر كتاب «الاقتراح» فِي الْقسم الرَّابِع فِي أَحَادِيث أخرج لروايتهما الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَلم يخرجَا تِلْكَ الْأَحَادِيث، وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ « [و] الَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يَأْتِي أَحدهمَا مِنْهَا بِشَيْء إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رقبته» . وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ مَرْفُوعا: «هَدَايَا الْأُمَرَاء غلُول» . وستعرف الْكَلَام عَلَى هَذَا قَرِيبا - إِن شَاءَ الله - حَيْثُ ذكره المُصَنّف.
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ، وسل سُيُوفكُمْ وَخُصُومَاتكُمْ، وَرفع أَصْوَاتكُم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من رِوَايَة مَكْحُول عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ وشراركم وَبَيْعكُمْ، وَخُصُومَاتكُمْ وَرفع أَصْوَاتكُم، وَإِقَامَة حُدُودكُمْ وسل سُيُوفكُمْ، وَاتَّخذُوا عَلَى أَبْوَابهَا الْمَطَاهِر وَجَمِّرُوهَا فِي الْجمع» .
وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف فِي إِسْنَاده الْحَارِث بن نَبهَان الْبَصْرِيّ الْجرْمِي(9/565)
وَقد ضَعَّفُوهُ قَالَ يَحْيَى لَا يكْتب حَدِيثه لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَحْمد وَالْبُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن حبَان: خرج عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ وَفِي إِسْنَاده أَيْضا عَنهُ ابْن يقظان وَقد وَثَّقَهُ بَعضهم. وَقَالَ النَّسَائِيّ: غير ثِقَة. وَقَالَ عَلّي بن الْجُنَيْد: لَا يُسَاوِي شَيْئا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي أُمَامَة وواثلة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدّم، وَذكره عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» كَذَلِك بِزِيَادَة [أبي] الدَّرْدَاء أَيْضا تبعا لِابْنِ عدي وَأَعلاهُ بِالْعَلَاءِ بن كثير الدِّمَشْقِي.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هُوَ شَامي مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ عبد الْحق: هُوَ ضَعِيف عِنْدهم. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلَا يرويهِ عَن الْعَلَاء إِلَّا [أَبُو] نعيم النَّخعِيّ كُوفِي، وَقد قَالَ فِيهِ أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ يَحْيَى: بِالْكُوفَةِ كذابان أَحدهمَا هُوَ وَالْآخر أَبُو نعيم ضرار بن صرد. قَالَ أَبُو أَحْمد: لَهُ أَحَادِيث أنْكرت عَلَيْهِ. قَالَ ابْن الْقطَّان: الْحمل فِي هَذَا الحَدِيث عَلَى الْعَلَاء وَهُوَ لَا يرويهِ عَنهُ إِلَّا هَذَا الْكذَّاب؛ ظلم لَهُ. الْحَافِظ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ القَوْل فِي تَضْعِيفه فَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن(9/566)
يَحْيَى بن الْعَلَاء، عَن معَاذ مَرْفُوعا وَلَيْسَ بِصَحِيح.
وَذكره عبد الْحق من طَرِيق الْبَزَّار من حَدِيث ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا «جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ» ثمَّ قَالَ: يرويهِ مُوسَى بن عُمَيْر، قَالَ الْبَزَّار: لَيْسَ لَهُ أصل من حَدِيث عبد الله. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا الحَدِيث وَالْكَلَام بعده لَيْسَ فِي سَنَد حَدِيث ابْن مَسْعُود من كتاب الْبَزَّار وَلَعَلَّه نَقله من بعض أَمَالِيهِ الَّتِي تقع لَهُ.
قلت: وَأخرجه أَيْضا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الله بن مُحَرر، عَن يزِيد [بن] الْأَصَم، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ» .
وَعبد الله هَالك ترك النَّاس حَدِيثه.
الحَدِيث الثَّامِن
أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ولي من أُمُور النَّاس شَيْئا فاحتجب حجبه، الله يَوْم الْقِيَامَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن يزِيد بن أبي مَرْيَم، أَن الْقَاسِم بن مخيمرة أخبرهُ أَن أَبَا مَرْيَم الْأَزْدِيّ أخبرهُ قَالَ: «دخلت عَلَى مُعَاوِيَة فَقَالَ: مَا أنعمنا بك يَا فلَان؟ - وَهِي كلمة تَقُولهَا الْعَرَب - فَقلت: حَدِيثا سمعته أخْبرك بِهِ، سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: من ولاه الله شَيْئا(9/567)
من أَمر الْمُسلمين واحتجب دون حَاجتهم وخلتهم [وفقرهم] احتجب الله تَعَالَى [عَنهُ] دون حَاجته وَخلته وَفَقره. قَالَ: فَجعل رجلا عَلَى حوائج الْمُسلمين» . ذكره أَبُو دَاوُد فِي أَوَائِل كتاب الْفِتَن والامارة وَالْخَرَاج، وَرِجَال إِسْنَاده كلهم ثِقَات، وَأخرجه أَحْمد بِنَحْوِهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح عَن أبي مَرْيَم أَيْضا قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «من ولي من أَمر الْمُسلمين شَيْئا فاحتجب دون خلتهم وحاجتهم وفقرهم [وفاقتهم] ، احتجب الله - عَزَّ وَجَلَّ - يَوْم الْقِيَامَة دون خلته وَحَاجته وفاقته وَفَقره» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَإسْنَاد شَامي صَحِيح قَالَ: وَله شَاهد بِإِسْنَاد الْبَصرِيين عَن عَمْرو بن مرّة الْجُهَنِيّ قَالَ: قلت لمعاوية بن أبي سُفْيَان: إِنِّي سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «من أغلق بَابه دون [ذَوي] الْحَاجة والخلة والمسكنة أغلق الله بَاب السَّمَاء دون خلته وَفَقره ومسكنته» وَهَذَا الشَّاهِد الَّذِي ذكره الْحَاكِم أخرجه أَحْمد بِنَحْوِهِ وَالتِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِلَفْظِهِ، وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث غَرِيب. قَالَ: وَقد رُوِيَ من غير هَذَا الْوَجْه، قَالَ: وَرُوِيَ عَن أبي مَرْيَم صَاحب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَحوه بِمَعْنَاهُ. يَعْنِي حَدِيث أبي دَاوُد الْمُتَقَدّم، وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أَبَا زرْعَة عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَرْفُوع «أَيّمَا أَمِير(9/568)
احتجب عَن النَّاس بفاقتهم، احتجب الله عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة» . قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَهَذَا فِي الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير وَخَالف الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ فِي «علله» رَوَاهُ شريك، وَاخْتلف عَنهُ فِي رَفعه وَوَقفه، وَرَوَاهُ حَفْص بن عَلّي الْمَدَائِنِي عَن شريك. وَأخرجه أَبُو نعيم فِي «الْمعرفَة» من حَدِيث أبي الشماخ [عَن ابْن عَم لَهُ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] . مَرْفُوعا بِنَحْوِ مَا تقدم.(9/569)
الحَدِيث التَّاسِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يقْضِي القَاضِي إِلَّا وَهُوَ شبعان رَيَّان» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْقَاسِم بن عَاصِم، ثَنَا مُوسَى بن دَاوُد، ثَنَا الْقَاسِم بن عبد الله الْعمريّ، ثَنَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي طوالة، عَن أَبِيه، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف بِمرَّة. قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : الْحق أَن عبد الله وأباه مَجْهُولَانِ، وَالقَاسِم بن عَاصِم مثلهمَا. وَأعله عبد الْحق بالقاسم الْعمريّ وَحده وَقَالَ: إِنَّه مَتْرُوك. وَأَخْطَأ فِي اسْم أَبِيه فَقَالَ: الْقَاسِم بن مُحَمَّد. وَإِنَّمَا هُوَ ابْن عمر الْمُتَّهم، وَقد نبه عَلَى ذَلِك ابْن الْقطَّان أَيْضا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ الْقَاسِم الْعمريّ وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ: والْحَدِيث الصَّحِيح - يَعْنِي حَدِيث أبي بكرَة [الَّذِي] قبله - يُؤَدِّي مَعْنَاهُ.
الحَدِيث الْعَاشِر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يقْضِي القَاضِي بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان» .(9/570)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح من حَدِيث أبي بكرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أخرجه ابْن مَاجَه بِهَذَا اللَّفْظ وَأخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة قَالَ: «كتب أبي وكتبت لَهُ بيَدي إِلَى ابْنه عبيد الله بن أبي بكرَة وَهُوَ وقاضٍ بسجستان: أَن [لَا تحكم بَين اثْنَيْنِ وَأَنت غَضْبَان فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول] : لَا يحكم أحد بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان» . وَفِي رِوَايَة لَهما «لَا يقضين حكم بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان» . وَفِي رِوَايَة للنسائي عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة قَالَ: كتب إليَّ أَبُو بكرَة: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَا يقضين [أحد] فِي قَضَاء بقضاءين وَلَا يقضين أحد بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان» .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمن بعده من الْأَئِمَّة كَانُوا يحكمون وَلَا يَكْتُبُونَ المحاضر والسجلات» .
هُوَ كَمَا قَالَ نعم فِي الْبَيْهَقِيّ بَاب [القَاضِي] يحكم بشي فَيكْتب للمحكوم لَهُ بمسألته كتابا. ثمَّ ذكر بِسَنَدِهِ حَدِيث أنس «أَنه دَعَا(9/571)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْأَنْصَار ليكتب لَهُم بِالْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: لَا وَالله حَتَّى تكْتب لإِخْوَانِنَا [من قُرَيْش] بِمِثْلِهَا. فَقَالَ: ذَلِك لَهُم مَا شَاءَ الله كل ذَلِك يَقُول لَهُ، فَقَالَ: إِنَّكُم سَتَرَوْنَ بعدِي أَثَرَة [فَاصْبِرُوا] حَتَّى (تروني) » . ثمَّ عزاهُ إِلَى رِوَايَة البُخَارِيّ ثمَّ رَوَاهُ حَدِيث أنس أَيْضا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أقطع الْأَنْصَار الْبَحْرين وَأَرَادَ أَن يكْتب لَهُم كتابا فَقَالُوا: لَا. .» بِمثل مَا تقدم.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
حَدِيث «الزبير والأنصاري اللَّذين اخْتَصمَا فِي شراج الْحرَّة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف وَاضحا فِي إحْيَاء الْموَات، وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ قَالَ: ذكر عَن جمَاعَة من الْأَئِمَّة مِنْهُم «الإِمَام» وَصَاحب «التَّهْذِيب» [أَن الْمَنْع] من الْقَضَاء فِي حَالَة الْغَضَب مَخْصُوص بِمَا إِذا لم يكن الْغَضَب لله تَعَالَى، فَأَما إِذا غضب لله فِي حُكُومَة وَهُوَ مِمَّن يملك نَفسه فِيمَا يتَعَلَّق بِحقِّهِ فَلَا بَأْس بِهِ؛ لحَدِيث الزبير والأنصاري حِين تخاصما فِي شراج الْحرَّة، وَقد أوردناه فِي إحْيَاء الْموَات. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلَكِن احْتج آخَرُونَ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَنه لَو قَضَى فِي حَال من الْغَضَب نفذ، وَإِن كَانَ مَكْرُوها. وَاعْترض ابْن الرّفْعَة فَقَالَ فِي «كِفَايَته» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حكم فِي حَال غَضَبه» وَفِيه نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَا نَقله عَن الإِمَام وَالْبَغوِيّ وَغَيرهمَا: أَن هَذِه الْكَرَاهَة فِيمَا إِذا لم يكن الْغَضَب لله - تَعَالَى - أما إِذا كَانَ لله - تَعَالَى - فِي الحكم، فَلَيْسَ مَنْهِيّا عَنهُ، وغضبه عَلَيْهِ السَّلَام(9/572)
هَذَا لله - تَعَالَى - فَلَا يسْتَدلّ بِحكمِهِ فِيهِ عَلَى نُفُوذه فِي غَيره، نعم. قَالَ الرَّوْيَانِيّ: لَا فرق، لِأَن الْمَحْدُود وَهُوَ عدم توفره عَلَى الْجِهَاد لَا يخْتَلف فِي القضيتين. ثَانِيهمَا: أما إِذا قُلْنَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يحكم إِلَّا عَن وَحي فَلَيْسَ غَيره مثله، وَكَذَا إِن قُلْنَا بِمذهب الْجُمْهُور أَن لَهُ أَن يجْتَهد، وَأَنه مَعْصُوم وقيه من الْخَطَأ أما إِذا جَوَّزنَا مِنْهُ لَكِن لَا يقر عَلَيْهِ فقد يحْتَج بِهِ.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لعن الله الراشي والمرتشي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا حَدِيث حسن. وَعَزاهُ صَاحب «التنقيب عَلَى الْمُهَذّب» إِلَى أبي دَاوُد، وَهُوَ غلط، وَتَبعهُ بعض العصريين الشاميين عَلَى ذَلِك فاجتنبه. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن عبد الله بن عَمْرو وَعَائِشَة وَأم سَلمَة. قَالَ ابْن مَنْدَه: وَابْن عمر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَيْضا. قَالَ التِّرْمِذِيّ: رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن عبد الله بن عَمْرو مَرْفُوعا، وَرُوِيَ عَن أبي سَلمَة عَن أَبِيه مَرْفُوعا وَلَا يَصح. قَالَ: وَسمعت عبد الله بن عبد الرَّحْمَن [يَقُول] : حَدِيث أبي سَلمَة عَن عبد(9/573)
الله مَرْفُوعا أحسن شَيْء فِي هَذَا الْبَاب وَأَصَح ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ [فِي] «علله» أَنه أشبه بِالصَّوَابِ من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : إِنَّه حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. رَوَاهُ أَيْضا - أَعنِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو - أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» . وَقَالَ ابْن الْقطَّان أَيْضا [أثْنَاء] كَلَامه عَلَى أَحْكَام عبد الْحق: إِسْنَاده صَحِيح. وَأما ابْن حزم فوهاه فَقَالَ: خبر «لعن الله الراشي والمرتشي» إِنَّمَا رَوَاهُ الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قلت: هَذَا فِي طَرِيق حَدِيث عبد الله بن عَمْرو. وَقَالَ النَّسَائِيّ فِي حق الْحَارِث: هَذَا لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقد عرفت طَرِيق أبي هُرَيْرَة السالف وَقَول التِّرْمِذِيّ: إِن فِي الْبَاب عَن جمَاعَة. وَعَن ابْن مَنْدَه أَيْضا كَمَا سلف سردهم، فَهَذِهِ سقطة من ابْن حزم، وَفِي «مُسْند أَحْمد» «وصحيح الْحَاكِم» من حَدِيث ثَوْبَان قَالَ: «لعن(9/574)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الراشي والمرتشي [والرائش] ) . يَعْنِي الَّذِي يمشي» بَينهمَا وَفِي إِسْنَاده لَيْث بن أبي سليم. قَالَ: إِنَّمَا ذكرته فِي الشواهد لَا فِي الْأُصُول وَقَالَ الْبَزَّار: [قَوْله الرائش] إِلَّا من هَذَا الْوَجْه.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «هَدَايَا الْعمَّال غلُول» .
هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن عُرْوَة بن الزبير، عَن أبي حميد رَفعه بِهِ سَوَاء، وَإِسْمَاعِيل ضَعِيف فِي رِوَايَته عَن الْحِجَازِيِّينَ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا إِلَّا أَنه قَالَ: «الْأُمَرَاء» بدل «الْعمَّال» وَلابْن شاهين مثل لفظ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَفِي إِسْنَاده يَحْيَى بن نعيم وَلَا أعرفهُ، وَمُحَمّد بن الْحسن بن بكير وَهُوَ كَذَّاب كَمَا قَالَ البرقاني، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: خلط الْجيد بالرديء فأفسده. وَلابْن عدي مثل لفظ الرَّافِعِيّ سَوَاء من حَدِيث أَحْمد بن مُعَاوِيَة الْبَاهِلِيّ، عَن النَّضر بن شُمَيْل، عَن ابْن عون، عَن مُحَمَّد، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ أَحْمد هَذَا حَدِيث بَاطِل(9/575)
وَكَانَ يسرق الحَدِيث. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى «هَدَايَا الْعمَّال سحت» .
قلت: أخرجه بِهَذَا اللَّفْظ الْخَطِيب أَبُو بكر الْحَافِظ فِي كِتَابه «تَلْخِيص الْمُتَشَابه» من حَدِيث أنس رَفعه «هَدَايَا السُّلْطَان سحت وَغُلُول» . قلت: وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِمَعْنَاهُ.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عدلت شَهَادَة الزُّور الْإِشْرَاك بِاللَّه - تَعَالَى - وتلى قَوْله تَعَالَى (فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور) الْآيَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث خريم - بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة ثمَّ رَاء مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ مثناة تَحت سَاكِنة - بن فاتك الْأَسدي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَاة الصُّبْح، فَلَمَّا انْصَرف قَامَ قَائِما، فَقَالَ: عدلت شَهَادَة الزُّور بالإشراك بِاللَّه - ثَلَاث مَرَّات - ثمَّ قَرَأَ (وَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور حنفَاء لله غير مُشْرِكين) وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك إِلَّا أَنه لم [يقل] «ثَلَاث مَرَّات» وَرِجَال إِسْنَاده كلهم مُحْتَج بهم فِي الصَّحِيح إِلَّا(9/576)
حبيب بن النُّعْمَان الْأَسدي فَلم يرو لَهُ إِلَّا (د ق) وَلَا أعرف من جرحه وَلَا من عدله. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» لَا يعرف بِغَيْر هَذَا الحَدِيث وَلَا يعرف حَاله. قلت: ثمَّ آخر اسْمه حبيب - مخفف، تَصْغِير حبيب بن النُّعْمَان الْأَسدي - لَهُ عَن أنس بن مَالك، وخريم أَيْضا أَو أَيمن بن خريم لَيْسَ لَهُ ذكر فِي الْكتب السِّتَّة فِيمَا ظهر لي، قَالَ عبد الْغَنِيّ بن سعيد فِي حَقه: لَهُ مَنَاكِير. وَقد يكونَانِ وَاحِدًا كَمَا تردد فِيهِ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» وَعَلَى هَذَا التَّقْدِير فإسناده واه؛ لِأَنَّهُ دائر بَين مَجْهُول وَضَعِيف إِلَّا زِيَاد الْكُوفِي الْعُصْفُرِي فَإِنَّهُ لَا يُدْرَى من هُوَ، وَانْفَرَدَ بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ د ق (وَقَالَ) ابْن الْقطَّان فِي حَقه: إِنَّه مَجْهُول. وَفِي «الْمِيزَان» للذهبي: زِيَاد أَبُو الورقاء الْكُوفِي الْعُصْفُرِي وَالِد سُفْيَان رَوَى عَن حُبيب - بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَالتَّخْفِيف - بن النُّعْمَان الْأَسدي عَن خريم بن فاتك، وَزِيَاد لَا يُدْرَى من هُوَ عَن مثله، رَوَى عَنهُ وَلَده سُفْيَان بن زِيَاد هَذَا الحَدِيث، وَقيل: عَن حبيب عَن أَيمن بن خريم. هَذَا كَلَامه، وَهُوَ جزم مِنْهُ بِأَنَّهُ هُوَ المخفف، قلت: وخريم بن فاتك لَهُ صُحْبَة، وَهُوَ مَشْهُور لَهُ عدَّة أَحَادِيث، وَهُوَ بَدْرِي كَمَا قَالَ البُخَارِيّ وَرَوَى هَذَا الحَدِيث أَيْضا(9/577)
التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» فِي أَبْوَاب الشَّهَادَات، وَرِوَايَة أَيمن بن خريم بن الأخرم بن شَدَّاد بن فاتك «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: [يَا] أَيهَا النَّاس، عدلت شَهَادَة الزُّور إشراكًا بِاللَّه. ثمَّ قَرَأَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور» ) . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «عدلت شَهَادَة الزُّور إشراكًا بِاللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ثَلَاثًا ... » ثمَّ ذكر الْآيَة، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب إِنَّمَا نعرفه من حَدِيث سُفْيَان بن زِيَاد - يَعْنِي: حَدِيث خريم بن فاتك السالف - قَالَ: وَقد اخْتلف فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَنهُ وَلَا نَعْرِف لأيمن بن خريم بن فاتك السالف سَمَاعا من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَذكر [غير] التِّرْمِذِيّ أَن لَهُ صُحْبَة وَأَنه رَوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حديثين اخْتلف فِي أَحدهمَا وَرجح يَحْيَى بن معِين حَدِيث خريم بن فاتك كَمَا ذكره التِّرْمِذِيّ.
الحَدِيث السَّادِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر» .
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ أَحْمد عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عبد(9/578)
الْملك [بن عُمَيْر، عَن مولَى لربعي بن حِرَاش] عَن ربعي، عَن حُذَيْفَة «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جُلُوسًا فَقَالَ: مَا أَدْرِي قدر مقَامي فِيكُم؛ فاقتدوا باللذين من بعدِي، وَأَشَارَ إِلَى أبي بكر وَعمر، وتمسكوا بِهَدي عمار وَمَا حَدثكُمْ ابْن مَسْعُود فصدقوه» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي المناقب من «جَامعه» وَابْن مَاجَه فِي كتاب السّنة من «سنَنه» من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن زَائِدَة، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن [مولَى لربعي بن حِرَاش عَن] ربعي بن حِرَاش، عَن حُذَيْفَة مَرْفُوعا بِلَفْظ أَحْمد الأول، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن سُفْيَان، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر نَحوه، ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن. قَالَ: وَكَانَ سُفْيَان يُدَلس فِي هَذَا فَرُبمَا ذكر زَائِدَة وَرُبمَا لم يذكرهُ. وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن سعد، عَن سُفْيَان، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن هِلَال مولَى ربعي، عَن ربعي، عَن حُذَيْفَة. وَعَن عَمْرو بن هرم، عَن ربعي، عَن حُذَيْفَة. وَعَن سُفْيَان، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن مولَى لربعي، عَن ربعي بِهِ. وَقَالَ: حَدِيث حسن. وَرَوَاهُ أَيْضا. عَن إِبْرَاهِيم [بن] إِسْمَاعِيل بن يَحْيَى بن سَلمَة(9/579)
بن كهيل، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن سَلمَة بن كهيل، عَن عبد الله بن هَانِئ أبي الزَّعْرَاء الأودي الْكُوفِي، عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث يَحْيَى بن سَلمَة، وَيَحْيَى مضعف الحَدِيث. وَرَوَاهُ أَبُو بكر بن شيبَة، عَن وَكِيع، عَن سَالم الْمرَادِي، عَن عَمْرو بن هرم، عَن ربعي بن حِرَاش وَأبي عبد الله، عَن رجل من أَصْحَاب حُذَيْفَة، عَن حُذَيْفَة بِهِ. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه لكنه قَالَ عَمْرو بن مرّة، عَن ربعي، عَن حُذَيْفَة قَالَ: «كُنَّا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي لأرَى مقَامي فِيكُم إِلَّا قَلِيلا، فاقتدوا باللذين من بعدِي، وَأَشَارَ إِلَى أبي بكر وَعمر واهتدوا بِهَدي عمار، وَمَا حَدثكُمْ ابْن مَسْعُود فاقبلوه» .
قلت: وَله طَرِيق آخر مُنكر، وَرَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَفعه، ثمَّ قَالَ: هَذَا ملصق بِمَالك رَوَاهُ بِهِ أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب الْبَاهِلِيّ وَأمره بَيِّنٌ ثمَّ قَالَ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» بعد أَن أخرجه من حَدِيث مَالك: هَذَا حَدِيث مُنكر لَا أصل لَهُ من حَدِيث مَالك. قَالَ: وَهُوَ يرْوَى عَن حُذَيْفَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بأسانيد جِيَاد تثبت. وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ الثَّوْريّ، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن هِلَال مولَى ربعي، عَن ربعي، عَن حُذَيْفَة مَرْفُوعا(9/580)
«اقتدوا باللذين من بعدِي ... » وَرَوَاهُ زَائِدَة وَغَيره عَن عبد الْملك، عَن ربعي، عَن حُذَيْفَة مَرْفُوعا، أَيهمَا أصح؟ قَالَ: مَا قَالَ الثَّوْريّ زَاد رجلا وجود الحَدِيث. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي فَضَائِل أبي بكر من حَدِيث حَفْص بن عمر الْأَيْلِي، عَن مسعر بن كدام، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر كَمَا تقدم [و] من حَدِيث سُفْيَان بن سعيد ومسعر عَن عبد الْملك بِهِ [و] من حَدِيث وَكِيع عَن مسعر بِهِ، وَمن حَدِيث ابْن عُيَيْنَة عَن مسعر بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث من أجل مَا رُوِيَ فِي فَضَائِل الشَّيْخَيْنِ وَيثبت بِمَا ذكرنَا صِحَّته وَإِن لم يخرجَاهُ، وَقد وجدنَا لَهُ شَاهدا [بِإِسْنَاد] صَحِيح عَن عبد الله بن مَسْعُود ... فَذكره بِإِسْنَاد مَرْفُوعا كَمَا تقدم، وَأما مُحَمَّد بن [حزم] فَإِنَّهُ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيّ عَن مولَى ربعي - مَجْهُول - وَعَن الْمفضل الضَّبِّيّ. وَلَيْسَ بِحجَّة هَذَا كَلَامه، وَقد علمت أَنه يرْوَى من غير مَا ذكره كَمَا ذكرته لَك من طرق، وَمولى ربعي قد عرفت أَنه هَالك، وَسَبقه إِلَى ذَلِك الْبَزَّار والمفضل هَذَا لَا أعلمهُ ورد فِي طَرِيق.(9/581)
الحَدِيث السَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث الْعِرْبَاض بن سَارِيَة السّلمِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَات يَوْم ثمَّ أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت مِنْهَا الْعُيُون، ووجلت مِنْهَا الْقُلُوب، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، كَأَنَّهَا موعظة مُودع فأوصنا، قَالَ: أوصيكم بتقوى الله - عَزَّ وَجَلَّ - والسمع وَالطَّاعَة، وَإِن تَأمر عَلَيْكُم عبد، وَإنَّهُ من يَعش مِنْكُم فسيرى اخْتِلَافا كثيرا فَعَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء [الرَّاشِدين] المهديين عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ، وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور، فَإِن كل بِدعَة ضَلَالَة قَالَ» التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَرُبمَا زَاد الْحَرْف والكلمة، وَفِي آخِره «فَإِن كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة» . وَقَالَ الْبَزَّار: وَهُوَ أصح إِسْنَادًا من حَدِيث حُذَيْفَة «اقتدوا باللذين من بعدِي ... » لِأَنَّهُ مُخْتَلف فِي إِسْنَاده، ومتكلم فِيهِ من أجل مولَى ربعي وَهُوَ مَجْهُول عِنْدهم. قَالَ ابْن عبد الْبر فِي كتاب الْعلم: هُوَ كَمَا قَالَ،(9/582)
حَدِيث الْعِرْبَاض ثَابت و [حَدِيث] حُذَيْفَة حسن. قَالَ: وَقد رَوَى عَن مولَى ربعي، عبد الْملك بن عُمَيْر وَهُوَ كَبِير
قلت: مَعَ ذكر ابْن حبَان لَهُ فِي الثِّقَات أَيْضا. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي أَوَائِل مُسْتَدْركه من رِوَايَة ثَوْر بن يزِيد عَن خَالِد بن معدان عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو السّلمِيّ عَن العرباص بن سَارِيَة مَرْفُوعا بِهِ ثمَّ قَالَ هَذَا حَدِيث صَحِيح لَيْسَ لَهُ عِلّة وَقد احْتج - البُخَارِيّ بِعَبْد الرَّحْمَن.
قلت: عبد الرَّحْمَن لم يخرج لَهُ أصلا. قَالَ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُمَا توهما أَنه لَيْسَ لَهُ راوٍ عَن خَالِد بن معدان غير ثَوْر بن يزِيد، وَقد رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث الْمخْرج [حَدِيثه] فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن خَالِد بن معدان. ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ عَنهُ، وَقَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ جَمِيعًا وَلَا أعرف لَهُ عِلّة. قَالَ: وَقد تَابع ضَمرَة بن حبيب خَالِد بن معدان عَلَى رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو السّلمِيّ. ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ عَنهُ. قَالَ: وَقد تَابع عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو عَلَى رِوَايَته عَن الْعِرْبَاض ثَلَاثَة من الْأَثْبَات الثِّقَات من أَئِمَّة الشَّام [مِنْهُم] : حجر بن حجر الكلَاعِي، وَيَحْيَى بن أبي المطاع الْقرشِي، ومعبد بن عبد الله بن هِشَام الْقرشِي، وَلَيْسَ الطَّرِيق إِلَيْهِ من شَرط هَذَا(9/583)
الْكتاب فتركته. قَالَ: وَقد استقصيت فِي تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث بعض الِاسْتِقْصَاء عَلَى مَا أرَى إِلَيْهِ اجتهادي وَكتب فِيهِ كَمَا قَالَ إِمَام أَئِمَّة الحَدِيث شُعْبَة فِي حَدِيث عبد الله بن عَطاء عَن عقبَة بن عَامر لما طلبه بِالْبَصْرَةِ والكوفة وَالْمَدينَة وَمَكَّة، ثمَّ عَاد الحَدِيث إِلَى شهر بن حَوْشَب فَتَركه، ثمَّ قَالَ شُعْبَة: لِأَن يَصح لي مثل هَذَا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ أحب إِلَيّ من وَلَدي ووالدي وَالنَّاس أَجْمَعِينَ. قَالَ الْحَاكِم: وَقد صَحَّ هَذَا الحَدِيث وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين. وَخَالف ابْن الْقطَّان فَقَالَ فِي «كِتَابه» حجر بن حجر لَا يعرف، وَلَا أعرف أحدا ذكره [فَأَما] عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو السّلمِيّ [فالرجل] مَجْهُول الْحَال، والْحَدِيث من أَجله لَا يَصح.
