قلت: لأجْل نِيَّته فِي الْإِسْلَام، وَلِهَذَا «لمَّا ضَاعَ بعض أدراعه عرض عَلَيْهِ رَسُول (أَن يضمنهَا لَهُ، فَقَالَ: أَنا الْيَوْم فِي الْإِسْلَام أرغبُ يَا رَسُول الله» .
رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ.
وَفِي (أبي) دَاوُد: «لَا يَا رَسُول الله؛ لِأَن فِي قلبِي الْيَوْم مَا لم يكن يَوْمئِذٍ» .
وَقد ذكر هَذَا الموضعَ الغزاليُّ فِي «وسيطه» عَلَى الصَّوَاب، فَقَالَ: وَقد أعْطى صَفْوَان بن (أُميَّة) فِي حَال كفره ارتقابًا لإسلامه.
وَخط النَّوَوِيّ عَلَيْهِ، فَقَالَ فِي «الأغاليط المنسوبة إِلَيْهِ» : هَذَا غلط صَرِيح بالِاتِّفَاقِ من أَئِمَّة النَّقْل وَالْفِقْه، بل إِنَّمَا أعطَاهُ بعد إِسْلَامه؛ لِأَن نيَّته كَانَت ضَعِيفَة فى الْإِسْلَام ... انْتَهَى.
وَهَذَا عجبٌ من النَّوَوِيّ؛ كَيفَ جعل الصَّوَاب غَلطا صَرِيحًا؟ ! ثمَّ ادَّعى الِاتِّفَاق عَلَيْهِ؟ ! وَقد سبق بالاستدراك عَلَيْهِ صَاحب «الْمطلب» فَقَالَ: عجيبٌ من النَّوَوِيّ، كَيفَ قَالَ ذَلِك؟ ! نَعَمْ الرافعيُّ وطائفةٌ - مِنْهُم: ابْن أبي الدَّم - قَالُوا: مَا ذكره، ثمَّ قَالَ: وَالله أعلم بِالصَّوَابِ. وَذكر فِي حَدِيث سعيد بن الْمسيب السالف عَن مُسلم، وَلكنه عزاهُ إِلَى التِّرْمِذِيّ وَحده، فِي قَول صَفْوَان بن أُميَّة السالف «أَعْطَانِي ... » إِلَى آخِره(7/381)
احْتِمَالَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون أعطَاهُ قبل أَن يسلم، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ الْأَقْوَى. وَثَانِيهمَا: أَن يكون بعد إِسْلَامه.
قلت: وَهَذَا عجيبٌ، فقد (رَوَى) ابْن الْأَثِير فِي كِتَابه «أُسْد الغابة» : أَن الْإِعْطَاء قَبْل الْإِسْلَام، وَأَنه شهد حنينًا كَافِرًا؛ فارتفع الْخلاف، وَللَّه الْحَمد.
وَأما عدي بن حَاتِم، والزبرقان بن بدر؛ فَلم أر أحدا غَيرهمَا من الْمُؤَلّفَة، وَقد جمع ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تلقيحه» الْمُؤَلّفَة من كَلَام ابْن عَبَّاس وَابْن إِسْحَاق وَمُقَاتِل، وَمُحَمّد بن حبيب فِي « (محبره) » ، وَابْن قُتَيْبَة، فَلم يذكرهما فيهم.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تحل الصَّدَقَة إِلَّا لخمسةٍ ... » وَذكر مِنْهُم «الْغَارِم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فى «سنَنه» مِنْ طَرِيقين:
أَحدهمَا: عَن عَطاء بن يسَار أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تحل الصَّدَقَة لغنيٍّ، إِلَّا لخمسة: لغاز فِي سَبِيل الله، أَو لعامل عَلَيْهَا، أَو لغارم، أَو لرجل اشْتَرَاهَا بِمَالِه، أَو لرجلٍ كَانَ لَهُ جَاره مِسْكين فَتصدق عَلَى المسكينِ؛ (فأهدى) المسكينُ للغني» .(7/382)
وَكَذَلِكَ أخرجه مَالك فِي «موطئِهِ» مُرْسلا.
ثَانِيهَا: عَن عَطاء عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَعْنَاهُ، كَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه مُتَّصِلا، كَمَا ذكره أَبُو دَاوُد بِاللَّفْظِ الأول (مَعَ) تقديمٌ وتأخيرٌ، وَقَالَ: «أَو غنيّ اشْتَرَاهَا بِمَالِه، أَو فَقير تصدق عَلَيْهِ فأهداها لَغَنِيّ» يدل عَلَى مَا تقدم.
وَرَوَاهُ الْبَزَّار مُتَّصِلا من طَرِيقين إِلَى أبي سعيد مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ أَحْمد مُتَّصِلا أَيْضا، وَاخْتلف الْحفاظ (أَيهمَا) أصح: طَريقَة الْوَصْل أَو طَريقَة الْإِرْسَال؟ فصحح الثَّانِي طائفةٌ؛ فَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : أَن الثَّوْريّ أرْسلهُ، وَنقل عَن أَبِيه أَن الْإِرْسَال أشبه. كَذَا نَقله عَن الثَّوْريّ، وَسَيَأْتِي عَن الْبَيْهَقِيّ مَا يُخَالِفهُ، وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث حدَّث بِهِ عبد الرَّزَّاق عَن معمر، وَالثَّوْري عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي سعيدٍ، قَالَه ابْن عَسْكَر، وَقَالَ غيرُه: عَن عد الرَّزَّاق عَن معمر وَحده، وَهُوَ أصح. قَالَ: وَرَوَاهُ ابْن مهْدي، عَن الثَّوْريّ، عَن زيد بن أسلم قَالَ: حَدثنِي الثبْتُ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلم يسم رجلا، وَهُوَ الصَّحِيح.
وَصحح طَائِفَة الأول، قَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بعد أَن أخرجه(7/383)
فِيهِ من حَدِيث (عَطاء عَن أبي سعيد مَرْفُوعا بِلَفْظ أبي دَاوُد الْمُرْسل: هَذَا حَدِيث) صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، قَالَ: وَإِنَّمَا لم يخرجَاهُ لإرسال مَالك بن أنس إِيَّاه، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء. قَالَ: وَهَذَا من شرطي أَنه صَحِيح، فقد يُرْسل مالكٌ (الحديثَ أَو يصله أَو يَقِفُهُ) فَالْقَوْل قَول الثِّقَة الَّذِي يصله ويسنده. وَقَالَ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» : هَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ غيرُ واحدٍ، عَن زيد، عَن عَطاء مُرْسلا، وأسنده عبد الرَّزَّاق عَن: معمر، وَالثَّوْري قَالَ: (وَإِذا) حدَّث بِالْحَدِيثِ ثقةٌ كَانَ عِنْدِي الصَّوَاب، وَعبد الرَّزَّاق عِنْدِي ثِقَة، وَمعمر ثِقَة، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا الحَدِيث وَصله جمَاعَة من رِوَايَة زيد بن أسلم. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : إِسْنَاده ثِقَات. وَجمع الْبَيْهَقِيّ طُرُقَهُ، وفيهَا: أَن مَالِكًا، وَابْن عُيَيْنَة (أرسلا) وَأَن معمرًا، وَالثَّوْري (وصلا) وهما من جُلَّة الْحفاظ المعتمدين، وَالصَّحِيح إِذن أَن الحُكم للمتصل كَمَا صرَّح بِهِ أهل هَذَا الْفَنّ والأصوليون.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ هُنَا مُخْتَصرا، وَذكره بَعْدُ مطولا بِلَفْظ أبي دَاوُد، وَجُمْهُور المصنفين عَلَى جَوَاز تقطيع الحَدِيث إِذا لم (يخل) بِالْمَعْنَى، وَهَذَا مِنْهُ، ومِنْ أَكْثَرهم اسْتِعْمَالا لهَذَا البخاريُّ(7/384)
فِي «صَحِيحه» وناهيك بِهِ قُدْوَة.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: لَا يُصْرَف شيءٌ من الصَّدقَات إِلَى المرتزقة كَمَا لَا يُصْرف شيٌ (من الْفَيْء) إِلَى المتطوعة، وَعَلَى ذَلِك جَرَى الْأَمر فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد سبق بعض ذَلِك فِي الْبَاب قبله أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا هَذِه الصَّدقَات أوساخ النَّاس، وَإِنَّهَا لَا تحل لمحمدٍ وَلَا لآل مُحَمَّد» .
هَذَا الحَدِيث بعض من حَدِيث طَوِيل، وَقد ذكر الرَّافِعِيّ مِنْهُ قطعا، فلنذكره هُنَا بِكَمَالِهِ، ونُحيل مَا (نذكرهُ) بعده عَلَيْهِ، فَنَقُول: رَوَى مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عبد الْمطلب (بن ربيعَة بن الْحَارِث قَالَ: «اجْتمع ربيعَة بن الْحَارِث وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب) فَقَالَا: لَو بعثنَا هذَيْن الغلامين - (قَالَ) لي وللفضل بن الْعَبَّاس - إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فكلَّماه، فأمَّرَهما عَلَى هَذِه الصَّدقَات، فأدَّيَا مَا يُؤدِّي النَّاس، وأصابا مَا يُصِيب النَّاس، فَبَيْنَمَا هما فِي ذَلِك إِذْ جَاءَ عَلّي بن أبي طَالب فَوقف عَلَيْهِمَا، فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ عَلّي: لَا تفعلا، فواللهِ مَا هُوَ بفاعلٍ. فانْتَحَاهُ ربيعةُ بن الْحَارِث فَقَالَ: واللهِ مَا(7/385)
تصنع هَذَا إِلَّا نفاسة مِنْك علينا، (فوَاللَّه) لقد كنت صِهْرَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَمَا نفسناه عَلَيْك. قَالَ عَلّي: أرسلوهما. (فَانْطَلقَا) ، واضطجع عَلّي، قَالَ: فلمَّا صَلَّى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الظُّهْرَ سبقناه إِلَى الْحُجْرَة، فقمنا عِنْدهَا حَتَّى جَاءَ فَأخذ بآذاننا، ثمَّ قَالَ: أخرجَا مَا تُصرران، ثمَّ دخل ودخلنا (مَعَه) وَهُوَ يَوْمئِذٍ عِنْد زَيْنَب بنت جحش، قَالَ: فتواكلنا الكلامَ، ثمَّ تكلم أحدُنا فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَنْت أبرُّ الناسِ وأوصلُ الناسِ، وَقد بلغْنَا النكاحَ؛ فَجِئْنَا لتؤمِّرنا عَلَى بعض هَذِه الصَّدقَات، فنؤدّي إِلَيْك كَمَا يُؤَدِّي الناسُ، وَنصِيب كَمَا يصبون. قَالَ: فَسكت طَويلا حَتَّى أردنَا أَن نكلمه، قَالَ: وجعلتْ زينبُ تُلمع إِلَيْنَا من وَرَاء الْحجاب: أَن لَا تكلماه ثمَّ قَالَ: إِن الصَّدَقَة لَا تنبغي لآل محمدٍ، إِنَّمَا هِيَ أوساخ النَّاس، ادْعُوا لي محمية - وَكَانَ عَلَى الخُمس - وَنَوْفَل بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب. قَالَ: فجاءاه، فَقَالَ لمحمية: أنكح هَذَا الْغُلَام ابْنَتك - للفضل بن عَبَّاس - فأنكحه، وَقَالَ لنوفل بن الْحَارِث: أنكح هَذَا الْغُلَام ابْنَتك [لي] فأنكحني، وَقَالَ (لمحمية) : أصدق عَنْهُمَا من الخُمس كَذَا وَكَذَا» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِن هَذِه الصَّدقَات إِنَّمَا هِيَ أوساخ النَّاس، وَإِنَّهَا لَا تحل لمحمدٍ وَلَا لآلِ مُحَمَّد» وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد مسلمٍ، بل لم يخرّج البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن عبد الْمطلب بن ربيعَة شَيْئا.
فَائِدَة: مَعْنَى «انتحاه» : عرض لَهُ، وَقَوله: مَا تُصَرِّران: أَي: مَا(7/386)
جَمعْتُمَا فِي صدوركما وعزمتما عَلَى إِظْهَاره، وكلُّ شَيْء جمعته فقد صررته. والنفاسة: الْبُخْل، أَي بخلا مِنْك علينا. والتواكل: أَن يكل وَاحِد أمره إِلَى صَاحبه ويتكل عَلَيْهِ فِيهِ، يُرِيد: أنْ يَبْتَدِئ صَاحبه بالْكلَام دونه، وَقَوله: [أَنا أَبُو حسن] الْقَوْم» : قَالَ الْخطابِيّ: أَكثر الرِّوَايَات «الْقَوْم» بِالْوَاو، وَلَا مَعْنَى لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ «القرم» بالراء، يُرِيد بِهِ: المقدَّم فِي الرَّأْي والمعرفة بالأمور والتجارب.
الحَدِيث (السَّادِس) عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «نَحن وَبَنُو الْمطلب شيءٌ وَاحِد، وَشَبك بَين أَصَابِعه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جُبَير بن مطعم، كَمَا سلف فِي الْبَاب قَبْله وَاضحا.
الحَدِيث السَّابِع عشر
«أَن الْفضل بن الْعَبَّاس، وَعبد الْمطلب بن ربيعَة سَأَلَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يؤمِّرُهما عَلَى بَعْض الصَّدَقَة، فَقَالَ: إِن الصَّدَقَة لَا تحل لآل مُحَمَّد؛ إِنَّمَا هِيَ أوساخ النَّاس» . هَذَا الحَدِيث سلف بِطُولِهِ قَرِيبا.(7/387)
الحَدِيث الثَّامِن عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث عَاملا، فَقَالَ لأبي رَافع مولَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اصحبني كَيْمَا نصيب من الصَّدَقَة، فَسَأَلَ أَبُو رَافع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن الصَّدَقَة لَا تحل لنا، وَإِن مولَى الْقَوْم من أنفسهم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بإسنادٍ عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ من حَدِيث أبي رَافع قَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجلا عَلَى الصَّدَقَة من بني مَخْزُوم، قَالَ أَبُو رَافع: فَقَالَ لي: اصحبني؛ فإنَّكَ تُصيبُ مِنْهَا معي. قلت: حَتَّى أسأَل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَانْطَلق إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مولَى الْقَوْم من أنفسهم، وَإِنَّا لَا تحل لنا الصَّدَقَة» .
هَذَا لَفظهمْ خلا النَّسَائِيّ، وَلَفظه: «إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتعْمل رجلا من بني مَخْزُوم عَلَى الصَّدَقَة، فَأَرَادَ أَبُو رَافع أَن يتبعهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن الصَّدَقَة لَا تحل لنا، وَإِن مولَى الْقَوْم مِنْهُم» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ الْجَمَاعَة ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط(7/388)
الشَّيْخَيْنِ. وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ فِي «علله» : يرويهِ الحكم، وَاخْتلف عَنهُ؛ فَرَوَاهُ شُعْبَة عَن (الحكم) ، عَن ابْن أبي رَافع عَن أَبِيه، وَقَالَ: عَمْرو بن مَرْزُوق عَن شُعْبَة مثله، وَكَذَلِكَ قَالَ: أُسَامَة عَن شُعْبَة، وَقَالَ الْحجَّاج بن أَرْطَاة: عَن الحكم «أَن أَبَا رَافع سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْئا من الصَّدَقَة، فَقَالَ: لَا تحل للنَّبِي) . وَلَا لأحدٍ من أَهله ومولاهم» . فَيكون مُرْسلا.
فَائِدَة: اسْم أبي رَافع: إِبْرَاهِيم، عَلَى أحدِ الْأَقْوَال، ثَانِيهَا: أسلم، ثَالِثهَا: ثَابت، رَابِعهَا: هُرْمُز، خَامِسهَا: صَالح ... حَكَاهُ ابْن [معن] فِي «تنقيبه» ، وَهُوَ قبْطِي.
فَائِدَة ثَانِيَة: اسْم هَذَا الرجل الْمَبْعُوث: الأرقم بن أبي الأرقم المخزوميّ الْقرشِي، كَمَا صرَّح بِهِ النَّسَائِيّ والخطيب وَغَيرهمَا، وكنيته: أَبُو عبد الله، وَهُوَ الَّذِي استخفى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَكَّة فِي أَسْفَل الصَّفَا حَتَّى كملوا أَرْبَعِينَ رجلا آخِرهم الْفَارُوق، وَهِي الَّتِي تعرف بدار الخيزران.
الحَدِيث (التَّاسِع) عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ لمَّا حَكَى عَن الْإِصْطَخْرِي: أَن آلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة(7/389)
وَالسَّلَام إِذا انْقَطع خُمس الخُمس عَنْهُم يجوز صرف الزَّكَاة إِلَيْهِم - عللَّه بِأَن الخُمْس عِوَض عَنْهَا عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الحَدِيث: «أَلَيْسَ فِي خُمْس الخُمْس مَا (يكفيكم) عَن أوساخ النَّاس؟»
هَذَا الحَدِيث سبق أَصله بِطُولِهِ بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة، وَقد أخرجه مَعَ مُسلم أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فَلم يذكراها، و (بيض) لَهَا الْمُنْذِرِيّ فِي «تَخْرِيجه لأحاديث المهذَّب» . ( ... .) ورأيتُها فِي كتاب «معرفَة الصَّحَابَة» لِلْحَافِظِ أبي نعيم فِي تَرْجَمَة نَوْفَل بن الحارِث بن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي، فَقَالَ أَنا حبيب بن الْحسن، ثَنَا يُوسُف القَاضِي، ثَنَا مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي، ثَنَا (مُعْتَمر) بن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه، عَن حَنش، عَن عِكْرِمَة: «أَن نوفلاً قَالَ لابْنَيْهِ: انْطَلقَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَعَلَّه يستعملكما عَلَى الصَّدقَات. فَقَالَ لَهما النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا أُحل لكم أهل الْبَيْت من الصَّدقَات شَيْئا وَلَا غسالة الْأَيْدِي، إِن لكم فِي خُمْس الخُمْس مَا يكفيكم أَو يغنيكم» .
قَالَ أَبُو نعيم: وَرَوَاهُ عَلّي بن عَاصِم، عَن حَنش نَحوه وَرَوَاهُ(7/390)
الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن معَاذ بن الْمثنى، ثَنَا مُسَدّد، حَدثنَا [مُعْتَمر] (بن سُلَيْمَان) قَالَ: سَمِعت أبي يحدِّث، عَن حَنش، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس؛ فساقه بأطول مِمَّا تقدم، إِلَّا أَن اللَّفْظ وَقَالَ: «لما يكفيكم» بِاللَّامِ بدل «مَا يكفيكم» . وحنش هَذَا إِن كَانَ ابْن الْمُعْتَمِر فَهُوَ (لين الحَدِيث) وَإِن كَانَ الرَّحبِي فقد ضَعَّفُوهُ.
تَنْبِيه: رَوَى الْعقيلِيّ رِوَايَة غَرِيبَة فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» وَهِي بعد قَوْله: «إِن الصَّدَقَة لَا تحل لمُحَمد وَلَا لآل مُحَمَّد» : و «لَكِن انْظُرُوا إِذا أخذتُ بِحَلقَة بَاب الْجنَّة هَل أُوثر عَلَيْكُم أحدا» .
قَالَ الْعقيلِيّ: أما أوَّل الحَدِيث فقد رُوي بإسنادٍ جيدٍ، وَآخره لَا يُحْفظ إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«أَن رجلَيْنِ سَأَلَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الصَّدَقَة، فَقَالَ: إِن شئتُما (أعطيتُكما) ولاحظ فِيهَا لغنيِّ وَلَا لذِي قوةٍ مكتسب» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه أوَّل الْبَاب وَاضحا.(7/391)
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث قبيصَة بن الْمخَارِق: «حَتَّى يشْهد أَو يتَكَلَّم ثَلَاثَة من ذَوي الحجى من قومه» . وَذَلِكَ أَن قبيصَة قَالَ: «تحملتُ حمالَة؛ فأتيتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلته فَقَالَ: نؤدِّيها عَنْك، أَو نخرجها عَنْك إِذا قَدِمتَ، نِعْمَ الصَّدَقَة يَا قبيصَة، إِن (الْمَسْأَلَة) حرمتْ إِلَّا فِي ثَلَاث: رجل تحمَّل حمالَة فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُؤَدِّيهَا ثمَّ يمسك، وَرجل أَصَابَته فاقةٌ أَو حَاجَة حَتَّى يشْهد أَو يتَكَلَّم ثلاثةٌ مِنْ ذَوي الحجى مِنْ قومه أَن بِهِ فاقة أَو حَاجَة، فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُصِيب سدادًا من عيشٍ أَو قِوَامًا من عيشٍ ثمَّ يمسك، (أَو [رجل] أَصَابَته جَائِحَة فاجتاحت مَاله، فَحُلَّتْ لَهُ الصَّدَقَة حَتَّى يُصِيب سدادًا من عيشٍ أَو قوامًا من عيشٍ ثمَّ يمسك) » .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي كَذَلِك سَوَاء، بِزِيَادَة: «وَمَا سُوَى ذَلِك من الْمَسْأَلَة (فسحت) » . قَالَ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» : وَبِهَذَا نَأْخُذ.
وَرَوَاهُ مُسلم (فِي) «صَحِيحه» بلفظٍ آخَر قدَّمْتُه فِي بَاب التَّفْلِيس، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ (أقِم) حَتَّى تَأْتِينَا الصَّدَقَة، فإمَّا أَن(7/392)
(نحملها) أَو نعينك بهَا» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَذَلِك، وَزَاد: «عَنْك» بعد «نحملها» .
فَائِدَة: «أَو» فِي «أَو نُخْرجها» وَفِي «أَو حَاجَة» وَفِي «أَو يتَكَلَّم» وَفِي «أَو قوامًا» : كُله شكّ من الرَّاوِي، كَمَا نبَّه عَلَيْهِ الرافعيُّ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَعَثَ معَاذًا إِلَى الْيمن فَقَالَ: أعلمهم أَن عَلَيْهِم صَدَقَة، تُؤْخَذ من أغنيائهم فتردُّ عَلَى فقرائهم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد تقدم فِي الْبَاب أَيْضا.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «غدوتُ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعَبْد الله بن أبي طَلْحَة ليحنكه، فوافيتُ فِي يَده الميسم يسم إبل الصَّدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه كَذَلِك؛ قَالَ شُعْبَة: وَأكْثر عِلْمِي أَنه قَالَ: «فِي آذانها» وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد، وَابْن مَاجَه: «يسم غنما فِي آذانها» .(7/393)
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيكرهُ الوسم فِي الْوَجْه، وَقد ورد النَّهْي عَنهُ فِي رِوَايَة جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أخرجه مُسلم مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَرَّ عَلَيْهِ حمارٌ وَقد وُسِمَ فِي وَجهه، فَقَالَ: لعن الله الَّذِي وسمه» .
وَله فِي لفظٍ آخرٍ: قَالَ: «رَأَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حمارا قد وُسِمَ فِي وَجهه يدخن مَنْخرَيْهِ، فَقَالَ: لعن الله من فعل هَذَا، ألم أَنْه أَنَّه لَا يسم أحدٌ الْوَجْه، وَلَا يضْرب أحدٌ الْوَجْه» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «أَنه مُرَّ عَلَيْهِ بحمارٍ وَقد وسم فِي وَجهه، فَقَالَ أما بَلغَكُمْ أَنِّي لعنتُ مَنْ وسم الْبَهِيمَة فِي وَجههَا، أَو ضربهَا فِي وَجههَا. فَنَهَى عَن ذَلِك» .
إِذا علمتَ ذَلِك، فَلَا يَنْبَغِي التَّعْبِير عَن مثل هَذَا الحَدِيث بلفظٍ ورد، وَإِن كَانَ فِي عنعنة (أبي) الزبير عَن جَابر وَقْفَة لبَعض الْحفاظ، عَلَى أَنه قد رُوي من حَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة، أحدهم: ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «رَأَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حمارا مَوْسُوم الْوَجْه، فَأنْكر ذَلِك قَالَ: فوَاللَّه لَا أُسَمِّهِ إِلَّا [فِي أقْصَى] شَيْء من الْوَجْه، فَأمر بحمارٍ لَهُ فكوي فِي(7/394)
جَاعِرَتَيْهِ، فَهُوَ أوّل من كوى الْجَاعِرَتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ أَيْضا.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لعن من يسم فِي الْوَجْه» .
ثانيهم: طَلْحَة بن عبيد الله: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (نهَى عَن الوسم أَن يوسم فِي الْوَجْه، قَالَ: ومُرَّ عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) بِبَعِير قد وُسِمَ فى وَجهه، فَقَالَ نحّوا النَّار عَن وَجه هَذِه الدَّابَّة، فَقلت: لأَسَمِنَّ فِي أبعد مَكَان، فوسمت فِي عجب الذَّنب» .
رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ يُروى عَن طَلْحَة إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد.
ثالثهم ورابعهم وخامسهم: الْعَبَّاس، وجنادة بن [جَراد] ، ونقادة، رواهن الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» قَالَ ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» ورُوي أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي هُرَيْرَة وَأنس وَعبادَة.
فَائِدَتَانِ: الأولَى: الْمَحْفُوظ فى الوسم الإهمال، وَبَعْضهمْ حَكَى الإعجام أَيْضا، وَبَعْضهمْ فرَّق فَقَالَ: هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ فِي الْوَجْه وبالمعجمة(7/395)
فِي سَائِر الْجَسَد ... ذكره كلَّه القَاضِي عِيَاض وَغَيره. والجاعرتان هما حرفا الورك المشرفان مِمَّا يلى الدبر.
الثَّانِيَة: الْقَائِل فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: «فواللَّهِ لَا أُسَمِّهِ إِلَّا [فِي أقْصَى] شَيْء من الْوَجْه» هُوَ: الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، كَذَا ذكره أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وصرَّح بِهِ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» . وَكَذَا صرَّح بِهِ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» قَالَ القاضى عِيَاض: وَهُوَ فِي رِوَايَة مُسلم مُشكل يُوهم أَنه من قَول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَالصَّوَاب أَنه العبَّاس. وَاعْترض عَلَيْهِ النووى فَقَالَ فِي «شَرحه» : قَوْله «يُوهم» : ذَلِك لَيْسَ بِظَاهِر (بل ظَاهِرَة) أَنه من كَلَام ابْن عَبَّاس، وَحِينَئِذٍ يجوز أَن يكون جرت الْقِصَّة للْعَبَّاس ولابنه.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فخمسة:
أَحدهَا: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه شرب لَبَنًا فأعجبه، فأُخْبِرَ أَنه من نعم الصَّدَقَة، فَأدْخل إصبعه واستقاءه» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ مَالك، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ عَن زيد بْنِ أسلم أَنه قَالَ: «شرب عمر بن الْخطاب لَبَنًا فأعجبه، فَسَأَلَ الَّذِي سقَاهُ: مِنْ أَيْن لَك هَذَا اللَّبن؟ فَأخْبر أَنه ورد عَلَى مَاء قد سَمَّاهُ، فَإِذا بنعم(7/396)
من نعم الصَّدَقَة وهم يسقون، فحلبوا لنا من أَلْبَانهَا، فَجَعَلته فِي سقائي هَذَا، فَأدْخل عُمر إصبعه فاستقاء» . زَاد الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» : «وَغرم قِيمَته من الْمصَالح» .
وَهُوَ مَا فِي بعض الشُّرُوح، كَمَا عزاهُ إِلَيْهِ صاحبُ «الْمطلب» وَفِي «النِّهَايَة» : «أَنه غرم قِيمَته من الصَّدقَات» .
وَقد أوضحتُ الْكَلَام عَلَى هَذَا الْأَثر فِي «تخريجي لأحاديث الْوَسِيط» فَرَاجعه مِنْهُ.
الْأَثر الثَّانِي: عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه أعْطى عدي بن حَاتِم، كَمَا أعْطى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن (الْحَاكِم عَن) الْأَصَم، عَن الرّبيع قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي: للمؤلفة قُلُوبهم فِي قسم الصَّدقَات سَهْمٌ، قَالَ: وَالَّذِي أحفظُ فِيهِ من مُتقدم الْأَخْبَار: «أَن عدي بن حَاتِم جَاءَ إِلَى أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَحْسبهُ قَالَ: بثلاثمائة من الْإِبِل من صدقَات قومه (فَأعْطَاهُ أَبُو بكر مِنْهَا ثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وَأمره أَن يلْحق خَالِد بن الْوَلِيد بِمن أطاعه من قومه) فَجَاءَهُ بزهاء ألف رجلٍ (وأبلى بلَاء) حسنا» قَالَ: وَلَيْسَ فِي(7/397)
الْخَبَر: فِي (إِعْطَائِهِ إِيَّاهَا) مِنْ أَيْن أعطَاهُ إِيَّاهَا غير أَن الَّذِي يكَاد أَن يعرف الْقلب بالاستدلال بالأخبار - وَالله أعلم -: أَنه أعطَاهُ إِيَّاهَا من سهم الْمُؤَلّفَة (قُلُوبهم) ، (فَإِنَّمَا) زَاده ليرغِّبه فِيمَا صنع، (وَإِنَّمَا) أعطَاهُ ليتألفَّ بِهِ غَيره من قومه مِمَّن لَا يَثِق (مِنْهُ) بِمثل مَا يَثِق بِهِ من عدي بن حَاتِم، فَأرَى أَن يُعْطَى من سهم الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم فِي مثل هَذَا إِن نزلت بِالْمُسْلِمين نازلة، وَلنْ تنزل - إِن شَاءَ الله - هَذَا لَفظه برمتِهِ.
وَذكر الشَّافِعِي أَيْضا فِي «الْمُخْتَصر» أَن الْمُعْطِي لَهُ هُوَ الصدِّيق، وَذكره أَيْضا فِي «الْأُم» فِي بَاب: جماع تَفْرِيق السِّهْمان، فَقَالَ: وَقد رُوي: «أَن عدي بن حَاتِم أَتَى أَبَا بكر بِنَحْوِ ثَلَاثمِائَة بعير صَدَقَة [قومه] فَأعْطَاهُ مِنْهَا ثَلَاثِينَ بَعِيرًا [وَأمره بِالْجِهَادِ مَعَ خَالِد] فَجَاهد مَعَه بِنَحْوِ من أَلْفِ رجلٍ، وَلَعَلَّ أَبَا بكر أعطَاهُ من سهم الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم» .
فَإِن كَانَ هَذَا ثَابتا فَإِنِّي (لَا) أعرفهُ من وَجه يُثبتهُ أهلُ الحَدِيث، وَهُوَ [من] حَدِيث من [ينْسب] إِلَى بعض أهل الْعلم بِالرّدَّةِ. هَذَا لَفظه.
وَنقل الرَّافِعِيّ عَن الْأَئِمَّة أَن الظَّاهِر أَن عدَّيًا كَانَ من الْمُؤَلّفَة(7/398)
(قُلُوبهم) ، واستبعد بعض شُيُوخنَا الْحفاظ عدَّه مِنْهُم، فَإِنَّهُ قد ثَبت فِي «صَحِيح مُسلم» : «أَن عديًّا قَالَ لعمر: أتعرفني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَقَالَ: إِنِّي واللَّهِ لأعرفك ... » إِلَى آخر مَا أسلفناه فِي الْأَحَادِيث وَلما عزمت طَيء عَلَى حبس الصَّدَقَة فِي أوَّل خلَافَة أبي بكر ردَّ عَلَيْهِم عدي بكلامٍ كثيرٍ، ذكره ابْن إِسْحَاق، فَكيف إِذن [يُعطى] من (سهمهم) ، وَأَيْضًا فَإِن سهمهم سقط فِي زمن الصدِّيق؛ فإمَّا أَن يكون أعطَاهُ من سهم العاملين، بِدَلِيل مَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بَعثه عَلَى صدقَات طَيء» . وَإِمَّا أَن يكون أعطَاهُ مُكَافَأَة؛ فَإِنَّهُ لمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَصْرَانِيّا فَأسلم وَأَرَادَ الرُّجُوع إِلَى بِلَاده، أرسل إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعْتَذر إِلَيْهِ من الزَّاد وَيَقُول واللَّهِ مَا أصبح عِنْد آل مُحَمَّد سَعَة من الطَّعَام، وَلَكِن ترجع فَيكون خير» فَلذَلِك أعطَاهُ أَبُو بكر ثَلَاثِينَ من إبل الصَّدَقَة. ذكره ابْن سَالم فِي «الِاكْتِفَاء» .
الْأَثر الثَّالِث: «أَن مُشْركًا جَاءَ إِلَى عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يلْتَمس مَالا، فَلم يُعْطه، وَقَالَ: مَنْ شَاءَ فليؤمن، وَمن شَاءَ فليكفر» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره الرافعيُّ تبعا للغزالي، فَإِنَّهُ أوردهُ فِي «وسيطه» بِلَفْظ: «إِنَّا لَا نُعطي عَلَى الْإِسْلَام شَيْئا؛ فَمَنْ شَاءَ فليؤمن، وَمن شَاءَ فليكفر» .(7/399)
وَكَذَا ذكره القَاضِي حُسَيْن، وَعبارَة بَعضهم: أَن عمر قَالَ: «إِن الله أعَزَّ الْإِسْلَام وَأَهله، إِنَّا لَا نُعطي عَلَى الْإِسْلَام شَيْئا» إِلَى آخرِهِ، وَذكره صَاحب «الْمُهَذّب» بِلَفْظ «إِنَّا لَا نُعطي عَلَى الْإِسْلَام شَيْئا، فَمَنْ شَاءَ فليؤمن، ومَنْ شَاءَ فليكفر» .
وَلم يعزه المنذريُّ فِي «تَخْرِيجه لأحاديثه» وَعَزاهُ النَّوَوِيّ إِلَى الْبَيْهَقِيّ، (قلت) وَهَذَا لم أره فِي «مَعْرفَته» لَهُ وَإِنَّمَا فِي «السّنَن» : «أَن عمر قَالَ للأقرع وعيينة: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يتألفكما وَالْإِسْلَام يَوْمئِذٍ ذليل، وَإِن الله قد أعز الْإِسْلَام، فاذهبا فاجهدا، كَمَا لَا أرعى الله عَلَيْكُمَا أَن رعيتما» .
وَرَوَاهُ العسكري فِي «الصَّحَابَة» وَقَالَ: «أرغبتما» وَقَالَ «قَلِيل» بدل «ذليل» .
الْأَثر الرَّابِع: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقَوله - يَعْنِي: الْغَزالِيّ - «لمَذْهَب معَاذ» (لم يرد بِهِ حَدِيث بَعثه إِلَى الْيمن؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي «الْوَسِيط» : لمَذْهَب معَاذ و) . لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «أنبئهم أَن عَلَيْهِم صَدَقَة، تُؤْخَذ من أغنيائهم ... » الْخَبَر وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن معَاذًا صَار إِلَى منع النَّقْل، لما رُوي: (أَنه) قَالَ: «مَنِ انْتقل من مخلاف عشيرته إِلَى غير مخلاف عشيرته فصدقته وعشره فِي مخلاف عشيرته» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن الْحَاكِم، عَن الْأَصَم،(7/400)
عَن الرّبيع، عَن الشَّافِعِي، عَن مطرف بن مَازِن، عَن معمر، عَن عبد الله بن طَاوس، عَن أَبِيه: «أَن معَاذ بن جبل قَضَى: أَيّمَا رجل انْتقل من مخلاف عشيرته إِلَى غير مخلاف عشيرته فَعشره وصدقَتُهُ فِي مخلاف عشيرته» .
وَأخرجه الشَّافِعِي فِي «الْأُم» كَذَلِك، وَهَذَا أثر ضَعِيف ومنقطع، مطرف ضَعِيف، وَطَاوُس لم يدْرك معَاذًا لَا جرم، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : إِنَّه مُنْقَطع كالآتي.
وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، عَن سُفْيَان (عَن) معمر، عَن ابْن طَاوس، عَن أَبِيه قَالَ: «فِي كتاب معَاذ بن جبل: من أخرج من مخلاف إِلَى مخلاف، فَإِن صدقته وعُشره يرد إِلَى مخلافه» .
الْأَثر الْخَامِس: عَن معَاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَالَ لأهل الْيمن: ائْتُونِي بكلِّ خَمِيس أَو لبيس (آخذه) مِنْكُم مَكَان الصَّدَقَة؛ فَإِنَّهُ أرْفق بكم، وأنْفَعُ للمهاجرين وَالْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره البُخَارِيّ فِي أَبْوَاب الزَّكَاة، فَقَالَ: قَالَ طَاوس قَالَ معَاذ: «ائْتُونِي (بِعرْض) ثِيَاب خَمِيس أَو لبيس فِي الصَّدَقَة مَكَان الشّعير والذرة (أَهْون عَلَيْكُم) وَخير لأَصْحَاب رَسُول (بِالْمَدِينَةِ» .(7/401)
وَذكره أَبُو عبيد فِي «غَرِيبه» بِغَيْر إسنادٍ أَيْضا، وَلَفظه: ائْتُونِي بخميس أَو لبيس آخذه مِنْكُم فِي الصَّدَقَة؛ فَإِنَّهُ أيسر عَلَيْكُم وأنفع للمهاجرين بِالْمَدِينَةِ» .
ثمَّ ذكر اخْتِلَافا فِي أَن المُرَاد بالخميس الَّذِي طوله خَمْسَة أَذْرع؛ فَإِنَّهُ يَعْنِي: الصَّغِير من الثِّيَاب، أَو لِأَن من عمله مَلكٌ بِالْيمن يُقَال لَهُ: الْخَمِيس؛ فنسب إِلَيْهِ.
قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَجَاء «خميص» بالصَّاد، قَالَ: فَإِن صَحَّ فَهُوَ تذكير خميصة، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن ميسرَة، عَن طَاوس، عَن معَاذ أَنه قَالَ بِالْيمن: «ائْتُونِي بخميس أَو لبيس آخذه (مِنْكُم) مَكَان الصَّدَقَة؛ فَإِنَّهُ أَهْون عَلَيْكُم، وَخير للمهاجرين بِالْمَدِينَةِ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: خَالف إبراهيمُ مَنْ هُوَ أدين مِنْهُ؛ عَمرو بن دِينَار عَن طَاوس قَالَ: قَالَ معَاذ بِالْيمن: «ائْتُونِي بِعرْض ثِيَاب آخذه مِنْكُم مَكَان الذّرة وَالشعِير» .
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدِيث طَاوس، عَن معَاذ بن جبل إنْ كَانَ مُرْسلا فَلَا حجَّة فِيهِ، وَقد قَالَ فِيهِ بَعضهم: «من الْجِزْيَة» مَكَان «الصَّدَقَة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا هُوَ الْأَلْيَق بمعاذ وَالْأَشْبَه بِمَا أمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِهِ مِنْ أخْذ الْخَمِيس فِي الصَّدقَات، وأخْذ الدِّينَار أَو عدله (معافر) ثِيَاب بِالْيمن فِي(7/402)
الْجِزْيَة، وَأَن ترد الصَّدقَات عَلَى فقرائهم، لَا أَن ينقلها إِلَى الْمُهَاجِرين بِالْمَدِينَةِ الَّذين أَكْثَرهم أهل فَيْء لَا أهل صَدَقَة. قَالَ: وَقَوله «مَكَان الصَّدَقَة» لم يحفظه ابْن ميسرَة، وَخَالفهُ مَنْ هُوَ أحفظ مِنْهُ، قَالَ: وَإِن ثَبت فَمَحْمُول عَلَى مَعْنَى مَا كَانَ يُؤخذ مِنْهُم باسْم الصَّدَقَة لبني تغلب.(7/403)
بَاب: صَدَقَة التَّطَوُّع
ذكر فِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تِسْعَة أَحَادِيث:
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ليتصدَّق الرجل من ديناره، وليتصدَّق من درهمه، وليتصدَّق من صَاع بُرِّه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي (صَحِيحه من) حَدِيث (جرير) بن عبد الله قَالَ: «كُنَّا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي صدر النَّهَار، فَجَاءَهُ قومٌ حفاء مجتابي النمار أَو العباء (متقلدي) السيوف، عامتهم من مُضَر، بل كلهم من مُضَر؛ فتمعَّر وَجه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما رَأَى بهم من الْفَاقَة، فَدخل ثمَّ خرج، فَأمر بِلَالًا فأذَّن وَأقَام، فَصَلى (بهم) ثمَّ خطب. فَقَالَ: (يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم من نَفْس وَاحِدَة) إِلَى آخر الْآيَة: (إِن الله كَانَ عَلَيْكُم رقيبًا) ، وَالْآيَة الَّتِي فِي الْحَشْر: (اتَّقوا الله ولتنظر نفسٌ مَا قدَّمت لغدٍ) إِلَى آخر الْآيَة، تصدق الرجل مِنْ ديناره، مِنْ درهمه، مِنْ ثَوْبه، مِنْ صَاع بُرِّه، من صَاع تَمْره، حَتَّى(7/404)
قَالَ: وَلَو بِشِقِّ تَمْرَة، قَالَ: فجَاء رجل من الْأَنْصَار بُصرَّةٍ كَادَت كفّه تعجز عَنْهَا، بل قد عجزت، ثمَّ تتَابع النَّاس، حَتَّى رأيتُ كَوْمَيْن من طَعَام وَثيَاب، حَتَّى رأيتُ وَجه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَتَهَلَّل كَأَنَّهُ مُذْهَبَة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَام سُنَّةً حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر مَنْ عمل بهَا (مِنْ) بعده، مِنْ غير أَن (ينقص) من أُجُورهم شَيْء ومَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَام سُنَّةُ سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ وزِرْها وَوِزْر مَنْ عمل بهَا مِنْ بعده من غير أَن (ينقص) مِنْ أوزارهم شَيْء» .
فَائِدَة: قَوْله «مجتابي النمار» : يُقَال: (اجتاب) فلَان ثوبا إِذا لبسه، - وتَمَعَّرَ: تغيَّر من الْغَضَب، والكومة من الطَّعَام: الصُّبْرَة، وأصل الكوم مَا ارْتَفع من الطَّعَام وأشرف، ومذهبه - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة - قَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ من الشَّيْء الْمَذْهَب، أَي: المموه بِالذَّهَب، أَو من قَوْلهم: فرس مَذْهَب؛ إِذا عْلَتْ حُمرَتَه صُفْرَةٌ. وَفَسرهُ الْحميدِي فِي «غَرِيبه» بِأَن قَالَ: المدهن - يعْنى بالنُّون -: نقرة فِي الْجَبَل يُستنقع فِيهَا المَاء من الْمَطَر، والمدهن أَيْضا: مَا جُعل فِيهِ الدّهن، والمدهنة كَذَلِك؛ شبه صفاء وَجهه (لإشراق السرُور (بصفاء هَذَا) المَاء الْمُجْتَمع، أَو بصفاء الدّهن.(7/405)
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يمْتَنع من قبُول الصَّدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، فقد اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاج حَدِيث أَبَى هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا أُتي بطعامٍ سَأَلَ عَنهُ، فَإِن قيل: هَدِيَّة أكل مِنْهَا، وَإِن قيل: صَدَقَة. لم يَأْكُل مِنْهَا. وَقَالَ لأَصْحَابه: كُلوُا» .
وَأخرج التِّرْمِذِيّ من حَدِيث بهز بن حَكِيم، عَن أَبِيه، عَن جده: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا أُتي بِشَيْء سَأَلَ أصدقة أم هديةٌ؟ فَإِن قَالُوا: صَدَقَة؛ لم يَأْكُل، وَإِن قَالُوا: هَدِيَّة؛ أكل» .
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا وَقَالَ: «فَإِن قيل: صَدَقَة؛ لم يَأْكُل، وَإِن قيل: هَدِيَّة؛ بسط يَده» .
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّا أهل بيتٍ لَا تحل لنا الصَّدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أَخذ الْحسن بن عَلّي تَمْرَة من تمر الصَّدَقَة،(7/406)
فَجَعلهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: كخ كخ؛ ارمِ بهَا، أما علمت أنَّا لَا نَأْكُل الصَّدَقَة» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «إنَّا لَا تحل لنا الصدقةَ» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنِّي لأنقلب إِلَى أَهلِي، فأجد التمرة سَاقِطَة عَلَى فِراشي أَو فِي بَيْتِي، فأرفعها لآكلها، ثمَّ أخْشَى أَن تكون صَدَقَة (فألقيها) » .
فَائِدَة: (قَوْله) «كخ كخ» : يُقَال بِفَتْح الْكَاف وَكسرهَا، وَسُكُون الْخَاء والتنوين مَعَ الْكسر، بِغَيْر تَنْوِين قَالَه ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «الْآيَات الْبَينَات» .
الحَدِيث الرَّابِع
عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «إِن صَدَقَة السِّرِّ تُطفئ غَضَبَ الرَّبِّ» .
هَذَا الحَدِيث يُروى من طرقٍ:
أَحدهَا: من طَرِيق مُحَمَّد بن عَلّي بن الْحُسَيْن قَالَ: قُلْنَا لعبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب: حدِّثنا مَا سَمِعت من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَرَأَيْت مِنْهُ، وَلَا تحدِّثنا عَن غَيره وَإِن كَانَ ثِقَة. فَذكر أَحَادِيث؛ وَمِنْهَا: أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «الصَّدَقَة فِي السِّرِّ تُطْفِئ غَضَبَ الرَّبِّ» .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي كتاب الْفَضَائِل مِنْهُ، فى تَرْجَمَة(7/407)
عبد الله بن جَعْفَر، وَإِسْنَاده مُنكر جدًّا، كَمَا أوضحتُه فِي (بَاب) شُرُوط الصَّلَاة، فِي الحَدِيث التَّاسِع عشر مِنْهُ.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صلَة الرَّحِم تُزيد فِي الْعُمر، وَصدقَة السِّرّ تُطْفِئ غضب الرب» .
رَوَاهُ صَاحب «الشهَاب» فِي مُسْنده من هَذَا الْوَجْه، وَفِي إِسْنَاده من لَا أعرفهُ.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث عَمرو بن أبي سَلمَة عَن صَدَقَة بن عبد الله، عَن الْأَصْبَغ (عَن) بهز بن حَكِيم، عَن أَبِيه، عَن جدِّه مَرْفُوعا: «إِن صَدَقَة السِّرّ تُطْفِئ غضب الرب» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» و «صَدَقَة» هَذَا هُوَ: السمين، وَبِه صرح ابْن طَاهِر، وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ كَمَا سبق فِي أوّل الْكتاب.
الطَّرِيق الرَّابِع: من حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: «صَدَقَة السِّرّ تُطْفِئ غضب الرب» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا، فِي جملَة حَدِيث طويلٍ، وَفِي إِسْنَاده يزِيد بن عبد الرَّحْمَن، وَالظَّاهِر أَنه الدالاني، وَفِيه خلف، كَمَا سلف فِي الْأَحْدَاث أَيْضا.
الطَّرِيق الْخَامِس: من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «شعب الْإِيمَان» وَفِيه الْوَاقِدِيّ، وحالته مَعْلُومَة.(7/408)
الطَّرِيق السَّادِس: من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «شعبه» أَيْضا فِي أثْنَاء حديثٍ طويلٍ، ثمَّ قَالَ: الحَمْل فِيهِ عَلَى إِسْمَاعِيل بن بَحر العسكري أَو إِسْحَاق بن مُحَمَّد العميِّ.
وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث أنس رَفعه: «إِن الصَّدَقَة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتَة السوء» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غريبٌ من هَذَا الْوَجْه.
قلت: وَفِي إِسْنَاده عبد الله بن عِيسَى الخزاز - بخاء مُعْجمَة، ثمَّ زَاي مكررة -: يُعْرف ب «صَاحب الْحَرِير» سُئِلَ عَنهُ أَبُو زرْعَة فَقَالَ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن طَاهِر: وصف بِأَنَّهُ يروي عَن الثِّقَات مَا لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتابع عَلَى أَكثر حَدِيثه. وَقَالَ أَبُو أَحْمد: يروي عَن يُونُس بن عبيد وَدَاوُد بن أبي هِنْد مَا لَا يُوَافقهُ عَلَيْهِ الثِّقَات، وَلَيْسَ هُوَ ممَنْ يُحْتج بحَديثه. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : هُوَ مُنكر الحَدِيث عِنْدهم، لَا أعلم لَهُ [موثقًا] . فَالْحَدِيث عَلَى هَذَا ضَعِيف لَا حسن.
قلت: وَأما ابْن حبَان فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» من الطَّرِيق الْمَذْكُور، وَفِيه النّظر الْمَذْكُور.
ثمَّ اعلمْ: أَن الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَن صرف الصَّدَقَة سرًّا أفضل بعد قَوْله - تَعَالَى -: (إِن تبدوا الصَّدقَات(7/409)
فنعمَّا هِيَ) . ويغني عَنهُ حَدِيث صَحِيح ثَابت أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «سَبْعَة يُظِلهُّم الله فى ظله، يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظلُّه: إِمَام عَادل، وَرجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه» .
الحَدِيث الْخَامِس
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا قَالَت: «يَا رَسُول الله: إِن لي جارين، فَإلَى أَيهمَا أُهدي؟ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِلَى أقربهما مِنْك بَابا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور عَن ابْن منهال، عَن شُعْبَة، عَن طَلْحَة، [عَن أبي عمرَان] ، عَن عَائِشَة، كَذَا أخرجه فِي الْأَدَب، وَأخرجه فِي الشُّفْعَة عَن [عَلّي بن عبد الله عَن شَبابَة] ، وَفِي الْهِبَة عَن مُحَمَّد بن بشار عَن طَلْحَة(7/410)
بن [عبد الله] عَن عَائِشَة، فنسبه البُخَارِيّ فِي هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ، وَوَقع فِي الْبَيْهَقِيّ عَن طَلْحَة (عَن) رجل من قُرَيْش، عَن عَائِشَة، ثمَّ عزاهُ إِلَى البُخَارِيّ، وَالَّذِي فِيهِ مَا قدَّمْتُهُ، وَوَقع فِيهِ أَيْضا من طَرِيق آخر عَن طَلْحَة بن عبد الله بن عَوْف، عَن عَائِشَة، وَذكره الْمزي فِي «أَطْرَافه» فِي تَرْجَمَة طَلْحَة بن عبد الله بن عُثْمَان التَّيْمِيّ عَن عَائِشَة، وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن طَلْحَة وَلم ينْسبهُ، ثمَّ قَالَ: قَالَ شُعْبَة فِي هَذَا الحَدِيث: طَلْحَة رجل من قُرَيْش. فَإِذا الْوَاقِع فِي «الْبَيْهَقِيّ» أَن جدِّ طلحةَ عوفٌ، غريبٌ.
الحَدِيث (السَّادِس)
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الصَّدَقَة عَلَى الْمِسْكِين صَدَقَة، وَعَلَى ذِي الرَّحِم ثِنْتَانِ؛ صَدَقَة وصلَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور الأئمةُ: أحمدُ فِي «مُسْنده» ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَالنَّسَائِيّ(7/411)
وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» . وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة (سلمَان) بن عَامر الضَّبِّيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: (صَحِيح) . وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الشهَاب» . إِنَّمَا لم يخرَّج فِي «الصَّحِيح» لأجْل اختلافٍ فِي إِسْنَاده. وَوَقع فِي «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» لعبد الْحق: « (الصَّدَقَة عَلَى الْمِسْكِين صلَة» . وَهُوَ خطأ، وَصَوَابه: «صَدَقَة» وَقد سبقنَا بذلك ابْن الْقطَّان.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من هَذِه الطَّرِيق، وَمن طَرِيقين آخَرين:
أَحدهمَا: عَن أبي طَلْحَة مَرْفُوعا: «الصَّدَقَة عَلَى الْمِسْكِين صَدَقَة، وَعَلَى ذِي الرَّحِم صَدَقَة وصلَة» .
فِي سَنَده مَنْ لَا أعرفهُ.(7/412)
الثَّانِي: عَن (عبيد الله) بن زحر، عَن علىّ بن يزِيد، عَن الْقَاسِم، عَن أَبَى أُمَامَة مَرْفُوعا «إِن الصَّدَقَة عَلَى ذِي قرَابَة يُضَعَّفُ أجرهَا) مرَّتَيْنِ» وَهَذَا سندٌ واهٍ.
الحَدِيث السَّابِع
«كَانَ (أَجود مَا يكون فِي رَمَضَان» .
(هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف فِي كتاب الصّيام.
الحَدِيث الثَّامِن
«أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه تصدق بِجَمِيعِ مَاله وَقَبله النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِنْهُ» ) .
هَذَا الحَدِيث وَقع فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» فِي بَاب لَا صَدَقَة إِلَّا عَن ظَهْر غِنىً، فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ أَن يتْلف أَمْوَال النَّاس قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من أَخذ أَمْوَال النَّاس يُرِيد إتلافها أتْلفه الله، إِلَّا أَن يكون مَعْرُوفا بِالصبرِ، فيؤثر عَلَى نَفسه وَلَو كَانَ بِهِ خصَاصَة كفعْل أَبَى بكر حِين تصدَّق بِمَالِه كُله» .
(وَهُوَ حَدِيث) صحيحٌ، أخرجه أَبُو دَاوُد فِي كتاب الزَّكَاة،(7/413)
وَالتِّرْمِذِيّ فِي المناقب، وَالْبَزَّار فِي «مُسْنده» من رِوَايَة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نتصدَّق، فَوَافَقَ ذَلِك منيِّ مَالا، فَقلت: الْيَوْم أسبقُ أَبَا بكر إِن سبقته، قَالَ: فجئتُ بنصْف مَالِي، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا أبقيتَ لأهْلك؟ فَقلت: مثله. فَأَتَى (أَبُو) بكر بكلِّ مَاله فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا أبقيت لأهْلك؟ قَالَ: أبقيتُ لَهُم الله وَرَسُوله. قلت: لَا أسبقه إِلَى شَيْء أبدا» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث لَا نعلم رَوَاهُ عَن هِشَام بن سعد، عَن زيد، عَن أَبِيه، عَن عمر إِلَّا أَبُو نعيم وَهِشَام بن سعد حدَّث عَنهُ [عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَاللَّيْث بن سعد وَعبد الله بن وهب والوليد بن مُسلم و] جمَاعَة كَثِيرَة من أهل الْعلم، وَلم أر أحدا (توقف) عَن حَدِيثه بعلة توجب التَّوَقُّف عَنهُ.
قلت: لَا جرم أَن التِّرْمِذِيّ صَححهُ كَمَا سلف، وَكَذَا الْحَاكِم فَإِنَّهُ أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» فِي كتاب الزَّكَاة، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَأما أَبُو مُحَمَّد بن حزم، فَخَالف. فَقَالَ فِي «محلاه» : فَإِن ذكرُوا صَدَقَة أبي بكر بِمَالِه كلِّه قُلْنَا: (هَذَا لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة هِشَام بن سعد وَهُوَ ضَعِيف. ثمَّ سَاقه كَمَا تقدم، وَهِشَام)(7/414)
قد احْتج بِهِ مُسلم، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ.
تَنْبِيهَانِ:
الأول: زَاد رُزين فِي «كِتَابه» فِي هَذَا الحَدِيث زِيَادَة غَرِيبَة، وَهِي: «فَأَتَى أَبُو بكر بكلِّ مَاله وَقد تخَلّل العباءة» . وَلم يعزها ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» .
الثَّانِي: وَقع فِي «وسيط الْغَزالِيّ» زِيَادَة غَرِيبَة أَيْضا، وَهِي: أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي آخِرِه: « (بَيْنكُمَا كَمَا بَين كلمتيكما) » .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَهِي غَرِيبَة لَا تعرف.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بصدقةٍ، بِمثل الْبَيْضَة من الذَّهَب، فَقَالَ للنَّبِي (: خُذْهَا؛ فَهِيَ صَدَقَة، وَمَا أملك غَيرهَا. فَأَعْرض عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، إِلَى أَن أعَاد عَلَيْهِ القَوْل ثَلَاث مراتٍ، ثمَّ أَخذهَا و (رَمَاه) بهَا رميةً، لَو أَصَابَته لَأَوْجَعَتْهُ ثمَّ قَالَ: يَأْتِي أحدكُم بِمَا يملك، فَيَقُول: هَذِه صَدَقَة، ثمَّ يقْعد يَتَكَفَّف وُجُوه النَّاس، خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غِنَىً» .
هَذَا الحَدِيث حسن، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فى «سنَنه» من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة، عَن مَحْمُود بن لبيد، عَن جَابر(7/415)
بن عبد الله الْأنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: كُنَّا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذْ جَاءَ رجل بِمثل بَيْضَة من ذهب، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أصبتُ هَذِه من مَعْدن، فَخذهَا فَهِيَ صَدَقَة، مَا أملك غَيرهَا. فَأَعْرض عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ أَتَاهُ من قِبَل رُكْنه الْأَيْمن؛ فَقَالَ مثل ذَلِك؛ فَأَعْرض عَنهُ رَسُول الله. (ثمَّ أَتَاهُ) من قِبَل رُكْنه الْأَيْسَر، فَأَعْرض عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ أَتَاهُ مِنْ خَلفه؛ أَخذهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَحَذَفه بهَا، فَلَو أَصَابَته لَأَوْجَعَتْهُ أَو لَعَقَرته، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَأْتِي أحدكُم بِمَا يملك، فَيَقُول: هَذِه صدقتي، ثمَّ يقْعد (يَسْتَكِف) النَّاس، خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهرْ غِنىً» .
وَإِسْنَاده جيد، لَوْلَا عنعنة ابْن إِسْحَاق.
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من طَرِيقه، لِأَنَّهُ ذكر ابْن إِسْحَاق فِي «ثقاته» وانتصر لنَفسِهِ، كَمَا أسلفناه عَنهُ فِي الصَّلَاة، وَلَفظه فِي إِيرَاده عَن جَابر قَالَ: « (إِنِّي لعِنْد) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، إذْ جَاءَهُ رجل بِمثل الْبَيْضَة من (ذِهب) قد أَصَابَهَا من بعض الْمَغَازِي، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، خُذ هَذِه منِّي صَدَقَة، فواللَّهِ مَا أصبح لي مَال غَيرهَا. قَالَ: فَأَعْرض عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَجَاءَهُ مِنْ شِقِّه الآخر [فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك] فَأَعْرض عَنهُ، ثمَّ جَاءَهُ من قِبَل وَجهه، فَأَخذهَا مِنْهُ فَحَذفهُ بهَا حَذْفَةً (لَو أَصَابَهُ(7/416)
عقره) أَو أوجعهُ) ثمَّ قَالَ: يَأْتِي أحدكُم إِلَى جَمِيع مَا يملك فَيتَصَدَّق بِهِ، ثمَّ يقْعد يَتَكَفَّف الناسَ، إِنَّمَا الصَّدَقَة عَن ظهر غِنَىً، خُذْ عَنَّا مَالك؛ لَا حَاجَة لنا بِهِ» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» أَيْضا من جِهَته ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَمرَاده فِي المتابعات لَا فِي الْأُصُول، لَا جرم قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «تَخْرِيجه لأحاديث المهذَّب» : إِنَّه حَدِيث حسنٌ وَحَدِيث جَابر الْآتِي فِي كتاب الْعتْق «ابدأ بِنَفْسِك فتصدَّق عَلَيْهَا» . فِي قصةٍ مَعَ الْمُدبر شاهدٌ لَهُ.
فَائِدَة: قَوْله: «حذفه» : اخْتُلِفَ فِي ضَبطه؛ هَل هُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة أَو بِالْمُعْجَمَةِ، فقيده النَّوَوِيّ فِي «شرح المهذَّب» فِي هَذَا الْبَاب بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَكَذَا ابْن [معن] فِي «تنقيبه» قَالَ: وَهُوَ الْإِلْقَاء بباطن الْكَفّ، قَالَ: ويُرْوى بِالْخَاءِ - يَعْنِي بِالْمُعْجَمَةِ - قَالَ: (وَهُوَ الْإِلْقَاء بأطرف الْأَصَابِع. وَقَالَ صَاحب (المستعذب عَلَى الْمُهَذّب) : حذفه: رَمَاه بهَا) وأصل الْحَذف الرَّمْي بالعصا والخذف: الرَّمْي بالحصا. وَكَذَا قَالَ القلعي: «حذفه» بِالْحَاء الْمُهْملَة، قَالَ: وَلَو رُوي: «فقذفه بهَا قذفة» لَكَانَ أصوب؛ لِأَن الْقَذْف بِالْحجرِ، والحذف بالعصا، وَأما الْخذف - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة -: فَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون بالحصاة وَنَحْوهَا، وتُجعل بَين السبَّابتين ويرمى بهَا. وَقَالَ الْحَافِظ محب الدَّين فِي «أَحْكَامه» : إِنَّه لَا(7/417)
يبعد أَن تكون الرِّوَايَة بِالْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ الظَّاهِر. وَفِي «حَوَاشِي السّنَن» لِلْمُنْذِرِيِّ فِي بَاب عَطِيَّة من سَأَلَ بِاللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من كتاب الزَّكَاة الْخذف - بِالْخَاءِ والذال المعجمتين - الرَّمْي بالحصا، والحذف - بِالْحَاء الْمُهْملَة - الرمى بالعصا، و «الْعقر» : الْجرْح هَاهُنَا، وَيسْتَعْمل أَيْضا فِي الْقَتْل والهلاك، و «رُكْنه» جَانِبه وَفِي «يَتَكَفَّف» تأويلات: أَحدهَا: (يمد) كَفه للسؤال، (أَي: يتَعَرَّض لَهَا وَيَأْخُذ الصَّدَقَة بكفه) ، ثَانِيهَا: يَأْتِيهم من (كففهم أَي) من جوانبهم ونواحيهم. ثَالِثهَا: أَن يسألهم كفًّا من طَعَام. رَابِعهَا: يطْلب مَا يكف بِهِ الجوعة. حكاهن صَاحب «المستعذب عَلَى المهذَّب» وَمن الْأَخير: «يَتَكَفَّفُونَ النَّاس» ووقعَ فِي بعض كتب الْفُقَهَاء: «يَتَكَفَّف» بدل «يَسْتَكِف» ، وَهُوَ مَا فِي «صَحِيح ابْن حبَان» كَمَا أسلفته، (وهما صَحِيحَانِ، قَالَ أهل اللُّغَة: يُقَال فِيهِ: تكفف واستكف) وَقَوله: «عَن ظهر غِنىً» : قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: عَن غِنىً [يعتمده] ويستظهر بِهِ عَلَى النوائب. وَذكر الْمَاوَرْدِيّ - من أَصْحَابنَا - لَهُ مَعْنيين، أَحدهمَا: هَذَا، وَثَانِيهمَا: أَن مَعْنَاهُ: الِاسْتِغْنَاء عَن أَدَاء الْوَاجِبَات. قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح المهذَّب» : وَالأَصَح مَا قَالَه غَيرهمَا: أَن المُرَاد غِنى النَّفس، أَي: إِنَّمَا تَصلح الصَّدَقَة لمن قويت نَفسه واستغنت بِاللَّه، وثبَّت نَفسه وصبر عَلَى الْفقر.(7/418)
وَالْقَاضِي حُسَيْن قَالَ: مَعْنَى قَوْله: «عَن ظهْر غِنىً» أَي: (وَرَاء) الغِنى، قَالَ (ابْن) دَاوُد - من أَصْحَابنَا -: قيل: لم يسْبق الرَّسُول - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى هَذِه اللَّفْظَة.
وَذكر الرافعيُّ فِي الْبَاب أثرا وَاحِدًا، وَهُوَ: عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه: «أَنه كَانَ يشرب من سقايات بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، فَقيل (لَهُ) : أتشرب من الصَّدَقَة؟ فَقَالَ: إِنَّمَا حرم (الله) علينا الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة» .
وَهَذَا الْأَثر بَيَّض لَهُ المنذريُّ ثمَّ النوويُّ، وَهُوَ فِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» و «الْمعرفَة» ، قبل اللّقطَة: قَالَ الشافعيُّ: أَنا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه: «أَنه كَانَ يشرب من سقايات كَانَ يَضَعهَا النَّاس بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، فَقلت لَهُ - أَو: قيل لَهُ -: (أتشرب من الصَّدَقَة؟) فَقَالَ: إِنَّمَا حرمت علينا الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة» .
وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» قبيل النِّكَاح: رُوي عَن أبي جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عليّ، وَهُوَ فِي «الْأُم» أَيْضا، قَالَ ابْن دَاوُد: وَقَول جَعْفَر بن مُحَمَّد ذَلِك (لين) لِأَن المَاء الْمَوْضُوع عَلَى الطَّرِيق صَدَقَة تطوع، بل طَرِيقه طَرِيق الْإِبَاحَة، إِذْ الصَّدَقَة يملكهَا المتصدَّق عَلَيْهِ ملكا مُفِيدا(7/419)
للتَّصَرُّف، وَلَكِن اسْتعْمل جَعْفَر فِي الْجَواب مَا هُوَ أظهر وَأبين، هَذَا كَلَامه، لَكِن سُؤال السَّائِل لَهُ عَن ذَلِك لأجل الْخَبَر يدل عَلَى أَنه من الصَّدَقَة، وَإِلَّا لما كَانَ للسؤال عَن ذَلِك مَعْنَى.
أخِرُ رُبْع الْمُعَامَلَات.(7/420)
كتاب النِّكَاح(7/421)
كتاب النِّكَاح
بَاب مَا جَاءَ فِي فَضله
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حديثين:
أَحدهمَا
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «تنكاحوا تكثروا» .
وَهُوَ حَدِيث ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَن الشَّافِعِي بلاغًا، فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِي: وبلغنا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تنكاحوا تكثروا؛ فَإِنِّي أُبَاهي بكم الأُمم، حَتَّى بِالسقطِ» .
وَكَذَا هُوَ فِي «الْأُم» و «الْمُخْتَصر» وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» مُسْندًا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «انْكَحُوا؛ فَإِنِّي مكاثرٌ بكم» .
وَفِي إِسْنَاده: طَلْحَة بن عَمرو، وَقد ضَعَّفُوهُ، ويغني عَنهُ حديثُ أنسٍ الْآتِي، وأحاديثُ أُخر صَحِيحَة فِي مَعْنَاهُ:
مِنْهَا: حَدِيث معقل بن يسَار - رَفعه: - «تزوَّجوا الْوَلُود الْوَدُود؛ فَإِنِّي مكاثرٌ بكم الْأُمَم» .(7/423)
أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وسيأتى فِي صفة المخطوبة - إِن شَاءَ الله.
وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث أبي أُمَامَة - رَفعه -: «تزوجوا؛ فَإِنِّي مُكَاثِر بكم الْأُمَم، وَلَا تَكُونُوا كرهبانية النَّصَارَى» .
وَفِي إِسْنَاده: مُحَمَّد بن ثَابت الْعَبْدي، وَقد وثَّقه (لوين) وَضَعفه غَيره.
وَفِي «سنَنه» أَيْضا من حَدِيث أنس - رَفعه -: «تزوجوا الْوَلُود الْوَدُود؛ فَإِنِّي مكاثرٌ بكم الْأَنْبِيَاء يَوْم الْقِيَامَة» .
وَفِي إِسْنَاده: ابْن إِسْحَاق، وَقد صرَّح بِالتَّحْدِيثِ، وَسَيَأْتِي أَيْضا فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
وَفِي «مُعْجم الصَّحَابَة» لِابْنِ قَانِع من حَدِيث عَاصِم بن عَلّي، ثَنَا مُحَمَّد بن الْفضل، ثَنَا مُحَمَّد بن سوقة، عَن مَيْمُون (بن) أبي شبيب، عَن حَرْمَلَة بن النُّعْمَان - رَفعه -: «امْرَأَة ولود أحب إِلَى الله من امْرَأَة حسناء لَا تَلد؛ إِنِّي مكاثرٌ بكم الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة» .(7/424)
الحَدِيث الثَّانِي
عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «النِّكَاح سُنَّتي؛ فَمَنْ رغب عَن سنتي فَلَيْسَ منيِّ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث عِيسَى بن مَيْمُون، عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «النِّكَاح من سُنَّتي؛ فَمَنْ لم يعْمل بسُنَّتي فَلَيْسَ منيِّ، وَتَزَوَّجُوا؛ فَإِنِّي مكاثرٌ بكم الْأُمَم، ومَنْ (كَانَ) ذَا طول فَلْيَنْكِح، ومَنْ لم يجد فَعَلَيهِ بالصيام؛ فَإِن الصَّوْم وجاءٌ لَهُ» .
وَعِيسَى هَذَا ضَعِيف.
ويغني عَنهُ حديثِ أنسٍ الثابتُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» : «أَن نَفرا من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ بَعضهم: لَا أتزوجُ، وَقَالَ بَعضهم: أصلِّي وَلَا أَنَام، وَقَالَ بَعضهم: أصومُ وَلَا أفطر، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: مَا بَال أَقوام قَالُوا كَذَا وَكَذَا! لكني أَصوم وَأفْطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النِّسَاء؛ فَمَنْ رغب عَن سُنَّتي فَلَيْسَ منيِّ» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَورد فِيهِ غير ذَلِك من الْأَخْبَار، وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فلنذكَر عشرَة مِنْهَا:(7/425)
أَحدهَا: حَدِيث عبد الله بن عَمرو بن العَاصِي رَفعه -: «الدُّنْيَا مَتَاع، وَخير متاعها الْمَرْأَة الصَّالِحَة» .
رَوَاهُ مُسلم.
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» :
«الدُّنْيَا مَتَاع، وَخير متاعها الزَّوْج الصَّالح» .
ثَانِيهَا: حَدِيث سعيد بن جُبَير قَالَ: «قَالَ لي ابْن عَبَّاس: تزوَّجت؟ قلت: لَا، قَالَ: تزوَّجْ؛ فَإِن خير هَذِه الأُمة كَانَ أَكْثَرهم نسَاء - يَعْنِي: رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ.
ثَالِثهَا: حَدِيث الْحسن، عَن سَمُرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن التبتل، وَقَرَأَ قَتَادَة (وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك وَجَعَلنَا لَهُم أزاوجًا وذرية) رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن غَرِيب. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عَائِشَة، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَيُقَال أَنه حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ (النَّسَائِيّ) : إِنَّه أشبه بِالصَّوَابِ من حَدِيث سَمُرَة.(7/426)
رَابِعهَا: حَدِيث أبي أَيُّوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - رَفعه -: «أَربع من سنَن الْمُرْسلين: الْحيَاء، والتعطر، والسواك، وَالنِّكَاح» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن غَرِيب. وَقد أسلفنا الكلامَ عَلَيْهِ وَاضحا فِي الْكَلَام عَلَى السِّوَاك فِي أول الْكتاب.
خَامِسهَا: حَدِيث ابْن جريج، عَن [عمر بن] عَطاء، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا صرورة فِي الْإِسْلَام» . رَوَاهُ أَحْمد (وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: رِجَاله كلهم ثِقَات. وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ) . وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ (وَلم يخرجَاهُ وَقَالَ النَّوَوِيّ: بعضه عَلَى شَرط مُسلم، وَبَاقِيه عَلَى شَرط البُخَارِيّ) قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدِّين فِي (الإِمَام) : وَهَذَا بِنَاء عَلَى أَن عُمرَ بن عَطاء هُوَ ابْن أبي الخوار، وَلَو كَانَ (الْأَمر) كَذَلِك لَكَانَ الْأَمر عَلَى مَا قَالَه الْحَاكِم وَالْمُنْذِرِي -(7/427)
أَي: وَالنَّوَوِيّ - وَلَكِن ابْن عدي ذكر لعمر بن عَطاء بن وراز تَرْجَمَة أورد لَهُ فِيهَا (هَذَا الحَدِيث من جِهَة عِيسَى بن يُونُس، عَن ابْن جريج، وَمن جِهَة أبي خَالِد الْأَحْمَر) عَن ابْن جريج وَقَالَ فِي آخر التَّرْجَمَة: ولعُمر بن عَطاء غير مَا ذكرتُ من الحَدِيث، وَهُوَ قَلِيل الحَدِيث، وَلَا أعلم رَوَى عَنهُ غير ابْن جريج، وَذكر عَن عَبَّاس الدوري، عَن يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ: عمر بن عَطاء الَّذِي يروي عَنهُ ابْن جريج، يحدِّث عَن عِكْرِمَة؛ لَيْسَ (هُوَ) بِشَيْء، وَهُوَ ابْن وراز، وهُمْ يضعّفونه [فِي] كلَّ شَيْء عَن عِكْرِمَة، هُوَ (عمر) بن عَطاء بن وراز، وَعمر بن عَطاء بن أبي الخوار ثِقَة (و) هُوَ الَّذِي يحدِّث عَنهُ أَيْضا ابْن جريج. وَقَالَ النَّسَائِيّ: عمر بن عَطاء بن وراز ضَعِيف. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بالقويّ فِي الحَدِيث.