قلت قد صحّح ابْن حبَان من طريقهما، وَعبد الرَّحْمَن أشهر من حجر، فَإِنَّهُ رَوَى عَنهُ جمَاعَة، وَقد وثقهما مَعَ ابْن حبَان الْحَاكِم كَمَا سلف، وَاخْتَارَ الْبَزَّار طَريقَة يَحْيَى بن أبي المطاع، وَهُوَ ثِقَة كَمَا شهد لَهُ بذلك دُحَيْم وَالْحَاكِم وَغَيرهمَا.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ [اهْتَدَيْتُمْ] » .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لم يروه أحد من أَصْحَاب الْكتب الْمُعْتَمدَة وَله طرق.(9/584)
أَحدهَا: عَن حَمْزَة بن أبي حَمْزَة الْجَزرِي النصيببي عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَفعه: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ أَخَذْتُم بقوله اهْتَدَيْتُمْ» رَوَاهُ عبد بن حميد هَكَذَا فِي «مُسْنده» وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الْفَضَائِل، وَحَمْزَة هَذَا واهٍ، قَالَ فِيهِ ابْن معِين: لَا يُسَاوِي فلسًا. وَقَالَ البُخَارِيّ والرازي: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالنَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ أَحْمد: مطروح الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مروياته مَوْضُوعَة. وَقَالَ ابْن حبَان: ينْفَرد عَن الثِّقَات بالموضوعات حَتَّى كَأَنَّهُ كالمتعمد لَهَا، لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن جَعْفَر بن عبد الْوَاحِد الْهَاشِمِي، عَن وهب بن جرير، عَن أَبِيه، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ من اقْتَدَى بِشَيْء مِنْهَا اهْتَدَى» رَوَاهُ الْقُضَاعِي فِي مُسْند الشهَاب» وجعفر هَذَا واهٍ، قَالَ أَبُو زرْعَة: حدث بِأَحَادِيث لَا أصل لَهَا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يضع الحَدِيث وَقَالَ مرّة: مَتْرُوك وَقَالَ ابْن عدي: كَانَ يتهم بِوَضْع الحَدِيث وَكَانَ يسرقها، وَيَأْتِي بِالْمَنَاكِيرِ عَن الثِّقَات. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يقلب الْأَخْبَار فَلَا يشك أَنه كَانَ يعملها. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان: هَذَا الحَدِيث من بلايا جَعْفَر هَذَا.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن جَابر بن عبد الله مَرْفُوعا «مَا لم تُؤْتوا بِهِ من كتاب الله، وَلم يكن مني سنة، فَإلَى أَصْحَابِي فَإِنَّهُم كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ(9/585)
اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَلَى مَا نَقله الْخَطِيب فِي كتاب من رَوَى عَن مَالك من حَدِيث جميل بن يزِيد، عَن مَالك، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جَابر وَجَمِيل هَذَا لَا أعرفهُ، وَرَوَاهُ ابْن عبد الْبر فِي كتاب الْعلم من هَذَا الْوَجْه.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك بن مُزَاحم قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مثل أَصْحَابِي مثل الْملح لَا يصلح الطَّعَام إِلَّا بِهِ، وَمثل أَصْحَابِي مثل النُّجُوم لَا يهتدى إِلَّا بهَا، فَبِأَي قَول أَصْحَابِي أَخَذْتُم بِهِ اهْتَدَيْتُمْ» رَوَاهُ أَبُو ذَر عبد بن أَحْمد الْهَرَوِيّ فِي كتاب السّنة من حَدِيث منْدَل بن عَلّي، عَن جوبير بِهِ. وَهَذَا طَرِيق ضَعِيف جدًّا، منْدَل واه، وجويبر مَتْرُوك، وَالضَّحَّاك ضَعِيف، وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُنْقَطع.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن عبد الرَّحِيم بن زيد الْعمي، عَن أَبِيه، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عمر بن الْخطاب رَفعه «سَأَلت رَبِّي فِيمَا اخْتلف فِيهِ أَصْحَابِي من بعدِي، فَأَوْحَى الله إِلَيّ: يَا مُحَمَّد، أَصْحَابك عِنْدِي بِمَنْزِلَة النُّجُوم فِي السَّمَاء بَعْضهَا أَضْوَأ من بعض، فَمن أَخذ بِشَيْء مِمَّا هم عَلَيْهِ من اخْتلَافهمْ فَهُوَ عِنْدِي عَلَى هدى» وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا ومنقطع؛ فَإِن سعيد بن الْمسيب لم يسمع من عمر شَيْئا، وَعبد الرَّحْمَن ووالده ضعيفان كَمَا مر فِي أول الْكتاب فِي أثْنَاء بَاب الْوضُوء وَاضحا.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن أنس مَرْفُوعا بِهِ، رَوَاهُ الْبَزَّار فِي جُزْء لَهُ،(9/586)
وَإِسْنَاده ضَعِيف أَيْضا، فتلخص ضعف جَمِيع هَذِه الطّرق، لَا جرم قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي رسَالَته الْكُبْرَى فِي إبِْطَال الْقيَاس والتقليد وَغَيرهمَا: هَذَا خبر مَكْذُوب مَوْضُوع بَاطِل لم يَصح قطّ. قَالَ: وَقَالَ الْحَافِظ أَحْمد بن عَمْرو بن عبد الْخَالِق الْبَزَّار: سَأَلْتُم عَمَّا يرْوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا فِي أَيدي الْعَامَّة يرويهِ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «إِنَّمَا مثل أَصْحَابِي كَمثل النُّجُوم - أَو قَالَ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ - فبأيها اقتدوا اهتدوا» وَهَذَا الْكَلَام لم يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَوَاهُ عبد الرَّحِيم بن زيد الْعمي، عَن أَبِيه، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ: وَإِنَّمَا ضعف هَذَا الحَدِيث من قبل عبد الرَّحِيم؛ لِأَن أهل الْعلم سكتوا عَن الرِّوَايَة لحديثه. قَالَ: وَالْكَلَام أَيْضا مُنكر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يثبت، وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يَصح الِاخْتِلَاف بعده من الصَّحَابَة. هَذَا نَص كَلَام الْبَزَّار، وَقَالَ ابْن معِين: عبد الرَّحِيم هَذَا كَذَّاب لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
قَالَ ابْن حزم: وَرَوَاهُ أَيْضا حَمْزَة الْجَزرِي وَهُوَ سَاقِط مَتْرُوك. قَالَ: بل هُوَ مِمَّا يقطع عَلَى أَنه كذب مَوْضُوع؛ لِأَن الصَّحَابَة اخْتلفُوا فَحرم وَاحِد وحلل آخر مِنْهُم ذَلِك الشَّيْء الَّذِي حرمه صَاحبه، وَأوجب بَعضهم وأبطل غَيره مِنْهُم مَا أوجبه صَاحبه، لَو كَانَ هَذَا الْخَبَر حقًّا لكَانَتْ أَحْكَام الله - تَعَالَى - متضادة فِي الدَّين مُخْتَلفَة حَلَالا وحرامًا معَاذ الله، قد كذب هَذَا بقول الصَّادِق (وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا) قَالَ فصح أَن الِاخْتِلَاف لَيْسَ إِلَّا من عِنْد غير الله. قلت لَكِن فِي كتاب «الِاعْتِقَاد» لِلْحَافِظِ أبي بكر الْبَيْهَقِيّ بعد أَن ذكر حَدِيث أبي مُوسَى رَفعه «النُّجُوم أَمَنَة للسماء، إِذا ذهبت النُّجُوم أَتَى أهل السَّمَاء مَا(9/587)
كَانُوا يوعدون، وأصحابي أَمَنَة لأمتي فَإِذا ذهبت أَصْحَابِي أَتَى أمتِي مَا كَانُوا يوعدون» رَوَاهُ مُسلم بِمَعْنَاهُ، رُوِيَ فِي حَدِيث مَوْصُول بِإِسْنَاد غير قوي، وَفِي حَدِيث مُنْقَطع أَنه قَالَ: «مثل أَصْحَابِي كَمثل النُّجُوم فِي السَّمَاء من أَخذ بِنَجْم مِنْهَا اهْتَدَى» . قَالَ: وَالَّذِي رَوَيْنَاهُ هَاهُنَا من الحَدِيث الصَّحِيح يُؤَدِّي بعض مَعْنَاهُ.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن فَقَالَ: وَإِن كَانَ جَامِدا ألقوها وَمَا حولهَا، وَإِن كَانَ مَائِعا فأريقوه» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي كتاب الْبيُوع.
الحَدِيث الْعشْرُونَ إِلَى الحَدِيث (الثَّامِن) بعد الْعشْرين
حَدِيث النَّهْي (بعد حَدِيث) التَّضْحِيَة بالعوراء. وَقد سلف فِي بَابه.
وَحَدِيث «لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان» . وَقد سلف فِي الْبَاب.
وَحَدِيث «لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الراكد» . وَقد سلف فِي بَابه.
وَحَدِيث «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ من أجل الدافة» .(9/588)
وَحَدِيث «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سهى فَسجدَ» .
وَحَدِيث «زنَى مَاعِز فرجم» .
وَحَدِيث «بَرِيرَة عتقت فخيرت» .
وَحَدِيث «إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر ... .» الحَدِيث. وكل هَذِه الْأَحَادِيث سلفت فِي مواطنها.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا أَنا بشر وَإِنَّكُمْ تختصمون إليَّ، ولعلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض فأقضي لَهُ عَلَى نَحْو مَا أسمع، فَمن قضيت لَهُ بِشَيْء من حق أَخِيه فَلَا يَأْخُذهُ، وَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من حَدِيث أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. وَفِي رِوَايَة لَهما «أَنه سمع جلبة خصومات فِي حجرته فَخرج إِلَيْهِم فَقَالَ: إِنَّمَا أَنا بشر ... .» الحَدِيث، وَفِي آخِره «فَمن قضيت لَهُ بِحَق مُسلم فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَة من النَّار فليحملها أَو يذرها» . وَفِي رِوَايَة لَهما فَمن قضيت لَهُ من [حق] أَخِيه شَيْئا فَلَا(9/589)
يَأْخُذهُ» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد «فَبَكَى الرّجلَانِ وَقَالَ كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه حَقي لَك، فَقَالَ لَهما النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أما إِذْ فعلتما لذَلِك فاقتسما (فَتَوَخَّيَا) الْحق ثمَّ اسْتهمَا ثمَّ تحاللا» وَفِي رِوَايَة [لَهُ] «يختصمان فِي مَوَارِيث وَأَشْيَاء قد درست، قَالَ: قَالَ: فَأَنا أَقْْضِي ببينكما برأيي مَا لم ينزل عَلّي فِيهِ» .
ذكر هَذِه [الرِّوَايَة] وَالَّتِي قبلهَا صَاحب الْإِلْمَام فِي «إلمامه» قَالَ فِي إسنادهما أُسَامَة بن زيد.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا نحكم بِالظَّاهِرِ، وَالله يتَوَلَّى السرائر» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا أعلم من خرجه من أَصْحَاب الْكتب الْمُعْتَمدَة وَلَا غَيرهَا، وَسُئِلَ عَنهُ حَافظ زَمَاننَا جمال الدَّين الْمزي فَقَالَ: لَا أعرفهُ. وَقَالَ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» بَاب الحكم بِالظَّاهِرِ. ثمَّ أورد حَدِيث «إِنَّمَا أَنا بشر ... » وَقد أوردهُ الرَّافِعِيّ قبل هَذَا.(9/590)
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي قصَّة الْمُلَاعنَة: «لَو كنت راجمًا أحدا من غير بَيِّنَة رجمتها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بِلَفْظ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي هَذَا الْمَعْنى قصَّة الْمُلَاعنَة: «اللَّهُمَّ بَيِّن. فَوَضَعته شَبِيها [بِالرجلِ] الَّذِي ذكر زَوجهَا أَنه وجده عِنْدهَا. ثمَّ قَالَ رجل لِابْنِ عَبَّاس فِي الْمجْلس: (هِيَ) هِيَ الَّتِي قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَو رجمت أحدا بِغَيْر بَيِّنَة رجمت هَذِه. قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا، تِلْكَ امْرَأَة كَانَت تظهر فِي الْإِسْلَام السوء.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
عَن سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمين» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: واشتهر أَن سُهَيْل بن أبي صَالح رَوَى هَذَا الحَدِيث، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة، وسَمعه مِنْهُ ربيعَة، ثمَّ إِنَّه اخْتَلَّ حفظه لشجة أَصَابَته فَكَانَ يَقُول: أَخْبرنِي ربيعَة أَنِّي أخْبرته عَن أبي هُرَيْرَة. هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أخرج الحَدِيث الشَّافِعِي وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ(9/591)
وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، عَن سُهَيْل بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب. قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ الرّبيع: أَنا الشَّافِعِي عَن الدَّرَاورْدِي قَالَ: فَذكرت ذَلِك لسهيل فَقَالَ: أَخْبرنِي ربيعَة - وَهُوَ عِنْدِي ثِقَة - أَنِّي حدثته إِيَّاه وَلَا أحفظه، فَكَانَ سُهَيْل يحدثه بعد، عَن ربيعَة عَنهُ، عَن أَبِيه. قَالَ عبد الْعَزِيز - يَعْنِي الدَّرَاورْدِي -: قد أصَاب سهيلاً عِلّة أذهبت [بعض] عقله، وَنسي بعض حَدِيثه. وَقَالَ سُلَيْمَان بن بِلَال: لقِيت سهيلاً فَسَأَلته، فَقَالَ: لَا أعرفهُ فَقلت: إِن ربيعَة أَخْبرنِي [بِهِ] عَنْك [قَالَ] : إِن كَانَ ربيعَة أخْبرك عني فَحدث [بِهِ] عَن ربيعَة عني. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ عَن سُهَيْل أَيْضا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن العامري، وَهُوَ مدنِي ثِقَة. قَالَ: وَرَوَاهُ (مُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن) عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث عُثْمَان بن الحكم عَن زُهَيْر [بن] مُحَمَّد، عَن سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، عَن زيد بن ثَابت، قَالَ الْبَيْهَقِيّ نقلا عَن أَحْمد بن حَنْبَل: لَيْسَ(9/592)
فِي هَذَا الْبَاب - يَعْنِي قضي بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِد - حَدِيث أصح من حَدِيث الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ فِي «خلافياته» نقلا عَن الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث عندنَا مَحْفُوظ من حَدِيث سُهَيْل بن أبي صَالح إِذْ حفظ عَنهُ إِمَام حَافظ متقن مثل ربيعَة بن [أبي] عبد الرَّحْمَن، وَقد يحدث الْمُحدث الثبت بِالْحَدِيثِ ثمَّ ينساه. وَقد رُوِيَ الحَدِيث أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن العامري، وَمُحَمّد بن زيد الْمَكِّيّ، عَن سُهَيْل بِمثل رِوَايَة ربيعَة عَنهُ، ثمَّ ذكر حَدِيث الْمُغيرَة عَن أبي الزِّنَاد الْمُتَقَدّم، وَنقل عَن يَحْيَى بن [معِين] أَن أسناده مَحْفُوظ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا حَيْثُ رَوَاهُ سُهَيْل عَن أَبِيه عَنهُ مَرْفُوعا، فَقَالَا: هُوَ صَحِيح. قلت: فَإِن بَعضهم يرويهِ عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن زيد بن ثَابت. قَالَا: وَهَذَا أَيْضا صَحِيح. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر من «علله» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث زيد بن ثَابت فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَعُثْمَان بن الحكم - يَعْنِي الَّذِي فِي إِسْنَاد حَدِيث زيد بن ثَابت - لَيْسَ بالمتقن. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر مِنْهَا: سَأَلت أبي هَل يَصح حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا؟ فَوقف وَقْفَة فَقَالَ ترَى الدَّرَاورْدِي مَا يَقُول؟ - يَعْنِي قَوْله قلت لسهيل فَلم يعرفهُ - قلت: [فَلَيْسَ] نِسْيَان(9/593)
سُهَيْل دافعًا لما حَكَاهُ [عَنهُ] ربيعَة، وَرَبِيعَة ثِقَة وَالرجل يحدث بِالْحَدِيثِ وينسى. قَالَ: أجل هَكَذَا هُوَ، وَلَكِن لم نرَى أَن يتبعهُ متابع عَلَى رِوَايَته، وَقد رَوَى عَن سُهَيْل جمَاعَة كَثِيرَة لَيْسَ عِنْد أحد مِنْهُم هَذَا الحَدِيث. قلت: إِنَّه يَقُول بِخَبَر الْوَاحِد؟ قَالَ: أجل غير أَنِّي لَا أرَى هَذَا الحَدِيث أصلا عَن أبي هُرَيْرَة أعتبر بِهِ، وَهَذَا أصل من الْأُصُول لم يُتَابع عَلَيْهِ ربيعَة. هَذَا آخر كَلَامه، وَقد أسلفنا أَنه رَوَاهُ غير وَاحِد عَن سُهَيْل كَرِوَايَة ربيعَة عَنهُ، قَالَ الْخَطِيب: تَابع ربيعَة عَلَى رِوَايَته مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن يزْدَاد العامري، وَمُحَمّد بن زِيَاد الْمَدِينِيّ فَرَوَاهُ عَن سُهَيْل كَذَلِك، وَرَوَى أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن بِلَال وَأبي أويس وَحَمَّاد بن سَلمَة جَمِيعًا عَن سُهَيْل بِهِ - مثل قَول ربيعَة - وَرَوَاهُ أَبُو سعيد النقاش فِي كتاب الشُّهُود من حَدِيث الْوَلِيد بن عَطاء، عَن عبد الله بن عبد الْعَزِيز، نَا سعيد بن أبي سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ: الثَّانِي أَكثر طرقًا وَأَصَح نقلا وَالْأول وهم من زُهَيْر بن مُحَمَّد.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى أَن يجلس الخصمان بَين يَدي القَاضِي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُصعب(9/594)
بن ثَابت [بن] عبد الله بن الزبير، عَن جده عبد الله بن الزبير قَالَ: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن الْخَصْمَيْنِ يقعدان بَين يَدي القَاضِي» . وَمصْعَب هَذَا ضَعَّفُوهُ، قَالَ يَحْيَى: ضَعِيف. وَقَالَ الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بِهِ. ووهاه ابْن حبَان وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث مُصعب بن ثَابت بن عبد الله بن الزبير، عَن أَبِيه «أَن أَبَاهُ عبد الله بن الزبير كَانَت بَينه وَبَين أَخِيه عَمْرو بن الزبير خُصُومَة فَدخل عبد الله بن الزبير عَلَى سعيد بن الْعَاصِ وَعَمْرو بن الزبير مَعَه عَلَى السرير، فَقَالَ سعيد لعبد الله: هَاهُنَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ سعيد: قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَسنة رَسُول الله أَن الْخَصْمَيْنِ يقعدان بَين يَدي الْحَاكِم» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قلت: لَا؛ لأجل مُصعب فقد علمت حَاله، ثمَّ اعْلَم أَن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى قعُود الْخَصْمَيْنِ بَين يَدي القَاضِي، وَقد علمت مَا فِيهِ، فيستدل لَهُ إِذن بِحَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه السالف فِي بَاب الْقَضَاء، وَهُوَ الحَدِيث الرَّابِع فَتَأَمّله.
(فَائِدَة) : فِي «المعجم الْكَبِير» للطبراني من حَدِيث زُهَيْر، نَا عباد بن كثير، عَن أبي عبد الله، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أم سَلمَة رفعته «من ابْتُلِيَ بِالْقضَاءِ بَين الْمُسلمين فليعدل بَينهم فِي لحظه وإشارته ومقعده ومجلسه وَبِه قَالَ من ابْتُلِيَ بِالْقضَاءِ بَين الْمُسلمين فَلَا يرفع صَوته(9/595)
عَلَى أحد الْخَصْمَيْنِ مَا لَا يرفع عَلَى الآخر» .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه جلس بِجنب شُرَيْح فِي خُصُومَة لَهُ مَعَ يَهُودِيّ، فَقَالَ: لَو كَانَ خصمي مُسلما جَلَست مَعَه بَين يَديك، وَلَكِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا تساووهم فِي الْمجَالِس» .
هَذَا كَذَا أوردهُ صَاحب «الْحَاوِي» و «الشَّمَائِل» وَغَيرهمَا، وَضعف صَاحب «الْحَاوِي» إِسْنَاده، وَقد أخرجه كَذَلِك ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» فِي الْمَرَض من حَدِيث أبي سمير حَكِيم بن خزام، نَا الْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ قَالَ: «عرف عَلّي درعًا لَهُ مَعَ يَهُودِيّ فَقَالَ: يَا يَهُودِيّ، دِرْعِي سَقَطت مني يَوْم كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ الْيَهُودِيّ: مَا أَدْرِي مَا تَقول، دِرْعِي وَفِي يَدي، بيني وَبَيْنك قَاضِي الْمُسلمين - يَعْنِي فمضيا إِلَى شُرَيْح - فَلَمَّا رَآهُ شُرَيْح قَامَ لَهُ عَن مَجْلِسه وَجلسَ عَلّي، ثمَّ أقبل عَلَى شُرَيْح فَقَالَ: إِن خصمي لَو كَانَ مُسلما جَلَست مَعَه بَين يَديك، وَلَكِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول لَا تساووهم فِي الْمجَالِس، وَلَا تعودوا مرضاهم، وَلَا تشيعوا جنائزهم، واضطروهم إِلَى أضيق الطّرق، فَإِن سبوكم فاضربوهم، وَإِن ضربوكم فاقتلوهم. ثمَّ قَالَ: دِرْعِي عرفتها مَعَ هَذَا الْيَهُودِيّ. فَقَالَ شُرَيْح لِلْيَهُودِيِّ: مَا تَقول؟ فَقَالَ: دِرْعِي وَفِي يَدي. فَقَالَ شُرَيْح: صدقت وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّهَا لدرعك، وَلَكِن لابد من شَاهِدين. فَدَعَا قنبرًا فَشهد لَهُ، ثمَّ دَعَا الْحسن فَشهد لَهُ، فَقَالَ شُرَيْح: أما شَهَادَة مَوْلَاك فقد أجزتها، وَأما شَهَادَة ابْنك فَلَا أرَى أَن أجيزها. فَقَالَ(9/596)
عَلّي: ناشدتك الله أسمعت عمر بن الْخطاب يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[يَقُول] إِن الْحسن وَالْحُسَيْن سيدا شباب أهل الْجنَّة قَالَ: قَالَ اللَّهُمَّ نعم قَالَ فَلم لَا تجيز شَهَادَة شباب أهل الْجنَّة وَالله لتأتين إِلَيّ بانقيا ثمَّ لتقضين بَينهم أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ سلم الدرْع إِلَى الْيَهُودِيّ، فَقَالَ الْيَهُودِيّ: أَمِير الْمُؤمنِينَ مَشَى معي إِلَى قاضيه فَقَضَى عَلَيْهِ فَرضِي بِهِ، صدقت وَالله، إِنَّهَا لدرعك سَقَطت مِنْك [يَوْم] كَذَا وَكَذَا عَن جمل لَك أَوْرَق فالتقطها، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَقَالَ عَلّي: هَذَا الدرْع لَك وَهَذِه الْفرس لَك. وفرص لَهُ تِسْعمائَة، ثمَّ لم يزل مَعَه حَتَّى قتل يَوْم صفّين» ثمَّ قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، تفرد بِهِ أَبُو [سمير] قَالَ البُخَارِيّ وَابْن عدي: هُوَ مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث.
قلت: وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «الكنى» : أَبُو سمير هَذَا مُنكر الحَدِيث. ثمَّ أورد لَهُ هَذَا الحَدِيث بسياقة ابْن الْجَوْزِيّ سَوَاء، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر الحَدِيث. وَقد سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جارًا لَهُ يهوديًّا، وَنَهَى عَن قتل الْمعَاهد فضلا عَن الْمُشرك إِلَّا بِحقِّهِ وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» : إِسْنَاده مَجْهُول وَلَا يعرف إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. انْتَهَى. وَأَبُو سمير هَذَا اسْمه حَكِيم بن خزام، وَقد أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من وَجه آخر من حَدِيث جَابر، عَن الشّعبِيّ قَالَ: «خرج عَلّي(9/597)
بن [أبي] طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إِلَى السُّوق، فَإِذا هُوَ بنصراني يَبِيع درعًا فَعرف عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الدرْع فَقَالَ: هَذَا دِرْعِي بيني وَبَيْنك قَاضِي الْمُسلمين. قَالَ - وَكَانَ قَاضِي الْمُسلمين شُرَيْح، كَانَ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه استقضاه - فَلَمَّا رَأَى شُرَيْح أَمِير الْمُؤمنِينَ قَامَ من مجْلِس الْقَضَاء، وأجلس عليَّا فِي مَجْلِسه وَجلسَ شُرَيْح [قدامه] إِلَى جنب النَّصْرَانِي، فَقَالَ لَهُ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أما يَا شُرَيْح لَو كَانَ خصمي مُسلما لقعدت مَعَه مجْلِس الْخصم، وَلَكِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا تصافحوهم وَلَا تبدؤهم بِالسَّلَامِ، وَلَا تعودوا مرضاهم، وَلَا تصلوا عَلَيْهِم، وألجؤهم إِلَى مضايق الطّرق، وصغروهم كَمَا صغرهم الله اقْضِ بيني وَبَينه يَا شُرَيْح. فَقَالَ شُرَيْح: [تَقول] يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ فَقَالَ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه [هَذِه] دِرْعِي ذهبت مني مُنْذُ زمَان. فَقَالَ شُرَيْح: مَا تَقول يَا نَصْرَانِيّ؟ قَالَ: فَقَالَ النَّصْرَانِي: مَا أكذب أَمِير الْمُؤمنِينَ الدرْع هِيَ دِرْعِي. قَالَ: فَقَالَ شُرَيْح: مَا أرَى أَن تخرج من يَده فَهَل من بَيِّنَة؟ فَقَالَ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: صدق شُرَيْح. قَالَ: فَقَالَ النَّصْرَانِي: أما أَنا أشهد أَن هَذِه أَحْكَام الْأَنْبِيَاء، أَمِير الْمُؤمنِينَ يَجِيء [إِلَى] قاضيه وقاضيه يقْضِي عَلَيْهِ، وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ درعك اتبعتك بَين الْجَيْش، وَقد زَالَت عَن جملك الأورق فأخذتها، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله. فَقَالَ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أما إِذا أسلمت فَهِيَ لَك. وَحمله عَلَى فرس عَتيق. قَالَ: فَقَالَ الشّعبِيّ: فَلَقَد رَأَيْته يُقَاتل الْمُشْركين» وَفِي رِوَايَة لَهُ «لَوْلَا أَن خصمي نَصْرَانِيّ لجثيت بَين يَديك» وَقَالَ فِي آخِره «فَوَهَبَهَا عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لَهُ وَفرض لَهُ أَلفَيْنِ، وَأُصِيب مَعَه يَوْم صفّين» وَفِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث(9/598)
ضعفاء أَوَّلهمْ أسيد - بِفَتْح الْهمزَة - بن زيد بن نجيح الْجمال - بِالْجِيم - الْهَاشِمِي، قَالَ يَحْيَى: هُوَ كَذَّاب. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي عَن الثِّقَات الْمَنَاكِير ويسوق الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَرَوَى [عَنهُ] البُخَارِيّ مَقْرُونا بِعَمْرو بن ميسرَة الْكُوفِي.
الثَّانِي عَمْرو بن شمر الْجعْفِيّ وَهُوَ ضَعِيف جدًّا. قَالَ السَّعْدِيّ: زائغ كَذَّاب.
الثَّالِث: جَابر الْجعْفِيّ، وَقد تقدم أَقْوَال الْأَئِمَّة [فِيهِ] وَفِي عَمْرو بن شمر فِيمَا مَضَى من كتَابنَا هَذَا. د
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث من وَجه آخر ضَعِيف عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ. فَأَشَارَ إِلَى الطَّرِيقَة السالفة، لَا جرم، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : هَذَا الحَدِيث لم أجد لَهُ إِسْنَادًا يثبت.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يضيف أحدكُم أحد الْخَصْمَيْنِ إِلَّا أَن يكون خَصمه مَعَه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن(9/599)
الْحسن قَالَ: «نزل عَلَى عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رجل وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، ثمَّ قدم خصما لَهُ فَقَالَ لَهُ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أخصم أَنْت؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فتحول فَإِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن نضيف الْخصم إِلَّا وَمَعَهُ خَصمه» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده ضَعِيف. قَالَ: وَقد تَابعه أَبُو مُعَاوِيَة وَغَيره عَن إِسْمَاعِيل بِمَعْنَاهُ هَكَذَا. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن قيس بن الرّبيع، عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن الْحسن قَالَ: «حَدثنَا رجل نزل عَلَى عَلّي بِالْكُوفَةِ [فَأَقَامَ عِنْده] أَيَّامًا ثمَّ ذكر خُصُومَة لَهُ فَقَالَ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه تحول عَن منزلي؛ فَإِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن ينزل الْخصم إِلَّا وَمَعَهُ خَصمه» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وقرأت فِي كتاب ابْن خُزَيْمَة، عَن مُوسَى بن سهل الرَّمْلِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الرَّمْلِيّ، عَن الْقَاسِم بن غُصْن، عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن أبي حَرْب بن أبي الْأسود الديلِي، عَن أَبِيه، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يضيف الْخصم إِلَّا وخصمه مَعَه» .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
«أَن أعرابيًّا شهد عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِرُؤْيَة الْهلَال فَسَأَلَ عَن إِسْلَامه وَقبل شَهَادَته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف بَيَانه فِي كتاب الصّيام وَاضحا.
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
«إِن أول من فرق الشُّهُود دانيال النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شهد عِنْده بِالزِّنَا عَلَى امْرَأَة ففرقهم وسألهم، فَقَالَ أحدهم: زنت بشاب تَحت شَجَرَة كمثرى. وَقَالَ(9/600)
الآخر: تَحت شَجَرَة تفاح. فَعرف كذبهمْ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي إِدْرِيس فِي قصَّة سوسن قَالَ: «كَانَ دانيال عَلَيْهِ السَّلَام أول من فرق بَين الشُّهُود، فَقَالَ لأَحَدهمَا: مَا الَّذِي [رَأَيْت] وَمَا الَّذِي شهِدت؟ قَالَ: أشهد بِاللَّه أَنِّي رَأَيْت سوسن تَزني فِي الْبُسْتَان بِرَجُل. قَالَ: فِي أَي مَكَان؟ قَالَ: تَحت شَجَرَة كمثرى. ودعا الآخر قَالَ: بِمَ تشهد؟ قَالَ: أشهد أَنِّي رَأَيْت سوسن تَزني بالبستان تَحت شَجَرَة التفاح. قَالَ: فَدَعَا الله عَلَيْهَا فَجَاءَت من السَّمَاء نَار فأحرقتهما وَأَبْرَأ الله سوسن» .
فَائِدَة: دانيال هَذَا يُقَال فِيهِ دانيا - بِحَذْف اللَّام - كَمَا حَكَاهُ صَاحب الْعين، وَإِن كَانَ خلاف الْمَشْهُور، وَهُوَ مِمَّن آتَاهُ الله الْحِكْمَة والنبوة، وَكَانَ فِي أَيَّام بخْتنصر، قَالَ أهل التَّارِيخ: أسره بخْتنصر مَعَ من أسره وحبهم، ثمَّ رَأَى بخْتنصر رُؤْيا أفزعتهم وَعجز النَّاس عَن تَفْسِيرهَا فَفَسَّرَهَا دانيال فَأَعْجَبتهُ فَأَطْلقهُ وأكرمه، وقبره بنهر السوس. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فخمسة عشر
الأول: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما بعث ابْن مَسْعُود قَاضِيا عَلَى الْكُوفَة كتب لَهُ كتابا» .
وَلَا يحضرني الْآن.(9/601)
ثَانِيهَا: «أَن أَبَا بكر كَانَ يَأْخُذ من بَيت المَال كل يَوْم دِرْهَمَيْنِ» .
وَلَا يحضرني كَذَلِك، نعم فِي البُخَارِيّ فِي بَاب رزق الْحَاكِم والعاملين عَلَيْهَا مَا نَصه «وَأكل أَبُو بكر وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما» وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» فِي أَبْوَاب قسم الْفَيْء وَالْغنيمَة من حَدِيث الْحسن «أَن أَبَا بكر الصّديق خطب ... » فَذكرهَا ثمَّ قَالَ: «فَلَمَّا أصبح غَدا إِلَى السُّوق فَقَالَ لَهُ عمر: أَيْن تُرِيدُ؟ قَالَ: السُّوق. قَالَ: قد جَاءَك مَا يشغلك عَن السُّوق. قَالَ: سُبْحَانَ الله، يشغلني عَن عيالي. قَالَ: تفرض بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ: وَيْح عمر، إِنِّي أَخَاف أَن لَا يسعني أَن آكل من هَذَا المَال شَيْئا [قَالَ] : فأنفق فِي سنتَيْن وَبَعض أُخْرَى ثَمَانِيَة آلَاف، ثمَّ أَوْصَى بردهَا بعد مَوته فَردَّتْ، فَقَالَ عمر: رحم الله أَبَا بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شَدِيدا» .
الثَّالِث: «أَن عمر كَانَ يرْزق شريحًا كل شهر مائَة دِرْهَم» .
وَلَا يحضرني هَذَا كَذَا، نعم فِي البُخَارِيّ فِي بَاب رزق الْحَاكِم والعاملين عَلَيْهَا مَا نَصه «كَانَ شُرَيْح يَأْخُذ عَلَى الْقَضَاء أجرا» .
الرَّابِع: عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ «فِي قَوْله تَعَالَى (وشاورهم فِي الْأَمر) قَالَ: كَانَ (غَنِيا عَن مشاورتهم، وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك أَن يستن الْحُكَّام بعد هَذَا الْأَمر» .(9/602)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث سعيد بن مَنْصُور، عَن سُفْيَان، عَن ابْن شبْرمَة، عَنهُ «فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ «وشاورهم فِي الْأَمر» قَالَ: علم الله سُبْحَانَهُ أَنه مَا بِهِ إِلَيْهِم من حَاجَة وَلَكِن أَرَادَ أَن يستن من بعده» . قَالَ الشَّافِعِي: أَنا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: «مَا رَأَيْت أحدا قطّ كَانَ أَكثر مُشَاورَة لأَصْحَابه من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس عَن (وشاورهم) قَالَ: «أَبُو بكر وَعمر» . وروينا فِي آدَاب الصُّحْبَة لأبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ من حَدِيث مخلد بن يزِيد، عَن عباد بن كثير، عَن ابْن طَاوس، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «لما نزلت هَذِه الْآيَة (وشاورهم فِي الْأَمر) . قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن الله وَرَسُوله غنيان عَنْهَا وَلَكِن [جعلهَا الله] رَحْمَة فِي أمتِي، فَمن شاور، مِنْهُم لم يعْدم رشدا وَمن ترك المشورة مِنْهُم لم يعْدم غيًا» .
الْخَامِس: عَن شُرَيْح أَنه قَالَ: «اشْترط عليَّ عمر حِين ولاَّني الْقَضَاء أَن لَا أبيع وَلَا أبتاع وَلَا أَقْْضِي وَأَنا غَضْبَان» .(9/603)
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه عَنهُ.
السَّادِس: عَن مَالك، عَن يَحْيَى بن سعيد قَالَ: سَمِعت الْقَاسِم بن مُحَمَّد يَقُول: «أَتَت امْرَأَة إِلَى عبد الله بن عَبَّاس فَقَالَت: إِنِّي نذرت أَن أنحر ابْني. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تنحري ابْنك وكفري عَن يَمِينك. فَقَالَ شيخ عِنْده جَالس: كَيفَ يكون فِي هَذَا كَفَّارَة؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِن الله يَقُول: (وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم) ثمَّ جعل فِيهِ من الْكَفَّارَات مَا قد رَأَيْت» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» عَن مَالك.
السَّابِع: عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَالَ فِي الْكَلَالَة: أَقُول فِيهَا برأيي إِن كَانَ صَوَابا فَمن الله وَإِن كَانَ خطأ فمني واستغفر الله» .
هَذَا الْأَثر مَشْهُور عَنهُ، وَمِمَّنْ ذكره أَبُو الطّيب الزَّمَخْشَرِيّ [وَغَيره] قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرَوَى مثله فِي وقائع مُخْتَلفَة عَن عَلّي وَعمر وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. قَالَ: وخالفت الصَّحَابَة أَبَا بكر فِي الْحَد، وَعمر فِي الشّركَة.
الثَّامِن: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه كَانَ يفاضل بَين الْأَصَابِع فِي الدِّيات لتَفَاوت مَنَافِعهَا حَتَّى رَوَى لَهُ فِي الْخَبَر التَّسْوِيَة بَينهَا فنقض حكمه» .
هَذَا الْأَثر مَشْهُور عَنهُ، رَوَى الشَّافِعِي فِي «مُسْنده» عَن سُفْيَان(9/604)
وَعبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب «أَن عمر بن الْخطاب قَضَى فِي الْإِبْهَام بِخمْس عشرَة، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا بِعشر وَفِي الْوُسْطَى بِعشر، وَفِي الَّتِي تلِي الْخِنْصر بتسع، وَفِي الْخِنْصر بست» وَإِنَّمَا رجعوه عَنهُ فَحَكَى أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ فِي «المعالم» عَن سعيد بن الْمسيب «أَن عمر كَانَ يَجْعَل فِي الْإِبْهَام خَمْسَة عشر ... » وَقد ذكر مَا قدمنَا قَالَ: «وَفِي الْخِنْصر سِتا، حَتَّى وجد كتابا عِنْد عَمْرو بن حزم عَن رَسُول الله أَن الْأَصَابِع كلهَا سَوَاء، فَأخذ بِهِ» وَلم يذكر الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي الرسَالَة رُجُوعه بل مَا قدمْنَاهُ عَنهُ فِي «الْمسند» ثمَّ قَالَ: «وَفِي كل إِصْبَع مِمَّا هُنَالك عشر من الْإِبِل» صَارُوا إِلَيْهِ، وَلم يقبلُوا إِلَى عَمْرو بن حزم حَتَّى يثبت لَهُم أَنه كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بتقوى الله.
التَّاسِع: عَنهُ أَيْضا «أَنه كتب إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لَا [يمنعك] قَضَاء قَضيته ثمَّ راجعت فِيهِ نَفسك فهديت لرشده أَن تنقضه، فَإِن الْحق قديم لَا ينْقضه شَيْء، وَالرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَهُوَ كتاب مَعْرُوف مَشْهُور لابد للفقهاء من مَعْرفَته وَالْعَمَل بِهِ، وَقَالَ ابْن حزم بعد أَن سَاقه من طَرِيقين: وَفِيه إِثْبَات الْقيَاس، لَا يَصح؛ لِأَن فِي سَنَده عبد(9/605)
الْملك بن الْوَلِيد بن معدان، وَهُوَ كُوفِي مَتْرُوك سَاقِط بِلَا خلاف ومجهول قَالَ: وَطَرِيقه الآخر فِيهِ مَجَاهِيل وَانْقِطَاع. قَالَ: فَبَطل القَوْل بِهِ جملَة.
الْعَاشِر: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه نقض قَضَاء شُرَيْح بِأَن شَهَادَة الْمولى لَا تقبل بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ وَهُوَ أَن ابْن الْعم لَا تقبل شَهَادَته مَعَ أَنه أقرب من الْمولى» .
هَذَا لَا يحضرني من خرجه عَنهُ.
الْحَادِي عشر: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «إِذْ حكم بحرمان الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ فِي الشّركَة، ثمَّ شرك بعد ذَلِك، وَقَالَ: ذَلِك عَلَى مَا قضينا وَلِهَذَا مَا نقض. وَلم ينْقض قَضَاءَهُ الأول» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا من حَدِيث الحكم بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ قَالَ: شهِدت عمر بن الْخطاب أشرك الْإِخْوَة من الْأَب [والام] مَعَ الْإِخْوَة من الْأُم فِي الثُّلُث، فَقَالَ لَهُ رجل: لقد قضيت عَام أول بِغَيْر هَذَا. قَالَ: [فَكيف] قضيت؟ قَالَ: جعلته للإخوة من الْأُم وَلم تجْعَل للإخوة من الْأَب وَالأُم شَيْئا، قَالَ: تِلْكَ مَا قضينا» وَهَذِه عَلَى مَا قضينا وَوَقع فِي «الْوَسِيط» للغزالي هَذَا الْأَثر معكوسًا(9/606)
فَقَالَ: «قَضَى بِإِسْقَاط الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ فِي مَسْأَلَة الشّركَة بعد أَن شرك فِي الْعَام الأول، وَكَذَا وَقع فِي «النِّهَايَة» قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ سَهْو قطعا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْعَكْس شرك بعد أَن لم يُشْرك. كَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» وَالنَّاس.
قلت: وَوَقع فِي بَحر الرَّوْيَانِيّ أَنه رَوَى «أَن عمر شرك بَين الْأَخ من الْأَب وَالأُم، وَبَين أَوْلَاد الْأُم، ثمَّ رَجَعَ فِي الإنتهاء، فَقَالَ الْإِخْوَة من الْأَب وَالأُم: هَب أَن أَبَانَا كَانَ حمارا أَلسنا من أم وَاحِدَة؟ ! فشرك» وَهَذَا إِن صَحَّ يجمع بِهِ من كل من الرِّوَايَتَيْنِ السالفتين، نبه عَلَيْهِ ابْن الرّفْعَة فِي كتاب «الْفَرَائِض» .
الثَّانِي عشر: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَت لَهُ درة مؤدبة» .
مَشْهُور عَنهُ، وَمن ذَلِك مَا رَوَاهُ الْخَطِيب فِي كتاب «أَسمَاء الروَاة عَن مَالك» بِسَنَدِهِ إِلَى أَحْمد ابْن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، ثَنَا مَالك، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن سعيد بن الْمسيب، عَن أَبِيه «أَن مُسلما ويهوديًا اخْتَصمَا إِلَى عمر [فَرَأَى عمر أَن الْحق لِلْيَهُودِيِّ فَقَضَى لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيّ: وَالله لقد قضيت بِالْحَقِّ. فَضَربهُ عمر] بِالدرةِ، وَقَالَ: مَا يدْريك؟ قَالَ: إِنَّا نجد فِي كتَابنَا أَنه لَيْسَ [قَاض يقْضِي بِالْحَقِّ] إِلَّا عَن يَمِينه ملك، وَعَن يسَاره ملك يسددانه ويوفقانه مَعَ الْحق، فَإِذا ترك الْحق ارتفعا وتركاه» وَمن ذَلِك مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «مُسْنده» عَن مَالك، عَن ابْن شهَاب، عَن ابْن الْمسيب وَسليمَان بن يسَار «أَن طليحة كَانَت تَحت(9/607)
رشيد الثَّقَفِيّ فَطلقهَا الْبَتَّةَ، فنكحت فِي عدتهَا، فضربها عمر بن الْخطاب، وَضرب زَوجهَا بالمخفقة» . قَالَ ابْن دحْيَة فِي «كِتَابه مرج الْبَحْرين» : وَأول من ضرب بِالدرةِ وَحملهَا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
والدرة - بِكَسْر الدَّال، وَتَشْديد الرَّاء - معرفَة، وَيُقَال: المعرقة - بِفَتْح الْعين وَالرَّاء وبالقاف - ذكره صَاحب الْمُحكم. والمخفقة أَيْضا كَمَا تقدم.
الْأَثر الثَّالِث عشر: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه اشْتَرَى دَارا بأَرْبعَة آلَاف وَجعلهَا سجنًا» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره البُخَارِيّ فِي أثْنَاء بَاب الْخُصُومَات بِنَحْوِهِ فَقَالَ: «وَاشْتَرَى نَافِع بن عبد الْحَارِث دَارا للسجن بِمَكَّة من صَفْوَان بن أُميَّة عَلَى إِن عمر رَضِي فَالْبيع بَيْعه، وَإِن لم يرض عمر فلصفوان أَرْبَعمِائَة» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث نَافِع بن عبد الْحَارِث أَيْضا «أَنه اشْتَرَى من صَفْوَان بن أُميَّة دَارا للسجن لعمر بن الْخطاب بأَرْبعَة آلَاف» . وَفِي رِوَايَة «بأربعمائة» .
فَائِدَة: قَالَ ابْن الطلاع فِي «أَحْكَامه» : اخْتلف أهل الْعلم هَل سجن رَسُول الله وَأَبُو بكر أحدا؟ فَذكر بَعضهم أَنه لم يكن لَهما سجن، وَلَا سجنا أحدا، وَذكر بَعضهم «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سجن بِالْمَدِينَةِ فِي تُهْمَة دم» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَكَذَلِكَ قَالَ، وَرُوِيَ «أَنه سجن رجلا أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَوَجَبَ عَلَيْهِ استتمام عتقه» قَالَ فِي الحَدِيث: «حَتَّى بَاعَ عتقه لَهُ» . وَقَالَ ابْن سُفْيَان فِي كِتَابه: وَقد رويت عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه حكم بِالضَّرْبِ(9/608)
والسجن» . قَالَ ابْن الطلاع: وَثَبت عَن عمر «أَنه كَانَ لَهُ سجن وَأَنه سجن الحطيئة عَلَى الهجو، وصَبيِغًا التَّمِيمِي عَلَى سُؤَاله عليًّا فِي الذاريات والمرسلات والنازعات، وشبههن، وضربه مرّة بعد أُخْرَى، ونفاه إِلَى الْعرَاق - وَقيل: إِلَى الْبَصْرَة - وَكتب أَن لَا يجالسه أحد إِلَى أَن مَاتَ» .
الْأَثر الرَّابِع عشر: عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «لَو رَأَيْت أحدا عَلَى حد لم أحده حَتَّى يشْهد عِنْدِي شَاهِدَانِ بذلك» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره الإِمَام أَحْمد بِلَفْظ: «لَو رَأَيْت رجلا عَلَى حد من حُدُود الله - تَعَالَى - مَا أَخَذته، وَلَا دَعَوْت لَهُ أحدا حَتَّى يكون مَعَه غَيْرِي» وَإِسْنَاده صَحِيح إِلَيْهِ.
الْأَثر الْخَامِس عشر: «أَن شَاهِدين شَهدا عِنْد عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالَ لَهما: إِنِّي لَا أعرفكما، وَلَا يضركما أَن لَا أعرفكما، ائتيا بِمن يعرفكما. فَأَتَاهُ رجل، فَقَالَ: تعرفهما؟ قَالَ: بالصلاح وَالْأَمَانَة. قَالَ: كنت جارًا لَهما [تعرف صباحهما ومساءهما ومدخلهما] ومخرجهما قَالَ: لَا. قَالَ: [هَل عاملتهما بِهَذِهِ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير الَّتِي تعرف بهَا أمانات الرِّجَال؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَل] صحبتهما فِي السّفر الَّذِي يسفر عَن أَخْلَاق الرِّجَال؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَأَنت لَا تعرفهما، ائتيا بِمن يعرفكما» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» ، وَالْبَغوِيّ، والخطيب فِي «كِفَايَته» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث دَاوُد(9/609)
بن رشيد، عَن الْفضل بن زِيَاد، عَن شَيبَان، عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، عَن سُلَيْمَان بن مسْهر، عَن خَرَشَةَ - بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة، ثمَّ رَاء مُهْملَة، ثمَّ شين مُعْجمَة مفتوحتين، ثمَّ تَاء - بن الحرُ - بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء - الْفَزارِيّ الْكُوفِي قَالَ: «شهد رجل عِنْد عمر بن الْخطاب بِشَهَادَة فَقَالَ لَهُ: لست أعرفك، وَلَا يَضرك أَن لَا أعرفك ائْتِ بِمن يعرفك. فَقَالَ رجل من الْقَوْم: أَنا أعرفهُ، قَالَ: بِأَيّ شَيْء تعرفه؟ قَالَ: بِالْعَدَالَةِ وَالْفضل. قَالَ: هُوَ جَارك الْأَدْنَى الَّذِي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فعاملك بالدينار وَالدِّرْهَم اللَّذين بهما يسْتَدلّ عَلَى الْوَرع؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فرفيقك فِي السّفر الَّذِي يسْتَدلّ بِهِ عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق؟ قَالَ: لَا. قَالَ: [لست] تعرفه. قَالَ: ائْتِنِي بِمن يعرفك» قَالَ الْعقيلِيّ: (الْفضل بن زِيَاد عَن شَيبَان مَجْهُول بِالنَّقْلِ، وَلَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه، وَلَا نعرفه إِلَّا بِهِ. قَالَ: وَمَا فِي الْكتاب حَدِيث مَجْهُول أحسن من هَذَا) .
قلت: وَأما ابْن السكن فَإِنَّهُ ذكره فِي سنَنه الصِّحَاح المأثورة» فأغرب.
تَنْبِيه: وَقع فِي «الْمُهَذّب» ثمَّ مثناة من تَحت ثمَّ مُثَلّثَة وَهُوَ تَحْرِيف، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : كَذَا هُوَ فِي نسخ «الْمُهَذّب» وَهُوَ(9/610)
تَصْحِيف، وَذكر البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه الْكَبِير» وَغَيره من الْعلمَاء: أَن خَرشَة كَانَ يَتِيما فِي حجر عمر بن الْخطاب، وَمن الروَاة عَنهُ المعروفين بذلك، وَلَيْسَ فِي هَذِه الدرجَة أَعنِي دَرَجَة من يروي عَن عمر من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ من سمي سُلَيْمَان بن حُرَيْث، يتَعَيَّن أَن الْمَذْكُور فِي «الْمُهَذّب» غلط وتصحيف.
بَاب الْقَضَاء عَلَى الْغَائِب
ذكر فِيهِ حَدِيثا وَاحِدًا وَهُوَ حَدِيث هِنْد [زَوْجَة] أبي سُفْيَان أَنَّهَا قَالَت لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح لَا يعطيني من النَّفَقَة مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بني (أفآخذ من مَاله مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بني؟) فَقَالَ (: خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَقد سلف فِي النَّفَقَات وَاضحا، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ قَضَاء عَلَى زَوجهَا أبي سُفْيَان وَهُوَ غَائِب.
قلت: وَكَذَا ترْجم عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» «الْقَضَاء عَلَى الْغَائِب» لَكِن ذكر جمَاعَة من الْمُحَقِّقين أَن ذَلِك كَانَ فَتْوَى لَا قَضَاء، وَصَححهُ أَصْحَابنَا أَيْضا، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح مُسلم» : اسْتدلَّ بِهِ جماعات من أَصْحَابنَا وَغَيرهم عَلَى جَوَاز الْقَضَاء عَلَى الْغَائِب وَلَا يَصح الِاسْتِدْلَال بِهِ؛ لِأَن هَذِه الْقِصَّة كَانَت بِمَكَّة، وَكَانَ أَبُو سُفْيَان حَاضرا(9/611)
بهَا، وَشرط الْقَضَاء عَلَى الْغَائِب أَن يكون غَائِبا عَن الْبَلَد أَو مستترًا لَا يقدر عَلَيْهِ أَو متعذرًا، وَلم يكن هَذَا الشَّرْط فِي أبي سُفْيَان مَوْجُودا، وَلَا يكون قَضَاء عَلَى الْغَائِب بل هُوَ إِفْتَاء. هَذَا آخر كَلَامه، وَنَصّ أَبُو نعيم والسهيلي أَيْضا عَلَى أَنه كَانَ حَاضرا حِينَئِذٍ كَمَا سلف فِي حد الزِّنَا، وَقد سلف فِي كتاب النَّفَقَات من كَلَام الرَّافِعِيّ مَا يدل عَلَى أَن ذَلِك كَانَ إِفْتَاء لَا قَضَاء، ويوضح ذَلِك أَيْضا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يستحلفها أَنَّهَا لم تَأْخُذ النَّفَقَة، وَلم يقدرها بل قَالَ لَهَا: «خذي من مَاله مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ» فَجعل التَّقْدِير إِلَيْهَا فِيمَا تَأْخُذهُ، وَمَعْلُوم أَن مَا كَانَ من فرض النَّفَقَة عَلَى وَجه الْقَضَاء لَا يكون تَقْدِيره إِلَى مُسْتَحقّه إِلَّا أَن يُقَال: الْوَاجِب قدر الْكِفَايَة، كَمَا هُوَ أحد أَقْوَال الشَّافِعِي وَهُوَ ظَاهر الحَدِيث. وَذكر الرَّافِعِيّ فِيهِ أَيْضا حَدِيث «اغْدُ يَا أنيس عَلَى امْرَأَة هَذَا فَإِن اعْترفت فارجمها» وَقد سلف فِي مَوْضِعه.(9/612)
بَاب الْقِسْمَة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حديثين:
أَحدهمَا
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يقسم الْغَنَائِم بَين الْمُسلمين» .
وَهَذَا من الْمَشْهُور المستفيض الثَّابِت الَّذِي عزوه أشهر من أَن يشْتَغل بِهِ، وَقد ورد فِي ذَلِك عدَّة أَحَادِيث، وَمِنْهَا حَدِيث جَابر الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قسم غنيمَة بالجعرانة فَقَالَ رجل: اعْدِلْ. فَقَالَ رَسُول الله: وَيحك إِن لم أعدل فَمن يعدل» .
الحَدِيث الثَّانِي
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جزأ العبيد السِّتَّة الَّذين أعتقهم الْأنْصَارِيّ فِي مرض مَوته ثَلَاثَة أَجزَاء» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» وستعلمه فِي كتاب الْعتْق إِن شَاءَ الله، وَأَشَارَ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى حَدِيث «لَا ضَرَر وَلَا ضرار» وَقد أوضحته فِي تخريجي أَحَادِيث «الْمُهَذّب» فِي كتاب الرَّهْن فسارع إِلَيْهِ.(9/613)
كتاب الشَّهَادَات(9/615)
كتاب الشَّهَادَات
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا أما الْأَحَادِيث فخمسة وَثَلَاثُونَ حديثًَا:
أَحدهَا
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الشَّهَادَة، فَقَالَ للسَّائِل: ترَى الشَّمْس؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ: عَلَى مثلهَا فاشهد أَو فدع» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «ذكر عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الرجل يشْهد بِشَهَادَة، فَقَالَ: أما أَنْت يَا ابْن عَبَّاس فَلَا تشهد إِلَّا عَلَى أَمر يضيئ لَك كضياء الشَّمْس. وَأَوْمَأَ رَسُول الله بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْس» وَرَوَاهُ ابْن عدي وَلَفظه عَن ابْن عَبَّاس «أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الشَّهَادَة، فَقَالَ: ترَى الشَّمْس عَلَى مثلهَا فاشهد أَو دع» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: فِيهِ نظر فَإِن فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن مسمول، وَهُوَ ضَعِيف كَانَ الْحميدِي يتَكَلَّم [فِيهِ] . وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو(9/617)
حَاتِم الرَّازِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ لَا فِي إِسْنَاده وَلَا فِي مَتنه. وَقَالَ الْعقيلِيّ بعد أَن أخرجه فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» : لَا يعرف إِلَّا بِهِ. وَفِيه أَيْضا عَمْرو بن مَالك الْبَصْرِيّ، قَالَ ابْن عدي: مُنكر الحَدِيث عَن الثِّقَات وَيسْرق الحَدِيث، ضعفه أَبُو يعْلى الْموصِلِي. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ عقب إِخْرَاجه لَهُ: فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن مسمول تكلم فِيهِ الْحميدِي. قَالَ: وَلم يرو من وَجه يعْتَمد عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي كِتَابه «الإِمَام» : أخرج أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صحيحيه» لمُحَمد بن سُلَيْمَان الْمَذْكُور.
قلت: فَيقوم مقَامه الْحَاكِم إِذن فِي تَصْحِيح إِسْنَاده، لَكِن الْكل ضَعَّفُوهُ كَمَا تقدم.
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أكْرمُوا الشُّهُود» .
هَذَا لَيْسَ مَوْجُودا فِي الْكتب السِّتَّة وَلَا المسانيد فِيمَا أعلم، إِنَّمَا وقفت عَلَيْهِ فِي أمالي أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الصَّمد الْهَاشِمِي الْمَعْرُوف بِجُزْء البانياسي وَقد وَقع لنا بعد وأخبرنيه [غير] وَاحِد(9/618)
كِتَابَة وسماعًا عَن الْفَخر ابْن البُخَارِيّ مِنْهُم الْجمال الْمزي وزين الدَّين الرَّحبِي وَغَيرهمَا، أَنا ابْن قدامَة وشمس الدَّين الْعَطَّار قَالَا: أخبرنَا ابْن البطي، وَقَالَ ابْن قدامَة: أَنا ابْن تَاج الْقُرَّاء، قَالَا: أَنا البانياسي، نَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن الصَّلْت الْمُجبر، أَنا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الصَّمد، نَا أبي، نَا عمي إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن عبد الصَّمد بن عَلّي بن عبد الله بن عَبَّاس، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أكْرمُوا الشُّهُود فَإِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - يسْتَخْرج بهم الْحُقُوق وَيدْفَع بهم الظُّلم» . وَرَوَاهُ أَيْضا فِي مجْلِس إِبْرَاهِيم بن عبد الصَّمد أَيْضا نَا أبي ... فَذكره، وَقَالَ: «يدافع» بدل «يدْفع» أخبرنَا بهَا ابْن جني سَمَاعا والمزي، أَنا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي السمر قندي، عَن ابْن النقور وَأبي الْقَاسِم الْبَغَوِيّ، وَأبي مُحَمَّد ن أَحْمد بن عَلّي بن الْحُسَيْن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الصَّلْت عَنهُ. وأخبرنيه أَعلَى من هَذَا بِدَرَجَة فِي خبر البانياسي الشَّيْخ الصَّالح الْأَصِيل نادرة المعمرين وجيه الدَّين أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن الشَّيْخ الْجَلِيل القَاضِي نَاصِر الدَّين أبي الحزم مكي بن القَاضِي شرف الدَّين أبي الطَّاهِر إِسْمَاعِيل الْعَوْفِيّ بالإسكندرية فِي رحلتي الأولَى إِلَيْهَا بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ أَنبأَنَا الكاشخري إجَازَة عَامَّة قَالَ: أَنبأَنَا ابْن البطي وَابْن تَاج الْقُرَّاء. وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف؛ لِأَن فِي إِسْنَاده ضعفاء، أحدهم: أَحْمد بن مُحَمَّد بن الصَّلْت الْمُجبر ضعفه البرقاني، قَالَه الْخَطِيب عَنهُ، قَالَ الْخَطِيب: وَسمعت حَمْزَة بن مُحَمَّد بن طَاهِر يَقُول: كَانَ ديِّنًا صَالحا. قَالَ: وَسمعت عبد الْعَزِيز الْأَزجيّ يَقُول: مُحَمَّد بن الصَّلْت أَتَى كتب ابْن أبي الدُّنْيَا فَحدث بهَا عَن البرذعي - يَعْنِي وَلم تكن عِنْد البرذعي.(9/619)
ثانيهم: إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْهَاشِمِي ذكره الْعقيلِيّ فِي كِتَابه «الضُّعَفَاء» وَقَالَ: حَدِيثه غير مَحْفُوظ وَلَا أصل لَهُ من حَدِيث النَّاس وَذكر لَهُ الحَدِيث.
ثالثهم: عبد الصَّمد بن عَلّي الْهَاشِمِي ذكره الْعقيلِيّ أَيْضا فِي «ضُعَفَائِهِ» وَذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث ثمَّ قَالَ: حَدِيث غير مَحْفُوظ وَلَا يعرف إِلَّا بِهِ.
قلت: وَقد نَص غير وَاحِد من الْحفاظ عَلَى ضعفه فَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» إِلَى بِإِسْنَادِهِ ابْن عَبَّاس ذكره بلفظين أَحدهمَا كَمَا سقناه،
وَثَانِيهمَا: «أكْرمُوا الشُّهُود بهم تستخرج الْحُقُوق» ثمَّ قَالَ: قَالَ الْخَطِيب: تفرد بروايته عبد الصَّمد بن مُوسَى وَقد ضَعَّفُوهُ. وَقَالَ الْعقيلِيّ: هَذَا الحَدِيث غير مَحْفُوظ. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَخْرِيجه أَحَادِيث الشهَاب» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عبد الصَّمد بن مُوسَى وَقد ضَعَّفُوهُ. وَقَالَ الْعقيلِيّ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عبد الصَّمد بن مُوسَى، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْهَاشِمِي، عَن آبَائِهِ مُتَّصِلا إِلَى ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن عبد الصَّمد عَن أَبِيه، وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن يَحْيَى بن زَكَرِيَّا الدينَوَرِي عَن أبي يَحْيَى بن أبي ميسرَة، عَن عبد الله بن إِبْرَاهِيم الْهَاشِمِي، عَن عَمه قَالَ: عبد الصَّمد بن عَلّي بن عبد الله بن عَبَّاس، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن ابْن عَبَّاس، وَلم يصنع شَيْئا. قَالَ: وَالْمَحْفُوظ عَن ابْن أبي ميسرَة، عَن عبد الصَّمد بن مُوسَى الْهَاشِمِي، عَن عَمه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد. قَالَ: وَقَالَ الْعقيلِيّ: هَذَا الحَدِيث غير مَحْفُوظ. وَأوردهُ فِي(9/620)
تَرْجَمَة إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْهَاشِمِي لَيْسَ بعمدة، وَهَذَا الحَدِيث مُنكر. وَقَالَ فِي تَرْجَمَة عبد الصَّمد: هَذَا خبر مُنكر، وَمَا عبد الصَّمد بِحجَّة. قَالَ: وَلَعَلَّ الْحفاظ إِنَّمَا سكتوا عَنهُ مداراة للدولة.
قلت: لم يسكتوا عَنهُ فقد ذكره الْعقيلِيّ كَمَا قدمت لَك، وَأما الصَّاغَانِي فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مَوْضُوع.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ لَك إِلَّا شَاهِدَاك أَو يَمِينه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من حلف عَلَى يَمِين صَبر يقتطع بهَا مَال امْرِئ مُسلم هُوَ فِيهَا فَاجر إِلَّا لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان. قَالَ: فَدخل الْأَشْعَث بن قيس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه [فَقَالَ] مَا يُحَدثكُمْ أَبُو عبد الرَّحْمَن قَالُوا: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: صدق أَبُو عبد الرَّحْمَن فيَّ نزلت، كَانَ بيني وَبَين رجل خُصُومَة فِي بِئْر فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من حلف عَلَى يَمِين صَبر يقتطع بهَا مَال امْرِئ مُسلم هُوَ فِيهَا فَاجر لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان. ثمَّ قَرَأَ (إِن الَّذين يشْتَرونَ بِعَهْد الله وَأَيْمَانهمْ ثمنا قَلِيلا) إِلَى آخر الْآيَة» وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ «إِذا يحلف وَيذْهب(9/621)
بِمَالي» وَفِي رِوَايَة أبي زيد الْمروزِي «فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِف» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَن الْحُكُومَة كَانَت بَين الْأَشْعَث وَبَين رجل من الْيَهُود «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِف» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ عبد الْحق: لَا يُتَابع أَبُو مُعَاوِيَة أحد رَوَى هَذَا الحَدِيث عَلَى قَوْله: «قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِف» . وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد «خَاصَمت ابْن عَم لي رَسُول الله ... » وَذكر الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَابْن حبَان وَالْحَاكِم: «لَقِي الله وَهُوَ أَجْذم» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَة.
فَائِدَة: قَالَ الْخَطِيب فِي «مبهماته» : هَذَا الَّذِي خَاصم الْأَشْعَث اسْمه الجسيس بِالْجِيم وَقيل: بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقيل: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، ثمَّ رَوَاهُ الرَّاوِي أَنه ذكره بِالْجِيم وكناه أَبَا الْخَيْر، قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لَهُ صُحْبَة وَلَا رِوَايَة عَنهُ. وَفِي رِوَايَة رجل يُقَال لَهُ: الجفشيش بن حُصَيْن، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «مُخْتَصر المبهمات» : هُوَ بالشين الْمُعْجَمَة وَفتح أَوله.