قلت: وَكَذَا فهم مَا فهمه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين، الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي، وَذكر فِي «أَطْرَافه» عقب هَذَا الحَدِيث قولة يَحْيَى بن معِين السالفة، و (غلَّط) ابْن طَاهِر، الْحَاكِم فِي دَعْوَاهُ السالفة فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الشهَاب» ثمَّ تبيَّن - بِفضل الله ومَنِّه - أَن مَا (قَالَه) الْحَاكِم هُوَ الصَّوَاب.(7/428)
قَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» : ثَنَا أَبُو يزِيد (القراطيسي) ، ثَنَا حجاج بن إِبْرَاهِيم الْأَزْرَق - وَهُوَ من الثِّقَات - ثَنَا عِيسَى بن يُونُس، عَن ابْن جريج، عَن عمر بن عَطاء بن (أبي) الخوار، عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا صرورة فِي الْإِسْلَام» .
فَثَبت بِهَذَا أَن عمر بن عَطاء بن أبي الخوار يرويهِ أَيْضا - وَللَّه الْحَمد - وَهُوَ لم يَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالْحَاكِم مَنْسُوبا.
(فَائِدَة) : الصرورة - بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة -: الَّذِي لم يتَزَوَّج، وَالَّذِي لم يحجّ أَيْضا، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الصرورة فِي الْجَاهِلِيَّة: مَنْ لم يتزوَّج، وَفِي الْإِسْلَام: مَنْ لم يحجّ، حَكَاهُ الْمُطَرز.
سادسها: حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لم يُر (للمتحابين) مِثْلَ (التَّزَوُّج) » .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ؛ لِأَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَمعمر بن رَاشد (أوقفاه) عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة، عَن ابْن عَبَّاس. وَرَوَاهُ(7/429)
الْبَيْهَقِيّ مُرْسلا، وَقَالَ الْعقيلِيّ: وقْفه أوْلى.
قلت: وَفِي إِسْنَاده: مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي، وَفِيه مقَال، وَمُسلم أخرج لَهُ؛ فَصَحَّ قَول الْحَاكِم أَنه عَلَى شَرطه.
سابعها: حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -:
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تزوَّجوا النِّسَاء؛ فَإِنَّهُنَّ يأتيَنكم بِالْمَالِ» .
(رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «كِتَابه» وتلميذه الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم، وَلم يخرجَاهُ؛ لِتَفَرُّد [سلم] بن جُنَادَة بِسَنَدِهِ، و [سلم] ثِقَة مَأْمُون.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن [الرّبيع بن نَافِع] عَن حَمَّاد،(7/430)
عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه عُرْوَة أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «انْكَحُوا النِّسَاء؛ فَإِنَّهُنَّ يَأْتينكُمْ بِالْمَالِ) » .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَهُوَ أصح من الْمسند.
ثامنها: من حَدِيث ابْن جريج، عَن مَيْمُون [أبي] الْمُغلس، عَن أبي نجيح و (هُوَ) أَبُو عبد الله بن أبي نجيح قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَنْ كَانَ مُوسِرًا لِأَن ينْكح فَلم ينْكح؛ فَلَيْسَ منا» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: هُوَ مُرْسل. وَكَذَا قَالَ الدولابي فِي «كُنَاه» أَنه مُرْسل. وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي «مُعْجَمه» : يُشك فِي صحبته.
ثمَّ رَوَى لَهُ مَعَ هَذَا الحَدِيث حَدِيثا آخر، وَذكره ابْن عبد الْبر فِي(7/431)
«استيعابه» فِي جملَة الصَّحَابَة وَقَالَ: (لَهُ) حَدِيث وَاحِد فِي النِّكَاح، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» وَهُوَ يُقَوي مَا تقدم عَن الْبَيْهَقِيّ ومَنْ وَافقه.
تاسعها: حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاثَة حق عَلَى الله [أَن] يعينهم: الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله، والناكح يُرِيد أَن يستعفف، وَالْمكَاتب يُرِيد الْأَدَاء» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن. وَالْحَاكِم فِي موضِعين من «مُسْتَدْركه» فِي هَذَا الْبَاب، وَبَاب الْكِتَابَة، وَقَالَ فيهمَا: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ (ابْن) حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : اخْتلف فِي رفْعِهِ وَوَقفه، ورفْعُهُ صَحِيح.
عَاشرهَا: حَدِيث أنس بن مَالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ رزقه الله امْرَأَة صَالِحَة فقد أَعَانَهُ عَلَى شطر دينه، فليَتَّق الله فِي الشّطْر الثَّانِي» .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَن الْأَصَم، ثَنَا أَحْمد بن عِيسَى اللَّخْمِيّ، ثَنَا عمر بن أبي سَلمَة التنيسِي، ثَنَا زُهَيْر (بن) مُحَمَّد،(7/432)
أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن زيد، عَن أنس بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن عقبَة الْأَزْدِيّ مدنِي ثِقَة مَأْمُون.
وَفِي «تَلْخِيص (الْمُتَشَابه) » من حَدِيث أنس أَيْضا مَرْفُوعا: «مَنْ تزوج امْرَأَة فقد أُعْطِي نصف الْعِبَادَة» وَفِي إِسْنَاده: زيد العمِّي، وَهُوَ ضَعِيف.
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «لمَّا نزلت هَذِه الْآيَة: (وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة) كَبُر ذَلِك عَلَى الْمُسلمين، قَالَ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أَنا أُفَرِّج عَنْكُم؛ فَانْطَلقُوا، فَقَالَ: يَا نَبِي الله؛ إِنَّه كبُر عَلَى أَصْحَابك هَذِه الْآيَة! فَقَالَ: إِنَّه مَا فرض الزَّكَاة إِلَّا ليطيب مَا بَقِي من أَمْوَالكُم، وَإِنَّمَا فُرِضَتْ الْمَوَارِيث لتَكون لمن بعدكم. قَالَ: فَكبر عُمرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وَقَالَ: أَلا أخْبركُم بِخَير مَا يكنز: الْمَرْأَة الصَّالِحَة؛ إِذا نظر إِلَيْهَا سرَّته، وَإِذا أمرهَا أَطَاعَته، وَإِذا غَابَ عَنْهَا حفظته» .
قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط (الشَّيْخَيْنِ) وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ(7/433)
الشَّيْخ تَقِيّ الدِّيْن فِي (الإِمَام) فِي كتاب الزَّكَاة: اخْتلف فِي إِسْنَاده. ثمَّ ذكره مُبينًا (وَالْحَمْد لله حق حَمده) .(7/434)
بَاب فِي خَصَائِص رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تِسْعَة وَثَلَاثِينَ حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كُتِب عليَّ رَكعَتَا الضُّحَى، وهما لَكمَا سُنَّة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث (ابْن عَبَّاس) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف بمرَّة، تقدم بَيَانه فِي صَلَاة النَّفْل وَاضحا بِكَلَام الْأَئِمَّة فِيهِ.
وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث جَابر الْجعْفِيّ، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس - رَفعه -: «أُمرت بركعتي الضُّحَى، وَلم تُؤمروا بهَا، وأُمرت بالأضحى وَلم يُكتب عَلَيْكُم» .
وَفِي لفظ لَهُ: «كُتب عليَّ النَّحْر، وَلم يُكتب عَلَيْكُم، وَأمرت بركعتي الضُّحَى، وَلم تؤمروا بهَا» .
وَجَابِر عرفتَ حالَه فِي غير مَا موضعٍ، وَقد سلف فِي الْموضع الْمشَار إِلَيْهِ أَيْضا.(7/435)
الحَدِيث الثَّانِي
رُوي: أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاث كُتبت عليَّ وَلم تُكتب عَلَيْكُم: السِّوَاك، وَالْوتر وَالْأُضْحِيَّة» .
هَذَا الحَدِيث هُوَ الَّذِي قبله، وَإِن غاير الرَّافِعِيّ بَينهمَا، وَلم أر فِيهِ السِّوَاك. وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث أم سَلمَة مَرْفُوعا: «مازال جِبْرِيل يوصيني بِالسِّوَاكِ، حَتَّى خشيتُ (أَن يدردرني) .
قَالَ البُخَارِيّ: هَذَا حَدِيث حسن، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رَوَى عبد الله بن حَنْظَلَة بن أبي عَامر: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُمِرَ بِالْوضُوءِ لكل صلاةٍ، طَاهِرا وَغير طَاهِر، فلمَّا شَقَّ ذَلِك عَلَيْهِ: أُمِرَ بِالسِّوَاكِ لكلِّ صلاةٍ» .
قلت: وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، كَمَا سلف فِي بَاب السِّوَاك.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثلاثٌ هِيَ عليَّ فَرِيضَة، وَهِي لكم سُنَّة: الْوتر، والسواك، وَقيام اللَّيْل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ البيهقيُّ فِي «خلافياته» و «سنَنه» من حَدِيث مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن الصَّنْعَانِيّ، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ثَلَاثَة عليَّ فَرِيضَة، وَهِي لكم سُنَّة ... » الحَدِيث.(7/436)
ثمَّ قَالَ: مُوسَى هَذَا: ضَعِيف جدًّا، وَلم يثبت فِي هَذَا إِسْنَاد. وَقَالَ ابْن حبَان: (مُوسَى بن) عبد الرَّحْمَن هَذَا: دجَّالٌ (وضع) عَلَى ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس كتابا فِي التَّفْسِير، وَقَالَ ابْن عدي: مُنكر الحَدِيث.
الحَدِيث الرَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خيرَّ نِسَاءَهُ» . هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن «أَن عَائِشَة أخْبرته أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) جاءها حِين أمره الله تَعَالَى [أَن يُخَيّر أَزوَاجه] قَالَت: فَبَدَأَ بِي فَقَالَ: إِنِّي ذاكرٌ لكِ أمْرًا؛ فَلَا عليكِ أَن (لَا) تَسْتَعْجِلي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك، وَقد عَلِمَ أَن أَبَوي لم يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، ثمَّ قَالَ: إِن الله قَالَ: (يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك) إِلَى تَمام الْآيَتَيْنِ، فَقلت لَهُ: فِي هَذَا أَستَأْمر أَبَوي؟ فَإِنِّي أُرِيد اللَّهَ ورسولَهُ والدارَ الْآخِرَة» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «وفَعَلَ أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثل مَا فعلت» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «خيَّرنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يعدهَا شَيْئا» .(7/437)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالْمعْنَى فِي إِيجَاب الله عَلَى رسولِهِ تَخْيِير نِسَائِهِ بَين مُفَارقَته وَاخْتِيَار زِينَة الدُّنْيَا وَبَين اخْتِيَاره، فَقَالَ: (يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك) الْآيَة، أَنه عَلَيْهِ السَّلَام: آثَرَ لنَفسِهِ الْفقر وَالصَّبْر (عَلَيْهِ فَأمر بتخييرهن لِئَلَّا يكون مكْرها لَهُنَّ عَلَى الْفقر وَالصَّبْر) .
قلت: فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: حَدثنِي عُمرُ بْنُ الْخطاب، وَذكر الحديثَ فِي اعتزال النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نِسَاءَهُ، قَالَ: «فدخلتُ عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ مُضْطَجع عَلَى حَصِير قد أثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فجلستُ فبكيتُ، فَقَالَ: مَا يبكيك يَا عمر؟ ! فَقلت: يَا رَسُول الله - (- إِن كسْرَى وَقَيْصَر فِيمَا هما فِيهِ وَأَنت رَسُول الله! فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أما ترْضَى أَن تكون لَهُم الدُّنْيَا، وَلنَا الْآخِرَة؟» .
مختصرٌ مِنْهُمَا.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أَبَى هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «اللَّهُمَّ اجْعَل رزْقَ آل محمدٍ قُوتًا» .
الحَدِيث الْخَامِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يجب عَلَيْهِ إِذا رَأَى مُنْكرا أَن يُنكر عَلَيْهِ ويغيِّره» .(7/438)
هَذَا صَحِيح، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قَالَت: «مَا خُيرِّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَين أَمريْن إِلَّا أَخذ أيْسَرَهما مَا لم يكن إِثْمًا، فَإِذا كَانَ إِثْمًا كَانَ أبْعَدَ النَّاس مِنْهُ، وَمَا انتقم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لنَفسِهِ إِلَّا أَن تُنْتَهَكَ حُرْمَة الله؛ فينتقم للَّهِ» .
الحَدِيث السَّادِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يجب عَلَيْهِ مصابرة العدوِّ وإنْ كَثُرَ عَدَدُهم» .
هَذَا مَشْهُور فِي كتب أَصْحَابنَا، وَلم يُبَوِّب لَهُ الْبَيْهَقِيّ بَابا، وَقد بوَّب لخصائص رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يجب عَلَيْهِ قَضَاء دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعسرا من الْمُسلمين» .
هَذَا صَحِيح، وَقد سلف حَدِيث أبي هُرَيْرَة الشَّاهِد بذلك فِي آخِرِ بَاب الضَّمَان.
الحَدِيث الثَّامِن
قيل: «كَانَ يجب عَلَيْهِ (إِذا رَأَى شَيْئا يُعجبهُ (أَن) يَقُول: لبيْك، إِن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة» .
هَذَا مرويٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعد أَن بوَّب عَلَى وفْق ذَلِك،(7/439)
فَقَالَ: بابٌ: كَانَ إِذا رَأَى شَيْئا يُعجبهُ قَالَ: لبيْك إِن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة.
هَذِه كلمة صدرت من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي أنعم حَاله يَوْم حِجة (الْوَدَاع) بِعَرَفَة، كَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سعيد (عَن) ابْن جريج، عَن حميد الْأَعْرَج، عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُظْهِرُ من التَّلْبِيَة: لبيْك ... » الحَدِيث.
وَقد سلف فِي الْحَج بِطُولِهِ، فِي بَاب سنَن الْإِحْرَام فِي الحَدِيث الثَّامِن عشر مِنْهُ قَالَ: وصدرتْ هَذِه الْكَلِمَة أَيْضا مِنْهُ فِي أَشد حَاله وَهُوَ يَوْم الخَنْدَق، وَهُوَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث سهل بن سعد قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالخندق وَهُوَ يحْفر وَنحن ننقل [التُّرَاب] فَبَصُرَ بِنَا، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة
فَاغْفِر للْأَنْصَار والمهاجرة» .
الحَدِيث التَّاسِع
عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قَالَت: «مَا مَاتَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى أُحلَّ لَهُ النِّسَاء - تَعْنِي: اللَّاتِي (حُظِرْنَ) عليهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن سُفْيَان، عَن عَمرو، عَن عَطاء، عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «مَا مَاتَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاء» .(7/440)
قَالَ الشَّافِعِي: كَأَنَّهَا تَعْنِي اللَّاتِي (حُظِرْنَ) عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: (لَا يحل لَك النِّسَاء) .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن سُفْيَان إِلَى قَوْله (النِّسَاء) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور أَيْضا.
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَلَفظه: «حَتَّى أُحِلَّ لَهُ من النِّسَاء مَا شَاءَ» . وَفِي رِوَايَة للنسائي: «حَتَّى أُحِلَّ لَهُ أَن يتزوَّج من النِّسَاء مَا شَاءَ» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ: «حَتَّى أحَلَّ الله لَهُ أَن يتزوَّج» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ، ومَنْ وَافقه، ثمَّ ذكر كَلَام الشَّافِعِي السالف، قَالَ: وأحسبُ قَوْل عَائِشَة: «أُحِلَّ لَهُ النِّسَاء» بقول الله تَعَالَى: (يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك أَزوَاجك اللاتى آتيت أُجُورهنَّ (إِلَى قَوْله: (خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ) . وَبِهَذَا الْجَواب أجَاب ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» حَيْثُ قَالَ: يشبه أَن يكون الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ السَّلَام - حُرِّم(7/441)
عَلَيْهِ النِّسَاء مُدَّة ثمَّ أُحِلَّ لَهُ (من) النِّسَاء قَبْل مَوته تفضُّلاً تُفُضِّل عَلَيْهِ، حَتَّى لَا يكون بَين الْخَبَر وَالْكتاب تضادٌ وَلَا تهاترٌ، قَالَ: وَالَّذِي يدل عَلَى هَذَا قولُ عَائِشَة: «مَا مَاتَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى أُحِلَّ لَهُ من النِّسَاء» أرادتْ بذلك إِبَاحَة بعد حَظْرٍ متقدِم عَلَى ذَلِك.
الحَدِيث الْعَاشِر
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لمَّا نزلتْ آيةُ التَّخْيِير بَدَأَ بعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. وَقَالَ: إنى ذاكرٌ لكِ أمرا؛ فَلَا تبادريني بِالْجَوَابِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك» .
هَذَا الحَدِيث تقدم فِي الحَدِيث الرَّابِع، وَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى وَجه الْإِرْشَاد لَهَا؛ فَإِنَّهُ خشِي عَلَيْهَا لحداثة سِنِّهَا أَن تخْتَار زينةَ الدُّنْيَا فتتأذَّى هِيَ و [أبواها] .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
قَالَ الرافعيُّ: وَمِنْهَا: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَا يَأْكُل البصلَ والثومَ والكُرَّاث» وَهل كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَان، أشبههما: لَا، وَلكنه كَانَ يمْتَنع كَيْلا يتأذَّى المَلَكُ بِهِ. وروُي: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتي بِقِدْرٍ فِيهَا بُقُولٌ، فَوَجَدَ لَهَا ريحًا، فَقَرَّبها إِلَى بعض أَصْحَابه وَقَالَ: كُلْ؛ فَإِنِّي أُناجي مَنْ لَا تُناجي» .
وَهَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من(7/442)
حَدِيث جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ أَكَلَ ثومًا أَو بصلاً فليتركْ مَسْجِدنَا (وليقعد) فِي بَيته، وأُتي بِقِدْرٍ فِيهِ خضراتٌ من الْبُقُول؛ فَوَجَدَ لَهَا ريحًا، فَسَأَلَ فأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُول، فَقَالَ: قرِّبوها - إِلَى بعض أَصْحَابه - فلمّا رَآهُ كَرِهَ أكْلَهَا، فَقَالَ: كُلْ، فَإِنِّي أُناجي مَنْ لَا تُناجي» .
فَائِدَة: رَوَى أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث: بَقِيَّة، عَن (بحير بن سعد) عَن خَالِد بن معدان، عَن أبي زيادٍ خِيَار بن سَلمَة قَالَ: «سألتُ عَائِشَة عَن أكْلِ البصل (فَقَالَت) : آخِرُ طعامٍ أَكَلَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَفِيه بصل» .
هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَإِسْنَاده صَالح، وَأخرجه كَذَلِك أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَا يَأْكُل مُتكئا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَفِي «البُخَارِيّ» من حَدِيث أبي جُحَيْفَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «كنتُ عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ لرجلٍ عِنْده: أَنا لَا آكُلُ وَأَنا مُتَّكِئٌ» .(7/443)
وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» و «شمائله» وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه.
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ: المُتَّكِئُ - هُنَا - هُوَ الْجَالِس مُعْتَمدًا عَلَى وِطَاءٍ تَحْتَهُ. قَالَ: وَأَرَادَ أَنه لَا يقْعد عَلَى الوطاء والوسائد كفعْل مَنْ يُرِيد الْإِكْثَار من الطَّعَام؛ بل (يقْعد) مستوفزًا لَا مستوطنًا، وَيَأْكُل بُلْغَة. هَذَا كَلَام الْخطابِيّ، وَنَقله عَنهُ البيهقيُّ فِي «سنَنه» فِي بَاب الْأكل متكِئًا، وَأقرهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فِيهِ بُعْدٌ. وَالْمَشْهُور أَن المُرَاد بالاتكاء فِي هَذَا الحَدِيث هُوَ الِاعْتِمَاد عَلَى أحد الْجَانِبَيْنِ، وَهَذِه الْهَيْئَة هِيَ الَّتِي نفاها النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن نَفْسه؛ وَلِأَنَّهَا فِعْلُ المتكبرين والجبارين، وَيدل عَلَيْهِ الحَدِيث الْآتِي بعد ذَلِك: «أَنا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا (يَأْكُل العَبْد) » .
وَقَوله: «إِن الله جعلني عَبدًا كَرِيمًا، وَلم يَجْعَلنِي جبارًا عصيًّا» . وَجَاء فِي «صَحِيح مُسلم» عَن أنس قَالَ: «رأيتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَالِسا(7/444)
مُقْعِيًا يَأْكُل تَمرا» . والمُقْعِي هُوَ: الَّذِي يُلصق أليتيه بِالْأَرْضِ وَينصب سَاقيه.
وَأما حَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم خَيْبَر أكل مُتكئا» . فضعيفٌ جدًّا، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : قَالَ أبي: هَذَا حَدِيث بَاطِل.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
رُوِيَ: أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَنا آكلُ كَمَا يَأْكُل العبْد، وأجلس كَمَا يجلس العبْد» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «شعب الْإِيمَان» مُرْسلا عَن يَحْيَى بن أبي كثير: أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «آكُلُ كَمَا يَأْكُل العَبْد، وأجلس كَمَا يجلس العَبْد،؛ فَإِنَّمَا أَنا عَبْدٌ» .
وَرَوَاهُ فِي «سنَنه» بِغَيْر إِسْنَاد فَقَالَ: رُوي: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَأْكُل مُقْعِيًا، وَيَقُول: أَنا عبد، آكل كَمَا تَأْكُل العبيد» .
وَذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» بِغَيْر إسنادٍ، فَقَالَ: رُوِيَ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: إِنَّمَا أَنا عَبْدٌ، أكُلُ كَمَا يَأْكُل العَبْد» .
وأسنده ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» (من) حَدِيث أنس: «بَيْنَمَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُتكئا عَلَى طُعَيم لَهُ يَأْكُل إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام -(7/445)
فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أَلا إِن الاتكاء من النِّعْمَة، قَالَ: فَاسْتَوَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَاعِدا عِنْدهَا، ثمَّ قَالَ إِنَّمَا أَنا عبد، آكل كَمَا يَأْكُل العَبْد، وأشرب كَمَا يشرب العَبْد. قَالَ أنس: فَمَا رأيتُه مُتكئا بَعْدُ» .
وَرَوَاهُ أَيْضا فِي «ناسخه ومنسوخه» من حَدِيث عَطاء بن يسَار: «أَن جِبْرِيل نظر إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّة يَأْكُل مُتكئا، فَقَالَ: أكْلُ الْمُلُوك! فَجَلَسَ» .
وَله طَرِيق آخر من حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه (الْوَفَاء» من طريقها قَالَت: «يَا رَسُول الله، كُلْ، جعلني الله فدَاك (مُتكئا) فَإِنَّهُ أَهْون عليكَ، قَالَ: آكل كَمَا يأكلُ العَبْد، وأجلس كَمَا يجلس العبْد» .
وَفِي سَنَده (عبيد الله بن الْوَلِيد الْوَصَّافِي) وَهُوَ مَتْرُوك.
وَأخرجه أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ فِي كِتَابه «أَخْلَاق النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» من حَدِيث أبي معشر، عَن سعيد المَقْبُري، عَن عَائِشَة أَيْضا بِلَفْظ: «آكل كَمَا يَأْكُل العَبْد، وأجلس كَمَا يجلس العبْد» . و (أَبُو معشر) هَذَا هُوَ: نجيح السندي، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث. وَله طَرِيق آخر من حَدِيث جَابر، أخرجه أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ من حَدِيث حَمَّاد بن زيد، عَن سعيد بن أبي صَدَقَة، عَن يَعْلى بن (حَكِيم) عَن جَابر - رَفعه -: «إِنَّمَا أَنا عبْد، آكل كَمَا يَأْكُل(7/446)
العَبْد، وأجلس كَمَا يجلس العَبْد» . وَهَذَا إِسْنَاد لَا أعلم بِهِ بَأْسا، و «يعْلى» الظَّاهِر أَنه النُّفَيْلِي وَهُوَ يروي عَن التَّابِعين، وَعنهُ حمادُ بْنُ زيد.
وَفِي « (سنَن) الْبَيْهَقِيّ» و «دَلَائِل النُّبُوَّة» (لَهُ) من حَدِيث بَقِيَّة بن الْوَلِيد، عَن الزبيدِيّ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَبَّاس (قَالَ كَانَ ابْن عَبَّاس) يحدث: «أَن الله - عَزَّ وَجَلَّ - أرسل إِلَى نبيه - عَلَيْهِ السَّلَام - ملكا من الْمَلَائِكَة، مَعَه جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَقَالَ المَلَكُ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن الله يُخَيِّرك بَين أَن تكون عَبْدًا نبيًّا وَبَين أَن تكون مَلِكًا نَبِيًّا، فالتفتَ نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كالمستشير لَهُ؛ فَأَشَارَ جبريلُ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أنْ تواضع، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: بل أكون عبدا نبيًّا. قَالَ: فَمَا أَكَلَ بعد تِلْكَ الْكَلِمَة طَعَاما مُتكئا حَتَّى لَقِي (اللَّهَ) تَعَالَى» .
وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث أبي زرْعَة قَالَ: وَلَا أعلمهُ إِلَّا عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «جلس جبريلُ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَنظر إِلَى السَّمَاء فَإِذا ملك ينزل فَقَالَ جِبْرِيل: إِن هَذَا الْملك مَا نزل مُنْذُ (يَوْم) خُلِقَ قَبْل السَّاعَة، فَلِمَ أنْزِلَ؟ ، قَالَ: يَا مُحَمَّد، أرْسَلني إِلَيْك ربُّك: أفَمَلَكًا نبيًّا يجعلك أَمْ عَبْدًا رَسُولا، قَالَ جِبْرِيل: تواضع لِرَبِّك يَا مُحَمَّد، قَالَ: بل عبدا رَسُولا» .(7/447)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِذا لبس لأمته أَن يَنْزِعهَا، حَتَّى يَلْقَى العدوَّ ويقاتِلُ» .
هَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» فِي بَاب قَول الله تَعَالَى (وشاورهم فِي الْأَمر) بِغَيْر إِسْنَاد، فَقَالَ: «وشاور النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَصْحَابه يَوْم أحد فِي الْمقَام وَالْخُرُوج، فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوج، فَلَمَّا لبس لأمته وعزم قَالُوا: أقِم. فَلم يمل إِلَيْهِم بعد الْعَزْم وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لنَبِيّ يلبس لأْمَتَهُ فَيَضَعهَا حَتَّى يحكم الله» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة أبي الْأسود، عَن عُرْوَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لنَبِيّ إِذا (أَخذ) لأمة الْحَرْب وَأذن فِي النَّاس بِالْخرُوجِ إِلَى الْعَدو أَن يرجع حَتَّى يُقَاتل» . وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل، ذكره ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ مُوسَى بن عقبَة عَن الزُّهْرِيّ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب «الْمَغَازِي» عَن شُيُوخه من أهل الْمَغَازِي وَهُوَ عَام فِي أهل الْمَغَازِي وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد كتبناه مَوْصُولا بِإِسْنَاد حسن ... فَذكره من رِوَايَة ابْن عَبَّاس.
قلت: وَوَصله أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث جَابر أَيْضا قَالَ: حَدثنَا عَفَّان، ثَنَا حَمَّاد، أبنا أَبُو الزبير، عَن جَابر بن عبد الله أَن رَسُول(7/448)
الله (قَالَ: «رَأَيْت كَأَنِّي فِي درع حَصِينَة وَرَأَيْت بقرًا منحرة، فأولت أَن الدرْع الحصينة الْمَدِينَة، وَأَن الْبَقر نفر، وَالله خير. فَقَالَ (أَصْحَابه) : لَو أَنا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ؛ فَإِن دخلُوا علينا قاتلناهم. (فَقَالُوا) : يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا دخل علينا فِيهَا (فِي) الْجَاهِلِيَّة، فَكيف يدْخل (علينا) فِيهَا فِي الْإِسْلَام؟ فَقَالَ: شَأْنكُمْ إِذا. فَلبس لأمته فَقَالَ الْأَنْصَار: رددنا عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأْيه! (فَجَاءُوا) فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، شَأْنك إِذا. فَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ لنَبِيّ إِذا لبس لأمته أَن يَضَعهَا حَتَّى يُقَاتل» .
فَائِدَة: اللأمة مَهْمُوزَة كَذَا قيدها القَاضِي عِيَاض فِي «مشارقه» وَكَذَا نَص عَلَيْهِ ابْن فَارس، وفسرها بالدرع (وَكَذَا قيدها بِهِ صَاحب «منَّة اللُّغَة» إِلَّا أَنه جعلهَا الدرْع التَّامَّة) وَكَذَا قيدها (بِهِ) الأجدابي فِي كِتَابه «كِفَايَة المتحفظ» .
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا يَنْبَغِي لنَبِيّ خَائِنَة الْأَعْين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم فِي(7/449)
«مُسْتَدْركه» وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة سعد بن أبي وَقاص قَالَ: «لما كَانَ يَوْم فتح مَكَّة أمَّنَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - النَّاس إِلَّا أَرْبَعَة نفر وَامْرَأَتَيْنِ سماهم وَابْن أبي سرح ... » فَذكر الحَدِيث، قَالَ: «وَأما ابْن أبي سرح فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْد عُثْمَان، فَلَمَّا دَعَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - النَّاس إِلَى الْبيعَة جَاءَ بِهِ حَتَّى أوقفهُ عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا نَبِي الله، بَايع عبد الله. فَرفع رَأسه فَنظر إِلَيْهِ ثَلَاثًا كل ذَلِك يَأْبَى، فَبَايعهُ بعد ثَلَاث، ثمَّ أقبل عَلَى أَصْحَابه فَقَالَ: أما كَانَ مِنْكُم رجل رشيد يقوم إِلَى هَذَا حِين رَآنِي كَفَفْت يَدي عَن مبايعته فيقتله. فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا رَسُول الله مَا فِي نَفسك (أَلا أَوْمَأت إِلَيْنَا بِعَيْنِك) . قَالَ: إِنَّه لَا يَنْبَغِي لنَبِيّ أَن تكون لَهُ خَائِنَة الْأَعْين» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط (مُسلم) .
فَائِدَة: «خَائِنَة الْأَعْين» كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ: هِيَ الْإِيمَاء إِلَى مُبَاح من ضرب أَو قتل عَلَى خلاف مَا يظْهر ويشعر بِهِ الْحَال. قَالَ: وَإِنَّمَا قيل لَهُ خَائِنَة الْأَعْين؛ لِأَنَّهُ يشبه الْخِيَانَة من (حَيْثُ) أَنه يخْفَى. وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي «مشكله» : اخْتلف فِي المُرَاد بخائنة الْأَعْين؛ فَقيل فِي تَفْسِيرهَا هُنَا: هِيَ الْإِيمَاء بِالنّظرِ، وَقيل: مسارقة النّظر.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«اشْتهر عَنهُ (أَنه كَانَ (إِذا) أَرَادَ سفرا وَرى بغَيْرهَا» .(7/450)
هَذَا (حَدِيث) صَحِيح فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن [عبد الله بن كَعْب] بن مَالك أَن عبد الله بن كَعْب قَالَ: سَمِعت كَعْب بن مَالك يحدث حِين تخلف عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... فَذكر الحَدِيث قَالَ: «وَلم يكن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُرِيد غَزْوَة يغزوها إِلَّا (وَرى) بغَيْرهَا» .
الحَدِيث السَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نكح امْرَأَة ذَات جمال، فلقنت أَن تَقول لرَسُول (: أعوذ بِاللَّه مِنْك، وَقيل لَهَا: إِن هَذَا كَلَام يُعجبهُ، فَلَمَّا قَالَت ذَلِك قَالَ (: لقد استعذت بمعاذ، الحقي بأهلك» .
هَذَا صَحِيح عَلَى غير هَذِه الصُّورَة الَّتِي ذكرهَا الرَّافِعِيّ، فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أَن ابْنة الجون لما دخلت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ودنا مِنْهَا قَالَت: أعوذ بِاللَّه مِنْك! فَقَالَ لَهَا: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك» وَفِيه وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث الزُّهْرِيّ أَنه سُئِلَ: أَي أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استعاذت(7/451)
مِنْهُ؟ فَقَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَة عَن عَائِشَة «أَن ابْنة الجون لما دخلت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ودنا مِنْهَا قَالَت: أعوذ (بِاللَّه) مِنْك!» عزاهُ الْمزي إِلَيْهِمَا فِي كتاب الطَّلَاق، وَفِي النَّسَائِيّ أَن هَذِه الْمَرْأَة كلابية - يَعْنِي: من بني كلاب - وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة: «أَن عمْرَة بنت الجون تعوذت من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين أدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ: لقد عذت بمعاذ. وَطَلقهَا (وَأمر) أُسَامَة أَو أنسا فيمتعها بِثَلَاثَة أَثوَاب رازقية» وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» (وَهُوَ من أَفْرَاده) عَن أبي أسيد قَالَ: «خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى انطلقنا إِلَى حَائِط يُقَال لَهُ: (الشوط) حَتَّى انتهيا إِلَى حائطين جلسنا بَينهمَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اجلسوا هَاهُنَا. وَقد أُتِي (بالجونية) فأنزلت فِي نخل فِي بَيت وَمَعَهَا دابتها - حاضنة - فَلَمَّا دخل عَلَيْهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: هبي نَفسك لي. فَقَالَت: وَهل تهب الملكة نَفسهَا للسوقة؟ ! قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يضع يَده عَلَيْهَا لتسكن فَقَالَت: أعوذ بِاللَّه مِنْك! قَالَ: قد عذت بمعاذ. ثمَّ خرج علينا فَقَالَ: يَا أَبَا أسيد، اكسها رازقتين وألحقها بِأَهْلِهَا» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي أسيد وَسَهل بن سعد قَالَا: «تزوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُمَيْمَة بنت(7/452)
شرَاحِيل، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ بسط يَده عَلَيْهَا فَكَأَنَّهَا كرهت ذَلِك، فَأمر أَبَا أسيد أَن (يجهزها) ويكسوها ثَوْبَيْنِ رازقين» .
وَرَوَاهُ مُسلم فِي الْأَشْرِبَة من حَدِيث سهل، وَحَدِيث البُخَارِيّ أتم كَمَا قَالَه عبد الْحق فِي «جمعه» وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد عَن أبي أسيد وَسَهل [قَالَا] : «مر بِنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَصْحَاب لَهُ فخرجنا مَعَه حَتَّى انطلقنا إِلَى حَائِط يُقَال لَهُ: الشوط حَتَّى انتهينا إِلَى حائطين مِنْهَا جلسنا بَينهمَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اجلسوا. وَدخل هُوَ وَأتي بالجونية أُمَيْمَة بنت [النُّعْمَان] بن شرَاحِيل فَنزلت فِي بَيت فِي النّخل وَمَعَهَا دَابَّة لَهَا، فَدخل عَلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: هبي لي نَفسك. قَالَت: وَهل تهب الملكة نَفسهَا للسوقة، إِنِّي أعوذ بِاللَّه مِنْك! . قَالَ: (لقد) عذت بمعاذ. ثمَّ خرج علينا فَقَالَ: يَا أَبَا [أسيد] اكسها فارسيتين وألحقها بِأَهْلِهَا» وَفِي لفظ لَهُ «اكسها رازقتين» وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهَا: لقد عذت بمعاذ - ثَلَاثًا» .
وَأما الحَدِيث بالصورة الَّتِي ذكرهَا الرَّافِعِيّ فتبع فِيهِ الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي «مشكله» : هَذِه اللَّفْظَة - يَعْنِي: «أَن نِسَاءَهُ(7/453)
علمنها ذَلِك» لم أجد لَهَا أصلا (ثَابتا) ، قَالَ: والْحَدِيث فِي « (صَحِيح) البُخَارِيّ» بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة (الْبَعِيدَة وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : هَذِه الزِّيَادَة) بَاطِلَة لَيست بصحيحة. قَالَ: وَقد رَوَاهَا مُحَمَّد بن سعد فِي «طبقاته» لَكِن بِإِسْنَاد ضَعِيف.
قلت: وأخرجها أَيْضا الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث الْوَاقِدِيّ، قَالَ: ذكر هِشَام بن مُحَمَّد أَن ابْن الغسيل حَدثهُ، عَن حَمْزَة بن أبي أسيد السَّاعِدِيّ، عَن أَبِيه - وَكَانَ بدريًّا - قَالَ: «تزوج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَسمَاء بنت النُّعْمَان الْجَوْنِية فَأرْسل إِلَيّ، فَجِئْته بهَا فَقَالَت حَفْصَة لعَائِشَة: اخضبيها أَنْت وَأَنا أمشطها. فَفَعَلَتَا، ثمَّ قَالَت لَهَا إِحْدَاهمَا: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُعجبهُ من الْمَرْأَة إِذا دخلت عَلَيْهِ أَن تَقول: أعوذ بِاللَّه مِنْك. فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ أغلق الْبَاب وأرخى السّتْر وَمد يَده إِلَيْهَا قَالَت: أعوذ بِاللَّه مِنْك! فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بكمه عَلَى وَجهه فاستتر بِهِ وَقَالَ: عذت بمعاذ - ثَلَاث مَرَّات. قَالَ أَبُو أسيد: ثمَّ خرج عليَّ فَقَالَ: يَا أَبَا أسيد، ألحقها بِأَهْلِهَا ومتعها برازقين - يَعْنِي: كرباسين - فَكَانَت تَقول: ادْعُونِي: الشقية!» ثمَّ رَوَى عَن الْوَاقِدِيّ بِسَنَدِهِ «أَنه دخل عَلَيْهَا دَاخل من النِّسَاء لما بلغهن من جمَالهَا - وَكَانَت من أجمل النِّسَاء - فَقَالَت: إِنَّك من(7/454)
الْمُلُوك؛ فَإِن كنت تريدين أَن تحظين عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاستعيذي مِنْهُ؛ فَإنَّك تحظين عِنْده ويرغب (فِيك) » . واستبعد بَعضهم صُدُور هَذَا القَوْل من نسَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَعَ شرفهن بِصُحْبَتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بالقوى؛ فَإِن الْغيرَة وَالْحب لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - والحرص عَلَى عدم مشاركتهن فِيهِ قد تحملهن عَلَى قريبٍ من ذَلِك؛ إِذْ جَاءَ فِي «الصَّحِيح» تواطؤ عَائِشَة وَصفِيَّة وَسَوْدَة عَلَى أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا دخل عَلَيْهِنَّ يَقُلْنَ لَهُ: «أكلتَ مَغَافِير ... » الحديثَ.
فَائِدَة: اخْتلف فِي اسْم هَذِه المستعيذة، فَفِي «صَحِيح البخاريِّ» و «مُسْند أَحْمد» أَن اسْمهَا: أُمَيْمَة.
وَقَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي «مبهماته» أَن اسْمهَا: أَسمَاء. قَالَ الْكَلْبِيّ هِيَ: أَسمَاء بنت النُّعْمَان بن الْحَارِث بن شرَاحِيل بن عبيد بن الجون. وَبِه جزم أَبُو نعيم فِي «الْمعرفَة» فَذكر بِسَنَدِهِ إِلَى قَتَادَة أَن بَعضهم زعم أَنَّهَا قَالَت: «أعوذ باللَّهِ مِنْكَ قَالَ: لقد عُذْتِ بِمَعَاذٍ منيِّ، وَقد أعاذكِ اللَّهُ مِنِّي. فَطلقهَا» قَالَ قَتَادَة: وَهَذَا بَاطِل. كَذَا قَالَ: «هَذِه امْرَأَة مِنْ بِلْعَنْبَر، مِنْ سَبْي ذَات الشقوق، وَكَانَت جميلَة، فَقُلْنَ لَهَا: إِنَّه يُعجبهُ أَن [تقولي] : أعوذ بِاللَّه مِنْكَ ... » الحديثَ.(7/455)
وَجزم بِهِ أَيْضا ابْن الصّلاح فِي «مشكله» ، (وَحَكَى الْقَوْلَيْنِ) مَعًا الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» ثمَّ ابْنُ الْأَثِير فِي «جَامع الْأُصُول» وقدَّم الثَّانِي، قَالَا: وَقيل: هِيَ مليكَة بنت كَعْب اللَّيْثِيّ وَحَكَى الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» قولا آخر أَن اسْمهَا: عمْرَة بنت زيد بن عبيد بن روس بن كلاب (بن عَامر) ، وقولاً آخر: أَنَّهَا (الْعَالِيَة بنت ظبْيَان بن عَمْرو بن عَوْف بن كَعْب بن عبيد بن بكر بن كلاب، وقولًا آخر أَنَّهَا) سناء بنت سُفْيَان بن عَوْف بن كَعْب بن عبيد بن بكر بن كلاب.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي آخر «دَلَائِل النُّبُوَّة» : وروينا فِي حَدِيث أبي أسيد السَّاعِدِيّ فِي قصَّة الْجَوْنِية الَّتِي استعاذت فألْحَقَهَا بِأَهْلِهَا؛ أَن اسْمهَا: أُمَيْمَة بنت النُّعْمَان بن شرَاحِيل. قَالَ: وَذكر ابْن مَنْدَه فِي كتاب «الْمعرفَة» أَنَّهَا أُمَيْمَة بنت النُّعْمَان، وَأَنه يُقَال لَهَا: فَاطِمَة بنت الضَّحَّاك، وَيُقَال: إِنَّهَا مليكَة الليثية، قَالَ: وَالصَّحِيح أَنَّهَا: أُمَيْمَة (قلت: فتحصلنا من هَذَا الِاخْتِلَاف فِي أَنَّهَا عَلَى سَبْعَة أَقْوَال؛ أَصَحهَا: أُمَيْمَة) وَثَانِيها: أَسمَاء، وَثَالِثهَا: عمْرَة، وَرَابِعهَا: فَاطِمَة، وخامسها: مليكَة، وسادسها: سناء، وسابعها: الْعَالِيَة.(7/456)
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «زوجاتي فِي الدُّنْيَا: زوجاتي فِي الْآخِرَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من رِوَايَة ابْن أبي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «سَأَلت رَبِّي - عَزَّ وَجَلَّ - أَن لَا أُزوج أحدا من أُمَّتي، وَلَا أتزوَّج إِلَّا كَانَ معي فِي الْجنَّة؛ فَأَعْطَانِي» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث حُذَيْفَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَنه قَالَ لامْرَأَته: إِن سرَّكِ أَن تَكُونِي زَوْجَتي فِي الْجنَّة؛ فَلَا تزوَّجي بَعْدي؛ فَإِن الْمَرْأَة فِي الْجنَّة لآخِرِ أزواجها فِي الدُّنْيَا، فَلذَلِك حَرُم عَلَى أزاوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن ينكحن بعده؛ لِأَنَّهُنَّ أَزوَاجه فِي الْجنَّة» .
الحَدِيث التَّاسِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اصْطَفَى صَفِيَّة بِنْتَ حُيَيٍّ، وأعتقها، وتزوَّجها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من رِوَايَة أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صلَّى الصُّبْحَ (بِغَلَس) ثمَّ ركب، فَقَالَ: الله أكبر، خربتْ خَيْبَر، إِنَّا إِذا نزلنَا بِسَاحَة قوم فساءَ صباحُ المُنْذَرِيْنَ فَخَرجُوا يسعون فِي السِّكَك وَيَقُولُونَ: مُحَمَّد وَالْخَمِيس! قَالَ:(7/457)
وَالْخَمِيس: الْجَيْش، فَظهر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَيْهِم، فَقتل (المَقَاتلة) وسَبَى الذَّرَارِي، فَصَارَت صَفِيَّة لدحية الْكَلْبِيّ، وَصَارَت لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ تزَوجهَا، وَجعل عتقهَا صَدَاقَهَا» لفظ إِحْدَى رواياتهم.
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قَالَت: «كَانَت صَفِيَّة من الصَّفِيِّ» .
فَيُحْتَاج إِذا إِلَى تَأْوِيل رِوَايَة «الصَّحِيح» : أَنَّهَا وَقعت فِي سَهْم دحْيَة الْكَلْبِيّ، فَأعْطَاهُ بهَا مَا أرادَ، أَو اشْتَرَاهَا بِسَبْعَة أرؤس.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اصْطَفَى سَيْفَهُ ذَا الفقار» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من رِوَايَة ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (تنفل) سَيْفه ذَا الفقار يَوْم بدر، وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْم أُحُد» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب. قَالَ ابْن الْقطَّان وَإِنَّمَا لم يُصَحِّحهُ؛ لِأَن فِي إِسْنَاده عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، وَلم يبال الحاكمُ(7/458)
بِهَذَا وَأخرجه فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: وَإِنَّمَا أخرجته فِي هَذَا الْموضع لأخبارٍ واهية: «إِن ذَا الفقار من خَيْبَر» .
قلت: وَمِنْهَا: مَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان أبي شيبَة، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس: «أَن الْحجَّاج بن علاط السّلمِيّ أهْدَى لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَيْفه ذَا الفقار، ودحية الْكَلْبِيّ أهْدَى لَهُ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاء» .
آفَتُهُ إِبْرَاهِيم هَذَا؛ فَإِنَّهُ واهٍ، وَأَيْضًا الحكم لم يسمع من مقسم إِلَّا خَمْسَة أَحَادِيث أَو أَرْبَعَة، كَمَا عددتُها فِي أثْنَاء بَاب الْجُمُعَة (وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا) .
فَائِدَة:
فِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» من حَدِيث ابْن عَبَّاس - بِإِسْنَاد ضَعِيف - قَالَ: «كَانَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سيف، قائمته من فضَّة وقبعته من فضَّة، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الفقار» .
وَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي نعيم فِي تَرْجَمَة مَرْزُوق: «أَنه صقل(7/459)
سيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَا الفقار، وَكَانَت لَهُ قبيعة من فضَّة، وحِلَق فِي قَيده، وبكرة فِي وَسطه من فضَّة» .
فَائِدَة:
قَالَ الْخطابِيّ فِي كِتَابه «تصاحيف الروَاة» :
الفقار: مَفْتُوح الْفَاء، والعامة تكسرها.
قَالَ الْأَصْمَعِي - فِيمَا حَكَاهُ ابْن بري عَنهُ -: «رأيتُ ذَا الفقار عَلَى الرشيد فِيهِ ثَمَانِي عشرَة فقارة» ويُرْوى: «أَنه كَانَ مَعَ مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن، فَأعْطَاهُ رجلا لَهُ عَلَيْهِ أَرْبَعمِائَة دِينَار، وَقَالَ: ائْتِ بِهَذَا السَّيْف أعْطِيه مَنْ شِئْتَ ويعطيك مَالك. فَبَقيَ عِنْد الرجل (حَتَّى أَخذه مِنْهُ جَعْفَر) بن سُلَيْمَان، وَأَعْطَاهُ المَال، ثمَّ أَخذه الْمهْدي من جَعْفَر، ثمَّ صَار إِلَى مُوسَى (الرِّضَى) فَضرب بِهِ كَلْبا فَانْقَطع» .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَهُ الاستبداد بخُمْس الخُمْس» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد نطق بِهِ الكتابُ الْعَزِيز، مَعَ أَحَادِيث شهيرةٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَة أَخْمَاس الْفَيْء، كَمَا سلف فِي بَابه.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَهُ دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام» .(7/460)
هَذَا صَحِيح، فَفِي « (صَحِيح) مُسلم» من حَدِيث جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء بِغَيْر إحرامٍ» .
وَفِيه وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» أَيْضا من حَدِيث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أَن رَسُول (دخل عَام فتح مَكَّة، وَعَلَى رَأسه المِغْفَر، فلمَّا نَزَعَةُ جَاءَهُ رجلٌ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن ابْن خطل متعلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة! فَقَالَ: اقْتُلُوه» .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّا معاشر الْأَنْبِيَاء لَا نورَّث، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب: قَسْم الْفَيْء وَالْغنيمَة.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ» .
هَذَا اسْتدلَّ لَهُ البيهقيُّ بِحَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أَن هِنْد بنت عتبَة بن ربيعَة قَالَت: يَا رَسُول الله، إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح، وَلَيْسَ يعطيني مَا يَكْفِينِي وَوَلَدي، إِلَّا مَا أخذتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يعلم؟ فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيك وولدكِ بِالْمَعْرُوفِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا»(7/461)
وَفِي كَون هَذَا قَضَاء نظر، فضلا عَن كَونه قَضَاء بِعِلْم، سَتَعْلَمُهُ فِي بَاب الْقَضَاء عَلَى الْغَائِب.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَهُ أَن يَقْبَلَ شَهَادَة من يشهدُ لَهُ» هَذَا صَحِيح، وَيشْهد لَهُ حَدِيث خُزَيْمَة فِي قصَّة الْفرس الَّذِي بَاعه لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَلِك الْأَعرَابِي ثمَّ أنكرهُ، وَأَرَادَ أَن يَبِيعهُ لغيره بأزيد مِمَّا باعهِ لَهُ وَقَالَ: « (هَلُمَّ) شَهِيدا يشْهد أَنِّي بَايَعْتُك؟ ، فَقَالَ خُزَيْمَة: أشهد أَنَّك قد بايَعْتَه، فأقبَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى خُزَيْمَة وقَال: بِمَ تشهد؟ قَالَ بتصديقك يَا رَسُول الله، فَجعل عَلَيْهِ السَّلَام شَهَادَة خُزَيْمَة بِشَهَادَة رجلَيْنِ» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، أخرجه أَبُو دَاوُد، وصححها الْحَاكِم، وَخَالف ابْنُ حزم فأعله.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَا ينْتَقض وضوءه بِالنَّوْمِ» .
هَذَا صَحِيح؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ... فِي الْوتر: «إِن عَيْني تنامان، وَلَا ينَام قلبِي» .(7/462)
وَمثله أَيْضا: حَدِيث ابْن عَبَّاس الثَّابِت فِي «الصَّحِيح» (فِي) مبيته عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - و «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَام بعد أَن صلَّى حَتَّى نفخ، ثمَّ قَامَ وصلَّى وَلم يتَوَضَّأ» .
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِيمَا حَكَى صَاحب «التَّلْخِيص» : «أَنه كَانَ يجوز أَن يَدْخل الْمَسْجِد جُنُبًا» . وَلم يقبله الْقفال وَقَالَ: لَا إخَاله صَحِيحا.
قلت: سلف فِي الغُسْل حديثُ أُمِّ سَلمَة فِي ذَلِك. وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعليّ: «لَا يحل لجُنُبٍ فِي هَذَا الْمَسْجِد: غَيْرِي وغيرُكَ» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، قَالَ: وَسمع منِّي البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث؛ وَاسْتَغْرَبَهُ.
قلت: سَببه أَن مَدَاره عَلَى سَالم بْنِ أبي حفصةُ، وعطية الْعَوْفِيّ، وهما ضعيفان جدا (شيعيان) متَّهمان فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث، وَقد أَجمعُوا عَلَى تَضْعِيف سَالم، وعلَّلوه بالتشيُّع، وَالْجُمْهُور عَلَى تَضْعِيف عَطِيَّة، فيُعْترض إِذًا عَلَى الترمذيِّ فِي تحسينه لَهُ، لَا جرم(7/463)
اعْترض عَلَيْهِ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «مرج الْبَحْرين» لَكِن قد يُقَال: لَعَلَّه اعتضد عِنْده بشاهدٍ آخر أَو متابع فَصَارَ حَسَنًا بِهِ، وَقد ذكره البغويُّ فِي «مصابيحه» عَلَى اصْطِلَاحه وَنقل بَعضهم عَن ابْن الْجَوْزِيّ أَنه نسبه إِلَى الْوَضع.
قلت: وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث الْحسن بن زيد، عَن خَارِجَة بن سعد، عَن أَبِيه سعد بن أبي وَقاص قَالَ: «قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعليِّ: لَا يحل لأحدٍ أَن يَجْنُبَ فِي هَذَا الْمَسْجِد: غَيْرِي وغيرُكَ» .
قَالَ الْبَزَّار: وَهَذَا الْكَلَام لَا نعلمهُ يُرْوى عَن سعد إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَا نَعْلم رَوَى عَن خَارِجَة بن سعد إِلَّا الحَسَنَ هَذَا.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث عَمْرة بنت أَفْعَى، عَن أُمِّ سَلمَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يَنْبَغِي لأحدٍ يَجْنُبُ فِي هَذَا الْمَسْجِد إِلَّا أَنا وعليٌّ» فِيهِ عبد الْجَبَّار بن الْعَبَّاس، أَظُنهُ (الشبامي) وَفِيه خلف، قَالَ ابْن معِين وَأَبُو دَاوُد: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ثِقَة.
وَقَالَ الْجوزجَاني: غال فِي سوء مذْهبه - يَعْنِي: التَّشَيُّع.
وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابع (عَلَى) حَدِيثه، وَكَانَ يتشيع. وَقَالَ(7/464)
أَحْمد: أَرْجُو أَن لَا يكون بِهِ بَأْس ثَنَا عَنهُ وَكِيع وَأَبُو نعيم، لكنه كَانَ يتشيع، وأسرف أَبُو نعيم فَقَالَ: لم يكن بِالْكُوفَةِ أكذب مِنْهُ.
فَائِدَة: مُقْتَضَى هَذَا الحَدِيث اشْتِرَاك عَلّي مَعَه فِي ذَلِك، وَلم يَقُلْ بِهِ أحدٌ من الْعلمَاء، وَذكر التِّرْمِذِيّ (عقب) إِيرَاده الحَدِيث السالف عَن ضرار بن صرد أَن مَعْنَى الحَدِيث لَا يَسْتَطْرِقهُ جُنُبا غَيْرِي وغيركَ.
وَهَذَا التَّفْسِير فِيهِ نظر؛ فَإِن هَذَا الحُكْم لَا يخْتَص بِهِ؛ بل أُمَّته كَذَلِك بِنَصِّ الْقُرْآن.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي اتخذتُ عنْدك عهدا لن تُخْلِفَنيهُ، وَإِنَّمَا أَنا بَشَرٌ، فأيُّ الْمُؤمنِينَ آذيتُه أَو شَتَمْتُه أَو لَعَنْتُه فاجعلها زَكَاة وَصَلَاة وقُربةً [تُقَرِّبُهُ بهَا] إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا»
وَفِي رِوَايَة لَهما: «إِنَّمَا أَنا بشر، أغضب كَمَا يغْضب البَشَرُ،(7/465)
فإيما رجل من الْمُسلمين سَبَبْتُهُ أَو لَعَنْتُهُ أَو جَلَدْتُه؛ فاجعلها لَهُ صَلَاة وَزَكَاة وقُرْبَهً تقرِّبه بهَا إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة، واجعلْ ذَلِك كَفَّارَة لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «أَو جَلَدُّهُ» .
قَالَ أَبُو الزِّنَاد: وَهِي لُغَة أبي هُرَيْرَة، وَإِنَّمَا هِيَ: «جَلَدْتُه» .
وَرَوَى مُسلم نَحوه من حَدِيث (أنس و) جَابر وَعَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وَلَفظ أَحْمد فِي حَدِيث أنسٍ: «أَيّمَا إِنْسَان من أُمَّتي دعوتُ الله عَلَيْهِ أَن يَجْعَلهَا لَهُ مغْفرَة» .
وَفِيه قصتُهُ مَعَ حَفْصَة، وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث أَبَى سعيدٍ الْخُدْرِيّ أَيْضا.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَاتَ عَن تِسْعِ نِسْوةٍ» .
هَذَا صَحِيح مَشْهُور، لَا يحْتَاج إِلَى عَزْوٍ، وَفَى «الْأَحَادِيث المختارة» للضياء الْمَقْدِسِي من حَدِيث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تزوَّج خَمْسَ عشرَة، وَدخل مِنْهُنَّ بِإِحْدَى عشرَة، وَمَات عَن تِسْعٍ» .(7/466)
وَقد ذكرتُ عَدَدَهُن مَعَ الْخلاف فِيهِ مُسْتَوفى فِي كتابي: «غَايَة السُّول فِي خَصَائِص الرَّسُول» فليراجعْ مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
«قصَّة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَعَ زيدٍ حِين طلَّق زيدٌ زَوْجَتَه، وَتَزَوجهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذِه الْقِصَّة صَحِيحَة مَشْهُورَة، وَمِمَّنْ رَوَاهَا: البخاريُّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «جَاءَ زيد بن حَارِثَة يشكو، فَجعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: اتّقِ الله وأمسكْ عَلَيْك زَوْجَكَ. قَالَ أنس: لَو كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَاتِما شَيْئا لكَتم هَذِه الْآيَة. قَالَ: وَكَانَت تفتخر عَلَى نسَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَقول: زوّجكنَّ أهالِيكُن، وزوَّجني اللَّه مِنْ فَوق سبع سموات!» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن ثَابت: (وتخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه) : نزلتْ فِي شَأْن زَيْنَب بنت جحش وَزيد بن حَارِثَة» .
وَرَوَى مُسلم فِي كتاب الْإِيمَان من حَدِيث عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «لَو كَانَ مُحَمَّد كَاتِما شَيْئا مِمَّا أُنزل عَلَيْهِ لكَتم هَذِه الْآيَة: (وَإِذ تَقول (الآيةَ» .(7/467)
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» من حَدِيث أنس أَيْضا قَالَ: (لمَّا نزلت هَذِه الْآيَة: (وتخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه (فِي شَأْن زَيْنَب بنت جحش، جَاءَ زيدٌ يشكو، فهمَّ بِطَلَاقِهَا، فاستأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أمسكْ عَلَيْك زَوجك واتَّقِ الله» .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا.
وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» فِي ترجمتها، من حَدِيث الْوَاقِدِيّ عَن عُمر بن عُثْمَان، عَن أَبِيه قَالَ: «قَدِمَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَدِينَة، وَكَانَت زَيْنَب بنت جحش ممَّن هَاجَرت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَكَانَت امْرَأَة جميلَة، فَخَطَبَهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى زيْدِ بْنِ حَارِثَة، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، لَا أرضاه لنَفْسي وَأَنا أيم قُرَيْش! قَالَ: فَإِنِّي قد رضيتُ لكِ. فتزوَّجها زيد بن حَارِثَة» .
قَالَ [ابْن] عمر - وَهُوَ الواقديُّ -: فحدَّثني عبد الله بن عَامر الْأَسْلَمِيّ، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حبَان قَالَ: «جَاءَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَيْتَ زيدِ بْنِ حَارِثَة فَطَلَبه، وَكَانَ زيد إِنَّمَا يُقَال لَهُ: زيد بن مُحَمَّد، فَرُبمَا فَقَدَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الساعةَ فَيَقُول: أَيْن زيد؟ ! فجاءَ منزله يَطْلُبهُ فَلم يجده، فتقوم إِلَيْهِ زَيْنَب فَتَقول: هَاهُنَا يَا رَسُول الله. فَوَلى يهمهم؛ لَا تَكَادُ تفْهم عَنهُ إِلَّا سُبْحَانَ الله الْعَظِيم، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيم مصرِّف الْقُلُوب! فجَاء زيدٌ(7/468)
إِلَى منزله؛ فأخبرتْه امرأتُه أَن ر سَوَّلَ الله (أَتَى منزله، فَقَالَ زيدٌ: أَلا قُلْتِ لَهُ: يدخلُ؟ ! قَالَت: قد عَرَضْتُ ذَلِك عَلَيْهِ (فَأَبَى) قَالَ سَمِعْتِيْه يَقُول شَيْئا؟ قَالَت: سمعتُه يَقُول حِين وَلى يتَكَلَّم بِكَلَام لَا أفهمهُ، وسمعتُه يَقُول: سُبْحَانَ الله الْعَظِيم، سُبْحَانَ الله الْعَظِيم، سُبْحَانَ مصرِّف الْقُلُوب قَالَ: فَخرج زيد حَتَّى أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، بَلغنِي أَنَّك جِئْتَ منزلي؛ فهلاَّ دخلتَ؟ بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله؛ لَعَلَّ زَيْنَب أعجبتك! أُفارقُها؟ فَيَقُول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أمسكْ عَلَيْك زَوجك. فَيَقُول: يَا رَسُول الله، أفارقُها؟ فَيَقُول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (أمسك عَلَيْك زَوجك. فَمَا اسْتَطَاعَ زيد إِلَيْهَا سَبِيلا بعد ذَلِك، وَيَأْتِي رَسُول (فيخبره، فَيَقُول: أمسك عَلَيْك زَوجك. فَيَقُول: يَا رَسُول الله، أفارقها؟ فَيَقُول:) احْبِسْ عَلَيْك. ففارقها زيد واعتزلها وحلت، قَالَ: فَبَيْنَمَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَالس يتحدث مَعَ عَائِشَة إِذْ أخذت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غمية ثمَّ سري عَنهُ وَهُوَ يبتسم وَيَقُول: مَنْ يذهب إِلَى زَيْنَب يبشرها أَن الله - عَزَّ وَجَلَّ - زَوَّجْنيِهَا من السَّمَاء؛ وتلا: (وإذْ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ (الْقِصَّة كلهَا، قَالَت عَائِشَة: فأخذني مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، لِمَا كَانَ بَلغنِي مِنْ جمَالهَا، وَأُخْرَى هِيَ أعظم الْأُمُور وَأَشْرَفهَا: مَا صنع اللَّهُ لَهَا، زوَّجها الله من السَّمَاء، وَقَالَت عَائِشَة: هِيَ تفتخر علينا بِهَذَا، قَالَت عَائِشَة: فَخرجت سلْمَى خَادِم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تشتد فحدثتها بذلك، فأعْطَتْهَا أَوْضَاحًا لَهَا» .
وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لمَّا انْقَضتْ عدَّة زَيْنَب قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لزيدٍ: اذْهبْ إِلَيْهَا فاذكرها (عَلّي. قَالَ زيد:(7/469)
فَانْطَلَقت فَلَمَّا رَأَيْتهَا تخمر عَجِينهَا فَلم استطع أَن أنظر إِلَيْهَا من عظمها فِي صَدْرِي حِين عرفت أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يذكرهَا، فَقلت: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يذكرك. قَالَت: مَا أَنا بِصَانِعَةٍ) شَيْئا حَتَّى أؤامر رَبِّي! فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدهَا وَنزل الْقُرْآن، وَجَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى دخل عَلَيْهَا بِغَيْر إِذن ... . .» الحديثَ، وَذكر فِيهِ قصَّة الْحجاب.
وَرَوَى (قَتَادَة) وغيرُه فِي قَوْله تَعَالَى: (أمسك عَلَيْك زَوجك) الْآيَة، قَالَ: كَانَ يُخْفي فِي نَفسه ودَّ أَنه طَلقهَا» .
وَعَن ابْن زيد: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد زوَّج زَيْدَ بْنَ حَارِثَة زَيْنَبَ بِنْتَ جحش ابْنَة عَمَّتِهِ، فَخرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْمًا يُريدهُ، وَعَلَى الْبَاب ستْر من شعر، فرفعتِ الستْرَ الريحُ؛ فانكشف وَهِي فِي حُجْرَتهَا حَاسِرَة، فَوَقع إعجابُها فِي قلب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فلمَّا وَقع ذَلِك كرهت ... .» إِلَى آخِره، قَالَ «فجَاء فَقَالَ: يَا رَسُول الله: إِنِّي أُرِيد أَن أُفَارِق (صَاحِبَتي) قَالَ: مَا لكَ؟ ! أرابكَ مِنْهَا شيءٌ، فَقَالَ: لَا وَالله يَا رَسُول الله مَا رَابَنِي مِنْهَا شَيْء وَمَا رأيتُ إِلَّا خيرا. فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أمسكْ عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله [فَذَلِك قَول الله - تَعَالَى -: (وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله] وتُخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه وتخشى الناسَ وَالله أَحَق أَن تخشاه (إِن (فارقَها تزوجْتها) .(7/470)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: الله - تَعَالَى - يَقُول: (وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم) وَأعظم مَا يُمتع بِهِ النِّسَاء، وَهُوَ يخبر عَن نَفسه وجنسه الْكِرَام «مَا كَانَ لنَبِيّ أَن تكون لَهُ خَائِنَة الْأَعْين» وَهِي الْإِظْهَار خلاف الْإِضْمَار، هَذَا فِي الْأَمر المكشوف، فَكيف تكون لَهُ خَائِنَة فِي قلب فِي تعلق أصل تزَوجه أحد؟ !
والحسد المذموم، هُوَ تمني زَوَال النِّعْمَة من العَبْد إِلَيْك، وَهِي مَعْصِيّة عَظِيمَة، فَكيف يستجيز مُسلم ظَنَّ ذَلِك بكبار الصَّحَابَة؟ ! فَكيف بسيِّد الْمُرْسلين؟ ! وَإِنَّمَا الْجَائِز فِي ذَلِك مَا رَوَاهُ عليّ بن الْحُسَيْن: «كَانَ الله قد أعلمَ نَبِيَّه أَن زَيْنَب سَتَكُون من أَزوَاجه، فَلَمَّا أَتَاهُ زيدٌ يشكوها قَالَ: اتَّقِ الله وأمسكْ عَلَيْك زَوجك» . قَالَ الله (وَتُخفي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبدِيه (وَهُوَ الَّذِي أبدى الله زواجها خَاصَّة، فَهُوَ الَّذِي أخفاه رَسُوله» وَعَامة مَا فِي قَوْله: (أمسك عَلَيْك زَوجك (أَمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَهُ بالتمسك بزوجه، مَعَ مَعْرفَته بِأَنَّهُ لابد لَهُ من فراقها، وَلَا مندوحة لَهُ عَن طَلاقهَا بِمَا أخبرهُ الله من ذَلِك، وصدور الْأَمر من الْآمِر مَعَ علمه من الْمَأْمُور بنقيضه، ومعرفته بِأَنَّهُ لَا يكون لَا يقْدَح فِي تَوْجِيه الْأَمر، فَإِن الله أَمر الْكفَّار بِالْإِيمَان مَعَ علمه بِأَنَّهُم لَا يُؤمنُونَ، فَإِن قيل: فَمَا حكمته؟ قُلْنَا: أعْلَمَ اللَّهُ رسولهُ بِأَنَّهَا زوجه، وَأَن زيدا يفارقها، وَلم يُعْلمه بِحَال زيد(7/471)
بعد فِرَاقه، هَل يكون مطمئن الْقلب بذلك أم قلق النَّفس؟ فَقَالَ: «أمسك عَلَيْك زَوجك» متثبتًا مِنْهُ، حَال ضَمِيره فِيهَا ومستكشفًا تعلق قلبه بهَا. ثمَّ قَالَ: فَأَما حَدِيث (ابْن) زيد وَقَتَادَة (فطريق) مشحونة وأوضح ذَلِك أَيْضا ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «نِهَايَة السول فِي خَصَائِص الرَّسُول» فَقَالَ: علق الحوفي فِي «تَفْسِيره» عَن ابْن زيد وَقَتَادَة: وَهَذَا سَنَد لَا يُسَاوِي نواة لَيْسَ لَهُ خطام وَلَا أزمة، وَقَالا: «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْمًا يُريدهُ - يَعْنِي: زيدا - وَعَلَى الْبَاب ستر من شعر. .» فَذكره كَمَا تقدم أَولا، ثمَّ قَالَ ابْن دحْيَة: حَكَى ذَلِك الحوفي وَجَمَاعَة من الْمُفَسّرين - كمقاتل بن سُلَيْمَان الوضَّاع، والنقاش الْكذَّاب - وَأما الحوفي فحاطب ليل، كَلَامه كالحبة فِي حميل السَّيْل، وَإِنَّمَا عُمْدته النَّحْو واللغة وَكِلَاهُمَا حَلقَة مفرغة، وَهِي غير صَحِيحَة عِنْد الْعلمَاء الراسخين، وإسنادها عَن قَتَادَة مُنْقَطع، وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم لَا يُرْوَى عَنهُ لضَعْفه ونكارة حَدِيثه، ضعفه الْأَئِمَّة، وَهَذَا مُخَالف لِلْقُرْآنِ مُفسد للْإيمَان، فقد نهَى اللَّهُ سَيِّدَ الْمُرْسلين، فَقَالَ فِي كِتَابه الْمُبين: (وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك) الْآيَة. وَهَذَا إقدام عَظِيم وَقلة معرفَة بِحَق هَذَا النَّبِي الْكَرِيم، وَكَيف يُقَال: رَآهَا فَأَعْجَبتهُ؟ وَهَذَا نَفْس الْحَسَد المذموم وَمَا (أقرب) قَائِله من نَار جَهَنَّم، ألم تكن بنت عمته، وَلم يزل يَرَاهَا مُنْذُ وُلدِتْ إِلَى أَن كَبرُت،(7/472)
فزوَّجها من زيد مَوْلَاهُ، فَمَا أَجْسَر رَاوِي هَذَا الْخَبَر عَلَى اللَّهِ، وَمَا أجْرَأَه! وجميعُ النسوان لم (يكن يحتجبن) من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَكَذَلِكَ أَزوَاجه، إِلَى أَن نزل آيَة الْحجاب فحجبن وجوههن عَن عُيُون النَّاس أَجْمَعِينَ.
وَالَّذِي رُوي عَن عَلّي زين العابدين، وَالزهْرِيّ - سيدِّ المحدِّثين -: «أَن الله كَانَ أعلمَ نبيَّه أَن زَيْنَب سَتَكُون من أَزوَاجه، فلمَّا شكاها إِلَيْهِ زيدٌ قَالَ لَهُ: أمسكْ عَلَيْك زَوجك، وَاتَّقِ الله (وأخفى مِنْهُ) فِي نَفسه مَا أَعْلَمَهُ الله (بِهِ) (عَن) (جِبْرِيل من أَنه سيزوجها مِمَّا الله مبديه ومظهره» هَذَا رَوَاهُ زين العابدين، وَرِوَايَة الزُّهْرِيّ قَالَ: «نزل) جِبْرِيل عَلَى رَسُوله يُعلمهُ أَن الله يُزوجه زَيْنَب بنت جحش، فَذَلِك الَّذِي أَخْفَى فِي نَفسه» وَكَانَ فِي زواج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زَيْنَب بعد مَوْلَاهُ زيد ثَلَاث فَوَائِد:
أَحدهَا: لتستن أمته بذلك، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (لكيلا يكون عَلَى الْمُؤمنِينَ حرج) الْآيَة، وأصل الْحَرج: الضِّيْق.
ثَانِيهَا: أَن الله قد أحلَّ ذَلِك لمن كَانَ قبله من الرُّسُل، ومثْلُ ذَلِك قَوْله تَعَالَى: (سُنَّة الله فِي الَّذين خلوا من قبل) الْآيَة، والسُّنَّة هِيَ(7/473)
الطَّرِيقَة الَّتِي سَنَّهَا الله فِي الَّذين خلوا من قبل، أَي: من السّنَن فِيمَا أحل لَهُم. قَالَه أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ.
ثَالِثهَا: وَهِي أعظمها -: أَن الله - تَعَالَى - أَرَادَ أَن يقطع البنوَّة بَين مُحَمَّد (وَزيد بن حَارِثَة، إِذْ لم يكن مُحَمَّد أَبَا أَحَدٍ من رجالكم، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام قد تَبَنَّاه، فَكَانَ يُدْعى: زيد بن مُحَمَّد، حَتَّى نزل: (ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ) كَمَا أخرجه الشَّيْخَانِ.
وَقَوله تَعَالَى: (وتخشى الناسَ وَالله أَحَق أَن تخشاه) أَي: وَتخَاف أَن يَقُول النَّاس: تَّزَوَّجَ زَوْجَة (ابْنه) فَلَا تلْتَفت إِلَيْهِم.
تَنْبِيه:
اعْلَم أَن الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» اسْتدلَّ بِقصَّة زيد هَذِه عَلَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِذا رغب فِي نِكَاح امرأةٍ وَكَانَت مزوَّجة يجب عَلَى زَوجهَا طَلاقهَا لينكحها (كَمَا نَقله الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب عَنهُ، وَقد يُقَال: لَو كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ لأَمره الشَّارِع بِهِ) بل أمره بالإمساك الْمنَافِي لذَلِك؛ فليُتَأملْ.
(الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق أَصَحهَا مَا رَوَاهُ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان(7/474)
فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن جريج، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى الأشرق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل، وَمَا كَانَ من نِكَاح عَلَى غير ذَلِك فَهُوَ بَاطِل؛ فَإِن تشاجروا فالسلطان ولي من لَا ولي لَهُ» ثمَّ قَالَ: لم يقل أحد فِي خبر ابْن جريج هَذَا، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن الزُّهْرِيّ «وشاهدي عدل» إِلَّا ثَلَاثَة أنفس: سعيد بن يَحْيَى الْأمَوِي، عَن حَفْص بن غياث، وَعبد الله بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي، عَن خَالِد بن الْحَارِث وَعبد الرَّحْمَن بن يُونُس الرقي عَن عِيسَى بن يُونُس (قَالَ) : وَلَا يَصح فِي ذكر الشَّاهِدين غير هَذَا الحَدِيث) .
الحَدِيث (الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ)
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تزوَّج مَيْمُونَة وَهُوَ مُحْرِم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - زَاد البُخَارِيّ فِي روايةٍ من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، لم يصل بهَا سَنَده: «أَنه تزَوجهَا فِي عُمْرة الْقَضَاء» .
وَهَذِه أسندها ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من جِهَته، وصرَّح فِيهَا(7/475)
بِالتَّحْدِيثِ، ثمَّ اعلمْ أَن رِوَايَة تَزْوِيجه عَلَيْهِ السَّلَام مَيْمُونَة فِي حَال إِحْرَامه هُوَ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، كَمَا ذكرتُه لكَ، وَهُوَ (مِمَّن) انْفَرد بذلك، وَرِوَايَة الجَمِّ الْغَفِير: «أَنه تزوَّجها حَلَالا» .
كَذَا رَوَاهُ أَكثر الصَّحَابَة، ونبَّه عَلَى ذَلِك الرافعيُّ أَيْضا، حَيْثُ قَالَ: أَكثر الرِّوَايَات عَلَى أَنه جَرَى وَهُوَ حَلَال.
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض وغيرُه: لم يَرْوِ أَنه تزوَّجها محرما إِلَّا ابْن عَبَّاس (وَحده، وروت مَيْمُونَة وَأَبُو رَافع وَغَيرهمَا: «أَنه تزَوجهَا حَلَالا» .
وهُم أعرف بالقصة من ابْن عَبَّاس؛ لتعلقهم بهَا، وَلِأَنَّهُم (أضبط) من ابْن عَبَّاس) وَأكْثر.
قلت: وَحَاصِل التَّرْجِيح تِسْعَة أوجه:
أَحدهَا: بُلُوغ أبي رَافع إِذْ ذَاك، وصِغَر ابْنِ عَبَّاس؛ فَإِنَّهُ لم يبلغ الحُلُم إِذْ ذَاك.
ثَانِيهَا: أَنه كَانَ الرَّسُول بَينهمَا، كَمَا صرَّح بِهِ فِي الحَدِيث.
ثَالِثهَا: أَن ابْن عَبَّاس لم يكن مَعَه فِي تِلْكَ الْعمرَة؛ بل كَانَ فِي الولْدَان بِالْمَدِينَةِ.
رَابِعهَا: أَن الصَّحَابَة (غلطوا ابْن عَبَّاس فِي ذَلِك وصوبوا رِوَايَة غَيره. قَالَ ابْن الْمسيب: وهم ابْن عَبَّاس فِي ذَلِك) رَوَاهُ عَنهُ(7/476)
أَبُو دَاوُد وَابْن عدي.
خَامِسهَا: أَن قَول أبي رَافع مُوَافق لنَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام عَن نِكَاح المُحْرِم، وَقَول ابْن عَبَّاس مُخَالف (مُسْتَلْزم) لأحد أَمريْن إِمَّا نسخ النَّهْي، أَو تَخْصِيصه عَلَيْهِ بِجَوَازِهِ، وَكِلَاهُمَا مُخَالف للْأَصْل، وَأَيْضًا: فَالصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ تَرْجِيح (القَوْل) عِنْد تعارضه مَعَ الْفِعْل؛ لِأَنَّهُ يتَعَدَّى إِلَى الْغَيْر، وَالْفِعْل قد يكون مَقْصُورا عَلَيْهِ.
سادسها: أَن ابْن أُخْتهَا يزِيد بن الْأَصَم شهد: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تزوَّجَها حَلَالا، وَكَانَت خَالَتِي وَخَالَة ابْن عَبَّاس» .
رَوَاهُ مُسلم.
سابعها: أَن مَيْمُونَة نَفسهَا رَوَت «أَنه تزَوجهَا حَلَالا» وَهِي أعلم بمسألتها.
ثامنها: أَن ابْن عَبَّاس اخْتلف عَلَيْهِ، خلاف غَيره، فَفِي «الدَّارَقُطْنِيّ» من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تزوَّجَهَا حَلَالا» لكنه استغربه بعد أَن رَوَاهُ.
تاسعها: قَول ابْن عَبَّاس: «تزَوجهَا وَهُوَ مُحْرِم» .
يحْتَمل التَّأْوِيل، وَيكون مَعْنَى قَوْله: «محرم» أَي: بِالْحرم وَهُوَ حَلَال، وَهِي لُغَة سَائِغَة مَعْرُوفَة، كَمَا تَجِد إِذْ أشام: إِذا دخل الشَّام، وأَتْهَمَ: إِذا دخل تهَامَة، وأمصر: إِذا دخل مِصْر، قَالَ الشَّاعِر: (قتلوا)(7/477)
ابْن عَفَّان الْخَلِيفَة محرما.
أَي: فِي حرم الْمَدِينَة.
وَرَوَى الْخَطِيب بِإِسْنَادِهِ إِلَى حَمَّاد بن إِسْحَاق الْموصِلِي، عَن أَبِيه إِسْحَاق قَالَ: سَأَلَ الرشيد عَن هَذَا الْبَيْت: مَا مَعْنَى «محرما» ؟ فَقَالَ الْكسَائي: أحرم بِالْحَجِّ. فَقَالَ الْأَصْمَعِي: مَا كَانَ أحرم بِالْحَجِّ، وَلَا أَرَادَ الشاعرُ أَنه أَيْضا فِي شهرٍ حرَام، فَقَالَ: «أحرم» : إِذا دخل فِيهِ، كَمَا يُقَال: أشهر: إِذا دخل فِي الشَّهْر، [وأعام إِذا دخل فِي الْعَام] فَقَالَ الْكسَائي: مَا هُوَ غير هَذَا، وَإِلَّا فَمَا أَرَادَ؟ قَالَ الْأَصْمَعِي: فَمَا أَرَادَ عديُّ بْنُ زيد بقوله: قتلوا كسْرَى بلَيْل محرما وأيُّ إِحْرَام لكسرى؟ ! فَقَالَ الرشيد: فَمَا الْمَعْنى؟ ، قَالَ: كلُّ من لم يأتِ شَيْئا يُوجب عَلَيْهِ عُقُوبَة: فَهُوَ محرم، لَا يحل شَيْء مِنْهُ، فَقَالَ الرشيد: مَا تُطاق فِي الشِّعْر يَا أصمعي، ثمَّ قَالَ: لَا تعرضوا للأصمعي فِي الشِّعْر.
الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُطاف بِهِ فِي الْمَرَض عَلَى نِسَائِهِ» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» بلاغًا، فَقَالَ: وبلغنا: «أَنه كَانَ يُطاف بِهِ مَحْمُولا فِي مَرضه عَلَى نِسَائِهِ، حَتَّى حللنه» .
(وأسنده) ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب «الوفا» من حَدِيث: الْحَارِث بن أبي أُسَامَة، ثَنَا مُحَمَّد بن (سعد) ثَنَا أنس بن عِيَاض، عَن جَعْفَر(7/478)
بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه:
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُحْمل فِي ثوبٍ، يطوف بِهِ عَلَى نِسَائِهِ وَهُوَ مَرِيض، يُقَسِّم بَينهُنَّ» .
وَهَذَا إِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات، لكنه لَيْسَ بِمُتَّصِل. لَكِن فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» فِي كتاب الْهِبَة من حَدِيث عَائِشَة: «لمَّا ثقل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذن أزواجَهُ أَن يُمرَّض فِي بَيْتِي، فأذِنَّ لَهُ» .
وَفِي «صَحِيح مُسلم» فِي كتاب الصَّلَاة عَنْهَا: «أول مَا اشْتَكَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي بَيت مَيْمُونَة، فَاسْتَأْذن أزواجَهُ أَن يُمرَّض فِي بَيْتِي، فأذِنَّ لَهُ» .
وَفِيهِمَا عَنْهَا: «إنْ كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ليتفقد: أيْن أَنا الْيَوْم؟ أَيْن أَنا غَدا؟ استبطاءً ليَوْم عَائِشَة [قَالَت] : فلمَّا كَانَ يومي قَبضه الله بَين سَحْري ونَحْري» .
زَاد البُخَارِيّ: «وَدفن فِي بَيْتِي» . وَفِي روايةٍ لَهُ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لمَّا كَانَ فِي مَرضه جعل يَدُور فِي نِسَائِهِ وَيَقُول (أَيْن) أَنا غَدا؟ أَيْن أَنا غَدا؟ حرصًا عَلَى بَيت عَائِشَة، قَالَت عَائِشَة: فلمَّا كَانَ يومي سَكَنَ» . وَفِي رِوَايَة: «فَمَاتَ فِي الْيَوْم الَّذِي كَانَ يَدُور عليَّ فِيهِ» .(7/479)
وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَنْهَا:
«أَنه كَانَ يسْأَل فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ: أَيْن أَنا غَدا؟ أَيْن أَنا غَدا؟ يُرِيد يَوْم عَائِشَة، فأذِنَّ لَهُ أزواجُه أَن يكون حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيت عَائِشَة، حَتَّى مَاتَ (عِنْدهَا) (قَالَت عَائِشَة: فَمَاتَ فِي الْيَوْم (الَّذِي} 59) كَانَ يَدُور عَلَى بَيْتِي» .
وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» عَن عَائِشَة: «اشْتَكَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ نساؤه: انْظُر حَيْثُ تحب أَن تكون بِهِ فَنحْن نَأْتِيك. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أوَ (كلكن) عَلى ذَلِك؟ (قَالَت) : نعم. فانتقل إِلَى بَيت عَائِشَة (فَمَاتَ فِيهِ» .
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث أبي عمرَان الْجونِي، عَن يزِيد بن بابنوس، عَن عَائِشَة) «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى النِّسَاء - يَعْنِي: فِي مَرضه - فاجتمعن، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن أدور بينكن؛ فَإِن رأيتن أَن تأذنَّ لي فَأَكُون عِنْد عَائِشَة (فعلتن) فأذِنَّ لَهُ» .
وَيزِيد هَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ شِيْعِيًّا. وَقَالَ البُخَارِيّ: وَكَانَ(7/480)
من الشِّيعَة الَّذين قَاتلُوا عليًّا. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلَا يُعْرف حَاله فِي الحَدِيث، وَلَا رَوَى عَنهُ غير أبي عمرَان.
قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَقِّه: لَا بَأْس بِهِ.
فَائِدَة: نقل ابْن دحْيَة فِي «الخصائص» عَن القَاضِي أَبَى بكر أَحْمد بن كَامِل بن شَجَرَة فِي كتاب «الْبُرْهَان» : «أَن أوَّل مَرَضِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ فِي بَيت رَيْحَانَة بِنْتِ شَمْعُون سَرِيَّتِهِ. عَلَيْهِ السَّلَام» .
الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسَمِي فِيمَا أَمْلُك؛ فَلَا تلمني فِيمَا تَمْلُك وَلَا أَمْلُك» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» بلاغًا، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد والدارمي فِي «مسنديهما» وأصحابُ «السّنَن» الْأَرْبَعَة، وَالْحَاكِم وَابْن حبَان فِي «صَحِيحهمَا» من حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ أَبُو دَاوُد: يَعْنِي: القلبَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّمَا(7/481)
يَعْنِي بِهِ: الحُبَّ والمودة، كَذَا فسره بعض أهل الْعلم - قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَذكر التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَنه رُوي مُرْسلا وَقَالَ التِّرْمِذِيّ أَنه أصح. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِنَّه أقرب إِلَى الصَّوَاب. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا أعلم أحدا تَابع حَمَّاد بن سَلمَة عَلَى رفْعه. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم رَوَاهُ ابْن (عُلَيَّة) عَن أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة مُرْسلا.
قلت: قد عُلم مَا فِي تعَارض الْوَصْل والإرسال.
الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعتق صَفِيَّة، وَجعل عِتْقَهَا صَدَاقها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
نَعَمْ فِي «البخاريِّ» من حَدِيث أبي مُوسَى: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أعْتقهَا، ثمَّ أصْدَقَهَا» .(7/482)
ذكره فِي بَاب: اتِّخَاذ السراري، من كتاب: النِّكَاح من «صَحِيحه» وَذَلِكَ يدل عَلَى تَجْدِيد العقد بِصَدَاق غير الْعتْق، وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي مَعْنَى الرِّوَايَة الأولَى عَلَى أَرْبَعَة أوجه، أوضحتها فِي «الخصائص» : أَصَحهَا: أَن مَعْنَاهُ: أعْتقهَا بِلَا عوض، وتزوَّجها بِلَا مهر، لَا فِي الْحَال وَلَا فِي الْمَآل، وَلم يحكه الرَّافِعِيّ؛ بل حَكَى وَجْهَيْن آخَرين عَن ابْن قُتَيْبَة كَذَلِك.
الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تزوَّج امْرَأَة، فَرَأَى بكشحها بَيَاضًا، فَقَالَ: الْحِقَى بأهلكِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة جميل بن زيد الطَّائِي، عَن [زيد بن] كَعْب بن عجْرَة، عَن أَبِيه قَالَ: «تزوَّج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - العاليةَ، امْرَأَة مِنْ بني غِفَار، فلمَّا دخلتْ عَلَيْهِ ووضعتْ ثِيَابهَا رَأَى بكشحها بَيَاضًا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: البسى ثِيَابك، والْحَقِي بأهلك. وَأمر لَهَا بِالصَّدَاقِ» .
ذكر هَذَا فِي ترجمتها من «مُسْتَدْركه» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا من حَدِيث ابْن عُمر: «أَنه عَلَيْهِ(7/483)
الصَّلَاة وَالسَّلَام تزوَّج امْرَأَة من بني غفار، فلمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ رَأَى بكشحها وَضْحًا، فردَّها إِلَى أَهلهَا وَقَالَ: دلستم عليَّ!» .
وَفِي إسنادها أَيْضا: جميل بن زيد الْمَذْكُور، وَهُوَ ضَعِيف، قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِثِقَة. قَالَ ابْن عدي: تفرد بِهِ، واضطربت (رُوَاته) عَنهُ. وَذكر الْبَيْهَقِيّ اخْتِلَافا فِيهِ، وَهُوَ أَنه رَوَاهُ جميل عَن سعيد بن زيد الْأنْصَارِيّ مرَّةً، ومرَّةَ (عَن زيد) بن كَعْب أَو كَعْب. ومرَّةً عَن جميل، عَن ابْن عمر كَمَا تقدم، ثمَّ قَالَ: مُخْتَلف فِيهِ كَمَا ترَى. وَقَالَ البُخَارِيّ: لم يَصح حَدِيثه. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بالقويّ. وَقَالَ ابْن حبَان: رَحل إِلَى الْمَدِينَة؛ فَسمع أَحَادِيث ابْن عمر بعد مَوته، ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَصْرَة فرواها. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: كَانَ يَقُول: مَا سمعتُ من ابْن عُمر شَيْئا. وَفِي «تَارِيخ البُخَارِيّ» : قَالَ أَحْمد عَن أبي بكر بن عَيَّاش، عَن جميل: مَا سمعتُ من ابْن عُمر شَيْئا. وَإِنَّمَا (قَالَ) : أكتب أَحَادِيثه، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَة؛ فكتبها.
وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث جميل الْمَذْكُور عَن زيد بن كَعْب - أَو(7/484)
كَعْب بن زيد: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تزوَّج امْرَأَة من غِفَار، فلمَّا دخل عَلَيْهَا وَوضع ثَوْبه وَقعد عَلَى الِفَراش أبْصَرَ بكشحها بَيَاضًا، (فامتار) عَن الْفراش، ثمَّ قَالَ: خذي عَلَيْك ثِيَابك! وَلم يأخذْ مِمَّا أَتَاهَا شَيْئا» .
تَنْبِيه: وَقع هَذَا الحَدِيث فِي «الْخُلَاصَة عَلَى مَذْهَب أبي حنيفَة» ونفاه بعضُ مَنْ تكلم عَلَيْهَا وَعَلَى «الْهِدَايَة» فِي جزءٍ لطيفٍ وَقَالَ: لَا مدْخل لكعب بن عجْرَة فِي هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَالظَّاهِر أَنه كَعْب بن زيد، كَمَا وَقع فِي بعض الرِّوَايَات، وَهُوَ غَرِيب، فَهُوَ فِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» كَمَا عَزَيْنَاهُ إِلَيْهِ آنِفا (فاستفده) .
فَائِدَة: قَالَ الْحَاكِم: هَذِه - يَعْنِي: المُفَارَقة - لَيست بالكلابية؛ إِنَّمَا هِيَ أَسمَاء بنت النُّعْمَان الغِفَارية، ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَن سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة قَالَ: «ثمَّ تزوَّج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من أهل الْيمن أَسمَاء بنت النُّعْمَان الغفارية، وَهِي ابْنة النُّعْمَان بن الْحَارِث بن شرَاحِيل بن النُّعْمَان، فَلَمَّا دخل بهَا دَعَاهَا؛ فَقَالَت: تعال أَنْت! فَطَلَّقَهَا» .
فَائِدَة أُخْرَى: الكشح - بِإِسْكَان الشين الْمُعْجَمَة -: بَين الخاصرة إِلَى الضلع؟ الحقب - كَذَا بِالتَّحْرِيكِ - دَاء يُصِيب الْإِنْسَان فِي كَشْحِهِ، فَيُكْوى، وَالْبَيَاض فِي الْخَبَر يجوز أَن يكون بَهَقًا أَو برصًا، قَالَ الْجَوْهَرِي: الوضح: الضَّوْء وَالْبَيَاض، يُقَال: بالفَرَسِ وضح، إِذا كَانَ بِهِ (شِيَة) وَقد يُكَنَّى بِهِ عَن البرص، وَمِنْه قيل [لجذيمة الأبرش] : الوضاح.(7/485)
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن الْأَشْعَث بن قيس: «أَنه نكح المستعيذة فِي زمَان عُمر بن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فَأمر برجْمِهَا، فأُخْبِرَ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَارَقَهَا قَبْلَ أَن يَمَسهَا، فخلاَّهما» .
هَذَا حَدِيث تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك القَاضِي حُسَيْن، وَالْمَاوَرْدِيّ وَالْإِمَام وَالْغَزالِيّ، وَالَّذِي فِي كتب الحَدِيث: مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي: فَضَائِل أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تزوَّج حِين قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ كِنْدَة قتيلةَ بنت قيس أخْتَ الْأَشْعَث بن قيس، فِي سنة عشرٍ، ثمَّ اشْتَكَى فِي النّصْف من صفر، ثمَّ قبض يَوْم الِاثْنَيْنِ ليومين (مضيا) من شهر ربيع الأول، وَلم تكن قَدِمَتْ عَلَيْهِ وَلَا دخل بهَا وَوَقَّتَ بَعْضُهُمْ وَقْتَ تَزْوِيجه إِيَّاهَا، فَزَعَمَ أَنه تزوَّجها، قبل وَفَاته بِشَهْر وَزعم آخَرُونَ أَنه تزوَّجها فِي مَرضه، وَزعم آخَرُونَ أَنه أَوْصَى أَن تُخَيَّرَ قتيلةُ؛ فَإِن شَاءَت فاختارتِ النكاحَ، فَتَزَوجهَا عكرمةُ بْنُ أبي جهل بحضرموت، فَبلغ أَبَا بكر فَقَالَ: لقد هممتُ أَن أحرق عَلَيْهِمَا. فَقَالَ عمر بن الْخطاب: مَا هِيَ من أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَلَا دخل بهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا ضرب عَلَيْهَا الْحجاب وَزعم بَعضهم أَنَّهَا ارتدَّتْ» .
هَذَا آخِرُ مَا نَقله الحاكمُ عَن شَيْخه مخلد بن جَعْفَر، عَن مُحَمَّد بن جرير، عَن أبي عُبَيْدَة.(7/486)
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِإِسْنَادِهِ إِلَى الزُّهْرِيّ قَالَ: «بلغنَا أَن الْعَالِيَة بنت ظبْيَان الَّتِي طَلَّقَهَا تَزَوَّجَتْ قبل أَن يُحَرِّمَ اللَّهُ نساءَهُ، فنكحتْ ابْنَ عَمٍّ لَهَا، وولدتْ فيهم» .
وَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي نعيم فِي تَرْجَمَة قتيلة بنت [قيس] من حَدِيث دَاوُد، عَن عَامر: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَلَكَ بِنْتَ الْأَشْعَث قتيلةَ، وتزوَّجها عكرمةُ بْنُ أبي جهل بعد ذَلِك، فَشَقَّ ذَلِك عَلَى أبي بكر مشقة شَدِيدَة، فَقَالَ لَهُ عُمرُ: يَا خَليفَة رَسُول الله، إِنَّهَا لَيست من نِسَائِهِ، وَلم يخيرها النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد بَرَّأها (الله) مِنْهُ بالرِّدَّة (الَّذِي) ارتدتْ مَعَ قَومهَا، فاطمأنَّ أَبُو بكر وَسكن» .
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كلُّ سَبَب ونَسَبٍ يَوْم الْقِيَامَة يَنْقَطِع، إِلَّا سببي ونسبي» .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث [عبد الله بن](7/487)
زيد بْنِ أسلم [عَن أَبِيه عَن جده] عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا بِهِ، ثمَّ قَالَ: قد رَوَاهُ غَيْرُ واحدٍ [عَن زيد بن أسلم عَن عمر] مُرْسلا، وَلَا نعلم أحدا قَالَ: «عَن زيد عَن أَبِيه» إِلَّا عَبْدَ الله بن زيد وَحْدَهُ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة عليّ، من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عُمرَ قَالَ: سمعتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «كل سَبَبٍ وَنسب مُنْقَطع يَوْم الْقِيَامَة، إِلَّا سببي ونَسَبي» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِيمَا ذكره نَظَرٌ؛ فَإِن وَالِد جَعْفَر لم يدْرك عمر، كَمَا استدركه الذهبيُّ، لَا جرم أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جَابر قَالَ: سمعتُ عُمَرَ ... فَذكره مَرْفُوعا، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جِدِّه، عَن عُمرَ، وَخَالفهُ الثوريُّ وابْنُ عُيَيْنَة وغَيْرُهما؛ فَرَوَوْه، عَن جَعْفَر، عَن أَبِيه، عَن عُمر، وَلم يذكرُوا بَينهمَا جدَّه عليَّ بْنَ الْحُسَيْن،(7/488)
وَقَوْلهمْ هُوَ الْمَحْفُوظ.
الطَّرِيق الثَّانِي: مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة فَاطِمَة، بإسنادٍ صَحِيح من حَدِيث الْمسور بن مخرمَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن (الْأَنْسَاب) تَنْقَطِع يَوْم الْقِيَامَة، غَيْر نسبي وسببي وصهري» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» أَيْضا.
وَله طَرِيق ثَالِث: من حَدِيث عُمر، غير مَا سلف من طَرِيقه، ذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» من حَدِيث: حسن بن حُسَيْن بن عليّ، عَن أَبِيه: «أَن عمر خطب أُمَّ كُلْثُوم إِلَى عليِّ، فَقَالَ: إِنَّهَا تصغر عَن ذَلِك، فَقَالَ عمر: إِنِّي سمعتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يَقُول:) كل سَبَب وَنسب مُنْقَطع يَوْم الْقِيَامَة، إِلَّا نسبي وسببي» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِزِيَادَة: «وأحْبَبْتُ أَن يكون لي من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَبَب وَنسب» وَذكر فِيهِ قِصَّةً أُخْرَى.
وَله طَرِيق رَابِع: من حَدِيث ابْن عُمر، عَن عُمر أَيْضا، أبنا بِهِ الذَّهَبِيّ، أبنا أَحْمد بن سَلامَة - إجَازَة - عَن مَسْعُود بن أبي مَنْصُور (أبنا أَبُو عَلّي الْمقري) أبنا أَبُو نعيم، أبنا أَبُو إِسْحَاق بن حَمْزَة، ثَنَا أَبُو(7/489)
جَعْفَر الْحَضْرَمِيّ، ثَنَا (عباد) بن زِيَاد، ثَنَا يُونُس بن أبي يَعْفُور، عَن أَبِيه: سمعتُ ابْنَ عمر قَالَ: سَمِعت عمر يَقُول سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «كلُّ سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنْقَطع يَوْم الْقِيَامَة، إِلَّا سببي ونسبي» .
وَله طَرِيق خَامِس: من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بإسنادٍ لَا أعلم بِهِ بَأْسا.
فَائِدَة:
حَكَى الرَّافِعِيّ فِي مَعْنَى هَذَا الحَدِيث خلافًا، فَقَالَ: قيل: مَعْنَاهُ: (إِن أمته ينسبون إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة وأمم سَائِر الْأَنْبِيَاء لَا ينسبون إِلَيْهِم، وَقيل مَعْنَاهُ) لَا (ينْتَفع) يَوْمئِذٍ سَائِر الْأَنْسَاب، و (ينْتَفع) بِالنّسَبِ (إِلَيْهِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تَسَمٌّوا باسمي، وَلَا تكنُوا بِكُنْيَتِي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث(7/490)
جماعةٍ من الصَّحَابَة، مِنْهُم جَابر وَأَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
هَذَا آخِرُ مَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي (هَذَا) الْبَاب من الْأَحَادِيث الَّتِي اسْتشْهد عَلَيْهَا، وَقد ذكر فِي الْبَاب خَصَائِص أُخَرَ، يُمكن إِفْرَاد كل مِنْهَا (بِآيَة وَأثر) وَلَو فتحنا ذَلِك علينا لَطَاَلَ وخَرَجَ الكتابُ عَن مَوْضُوعه.
وَقد أفردنا - بِحَمْد الله - للخصائص مُصَنَّفًا ذكرنَا فِيهِ جَمِيع مَا ذكره الرَّافِعِيّ ومَنْ تأخَّر عَنهُ، وَكَذَا من تَقَدَّمَ علينا فِيمَا وقفنا عَلَيْهِ من مصنفاتهم، وَذكرنَا فِيهِ زياداتٍ مهمة، وَهُوَ جَامع لَهَا وَللَّه الْحَمد عَلَى تيسيره وإكماله.(7/491)
بَاب: مَا جَاءَ فِي اسْتِحْبَاب النِّكَاح للقادر عَلَى مؤنه
وَصفَة الْمَنْكُوحَة وَأَحْكَام النّظر وَمَا يتَعَلَّق بِهِ
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث سَبْعَة عشر حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا معشر الشَّبَاب، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغضّ لِلْبَصَرِ، وَأحْصن للفَرْج، ومَنْ لم يسْتَطع فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك، من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
فَائِدَة: المَعْشَر: الطَّائِفَة الَّذين يشملهم (وصف) . والشباب: جَمْع شَاب، وَهُوَ عِنْد أَصْحَابنَا: مَنْ بَلَغ وَلم يُجاوِز (ثَلَاثِينَ) سنة، والباءه: بِالْمدِّ وَالْهَاء، عَلَى أفْصح اللُّغَات وأشهرها -: (الْمنزل) ، و (أَصْلهَا) فِي اللُّغَة: الجِمَاع، وَهُوَ المُرَاد هُنَا عَلَى الْأَصَح، وَقيل: الْمُؤَن.(7/492)
والوِجَاء - بِكَسْر الْوَاو وبالمد -: رَضُّ الخصيتين.
وَوَقع فِي «صَحِيح ابْن حبَان» فِي آخِرِ هَذَا الحَدِيث بعد قَوْله: «فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء» : «وَهُوَ الإخصاء» .
وَلَا أَدْرِي هَذِه الزِّيَادَة مِمَّن. ورُوي: «وَجَا» بِفَتْح الْوَاو مَقْصُور بِوَزْن عَصا يُرِيد: الخصاء والتعب، نَقله الْمُنْذِرِيّ ثمَّ قَالَ: وَفِيه بُعْد، والأوَّل هُوَ الْمَشْهُور، قَالَ: وَيكون عَلَى هَذَا شبه الصَّوْم فِي بَاب النِّكَاح بالتعب فِي بَاب الْمَشْي.
قلت: وَالْمرَاد هُنَا عَلَى التَّفْسِير الأول: أَن الصَّوْم يقطع الشهوةَ و (شَرّ) الْجِمَاع كَمَا يَفْعَله الوجاء.
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لجَابِر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «هلاَّ تزوَّجْتَ بِكْرًا تُلاِعبُهَا وتُلاِعبُكَ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البخاريُّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «تزوجتُ فَقَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا تزوَّجْتَ؟ قلت: تَزوجت ثَيِّبًا، فَقَالَ: مَا لكَ والعذارى ولعابها؟» .
وَفِي حَدِيث «مُسلم» : «فَأَيْنَ أَنْت من العذارى ولِعَابها» قَالَ شُعْبَة: فذكرتُه لعَمرو بْنِ دِينَار، فَقَالَ: سمعته من جَابر، وَإِنَّمَا قَالَ: «فَهَلاَّ جَارِيَة تلاعبها وتلاعبك» .(7/493)
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «فهلاَّ جَارِيَة تلاعبك. قلت: يَا رَسُول الله، إِن أبي قتل يَوْم أُحُد وَترك تِسْع بناتٍ كن لي تِسْع أَخَوَات، فَكرِهت أَن أجمع إلَيْهِنَّ جَارِيَة خرقاء مِثْلهنَّ، وَلَكِن امْرَأَة تمشطهن وَتقوم عَلَيْهِنَّ، قَالَ: أَصَبْتَ» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: قَالَ: «تزوجتُ امْرَأَة فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فلقيتُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا جَابر، تزوجتَ؟ فَقلت: نعم، قَالَ: بِكْر أَو ثيب؟ قلت: ثيب، قَالَ: فهلاَّ بكرا تلاعبها؟ قَالَ: قلت يَا رَسُول الله، (كَانَ) لي أَخَوَات، فخشيتُ أَن تدخل بيني وبينهن، قَالَ: (ذَاك) إِذا. إِن الْمَرْأَة تُنْكح عَلَى دينهَا وَمَالهَا وجمالها؛ فَعَلَيْك بِذَات الدِّينْ تَرِبَتْ يداك» .
فَائِدَة: «تلاعبها وتلاعبك» المُرَاد بِهِ: اللّعب الْمَعْرُوف، وَيحْتَمل أَن يكون من اللعاب، وَهُوَ الرِّيق.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «تضاحكها وتضاحكك» .
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث كَعْب بن عجْرَة: «تَعُضُّهَا وتَعُضُّكَ» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث جَابر: «تلاعبها وتلاعبك - أَو تضاحكها وتضاحكك» .(7/494)
وَقَوله: «ولِعابها» هُوَ بِالْكَسْرِ، ورُوي بِالضَّمِّ (قَالَه فِي «الْمَشَارِق» ) .
وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شَرحه لمُسلم» عَن القَاضِي عِيَاض أَنه قَالَ: إِن الرِّوَايَة فِي «كتاب مُسلم» هُوَ بِالْكَسْرِ لَا غير، وَهُوَ مصدر: لاَعَبَ.
وَقَوله: «تَمشُطهن» : هُوَ بِفَتْح التَّاء وَضم الشين، كَذَا ضَبطه النَّوَوِيّ فِي «شَرحه لمُسلم» .
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تزوّجوا الْوَدُود الْوَلُود؛ فَإِنِّي مكاثرٌ بكم الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة» .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث معقل بن يسَار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي أصبتُ امْرَأَة ذاتَ حسبٍ وجمال، وَإِنَّهَا لَا تَلد إِذا تزوجتُها؟ قَالَ: لَا. ثمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَة فَنَهَاهُ، ثمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَة، فَقَالَ تزوَّجُوا الْوَدُود (الْوَلُود) فَإِنِّي مكاثرٌ بكم الْأُمَم» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي(7/495)
«صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ ابْن الصّلاح: حسن الْإِسْنَاد.
ثَانِيهَا: من حَدِيث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَأْمر بِالْبَاءَةِ، وَينْهَى عَن التبتل نهيا شَدِيدا، وَيَقُول: تزوّجوا الْوَدُود (الْوَلُود) فَإِنِّي مكاثرٌ بكم الْأَنْبِيَاء يَوْم الْقِيَامَة» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» .
ثَالِثهَا: حَدِيث عِيَاض بن غنم الْأَشْعَرِيّ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُ: لَا تزوَّجُنَّ عاقرًا وَلَا عجوزًا؛ فَإِنِّي مكاثرٌ بكم» .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي تَرْجَمَة عِيَاض هَذَا من «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِيمَا ذكره نظر؛ فَإِن فِي إِسْنَاده مُعَاوِيَة بن يَحْيَى الصَّدَفِي، وَهُوَ ضَعِيف.
رَابِعهَا: من حَدِيث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «انكحوا أُمَّهَات الْأَوْلَاد؛ فَإِنِّي أُباهي (بكم) يَوْم الْقِيَامَة» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة حَدثنِي (حييّ)(7/496)
بن عبد الله، عَن أبي عبد الرَّحْمَن الحُبُلِّي، عَن عبد الله بن عمر بِهِ.
فَائِدَة:
الْوَدُود: الْمَرْأَة الموادة، الْوَلُود: الَّتِي تكْثر وِلَادَتهَا، وَهَذَا الْبناء من أبنية الْمُبَالغَة.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إيَّاكُمْ وخضراءَ الدِّمن! قَالُوا: يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - 979) ، وَمَا خضراء الدِّمَن؟ ! قَالَ: الْمَرْأَة الْحَسْنَاء فِي المنبت السوء» .
هَذَا الحَدِيث لم يخرِّجْه أحد من أَصْحَاب الْكتب الْمُعْتَمدَة، وَذكره أَبُو عبد الله الْقُضَاعِي فِي كتاب «الشهَاب» وأسنده فِي «مُسْنده» من حَدِيث الْوَاقِدِيّ، عَن يَحْيَى بن سعيد بن دِينَار، عَن أبي وجزة يزِيد بن عبيد، عَن عَطاء بن يزِيد اللَّيْثِيّ، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: «إيَّاكم وخضراء الدِّمَن! فَقيل: يَا رَسُول الله، وَمَا خضراء الدمن؟ ! قَالَ: الْمَرْأَة (الْحَسْنَاء) فِي المنبت السوء» .
وَكَذَا أسْندهُ الرامَهُرْمُزِي فِي «أَمْثَاله» لكنه قَالَ: عَن مُحَمَّد بن عمر الْمَكِّيّ، عَن يَحْيَى بن سعيد بن دِينَار، وأسنده الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه «إِيضَاح الملتبس» من طَرِيق الْوَاقِدِيّ، وَذكره أَبُو(7/497)
عبيد فِي «غَرِيبه» وَقَالَ: إِنَّه يرْوَى عَن يَحْيَى بن سعيد بن دِينَار ... . فَذكره.
قلت: وعلَّتُه: الْوَاقِدِيّ، قَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الشهَاب» : هَذَا الحَدِيث يُعَدُّ فِي أَفْرَاده، وَهُوَ ضَعِيف. وَكَذَا قَالَ ابْن الصّلاح فِي «مشكله» أَنه يُعَدُّ فِي أَفْرَاده وَأَنه ضَعِيف. وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الشهَاب» : هَذَا الحَدِيث لَا يَصح بوجهٍ. قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ، وَذكره ابْن دُرَيْد فِي كِتَابه «الْمُجْتَبَى» فِي أوَّل بابٍ: مَا سمع من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يسمع من غَيره قَبْله، كَحَدِيث: «يَا خيل الله ارْكَبِي» و «لَا تنتطح فِيهَا عنزان» و «الْحَرْب خُدْعة» (وَغير ذَلِك) .
فَائِدَة: خضراء الدِّمن: هِيَ الشَّجَرَة الخضراء النابتة فِي مطارح البعر، وَهِي الدِّمَن - بِكَسْر الدَّال وَفتح الْمِيم - واحدَتُها: دِمْنة، شبَّه بهَا الْمَرْأَة الْحَسْنَاء ذَات النّسَب الْفَاسِد، مِثْل: أَن تكون بنت الزِّنَا، قَالَ ابْن دحْيَة فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الشهَاب» : وَقيل: (مَعْنَاهُ:) ضحوك النُّفُوس (وحسائك) الصُّدُور، وَإِن أبْدَى صاحبُها جميلاً فَلَا يُؤمن. قَالَ ابْن دُرَيْد فِي كتاب «الْمُجْتَبَى» : هَذَا الحَدِيث قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام فِي بعض مَا كَانَ يُؤَدب بِهِ أَصْحَابه، وَقد فسَّر هَذَا الْكَلَام فِي الحَدِيث، وَله تفسيران، قَالَ بَعضهم: يُرِيد: المرأةَ الحسناءَ فِي المنبت السوء، وَتَفْسِير ذَلِك: أَن الرّيح تجمع الدِّمن - وَهُوَ: البعر - فِي الْبقْعَة من الأَرْض، ثمَّ يركبه الساقي؛ فَإِذا أَصَابَهُ الْمَطَر ينْبت نَبْتَا (غضًّا) نَاعِمًا يَهْتَز وَتَحْته الدِّمَن(7/498)
الْخَبيث، يَقُول: فَلَا تنْكِحُوا هَذِه الْمَرْأَة لجمالها ومنبتها خَبِيث كالدِّمن، فَإِن أعراق السوء تنْزع أَوْلَادهَا.
وَالتَّفْسِير الآخر: مَعْنَى قَول زفر بن الْحَارِث:
وَقَدْ يَنبُتُ المَرعَى عَلَى دِمَن الثَّرَى
وَتَبقَى (حَزازَاتُ) النُّفوسِ كَمَا (هِيَا)
يَقُول: نَحن إِن أظهرنَا لكم شرًّا فَإِن تَحْتَهُ الحقد والشحنة، هَكَذَا الدِّمَن الَّذِي يظْهر، فَوْقه النبت مهتزًّا وَتَحْته الْفساد.
(تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ عَلَى أَوْلَوِيَّة النسيبة وَقد علم ضعفه ويغني عَنهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة الثَّابِت أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ «خير نسَاء ركبن الْإِبِل: صَالح نسَاء قُرَيْش، أحناه عَلَى ولد فِي صغر وأرعاه عَلَى زوج فِي ذَات يَده» وَالْبُخَارِيّ اسْتدلَّ بِهِ لهَذِهِ الْمَسْأَلَة) .
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تنْكِحُوا الْقَرَابَة الْقَرِيبَة؛ فَإِن الْوَلَد يُخْلق ضاويًّا» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده القَاضِي الْحُسَيْن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَقَالا: إِنَّه رُوِيَ.
وَأما ابْن الصّلاح فَقَالَ: لَا أجد لَهُ أصلا مُعْتَمدًا، قَالَ: و «ضاويًّا» بتَشْديد الْيَاء أَي: نحيفًا ضَعِيفا (لِأَن) شَهْوَته لَا تتمّ (عَلَى) قريبَة.(7/499)
وَقَالَ الإِمَام: أَرَادَ ضئيلاً نحيفَ الْخلق هزيلاً.
وَابْن الصّباغ وَجَّه ذَلِك أَعنِي: الحكم فِي (الْمَسْأَلَة) بِأَن الْوَلَد يكون الْغَالِب عَلَيْهِ الْحمق، وَفِي «الْبَيَان» عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: إِذا تزوَّج الرجلُ فِي (عشيرته) فالغالب عَلَى وَلَده الْحمق.
قلت: وَهَذَا يشْهد لَهُ الْوَاقِع.
(وَأورد) القَاضِي حسينُ حَدِيثا آخَرَ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ: «اغتربوا؛ لَا تُضووا» يَعْنِي: كي لَا تُضووا الْوَلَد، وَلم أر أَنا فِي الْبَاب فِي كتابٍ حَدِيثي مَا يسْتَأْنس بِهِ، إِلَّا مَا وجدتُ فِي «غَرِيب الحَدِيث» لإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ من حَدِيث عبد الله بن المؤمل، عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: قَالَ عمر لآل السَّائِب: «قد أضويتم؛ فأنحكوا فِي النوابغ» قَالَ الْحَرْبِيّ: الْمَعْنى: تزوجوا الغرائب.
قَالَ: وَيُقَال: «اغتربوا؛ لَا تضووا» . أَي: تزوَّجوا الغرائب، لَا تزوَّجوا أقرباءكم؛ فَيَجِيء الْوَلَد ضاويًّا، أَي: مهزولاً.
قَالَ ابْن درسْتوَيْه: وَيجوز تَخْفيف الْيَاء، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مُحَمَّد: وَقد يجوز أَن تَقول: غُلَاما صاويًّا، بالصَّاد الْمُهْملَة، من قَوْلهم: صَوت النَّخْلَة تصوى صويًّا، إِذا يَبِسَتْ، ولبعض أهل الْأَدَب:
إِن طلبتَ الإنجابَ فانكح غَرِيبا وَإِلَى الْأَقْرَبين (لَا) تتوسل.
فأنبت الثِّمَار طيبا (و) حسنا ثَمَر غصنه غَرِيب موصل.(7/500)
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تُنْكح الْمَرْأَة لأَرْبَع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها؛ فاظفرْ بِذَات الدِّين تربت يداك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَأوردهُ الْمَاوَرْدِيّ فِي «الْحَاوِي» فِي كتاب: الصّداق، بزيادةٍ غَرِيبَة فِيهِ، وَهِي: «تُنْكح الْمَرْأَة لدينها وجمالها وَمَالهَا وحسبها» ويُرْوَى: «ووسامتها» .
وَلم أره هَكَذَا (و) رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر (كَمَا) ذكره الرَّافِعِيّ وَلم يذكر الحسبَ (وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَلم يذكر «الْحسب» ) والمالَ، وَذكر بدل: الجمالَ» : «الخُلق» .
وَرَوَاهُ ابْن حبَان بِلَفْظ: «تُنْكح الْمَرْأَة عَلَى مَالهَا، وتُنْكح الْمَرْأَة عَلَى جمَالهَا، وتُنكح الْمَرْأَة عَلَى دِيْنها» .(7/501)
وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِزِيَادَة: «فَخُذْ ذاتَ الدِّين والخُلُق تربت يداك» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث الأفريقي، عَن عبد الله بن يزِيد، عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا (تزوَّجوا) النِّسَاء لحُسْنهنَّ؛ فَعَسَى حُسْنهن أَن يُرْديهن، وَلَا تزوجوهن لأموالهن؛ فَعَسَى أموالهن أَن تطغيهن، وَلَكِن تزوجوهن عَلَى الدِّيْن، ولأَمَةٌ (خرساء) سَوْدَاء ذاتُ دِيْن أفضل» .
فَائِدَتَانِ:
الأولَى: قَوْله: «تربت يداك» هَذِه كلمة أَصْلهَا عِنْد الْعَرَب: افْتَقَرت، وَلَكِن اعتادوا اسْتِعْمَالهَا غير قَاصِدين مَعْنَاهَا الأصْلي، وَمَا أحسن قَول البديع فِي بعض رسائله:
وَقد يُوحش اللَّفْظ وَكله ود
ويُكره الشَّيْء وَمَا من فِعْله بُد.
هَذِه الْعَرَب تَقوله: لَا أَب لَك، إِذا أهم. وقاتَلَهُ اللَّه، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ الذَّم. وويل أمه، لِلْأَمْرِ إِذا تَمَّ. وللألباب فِي هَذَا الْبَاب أَن تنظر إِلَى القَوْل وقائله؛ فَإِن كَانَ وليًّا فَهُوَ الْوَلَاء، وَإِن حَسُنَ، وَإِن كَانَ عَدوًّا فَهُوَ الْبلَاء، وَإِن حَسُن.
الثَّانِيَة: الصَّحِيح فِي مَعْنَى هَذَا الحَدِيث: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أخبر بِمَا يَفْعَله النَّاس فِي الْعَادة؛ فَإِنَّهُم يقصدون هَذِه الخِصال الْأَرْبَعَة (وَآخِرهَا) عِنْدهم: ذَات الدِّين، فاظفرْ أَنْت أَيهَا المسترشد بِذَات الدِّيْن، وَقيل:(7/502)
مَعْنَاهُ: تربت يداك إِن (لم) تفعل مَا أَمرتك بِهِ، وَقيل مَعْنَاهُ لله دَرك إِذا اسْتعْملت مَا أَمرتك بِهِ ( ... ) مَا (لم آمُر) بِهِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى (أَن) الْفقر خيرٌ لَهُ من الْغِنَى.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَعَلَى تَقْدِير أَن يكون دُعَاء؛ فقد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ مَنْ دعوتُ عَلَيْهِ (فَاجْعَلْ) دَعْوَتِي لَهُ رَحْمَة» .
وَأغْرب بَعضهم فَادَّعَى أَن مَعْنَى تربت: استغنت، وَالْمَشْهُور الأول أَن مَعْنَاهُ: افْتَقَرت، وَلَا يُقال فِي الغِنَى إِلَّا: أترب.
وَفِي «الحبلى» عَن الزَّجَّاج أَنه قَالَ فِي كتاب: فعلت وأفعلت: تربت يداك: استغنت، وَجعل ترب وأترب بِمَعْنى وَاحِد، والذى فِيهِ خلاف ذَلِك؛ فَإِنَّهُ قَالَ: ترب الرجل: إِذا افْتقر، وأترب: إِذا اسْتَغنَى، فتنبَّه لذَلِك.
وَقد نقل ذَلِك ابْنُ الرّفْعَة فِي «كِفَايَته» عَن حِكَايَة الحبلي، وأقرَّه، وَهُوَ غَرِيب.
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للْمُغِيرَة - وَقد خطب امْرَأَة: انظرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ أحْرَى أَن يُؤْدَمَ بَيْنكُمَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه كَذَلِك،(7/503)
وَالنَّسَائِيّ والدارمي وَقَالا: «أَجْدَر» بدل «أَحْرَى» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن.
قلت: وصحَّحه ابْن حبَان؛ فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» و (أخرجه) الْحَاكِم من حَدِيث أنس « (أَن الْمُغيرَة ... .» الحَدِيث) . ثمَّ قَالَ: هَذَا (حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَكَذَا قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه «أَحْكَام النّظر» أَنه) حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِسْنَاده ثَابت. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ - وَقد سُئِلَ فِي «علله» -: مَدَاره عَلَى (بكر) بن عبد الله الْمُزنِيّ، عَن الْمُغيرَة، فروَى عَن عَاصِم عَنهُ بِهِ، وَرَوَى عَنهُ وَعَن حميد، عَن بكر بِهِ، وَلم يروه كَذَلِك سُوَى قيس بن الرّبيع، وَقيل: عَن عَاصِم (عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ، عَن الْمُغيرَة. وَهُوَ وهم؛ إِنَّمَا رَوَاهُ عَاصِم) عَن بكر، وَقيل: عَن معمر، عَن ثَابت، عَن أنس: «أَن الْمُغيرَة ... .» رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق كَذَلِك، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ثَابت، عَن بكر مُرْسلا، وَرَوَاهُ عبد الرازق أَيْضا، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن حميد، عَن أنس؛ وَإِنَّمَا رَوَاهُ حميد، عَن بكر، قيل للدارقطني: سمع بكرٌ من مُغيرَة؟ قَالَ: نَعَمْ.(7/504)
فَائِدَة:
قَوْله: «يُؤدم بَيْنكُمَا» بِضَم الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت، ثمَّ همزَة سَاكِنة ثمَّ دَال مُهْملَة مَفْتُوحَة، وَفِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: يُجْعل بَيْنكُمَا الْمحبَّة والاتفاق، يُقَال: أَدَم اللَّهُ بَينهمَا؛ أَي: أصلح (وَألف) وَكَذَلِكَ، أَدَم بَينهمَا فعل وأفعل بِمَعْنى وَاحِد، كَذَا ذكره أهل اللُّغَة، كَمَا نَقله عَنْهُم ابْن الرّفْعَة فِي «مطلبه» وَجَرَى عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ قولا، وَقَالَ: إِنَّه مَأْخُوذ من إدام الطَّعَام؛ لِأَنَّهُ يطيب بِهِ، فَيكون مأخوذًا من الإدام لَا مِنَ الدَّوَام.
ثَانِيهَا: أَنه مَأْخُوذ من الدَّوَام؛ فَيكون قَوْله: « (يُؤْدم» أَي يَدُوم، لكنه قدَّم الْوَاو عَلَى الدَّال كَمَا قَالَ فِي ثَمَر الْأَرَاك: «كُلُوا مِنْه الأسودَ؛ فَإِنَّهُ أيطب» . بِمَعْنى: أطيب، وَنَقله الْمَاوَرْدِيّ عَن أَصْحَاب الحَدِيث.
ثَالِثهَا: أَنه مَأْخُوذ من وُقُوع الأدمة عَلَى الأدمة، وَهِي: الجِلْدَة الْبَاطِنَة والبشرة الظَّاهِرَة، وَذَلِكَ للْمُبَالَغَة فِي الائتلاف، قَالَه الْغَزالِيّ فِي «الْإِحْيَاء» .
الحَدِيث الثَّامِن
عَن جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا خطب أحدكُم الْمَرْأَة؛ فَإِن اسْتَطَاعَ أَن ينظر إِلَى مَا يَدعُوهُ إِلَى نِكَاحهَا فليفعلْ. قَالَ: فخطبتُ جَارِيَة، فكنتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا، حَتَّى رَأَيْت مِنْهَا مَا دَعَاني إِلَى نِكَاحهَا فتزوجتُها» .(7/505)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن دَاوُد بن (الْحصين) عَن وَاقد بن عبد الرَّحْمَن - يَعْنِي: ابْن سعد بن معَاذ - عَن جَابر مَرْفُوعا كَذَلِك سَوَاء.
وَرَوَاهُ أَحْمد كَذَلِك أَيْضا لكنه قَالَ: «جَارِيَة من بني سَلمَة» وَقَالَ: «حَتَّى نظرتُ مِنْهَا بعض مَا دَعَاني ... » إِلَى آخِرِه.
وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا فِي «مُسْنده» ثمَّ قَالَ: وَهَذَا لَا نعلمهُ يُرْوى عَن جَابر إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه، وَلَا أسْند واقدُ بْنُ عبد الرَّحْمَن بن سعد، عَن جابرٍِ إِلَّا هَذَا الحَدِيث، وَأعله ابْن الْقطَّان بِوَاقِدِ هَذَا وَقَالَ: إِنَّه لَا يُعْرف حالُه؛ إِنَّمَا الْمَعْرُوف وَاقد بن عَمرو بن سعد بن معَاذ أَبُو عبد الله الأنصاريّ مدنى ثِقَة، قَالَه أَبُو زرْعَة، فَأَما هَذَا فَلَا أعرفهُ. وَقَالَ فِي كِتَابه «أَحْكَام النّظر» : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح، وَأما الْحَاكِم فَأخْرجهُ فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» بِلَفْظ أبي دَاوُد، وَسَنَده إلاّ أَنه قَالَ: «وَاقد بن عَمْرو بن سعد بن معَاذ» بدل «وَاقد بن عبد الرَّحْمَن» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم؛ أيْ: لِأَن فِي إِسْنَاده ابْن إِسْحَاق، لكنه قد عنعن، وَطَرِيقَة الْحَاكِم هَذِه صَحِيحه عَلَى رَأْي ابْن الْقطَّان، كَمَا عَرفته فِي وَاقد السالف، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ وَاقد بن عَمْرو، وَكَذَا(7/506)
وَقع فِي « (مُسْند» ) عبد الرازق أَيْضا عَلَى أَن ابْن حبَان ذكر فِي «الثِّقَات» وَاقد بن عبد الرَّحْمَن.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَنه صلّى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث أم سليم إِلَى امْرَأَة وَقَالَ: انظري إِلَى عرقوبيها وشمي معاطفها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور (ثَنَا) عمَارَة، عَن ثَابت، عَن أنس «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أرسل أم سليم تنظر إِلَى جَارِيَة (فَقَالَ:) شمي عوارضها، وانظري إِلَى عرقوبيها» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد الْهُذلِيّ، أَنا ثَابت الْبنانِيّ، عَن أنس بن مَالك قَالَ: «كَانَ [رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] إِذا أَرَادَ خطْبَة امْرَأَة بعث أم سليم إِلَيْهَا فشمّت أعطافها. وَنظرت إِلَى عراقيبها» .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن أنس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَرَادَ أَن يتَزَوَّج امْرَأَة، فَبعث امْرَأَة لتنظر إِلَيْهَا فَقَالَ: شمي عوارضها، وانظري إِلَى(7/507)
(عرقوبيها) قَالَ: فَجَاءَت إِلَيْهِم، فَقَالُوا: أَلا نغديك يَا أم فلَان؟ فَقَالَت: لَا آكل (إِلَّا) من طَعَام جَاءَت بِهِ فُلَانَة. قَالَ: فَصَعدت فِي رقٍ لَهُم فَنَظَرت إِلَى عرقوبيها، ثمَّ قَالَت: أفليني يَا بنيه. قَالَ: فَجعلت تفليها وَهِي تشم عوارضها. قَالَ. فَجَاءَت فَأخْبرت» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : كَذَا رَوَاهُ شَيخنَا الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل مُرْسلا مُخْتَصرا، دون ذكر أنس، قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو النُّعْمَان، عَن حَمَّاد مُرْسلا.
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن كثير الصَّنْعَانِيّ عَن حَمَّاد مَوْصُولا، وَرَوَاهُ عمَارَة بن زَاذَان، عَن ثَابت، عَن أنس مَوْصُولا.
قلت: وَعمارَة هَذَا لم يخرج لَهُ فِي الصَّحِيح؛ نعم أخرج لَهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ يزِيد بن هَارُون: رُبمَا يضطرب فِي حَدِيثه: وَقَالَ (الْأَثْرَم) عَن(7/508)
الإِمَام أَحْمد: يروي عَن أنس أَحَادِيث مَنَاكِير. وَقَالَ ابْن (معِين) : صَالح. وَقَالَ مُسلم، عَن الإِمَام أَحْمد: شيخ ثِقَة مَا بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه، وَلَا يحْتَج بِهِ، لَيْسَ بالمتين. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ عِنْدِي لَا بَأْس بِهِ، مِمَّن يكْتب حَدِيثه.
وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة. وَقَالَ مهنا: سَأَلت أَحْمد عَنهُ، فَقَالَ صَالح؛ إِلَّا أَنه (يروي) حَدِيثا مُنْكرا يحدث عَن ثَابت، عَن أنس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أرسل أم سليم إِلَى امْرَأَة، فَقَالَ: شمي عوارضها وانظري إِلَى عرقوبيْها» .
قلت لَهُ: هَذَا غَرِيب، قَالَ: فَلذَلِك صَار مُنْكرا.
وأمّا ابْن القطّان فَقَالَ فِي كِتَابه «أَحْكَام النّظر» (من) طَرِيق عمَارَة: إِنَّه حَدِيث حسن عِنْد الْمُحدثين.
فَائِدَة:
مَا وَقع فِي رِوَايَة الإِمَام الرَّافِعِيّ لهَذَا الحَدِيث من تَسْمِيَة الْمَرْأَة: أم سليم، وَوَقع كَذَلِك فِي تَعْلِيق القَاضِي الْحُسَيْن، وَقد أسلفنا ذَلِك عَن رِوَايَة أَحْمد وَغَيره، وَفِي رِوَايَة أَنَّهَا «أم عَطِيَّة» وَهُوَ غَرِيب.
فَائِدَة أُخْرَى:
أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام بِالنّظرِ إِلَى عرقوبيها حَتَّى تكون ممتلئة السَّاقَيْن، وَأَرَادَ بالمعاطن: الْإِبِط والفم، وَمَا شابههما، قَالَه القَاضِي حُسَيْن.(7/509)
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَى فَاطِمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بعبدٍ قد وهبه لَهَا وَعَلَى فَاطِمَة ثوبٌ إذَا قَنّعت بِهِ رَأسهَا لم يبلغ رِجْلَيْهَا، وَإِذا غطّت بِهِ رِجْلَيْهَا لم يبلغ رَأسهَا، فَلَمَّا رَأَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (مَا تلقى) قَالَ: إِنَّه لَيْسَ عَلَيْك بَأْس؛ إِنَّمَا هُوَ أَبوك وغلامك» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن عِيسَى، ثَنَا أَبُو جَمِيع سَالم بن دِينَار، عَن ثَابت، عَن أنس «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَى فَاطِمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بعبدٍ ... » فَذكره بِهِ سَوَاء.
وَهَذَا إِسْنَاد جيد، وَسَالم وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَلينه أَبُو زرْعَة، وَقد تَابعه سَلام بن أبي الصَّهْبَاء، عَن ثَابت لَا جرم، قَالَ الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين فِي « (أَحْكَامه» : لَا أعلم بِإِسْنَادِهِ بَأْسا. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي) كِتَابه «أَحْكَام النّظر» : لَا يبالى بقول أبي زرْعَة - يَعْنِي: السالف - فَإِن الْعُدُول متفاوتون فِي الْحِفْظ بعد تَحْصِيل رُتْبَة الْعَدَالَة، والْحَدِيث صَحِيح.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
رُوِيَ «أَن وَفْدًا قدمُوا عَلَىَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَعَهُمْ غُلَام حسن الْوَجْه فأجلسه من وَرَائه، وَقَالَ: إِنَّمَا أخْشَى مَا أصَاب أخي دَاوُد» .(7/510)
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده: القَاضِي الْحُسَيْن وَالْإِمَام، وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّه ضَعِيف لَا أصل لَهُ. وَلم يعزه لأحد.
وَقد رَوَاهُ أَبُو حَفْص بن شاهين بِإِسْنَاد مَجْهُول إِلَى أبي أُسَامَة حَمَّاد بن (أُسَامَة) ، عَن مجَالد، عَن الشّعبِيّ قَالَ: «قدم وفْدُ عبد الْقَيْس عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَفِيهِمْ غُلَام أَمْرَد ظَاهر الْوَضَاءَة، فأجلسه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَرَاء ظَهره، وَقَالَ: كَانَ خَطِيئَة دَاوُد النّظر» .
قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه «أَحْكَام النّظر» : هَذَا حَدِيث ضَعِيف؛ فَإِن من دون أبي أُسَامَة لَا يعرف، ومجالد ضَعِيف، وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُرْسل.
قلت: وَأخرجه ابْن نَاصِر من هَذَا الطَّرِيق، قَالَ: «كَانَت خطية من مَضَى النّظر» بدل مَا سلف، وَعقد البيهقى فِي «سنَنه» بَابا فِيمَا جَاءَ فِي النّظر إِلَى الْأَمْرَد بالشهوة، ثمَّ اسْتدلَّ بقوله تَعَالَى (قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم) ثمَّ رَوَى من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يحدَّ الرجل النّظر إِلَى الْغُلَام الْأَمْرَد» وَفِي لفظ لَهُ: «لاَ تملُّوا أَعْيُنكم من أَبنَاء الأَغْنِيَاء؛ فَإِن لَهُم فتْنَة أَشد من فتْنَة العذارى» ثمَّ ضعفهما، وَقَالَ: وَفِيمَا ذكرنَا من الْآيَة غنية عَن غَيرهَا، وفتنة ظَاهِرَة لَا تحْتَاج إِلَى خبر يبينها.(7/511)
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا قَالَت: «كنت مَعَ مَيْمُونَة عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذْ أقبل ابْن أم مَكْتُوم، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: احتجبا مِنْهُ. فَقلت: يَا رَسُول الله، أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبصرنَا؟ ! قَالَ: أفعمياوان أَنْتُمَا، ألستما تبصرانه؟ !» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور: أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَصَححهُ ابْن حبَان أَيْضا، وَفِي سَنَده: نَبهَان المَخْزُومِي كاتبُ أم سَلمَة، وَهُوَ رَاوِي الحَدِيث عَنْهَا، رَوَى عَنهُ الزُّهْرِيّ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن مولَى أبي طَلْحَة، ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي أَبْوَاب الْمكَاتب: صاحبا «الصَّحِيح» لم يخرجَاهُ عَنهُ. فَكَأَنَّهُ لم تثبت عَدَالَته عِنْدهمَا إِذْ لم يخرج من الْجَهَالَة بِرِوَايَة عدل عَنهُ.
قلت: قد رَوَى عَنهُ اثْنَان كَمَا تقدم، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «التَّمْهِيد» حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس - يَعْنِي: الْآتِي - فِي بَاب النَّهْي عَن الْخطْبَة عَلَى الْخطْبَة، دَلِيل عَلَى جَوَاز نظر الْمَرْأَة للأعمى وَكَونهَا مَعَه(7/512)
فِي بَيت (وَإِن لم تكن ذَات محرم مِنْهُ؛ فَإِن فِيهِ أمرهَا بالابتدال إِلَى بَيت) أم مَكْتُوم. وَقَوله: «فَإِنَّهُ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابك عِنْده لم ير شَيْئا» فَفِيهِ مَا يرد حَدِيث نَبْهان هَذَا (قَالَ:) وَمن قَالَ بِحَدِيث فَاطِمَة احْتج بِصِحَّتِهِ، وَأَنه لَا مَطعن لأحدٍ فِيهِ، وَأَن نَبْهان لَيْسَ مِمَّن يحْتَج بحَديثه. وَزعم أَنه لم يرو إلاّ حديثين منكرين: أَحدهمَا (هَذَا) وَالْآخر عَن أم سَلمَة «فِي الْمكَاتب إِذا كَانَ عِنْده مَا يُؤَدِّي فِي كِتَابَته، احْتَجَبت مِنْهُ سيدته» .
قلت: وَقَالَ أَبُو دَاوُد: (هَذَا لِأَزْوَاج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خاصّةً، بِدَلِيل حَدِيث فَاطِمَة السالف) .
الحَدِيث الثَّالِث عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «النّظر فِي الْفرج يُورث الطمس» .
هَذَا الحَدِيث يُروى من طَرِيق ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة واهٍ، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس: قيل إِنَّه جيد، وَقيل إِنَّه مَوْضُوع.
وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَيْهِمَا فِي «تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب» فَرَاجعه مِنْهُ تَجِد فِيهِ نفائس.
وذكرته من طَرِيق ثَالِث أَيْضا، وَهُوَ مَوْضُوع وَلم أر فِيهِ لَفْظَة: «الطمس» وَإِنَّمَا فِيهِ: «الْعَمى» وَهُوَ هُوَ كَمَا فَسَّرَهُ الرَّافِعيُّ وَغَيْرُه بِهِ.
والعَشَى أَيْضا، كَذَا رَأَيْته فِي رِوَايَة ابْن طَاهِر فِي «التَّذْكِرَة» وَلَفظه: «إِذا جَامع الرجل زوجتهُ أَو خادمته فَلَا ينظر إِلَى فرجهَا؛ فَإِن ذَلِك يُورث العشى» .(7/513)
فَائِدَة: الطمس - بِفَتْح الْمِيم وسكونها -: العَمَى كَمَا سلف، قَالَ تَعَالَى (لطمسنا عَلَى أَعينهم) (وَأَصله) استئصال أثر الشَّيْء.
فَائِدَة ثَانِيَة: هَذَا الطمس قيل: فِي النَّاظر، وَقيل: فِي الْوَلَد الَّذِي يَأْتِي، وَقيل: فِي الْقلب. وَصَححهُ الحبلي (من الْفُقَهَاء) .
فَائِدَة ثَالِثَة: ذكر صَاحب «الْهِدَايَة» من الْحَنَفِيَّة أَن النّظر إِلَى الْعَوْرَة يُورث النسْيَان، قَالَ: لوُرُود ذَلِك فِي الْأَثر، وَهَذَا لم أَقف عَلَيْهِ؛ فليبحث عَنهُ.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا زوج أحدكُم عَبده جَارِيَته أَو أجيره؛ فَلَا ينظر إِلَى مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي شُرُوط الصَّلَاة؛ فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يُفْضِي الرجل إِلَى الرجل فِي الثَّوْب الْوَاحِد، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَة إِلَى الْمَرْأَة فِي الثَّوْب الْوَاحِد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وَزَاد فِي أَوله: «لَا ينظر الرجل إِلَى عَورَة الرجل، وَلَا الْمَرْأَة إِلَى عَورَة الْمَرْأَة» .(7/514)
وَله طَرِيق آخر من حَدِيث جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث أبي الزِّنَاد، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا بِمثلِهِ سَوَاء إِلَّا أَنه قَالَ: «لَا يُبَاشر» بَدل «لَا يُفْضِي» وَلم يذكر الزِّيَادَة الْمُتَقَدّمَة فِي أَوله.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» كَذَلِك، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
وَله طَرِيق ثَالِث من حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا فِي «مُسْنده» وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث إِسْرَائِيل، عَن سماك، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «لَا يُبَاشر الرجل الرجل، وَلَا الْمَرْأَة الْمَرْأَة» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن عِكْرِمَة بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ؛ فقد اجْتمعَا عَلَى صِحَة الحَدِيث. كَذَا قَالَ.
وَله طَرِيق رَابِع من حَدِيث (أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ) ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «لَا تباشر الْمَرْأَة الْمَرْأَة، وَلَا الرجل الرجل، إِلَّا الْوَالِد لوَلَده» .
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَن يضاجع الرجل الرجل وَلَا الْمَرْأَة الْمَرْأَة، وَإِن كَانَ كل واحدٍ فِي جَانب من(7/515)
الْفراش، وَلَعَلَّ مُرَاده مَا إِذا كَانَا مجردين فيطابق دلَالَة الحَدِيث؛ فَإِن الْإِفْضَاء إِنَّمَا يكون بِغَيْر حَائِل، فَلَو ورد الحَدِيث بِالنَّهْي عَن المضاجعة لنهض دَعْوَاهُ، وأنى لَهُ ذَلِك؟ !
الحَدِيث السَّادِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مُروا أَوْلَادكُم بِالصَّلَاةِ وهم أَبنَاء سبع، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وهم أَبنَاء عشر، وَفرقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب مَوَاقِيت الصَّلَاة وَاضحا، فَرَاجعه مِنْهُ، ثمَّ اعْلَم هُنَا أنَّ الرَّافعي ذكر هَذَا الحَدِيث دَلِيلا لوُجُوب التَّفْرِيق بَين الْأُم وَالْأَب، وَالْأُخْت وَالْأَخ فِي المضجع إِذا بلغا عشر سنينَ، وَلَا دلَالَة فِيه؛ فإنَّ مُقْتَضَى الحَديث التَّفْرِيق بَين الصِّبْيَان لاَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آَبائهم وأبنْائِهم؛ فَإن كَان أخَذَ ذلِكَ مِنْ أَنَّهُ إِذا وَجَبَ التَّفْرِيقُ بَين الصبْيَانِ وَجَبَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ آبائِهِم بِالْقِيَاسِ، وَالْفَرْقِ ظَاهر لما بَيْنَ الصِّبْيَانِ من الغرامة وعَدَمِ التَّحَفظِ، وَلَا سِيمَا فِي أول النشأة، وَقيل: كَمَال الْعقل، وَقد بَلغُوا السِّنَّ الَّذِي يُمْكِنُ فِيه الْبلُوغ، واستيعاب الشَّهْوَة، وَلَا رادع لَهَا.
الحَدِيث السَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الرجل يلقى أَخَاهُ أَو صديقه، أينحني لَهُ؟ قَالَ: لَا. قيل: أفيلتزمه ويقبّله؟ قَالَ: لَا. قيل: (أفيأخذ) بِيَدِهِ ويصافحه؟ قَالَ: نعم» .(7/516)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة أنس بن مَالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَلَفظه: «قَالَ رجل: يَا رَسُول الله، أحدُنا يلقى صديقه، ينحني لَهُ ويقبّله؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فيصافحه؟ قَالَ: نعم، إِن شَاءَ» .
قلت: وَفِي حسنه نظر؛ لِأَن فِي إِسْنَاده: حَنْظَلَة بن عبيد الله الْبَصْرِيّ رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَن أنس، وَلَيْسَ لَهُ فِي ت ق غير هَذَا الحَدِيث، وَقد ضَعَّفُوهُ ونسبوه إِلَى الِاخْتِلَاط، قَالَ أَحْمد: هُوَ ضَعِيف مُنكر الحَدِيث، يحدث بأعاجيب ومناكير، مِنْهَا: «قُلْنَا: أينحني بَعْضنَا لبَعض؟» وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد: تركته عَلَى [عمد] وَكَانَ قد اخْتَلَط، وَنسبه ابْن معِين وَابْن حبَان (إِلَى الِاخْتِلَاط أَيْضا، زَاد ابْن حبَان) وَأَنه اخْتَلَط حَدِيثه (الْقَدِيم بحَديثه) الْأَخير. لكنه خَالف فَذكره فِي «ثقاته» أَيْضا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ حَنْظَلَة هَذَا، وَكَانَ قد اخْتَلَط، تَركه يَحْيَى الْقطَّان لاختلاطه. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : حَنْظَلَة هَذَا يروي مَنَاكِير، وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا أنكر عَلَيْهِ وَكَانَ قد اخْتَلَط.(7/517)
تَنْبِيه: وَقع لبَعض (الأكابر) فِي الحَدِيث وهم غَرِيب، فَذكره فِيمَا وَضعه عَلَى (الْمِنْهَاج) بِلَفْظ: «أيصافحُ بَعْضنُا بَعْضًا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أينحني بَعْضنَا لبَعض؟ قَالَ: لَا» .
ثمَّ عزاهُ إِلَى «صَحِيح مُسلم» وَهُوَ فَاحش، ثمَّ نَاقض بعد ذَلِك بأسطر، فَقَالَ: وَفِي الحَدِيث: «يلتزمه ويقبّله؟ قَالَ: لَا» قَالَ: وَفِي إِسْنَاده مقَال. وَهَذَا عَجِيب؛ فَهَذَا طرف من الحَدِيث السالف الَّذِي عزاهُ أَولا إِلَى «صَحِيح مُسلم» فَتنبه لذَلِك!
وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثرا وَاحِدًا، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَنه قَالَ: «يسْتَحبّ للْمَرْأَة أَن تنظر إِلَى الرجل؛ فَإِنَّهُ يعجبها مِنْهُ مَا يُعجبهُ مِنْهَا» .
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ.(7/518)
بَاب النَّهْي عَن الْخطْبَة عَلَى الْخطْبَة وَالْأَمر بالنصح إِذا استنصح
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَة أَحَادِيثَ:
الحَدِيث الأول
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يخْطب (الرجل) عَلَى خطبةِ أَخِيه إِلَّا بِإِذْنِهِ» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه، وَاللَّفْظ لمُسلم إِلَّا أَنه قَالَ: «إِلَّا أَن يَأْذَن لَهُ» بدل «إِلَّا بِإِذْنِهِ» وَلَفظ البُخَارِيّ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يَبِيع (بَعضهم) عَلَى (بيع) بعض، وَلَا يخْطب الرجل عَلَى خطْبَة أَخِيه حَتَّى يتْرك الْخَاطِب قبله أَو يَأْذَن لَهُ الْخَاطِب» وَرَوَاهُ مَالك فِي «موطئِهِ» كَلَفْظِ مُسلم، إِلَّا أَنه قَالَ: «حَتَّى يتْرك الْخَاطِب قبله أَو يَأْذَن لَهُ» وبرواية البُخَارِيّ يتَبَيَّن لَك غلط ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «جَامع المسانيد» حَيْثُ ادَّعَى - بعد أَن أخرج حَدِيث ابْن عمر: «لَا يخْطب عَلَى خطْبَة أَخِيه إِلَّا أَن يَأْذَن لَهُ» - أَن خَ، م(7/519)
أخرجه إِلَّا أَن م انْفَرد بِذكر الْإِذْن؛ فقد علمت أَنَّهَا فِي خَ أَيْضا فَتنبه لذَلِك، وَلِلْحَدِيثِ طرق أُخْرَى: -
إِحْدَاهَا: من طَرِيق أبي هُرَيْرَة - رَفعه -: «لَا يخْطب أحدكُم عَلَى خطْبَة أَخِيه» أخرجه الشَّيْخَانِ، زَاد خَ: «حَتَّى يتْرك أَو ينْكح» (وَرَوَاهُ الشَّافِعِي بِلَفْظ: «نهَى أَن يخْطب الرجل عَلَى خطْبَة أَخِيه حَتَّى ينْكح) أَو يتْرك» .
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «لَا يستام الرجل عَلَى سوم أَخِيه حَتَّى (يَشْتَرِي) أَو يتْرك، وَلَا يخْطب عَلَى خطبَته حَتَّى ينْكح أَو يذر» .
ثَانِيهَا: من طَرِيق عقبَة بن عَامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُؤمن أَخُو الْمُؤمن؛ فَلَا يحل لِلْمُؤمنِ أَن يبْتَاع عَلَى بيع أَخِيه، وَلَا يخْطب عَلَى خطْبَة أَخِيه حَتَّى يذر» رَوَاهُ مُسلم.
ثَالِثهَا: من طَرِيق الْحسن عَن سَمُرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يخْطب الرجل عَلَى خطْبَة أَخِيه، أَو يبْتَاع عَلَى بَيْعه) . رَوَاهُ أَحْمد فِي « (مُسْنده» ) وَالْحسن عَن سَمُرَة قد علم مَا فِيهِ.(7/520)
الحَدِيث الثَّانِي
كَانَ أَحَق بالتقديم، لَكنا أخرناه سَهوا، قَالَ الرَّافِعِيّ: قَوْله - يَعْنِي: الْغَزالِيّ -: «الْخطْبَة مُسْتَحبَّة» يُمكن أَن يحْتَج لَهُ بِفعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاس، قد ثبتَتْ خطبَته عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي (غير) مَا مَوضِع مِنْهَا خطبَته أم سَلمَة، وإرسالها إِلَيْهِ تعتذر، وَمِنْهَا إرْسَاله إِلَى النَّجَاشِيّ بخطبته أم حَبِيبَة وتزويجها، وَمِنْهَا خطبَته عَائِشَة فِي صَحِيح خَ من حَدِيث مَرْوَان، وَقد سلف قَرِيبا من حَدِيث فَاطِمَة: «إِذا حللت فآذنيني» وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث.
الحَدِيث الثَّالِث
حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس وَذَلِكَ «أَن زَوجهَا طَلقهَا فَبت طَلاقهَا، فَأمرهَا عَلَيْهِ السَّلَام أَن تَعْتَد فِي بَيت ابْن أم مَكْتُوم وَقَالَ لَهَا: إِذا حللت فآذنيني. فَلَمَّا أحلّت أخْبرته أَن مُعَاوِيَة وَأَبا جَهْمٍ خطباها، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أما مُعَاوِيَة فصعلوك لَا مَال لَهُ، وَأما أَبُو جهم فَلَا يضع عَصَاهُ عَلَى عَاتِقه، انكحي أُسَامَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» مطولا، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل مُشْتَمل عَلَى أَحْكَام عديدة، وَقد بسطتها فِي «الْإِعْلَام بفوائد عُمْدَة الْأَحْكَام» فَرَاجعهَا مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات، ثمَّ اعْلَم هُنَا أَن الرَّافِعِيّ ذكر هَذَا الحَدِيث دَلِيلا عَلَى أَنه إِذا لم يدر أَن الْخَاطِب أُجِيب أَو(7/521)
رُدَّ أَن الْخطْبَة تجوز، ثمَّ قَالَ: وَوجه الِاسْتِدْلَال أَنه خطبهَا لأسامة بعد خطْبَة غَيره لما لم يعلم أَنَّهَا أجابت أم ردَّتْ.
وَلَك أَن تَقول: فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال نظر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن قَوْله: «انكحي أُسَامَة» أَمر لَهَا بذلك لَا خطْبَة.
ثَانِيهَا: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام علم أَنه لَا مصلحَة لَهَا فِي إِجَابَة من سمت أَنه خطبهَا، فأرشدها إِلَى الْمصلحَة لَهَا؛ لما جبل عَلَيْهِ السَّلَام من النصح لأمته، وَلَا يلْزم من (ذَلِك) الْمُدَّعِي، وَهُوَ جَوَاز الْخطْبَة فِي الْحَال الْمَذْكُور مُطلقًا؛ بل يلْزم جَوَاز النصح فِي مثل هَذِه الْحَالة.
تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: حَكَى الرَّافِعِيّ خلافًا فِي أَن مُعَاوِيَة هَذَا الْخَاطِب، هَل هُوَ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان أَو غَيره، ثمَّ قَالَ: وَالْمَشْهُور الأول.
قلت: لَا شكّ فِيهِ عندى؛ فَإِن فِي «صَحِيح مُسلم» التَّصْرِيح بِهِ؛ وَلَعَلَّ من قَالَ إِنَّه غَيره اسْتدلَّ بقوله: «أما مُعَاوِيَة فصعلوك» وَهَذِه حَالَته إِذْ ذَاك ثمَّ صَار بعد ملكا.
الثَّانِي: ذكر أَيْضا - أَعنِي: الرَّافِعِيّ - خلافًا فِي مَعْنَى قَوْله - عَن أبي جهم -: «لَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه» وَيرْفَع الْخلاف رِوَايَة مُسلم: «وَأَبُو جهم فضراب للنِّسَاء» .
الحَدِيث الرَّابِع(7/522)
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (إِذا) استنصح أحدكُم أَخَاهُ فلينصحه» .
هَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» فِي الْبيُوع تَعْلِيقا بِصِيغَة جزم، فَقَالَ: وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا استنصح أحدكُم أَخَاهُ فلينصح لَهُ» وأَسنده الأَئِمَة من طرق:
أَحدهَا: من طَرِيق جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «دعوا النَّاس يرْزق الله بَعضهم من بعض؛ فَإِذا استنصح أحدكُم فلينصح» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْبيُوع من حَدِيث أبي حَمْزَة السكرِي، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا بِهِ.
ثَانِيهَا: من طَرِيق حَكِيم (بن أبي) يزِيد، عَن أَبِيه، عَمَّن سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «دعوا النَّاس فليصب بَعضهم من بعض، وَإِذا استنصح رجل أَخَاهُ فلينصح لَهُ» رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «كِتَابه» من حَدِيث جرير، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن حَكِيم بِهِ، وَهُوَ حَدِيث فَرد غَرِيب، مَدَاره عَلَى عَطاء، وَلَيْسَ لأبي يزِيد سواهُ، وَجَرِير رَوَى عَن عَطاء بعد الِاخْتِلَاط كَمَا تقدم فِي الْأَحْدَاث، وَرَوَاهُ عبد بن حميد فِي «مُسْنده» وَالْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «كناه» من حَدِيث جرير، عَن عَطاء أَيْضا، إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «دعوا النَّاس يُصِيب بَعضهم من بعض؛ فَإِذا استنصح أحدكُم أَخَاهُ فلينصح لَهُ» وَرَوَاهُ(7/523)
الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ ثمَّ اعْلَم أَن جمَاعَة رَوَوْهُ عَن عَطاء (أحدهم: أَبُو عوَانَة، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عَفَّان عَنهُ، عَن عَطاء) عَن حَكِيم بن أبي يزِيد عَن أَبِيه عَمَّن سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول ... فَذكره بِلَفْظ الْحَاكِم الأول. قَالَ يَحْيَى بن معِين: سمع أَبُو عوَانَة من عَطاء فِي الْحَالين، وَلَا يحْتَج بِهِ.
ثانيهم: حَمَّاد بن زيد، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث خَالِد بن خِدَاش عَنهُ، عَن عَطاء، عَن حَكِيم (بن) أبي يزِيد (عَن أَبِيه) رَفعه: «دعوا النَّاس يُصيب بَعضهم من بعض، وَإِذا استنصحوا فانصحوهم» وخَالِد هَذَا: قَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيره: صَدُوق. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ والسَّاجي: ضَعِيف. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: تفرد عَن حَمَّاد بِأَحَادِيث. وَقد تقدم فِي الْأَحْدَاث الِاخْتِلَاف فِي سَماع حَمَّاد (من) عَطاء؛ هَل هُوَ قبل الِاخْتِلَاط أم بعده؟
ثالثهم: حَمَّاد بن سَلمَة، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي «أكبر معاجمه»(7/524)
من حَدِيث عَلّي بن الْجَعْد عَنهُ بِمثلِهِ، إِلَّا أَنه قَالَ: «يرْزق» بدل «يُصِيب» وَقَالَ: «وَإِذا استنصح أحدكُم أَخَاهُ فلينصحه» وَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي «غنية الملتمس فِي إِيضَاح الملتبس» من طرق عَن حَمَّاد، وَلم يتَبَيَّن أهوَ ابْن زيد أَو ابْن سلمةَ.
وَأخرجه من حَدِيث جُنَادَة عَن حَمَّاد عَن عَطاء بِهِ بِلَفْظ «دعوا النَّاس يعِيش بَعضهم من بعض؛ فَإِذا استنصح أحدكُم أَخَاهُ فلينصح لَهُ» وَمن حَدِيث يَحْيَى الْحمانِي عَن حَمَّاد بِهِ، وَلَفظه كَلَفْظِ الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَمن حَدِيث مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، عَن حَمَّاد بِهِ، وَقَالَ: «فلينصح لَهُ» بدل «فلينصحه» .
رابعهم: إِسْمَاعِيل ابْن علية، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث عَنهُ بِهِ، وَلَفظه: «دعوا النَّاس فليرزق (الله) بَعضهم من بعض، وَإِذا استنصح الرجل الرجل فلينصح لَهُ» .
خامسهم: همام بن يَحْيَى، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِيهِ بِهِ، وَلَفظه: «دعوا النَّاس يرْزق الله بَعضهم من بعض، وَإِذا اسْتَشَارَ أحدكُم أَخَاهُ فلينصحه» وَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي «غنية الملتمس» من هَذِه الطَّرِيق بِلَفْظ: «دعوا النَّاس يُصِيب (بَعضهم) من بعض» وَالْبَاقِي بِمثلِهِ.
سادسهم: مَنْصُور بن أبي الْأسود، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيثه عَنهُ (بِهِ) وَلَفظه: «دعوا النَّاس فليصب بَعضهم من بعض، وَإِذا(7/525)
استنصح الرجل أَخَاهُ فلينصح لَهُ» .
سابعهم: روح بن الْقَاسِم، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيثه عَنهُ بِنَحْوِهِ.
ثامنهم: عَلّي بن عَاصِم رَوَاهُ الْخَطِيب فِي الْكتاب السالف ذكره، من حَدِيثه عَنهُ بِهِ بِلَفْظ طَرِيق (همام) سَوَاء.
تاسعهم: وَالِد عبد الصَّمد، قَالَ الإِمَام أَحْمد: ثَنَا عبد الصَّمد، ثَنَا أبي، ثَنَا عَطاء بن السَّائِب، قَالَ: حَدثنِي حَكِيم بن أبي يزِيد، عَن أَبِيه قَالَ: حَدثنِي أبي أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «دعوا النَّاس يُصِيب بَعضهم من بعض ... » الحَدِيث، فَهَؤُلَاءِ عشرَة أنفس رَوَوْهُ عَنهُ، وَرَوَاهُ - أَعنِي: عَطاء - (مرّة) عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: « (دعوا النَّاس) يُصِيب بَعضهم من بعض، وَإِذا استنصحك أَخُوك فانصح لَهُ» .
ذكره أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة مَالك، وَقَالَ: هُوَ أَبُو السَّائِب الثَّقَفِيّ جد عَطاء.
قلت: وَهَذَا طَرِيق غَرِيب.
الطَّرِيق الثَّالِث: من أصل طرق الحَدِيث من حَدِيث ميسرَة، وَهُوَ أَبُو(7/526)
طيبَة الْحجام «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل السُّوق فَجَلَسَ فِي البزازين فَجعل يعرض رجلا مَتَاعا لَهُ، فَقَالَ رجل للْمُشْتَرِي: هَذَا لَا يساوى بِمَا يسام. قَالَ: فَأخذ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بتلابيبه فَقَالَ: دع النَّاس فليصب بَعضهم من بعض، وَإِذا اسْتَشَارَ أَخَاهُ فلينصح أَخَاهُ!» ذكره أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ أَيْضا فِي تَرْجَمَة ميسرَة هَذَا.
الطَّرِيق الرَّابِع: وَهُوَ أَحَق بالتقديم مَا أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «حق الْمُؤمن عَلى (الْمُؤمن) سِتَّة ... » فَذكرهَا، وفيهَا: «وَإِذا استنصحك فانصح لَهُ» .
وَسَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي أثْنَاء كتاب السّير، حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ - إِن شَاءَ الله.
ويعضد مَا سلف من الطّرق أَيْضا حَدِيث جرير بن عبد الله البَجلِيّ قَالَ: «بَايَعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى السّمع وَالطَّاعَة - فلقنني: فِيمَا استطعتَ - والنصح لكل مُسلم» أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَحَدِيث تَمِيم الدَّارِيّ - رَفعه -: «الدَّين النَّصِيحَة» رَوَاهُ مُسلم وَهُوَ من أَفْرَاده؛ بل لَيْسَ لَهُ فِي «صَحِيحه» عَنهُ سواهُ.(7/527)
بَاب اسْتِحْبَاب الْخطْبَة (فِي) النِّكَاح وَمَا يُدعَى بِهِ للمتزوج
ذكر فِيهِ سِتَّة أَحَادِيث:
الحَدِيث الأول
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كل كَلَام لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد فَهُوَ أَجْذم» .
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ فِي عمل يَوْم وَلَيْلَة، وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو عوَانَة الإِسْفِرَايِينِيّ فِي أول «صَحِيحه» الْمخْرج عَلَى «مُسلم» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صحيحيه» وَرُوِيَ مُرْسلا وموصولاً، وَرِوَايَة الْمَوْصُول إسنادها جيد عَلَى شَرط مُسلم، وَادَّعَى النَّسَائِيّ أَن رِوَايَة الْإِرْسَال أولَى بِالصَّوَابِ، وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ، فَقَالَ: يرويهِ الْأَوْزَاعِيّ، وَاخْتلف(7/528)
عَنهُ؛ فَرَوَاهُ عبيد الله بن مُوسَى وَابْن أبي الْعشْرين والوليد بن مُسلم، وَابْن الْمُبَارك، وَأَبُو الْمُغيرَة، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن قُرَّة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة (عَن) أَبَى هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن كثير، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن الزُّهْرِيّ كَذَلِك لم يذكر قُرَّة، وَرَوَاهُ وَكِيع عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن قُرَّة، عَن الزُّهْرِيّ مُرْسلا، وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن سعيد فَقَالَ لَهُ الوصيف، عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن كَعْب بن مَالك، عَن أَبِيه. قَالَ: وَالصَّحِيح عَن الزُّهْرِيّ مُرْسلا.
قلت: وَلمن رجح الْوَصْل أَن يَقُول: هِيَ زِيَادَة من ثِقَة قبلت، وقرة من رجال مُسلم وَإِن تكلم فِيهِ، وَقد توبع عَلَيْهِ، فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث الْوَلِيد، عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز، عَن الزُّهْرِيّ مَوْصُولا كَرِوَايَة قُرَّة، وَهِي مُتَابعَة جَيِّدَة، وَله شَاهد أَيْضا من حَدِيث كَعْب مَرْفُوعا: «كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد أقطع» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» لَا جرم قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: رجال هَذَا الحَدِيث رجال «الصَّحِيحَيْنِ» جَمِيعًا سُوَى قُرَّة؛ فَإِنَّهُ مِمَّن انْفَرد مُسلم عَن البُخَارِيّ بالتخريج لَهُ، ثمَّ حكم عَلَى الحَدِيث بالحُسن وَلَا يلْتَفت إِلَى تَضْعِيف صَاحب «الشَّامِل» لَهُ حَيْثُ قَالَ: رَوَاهُ الْوَلِيد، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن قُرَّة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ ضَعِيف. وَقد قيل: أَنه مَوْقُوف عَلَى أبيِ هُرَيْرَة، هَذَا كَلَامه وَلم (يبد(7/529)
علته، وَلَعَلَّه) أعله بِتَضْعِيف قُرَّةَ أَو بِاْلَوقْفِ، وقَد عَلمت أَن الصَّوَاب حسنه، وَأَن أَبَا عوَانَة وَابْن حبَان صَحَّحَاهُ، ثمَّ هَذَا الحَدِيث ورد بِأَلْفَاظ ذكر الرَّافِعِيّ مِنْهَا مَا سلف ثمَّ قَالَ وَيروَى: «كل أمرٍ ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِحَمْد الله فَهُوَ أَجْذم» وَلَفظ أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ: «كل كَلَام لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد فَهُوَ أَجْذم» وَلَفظ ابْن مَاجَه: كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد فَهُوَ أقطع» وَهُوَ لفظ ابْن حبَان، وَفِي لفظ: «كل كَلَام لَا يبْدَأ فِيهِ بِذكر الله فَهُوَ أَبتر» وَفِي لفظ: «كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أَجْذم» وَفِي لفظ: «لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أقطع» رَوَى هَذِه الْأَلْفَاظ الْحَافِظ عبد الْقَادِر الرهاوي «فِي أربعينه» .
فَائِدَة: مَعْنَى «ذِي بَال» : حَالَ يهتم بِهِ، و «أقطع» و «أَجْذم» : قَلِيل الْبركَة.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن عبد الله بن مَسْعُود مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا قَالَ: «إِذا أَرَادَ أحدكُم أَن يخْطب لحَاجَة من النِّكَاح أَو غَيره فَلْيقل: الْحَمد لله، نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور؟ أَنْفُسنَا وسيئات أَعمالنَا، من يهده الله فَلَا مضل (لَهُ) وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَات: (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حق تُقَاته وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ) ، (وَاتَّقوا الله(7/530)
الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام إِن الله كَانَ عَلَيْكُم رقيبًا) ، (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدًا يصلح لكم أَعمالكُم وَيغْفر لكم ذنوبكم وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزًا عَظِيما» ) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه (مَرْفُوعا) أَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لِابْنِ مَاجَه وَالْحَاكِم إِلَّا (أَن) ابْن مَاجَه قَالَ: «وَمن سيئات أَعمالنَا» بِإِثْبَات «من» وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْحَاكِم «سيئات أَعمالنَا» وَفِي أول رِوَايَة ابْن مَاجَه: «إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُوتي جَوامع الْخَيْر وخواتيمه - أَو قَالَ: فواتح الْخَيْر - فَعلمنَا خطْبَة الصَّلَاة وخطبة الْحَاجة. فَذكر خطْبَة الصَّلَاة، ثمَّ خطْبَة الْحَاجة» وَفِي أول رِوَايَة الْحَاكِم: «علمنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خطْبَة الْحَاجة ... » فَذكره، وَلَفظ أبي دَاوُد كالحاكم إِلَّا أَنه لم يذكر «نحمد» وَلَفظ النَّسَائِيّ: «علمنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - التَّشَهُّد فِي الْحَاجة: إِن الْحَمد لله، نستعينه ... » إِلَى آخِره، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ مثله، وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ [ثَنَا شُعْبَة] ثَنَا أَبُو إِسْحَاق قَالَ: سَمِعت أَبَا عُبَيْدَة بن عبد الله يحدث عَن أَبِيه، قَالَ: «علمنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خطْبَة(7/531)
الْحَاجة: الْحَمد لله - أَو إِن الْحَمد لله - نستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا، من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. ثمَّ يقْرَأ الثَّلَاث آيَات: « (يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم من نَفْس واحدةَ وخلقَ مِنْهَا زَوجهَا) ، (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حق تُقَاته) » الْآيَة، ثمَّ يقْرَأ: « (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدًا) » إِلَى آخر الْآيَة. ثمَّ تَتَكَلَّم بحاجتك. قَالَ شُعْبَة: قلت لأبي إِسْحَاق: هَذِه فِي خطْبَة النِّكَاح أَو فِي غَيرهَا؟ قَالَ: فِي كل حَاجَة» (وَهُوَ حَدِيث) صَحِيح لَوْلَا الِانْقِطَاع الذى فِيهِ بِسَبَب عدم سَماع أبي عُبَيْدَة من أَبِيه.
وَقد رَوَاهُ شُعْبَة مرّة، عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ: وَأرَاهُ عَن أبي الْأَحْوَص، عَن عبد الله مَرْفُوعا، رَوَاهُ الْحَاكِم كَذَلِك، وَرَوَاهُ إِسْرَائِيل بن يُونُس، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي الْأَحْوَص وَأبي عُبَيْدَة أَن أَبَا عبد الله قَالَ: «علمنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره وَرَوَاهُ الثَّوْريّ، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن أَبِيه (مَرْفُوعا) وَرَوَاهُ الْحَاكِم من طَرِيق لَيْسَ فِيهِ أَبَا عُبَيْدَة أصلا؛ رَوَاهُ من حَدِيث قَتَادَة، عَن عبد ربه، عَن أبي عِيَاض، عَن ابْن مَسْعُود «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا تشهد قَالَ: الْحَمد لله، نستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا، من يهد الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، أرْسلهُ بِالْحَقِّ(7/532)
بشيرًا وَنَذِيرا بَين يَدي السَّاعَة، من يطع الله (وَرَسُوله) فقد رشد، وَمن يعصهما؛ فَإِنَّهُ لَا يضر إِلَّا نَفسه وَلَا يضر الله شَيْئا» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث وَاصل الأحدب عَن شَقِيق، عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّد وَالْخطْبَة كَمَا يعلمنَا السُّورَة من الْقُرْآن. فَذكر التَّشَهُّد وَالْخطْبَة: الْحَمد لله، نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام» فَذكره إِلَى قَوْله (رقيبًا) «يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدًا (فَذكره إِلَى قَوْله فوزًا عَظِيما) » .
قَالَ التِّرْمِذِيّ - بعد أَن رَوَاهُ كَمَا - (مر) هَذَا حَدِيث حسن، رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله مَرْفُوعا [وَرَوَاهُ شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي عبيدةٍ، عَن عبد الله مَرْفُوعا] وكلا الْحَدِيثين صَحِيح؛ لِأَن إِسْرَائِيل جَمعهمَا فَقَالَ: عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي الْأَحْوَص وَأبي عُبَيْدَة عَن عبد الله مَرْفُوعا، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد بعد قَوْله: «وَرَسُوله، أرْسلهُ بِالْحَقِّ بشيرًا وَنَذِيرا بَين يَدي السَّاعَة، من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد، وَمن يعصهما فَإِنَّهُ لَا يضر إِلَّا نَفسه (و) لَا يضر الله شَيْئا» وَفِي إسنادهما اثْنَان:
أَحدهمَا: عمرَان بن دَاوُد - بالراء فِي آخِره - الْقطَّان، وَفِيه(7/533)
مقَال، تكلم فِيهِ غير وَاحِد، وَوَثَّقَهُ عَفَّان بن مُسلم وَاسْتشْهدَ بِهِ خَ وَأحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ يَحْيَى الْقطَّان.
ثَانِيهمَا: عبد ربه بن يزِيد قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلَا يعرف رَوَى عَنهُ غير قَتَادَة.
وَأما رِوَايَة الْمَوْقُوف فأخرجها أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث أبي عُبَيْدَة، عَن أَبِيه، وَقد علمت مَا فِي ذَلِك.
الحَدِيث الثَّالِث وَالرَّابِع
ذكر الرَّافِعِيّ أَنه يسْتَحبّ فِي آخر الْخطْبَة ذكر الْحَدِيثين السالفين فِي أول النِّكَاح، وهما حَدِيث «تناكحوا تكثروا» وَحَدِيث «النِّكَاح سنتي» وَقد سلف الْكَلَام عَلَيْهِمَا هُنَاكَ.
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول للْإنْسَان إِذا تزوج: بَارك الله لَك وَبَارك عَلَيْك، وَجمع بَيْنكُمَا فِي خير» هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد والدارمي فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه فِي(7/534)
«سُنَنهمْ» وَالنَّسَائِيّ فِي عمل يَوْم وَلَيْلَة، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا رفأ الْإِنْسَان - إِذا تزوج - قَالَ: بَارك الله ... » الحَدِيث، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَجزم بِهَذِهِ الْمقَالة - أَعنِي: كَونه عَلَى شَرط مُسلم - صَاحب «الاقتراح» وَفِي «مُسْند الدَّارمِيّ» من حَدِيث يُونُس بن عبيد، عَن الْحسن قَالَ: سمعته يَقُول: «قدم عقيل بن أَبَى طَالب الْبَصْرَة فَتزَوج امْرَأَة من بني جشم، فَقَالُوا لَهُ: بالرفاء والبنين، فَقَالَ: لَا تَقولُوا ذَلِك؛ إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَهَانَا عَن ذَلِك وأمرنا أَن نقُول: بَارك الله لَك وَبَارك عَلَيْك» .
فَائِدَة: مَعْنَى رَفَأ - بِفَتْح الرَّاء وَالْفَاء -: دَعَاهُ وهنأه، والرفاء - بِالْمدِّ - هُوَ الدُّعَاء بِالْإِنْفَاقِ وَحسن الِاجْتِمَاع، يُقَال للمتزوج: بالرفاء والبنين، وَأَصله من رف الثَّوْب، وَهُوَ إِصْلَاحه.(7/535)
الحَدِيث السَّادِس
عَن جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: تزوجت؟ قلت: نعم، قَالَ: بَارك الله لَك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم.(7/536)
بَاب أَرْكَان النِّكَاح
ذكر فِيهِ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فثمانية:
الحَدِيث الأول
«أَن الْأَعرَابِي الَّذِي خطب الواهبة قَالَ للنَّبِي (: زوجنيها. فَقَالَ: زوجتكها. وَلم ينْقل أَنه قَالَ بعد ذَلِك: قبلت» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحهمَا» من حَدِيث سهل بن سعد السَّاعِدِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، جِئْت أهب لَك نَفسِي. قَالَ: فَنظر إِلَيْهَا رَسُول (فَصَعدَ النّظر وَصَوَّبَهُ، ثمَّ طأطأ رَأسه، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَة أَنه لم يقْض فِيهَا شَيْئا جَلَست، فَقَامَ رجل من أَصْحَابه فَقَالَ: يَا رَسُول الله، زوجنيها إِن لم يكن لَك بهَا حَاجَة ... » ثمَّ ساقا الحَدِيث إِلَى أَن قَالَا: «اذْهَبْ؛ فقد ملكتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن» وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «فقد زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن» وَلِلْحَدِيثِ أَلْفَاظ أوضحتها فِي «شرحي للعمدة» مَعَ حِكَايَة الْخلاف فِي اسْم هَذِه الواهبة، وَأشهر الْأَقْوَال فِيهَا أَنَّهَا أم شريك، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : مَا ملخصه أَن هَذَا(7/537)
الحَدِيث رُوِيَ بِأَلْفَاظ: «زوجتكها» «أنكحتكها» «ملكتكها» «أملكتكها» وَقد تكلمنا عَلَى هَذِه الْأَلْفَاظ فِي الشَّرْح الْمَذْكُور بِمَا تقر بِهِ عَيْنك (ويشرح بِهِ صدرك) .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول (نهَى عَن نِكَاح الشّغَار، والشغار: أَن يُزَوّج الرجل ابْنَته عَلَى أَن يُزَوجهُ الآخر ابْنَته وَلَيْسَ بَينهمَا صدَاق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه، وَفِي رِوَايَة لَهما من حَدِيث عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الشّغَار، قلت لنافع: مَا الشّغَار؟ قَالَ: أَن ينْكح (ابْنة الرجل وينكحه) ابْنَته بِغَيْر صدَاق، وينكح أُخْت الرجل وينكحه أُخْته بِغَيْر صدَاق» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى: «وبضع كل (وَاحِد) مِنْهُمَا مهر الْأُخْرَى.
قلت: غَرِيبَة، قَالَ: وَورد فِي بعض الرِّوَايَات «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة(7/538)
وَالسَّلَام نهَى عَن نِكَاح الشّغَار» وَهُوَ أَن يُزَوّج ابْنَته عَلَى أَن يُزَوجهُ صَاحبه ابْنَته (أَي) وَلم يذكر فِيهِ كَون بضع كل وَاحِدَة صَدَاقا لِلْأُخْرَى، وَهَذِه الرِّوَايَة أخرجهَا مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضي الله عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الشّغَار، والشغار: أَن يَقُول الرجل للرجل زَوجنِي ابْنَتك وأزوجك ابْنَتي، وزوجني أختك وأزوجك أُخْتِي» .
فَائِدَة: النَّهْي عَن الشّغَار أخرجه أَيْضا مُسلم من حَدِيث جَابر، وَأحمد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ، وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أنس، وَرَوَاهُ غير ذَلِك من الصَّحَابَة أَيْضا.
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ: لما ذكر تَفْسِير الشّغَار فِي الحَدِيث، نقل عَن(7/539)
الْأَئِمَّة أَن هَذَا التَّفْسِير يجوز أَن يكون مَرْفُوعا، وَيجوز أَن يكون من عِنْد ابْن عمر.
قلت: قد أسلفناه من كَلَام نَافِع.
وَقَالَ الْخَطِيب فِي كِتَابه «المدرج» : تَفْسِير الشّغَار لَيْسَ من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَإِنَّمَا هُوَ قَول مَالك، وصل بِالْمَتْنِ الْمَرْفُوع، وَقد بَين ذَلِك القعْنبِي وَغَيره، ففصلوا كَلَامه من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ ذكر كَلَام عبيد الله السالف عَن نَافِع.
وَحَكَى الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: التَّفْسِير فِي حَدِيث ابْن عمر لَا أَدْرِي هَل هُوَ من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَو من ابْن عمر، أَو من نَافِع، أَو من مَالك (ثمَّ) ذكر الْبَيْهَقِيّ مَا يَنْفِيه عَن مَالك ويثبته عَن نَافِع.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن نِكَاح الْمُتْعَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحهمَا» من هَذَا الْوَجْه، وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَانْفَرَدَ مُسلم بِإِخْرَاجِهِ من حَدِيث سَلمَة وسبرة بن معبد، وَأخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث(7/540)
عمر، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْن حبَان من حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
فَائِدَة: وَقع فِي وَقت تَحْرِيمهَا اضْطِرَاب، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» تَحْرِيمهَا يَوْم خَيْبَر، وَفِي مُسلم تَحْرِيمهَا عَام الْفَتْح، وَفِي غَيرهمَا يَوْم تَبُوك وغلطوا هَذِه الرِّوَايَة، وَقَالَ أَبُو عبيد: عَام الْعصبَة سنة سبع. وَقَالَ أَيْضا الْمَقْدِسِي: أَكثر الرِّوَايَات عَلَى أَنَّهَا عَام الْفَتْح. وَترْجم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» تَحْرِيمهَا يَوْم (خَيْبَر بعد التَّرَخُّص، ثمَّ أَبَاحَهَا [لَهُم] ثَلَاثَة أَيَّام يَوْم الْفَتْح بعد نَهْيه عَنْهَا يَوْم خَيْبَر) ثمَّ نهَى عَنْهَا مرّة ثَانِيَة، ثمَّ حرمهَا (يَوْم الْفَتْح) تَحْرِيم الْأَبَد، ثمَّ رَوَى بأسانيده كل ذَلِك، وَلَفظه فِي آخرهَا فِي حَدِيث الرّبيع بن سُبْرَة الْجُهَنِيّ عَن أَبِيه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن الْمُتْعَة وَقَالَ: إِنَّهَا حرَام من يومكم هَذَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» ثمَّ رَوَى من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع «رخص رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام أَوْطَاس فِي الْمُتْعَة ثَلَاثًا، ثمَّ (نَهَانَا) عَنْهَا» قَالَ ابْن حبَان: وعام أَوْطَاس وعام الْفَتْح وَاحِد؛ فَلَا مضادة بَينهمَا. والرافعي أجمل القَوْل فِي ذَلِك فَقَالَ: كَانَ ذَلِك جَائِزا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام ثمَّ نسخ.(7/541)
الحَدِيث الرَّابِع
عَن عمرَان بن حُصَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ من هَذَا الْوَجْه أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» و «الْمعرفَة» من حَدِيث عبد الله بن مُحَرر - وَهُوَ مَتْرُوك - عَن قَتَادَة، عَن الْحسن عَنهُ مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء إِلَى قَوْله: «وشاهدي عدل» (فِي «الْمعرفَة» من طَرِيق بَقِيَّة عَن عبد الله [بن مُحَرر] قَالَ: وَهُوَ ثَابت عَن ابْن عَبَّاس وعدة من الصَّحَابَة) .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيّ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي بِإِسْقَاط عمرَان، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا - فَإِن أَكثر أهل الْعلم يَقُولُونَ بِهِ.
قلت: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عمرَان عَن(7/542)
ابْن مَسْعُود أَيْضا، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلَيْسَ بِشَيْء. وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذكر هَذَا الحَدِيث دَلِيلا عَلَى اعْتِبَار الشُّهُود فِي النِّكَاح، ويغني عَنهُ حَدِيث عَائِشَة السالف فِي أثْنَاء الخصائص.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَحَدِيث أبي مُوسَى فِيهِ اخْتِلَاف رَوَاهُ إِسْرَائِيل وَشريك بن عبد الله وَأَبُو عوَانَة وَزُهَيْر بن مُعَاوِيَة وَقيس بن الرّبيع، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ أَسْبَاط بن مُحَمَّد وَزيد بن حباب، عَن يُونُس بن أبي أسْحَاق، عَن أبي إسحاق، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى مَرْفُوعا (وَرَوَاهُ أَبُو عبيد الْحداد، عَن يُونُس، عَن أبي بردة) [عَن أبي مُوسَى] (مَرْفُوعا) نَحوه. وَلم يذكر فِيهِ عَن أبي (إِسْحَاق) قَالَ: وَقد رُوِيَ(7/543)
عَن يُونُس (عَن) أبي بردة مَرْفُوعا أَيْضا. قَالَ: وَرَوَى شُعْبَة، وَالثَّوْري، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي بردة مَرْفُوعا «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» .
قلت: يجوز أَن يكون أرْسلهُ مرّة؛ لكَونه استفتاء، وأسنده أُخْرَى لكَونه تحديثًا. قَالَ: وَقد ذكر بعض أَصْحَاب سُفْيَان عَن سُفْيَان (عَن أبي مُوسَى - وَلَا يَصح - قَالَ: (وَرِوَايَة) هَؤُلَاءِ الَّذين رَوَوْهُ عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة) عَن أبي مُوسَى مَرْفُوعا «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» عِنْدِي أصح؛ لِأَن سماعهم من أبي إِسْحَاق فِي أَوْقَات مُخْتَلفَة، وَإِن كَانَ شُعْبَة وَالثَّوْري أحفظ وَأثبت من جَمِيع هَؤُلَاءِ الَّذين رووا عَن أبي إسحاق؛ فَإِن رِوَايَة هَؤُلَاءِ عِنْدِي أشبه؛ لِأَن شُعْبَة وَالثَّوْري سمعا هَذَا الحَدِيث فِي مجْلِس وَاحِد من أبي إِسْحَاق. قَالَ: وَمِمَّا يدل عَلَى ذَلِك: ثَنَا مَحْمُود بن غيلَان، ثَنَا (أَبُو) دَاوُد، أبنا شُعْبَة قَالَ: سَمِعت سُفْيَان الثَّوْريّ يسْأَل أَبَا إِسْحَاق: أسمعت أَبَا بردة يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» ؟ قَالَ: نعم. فَدلَّ فِي هَذَا الحَدِيث عَلَى أَن سَماع شُعْبَة وَالثَّوْري هَذَا الحَدِيث فِي وَقت وَاحِد، وَإِسْرَائِيل هُوَ أثبت فِي أبي إِسْحَاق (سَمِعت مُحَمَّد بن الْمثنى يَقُول: سَمِعت ابْن مهْدي يَقُول: مَا فَاتَنِي من حَدِيث الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق) الَّذِي فَاتَنِي إِلَّا لما اتكلت بِهِ عَلَى إِسْرَائِيل؛(7/544)
لِأَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِهِ أتم. قَالَ: وَالْعَمَل فِي هَذَا الْبَاب عَلَى هَذَا الحَدِيث عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَمن بعدهمْ، وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» أَعنِي حَدِيث أبي مُوسَى من طرق، ثمَّ قَالَ: سمع هَذَا الْخَبَر أَبُو بردة عَن أبي مُوسَى مَرْفُوعا فَمرَّة كَانَ يحدث بِهِ مُسْندًا، وَمرَّة يُرْسِلهُ، وسَمعه أَبُو إِسْحَاق من أبي بردة مُرْسلا وَمُسْندًا (مَعًا فَمرَّة) كَانَ يحدث بِهِ مُسْندًا وَتارَة مُرْسلا، قَالَ: فَالْخَبَر صَحِيح مُرْسل (ومسند) مَعًا لَا شكّ وَلَا ارتياب فِي صِحَّته. وَأخرجه الْحَاكِم أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» من طرق كَثِيرَة، وبسطها أحسن بسط، أخرجه من حَدِيث النُّعْمَان بن عبد السَّلَام عَن شُعْبَة، وسُفْيَان الثَّوْريّ، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى مَرْفُوعا بِهِ، ثمَّ قَالَ: قد جمع النُّعْمَان هَذَا بَين شُعْبَة وَالثَّوْري فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، وَوَصله عَنْهُمَا، والنعمان ثِقَة مَأْمُون. قَالَ: وَقد رَوَاهُ جماعات من (الثِّقَات) عَن الثَّوْريّ عَلَى حِدة، وَعَن شُعْبَة عَلَى حِدة فوصلوه. قَالَ: فَأَما إِسْرَائِيل بن يُونُس بن إِسْحَاق الثِّقَة الْحجَّة فِي حَدِيث جده أبي إِسْحَاق فَلم يخْتَلف عَنهُ فِي وصل هَذَا الحَدِيث. ثمَّ سَاقه من طرق إِلَيْهِ (ثمَّ) قَالَ: هَذِه الْأَسَانِيد كلهَا صَحِيحَة. قَالَ: وَقد وَصله الْأَئِمَّة المتقدمون الَّذين ينزل فِي رواياتهم عَن إِسْرَائِيل، مثل: عبد الرَّحْمَن بن مهْدي ووكيع وَيَحْيَى بن آدم وَيَحْيَى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة وَغَيرهم، وَقد حكمُوا لهَذَا الحَدِيث بِالصِّحَّةِ، قَالَ(7/545)
ابْن مهْدي: كَانَ إِسْرَائِيل يحفظ حَدِيث أبي إِسْحَاق كَمَا يحفظ الْحَمد. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: قَالَ أَبُو مُوسَى: كَانَ ابْن مهْدي يثبت حَدِيث إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق يَعْنِي: فِي النِّكَاح بِغَيْر ولي (وَقَالَ حَاتِم بن يُونُس الْجِرْجَانِيّ: قلت لأبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ: مَا تَقول فِي النِّكَاح بِغَيْر ولي؟) فَقَالَ: لَا يجوز. فَقلت: مَا الْحجَّة فِي ذَلِك؟ فَقَالَ: ثَنَا قيس بن الرّبيع، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي بُردة، عَن أَبِيه. قلت: فَإِن شُعْبَة وَالثَّوْري يرسلانه! قَالَ: فَإِن إِسْرَائِيل قد تَابع (قيسا) قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: حَدِيث إِسْرَائِيل صَحِيح فِي «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: سَأَلت مُحَمَّد بن يَحْيَى عَن هَذَا الْبَاب فَقَالَ: حَدِيث إِسْرَائِيل صَحِيح عِنْدِي. قلت لَهُ: رَوَاهُ شريك أَيْضا! فَقَالَ: من رَوَاهُ؛ فَقلت: ثَنَا بِهِ عَلّي بن حجر. وَذكرت لَهُ حَدِيث يُونُس عَن أبي [إِسْحَاق] [وَقلت لَهُ: رَوَاهُ شُعْبَة وَالثَّوْري، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي بردة] مَرْفُوعا قَالَ: نعم هَكَذَا روياه، وَلَكنهُمْ كَانُوا يحدثُونَ بِالْحَدِيثِ فيرسلونه حَتَّى يُقَال لَهُم: عَمَّن؟ فيسندونه وَقَالَ الدَّارمِيّ: قلت ليحيى بن معِين: يُونُس بن أبي إِسْحَاق أحب إِلَيْك أَو ابْنه إِسْرَائِيل بن يُونُس؟ قَالَ: كلٌّ ثِقَة. قَالَ الْحَاكِم: وَقد وصل هَذَا الحَدِيث عَن أبي إِسْحَاق بعد هَؤُلَاءِ زُهَيْر بن مُعَاوِيَة [الْجعْفِيّ] وَأَبُو عوَانَة الوضاح، وَقد أجمع أهل الْعلم عَلَى تقديمهما(7/546)
وحفظهما. ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِمَا، ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ إِلَى الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: [إِذا] وجدت الحَدِيث من جِهَة زُهَيْر بن مُعَاوِيَة فَلَا تعدل إِلَى غَيره؛ فَإِنَّهُ من أثبت النَّاس. قَالَ الْحَاكِم: وَقد وصل هَذَا الحَدِيث أَيْضا عَن أبي إِسْحَاق جمَاعَة من أَئِمَّة الْمُسلمين غير من ذَكَرْنَاهُمْ، مِنْهُم: أَبُو حنيفَة النُّعْمَان بن ثَابت، ورقبة بن مَسْقَلَة الْعَبْدي [و] مطرف بن طريف الْحَارِثِيّ، وَعبد الحميد الْهِلَالِي، وزَكَرِيا بن أبي زَائِدَة، وَغَيرهم. قَالَ: وَقد وَصله عَن أبي بردة جمَاعَة غير أبي إِسْحَاق، قَالَ مُحَمَّد بن سهل بن عَسْكَر: قَالَ ابْن عقبَة: جَاءَنِي عَلّي بن الْمَدِينِيّ فَسَأَلَنِي عَن هَذَا الحَدِيث فَحدثت بِهِ عَن يُونُس بن أبي إِسْحَاق، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى مَرْفُوعا. فَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: قد اسْتَرَحْنَا من الْخلاف عَلَى أبي إِسْحَاق، قَالَ الْحَاكِم: [لست] أعلم بَين أَئِمَّة هَذَا الْعلم خلافًا فِي عَدَالَة ابْن أبي إِسْحَاق، وَإِن سَمَاعه [من] أبي بردة مَعَ أَبِيه صَحِيح، وَلم يخْتَلف عَلَى يُونُس فِي وصل هَذَا الحَدِيث؛ فَفِيهِ الدَّلِيل الْوَاضِح أَن الْخلاف الَّذِي وَقع عَلَى أَبِيه فِيهِ من جِهَة أَصْحَابه لَا من جِهَة أبي إِسْحَاق. قَالَ: وَمِمَّنْ وصل هَذَا الحَدِيث عَن أبي بردة نَفسه: أَبُو حُصَيْن عُثْمَان بن عَاصِم الثَّقَفِيّ ... فَذكره بِإِسْنَادِهِ، ثمَّ قَالَ: قد استدللنا بالروايات الصَّحِيحَة (وَمَا زَالَ) أَئِمَّة هَذَا الْعلم عَلَى صِحَة هَذَا(7/547)
الحَدِيث بِمَا فِيهِ غنية لمن تَأمله. قَالَ: وَهُوَ أصل. قَالَ: وَلم [يسع] البُخَارِيّ وَمُسلم إخلاء الصَّحِيح مِنْهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» هَذَا الحَدِيث من الطّرق الْمَذْكُورَة، ثمَّ نقل عَن البُخَارِيّ أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث إِسْرَائِيل [عَن أبي إِسْحَاق] عَن أبي بردة، عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» فَقَالَ: الزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس ثِقَة، وَإِن كَانَ شُعْبَة وَالثَّوْري أَرْسلَاهُ فَإِن ذَلِك لَا يضر الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «علله» : حَدِيث أبي بردة عَن أبي مُوسَى عِنْدِي - وَالله - أصح، وَإِن كَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة لَا يذكران فِيهِ عَن أبي مُوسَى؛ لِأَنَّهُ قد ذكر فِي حَدِيث شُعْبَة أَن سماعهما جَمِيعًا فِي وَقت وَاحِد، وَهَؤُلَاء الَّذين رووا عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى سمعُوا فِي أَوْقَات مُخْتَلفَة. قَالَ: وَيُونُس بن أبي إِسْحَاق قد رَوَى هَذَا عَن أَبِيه، وَقد أدْرك يُونُس بعض مَشَايِخ أَبِيه؛ فَهُوَ قديم السماع، وَإِسْرَائِيل قد رَوَاهُ وَهُوَ أثبت أَصْحَاب أبي إِسْحَاق بعد شُعْبَة وَالثَّوْري.
قلت: فقد اتَّضَح بِكَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة صِحَة هَذَا الحَدِيث من طرقه، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
قَالَ الإِمَام أَحْمد أَحَادِيث: «أفطر الحاجم والمحجوم» و «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» أَحَادِيث يسند بَعْضهَا بَعْضًا، وَأَنا أذهب إِلَيْهِمَا.(7/548)
قلت: فَلَا يضر أَيْضا إرْسَال من أرْسلهُ كَمَا سلف.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم لما ذكر من أعله بِالْإِرْسَال (فَكَانَ مَا إِذا صَحَّ إِسْنَاده) قَالَ: وَمن رَوَاهُ من طَرِيق ضَعِيفَة كَأَنَّهُ لم يكن؛ فَإِن قلت: لَعَلَّ المُرَاد لَا نِكَاح فَاضل.
قلت: خلاف الْحَقِيقَة، وَالِاحْتِيَاط لَا يخْفَى، وَالنِّكَاح جدير بِهِ؛ فَإِن قلت: الْمُخَالف يَقُول: نوجبه؛ فَإِن الْمَرْأَة ولي.
قلت: خلاف الظَّاهِر، والمتبادر من اللَّفْظ، وَأَيْضًا فَالنِّكَاح لَا يَخْلُو من ولي أبدا، فَالَّذِي نَفَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام حَال الْوُقُوع، وَأَيْضًا لَو أَرَادَ ذَلِك لقَالَ إِلَّا بوليه؛ فَإِن قلت هَذَا كَقَوْلِهِم: أَرض خصبت، قلت: لَا؛ لِأَن فعيلاً بِمَعْنى مفعول يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث، أما فعيل بِمَعْنى فَاعل فَلَا؛ ككريم وكريمة وسخي وسخية، وَولي فعيل بِمَعْنى فَاعل؛ أَي: وَال.
فَائِدَة: هَذَا الحَدِيث وَهُوَ «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» قد رَوَاهُ أَيْضا جماعات من الصَّحَابَة غير أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
رَوَاهُ: عَائِشَة، وَابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَعمْرَان بن حُصَيْن، وَأنس، ذكرهم التِّرْمِذِيّ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَائِشَة ... إِلَى آخِره، وَعلي بن أبي طَالب، وَابْن عَبَّاس، ومعاذ بن جبل، وَابْن عمر، وَأَبُو ذَر الْغِفَارِيّ، والمقداد بن الْأسود، وَابْن مَسْعُود وَجَابِر وَعبد الله(7/549)
بن عَمْرو، والمسور بن مخرمَة، ذكرهم الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه» عَلَى الصَّحِيحَيْنِ حَيْثُ قَالَ: وَفَى الْبَاب عَن عَلّي ... إِلَى آخِره.
وَوَافَقَ التِّرْمِذِيّ فِي أبي هُرَيْرَة، وَعمْرَان، وَأنس، و [أبي] سعيد الْخُدْرِيّ. وَسمرَة بن جُنْدُب، وَمُحَمّد بن سَلمَة، وَعبادَة بن الصَّامِت، وَعُثْمَان بن عَفَّان، وواثلة بن الْأَسْقَع، و [أبي] أُمَامَة الْبَاهِلِيّ، وَمَعْقِل بن يسَار، وضمرة و [أبي] عبد الله بن ضَمرَة، والبراء بن عَازِب، وَابْن الزبير. ذكرهم ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» .
قَالَ الْحَاكِم: وَقد صحت الرِّوَايَة فِيهِ عَن أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: عَائِشَة، وَأم سَلمَة، وَزَيْنَب بنت جحش - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أَجْمَعِينَ.
قلت: فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثُونَ صحابيًّا رووا هَذَا الحَدِيث؛ فَلَا يعدل عَنهُ، وَالله الْمُوفق للصَّوَاب.
وَادَّعَى الْمَاوَرْدِيّ أَن أثبت الرِّوَايَات رِوَايَة أبي مُوسَى، وللحافظ شرف الدَّين الدمياطي فِيهَا.
الحَدِيث السَّادِس
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» .(7/550)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن معمر بن سُلَيْمَان الرقي، عَن الْحجَّاج، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، وَالسُّلْطَان ولي من لَا ولي لَهُ» وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، عَن أبي كريب، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن الْحجَّاج بِهِ، دون الْقطعَة الثَّانِيَة، وَالْحجاج هُوَ ابْن أَرْطَاة، وَقد سلف حَاله، وَفِي سَمَاعه من عِكْرِمَة نظر، قَالَ حَنْبَل: ذكرت هَذَا لأبي عبد الله فَقَالَ: لم يسمع حجاج من عِكْرِمَة شَيْئا؛ إِنَّمَا يحدث عَن دَاوُد بن الْحصين، عَن عِكْرِمَة.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن الْحُسَيْن بن إِسْحَاق [التسترِي] ثَنَا سهل بن عُثْمَان، ثَنَا ابْن الْمُبَارك، عَن خَالِد الْحذاء، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» وَعَزاهُ الْحَافِظ شرف الدَّين الدمياطي إِلَى الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: «لَا نِكَاح إِلَّا بِإِذن ولي مرشد وسلطان» ثمَّ قَالَ: وَإِسْنَاده لَا بَأْس بِهِ. قَالَه الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمَقْدِسِي، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سهل، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن حجاج. قَالَ ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» : وَرَوَاهُ الحكم عَن عِكْرِمَة، وَأُسَامَة عَن عِكْرِمَة، وَسماك بن حَرْب عَن عِكْرِمَة، وَرَوَاهُ عَطاء بن أبي(7/551)
رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن عَطاء بن جريج، وَعمر بن قيس، وَالْحجاج بن [أَرْطَاة] وَعبد القدوس بن حبيب، وَابْن أبي نجيح، وَمُقَاتِل بن سُلَيْمَان، والنهاس بن قهم، وَرَوَاهُ عبد الله بن أبي مليكَة، وَجَابِر بن زيد، وَنَافِع بن جُبَير بن مطعم، وَمَيْمُون بن مهْرَان، عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث [عدي] بن الْفضل، عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم، عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس إِلَّا أَن عديًّا وَعبد الله لَا يحْتَج بهما.
قلت: عدي مَتْرُوك، وَابْن خثيم رَوَى لَهُ مُسلم، وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ من حَدِيث الرّبيع بن بدر عَن النهاس، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «البغايا اللَّاتِي ينكحن أَنْفسهنَّ، لَا يجوز النِّكَاح إِلَّا بولِي و [شَاهِدين] » . الرّبيع هُوَ ابْن عليلة وَقد ضَعَّفُوهُ، وَكَذَا النهاس، أسْندهُ الْحَافِظ شرف الدَّين الدمياطي من حَدِيث مُؤَمل بن إِسْمَاعِيل، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن عبد الله بن عُثْمَان، عَن خُثيم عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد وسلطان» ثمَّ قَالَ: قَالَ أَبُو الْفَتْح بن أبي الفوارس الْحَافِظ:(7/552)
هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي عُثْمَان تفرد بِهِ مُؤَمل بن إِسْمَاعِيل [عَن] سُفْيَان، وَالْمَحْفُوظ عَن سُفْيَان مَوْقُوف. قَالَ الدمياطي: دفن مُؤَمل كتبه وَكَانَ يحدث من حفظه فَكثر خَطؤُهُ.
الحَدِيث السَّابِع
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل، فنكاحها بَاطِل، فنكاحها بَاطِل! فَإِن دخل بهَا فلهَا الْمهْر بِمَا اسْتحلَّ من فرجهَا، وَإِن اشتجروا فالسلطان ولي من لَا ولي لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَأحمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن، (وَقد رَوَى يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَيَحْيَى بن أَيُّوب، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَغير وَاحِد من الْحفاظ عَن ابْن جريج نَحْو هَذَا) قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ(7/553)
ابْن جريج، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن الزُّهْرِيّ، عَن [عُرْوَة] عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِهِ، وَرَوَاهُ الْحجَّاج بن أَرْطَاة وجعفر بن ربيعَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِهِ، وَرَوَاهُ هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِهِ، قَالَ: وَقد تكلم بعض أهل الْعلم فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة، قَالَ ابْن جريج: ثمَّ لقِيت الزُّهْرِيّ فَسَأَلته، فَأنكرهُ. فضعفوا هَذَا الحَدِيث من أجل هَذَا. قَالَ: وَذكر عَن يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ: لم يذكر هَذَا الْحَرْف عَن ابْن جريج إِلَّا ابْن علية. قَالَ يَحْيَى: وَسَمَاع ابْن علية من ابْن جريج لَيْسَ بِذَاكَ مَا سمع من ابْن جريج، وَإِنَّمَا صحّح كتبه عَلَى كتب [عبد الْمجِيد] بن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، وَضعف يَحْيَى رِوَايَة ابْن عُلية عَن ابْن جريج. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «عُلُوم الحَدِيث» : هَذَا حَدِيث مَحْفُوظ من حَدِيث ابْن جريج، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى الأشرق، وَقَالَ فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم، قَالَ: وَقد تَابع أَبَا عَاصِم عَلَى ذكر سَماع ابْن جريج من سُلَيْمَان بن مُوسَى وَسَمَاع سُلَيْمَان بن مُوسَى من الزُّهْرِيّ عبد الرَّزَّاق بن همام [و] يَحْيَى بن أَيُّوب، وَعبد الله بن لَهِيعَة، وحجاج بن مُحَمَّد [المصيصى] ثمَّ ذكر ذَلِك عَنْهُم بأسانيده، ثمَّ قَالَ: فقد صَحَّ وَثَبت بروايات الْأَئِمَّة الْأَثْبَات سَماع(7/554)
رِوَايَة الروَاة بَعضهم من بعض، فَلَا تعلل هَذِه الرِّوَايَات بِحَدِيث ابْن علية وسؤاله ابْن جريج عَنهُ وَقَوله: إِنِّي سَأَلت الزُّهْرِيّ عَنهُ فَلم يعرفهُ، فقد ينسَى الثِّقَة الْحَافِظ الحَدِيث بعد أَن حدث بِهِ، وَقد فعله غير وَاحِد من حفاظ الحَدِيث.
قَالَ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: وَذكر عِنْده أَن ابْن علية يذكر حَدِيث ابْن جريج فِي «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» قَالَ ابْن جريج: فَلَقِيت الزُّهْرِيّ فَسَأَلته عَنهُ فَلم يعرفهُ، وَأَثْنَى عَلَى سُلَيْمَان بن مُوسَى، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: كَانَ ابْن جريج لَهُ كتب مدونة وَلَيْسَ هَذَا فِي كتبه - يَعْنِي: حِكَايَة ابْن علية عَن ابْن جريج. وَقَالَ الدوري: سَمِعت يَحْيَى بن معِين يَقُول فِي حَدِيث «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» : الذى يرويهِ ابْن جريج، فَقلت لَهُ: إِن ابْن عُلية يَقُول: قَالَ ابْن جريج: فَسَأَلت عَنهُ الزُّهْرِيّ فَقَالَ: لست أحفظه. قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ يَقُول هَذَا إِلَّا ابْن علية؛ وَإِنَّمَا عرض ابْن علية كتب ابْن جريج عَلَى عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، فأصلحها لَهُ وَلَكِن لم يبْذل نَفسه للْحَدِيث.
وَقَالَ شُعَيْب بن [أبي] حَمْزَة: قَالَ الزُّهْرِيّ: إِن مَكْحُولًا (مَا ينسَى) وَسليمَان بن مُوسَى ولَعَمْرُو اللَّهِ إِن سُلَيْمَان لأَحفظهما.
وَقَالَ ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن جريج، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة.
وَرَوَاهُ عَن ابْن جريج ابْن الْمُبَارك، وَعِيسَى بن يُونُس، وحجاج(7/555)
بن مُحَمَّد، وَيَحْيَى بن أَيُّوب، وَيَحْيَى بن سعيد، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَعبيد الله بن مُوسَى، وَأَبُو قُرَّة، وَعبد الرَّزَّاق، وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل، وَمُحَمّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، ومعاذ بن معَاذ الْعَنْبَري، وَعبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، وَمُسلم بن خَالِد الزنْجِي، وَالْفضل بن مُوسَى [السينَانِي] وَعبد الْوَارِث بن سعيد، وَأَبُو يُوسُف القَاضِي، وَيَحْيَى بن سعيد الْأمَوِي، وَسَعِيد بن سَالم القداح، وَابْن عُلية.
وَرَوَاهُ عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى معمر بن رَاشد، وَعبيد الله بن زحر.
وَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ الْحجَّاج بن أَرْطَاة، وَأَبُو بكر الْهُذلِيّ، وَمُحَمّد بن أبي قيس، وقرة بن عبد الرَّحْمَن بن جِبْرِيل، وَأَيوب بن مُوسَى، وَعُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن، وَهِشَام بن سعد، ومُوسَى بن عقبَة، وَابْن إِسْحَاق، وَسليمَان بن يسَار، وَمَالك بن أنس، وهشيم بن بشير، وَمُعَاوِيَة بن سَلمَة الْبَصْرِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن رُزَيْق النَّوْفَلِي، وجعفر بن ربيعَة، وَإِبْرَاهِيم بن سعد، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَابْن جريج.
وَرَوَاهُ أَبُو مَالك الجَنْبي عَمْرو بن هِشَام، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة.
وَتَابعه فِيهِ نوح بن دراج، وَالْحجاج بن أَرْطَاة، وَإِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد، وَسَعِيد بن خَالِد العثماني، وَيزِيد بن سِنَان، وَالْحسن بن علوان،(7/556)
وَصدقَة بن عبد الله، وَأَبُو الخصيب نَافِع بن ميسرَة، وَأَبُو الزِّنَاد، وجعفر بن برْقَان، وَزَمعَة بن صَالح، وَابْن جريج، ومندل بن عَلّي، وَعبد الله بن الْحَارِث الْحَاطِبِيُّ، وَعبد الله بن حَكِيم، وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار، كلهم عَن هِشَام.
وَرَوَاهُ أَبُو الْغُصْن ثَابت بن قيس، عَن عُرْوَة، وَعبد الرَّحْمَن غير مَنْسُوب، عَن عُرْوَة.
وَرَوَاهُ عبد الله بن أبي مليكةَ، عَن عَائِشَة.
وَعبيد الله بن زَمعَة، عَن عَائِشَة.
وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن عَائِشَة.
وَعبد الله بن شَدَّاد عَنْهَا، وَأم سَلمَة عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : هَذَا الْخَبَر (وهم) من لم يحكم صناعَة الحَدِيث أَنه مُنْقَطع أَو لَا أصل لَهُ بحكاية حَكَاهَا ابْن علية فِي عقب هَذَا الْخَبَر، قَالَ: ثمَّ لقِيت الزُّهْرِيّ فَذكرت ذَلِك لَهُ فَلم يعرفهُ، قَالَ: وَلَيْسَ مِمَّا [يهي] الْخَبَر بِمثلِهِ، وَذَلِكَ أَن الْخَيْر الْفَاضِل المتقن الضَّابِط من أهل الْعلم قد يحدث بِالْحَدِيثِ ثمَّ ينساه، وَإِذا سُئِلَ عَنهُ لم يعرفهُ، فَلَيْسَ بنسيان الشَّيْء الَّذِي حدث بِهِ بدال عَلَى بطلَان أصل الْخَبَر، قَالَ: والمصطفى عَلَيْهِ السَّلَام خير الْبشر وَوَقع لَهُ النسْيَان فِي الصَّلَاة فَقيل لَهُ: يَا رَسُول الله، أقصرت الصَّلَاة أم نسيت؟ ! فَقَالَ: «كل ذَلِك لم يكن» فَلَمَّا جَازَ عَلَيْهِ النسْيَان فِي أَعم الْأُمُور حَتَّى نسي فَلَمَّا [استثبتوه](7/557)
أنكر ذَلِك، وَلم يكن نسيانه بَدِالٍّ عَلَى بطلَان الحكمُ الَّذِي نَسيَه - كَانَ من بعده من أمته فِيهِ أجوز.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن الزُّهْرِيّ وَكلهمْ ثِقَة حَافظ. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» : الْعجب أَن من يُسَوِّي الْأَخْبَار عَلَى مذْهبه يَحْكِي عَن ابْن جريج [أَنه] سَأَلَ ابْن شهَاب عَن هَذَا الحَدِيث فَأنكرهُ [ثمَّ يرويهِ عَن ابْن أبي عمرَان عَن يَحْيَى بن معِين عَن ابْن علية عَن ابْن جريج] وَلَو ذكر حِكَايَة ابْن معِين عَلَى وَجههَا علم أَصْحَابه أَن لَا مغمز فِي رِوَايَة سُلَيْمَان، وَيَحْيَى بن معِين إِنَّمَا ضعف رِوَايَة منْدَل عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، وَصحح رِوَايَة سُلَيْمَان.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : إِن قيل: قد قَالَ ابْن جريج: لقِيت الزُّهْرِيّ وأخبرته بِهَذَا الحَدِيث فَأنْكر [قُلْنَا] هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَرِجَاله رجال الصَّحِيح، وَقد أخرجه الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَمَا ذكر عَن ابْن جريج فَلَيْسَ فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، قَالَ التِّرْمِذِيّ - أَي حِكَايَة عَن يَحْيَى بن معِين -: لم يذكرهُ عَن ابْن جريج إِلَّا ابْن عليّة، وسماعه من ابْن جريج لَيْسَ بِذَاكَ. ثمَّ رَوَى ابْن الْجَوْزِيّ الحَدِيث من طَرِيق أَحْمد فِي «مُسْنده» وَفِي آخِره قَالَ ابْن جريج: فَلَقِيت الزُّهْرِيّ فَسَأَلته عَن هَذَا الحَدِيث، فَلم يعرفهُ. قَالَ: وَكَانَ سُلَيْمَان بن مُوسَى [ذُكر] فَأَثْنَى عَلَيْهِ. قَالَ: وَإِذا ثَبت هَذَا عَن الزُّهْرِيّ كَانَ(7/558)
نِسْيَانا مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يدل عَلَى الطعْن فِي سُلَيْمَان؛ لِأَنَّهُ ثِقَة. قَالَ: وَيدل عَلَى أَنه نسي أَن الحَدِيث قد رَوَاهُ عَنهُ جَعْفَر بن ربيعَة وقرة بن عبد الرَّحْمَن وَابْن إِسْحَاق، فَدلَّ عَلَى ثُبُوته عَنهُ، وَالْإِنْسَان قد يحدث وينسى، قَالَ أَحْمد: كَانَ ابْن عُيَيْنَة يحدث بأَشْيَاء ثمَّ يَقُول: هَذَا لَيْسَ من حَدِيثي وَلَا أعرفهُ! وَرُوِيَ عَن سُهَيْل بن أبي صَالح أَنه ذكر لَهُ حَدِيث فَأنكرهُ، فَقَالَ ربيعَة: أَنْت حَدَّثتنِي بِهِ عَن أَبِيك! [فَكَانَ] سُهَيْل يَقُول: حَدثنِي ربيعَة عني! ذَلِك [وَقد] جمع الدَّارَقُطْنِيّ جُزْءا فِيمَن حدث وَنسي.
وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : هَذَا الحَدِيث أصح شَيْء فِي هَذَا الْبَاب [كَذَا] قَالَ ابْن معِين: وَإِن كَانَ بعض أهل الْعلم قد تكلم فِيهِ وَذَلِكَ أَنه رَوَاهُ سُلَيْمَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة، وَذكر ابْن جريج أَنه سَأَلَ الزُّهْرِيّ عَن هَذَا فَأنكرهُ، وضَعَّفَ الحديثَ من ضَعفَهُ من أجل هَذَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: بل نسي الزُّهْرِيّ، وَلَا يُنكر عَلَى الْحَافِظ أَن يحدث بِالْحَدِيثِ ثمَّ ينسَى، فَإِذا حدث بِهِ عَنهُ ثِقَة وَثَبت عَلَى حَدِيثه أَخذ بِهِ، وَسليمَان ثِقَة عِنْد أهل الحَدِيث وَلم يتَكَلَّم فِيهِ أحد من الْمُتَقَدِّمين إِلَّا البُخَارِيّ وَحده؛ فَإِنَّهُ تكلم فِيهِ من أجل أَحَادِيث انْفَرد بهَا، وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيّ: لم يتَكَلَّم فِيهِ إِلَّا البُخَارِيّ. وَذكره دُحَيْم فَقَالَ: فِي حَدِيثه بعض الِاضْطِرَاب قَالَ: وَلم يكن فِي أَصْحَاب مَكْحُول (أثبت) مِنْهُ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: وَفِي حَدِيثه شَيْء. وَقَالَ الْبَزَّار: أجل من ابْن جريج. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: إِنَّه أحفظ من مَكْحُول.(7/559)
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لم يقل أحدٌ من حكايته وَلم يعرجوا عَلَيْهَا وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ من أَصْحَابنَا فِي «حاويه» : الْجَواب عَمَّا أعل بِهِ [من] وُجُوه:
أَحدهَا: أَنه رَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ أَرْبَعَة أنفس؛ أحدهم: سُلَيْمَان بن مُوسَى، وَرَوَى عَن عروةَ ثَلَاثَة؛ أحدهم: الزُّهْرِيّ؛ فَلَا يَصح إِضَافَة إِنْكَاره إِلَى الزهْري مَعَ هَذَا الْعدَد، وَلَو صَحَّ إِنْكَاره لَهُ لما أثر فِيهِ مَعَ رِوَايَة غير الزُّهْرِيّ لَهُ عَن عُرْوَة.
ثَانِيهَا: أَن الزُّهْرِيّ أنكر سُلَيْمَان بن مُوسَى وَقَالَ: لَا أعرفهُ، وَإِلَّا فَالْحَدِيث أشهر من) أَن يُنكره الزُّهْرِيّ وَلَا يعرفهُ وَلَيْسَ جهل (الْمُحدث) بالراوي عَنهُ مَانِعا من قبُول رِوَايَته عَنهُ، وَلَيْسَ اسْتِدَامَة ذكره شرطا فِي صِحَة حَدِيثه.
قلت: لَكِن سُلَيْمَان مَعْرُوف كَمَا مر.
ثَالِثهَا: أَنه لَا اعْتِبَار بإنكار الْمُحدث للْحَدِيث بعد رِوَايَته وَلَيْسَ اسْتِدَامَة ذكره شرطا فِي صِحَة حَدِيثه. ثمَّ ذكر قصَّة ربيعَة فِي حَدِيث (ابْن عَبَّاس) فِي الْقَضَاء بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد، وَسَيَأْتِي - إِن شَاءَ الله - هُنَاكَ.(7/560)
وَقَول الْمَاوَرْدِيّ: لَا اعْتِبَار بإنكار الْمُحدث أطلقهُ، وَقد قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصره: إِذا كذَّب الأَصْلُ الفَرْعَ سَقَطَ كِكَذِبِ وَاحِدٍ غيرِ مُعيَّنٍ. وَلَا يقْدَح فِي عدالتهما؛ فَإِن قَالَ: لَا أَدْرِي، فالأكثر يعْمل بِهِ خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة، وَلأَحْمَد رِوَايَتَانِ، وَمحل الْخَوْض فِي الْمَسْأَلَة عُلُوم الحَدِيث أَيْضا، وَقد أوضحناها فِي مختصري لكتاب ابْن الصّلاح الْجَامِع بَين عُيوُبه وَالزِّيَادَة الْمُهِمَّات عَلَيْهِ، وَحَاصِل كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْحفاظ الَّذين أطلنا ذكرهم - وَهُوَ من الْمُهِمَّات - صِحَّته والاحتجاج بِهِ، لَا جرم ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» وَعَزاهُ إِلَى أبي دَاوُد وَحده، قَالَ: وَبَعْضهمْ يعله بِمَا خُولِفَ فِي تَأْثِيره. وَاعْترض بَعضهم بِوَجْه آخر، فَقَالَ: قد صحَّ عَن عَائِشَة «أَنَّهَا أنكحت بنت أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن وَهُوَ مُسَافر بِالشَّام قريب (الأوبه) بِغَيْر إِذْنه؛ بل أنكر إِذْ بلغه» فَلم تَرَ عَائِشَة ذَلِك مُبْطلًا لما وَقع؛ بل قَالَت للَّذي زَوجهَا مِنْهُ - وَهُوَ الْمُنْذر بن الزبير -: «اجْعَل أمرهَا إِلَيْهِ. فَفعل فأنفذه عبد الرَّحْمَن» وبوجه آخر وَهُوَ أَن الزُّهْرِيّ رَاوِي هَذَا الحَدِيث أفتَى بِخِلَاف ذَلِك.
فروَى عبد الرَّزَّاق عَن معمر أَنه قَالَ: (سَأَلت) الزُّهْرِيّ، عَن الرجل يتَزَوَّج بِغَيْر إِذن ولي، فَقَالَ: إِن كَانَ كُفؤًا لَهَا لم يفرق بَينهمَا.
وَالْجَوَاب عَن الأول: أَنه قد تقرر أَن الْعَمَل بِمَا رَوَاهُ الرَّاوِي لَا بِمَا رَآهُ، كَيفَ وَقد رَوَى الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهَا أَنَّهَا أنكحت رجلا من(7/561)
بني أَخِيهَا جَارِيَة من بني أَخِيهَا فَضربت بَينهُنَّ سترا، ثمَّ تَكَلَّمت حَتَّى إِذا لم يبْق إلاّ النِّكَاح أمرت رجلا (فأنكح) ثمَّ قَالَت: «لَيْسَ إِلَى النِّسَاء النِّكَاح»
وَعَن الثَّانِي: أَنه مُخْتَلف عَلَيْهِ فِيهِ، وَالْعَمَل بِمَا رَوَاهُ لَا بِمَا (رَآهُ) .
تَنْبِيه: ذكر الْمَاوَرْدِيّ من أَصْحَابنَا فَوَائِد هَذَا الحَدِيث فِي «حاويه» فَقَالَ: ذكر الشَّافِعِي بعد استدلاله بِهَذَا الحَدِيث مَا تضمنه، وَدلّ عَلَيْهِ من الْفَوَائِد وَالْأَحْكَام نصًّا واستنباطًا فَذكر خَمْسَة أَحْكَام وَذكر أَصْحَابه ثَلَاثِينَ حكما سواهَا فَصَارَت خَمْسَة وَثَلَاثِينَ حكما أخذت دلائلها من الْخَبَر بِنص واستنباط ثمَّ عَددهَا، فَمن أرادها رَاجع كِتَابه وحذفتها هُنَا خشيَة الطول، وَلِأَن كتَابنَا لَيْسَ مَوْضُوعا لذَلِك، وَيُزَاد عَلَيْهَا أَحْكَام أخر عِنْد التَّأَمُّل.
الحَدِيث الثَّامِن
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تنْكح الْمَرْأَة الْمَرْأَة وَلَا نَفسهَا؛ إِنَّمَا الزَّانِيَة الَّتِي تنْكح نَفسهَا» . هَذَا الحَدِيث مَدَاره عَلَى أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وَله عَنهُ طرق مِنْهَا:
طَرِيق عبيد بن يعِيش، ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْمحَاربي، عَن عبد السَّلَام بن حَرْب، عَن هِشَام بن حسَّان، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أَبَى هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا تزوج الْمَرْأَة الْمَرْأَة، وَلَا تزوج الْمَرْأَة نَفسهَا، وكنّا نقُول إِن الَّتِي تزوج نَفسهَا هِيَ الزَّانِيَة» .(7/562)
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَهَذَا الطَّرِيق عَلَى شَرط مُسلم، والمحاربي وَإِن كَانَ قد قَالَ ابْن معِين فِيهِ إِنَّه (يروي الْمَنَاكِير عَن المجاهيل؛ فقد وَثَّقَهُ مرّة أُخْرَى، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق) يروي عَن مجهولين أَحَادِيث (مُنكرَة) فَيفْسد حَدِيثه بذلك.