قلت: وَقَالَ ابْن طَاهِر الْحَافِظ فِي «مبهماته» : اسْمه معدان.(9/622)
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تقبل شَهَادَة أهل دين عَلَى غير أهل دين أهلهم، إِلَّا الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم عدُول عَلَى أنفسهم وَعَلَى غَيرهم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث شَاذان قَالَ: كنت عِنْد سُفْيَان الثَّوْريّ فَسمِعت شَيخا يحدث، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «لَا يتوارث أهل ملتين شَتَّى، وَلَا تجوز شَهَادَة مِلَّة عَلَى مِلَّة إِلَّا مِلَّة مُحَمَّد؛ فَإِنَّهَا تجوز عَلَى غَيرهم» قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن شَاذان [فَسَأَلت] عَن هَذَا الشَّيْخ بعض أَصْحَابنَا فَزعم أَنه عمر بن رَاشد الْحَنَفِيّ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَرَوَاهُ بَقِيَّة بن الْوَلِيد، عَن الْأسود بن عَامر - وَهُوَ شَاذان - عَن عمر بن رَاشد، عَن يَحْيَى بن أبي كثير عَن، أبي سَلمَة مَرْفُوعا «لَا تَرث مِلَّة من مِلَّة، وَلَا تجوز شَهَادَة مِلَّة عَلَى مِلَّة إِلَّا شَهَادَة الْمُسلمين؛ فَإِنَّهَا تجوز عَلَى جَمِيع الْملَل» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحسن بن مُوسَى، عَن عمر بن رَاشد، وَرَوَاهُ عَلّي بن الْجَعْد، عَن عمر، عَن يَحْيَى عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة أَحْسبهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يَرث أهل مِلَّة مِلَّة، وَلَا تجوز شَهَادَة مِلَّة عَلَى مِلَّة (إِلَّا) أمتِي تجوز شَهَادَتهم عَلَى من سواهُم» .
قلت: فمدار الحَدِيث إِذن عَلَى عمر هَذَا، وَهُوَ عمر بن رَاشد بن بَحر اليمامي وَقد ضَعَّفُوهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ضعفه أَحْمد بن حَنْبَل وَيَحْيَى بن معِين وَغَيرهمَا من أَئِمَّة النَّقْل وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَكَذَا قَالَ عبد(9/623)
الْحق فِي «أَحْكَامه» وَقَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مُنكر الحَدِيث. وَضَعفه جدًّا، وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يحل ذكره إِلَّا عَلَى سَبِيل الْقدح، يضع الحَدِيث عَلَى مَالك وَابْن أبي ذِئْب وَغَيرهمَا من الثِّقَات. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: رَوَاهُ عمر بن رَاشد، عَن يَحْيَى، عَن أبي هُرَيْرَة، من النَّاس من يرويهِ هَكَذَا عَن عمر، وَرَوَاهُ عَلّي بن الْجَعْد [عَن عمر بن رَاشد] عَن يَحْيَى عَن أبي سَلمَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسل، قَالَ: وَعمر شيخ ضَعِيف الحَدِيث.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى [لَا] أَنه تقبل شَهَادَة الْكَافِر مُطلقًا أَعنِي ذميًّا كَانَ أَو حربيًّا شهد عَلَى مُسلم أَو كَافِر، قَالَ الْأَصْحَاب: وَلَا حجَّة فِيهِ أَي عَلَى تَقْدِير صِحَّته إِن سمع شَهَادَتهم عَلَى أهل دينهم؛ لِأَنَّهُ لَو دلّ لَهُم فَإِنَّمَا يدل بِالْمَفْهُومِ وهم لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَلَا يُقَال أَنهم يَقُولُونَ بِهِ فَكيف خالفتموه؛ لأَنا نقُول فِي الْوَضع الَّذِي لَا يكون غَيره أَقْوَى مِنْهُ، وَهنا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَأَيْضًا فَإِن دَلِيل الْخطاب إِنَّمَا يَقُول بِهِ فِي الْمَوْضُوع الَّذِي لَا يؤول إِلَى إبِْطَال تعلقه أما إِذا أَدَّى إِلَيْهِ فَلَا نقُول بِهِ؛ لِأَن النُّطْق أَقْوَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَصله وَالْأَصْل إِذا بَطل بَطل الْفَرْع وَالْأَمر هَاهُنَا كَذَلِك.
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تقبل شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة، وَلَا زَان وَلَا زَانِيَة» .(9/624)
هَذَا الحَدِيث يرْوَى من طرق:
إِحْدَاهَا: من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده وَله خمس طرق عَنهُ:
أَولهَا: عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز، عَن سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «رد شَهَادَة الخائن والخائنة، وَذي الغِمر عَلَى أَخِيه، ورد شَهَادَة القانع لأهل الْبَيْت وأجازها لغَيرهم» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» كَذَلِك سندًا ومتنًا، ثمَّ رَوَاهُ بالسند الْمَذْكُور بِلَفْظ: قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة، وَلَا زَان وَلَا زَانِيَة، وَلَا ذِي غمر عَلَى أَخِيه» ثمَّ قَالَ: الْغمر: الحنة والشحناء. وَقَالَ غَيره: الْعَدَاوَة. وَقَوله: «عَلَى أَخِيه رَأَيْته فِي نُسْخَة كَذَا فِي الْأُخوة وبخط بعض الْقُضَاة «الأحنة من الْعَدَاوَة» وَهُوَ ظَاهر.
ثَانِيهَا: من حَدِيث مُحَمَّد بن رَاشد، عَن سُلَيْمَان، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، [عَن أَبِيه] ، عَن جده «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رد شَهَادَة الخائن والخائنة، وَذَوي الْغمر عَلَى أَخِيه، ورد شَهَادَة القانع لأهل الْبَيْت [وأجازها] لغَيرهم» والقانع: الَّذِي ينْفق عَلَيْهِ أهل الْبَيْت. وَسليمَان هَذَا هُوَ الْمَذْكُور فِي الطَّرِيق الأول أَيْضا وَهُوَ أموي مَوْلَاهُم دمشقي الْأَشْدَق، قَالَ خَ: عِنْده مَنَاكِير. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَمُحَمّد هَذَا(9/625)
هُوَ المكحول وَفِيه مقَال وَثَّقَهُ أَحْمد وَالْجَمَاعَة، وَقَالَ دُحَيْم: يذكر بِالْقدرِ. وَقَالَ أَبُو مسْهر: كَانَ يرَى الْخُرُوج. وَقَالَ [أَبُو مسْهر] : كَانَ يروي الْخُرُوج. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ من أهل النّسك لَكِن لم يكن الحَدِيث من صناعته، وَكَانَ يَأْتِي بالشَّيْء عَلَى التَّوَهُّم، وَكَثُرت الْمَنَاكِير فِي رِوَايَته فَاسْتحقَّ ترك الِاحْتِجَاج بِهِ. وَأخرج هَذَا الحَدِيث تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» من طَرِيق أبي دَاوُد هَذِه وَقَالَ: اخْتلف فِي الِاحْتِجَاج بِهَذَا (وَنقض رِوَايَته) .
ثَالِثهَا: من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة النَّخعِيّ، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «لَا يجوز للشَّهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة، وَلَا مَحْدُود فِي الْإِسْلَام، وَلَا ذِي غمر عَلَى أَخِيه» رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه، وَابْن أبي شيبَة فِي «تصنيفه» وَلَفظه: «الْمُسلمُونَ عدُول بَعضهم عَلَى بعض إِلَّا محدودًا فِي فِرْيَة» .
وَالْحجاج هَذَا قد عرفت حَاله غير مرّة.
رَابِعهَا: من حَدِيث آدم بن فائد، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة، وَلَا مَحْدُود فِي الْإِسْلَام، وَلَا ذِي غمر عَلَى أَخِيه» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك، وآدَم هَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مَجْهُول. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا يحْتَج بِهِ.(9/626)
خَامِسهَا: من حَدِيث الْمثنى بن الصَّباح، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « [لَا] تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة، وَلَا مَوْقُوف عَلَى حد، وَلَا ذِي غمر عَلَى أَخِيه» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك، والمثنى هَذَا سبق تَضْعِيفه غير مرّة، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعد أَن أخرجه من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ: [آدم بن فائد والمثنى بن الصَّباح لَا يحْتَج بهما و] رُوِيَ من أوجه ضَعِيفَة عَن عَمْرو، قَالَ: [وَمن] رَوَى من الثِّقَات هَذَا الحَدِيث «وَلَا مجرب» لم يذكر «المجلود» وَلم يذكر «الْمَحْدُود» فِيهِ، وَهُوَ الثِّقَة من جملَة من رَوَى هَذَا عَن عَمْرو فَلَا يلْزمنَا قَول خلاف من خَالفه.
الطَّرِيق الثَّانِي: من أصل طرق الحَدِيث حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تجوز [شَهَادَة] خائن وَلَا خَائِنَة، وَلَا [مجلود] حدًّا [وَلَا مجلودة] ، وَلَا ذِي غمر لِأَخِيهِ، وَلَا مجرب عَلَيْهِ شَهَادَة زور، وَلَا القانع لأهل الْبَيْت لَهُم، وَلَا ظنين [فِي وَلَاء] وَلَا قرَابَة» قَالَ الْفَزارِيّ: القانع: التَّابِع. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» كَذَلِك من رِوَايَة يزِيد بن زِيَاد الدِّمَشْقِي، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة. وَمِمَّنْ رَوَاهُ كَذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَلم يذكر «القانع» وَرَوَاهُ(9/627)
الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» دون قَوْله «وَلَا مجرب، وَلَا ظنين فِي وَلَاء وَلَا قرَابَة» لكنه قَالَ فِيهِ: يزِيد بن أبي زِيَاد الْقرشِي. وَهُوَ يزِيد بن زِيَاد أَيْضا - يُقَال فِيهِ هَذَا وَهَذَا - قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا يعرف هَذَا [الحَدِيث] من حَدِيث الزُّهْرِيّ إِلَّا من حَدِيثه، وَلَا نَعْرِف [مَعْنَى] هَذَا الحَدِيث، وَلَا يَصح عندنَا من قبل إِسْنَاده. قَالَ: وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أهل الْعلم أَن شَهَادَة الْقَرِيب جَائِزَة لِقَرَابَتِهِ. وَقَالَ [: قَالَ الشَّافِعِي لَا تجوز شَهَادَة لرجل عَلَى] الآخر: وَإِن كَانَ عدلا إِذا كَانَ بَينهمَا عَدَاوَة، وَذهب إِلَيّ حَدِيث عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا «لَا تجوز شَهَادَة صَاحب إحْنَة» يَعْنِي عَدَاوَة. وَكَذَلِكَ مَعْنَى هَذَا الحَدِيث حَيْثُ قَالَ: «لَا تجوز شَهَادَة صَاحب غمر» يَعْنِي صَاحب عَدَاوَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أَبَا زرْعَة عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر وَلم يقْرَأ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث ضَعِيف. قَالَ: وَيزِيد ابْن زِيَاد وَيُقَال: ابْن أبي زِيَاد الشَّامي هَذَا وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يزِيد هَذَا [ضَعِيف] لَا يحْتَج بِهِ. وَكَذَا ضعف هَذَا الحَدِيث من الْمُتَأَخِّرين ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» و «تَحْقِيقه» وَعبد الْحق فِي «أَحْكَامه» ، وَأما أَبُو مُحَمَّد بن حزم(9/628)
فَإِنَّهُ أخرجه فِي «محلاه» من طَرِيق أبي عُبَيْدَة وَقَالَ عَن يزِيد الْجَزرِي: أَحْسبهُ يزِيد بن سِنَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَائِشَة مَرْفُوعا «لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة، وَلَا ظنين فِي وَلَاء وَلَا قرَابَة، وَلَا مجلود فِي حد» . وَقَالَ: لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ عَن يزِيد وَهُوَ مَجْهُول؛ فَإِن كَانَ يزِيد بن سِنَان فَهُوَ مَعْرُوف بِالْكَذِبِ. هَذَا كَلَامه وَقد علمت أَنه يزِيد.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث عبد الْأَعْلَى بن مُحَمَّد، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عبد الله بن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خطب فَقَالَ: أَلا لَا تجوز شَهَادَة الخائن وَلَا الخائنة، وَلَا ذِي غمر عَلَى أَخِيه، وَلَا الْمَوْقُوف عَلَى حد» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» كَذَلِك، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يَحْيَى بن سعيد هُوَ الْفَارِسِي [مَتْرُوك] وَعبد الْأَعْلَى ضَعِيف.
قلت: وَيَحْيَى أَيْضا ضَعِيف ثمَّ قَالَ البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مُنكر الحَدِيث وَهُوَ مَجْهُول. وَقَالَ النَّسَائِيّ: يروي عَن الزُّهْرِيّ أَحَادِيث مَوْضُوعَة مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يروي عَن الزُّهْرِيّ وَأبي الزبير وَهِشَام بن عُرْوَة مَنَاكِير مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن عدي: يروي عَن الثِّقَات البواطيل. فيلخص من هَذَا كُله أَنه حَدِيث ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ، لَا جرم قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : لَا يَصح من هَذَا شَيْء عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعْتَمد عَلَيْهِ. قَالَ: وَيروَى عَن عمر «أَنه كتب إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: الْمُسلمُونَ عدُول بَعضهم عَلَى بعض إِلَّا مجلودًا فِي حد، أَو مجربًا شَهَادَة(9/629)
زور، أَو ظنينًا فِي وَلَاء وَلَا قرَابَة» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ قبل أَن يَتُوب؛ فقد روينَا «أَنه قَالَ لأبي بكرَة: تقبل شهادتك» . قَالَ: وَهَذَا هُوَ المُرَاد بِسَائِر من رد شَهَادَته مَعَه.
تَنْبِيه: من الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث جُبَير بن مطعم مَرْفُوعا: «شَهَادَة الْمُسلمين بَعضهم عَلَى بعض جَائِزَة، وَلَا تجوز شَهَادَة الْعلمَاء بَعضهم عَلَى بعض؛ لأَنهم حسد» قَالَ الْحَاكِم: لَيْسَ هَذَا من كَلَام رَسُول (وَإِسْنَاده فَاسد من أوجه كَثِيرَة يطول شرحها. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» : فِي إِسْنَاده مَجَاهِيل وضعفاء كَأبي هَارُون الْعَبْدي.
الحَدِيث السَّادِس
قَالَ الرَّافِعِيّ: اشْتهر فِي الْخَبَر: «مَا منا إِلَّا من عَصَى أَو هم بِمَعْصِيَة، إِلَّا يَحْيَى بن زَكَرِيَّا» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (من حَدِيث عَلّي بن زيد، عَن يُوسُف بن مهْرَان) عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا من آدَمِيّ إِلَّا وَقد أَخطَأ، أَو هم بخطيئة أَو عَملهَا إِلَّا [أَن] يكون يَحْيَى بن زَكَرِيَّا لم يهم بخطيئة وَلم يعملها» ذكره فِي تَرْجَمَة يَحْيَى (وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو يعْلى الْموصِلِي فِي «مسنديهما» . بالسند(9/630)
الْمَذْكُور سَوَاء لَكِن لَفْظهمَا: «مَا أحد من ولد آدم إِلَّا قد أَخطَأ، أَو هم بخطيئة لَيْسَ يَحْيَى بن زَكَرِيَّا» وَلم يعقبه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بتصحيح وَلَقَد أَفْلح، فعلي بن زيد هُوَ ابْن جدعَان (وَهُوَ مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ، وَقد عرفت حَاله فِي أَوَائِل الْوضُوء، ويوسف بن مهْرَان تفرد عَنهُ ابْن جدعَان) وَحده، وَثَّقَهُ أَبُو زرْعَة وَالصَّحِيح أَنه غير ابْن مَاهك، هَذَا مَا فِي كتاب الْمزي، وَفِي «التَّهْذِيب» للنووي: أَن يُوسُف بن مهْرَان هَذَا مُخْتَلف فِي جرحه وَابْن جدعَان ضعفه، والْحَدِيث ضَعِيف، وَلم أَقف عَلَى من خرجه، وَلم يذكرهُ ابْن الْجَوْزِيّ وَغَيره مِمَّن ضعف فِي الضُّعَفَاء، وَله طَرِيق آخر من حَدِيث عبد الله بن عمر.
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من لعب بالنرد فقد عَصَى الله وَرَسُوله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مَالك وَأحمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي(9/631)
مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ الْحَاكِم: هَذَا صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَقَالَ عبد الْحق: اخْتلف فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث. قَالَ ابْن الْقطَّان: لم يبين من أمره شَيْئا، وَإِنَّمَا هُوَ وَالله أعلم مُنْقَطع - أَعنِي رِوَايَة مَالك - وَهُوَ أَن سعيد بن أبي هِنْد وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَإِن بَينهمَا أَبَا مرّة مولَى بني عقيل كَذَا سَاقه الدَّارَقُطْنِيّ، وغلا ابْن معن الدِّمَشْقِي فَعَزاهُ فِي كِتَابه «التنقيب» إِلَى مُسلم وَهُوَ وهم مِنْهُ فَاحش، وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» : «من لعب النردشير فقد عَصَى الله وَرَسُوله» وَفِي رِوَايَة «بالكعاب» وَفِي رِوَايَة «بالكعبين» وَكلهَا من رِوَايَة أبي مُوسَى، وَأخرج أَحْمد أَيْضا رِوَايَة «الكعاب» .
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من لعب بالنردشير فَكَأَنَّمَا صبغ يَده فِي لحم الْخِنْزِير وَدَمه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من رِوَايَة بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «غمس» بدل «صبغ» وَفِي «مُسْند أَحْمد» ، عَن مكي بن إِبْرَاهِيم، عَن الجعيد، عَن مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن الخطمي «أَنه سمع مُحَمَّد بن كَعْب يسْأَل عبد الرَّحْمَن يَقُول: أَخْبرنِي مَا سَمِعت أَبَاك يَقُول عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: سَمِعت أبي يَقُول: سَمِعت(9/632)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: مثل الَّذِي يلْعَب بالنرد ثمَّ يقوم فَيصَلي مثل الَّذِي يتَوَضَّأ بالقيح وَدم الْخِنْزِير ثمَّ يقوم فَيصَلي» .
الحَدِيث التَّاسِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب كَمَا ينْبت المَاء البقل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة سَلام بن مِسْكين [عَن شيخ] ، عَن أبي وَائِل [عَن] عبد الله بن مَسْعُود مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَهَذَا ضَعِيف لجَهَالَة هَذَا الشَّيْخ قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «الْأَطْرَاف» : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَة أبي الْحسن ابْن العَبْد وَغَيره فِي الْإِرْث - وَلم يذكرهُ ابْن عَسَاكِر - عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، عَن سَلام بن مِسْكين، عَن شيخ، قَالَ: «شهِدت أَبَا وَائِل فِي وَلِيمَة فَجعلُوا يغنون، فَحل أَبُو وَائِل حبوته وَقَالَ: سَمِعت عبد الله يَقُول: سَمِعت رَسُول الله يَقُول: إِن الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا مَوْقُوفا عَلَى ابْن مَسْعُود ... فَذكره من حَدِيث سعيد بن كَعْب الْمرَادِي، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَنهُ «الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب كَمَا ينْبت المَاء الزَّرْع، وَالذكر ينْبت الْإِيمَان فِي الْقلب كَمَا ينْبت المَاء الزَّرْع» وَسَعِيد هَذَا مَجْهُول، وَمَا أعرفهُ رَوَى عَنهُ غير مُحَمَّد بن طَلْحَة اليامي.(9/633)
كَذَا عرفه ابْن أبي حَاتِم ويغلب عَلَى ظَنِّي أَنه مُنْقَطع أَيْضا، فقد قَالَ ابْن أبي حَاتِم: إِن رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن هَذَا عَن عَائِشَة مُرْسلَة، وَأبي مَسْعُود مَاتَ قبلهَا بأزمان. وَرَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ (فِي «علله» من حَدِيث) أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِن الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب» ثمَّ قَالَ: حَدِيث لَا يَصح. ثمَّ ذكر سَبَب [تَضْعِيفه] ، وَرَوَاهُ ابْن عدي أَيْضا من هَذَا الْوَجْه - أَعنِي من حَدِيث أبي هُرَيْرَة - وَفِي إِسْنَاده عبد الرَّحْمَن الْقرشِي وَأَبوهُ، وحاله مَعْرُوف فِيهِ، وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق أُخْرَى وفيهَا لَيْث بن [أَبَى] سليم، قَالَ ابْن طَاهِر: وَأَصَح الْأَسَانِيد فِي ذَلِك أَنه من قَول إِبْرَاهِيم. وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي «الْإِحْيَاء» : رَفعه بَعضهم وَهُوَ غير صَحِيح.
فَائِدَة: قَالَ الْغَزالِيّ: هَذَا الحَدِيث لَا دلَالَة فِيهِ عَلَى تَحْرِيم الْغناء لِأَن كثيرا من الْمُبَاحَات ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب كلبس الثِّيَاب الجميلة وَنَحْوه، وَلَا يُطلق القَوْل بِتَحْرِيمِهِ. وَقَالَ غَيره: المُرَاد بالغنى غنى المَال. ورده الغافقي ردًّا شنيعًا من حَيْثُ أَن الْغِنَى من المَال مَقْصُور وَهَذَا الَّذِي قَالَه إِنَّمَا يتَّجه إِذا كَانَ الْحفاظ كلهم رَوَوْهُ بِالْمدِّ وَيمْنَع أَنهم رَوَوْهُ بِهِ.(9/634)
الحَدِيث الْعَاشِر
أَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «دخل عليّ أَبُو بكر وَعِنْدِي جاريتان من جواري الْأَنْصَار تُغنيَانِ بِمَا تقاولت بِهِ الْأَنْصَار يَوْم بُعَاث [وليستا] بمغنيتين، فَقَالَ أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أمزامير الشَّيْطَان فِي بَيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ ! - وَذَلِكَ فِي يَوْم عيد - فَقَالَ: يَا أَبَا بكر، لكل قوم عيد وَهَذَا عيدنا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من طرق هَذَا أَحدهمَا.
فَائِدَة: بُعَاث بِضَم الْمُوَحدَة ثمَّ عين مُهْملَة، كَمَا قَيده الْحَازِمِي والبكري فِي «مُعْجَمه» ثمَّ مُثَلّثَة قَالَ: وَهُوَ مَوضِع عَلَى لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة. وَذكره صَاحب كتاب «الْعين» بالغين الْمُعْجَمَة وَلم يسمع من غَيره. وَقَالَ أَبُو أَحْمد العسكري: هُوَ تَصْحِيف وَيجوز صرفه وَتَركه وَهُوَ الْأَشْهر، وَهُوَ يَوْم جَرَى فِيهِ حَرْب بَين قبيلتي الْأَنْصَار الْأَوْس والخزرج فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ الظُّهُور فِيهِ لِلْأَوْسِ. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» فِي بَاب الرُّخْصَة فِي الْغناء واللعب يَوْم الْعِيد من بَاب صَلَاة الْعِيد: وَهُوَ يَوْم مَشْهُور من أَيَّام الْعَرَب كَانَت فِيهِ مقتلة عَظِيمَة لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَج، وَبقيت الْحَرْب بَينهمَا مائَة وَعشْرين سنة إِلَى أَن قَامَ الْإِسْلَام. قَالَ: وبعاث اسْم حصن لِلْأَوْسِ.(9/635)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«من لَا حَيَاء لَهُ يصنع مَا شَاءَ» عَلَى مَا ورد مَعْنَاهُ فِي الحَدِيث، هَذَا لفظ الرَّافِعِيّ.
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح جليل أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث أبي مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ البدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن مِمَّا أدْرك النَّاس من كَلَام النُّبُوَّة الأولَى: إِذا لم تستح فَاصْنَعْ مَا شِئْت» . وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» : «آخر مَا كَانَ من كَلَام النُّبُوَّة ... فَذكره. وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ، عَن حُذَيْفَة بِهِ.
قلت: وَمَعْنى «فَاصْنَعْ مَا شِئْت» ، أَي: صنعت. وَقيل: الْمَعْنى إِذا لم تستح من شَيْء لكَونه جَائِزا فَاصْنَعْ إِذْ الْحَرَام يستحى مِنْهُ بِخِلَاف الْجَائِز.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعبد الله بن رَوَاحَة: حرك بالقوم. فَانْدفع يرتجز» .(9/636)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «عمل يَوْم وَلَيْلَة» والمناقب من حَدِيث قيس بن [بِأبي] حَازِم، عَن عبد الله بن رَوَاحَة «أَنه كَانَ مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي مسير لَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن رَوَاحَة، انْزِلْ فحرك بالركاب. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، قد تركت ذَلِك. فَقَالَ لَهُ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: اسْمَع وأطع. قَالَ: فَرَمَى بِنَفسِهِ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْت مَا اهتدينا وَمَا تصدقنا وَمَا صلينَا
فأنزلن سكينَة علينا وَثَبت الْإِقْدَام إِن لاقينا» .
رَوَاهُ فِي المناقب أَيْضا من حَدِيث قيس قَالَ: قَالَ عمر: «قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعبد الله بن رَوَاحَة: لَو حركت الركاب. فَقَالَ: تركت قولي. فَقَالَ لَهُ عمر: اسْمَع وأطع فَقَالَ: اللَّهُمَّ ... . .» إِلَى آخِره إِلَّا أَنه قَالَ: «وَلَا تصدقنا وَلَا صلينَا» بدل «وَمَا» فيهمَا، وَفِي آخِره «فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اللَّهُمَّ ارحمه. فَقَالَ عمر: وَجَبت» قَالَ ابْن عَسَاكِر: قيس لم يدْرك ابْن رَوَاحَة وَالثَّانِي أشبه.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[قَالَ] : «زَينُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ» .(9/637)
هَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من غير إِسْنَاد وَلَا راو، فَقَالَ فِي تَرْجَمَة بَاب قَول النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الماهر بِالْقُرْآنِ مَعَ السفرة الْكِرَام البررة، وزينوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ» . وأسنده الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب، وأسنده ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وأسنده الْبَزَّار من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف لكنه أعله، و [خرج] طرقه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب من عشْرين طَرِيقا عِنْد ذكر ذَلِك كُله بأسانيد وَاضِحَة.
فَائِدَة: قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : هَذَا اللَّفْظ من أَلْفَاظ الأضداد يُرِيد بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: «زَينُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ» : زَينُوا أَصْوَاتكُم بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَى الحَدِيث زَينُوا أَصْوَاتكُم بِالْقُرْآنِ، كَذَا فسره غير وَاحِد من أَئِمَّة الحَدِيث، وَزَعَمُوا أَنه من بَاب المقلوب كَمَا قَالُوا: عرضت النَّاقة عَلَى الْحَوْض. ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ معمر عَن مَنْصُور عَن طَلْحَة(9/638)
فَقدم الْأَصْوَات عَلَى الْقُرْآن وَهُوَ الصَّحِيح. ثمَّ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ من طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَن معمر.
قلت: وَقد أخرجه الْحَاكِم عَن مَنْصُور من سِتّ طرق: سُفْيَان، وزائدة، وَعَمْرو بن أبي قيس، وَجَرِير، وَابْن طهْمَان، وعمار كلهم، عَن مَنْصُور، عَن طَلْحَة، بِتَقْدِيم الْقُرْآن عَلَى الْأَصْوَات، وَكَذَلِكَ الطّرق الَّتِي قدمناها عَن الْحَاكِم كلهَا بِتَقْدِيم الْقُرْآن إِلَّا فِي رِوَايَة وَاحِدَة من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن مَنْصُور، عَن الْأَعْمَش، عَن طَلْحَة مقدم فِيهَا الْأَصْوَات عَلَى الْقُرْآن، وَهِي فِي الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير من طَرِيقين آخَرين:
أَحدهمَا: من حَدِيث عبد الله بن خرَاش - قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث - عَن عَمه الْعَوام بن حَوْشَب، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «زَينُوا أَصْوَاتكُم بِالْقُرْآنِ» .
ثَانِيهمَا: من حَدِيث سعيد بن أبي سعيد الْبَقَّال، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «حسنوا أَصْوَاتكُم بِالْقُرْآنِ» فَيتَعَيَّن أَن تَقْدِيم رِوَايَة الْقُرْآن هِيَ الصَّحِيحَة، وَمَعْنَاهَا عَلَى ظَاهرهَا وَمَا عَداهَا مَحْمُول عَلَيْهَا، وَيكون قَوْله «الْقُرْآن» فِي مَوضِع الْحَال، أَي: زَينُوا أَصْوَاتكُم فِي حَال الْقِرَاءَة، وَقد جَاءَ ذَلِك مُصَرحًا فِي «مُسْند الدَّارمِيّ» و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» من حَدِيث عَلْقَمَة بن مرْثَد، عَن زَاذَان، عَن الْبَراء رَفعه: «زَينُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ فَإِن الصَّوْت الْحسن يزِيد الْقُرْآن حسنا» وَهَذَا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل وَلَا الْقلب، وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا بِالْقُرْآنِ الْكَلَام الْقَدِيم، وَإِنَّمَا المُرَاد مَا يسمعهُ من الْحُرُوف والأصوات.(9/639)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سمع عبد الله بن قيس يقْرَأ فَقَالَ: لقد أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، عَن جده أبي بردة، عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا أَبَا مُوسَى، لقد أُوتيت مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد» . وَأخرجه مُسلم من حَدِيث طَلْحَة بن يَحْيَى بن طَلْحَة بن عبيد الله التَّيْمِيّ، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَو رَأَيْتنِي وَأَنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أُوتيت مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد» . وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة الْحُسَيْن بن وَاقد، عَن عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن أبي بردة قَالَ: «كنت فِي الْمَسْجِد وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يقْرَأ، فَخرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: من هَذَا؟ فَقَالَ: أَبَا بُرَيْدَة جعلت لَك الْفِدَاء يَا رَسُول الله، قَالَ: لقد أعطي هَذَا مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يخرجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَة.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» .(9/640)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة قَالَ البُخَارِيّ: وَقَالَ غَيره: «يجْهر بِهِ» قَالَ عبد الْحق فِي «الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ» تفرد بِهِ.
قلت: وَغلط الْقُرْطُبِيّ صَاحب التَّفْسِير فِي «التذْكَار فِي أفضل الْأَذْكَار» فَقَالَ: رَوَاهُ مُسلم. وَاقْتصر عَلَيْهِ، وَكَذَا وَقع لَهُ ذَلِك فِي تَفْسِير قَوْله فَاعْلَم ذَلِك. وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَابْن حبَان من رِوَايَة سعد بن أبي وَقاص، وَرَوَاهُ الْحَاكِم من رِوَايَة ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة مَرْفُوعا كلهم بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» : رفعهما وهم. وَقَالَ الْحَاكِم فِي حَدِيث سعد: هُوَ صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: قَالَ عبيد الله بن أبي يزِيد: سَمِعت أَبَا لبَابَة يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» . قَالَ عبد الْجَبَّار بن [الْورْد] قلت لِابْنِ أبي مليكَة: يَا أَبَا مُحَمَّد، أَرَأَيْت إِذا لم يكن حسن الصَّوْت. قَالَ: يُحسنهُ مَا اسْتَطَاعَ. قَالَ الشَّافِعِي: مَعْنَى هَذَا(9/641)
الحَدِيث تَحْسِين الصَّوْت بِالْقُرْآنِ. وَكَذَا قَالَه غَيره، وَيُؤَيِّدهُ قَول ابْن أبي مليكَة السالف، وَقَالَ غَيره: هُوَ من الِاسْتِغْنَاء. وَقع فِي آخر رِوَايَة أَحْمد: «قَالَ وَكِيع: يُسْتَغْنَى [بِهِ] » انْتَهَى، أَي: يَسْتَغْنِي بِهِ عَن أَخْبَار الْأُمَم الْمَاضِيَة والكتب الْمُتَقَدّمَة. وَقيل: المُرَاد ضد الْفقر. وَقَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : مَعْنَى [قَوْله « (لَيْسَ منا» فِي هَذِه الْأَخْبَار يُرِيد بِهِ] لَيْسَ مثلنَا فِي اسْتِعْمَال هَذَا الْفِعْل؛ لأَنا لَا نفعله فَمن فعل ذَلِك فَلَيْسَ مثلنَا.
وَقَالَ الإِمَام: أوضح الْوُجُوه فِي تَأْوِيل الحَدِيث: من لم يغنه الْقُرْآن وَلم يَنْفَعهُ فِي إيمَانه وَلم يصدقهُ بِمَا فِيهِ من وعد ووعيد فَلَيْسَ منا. وَقَالَ غَيره: من لم يرتح لقرَاءَته وسماعه.