قلت: لم يرو هُنَا عَن مَجْهُول، فَحَدِيثه هَذَا جيد عَلَى أَن الْمحَاربي هَذَا قد أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ فَجَاز القنطرة، وَلم ينْفَرد بِهِ؛ بل توبع، رَوَاهُ مُحَمَّد بن سعيد بن الْأَصْبَهَانِيّ، عَن عبد السَّلَام بِهِ، وَمُحَمّد ثِقَة كَمَا قَالَ النَّسَائِيّ وَيَعْقُوب بن شيبَة، وَخرج لَهُ البُخَارِيّ، وَقد أخرج هَذِه الْمُتَابَعَة الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا بِلَفْظ: «لَا تُنكح الْمَرْأَة الْمَرْأَة، وَلَا تنْكح الْمَرْأَة نَفسهَا» ثمَّ قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: « (كَانَ) يُقَال: الزَّانِيَة تنْكح نَفسهَا» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من رِوَايَة مُسلم بن أبي مُسلم، عَن مخلد بن الْحُسَيْن (عَن) هِشَام بن حسَّان بِهِ: «لَا تنْكح الْمَرْأَة الْمَرْأَة، وَلَا تنْكح الْمَرْأَة نَفسهَا، إِن الَّتِي تنْكح نَفسهَا هِيَ الْبَغي» قَالَ ابْن سِيرِين: وَرُبمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: «هِيَ الزَّانِيَة» وَمُسلم هَذَا (جُرْمِي) (ووالده)(7/563)
عبد الرَّحْمَن، (و) مخلد (وَثَّقَهُ) الْعجلِيّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَرَوَى عَن مُسلم هَذَا الحَدِيث الْحسن بن سُفْيَان أَيْضا، (وَقَالَ) : سَأَلت يَحْيَى بن معِين عَن رِوَايَة مخلد بن الْحُسَيْن، عَن هِشَام بن حسّان، فَقَالَ: ثِقَة. فَذكرت لَهُ هَذَا الحَدِيث قَالَ: نعم قد كَانَ (شيخ) عندنَا يرفعهُ عَن مخلد.
قلت: وَتَابعه عبد السَّلَام بن حَرْب كَمَا سلف، وَمُحَمّد بن مَرْوَان كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: وَمُسلم بن (عبد الرَّحْمَن) الْجرْمِي من (شيخ) الْغُزَاة، رَوَى عَن مخلد بن الْحُسَيْن، رَوَى عَنهُ الْمُنْذر بن شَاذان الرَّازِيّ الصَّادِق، قَالَ: إِنَّه قَتل من الرّوم مائَة ألف.
وَمِنْهَا: طَرِيق جميل بن الْحسن الْعَتكِي، ثَنَا مُحَمَّد بن (مَرْوَان)(7/564)
الْعقيلِيّ، ثَنَا هِشَام بن حسان، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا تزوج الْمَرْأَة الْمَرْأَة، وَلَا تزوج الْمَرْأَة نَفسهَا؛ فَإِن الزَّانِيَة هِيَ الَّتِي تزوج نَفسهَا.
رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَجَمِيل هَذَا قَالَ فِي حَقه عَبْدَانِ: كَاذِب فَاسق فَاجر. وَقَالَ ابْن عدي: لَا أعلم لَهُ حَدِيثا مُنْكرا، وَإِنَّمَا عَبْدَانِ نسبه إِلَى الْفسق.
وأمّا ابْن حبَان: فَذكره فِي «ثقاته» وَرَوَى عَنهُ ابْن خُزَيْمَة هَذَا الحَدِيث.
وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَقَالَ فِي «تَحْقِيقه» إِنَّه لَا يعرف فأغرب، وَقد نَاقض هَذِه الْمقَالة فِي كِتَابه « (الضُّعَفَاء» ) فَنقل فِيهِ مَا قدمْنَاهُ أَولا، وَشَيْخه مُحَمَّد بن مَرْوَان، قَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِذَاكَ عِنْدِي. وَقَالَ أَحْمد: رَأَيْته وَقد حدث بِأَحَادِيث فَلم أَكتبهَا عَلَى عمد.
وَأما أَبُو دَاوُد، فَقَالَ: صَدُوق. وَقَالَ ابْن معِين: صَالح. وَأخرجه من هَذِه الطَّرِيق أَيْضا الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَلم يعقبه بِشَيْء، وَنقل عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» عَنهُ أَنه قَالَ (فِيهِ: إِنَّه) حَدِيث صَحِيح. ثمَّ قَالَ - كالمعترض عَلَيْهِ -: كَذَا قَالَه! وَقد رُوِيَ مَوْقُوفا. وَلم أر أَنا هَذِه القولة(7/565)
(لَهُ) فِي «سنَنه» بل وَلَا فِي «علله» فِيمَا يغلب، عَلَى ظَنِّي، وَلم يعقبه ابْن الْقطَّان وَلَا من تبعه؛ فَتنبه لَهُ، ثمَّ اعْلَم أَن الْحَافِظ شرف الدَّين الدمياطي ذكر الطَّرِيق الأول فِي الْجُزْء الْخَامِس من «الْأَعْيَان الْجِيَاد من مشيخة بَغْدَاد» ثمَّ ذكر طَرِيق ابْن مَاجَه هَذَا وَعَزاهُ إِلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: وَإِسْنَاده كلهم ثِقَات مُتَّفق عَلَيْهِم إِلَّا عبيدا؛ فَإِنَّهُ من أَفْرَاد مُسلم. وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ؛ فَإِن الِاتِّفَاق عَلَى ثِقَة الْحسن بن جميل الْوَاقِع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه، وَالظَّاهِر أَن مُرَاده الطَّرِيق الأول، و [لهَذَا] اسْتثْنى عبيدا.
وَمِنْهَا: طَرِيق النَّضر بن شُمَيْل، أبنا ابْن حسّان، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة قَوْله، وَلم يرفعهُ.
وَمِنْهَا:
طَرِيق حَفْص بن غياث، عَن هِشَام، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «كنّا نتحدث أَن الَّتِي تنْكح نَفسهَا هِيَ الزَّانِيَة» .
أخرجهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من طَرِيق مَرْفُوعا.
وَمن طَرِيق مَوْقُوفا عَلَى أبي هُرَيْرَة، ثمَّ قَالَ: كَذَا قَالَ ابْن عُيَيْنَة، عَن هِشَام بن حسّان، عَن ابْن سِيرِين مَرْفُوعا، وَعبد السَّلَام بن حَرْب قد ميّز الْمسند من الْمَوْقُوف، فَيُشبه أَن يكون قد حفظه.
وَالشَّافِعِيّ فِي «الْأُم» أخرجه مَوْقُوفا، فَقَالَ: أبنا ابْن عُيَيْنَة، عَن هِشَام بن حسان ... فَذكره كَمَا سلف.(7/566)
فَائِدَة: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «لَا تُنكح الْمَرْأَة الْمَرْأَة» (المُرَاد) مِنْهُ النَّهْي، وصيغته الْخَبَر (لوروده) مضموم الْحَاء؛ إِذْ لَو كَانَ نهيا لَكَانَ مَجْزُومًا مكسورًا عَلَى أصل التقاء الساكنين.
هَذَا آخر مَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب من الْأَحَادِيث، وَذكر فِيهِ أثرين:
أَحدهمَا: «أَن ابْن عَبَّاس كَانَ يجوّز نِكَاح الْمُتْعَة، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ» .
وَهَذَا الْأَثر مَشْهُور عَنهُ، قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس شَيْء من الرُّخْصَة فِي الْمُتْعَة، ثمَّ رَجَعَ عَن قَوْله حَيْثُ أخبر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ قَالَ: (بَاب رُجُوع ابْن عَبَّاس عَن نِكَاح الْمُتْعَة) ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ إِلَى مُوسَى بن عُبَيْدَة [عَن مُحَمَّد بن كَعْب] قَالَ ابْن عَبَّاس: «إِنَّمَا كَانَت الْمُتْعَة فِي أول الْإِسْلَام؛ كَانَ الرجل يقدم الْبَلدة لَيْسَ (لَهُ) بهَا معرفَة فَيَتَزَوَّج (الْمَرْأَة) بِقدر مَا يرَى أَنه يُقيم لتحفظ لَهُ مَتَاعه وَتصْلح لَهُ شَأْنه، حَتَّى نزلت هَذِه الْآيَة: (إلاّ عَلَى أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم) قَالَ ابْن عَبَّاس: فَكل فرج (سواهُمَا) حرَام» .(7/567)
قَالَ الْحَازِمِي: إِسْنَاده صَحِيح لَوْلَا مُوسَى بن عُبَيْدَة - وَهُوَ الربذي - كَانَ يسكن الربذَة - وَعزا الْمجد ابْن تَيْمِية فِي «أَحْكَامه» إِلَى البُخَارِيّ أَنه رَوَى عَن أبي جَمْرَة، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه سُئِلَ عَن مُتْعَة النِّسَاء، فَرخص فِيهِ فَقَالَ مولَى لَهُ: إِنَّمَا ذَلِك فِي الْحَال الشَّديد وَفِي النِّسَاء قلَّة - أَو نَحوه - فَقَالَ ابْن عَبَّاس: نعم» .
وَلم أر هَذَا فِي البُخَارِيّ وَلَا أعلم من رَوَاهُ أَيْضا، وَقد استغربه ابْن الْأَثِير فَعَزاهُ فِي «جَامعه» إِلَى رزين وَحده.
الْأَثر الثَّانِي: «أَن امْرَأَة كَانَت فِي ركب، فَجعلت أمرهَا إِلَى رجل فَزَوجهَا، فَبلغ ذَلِك عمر، فجلد الناكح والمنكح» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مُسلم بن خَالِد وَسَعِيد بن سَالم، عَن ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي عِكْرِمَة بن خَالِد قَالَ: «جمعت الطَّرِيق رفقه فيهم امْرَأَة ثيّب، فولَّت رجلا مِنْهُم أمرهَا فَزَوجهَا رجلا، فجلد عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الناكح والمنكح ورد نِكَاحهَا» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث روح، ثَنَا ابْن جريج، أَخْبرنِي عبد الحميد بن جُبَير بن شيبَة، عَن عِكْرِمَة بن خَالِد (قَالَ:) «جمعت الطَّرِيق ركبًا، فَجعلت امْرَأَة مِنْهُم ثيب أمرهَا بيد رجل غير ولي فَأَنْكحهَا، فَبلغ ذَلِك عمر فجلد الناكح والمنكح ورد نِكَاحهَا» .(7/568)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَن عمر رد نِكَاح امْرَأَة نكحت بِغَيْر ولي» .
وَرَوَى هَذِه الشَّافِعِي أَيْضا.(7/569)
بَاب فِي الْأَوْلِيَاء وأحكامهم
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا أما الْأَحَادِيث فعشرون حَدِيثا
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر يُزَوّجهَا أَبوهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ بِهَذَا اللَّفْظ سَوَاء من حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَهُوَ فِي «صَحِيح مُسلم» عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا بِأَلْفَاظ:
أَحدهَا: «الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأذن فِي نَفسهَا، وإذنها صماتها» .
ثَانِيهَا: «الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأمر وإذنها سكُوتهَا» .
ثَالِثهَا: «الْبكر يستأذنها أَبوهَا فِي نَفسهَا، وإذنها صماتها - وَرُبمَا قَالَ: - وصمتها إِقْرَارهَا» .
وَفَى رِوَايَة لِأَحْمَد: «واليتيمة تستأمر فِي نَفسهَا» .(7/570)
وَفِي رِوَايَة للدارمي فِي «مُسْنده» : «الأيم أملك بأمرها من وَليهَا، وَالْبكْر تستأمر فِي نَفسهَا وصمتها إِقْرَارهَا» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «وَالْبكْر يستأمرها أَبوهَا» قَالَ أَبُو دَاوُد: أَبوهَا لَيْسَ بِمَحْفُوظ.
قلت: وَرَوَاهُ بِهَذِهِ (الزِّيَادَة) مُسلم كَمَا سلف، و (فِي) الْبَيْهَقِيّ أَن الشَّافِعِي قَالَ: زَاد ابْن عُيَيْنَة (فِي حَدِيثه) : «وَالْبكْر يُزَوّجهَا أَبوهَا» قَالَ ذَلِك بعد أَن نقل عَن أبي دَاوُد أَنَّهَا زِيَادَة غير مَحْفُوظَة.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا نعلم (أحدا) وَافق ابْن عُيَيْنَة عَلَيْهَا، وَلَعَلَّه ذكره من حفظه، فَسبق إِلَيْهِ لِسَانه.
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ للْوَلِيّ مَعَ الثيّب أَمر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - كَذَلِك بِزِيَادَة: «واليتيمة تستأمر وصمتها إِقْرَارهَا» وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: «واليتيمة تستأذن فِي نَفسهَا» .(7/571)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا الحَدِيث رُوَاته ثِقَات. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث صَالح بن كيسَان، عَن نَافِع بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَيْسَ للْوَلِيّ مَعَ الثّيّب أَمر» .
قَالَ الشَّيْخ: وَرِجَاله ثِقَات عِنْدهم، إِلَّا أَن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: لم يسمعهُ صَالح من نَافِع؛ إِنَّمَا سَمعه من عبد الله بن الْفضل عَنهُ، ثمَّ قَالَ الشَّيْخ: عبد الله بن الْفضل ثِقَة.
قلت: رَأَيْته فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» وَزَاد فِي آخِره اتّفق عَلَى ذَلِك مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَسَعِيد بن سَلمَة، عَن صَالح، سَمِعت النَّيْسَابُورِي يَقُول: الَّذِي عِنْدِي أَن معمرًا أَخطَأ فِيهِ.
وَقَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن هَذَا الْخَبَر تفرد بِهِ عبد الله بن الْفضل، عَن نَافِع بن جُبَير بن مطعم ... ثمَّ ذكره من رِوَايَة صَالح، عَن نَافِع، وَلم يصنع شَيْئا؛ فَإِن صَالحا إِنَّمَا سَمعه من عبد الله بن الْفضل، وَذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «كتاب الاقتراح» فِي الْقسم الرَّابِع فِي أَحَادِيث (رَوَاهَا) من أخرج لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَلم يخرجَا تِلْكَ الْأَحَادِيث.
فَائِدَة: قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» أَرَادَ باستئمار الْيَتِيمَة الرِّضَا فِيمَن عزم لَهُ عَلَى العقد عَلَيْهَا؛ فَإِن صمتت فَهُوَ إِقْرَارهَا، وَالْإِذْن لَا يكون(7/572)
إِلَّا للبالغة.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاث لَا تُؤخر: الصَّلَاة إِذا أَتَت، والجنازة إِذا حضرت، والأيم إِذا وجدت لَهَا كفوا» .
هَذَا الحَدِيث تقدم فِي كتاب الصَّلَاة وأسلفنا الْكَلَام عَلَيْهِ هُنَاكَ وَاضحا.
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تنْكِحُوا الْيَتَامَى حَتَّى تستأمروهن» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَذَلِك سَوَاء بِزِيَادَة «فَإِن سكتن فَهُوَ إذنهن» .
من حَدِيث نَافِع، عَن ابْن عمر، ثمَّ صَححهُ، وَذكر فِي الحَدِيث قصَّة، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من حَدِيث(7/573)
أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْيَتِيمَة تستأمر فِي نَفسهَا؛ فَإِن صمتت فَهُوَ إِذْنهَا، فَإِن أَبَت فَلَا جَوَاز عَلَيْهَا» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، ذكره شَاهدا لحَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ الْمَرْفُوع: «تستأمر الْيَتِيمَة فِي نَفسهَا؛ فَإِن سكتت فَهُوَ (رِضَاهَا) وَإِن كرهت فَلَا كره عَلَيْهَا» .
قَالَ: وَهَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَحَدِيث أبي مُوسَى أخرجه ابْن حبّان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «الْيَتِيمَة تستأمر فِي نَفسهَا؛ فَإِن سكتت فقد أَذِنت، وَإِن أَبَت لم تكره» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: «فَإِن بَكت أَو سكتت» زَاد: «بَكت» . قَالَ أَبُو دَاوُد: وَلَيْسَت مَحْفُوظَة، وَهُوَ وهم فِي الحَدِيث، الْوَهم من (ابْن) إِدْرِيس - يُرِيد: عبد الله بن إِدْرِيس الأودي الْكُوفِي» .
تَنْبِيه: لما اسْتدلَّ الرَّافِعِيّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَن الْعُصُوبَة لَا تفِيد تَزْوِيج الصَّغِيرَة، قَالَ: وَنَحْوه من الْأَخْبَار، وَأَرَادَ بذلك من (أوردناه) من حَدِيث أبي مُوسَى وَأبي هُرَيْرَة وَغَيرهمَا، فَتنبه لذَلِك.(7/574)
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأذن، وإذنها صماتها» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه أول الْبَاب فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِي رِوَايَة (للْحَاكِم) : «الْوَلَاء لحْمَة كلحمة من النّسَب لَا تبَاع وَلَا توهب» .
وسنشبع الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث فِي بَاب الْوَلَاء - إِن وصلنا إِلَيْهِ، إِن شَاءَ الله ذَلِك وَقدره وَقد فعل وَللَّه الْحَمد.
فَائِدَة: قَالَ جُمْهُور أهل اللُّغَة - فِيمَا حَكَاهُ النَّوَوِيّ (فِي «تهذيبه» -: لحْمَة الثَّوْب وَالنّسب بِضَم اللَّام فيهمَا. وَحَكَى الْأَزْهَرِي وَغَيره) عَن ابْن الْأَعرَابِي فتحهَا فيهمَا، قَالَ الأزهرى: وَمَعْنى الحَدِيث قرَابَة كقرابة النّسَب.(7/575)
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «السُّلْطَان وليّ من لَا وليّ لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي الْبَاب قبله، و (هُوَ) الحَدِيث السَّابِع مِنْهُ؛ فَرَاجعه من ثمَّ.
الحَدِيث الثَّامِن
«أَن شعيبًا عَلَيْهِ السَّلَام زوج وَهُوَ مكفوف الْبَصَر» أما كَونه هُوَ المزوج فَعَلَيهِ أَكثر (الْمُفَسّرين) كَمَا حَكَاهُ السُّهيلي وَغَيره (و) أما كَونه مكفوف الْبَصَر، فَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: (وإنّا لنراك فِينَا ضَعِيفا) قَالَ: كَانَ شُعَيْب أَعْمَى» (ثمَّ) قَالَ: صَحِيح (عَلَى) شَرط مُسلم.
وَفِي «تَارِيخ الْحَافِظ أبي بكر الْخَطِيب» عَن شَدَّاد - مَرْفُوعا - قَالَ: «بَكَى شُعَيْب من (حب) الله حَتَّى عمي ... » (ثمَّ ذكر الحَدِيث) وَفِيه: «فَلِذَا أخدمتك مُوسَى كليمي» وَهَذَا حَدِيث بَاطِل لَا أصل لَهُ، فِيهِ إِسْمَاعِيل بن عَلّي بن الْمثنى الإستراباذي الْوَاعِظ(7/576)
كتب عَنهُ الْخَطِيب وَقَالَ: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ ابْن طَاهِر: مزقوا حَدِيثه بَين يَدَيْهِ (بِبَيْت [2] ) الْمُقَدّس! وَفِي «شرح التَّنْبِيه» للحبلي عَن «الْبَحْر» أَنه قَالَ فِي كتاب الشَّهَادَات إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن أَعْمَى. قَالَ: (وَقيل) كَانَ وَلَكِن طَرَأَ [عَلَيْهِ] الْعَمى بعد النُّبُوَّة وَأَدَاء الرسَالَة وفراغها.
فَائِدَة: رَوَى الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي كتاب التَّفْسِير «أَن الَّتِي تزَوجهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام صفورة، وَأُخْتهَا: شرقاء» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح (عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ) .
قلت: وصفورة هَذِه هِيَ الَّتِي جَاءَتْهُ تمشي عَلَى استحياء وَقَالَت لأَبِيهَا اسْتَأْجرهُ.
وَفِي كتاب «حلية الْأَوْلِيَاء» اسْمهَا: صفراء، وَقَالَ الشّعبِيّ وَغَيره: اسْم إِحْدَى ابْنَتَيْهِ: صفوراء، وَالْأُخْرَى: لياء (وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: اسْم إِحْدَاهمَا: صفورة، وَالْأُخْرَى: شرهاء. وَقَالَ غَيره: شرقاء، وَقد سلفت، وَقيل: إِن الْكُبْرَى اسْمهَا: صفوراء، وَالصُّغْرَى: صفيراء) .
الحَدِيث التَّاسِع
عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد وشاهدي عدل» .(7/577)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مُسلم، عَن (ابْن) خثيم، [عَن سعيد بن جُبَير] ، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور (و) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبيد الله بن [عمر] القواريري، ثَنَا [عبد الله] بن دَاوُد، سَمعه من سُفْيَان، ذكره عَن ابْن خثيم، عَن سعيد بن جُبَير [عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما] عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِن شَاءَ الله - قَالَ: «لَا نِكَاح إِلَّا بِإِذن ولي مرشد أَو سُلْطَان» كَذَا قَالَ أَبُو الْمثنى معَاذ بن مثنى، عَن القواريري، وَرَوَاهُ غَيره عَن القواريري فَقَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من غير اسْتثِْنَاء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ القواريري مَرْفُوعا، والقواريرى ثِقَة، إِلَّا أَن الْمَشْهُور (فِي هَذَا الْإِسْنَاد) وَقفه (عَلَى ابْن عَبَّاس، وَقَالَ فِي(7/578)
«خلافياته» : القواريري ثِقَة ( ... ) عَدَالَته. وَقَالَ [الضياء] فِي «أَحْكَامه» : لَا بَأْس بِإِسْنَادِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِلَّا أَن الْمَشْهُور وَقفه) وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ ثَابت عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره.
قلت: وَالْمَوْقُوف رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن الثَّوْريّ (عَن ابْن خثيم) ، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «لَا نِكَاح إِلَّا بِإِذن ولي مرشد أَو سُلْطَان» وَرَوَاهُ عَن ابْن خثيم غير الثَّوْريّ، وَفِي رِوَايَة: «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي أَو سُلْطَان وَإِن أنْكحهَا (سَفِيه مسخوط عَلَيْهِ فَلَا نِكَاح لَهُ) » .
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا ينْكح الْمحرم وَلَا ينْكح» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَزَاد: «وَلَا يخْطب» وَعند ابْن حبّان زِيَادَة: «وَلَا يخْطب عَلَيْهِ» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ فِي بعض الرِّوَايَات: «وَلَا يشْهد» .
(قلت) : هَذِه رِوَايَة غَرِيبَة، وَفِي «الْكِفَايَة» لِابْنِ الرّفْعَة أَنَّهَا غير ثَابِتَة. وعلق فِي «الْمطلب» الْحجَّة عَلَى ثُبُوتهَا، وَفِي «شرح المهذّب»(7/579)
عَن الْأَصْحَاب أَنهم قَالُوا: إِنَّهَا لَيست ثَابِتَة.
فَائِدَة: لَا يَنكح هُوَ بِفَتْح الْيَاء، وَلَا يُنكح هُوَ بضَمهَا مَعْنَاهُ: وَلَا يتَزَوَّج وَلَا يُزَوّج. قَالَ العسكري: من فتح الْكَاف من (الثَّانِي) فقد صحّف. وَقَوله: «وَلَا يخْطب» أَي: لَا يخْطب الْمَرْأَة، وَهُوَ طلب زواجها، وَقيل: لَا يكون خَطِيبًا فِي النِّكَاح بَين يَدي العقد. قَالَه الْمَاوَرْدِيّ، والفارقي، وَابْن أبي عصرون، وَنَقله صَاحب «الْمطلب» فِي كتاب النِّكَاح، عَن الْمَاوَرْدِيّ فأقره، وأمّا النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْعلمَاء كَافَّة (أَن المُرَاد الْخطْبَة بِكَسْر الْخَاء) ثمَّ نقل عَن الفارقي مَا أسلفناه ثمَّ قَالَ: إِنَّه (خطأ صَرِيح) قَالَ: وَلَا أَدْرِي مَا حمله عَلَى هَذَا الَّذِي (تعسفه) وتجاسر عَلَيْهِ؟ !
قلت: قد علمت أَنه لم ينْفَرد بِهِ، وَابْن الرّفْعَة نَقله عَنهُ وَأقرهُ، فَقَالَ: المُرَاد بقوله: «وَلَا يخْطب» أَي: لَا يكون خَطِيبًا فِي النِّكَاح بَين يَدي العقد - كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ، وَصَححهُ ابْن الرّفْعَة أَيْضا فِي حَاشِيَة كتبهَا عَلَى «الْكِفَايَة» .
الحَدِيث الحادى عشر
رُوِيَ مَرْفُوعا وموقوفًا «لَا نِكَاح إِلَّا بأَرْبعَة: خَاطب، وَولي، وَشَاهد» .(7/580)
هَذَا الحَدِيث [رَواه] مَرْفُوعا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده الْمُغيرَة بن مُوسَى الْبَصْرِيّ، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عديّ: هُوَ فِي نَفسه ثِقَة.
قلت: وَقَالَ ابْن حبَان: يَأْتِي عَلَى الثِّقَات بِمَا لَا يشبه حَدِيث الْأَثْبَات؛ فَبَطل الِاحْتِجَاج بِهِ فِيمَا لم يُوافق الثِّقَات.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عَائِشَة مَرْفُوعا: «لَا بدّ فِي النِّكَاح من أَرْبَعَة: الْوَلِيّ، وَالزَّوْج (والشاهدي) » .
وَفِي إِسْنَاده أَبُو الخصيب، واسْمه: نَافِع بن ميسرَة، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ مَجْهُول.
وَأما رِوَايَة الْمَوْقُوف فرواها الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» عَن ابْن عَبَّاس: «لَا نِكَاح إِلَّا بأَرْبعَة: ولي، وشاهدي، وخاطب» .
ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ مُعَاوِيَة بن هِشَام، عَن سُفْيَان، عَن أبي يَحْيَى، عَن رجل يُقَال لَهُ: الحكم بن ميناء (عَن قَتَادَة) عَن ابْن عَبَّاس: « (لَا نِكَاح إِلَّا بأَرْبعَة: ولي، وشاهدي. قَالَ: أدنَى مَا يكون فِي النِّكَاح أَرْبَعَة: بِزَوْج، وَالَّذِي يُزوج، وشاهدان» .(7/581)
قَالَ: وَله شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن قَتَادَة، عَن ابْن عَبَّاس) .
قلت: لكنه مُنْقَطع؛ قَتَادَة لم يدْرك ابْن عَبَّاس.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعَلي: لَا تُؤخر أَرْبعا» وَذكر مِنْهَا: تَزْوِيج الْبكر إِذا وجدت لَهَا كفوا. هَذَا الحَدِيث تقدم فِي الحَدِيث الثَّالِث من أَحَادِيث الْبَاب، لَكِن لفظ «لَا تُؤخر ثَلَاثًا» بدل «أَرْبعا» فَرَاجعه من ثمَّة.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «نَحن وَبَنُو الْمطلب شَيْء وَاحِد» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي كتاب قسم الصَّدقَات، فَرَاجعه من ثمَّ.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله عَزَّ وَجَلَّ اصْطَفَى بني كنَانَة من بني إِسْمَاعِيل، وَاصْطَفَى من بني كنَانَة قُريْشًا، وَاصْطَفَى من قُرَيْش بني هَاشم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ... فَذكره، وَزَاد فِي آخِره: «اصطفاني من بني هَاشم» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «دَلَائِل النُّبُوَّة» : وَله شَاهد مُرْسل ... فَذكره من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار،(7/582)
عَن مُحَمَّد بن عَلّي أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله اخْتَار (فَاخْتَارَ) الْعَرَب، ثمَّ اخْتَار مِنْهُم كنَانَة - أَو النَّضر بن كنَانَة - ثمَّ اخْتَار مِنْهُم قُريْشًا، ثمَّ اخْتَار (مِنْهُم) بني هَاشم، ثمَّ اختارني من بني هَاشم» .
قَالَ: وَرُوِيَ من أوجه بِمَعْنَاهُ.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْعَرَب أكفاء، بَعضهم لبَعض، قَبيلَة لقبيلة، وحيّ لحيّ، وَرجل لرجل إلاّ حائكٌ أَو حجام» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف وَله طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: طَرِيق ابْن عمر، وَعنهُ طرق:
أَولهَا: من حَدِيث نَافِع عَنهُ، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث زرْعَة بن عبد الله عَن عمرَان بن [أبي] الْفضل، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا ... فَذكره بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، فَقَالَ: حَدِيث مُنكر، رَوَاهُ هِشَام الرَّازِيّ فَزَاد فِيهِ بعد: «أَو حجام أَو دباغ» ، فَقَالَ: (فَاجْتمع) عَلَيْهِ الدبَّاغُونَ واجتمعوا حَتَّى إِن بعض النَّاس حسَّن الحَدِيث، وَقَالَ: إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَو دباب إِنَّمَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ الَّذين (يتحدثون) الدباب.(7/583)
ثَانِيهَا: من حَدِيث ابْن أبي مليكَة عَنهُ، ذكره الْحَاكِم من حَدِيث ابْن جريج، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «الْعَرَب بَعضهم أكفاء لبَعض، قَبيلَة لقبيلة، وَرجل لرجل (والموالي إِلَى بَعْضهَا أكفاء لبَعض، قَبيلَة لقبيلة، وَرجل لرجل) إِلَّا حائك أَو حجام» .
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي مَوضِع آخر من «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ من حَدِيث ابْن جريج، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، فَقَالَ (كَذَا) كذب لَا أصل لَهُ.
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر مِنْهَا: سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ ابْن أبي مليكَة: «الْعَرَب بَعْضهَا لبَعض أكفاء إلاّ حائك وحجام» فَقَالَ: بَاطِل، نهيت فلَانا عَن التحديث بِهِ.
ثَالِثهَا: من حَدِيث زِيَاد عَنهُ، ذكره ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» من حَدِيث بَقِيَّة، عَن زرْعَة، عَن عمرَان بن أبي الْفضل، عَن (زِيَاد) عَنهُ(7/584)
مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر مَوْضُوع. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن ابْن جريج (عَن ابْن أبي مليكَة، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا مثله. قَالَ: وَلَا يَصح عَن ابْن جريج) وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كَلَامه عَلَى «أَحْكَام عبد الْحق» : بقيّة من قد علمت، وزرعة هُوَ ابْن عبد الله بن مُرَاد الزبيري، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم: شيخ مَجْهُول ضَعِيف الحَدِيث، (وَعمْرَان) بن أبي الْفضل ضَعِيف الحَدِيث مُنكر جدًّا. قَالَه ابْن أبي حَاتِم أَيْضا، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» و «تَحْقِيقه» من طَرِيقين عَن نَافِع، عَن ابْن عمر.
أَحدهمَا: من طَرِيق (الدَّارَقُطْنِيّ) بِإِسْنَادِهِ إِلَى بَقِيَّة، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن الْفضل، عَن عبيد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «النَّاس أكفاء قَبيلَة لقبيلة، وعربي لعربي، وَمولى لمولى إِلَّا حائك أَو حجام» .
ثَانِيهمَا: من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن عَن عَلّي بن عُرْوَة، عَن نَافِع عَنهُ مَرْفُوعا: «الْعَرَب بَعْضهَا لبَعض أكفاء إِلَّا حائك أَو حجام، ثمَّ قَالَ: وَفِي الطَّرِيقَيْنِ: مُحَمَّد بن الْفضل وَعُثْمَان(7/585)
بن عبد الرَّحْمَن، وَعلي بن عُرْوَة، وَبَقِيَّة (وَكلهمْ) ضِعَاف.
قَالَ ابْن حبَان: عَلّي بن عُرْوَة يصنع الحَدِيث. وَذكره فِي «علله» من الطَّرِيق الثَّالِث عَن ابْن عمر بِلَفْظ: «الْعَرَب بَعضهم لبَعض أكفاء، رجل لرجل، وَحي لحي، وقبيلة لقبيلة، والموالي مثل ذَلِك إلاّ حائك أَو حجام» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لأجل عمرَان بن أبي الْفضل، ثمَّ ضعفه.
الطَّرِيق الثانى: من حَدِيث معَاذ بن جبل رَفعه: «الْعَرَب بَعْضهَا لبَعض أكفاء، والموالي بَعْضهَا لبَعض أكفاء» .
رَوَاهُ الْبَزَّار - فِيمَا حَكَاهُ ابْن الْقطَّان عَنهُ - عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، ثَنَا سُلَيْمَان بن أبي الجون، ثَنَا ثَوْر بن يزِيد، عَن خَالِد بن (معدان) عَن معَاذ مَرْفُوعا بِهِ (وَهَذَا مُنْقَطع) قَالَ الْبَزَّار وَغَيره: خَالِد بن معدان لم يسمع من معَاذ. قَالَ ابْن القطّان: وَسليمَان هَذَا لم أجد لَهُ ذكرا.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اخْتَار الْفقر عَلَى الْغِنَى» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا لأصح الْوَجْهَيْنِ أَن الْيَسَار لَيست من شُرُوط (الْكَفَاءَة) وَقد أسلفنا فِي بَاب قسم الصَّدقَات أَن حَدِيث(7/586)
«الْفقر فخري» لَا أصل لَهُ، نعم صَحَّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خُير فِي مَفَاتِيح كنوز الأَرْض فَردهَا وَلم يقبلهَا» لكنه لَا يَنْفِي مُطلق الْغِنَى الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى: (ووجدك عائلاً فأغنى) . نعم قدمنَا هُنَاكَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ المسكنة واستعاذ من شرّ فتْنَة الْغِنَى وَمن شرّ فتْنَة الْفقر، فَلَو أبدل الرَّافِعِيّ الْفقر بالمسكنة لطابق هَذَا، فَتَأمل ذَلِك.
الحَدِيث السَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث (أبي الدَّرْدَاء) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل ذكره برمتِهِ فِي أول «شرح الْمِنْهَاج» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي كِتَابه الْمُسَمَّى ب «أَخْبَار (الْحَقَائِق) وأخبار الرَّقَائِق» - وَهُوَ كتاب جليل رَأَيْت مِنْهُ أوراقًا -: قد خُولِفَ ابْن حبَان (فِي) حكمه. قَالَ ذَلِك بعد أَن عزاهُ إِلَيْهِ مَعَ (د، ق) وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : عَاصِم - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي سَنَده - وَمن فَوْقه(7/587)
ضعفاء، (وَلَا يَصح) .
قلت: عَاصِم هُوَ ابْن رَجَاء بن حَيْوَة، وَثَّقَهُ أَبُو زرْعَة وَيَحْيَى بن معِين، وفوقه: دَاوُد بن جميل وَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَضَعفه الْأَزْدِيّ، وفوقه: كثير بن قيس، وَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَذكر الْمُنْذِرِيّ عَن ابْن سميع أَنه قَالَ: أَمْرُه ضَعِيف، لم يُثبتهُ أَبُو سعيد - يَعْنِي: دُحَيْمًا.
وَهَذَا هُوَ المُرَاد بقول الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: خُولِفَ ابْن حبَان فِي حكمه. وَكَأَنَّهُ تبع الْمُنْذِرِيّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «مُخْتَصر السُّنن» : اخْتلف فِي هَذَا الحَدِيث اخْتِلَافا كثيرا وَكَذَا قَول الذَّهَبِيّ فِي «تذهيبه» و «مِيزَانه» : إِنَّه مُضْطَرب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد من طَرِيق أُخْرَى بِإِسْنَاد أَجود من هَذَا، إِلَّا أَن فِيهِ شبيب بن شيبَة وَهُوَ مَسْتُور، وَلم يرو عَنهُ إِلَّا الْوَلِيد بن مُسلم، وَفِي «البُخَارِيّ» بَاب الْعلم قبل القَوْل وَالْعَمَل؛ لقَوْل الله - تَعَالَى -: (فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله) فَبَدَأَ بِالْعلمِ، وَأَن الْعلمَاء (هم) وَرَثَة الْأَنْبِيَاء؛ ورثوا الْعلم، من أَخذه أَخذ بحظ وافر، و «من(7/588)
سلك طَرِيقا يطْلب بِهِ علما سهّل الله لَهُ طَرِيقا إِلَى الْجنَّة» هَذَا نَص مَا ذكر.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث «الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء» بأسانيد صَالِحَة.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لفاطمة بنت قيس: انكحي أُسَامَة. فنكحته وَهُوَ مولَى وَهِي قرشية» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم، وَهُوَ طرف من الحَدِيث السالف فِي بَاب النَّهْي أَن يخْطب الرجل عَلَى خطْبَة أَخِيه.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
عَن سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أنكح الوليان فَالْأول أَحَق» وَيروَى: «أيّ امْرَأَة زَوجهَا وليان فَهِيَ للْأولِ مِنْهُمَا» .
هَذَا الحَدِيث جيد، رَوَاهُ أَحْمد والدارمي فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمْ» من (حَدِيث) قَتَادَة،(7/589)
عَن الْحسن (عَن) سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول (: «أيّما امْرَأَة زَوجهَا وليان فَهِيَ للْأولِ مِنْهُمَا، وأيّما رجل بَاعَ بيعا من رجلَيْنِ فَهُوَ للْأولِ مِنْهُمَا» وَرَوَى ابْن مَاجَه مِنْهُ الْقطعَة الثَّانِيَة لَكِن عَن عقبَة أَو سَمُرَة، عَلَى الشَّك.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة الرازيان: حَدِيث صَحِيح. وَأخرجه بِلَفْظ أَصْحَاب السّنَن الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ، هَذَا مَا ذكره فِي كتاب البيع، ثمَّ أَعَادَهُ فِي هَذَا الْبَاب، فَذكره بِأَلْفَاظ:
أَحدهَا: كَمَا ذكره فِي البيع.
ثَانِيهَا: بِلَفْظ «إِذا نكح الوليان فَهُوَ للْأولِ وَإِذا بَاعَ المجيزان فَهُوَ للْأولِ» .
ثَالِثهَا: «إِذا نكح المجيزان فَالْأول أَحَق» ثمَّ قَالَ: هَذِه الطّرق الَّتِي ذكرتها (لهَذَا الْمَتْن كلهَا صَحِيحَة عَلَى شَرط البُخَارِيّ، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» أَن من) يحْتَج بالْحسنِ، عَن سَمُرَة يلْزمه تَصْحِيحه.(7/590)
قلت: وَقد أسلفنا الْخلاف فِي هَذِه التَّرْجَمَة فِي بَاب كَيْفيَّة الصَّلَاة، فَرَاجعهَا من ثمَّ.
وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث أَيْضا من حَدِيث الْحسن، عَن عقبَة بن عَامر رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن ابْن علية، عَن ابْن أبي (عرُوبَة) عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن عقبَة بن عَامر رَفعه «إِذا أنكح الوكيلان فَالْأول أَحَق» .
وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا عَن يُونُس، ثَنَا أبان، عَن قَتَادَة وَلَفظه: «إِذا أنكح الوليان فَهُوَ للْأولِ مِنْهُمَا، وَإِذا بَاعَ الرجل بيعا من رجلَيْنِ فَهُوَ للْأولِ مِنْهُمَا» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من هَذَا الْوَجْه، قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: وَلم يسمع الْحسن (من) عقبَة شَيْئا، وَقَالَ (التِّرْمِذِيّ) : الصَّحِيح رِوَايَة من رَوَاهُ عَن سَمُرَة.
فَائِدَة: المخيران فِي لفظ الحَدِيث فِي الْمَوْضِعَيْنِ ضَبطه الْمزي فِي أَطْرَافه بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمُهْملَة من التَّخْيِير، وَوَجهه تخير الْمَرْأَة لكل وَاحِد من الوليين فِي الزَّوْجَيْنِ، وَضَبطه الذَّهَبِيّ فِي اختصاره للبيهقي(7/591)
بِالْجِيم وَالزَّاي من الْإِجَازَة؛ لِأَن كلا مِنْهُمَا يُجِيز مَا أَذِنت فِيهِ أَو بِمَا بَاعه، وَهَذَا مَا يحفظه.
الحَدِيث (الْعشْرُونَ)
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أيّما مَمْلُوك نكح بِغَيْر إِذن مَوْلَاهُ فَهُوَ عاهر» وَيروَى «فنكاحه بَاطِل» .
هَذَانِ حديثان ليسَا بِحَدِيث كَمَا يفهمهُ إِيرَاد الرَّافِعِيّ أَنه حَدِيث ذُو رِوَايَتَيْنِ، رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأول: أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : فِي إِسْنَاده ابْن عقيل. وَمن يحْتَج بِهِ يُصَحِّحهُ.
وَقَالَ ابْن القطّان: إِنَّمَا لم يُصَحِّحهُ التِّرْمِذِيّ؛ لِأَن فِي إِسْنَاده زُهَيْر بن مُحَمَّد، وَابْن عقيل وَقد اخْتلف فيهمَا.
قلت: أخرجه أَحْمد هَكَذَا: حَدثنَا يزِيد بن هَارُون، أبنا همام بن يَحْيَى، عَن الْقَاسِم بن عبد الْوَاحِد، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن جَابر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا عبد تزوج بِغَيْر إِذن [-(7/592)
أَو قَالَ: نكح بِغَيْر إِذن أَهله -] فَهُوَ عاهر» وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الله بن عمر الْعمريّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، وَهُوَ مَوْقُوف وَهُوَ قَول ابْن عمر.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن أخرجه من حَدِيث جَابر، وَرَوَاهُ بَعضهم، عَن ابْن عقيل، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَلَا يَصح، وَالصَّحِيح: عَن ابْن عقيل، عَن جَابر وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأول: ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن عمر (أَيْضا وَهُوَ من الطَّرِيق الَّذِي قَالَ التِّرْمِذِيّ فِيهَا إِنَّهَا لَا تصح، وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر) مَرْفُوعا بِلَفْظ ثَالِث: «أَيّمَا عبد تزوج بِغَيْر إِذن موَالِيه فَهُوَ زانٍ» .
وَهُوَ من رِوَايَة منْدَل، وَهُوَ ضَعِيف (لَا جرم قَالَ أَحْمد: هَذَا حَدِيث مُنكر؛ ومندل ضَعِيف) .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» إِثْر هَذِه الطَّرِيقَة: الصَّوَاب أَنَّهَا مَوْقُوفَة عَلَى ابْن عمر.(7/593)
هَذَا آخر مَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب من الْأَحَادِيث، وَذكر فِيهِ من الْآثَار مَا نَصه: «والانتماء إِلَى شَجَرَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعَلِيهِ بني عمر بن الْخطاب ديوَان المرتزقة» انْتَهَى.
وَهَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِي وَغَيره عَنهُ، وَذكر فِيهِ أَيْضا: «أَن بِلَالًا نكح هَالة بنت عَوْف أُخْت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان (الجُمَحِي) عَن أمه، قَالَت: «رَأَيْت أُخْت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف تَحت بِلَال» .(7/594)
بَاب مَا يحرم من النِّكَاح وأنكحة الْكفَّار
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فَثَلَاثَة عشر حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يحرم من الرضَاعَة مَا يحرم من الْولادَة» وَيروَى «مَا يحرم من النّسَب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ الأول من حَدِيث عَائِشَة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وَبِالثَّانِي من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي مُسلم أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة) وَفِي لفظ لَهُ وللبخاري: «حرمُوا من الرضَاعَة مَا يحرم من النّسَب» .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من نكح(7/595)
امْرَأَة ثمَّ طلَّقهَا قَبْلَ أَن يْدخَلَ بهَا حرمت عَلَيْهِ أمهاتها، وَلم تحرم عَلَيْهِ بنتهَا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» لَكِن من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو - بِالْوَاو فِي آخِره - (رَوَاهُ) من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، وَهُوَ عبد الله بن عَمْرو أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا رجل نكح امْرَأَة فَدخل بهَا فَلَا يحل لَهُ نِكَاح ابْنَتهَا، وَإِن لم يكن دخل بهَا فَلْيَنْكِح ابْنَتهَا، وَأَيّمَا رجل نكح امْرَأَة فَلَا يحل لَهُ أَن ينْكح أمهَا دخل بهَا أَو لم يدْخل بهَا» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح من قبل إِسْنَاده، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْن لَهِيعَة والمثنى بن الصَّباح، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، وَابْن لَهِيعَة والمثنى (يُضعفَانِ) فِي الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّالِث
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يجمع مَاءَهُ فِي رحم أُخْتَيْنِ» وَيروَى «مَلْعُون من جمع (مَاءَهُ) فِي رحم أُخْتَيْنِ» هَذَا الحَدِيث (بلفظيه) غَرِيب جدًّا لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ سِنِين، وَعَزاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» بِاللَّفْظِ الثَّانِي إِلَى(7/596)
(اسْتِدْلَال) أَصْحَابهم الْفُقَهَاء، والرافعي ذكره فِي حُرْمَة الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ. ويغني عَنهُ فِي الدّلَالَة حَدِيث فَيْرُوز الديلمي الْآتِي فِي الْبَاب الْآتِي بعد هَذَا - إِن شَاءَ الله.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تنْكح الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتهَا، وَلَا الْعمة عَلَى بنت أَخِيهَا، وَلَا المرأةُ عَلَى خَالَتِها، وَلَا الْخَاَلةُ عَلَى بنْت أُختِهَا، وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى، وَلَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه من حَدِيث دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن الشّعبِيّ عَنهُ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى أَن تنْكح الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتهَا، أَو الْعمة عَلَى ابْنة أَخِيهَا، وَالْمَرْأَة عَلَى خَالَتهَا، أَو الْخَالَة عَلَى ابْنة أُخْتهَا، لَا تنْكح الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى، وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى» .
وَلَيْسَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: «لَا تنْكح الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى ... .» إِلَى آخِره. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ عَاصِم، عَن(7/597)
الشّعبِيّ، عَن جَابر (لَا) عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن (سَلمَة، عَن عَاصِم، عَن الشّعبِيّ، عَن جَابر وَأبي هُرَيْرَة.
قلت: وَأخرجه ابْن) حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تنْكح الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتهَا، وَعَلَى خَالَتهَا، وَعَلَى بنت أَخِيهَا [وَعَلَى بنت أُخْتهَا] وَنَهَى أَن تنْكح الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى، وَالصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى» .
وأصل حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِلَفْظ «لَا تنْكح العمّة عَلَى بنت الْأَخ، وَلَا ابْنة الْأُخْت عَلَى الْخَالَة» هَذَا لفظ مُسلم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها، وَبَين الْمَرْأَة وخالتها» وَلَفظ البُخَارِيّ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تنْكح الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتهَا، وَالْمَرْأَة عَلَى خَالَتهَا» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «لَا يجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها، وَلَا بَين الْمَرْأَة وخالتها» وَرَوَاهُ البُخَارِيّ بِنَحْوِهِ من حَدِيث جَابر أَيْضا، وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان من حَدِيث(7/598)
ابْن عَبَّاس، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَفِي إِسْنَاده مُتَكَلم فِيهِ.
وَرَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث عَلّي، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن عمر (قَالَ التِّرْمِذِيّ) : وَفِي الْبَاب عَن أبي سعيد وَأبي أُمَامَة وَابْن عمر وَعَائِشَة وَأبي مُوسَى، وَسمرَة بن جُنْدُب. قَالَ: وَعلي وَابْن (عَمْرو) وَجَابِر، وَهَؤُلَاء أسلفناهم.
قَالَ ابْن مَنْدَه: وَفِيه أَيْضا عَن سعد بن أبي وَقاص، وَزَيْنَب امْرَأَة ابْن مَسْعُود.
قلت: فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَة عشر صحابيًّا، وَاعْلَم أَن الشَّافِعِي قَالَ: لم يرو هَذَا الحَدِيث من وَجه يُثبتهُ أهل الحَدِيث (عَن) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا عَن أبي هُرَيْرَة. فَاعْترضَ الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ: رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة (إِلَّا) أَنَّهَا لَيست من شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَقد أخرج البُخَارِيّ رِوَايَة(7/599)
عَاصِم الْأَحول عَن الشّعبِيّ، عَن جَابر إِلَّا أَنهم يرَوْنَ أَنَّهَا خطأ، وَأَن الصَّوَاب رِوَايَة دَاوُد بن أبي هِنْد، وَابْن عون، عَن الشّعبِيّ، عَن أبي هُرَيْرَة.
قلت: لقَائِل أَن يَقُول يحْتَمل أَن (يكون) الشّعبِيّ سَمعه مِنْهُمَا، وَيُؤَيِّدهُ إِخْرَاج البُخَارِيّ لَهما فِي «صَحِيحه» عَلَى أَن دَاوُد بن أبي هِنْد اخْتلف عَلَيْهِ فِيهِ، فرُوي عَنهُ عَن الشّعبِيّ كَمَا ذكره الْبَيْهَقِيّ، وَأخرجه مُسلم من حَدِيثه، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَا يلْزم من كَونهَا لَيست عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ ضعفها.
قَالَ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام الْكُبْرَى (وَالصُّغْرَى فِي الدرجَة لَا فِي السن، وَالصُّغْرَى بنت الْأَخ وَبنت الْأُخْت، والكبرى الْعمة) وَالْخَالَة. قَالَ: وَالْمعْنَى أَن سَبَب تَحْرِيم الْجمع مَا فِيهِ من قطيعة الرَّحِم (الموحشة، والمنافسة) القوية بَين الضرتين.
رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه أَشَارَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّكُم إِذا فَعلْتُمْ ذَلِك قطعْتُمْ أرحامهن» .
قلت: وَهَذَا الْمَرْوِيّ هُوَ الحَدِيث الْخَامِس من أَحَادِيث (الْبَاب) .(7/600)
أخرجه ابْن عدي من حَدِيث (أبي) حريز، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تزوج الْمَرْأَة عَلَى الْعمة أَو عَلَى الْخَالَة، وَقَالَ: إِنَّكُم إِذا فَعلْتُمْ ذَلِك قطعْتُمْ أَرْحَامكُم» .
وَرَوَاهُ ابْن عبد الْبر من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها، وَبَين الْمَرْأَة وخالتها وَقَالَ: إنكن إِذا فعلتن ذَلِك قطعتن أرحامكن» .
وَأخرجه كَذَلِك أَبُو مُحَمَّد الْأصيلِيّ - عَلَى مَا نَقله عَنهُ عبد الْحق، ثمَّ ابْن الْقطَّان - من هَذَا الْوَجْه أَيْضا بِلَفْظ ابْن عدي إِلَّا أَنه قَالَ: «إنكنّ إِذا فعلتن ذَلِك قطعتن أَرْحَامكُم» وَهَذَا الحَدِيث سكت عَلَيْهِ عبد الْحق، ومداره عَلَى (أبي) حريز (و) هَذَا بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، ثمَّ زَاي فِي آخِره، واسْمه: عبد الله بن الْحُسَيْن، قَاضِي سجستان (وحالته) مُخْتَلف فِيهَا، قَالَ أَحْمد: كَانَ يَحْيَى بن سعيد يحمل عَلَيْهِ. وَلَا أرَاهُ إِلَّا كَمَا قَالَ، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: حَدِيثه مُنكر، وضعّفه أَيْضا سعيد بن أبي مَرْيَم وَالنَّسَائِيّ وَأما ابْن معِين، وَأَبُو زرْعَة فوثقاه، وَقَالَ أَبُو(7/601)
حَاتِم: حسن الحَدِيث لَيْسَ بمنكر يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ. ذكر ذَلِك إِثْر إِيرَاده هَذَا الحَدِيث، وَذكر لَهُ عدَّة أَحَادِيث غَيره.
وَأما التِّرْمِذِيّ فصحح حَدِيثا لَهُ، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ لَا جرم أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ ابْن عدي، إِلَّا أَنه قَالَ: «إنكنّ إِذا (فعلتن) ذَلِك قطعتن أرحامكن» بدل ذَلِك، ثمَّ قَالَ: أَبُو حريز (هَذَا اسْمه عبد الله بن الْحُسَيْن قَاضِي سجستان، وَأَبُو حريز مولَى الزُّهْرِيّ ضَعِيف اسْمه) سليم، وجميعًا يرويان عَن الزُّهْرِيّ.
الحَدِيث السَّادِس
«أَن غَيْلاَن أَسْلَمَ وتَحَتْهَ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اختر أَرْبعا مِنْهُنَّ وَفَارق سائرهنّ» هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن الثِّقَة (- «فِي الْأُم» : ابْن علية أَو غَيره -) قَالَ الرّبيع: أَحْسبهُ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم (كَمَا(7/602)
سَيَأْتِي) عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ (عَن سَالم) عَن أَبِيه «أَن غيلَان بن سَلمَة الثَّقَفِيّ أسلم وَعِنْده عشر نسْوَة (فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أمسك أَرْبعا وَفَارق سائرهن» وَرَوَاهُ أَحْمد عَن إِسْمَاعِيل، أبنا معمر، عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَلَفظه «اختر» بدل «أمسك» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» من حَدِيث معمر، عَن الزُّهْرِيّ «أَن غيلَان الثَّقَفِيّ أسلم وَعِنْده عشر نسْوَة، فَأمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يَأْخُذ مِنْهُنَّ أَرْبعا» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَأَبُو حَاتِم بن حبَان وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه «أَن غيلَان بن سَلمَة الثَّقَفِيّ أسلم وَله عشر نسْوَة» ) فِي الْجَاهِلِيَّة، فأسلمن مَعَه وَأمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يتَخَيَّر مِنْهُنَّ أَرْبعا» هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ، وَلَفظ ابْن مَاجَه: «أسلم غيلَان بن سَلمَة وَتَحْته عشر نسْوَة، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خُذ مِنْهُنَّ أَرْبعا» وَلَفظ الْحَاكِم بِنَحْوِ هَذِه الرِّوَايَة، وَأما ابْن حبَان فَإِنَّهُ أخرجه بِأَلْفَاظ:
أَحدهَا: «فَأمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يتَخَيَّر مِنْهُنَّ أَرْبعا وَيتْرك سائرهن» .
ثَانِيهَا: «أمسك أَرْبعا وَفَارق سائرهن» .
ثَالِثهَا: «اختر مِنْهُنَّ أَرْبعا» ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر المدحض قَول(7/603)
من زعم أَن هَذَا الْخَبَر حدث بِهِ معمر بِالْبَصْرَةِ. ثمَّ سَاقه كَذَلِك، وَمُلَخَّصه: أَنه سَاقه من حَدِيث إِسْمَاعِيل ابْن علية، وَالْفضل بن مُوسَى، وَعِيسَى بن يُونُس كلهم (عَن) معمر، عَن الزُّهْرِيّ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَكَذَا رَوَى هَذَا الحَدِيث معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه. قَالَ: وَسمعت البُخَارِيّ يَقُول: هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ، وَالصَّحِيح: مَا رَوَاهُ شُعَيْب بن أبي حَمْزَة وَغَيره، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: (حدثت) عَن مُحَمَّد بن سُوَيْد الثقفيٍ «أَن غيلَان بن سَلمَة الثَّقَفِيّ أسلم وَعِنْده عشر نسْوَة» قَالَ البُخَارِيّ: وَإِنَّمَا حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه «أَن رجلا من ثَقِيف طلق نِسَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ عمر: لترجعنّ نِسَاءَك (أَو لأرجمن قبرك) كَمَا رجم قبر أبي رِغَال» انْتَهَى مَا ذكره التِّرْمِذِيّ.
وَقد (جمع) الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث (وَكَذَا ابْن حبَان فِي إِحْدَى رواياته بَين (هذَيْن) الْحَدِيثين بِهَذَا السَّنَد، فَلَيْسَ مَا ذكره البُخَارِيّ، قَادِحًا فِي صِحَّته، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : قَالَ أَبُو زرْعَة: الْمُرْسل أصح وَنَقَل نَحوه عَن وَالِده، وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بعد أَن رَوَاهُ من طَرِيق معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه كَمَا تقدم.(7/604)
هَكَذَا رَوَاهُ المتقدمون من أَصْحَاب (سعيد بن [أبي عرُوبَة] وَيزِيد بن زُرَيْع) وَإِسْمَاعِيل ابْن علية، وغندر، وَالْأَئِمَّة الْحفاظ من أهل الْبَصْرَة، وَقد [حكم] الإِمَام مُسلم بن الْحجَّاج أَن هَذَا الحَدِيث مِمَّا وهم فِيهِ معمر بِالْبَصْرَةِ، فَإِن رَوَاهُ عَنهُ ثِقَة خَارج الْبَصرِيين حكمنَا بِالصِّحَّةِ فَوجدت سُفْيَان الثَّوْريّ، وَعبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْمحَاربي، وَعِيسَى بن يُونُس - وثلاثتهم كوفيون - حدثوا بِهِ عَن معمر (ثمَّ سَاق ذَلِك الْحَاكِم عَنْهُم بأسانيده ثمَّ قَالَ: وَهَكَذَا وجدت الحَدِيث عِنْد أهل الْيَمَامَة، عَن معمر، وَعند الْأَئِمَّة الخراسانيين عَن معمر ثمَّ سَاق ذَلِك عَنْهُم بأسانيده) ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجتهادي أَن معمر بن رَاشد حدث بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أرْسلهُ مرّة وَوَصله أُخْرَى.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن (الَّذين) وصلوه (عَنهُ) من أهل الْبَصْرَة أَرْسلُوهُ أَيْضا، والوصل أولَى من الْإِرْسَال؛ فَإِنَّ الزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة، انْتَهَى كَلَام الْحَاكِم أبي عبد الله.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن الثِّقَة، أَحْسبهُ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم كَمَا قَالَه الرّبيع، وَرَوَاهُ سعيد بن أبي عرُوبَة بِمَعْنَاهُ، وتابعهما يزِيد بن زُرَيْع، وَمُحَمّد بن جَعْفَر غنْدر، وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة من الْأَئِمَّة الْحفاظ من أهل الْبَصْرَة، ثمَّ ذكر كَلَام مُسلم الَّذِي نَقله(7/605)
الْحَاكِم، ثمَّ قَالَ: وجدنَا سُفْيَان الثَّوْريّ، وَعبد الرَّحْمَن الْمحَاربي، وَعِيسَى بن يُونُس - وثلاثتهم كوفيون - حدثوا بِهِ عَن معمر مُتَّصِلا.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَن يَحْيَى بن أبي كثير وَهُوَ يماني، وَعَن الْفضل بن مُوسَى، وَهُوَ خراساني، عَن معمر مُتَّصِلا فصح الحديثان بذلك.
(ثمَّ) قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ، عَن نَافِع، وَسَالم، عَن ابْن عمر مُتَّصِلا رَوَاهُ عَنهُ سرّار بن مجشر.
قلت: وَكَذَلِكَ أخرجه (س) قَالَ أَبُو عَلّي الْحَافِظ: تفرد بِهِ سرار وَهُوَ بَصرِي ثِقَة (وَكَذَا قَالَ يَحْيَى بن معِين إِنَّه ثِقَة) قَالَ أَبُو عبد الله: (رُوَاة هَذَا الحَدِيث) كلهم ثِقَات تقوم الْحجَّة بروايتهم. وَذكر الْحَافِظ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» هَذَا الحَدِيث من طَرِيق التِّرْمِذِيّ، وَأتبعهُ بقول البُخَارِيّ الْمُتَقَدّم، ثمَّ قَالَ: [قَالَ] ابْن عبد الْبر: الْأَحَادِيث فِي تَحْرِيم نِكَاح مَا زَاد عَلَى الْأَرْبَع كلهَا معلولة.
قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : لم (يبين) عبد الْحق علّة حَدِيث غيلَان، ولنبينها كَمَا يُرِيد مضعفوه، وَإِن كَانَت عِنْدِي لَيست بعلة؛ فَاعْلَم أَنه حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيّ، فقوم رَوَوْهُ عَنهُ مُرْسلا فَمنهمْ مَالك(7/606)
كَمَا سَيَأْتِي، وَمِنْهُم معمر عَنهُ، قَالَ: أسلم غيلَان. فهذان قَولَانِ، وَقَول ثَالِث: عَن ابْن وهب، عَن يُونُس، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُثْمَان بن مُحَمَّد (بن) أبي سُوَيْد «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لغيلان ... » الحَدِيث.
وَقَول (ثَان) عَن يُونُس: رَوَاهُ اللَّيْث، عَن يُونُس، عَن ابْن شهَاب، قَالَ: بَلغنِي عَن عُثْمَان بن أبي سُوَيْد «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره.
وَقَول ثَالِث عَنهُ - أَعنِي: الزُّهْرِيّ - وَهُوَ قَول البُخَارِيّ الْمُتَقَدّم الَّذِي نَقله التِّرْمِذِيّ عَنهُ.
وَقَول رَابِع عَنهُ: رَوَاهُ معمر عَنهُ، عَن سَالم، عَن أَبِيه «أَن غيلَان ... » الحَدِيث كَمَا تقدم يرويهِ عَن معمر هَكَذَا (مَرْوَان) بن مُعَاوِيَة و (سعيد) بن أبي عرُوبَة وَيزِيد بن زُرَيْع، وَقد ذكرهَا التِّرْمِذِيّ فِي «علله» بِإِسْنَادِهِ، وَقد رَوَاهُ أَيْضا الثَّوْريّ، عَن معمر ذكر ذَلِك الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» من رِوَايَة يَحْيَى بن سعيد عَنهُ، وَذكر جمَاعَة أَيْضا رَوَوْهُ عَن معمر كَذَلِك [إِلَّا أَنه لم يُوصل بهَا الْأَسَانِيد] وَذكر [أَن] يَحْيَى بن سَلام رَوَاهُ عَن مَالك، عَن الزُّهْرِيّ كَذَلِك. قَالَ ابْن القطّان.(7/607)
وَهَذَا هُوَ الحَدِيث الَّذِي اعْتَمدهُ هَؤُلَاءِ [فِي] تخطئة معمر فِيهِ وَمَا ذَاك بالبين؛ فَإِن معمرًا حَافظ، وَلَا بعد فِي أَن يكون عِنْد الزُّهْرِيّ فِي هَذَا كل مَا رَوَى عَنهُ وَإِنَّمَا اتجهت تخطئتهم رِوَايَة معمر هَذِه من حَيْثُ الاستبعاد أَن يكون الزُّهْرِيّ يرويهِ بِهَذَا الْإِسْنَاد الصَّحِيح عَن سَالم، عَن أَبِيه مَرْفُوعا، ثمَّ يحدث بِهِ عَلَى تِلْكَ الْوُجُوه الْوَاهِيَة؛ تَارَة يُرْسِلهُ من قبله، وَتارَة عَن عُثْمَان بن مُحَمَّد (بن) أبي سُوَيْد وَهُوَ لَا يعرف الْبَتَّةَ، وَتارَة يَقُول: بَلغنِي عَن عُثْمَان هَذَا، وَتارَة عَن مُحَمَّد بن سُوَيْد الثَّقَفِيّ، وَهَذَا عِنْدِي غير مستبعد أَن يحدث بِهِ عَلَى هَذِه الْوُجُوه كلهَا فيعلق كل وَاحِد من الروَاة عَنهُ مِنْهَا بِمَا تبين لَهُ حفظه، فَرُبمَا اجْتمع كل ذَلِك عِنْد أحدهم أَو أَكْثَره أَو أَقَله، وأمَّا مَا قَالَ البُخَارِيّ إِن الزُّهْرِيّ إِنَّمَا رَوَى عَن سَالم، عَن أَبِيه «أَن عمر قَالَ لرجل من ثَقِيف طلق نِسَاءَهُ: لتراجعن نِسَاءَك أَو لأرجمنك كَمَا رجم قبر أبي رِغَال» فَإِنَّهُ قد رُوِيَ من غير رِوَايَة الزُّهْرِيّ أَن عمر قَالَ ذَلِك لَهُ فِي حَدِيث وَاحِد ذكر فِيهِ «تخيَّر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَهُ إِيَّاه حِين أسلم» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ثَنَا مُحَمَّد بن نوح الجنديسابوري، ثَنَا عبد القدوس بن مُحَمَّد، وثنا مُحَمَّد بن مخلد، ثَنَا حَفْص بن (عَمْرو)(7/608)
بن يزِيد، قَالَا: ثَنَا سيف بن (عبيد الله) (الْجرْمِي) ثَنَا سرار بن مجشر، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع وَسَالم، عَن ابْن عمر «أَن غيلَان بن سَلمَة الثَّقَفِيّ أسلم وَعِنْده عشر نسْوَة، فَأمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يمسك مِنْهُنَّ أَرْبعا، فَلَمَّا كَانَ زمن عمر طلقهن، فَقَالَ لَهُ عمر: راجعهن وَإِلَّا ورثتهن مَالك وَأمرت بقبرك» زَاد ابْن نوح: «فَأسلم وأسلمن مَعَه» فَهَذَا أَيُّوب يرويهِ، عَن سَالم، كَمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَنهُ فِي رِوَايَة معمر، وَزَاد إِلَى سَالم نَافِعًا، وسرار بن مجشر أحد الثِّقَات، وَسيف بن عبيد الله قَالَ فِيهِ عَمْرو بن عَلّي: من خِيَار الْخلق، وَلم يذكرهُ ابْن أبي حَاتِم وَلَا أعرفهُ عِنْد غَيره، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : تفرد بِهِ سيف بن [عبيد الله] (الْجرْمِي) عَن سرار، وسرار ثِقَة من أهل الْبَصْرَة. قَالَ ابْن القطّان: والمتحصل من هَذَا هُوَ أَن حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه من رِوَايَة معمر فِي قصَّة غيلَان صَحِيح وَلم يعتل عَلَيْهِ من ضعفه بِأَكْثَرَ من الِاخْتِلَاف عَلَى الزُّهْرِيّ.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : ذكر (البُخَارِيّ) أَن هَذَا الحَدِيث غير مَحْفُوظ وَعلله، وَكَذَلِكَ مُسلم حكم فِي «التَّمْيِيز» عَلَى معمر(7/609)
بالوهم فِيهِ، قَالَ: وَمن صَححهُ يعْتَمد عَلَى عَدَالَة معمر وجلالته، انْتَهَى.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد روينَا عَن عُرْوَة بن مَسْعُود وَصَفوَان بن أُميَّة مَعْنَى حَدِيث غيلَان بن سَلمَة، وَقَالَ الشَّافِعِي: (دلّت سنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - المبينة عَن الله عَلَى تَحْرِيم) أَن يجمع غير رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَين أَكثر من أَربع (نسْوَة) قَالَ الْأَثْرَم: ذكرت لأبي عبد الله هَذَا الحَدِيث قَالَ: (مَا) هُوَ صَحِيح، هَذَا حَدِيث معمر بِالْبَصْرَةِ فأسنده لَهُم وَقد حدث بأَشْيَاء بِالْبَصْرَةِ أَخطَأ فِيهَا وَالنَّاس يهمون.
وَقَالَ: سَأَلت الإِمَام أَحْمد عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيح وَالْعَمَل عَلَيْهِ.
فَائِدَتَانِ:
الأولَى: وَقع فِي هَذَا الحَدِيث فِي موطأ مَالك، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَنهُ عَن ابْن شهَاب قَالَ: «بَلغنِي أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لرجل من ثَقِيف أسلم وَعِنْده عشر نسْوَة: أمسك أَرْبعا وَفَارق سائرهن» .
وَفِي اسْم هَذَا الرجل ثَلَاثَة أَقْوَال حَكَاهَا الْخَطِيب فِي (مبهماته)
أَحدهَا: أَنه غيلَان بن سَلمَة الْمَذْكُور.(7/610)
ثَانِيهَا: أَنه عُرْوَة بن مَسْعُود.
ثَالِثهَا: أَنه مَسْعُود بن ياليل بن عَمْرو بن عَمْرو بن عبيد.
الثَّانِيَة: وَقعت فِي (وسيط) الْغَزالِيّ: ابْن غيلَان (بدل غيلَان) وَهَذَا خلاف الصَّوَاب؛ فَتنبه لَهُ، وَقد أوضحته فِي تَخْرِيج أحاديثي لَهُ.
الحَدِيث السَّابِع
«أَن نَوْفَل بن مُعَاوِيَة أسلم وَتَحْته خمس نسْوَة فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أمسك أَرْبعا وَفَارق الْأُخْرَى» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي كَمَا عزاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» إِلَيْهِ، أبنا بعض أَصْحَابنَا عَن أبي الزِّنَاد، عَن عبد الْمجِيد بن (سُهَيْل) بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عَن عَوْف بن الْحَارِث، عَن نَوْفَل بن مُعَاوِيَة، قَالَ: «أسلمت وتحتي خمس نسْوَة، فَسَأَلت النبى (فَقَالَ: (فَارق) وَاحِدَة وَأمْسك أَرْبعا. فعمدت إِلَى أقدمهن عِنْدِي عاقرًا مُنْذُ سِتِّينَ سنة ففارقتها» .
الحَدِيث الثَّامِن
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَ: «جَاءَت امْرَأَة رِفَاعَة الْقرظِيّ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: إِنِّي كنت عِنْد رِفَاعَة، فطلقني فَبت طَلَاقي، فَتزوّجت بعده عبد الرَّحْمَن بن الزبير وَإِنَّمَا مَعَه مثل هدبة الثَّوْب. فَتَبَسَّمَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَن تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة؟ لَا حَتَّى تَذُوقِي(7/611)
عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك وَمَعْنى «بت طَلَاقي» طَلقنِي ثَلَاثًا.
وَالزبير بِفَتْح الزَّاي، وهدبة الثَّوْب: طرفه الَّذِي لم يُنْسجْ، وَفِي رِوَايَة للشَّافِعِيّ «فنكحها عبد الرَّحْمَن بن الزبير، فَأَعْرض عَنْهَا فَلم يسْتَطع أَن يَمَسهَا، ففارقها» .
وَفِي اسْم امْرَأَة رِفَاعَة أَقْوَال أوضحتها فِي «شرحي للعمدة» فَليُرَاجع مِنْهُ.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
إِحْدَاهَا: من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَعَلِيهِ اقْتصر صَاحب «الْمُهَذّب» (و) هُوَ حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، - وَالنَّسَائِيّ - وَقَالَ: حسن صَحِيح.(7/612)
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلم يلْتَفت التِّرْمِذِيّ إِلَى أبي قيس عبد الرَّحْمَن بن مَرْوَان - يَعْنِي - الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر «الاقتراح» : إِنَّه عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَقَالَ (ابْن حزم) إِنَّه خبر لَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب سواهُ (وَثمّ آثَار) بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهَا هالكة.
ثَانِيهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَفِي إِسْنَاده زَمعَة بن صَالح، وَقد تكلم فِيهِ بَعضهم، وَرَوَى لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مَقْرُونا بِغَيْرِهِ.
ثَالِثهَا: من حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث مَعْلُول، وَإِسْنَاده لَيْسَ بالقائم؛ لِأَن مجَالد بن سعيد الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده قد ضعفه بعض أهل الْعلم؛ مِنْهُم الإِمَام أَحْمد. قَالَ: وَرَوَى عبد الله بن نمير هَذَا الحَدِيث، عَن مجَالد، عَن عَامر، عَن جَابر بن عبد الله، عَن عَلّي. وَهَذَا وهم قد وهم فِيهِ ابْن نمير، والْحَدِيث الأول أصح. وَقَالَ أَيْضا الْمَقْدِسِي فِي(7/613)
«أَحْكَامه» رَوَى حَدِيث عَلّي هَذَا غير وَاحِد من الْأَئِمَّة، وَأما ابْن السكن؛ فَإِنَّهُ ذكره فِي «سنَنه الصِّحَاح» .
رَابِعهَا: من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ إِنَّه حَدِيث مَعْلُول؛ فِيهِ مجَالد.
خَامِسهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ أَحْمد، وَالْبَيْهَقِيّ، وَابْن أبي حَاتِم فِي «علله» بِإِسْنَاد جيد، وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة. وأسنده فِي «علله» ثمَّ قَالَ: سَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ فَقَالَ: حَدِيث حسن.
سادسها: من حَدِيث عقبَة بن عَامر ذكره الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» وَهُوَ حَدِيث حسن، رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَالْحَاكِم وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقد أوضحته فِي تخريجى لأحاديثه، وَمِمَّا لم أذكرهُ هُنَاكَ أَن (ابْن) أبي حَاتِم نقل فِي «علله» عَن أبي زرْعَة أَنه قَالَ: أنكر هَذَا الحَدِيث يَحْيَى بن عبد الله بن بكير إنكارًا شَدِيدا؛ لما ذكرته لَهُ، وَقَالَ: لم يسمع اللَّيْث من مشرح بن هاعان شَيْئا وَلَا رَوَى عَنهُ شَيْئا، وَإِنَّمَا حَدثنِي اللَّيْث بن سعد بِهَذَا الحَدِيث، عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن «أَن رَسُول الله(7/614)
( ... .» قَالَ أَبُو زرْعَة: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «علله» : سَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ عبد الله بن صَالح: لم يكن أخرجه فِي أيامنا، مَا أرَى اللَّيْث سَمعه من مشرح، لِأَن حَيْوَة رَوَى عَن بكر بن عَمْرو عَن مشرح.
قلت: قد ذكر الْحَاكِم فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث سَمِعت مشرح بن هاعان، وَقَالَ قبله: قد ذكر كَاتب اللَّيْث سَمَاعه فِيهِ. وَكَونه لم يُخرجهُ فِي أَيَّامه لَا يضر إِذا، وَقَوله: «لِأَن حَيْوَة رَوَى عَن بكر بن عَمْرو، عَن مشرح» يُرِيد بِهِ أَن حَيْوَة من أَقْرَان اللَّيْث أَو أكبر مِنْهُ، وَإِنَّمَا يروي عَن بكر (عَن) مشرح، وَهَذَا غير لَازم؛ لِأَن اللَّيْث كَانَ معاصرًا لمشرح، وَقد صرّح بِسَمَاعِهِ مِنْهُ.
الطَّرِيق السَّابِع
من حَدِيث عبيد بن عُمَيْر اللَّيْثِيّ، عَن أَبِيه عُمَيْر بن قَتَادَة - وَكَانَ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لعن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمُحَلّل والمحلل لَهُ» .
رَوَاهُ ابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» عَن مُحَمَّد بن يُونُس، ثَنَا مُعلى بن الْفضل، ثَنَا دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن الْعَطَّار، عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم، عَن نَافِع بن سرجس، عَن عبيد بِهِ.
الحَدِيث الْعَاشِر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «نهَى أَن تُنكح الْأمة عَلَى الْحرَّة» .(7/615)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى عَن عَلّي وَجَابِر مَوْقُوفا.
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طريقيه، أما الْمَرْفُوع فَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، ثَنَا إِسْمَاعِيل ابْن علية، حَدثنِي من سمع الْحسن يَقُول: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تنْكح الْأمة عَلَى الْحرَّة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يزِيد بن سِنَان، ثَنَا معَاذ بن هِشَام، حَدثنِي أبي، عَن (عَامر الْأَحول) عَن الْحسن بِهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن أخرجه من طريقيه هَذَا مُرْسل، قَالَ: إِنَّه فِي مَعْنَى الْكتاب؛ أَي: قَوْله: (وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا (. الْآيَة وَمَعَهُ قَول جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «علله» كَمَا تقدم، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، إِنَّمَا رَوَاهُ عَمْرو بن عبيد، وَهُوَ غَرِيب من حَدِيث عَامر الْأَحول، وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : حَدِيث الْحسن هَذَا مُرْسل ومنقطع. وَأما الْمَوْقُوف فأثر عَلّي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْمنْهَال بن عَمْرو عَن زر بن حُبَيْش عَنهُ «إِذا تزوجت الْحرَّة عَلَى الْأمة قسم لَهَا يَوْمَيْنِ وللأمة يَوْمًا، إِن الْأمة لَا يَنْبَغِي لَهَا أَن تزوج عَلَى الْحرَّة» .(7/616)
وَأثر جَابر، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث الْحجَّاج؛ ثَنَا لَيْث، حَدثنِي أَبُو الزبير عَنهُ، قَالَ: «لَا تنْكح الْأمة عَلَى الْحرَّة، وَتنْكح الْحرَّة عَلَى الْأمة، وَمن وجد صدَاق حرَّة فَلَا ينكحن أمة أبدا» ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح. وَرَوَى الشَّافِعِي، عَن مَالك أَنه بلغه «أَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس سئلا عَن رجل كَانَ تَحْتَهُ امْرَأَة حرَّة، فَأَرَادَ أَن ينْكح عَلَيْهَا أمة (فكرها) لَهُ أَن يجمع بَينهمَا» .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «سنوا بهم سنة أهل الْكتاب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه «أَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ذكر الْمَجُوس، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أصنع فِي أَمرهم. فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: أشهد لسمعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: سنوا بهم سنة أهل الْكتاب» وَهَذَا مُنْقَطع؛ لِأَن مُحَمَّد بن عَلّي لم يلق عمر وَلَا عبد الرَّحْمَن، كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» .
وَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي «كتاب من رَوَى عَن مَالك» من حَدِيث عبيد الله بن عبد الْمجِيد الْحَنَفِيّ، عَن مَالك قَالَ: أَخْبرنِي جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جده أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: «مَا أَدْرِي مَا أصنع بالمجوس أهل الذِّمَّة. فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول:(7/617)
سنتهمْ سنة أهل الْكتاب» قَالَ مَالك يَعْنِي: فِي الْجِزْيَة.
قَالَ الْخَطِيب: وَهَكَذَا رَوَاهُ غير عَبَّاس بن مُحَمَّد الدوري، عَن أبي عَلّي، وَتفرد بقوله: عَن جده.
وَرَوَاهُ الْخلق، عَن مَالك، عَن جَعْفَر، عَن أَبِيه وَلم (يَقُولُوا:) عَن جده. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» .
قلت: وَهُوَ أَيْضا مُنْقَطع؛ لِأَن عَلّي بن الْحُسَيْن لم يلق عمر وَلَا عبد الرَّحْمَن، وَقد رُوِيَ هَذَا (عَن) عبد الرَّحْمَن من (أوجه مُتَّصِلَة) لَكِن فِي إِسْنَاده من يجهل حَاله.
قَالَ ابْن أبي عَاصِم: ثَنَا إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج السَّامِي، ثَنَا أَبُو رَجَاء - جارٌ كَانَ لحماد بن سَلمَة - ثَنَا الْأَعْمَش، عَن زيد بن وهب، قَالَ: «كنت عِنْد عمر بن الْخطاب فَذكر من عِنْده (علم) من الْمَجُوس، فَوَثَبَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قَالَ: أشهد بِاللَّه عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لسمعته يَقُول: إِنَّمَا الْمَجُوس طَائِفَة من أهل الْكتاب فاحملوهم عَلَى مَا تحملون عَلَيْهِ أهل الْكتاب» .(7/618)
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «سنوا بهم سنة أهل الْكتاب غير ناكحي نِسَائِهِم وآكلي ذَبَائِحهم» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب عَلَى هَذِه الصُّورَة (وَعَزاهُ بعض شُيُوخنَا إِلَى «طَبَقَات ابْن سعد» فِي كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى مجوس هجر، وَفِي «الْأَمْوَال» لأبي عبيد: عَن الْحسن بن مُحَمَّد: كتب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى مجوس هجر يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام؛ فَمن أسلم قبل مِنْهُ، وَمن لَا ضربت عَلَيْهِ الْجِزْيَة فِي أَن لَا تُؤْكَل لَهُم ذَبِيحَة، وَلَا تنْكح لَهُم امْرَأَة» وَرَوَاهُ) الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من هَذَا الْوَجْه أخرجه من حَدِيث وَكِيع (عَن) سُفْيَان، عَن قيس، عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن عَلّي، قَالَ: «كتب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى مجوس هجر يعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام فَمن أسلم قبل، وَمن (أَبَى) ضربت عَلَيْهِ الْجِزْيَة عَلَى أَن لَا تُؤْكَل لَهُم ذَبِيحَة، وَلَا تنْكح لَهُم امْرَأَة» .
قَالَ (عبد الْحق) : وَهَذَا مُرْسل.
قلت: ومعلول؛ فَإِن قيس بن الرّبيع مِمَّن سَاءَ حفظه بِالْقضَاءِ(7/619)
كشريك وَابْن أبي لَيْلَى، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِجْمَاع أَكثر الْمُسلمين عَلَيْهِ يؤكده.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عِكْرِمَة قَالَ: «أُتِي عَلّي رَضِي اللهُ عَنْهُ بزنادقة فأحرقهم، فَبلغ ذَلِكَ ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: لَو كنت أَنا لم أحرقهم؛ لنهي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (عَنهُ) قَالَ: لَا تعذبوا بِعَذَاب الله، ولقتلتهم؛ لقَوْل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من بدّل دينه فَاقْتُلُوهُ» .
وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي: « ... فَبلغ ذَلِكَ عليًّا، فَقَالَ: صدق ابْن عَبَّاس» .
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه.
وَأما آثاره فستة:
أَحدهَا: عَن الحكم بن عتيبة قَالَ: «أجمع أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(7/620)
عَلَى أَن لَا ينْكح العَبْد أَكثر من اثْنَتَيْنِ» .
وَهَذَا الْأَثر سَاقه ابْن الْجَوْزِيّ بِإِسْنَادِهِ كَذَلِك، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث لَيْث، عَن الحكم، قَالَ: «اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى أَن الْمَمْلُوك لَا يجمع من النِّسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ» وَلَيْث هَذَا هُوَ ابْن أبي سليم، وَقد سلف الْكَلَام عَلَيْهِ.
وَرَوَى الشَّافِعِي بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح، عَن عمر أَنه قَالَ: «ينْكح العَبْد امْرَأتَيْنِ» ثمَّ رَوَاهُ عَن عَلّي وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، ثمَّ قَالَ: وَلَا يعرف لَهُم من الصَّحَابَة مُخَالف. وَهُوَ قَول الْأَكْثَر من (الْمُفَسّرين) بالبلدان.
الْأَثر الثَّانِي: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «من وطئ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ فَلَا يطَأ الْأُخْرَى حَتَّى تخرج الْمَوْطُوءَة عَن ملكه» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة عَن عَمه عَن عَلّي «أَنه سَأَلَهُ رجل (لَهُ) أمتان أختَان وطئ إِحْدَاهمَا ثمَّ أَرَادَ أَن يطَأ الْأُخْرَى، قَالَ: لَا؛ حَتَّى يُخرجهَا من ملكه» .
الْأَثر الثَّالِث: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى (وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات) (أَن المُرَاد بالطول: الْفضل وَالسعَة وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عَلّي(7/621)
بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس «أَنه قَالَ فِي قَوْله: (وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فَمن مَا ملكت أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات) يَقُول: من لم يكن لَهُ سَعَة أَن ينْكح الْحَرَائِر فَلْيَنْكِح من إِمَاء الْمُؤمنِينَ و (ذَلِك لمن خشِي الْعَنَت) وَهُوَ الْفُجُور، فَلَيْسَ لأحدٍ من الْأَحْرَار أَن ينْكح أمة إِلَّا أَن لَا يقدر عَلَى حرّة وَهُوَ يخْشَى الْعَنَت (وَأَن تصبروا) عَن نِكَاح الْأمة فَهُوَ (خير لكم) وَعلي بن أبي طَلْحَة هَذَا (قَالَ أَحْمد) لَهُ أَشْيَاء مُنكرَات. قَالَ أَبُو حَاتِم: عَلّي بن أبي طَلْحَة، عَن ابْن عَبَّاس مُرْسل؛ إِنَّمَا يروي عَن مُجَاهِد وَالقَاسِم.
الْأَثر الرَّابِع: «أَن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم تزوجوا الكتابيات وَلم يبحثوا» .
هَذَا صَحِيح؛ فَفِي الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح عَن عُثْمَان «أَنه نكح ابْنة الفرافصة الْكَلْبِيَّة - وَهِي نَصْرَانِيَّة - عَلَى نِسَائِهِ، ثمَّ أسلمت عَلَى يَدَيْهِ» .
وَرَوَى أَيْضا بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الرَّحْمَن - شيخ من بني الْأَشْهَل « (أَن حُذَيْفَة نكح يَهُودِيَّة» و) فِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث أبي وَائِل: «فَكتب إِلَيْهِ عمر أَن يفارقها، قَالَ: إِنِّي أخْشَى أَن تدعوا المسلمات(7/622)
وتنكحوا المومسات!» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا من عمر عَلَى طَرِيق التَّنَزُّه وَالْكَرَاهَة؛ فَفِي رِوَايَة أُخْرَى «أَن حُذَيْفَة كتب إِلَيْهِ: أحرام هِيَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَخَاف أَن تعاطوا المومسات مِنْهُنَّ» .
وَقَالَ الشَّافِعِي: أبنا (عبد الْمجِيد) بن عبد الْعَزِيز، عَن ابْن جريج (عَن أبي الزبير) «أَنه سمع جَابر بن عبد الله يسْأَل عَن نِكَاح الْمُسلم الْيَهُودِيَّة والنصرانية، فَقَالَ: تزوجناهن فِي زمن الْفَتْح بِالْكُوفَةِ مَعَ سعد بن أبي وَقاص وَنحن لَا نجد المسلمات كثيرا، فَلَمَّا رَجعْنَا طلقناهن. وَقَالَ: لَا يرثن مُسلما وَلَا يرثهن، وَنِسَاؤُهُمْ لنا حلّ وَنِسَاؤُنَا عَلَيْهِم حرَام» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ «أَن حُذَيْفَة تزوج مَجُوسِيَّة» وَهُوَ غير ثَابت (عَنهُ) يُقَال لَهَا: شاه بردخت، قَالَه عبد الْحق، قَالَ: وَالْمَحْفُوظ عَنهُ أَنه تزوج يَهُودِيَّة.
قلت: وَفِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» أَنَّهَا نَصْرَانِيَّة. وَفِي الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث (هُبَيْرَة) عَن عَلّي قَالَ: «تزوج طَلْحَة يَهُودِيَّة» وَفِيه أَيْضا من حَدِيث عَمْرو مولَى الْمطلب، عَن أبي الْحُوَيْرِث «أَن طَلْحَة نكح امْرَأَة من(7/623)
كلب نَصْرَانِيَّة (حَتَّى (وجهت) حِين قدمت عَلَيْهِ» ) وَأما حَدِيث عَلّي بن أبي طَلْحَة، عَن كَعْب بن مَالك «أَنه أَرَادَ أَن يتَزَوَّج يَهُودِيَّة، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام: لَا تتزوجها؛ فَإِنَّهَا لَا تحصنك» . فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسليه» وَمَعَ إرْسَاله فَهُوَ مُنْقَطع - فِيمَا بَين عَلّي وَكَعب - وَضَعِيف؛ لِأَنَّهُ يرويهِ عَن عَلّي أَبُو سبأ عتبَة بن تَمِيم، وَلَا يعرف حَاله كَمَا قَالَ ابْن الْقطَّان، وَرَوَاهُ عَنهُ بَقِيَّة، وَهُوَ مِمَّن قد علم حَاله.
الْأَثر الْخَامِس: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه كَانَ للمجوس كتاب فَأَصْبحُوا وَقد أسرِي بِهِ» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن سعيد بن الْمَرْزُبَان، عَن نصر بن عَاصِم، قَالَ: قَالَ فَرْوَة بن نَوْفَل: «علام تُؤْخَذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس وَلَيْسوا بِأَهْل كتاب؟ ! فَقَامَ إِلَيْهِ (الْمُسْتَوْرد) فَأخذ بلبته فَقَالَ: يَا عَدو الله، تطعن عَلَى أبي بكر وَعمر وَعلي أَمِير الْمُؤمنِينَ - يَعْنِي: عليًّا - وَقد أخذُوا مِنْهُم الْجِزْيَة؟ ! فَذهب بِهِ إِلَى الْقصر، فَخرج (عَلَيْهِمَا) عَلّي فَقَالَ: ألبدا. فَجَلَسْنَا فِي ظلّ الْقصر، فَقَالَ عَلّي: أَنا أعلم النَّاس بالمجوس كَانَ لَهُم علم يعلمونه وَكتاب يدرسونه، وَإِن ملكهم سكر فَوَقع عَلَى ابْنَته أَو أُخْته فَاطلع عَلَيْهِ بعض أهل مَمْلَكَته، فَلَمَّا (صَحا) جَاءُوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ الْحَد فَامْتنعَ مِنْهُم، فَدَعَا أهل مَمْلَكَته، فَقَالَ: تعلمُونَ دينا(7/624)
خيرا من دين آدم؟ وَقد كَانَ آدم ينْكح بنِيه من بَنَاته، وَأَنا عَلَى دين آدم، وَمَا يرغب بكم عَن دينه؟ فتابعوه وقاتلوا الَّذين خالفوه حَتَّى قتلوهم وَأَصْبحُوا وَقد أسرِي عَلَى كِتَابهمْ، فَرفع من بَين أظهرهم وَذهب الْعلم الَّذِي فِي صدروهم وهم أهل كتاب، وَقد أَخذ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَأَبُو بكر وَعمر) مِنْهُم الْجِزْيَة.
وفروة مُخْتَلف فِيهِ وَهُوَ من الْخَوَارِج.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الْحَاكِم: قَالَ العاصمي: قَالَ ابْن خُزَيْمَة: وهم ابْن عُيَيْنَة [فِي] هَذَا الْإِسْنَاد، رَوَاهُ عَن أبي سعيد الْبَقَّال فَقَالَ: عَن نصر بن عَاصِم (وَنصر بن عَاصِم) هُوَ اللَّيْثِيّ. وَإِنَّمَا هُوَ عِيسَى بن عَاصِم الْأَسدي كُوفِي.
قَالَ ابْن خُزَيْمَة: والغلط فِيهِ من ابْن عُيَيْنَة لَا من الشَّافِعِي، فقد رَوَاهُ عَن ابْن عُيَيْنَة غير الشَّافِعِي، فَقَالَ: عَن نصر بن عَاصِم، قَالَ الشَّافِعِي: وَحَدِيث نصْر بن عَاصِم هَذَا عَن عَلّي، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُتَّصِل وَبِه نَأْخُذ.
قلت: لَكِن الْبَقَّال الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده هُوَ الْأَعْوَر الْمَجْرُوح، قَالَ يَحْيَى بن (سعيد) : لَا أستحل أروي عَنهُ. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ(7/625)
بِشَيْء وَلَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: كثير الْوَهم فَاحش الْخَطَأ. فَلَعَلَّ الشَّافِعِي كَانَ يرَاهُ ثِقَة، كَمَا قَالَ فِيهِ أَبُو أُسَامَة إِنَّه كَانَ ثِقَة. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق مُدَلّس. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا يحْتَج بِهِ. وَأعله الْعقيلِيّ من وَجه آخر، وَقَالَ: نصْر بن عَاصِم هَذَا لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه. وَقَالَ أَبُو عبيد: لَا أَحسب هَذَا الْأَثر مَحْفُوظًا. (قَالَ) ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» : فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْمَجُوس «سنوا بهم سنة أهل الْكتاب» يَعْنِي فِي الْجِزْيَة. دَلِيله عَلَيْهِ: أَنهم لَيْسُوا أهل الْكتاب، وَعَلَى ذَلِك جُمْهُور الْفُقَهَاء.
وَقد رُوِيَ عَن الشَّافِعِي «أَنهم كَانُوا أهل كتاب فبدلوا» وَأَظنهُ ذهب فِي ذَلِك إِلَى شَيْء رُوِيَ عَن عَلّي من وَجه فِيهِ ضعف يَدُور عَلَى أبي سعيد الْبَقَّال، ثمَّ ذكر هَذَا الْأَثر، ثمَّ قَالَ: وَأكْثر أهل الْعلم يأبون ذَلِك وَلَا يصححون هَذَا الحَدِيث، فالحجة لَهُم قَوْله تَعَالَى: (أَن تَقول إِنَّمَا أنزل الْكتاب عَلَى طائفتين من قبلنَا) وَغير ذَلِك.
الْأَثر السَّادِس: «أَن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أخذُوا الْجِزْيَة من نَصَارَى الْعَرَب، وهم: تنوخ، وبَهراء، و (تغلب) » . هَذَا صَحِيح عَنْهُم، وَقد ذكره الشَّافِعِي، وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي بَابه.
فَائِدَة: تنوخ - بمثناة (من) فَوق ثمَّ نون ثمَّ وَاو ثمَّ خاء مُعْجمَة -:(7/626)
قَبيلَة مَعْرُوفَة. وبَهراء - بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة (ثمَّ) هَاء سَاكِنة (و) بِالْمدِّ -: قَبيلَة مَعْرُوفَة من (قضاعة) وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: بهراني، كصنعاني عَلَى غير قِيَاس، وَبَنُو (تغلب) بِكَسْر اللَّام قَبيلَة مَعْرُوفَة.(7/627)
بَاب نِكَاح الْمُشرك
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ سَبْعَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
«أَن صَفْوَان بن أُميَّة وَعِكْرِمَة بن أبي جهل هربا كَافِرين إِلَى السَّاحِل حِين (فتحت) مَكَّة وَأسْلمت امرأتاهما بِمَكَّة، وأخذتا بالأمان لزوجيهما، فَقدما وأسلما فَرد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - امرأتيهما» .
هَذَا رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن ابْن شهَاب «أَنه بلغه أَن [نسَاء كن] فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسلمن بِغَيْر أرضهن وَهن غير مهاجرات وأزواجهن حِين أسلمن كفار، مِنْهُنَّ: بنت الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَكَانَت تَحت صَفْوَان بن أُميَّة، فَأسْلمت يَوْم الْفَتْح وهرب صَفْوَان بن أُميَّة من الْإِسْلَام، فَبعث النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَيْهِ ابْن عَمه وهب بن عُمَيْر برداء النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمَانًا لِصَفْوَان بن أُميَّة، وَدعَاهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْإِسْلَام وَأَن يقدم عَلَيْهِ، فَإِن رَضِي أمرا قبله وَإِلَّا سيره شَهْرَيْن، فَلَمَّا قدم صَفْوَان عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بردائه ناداه عَلَى رُءُوس النَّاس فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِن هَذَا وهب بن عُمَيْر جَاءَنِي بردائك وَزعم أَنَّك دعوتني إِلَى الْقدوم عَلَيْك، فَإِن رضيت أمرا قبلته وَإِلَّا سيرتني شَهْرَيْن، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام، انْزِلْ أَبَا وهب. فَقَالَ: لَا وَالله لَا أنزل حَتَّى تبين لي، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: بل لَك تسير أَرْبَعَة أشهر. فَخرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(7/628)
قبل هوَازن وحنين، فَأرْسل إِلَى صَفْوَان يستعير أَدَاة وسلاحًا عِنْده، فَقَالَ صَفْوَان: أطوعًا أم كرها؟ فَقَالَ: بل طَوْعًا. فأعاره الأداة والسِّلَاح الَّذِي عِنْده، ثمَّ خرج مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ كَافِر فَشهد حنينًا والطائف وَهُوَ كَافِر وَامْرَأَته مسلمة، وَلم يفرق النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَينه وَبَين امْرَأَته حَتَّى أسلم صَفْوَان واستقرت عِنْده امْرَأَته» . فَقَالَ ابْن شهَاب: كَانَ بَين إِسْلَام صَفْوَان وَإِسْلَام امْرَأَته نَحوا من شهر.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم وَفِيه: «أَن إِسْلَام زَوجته كَانَ يَوْم الْفَتْح، وَأَن صَفْوَان شهد مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الطَّائِف وحنينًا وَهُوَ كَافِر» .
وَرَوَى مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» أَيْضا عَن ابْن شهَاب أَن أم حَكِيم بنت الْحَارِث بن هِشَام، وَكَانَت تَحت عِكْرِمَة بن أبي جهل، فَأسْلمت يَوْم الْفَتْح فهرب زَوجهَا عِكْرِمَة من الْإِسْلَام حَتَّى قدم الْيمن، فارتحلت أم حَكِيم حَتَّى قدمت عَلَيْهِ الْيمن فدعته إِلَى الْإِسْلَام، فَأسلم وَقدم عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام الْفَتْح، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وثب إِلَيْهِ فَرحا (وَمَا) عَلَيْهِ رِدَاء حَتَّى بَايعه (فَثَبت) عَلَى نِكَاحهمَا ذَلِك.
قَالَ ابْن شهَاب: وَلم يبلغنَا أَن امْرَأَة هَاجَرت إِلَى الله وَرَسُوله وَزوجهَا كَافِر مُقيم بدار الْحَرْب إِلَّا فرقت هجرتهَا بَينهَا وَبَين زَوجهَا إِلَّا أَن يقدم زَوجهَا بهَا مُهَاجرا قبل أَن تَنْقَضِي عدتهَا.
الحَدِيث الثَّانِي
«أَن أَبَا سُفْيَان وَحَكِيم بن حزَام أسلما بمرّ الظهْرَان - وَهُوَ معسكر(7/629)
الْمُسلمين - و (امرأتاهما) بِمَكَّة وَهِي يَوْمئِذٍ دَار حَرْب ثمَّ أسلما بعد وَأقر النِّكَاح» . هَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الشَّافِعِي، أبنا جمَاعَة من (أهل) الْعلم من قُرَيْش وَأهل الْمَغَازِي وَغَيرهم عَن عدد مثلهم «أَن (أَبَا) سُفْيَان بن حَرْب أسلم بمر الظهْرَان وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ظَاهر عَلَيْهَا، فَكَانَت بظهوره وَإِسْلَام أَهلهَا دَار إِسْلَام وَامْرَأَته هِنْد بنت عتبَة كَافِرَة بِمَكَّة، وَمَكَّة يؤمئذ دَار حَرْب، ثمَّ قدم عَلَيْهَا يدعوها إِلَى الْإِسْلَام، فَأخذت بلحيته وَقَالَت: اقْتُلُوا الشَّيْخ (الضال) وأقامت أَيَّامًا قبل أَن تسلم، ثمَّ أسلمت وبايعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فثبتا عَلَى النِّكَاح؛ لِأَن عدتهَا لم تنقض حَتَّى أسلمت، وَكَانَ كَذَلِك حَكِيم بن حزَام وإسلامه - يَعْنِي كَانَ إِسْلَامه بمر الظهْرَان - وَامْرَأَته بِمَكَّة ثمَّ أسلمت فِي عدتهَا» .
ذكر ذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» وَذكره فِي «الْأُم» بِغَيْر إِسْنَاد قَالَ: وَهُوَ مَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم بالمغازي، وَذكره فِي «سير الْوَاقِدِيّ» و «الْأُم» أَيْضا وَقَالَ: فأقامت عَلَى الشّرك حَتَّى أسلمت بعد الْفَتْح بأيام فأقرها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى النِّكَاح، وَذَلِكَ أَن عدتهَا لم تنقض، وَفِي السّنَن الْمَجْمُوعَة من أَحَادِيث الشَّافِعِي: أبنا جمَاعَة فِي عدد «أَن أَبَا سُفْيَان أسلم وَامْرَأَته هِنْد كَافِرَة ثمَّ أسلمت وثبتا عَلَى النِّكَاح، وَأسْلمت امْرَأَة عِكْرِمَة بن أبي جهل وامرأةُ صَفْوَان بن أُميَّة، ثمَّ أسلما، وكل ذَلِك وَنِسَاؤُهُمْ مَدْخُول بِهن لم تنقض عددهن.(7/630)
الحَدِيث الثَّالِث
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ لفيروز الديلمي - وَقد أسلم عَلَى أُخْتَيْنِ -: اختر أَحدهمَا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي وَأحمد [وَأَبُو دَاوُد] وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة أبي وهب (دَيْلَم بن الهوشع كَمَا قَالَه (خَ، ت) أَو عَكسه، أَو عبيد بن شُرَحْبِيل، وَهُوَ مَا صَوبه ابْن يُونُس) - الجيشاني (من جيشان الْيمن) عَن الضَّحَّاك بن فَيْرُوز عَن أَبِيه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسلمت وتحتي أختَان؛ فَقَالَ: طلق أَيهمَا شِئْت» (هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «اختر أَيَّتهمَا شِئْت» ) زَاد ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» : «وطلق الْأُخْرَى» .
وَلم أر هَذِه الزِّيَادَة فِيهِ، وَلَفظ ابْن مَاجَه: «إِذا رجعتَ فَطَلِّق إِحْدَاهُمَا» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ كَلَفْظِ أبي دَاوُد، وَلَفظ الشَّافِعِي «فَأمرنِي أَن أمسك(7/631)
أَيهمَا شِئْت وأفارق الْأُخْرَى» .
وَلَفظ أَحْمد كَلَفْظِ أبي دَاوُد، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب، وَفِي سَنَده: ابْن لَهِيعَة.
قلت: وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا بِلَفْظ أبي دَاوُد، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده صَحِيح.
قلت: ومداره عَلَى أبي وهب السالف، عداده فِي الْبَصرِيين، وَذكر الْعقيلِيّ لَهُ فِي «الضُّعَفَاء» هَذَا الحَدِيث وَقَالَ: لَا يحفظ إِلَّا عَنهُ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: إِنَّه مَجْهُول.
قلت: قد وَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : تفرد بِهِ (جرير) بن حَازِم، عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن يزِيد بن أبي حبيب عَنهُ.
قلت: لَا فقد أخرجه الشَّافِعِي، عَن ابْن أبي يَحْيَى، عَن إِسْحَاق عَنهُ، وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبد السَّلَام بن حَرْب، عَن إِسْحَاق عَنهُ، وَمن حَدِيث ابْن وهب، عَن ابْن لَهِيعَة، عَنهُ (وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث جرير(7/632)
وَمن حَدِيث قُتَيْبَة، عَن ابْن لَهِيعَة عَنهُ) وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن يَحْيَى، عَن ابْن لَهِيعَة عَنهُ. وَقَالَ البُخَارِيّ: دَيْلَم بن فَيْرُوز الْحِمْيَرِي، رَوَى عَنهُ ابْنه عبد الله فِي إِسْنَاده نظر، وَهَذَا مَعْدُود فِي أَوْهَام البُخَارِيّ كَمَا نبه عَلَيْهِ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي؛ فَإِن ذَاك عبد الله بن فَيْرُوز الدَّيْلَمِي وَثَّقَهُ ابْن معِين وَالْعجلِي، وَأعله ابْن الْقطَّان بأمرين (آخَرين، فَقَالَ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف الْإِسْنَاد؛ لِأَن حَالَة الضَّحَّاك مَجْهُول، وَيَحْيَى بن أَيُّوب) الغافقي لَا يحْتَج بِهِ لسوء حفظه.
قلت: أما الضَّحَّاك فقد رَوَى عَن أَبِيه وَله صُحْبَة، وَرَوَى عَنهُ جمَاعَة: أَبُو وهب الْمَذْكُور، وَعُرْوَة بن غزيَّة، وَكثير الصَّنْعَانِيّ. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَأما يَحْيَى بن أَيُّوب فَهُوَ من رجال الصَّحِيحَيْنِ وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين، وَبَعض هَذَا كافٍ، وَإِن قَالَ النَّسَائِيّ فِي حَقه: لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَحَله الصدْق وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ أَحْمد: سيئ الْحِفْظ وَهُوَ دون حَيْوَة.
قلت: وَهُوَ أحد عُلَمَاء مصر.
فَائِدَة: فَيْرُوز هَذَا مَاتَ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، وَهُوَ قَاتل الْأسود الْعَنسِي الْكذَّاب.(7/633)
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ولدت من نِكَاح لَا من سفاح» . هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق:
أَحدهَا: من طَرِيق ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عَلّي (بن) عبد الْعَزِيز، ثَنَا مُحَمَّد بن أبي نعيم، ثَنَا هشيم، حَدثنِي الْمَدِينِيّ، عَن أبي الْحُوَيْرِث، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: مَا « (ولدني) من سفاح أهل الْجَاهِلِيَّة شَيْء مَا (ولدني) إِلَّا نِكَاح كَنِكَاح الْإِسْلَام» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه الْكَبِير» عَن (عَلّي) بن عبد الْعَزِيز ثمَّ قَالَ: الْمَدِينِيّ هُوَ عِنْدِي فليح بن سُلَيْمَان. كَذَا قَالَ، وَيحْتَمل أَن يكون إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى الضَّعِيف، أَو عبد الله بن أبي جَعْفَر (وَالِد) عَلّي بن الْمَدِينِيّ، وَهُوَ ضَعِيف أَيْضا، وَأبي الْحُوَيْرِث (اسْمه:) عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة، مُخْتَلف فِيهِ، قَالَ مَالك، وَالنَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة.(7/634)
وَقَالَ يَحْيَى والرازي: لَا [يحْتَج] بحَديثه (وَقَالَ مرّة: ثِقَة) وَقَالَ (أَحْمد) : رَوَى عَنهُ: سُفْيَان، وَشعْبَة، وَأنكر قَول مَالك.
قلت: وَلم ينفردا بذلك، قَالَ أَبُو نعيم: ثَنَا هَارُون بن مُوسَى الْأَخْفَش الدِّمَشْقِي، ثَنَا سَلام بن [سُلَيْمَان] الْمَدَائِنِي، أبنا وَرْقَاء بن عمر، عَن ابْن أبي نجيح، عَن عَطاء وَمُجاهد، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «لم يلتق أبواي عَلَى سفاح، لم يزل الله عَزَّ وَجَلَّ - ينقلني من الأصلاب الطّيبَة إِلَى الْأَرْحَام الطاهرة مصفى مهذبًا، وَلَا يتشعب شعبتان إِلَّا كنت فِي خيرهما» .
قَالَ: وثنا [مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي، ثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد الْمروزِي، ثَنَا] مُحَمَّد بن عبد الله، حَدَّثَني أنس بن مُحَمَّد، ثَنَا مُوسَى بن عِيسَى، ثَنَا يزِيد بن أبي حَكِيم عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «لم يلتق أبواي عَلَى سفاح، لم يزل الله ينقلني من أصلاب طيبَة إِلَى أَرْحَام طَاهِرَة صافيًا مهذبًا، لَا تتشعب شعبتان إِلَّا كنت فِي خيرهما» ) .(7/635)
ثَانِيهَا: من طَرِيق عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - رَوَاهُ ابْن سعد والْحَارث بن أبي أُسَامَة من (هَذَا) الْوَجْه الْمَذْكُور بِلَفْظ: «خرجت من نِكَاح لَا من سفاح» أسْندهُ عَنهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» وَلم يعله، وَفِيه الْوَاقِدِيّ! .
ثَالِثهَا: من طَرِيق عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه أبي جَعْفَر الباقر «فِي قَوْله تَعَالَى: (لَقَدْ جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم) قَالَ: لم يصبهُ شَيْء من ولادَة الْجَاهِلِيَّة. قَالَ: وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنِّي خرجت من نِكَاح وَلم أخرج من سفاح» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الْغفار بن الْقَاسِم، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: (لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيصٌ عليْكم بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيم) قَالَ: لم يصبهُ شَيْء من ولادَة الْجَاهِلِيَّة. قَالَ: وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «خرجت من نِكَاح غير سفاح» .
قَالَ أَبُو نعيم: وَرَوَاهُ أَبُو حَمْزَة، عَن جَعْفَر، عَن أَبِيه مُرْسلا.(7/636)
قلت: وَهَذَا الْمُرْسل قد وَصله ابْن عدي من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي عمر الْعَدنِي الْمَكِّيّ، ثَنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر بن عَلّي بن الْحُسَيْن قَالَ: أشهد عَلَى أبي حَدثنِي عَن أَبِيه، عَن جده عَلّي بن أبي طَالب أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خرجت من نِكَاح وَلم أخرج من سفاح، من لدن آدم إِلَى أَن ولدني أبي وَأمي، وَلم يُصِبْنِي من سفاح الْجَاهِلِيَّة شَيْء» .
رَابِعهَا: من طَرِيق أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر، وَفِي إِسْنَاده ضعف.
خَامِسهَا: من طَرِيق أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «دَلَائِل النُّبُوَّة» ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ عبد الله (بن [مُحَمَّد] بن ربيعَة المصِّيصِي) وَله عَن مَالك وَغَيره أَفْرَاد، وَلم يُتَابع عَلَيْهَا. وَذكره ابْن دحْيَة فِي «تنويره» من هَذَا الْوَجْه، وَفِيه انتساب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى نزار، وَلَفظه: «خرجت من نِكَاح وَلم أخرج من سفاح» ثمَّ أعله بِعَبْد الله هَذَا، وَقَالَ: خرجه ابْن عدي وَابْن حبَان. ثمَّ ذكر عَن ابْن الْكَلْبِيّ أَنه قَالَ: «كتبت للنَّبِي (خَمْسمِائَة أمٍّ، فَمَا وجدت فِيهِنَّ سِفَاحًا وَلَا شَيْئا مِمَّا كَانَت عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة» .(7/637)
الحَدِيث الْخَامِس
«أَن غيلَان [أسلم] عَلَى عشر نسْوَة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أمسك أَرْبعا مِنْهُنَّ وَفَارق سائرهن» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الْبَاب قبله فَرَاجعه مِنْهُ.
تَنْبِيه: (هَذَا الحَدِيث) احْتَجُّوا بِهِ كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ أَنه إِذا قَالَ لوَاحِدَة مِنْهُنَّ: فارقتك، يكون فسخا، وَلَا دلَالَة فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: «اختر أَرْبعا فَإِذا (اخْتَار) اسْتَغنَى فِي المفارقات عَن لفظ فَتعين أَن يكون المُرَاد الْفِرَاق بِالْفِعْلِ لَا بالْقَوْل وَالْكَلَام، إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذا لم يتَقَدَّم اخْتِيَار المنكوحات، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ بِهَذَا اللَّفْظ.
الحَدِيث السَّادِس
«أَن نَوْفَل بن مُعَاوِيَة أسلم وَعِنْده خمس نسْوَة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَارق وَاحِدَة مِنْهُنَّ وَأمْسك أَرْبعا. قَالَ: فَقدمت إِلَى أقدمهن ففارقتها» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه أَيْضا فِي الْبَاب قبله.
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ فِي قصَّة فَيْرُوز الديملي «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُ: طلق (أَيَّتهمَا) شِئْت» .(7/638)
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه أَيْضا فِي الْبَاب الْمَذْكُور، وَذكر الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الْبَاب أَنه أسلم خلق كثير وَلم يسألهم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن شُرُوط أنكحتهم، وأقرهم عَلَيْهَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَعَن إِجْمَاع الصَّحَابَة أَنهم علمُوا من حَال الْمَجُوس أَنهم ينْكحُونَ الْمَحَارِم، وَمَا تعرضوا لَهُم.(7/639)
بَاب مثبتات الْخِيَار
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث أَرْبَعَة.
أَحدهَا
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تزوج بِامْرَأَة، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ رَأَى بكشحها (وضحًا) فَردهَا إِلَى أَهلهَا وَقَالَ: دلستم عليّ!» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي الخصائص وَاضحا.
الحَدِيث الثَّانِي
«أَن بَرِيرَة أُعتقت، فَخَيرهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (بَين الْمقَام مَعَه وَبَين أَن تُفَارِقهُ» . هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم من حَدِيث عُرْوَة وَالقَاسِم عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ زوج بَرِيرَة عبدا، فَخَيرهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَاخْتَارَتْ نَفسهَا. وَلَو كَانَ حرًّا لم يخيرها» .
وَذكر ابْن حزم أَنه رُوِيَ عَن عُرْوَة خلاف هَذَا، فأسند من حَدِيث جرير، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: «كَانَ زوج بَرِيرَة حرًّا» قَالَ ابْن حزم: وَلَو كَانَ حرًّا لم يخيرها، يحْتَمل أَن يكون من كَلَام من دون عَائِشَة. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَيحْتَمل أَن يكون من كَلَام عُرْوَة.(7/640)
قلت: وَكَذَلِكَ أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من كَلَامه، وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا.
قلت: والتخيير ثَابت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا، قَالَت: «كَانَ فِي بَرِيرَة ثَلَاث سنَن: خيرت عَلَى زَوجهَا حِين عتقت ... » الحَدِيث بِطُولِهِ.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَكَانَ زَوجهَا عَلَى مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، وَابْن عمر، وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم عبدا.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، أما رِوَايَة عَائِشَة فسلفت وَفِي «صَحِيح مُسلم» أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، قَالَ عبد الرَّحْمَن: وَزوجهَا حر. قَالَ شُعْبَة: ثمَّ سَأَلت عبد الرَّحْمَن عَن زَوجهَا، فَقَالَ: لَا أَدْرِي أحر أم عبد.
وَفِي بعض طرق الحَدِيث الصَّحِيح: «فَخَيرهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من زَوجهَا فَقَالَت: لَو أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا مَا ثَبت عِنْده! قَالَ - يَعْنِي الْأسود بن يزِيد -: كَانَ زَوجهَا حرًّا» .
وَأما ابْن عمر فأخرجها الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي حَفْص الْأَبَّار،(7/641)
عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، قَالَ: كَانَ زوج بَرِيرَة عبدا.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا (من الْوَجْه الْمَذْكُور) وَأما رِوَايَة ابْن عَبَّاس فأخرجها البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِإِسْنَادِهِ عَنهُ «أَن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا يُقَال لَهُ: مغيث كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يطوف خلفهَا يبكي، ودموعه تسيل عَلَى لحيته، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - للْعَبَّاس: يَا عَبَّاس، أَلا تتعجب من حب مغيث بَرِيرَة وَمن بغض بَرِيرَة مغيثًا؟ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَو راجعتيه؟ قَالَت: يَا رَسُول الله، تَأْمُرنِي قَالَ: إِنَّمَا أَنا أشفع. قَالَت: لَا حَاجَة لي فِيهِ» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ «إِن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا أسود لبني الْمُغيرَة يَوْم أعتقت بَرِيرَة، وَالله لكَأَنِّي بِهِ فِي طرق الْمَدِينَة ونواحيها، وَإِن دُمُوعه لتسيل عَلَى لحيته يَتَرَضَّاهَا لتختاره فَلم تفعل» قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح. زَاد أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالطَّبَرَانِيّ: «وأمرها أَن تَعْتَد» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة نَافِع، عَن صفيَّة بنت أبي عبيد «أَن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده صَحِيح.
وَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ السالفة صَرِيحَة فِي بَقَاء عبوديته يَوْم الْعتْق، وَأما رِوَايَة الْأسود عَن عَائِشَة قَالَ: «كَانَ زوج بَرِيرَة حرًّا، فَلَمَّا أعتقت خَيرهَا عَلَيْهِ السَّلَام فَاخْتَارَتْ نَفسهَا» فَقَالَ البُخَارِيّ: إِنَّه مُنْقَطع وَقَول ابْن عَبَّاس:(7/642)
كَانَ عبدا أصح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَوْله «وَكَانَ حرًّا» هُوَ (من) قَول الْأسود لَا من قَول عَائِشَة، ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ مَا يدل لذَلِك، قَالَ: وَقد رَوَيْنَاهُ عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، وَعُرْوَة بن الزبير وَمُجاهد، وَعمرَة بنت عبد الرَّحْمَن كلهم عَن عَائِشَة «أَنه كَانَ عبدا» ثمَّ ذكر (عَن) شُعْبَة، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة «أَنه حر» ثمَّ قَالَ شُعْبَة: ثمَّ سَأَلته بعد فَقَالَ: لَا أَدْرِي أحر هُوَ أم عبد، ثمَّ قَالَ: وَقد رَوَاهُ سماك بن حَرْب، عَن عبد الرَّحْمَن فَأثْبت كَونه عبدا.
قلت: شُعْبَة إِمَام جليل حَافظ، وَقد رَوَى عَن عبد الرَّحْمَن (أَنه كَانَ حرًّا، فَلَا يضرّهُ نِسْيَان عبد الرَّحْمَن) وتوقفه عَلَى مَا تفرد فِي مَحَله، وَكَيف يُعَارض شُعْبَة سماك مَعَ كَونه متكلمًا فِيهِ، لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يُؤَكد رِوَايَة سماك: حَدِيث أُسَامَة بن زيد، عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهَا: إِن شِئْت أَن تقري تَحت هَذَا العَبْد» . قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَقد رُوِيَ عَن الْأسود، عَن عَائِشَة «أَن زَوجهَا كَانَ عبدا» فاختلفت الرِّوَايَة عَن الْأسود، وَلم تخْتَلف عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره مِمَّن قَالَ: «كَانَ عبدا» وَقد جَاءَ عَن بَعضهم أَنه من قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَعَن بَعضهم أَنه من قَول الحكم بن عتيبة، وَقَالَ البُخَارِيّ: قَول الحكم (مُرْسل) .
قلت: فِي تَسْمِيَة هَذَا مُرْسلا (و) فِي (الْمُقدم) مُنْقَطِعًا نظر إِذْ(7/643)
الْكَلَام الْمَوْقُوف عَلَى بعض الروَاة المدرج فِي الحَدِيث لَا يُسمى مُنْقَطِعًا وَلَا مُرْسلا.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَرَوَى الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَغَيره وَعمرَة وَغَيرهَا، عَن عَائِشَة «أَنه كَانَ عبدا وَالقَاسِم هُوَ ابْن أخي عَائِشَة، وَعُرْوَة هُوَ ابْن أُخْتهَا، وَكَانَا يدخلَانِ عَلَيْهَا بِلَا (خلاف) وَعمرَة كَانَت فِي حجر عَائِشَة، وَهَؤُلَاء أخص النَّاس بهَا، وَأَيْضًا فَإِن عَائِشَة كَانَت تذْهب إِلَى خلاف مَا رُوِيَ عَنْهَا، وَكَانَ رأيها أَنه لَا يثبت لَهَا الْخِيَار تَحت الْحر، قَالَ إِبْرَاهِيم، عَن أبي طَالب خَالف الْأسود بن يزِيد النَّاس فِي زوج بَرِيرَة، فَقَالَ (إِنَّه) حر. وَقَالَ النَّاس إِنَّه عبد.
قلت: قَوْله خَالف النَّاس أَي جمهورهم فقد وَافقه عَلَى ذَلِك الْقَاسِم، وَعُرْوَة - فِي رِوَايَة - وَابْن الْمسيب كَمَا ذكره عبد الرَّزَّاق عَنهُ، قَالَ الدَّارمِيّ: سَمِعت عَلّي بن الْمَدِينِيّ يَقُول لنا: أَيهمَا ترَوْنَ أثبت، عُرْوَة أَو إِبْرَاهِيم عَن الْأسود؟ ثمَّ قَالَ عَلّي: أهل الْحجاز أثبت. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يُرِيد عَلّي، رِوَايَة عُرْوَة وَأَمْثَاله من أهل الْحجاز أصح من رِوَايَة أهل الْكُوفَة. وَقَالَ ابْن الطلاع فِي «أَحْكَامه» : الْأَكْثَر فِي الرِّوَايَة(7/644)
وَالأَصَح أَنه كَانَ عبدا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ - مَا ملخصه، لمَّا اخْتلفت الْآثَار -: وَجب التَّوْفِيق بَينهمَا وَالْحريَّة نعت الْحرَّة، وَلَا ينعكس فَيحمل عَلَى أَنه إِذا كَانَ حرًّا عِنْدَمَا خيرت عبدا قبله، وَلَو ثَبت أَنه عبد لَا يمْنَع كَون الْحر، كَذَلِك إِذْ لَيْسَ فِي شَيْء من الْآثَار أَنه إِنَّمَا خَيرهَا لكَونه عبدا.
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن زوج بَرِيرَة كَانَ يطوف خلفهَا ويبكي خوفًا من أَن (تُفَارِقهُ) وَطلب من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يشفع إِلَيْهَا، فَلم تقبل وفارقته» .
وَهَذَا الحَدِيث قد سلف حكمه عَن رِوَايَة البُخَارِيّ، وَرَوَاهُ أَحْمد عَن هشيم، أبنا خَالِد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «لما خيرت بَرِيرَة رَأَيْت زَوجهَا فِي سِكَك الْمَدِينَة ودموعه تسيل عَلَى لحيته (فَكلم) الْعَبَّاس ليكلم فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -:) إِنَّه زَوجك. فَقَالَت: تَأْمُرنِي بِهِ يَا رَسُول الله؟ (فَقَالَ) إِنَّمَا (أَنا) شَافِع. فَخَيرهَا فَاخْتَارَتْ نَفسهَا، وَكَانَ عبدا لآل الْمُغيرَة يُقَال لَهُ: مغيث» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من هَذَا الْوَجْه أَيْضا بِلَفْظ «أَن مغيثًا كَانَ عبدا، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، اشفع إِلَيْهَا. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: يَا بَرِيرَة اتقِي الله فَإِنَّهُ زَوجك(7/645)
وَأَبُو ولدك. فَقَالَت: يَا رَسُول الله، أَنْت تَأْمُرنِي بذلك ... » الحَدِيث.
الحَدِيث الرَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لبريرة: إِن كَانَ قَرُبَكِ فَلَا خِيَار لَك» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مِرفوعًا كَذَلِك سَوَاء، وَفِي إِسْنَاده (عنعنة) ابْن إِسْحَاق، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ «إِن وطئك فَلَا خِيَار لَك» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَعَن حَفْصَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مثل ذَلِك.
قلت: رَوَاهُ مَالك عَن ابْن شهَاب، عَن عُرْوَة بن الزبير «أَن مولاة لبني عدي بن كَعْب يُقَال لَهَا: زَبْرَاء، أخْبرته أَنَّهَا كَانَت تَحت عبد وَهِي أمة (نوبية) فأعتقت، قَالَت: فَأرْسلت إِلَى حَفْصَة زوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فدعتني، فَقَالَت: إِنِّي مخبرتك خَبرا وَلَا أحب أَن تصنعي شَيْئا، إِن أَمرك بِيَدِك مَا لم يَمسك زَوجك. قَالَت: ففارقته ثَلَاثًا» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي وَقَالَ: لَا أعلم فِي تَوْقِيت الْخِيَار شَيْئا يسمع إِلَّا قَول حَفْصَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مِا لم يصبهَا كَذَا فِي «الْمُخْتَصر» . وَحَكَى الْبَيْهَقِيّ ذَلِك من رِوَايَة الرّبيع فِي أمالي النِّكَاح وَفِيه «مَا لم يَمَسهَا» .
فَائِدَة: سلف أَن زوج بَرِيرَة اسْمه: مغيث، وَهُوَ بالغين الْمُعْجَمَة، وَقيل: بِالْمُهْمَلَةِ ثمَّ تَاء مثناة فَوق، وَقيل: اسْمه مقسم، وَالْأول أشهر،(7/646)
وَقد أسلفنا أَنه كَانَ (عبدا) لبني الْمُغيرَة أَو لآل بني (أَحْمد، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: إِنَّه كَانَ عبدا لبَعض بني مُطِيع وبريرة كَانَت مولاة لبَعض بني) هِلَال وكاتبوها وباعوها.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار عَن عمر أَنه قَالَ: «أَيّمَا رجل تزوج امْرَأَة وَبهَا جُنُون أَو جذام أَو برص ومسها فلهَا صَدَاقهَا كَامِلا، و (ذَلِك) لزَوجهَا غرم عَلَى وَليهَا» وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ فِي «الْأُم» عَنهُ، عَن يَحْيَى بن سعيد، (عَن سعيد) بن الْمسيب، عَن عمر بِهِ، وَذكر مَالك أَن ابْن الْمسيب ولد بِنَحْوِ ثَلَاث سِنِين مَضَت من خلَافَة عمر وَأنكر سَمَاعه مِنْهُ، وَقَالَ ابْن معِين: لم يثبت سَمَاعه مِنْهُ.
وَذكر فِيهِ أَيْضا عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه أجل الْعنين سنة» . وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سعيد بن الْمسيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه كَانَ يُؤَجل سنة» وَقَالَ فِيهِ: «لَا أعلمهُ إِلَّا من يَوْم يرفع إِلَى السُّلْطَان» وَفِي رِوَايَة عَنهُ «أَنه قَالَ فِي الْعنين: يُؤَجل سنة؛ فَإِن قدر عَلَيْهَا وَإِلَّا فرق بَينهمَا، وَلها الْمهْر وَعَلَيْهَا الْعدة» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَتَابعه الْعلمَاء عَلَيْهِ.
قلت: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن عَلّي والمغيرة (بن) شُعْبَة، لَكِن عَن(7/647)
عُثْمَان وَمُعَاوِيَة «أَنه لَا يُؤَجل» وَعَن النَّخعِيّ: أَنه يُؤَجل. وَلم (يحد) حدًّا. وَعَن الْحَارِث بن عبد الله بن أبي ربيعَة «أَنه أجل (رجلا) لم يسْتَطع أَن يَأْتِي (امْرَأَته) عشرَة أشهر» .(7/648)
بَاب فِيمَا يملك الزَّوْج من الاستمتاعات
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ سَبْعَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ - سُئِلَ عَن الْوَطْء فِي الدبر، فَقَالَ: فِي أَي الخربتين؟ أَمن دبرهَا فِي قبلهَا فَنعم. أَو من دبرهَا فِي دبرهَا فَلَا، إِن الله لَا يستحيي من الْحق؛ لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي أَنا عمي مُحَمَّد (بن عَلّي) بن شَافِع، أَخْبرنِي عبد الله بن عَلّي بن السَّائِب، عَن عَمْرو بن أحيحة بن الجلاح - أَو عَن عَمْرو بن فلَان بن أحيحة بن الجلاح، قَالَ الشَّافِعِي: أَنا شَككت - عَن خُزَيْمَة بن ثَابت «أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن إتْيَان النِّسَاء فِي أدبارهن - أَو إتْيَان الرجل امْرَأَته فِي دبرهَا - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: حَلَال. فَلَمَّا ولَّى الرجل دَعَاهُ - أَو أَمر بِهِ - فدعي، فَقَالَ: كَيفَ قلتَ؟ فِي أَي الخربتين - أَو فِي الخرزتين، أَو فِي أَي الخصفتين - أَمن دبرهَا فِي قبلهَا فَنعم، أم من دبرهَا فِي دبرهَا فَلَا، إِن الله لَا يستحيي من الْحق؛ لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن» .
قَالَ الشَّافِعِي: عمي ثِقَة، وَعبد الله بن عَلّي ثِقَة، وَقد أَخْبرنِي مُحَمَّد عَن الْأنْصَارِيّ الْمُحدث بهَا: أَنه أَثْنَى عَلَيْهِ خيرا، وَخُزَيْمَة مِمَّن لَا يشك عَالم فِي ثقته (فلست) أرخص فِيهِ؛ بل أنهَى عَنهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد(7/649)
تَابعه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس الشَّافِعِي، عَن مُحَمَّد بن عَلّي، وَقَالَ عَمْرو بن أحيحة بن الجلاح. لم يشك.
فَائِدَة: الخربتان تَثْنِيَة خربة، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهِي الثقبة. وَهُوَ كَمَا قَالَ (قَالَ) الْجَوْهَرِي: الخربة كل ثقب مستدير. قَالَ: والخربة أَيْضا ثقب الورك، والخرب مثله، وَكَذَلِكَ الخرابة - بِالتَّخْفِيفِ - وَقد تشدد.
قَالَ الْأَزْهَرِي: أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام بخربتيها: مسلكيها، وأصل الخربة (عُرْوَة المزادة) فنشبه الثقب بهَا. قَالَ ابْن دَاوُد: وَخرب الفأس ثقبه الَّذِي فِيهِ النّصاب، قَالَ الْخطابِيّ: كل ثقب مستدير خربة، وَأما الخرزتين فَهِيَ الثقبة الَّذِي يثقبه الخراز بسراده ليحوزه، كنى بِهِ عَن المأتى، وَكَذَلِكَ الخصفتان من قَوْلك خصفت الْجلد عَلَى الْجلد إِذا خرزته مطابقًا، والسراد المخصف.
فَائِدَة ثَانِيَة: قَوْله: «لَا يستحيي من الْحق» قَالَ الرَّافِعِيّ: أَي لَا يتْرك شَيْئا مِنْهُ؛ لِأَن من استحيا من شَيْء تَركه، قَالَ: وَقيل: لَا يستبقي شَيْئا مِنْهُ، من قَوْله تَعَالَى: (ويستحيون نساءكم) أَي: يستبقونهن.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَلْعُون من أَتَى الْمَرْأَة فِي دبرهَا» .(7/650)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه بأسانيد مُخْتَلفَة، وَهَذَا لفظ أبي دَاوُد. وَلَفظ أَحْمد - فِي إِحْدَى رواياته -: «الَّذِي يَأْتِي امْرَأَته فِي دبرهَا (لَا ينظر الله إِلَيْهِ» وَفِي لفظ لَهُ كَلَفْظِ أبي دَاوُد، وَلَفظ ابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيّ فِي إِحْدَى روايتيه «لَا ينظر الله إِلَى رجل يَأْتِي امْرَأَته فِي دبرهَا) ، (و) لَفظه فِي الْأُخْرَى «اسْتَحْيوا من الله حق الْحيَاء، لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن» وَلَفظ التِّرْمِذِيّ وَأحمد فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى «من أَتَى حَائِضًا أَو امْرَأَة فِي دبرهَا أَو كَاهِنًا فَصدقهُ؛ فقد كفر بِمَا أنزل الله عَلَى مُحَمَّد» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث حَكِيم الْأَثْرَم، عَن أبي تَمِيمَة، عَن أبي هُرَيْرَة.
قلت: وَحَكِيم هَذَا لَا يُعرف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث إِلَّا الْيَسِير (قَالَه) أَبُو أَحْمد، قَالَ البُخَارِيّ: لَا يُتَابع عَلَيْهِ. قَالَ: وَلَا يُعرف لأبي تَمِيمَة سَماع من أبي هُرَيْرَة. وسُئل ابْن الْمَدِينِيّ عَن حَكِيم فَقَالَ: أعيانا هَذَا، وَأعله ابْن الْقطَّان من وَجه آخر مَوْجُود فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه وَإِحْدَى رِوَايَات النَّسَائِيّ فَقَالَ: هُوَ من رِوَايَة سُهَيْل بن أبي(7/651)
صَالح، عَن الْحَارِث بن مخلد، عَن أبي هُرَيْرَة، والْحَارث هَذَا رَوَى عَنهُ سُهَيْل وَبشر بن سعيد وَلم يعرف حَاله وأعل رِوَايَة النَّسَائِيّ الثَّانِيَة بِعَبْد الْملك بن مُحَمَّد الصَّنْعَانِيّ، فَإنَّ البستي: قَالَ إِنَّه تفرد بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه. وَسليمَان بن عبد الرَّحْمَن بن شُرَحْبِيل، قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس. و [قَالَ أَبُو حَاتِم:] هُوَ صَدُوق وَلكنه أروى النَّاس عَن الضُّعَفَاء والمجهولين. قَالَ: وَكَانَ فِي حد لَو أَن رجلا وضع لَهُ حَدِيثا لم يفهم وَلم يُمَيّز. قَالَ ابْن الْقطَّان: فَحق هَذَا الحَدِيث أَن يكون حسنا.
وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «من أَتَى شَيْئا من الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي الأدبار فقد كفر» وَفِي رِوَايَة لأبي نعيم الْحَافِظ «من نكح امْرَأَة فِي دبرهَا حشره الله يَوْم الْقِيَامَة أنتن من الجيفة» وَفِي رِوَايَة لِلْحَارِثِ بن أبي أُسَامَة: «من نكح امْرَأَة فِي دبرهَا أَو رجلا أَو صبيًّا حشر يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ أنتن من الجيفة يتَأَذَّى بِهِ النَّاس حَتَّى يدْخل نَار جَهَنَّم، وأحبط الله أجره، وَلَا يقبل مِنْهُ صرفا وَلَا عدلا، وَيدخل فِي تَابُوت من نَار وتشد عَلَيْهِ مسامير من حَدِيد حَتَّى تشبك تِلْكَ المسامير فِي جَوْفه، فَلَو وضع عرق من عروقه عَلَى أَرْبَعمِائَة أمَّة لماتوا وَهُوَ (من) أَشد النَّاس عذَابا» (و) فِي إِسْنَاد هَذِه الرِّوَايَة دَاوُد بن المحبر، وَهُوَ مَعْرُوف الْحَال وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) هَذَا لم يثبت.(7/652)
قلت: وَرُوِيَ النَّهْي عَن ذَلِك أَيْضا من حَدِيث جماعات من الصَّحَابَة خُزَيْمَة بن ثَابت، وَعمر، وَعلي، وَعلي بن طلق، وطلق بن عَلّي، وَابْن مَسْعُود، وَجَابِر، وَابْن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَابْن عَبَّاس، والبراء بن عَازِب، وَعقبَة بن عَامر، وَأنس، وَأبي ذَر.
أما حَدِيث خُزَيْمَة فسلف مطولا وَأخرجه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَنهُ مُخْتَصرا بِلَفْظ: «إِن الله لَا يستحيي من الْحق؛ لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن» هَذَا لَفظهمْ إِلَّا أَحْمد فِي إحدي روايتيه؛ فَإِن لَفظه «لَا يستحيي الله من الْحق - ثَلَاثًا - لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أعجازهن» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان كَالْأولِ إِلَّا أَنه قَالَ: «أعجازهن» بدل «أدبارهن» وَهُوَ سَوَاء وَأخرج هَذِه الرِّوَايَة الْحَاكِم فِي كِتَابه «عُلُوم الحَدِيث» .
وَأما حَدِيث عمر؛ فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» من حَدِيث عبد الله بن شَدَّاد وَعبد الله بن يزِيد عَنهُ مَرْفُوعا «إِن الله لَا يستحيي من الْحق؛ لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أعجازهن» وَفِي إِسْنَاده: زَمعَة بن صَالح، وَفِيه مقَال، أخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا بآخر، وَقَالَ يَحْيَى بن معِين مرّة: صُوَيْلِح(7/653)
الحَدِيث. وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ الِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده، وَأخرجه الْبَزَّار فِي «مُسْنده» قَالَ: لَا نعلمهُ يروي عَن عمر إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد.
وَأما حَدِيث عَلّي؛ فَأخْرجهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث عبد الْملك بن مُسلم الْحَنَفِيّ، عَن أَبِيه، عَنهُ مَرْفُوعا «لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أعجازهن» . وَقَالَ مرّة: «فِي أدبارهن» وَأخرجه الْخَطِيب أَيْضا بِهَذَا اللَّفْظ وَزِيَادَة: «فَإِن الله لَا يستحيي من الْحق» .
وَأما حَدِيث عَلّي بن طلق؛ فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عِيسَى بن حطَّان [عَن مُسلم بن سَلام] عَنهُ مَرْفُوعا: «لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أعجازهن؛ فَإِن الله لَا يستحيي من الْحق» حسنه التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ ابْن حبَان من حَدِيث (مُسلم) بن سَلام عَنهُ.
وَأما حَدِيث طلق بن عَلّي؛ فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث(7/654)
عيسي بن حطَّان، عَن مُسلم الْمَذْكُور، عَن طلق مَرْفُوعا بِمثل الَّذِي قبله سَوَاء.
وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود؛ فَأخْرجهُ ابْن عدي من حَدِيث أبي عُبَيْدَة عَنهُ مَرْفُوعا: «لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أعجازهن» .
وَأما حَدِيث جَابر؛ فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَنهُ مَرْفُوعا «اسْتَحْيوا؛ فَإِن الله لَا يستحيي من الْحق، لَا يحل لَك مأتاك النِّسَاء فِي حشوشهن» وَفِي رِوَايَة ابْن شاهين: «اسْتَحْيوا؛ فَإِن الله لَا يستحيي من الْحق، لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي حشوشهن» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عدي لَا يحل مأتى النِّسَاء فِي حشوشهن» وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «اتَّقوا محاش النِّسَاء» .
فَائِدَة: الحشوش جمع حش، وَجمع الحش بِالْفَتْح وَالضَّم عَلَى حشائش، وَهُوَ الكنيف والموضع الَّذِي يُقضى فِيهِ الْحَاجة، فشبَّه أدبار النِّسَاء بِهن؛ لِأَنَّهُنَّ فِي معناهن، وَرُوِيَ فِي محاشهن وَلم يذكر صَاحب «ضِيَاء الحلوم» غَيره وَقَالَ: هِيَ جمع محشة، وَهِي الدبر. قَالَ(7/655)
الْأَزْهَرِي: وَيُقَال أَيْضا بِالسِّين الْمُهْملَة كنى عَن المحاش بالأدبار كَمَا كنى بالحشوش عَن مَوَاضِع الْغَائِط.
وَأما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو؛ فَأخْرجهُ أَحْمد من حَدِيث قَتَادَة عَن عَمْرو شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا: «الَّذِي يَأْتِي امْرَأَته فِي دبرهَا هِيَ اللوطية الصُّغْرَى» وَذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا، وَلَفظه: «سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الَّذِي يَأْتِي امْرَأَته فِي دبرهَا، فَقَالَ: تِلْكَ اللوطية الصُّغْرَى» قَالَ الْخطابِيّ: هَكَذَا صَوَابه عَلَى التَّشْبِيه بِعَمَل قوم لوط، وَرَوَاهُ بعض أَصْحَابنَا بِلَفْظ «الْوَطْأَة الصُّغْرَى» وَهُوَ خطأ فَاحش، وَفِيه مَا يُوهم إِبَاحَة ذَلِك الْفِعْل.
وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس؛ فَأخْرجهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث حَنش عَنهُ قَالَ: «أنزلت هَذِه الْآيَة: (نِسَاؤُكُمْ حرث لكم) فِي أنَاس من الْأَنْصَار أَتَوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَهُم: يَأْتِيهَا عَلَى كل حَال إِذا كَانَ فِي الْفرج» .
وَرَوَاهُ من حَدِيث سعيد بن جُبَير (عَنهُ) قَالَ: «جَاءَ عمر بن الْخطاب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، هَلَكت! قَالَ: وَمَا الَّذِي أهْلكك؟ قَالَ: حولت رحلي البارحة! قَالَ: فَلم يرد عَلَيْهِ شَيْئا. قَالَ: فَأَوْحَى الله إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْآيَة فِيمَا ذكر: (نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم) أقبل وَأدبر وَاتَّقِ الدبر والحيضة» وَرَوَاهُ(7/656)
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث كريب عَنهُ مَرْفُوعا: «لَا ينظر الله إِلَى رجل أَتَى رجلا أَو امْرَأَة فِي الدبر» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. وَقَالَ الْبَزَّار: لَا نعلمهُ يرْوَى عَن ابْن عَبَّاس بِإِسْنَاد أحسن من هَذَا الْإِسْنَاد. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بلفظين: أَحدهمَا هَذَا.
وَثَانِيهمَا: بِلَفْظ: «لَا ينظر الله إِلَى رجل أَتَى امْرَأَة فِي دبرهَا» ثمَّ قَالَ رَفعه وَكِيع، عَن الضَّحَّاك بن عُثْمَان. وَعَزاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» إِلَى النَّسَائِيّ وَقَالَ: رِجَاله رجال الصَّحِيح.
وَأما حَدِيث الْبَراء؛ فَأخْرجهُ ابْن الْجَوْزِيّ من حَدِيث حَنْظَلَة بن أبي (سُفْيَان) عَن أَبِيه، عَنهُ مَرْفُوعا: «كفر بِاللَّه الْعَظِيم عشرَة من هَذِه الْأمة: الْقَاتِل، والساحر، والديوث، وناكح الْمَرْأَة فِي دبرهَا، ومانع الزَّكَاة، وَمن وجد سَعَة وَمَات وَلم يحجّ، وشارب الْخمر، والساعي فِي الْفِتَن، وبائع السِّلَاح من أهل الْحَرْب، وَمن نكح ذَات محرم مِنْهُ» .
وأمَا حَدِيث عقبَة بن عَامر؛ فَأخْرجهُ ابْن عدي من حَدِيث مشرح بن هاعان عَنهُ مَرْفُوعا «مَلْعُون من يَأْتِي النِّسَاء فِي محاشهن - يَعْنِي أدبارهن» .(7/657)
وَفِي رِوَايَة للعقيلي: «لعن الله الَّذين يأْتونَ النِّسَاء فِي محاشهن» قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : فَسَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: حَدِيث مُنكر.
وَأما حَدِيث أنس؛ فَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي «مُعْجَمه» من حَدِيث ابْن عَرَفَة، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة، عَن الْأَعْمَش، عَن (يزِيد) الرقاشِي، عَن أنس مَرْفُوعا «إِن الله لَا يستحيي من الْحق لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن ائتوهنّ من حَيْثُ أَمركُم الله» .
وَأخرجه شُعْبَة من حَدِيث عِيسَى بن حطَّان، عَن مُسلم بن سَلام، عَن طلق بن يزِيد - أَو يزِيد بن طلق - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله لَا يستحيي من الْحق؛ لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي استاههن» .
وَأما حَدِيث أبي ذَر؛ فَأخْرجهُ ابْن الْجَوْزِيّ من حَدِيث مُجَاهِد عَنهُ مَرْفُوعا «من أَتَى الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي أدبارهنّ فقد كفر» . وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ: رَوَاهُ أَبُو حنيفَة (عَن حميد) الْأَعْرَج، عَن رجل، عَن أبي ذَر مَرْفُوعا: «حرَام أَن تُؤْتَى النِّسَاء، فِي (أعجازهن) » قَالَ:(7/658)
وَلم يُتَابع أَبُو حنيفَة (عَلَى هَذَا) .
فَهَذِهِ ثَلَاثَة عشر حَدِيثا يعضد بَعْضهَا بَعْضًا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم قَالَ: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: لَيْسَ فِيهِ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم حَدِيث ثَابت وَالْقِيَاس (أَنه حَلَال) يُرِيد غلط سُفْيَان فِي حَدِيث ابْن الْهَاد - يَعْنِي حَدِيث خُزَيْمَة السالف - وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هَذَا قَالَه مُحَمَّد حِين انْتقل عَن مذْهبه إِلَى مَذْهَب مَالك نُصرةً لمذهبه. قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: وَغَيره؛ وَقد نَص عَلَى ذَلِك مَالك فِي كتاب السّير يروي ذَلِك عَنهُ أهل مصر وَالْمغْرب.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: رَوَى أصبغ، عَن ابْن الْقَاسِم، عَن مَالك أَنه قَالَ: مَا رَأَيْت أحدا أقتدي بِهِ فِي دين يَشك فِيهِ أَنه حَلَال، لَكِن المتبعين لَهُ الْآن يُنكرُونَ هَذَا الْمَذْهَب (بل قَالَ الإِمَام: قد راجعت فِي ذَلِك مَشَايِخ من مَذْهَب مَالك) يوثق بهم، فَلم يرو هَذَا مذهبا لمَالِك.
قلت: وَرَوَى الْخَطِيب فِي «كتاب الروَاة» عَن مَالك بِإِسْنَادِهِ إِلَى(7/659)
إِسْرَائِيل بن روح، قَالَ: «سَأَلت مَالِكًا، قلت: يَا أَبَا عبد الله، مَا تَقول فِي إتْيَان النِّسَاء فِي أدبارهن؟ قَالَ: مَا أَنْتُم قوم عرب هَل يكون الْحَرْث إلاّ مَوضِع الزَّرْع، أما تَسْمَعُونَ الله يَقُول: (نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أنّى شِئْتُم) قَائِمَة وَقَاعِدَة وَعَلَى جنب، وَلَا تعدوا الْفرج. قلت: يَا أَبَا عبد الله، إِنَّهُم يَقُولُونَ: أَنَّك تَقول ذَلِك! قَالَ: يكذبُون عليّ يكذبُون عليّ، يكذبُون عليّ!» .
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لفاطمة بنت قيس: « (لَا، حَتَّى) تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد تقدم (بَيَانه) مَبْسُوطا فِي بَاب النَّهْي عَن أَن يخْطب الرجل عَلَى خطْبَة أَخِيه.
الحَدِيث الرَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فيْ الْعَزْل: إِنَّه الوأد الْخَفي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة جدامة بنت وهب قَالَ: «حضرت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي أنَاس وَهُوَ يَقُول: لقد هَمَمْت أَن أنهَى عَن الغيلة. فَنَظَرت فِي الرّوم وَفَارِس، فَإِذا هم يغيلون أَوْلَادهم فَلَا(7/660)
يضر أَوْلَادهم (ذَلِك) شَيْئا ثمَّ سَأَلُوهُ عَن الْعَزْل، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ذَلِك الوأد الْخَفي وَهِي (وَإِذا الموءُودة سُئِلت) » .
فَائِدَة: يغيلون - بِضَم الْيَاء - وجدامة - بِالْجِيم وَالدَّال الْمُهْملَة - قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَمن قَالَ بِمُعْجَمَة فقد صحّف. (وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي «رجال الصَّحِيحَيْنِ» هِيَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة. قَالَ: وَقد يُقَال بِالْمُهْمَلَةِ والمخففة. ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ عَن أبي عمر الْمُطَرز أَنه قَالَ: إِنَّمَا هِيَ بِالْمُهْمَلَةِ الْمُشَدّدَة قَالَ: والجدامة: السعفة، وَجَمعهَا: جدام) . قَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : وَإِسْلَام جدامة كَانَ عَام الْفَتْح. أَي: فَيكون مَا تضمنته رِوَايَتهَا آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَيعْمل بهَا.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «كُنَّا نعزل عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَبلغ ذَلِك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم ينهنا» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كُنَّا نعزل عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالْقُرْآن ينزل» وَأخرجه البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ.(7/661)
الحَدِيث السَّادِس
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَلْعُون من نكح يَده» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا عَلَى تَحْرِيم الاستمناء، وَهُوَ غَرِيب لَا يحضرني من خرجه، وَفِي جُزْء الْحسن بن عَرَفَة: ثَنَا عَلّي بن ثَابت الجرزي، عَن مسلمة بن جَعْفَر، عَن حسان بن حميد، عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «سَبْعَة لَا ينظر الله إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَا يجمعهُمْ مَعَ الْعَالمين، ويدخلهم النَّار أول الداخلين إِلَّا أَن يتوبوا إِلَّا أَن يتوبوا إِلَّا أَن يتوبوا؛ فَمن تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ: الناكح يَده، وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ، ومدمن الْخمار، والضارب (أَبَوَيْهِ) حَتَّى يستغيثا، والمؤذي [جِيرَانه] حَتَّى يلعنوه، والناكح حَلِيلَة جَاره» .