الحَدِيث السَّادِس عشر
رُوِيَ «أَن دَاوُد (كَانَ يضْرب باليراع فِي غنمه» .
هَذَا الحَدِيث ذكره بِنَحْوِهِ ابْن بطال فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو عَاصِم: ثَنَا ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن عبيد بن عُمَيْر قَالَ: «كَانَت لداود نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - معزفة يتَغَنَّى عَلَيْهَا ويتكئ ويبكي» قَالَ الْجَوْهَرِي: المعزفة آلَات اللَّهْو. وَقَالَ الصَّاغَانِي فِي «الْعباب» : المعازف الملاهي. وَقَالَ ابْن نَاصِر الْحَافِظ: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح عَن دَاوُد وَلَا ثَابت. قَالَ: وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ لَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك إِذْ قد جعل الله صَوته أحسن من المزمار.
فَائِدَة: اليراع بِفَتْح الْيَاء وَهُوَ بتَخْفِيف الرَّاء الَّتِي يسميها النَّاس السبابَة، قَالَ [أهل] اللُّغَة: اليراع الْقصب، الْوَاحِدَة يراعة. قَالَ(9/642)
صَاحب الحكم فِي بَاب الْعين مَعَ الْهَاء وَالرَّاء: الهيرعة الْقصب الَّتِي يزمر بهَا الرَّاعِي. وَنقل الرَّافِعِيّ أَيْضا عَن الصَّحَابَة الترخيص فِي اليراع.
الحَدِيث السَّابِع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أعْلنُوا النِّكَاح واضربوا عَلَيْهِ بالغربال - أَي الدُّف» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وَفِي إِسْنَاده خَالِد بن إلْيَاس الْمَدِينِيّ وَهُوَ ضَعِيف، قَالَ الإِمَام أَحْمد: مُنكر الحَدِيث. وَلما أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي الْأَنْكِحَة قَالَ: خَالِد ضَعِيف. [و] رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة عَائِشَة أَيْضا مَرْفُوعا: «أعْلنُوا هَذَا النِّكَاح، واجعلوه فِي الْمَسَاجِد، واضربوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ» وَهُوَ من رِوَايَة عِيسَى بن مَيْمُون الْأنْصَارِيّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب فِي هَذَا الْبَاب، وَعِيسَى يضعف فِي الحَدِيث. وَفِي بعض النّسخ: حَدِيث حسن. وَفِي ذَلِك نظر؛ فقد قَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: مُنكر الحَدِيث لَا يحْتَج بروايته. وَقَالَ ابْن مهْدي: استعديت عَلَيْهِ فَقلت: مَا هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي تحدث عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة؟ فَقَالَ: لَا أَعُود. وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَته عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة. وَذكر هذَيْن الْحَدِيثين ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» وَضعفهمَا بِمَا قدمْنَاهُ، وَفِي «مُسْند(9/643)
أَحْمد» و «صَحِيح ابْن حبَان» وَالْحَاكِم عَن عبد الله بن الزبير مَرْفُوعا «أعْلنُوا النِّكَاح» قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ ابْن حبَان: مَعْنَاهُ أعلنوه بشاهدي عدل. وَفِي «مُسْند أَحْمد» و «سنَن [ابْن] مَاجَه» وَالنَّسَائِيّ و «جَامع التِّرْمِذِيّ» و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» عَن مُحَمَّد بن حَاطِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فصل مَا بَين الْحَلَال وَالْحرَام الصَّوْت بالدف» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ ابْن طَاهِر: ألزم الدَّارَقُطْنِيّ مُسلما إِخْرَاجه قَالَ: وَهُوَ صَحِيح. وَمن الأوهام القبيحة مَا وَقع فِي كتاب «الإمتاع بِأَحْكَام السماع» لعصريِّنا الشَّيْخ كَمَال الدَّين الأدفوي أَن مُسلما أخرج حَدِيث «أعْلنُوا النِّكَاح واضربوا عَلَيْهِ بالدف» وَهَذَا مِمَّا يجب كشطه.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
«أَن امْرَأَة أَتَت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي نذرت أَن(9/644)
أضْرب بالدف بَين يَديك إِن رجعت من سفرك سالما. فَقَالَ (: أوف بِنَذْرِك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما رَجَعَ من بعض مغازيه، جَاءَتْهُ جَارِيَة سَوْدَاء فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي نذرت إِن ردك الله سالما أَن أضْرب بَين يَديك بالدف وأتغنى. فَقَالَ لَهَا: إِن كنت نذرت فأوف بِنَذْرِك» . هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَلَفظ ابْن حبَان: «رَجَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من بعض مغازيه، [فَجَاءَت جَارِيَة سَوْدَاء] فَقَالَت: إِنِّي نذرت [إِن ردك الله سالما] أَن أضْرب عَلَى رَأسك بالدف. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: إِن كنت نذرت فافعلي وَإِلَّا فَلَا. فَقعدَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَضربت بالدف» . وَقَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ عِنْدِي ضَعِيف؛ لضعف رِوَايَة عَلّي بن حُسَيْن بن وَاقد. قَالَ أَبُو حَاتِم: ضَعِيف. وَقَالَ الْعقيلِيّ: كَانَ مرجئًا. قَالَ: وَلَكِن رَوَاهُ عَن حُسَيْن بن وَاقد غير عَلّي الْمَذْكُور، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَن زيد بن حباب، عَن حُسَيْن ابْن وَاقد، عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غزا فنذرت أمة سَوْدَاء إِن رده الله سالما أَن تضرب بالدف، فَرجع سالما غانمًا فَأَخْبَرته بِهِ، فَقَالَ: إِن كنت فعلت فافعلي وَإِلَّا فَلَا. فَقَالَت: يَا رَسُول الله، قد فعلت. فَضربت، فَدخل أَبُو بكر وَهِي(9/645)
تضرب، وَدخل عمر وَهِي تضرب فَأَلْقَت الدُّف وَجَلَست عَلَيْهِ مقنعة، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: أَنا هَاهُنَا، وَأَبُو بكر هَاهُنَا، وَهَؤُلَاء هَاهُنَا، إِنِّي لأحسب الشَّيْطَان يفر مِنْك يَا عمر» . قَالَ: فَهَذَا حَدِيث صَحِيح.
قلت: وَعلي بن حُسَيْن بن وَاقد الْمَدِينِيّ أعل الحَدِيث بِهِ ابْن الْقطَّان، قد قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَذكره ابْن حبَان فِي «الثِّقَات» وَهَذَا التَّضْعِيف خَاص بِرِوَايَة التِّرْمِذِيّ، أما ابْن حبَان فَأخْرجهُ فِي «صَحِيحه» عَن ابْن خُزَيْمَة، نَا زِيَاد بن أَيُّوب، نَا أَبُو تُمَيْلة يَحْيَى بن وَاضح، نَا الْحُسَيْن بن وَاقد، نَا عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه ... . فَذكره كَمَا تقدم، وَكَذَا أخرجه أَحْمد فِي «الْمسند» فَقَالَ: ثَنَا زيد بن الْحباب، حَدثنِي حُسَيْن بن وَاقد، حَدثنِي عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه «أَن أمة سَوْدَاء أَتَت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد رَجَعَ عَن بعض مغازيه، فَقَالَت: إِنِّي كنت نذرت إِن ردك الله صَالحا أَن أضْرب عَلَيْك بالدف. قَالَ: إِن كنت فعلت فافعلي، وَإِن كنت لم تفعلي فَلَا تفعلي. فَضربت، فَدخل أَبُو بكر وَهِي تضرب، وَدخل غَيره وَهِي تضرب، ثمَّ دخل عمر فَجعلت دفها خلفهَا وَهِي مُقنِعة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن الشَّيْطَان (ليفر) مِنْك يَا عمر، أَنا جَالس هَاهُنَا وَدخل هَؤُلَاءِ، فَلَمَّا أَن دخلت فعلت مَا فعلت» . وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «فَإِن كنت نذرت فاضربي. قَالَ: فَجعلت تضرب فَدخل أَبُو بكر وَهِي تضرب، ثمَّ دخل عمر فَأَلْقَت الدُّف (عَنْهَا)(9/646)
وَقَعَدت عَلَيْهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: إِن الشَّيْطَان يخَاف مِنْك يَا عمر» .
قلت: (وَقد ورد) من طرق أخر أَن عمر سمع ذَلِك، رَوَاهُ ابْن طَاهِر فِي «صفوة التصوف» من حَدِيث عبد الله بن أبي مليكَة أَن عَائِشَة حدثته «أَنه كَانَت عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - امْرَأَة تغني، فَاسْتَأْذن عمر بن الْخطاب فَأَلْقَت الدُّف وَقَامَت، فَدخل عمر وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يضْحك فَقَالَ: بِأبي أَنْت وَأمي، مَا أضْحكك يَا رَسُول الله؟ فَذكر لَهُ الْخَبَر فَقَالَ: لَا أَبْرَح حَتَّى أسمع [يَا] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَسمع» قَالَ ابْن طَاهِر: لَوْلَا أَنه من رِوَايَة بكار بن عبد الله لحكمت لَهُ بِالصِّحَّةِ، لَكِن بكار مُتَكَلم فِيهِ.
قلت: هُوَ كَلَام غير قَادِح، وَقد وَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَا نعلم قدحًا فِيهِ. وَرَوَاهُ الْخَطِيب من رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن بكار، وَجعل الضعْف فِيهِ من طَرِيق آخر لَيْسَ من طَرِيق ابْن طَاهِر، وَرَوَاهُ الفاكهي فِي «تَارِيخ مَكَّة» من طَرِيق آخر غَيرهمَا، وَفِيه مُتَابعَة عبد الْجَبَّار بن الْورْد الثِّقَة لبكار، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد، عَن الْحَارِث بن عبيد، عَن عبيد الله بن الْأَخْنَس، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن امْرَأَة أَتَت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي نذرت أَن أضْرب عَلَى رَأسك بالدف. فَقَالَ: أوف بِنَذْرِك» . رجال إِسْنَاده ثِقَات.(9/647)
الحَدِيث التَّاسِع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله حرم عَلَى أمتِي الْخمر وَالْميسر والكوبة» فِي أَشْيَاء عدهَا.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من طرق:
إِحْدَاهَا: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله - تبَارك وَتَعَالَى - حرم عَلَيْكُم الْخمر وَالْميسر والكوبة - وَهُوَ الطبل - قَالَ: وكل مُسكر حرَام» وَفِي رِوَايَة لَهُ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «إِن الله حرم [عليَّ - أَو] وحرم الْخمر وَالْميسر والكوبة. وَقَالَ: كل مُسكر حرَام. قَالَ سُفْيَان: قلت لعَلي مَا الكوبة؟ قَالَ: الطبل» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِهَذَا اللَّفْظ، (وَكَذَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» .
ثَانِيهَا: عَن عبد الله بن [عمر و] «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الْخمر وَالْميسر والكوبة والغُبَيْراء، وَقَالَ: كل مُسكر حرَام» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِهَذَا اللَّفْظ) وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ «القنين» وَأخرجه أَحْمد بِلَفْظ أبي دَاوُد وَزَاد: «المزر والقنين» .(9/648)
ثَالِثهَا: عَن قيس بن سعد بن عبَادَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن رَبِّي حرم عَلّي الْخمر وَالْميسر والقنين والكوبة. قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا: القنين الْعود» وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد فِي «مُسْنده» وَكتاب الْأَشْرِبَة لَهُ «إِن الله عَزَّ وَجَلَّ حرم عَلّي الْخمر والكوبة والقنين، وَإِيَّاكُم والغبيراء فَإِنَّهَا ثلث خمر الْعَالم» . قَالَ أَحْمد: قلت ليحيى بن إِسْحَاق: مَا الكوبة؟ قَالَ: الطبل. وَهَذِه الطّرق كلهَا معلولة خلا الأول، فَإِن إسنادها صَحِيح؛ فَإِن أَبَا دَاوُد خرجه عَن مُحَمَّد بن بشار - وَهُوَ إِمَام حَافظ - عَن أبي أَحْمد وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله الزبيري، وَهُوَ كُوفِي من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» - عَن سُفْيَان الثَّوْريّ - وناهيك فِيهِ - عَن عَلّي بن بذيمة - وَهُوَ ثِقَة - عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، عَن ابْن عَبَّاس، فَهَذَا إِسْنَاد يتَّصل عَلَى شَرط الصَّحِيح، وَقد رَأَيْت بعض مصنفي زمننا أعله بِمَا لَو سكت عَنهُ لَكَانَ أولَى بِهِ. وَأما الطَّرِيق الثَّانِي: فَفِيهِ عنعنة ابْن إِسْحَاق، وَفِي إِسْنَاد رِوَايَة أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ (ابْن) لَهِيعَة وحالته مَعْلُومَة، وَفِيه أَيْضا الْوَلِيد بن عَبدة قَالَ أَبُو حَاتِم: مَجْهُول. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، قَالَ(9/649)
الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: وَوَقع فِي رِوَايَة اللؤْلُؤِي عبد الله بن عمر يَعْنِي بِحَذْف الْوَاو فِي آخِره، وَهُوَ وهم وَالصَّوَاب إِثْبَاتهَا. وَأما الطَّرِيق الثَّالِث: فَفِيهِ عبيد الله بن زحر وَهُوَ ضَعِيف كَمَا هُوَ أسلفته لَك فِي كتاب النّذر، وَقَالَ عبد الْحق: فِي إِسْنَاده يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عبيد الله بن زحر ... ذكر الْكَلَام فِي ابْن زحر، وَذكر من رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن ابْن جريج، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة؛ ثمَّ قَالَ: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يثبت مَرْفُوعا، وَالْمَحْفُوظ من قَول أبي هُرَيْرَة وَاخْتلف فِيهِ.
فَائِدَة: الكوبة: الطبل الطَّوِيل المتسع الطَّرفَيْنِ الضّيق الْوسط كَذَا فِي الرَّافِعِيّ، وَلم أر من قَيده من أهل اللُّغَة بِهَذَا؛ فقد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي «الْفَائِق» : هِيَ النَّرْد، وَقيل: الطبل. وَقَالَ ابْن فَارس فِي «الْمُجْمل» : الكوبة الطبل عَلَى مَا قيل، وَقَالَ: النَّرْد. وَحَكَى الْبَيْهَقِيّ عَن أبي عُبَيْدَة أَنَّهَا النَّرْد بلغَة الْيمن، قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: إِنَّهَا النَّرْد، وَيُقَال: الطبل، وَقيل: البربط، وَهَذَا أظهر. وَقَالَ الْخطابِيّ: غلط، وَقَالَ: الكوبة الطبل بل هِيَ النَّرْد. القنين: قيل: إِنَّه الطنبور بلغَة الحبشية. وَقيل: الْعود. كَمَا تقدم فِي آخر حَدِيث قيس بن سعد بن عبَادَة، قيل: لعبة للروم يتقامرون بهَا. قَالَه ابْن الْأَعرَابِي حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي «الْفَائِق» وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» : إِنَّه البربط. وَقَالَ فِيهِ فِي تَرْجَمَة قيس(9/650)
بن سعد بن عبَادَة: إِنَّه لعبة للروم. والغبيراء: السكركة - أَي بتسكين الرَّاء - تعْمل من الذّرة تصنعها الْحَبَشَة. قَالَه الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» ، وَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي مُوسَى عَن دُحَيْم «أَنه سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن السكركة - أَي بتسكين الرَّاء - وَأخْبر أَنه يصنعه من الْقَمْح فَنَهَاهُ عَنهُ» . وَفِي «مُسْند» الشَّافِعِي أبنا مَالك، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الغبيراء فَقَالَ: لَا خير فِيهَا ونهانا عَنْهَا ... قَالَ مَالك عَن زيد: هِيَ السكركة» .
الحَدِيث الْعشْرُونَ
اشْتهر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وقف لعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها يَسْتُرهَا حَتَّى تنظر إِلَى الْحَبَشَة وهم يَلْعَبُونَ ويزفنون» والزفن: الرقص.
هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْهَا «أَن أَبَا بكر دخل عَلَيْهَا وَعِنْدهَا جاريتان فِي أَيَّام منى (يزفنون ويضربان) وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - متغشٍ بِثَوْبِهِ فانتهرهما أَبُو بكر، فكشف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (عَن وَجهه فَقَالَ: دعهما يَا أَبَا بكر، فَإِنَّهَا أَيَّام عيد. قَالَت عَائِشَة: وَرَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) يسترني وَأَنا أنظر إِلَى الْحَبَشَة وهم يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِد فزجرهم عمر، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: دعهم يَا عمر» .(9/651)
فَائِدَة: لَا تعَارض بَين هَذَا الحَدِيث والْحَدِيث السالف فِي النِّكَاح «أفعمياوان أَنْتُمَا، ألستما تبصرانه» فَإِن هَذَا كَانَ قبل بُلُوغ عَائِشَة، وَقد جَاءَ مَا يدل عَلَى ذَلِك، وَيحْتَمل أَنه كَانَ قبل أَن يضْرب عَلَيْهِنَّ الْحجاب، ووقائع الْأَعْيَان يسْقط الِاحْتِجَاج بهَا لتطرق الِاحْتِمَال إِلَيْهَا.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَهُ شعراء يصغي إِلَيْهِم مِنْهُم حسان بن ثَابت وَعبد الله بن رَوَاحَة، واستنشد الشريد شعر أُميَّة بن أبي الصَّلْت، واستمع إِلَيْهِ» .
هَذَا كُله صَحِيح وَهُوَ أظهر من أَن ينص عَلَيْهِ، وَسَنذكر من ذَلِك أَرْبَعَة أَحَادِيث: عَن حسان حديثين، وَعَن ابْن رَوَاحَة حَدِيثا، وَعَن الشريد الثَّقَفِيّ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول: رَوَاهُ مُسلم عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «قَالَ حسان: يَا رَسُول الله، ائْذَنْ لي فِي أبي سُفْيَان. قَالَ: فَكيف فِي قَرَابَتي مِنْهُ؟ قَالَ: وَالَّذِي أكرمك لأسلنك مِنْهُم كَمَا تسل الشعرة من الخميرة. فَقَالَ حسان:
ثمَّ بَنو بنت مَخْزُوم ووالدك العَبْد
إِن سَنَام الْمجد من آل هَاشم
وَبعد هَذَا بَيت فِي غير مُسلم:
كرام وَلم يقرب عجائزك الْمجد» _ _ من ولدت أَبنَاء زهرَة مِنْهُم _ _
الحَدِيث الثَّانِي: رَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اهجوا قُريْشًا فَإِنَّهُ أَشد عَلَيْهَا من رشق(9/652)
النبل. فَأرْسل إِلَى ابْن رَوَاحَة فَقَالَ: (اهج) . فهجاهم فَلم يرض، فَأرْسل إِلَى كَعْب بن مَالك، ثمَّ أرسل إِلَى حسان بن ثَابت فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ حسان: قد آن لكم أَن تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الْأسد (الضاري) بِذَنبِهِ. ثمَّ أدلع لِسَانه فَجعل يحركه ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لأفرينهم بلساني فري الْأَدِيم. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تعجل، فَإِن أَبَا بكر أعلم قُرَيْش بأنسابها، وَإِن لي فيهم نسبا حَتَّى (يخلص) لَك نسبي. فَأَتَاهُ حسان، ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، قد مَحْض لي نسبك، وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لأسلنك مِنْهُم كَمَا تسل الشعرة من الْعَجِين. قَالَت عَائِشَة: فَسمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول لحسان: إِن روح الْقُدس لَا يزَال يؤيدك مَا نافحت (عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) [وَقَالَت: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] يَقُول: هجاهم حسان فشفى عَلَيْهِم واشتفى، فَقَالَ حسان:
هجوت مُحَمَّدًا فأجبت عَنهُ ... وَعند الله فِي ذَاك الْجَزَاء
هجوت مُحَمَّدًا برًّا حَنِيفا ... رَسُول الله شيمته الْوَفَاء
فَإِن أبي ووالده وعرضي ... لعرض مُحَمَّد مِنْكُم وقاء
ثكلت بنيتي إِن لم تَرَوْهَا ... تثير النَّقْع موعدها كداء
(يبار عَن الأسنة مشرعات)
عَلَى أكتافها الأسل الظماء
تظل [جيادنا] تمطرت ... تلطمهن بِالْخمرِ النِّسَاء(9/653)
فَإِن أعرضتم عَنَّا اعتمرنا ... وَكَانَ الْفَتْح وانكشف الغطاء
وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لضراب يَوْم ... يعز الله فِيهِ من يَشَاء.
[وَقَالَ الله قد أرْسلت عبدا ... يَقُول الْحق لَيْسَ بِهِ خَفَاء] .
وَقَالَ الله: قد أرْسلت جندًا ... هم الْأَنْصَار عرضتها اللِّقَاء.
لنا فِي كل يَوْم من معد ... سباب أَو قتال أَو هجاء.
فَمن يهجو رَسُول الله [مِنْكُم] ... ويمدحه وينصره سَوَاء.
وَجِبْرِيل رَسُول الله فِينَا ... وروح الْقُدس لَيْسَ لَهُ كفاء.
الحَدِيث الثَّالِث: رَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه كَانَ يَقُول فِي قصصه يذكر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِن أَخا لكم لَا يَقُول الرَّفَث - يَعْنِي بذلك عبد الله بن رَوَاحَة. قَالَ:
وَفينَا رَسُول الله يَتْلُو كِتَابه ... إِذا اشتق مَعْرُوف من الْفجْر سَاطِع
أرانا الْهدى بعد الْعَمى فَقُلُوبنَا ... بِهِ مُوقِنَات أَن مَا قَالَه وَاقع
يبيت يُجَافِي جنبه عَن فرَاشه ... إِذا اسْتَقَلت (بالكافرين) الْمضَاجِع.
الحَدِيث الرَّابِع: رَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن عَمْرو بن الشريد عَن أَبِيه قَالَ: «أردفني رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: هَل مَعَك من شعر أُميَّة بن أبي الصَّلْت شَيْء؟ قَالَ: نعم. قَالَ: هيه. قَالَ:(9/654)
فَأَنْشَدته بَيْتا فَقَالَ: هيه قَالَ: فَأَنْشَدته حَتَّى بلغت مائَة بَيت» وَفِي رِوَايَة «أنشدت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مائَة قافية من قَول أُميَّة بن أبي الصَّلْت كل ذَلِك يَقُول: هيه هيه. ثمَّ قَالَ: إِن كَاد فِي شعره ليسلم» .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لفاطمة: «أما مُعَاوِيَة فصعلوك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح قد سلف مطولا فِي الْأَنْكِحَة.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تقبل شَهَادَة ظنين وَلَا خصم» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه لم أَقف عَلَى من خرجه، وَإِنَّمَا رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» مَوْقُوفا عَلَى [عمر] بلاغًا، وَهَذَا لَفظه: عَن مَالك أَنه بلغه أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: «لَا تجوز شَهَادَة خصم وَلَا ظنين» . وَوَقفه عَلَى عَائِشَة وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة، أما حَدِيث عَائِشَة فَتقدم فِي الْبَاب بِلَفْظ: «لَا تجوز شَهَادَة ظنين فِي وَلَاء وَلَا قرَابَة» . وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث حَمَّاد ابْن الْحسن، [عَن أبي دَاوُد] ، عَن قيس بن الرّبيع، عَن عبد الله بن [مُحَمَّد بن] عقيل، عَن جَابر مَرْفُوعا: «لَا تجوز شَهَادَة مُتَّهم وَلَا ظنين» . أعله عبد الْحق بِعَبْد الله بن عقيل(9/655)
فَقَالَ: ضعفه النَّاس إِلَّا أَحْمد بن [حَنْبَل و] إِسْحَاق [بن رَاهَوَيْه] والْحميدِي.
قلت: وَغَيرهم كَمَا عَرفته فِي بَاب الْوضُوء وَترك فِي الْإِسْنَاد - كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان - قيس بن الرّبيع وَهُوَ ضَعِيف عِنْده، وَحَمَّاد بن الْحسن وَهُوَ لَا يعرف حَاله.
وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا تجوز شَهَادَة ذِي الْجنَّة والظنينة» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَادَّعَى الإِمَام فِي «نهايته» أَن الشَّافِعِي اعْتمد خَبرا صَحِيحا وَهُوَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «لَا تقبل شَهَادَة خصم عَلَى خصم» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأَصَح مَا رُوِيَ فِي الْبَاب [وَإِن كَانَ مُرْسلا] حَدِيث عبد الرَّحْمَن [عَن] الْأَعْرَج أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تجوز شَهَادَة ذِي الظنة وَالْجنَّة. [والحنة] وَالْجنَّة: الْجُنُون [والحنة] : الَّذِي يكون بَيْنك وَبَينه عَدَاوَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا أَدْرِي هَذَا التَّفْسِير من قَول من [من] هَؤُلَاءِ الروَاة. يَعْنِي: رُوَاة الحَدِيث، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» وَجعل التَّفْسِير الْمَذْكُور من قَوْله. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ من وَجه آخر مُرْسل عَن طَلْحَة بن عبد الله بن عَوْف «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث مناديًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى الثَّنية: أَنه لَا(9/656)
تجوز شَهَادَة خصم وَلَا ظنين وَالْيَمِين عَلَى الْمُدعَى عَلَيْهِ» . أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» مَعَ حَدِيث الْأَعْرَج.
قلت: الَّذِي فِي «مراسيله» من حَدِيث طَلْحَة الْمَذْكُور «لَا تجوز شَهَادَة الْخصم وَلَا ظنين» لم يزدْ عَلَى هَذَا، ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَانِ المرسلان يقويان حَدِيث عَائِشَة السالف ويؤكدانه.
فَائِدَة: الظنين: الْمُتَّهم، وَقيل المُرَاد الْخصم الْعَدو وَحَكَاهُ الرَّافِعِيّ، وَاعْلَم أَنه تقدم فِي الحَدِيث «إحْنَة» بِالْألف، وَفِي الصَّحِيح: فِي صَدره إحْنَة؛ أَي: حقد، وَلَا تقل: حنة. وَفِي الغريبين للهروي [الحنة] لُغَة ردية واللغة الْعَالِيَة: إحْنَة. قَالَ الْأَصْمَعِي: فِي صَدره إحْنَة، وَلَا يُقَال: حنة. وَحَكَى «حنة» المطرزي عَن ابْن الْأَعرَابِي وَابْن درسْتوَيْه عَن الْخَلِيل وَابْن خالويه.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
رُوِيَ فِي الْخَبَر: «لَا تجوز شَهَادَة الْوَالِد للْوَلَد وَلَا الْوَلَد للوالد» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، وَاحْتج الْبَيْهَقِيّ فِي الْمَسْأَلَة بِحَدِيث الْمسور بن مخرمَة الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فَاطِمَة بضعَة مني ... » الحَدِيث. وَقَالَ(9/657)
ابْن الرّفْعَة فِي «مطلبه» : فَهَذِهِ الزِّيَادَة - يَعْنِي: الحَدِيث الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ - اسْتدلَّ [بِهِ] القَاضِي حُسَيْن وَلَو صحت لكفت فِي الْبَاب، وَلَكِن السَّاجِي قَالَ: إِن أهل النَّقْل لَا يثبتون الزِّيَادَة. وَقَالَ فِي «كِفَايَته» : وَمثل هَذَا الحَدِيث كَحَدِيث عَائِشَة السَّابِق: «لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة» . وَتكلم الْعلمَاء فِي هَذِه الزِّيَادَة فَإِن صحت فَفِي قَوْله «ظنين فِي قرَابَة» دَلِيل عَلَيْهِ.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[قَالَ] : «لَا تقبل شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة، وَلَا ذِي غمر عَلَى أَخِيه» «وَلَا ظنين» فِي رِوَايَة.
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي أَوَائِل الْبَاب.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي معرض الذَّم: «يَجِيء قوم يُعْطون الشَّهَادَة قبل أَن يسألوها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي [صَحِيحَيْهِمَا] من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (خير الْقُرُون(9/658)
قَرْني) ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين ... - قَالَ عمرَان: فَلَا أَدْرِي أذكر بعد قرنه قرنين أَو ثَلَاثَة - ثمَّ إِن من بعدهمْ قوما يشْهدُونَ، وَلَا يستشهدون يخونون وَلَا يؤتمنون، وينذرون وَلَا يُوفونَ، وَيظْهر فيهم السّمن» . وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَحْسنُوا إِلَى أَصْحَابِي ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ - ثمَّ يفشو الْكَذِب حَتَّى يحلف الرجل عَلَى الْيَمين قبل أَن يسْتَحْلف عَلَيْهَا وَيشْهد عَلَى الشَّهَادَة قبل أَن يستشهد عَلَيْهَا ... » الحَدِيث بِطُولِهِ.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَلا أخْبركُم بِخَير الشُّهَدَاء الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قبل أَن يستشهد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم من طَرِيق زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
فَائِدَتَانِ: الأولَى: فِي المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث تَأْوِيلَانِ؛ أصَحهمَا وأشهرهما تَأْوِيل مَالك وأصحابنا عَلَى من عِنْده شَهَادَة لإِنْسَان بِحَق وَلَا يعلم ذَلِك الْإِنْسَان أَنه شَاهد فَأَتَى إِلَيْهِ يُخبرهُ بِأَنَّهُ شَاهد لَهُ. وَثَانِيهمَا: أَنه مَحْمُول عَلَى شَهَادَة الْحِسْبَة وَذَلِكَ فِي غير حُقُوق الْآدَمِيّين. وَفِيه تَأْوِيل(9/659)
ثَالِث: أَنه مَحْمُول عَلَى الْمُبَالغَة، كَمَا يُقَال: الْجواد يُعْطي قبل السُّؤَال من غير توقف.
الثَّانِيَة: كَيفَ ذمّ فِي الحَدِيث الَّذِي قبل هَذَا الشَّهَادَة قبل الاستشهاد ومدح هُنَا؟ ! وَجمع
[بَينهمَا عَلَى] أوجه أَصَحهَا: أَنه مَحْمُول عَلَى من مَعَه شَهَادَة لآدَمِيّ عَالم بهَا فَيَأْتِي فَيشْهد [بهَا قبل أَن تطلب مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنه مَحْمُول عَلَى شَاهد الزُّور فَيشْهد] بِمَا لَا أصل لَهُ فِيهِ وَلم يستشهد. وَثَالِثهَا: أَنه مَحْمُول عَلَى من ينْتَصب شَاهدا وَلَيْسَ من أَهلهَا. وَرَابِعهَا: أَنه مَحْمُول [عَلَى] من يشْهد لقوم بِالْجنَّةِ أَو بالنَّار من غير توقف، وَهَذَا ضَعِيف.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تَوْبَة الْقَاذِف إكذابه نَفسه» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لم أَقف عَلَى من خرجه، وَعَزاهُ بعض من تكلم عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» إِلَى «سنَن الْبَيْهَقِيّ» وَلم أره فِيهِ كَذَلِك، وَالَّذِي ذكره الْبَيْهَقِيّ بعد أَن بوب شَهَادَة الْقَاذِف عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ لأبي بكرَة: «تب تقبل شهادتك» . وَعَن الشَّافِعِي «أَنه بلغه عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يُجِيز شَهَادَة الْقَاذِف إِذا تَابَ» . وَفِي رِوَايَة عَنهُ «أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: «وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا أُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين(9/660)
تَابُوا» . [فَمن تَابَ] وَأصْلح فشهادته فِي كتاب [الله] مَقْبُولَة وَعَن ابْن أبي نجيح أَنه قَالَ: «الْقَاذِف إِذا تَابَ تقبل شَهَادَته» . وَعَن عَطاء وَطَاوُس وَمُجاهد وَالضَّحَّاك وَعبد الله بن عتبَة مثله. وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: «يقبل الله تَوْبَته وَلَا تقبلون شَهَادَته!» . وَعَن مطرف عَن الشّعبِيّ «أَنه كَانَ يَقُول فِي الْقَاذِف إِذا فرغ من ضربه فأكذب نَفسه وَرجع عَن قَوْله: قبلت شَهَادَته» . وَعَن حُصَيْن قَالَ: «رَأَيْت رجلا جلد حدًّا فِي قذف بالريبة، فَلَمَّا فرغ من ضربه أحدث تَوْبَة وَقَالَ: أسْتَغْفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ من قذف الْمُحْصنَات. فَلَقِيت أَبَا الزِّنَاد فَأَخْبَرته بذلك فَقَالَ: الْأَمر عندنَا إِذا رَجَعَ عَن قَوْله واستغفر ربه قبلت شَهَادَته» . وَعَن سُلَيْمَان بن يسَار وَسَعِيد بن الْمسيب وَابْن شهَاب «أَنهم سئلوا عَن رجل جلد هَل تجوز شَهَادَته؟ قَالُوا: لَا، إِلَّا أَن يظْهر مِنْهُ التَّوْبَة» . ثمَّ ذكر الْبَيْهَقِيّ حَدِيث الْإِفْك الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعَائِشَة: «إِنَّه بَلغنِي عَنْك كَذَا وَكَذَا، فَإِن كنت بريئة فسيبرئك الله، وَإِن كنت قد أَلممْت بالذنب فاستغفري وتوبي إِلَيْهِ، فَإِن العَبْد إِذا اعْترف بِذَنبِهِ ثمَّ تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ» . ثمَّ رَوَى عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: «النَّدَم تَوْبَة» . وَعَن عبد الله مَوْقُوفا عَلَيْهِ بِزِيَادَة: «والتائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ» . قَالَ: وَهَذَا مُنْقَطع وَمَوْقُوف. قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضا مَرْفُوعا بِهَذِهِ الزِّيَادَة قَالَ: وَالْمَعْرُوف يُوقف عَلَيْهِ. وَرُوِيَ بِهَذِهِ الزِّيَادَة من حَدِيث أبي عتبَة الْخَولَانِيّ وَابْن عَبَّاس وَأبي سعدة الْأنْصَارِيّ مَرْفُوعا وَأَسَانِيده ضَعِيفَة. وَعَن أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: «كل شَيْء(9/661)
يتَكَلَّم بِهِ ابْن آدم فَإِنَّهُ مَكْتُوب عَلَيْهِ، فَإِذا أَخطَأ الْخَطِيئَة وَأحب أَن يَتُوب إِلَى الله فليأت بقْعَة رفيعة فليمد يَدَيْهِ إِلَى الله وَيَقُول: إِنِّي أَتُوب إِلَيْك مِنْهَا لَا أرجع إِلَيْهَا أبدا. فَإِنَّهُ يغْفر لَهُ مَا لم يرجع فِي عمله ذَلِك» . هَذَا ملخص مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي هَذَا الْبَاب وَيُؤْخَذ من مَجْمُوعَة الدّلَالَة لما ذكره المُصَنّف.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
أَن سعد بن أبي وَقاص قَالَ: «يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت لَو وجدت مَعَ امْرَأَتي رجلا أمهله حَتَّى آتِي بأَرْبعَة شُهَدَاء؟ قَالَ: نعم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَقد تقدم بَيَانه فِي كتاب الصّيام وَاضحا، لَكِن الْمَعْرُوف بذلك هُوَ سعد بن عبَادَة لَا ابْن أبي وَقاص فَلَعَلَّهُ من زلل الْكَاتِب.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
ورد فِي الْخَبَر: «زنا الْعَينَيْنِ النّظر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَقد سلف فِي كتاب اللّعان فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر عَامل خَيْبَر يَبِيع الْجمع بِالدَّرَاهِمِ وَيَشْتَرِي ... » الحَدِيث.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَقد سلف بَيَانه فِي بَاب الرِّبَا وَاضحا.(9/662)
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِشَاهِد وَيَمِين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير كِلَاهُمَا، عَن زيد بن الْحباب، عَن سيف بن سُلَيْمَان الْمَكِّيّ، عَن قيس بن سعد، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَقَالَ: إِسْنَاده جيد. وَابْن مَاجَه من رِوَايَة سيف بن سُلَيْمَان بِهِ. وَرَوَاهُ أَيْضا الشَّافِعِي عَن عبد الله بن الْحَارِث المَخْزُومِي، عَن سيف بِهِ بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد» ثمَّ قَالَ عَمْرو: «فِي الْأَمْوَال» . وَحَكَى الشَّافِعِي عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه تكلم فِيهِ وَقَالَ: لَو أعلم أَن سيف بن سُلَيْمَان يرويهِ لأفسدته عِنْد النَّاس قَالَ الشَّافِعِي: فَقلت: يَا أَبَا عبد الله إِذا أفسدته فسد وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الرّبيع قَالَ الشَّافِعِي: وَهَذَا الحَدِيث ثَابت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يرد أحد من أهل الْعلم مثله لَو لم يكن فِيهِ غَيره مَعَ أَن مَعَه غَيره مِمَّا يشده. وَقَالَ ابْن عبد [الْبر] : لَا مطْعن لأحد فِي إِسْنَاده وَلَا خلاف عِنْد أهل الْمعرفَة بِصِحَّتِهِ وَأَن رِجَاله(9/663)
ثِقَات. وَقَالَ الْبَزَّار: وَقيس بن سعد، وَسيف بن سُلَيْمَان وَمن بعدهمَا يُسْتَغْنَى عَن ذكرهمَا فِي النَّقْل وَالْعَدَالَة. وَقَالَ مرّة: فِي الْبَاب: أَحَادِيث حسان أَصَحهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس. وَقَالَ ابْن الطلاع فِي «أَحْكَامه» : حَدِيث ثَابت وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه و «هج الْجَمْر» : لَا مطْعن لأحد فِي إِسْنَاده، وَلَا خلاف بَين أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ فِي ثُبُوته، وَقد تَوَاتَرَتْ الْآثَار بِهِ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ الْحفاظ فِيمَا نَقله عَنْهُم النَّوَوِيّ فِي «شرح مُسلم» : هُوَ أصح أَحَادِيث هَذَا الْبَاب. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَسيف بن سُلَيْمَان الْمَكِّيّ ثَبت ثِقَة عِنْد أَئِمَّة النَّقْل، قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: سَأَلت يَحْيَى بن سعيد عَنهُ فَقَالَ: هُوَ عندنَا مِمَّن يصدق ويحفظ. قَالَ: وَقد تَابعه عَلَى ذَلِك جمَاعَة ... فَذكر ذَلِك بأسانيده. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: وَقد تعرض لهَذَا الحَدِيث بعض الْمُخَالفين مِمَّن لَيْسَ من صناعته معرفَة الصَّحِيح من السقيم، فاحتج فِيهِ بِمَا رُوِيَ عَن أبي زَكَرِيَّا يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ: حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا لَيْسَ بِمَحْفُوظ. قَالَ الْحَاكِم: فَأَقُول - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق -: إِن شَيخنَا أَبَا زَكَرِيَّا لم يُطلق هَذَا القَوْل عَلَى حَدِيث سيف بن سُلَيْمَان، عَن قيس بن سعد، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس، وَإِنَّمَا أَرَادَ الحَدِيث الَّذِي رُوِيَ عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس، أَو الحَدِيث الَّذِي تفرد بِهِ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أبي يَحْيَى، وَأما حَدِيث سيف بن سُلَيْمَان فَلَيْسَ فِي إِسْنَاده من يجرح وَلم نعلم لَهُ أَيْضا عِلّة نعلل بِهِ الحَدِيث، وَالْإِمَام أَبُو زَكَرِيَّا أعرف بِهَذَا الشَّأْن من أَن يظنّ بِهِ أَن يوهن حَدِيثا يظنّ بِهِ يرويهِ(9/664)
الثِّقَات من الْأَثْبَات. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَعلل الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث بِأَنَّهُ لَا يعلم قيسا يحدث عَن عَمْرو بن دِينَار بِشَيْء، وَلَيْسَ مَا لَا يُعلمهُ الطَّحَاوِيّ لَا يُعلمهُ غَيره. ثمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ حَدِيثا فهم مِنْهُ التَّصْرِيح بِسَمَاع قيس بن سعد عَن عَمْرو بن دِينَار، وَهُوَ حَدِيث الَّذِي وقصته نَاقَته وَهُوَ محرم وَلَفظه: عَن وهب بن جرير عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت قيس بن سعد يحدث عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير ... إِلَى آخِره، ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلَا يبعد أَن يكون لَهُ عَن عَمْرو غير هَذَا قَالَ: وَلَيْسَ من شَرط قبُول الْأَخْبَار كَثْرَة رِوَايَة الرَّاوِي عَمَّن رَوَى عَنهُ، وَإِذا رَوَى الثِّقَة عَمَّن لَا يُنكر سَمَاعه مِنْهُ حَدِيثا وَاحِدًا وَجب قبُوله وَإِن لم يرو عَنهُ غَيره، وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس. كَذَلِك (رَوَاهُ أَبُو حُذَيْفَة، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي) عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس كَذَلِك وَمَعْنَاهُ. وَخَالَفَهُمَا [خَالِد] بن يزِيد الْعمريّ [تَابعه] عَلَى ذَلِك عبد الله بن مُحَمَّد بن ربيعَة القدامي وعصام بن يُوسُف الْبَلْخِي، وخَالِد والقدامي وعصام لَيْسُوا بأقوياء، وَعبد الرَّزَّاق ثِقَة حجَّة وَتَابعه عَن مُحَمَّد بن مُسلم فَرَوَاهُ عَنهُ عَن عَمْرو عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس، وَتَابعه أَبُو حُذَيْفَة [عَن] مُحَمَّد بن مُسلم فَرَوَاهُ كَمَا ذكرنَا فَلَا تعلله رِوَايَة من لَا نبالي بِهِ. وَرَوَى بِإِسْنَاد واهٍ عَن عَمْرو عَن جَابر(9/665)
بن زيد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: وَرِوَايَة الثِّقَات لَا تعلل بِرِوَايَة الضُّعَفَاء. قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «علله» : سَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: [عَمْرو بن دِينَار] لم يسمع عِنْدِي من ابْن عَبَّاس هَذَا الحَدِيث. نَقله ابْن الْقطَّان عَنهُ، وَالدَّارَقُطْنِيّ أخرجه من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس. لَكِن فِيهِ القدامي الْمَتْرُوك، قَالَ الْحَاكِم: وَهَذَا الْخلاف لَا يُعلل هَذَا الحَدِيث من أوجه: مِنْهَا: أَن عَمْرو بن دِينَار قد سمع من ابْن عَبَّاس، وَسمع من جمَاعَة عَن ابْن عَبَّاس فَلَا يُنكر إِن سمع حَدِيثا مِنْهُ وَمن أَصْحَابه أَيْضا. ثَانِيًا: سيف بن سُلَيْمَان ثِقَة مَأْمُون؛ فقد حكم مُسلم بن الْحجَّاج لروايته بِالصِّحَّةِ فَلَا يُقَابله مثل الْعمريّ والقدامي والبلخي.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِالشَّاهِدِ الْوَاحِد مَعَ يَمِين الطَّالِب» .
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث جَعْفَر [بن] مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جَابر(9/666)
مَرْفُوعا: «قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد» . قَالَ ابْن عبد الْبر: حَدِيث حسن. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا [قَالَ:] «وَقَضَى بهَا عَلّي فِيكُم» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا أصح، وَهَكَذَا رَوَى الثَّوْريّ عَن جَعْفَر عَن أَبِيه مُرْسلا، وَرَوَاهُ عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة وَيَحْيَى بن [سليم] عَن جَعْفَر، عَن أَبِيه، عَن عَلّي مَرْفُوعا. وَقَالَهُ الْبَيْهَقِيّ قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَنهُ فَقَالَا: هُوَ مُرْسل وَقَالَ الْخَطِيب فِي كتاب من رَوَى عَن مَالك: إِنَّه الصَّوَاب. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: رَوَاهُ جماعات عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه مُرْسلا، وَرَوَاهُ عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ - وَهُوَ من الثِّقَات - عَن جَعْفَر عَن أَبِيه [عَن جَابر] مَرْفُوعا مَوْصُولا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : كَانَ جَعْفَر بن مُحَمَّد رُبمَا أرسل هَذَا الحَدِيث وَرُبمَا وَصله عَن جَابر؛ لِأَن جمَاعَة من الثِّقَات حفظوه عَن أَبِيه عَن جَابر، وَالْحكم يُوجب أَن يكون القَوْل قَوْلهم؛ لأَنهم زادوا وهم ثِقَات وَزِيَادَة(9/667)
الثِّقَة مَقْبُولَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الشَّافِعِي لبَعض من [يناظره] : قلت لَهُ: رَوَى الثَّقَفِيّ وَهُوَ ثِقَة [عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه] ، عَن جَابر، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد» . زَاد الْحَنْظَلِي فِي رِوَايَته «الشَّاهِد الْوَاحِد» . قَالَ: وَقَالَ أبي: وَقَضَى بِهِ عَلّي فِي الْعرَاق. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ عَن حميد بن الْأسود وَعبد الله الْعمريّ وَهِشَام بن سعد وَغَيرهم، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد كَذَلِك مَوْصُولا. قَالَ: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن أبي حَيَّة، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جَابر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَتَانِي جِبْرِيل وَأَمرَنِي أَن أَقْْضِي بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد وَقَالَ: إِن يَوْم الْأَرْبَعَاء يَوْم نحس مُسْتَمر» .
قلت: وَأخرجه ابْن عدي كَذَلِك وَابْن حبَان فِي «ضُعَفَائِهِ» إِلَّا أَنه قَالَ: عَن جِبْرِيل عَن ربه - عَزَّ وَجَلَّ - قَالَ: «أَمرنِي أَن أَقْْضِي ... » إِلَى آخِره. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد قيل: عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه [عَن جده] عَن عَلّي: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَضَى بِشَهَادَة رجل وَاحِد مَعَ يَمِين صَاحب الْحق» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حُسَيْن بن زيد، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عَلّي مَرْفُوعا. وَعلي بن الْحُسَيْن بن عَلّي بن أبي طَالب جد جَعْفَر بن مُحَمَّد وَإِن لم يدْرك عليًّا فَهُوَ أقرب للاتصال من رِوَايَة مُحَمَّد بن عَلّي. قَالَ: وَقد رَوَاهُ غير جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن مُحَمَّد بن عَلّي الباقر عَلَى الْإِرْسَال.(9/668)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي آخر بَاب أدب الْقَضَاء.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «استشرت جِبْرِيل فِي الْقَضَاء بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِد فَأَشَارَ عَلّي بالأموال لَا تعدو ذَلِك» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا أعلم من خرجه مَعَ كَثْرَة طرق هَذَا الحَدِيث، وَحَدِيث عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس مُغنِي فِي الدّلَالَة عَنهُ فَإِن عَمْرو بن دِينَار قَالَ فِي آخِره: «وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَال» وَتَفْسِير الرَّاوِي مقدم عَلَى تَفْسِير غَيره، وعزى هَذَا الحَدِيث الْمَاوَرْدِيّ فِي «حاويه» إِلَى أبي هُرَيْرَة فِي الدَّارَقُطْنِيّ، وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة قَالَ فِي «مطلبه» : أسْندهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة ... فَذكره سَوَاء. وَقَالَ فِي «كِفَايَته» : أخرجه بِسَنَدِهِ عَن أبي هُرَيْرَة. فَذكره سَوَاء. وَلم أره فِي الدَّارَقُطْنِيّ فِي مظنته وَهُوَ بَاب الْفَضَائِل، وَلَا فِي «علله» فليتتبع.
فَائِدَة: هَذَا الحَدِيث؛ أَعنِي: «الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين» رَوَاهُ جماعات من الصَّحَابَة عِنْد المُصَنّف مِنْهُم ثَلَاثَة: ابْن عَبَّاس، وَجَابِر، وَأَبُو هُرَيْرَة، قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: رَوَاهُ من الصَّحَابَة عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَمَانِيَة: عَلّي، وَابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَجَابِر، وَعبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي، وَأبي بن كَعْب، وَزيد بن ثَابت، وَسعد بن عبَادَة.(9/669)
قلت: بل رَوَاهُ من الصَّحَابَة أَكثر من [عشْرين] صحابيًّا قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه قَضَى بِشَاهِد وَيَمِين» : عمر بن الْخطاب، وَعلي، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس، وَجَابِر، وَابْن عمر، وَابْن عَمْرو، وَزيد بن ثَابت، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَسعد بن عبَادَة، وعامر بن ربيعَة، وَسَهل بن سعد، وَعمارَة بن حزم، والمغيرة بن شُعْبَة، وبلال بن الْحَارِث، وَسَلَمَة بن قيس، وَأنس بن مَالك، وَتَمِيم الدَّارِيّ، و (زبيب بن ثَعْلَبَة) ، وسُرق. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وزبيب بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ مثناة تَحت سَاكِنة ثمَّ بَاء مُوَحدَة. قَالَ الْحَاكِم فِي «عُلُوم الحَدِيث» : لَيْسَ فِي الروَاة من يسم بِهَذَا الِاسْم غَيره. وَاعْترض الْمُنْذِرِيّ عَلَيْهِ فَقَالَ: ذكر بَعضهم أَنه من الْأَسْمَاء المفردة وَفِيه نظر، وَفِي الروَاة من اسْمه زبيب غَيره عَلَى خلاف فِيهِ. قَالَ: وَقد قيل فِي زبيب بن ثَعْلَبَة: زنيب - بالنُّون - قَالَه ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» . وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن أم سَلمَة.
قلت: فتلخص من كل ذَلِك أَن جملَة الصَّحَابَة الَّذين رَوَوْهُ اثْنَان وَعِشْرُونَ، وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو سعيد مُحَمَّد بن عَلّي بن عمر فِي كتاب الشُّهُود بِشَهَادَة رجل وَيَمِين الطَّالِب رَوَاهُ من طَرِيق عبد الله بن يزِيد مولَى المنبعث، عَن رجل من أهل مصر، عَن سرق وَهُوَ ابْن أَسد.
هَذَا الحَدِيث [آخر] الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الْبَاب وَمِنْه.
وَأما آثاره فَثَلَاثَة عشر:(9/670)
أَحدهَا: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه مر بِقوم يَلْعَبُونَ بالشطرنج فَقَالَ: مَا هَذِه التماثيل الَّتِي أَنْتُم لَهَا عاكفون» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن أبي الدُّنْيَا نَا زِيَاد بن أَيُّوب، نَا شَبابَة بن سوار، عَن فُضَيْل، [بن] مَرْزُوق، عَن ميسرَة بن حبيب قَالَ: «مر عَلّي ... » فَذكره، زَاد فِي طَرِيق أُخْرَى من طَرِيق الْأَصْبَغ بن نباتة عَن عَلّي: «لِأَن يمس جمرًا حَتَّى يطفأ خير لَهُ من أَن يَمَسهَا» . ثمَّ رَوَى فِي حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه عَن عَلّي أَنه كَانَ يَقُول: «الشطرنج ميسر الْأَعَاجِم» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: مُرْسلَة، لَكِن لَهَا شَوَاهِد. مِنْهَا مَا تقدم وَمِنْهَا مَا تَأَخّر: رَوَاهُ شريك عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن الحكم قَالَ: قَالَ عَلّي: «صَاحب الشطرنج أكذب النَّاس يَقُول [أحدهم] : قتلت وَمَا قتل» . وَمِنْهَا عَن عمار ابْن أبي عمار قَالَ: «مر عَلّي بِمَجْلِس من مجَالِس تيم الله وهم يَلْعَبُونَ بالشطرنج فَوقف فَقَالَ: «أما وَالله لغير هَذَا خلقْتُمْ، لَوْلَا أَن تكون سنة لضَرَبْت بهَا وُجُوهكُم» .
الْأَثر الثَّانِي: عَن سعيد بن جُبَير «أَنه كَانَ يلْعَب بالشطرنج استدبارًا» .
وَهَذَا رَوَاهُ ظَهره يَقُول: بأيش دفع كَذَا؟ قَالَ: بِكَذَا. قَالَ: ادْفَعْ(9/671)
بِكَذَا. قَالَ الشَّافِعِي: وَكَانَ مُحَمَّد بن سِيرِين وَهِشَام بن عُرْوَة يلعبان بِهِ استدبارًا.
الْأَثر الثَّالِث وَالرَّابِع: عَن ابْن الزبير وَأبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنَّهُمَا كَانَا يلعبان بالشطرنج» .
وَهَذَانِ الأثران ذكرهمَا الْمَاوَرْدِيّ أَيْضا، وَأثر أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ الصولي فِي جُزْء جمعه فِي الشطرنج بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ.
الْأَثر الْخَامِس: عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: (وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث) قَالَ: هُوَ وَالله الْغناء» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْحَاكِم وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا.
الْأَثر السَّادِس: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقَالَ ابْن عَبَّاس: «إِنَّه الملاهي» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فَقَالَ فِي سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس « (وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث) قَالَ: هُوَ الْغناء وأشباهه» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ورويناه عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
الْأَثر السَّابِع: عَن عمر: «أَنه كَانَ إِذا خلا فِي بَيته ترنم بِالْبَيْتِ والبيتين» .(9/672)
وَهَذَا الْأَثر تبع فِي إِيرَاده الْبَغَوِيّ فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك، وَذكر أهل الْأَخْبَار «أَن عمر بن الْخطاب أَتَى دَار عبد الرَّحْمَن فَسَمعهُ يتَغَنَّى بالركائب» .
وَكَيف توائى بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا ... قَضَى وطرًا مِنْهَا جميل بن معمر.
(قَالَ ابْن عبد الْبر: وَذكره الزبير بن بكار الأول) ، قَالَ ابْن عبد الْبر: وَقد ذكره الْمبرد «مقلوبًا أَن عبد الرَّحْمَن [أَتَى] دَار عمر فَسَمعهُ يتَغَنَّى» . وَالَّذِي ذكره الزبير بن بكار الأول، قَالَ ابْن عبد الْبر: وَهُوَ الصَّوَاب.
الْأَثر الثَّامِن: عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه كَانَت لَهُ جَارِيَة تغني فَإِذا جَاوَزت السحر قَالَ: أمسكي فَهَذَا وَقت الاسْتِغْفَار» .
وَهَذَا حَكَاهُ من أَصْحَابنَا عِنْد الْمَاوَرْدِيّ فِي «الْحَاوِي» والعمراني فِي «الْبَيَان» وَقَالا: «كَانَ لَهُ جاريتان تُغنيَانِ ... » بِمثل مَا ذكره الرَّافِعِيّ وَغَيره.
الْأَثر التَّاسِع: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه كَانَ إِذا سمع الدُّف بعث، فَإِن كَانَ فِي النِّكَاح أَو الْخِتَان سكت، فَإِن كَانَ غَيرهمَا عمل بِالدرةِ» .
وَهَذَا رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» بِنَحْوِهِ من [طَرِيق ابْن علية عَن أَيُّوب] عَن ابْن سِيرِين قَالَ: «نبئت أَن عمر كَانَ إِذا سمع صَوتا أنكرهُ، فَإِن كَانَ عرسًا أَو ختانًا أقره» .(9/673)
الْأَثر الْعَاشِر: وَعَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَالَ فِي الْقِصَّة الْمَشْهُورَة لأبي بكرَة: تب أقبل شهادتك. وَكَانَت الصَّحَابَة يروون عَنهُ وَلم يتب» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي: أَنا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، قَالَ: سَمِعت الزُّهْرِيّ يَقُول: زعم أهل الْعرَاق أَن شَهَادَة الْمَحْدُود لَا تجوز (فَأشْهد بِاللَّه أَخْبرنِي) فلَان «أَن عمر بن الْخطاب قَالَ لأبي بكرَة: تب تقبل شهادتك، أَو إِن تبت قبلت شهادتك» . قَالَ سُفْيَان: سَمّى الزُّهْرِيّ الَّذِي أخبرهُ فحفظته ونسيته وَشَكَكْت فِيهِ، فَلَمَّا قمنا سَأَلت من حضر فَقَالَ لي عمر بن قيس: هُوَ سعيد بن الْمسيب قَالَ الشَّافِعِي: فَقلت: فَهَل شَككت فِيمَا قَالَ لَك؟ قَالَ: لَا. هُوَ سعيد بن الْمسيب من غير شكّ قَالَ الشَّافِعِي: وَكَثِيرًا مَا سمعته يحدثه فيسمى سعيدًا، وَكَثِيرًا مَا سمعته يَقُول: عَن سعيد إِن شَاءَ الله. وَقد رَوَاهُ غَيره من أهل الْحِفْظ عَن سعيد لَيْسَ فِيهِ شكّ، فَزَاد فِيهِ «أَن عمر استتاب الثَّلَاثَة فَتَابَ اثْنَان فَأجَاز شَهَادَتهمَا وَأَبَى أَبُو بكرَة فَرد شَهَادَته» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طرق عَنهُ كَذَلِك. قَالَ سعيد بن عَاصِم: «وَكَانَ أَبُو بكرَة إِذا أَتَاهُ الرجل يشهده، قَالَ: أشهد [غَيْرِي] فَإِن الْمُسلمين [قد] فسقوني» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا إِن صَحَّ فَلِأَنَّهُ امْتنع من أَن يَتُوب من قذفه، وَأقَام عَلَيْهِ وَلَو كَانَ قد تَابَ مِنْهُ لما (سمي) اسْم الْفسق.
الْأَثر الْحَادِي عشر: عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: «مَضَت السّنة من رَسُول الله(9/674)
(وللخليفتين من بعده أَن لَا تقبل شَهَادَة النِّسَاء فِي الْحُدُود» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره القَاضِي أَبُو يُوسُف فِي كتاب «الْخراج» فَقَالَ: ثَنَا الْحجَّاج، عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: «مَضَت السّنة ... » فَذكر مثله سَوَاء إِلَّا أَنه قَالَ: «لَا تجوز» بدل «لَا تقبل» . وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» دون ذكر الخليفتين: «وَزِيَادَة النِّكَاح وَالطَّلَاق» وَهَذَا عزاهُ ابْن الرّفْعَة رِوَايَة مَالك لَهُ عَن عقيل عَن ابْن شهَاب قَالَ: «مَضَت السّنة من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه لَا تجوز شَهَادَة النِّسَاء فِي الْحُدُود وَلَا فِي النِّكَاح وَلَا فِي الطَّلَاق» .
الْأَثر الثَّانِي عشر: يرْوَى عَن الزُّهْرِيّ أَيْضا أَنه قَالَ: «مَضَت السّنة بِأَنَّهُ تجوز شَهَادَة النِّسَاء فِي كل شي لَا يَلِيهِ غَيْرهنَّ» .
وَهَذَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فَقَالَ: نَا عِيسَى بن يُونُس، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: «مَضَت السّنة أَن تجوز شَهَادَة النِّسَاء فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ غَيْرهنَّ» .
الْأَثر الثَّالِث عشر: «أَن عَائِشَة وَسَائِر أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ كن يروين من وَرَاء السّتْر ويروي السامعون [عَنْهُن] » وَهَذَا مَعْرُوف لَا يحْتَاج إِلَى عزوه.(9/675)
كتاب الدَّعْوَى والبينات(9/677)
كتاب الدَّعْوَى والبينات
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث سَبْعَة:
أَحدهَا
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى الْمُدعَى عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن عَلّي بن أَحْمد بن عَبْدَانِ، عَن الطَّبَرَانِيّ، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن كثير الصُّورِي، نَا الْفرْيَابِيّ، نَا سُفْيَان، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا سَوَاء، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من طَرِيق ابْن عَبَّاس أَيْضا «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدعَى عَلَيْهِ» وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن عبيد الله، عَن عَمْرو ابْن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي خطبَته: «الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى الْمُدعَى عَلَيْهِ» . ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده مقَال، وَمُحَمّد بن عبيد الله الْعَرْزَمِي يضعف فِي الحَدِيث من قبل حفظه؛ ضعفه ابْن الْمُبَارك وَغَيره. وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث حجاج عَن عَمْرو،(9/679)
وحجاج هُوَ ابْن أَرْطَاة (وَلم يسمعهُ من عَمْرو) إِنَّمَا حدث عَن الْعَرْزَمِي عَنهُ، وَهَذَا الطَّرِيق وَالَّذِي قبله؛ حَدِيث ابْن عَبَّاس مغنى عَنْهُمَا، وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث مُجَاهِد عَن ابْن عمر فِي حَدِيث طَوِيل فِيهِ: «فَقَامَ رجل فَقَالَ: يَا نبى الله، إِنِّي وَقعت عَلّي جَارِيَة بني فلَان وَإِنَّهَا ولدت مني، فَأمر بولدي أَن يرد إِلَيّ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: لَيْسَ بولدك، لَا يجوز هَذَا فِي الْإِسْلَام، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أولَى بِالْيَمِينِ إِلَّا أَن تقوم بَيِّنَة ... » . ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّانِي
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَو يُعْطي النَّاس بدعواهم لَا دعى نَاس دِمَاء رجال وَأَمْوَالهمْ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة: «الْيَمين عَلَى الْمُدعَى عَلَيْهِ» ، وَأخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب التَّفْسِير من «صَحِيحه» بِلَفْظ: «لَو يُعْطَى النَّاس بدعواهم لذهب دِمَاء قوم وَأَمْوَالهمْ» وَفِي آخِره «الْيَمين عَلَى الْمُدعَى عَلَيْهِ» وَذكر البُخَارِيّ فِيهِ قصَّة وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدعَى عَلَيْهِ» . هَكَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم مَرْفُوعا كَمَا تقدم، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح وَقَالَ(9/680)
القَاضِي عِيَاض: قَالَ الْأصيلِيّ: لَا يَصح مَرْفُوعا إِنَّمَا هُوَ من قَول ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَو يُعْطَى النَّاس بدعواهم لَا دعى رجال دِمَاء قوم وَأَمْوَالهمْ، لَكِن الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى من أنكر» . وَوَقع فِي «كِفَايَة ابْن الرّفْعَة» فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف قبل قَوْله: «وَالْيَمِين عَلَى الْمُدعَى عَلَيْهِ» : «لَكِن الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي» فِيهِ، وَعَزاهَا إِلَى مُسلم وَهُوَ وهم، فَلَيْسَ لفظ «الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي» فِيهِ. وَهَذَا الحَدِيث قَاعِدَة عَظِيمَة من قَوَاعِد أَحْكَام الشَّرْع أَنه لَا يقبل قَول الْإِنْسَان فِيمَا يَدعِيهِ بِمُجَرَّد دَعْوَاهُ؛ بل يحْتَاج إِلَى الْبَيِّنَة أَو تَصْدِيق الْمُدعَى عَلَيْهِ، فَإِن طلب يَمِين الْمُدعَى عَلَيْهِ فَلهُ ذَلِك.