وَهَذَا حَدِيث غَرِيب وَإِسْنَاده لَا يثبت بِمثلِهِ حجَّة: حسان بن حمير مَجْهُول، ومسلمة وَعلي ضعفهما الْأَزْدِيّ من أجل هَذَا الحَدِيث، وَسَاقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» كَذَلِك، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَحسان لَا يُعرف (وَلَا مسلمة) ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ(7/662)
من حَدِيث (بَقِيَّة) عَن إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ، عَن أبي جناب الْكَلْبِيّ، عَن ابْن عُمَيْر عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَفعه «أهلك الله - عَزَّ وَجَلَّ - أمة كَانُوا يعبثون بذكورهم» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَيْسَ بِشَيْء؛ إِسْمَاعِيل مَجْهُول، وَأَبُو جناب ضَعِيف.
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يطوف عَلَى نِسَائِهِ بِغسْل وَاحِد وَهن تسع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - (كَمَا سلف وَاضحا فِي الْغسْل) وَفِي رِوَايَة لأبي نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» عَنهُ: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يطوف عَلَى تسع نسْوَة فِي ضحوة» (هَذَا) آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب، وَذكر فِيهِ من الْآثَار عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَنَّهُمَا قَالَا: «تستأذن الْحرَّة فِي الْعَزْل» .
أما أثر ابْن مَسْعُود؛ فَلَا يحضرني من خرجه عَنهُ، نعم؛ قَالَ ابْن حزم: قد جَاءَت الْإِبَاحَة للعزل فِي أَخْبَار صَحِيحَة عَن جَابر وَابْن عَبَّاس وَسعد بن أبي وَقاص وَزيد بن ثَابت وَابْن مَسْعُود، فِي الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الشّعبِيّ، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «مَا أُبَالِي عزلت أَو(7/663)
برقتْ. قَالَ: وَكَانَ صَاحب (هَذِه) الدَّار يكرههُ - يَعْنِي: ابْن مَسْعُود» .
وَأما أثر ابْن عَبَّاس؛ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الْكَرِيم الْجَزرِي عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس «نهي عَن عزل الحرّة إِلَّا بِإِذْنِهَا» وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: «يعْزل عَن الْأمة، وتستأمر الْحرَّة» ثمَّ رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم وَمَنْصُور مثله، وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن عمر: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن عزل الْحرَّة إِلَّا بِإِذْنِهَا» وَفِي إِسْنَاده: ابْن لَهِيعَة، وَقد عَلِمت حَاله.
بَاب فِي وَطْء الْأَب جَارِيَة ابْنه وَبيع الْأمة الْمُزَوجَة
وَذكر فِيهِ عَن عَائِشَة «أَنَّهَا أشترت بَرِيرَة وَلها زوج فأعتقتها، فَخَيرهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَو فسخ النِّكَاح لما خَيرهَا» .
وَهَذَا الحَدِيث قد سلف بَيَانه فِي بَاب مثبتات الْخِيَار وَاضحا، وَذكر فِيهِ أَيْضا أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَنْت وَمَالك لأَبِيك» .
وَهَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
أَصَحهَا: طَرِيق عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أَن رَجُلاً أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُخَاصم أَبَاهُ فِي دين عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَنْت وَمَالك لأَبِيك» .
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم التَّاجِر، حَدثنَا حُصين بن الْمثنى [الْمروزِي] ثَنَا الْفضل بن مُوسَى، عَن عبد الله بن كيسَان، عَن عَطاء، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِهِ، وَذكره عَنهُ(7/664)
صَاحب «الْإِلْمَام» وَأقرهُ عَلَيْهِ.
ثَانِيهَا: طَرِيق جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِن لي مَالا وَولدا، وَإِن أَبي يُرِيدُ أَن يَجْتَاح مَالِي! فَقَالَ: أَنْت وَمَالك لأَبِيك» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن هِشَام بن عمار، ثَنَا عِيسَى بن يُونُس، ثَنَا يُوسُف بن إِسْحَاق السبيعِي، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء.
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح جَليِلُ، وَكَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ: أَن إِسْنَاده ثِقَات، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عبد الله بن يُوسُف، ثَنَا [عِيسَى] بن يُونُس ... فَذكره.
وَرَوَاهُ ابْن صاعد، عَن الْحُسَيْن بن الْحُسَيْن الْمروزِي، عَن عِيسَى بن يُونُس. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِنَّه غَرِيب من حَدِيث يُوسُف بن إِسْحَاق، عَن ابْن الْمُنْكَدر، تفرد بِهِ عِيسَى بن يُونُس عَنهُ.
قَالَ الْحَافِظ مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد: وغرابة الحَدِيث والتفرد بِهِ لَا يُخرجهُ عَن الصِّحَّة؛ فَإِن البُخَارِيّ رَوَى فِي «صَحِيحه» من حَدِيث(7/665)
مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر رَفعه: «من قَالَ إِذا فرغ النداء اللَّهُمَّ رب هَذِه الدعْوَة التَّامَّة» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: غَرِيب من حَدِيث مُحَمَّد عَنهُ تفرد بِهِ شُعَيْب بن أبي حَمْزَة وَلَا نعلم رَوَاهُ عَنهُ غير عَلّي بن عَيَّاش الْحِمصِي، وَحَدِيث الاستخارة رَوَاهُ البُخَارِيّ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: غَرِيب من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي الموَالِي، عَن مُحَمَّد [عَن] جَابر، قَالَ: وَهُوَ صَحِيح عَنهُ.
وَحَدِيث «رحم الله رجلا سَمْحًا إِذا بَاع» قَالَ: تفرد بِهِ أَبُو غَسَّان مُحَمَّد بن مطرف، عَن مُحَمَّد.
وَحَدِيث «كل مَعْرُوف صَدَقَة» تفرد بِهِ عَلّي بن عَيَّاش، عَن أبي غَسَّان، عَن مُحَمَّد أخرجهَا البُخَارِيّ فِي «كِتَابه» وَذكر هَذَا الحَدِيث عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه (عَن جده) وَسَيَأْتِي، ثمَّ قَالَ: وَقد صَحَّ من طَرِيق آخر ذكره الْبَزَّار. قَالَ [ابْن الْقطَّان] : وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْبَزَّار عَن مُحَمَّد(7/666)
(بن يَحْيَى) بن عبد الْكَرِيم الْأَزْدِيّ (ثَنَا عبد الله بن دَاوُد) عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «أَنْت وَمَالك لأَبِيك» ثمَّ قَالَ: إِنَّمَا يرْوَى عَن هِشَام عَن ابْن الْمُنْكَدر مُرْسلا وَلَا يعلم أسْندهُ هَكَذَا [إِلَّا عُثْمَان] بن عُثْمَان الْغَطَفَانِي، وَعبد الله بن دَاوُد.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَمن صَحِيح هَذَا الْبَاب حَدِيث ذكره بَقِي بن مخلد، ثَنَا هِشَام بن عمار، ثَنَا عِيسَى بن يُونُس ... فَذكره كَمَا سَاقه ابْن مَاجَه سندًا ومتنًا.
قلت: وَرِوَايَة الْمُرْسل أخرجهَا الشَّافعي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر «أَن رجلا جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن لي مَالا وعيالاً، وَإِن لأبي مَالا وعيالاً يُرِيد أَن يَأْخُذ مَالِي فيطعمه عِيَاله! فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَنْت وَمَالك لأَبِيك» .
قَالَ الشَّافِعِي: مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر غَايَة فِي الثِّقَة وَالْفضل فِي الدَّين والورع، وَلَكنَّا لَا نَدْرِي عَمَّن قيل هَذَا الحَدِيث، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هُوَ مُنْقَطع، قَالَ: وَقد رُوِيَ من أوجه مَوْصُولا لَا يثبت مثلهَا.
قلت: قد ثَبت بَعْضهَا كَمَا سلف، وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» : قد رَوَى بعض النَّاس هَذَا الحَدِيث مَوْصُولا بِذكر جَابر فِيهِ وَهُوَ خطأ. قَالَ: وَقَوله: «إِن لي مَالا وَوَلَدًا» لَيْسَ فِي رِوَايَة من وصل هَذَا الحَدِيث من(7/667)
طَرِيق آخر، عَن عَائِشَة وَلَا فِي أَكثر الرِّوَايَات عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده. وَكَذَا قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» عَن أَبِيه (أَن هَذَا) أشبه من الَّذِي قبله (وَأَن) ذكر جَابر فِيهِ خطأ.
الطَّرِيق الثَّالِث: طَرِيق عبد الله بن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لرجل: أَنْت وَمَالك لأَبِيك» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» «وأصغرها» عَن أبي زيد أَحْمد بن يزِيد (الحوطي) ثَنَا عَلّي بن عَيَّاش الْحِمصِي، ثَنَا مُعَاوِيَة بن يَحْيَى، عَن إِبْرَاهِيم [بن] عبد الحميد بن [ذِي حماية] عَن غيلَان بن جَامع، عَن حَمَّاد (عَن) إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة عَنهُ مَرْفُوعا بِهِ، قَالَ فِي أَصْغَر معاجمه: لَا يرْوَى عَن ابْن مَسْعُود إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد، تفرد (بِهِ) إِبْرَاهِيم بن عبد الحميد، وَكَانَ من ثِقَات الْمُسلمين. وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ حَمَّاد(7/668)
عَن [إِبْرَاهِيم عَن] الْأسود، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «إِن أطيب مَا أكل الرجل من كَسبه ... » .
الطَّرِيق الرَّابِع:
طَرِيق ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَعَدَّى عَلَى وَالِده، قَالَ: إِنَّه أَخذ مني مَالِي! فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أما علمت أَنَّك وَمَالك من كسب أَبِيك؟» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي خَيْثَمَة، ثَنَا وهب بن يَحْيَى بن زِمَام العلاف، ثَنَا مَيْمُون بن زيد، عَن عمر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر بِهِ.
الطَّرِيق الْخَامِس:
طَرِيق الْحسن، عَن سَمُرَة بن جُنْدُب «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إنَّ أَبِي اجْتَاح مَالِي! فَقَالَ: أَنْت وَمَالك لأَبِيك» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَذَلِك، وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «جَاءَ شَاب من الْأَنْصَار» وَقَالَ: «يَأْخُذ مَالِي» بدل «اجتاح مَالِي» .
ثمَّ قَالَ: فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث من غير هَذَا الْوَجْه وفيهَا لين، وَبَعضهَا أحسن من بعض، وَمن أحْسنهَا حَدِيث الْأَعْمَش، عَن مَنْصُور، عَن عمَارَة بن عُمَيْر، عَن عمته، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «أَوْلَادكُم من كسبكم؛ فَكُلُوا من كسب أَوْلَادكُم» .(7/669)
قلت: وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا أخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَسَيَأْتِي فِي كتاب النَّفَقَات - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الطَّرِيق السَّادِس:
طَرِيق عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَنْت وَمَالك لأَبِيك» . قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب أَظُنهُ عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عمر فَذكره، فَقَالَ: هَذَا خطأ؛ إِنَّمَا هُوَ عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: أخرجه كَذَلِك أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وَذكره الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث مطر، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عمر «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن أبي يُرِيد أَن يَأْخُذ مَالِي! قَالَ: أَنْت وَمَالك لأَبِيك» ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ يرْوَى عَن عمر هَكَذَا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَقد رَوَاهُ غير مطر، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده.
الطَّرِيق السَّابِع:
عَن قيس بن أبي حَازِم قَالَ: «حضرت أَبَا بكر الصّديق فَقَالَ لَهُ رجل: يَا خَليفَة رَسُول الله، هَذَا يُرِيد أَن يَأْخُذ مَالِي كُله ويجتاحه! فَقَالَ(7/670)
لَهُ أَبُو بكر: (إِنَّمَا لَك) من مَاله مَا يَكْفِيك، فَقَالَ: يَا خَليفَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أَلَيْسَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) : أَنْت وَمَالك لأَبِيك؟ فَقَالَ أَبُو بكر: ارْض بِمَا رَضِي الله» . رَوَاهُ (الْبَيْهَقِيّ) فِي «سنَنه» وَفِي إِسْنَاده: الْمُنْذر بن زِيَاد الطَّائِي الْبَصْرِيّ، قَالَ عَمْرو بن عَلّي: كَانَ كذَّابًا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك لَهُ مَنَاكِير. قَالَ: وَيُقَال فِيهِ: زِيَاد بن الْمُنْذر، وَإِنَّمَا هُوَ مُنْذر بن زِيَاد. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: ضَعِيف.
قلت: وَلِحَدِيث عَائِشَة السَّالِف طَرِيق آخر، ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» عَنْهَا قَالَت: «قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لرجل: رد عَلَى أَبِيك [مَا حبست عَنهُ] فَإِنَّمَا أَنْت وَمَالك سهم من كِنَانَته» ثمَّ قَالَ: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: هُوَ (مُرْسل) مُنكر. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : رُوِيَ مَوْصُولا ومرسلاً، وَهُوَ أصح.
فَائِدَة: قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : مَعْنَى الحَدِيث أَنه عَلَيْهِ السَّلَام زجر عَن مُعَامَلَته أَبَاهُ بِمَا يُعَامل بِهِ الأجنبيين، وَأمر ببره والرفق بِهِ فِي القَوْل وَالْفِعْل مَعًا، إِلَى أَن يصل إِلَيْهِ مَاله، فَقَالَ لَهُ: «أَنْت وَمَالك لأَبِيك» لَا أَن مَال الابْن يملكهُ أَبوهُ فِي حَيَاته من غير طيب نَفْس من الابْن. وَقَالَ(7/671)
الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : من زعم أَن مَال الْوَلَد لِأَبِيهِ احْتج بِظَاهِر هَذِه الْأَحَادِيث، وَمن زعم أَنه لَهُ من مَاله مَا يَكْفِيهِ إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ؛ فَإِذا اسْتَغنَى عَنهُ لم يكن للْأَب من مَاله شَيْء، احْتج بالأخبار الَّتِي وَردت فِي تَحْرِيم مَال الْغَيْر، وَأَنه لَو مَاتَ وَله ابْن لم يكن للْأَب من مَاله إِلَّا السُّدس، وَلَو كَانَ أَبوهُ يملك مَال ابْنه لحازه كُله، قَالَ: وَيروَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «كل أحد أَحَق بِمَالِه من وَالِده وَولده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ» .
ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ وَرَوَى بعده حَدِيث أبي بكر السالف.
وَقَالَ صَاحب «الْمُهَذّب» فِي كتاب النَّفَقَات: لم يذهب أحدٌ من الفقهاءِ إِلَى إباحةِ المالِ لوالدهِ بِغَيْر سَبَب فِيمَا يُعلم. قَالَ: وَمَعْنى يجتاح مَالِي: يستأصله، وَمِنْه الْجَائِحَة.
وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : ذكر أَبُو بكر الْبَزَّار وَغَيره أَن هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ بِآيَة الْمِيرَاث.(7/672)
كتاب الصَدَاق(7/673)
كتاب الصَدَاق
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فثمانية:
أَحدهَا
عَن أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأَى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعَلِيهِ ردع زعفران، فَقَالَ: مَهيم. قَالَ: تزوجت امْرَأَة من الْأَنْصَار، فَقَالَ: مَا أَصدقتهَا؟ فَقَالَ: وزن نواة من ذهب - وَفِي رِوَايَة: عَلَى نواة من ذهب - فَقَالَ: بَارك الله لَك، أولم وَلَو بِشَاة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَلم أر فِيهِ «رَدْع» وَإِنَّمَا فِيهِ «أثر صفرَة» أَو «وضر صفرَة» . والردع - برَاء ودال وَعين مهملات -: أثر الطّيب، وَلم يقْصد؛ بل تعلق بِهِ. ومهيم - بِفَتْح الْمِيم وَإِسْكَان الْهَاء وَفتح الْمُثَنَّاة تَحت ثمَّ مِيم مَعْنَاهَا: مَا شَأْنك. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيُقَال إِنَّهَا كلمة يَمَانِية. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وَهِي كلمة تسْتَعْمل فِي التهاني (رَآهَا) البصريون من الْأُصُول كصَه، ومَه، وهَيْهَات.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: مَعْنَاهُ مَا هَذِه فَإِنَّهُ يسْتَعْمل فِي (السُّؤَال) .(7/675)
والنواة: اسْم لخمسة دَرَاهِم، كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ وَكَذَا فَسرهَا أَكثر الْعلمَاء وفيهَا خلاف أوضحته فِي «شرحي للعمدة» فَليُرَاجع مِنْهُ. (وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: أبنا إِسْمَاعِيل بن عبد الله، عَن حميد، عَن أنس قَالَ: وَذَلِكَ مَعْنَى النواة: دانقان من ذهب. قَالَ ابْن حزم: الدانق: سدس الدِّرْهَم الطَّبَرِيّ وَهُوَ الأندلسي، والدانقان: ثلث دِرْهَم أندلسي؛ فَهُوَ سدس مِثْقَال الذَّهَب، وَهَذَا خبر مُسْند) .
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْخَبَر الْمَشْهُور: «فَإِن مَسهَا فلهَا الْمهْر بِمَا اسْتحلَّ بِهِ من فرجهَا» . هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي بَاب أَرْكَان النِّكَاح.
الحَدِيث الثَّالِث
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (أَدّوا) العلائق قيل: وَمَا العلائق؟ ! قَالَ: مَا تراضى بِهِ الأهلون» . هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، عَن مُحَمَّد بن مخلد، ثَنَا أَحْمد بن مَنْصُور، ثَنَا (عَمْرو) بن خَالِد الْحَرَّانِي، ثَنَا صَالح بن عبد الْجَبَّار، عَن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْبَيْلَمَانِي، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس - رَفعه -: «أنكحوا الْأَيَامَى وأدوا العلائق،(7/676)
قيل: مَا العلائق، قَالَ: مَا تراضى. عَلَيْهِ الأهلون (وَلَو) بقضيب من أَرَاك» .
وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف؛ صَالح هَذَا مَجْهُول الْحَال كَمَا قَالَه ابْن الْقطَّان، وَمُحَمّد ووالده تقدم بيانهما فِي كتاب الشُّفْعَة، قَالَ ابْن الْقطَّان: مُحَمَّد ضَعِيف. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَأَبوهُ لم تثبت عَدَالَته، و (عَمْرو) بن خَالِد: صَدُوق وَلَيْسَ (بالقرشي) ذَاك كذَّاب. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَالتَّعْلِيل بِمَا ذَكرْنَاهُ هُوَ الصَّوَاب. وَأما تَعْلِيل عبد الْحق لَهُ بِأَنَّهُ يرْوَى مُرْسلا وَأَن الْمُرْسل أصح فَهُوَ من الْأَحَادِيث الَّتِي لم يعبها بسوى الْإِرْسَال وَلها عُيُوب أخر غَيره. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث يرويهِ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْبَيْلَمَانِي، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر، وَخَالفهُ [عُمَيْر] بن عبد الله بن بشر الْخَثْعَمِي، وَالْحجاج بن أَرْطَاة، فَرَوَاهُ عَن عبد [الْملك بن] الْمُغيرَة الطَّائِفِي،(7/677)
عَن عبد الرَّحْمَن بن الْبَيْلَمَانِي، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا، وَهُوَ الصَّوَاب، وَلما رَوَاهُ البَيْهَقي من هَذَا الْوَجْه - أَعنِي من حَدِيث عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور عَن رَسُول (- قَالَ: هَذَا مُنْقَطع. قَالَ: وَقد قيل: عَن عبد الرَّحْمَن، عَن عمر بن الْخطاب، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه (عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَمن رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه) عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا كَرِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ الْمُتَقَدّمَة. ثمَّ قَالَ: قَالَ ابْن عدي: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ضَعِيف، وَمُحَمّد بن الْحَارِث - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي رِوَايَة ابْن عمر - ضَعِيف أَيْضا. قَالَ: والضعف عَلَى حَدِيثهمَا بَين.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَلِكَ قَالَه يَحْيَى بن معِين وَغَيره من مزكي الْأَخْبَار. قَالَ: وَلِلْحَدِيثِ شاهدٌ بإسنادٍ آخر فَذكره من رِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده: أَبُو هَارُون الْعَبْدي، وَهُوَ غير مُحْتَج بِهِ، قَالَ: وَقد رُوِيَ (من وَجه) آخر ضَعِيف عَن أبي سعيد مَرْفُوعا.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من اسْتحلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فقد اسْتحلَّ - أَي: طلب الْحل» . هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة يَحْيَى بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَبِيبَة (عَن أَبِيه) عَن جده أبي لَبِيبَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من اسْتحلَّ بدرهم فقد اسْتحلَّ - يَعْنِي: النِّكَاح» .(7/678)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة، عَن وَكِيع، عَن [ابْن] أبي لَبِيبَة، عَن جده عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قلت: وَأخرج هَذَا الحَدِيث الشَّافِعِي بلاغًا.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن أبي سَلمَة قَالَ: «سَأَلت عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مَا كَانَ صدَاق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَت: كَانَ صداقه لأزواجه اثنى عشر أُوقِيَّة ونشًّا، أَتَدْرِي مَا النش؟ قلت: لَا (قَالَت:) نصف أُوقِيَّة» . هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» .
الأُوقيّة: بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء. والنَشُّ: بِفَتْح النُّون ثمَّ شين مُعْجمَة مُشَدّدَة. وَالْمرَاد بالأوقية: أُوقِيَّة (أهل) الْحجاز وَهِي أَرْبَعُونَ درهما.
وَأخرج الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» (هَذَا الحَدِيث بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم) وَهُوَ غَرِيب مِنْهُ؛ فَهُوَ فِي «صَحِيحه» كَمَا قدمْنَاهُ قبل إِلَيْهِ.(7/679)
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كل شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل» هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فِي حَدِيث بَرِيرَة الطَّوِيل وَقد سلف.
الحَدِيث السَّابِع
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي بروع بنت واشق - وَقد نكحت بِغَيْر مهرٍ فَمَاتَ زَوجهَا - بِمهْر نسائها وَالْمِيرَاث» . هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد، أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» عَلَى الصَّحِيحَيْنِ (من رِوَايَة) معقل بن (يسَار) الْأَشْجَعِيّ، وَهُوَ أَبُو سِنَان أَو أَبُو مُحَمَّد، أَو أَبُو عبد الرَّحْمَن، أَو أَبُو يزِيد، أَو أَبُو عِيسَى أَقْوَال، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.(7/680)
وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي رسَالَته الْكُبْرَى فِي إبِْطَال الْقيَاس: لَا مغمز فِيهِ لصِحَّة إِسْنَاده. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الإِمَام الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: قد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِأبي هُوَ وَأمي - «أَنه قَضَى فِي بروع بنت واشق وَقد نكحت بِغَيْر مهرٍ، فَمَاتَ زَوجهَا، فَقَضَى (لَهَا) بِمهْر نسائها وَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ» فَإِن كَانَ يثبت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَهُوَ أولَى الْأُمُور بِنَا، وَلَا حجَّة فِي قَول أحد دون النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَإِن كَثُرُوا، وَلَا فِي قِيَاس وَلَا شَيْء فِي قَوْله إِلَّا طَاعَة الله بِالتَّسْلِيمِ لَهُ (وَإِن كَانَ لَا يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) لم يكن لأحد أَن (يثبت) عَنهُ (مَا لم يثبت) وَلم أحفظه عَنهُ (من) وَجه يثبت مثله. هُوَ مرّة يُقَال: عَن معقل بن يسَار، وَمرَّة عَن معقل بن سِنَان، ومرَّة عَن بعض أَشْجَع لَا يُسمى. هَذَا كَلَام الشَّافِعِي برمتِهِ وَهُوَ نَصه فِي «الْأُم» بِحُرُوفِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب فِي رِوَايَة هَذَا (الحَدِيث) اضْطِرَاب، قيل: رَوَاهُ (معقل بن سِنَان، وَقيل:) معقل بن يسَار، وَقيل: رجل من أَشْجَع، أَو نَاس من أَشْجَع، وَنقل الرَّافِعِيّ أَيْضا عَن صَاحب « (التَّقْرِيب» ) أَنه صحّح الحَدِيث، وَأَنه(7/681)
(قَالَ) الِاخْتِلَاف فِي الرَّاوِي لَا يضر؛ لِأَن الصَّحَابَة عدُول كلهم (وَلِأَنَّهُ) يحْتَمل أَن بَعضهم نسبه إِلَى أَبِيه، وَبَعْضهمْ إِلَى جدٍّ لَهُ قريب أَو بعيد، وَبَعْضهمْ إِلَى قومه وقبيلته. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعد أَن نقل كَلَام الشَّافِعِي السالف: لَكِن (عبد) الرَّحْمَن بن مهْدي إِمَام من أَئِمَّة الحَدِيث. رَوَاهُ وَذكر إِسْنَاده ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح. قَالَ: وَقد سَمّى فِيهِ معقل بن سِنَان، وَهُوَ صَحَابِيّ مَشْهُور. وَقَالَ فِي «خلافياته» : إِسْنَاده صَحِيح وَرُوَاته ثِقَات. قَالَ: وَمَعْقِل بن سِنَان صَحَابِيّ مَشْهُور. قَالَ فِي «سنَنه» وَرَوَاهُ يزِيد بن هَارُون، وَهُوَ أحد حفاظ الحَدِيث مَعَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بِإِسْنَاد صَحِيح ... وَذكر سَنَده، ثمَّ سَاقه الْبَيْهَقِيّ باخْتلَاف طرقه (ثمَّ) قَالَ فيهمَا: هَذَا الِاخْتِلَاف فِي قصَّة بروع بنت واشق عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يوهن الحَدِيث؛ فَإِن جَمِيع هَذِه الرِّوَايَات أسانيدها صِحَاح، وَفِي بَعْضهَا مَا دلّ عَلَى أَن جمَاعَة من أَشْجَع شهدُوا بذلك؛ فَكَأَن بعض الروَاة يُسمى مَعَهم، وَبَعْضهمْ سَمّى اثْنَيْنِ، وَبَعْضهمْ أطلق وَلم يسم، وَمثله لَا يرد الحَدِيث، وَلَوْلَا ثِقَة من رَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما كَانَ (لفرح) عبد الله بن مَسْعُود بروايته مَعْنَى، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : قَالَ أَبُو زرْعَة الَّذِي قَالَ معقل بن سِنَان هُوَ أصح.(7/682)
قلت: وَهَذَا قريب، وَقَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين فِي «حَوَاشِي السّنَن» : (هَذَا الحَدِيث) صَححهُ التِّرْمِذِيّ، وَبِه قَالَ أَصْحَاب الرَّأْي. قَالَ: وَهُوَ أصح قولي الشَّافِعِي. قَالَ: وَمَا يرْوَى من أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: لَا يعقل معقل بن سِنَان أَعْرَابِي يَبول عَلَى عَقِبَيْهِ فَلم يَصح ذَلِك عَنهُ.
قلت: وَكَذَلِكَ تَضْعِيف الْوَاقِدِيّ لَهُ بِأَنَّهُ (حَدِيث ورد) إِلَى الْمَدِينَة من أهل الْكُوفَة فَمَا عرفه أحد من عُلَمَاء الْمَدِينَة وَلأَجل ذَلِك قَالَ مَالك: يقدم إِيجَاب مهرهَا كَمَا حُكيَ عَن عَلّي وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَزيد بن ثَابت لَا يقْدَح؛ لِأَن (مثل) هَذَا كثير فِي الحَدِيث، قَالَه الْمَاوَرْدِيّ (و) فِي «الْمُسْتَدْرك» : سَمِعت أَبَا عبد الله الْحَافِظ، وَقيل لَهُ: سَمِعت الْحسن بن سُفْيَان يَقُول: سَمِعت حَرْمَلَة بن يَحْيَى يَقُول: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: إِن صَحَّ حَدِيث بروع بنت واشق قلت بِهِ، فَقَالَ أَبُو عبد الله: لَو حضرت الشَّافِعِي لقمت عَلَى رُءُوس أَصْحَابه وَقلت: فقد صَحَّ الحَدِيث فَقل بِهِ. فَقَالَ الْحَاكِم: فالشافعي إِنَّمَا قَالَ: لَو صَحَّ الحَدِيث؛ لِأَن هَذِه الرِّوَايَة إِن كَانَت صَحِيحَة فَإِن الْفَتْوَى فِيهِ لعبد الله بن مَسْعُود وَسَنَد الحَدِيث لنفر من أَشْجَع. قَالَ: وَشَيخنَا (أَبُو عبد الله) رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا حكم بِصِحَّة الحَدِيث؛ لِأَن الثِّقَة قد سَمّى فِيهِ رجلا من الصَّحَابَة وَهُوَ معقل بن سِنَان الْأَشْجَعِيّ، قَالَ: وبصحة مَا ذكرته أخبرنَا الْقطيعِي، قَالَ: نَا عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن عبد الرَّحْمَن(7/683)
بن مهدى، عَن سُفْيَان، عَن (فراس) عَن الشّعبِيّ، عَن مَسْرُوق، عَن عبد الله «فِي رجل تزوج امْرَأَة فَمَاتَ وَلم يدْخل بهَا وَلم يفْرض لَهَا، فَقَالَ: لَهَا الصَدَاق (كَامِلا) وَعَلَيْهَا الْعدة وَلها الْمِيرَاث. فَقَامَ معقل بن سِنَان فَقَالَ شهِدت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِهِ فِي بروع بنت واشق» فَصَارَ الحَدِيث صَحِيحا عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن دَقِيق الْعِيد أَيْضا فِي آخر «الاقتراح» فِي الْقسم الرَّابِع فِي أَحَادِيث رَوَاهَا من أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَلم يخرجَا تِلْكَ الْأَحَادِيث. وَخَالف الْحفاظ كلهم أَبُو بكر بن أبي خَيْثَمَة فَقَالَ فِي «تَارِيخه» فِي تَرْجَمَة معقل بن سِنَان: هَذَا حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ. قَالَ أَبُو سعيد [الدَّارمِيّ] : مَا خلق الله معقل بن سِنَان قطّ، وَلَا كَانَت بروع بنت واشق قطّ! قَالَ النَّوَوِيّ فِي «التَّهْذِيب» هَذَا الذى قَالَه [الدَّارمِيّ] غلط مِنْهُ وجهالة؛ لما عَلَيْهِ الْحفاظ وَالصَّوَاب أَنه حَدِيث صَحِيح، وَإِنَّمَا ذكرت هَذَا لأنبه عَلَى بُطْلَانه؛ لِئَلَّا يرَاهُ من لَا(7/684)
يعرف حَاله فيتوهمه صَحِيحا، وَلَقَد أحسن صَاحب التَّقْرِيب من أَصْحَابنَا حَيْثُ صحّح الحَدِيث كَمَا تقدم نَقله عَنهُ، وَقَالَ: الِاخْتِلَاف فِي الرَّاوِي لَا يضر؛ لِأَن الصَّحَابَة كلهم عدُول، وَلِأَنَّهُ يحْتَمل أَن بَعضهم نسبه إِلَى أَبِيه وَبَعْضهمْ إِلَى جدٍّ لَهُ قريب أَو بعيد، وَبَعْضهمْ إِلَى قومه وقبيلته وَعبر الشَّيْخ الْمُسَمَّى: نجم الدَّين بن الرّفْعَة فِي كتاب «الْمطلب شرح الْوَسِيط» عَن هَذَا بِأَن قَالَ: [يحْتَمل] أَن يسارا أَبوهُ وسنانًا (جده وَأَشْجَع) قبيلته فنسبه أحد الروَاة لِأَبِيهِ، وَالْآخر لجده، وَالْآخر لقبيلته.
فَائِدَتَانِ:
أَحدهمَا: اسْم زوج بروع: هِلَال بن مرّة الْأَشْجَعِيّ، وَقيل: هِلَال بن مَرْوَان، ذكره ابْن مَنْدَه وَأَبُو نعيم.
الثَّانِيَة: مَعْقِل: بِفَتْح الْمِيم، وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف.
وَسنَان: بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة، وَبعد نون مَفْتُوحَة وَبعد الْألف نون.
وبِرْوع: بباء مُوَحدَة مَكْسُورَة ثمَّ رَاء مُهْملَة سَاكِنة، ثمَّ وَاو مَفْتُوحَة ثمَّ عين مُهْملَة، وأبوها واشق - بالشين الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة وبالقاف - وهى كلابية، وَقيل: أشجعية.
قَالَ الْجَوْهَرِي فِي «صحاحه» : أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: بروع بِكَسْر الْبَاء، وَالصَّوَاب الْفَتْح؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام فِعوَل إِلَّا خِرْوَع وَهُوَ اسْم لكل نبت يتثنى، وعتود: اسْم وادٍ. وَذكر صَاحب «الْمُحكم» فِي بروع، نَحْو قَول الْجَوْهَرِي، وَقَالَ القلعي فِي كِتَابه «أَلْفَاظ الْمُهَذّب» :(7/685)
سَمَاعنَا فِيهَا بِالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة وَالرَّاء الْمُهْملَة، قَالَ: وَالْمَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة فِي الْأَسْمَاء: تزوع بِالتَّاءِ المثناه فَوق وَالزَّاي الْمُعْجَمَة. قَالَ النَّوَوِيّ: (فِي «تهذيبه» وَهَذَا الَّذِي قَالَه تَصْحِيف، وَلَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ.
قلت: وَنقل الْمُنْذِرِيّ) هَذَا المحكي عَن أهل اللُّغَة، عَن بَعضهم وَأفَاد أَنه بِكَسْر التَّاء عَلَى هَذِه اللُّغَة (قَالَ:) وَالْمَحْفُوظ الْمَشْهُور بروع بِكَسْر الْبَاء كخروع (لورقٍ) وعتود لوادٍ.
الحَدِيث الثَّامِن
«أَن امْرَأَة أَتَت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَت: يَا رَسُول الله، وهبت نَفسِي لَك. وَقَامَت قيَاما طَويلا فَقَامَ رجل، فَقَالَ: يَا رَسُول الله زوجنيها إِن لم يكن لَك بهَا حَاجَة. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَل عنْدك من شَيْء تصدقها إِيَّاه؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إزَارِي هَذَا. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن أعطيتهَا إزارك جَلَست (و) لَا إِزَار لَك التمس وَلَو خَاتمًا من حَدِيد. فَلم يجد شَيْئا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَل مَعَك من الْقُرْآن شَيْء. قَالَ: نعم سُورَة كَذَا وَكَذَا (لسور سَمَّاهَا. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من(7/686)
حَدِيث أبي سعيد سهل بن سعد السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (وَأما حَدِيث) سعيد بن مَنْصُور، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة، ثَنَا أَبُو (عرْفجَة) الفائشي، عَن أبي النُّعْمَان الْأَزْدِيّ، قَالَ: «زوَّج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - امْرَأَة عَلَى سُورَة من الْقُرْآن، ثمَّ قَالَ: لَا يكون مهْرا لأحد من (بعْدك) » وَهَذَا مَعَ إرْسَاله فِيهِ مَجْهُولَانِ: أَبُو عرْفجَة، وَأَبُو النُّعْمَان، كَمَا نبه عَلَيْهِ عبد الْحق.
(هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب) وَأما آثاره فسبعة:
أَحدهَا: عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: « (فلهَا) عقر نسائها» وَهَذَا الْأَثر ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا عَلَى أَن الْعقر اسْم من أَسمَاء الصَدَاق.
الْأَثر الثَّانِي وَالثَّالِث: عَن ابْن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنَّهُمَا قَالَا فِيمَن خلا بِامْرَأَة وَلم يحصل وَطْء: لَهَا نصف الصَدَاق» .
وَهَذَانِ الأثران أخرجهُمَا الْبَيْهَقِيّ.(7/687)
أما الأول: فَمن حَدِيث الشّعبِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: «لَهَا نصف الصَدَاق وَإِن جلس بَين رِجْلَيْهَا» ثمَّ قَالَ: فِيهِ انْقِطَاع بَين الشّعبِيّ وَابْن مَسْعُود.
وَأما الثَّانِي: فَمن حَدِيث الشَّافِعِي، عَن مُسلم بن خَالِد، عَن ابْن جريج، عَن لَيْث، عَن طَاوس عَنهُ «أَنه قَالَ فِي الرجل يُزَوّج الْمَرْأَة يَخْلُو بهَا وَلَا يَمَسهَا ثمَّ يطلقهَا: لَيْسَ لَهَا إِلَّا نصف الصَدَاق لِأَن الله - تَعَالَى - (يَقُول:) (وَإِن طَّلقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْل أَن تَمسُّوهُنَّ وَقد فَرَضَّتُمْ لَهُنَّ فَرِيضةً فَنصف مَا فرضتم) وَلَيْثُ هَذَا هُوَ ابْن أَبي سُلَيْم، وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «لَا يجب الصَدَاق وافيًا حَتَّى يُجَامِعهَا» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق عَلّي بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَهُوَ ضَعِيف مُنْقَطع.
الْأَثر الرَّابِع وَالْخَامِس: عَن عمر، وَعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنَّهُمَا قَالَا: «إِذا أغلق بَابا وأرخى سترا فلهَا الصَدَاق كَامِلا، وَعَلَيْهَا الْعدة» .
وَهَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة الْأَحْنَف بن قيس عَنْهُمَا، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا مُنْقَطع فَإِنَّهُ لم يدركهما. وَفِي «الْمُوَطَّأ» عَن يَحْيَى بن سعيد،(7/688)
عَن ابْن الْمسيب «أَن عمر قَالَ فِي الْمَرْأَة يَتَزَوَّجهَا الرجل أَنَّهَا إِذا أرخت الستور فقد وَجب الصَدَاق» .
وَرَوَى عبد الرَّزَّاق فِي «مُصَنفه» عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ عمر بن الْخطاب «إِذا أرخيت الستور وغلقت الْأَبْوَاب؛ فقد وَجب الصَدَاق» .
وَرَوَى أَبُو (عبيد) الْقَاسِم بن سَلام، عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، عَن (عَوْف) بن أبي جميلَة، عَن [زُرَارَة بن أَوْفَى] قَالَ: «قَضَى الْخُلَفَاء الراشدون المهديون أَنه إِذا أغلق الْبَاب وأرخى السّتْر فقد وَجب الصَدَاق» .
وَرَوَى أَبُو عبيد أَيْضا من حَدِيث وَكِيع، عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة، عَن نَافِع بن جُبَير، قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُولُونَ: إِذا أَرْخَى السّتْر وأغلق الْبَاب فقد وَجب الصَدَاق» .
الْأَثر السَّادِس: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن المُرَاد بقوله(7/689)
تَعَالَى (أَو يعْفُو الذى بِيَدِهِ عقده النِّكَاح) أَنه الْوَلِيّ» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث بن أبي مَرْيَم، ثَنَا مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي، ثَنَا عَمْرو بن دِينَار عَنهُ فِي الَّذِي ذكر الله (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِى بَيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاَح) قَالَ: ذَلِكَ أَبوهَا.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث (وَرْقَاء) بن عمر، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عِكْرِمَة عَنهُ «فِي قَوْله: (إلاَّ أَن يعفون (قَالَ: أَن تعفوا الْمَرْأَة (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِى بَيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاَح) الْوَلِيّ» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن صَالح، (عَن مُعَاوِيَة بن أبي صَالح) ، عَن عَلّي بن أبي طَلْحَة، عَن ابْن عَبَّاس «فِي» قَوْله (إِلَّا أَن يعفون) قَالَ: هِيَ الْمَرْأَة الثّيّب أَو الْبكر زَوجهَا غير أَبِيهَا، فَجعل الله الْعَفو إلَيْهِنَّ إِن شئن تركن، وَإِن شئن أخذن نصف الصَدَاق، ثمَّ قَالَ: (أَو يعْفُو الذى بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح) وَهُوَ أَبُو الْجَارِيَة الَّتِي جعل الله الْعَفو إِلَيْهِ ليبين لَهَا مَعَه أَمر إِذا مَا طلقت كَانَت فِي حجره» .
قلت: وَقد رُوِيَ عَن (ابْن) عَبَّاس خلاف ذَلِك، فروَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَلّي بن زيد، عَن عمار(7/690)
بن أبي عمار، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الزَّوْج» .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ: حَدِيث إِسْرَائِيل، عَن خصيف، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «هُوَ الزَّوْج» .
الْأَثر السَّابِع: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه كَانَ يَقُول: الذى بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الزَّوْج» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ، ورويا مثله من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَكِن فِي إِسْنَاده: ابْن لَهِيعَة، وحالته مَعْلُومَة.(7/691)
بَاب الْمُتْعَة
ذكر فِيهِ ثَلَاثَة آثَار:
أَحدهَا: عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنه قَالَ: «لكل مُطلقَة مُتْعَة إِلَّا الَّتِي فرض لَهَا وَلم يدْخل بهَا، فحسبها نصف الْمهْر» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي بإسنادٍ ثَابت، عَن مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يَقُول: (لكل مُطلقَة مُتْعَة إِلَّا الَّتِي تطلق وَقد فرض لَهَا الصَدَاق وَلم تمس، فحسبها نصف مَا فرض لَهَا» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (و) روينَا هَذَا القَوْل عَن جمَاعَة من التَّابِعين، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَمُجاهد وَالشعْبِيّ.
فَائِدَة: حسبها - بِسُكُون السِّين الْمُهْملَة - مَعْنَاهُ: يكفيها، وَمن ذَلِك قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «بِحَسب امرء (من) الشَّرّ أَن يحقر أَخَاهُ الْمُسلم» وَهَذِه الْبَاء الجارة زَائِدَة وَهِي مُبْتَدأ، وَأَن الْفِعْل الَّذِي بعْدهَا فِي مَوضِع الْخَبَر.
الْأَثر الثَّانِي وَالثَّالِث: عَن ابْن عمر (وَابْن عَبَّاس) «أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْمُتْعَة هِيَ ثَلَاثُونَ درهما) .
أما أثر ابْن عمر فَذكره الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم كَمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ وَهَذَا(8/5)
نَصه لَا أعرف فِي الْمُتْعَة يَعْنِي قدرا مؤقتًا إِلَّا أَنِّي أستحسن ثَلَاثِينَ درهما، كَمَا رُوي عَن ابْن عمر.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع أَن رجلا أَتَى ابْن عمر فَذكر أَنه فَارق امْرَأَته (فَقَالَ:) أعْطهَا (واكسها) كَذَا، فحسبنا ذَلِك فَإِذا نَحْو من ثَلَاثِينَ درهما. قلت لنافع: كَيفَ كَانَ هَذَا الرجل؟ قَالَ: كَانَ (متسددًا)) .
وَأما أثر ابْن عَبَّاس فتبع (فِي) إِيرَاده ابْن الصّباغ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي «شامله» : أَن الشَّافِعِي قَالَ: يمتعها بخادم؛ فَإِن لم يجد فمِقْنَعَة، فَإِن لم يجد فَثَلاثين درهما، وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا: مَا يُرْوى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «أَكثر الْمُتْعَة: خَادِم، وأقلها: ثَلَاثُونَ (درهما)) .
وَفِي «الْمَاوَرْدِيّ» : أَن الشَّافِعِي فِي موضعٍ من الْقَدِيم اسْتحْسنَ أَن تكون بِقدر خَادِم، وَحَكَاهُ عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: روينَا عَن ابْن عَبَّاس: «عَلَى قَدْر يُسْره وعُسْره؛ فَإِن كَانَ مُوسِرًا (مَتَّعَهَا) بخادم أَو نَحْو ذَلِك، وَإِن كَانَ مُعسرا فَثَلَاثَة أَثوَاب أَو نَحْو ذَلِك» . قَالَ: وروينا عَن عبد الرَّحْمَن: «أَنه مَتَّعَ بِجَاريةٍ سَوْدَاء» .
وَعَن الْحسن بن عليّ: «أَنه مَتَّعَ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم» .(8/6)
قلت: وَقيل: «إِن زَوْجَة الْحسن لمَّا دفع إِلَيْهَا ذَلِك قَالَت: مَتَاع قَلِيل من حبيبٍ مفارق، فَكَانَت عَادَته إِذا طلَّق لَا يَرْتَجِعُ، فلمَّا بلغه قَوْلهَا قَالَ: لَو كنتُ أرتجع امْرَأَة طلقتُها؟ أَو كَمَا قَالَ: لارْتَجَعْتُهَا» .
وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مَتَّعَ المستعيذة بثوبين» . كَمَا قدَّمْتُه فِي «الخصائص» .
وَهُوَ يُعَكر عَلَى قَول من قَالَ: إِنَّه (لَا يتَوَقَّف فِيهَا) من جِهَة الشَّرْع وَلَا تَقْدِير، وَلم أر أحدا قَالَ من أَصْحَابنَا: إِنَّه يمتعها بثوبين.(8/7)
بَاب: الْوَلِيمَة والنثر
ذكر فِيهِ أَحَادِيث، ثَمَانِيَة عشر حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّة بسويقٍ وتمرٍ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن غَرِيب.
قلت: وصحيحٌ (فقد) أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أنس فِي قصَّة صَفِيَّة: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جَعَلَ وليمتها: السّمن، وَالتَّمْر والأقط» .
وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» من حَدِيث أنس أَيْضا: «أطْعم رسولُ(8/8)
الله (عَلَى صَفِيَّة خُبْزًا وَلَحْمًا» . ثمَّ قَالَ: صَحِيح.
قلت: بل غلط؛ ذِي زَيْنَب.
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقد تزوَّج امْرَأَة: أَوْلِمْ، وَلَو بِشَاة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سلف بَيَانه فِي أوَّل: الصَدَاق.
الحَدِيث الثَّالِث وَالرَّابِع
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من دعِي إِلَى الْوَلِيمَة (فليأتها)) ويُرْوى: (من دُعِي فَلم يُجِبْ، فقد عَصَى الله وَرَسُوله» .
هَذَانِ حديثان جَمعهمَا الرَّافِعِيّ لِاجْتِمَاع لَفْظهمَا عَلَى مدلولٍ وَاحِد.
أما الأول: فَأخْرجهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من الْوَجْه الْمَذْكُور، بِلَفْظ: «إِذا دُعي أحدكُم إِلَى الْوَلِيمَة فليأتها» .
وَأما الثَّانِي: (فأخرجاه) أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، لَكِن مَوْقُوفا(8/9)
عَلَيْهِ، وَمُسلم أخرجه مَرْفُوعا، وَلَفظه: «وَمن لم يجب الدعْوَة؛ فقد عَصَى (الله) وَرَسُوله» .
وَلَفظه من الْمَوْقُوف: «ومَنْ لم يأتِ الدعْوَة ... .» إِلَى آخِره.
وَلَفظ البُخَارِيّ: «ومَنْ ترك الدعْوَة ... » (إِلَى آخِره، وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل ستعرف أَوله عَلَى الإثر) .
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «شَرُّ الولائم: وليمةُ العُرْس؛ يُدْعى لَهَا الْأَغْنِيَاء، ويُتْرَكُ الْفُقَرَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَهُوَ بعض من الحَدِيث الثَّالِث، وَلَفظ مُسلم الْمَرْفُوع الَّذِي سلف بعضه: «شَرُّ الطَّعَام: طَعَام الْوَلِيمَة، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، ويدعى إِلَيْهَا مَنْ يأباها، ومَنْ لم يجب [الدعْوَة] فقد عَصَى الله وَرَسُوله» .
وَلَفظ «الصَّحِيحَيْنِ» فِي الْمَوْقُوف: «شَرُّ الطَّعَام: طَعَام الْوَلِيمَة؛ يُدْعى إِلَيْهَا الْأَغْنِيَاء، ويُتْرك الْفُقَرَاء، ومَنْ لم يُجِبْ فقد عَصَى الله وَرَسُوله» .(8/10)
فَائِدَة: فِي الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث عمرَان الْقطَّان عَن قَتَادَة، عَن أبي الْعَالِيَة، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «شَرُّ الطَّعَام: طَعَام الْوَلِيمَة؛ يُدْعى إِلَيْهَا الشَّبْعَان، ويُحْبَسُ (عَنْهَا) الجائع» .
وَفِي «كَامِل ابْن عدي» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: «من لم يجب الدعْوَة فقد عَصَى الله وَرَسُوله، وَأَنت بِالْخِيَارِ فِي [الخرس] وَفِي العذار» .
وَفِي إسنادها «يَحْيَى بن عُثْمَان الْأنْصَارِيّ» قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَنقل عبد الْحق عَن ابْن عدى: أَنه قَالَ فِيهِ: هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ وَتعقبه ابْن الْقطَّان فِي ذَلِك، وَقَالَ: الْمَوْجُود فِيهِ مَا سلف.
(الحَدِيث) السَّادِس
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْوَلِيمَة فِي الْيَوْم (الأوَّل) حَقٌّ، وَفِي الثَّانِي معروفٌ، وَفِي الثَّالِث: رِيَاء وسُمْعة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من رِوَايَة همام، عَن(8/11)
قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن عبد الله بن عُثْمَان الثَّقَفِيّ، عَن رجل من ثَقِيف، - يُقَال: إِن لَهُ مَعْرُوفا، أَي: يثنى عَلَيْهِ خير، قَالَ قَتَادَة: إِن لم يكن اسْمه: زُهَيْر، فَلَا أَدْرِي مَا اسْمه - أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْوَلِيمَة أوَّل يَوْم حق، وَالثَّانِي مَعْرُوف، وَالثَّالِث سمعة ورياء» .
(و) رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عبد الرَّحْمَن بن [مهْدي] ثَنَا همام، عَن قَتَادَة بِهِ سَوَاء، لكنه قَالَ: عنْ رجل يُقَال لَهُ مَعْرُوف، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مُسْندًا ومرسلًا، قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ: لَا أعلم لزهير بن عُثْمَان غَيْرَ هَذَا، وَقَالَ البُخَارِيّ كَمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ، وَعبد الْحق: هَذَا الحَدِيث لَا يَصح إِسْنَاده، وَلَا يعلم لَهُ صُحْبَة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: فِي إِسْنَاده نظر؛ يُقَال: إِنَّه مُرْسل، وَلَيْسَ لَهُ غَيره. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحديثَ فِيمَن لَهُ صُحْبَة.
قلت: وَذكره أَيْضا الحافظُ أَبُو موسي فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة عبد الله بن عُثْمَان الثَّقَفِيّ (وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» فِي مُسْند مَعْرُوف الثَّقَفِيّ) : كَذَا (رُوي) قَالَ: وَلَا يُعْرف (غَيره) فِي الصَّحَابَة مَنْ اسْمه «مَعْرُوف» ثمَّ أخرج الحَدِيث من «مُسْند أَحْمد» .(8/12)
قلت: وَلِهَذَا الحَدِيث طرق أُخْرَى:
أَحدهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي حَازِم عَنهُ مَرْفُوعا بِلَفْظ أبي دَاوُد، وَفِي إِسْنَاده: عبد الْملك بن حُسَيْن النَّخعِيّ الوَاسِطِيّ، قَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ البُخَارِيّ: لَيْسَ بالقويّ عِنْدهم. وضعَّفه جماعاتٌ غيرُهم، ونَسَبَهُ الأزديُّ إِلَى التّرْك، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: رُوي ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا وَلَيْسَ بِشَيْء.
ثَانِيهَا: من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ مَرْفُوعا: «طَعَام أوَّل يَوْم حق، وَطَعَام يَوْم الثَّانِي: سُنَّة، وَطَعَام يَوْم الثَّالِث سُمعة (وَمن سمع سمع الله) بِهِ» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيث زِيَاد بن عبد الله، وَهُوَ كثير الغرائب والمناكير، قَالَ: وسمعتُ البخاريَّ يذكر عَن مُحَمَّد بن (عقبَة) قَالَ: وَقَالَ وَكِيع: زِيَاد بن عبد الله مَعَ شرفه (لَا يكذب) فِي الحَدِيث.(8/13)
وَحَكَى البُخَارِيّ وَغَيره، عَن وَكِيع أَنه قَالَ: إِنَّه أشرف من أَن يكذب. وَقَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق. وَقَالَ ابْن عديُّ: مَا أرَى بروايته بَأْسا. وتكلَّم فِيهِ غيرُ واحدٍ، وَأخرج لَهُ خَ م قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «موافقاته» :
تكلم فِيهِ يَحْيَى بْنُ معِين وغَيْرُه، وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ واحدٍ، وَاسْتشْهدَ بِهِ خَ وَاحْتج بِهِ مُسلم، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : رَوَى لَهُ خَ حَدِيثا وَاحِدًا مَقْرُونا بآخَرٍ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تفردَّ بِهِ زِيَاد بن عبد الله، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن أبي عبد الرَّحْمَن وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : حَدِيث زِيَاد هَذَا لَيْسَ بالقويّ. وَأعله عبد الْحق بِزِيَاد، قَالَ ابْن الْقطَّان: أعرض عَن إعلاله بعطاء، وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ.
ثَالِثهَا: من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «الدعْوَة أوَّل يَوْم حق، وَالثَّانِي مَعْرُوف، وَمَا زَاد فَهُوَ رِيَاء» . ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» من حَدِيث الْحسن عَنهُ بِهِ، ثمَّ قَالَ: سألتُ أبي عَنهُ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ الْحسن، عَن النَّبِي(8/14)
(مُرْسل. وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِن الْمُرْسل أصح.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث بكر بن خُنَيْس، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي سُفْيَان، عَن أنس: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لمَّا تزوَّج أُمَّ سَلمَة أَمر بالنَّطع فَبُسِطَ، ثمَّ ألْقَى عَلَيْهِ تَمرا وسويقًا، فَدَعَا النَّاس فَأَكَلُوا، وَقَالَ: الْوَلِيمَة فِي أوَّل يَوْم حق، وَالثَّانِي مَعْرُوف، وَالثَّالِث رِيَاء وسُمْعة» . ثمَّ قَالَ: لَيْسَ بالقويّ، فِيهِ «بكر بن خُنَيْس» تكلَّموا فِيهِ.
قلت: اخْتلف قَول ابْن معِين فِيهِ، وضعَّفه النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وغيرُهما، وحسَّن لَهُ الترمذيُّ حديثَ: «عَلَيْكُم بِقِيَام اللَّيْل» .
رَابِعهَا: من حَدِيث وَحشِي بن حَرْب بن وَحشِي، عَن أَبِيه، عَن جِدِّه: «أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، الْوَلِيمَة (قَالَ: الْوَلِيمَة) حق، وَالثَّانيَِة مَعْرُوف، وَالثَّالِثَة (رِيَاء وَسُمْعَة) » .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه» من حَدِيث مُحَمَّد بن سُلَيْمَان، حَدثنَا وَحشِي ... فَذكره.
خَامِسهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَفعه: «طَعَام فِي العُرْس يَوْم سنة، وَطَعَام يَوْمَيْنِ فضْل، وَطَعَام ثَلَاثَة أَيَّام رِيَاء وَسُمْعَة» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي «مُعْجَمه» من حَدِيث مُحَمَّد بن عبيد الله(8/15)
الْعَرْزَمِي، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِهِ.
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا اجْتمع داعيان فأجب أقربهما إِلَيْك بَابا؛ فَإِن أقربهما إِلَيْك بَابا أقربهما إِلَيْك جِوَارًا، وَإِن سبق أَحدهمَا فأجب الَّذِي سبق» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي خَالِد الدالاني، عَن أبي الْعَلَاء [الأودي] ، عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن الحِمْيَرِىِّ، عَن رجلٍ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن اجْتمع الداعيان فأجِبْ أقربهما بَابًا، فَإِن أقربهما بَابا أقربهما جِوَارًا؛ فَإِن سبق أحدُهما فأجب الذى سبق» .
رَوَاهُ أَحْمد كَذَلِك (أَيْضا) ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة حميد بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «إِذا دعَاك الداعيان فأجب أقربهما بَابا؛ فَإِن أقربهما بَابا أقدمهما جِوَارًا» .
وَأَبُو خَالِد هَذَا: قد عرف حالُه فِي بَاب أَسبَاب الْحَدث.(8/16)
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يقعدنَّ عَلَى مائدة يُدَارُ عَلَيْهَا الْخمر» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يُدْخِل حليلته الحمَّام، ومَنْ كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يَدْخل الحمَّام إِلَّا بمئزر، وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يجلس عَلَى مائدةٍ يُدارُ عَلَيْهَا الْخمر» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَقَالَ: حسن غَرِيب. وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: حديثٌ صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن أبي الزبير، عَن جَابر رَفعه: (مَنْ كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يُدْخل حليلته الحمَّام، ومَنْ كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يقْعد عَلَى مائدةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخمر، ومَنْ كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر (فَلَا) يَخلُوَنَّ بامرأةٍ لَيْسَ مَعهَا [ذُو] مَحْرم؛ فَإِن ثالثهما الشَّيْطَان» .
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث ابْن عُمر «أَن النبى (نَهَى، عَن مطْعمين: عَن الْجُلُوس عَلَى مائدةٍ يُشْرب عَلَيْهَا الْخمر، وَأَن يَأْكُل الرجلُ وَهُوَ منبطح عَلَى بَطْنه» .(8/17)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَعْفَر بن برْقَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر؛ لم يسمعهُ جَعْفَر من الزهريِّ. وَذكر مَا يدل عَلَى ذَلِك، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا فِي «سنَنه» وَذكر مَا يدل عَلَى أَن جَعْفَر لم يسمعهُ من الزُّهْرِيّ، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» سَأَلت أبي عَنهُ، فَقَالَ: إِنَّه خطأ، يرويهِ جَعْفَر، عَن رجل، عَن الزُّهْرِيّ، وَلَيْسَ هَذَا من صحيحِ حديثِ الزُّهْرِيّ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ أَحْمد (وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عُمر أَيْضا، إِلَّا أَنه لم يذكر لَفْظَة: «يدار» ، وَزَاد: « (وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يَدْخل الْحمام)) .(8/18)
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث الْقَاسِم بن أبي الْقَاسِم السبائي، عَن قاص الأجْناد بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَنه سَمعه يحدِّث أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: «يَا أَيهَا النَّاس، إِنِّي سمعتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: مَنْ كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر (فَلَا يقعدن عَلَى مائدة يدار عَلَيْهَا الْخمر، وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر) فَلَا يدْخل الحمَّام إِلَّا بإزار، (ومَنْ كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يدْخل الحمَّام) » .
وَفِي إِسْنَاده هَذَا الْمَجْهُول كَمَا ترَى.
الطَّرِيق الرَّابِع: من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَوَاهُ الْبَزَّار، وَفِيه ضعف.
الطَّرِيق الْخَامِس: من حَدِيث عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «مَنْ كَانَ يُؤمن بِاللَّه فَلَا يجلس عَلَى مائدة يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخمر» وَسَنَده ضَعِيف بِسَبَب يَحْيَى بن أبي سُلَيْمَان الْمدنِي، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.(8/19)
الحَدِيث التَّاسِع
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، وَقد سترت عَلَى صفة لَهَا سترا فِيهِ الْخَيل ذَوَات الأجنحة، فَأمر بنزعها» . وَفِي رِوَايَة: «قَطعنَا مِنْهُ وسَادَة - أَو وسادتين - وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرتفق بهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه بِأَلْفَاظ، مِنْهَا: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَدِمَ من سَفَرٍ، وَقد سترت سهوة لي بقرام فِيهِ تماثيل، فلمَّا رَآهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هتكه فتلوَّن وَجهه، وَقَالَ: يَا عَائِشَة، أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة الَّذين (يباهون) خلق الله! قَالَت عَائِشَة: فقطعناه، فَجعلنَا مِنْهُ وسَادَة - أَو وسادتين» .
وَفِي لفظ: «أَنَّهَا نصبتْ سترا فِيهِ تصاوير، فَدخل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَنَزَعَهُ (قَالَ: فَقَطعه) وسادتين» .
وَفَى لفظ: «دخل عَلَيْهِ السَّلَام عليَّ وَفِي الْبَيْت قرامٌ فِيهِ صور، فتلوَّن وَجهه، ثمَّ تنَاول السِّتْر فهتكه، وَقَالَ: أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة الَّذين يصورون هَذِه الصُّور!» .(8/20)
وَفِي لفظ لمُسلم: «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي غزاةٍ، فَأخذت نمطًا فَسترته عَلَى الْبَاب، فلمَّا قَدِمَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأَى ذَلِك النمط، فرأيتُ الْكَرَاهَة فِي وَجهه، فَجَذَبَهُ حَتَّى هتكه - أَو فقطَّعه - وَقَالَ: إِن الله لم يَأْمُرنَا أَن نكسوا الْحِجَارَة والطين. قَالَت: فقطعنا مِنْهُ وسادتين، وحشوتهما ليفًا، فَلم يَعِبْ ذَلِك عليَّ» . وَله أَيْضا: فِي النمرقة الَّتِى فِيهَا التصاوير، «فأخذتها فجعلتها مرفقتين، فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يرتفق بهما فِي الْبَيْت» .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي بَاب: التِّجَارَة فِيمَا يُكره لبسه، من كتاب البيع، عَن عَائِشَة أَيْضا: «أَنَّهَا أخْبرته أَنَّهَا اشترت نمرقة فِيهَا تصاوير، فلمَّا رَآهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ عَلَى الْبَاب، فَلم يدْخلهُ (فَعرفت) فِي وَجهه الْكَرَاهَة، فَقلت: يَا رَسُول الله: أَتُوب إِلَى الله وَإِلَى رَسُوله (مَاذَا) أذنبتُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا بَال هَذِه النمرقة؟ قلت (اشْتَرَيْتهَا) لكَ لتقعدَ عَلَيْهَا وتوسدها، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: إِن أَصْحَاب هَذِه الصُّور يَوْم الْقِيَامَة يُعذَّبون، فَيُقَال لَهُم: أحْيُوا مَا خلقْتُم، وَقَالَ: إِن الْبَيْت الَّذِي فِيهِ الصُّور لَا تدخله الْمَلَائِكَة» .
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَعرف(8/21)
صَوته وَهُوَ خارجٌ، فَقَالَ: ادخلْ. فَقَالَ: إِن فِي الْبَيْت سترا فِيهِ تماثيل؛ فَاقْطَعُوا رءوسَهَا واجعلوه بسطًا أَو وسائد» .
هَذَا الحَدِيث (يُرْوَى) عَنهُ بألفاظٍ:
مِنْهَا: «أَن جِبْرِيل جَاءَ فسلَّم عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَعرف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَوْتَه فَقَالَ: ادخلْ، فَقَالَ: إِن فِي الْبَيْت سترا فِيهِ تماثيل، فَاقْطَعُوا رءوسها واجعلوه بسطًا أَو وسائد؛ فأوطئوه؛ فَإنَّا لَا ندخلُ بَيْتا فِيهِ تصاوير» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» .
وَمِنْهَا: «أَن جِبْرِيل أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَفِي بَيت نبيِّ الله سترٌ فِيهِ تماثيل، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ادخلْ. فَقَالَ: إِنَّا لَا ندخل بَيْتا فِيهِ تماثيل، فَإِن كنتَ لابد جاعلًا فِي بَيْتك فاقطعْ رءوسها، أَو اقطعْهَا وسائد، واجعلْهَا بسطًا» .
رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» .
وَمِنْهَا: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: أَتَانِي جبريلُ فَقَالَ: إِنِّي أتيتُكَ البارحة فَلم يَمْنعنِي أَن أكون دخلتُ إِلَّا أَنه كَانَ فِي الْبَيْت قرام ستر فِيهِ تماثيل، وَكَانَ فِي الْبَيْت كلب، وَعَلَى الْبَاب تِمْثَال الرِّجَال. فَمر بِرَأْس التمثال فَيُقْطع، فَيصير كَهَيئَةِ الشَّجَرَة، وَمر بالقرام فَيُجعل مِنْهُ وسادتين تُوطآن، وبالكلب فليُخرج - قَالَ: وَكَانَ الْكَلْب جَرْوًا لِلْحسنِ - أَو للحسين - بْنِ عليّ يلْعَب بِهِ، كَانَ تَحت نضد لَهُ، فَأمر بِهِ فأُخْرجَ» .(8/22)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ. وَقَالَ حَدِيث صَحِيح.
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِمَعْنَاهُ، وَفِي آخرِهِ: «ثمَّ أَتَانِي جِبْرِيل، فَمَا زَالَ يوصيني بالجار، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنه سيورِّثه» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ: «اسْتَأْذن جبريلُ عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: ادخلْ، فَقَالَ: كَيفَ أَدخل وَفِي بَيْتك سترٌ فِيهِ تصاوير، إِمَّا أَن تُقطع رءوسها، أَو تجْعَل بسطًا توطأُ؛ فَإنَّا معشر الْمَلَائِكَة لَا ندخل بَيْتا فِيهِ تصاوير» .
وَرَوَاهُ مُسلم مُخْتَصرا بِلَفْظ: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: (لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ تصاوير أَو تماثيل» .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَنه لما رَوَى أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: مَنْ صوَّر صُورَة عُذِّب وكُلِّف أَن ينْفخ الرّوح فِيهَا، وَلَيْسَ بنافخ (فِيهَا) أَتَاهُ رجلٌ مصوِّرٌ فَقَالَ: مَا أعرفُ صَنْعَة غَيرهَا. قَالَ ابْن عَبَّاس: إِن لم يكن لَك بُدٌّ فصوِّر الْأَشْجَار» .(8/23)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث سعيد بن [أبي] الْحسن قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ: إِنِّي رجل أصوِّرُ هَذِه الصُّور، فأفتني فِيهَا. فَقَالَ لَهُ: ادْنُ منِّي، (فَدَنَا مِنْهُ، ثمَّ قَالَ: ادن مني. فَدَنَا) حَتَّى وضع يَده عَلَى رَأسه، فَقَالَ: أنبئك بِمَا سمعتُ من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] يَقُول: كل مصوِّرٍ فِي النَّار، يَجْعَل لَهُ بِكُل صورةٍ صورها نفسٌ، فتعذبه فِي جَهَنَّم فَقَالَ: إِن كنْتَ لابد فَاعِلا فَاصْنَعْ الشّجر وَمَا لَا نَفْس لَهُ» .
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث النَّضر بن أنس بن مَالك قَالَ: «كنتُ جَالِسا عِنْد ابْن عَبَّاس (فَجعل) يُفْتِي وَلَا يَقُول قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (حَتَّى) سَأَلَهُ رجل فَقَالَ: إِنِّي رجل أصوِّرُ هَذِه الصُّور. فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: ادْنُهُ. فَدَنَا الرجل، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: مَنْ صوَّر صُورَة فِي الدُّنْيَا كُلِّف أَن ينْفخ فِيهَا الرّوح يَوْم الْقِيَامَة وَلَيْسَ بنافخٍ» .
وللبخاري: «مَنْ صوَّر صُورَة فَإِن الله معذِّبه حَتَّى ينْفخ فِيهَا الرّوح، وَلَيْسَ بنافخٍ فِيهَا أبدا» .(8/24)
الحَدِيث الثَّانِي عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي نَسْج الثِّيَاب المصوَّرة وَجْهَان:
أَحدهمَا: التجويز، وَإِلَيْهِ ذهب الْجُوَيْنِيّ، لِأَنَّهَا قد لَا تُلبْس.
وَثَانِيهمَا: الْمَنْع، (وَرجحه) الإمامُ، والغزاليُّ فِي «الْوَسِيط» تمسكًا بِمَا ورد فِي الْخَبَر مِنْ لْعنِ المصوِّرين.
وَهَذَا صَحِيح، فَفِي «البُخَارِيّ» من حَدِيث عون بن أبي جُحَيْفَة قَالَ: «رأيتُ أبي اشْتَرَى غُلَاما حجَّامًا، فَأمر بمحاجمه فَكُسِرَتْ، فَسَأَلته عَن ذَلِك قَالَ: إِن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن ثمن الدَّم، وَثمن الْكَلْب، وكَسْب الأَمَة، وَلعن آكل الرِّبَا، وموكله، والواشمة، والمستوشمة، وَلعن المصوِّر» .
هَذَا لَفظه قبل بَاب السّلم، وَلَفظه فِي بَاب (مهر) الْبَغي وَالنِّكَاح الْفَاسِد من كتاب النِّكَاح من «صَحِيحه» عَن عون بن أبي جُحَيْفَة، عَن أَبِيه قَالَ: «لعن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الواشمة، (والمستوشمة) ، وآكل الرِّبَا، وموكله، وَنَهَى عَن ثمن الْكَلْب، وكَسْب الْبَغي، ولَعَن المصورين» .
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا دُعي أحدُكم إِلَى طَعَام فليُجب، فَإِن كَانَ مُفطرا(8/25)
فَلْيَطْعَمْ، وَإِن كَانَ صَائِما فَلْيُصَلِّ» أَي: فَلْيَدْعُ.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَفِي رِوَايَة لِابْنِ (السّني) وَإِن كَانَ صَائِما دَعَا لَهُ بِالْبركَةِ» . وَهِي شاهدة لِمَا فسَّره الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
رُوي: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حضر دارَ بَعضهم، فلمَّا قدِّمَ الطعامُ أمسكُ بعضُ الْقَوْم قَالَ: إِنِّي صَائِم. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يتكلَّفُ لكَ أَخُوك الْمُسلم وَتقول: إِنِّي صَائِم، أَفْطِرْ ثمَّ اقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي حميد، عَن إِبْرَاهِيم بن (عبيد) قَالَ: «صنع أَبُو سعيد الخدريُّ طَعَاما، فَدَعَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وأصحابَه، فَقَالَ رجل من الْقَوْم: إِنِّي صَائِم ... » .
فَذَكَرَاهُ، زَاد الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب الصَّوْم: «وصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ إِن شِئْت» .
قَالَ هُنَا: وَرَوَاهُ ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي حميد، وَزَاد فِيهِ: «إنْ(8/26)
أحَبَبْتَ - يَعْنِي: القضاءَ» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَهُوَ مُرْسل.
قلت: لِأَن إِبْرَاهِيم رَاوِيه تابعيٌّ، كَمَا قَالَه الْحَافِظ أَبُو مُوسَى فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» وأبْعَدَ (عَبْدان) حَيْثُ ذكره فيهم، وَقَالَ أَحْمد فِي حَقِّه: لَيْسَ بمشهورٍ بالعلْم.
قلت: وَمَعَ إرْسَاله [فمحمد] بن أبي حميد: واهٍ، قَالَ البُخَارِيّ وَغَيره: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عدي: مَعَ ضعفه يُكْتب حَدِيثه. لَا جرم قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث مظلم، وَمُحَمّد بن أبي حميد ضَعِيف الحَدِيث.
قلت: وَشَيخ الدَّارَقُطْنِيّ فِيهِ هُوَ: أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَواد قَالَ هُوَ فِيهِ: يُعتبر بحَديثه وَلَا يُحتج بِهِ. وَقَالَ الْخَطِيب: مَا رَأَيْت أَحَادِيثه إِلَّا (مُسْتَقِيمَة) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، عَن مُحَمَّد بن أبي حميد،(8/27)
عَن إِبْرَاهِيم، عَن عبيد بن رِفَاعَة، عَن أبي سعيد ... فَذكره. كَذَا رأيتُه، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عبيد: وَهُوَ (وهم) فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيم بن عبيد بن رِفَاعَة، فَتَنَبَّهْ لَهُ.
وَأغْرب ابْن السكن، فَأخْرج حَدِيث أبي سعيد هَذَا فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» ، وَهَذَا لَفظه: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ «أَنه صنع طَعَاما، فَدَعَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وأصحابَه) ، فَقَالَ رجل (من الْقَوْم) : إِنِّي صَائِم. فَقَالَ النبى (: تكلَّف أَخُوك وصنع، فَانْظُر مَاذَا بدا لَك، أَن تَصُوم يَوْمًا مَكَانَهُ فَصم» .