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن رجلا من حَضرمَوْت وَآخر من كِنْدَة أَتَيَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ الْحَضْرَمِيّ: يَا رَسُول الله، إِن هَذَا قد غلبني عَلَى أَرض كَانَت لأبي. فَقَالَ الْكِنْدِيّ: هِيَ أرضي فِي يَدي أزرعها فَلَيْسَ [لَهُ] فِيهَا حق! فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - للحضرمي: أَلَك بَيِّنَة؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فلك يَمِينه. قَالَ: يَا رَسُول الله، الرجل فَاجر لَا يُبَالِي عَلَى مَا حلف عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يتورع من شَيْء. فَقَالَ: لَيْسَ لَك مِنْهُ إِلَّا ذَلِك. فَانْطَلق ليحلف فَقَالَ رَسُول الله لما أدبر الرجل: لَئِن حلف عَلَى مَاله ليأكله ظلما ليلقين الله وَهُوَ عَنهُ معرض» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ من رِوَايَة وَائِل بن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، قَالَ عبد الْحق: وَلم يخرج البُخَارِيّ عَن(9/681)
وَائِل فِي كِتَابه شَيْئا. وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «إِنَّه فَاجر لَيْسَ يتورع من شَيْء» لَيْسَ فِيهَا إِلَّا سماك بن حَرْب وَهِي فِي سَنَد مُسلم، وَأما ابْن حزم فَإِنَّهُ أخرج الحَدِيث بطرِيق مُسلم من طَرِيق ابْن وضاح وَالنَّسَائِيّ، ثمَّ ذكر أَن لَفْظَة «انْطلق» من رِوَايَة سماك بن حَرْب وَهُوَ يقبل التَّلْقِين.
فَائِدَتَانِ: أَحدهمَا: حَضرمَوْت بِفَتْح الْحَاء وَإِسْكَان الضَّاد الْمُعْجَمَة. قَالَ أهل اللُّغَة: حَضرمَوْت اسْم لبلد بِالْيمن وَهُوَ أَيْضا اسْم لقبيلة، وَاخْتلف المتكلمون عَلَى الحَدِيث وألفاظ «الْمُهَذّب» فِي المُرَاد بحضرموت فِي هَذَا الحَدِيث؛ فَقيل: الْبَلدة. وَقيل: الْقَبِيلَة. قَالَ النَّوَوِيّ فِي «التَّهْذِيب» : وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر.
الثَّانِيَة: هَذَا المخاصم للحضرمي اسْمه: امْرُؤ الْقَيْس بن عَابس - بِالْمُوَحَّدَةِ وَالسِّين الْمُهْملَة - الْكِنْدِيّ، كَذَا جَاءَ فِي «صَحِيح مُسلم» وَغَيره، قَالَ الْخَطِيب فِي «المبهمات» : وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من يُسمى «امْرُؤ الْقَيْس» غَيره.
قلت: وَقد ذكر ابْن عبد الْبر فِي «الِاسْتِيعَاب» ابْن عَابس هَذَا وَذكر بعده امْرأ الْقَيْس بن الْأَصْبَغ الْكَلْبِيّ وَقَالَ: بَعثه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَاملا عَلَى [كلب] وَذكر أَنه خَال أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.(9/682)
وَاسم الْحَضْرَمِيّ: «ربيعَة» بِفَتْح الْعين وبالمثناة تحتهَا قَالَ الشَّيْخ زكي: لَهُ صُحْبَة وَشهد الْفَتْح بِمصْر وَلم يذكرهُ ابْن عبد الْبر فِي الصَّحَابَة وليستدرك عَلَيْهِ.
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لهِنْد: «خذي من مَال أبي سُفْيَان مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ» .
هَذَا حَدِيث صَحِيح وَقد تقدم بَيَانه وَاضحا فِي كتاب النَّفَقَات.
الحَدِيث الْخَامِس
حَدِيث ركَانَة وَقد سبق بِطُولِهِ فِي كتاب الطَّلَاق قَالَ الرَّافِعِيّ: «قيل كَانَت امْرَأَته تَدعِي أَنه أَرَادَ أَكثر من طلقه، وَكَانَ عَلَيْهِ أَن يحلف، فَلم يعْتد بِيَمِينِهِ قبل التَّحْلِيف فَأَعَادَ عَلَيْهِ» .
الحَدِيث السَّادِس
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أكره رجلا بَعْدَمَا حلف بِالْخرُوجِ عَن حق صَاحبه كَأَنَّهُ عرف كذبه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن أسود بن عَامر [عَن] شريك، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن أبي [يَحْيَى] الْأَعْرَج عَن(9/683)
ابْن عَبَّاس قَالَ: «اخْتصم رجلَانِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَوَقَعت الْيَمين عَلَى أَحدهمَا فَحلف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَاله (عِنْدِي) شَيْء فَنزل جِبْرِيل عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنَّه كَاذِب إِن لَهُ عِنْده حَقه. فَأمره أَن يُعْطِيهِ حَقه وَكَفَّارَة يَمِينه مَعْرفَته أَن لَا إِلَه إِلَّا الله أَو شَهَادَته» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن أبي يَحْيَى الْأَعْرَج، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «جَاءَ رجلَانِ يختصمان فِي شَيْء إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ للْمُدَّعِي: أقِم الْبَيِّنَة فَلم يقمها، قَالَ للْآخر: احْلِف. فَحلف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ [فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ادْفَعْ حَقه وستكفر عَنْك لَا إِلَه إِلَّا الله] مَا صنعت» . وَأخرجه أَيْضا أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي الْأَحْوَص: ثَنَا عَطاء بن السَّائِب، عَن أبي يَحْيَى، عَن ابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لرجل أحلفه: احْلِف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا الله مَا لَهُ عِنْدِي شَيْء» . وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا من هَذِه الطَّرِيق والإسناد بِلَفْظ: «جَاءَ خصمان إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَادَّعَى أَحدهمَا عَلَى الآخر، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - للْمُدَّعِي: أقِم. بينتك فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لَيْسَ لي بَيِّنَة. فَقَالَ للْآخر: احْلِف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَاله عَلَيْك أَو عنْدك شَيْء ... » بِنَحْوِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث حَمَّاد عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن أبي يَحْيَى، عَن ابْن عَبَّاس: «أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(9/684)
الطَّالِب الْبَيِّنَة فَلم يكن لَهُ بَيِّنَة، فاستحلف الْمَطْلُوب فَحلف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بلَى قد فعلت، وَلَكِن غفر لَك بإخلاص قَول لَا إِلَه إِلَّا الله» . وَرَوَاهُ فِي الْمُسْتَدْرك بِسَنَد النَّسَائِيّ وَأبي دَاوُد عَن أبي يَحْيَى عَن ابْن عَبَّاس «أَن رجلا ادَّعَى عِنْد رجل حقًّا، فاختصما إِلَى نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلَهُ الْبَيِّنَة فَقَالَ: مَا عِنْدِي بَيِّنَة فَقَالَ للْآخر: احْلِف فَحلف فَقَالَ: وَالله مَاله عِنْدِي شَيْء. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: بل هُوَ عنْدك، ادْفَعْ إِلَيْهِ حَقه. ثمَّ قَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: شهادتك أَن لَا إِلَه إِلَّا الله كَفَّارَة يَمِينك» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَأعله ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» بِيَحْيَى الرَّاوِي عَن عَطاء وَقَالَ: إِنَّه مَجْهُول. وَفِيه نظر فَأَبُو يَحْيَى هَذَا اسْمه: زِيَاد، كَذَا سَمَّاهُ الإِمَام أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهم. وَقَالَ عبد الْحق: اسْمه: «مصدع» وَكَذَا قَالَه [ابْن] عَسَاكِر فِي «الْأَطْرَاف» قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: وَهُوَ وهم إِنَّمَا هُوَ زِيَاد قَالَ: وَذكر لَهُ البُخَارِيّ فِي «التَّارِيخ» هَذَا الحَدِيث.
قَالَ عبد الْحق: وَأَبُو يَحْيَى هَذَا وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: كَانَ عَالما بِابْن عَبَّاس. وَقَالَ أَبُو أَحْمد: كَانَ زائغًا حائدًا عَن الْحق. وَأما ابْن حزم فَإِنَّهُ ذكره فِي «محلاه» من طَرِيق أبي دَاوُد ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث سَاقِط لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه عَن أبي يَحْيَى [وَهُوَ] مصدع الْأَعْرَج مجرح، قطعت عرقوباه فِي التَّشَيُّع. وَالثَّانِي: أَن أَبَا(9/685)
الْأَحْوَص [لم] يسمع من عَطاء بن السَّائِب إِلَّا بعد اخْتِلَاط عَطاء، وَإِنَّمَا سمع من عَطاء قبل الِاخْتِلَاط: سُفْيَان، وَشعْبَة، وَحَمَّاد بن زيد، والأكابر المعروفون. ثمَّ قَالَ: ورويناه من طَرِيق وَكِيع عَن الثَّوْريّ عَن عَطاء ... فَذكره، ثمَّ قَالَ: فسفيان الَّذِي صَحَّ سَمَاعه من عَطاء ذكر أَن الرجل حلف بذلك لَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أمره بِأَن يحلف لذَلِك. قَالَ: وَعَلَى كل حَال فَأَبُو يَحْيَى لَا شَيْء.
قلت: قد عرفت أَنْت رِوَايَة حَمَّاد عَن عَطاء الَّذِي قَالَ أَن سَمَاعه مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط، وَقد عرفت حَال أبي يَحْيَى؛ فَبَطل مَا قَالَه أجمع. وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث أبي قدامَة الْحَارِث بن عبيد، عَن ثَابت، عَن أنس «أَن رجلا حلف بِلَا إِلَه إِلَّا الله كَاذِبًا فَقَالَ رَسُول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: غفر لَهُ كذبه بتصديقه أَن لَا إِلَه إِلَّا الله» . فَقَالَ: حَمَّاد بن سَلمَة يُخَالِفهُ بقوله عَن ثَابت عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَهُوَ أشبه من حَدِيث أبي قدامَة. وَقَالَ بعده بأسطر: سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ شُعْبَة، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن أبي البخْترِي، عَن عبيد، عَن ابْن الزبير، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَن رجلا حلف بِاللَّه كَاذِبًا فغفر لَهُ» . قَالَ أبي: رَوَاهُ عبد الْوَارِث وَجَرِير عَن عَطاء بن السَّائِب عَن أبي يَحْيَى الْأَعْرَج عَن ابْن عَبَّاس ... فَذكره، قلت لأبي: أَيهمَا أصح؟ قَالَ: شُعْبَة أقدم سَمَاعا من هَؤُلَاءِ، وَعَطَاء تغير بِأخرَة.(9/686)
الحَدِيث السَّابِع
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رد الْيَمين عَلَى طَالب الْحق» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن أبي هُرَيْرَة الْأَنْطَاكِي مُحَمَّد بن عَلّي بن حَمْزَة بن صَالح، نَا يزِيد بن مُحَمَّد، نَا سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن، ثَنَا مُحَمَّد بن مَسْرُوق، عَن إِسْحَاق بن الْفُرَات، عَن اللَّيْث بن سعد، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رد الْيَمين عَلَى صَاحب الْحق» .
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ: فِي إِسْنَاده جمَاعَة مَجَاهِيل. وَلم يسمهم رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْحسن بن الْقطَّان فِي «علله» : سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن [هُوَ] بن بنت شُرَحْبِيل الدِّمَشْقِي وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ إِلَّا أَنه كَانَ أروى النَّاس عَن المجاهيل وَكَانَت فِيهِ غَفلَة فِي حد لَو أَن رجلا وضع لَهُ حَدِيثا لم يفهم وَكَانَ لَا يميزه. قَالَ: وَمُحَمّد بن مَسْرُوق لَا يعرف لَهُ حَال، رَوَى عَنهُ هِشَام بن عمار ومُوسَى بن عبد الرَّحْمَن الْمَسْرُوقي. وَأعله عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» بِإسْحَاق بن الْفُرَات وَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف. وَأنكر عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان وَقَالَ: طوي ذكر من دون إِسْحَاق، وَإِسْحَاق خير مِمَّن دونه، فَإِنَّهُ - أَعنِي إِسْحَاق ابْن الْفُرَات بن الْجَعْد بن سليم مولَى مُعَاوِيَة بن حديج - فَقِيه ولي الْقَضَاء بِمصْر خَليفَة لمُحَمد بن مَسْرُوق الْكِنْدِيّ، يكنى أَبَا نعيم، يروي(9/687)
عَن مَالك وَاللَّيْث وَيَحْيَى بن أَيُّوب والمفضل بن فضَالة وَحميد بن هَانِئ، وَلم يعرفهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ؛ وَذَلِكَ أَنه سُئِلَ عَنهُ فَقَالَ: شيخ لَيْسَ بالمشهور. وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم: مَا رَأَيْت قَاضِيا أفضل مِنْهُ وَكَانَ عَالما. قَالَ بَحر بن نصر: سَمِعت ابْن علية يَقُول: مَا رَأَيْت ببلدكم أحدا يحسن الْعلم إِلَّا ابْن الْفُرَات قَالَ ابْن الْوَزير: كَانَ من أكَابِر أَصْحَاب مَالك وَكَانَ لَقِي القَاضِي أَبَا [يُوسُف بِالْبَصْرَةِ] وَأخذ عَنهُ وَولي الْقَضَاء، وَكَانَ موفقًا سديدًا. انْتَهَى. وَفِي «الْمِيزَان» لِلْحَافِظِ شمس الدَّين الذَّهَبِيّ قَالَ: هُوَ قَاضِي مصر فَقِيه صَدُوق. قَالَ: وَمَا ذكرته إِلَّا [لِأَن غَيْرِي] ذكره متشبثًا بِشَيْء لَا يدل وَهُوَ قَول أبي حَاتِم: «شيخ لَيْسَ بالمشهور» . نعم قَالَ ابْن يُونُس فِي «تَارِيخه» : فِي أَحَادِيثه أَحَادِيث كَأَنَّهَا [مَقْلُوبَة] . وَقَالَ السُّلَيْمَانِي: هُوَ مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ فِي «تذهيبه» : وَثَّقَهُ أَبُو عوَانَة الْحَافِظ وَأخرج هَذَا الحَدِيث الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» عَلَى «الصَّحِيحَيْنِ» عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مسلمة الْعَنزي، ثَنَا عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ، نَا سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن، كَمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ إِسْنَادًا ومتنًا إِلَّا أَنه قَالَ: «عَلَى طَالب الْحق» . كَمَا أوردهُ الإِمَام الرَّافِعِيّ ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِي ذَلِك نظر كَبِير لما تقدم، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ كَذَلِك وَقَالَ: تفرد بِهِ. لَا جرم أَن(9/688)
الْحَافِظ أَبَا عبد الله الذَّهَبِيّ أنكر عَلَيْهِ فَقَالَ فِي «مُخْتَصر الْمُسْتَدْرك» عقب تَصْحِيحه لَهُ: لَا أعرف مُحَمَّد [بن] مَسْرُوق هَذَا وأخشى أَن يكون الحَدِيث بَاطِلا. قلت: وَأخرجه تَمام الرَّازِيّ فِي «فَوَائده» بِإِسْنَادِهِ، عَن اللَّيْث، عَن الثَّوْريّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يرد الْيَمين عَلَى طَالب الْحق» وَهَذَا قد يرد مَا تقدم تعليلاً؛ لِأَنَّهُ أَدخل بَين اللَّيْث وَنَافِع: «الثَّوْريّ» وَقد يُجَاب عَن ذَلِك.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي بعير فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة أَنه لَهُ، فَجعله النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَينهمَا» .
الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة، عَن سعيد بن أبي بردة، عَن أبي بردة، عَن أَبِيه «أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي دَابَّة لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة فَجَعلهَا بَينهمَا نِصْفَيْنِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد [من] رِوَايَة همام عَن قَتَادَة بِمَعْنى إِسْنَاده الأول، كَذَا قَالَه أَبُو(9/689)
دَاوُد وَالْأول رَوَاهُ عَن قَتَادَة، عَن سعيد بن أبي بردة، عَن أَبِيه، عَن جده أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ «أَن رجلَيْنِ ادّعَيَا بَعِيرًا عَلَى عهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَبعث كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهِدين، فَقَسمهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَينهمَا نِصْفَيْنِ» وَرِجَاله كلهم ثِقَات، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن كثير، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن قَتَادَة، (عَن النَّضر بن) أنس، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى «أَن رجلَيْنِ ادّعَيَا دَابَّة وجداها عِنْد رجل فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا (بَيِّنَة) أَنَّهَا دَابَّته، فَقَضَى بهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَينهمَا نِصْفَيْنِ» . قَالَ عبد الْحق: قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا خطأ. قَالَ: وَمُحَمّد بن كثير هَذَا هُوَ المصِّيصِي، وَهُوَ صَدُوق إِلَّا أَنه كَانَ يُخطئ فِي حَدِيثه؛ لِأَنَّهُ اخْتَلَط فِي آخر عمره. قَالَ: خطأه فِي هَذَا الحَدِيث؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يروي عَن قَتَادَة عَن سعيد بن أبي بردة. كَمَا سَيَأْتِي، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَلَى وَجه آخر، وَرَوَوْهُ عَن سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة، عَن سعيد بن أبي بردة، عَن جده أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رجلَيْنِ ادّعَيَا بَعِيرًا أَو دَابَّة عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة، فَجَعلهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَينهمَا» . قَالَ عبد الْحق قَالَ النَّسَائِيّ: إِسْنَاده جيد وَأخرجه الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك»(9/690)
من هَذِه الطَّرِيق، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. قَالَ: وَقد خَالف همام بن يَحْيَى سعيد بن أبي عرُوبَة فِي متن هَذَا الحَدِيث فَرَوَاهُ قَتَادَة عَن سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه، فَذكر الطَّرِيق الأول، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث أَيْضا صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعد أَن سَاق الحَدِيث: وَفِيه «فَبعث كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهِدين» كَذَلِك رَوَاهُ حجاج بن منهال عَن همام. قَالَ: وَهُوَ من حَدِيث همام بن يَحْيَى عَن قَتَادَة بِهَذَا اللَّفْظ مَحْفُوظ. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة بِمثل إِسْنَاده وَمَتنه، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا قَالَ «عَن شُعْبَة» . قَالَ: وَقد روينَا عَن [ابْن] أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة مَوْصُولا، وَعَن شُعْبَة عَن قَتَادَة مُرْسلا مخالفان همامًا، وَهَذِه الرِّوَايَة عَن شُعْبَة [فِي لَفظه] فَإِنَّهُمَا قَالَا: «لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة» وَفِي رِوَايَة همام وَهَذِه الرِّوَايَة عَن شُعْبَة «فَبعث كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهِدين» وَيحْتَمل عَلَى الْبعد أَن يَكُونَا قصتين، وَيحْتَمل أَن [تكون] قصَّة وَاحِدَة، والبينتان حِين تَعَارَضَتَا سقطتا فَقيل لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة، وَقسم الشَّيْء بَينهمَا نِصْفَيْنِ بِحكم الْيَد. قَالَ: والْحَدِيث مَعْلُول عِنْد أهل الحَدِيث مَعَ الِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده عَلَى قَتَادَة حَيْثُ رَوَاهُ الضَّحَّاك بن حَمْزَة، عَن قَتَادَة، عَن أبي مجلز، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى «أَن رجلَيْنِ ... » الحَدِيث، وَفِيه: «وَجَاء مَعَ كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهِدَانِ» وَحَيْثُ رَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة، عَن قَتَادَة، عَن النَّضر بن أنس، عَن بشير بن نهيك، عَن أبي هُرَيْرَة «أَن رجلَيْنِ ادّعَيَا دَابَّة(9/691)
فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهِدين، فَجعله النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَينهمَا نِصْفَيْنِ» . وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من هَذَا الطَّرِيق وباللفظ أَيْضا، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة، عَن قَتَادَة، عَن النَّضر بن أنس، عَن أبي بردة، [عَن أبي مُوسَى] وَفِيه «فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ فِيمَا بَلغنِي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن حَمَّاد مُتَّصِلا، فَعَاد الحَدِيث إِلَى حَدِيث أبي بردة إِلَّا أَنه «عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس» غَرِيب. وَرَوَاهُ أَبُو الْوَلِيد، عَن حَمَّاد بن سَلمَة [فَأرْسلهُ] فَقَالَ: عَن قَتَادَة، عَن النَّضر بن أنس، وَهُوَ فِيمَا ذكره ابْن خُزَيْمَة، عَن أبي مُوسَى، عَن أبي الْوَلِيد، وَلَفظه: «ادّعَيَا [دَابَّة] أَنَّهُمَا وجداها فِي يَد رجل» . وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو عوَانَة، عَن سماك بن حَرْب، عَن تَمِيم بن طرفَة قَالَ: «أنبئت أَن رجلَيْنِ ... » الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُرْسل. قَالَ: وَقد بَلغنِي [عَن] أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ أَنه سَأَلَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ عَن حَدِيث سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه فِي هَذَا الْبَاب، فَقَالَ: يرجع هَذَا الحَدِيث إِلَى حَدِيث سماك بن حَرْب عَن تَمِيم بن طرفَة. قَالَ البُخَارِيّ: وَقد رَوَى حَمَّاد بن سَلمَة قَالَ: قَالَ سماك بن حَرْب: أَنا حدثت أَبَا بردة بِهَذَا الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وإرسال شُعْبَة هَذَا الحَدِيث عَن قَتَادَة عَن سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه فِي رِوَايَة غنْدر عَنهُ كالدلالة عَلَى ذَلِك. وَقَالَ فِي «خلافياته» -(9/692)
أَعنِي الْبَيْهَقِيّ - أَيْضا: حَدِيث سعيد بن أبي بردة عَن أَبِيه عَن أبي مُوسَى مَعْلُول من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَتنه مُخْتَلف فِيهِ والْحَدِيث وَاحِد. وَالثَّانِي: أَن فِيهِ إرْسَالًا، يُقَال: إِن أَبَا بردة لم يسمع هَذَا الحَدِيث. قَالَ: ولهذه الْعلَّة لم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيح. وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ هَذَا الحَدِيث، وَذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ عَلَى قَتَادَة، قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو كَامِل مظفر بن مدرك عَن [حَمَّاد] بن سَلمَة، عَن قَتَادَة، عَن النَّضر بن أنس، عَن أبي بردة مُرْسلا. وَقَالَ فِي آخِره: قَالَ حَمَّاد: فَحدث بِهِ سماك بن حَرْب، فَقَالَ سماك: أَنا حدثت بِهِ أَبَا بردة. ثمَّ [ذكر] الِاخْتِلَاف عَلَى سماك، فَقَالَ: مدَار الحَدِيث يرجع عَلَى سماك، وَالصَّحِيح عَن سماك مُرْسلا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَكَذَا قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: الصَّحِيح أَنه عَلَى سماك مُرْسلا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَقَالَ عبد الْحق: وَقَالَ غير الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا لَا يضر الحَدِيث وَقد أسْندهُ ثقتان عَن قَتَادَة عَن سعيد بن أبي [بردة] [عَن أَبِيه] عَن أبي مُوسَى، وهما سعيد بن أبي عرُوبَة وَهَمَّام بن يَحْيَى، وَلَعَلَّ سعيد بن أبي [بردة] سَمعه من سماك، وسَمعه من أَبِيه عَن أبي مُوسَى.(9/693)
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن رجلَيْنِ تداعيا دَابَّة وَأقَام كل وَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة أَنَّهُمَا دَابَّته، فَقَضَى بهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - للَّتِي هِيَ فِي يَده» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف أخرجه الشَّافِعِي وَهُوَ فِي «مُسْنده» [عَن] ابْن أبي يَحْيَى، عَن إِسْحَاق [بن أَبَى] فَرْوَة، عَن عمر بن الحكم، عَن جَابر بن عبد الله: «أَن رجلَيْنِ تداعيا [دَابَّة] فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة أَنَّهَا دَابَّته أنتجها، فَقَضَى بهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - للَّتِي هِيَ فِي يَده» ابْن أبي يَحْيَى وَإِسْحَاق قد عرفت حَالهمَا، قَالَ الشَّافِعِي: هَذِه رِوَايَة صَالِحَة لَيست بالقوية وَلَا الساقطة. وَلم نجد أحدا من أهل الْعلم يُخَالِفهُ فِي القَوْل بِهَذَا مَعَ أَنَّهَا قد رويت من غير هَذَا الْوَجْه، وَإِن لم تكن قَوِيَّة انْتَهَى. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث زيد(9/694)
بن نعيم، عَن مُحَمَّد بن الْحسن، عَن أبي حنيفَة - عَن هَيْثَم الصَّيْرَفِي وَهُوَ ثِقَة - عَن الشّعبِيّ، عَن جَابر «أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي نَاقَة فَقَالَ كل وَاحِد مِنْهُمَا: نتجت هَذِه النَّاقة عِنْدِي. وَأَقَامَا بَيِّنَة، فَقَضَى بهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - للَّذي هِيَ فِي يَده» . و [زيد بن نعيم] الرَّاوِي عَن مُحَمَّد بن الْحسن لَا يعرف فِي غير هَذَا الحَدِيث، قَالَه الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كتاب «الْوَهم وَالْإِيهَام» : هُوَ رجل لَا يعرف حَاله.
الحَدِيث الْعَاشِر
«أَن خصمين أَتَيَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَيَأْتِي كل وَاحِد مِنْهُمَا بالشهود، فَأَسْهم بَينهمَا، وَقَضَى لمن خرج لَهُ السهْم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن قُتَيْبَة، عَن اللَّيْث، عَن بكير بن عبد الله أَنه سمع سعيد بن الْمسيب يَقُول: «اخْتصم رجلَانِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي (أَمر) ، فجَاء كل وَاحِد مِنْهُمَا بشهداء عدُول عَلَى عدَّة وَاحِدَة، فَأَسْهم بَينهمَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْت تقضي بَينهمَا. فَقَضَى للَّذي خرج لَهُ السهْم» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُرْسل، وَله(9/695)
شَاهد من وَجه آخر، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن أبي الْأسود، عَن عُرْوَة وَسليمَان بن يسَار «أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَتَى كل وَاحِد مِنْهُمَا بِشُهُود وَكَانُوا سَوَاء، فَأَسْهم بَينهم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: رَوَى تَمِيم بن طرفَة «أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي بعير، فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهِدين فَقَضَى بَينهمَا نِصْفَيْنِ» . قَالَ الشَّافِعِي: وَتَمِيم رجل مَجْهُول، والمجهول لَو لم يُعَارضهُ أحد لم تكن رِوَايَته حجَّة، وَسَعِيد بن الْمسيب يروي عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا وَصفنَا وَسَعِيد سعيد، وَقد زَعمنَا أَن الْحَدِيثين إِذا اخْتلفَا فالحجة فِي أصح الْحَدِيثين، وَلَا أعلم عَالما يشكل عَلَيْهِ أَن حديثنا أصح، وَأَن سعيدًا من أصح النَّاس مُرْسلا، وَهُوَ بالسنن فِي الْقرعَة أشبه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَحَدِيث تَمِيم بن طرفَة مُنْقَطع، وَتَمِيم طائي كُوفِي يروي عَن عدي بن حَاتِم وَجَابِر بن سَمُرَة، وَهُوَ من متأخري التَّابِعين وَمَتى يدْرك دَرَجَة سعيد بن الْمسيب.
قلت: ويروي عَنهُ عبد الْعَزِيز بن رفيع وَسماك وَغَيرهمَا، وَأخرج لَهُ مُسلم وَالْحَاكِم وَابْن حبَان، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» فِي التَّابِعين؛ فَفِي [قَوْله] «إِنَّه [مَجْهُول] » إِذن نظر. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثر عمر فِي تَحْويل الْيَمين إِلَى الْمُدَّعِي
وَهَذَا ذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» فَقَالَ أَولا ترَى أَن عمر جعل [الْأَيْمَان] عَلَى الْمُدعَى عَلَيْهِم فَلَمَّا لم يحلفوا ردهَا عَلَى المدعيين وكل هَذَا تَحْويل يَمِين.(9/696)
وَذكر فِيهِ أَيْضا الْأَثر الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الرّبيع عَن الشَّافِعِي قَالَ: هَذَا قَول حكام المكيين ومفتيهم - يَعْنِي التَّغْلِيظ بِالْمَكَانِ - وَمن حجتهم فِيهِ مَعَ إِجْمَاعهم أَن مُسلما والقداح أخبراني عَن ابْن جريج عَن عِكْرِمَة بن «خَالِد أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَأَى قوما يحلفُونَ بَين الْمقَام وَالْبَيْت، فَقَالَ: أَعلَى دم؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فعلَى عَظِيم من الْأَمْوَال؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: خشيت أَن يبهأ النَّاس بِهَذَا الْمقَام» . قَالَ الشَّافِعِي: فَذَهَبُوا إِلَى أَن الْعَظِيم من الْأَمْوَال مَا وصفت من عشْرين دِينَارا فَصَاعِدا. قَالَ: وَقَالَ مَالك يحلف عَلَى الْمِنْبَر عَلَى ربع دِينَار. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَوْله «يبهأ النَّاس يَعْنِي يأنسوا بِهِ فتذهب هيبته من قُلُوبهم. قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال بهأت بالشَّيْء إِذا آنست بِهِ. وأعل هَذَا الْأَثر أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَقَالَ فِي «محلاه» : الرِّوَايَة عَن عبد الرَّحْمَن سَاقِطَة لَا يُدْرَى لَهَا أصل وَلَا مخرج، ثمَّ لَو صحت لم يحد عبد الرَّحْمَن فِي كثير المَال مَا حد مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَمَا نعلم أحدا سبقهما إِلَى ذَلِك. وَوَقع بدل [يبهأ] يتهاون وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة فِي كِتَابيه وَلم أَقف عَلَى شَيْء عَلَى من خرجها بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ فسره الرَّافِعِيّ بِمَا فسر بِهِ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ قبل إِيرَاده لَهُ: وَأما الْأَمْوَال يتَحَرَّى التَّغْلِيظ فِي كثيرها دون قليلها عَلَى مَا ورد فِي الْآثَار.(9/697)
بَاب الْقَافة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل عليَّ مَسْرُورا، تبرق أسارير وَجهه، فَقَالَ: ألم تَرَ أَن مُجَزِّزًا المدلجي نظر إِلَى زيد بن حَارِثَة وَأُسَامَة بن زيد قد غطيا رءوسهما بقطيفة وبدت أقدامهما، فَقَالَ: إِن هَذِه الْأَقْدَام بَعْضهَا من بعض» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» قَالَ الْأَئِمَّة: وَسبب سروره أَن الْمُشْركين كَانُوا يطعنون فِي نسب أُسَامَة؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَويلا أقنى الْأنف أسود، وَكَانَ زيد قَصِيرا أخنس الْأنف بَين السوَاد وَالْبَيَاض، وَقصد بعض الْمُنَافِقين بالطعن مغايظة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ لِأَنَّهُمَا كَانَ حبه، فَلَمَّا قَالَ المدلجي ذَلِك وَهُوَ لَا يرَى إِلَّا أقدامهما سره ذَلِك، كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالَّذِي فِي أبي دَاوُد «أَن أُسَامَة أسود وَزيد أَبيض» وَنقل عبد الْحق عَن أبي دَاوُد «أَن زيدا كَانَ شَدِيد الْبيَاض» وَكَذَا قَالَ البندنجي فِي «الذَّخِيرَة» وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: إِن زيدا كَانَ أَخْضَر اللَّوْن. وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن سعد: كَانَ أُسَامَة أسود مثل اللَّيْل وَزيد أَبيض أشعر أَحْمَر.
قلت: وَكله خلاف مَا ذكره الرَّافِعِيّ، وَأما كَونهمَا كَانَا حبه فَفِي(9/698)
«صَحِيح مُسلم» من حَدِيث ابْن «عمر أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بعث بعثًا وأمّر عَلَيْهِم أُسَامَة بن زيد فطعن النَّاس فِي إمرته، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِن كُنْتُم تطعنوا فِي إمارته، فقد كُنْتُم تطعنون فِي إِمَارَة أَبِيه من قبل، وَايْم الله، إِن كَانَ خليقًا للإمرة وَإِن كَانَ أَبوهُ لمن أحب النَّاس إِلَيّ، وَإِن هَذَا من أحب النَّاس إِلَيّ بعده» .
فَائِدَة: مجزز - بِضَم الْمِيم وَفتح الْجِيم وبزاءين معجمتين الأولَى مَكْسُورَة مُشَدّدَة ثمَّ زَاي آخر - سمي بذلك؛ لِأَنَّهُ كَانَ إِذا أَخذ أَسِيرًا جز لحيته. قَالَه الزبير بن بكار، وَقَالَ غَيره: يجز ناصيته. وَقَالَ عبد الْغَنِيّ: لِأَنَّهُ جز نواصي الْعَرَب. وَحَكَى القَاضِي عِيَاض عَن الدَّارَقُطْنِيّ وَعبد الْحق إنَّهُمَا حكيا عَن ابْن جريج أَنه بِفَتْح الزَّاي الأولَى، وَعَن ابْن عبد الْبر وَأبي عَلّي الغساني أَن ابْن جريج قَالَ: إِنَّه محزز بِإِسْكَان الْحَاء الْمُهْملَة وَبعدهَا. وَقَالَ عبد الْغَنِيّ وَغَيره: الصَّوَاب الْكسر.
والأسارير خطوط فِي الْجَبْهَة وَالْوَجْه.
قَالَ الرَّافِعِيّ: يرْوَى «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه دَعَا قائفًا فِي رجلَيْنِ ادّعَيَا مولودًا»
قلت: هَذَا صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي (وَالِديهِ فَادَّعَى بالقائف) قلت: هَذَا صَحِيح عَنهُ رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ عَنهُ.(9/699)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَعَن الصَّحَابَة أَنهم رجعُوا إِلَى بني مُدْلِج دون سَائِر النَّاس.
قلت: سرد الْبَيْهَقِيّ بَابا فِي الْقَائِف وَلم يذكر شَيْئا من هَذَا، وَذكر الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُنَا حِكَايَة عَنهُ فِي الْقَافة فانظرها من الأَصْل فَإِنَّهَا مهمة وَالله أعلم.(9/700)
كتاب الْعتْق(9/701)
كتاب الْعتْق
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ سِتَّة أَحَادِيث:
أَحدهَا أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أعتق نسمَة أعتق الله بِكُل عُضْو مِنْهَا عضوا مِنْهُ من النَّار، حَتَّى فرجه بفرجه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (من) حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَزِيَادَة قيد الرَّقَبَة بِكَوْنِهَا مسلمة، وَفِي رِوَايَة لَهما: «أَيّمَا رجل أعتق امْرأ مُسلما استنقذ الله بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا مِنْهُ من النَّار» وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عقبَة بن عَامر بِنَحْوِهِ، ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَمن حَدِيث وَاثِلَة بِنَحْوِهِ، ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَأخرجه أَحْمد من حَدِيث مَالك بن الْحَارِث وَمَالك بن عَمْرو الْقشيرِي وَمرَّة(9/703)
بن كَعْب وَعَكسه، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث معَاذ، وَقَالَ: الصَّوَاب وَقفه عَلَيْهِ. قلت: فَهَذِهِ ثَمَان طرق وَقد ذكره الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْوَصَايَا أَيْضا.
الحَدِيث الثَّانِي
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام [قَالَ: «من أعتق رَقَبَة مُؤمنَة كَانَت فداؤه من النَّار» ]
أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من حَدِيث عَمْرو بن عبسة السّلمِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة وَغَيره من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا امرئٍ مُسلم أعتق امْرأ مُسلما كَانَ فكاكه من النَّار، يُجزي كل عُضْو مِنْهُ عضوا مِنْهُ من النَّار، وَأَيّمَا امْرَأَة مسلمة أعتقت امْرَأَة مسلمة كَانَت فكاكها من النَّار، يَجْزِي كل عُضْو مِنْهَا عضوا مِنْهَا من النَّار» وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب. وَأخرجه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ مَرْفُوعا «من أعتق رَقَبَة أعتق الله بِكُل عُضْو من ذَلِك عضوا من النَّار» .
فَائِدَة: الفكاك بِفَتْح الْفَاء وَيُقَال بِكَسْرِهَا فِي لُغَة، وَهُوَ الْخَلَاص. وَقَوله «تجزي» هُوَ بِفَتْح التَّاء غير مَهْمُوز مَعْنَاهُ يَنُوب.(9/704)
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَكَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم عَلَيْهِ العَبْد قيمَة عدل فَأعْطَى شركاءه حصصهم وَعتق عَلَيْهِ العَبْد، وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق» وَفِي رِوَايَة «من أعتق شركا لَهُ فِي عبد عتق مَا بَقِي فِي مَاله إِذا كَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد» . وَفِي رِوَايَة «إِذا كَانَ العَبْد بَين اثْنَيْنِ فَعتق أَحدهمَا نصِيبه وَكَانَ لَهُ مَال فقد عتق كُله» وَفِي رِوَايَة «من أعتق شركا لَهُ فِي عبد وَكَانَ لَهُ [مَال] يبلغ ثمن العَبْد فَهُوَ عَتيق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح بِكُل هَذِه الرِّوَايَات فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أعتق شركا لَهُ فِي عبدٍ فَكَانَ لَهُ مَال ... » فَذَكَرَاهُ بِمثل رِوَايَته الثَّانِيَة الَّتِي ذكرهَا الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَزَاد الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ «ورق مَا بَقِي» .
وَقَالَ ابْن حزم: أقدم بَعضهم فَزَاد هَذِه اللَّفْظَة، وَهِي مَوْضُوعَة مكذوبة لَا نعلم أحدا رَوَاهُ لَا ثِقَة وَلَا ضَعِيف.
وَمِنْهَا أَيْضا «من أعتق عبدا بَين اثْنَيْنِ فَإِن كَانَ مُوسِرًا قوم عَلَيْهِ ثمَّ يعْتق» وَمِنْهَا أَيْضا «من أعتق عبدا بَينه وَبَين آخر قوم فِي مَاله قيمَة(9/705)
عدل لَا وكس عَلَيْهِ وَلَا شطط، ثمَّ عتق عَلَيْهِ فِي مَاله إِن كَانَ مُوسِرًا» . وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ «من أعتق شركا فِي مَمْلُوك وَجب عَلَيْهِ أَن يعْتق كُله، وَإِن كَانَ لَهُ مَال قدر ثمنه يقوم قيمَة عدل وَيُعْطَى شركاؤه حصصهم، ويخلى سَبِيل الْمُعْتق» . وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا «من أعتق نَصِيبا لَهُ فِي مَمْلُوك - أَو شركا لَهُ فِي عبد - وَكَانَ لَهُ من المَال مَا يبلغ قِيمَته بِقِيمَة الْعدْل فَهُوَ عَتيق» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم «من أعتق شركا لَهُ فِي عبد عتق مَا بَقِي فِي مَاله إِذا كَانَ لَهُ مَال» يُقَال: إِنَّه من كَلَام الزُّهْرِيّ لَيْسَ مَرْفُوعا. وَفِي رِوَايَة لمُسلم أَيْضا «من أعتق شركا لَهُ فِي عبد أقيم عَلَيْهِ قيمَة الْعدْل فَأعْطِي شركاؤه حصصهم وَعتق العَبْد» . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد «من أعتق شركا فِي مَمْلُوك فَعَلَيهِ عتقه كُله إِن كَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمنه، وَإِن لم يكن لَهُ مَال أعتق نصِيبه» وَفِي رِوَايَة لَهُ «من أعتق شركا لَهُ فِي عبد عتق مَا بَقِي إِن كَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد» . وَفِي رِوَايَة للنسائي بِزِيَادَة جَابر «من أعتق عبدا وَله فِيهِ شركه وَله رفاق فَهُوَ حر وَضمن نصيب شركائه (بِقِيمَتِه كَمَا أَسَاءَ) من مشاركتهم وَلَيْسَ عَلَى العَبْد شَيْء» . قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهِي حَسَنَة لَا صَحِيحَة؛ لِأَن فِيهَا سُلَيْمَان بن مُوسَى، قَالَ خَ: مُنكر لَا أروي عَنهُ شَيْئا، وَرَوَى أَحَادِيث مَنَاكِير وَقَالَ ت فِي «علله» :(9/706)
هُوَ ثِقَة عِنْد أهل الحَدِيث لَا أعلم أحدا من أهل الْعلم من الْمُتَقَدِّمين من تكلم فِيهِ.
قلت: أخرج ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» هَذَا الحَدِيث سندًا ومتنًا وَزَاد «بِقِيمَة عدل» . وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا «إِذا كَانَ للرجل شرك فِي غُلَام، ثمَّ أعتق نصِيبه وَهُوَ حَيّ أقيم عَلَيْهِ قيمَة عدل فِي مَاله، ثمَّ أعتق» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَيست هَذِه اللَّفْظَة فِي كل حَدِيث.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يَجْزِي ولدٌ وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح (أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» ) بِهَذَا اللَّفْظ وَقد ذكره الرَّافِعِيّ فِي بَاب خِيَار الْمجْلس أَيْضا كَمَا عَلمته هُنَاكَ، وَورد حَدِيث عَام فِي ذَلِك لَهُ طَرِيقَانِ جيدان (كَانَ رُوِيَ من طَرِيق عَائِشَة بِإِسْنَاد ضَعِيف [و] من حَدِيث عَلّي بإسنادٍ ساقطٍ) .
الطَّرِيق الأول: عَن الْحسن عَن سَمُرَة مَرْفُوعا «من ملك ذَا رحم محرم فهر حر» . رَوَاهُ أَحْمد وَالْأَرْبَعَة وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد «فَهُوَ(9/707)
عَتيق» وَقد سلف الْكَلَام فِي سَماع الْحسن من سَمُرَة وَاضحا فِي آخر بَاب كَيْفيَّة الصَّلَاة، قَالَ أَبُو دَاوُد: لم يحدث بِهَذَا الحَدِيث عَن الْحسن إِلَّا حَمَّاد بن سَلمَة، وَقد شكّ فِيهِ. قَالَ: وَشعْبَة أحفظ من حَمَّاد، يَعْنِي أَن شُعْبَة رَوَاهُ مُرْسلا. قَالَ الْخطابِيّ: أَرَادَ أَبُو دَاوُد من هَذَا [أَن] الحَدِيث لَيْسَ بمرفوع أَو لَيْسَ بِمُتَّصِل إِنَّمَا هُوَ عَن الْحسن عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث لَا نعرفه مُسْندًا إِلَّا من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة.
ثمَّ يشك فِيهِ ثمَّ يُخَالِفهُ غَيره فِيهِ من هم أحفظ مِنْهُ وَجب التَّوَقُّف فِيهِ، وَقد أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: هَذَا حَدِيث مُنكر.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن ضَمرَة بن ربيعَة، عَن سُفْيَان، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدّم رَوَاهُ ابْن مَاجَه كَذَلِك وَالنَّسَائِيّ بِلَفْظ «من ملك ذَا رحم فَهُوَ عَتيق» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر وَلَا نَعْرِف أحدا رَوَاهُ عَن سُفْيَان غير ضَمرَة بن ربيعَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لم يُتَابع ضَمرَة عَلَى هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ حَدِيث خطأ عِنْد أهل الحَدِيث. وَأما الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ إِثْر الطَّرِيقَة الْمُتَقَدّمَة: وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر وهم فِيهِ رَاوِيه ... ثمَّ ذكره من حَدِيث ضَمرَة عَن الثَّوْريّ كَمَا تقدم، ثمَّ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَان - يَعْنِي الطَّبَرَانِيّ -: لم يروه عَن سُفْيَان إِلَّا ضَمرَة. ثمَّ قَالَ: هَذَا وهم فَاحش وَالْمَحْفُوظ بِهَذَا الْإِسْنَاد حَدِيث «نهَى عَن بيع الْوَلَاء وَعَن(9/708)
هِبته» . وَلقَائِل أَن يَقُول لَيْسَ انْفِرَاد ضَمرَة بِهِ دَلِيلا عَلَى أَنه غير مَحْفُوظ، وَلَا يُوجب ذَلِك عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ من الثِّقَات المأمونين لم يكن بِالشَّام رجل يُشبههُ، كَذَا قَالَ ابْن حَنْبَل. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة مَأْمُونا لم يكن أفضل مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو سعيد بن يُونُس: كَانَ فَقِيه أهل فلسطين فِي زَمَانه. والْحَدِيث إِذا انْفَرد بِهِ [ثِقَة] كَانَ صَحِيحا وَلَا يضرّهُ تفرده، فَلَا أَدْرِي من أَيْن وهم فِي هَذَا الحَدِيث رَاوِيه. وَيُؤَيّد هَذَا أَن الْحَاكِم أَبَا عبد الله شيخ الْبَيْهَقِيّ أخرج حَدِيث ضَمرَة هَذَا ثمَّ قَالَ: وَحدثنَا أَبُو عَلّي بِإِسْنَادِهِ سَوَاء «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الْوَلَاء وَعَن هِبته» ثمَّ قَالَ: هما محفوظان وَحَدِيث ضَمرَة صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَشَاهده حَدِيث سَمُرَة. وَقَالَ: وَهُوَ مَحْفُوظ صَحِيح. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : علل هَذَا الحَدِيث بِأَن ضَمرَة تفرد بِهِ وَلم يُتَابع عَلَيْهِ. قَالَ: وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين لَيْسَ انْفِرَاد ضَمرَة بِهِ عِلّة فِيهِ؛ لِأَن ضَمرَة ثِقَة، والْحَدِيث صَحِيح إِذا أسْندهُ ثِقَة. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا صَوَاب، وعني عبد الْحق «بِبَعْض الْمُتَأَخِّرين» ابْن حزم فَإِنَّهُ قَالَ: هَذَا خبر صَحِيح تقوم بِهِ الْحجَّة كل من رُوَاته ثِقَات، وَإِذا انْفَرد بِهِ ضَمرَة كَانَ لَا يضر فَإِذا ادعوا أَنه أَخطَأ فِيهِ فَبَاطِل؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا برهَان. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : رَوَى ضَمرَة هَذَا الحَدِيث. وخطي [فِيهِ] وَلم يلْتَفت(9/709)
بَعضهم لذَلِك لكَون ضَمرَة ثِقَة لَا يضر انْفِرَاده بِهِ.
قلت: فَإِن قيل قد رَوَى ابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيّ هَذَا الحَدِيث مَوْقُوفا أَيْضا. قلت: الرّفْع مقدم؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة. فَإِن قيل: قد روياه أَيْضا عَن قَتَادَة عَن عمر وَهَذَا مُرْسل؛ لِأَن قَتَادَة لم يسمع من عمر فَإِن و [وَفَاة] قَتَادَة بعد وَفَاة عمر بنيف وَثَلَاثِينَ سنة. قلت قد علم مَا فِي تعَارض الْوَصْل والإرسال وَالصَّحِيح أَن الْوَصْل مقدم؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة وَهِي مَقْبُولَة مُوَافقَة.
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَقرع فِي قسْمَة بعض الْغَنَائِم بالبعر» . وَرُوِيَ «أَنه أَقرع مرّة بالنوى» .
هَذَا الحَدِيث لَا أعرفهُ بعد شدَّة الْبَحْث عَنهُ، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي «مشكلات الْوَسِيط» [لَيْسَ] لهَذَا الحَدِيث صِحَة.
الحَدِيث السَّادِس
عَن عمرَان بن حُصَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه أعتق سِتَّة مملوكين لَهُ عِنْد مَوته، لم يكن لَهُ مَال غَيرهم، فَدَعَاهُمْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فجزأهم أَثلَاثًا، ثمَّ أَقرع بَينهم، وَأعْتق اثْنَيْنِ وأرق أَرْبَعَة، وَقَالَ لَهُ قولا شَدِيدا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَقد كَرَّرَه الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي هَذَا الْبَاب، وَذكره أَيْضا فِي كتاب الْوَصَايَا كَمَا تقدم فِي بَابه، وَأخرجه مُسلم فِي(9/710)
«صَحِيحه» بِهَذِهِ الْحُرُوف وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَن رجلا من الْأَنْصَار أَوْصَى عِنْد مَوته فَأعتق سِتَّة مملوكين ... » وأسهم فِي هَذِه الرِّوَايَة هُوَ الْمُفَسّر فِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة وَعند الإِمَام أَحْمد «فجَاء ورثته من الْأَعْرَاب فَأخْبرُوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بذلك ... » وَذكر الحَدِيث. قَالَ عبد الْحق: القَوْل الشَّديد الْمُتَقَدّم فِي رِوَايَة مُسلم هُوَ وَالله أعلم مَا ذكره النَّسَائِيّ عَن الْحسن عَن عمرَان بن حُصَيْن أَيْضا أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِيهِ فِي هَذِه الْقِصَّة «لقد هَمَمْت أَن لَا أُصَلِّي عَلَيْهِ ... » قلت: وَيحْتَمل أَن يكون السَّبَب فِي ذَلِك أَيْضا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فِي آخر هَذَا الحَدِيث أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَو شهدته قبل أَن يدْفن لم يقبر فِي مَقَابِر الْمُسلمين» وَقد ذكرنَا هَذَا وَاضحا بِزِيَادَة فِي كتاب الْوَصَايَا، وَمِمَّا لم نقدمه هُنَاكَ أَن أَحْمد خرج هَذَا الحَدِيث أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن أَخطب وَهُوَ غَرِيب.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي حَدِيث عمرَان «أَنه كَانَت قيمتهم مُتَسَاوِيَة» . قلت: لم أره فِي طَرِيق من طرق هَذَا الحَدِيث مَعَ انتشارها، لكنه الظَّاهِر، بل عِنْدِي أَنه لَا يحْتَاج إِلَى التَّنْصِيص عَلَى ذَلِك فِي الحَدِيث.
وَقَالَ الرَّافِعِيّ بعد هَذَا: وَقد سبق فِي النِّكَاح أَن من نكح أمة غر بحريتها فَأَتَت مِنْهُ بِولد ينْعَقد الْوَلَد حرًّا وَيجب للمغرور قِيمَته لمَالِك الْأمة. قَالَ: وأجمعت الصَّحَابَة عَلَى وجوب الضَّمَان.(9/711)
قلت: الَّذِي يحضرني من هَذَا الْإِجْمَاع مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب من قَالَ يرجع الْمَغْرُور بِالْمهْرِ وَقِيمَة الْأَوْلَاد عَلَى الَّذِي غرَّ «بِسَنَدِهِ إِلَى الشَّافِعِي أخبرنَا مَالك أَنه بلغه أَن عمر أَو عُثْمَان قَضَى أَحدهمَا فِي أمة غرت بِنَفسِهَا رجلا فَذكرت أَنَّهَا حرَّة، فَولدت أَوْلَادًا فَقَضَى أَن يفْدي وَلَده بمثلهم» قَالَ مَالك: وَذَلِكَ يرجع [إِلَى] الْقيمَة؛ لِأَن العَبْد لَا يُؤْتَى بِمثلِهِ وَلَا نَحوه فَلذَلِك يرجع إِلَى الْقيمَة.(9/712)
بَاب الْوَلَاء
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا أما الْأَحَادِيث فثمانية:
أَحدهَا
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الْوَلَاء لمن أعتق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة عَائِشَة فِي قصَّة بَرِيرَة من طرق كَثِيرَة وَهُوَ حَدِيث عَظِيم كثير السّنَن والآداب، وَقد أفرده النَّاس بالتصنيف وبالغوا فِي الاستخراج مِنْهُ عَلَى ثَلَاثمِائَة حكم وَأكْثر، وَقد لخصت مِنْهَا جملَة فِي «شرح الْعُمْدَة» فَرَاجعه مِنْهَا وَمِمَّنْ صنف فِي ذَلِك إِمَام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة رَحِمَهُ اللَّهُ.
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ [الْبَيْهَقِيّ] فِي «سنَنه» عَن الْحَاكِم وَغَيره عَن(9/713)
الْأَصَم، عَن الرّبيع، عَن الشَّافِعِي - وَهُوَ فِي «مُسْنده» - عَن مُحَمَّد بن الْحسن، عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن الْفَقِيه، عَن يَعْقُوب أبي يُوسُف القَاضِي، عَن عبد الله بن دِينَار قَالَ أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي عقب [هَذَا الحَدِيث:] هَذَا خطأ؛ لِأَن الثِّقَات لم يرووه هَكَذَا، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الْحسن مُرْسلا. ثمَّ رَوَاهُ - أَعنِي الْبَيْهَقِيّ - عَن الْحَاكِم وَغَيره عَن الْأَصَم، عَن يَحْيَى بن أبي طَالب، عَن يزِيد [بن] هَارُون، عَن هِشَام بن حسان، عَن الْحسن، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكره بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدّم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ من أوجه أخر كلهَا ضَعِيفَة. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن ضَمرَة، عَن سُفْيَان، عَن ابْن دِينَار، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، قَالَ سُلَيْمَان بن أَحْمد - يَعْنِي الطَّبَرَانِيّ -: لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن سُفْيَان إِلَّا ضَمرَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ عَن ضَمرَة كَمَا رَوَاهُ يَعْنِي [الْجَمَاعَة «نهَى] عَن بيع الْوَلَاء وَعَن هِبته» وَكَأن الْخَطَأ وَقع من غَيره. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن يَحْيَى بن سليم، عَن عبيد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: هَذَا وهم من يَحْيَى بن سليم أَو من دونه فِي الْإِسْنَاد والمتن جَمِيعًا، فَإِن الْحفاظ إِنَّمَا رَوَوْهُ عَن عبيد الله بن عمر، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن(9/714)
ابْن [عمر] مَرْفُوعا «نهَى عَن بيع الْوَلَاء وَعَن هِبته» .
قلت: وَكَذَا قَالَ أَبُو زرْعَة فِيمَا نَقله عَنهُ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» أَن هَذَا هُوَ الصَّحِيح
[قَالَ] الْبَيْهَقِيّ: وَأخرجه مُسلم - يَعْنِي حَدِيث «نهَى عَن بيع وَوَلَاء» - من وَجه آخر عَن عبيد الله فِي البيع. قَالَ: وَقد رَوَاهُ مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أبي الشَّوَارِب، عَن يَحْيَى بن سليم عَلَى الْوَهم فِي إِسْنَاده دون مَتنه، قَالَ التِّرْمِذِيّ فِيمَا بَلغنِي عَنهُ: سَأَلت البُخَارِيّ فَقَالَ: يَحْيَى بن سليم أَخطَأ فِي حَدِيثه، إِنَّمَا هُوَ عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، وَعبد الله بن دِينَار تفرد بِهَذَا الحَدِيث يَعْنِي بِاللَّفْظِ الْمَشْهُور. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة عَن أبي حسان الزيَادي، عَن يَحْيَى بن سليم، عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا «الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب» . قَالَ: وَهَذَا اخْتِلَاف ثَالِث عَلَى يَحْيَى بن سليم وَكَانَ سيئ الْحِفْظ كثير الْخَطَأ.
قلت: قد تَابعه عَلَى هَذِه الرِّوَايَة مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي كَذَلِك أخرجه الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من حَدِيثه كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَى فِي ذَلِك عَن عبد الله بن نَافِع بِإِسْنَادَيْنِ وهم فيهمَا، وَاخْتلف عَلَيْهِ فيهمَا. قَالَ: وَرَوَى عَن يَحْيَى بن أبي أنيسَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا. قَالَ: [وَلَيْسَ](9/715)
الزُّهْرِيّ فِيهِ أصل، وَيَحْيَى بن أبي أنيسَة ضَعِيف بِمرَّة، وَإِنَّمَا يروي هَذَا اللَّفْظ مُرْسلا كَمَا قدمنَا ذكر. قَالَ: (وَيروَى عَمَّن دون ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة) وَعَن عَلّي مَرْفُوعا «الْوَلَاء بِمَنْزِلَة النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهب» هَذَا ملخص مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي هَذَا الْبَاب. وَقَالَ فِي بَاب «الْمِيرَاث بِالْوَلَاءِ» بعد أَن رَوَاهُ مُرْسلا عَن الْحسن: رُوِيَ مَوْصُولا من وَجه آخر عَن ابْن عمر وَلَيْسَ بِصَحِيح. وَذكر الْعقيلِيّ عبد الله بن دِينَار فِي ضُعَفَائِهِ؛ لأجل انْفِرَاده بِهَذَا الحَدِيث، وَهُوَ حجَّة بِإِجْمَاع فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ، وَخَالفهُ جماعات فصححوه مِنْهُم شَيْخه أَبُو عبد الله الْحَاكِم، فَإِنَّمَا خرجه فِي «مُسْتَدْركه» بِسَنَد الْبَيْهَقِيّ الْمُتَقَدّم أَولا ثمَّ قَالَ هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: وَقد حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن حمدَان، حَدثنَا أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، ثَنَا مُحَمَّد بن مهْرَان، ثَنَا مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي، عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا «الْوَلَاء لحْمَة من النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهب» وَمِنْهُم الإِمَام أَبُو حَاتِم بن حبَان فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» عَن أبي يعْلى الْموصِلِي قَالَ: قَرَأَ عليّ بشر بن الْوَلِيد، عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، عَن عبيد الله بن عمر، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا «الْوَلَاء (لحْمَة كلحمة النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهب» وَهَذِه الرِّوَايَة مُخَالفَة) لجَمِيع مَا تقدم إِذْ فِيهَا [عبيد الله(9/716)
بن عمر، عَن] عبد الله بن دِينَار وَقد تَابع بشرا عَلَى ذَلِك مُحَمَّد بن الْحسن فَرَوَاهُ عَن أبي يُوسُف كَذَلِك. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه «الْمعرفَة» : وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن فِي كتاب الْوَلَاء عَن أبي يُوسُف عَن عبيد الله بن عمر عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر - بِخِلَاف - مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَالْحَاكِم كَمَا تقدم عَن مُحَمَّد بن الْحسن وَمِنْهُم ابْن خُزَيْمَة فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» وَمِنْهُم الْحَافِظ عبد الْحق فَإِنَّهُ ذكره فِي «أَحْكَامه» من رِوَايَة يَحْيَى بن سليم عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَسكت عَلَيْهِ وسكوته قَاض بِصِحَّة الحَدِيث عَلَى مَا قدره فِي خطْبَة كِتَابه وَمِنْهُم الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» فَإِنَّهُ عزاهُ فِيهِ إِلَى أبي يعْلى وصحيح ابْن حبَان وَسكت عَنْهُمَا وَمن الغرائب عبارَة الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ حَيْثُ قَالَ فِي مُخْتَصر الْمُسْتَدْرك» عقب قَول الْحَاكِم: «هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد» . قلت: بِالسَّيْفِ وَأَشَارَ إِلَى الْإِنْكَار عَلَى الْحَاكِم، وَفِي ذهنه مقَالَة الْبَيْهَقِيّ الَّتِي ذَكرنَاهَا وَلِهَذَا الحَدِيث مخرج آخر لم يَعْتَرِيه أحد من مصنفي الْأَحْكَام ورجال إِسْنَاده كلهم ثِقَات.
قَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي كِتَابه «تَهْذِيب الْآثَار» : حَدثنِي مُوسَى بن سهل الرَّمْلِيّ، ثَنَا مُحَمَّد بن عِيسَى [يعْنى الطباع، ثَنَا عَبْثَر(9/717)
بن الْقَاسِم، عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، عَن عبد الله] بن أبي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهب» وَهَذَا يرد قَول الْبَيْهَقِيّ: «رَوَى من أوجهٍ أخر كلهَا ضَعِيفَة» وَقَالَ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة عبد الله بن أبي أوفي: أَحْمد بن إِسْحَاق، نَا عَلّي بن مُحَمَّد بن جبلة، ثَنَا يَحْيَى هَاشم، [عَن إِسْمَاعِيل] بن أبي خَالِد، عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب» قَالَ وَرَوَاهُ عبيد بن الْقَاسِم عَن إِسْمَاعِيل وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا عَن سَلمَة بن سهل، عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، عَن عتبَة بن الْقَاسِم، بِهِ سَوَاء، وَذكره من أَصْحَابنَا الْفُقَهَاء الْمَاوَرْدِيّ من حَدِيثه عَن عتبَة بِهِ سَوَاء ثمَّ قَالَ: وإرسال هَذَا الحَدِيث أثبت (إِسْنَادًا) .
وَهَذَا الحَدِيث قد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مَضَى من كتَابنَا هَذَا فِي تناسب بَيَان الْأَوْلِيَاء وأحكامهم حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ ووعدنا هُنَاكَ أَنا أَن وصلنا إِلَى هَذَا الْمَكَان تريده إيضاحًا وَقد وفْق الْكَرِيم لذَلِك وَله الحمدُ الْمِنَّة ونقلنا هُنَاكَ أَن النَّوَوِيّ نقل فِي كِتَابه «تَهْذِيب الْأَسْمَاء واللغات» عَن جُمْهُور أهل اللُّغَة أَنهم ضبطوا اللحمة فِي هَذَا الحَدِيث بِضَم اللَّازِم وَأَن الْأَزْهَرِي حَكَى عَن ابْن الْأَعرَابِي وَغَيره فتح اللَّازِم وَأَن الْأَزْهَرِي قَالَ إِن مَعْنَى هَذَا الحَدِيث قرَابَة كقرابة النّسَب وَكَذَا قَالَه الإِمَام الرَّافِعِيّ هُنَا إِلَى اللُّغَة(9/718)
المنقولة عَن ابْن الْأَعرَابِي فَقَالَ وَفِي «الصِّحَاح» : اللحمة بِالضَّمِّ الْقَرَابَة ولحمة الثَّوْب تضم وتفتح وَكَذَا لحْمَة الصَّيْد. وَحَكَى ابْن الْأَثِير أَنَّهَا فِي النّسَب [بِالضَّمِّ، وَفِي الثَّوْب] تضم وتفتح، قَالَ: وَقيل فِي الثَّوْب بِالْفَتْح وَحده وَقيل فِي النّسَب وَفِي الثَّوْب بِالْفَتْح، فَأَما (بِالْفَتْح) فَمَا يصاد بِهِ الصَّيْد، وَقَوله: «لَا يُبَاع وَلَا يُوهب» يَعْنِي أَن نَفْس الْوَلَاء لَا ينْتَقل من شخص إِلَى شخص بعوض وَبِغير عوض.
الحَدِيث الثَّالِث
«يرْوَى النَّهْي عَن بيع الْوَلَاء وَعَن هِبته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة د ت ق ن وقبلهم الإمامان مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَأحمد فِي «الْمسند» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وَعجب من الرَّافِعِيّ كَيفَ أوردهُ بِهَذِهِ الصّفة وَهِي لفظ «يرْوَى» وَهُوَ بِهَذِهِ المثابة من الصِّحَّة وَأنكر ابْن وضاح أَن يكون نَهْيه من كَلَام النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ.(9/719)
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لن يَجْزِي والدًا وَلَده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه» .
هَذَا الحَدِيث كَمَا عَرفته فِي الْبَاب قبله.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مولَى الْقَوْم مِنْهُم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان وَصَححهُ من حَدِيث أبي رَافع قَالَ: بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجلا عَلَى الصَّدَقَة من بني مَخْزُوم، قَالَ أَبُو رَافع: فَقَالَ لي اصحبني فَإنَّك [تصيب] مِنْهَا معي قلت حَتَّى أسأَل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَانْطَلق إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلَهُ فَقَالَ موَالِي الْقَوْم من أنفسهم وَإِنَّا لَا تحل لنا الصَّدَقَة. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ «مولَى الْقَوْم مِنْهُم» كَمَا فِي الْكتاب، وَوَقع فِي الرَّافِعِيّ هُنَا وَفِي قسم الصَّدقَات «موَالِي» بِالْألف، وَالَّذِي رَأَيْت فِي كتب الحَدِيث «مولَى» بحذفها، وَهَذَا الحَدِيث سلف أَيْضا وَاضحا فِي كتاب قسم الصَّدقَات، وَذَكَرْنَاهُ هُنَا لبعد الْعَهْد بِهِ.(9/720)