قلت: وَلِحَدِيث أبي سعيد هَذَا شَاهد من حَدِيث جَابر بن عبد الله، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ هُنَا، وَالْبَيْهَقِيّ فِي الصَّوْم، من حَدِيث عَمرو بن (خليف) بن إِسْحَاق الْخَثْعَمِي، ثَنَا أبي، ثَنَا إِسْمَاعِيل بن مرسال، ثَنَا مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: «صنع ... » فَذكره كَمَا سلف، وَذكره ابْن عدي أَيْضا وَقَالَ: عَمْرو هَذَا مُتَّهم بِوَضْع الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يضع الحديثَ. وَكَذَا قَالَ البيهقيُّ أَيْضا.(8/28)
قلت: وَهُوَ مِنْ حتاوة قَرْيَة بعسقلان، ووالد عَمرو وَإِسْمَاعِيل: لَا أعرف حَالهمَا.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا دُعي أحدُكم (إِلَى طَعَام) فليُجِبْ، فَإِن شَاءَ طعم، وَإِن شَاءَ ترك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ طعم عِنْد سعد بن عبَادَة، فَلَمَّا فرغ قَالَ: أكل (طَعَامكُمْ) الْأَبْرَار، وصلَّت عَلَيْكُم الْمَلَائِكَة، وَأفْطر عنْدكُمْ الصائمون» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث معمر، عَن ثَابت، عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَاءَ سعد بن عبَادَة، فجَاء بِخبْز وزيت، فَأكل، ثمَّ قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أفطر عنْدكُمْ الصائمون، وَأكل (طَعَامكُمْ) الْأَبْرَار، وصلَّتْ عَلَيْكُم الْمَلَائِكَة» .
وَإِسْنَاده صَحِيح.(8/29)
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» أَيْضا، وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» ، وَهَذَا لَفظه: عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا أفطر عِنْد أُناسٍ قَالَ: أفطر عنْدكُمْ الصائمون، وَأكل (طَعَامكُمْ) الْأَبْرَار، (وتنزلتْ عَلَيْكُم) الْمَلَائِكَة» .
وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» (ثمَّ) ، قَالَ: لَا يَصح سَماع يَحْيَى بن أبي كثير من أنس.
وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» و «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث عبد الله بن الزبير قَالَ: «أفطر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عِنْد سعد بن معَاذ فَقَالَ: أفطر عنْدكُمْ الصائمون ... » الحَدِيث.
[فكأنهما] قضيتان جرتا لسعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة.
الحَدِيث السَّابِع عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلَا يكره الشّرْب قَائِما.
وَحمل مَا ورد من النَّهْي عَلَى حَالَة السَّيْر.
أما النَّهْي عَن الشّرْب قَائِما فَصَحِيح ثَابت، أخرجه مُسلم من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يشرب الرجل قَائِما قَالَ قَتَادَة: فَقلت(8/30)
لأنس: فالأكل؟ قَالَ: ذَلِك أشرُّ وأخبث» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «زجر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (عَن الشّرْب) قَائِما» .
وَأخرجه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «لَا يِشربنَّ مِنْكُم (أحدٌ) قَائِما، فَمَنْ نسي فَلْيَسْتَقئْ» .
وَرَوَى عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله، عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: «لَو يعلم الَّذِي يشرب وَهُوَ قَائِم مَا فِي بَطْنه لاستقاء» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا.
وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس: «سقيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من زَمْزَم؛ فَشرب وَهُوَ قَائِم» . رَوَاهُ خَ م.
وَحَدِيث (عَلّي) «أَنه شرب قَائِما، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعل كَمَا رَأَيْتُمُونِي فعلت» .
رَوَاهُ خَ، فيُحْمل عَلَى بَيَان الْجَوَاز. وحمل الْبَيْهَقِيّ النَّهْي عَلَى التَّنْزِيه أَو عَلَى التَّحْرِيم، ثمَّ النّسخ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين، وَأنكر ذَلِك عَلَيْهِ أَن لَا يُصَار إِلَى النّسخ إِلَّا عِنْد تعذُّر الْجمع لَو ثَبت التَّارِيخ، وأنَّى لَهُ ذَلِك.
وَأما حمل الرَّافِعِيّ النَّهْي عَلَى حَالَة السّير، وصرَّح بِأَنَّهُ لَا يكره الشّرْب قَائِما، فتبع فِيهِ المتولى وَابْن قُتَيْبَة، وَالْمُخْتَار أَن الشّرْب قَائِما بِلَا(8/31)
عذر خلافُ الأَوْلى (كَمَا سلف) .
الحَدِيث الثَّامِن عشر
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حضر فِي (إملاكٍ) ، فأُتي بأطباق عَلَيْهَا جوز ولوز وتمر، فَنثرَتْ، فقبضنا أَيْدِينَا، فَقَالَ: مَا لكم لَا تأخذون؟ (فَقَالُوا) : لِأَنَّك نهيت عَن النهبى. فَقَالَ: إِنَّمَا نهيتُكم عَن نهبى العساكر، خُذُوا عَلَى اسْم الله فجاذَبَنَا وجاذَبْنَاهُ» .
هَذَا الحَدِيث كَذَا أوردهُ من حَدِيث جَابر تبعا للْقَاضِي حُسَيْن والإمامِ فِي «نهايته» ، والغزاليِّ فِي «وسيطه» ، وَإِنَّمَا هُوَ مَرْوِيّ من حَدِيث معَاذ وَأنس.
أما حَدِيث معَاذ فَلهُ طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: من طَرِيق خَالِد بن معدان عَنهُ قَالَ: «شهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إملاك رجلٍ من أَصْحَابه، فَقَالَ: عَلَى الخيرِ والبركةِ، والألفةِ، والطائر الميمون، والسعةِ فِي الرزق، بَارك الله (لكم) ، دفِّفُوا عَلَى رَأسه. قَالَ: فجيء بِدُفٍّ فَضرب بِهِ، وأقبلنا لأطباقٍ عَلَيْهَا فَاكِهَة، فنثر عَلَيْهِ، فكفَّ الناسُ أَيْديهم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا لكم لَا تنهبون؟ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، أولم تنهنا عَن النهبة؟ فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ عَن نهبى العساكر، أما العرسان، فَلَا. (قَالَ) فجاذبهم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وجاذبوه» .(8/32)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث لمازة بن (الْمُغيرَة) عَن ثَوْر بن يزِيد، عَن (خَالِد بِهِ) .
وَقَالَ: فِي إِسْنَاده مَجَاهِيل وَانْقِطَاع. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عون بن عمَارَة، (و) عصمَة بن سُلَيْمَان، عَن لمازة، وَكِلَاهُمَا لَا يحْتَج بحَديثه، ولمازة بن الْمُغيرَة (مَجْهُول، وخَالِد بن معدان، عَن معَاذ مُنْقَطع. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» ، وَقَالَ: فِي إِسْنَاده: حَازِم، ولمازة، وهما) : مَجْهُولَانِ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوي بإسنادٍ آخرٍ مجهولٍ، عَن عَائِشَة، عَن معَاذ. وَقَالَ الْعقيلِيّ: هَذَا حَدِيث مَوْضُوع. قَالَ [الْبَيْهَقِيّ] : وَلَا يثبت فِي هَذَا الْبَاب شَيْء.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث عَائِشَة، عَن معَاذ، وَقد عرفت حَالهَا(8/33)
(وأخرجها) ابْن الْجَوْزِيّ (أَيْضا) فِي «مَوْضُوعَاته» ، ووهَّاها.
وَأما حَدِيث أنس فَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي كتاب «من رَوَى عَن مَالك» وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» بِلَفْظ (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام شهد إملاك رجلٍ وامرأةٍ من الْأَنْصَار، فَقَالَ: أَيْن شاهدكم؟ قَالُوا: يَا رَسُول الله وَمَا شاهدُنا؟ قَالَ: الدُّف، فَأتوا بِهِ فَقَالَ: اضربوا عَلَى رَأس صَاحبكُم، ثمَّ جَاءُوا بأطباقهم، فنثروها، فهاب الْقَوْم أَن يتناولوا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: مَا أزين الْحلم، مَا لكم لَا تتناولون؟ قَالُوا: يَا رَسُول الله، ألم [تَنْه] عَن النهبة؟ قَالَ: نهيتُكم عَن النهبة فِي العساكر، فَأَما هَذَا وأشباهها فَلَا» . قَالَ الْخَطِيب: لَا يثبت عَن مَالك، وَفِيه مَجْهُولَانِ: خَالِد بن إِسْمَاعِيل وَأحمد بن يَعْقُوب. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، فِيهِ خَالِد بن إِسْمَاعِيل. قَالَ ابْن عدي: كَانَ يضع الحَدِيث عَلَى ثِقَات الْمُسلمين. وَأغْرب صَاحب «النِّهَايَة» - من أَصْحَابنَا - فصحَّح الحَدِيث لمَّا أوردهُ من حَدِيث جَابر حَيْثُ قَالَ عقب إِيرَاده من طَرِيقه: فَثَبت الأَصْل بِهَذَا الْخَبَر الصَّحِيح هَذَا لَفظه.(8/34)
كتاب الْقسم والنشوز(8/35)
كتاب الْقسم والنشوز
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ اثْنَي عشر حَدِيثا، وأثرًا وَاحِدًا:
أَحدهَا
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا كَانَت عِنْد الرجل امْرَأَتَانِ، فَلم يعدل بَينهمَا، جَاءَ يومَ الْقِيَامَة وشِقُّه مائل أَو سَاقِط» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد، والدارمي فِي «مسنديهما» وَأَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة) ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه» قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيث همام.
قلت: هُوَ ثِقَة، من رجال الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من بَاقِي الْكتب السِّتَّة (لَا جرم) .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَكَذَا قَالَ صَاحب «الاقتراح» أَيْضا، وَقَالَ عبد الْحق: أسْندهُ همام، وَهَمَّام(8/37)
ثِقَة حَافظ. وَقَالَ: إِنَّه خبر ثَابت. وَاللَّفْظ الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ هُوَ لفظ الْحَاكِم.
وَلَفظ أبي دَاوُد: «مَنْ كَانَت لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَال إِلَى [إِحْدَاهمَا] جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وشِقُّه مائل» .
وَلَفظ أَحْمد: «من كَانَت لَهُ امْرَأَتَانِ يمِيل لإحداهما عَن الْأُخْرَى، جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة يجر أحد شِقيه ساقطًَا أَو مائلًا» .
شكّ [يزِيد] أحد رُوَاته.
وَلَفظ الدَّارمِيّ: «من كَانَت لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَال إِلَى إِحْدَاهمَا: جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وشِقُّه مائل» .
وَلَفظ النَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه: «يمِيل لإحداهما عَلَى الْأُخْرَى جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة أحد شقيه مائل» .
وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: « (من كَانَت لَهُ امْرَأَتَانِ فَلم يعدل بَينهمَا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَشقه سَاقِط» وَلَفظ ابْن حبَان) «من كَانَت لَهُ امْرَأَتَانِ، مَالَ مَعَ [إِحْدَاهمَا] عَلَى الْأُخْرَى جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَأحد شقيه سَاقِط» .
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقسم بَين نِسَائِهِ فيعدل وَيَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قسمي فِيمَا أملك، فَلَا تلمني فِيمَا تملك وَلَا أملك» .(8/38)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سلف فِي بَاب الخصائص وَاضحا، وَذكره الشَّافِعِي فِي «مُخْتَصره» بلاغًا، فَقَالَ: يَعْنِي - وَالله أعلم - (قلبه) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: فسَّره بعض (أهل الْعلم) بالحُبِّ والمودة.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يمْضِي إِلَى نِسَائِهِ لأجْل الْقسم» .
هَذَا (صَحِيح) عَنهُ مَشْهُور، متكرر فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وستعلم بَعْضهَا عَلَى الإثر.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يطوف علينا جَمِيعًا فيُقَبِّلُ ويلمس، فَإِذا جَاءَ وَقت الَّتِي هِيَ نوبتها أَقَامَ عِنْدهَا» .
هَذَا (الحَدِيث) رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» ، وَلَفظ الإِمَام أَحْمد عَن عَائِشَة قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا مِنْ يَوْم إِلَّا وَهُوَ يطوف علينا جَمِيعًا، امْرَأَة امْرَأَة، فيدنو ويلمس من غير مَسِيس، حَتَّى يُفْضِي إِلَى الَّتِي هِيَ يَوْمهَا فيبيت عِنْدهَا» .
وَلَفظ أبي دَاوُد: قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يفضِّل بَعْضنَا عَلَى(8/39)
بعض فِي الْقسم من مُكْثه عندنَا، وَكَانَ قلَّ يَوْم يَأْتِي إِلَّا وَهُوَ يطوف علينا جَمِيعًا، فيدنو من كل امْرَأَة من غير مَسِيس، حَتَّى يبلغ الَّتِي هُوَ يَوْمهَا فيبيت عِنْدهَا» .
وَلَقَد قَالَت سَوْدَة بنت زَمعَة حِين أسَنَّتْ وفرقتْ أَن يفارقها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَت: (يَا رَسُول الله، يومي لعَائِشَة. فَقَبِلَ ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِنْهَا، قَالَت: تَقول: فِي ذَلِك أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ وَفِي أشباهها (وَإِن امْرَأَة خَافت» .
وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ: عَن عَائِشَة قَالَت: «مَا كَانَ - أَو قلَّ - يَوْم إِلَّا وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يطوف علينا جَمِيعًا، فَيُقَبِّلُ ويلمس مَا دون الوِقاع، فَإِذا جَاءَ الَّتِي هُوَ يَوْمهَا يبيت عِنْدهَا» .
وَفِي إِسْنَاده «عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد» : (وَقد) تكلم فِيهِ غير وَاحِد، وَوَثَّقَهُ مَالك، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، لَا جرم أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بقريبٍ من لفظ أبي دَاوُد، ثمَّ قَالَ هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
الحَدِيث الْخَامِس
وَقَالَ الرَّافِعِيّ: والأَولى أَن لَا يزِيد عَلَى لَيْلَة وَاحِدَة، اقْتِدَاء برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هَذَا حَدِيث صَحِيح، فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» من حَدِيث عَائِشَة(8/40)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنَّهَا قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أَرَادَ سفرا أَقرع بَين نِسَائِهِ، فأيَّتُهُنَّ خرج (سهمها) خرج بهَا مَعَه، وَكَانَ يقسم لكل امْرَأَة مِنْهُنَّ يَوْمهَا وليلتها، غير أَن سَوْدَة بنت زَمعَة وَهَبَتْ يَوْمهَا وليلتها لعَائِشَة زوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تبتغي بذلك رضَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
وَفِيه غير ذَلِك من الْأَحَادِيث.
الحَدِيث السَّادِس
رُوي مُرْسلا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تُنْكح الأَمَة عَلَى الْحرَّة، وللحرة ثُلثان من الْقسم» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب «مَا يحرم من النِّكَاح» بِدُونِ الزِّيَادَة الْأَخِيرَة.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث سُلَيْمَان بن يسَار: «من السُّنَّة أَن الْحرَّة إِن أَقَامَت عَلَى ضرار فلهَا يَوْمَانِ، وللأَمة يَوْم» .
وَذكره الْمَاوَرْدِيّ من حَدِيث الْحسن الْبَصْرِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تنْكح (أمة عَلَى حرَّة) ، وللحرة الثُّلُثَانِ، وللأَمة الثُّلُث» .
وَذكره أَيْضا من هَذَا الْوَجْه الغزاليُّ وإمامُهُ، وَقد أسلفناه هُنَاكَ مُخْتَصرا بِدُونِ القَسم.
وَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي نعيم مَا نَصه: الْأسود بن عويم(8/41)
السدُوسِي، رَوَى حَدِيثه: عَلّي بن قرين، عَن حبيب بن عَامر بن مُسلم السدُوسِي، عَن الْأسود بن عويم قَالَ: «سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْجمع بَين الْحرَّة وَالْأمة، فَقَالَ: للْحرَّة يَوْمَانِ، وللأمة يَوْم» .
و «الْأسود بن عويم» ذكره ابْن مَنْدَه أَيْضا فِي الصَّحَابَة، وَآفَة هَذَا الْخَبَر (من) ابْن قرين، فَإِنَّهُ كذَّاب.
قَالَ الرَّافِعِيّ: رُوِيَ ذَلِك عَن عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فاعتضد بِهِ الحَدِيث.
قلت: قد أسلفناه هُنَاكَ عَن رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ، وَرَوَاهُ هُنَا من طَرِيق آخر عَنهُ، رَوَاهَا من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن الْمنْهَال بن عَمْرو، عَن عباد بن عبد الله الْأَسدي قَالَ: قَالَ عَلّي: «إِذا نكحت الْحرَّة عَلَى الأَمة، فلهذه الثُّلُثَانِ، وَهَذِه الثُّلُث» . و «عباد» هَذَا مُخْتَلف فِيهِ، قَالَ خَ: فِيهِ نظر. (و) قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: ضَعِيف الحَدِيث. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَقَالَ ابْن حزم: إِنَّه لَا يَصح؛ لِأَن ابْن أَبَى لَيْلَى سيئ الْحِفْظ، والمنهال: ضَعِيف، وَرُوِيَ عَن الْمُغيرَة بن مقسم أَنه قَالَ: لم يثبت للمنهال شَهَادَة فِي الْإِسْلَام. وَلكنه صَحِيح من قَول إِبْرَاهِيم، وَسَعِيد بن الْمسيب، ومسروق، وَالشعْبِيّ، وَالْحسن الْبَصْرِيّ.(8/42)
وَلما ذكره الْمَاوَرْدِيّ من قَول عَلّي قَالَ: لم يُخَالِفهُ (غَيره) ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.
الحَدِيث السَّابِع
عَن أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ مَوْقُوفا «للبِكْر سبع، وللثيب ثَلَاث» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أبي قلَابَة عَن أنس: «من السُّنَّة إِذا تزوج الرجل الْبكر عَلَى الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا سبعا، وَقسم، وَإِذا تزوج الثّيّب [عَلَى الْبكر] أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا ثمَّ قسم» . قَالَ أَبُو قلَابَة: وَلَو شِئْت لَقلت: إِن أنسا رَفعه إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي قلَابَة عَن أنس: وَلَو شِئْت أَن أَقُول: قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) وَلَكِن قَالَ: «السُّنة إِذا تزوج البِكْرَ أَقَامَ عِنْدهَا سبعا، وَإِذا تزوج الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا» .
وَرَوَاهُ مُسلم من طَرِيقين بِنَحْوِهِ، وَفِيه قَالَ خَالِد: لَو شِئْت قلت رَفعه إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
ثمَّ اعْلَم أَن تَسْمِيَة الرَّافِعِيّ لهَذَا الحَدِيث مَوْقُوفا وَهُوَ خلاف مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، حَيْثُ قَالُوا: إِن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ: «من السُّنة كَذَا» كَانَ(8/43)
مَرْفُوعا، عَلَى أَنه رُوِيَ مَرْفُوعا (صَرِيحًا) .
من طريقٍ صحيحةٍ أخرجهَا الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، فِي «سنَنَيْهِمَا» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَهَذَا لَفظه: عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[قَالَ] سبع للبِكْر، وَثَلَاث للثيب» .
وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «للبكر سَبْعَة أَيَّام، وللثيب ثَلَاثَة (أَيَّام، ثمَّ) يعود إِلَى نِسَائِهِ» .
وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ: عَن أنس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا تزوَّج البِكْرَ عَلَى الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا سبعا، وَإِذا تزوَّج الثّيّب عَلَى الْبكر أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا» .
وَأخرجه الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «للبكر سبع، وللثيب ثَلَاث» .
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأُمِّ سَلمَة: «إِن شئتِ سَبَّعْتُ عنْدك وسَبَّعْتُ عِنْدهن، وَإِن شئتِ ثَلَّثْتُ عنْدك، ودُرْتُ» .(8/44)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَنْهَا - أَعنِي: أُمَّ سَلمَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين تزوَّج أُمَّ سَلمَة وأصبحتْ عِنْده قَالَ لَهَا: لَيْسَ بِكِ عَلَى أهلك هوانٌ، إِن شئتِ سَبَّعْتُ عنْدك، وَإِن شئتِ ثَلَّثْتُ، ثمَّ دُرْتُ. قَالَت: ثَلِّثْ» .
وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَنهُ، وَذكره فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إسنادٍ.
قَالَ الرَّافِعِيّ: ورُوي: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأُمِّ سَلمَة: إِن شئتِ أقمتُ عنْدك ثَلَاثًا خَالِصَة لَك، وَإِن شئتِ سَبَّعْتُ لَك وسَبَّعْتُ لنسائي» .
قلت: رَوَاهُ (كَذَلِك) الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» بزيادةٍ فِيهِ، وَهَذَا سِيَاقه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهَا حِين دخل بهَا: لَيْسَ بِكِ هوان عَلَى أهلك، إِن شئتِ أقمتُ عنْدك ثَلَاثًا خَالِصَة، وَإِن شئتِ سَبَّعْتُ لَك، وسَبَّعْتُ لنسائي، قَالَت: تقيم معي ثَلَاثًا خَالِصَة» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَهَذَا سِيَاق روايتهما عَن أمِّ سَلمَة: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما تزوَّجها أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا، قَالَ: إِنَّه لَيْسَ بكِ عَلَى أهلك هوانٌ، إِن شئتِ سَبَّعْتُ لَك، وَإِن سَبَّعْتُ لَك، سَبَّعْتُ لنسائي» .(8/45)
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ أبي حَاتِم فِي «علله» : (وَإِن شئتِ زدتُ فِي مهرك وزدتُ فِي مهورهن» .
ثمَّ قَالَ: قَالَ أبي: لَو صَحَّ هَذَا لَكَانَ الزِّيَادَة فِي الْمهْر جَائِزَة.
تَنْبِيه: ظَاهر رِوَايَة النَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه أَنه قَالَ لَهَا ذَلِك بعد الثَّلَاث، وَهُوَ مُخَالف لرِوَايَة مُسلم السالفة، أَنه قَالَ لَهَا ذَلِك عِنْد الصَّباح من أول يَوْمهَا، إِلَّا أَن يُحمل عَلَى الصَّباح بعد (اللَّيْلَة) الثَّالِثَة.
تَنْبِيه آخر: أنكر الرَّافِعِيّ عَلَى الغزاليِّ؛ حَيْثُ قَالَ فِي «وجيزه» : قَالَ رَسُول (: «وَقد التمست أم سَلمَة ... .» إِلَى آخِره، فَإِن قَالَ: هَذَا يُشعر بِتَقْدِيم التمَاس أم سَلمَة عَلَى تخييره عَلَيْهِ السَّلَام إِيَّاهَا، وَكَذَلِكَ نَقَلَ الإمامُ، قَالَ: وَلَا تَصْرِيح بذلك فِي كتب الحَدِيث، قَالَ: وَاللَّفْظ فِي «سنَن أبي دَاوُد السجسْتانِي» صريحٌ فِي أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ هُوَ الَّذِي خيَّرها بَين ذَلِك، ثمَّ ذكره الرافعيُّ بِلَفْظ أبي دَاوُد. لَكِن فِي «صَحِيح مُسلم» تَقْدِيم التماسها عَلَى إِقَامَتهَا عِنْده، إذْ فِيهِ من حَدِيث أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين تزوَّج أُمَّ سَلمَة، فَدخل عَلَيْهَا، فَأَرَادَ أَن يخرج؛ فأخذتْ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن شئتِ (زدتك) وحاسبْتُك بِهِ، للبكْر: سبع، وللثيب: ثَلَاث» . فأخْذُها بِثَوْبِهِ فِيهِ طلبُهَا لإقامته عِنْدهَا.
وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» : «أَنَّهَا أخذتْ بِثَوْبِهِ مَانِعَة من الْخُرُوج(8/46)
من بَيتهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: إِن شئتِ ... » الحديثَ.
ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
وَقد نبَّه عَلَى ذَلِك الرافعيُّ فِي تَنْبِيه فَقَالَ: لَيْسَ فِي الرِّوَايَات تصريحٌ بِمَا قَالَه الغزاليُّ، قَالَ: لَكِن رَوَى بَعضهم: «أَنه لما أَرَادَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يخرج أخذتْ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ: إنْ شئتِ زدتُكِ وحاسبتُك بِهِ» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: ونُقِل: «أَن أُمَّ سَلمَة اختارتْ الاقتصارَ عَلَى الثَّلَاث» .
قلت: هَذَا صَحِيح، كَمَا سلف مِنْ عِنْد «مُسلم» ، وَكَانَ يَنْبَغِي للرافعي أَن يجْزم بِهِ.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن سَوْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها لمَّا كَبُرَتْ جعلتْ يَوْمهَا لعَائِشَة، وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُقَسِّمُ لَهَا يَوْمهَا وَيَوْم سَوْدَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك، من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وَقد سلف فِي الحَدِيث الْخَامِس عَن رِوَايَة البُخَارِيّ بِطُولِهِ.
وَذكره الشَّافِعِي فِي «الأُمِّ» مُرْسلا، فَقَالَ: أَنا ابْن عُيَيْنَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه: «أَن سَوْدَة وهبتْ يَوْمهَا لعَائِشَة» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد وَصله عقبةُ بْنُ خَالِد فَذكر عائشةَ، وَوَقع فِي(8/47)
رِوَايَة إِمَام الْحَرَمَيْنِ والقاضى الحسينِ: «أَنَّهَا قَالَت لَهُ بعد أَن طَلقهَا وَاحِدَة: راجِعْنِي» .
وَهَذِه رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام طلَّق سودةَ، فلمَّا خرج إِلَى الصَّلَاة أمسكتْهُ بِثَوْبِهِ، فقالتْ: (مَا لي) فِي الرِّجال حَاجَة، وَلَكِنِّي أُرِيد أَن أُحْشَرَ فِي أَزوَاجك، قَالَ: فراجَعَهَا، وَجعل يَوْمهَا لعَائِشَة (فَكَانَ) يِقَسْم (لَهَا) بيومها وَيَوْم سَوْدَة» وَهَذَا (مَعَ) إرْسَاله، فِيهِ أَحْمد العطاردي، وَهُوَ مِمَّن اخْتلف فِيهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ ابْن عدي: رَأَيْتهمْ مُجْمِعِينَ عَلَى ضعفه، وَقَالَ مطين: كَانَ يكذب.
الحَدِيث الْعَاشِر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَمَّ بِطَلَاق سَوْدَة؛ فوهبتْ يَوْمهَا لعَائِشَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث: عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: «لقد قَالَت سودةُ بنْتُ زَمعَة حِين أسَنَّتْ وَفرقت أَن (يفارقها) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا رَسُول الله، يومي لعَائِشَة. فَقَبِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَلِك مِنْهَا. قَالَت: نقُول: فِي ذَلِك أُنْزِلَ (وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا» . وَذكره مرَّةً(8/48)
مُرْسلا، وَأعله ابْنُ الْقطَّان بابْنِ أبي الزِّنَاد.
وَفِي «التِّرْمِذِيّ» وَقَالَ: حسن غَرِيب، من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: «خشيتْ سودةُ أَن يُطَلِّقها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَت يَا رَسُول الله: لَا تطلِّقْني، وأمسِكْني، واجعلْ يومي لعَائِشَة، فَفَعَلَ» .
وَفِي «الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث «أبي دَاوُد» أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس: «خشيتْ أَن يطلِّقها ففعلتْ ذَلِك» .
الحَدِيث الحادى عشر
صحَّ عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا أَرَادَ سَفَرًا أَقرع بَين أَزوَاجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بهَا» .
هُوَ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ، فقد أخرجه كَذَلِك البخاريُّ فِي «صَحِيحه» ، كَمَا سلف بِطُولِهِ فِي الحَدِيث الْخَامِس.
وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث الْقَاسِم عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَت:(8/49)
«كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أَرَادَ سفرا أَقرع بَين نِسَائِهِ، فطارت الْقرعَة لعَائِشَة وَحَفْصَة» .
ذكره خَ فِي (النِّكَاح) ، وم فِي (الْفَضَائِل) .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلم يُنْقَل: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا عَاد يَقْضي» . وَلَو كَانَ يقْضِي لأشبه أَن ينْقل مَعَ ذكر سَفَره لمَنْ خرج سهمها.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، (قَالَ) : وَحَكَى بَعضهم وَمِنْهُم أَبُو الْفرج الزاز: أَنه رُوي عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مَا كَانَ يقْضِي» .
قلت: هَذِه غَرِيبَة، لَا يَحْضُرُني مَنْ خَرَّجَهَا بعد الْبَحْث عَنْهَا، وَكَلَام الرافعى (مُؤذن بضعفها) حَيْثُ عزاها إِلَى بَعضهم.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
ورد فِي الْخَبَر: النهْي عَن ضرب الزَّوْجَات.
هَذَا الْخَبَر صَحِيح، رَوَاهُ: أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة إِيَاس بن عبد الله بن أبي ذُبَاب قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تضربوا إِمَاء الله، فجَاء عمرُ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، ذئرن النساءُ عَلَى(8/50)
أَزوَاجهنَّ، فَرخص فِي ضربهن، (فأطاف بآل) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نسَاء كثيرا يَشكونَ أزواجَهُنَّ، لَيْسَ أُولَئِكَ بخياركم» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: بلغنَا عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: لَا يُعْرف لإياسٍ صُحْبة.
قلت: ذكر ابْن أبي حَاتِم فِي كِتَابه عَن أَبِيه وَأبي زُرْعة أَنَّهُمَا قَالَا: لَهُ صُحْبَة، وَكَذَا قَالَ أَبُو عمر فِي «استيعابه» ، وَذكره ابْن حبَان فِي الصَّحَابَة.
نَعَمْ قَالَ ابْن مَنْدَه وَأَبُو نعيم: اخْتلف فِي صحبته، قَالَ الْبَغَوِيّ: وَلَا أعلمهُ رَوَى غير هَذَا الحَدِيث.
تَنْبِيه: مَعْنَى: (ذئرن) النِّسَاء: اجْتَرَأن ونشزن، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا: البطر والأشرة، وَالثَّانِي: الْبذاء والاستطالة. وَفِي «حواشى السّنَن» عَن بَعضهم: الذاير: الغياظ عَلَى خَصمه المستعد للشر، وَهُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة ثمَّ مثناة تَحت ثمَّ رَاء مُهْملَة.
وَرُوِيَ: (ذئرن) بالنُّون وبحذفها، وَهُوَ باللغة الْغَالِبَة، وَالْأول لُغَة وَردت فِي الْكتاب والسُّنة وأشعار الْعَرَب.(8/51)
تَنْبِيه آخر: قَالَ الرَّافِعِيّ: أَشَارَ الإِمَام (الشَّافِعِي فِي) هَذَا الْخَبَر وَشبهه إِلَى احْتِمَالَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه مَنْسُوخ، إِمَّا بِالْآيَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: (فاضربوهن (، وَإِمَّا بالْخبر. أَي: كآخر هَذَا الْخَبَر، وَبِحَدِيث جَابر الطَّوِيل الثَّابِت فِي «مُسلم» الَّذِي أسلفناه فِي الْحَج بِكَمَالِهِ: «فاضربوهن ضربا غير مبرِّح» .
وَفِي حَدِيث مَكْحُول عَن أم أَيمن: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَوْصَى بعض أهل بَيته ... » . فَذكر حَدِيثا طَويلا، فِيهِ: «وَلَا ترفع عصاك عَنْهُم» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِي هَذَا إرْسَال، مَكْحُول لم يدْرك أُمَّ أَيمن، قَالَ أَبُو عبيد: فِي هَذَا الحَدِيث: قَالَ (الْكسَائي) وَغَيره: يُقَال: إِنَّه لم (يرد) الْعَصَا (الَّتِي) يضْرب بهَا، وَلَا أَمر أحدا قَط بذلك، وَلكنه أَرَادَ الأدبَ. قَالَ أَبُو عبيد: وأصل العصى: الِاجْتِمَاع والائتلاف.
وَالثَّانِي: حمل النَّهْي عَلَى الْكَرَاهَة، أَو عَلَى أَن الأَوْلى التَّحَرُّز عَنهُ مَا أمكن، وَقَالَ ابْن دَاوُد - من أَصْحَابنَا - فِي «شرح الْمُخْتَصر» : اخْتلف أَصْحَابنَا فِي أَن إِذْنه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الضَّرْب بعد أَن نهَى عَنهُ، ووَرَدَتْ الآيةُ مُوَافقَة لإذنه، فَيكون إِذْنه نَاسِخا لنَهْيه، ثمَّ اسْتحبَّ تركَ الضَّرْب أَو منع مِنْهُ، فَجَاءَت الآيةُ بِالْإِبَاحَةِ، وأمْره موافقٌ لَهَا. وَهَذَا الِاخْتِلَاف مَبْنِيّ عَلَى جَوَاز نسخ الْكتاب بالسُّنَّة.(8/52)
هَذَا آخِرُ مَا ذكره الرَّافِعِيّ فِيهِ من الْأَحَادِيث. وَذكر فِيهِ أثرا عَن عليّ، وَقد سلف، وأثرًا آخَرَ عَنهُ: «أَنه بعث حكمين، وَقَالَ: تدريان مَا عَلَيْكُمَا؟ إِن رأيتُما أَن تجمعَا فجمعا، وَإِن رأيتُما أَن تفرِّقا ففرِّقا، فَقَالَت الزَّوْجَة: رضيتُ بِمَا فِي كتاب الله تَعَالَى - عليَّ ولي. فَقَالَ الرجل: أما الْفرْقَة فَلَا، قَالَ عليٌّ: كذبتَ، لَا واللَّهِ حَتَّى تقر بمثْل الَّذِي أقرَّت بِهِ» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي فَقَالَ: أبنا الثَّقَفِيّ، عَن أَيُّوب، عَن ابْن سِيرِين، عَن عُبَيْدَة «أَنه قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: (وَإِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا فَابْعَثُوا حكما من أَهله) قَالَ: جَاءَ رجل وَامْرَأَة إِلَى عَلّي، وَمَعَ كل وَاحِد مِنْهُمَا فِئَام من النَّاس، فَأَمرهمْ عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فبعثوا حكما من أَهله وَحكما من أَهلهَا، ثمَّ قَالَ لِلْحكمَيْنِ: تدريان مَا عَلَيْكُمَا، عَلَيْكُمَا (إِن رَأَيْتُمَا) أَن تجمِّعا أَن تُجَمِّعَا، وَإِن رَأَيْتُمَا أَن تفَرقا أَن تفَرقا. فَقَالَت الْمَرْأَة: رضيتُ بِكِتَاب الله بِمَا (فِيهِ عليَّ) ولي، فَقَالَ الرجل: أما الْفرْقَة: فَلَا. فَقَالَ عليٌّ: كذبتَ واللَّهِ حَتَّى تقر بِمثل الَّذِي أقرتْ بِهِ» .
وَرَوَاهُ أَيْضا الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه الْكُبْرَى» قبيل: إحْيَاء الْموَات، مَعَ تخالفٍ فِي لفظٍ يسيرٍ.(8/53)
كتاب الخُلْع(8/55)
كتاب الخُلْع
ذكر فِيهِ حَدِيثا وَاحِدًا، وآثارًا.
أمَّا الحَدِيث:
فَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «جَاءَت امرأةُ ثابتِ بْنِ قيس بن شماس إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، مَا أَنْقم عَلَى ثَابت فِي دِيْنٍ وَلَا خُلُق، إِلَّا أَنِّي أخافُ الكفرَ. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: تَرُدِّينَ عَلَيْهِ حديقته؟ فَقَالَت: نعم، فردَّتْ عَلَيْهِ، و (أَمَرَه) أَن يفارقها» . ويُرْوى: «أَنه كَانَ أصدقهَا تِلْكَ الحديقة، فخالعها عَلَيْهَا» . وَيُقَال: إِنَّه أوَّل خُلْع (جَرَى) فِي الْإِسْلَام.
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، أخرجه البخارى فِي «صَحِيحه» عَن ابْن عَبَّاس: «أَن امرأةَ ثَابت بن قيس أتتْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فقالتْ: يَا رَسُول الله، ثَابت بن قيس مَا أَعتب عَلَيْهِ فِي دِيْنٍ وَلَا خُلق، وَلَكِنِّي أكره الكفرَ فِي الْإِسْلَام؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أتردِّين عَلَيْهِ حديقته؟ قَالَت: نعم، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (اقْبَلِ الحديقةَ، و (رُدَّهَا) تَطْلِيقَة» . وَفِي لفظ آخر: «أتردِّين عَلَيْهِ حديقته؟ قَالَت: نعم. فَرُدَّتْ لَهُ، وَأمره ففارقها» . وَفِي أوَّله: «وَلَكِنِّي أَخَاف الكفرَ» بدل «أكره الكفرَ» . وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن(8/57)
عِكْرِمَة: «أَن جميلَة ... » فَذكر الحديثَ.
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد من حَدِيث عمْرَة، عَن عَائِشَة: «أَن حَبِيبَة بنت سهل كَانَت عِنْد ثَابت بن قيس بن شماس، فضربها، فَكسر بَعْضهَا، فأتَتِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (بعد الصُّبْح، فَدَعَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) ثَابتا، فَقَالَ: خُذْ بعض مالِهَا وفارقْها. فَقَالَ: و (يصلح) ذَلِك يَا رَسُول الله؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: إِنِّي أصدقْتُهَا حديقتين وهُمَا بِيَدِهَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: خُذْهُمَا وفارقْها. فَفعل» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث ابْن أبي حثْمَة وَفِيه: أَن اسْمهَا حَبِيبَة بنت سهل. وَفِي آخِره: «وَكَانَ ذَلِك أول خُلْع فِي الْإِسْلَام» .
وَقد أوضحتُ طُرُقَ هَذَا الحَدِيث فِي اخْتِلَاف اسْمهَا وغَيْرَ ذَلِك فِي «تخريجى لأحاديث المهذَّب» ، فراجِعْهُ مِنْهُ.
وَذكر عبد الرَّزَّاق عَن معمر قَالَ: بَلغنِي «أَنَّهَا قَالَت للنبيِّ (فيَّ مِنَ الجَمَال مَا تَرَى، وثابتٌ رجل دميم» .
وَفِي «الْمعرفَة» لأبي نعيم قَالَت: «وَلَوْلَا مَخَافَة الله لبزقتُ فِي وَجهه» . وَفِي آخِره: «قَالَ: وَكَانَ ذَلِك أول خُلْعٍ كَانَ فِي الْإِسْلَام» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: ويُحْكى «أَن ثَابتا كَانَ ضرب زَوجته، وَلذَلِك افتدت» .(8/58)
قلت: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، كَمَا سلف.
وأمَّا الْآثَار فِيهِ:
قَالَ الرَّافِعِيّ: ويُرْوى عَن: عُمر، وَعُثْمَان، وعليّ، وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «أَن الخُلْع طَلَاق» .
ويُرْوى عَن: ابْن عُمر وَابْن عَبَّاس: «أَنه فسْخٌ، لَا ينقص عددا» . ثمَّ حَكَى عَن ابْن خُزَيْمَة أَنه قَالَ: لَا يثبت عَن [أَحْمد] أَنه طَلَاق، وَعَن ابْن الْمُنْذر: أَن الرِّوَايَة عَن عُثْمَان ضَعِيفَة، وَأَنه لَيْسَ فِي الْبَاب أصح من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَحَكَى غيرُه اخْتِلَاف الرِّوَايَة عَن عُثْمَان فِي الْمَسْأَلَة، وَقَالَ فِي «تذنيبه» : إِمَّا أَنه مَذْهَب عُمر فَلم أجد لَهُ إِسْنَادًا، وَإِمَّا أَنه عَن عُثْمَان فَرَوَاهُ الشافعيُّ عَن مَالك، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن (جمْهَان) مولَى الأسلميين عَن أُمِّ بكرَة الأسْلَمِيَّة «أَنَّهَا اختلعتْ من زَوجهَا، ثمَّ أَتَيَا عثمانَ فِي ذَلِك، فَقَالَ: (هِيَ) تَطْلِيقَة، إِلَّا أَن تكون سمَّت شَيْئا فَهُوَ مَا سمَّت» .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد رُوي أَنه طَلَاق فِي حديثٍ مسندٍ لم يثبت إِسْنَاده، قَالَ: ورُوي فِيهِ عَن: عَلّي وَابْن مَسْعُود.
قَالَ ابْن الْمُنْذر: وضعَّف الإِمَام أحمدُ حديثَ عُثْمَان، وحديثَ(8/59)
عليّ، وَابْن مَسْعُود، وَفِي إسنادهما مقَال، وَلَيْسَ فِي الْبَاب أصح من حَدِيث طَاوس عَن ابْن عَبَّاس: «إِن الخُلْع لَيْسَ بطلاقٍ» .
قلت: أمَّا أثر عمر: فَلم يحضرني مَنْ أخرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، وَأما أثر عُثْمَان: فقد عَلمته من حَدِيث مَالك، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن جمْهَان، عَن أُمِّ بكرَة الأسْلَمِيَّة: (كَانَت (عِنْد) عَبْدِ الله بْنِ أسيد، فاختلعتْ مِنْهُ، فارتفعا إِلَى عثمانَ بْنِ عَفَّان، وَأَجَازَ ذَلِك وَقَالَ: هِيَ وَاحِدَة، إِلَّا أَن تكون سمت فَهُوَ عَلَى مَا سمت» . وَقد تقدم تَضْعِيف أَحْمد لَهُ.
وَأما أثر عليٍّ، فَقَالَ ابْن حزم: إِنَّه رُوي عَنهُ من طريقٍ لَا يَصح.
وَأما أثر ابْن مَسْعُود، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عليّ بن هَاشم، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن طَلْحَة بن مصرف، عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، عَن عَلْقَمَة، عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: «لَا تكون طَلْقَة بَائِنَة إِلَّا (فِي) فديَة أَو إِيلَاء» .
وَابْن أبي لَيْلَى سيئ الْحِفْظ.
وَأما أثر ابْن عمر: فَرَوَاهُ ابْن حزم من حَدِيث اللَّيْث بن سعد، عَن نَافِع مولَى ابْن عمر أَنه سمع رُبَيِّعَ بنْتَ معوِّذ بن عفراء - وَهِي [تخبر] عبد الله بن عُمر -: «أَنَّهَا اختلعتْ من زَوجهَا عَلَى عهْد عُثْمَان(8/60)
بن عَفَّان، (فخاصمها) إِلَى عُثْمَان، فَقَالَ: إِن ابْنة معوذ اختلعتْ مِنْ زَوجهَا الْيَوْم، أفتنتقل؟ فَقَالَ عُثْمَان: لتنتقلْ، وَلَا مِيرَاث بَينهمَا، وَلَا عدَّة عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّهَا لَا تنْكح حَتَّى تحيض (حَيْضَة) خشيَة أَن يكون فِيهَا حمْل، فَقَالَ عبد الله (بن عمر) فعثمان خيرنا وأعلمُنا» .
وَأما أثر ابْن عَبَّاس: فسلف بَيَانه، وَقَول ابْن الْمُنْذر فِيهِ: إِنَّه أصح مَا فِي الْبَاب.
وَرَوَاهُ أَحْمد، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سُفْيَان، عَن عَمرو، (عَن طَاوس) ، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «الخُلْع تَفْرِيق، وَلَيْسَ بِطَلَاق» .(8/61)
كتاب الطَّلَاق(8/63)
كتاب الطَّلَاق
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا. أما الْأَحَادِيث: فستة وَعِشْرُونَ حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أبْغَضُ الْمُبَاح إِلَى الله الطَّلَاق» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طَرِيق ابْن عُمر، وَمن طَرِيق معَاذ، بِلَفْظ: «الْحَلَال» بدل «الْمُبَاح» .
أما طَرِيق ابْن عمر: فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن كثير بن عبيد، عَن مُحَمَّد بن خَالِد، عَن (معرف) بن وَاصل، عَن محَارب بن دثار الْكُوفِي، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «أبْغض الحلالِ إِلَى الله الطَّلَاق» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه بالسند الْمَذْكُور، إِلَّا أَنه قَالَ: عَن عبيد الله بن الْوَلِيد [الْوَصَّافِي] بدل: معرِّف بن وَاصل.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَن مُحَمَّد بن بَالَوَيْهِ، عَن مُحَمَّد(8/65)
بن عُثْمَان (بن) أبي شيبَة، عَن أَحْمد بن يُونُس، عَن معرف بن وَاصل، عَن محَارب بن دثار، عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا أحلَّ الله شَيْئا أبْغض إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاق» .
ثمَّ قَالَ: (هَذَا) حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مُخْتَصر الْمُسْتَدْرك» : إِنَّهَا عَلَى شَرط مُسلم، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مرَّةً بِإِسْقَاط ابْن عُمر؛ رَوَاهُ عَن أَحْمد بن يُونُس، عَن معرِّف، عَن محَارب بن دثار، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ فَذكره بِلَفْظ رِوَايَة الْحَاكِم.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن (بكير) ، ثَنَا معرف بن وَاصل، حَدثنِي محَارب بن دثار قَالَ: «تزوَّج رجل عَلَى عهْده عَلَيْهِ السَّلَام امْرَأَة فَطلقهَا. فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام: أتزوجتَ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ: طلقتَ؟ قَالَ: أمِنْ ريبةٍ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: قد يفعل ذَلِك الرجل. قَالَ: ثمَّ تزوَّج امْرَأَة أُخْرَى فَطلقهَا. فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام مِثْلَ ذَلِك» . قَالَ (محَارب) : فَمَا أَدْرِي أعِنْدَ هَذَا أَو عِنْد الثَّالِثَة قَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام: «إِنَّه لَيْسَ شَيْء من الْحَلَال أبْغض إِلَى الله من الطَّلَاق» .
وَهَذَا مُرْسل كَمَا ترَى، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن حَدِيث ابْن عمر هَذَا، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ عَن محَارب عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(8/66)
مُرْسل، وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِن الْمُرْسل أشبه، وَقَالَ المنذريُّ: إِن الْمَشْهُور فِي هَذَا الحَدِيث أَنه مُرْسل، قَالَ: وَهُوَ غَرِيب، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي رِوَايَة ابْن أبي شبية - يَعْنِي: مُحَمَّد بن عُثْمَان - يَعْنِي: السالفة الموصولة -: وَلَا أرَاهُ يحفظه.
قلت: قد صَححهُ الْحَاكِم، كَمَا سلف، وَقد أيده رِوَايَة مُحَمَّد بن خَالِد الموصولة السالفة عَن أبي دَاوُد، وَرِوَايَة ابْن مَاجَه من طريقٍ آخر سلفتْ أَيْضا، فترجَّحَتْ إِذا، وأعلَّ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» طَرِيق الْوَصَّافِي، فَذكره من طَرِيقه، ثمَّ قَالَ: حَدِيث لَا يَصح؛ لأجْل الْوَصَّافِي هَذَا. قَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: مَتْرُوك. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «كتاب الْمَجْرُوحين» من هَذِه الطَّرِيق، وَقَالَ: عبيد الله بن الْوَلِيد الْوَصَّافِي هَذَا مُنكر الحَدِيث جدًّا، يَرْوي عَن الثِّقَات بِمَا لَا يشبه حَدِيث الْأَثْبَات، حَتَّى (إِذا) سَمعه (المستمع) سَبَقَ إِلَى قلبه أَنه كالمعتمد لَهَا، وَاسْتحق التركَ، وكتبنا عَنهُ نُسْخَة كلهَا مَقْلُوبَة.
وَأما طَرِيق معَاذ: فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن (سِنِين) ثَنَا عُمر بن إِبْرَاهِيم بن خَالِد، ثَنَا حميد(8/67)
بن مَالك اللَّخْمِيّ، ثَنَا مَكْحُول، عَن مَالك بن (يخَامر) ، عَن معَاذ مَرْفُوعا: «مَا أحلَّ الله شَيْئا أبْغض إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاق، فَمَنْ طلق وَاسْتَثْنَى (فَلهُ ثنياه» وَحميد هَذَا) ضعفه يَحْيَى وَأَبُو زرْعَة وغيرُهما، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا أعلم رَوَى عَنهُ غير إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، ثمَّ ذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، وَأعله ابْن الْقطَّان بعمر بن إِبْرَاهِيم بن خَالِد وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن سِنِين، وَقَالَ: إنَّهُمَا مَجْهُولَانِ.
قلت: (إِسْحَاق) هُوَ الْخُتلِي صَاحب «الديباج» ، قَالَ الْحَاكِم: لَيْسَ بالقويّ، وَقَالَ مَرَّةً: ضَعِيف، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بالقويّ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن حميد بن مَالك اللَّخْمِيّ، عَن مَكْحُول، عَن معَاذ مَرْفُوعا: «يَا معَاذ، مَا خَلَقَ الله - تَعَالَى - شَيْئا عَلَى وَجه الأَرْض أحبَّ إِلَيْهِ من الْعتاق، وَلَا خلق الله - تَعَالَى - عَلَى وَجه الأَرْض أبْغض إِلَيْهِ من الطَّلَاق، فَإِذا قَالَ الرجل لمملوكه: أَنْت حُرٌّ - إِن شَاءَ الله - فَهُوَ حُرٌّ، وَلَا اسْتثِْنَاء لَهُ، وَإِذا قَالَ الرجل لامْرَأَته: أنتِ طَالِق - إِن شَاءَ الله - فَلهُ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَلَا طَلَاق عَلَيْهِ» .
الحَدِيث الثَّانِي
قَالَ الله - تَعَالَى -: (فطلقوهن لعدتهن) أَي: للْوَقْت الَّذِي يشرعن فِي الْعدة، ورُوي عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه قَرَأَ «لقبل عدتهن) وتكلَّموا(8/68)
فِي أَنه قراءةٌ أَو تفسيرٌ.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عُمر: «أَنه طلَّق امْرَأَته وَهِي حَائِض، تَطْلِيقَة وَاحِدَة؛ فَأمره رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُرَاجِعهَا، ثمَّ يمْسِكهَا حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض عِنْده حَيْضَة أُخْرَى، ثمَّ يُمْهِلهَا حَتَّى تطهر مِنْ حَيْضهَا، فَإِن أَرَادَ أَن يطلقهَا فَلْيُطَلِّقهَا حِين تطهر مِنْ قَبْل أَن يُجَامِعهَا؛ فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «قَالَ ابْن عُمر: وَقَرَأَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن فِي قبل عدتهن» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فراجِعْهَا، وحُسِبَتْ لَهُ الطَّلقَة الَّتِي طَلقهَا» .
وَفِي أُخْرَى لَهُ: «مُرْهُ، فليراجِعهَا، ثمَّ ليطلقْهَا طَاهِرا أَو حَامِلا» .
وَفِي أُخْرَى لَهُ: « (مره فَلْيُرَاجِعهَا) ثمَّ إّذا طهرت فَلْيُطَلِّقهَا» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَى هَذَا الحديثَ جماعاتٌ عَن ابْن عُمر: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أمره أَن يُرَاجِعهَا حَتَّى تطهر، ثمَّ إِن شَاءَ أمسك، وَإِن شَاءَ طلق» .
وَفِي أُخْرَى لَهُ: « (قَالَ) ابْن عمر: فردَّها عليَّ، وَلم يرهَا شَيْئا» .(8/69)
قَالَ أَبُو دَاوُد: (و) الْأَحَادِيث كلهَا عَلَى خلاف هَذَا.
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن ابْن عمر طلَّق امْرَأَته وَهِي حَائِض، فَسَأَلَ (عمر) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن ذَلِك، فَقَالَ: مُرْهُ، فليراجِعْهَا، ثمَّ ليُمسكْهَا (حَتَّى) تطهر ثمَّ تحيض (ثمَّ تطهر) ثمَّ إِن شَاءَ أمسك، وَإِن شَاءَ طلق، فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن تُطلَّق لَهَا النِّسَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف بِطُولِهِ كَمَا ترَاهُ.
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ، وَهَذَا لَفظه: عَن ابْن عمر: «أَنه طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض عَلَى عَهْدِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَسَأَلَ عمرُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن ذَلِك، فَقَالَ: مُرْهُ فليراجِعْهَا، ثمَّ ليُمْسِكْهَا حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض، ثمَّ تطهر، ثمَّ إِن شَاءَ أمسك بعد، وَإِن شَاءَ طلق قبل أَن يمس، فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن تطلق لَهَا النِّسَاء» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه طلَّق امْرَأَته تَطْلِيقَة وَاحِدَة، فَأمره رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُرَاجِعهَا، ثمَّ يمْسِكهَا حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض عِنْده حَيْضَة أُخْرَى، ثمَّ (يمْسِكهَا) حَتَّى تطهر مِنْ حَيْضهَا، فَإِن أَرَادَ أَن يطلقهَا فَلْيُطَلِّقهَا حِين(8/70)
تطهر، مِنْ قَبْلِ أَن يُجَامِعهَا، فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن تُطلق لَهَا النِّسَاء» .
فَائِدَة: اسْم هَذِه الْمُطلقَة: آمِنَة بنت غفار. قَالَه ابْن باطيش، وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث نَافِع: «أَن عمر قَالَ: يَا رَسُول الله، إِن عبد الله طلق امْرَأَته النوار وَهِي حَائِض ... » الحديثَ.
فَائِدَة أُخْرَى: رَوَى قَاسم بن أصبغ: «أَن ابْن عمر طلَّق امْرَأَته وَهِي حَائِض، فَأمره عَلَيْهِ السَّلَام أَن يُرَاجِعهَا، فَإِذا طهرت مَسهَا، حَتَّى إِذا طهرت مرّة أُخْرَى؛ فَإِن شَاءَ طلق، وَإِن شَاءَ أمسك» .
وَفِي هَذَا زِيَادَة: «مَسهَا» فِي الطُّهْر الأول.
وَأعله عبد الْحق (بمعلى) بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده، قَالَ أَبُو حَاتِم: ضَعِيف، وَقَالَ (غَيره) : مَتْرُوك.(8/71)
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن ابْن عمر: «أَنه طلق امْرَأَته ثَلَاثًا، فردَّها عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى السُّنَّة» . وَهِي رِوَايَة (مُنكرَة) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كلُّ رُوَاته شيعَة ويبطله مَا فِي «الصَّحِيح» مِنْ أَنه طلَّق وَاحِدَة.
وَفِي رِوَايَة (لَهُ) من حَدِيث: مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيّ، ثَنَا مُعْتَمر بن سُلَيْمَان قَالَ: سمعتُ عبيد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عُمر «مُرْ عَبْدَ الله فليراجِعْها، فَإِذا اغتسلتْ فليتركْهَا حَتَّى تحيض، فَإِذا اغتسلتْ من حَيْضَتهَا فَلَا يَمَسهَا حَتَّى يطلقهَا، فَإِن شَاءَ أَن يمْسِكهَا فليمسكْهَا فَإِنَّهَا الْعدة الَّتِى أَمر الله أَن تطلق لَهَا النِّسَاء» .
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح. (وَذكر الْغسْل غَرِيب) .
الحَدِيث الرَّابِع
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَإِذا خَالعَ الحائضَ أَو طلَّقَهَا عَلَى مالٍ فَهُوَ غير مُحرَّم، وَاحْتج عَلَيْهِ بِإِطْلَاق قَوْله تَعَالَى: (فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) .
وَبِأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أطلق الإذْنَ لِثَابِت بن قيس فِي الْخلْع، عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي أوَّل كتاب الخُلْع، من غير بحثٍ واستفصال عَن حَال الزَّوْجَة، وَلَيْسَ الْحيض بأمرٍ نَادِر الْوُجُود فِي (حق) النِّسَاء.
هَذَا كَلَام الرَّافِعِيّ، وَسلف الحَدِيث فِي بَابه وَاضحا، وَتبع فِي ذَلِك(8/72)
الشَّافِعِي؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «الْمُخْتَصر» عقب ذكْر الْخَبَر: وَلم يَقُلْ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تأخذْهُ مِنْهَا إِلَّا فِي قبل عدتهَا، كَمَا أَمر المطلِّقَ غَيره.
وَذَلِكَ (إِشَارَة) إِلَى مَا ذكره الرَّافِعِيّ.
لَكِن فِي رِوَايَة الشَّافِعِي وَغَيره «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خرج إِلَى الصُّبْح، فَوجدَ حَبِيبَة بنت سهل عِنْد بَابه فِي الْغَلَس» وَبِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الَّذِي فِي الْمَسْجِد، ويقوى بِقَرِينَة خُرُوجه مِنْهُ إِلَى الصَّلَاة، وَإِذا كَانَ كَذَلِك (لم يكن) فِي تَركه السُّؤَال (عَن الْحَال) دلَالَة عَلَى عُمُوم الْمقَال (لِأَن) دُخُولهَا الْمَسْجِد دَلِيل عَلَى كَونهَا طَاهِرَة.
الحَدِيث الْخَامِس
حَدِيث ابْن عمر: «مُرْهُ، فليراجِعْهَا» . هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سلف مَبْسُوطا.
الحَدِيث السَّادِس
«أَن عُوَيْمِر الْعجْلَاني لما لَاعن عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: كذبت عَلَيْهَا إِن أمسكْتهَا، هِيَ طَالِق (ثَلَاثًا) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من(8/73)
حَدِيث سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَسَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي اللّعان - إِن شَاءَ الله ذَلِك وقدَّره.
الحَدِيث السَّابِع
رُوي فِي قصَّة ابْن عُمر فِي بعض الرِّوَايَات: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «مُرْهُ، فليراجِعْهَا حَتَّى تحيض، ثمَّ تطهر» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا لأحد الْوَجْهَيْنِ: أَنه إِذا رَاجَعَهَا لَهُ أَن يطلقهَا فِي الطُّهْر الثَّانِي لتِلْك الْحَيْضَة، وَقد سلفت هَذِه الرِّوَايَة فِي أثْنَاء الحَدِيث الثَّانِي، ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: وأظهرها لَا. فليمسكُهَا إِلَى أَن تحيض، وتطهر مرّة أُخْرَى. قَالَ: وَهَذَا مَا ورد فِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة فِي الْقِصَّة عَلَى مَا قدمْنَاهُ.
قلت: وَقد أسلفنا ذَلِك.
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن قَوْله تَعَالَى: (الطَّلَاق مَرَّتَانِ (: فَأَيْنَ الثَّالِثَة يَا رَسُول الله؟ قَالَ: أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن إِسْمَاعِيل بن سميع قَالَ: سمعتُ أَبَا (رزين) الْأَسدي يَقُول: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَقَالَ: يَا سَوَّلَ الله) : أرأيتَ قَول الله - تَعَالَى -: (الطَّلَاق مَرَّتَانِ(8/74)
فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان) فَأَيْنَ الثَّالِثَة؟ قَالَ: تَسْرِيح بِإِحْسَان» .
وَهَذَا مُرْسل، فَإِن أَبَا رزين هَذَا من التَّابِعين. قَالَه الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» (قَالَ: وَلم يذكرهُ فِي الصَّحَابَة) غير ابْن شاهين، قَالَ عبد الْحق: (و) قد أسْند هَذَا عَن إِسْمَاعِيل بن سميع، عَن أنس، وَعَن قَتَادَة، عَن أنس، والمرسل أصح، وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِن الْمُرْسل هُوَ الصَّوَاب.
وَرَوَاهُ أَيْضا الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل، ثَنَا (عبيد الله) بن جرير بن جبلة، ثَنَا عبيد الله بن عَائِشَة، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، ثَنَا قَتَادَة، عَن أنس، « (أَن رجلا) قَالَ: يَا رَسُول الله، أَلَيْسَ قَالَ الله - تَعَالَى -: (الطَّلَاق مَرَّتَانِ (فَلم صَار ثَلَاثًا؟ ! قَالَ: إمْسَاك بِمَعْرُوف، أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان» .
ثمَّ رَوَاهُ عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن زِيَاد الْقطَّان، ثَنَا إِدْرِيس (بن عبد الْكَرِيم الْمُقْرِئ، ثَنَا لَيْث بن حَمَّاد، ثَنَا عبد الْوَاحِد بن زِيَاد،(8/75)
ثَنَا إِسْمَاعِيل بن سميع) الْحَنَفِيّ، عَن أنس: «قَالَ رجل للنَّبِي (: إِنِّي أسمع الله - تَعَالَى - يَقُول: (الطَّلَاق مَرَّتَانِ (فَأَيْنَ الثَّالِثَة؟ قَالَ: إمْسَاك بِمَعْرُوف، أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كَذَا قَالَ: عَن أنس، وَالصَّوَاب: عَن إِسْمَاعِيل، عَن أبي رزين مُرْسلا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ ابْن الْقطَّان وَعِنْدِي أَن هذَيْن الْحَدِيثين صَحِيحَانِ؛ فَإِن (عبيد الله) ابْن عَائِشَة ثِقَة، قد برِئ مِمَّا قذف بِهِ من الْقدر، وَهُوَ أحد الأجواد الْمَشْهُورين بالجود، وأخباره فِي ذَلِك كَثِيرَة، وَهُوَ سيد من سَادَات أهل الْبَصْرَة، وَكَانَ عَالما بِالْعَرَبِيَّةِ وَأَيَّام النَّاس، وَكَانَ عِنْده عَن حَمَّاد بن سَلمَة تِسْعَة آلَاف حديثٍ. و (عبيد الله) بن جرير بن جبلة قَالَ الْخَطِيب: كَانَ ثِقَة.
وَأما الحَدِيث الثَّانِي: فَإِن مَدَاره عَلَى إِسْمَاعِيل بن سميع، وَعَلِيهِ اخْتلفُوا؛ فَمن قَائِل (عَنهُ) عَن أبي رزين مَرْفُوعا كالثوري، وَمن قَائِل عَنهُ عَن أنس [كَعبد الْوَاحِد] بن زِيَاد، وَعبد الْوَاحِد ثِقَة، وَلَيْث بن حَمَّاد هَذَا صَدُوق. قَالَه الْخَطِيب، (وَإِدْرِيس ثِقَة وَفَوق الثِّقَة بِدَرَجَة، قَالَه الْخَطِيب) وَقَالَ ابْن الْمُنَادِي: كتب النَّاس عَنهُ لِثِقَتِهِ وجلالته، وَإِسْمَاعِيل بن سميع فِي نَفسه كُوفِي ثِقَة مَأْمُون، (قَالَه) ابْن معِين. وَقَالَ(8/76)
أَبُو حَاتِم: صَدُوق، صَالح الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد: لم يكن بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَحْمد: صَالح الحَدِيث. قَالَ ابْن الْقطَّان: فالحديثان صَحِيحَانِ.
قلت: وأمَّا الْبَيْهَقِيّ، فَإِنَّهُ وَهَّى طَريقَة الدَّارَقُطْنِيّ عَن قَتَادَة، عَن أنس، فَقَالَ بعد أَن أخرج حديثَ إِسْمَاعِيل بن سميع عَن أنس فَقَالَ: «إِن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسمع الله - تَعَالَى - يَقُول: (الطَّلَاق مَرَّتَانِ (، (فَلِمَ صَار ثَلَاثًا) ؟ قَالَ: إمْسَاك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان هِيَ الثَّالِثَة» .
كَذَا قَالَ: عَن أنس، وَالصَّوَاب: عَن إِسْمَاعِيل، عَن أبي رزين، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا، كَذَا رَوَاهُ جمَاعَة من الثِّقَات عَن إِسْمَاعِيل، ثمَّ سَاقه من حَدِيث أبي رزين، ثمَّ قَالَ: يُرْوى عَن قَتَادَة، عَن أنس، وَلَيْسَ بِشَيْء.
الحَدِيث التَّاسِع
(أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَى منزل حَفْصَة، فَلم يجدهَا، وَكَانَت قد خرجتْ إِلَى بَيت أَبِيهَا، فَدَعَا ماريةَ إِلَيْهِ، وأتتْ حفصةُ فعرفتِ الحالَ، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، فِي بَيْتِي وَفَى يومي وَعَلَى فِرَاشِي! فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسترضيها: إِنِّي أُسِرُّ إِلَيْك سرًّا فاكْتُميْه هِيَ عليَّ حرَام. فَنزل قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك) الْآيَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي(8/77)
«سُنَنهمْ» ، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور قريبٌ من لفظ الْبَيْهَقِيّ.
وَهَذَا لَفظه عَن سعيد بن مَنْصُور: ثَنَا هشيم، أَنا (عُبَيْدَة) ، عَن إِبْرَاهِيم وجويبر، عَن الضَّحَّاك «أَن حَفْصَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها زارت أَبَاهَا ذَات يَوْم، وَكَانَ يَوْمهَا، فلمَّا جَاءَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يرهَا فِي الْمنزل: أرسل إِلَى أَمَتِهِ ماريةَ القبطيةِ، فَأصَاب مِنْهَا فِي بَيت حَفْصَة، فَجَاءَت حفصةُ عَلَى تِلْكَ الْحَال فَقَالَت: يَا رَسُول الله، أتفعلُ هَذَا فِي بَيْتِي [و] فِي يومي؟ ! قَالَ: فَإِنَّهَا حرَام عليَّ، لَا تُخْبِرِي بذلك أحدا. فَانْطَلَقت حَفْصَة إِلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فَأَخْبَرتهَا بذلك، فَأنْزل الله - تَعَالَى - فِي كِتَابه: (يَا أَيهَا النَّبِي لِمَ تحرم مَا أحل الله لَك (إِلَى قَوْله: (وَصَالح الْمُؤمنِينَ) ، فأُمر أَن يكفِّر عَن يَمِينه وَيُرَاجع أَمَتَه» .
وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عمر قَالَ: «دخل النبيُّ بأُمِّ وَلَده مَارِيَة فِي بَيت حَفْصَة، فوجدتْه حفصةُ مَعهَا» ثمَّ ذكر الحديثَ نَحْو رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ فِي آخِره: «فذكرتْه لعَائِشَة، فآلى أَن لَا يدْخل عَلَى نِسَائِهِ شهرا، فاعتزلهن تسعا وَعشْرين لَيْلَة، فَأنْزل الله - تَعَالَى -: (يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك (الْآيَة) .
وَلَفظ النَّسَائِيّ: عَن أنس: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كانتْ لَهُ أَمَة يَطَؤُهَا، فَلم تزل بِهِ عَائِشَة وَحَفْصَة حَتَّى حرَّمها عَلَى نَفسه، فَأنْزل الله - تَعَالَى -: (يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرِّم (الْآيَة» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم بِهَذَا اللَّفْظ، وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.(8/78)
وَرَوَاهُ أَبُو داو أَيْضا فِي «مراسيله» عَن قَتَادَة قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي بَيت حَفْصَة، فدخلتْ فرأتْ مَعَه فَتَاتَهُ، فَقَالَت: فِي بَيْتِي ويومي، فَقَالَ: اسكتي، فواللَّهِ لَا أَقْرَبُهَا، وَهِي عليَّ حرامٌ» .
فَائِدَة: قَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلف فِي سَبَب نزُول قَوْله تَعَالَى: (لم تحرم مَا أحلَّ الله لَك (فَقَالَت عَائِشَة: «فى قصَّة الْعَسَل» . وَعَن زيد بن أسلم: «فى تَحْرِيم مَارِيَة» وَالصَّحِيح: أَنه فِي الْعَسَل، لَا فِي قصَّة مَارِيَة، الَّتِي لم تأت من طَرِيق صَحِيح. هَذَا لَفظه.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن النبىَّ (حرَّم مَارِيَة عَلَى نَفسه، فَنزل قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم) الْآيَة، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كلَّ مَنْ حرَّم عَلَى نَفسه مَا كَانَ حَلَالا أَن يعْتق رَقَبَة، أَو يطعم عشرَة مَسَاكِين، أَو يكسوهم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة مُعَاوِيَة بن أبي صَالح، عَن ابْن أبي طَلْحَة، عَن ابْن عَبَّاس: «أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: (قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم) : أَمر اللَّه نبيه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالْمُؤمنِينَ إِذا حرَّموا شَيْئا مِمَّا أحل الله: أَن يكفِّروا عَن أَيْمَانهم بإطعام عشرَة مَسَاكِين، أَو كسوتهم، أَو تَحْرِير رَقَبَة، وَلَيْسَ يدْخل فِي ذَلِك طَلَاق» .(8/79)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خيَّر نساءَه بَين المُقَام مَعَه وَبَين مُفَارقَته، لمَّا نزل قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيهَا النبى قل لِأَزْوَاجِك) الْآيَة وَالَّتِي بعْدهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة عَائِشَة، كَمَا تقدَّم فى الخصائص، فراجِعْه مِنْهُ.
وَفَى «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث عليّ بإسنادٍ ضَعِيف: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خيَّر نِسَاءَهُ بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَلم يخيِّرهن الطَّلَاق» .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعَائِشَة لمَّا أَرَادَ تَخْيِير نِسَائِهِ: إِنِّي ذاكرٌ لَك أمرا، فَلَا تبادريني بِالْجَوَابِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك» .
هَذَا الحَدِيث بعضٌ مِنَ الذى قبْله، وَقد أَشَرنَا إِلَى موضِعين، ثمَّ اعلمْ: أَن الرافعى نقل عَن الْأَصْحَاب: أَن الأَصْل فِي تَجْوِيز تَفْوِيض الطَّلَاق إِلَى زَوجته تخييره - عَلَيْهِ السَّلَام - نِسَائِهِ، كَمَا تقدم، ثمَّ ذكر هَذَا الحديثَ وَقَالَ: إِنَّه احْتُجَّ بِهِ عَلَى جَوَاز تَأْخِير التَّطْلِيق وَالْحَالة هَذِه، وَلَا يشْتَرط فِيهِ التورية. وَفِيه نظر؛ فَإِن ظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي أَنه لم يكن الْقَصْد تَفْوِيض الطَّلَاق إِلَيْهَا وَلَا توكيلها، فندب إعلامها بذلك، حَتَّى إِذا أجازتِ الفراقَ أنشأ رسولُ الله فراقَهَا بعد ذَلِك.(8/80)
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رفع الْقَلَم عَن ثلاثٍ: عَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ ... » الحديثَ.
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي كتاب: الصَّلَاة، فراجِعْه.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاث جَدُّهن جَدٌّ وهزلهُنَّ جَدٌّ: الطَّلَاق، وَالنِّكَاح، وَالْعتاق» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده الغزاليّ فِي «الوسيطِ» ، و «الوسيطُ» تبع «النهايةَ» . والوارد فِي كتب الحَدِيث الْمَشْهُورَة: «الرُّجْعة» بدل «الْعتاق» .
رَوَاهُ هَكَذَا: أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالْحَاكِم، وَالدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة: عَطاء بن أبي(8/81)
رَبَاح، عَن يُوسُف بن مَاهك الْمَكِّيّ، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا.
وَقد ذكره الرافعيُّ بَعْدُ عَلَى الصَّوَاب؛ حَيْثُ قَالَ: ويُرْوَى بدل «الْعتاق» : «الرّجْعَة» .
وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يُورِدهُ عَلَى الْعَكْس، فيذكره أَولا بِلَفْظ: «الرّجْعَة» ، ثمَّ يَقُول: ويُرْوى بدل «الرّجْعَة» : «الْعتاق» . فَإِنَّهُ مرويٌّ أَيْضا بِهِ.
إِسْنَاده ضَعِيف، كَمَا ستعلمه، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، قَالَ ابْن الْقطَّان: لم يُصَحِّحهُ، لِأَنَّهُ من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن [بن] حبيب بن أردك مولَى بني مَخْزُوم، وَإِن كَانَ قد رَوَى عَنهُ جماعةٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يعرف حَاله.
قلت: قد عرفت. قَالَ النَّسَائِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، قَالَ [الْحَاكِم] : إِنَّه من ثِقَات الْمَدَنِيين، وَإنَّهُ حَدِيث صَحِيح. وَأقرهُ عَلَى ذَلِك صاحبُ «الْإِلْمَام» ، وَخَالف ابْن الْعَرَبِيّ فَقَالَ: رُوي فِيهِ أَيْضا: «وَالْعِتْق» ، وَلَا يَصح مِنْهُ شَيْء. وَأنكر عَلَيْهِ الْمُنْذِرِيّ الْحَافِظ بتحسين التِّرْمِذِيّ لَهُ، وَقَالَ: إِن أَرَادَ لَيْسَ مِنْهُ شَيْء عَلَى شَرط الصَّحِيح؛ فَلَا كَلَام، وَإِن أَرَادَ أَنه ضَعِيف؛ فَفِيهِ نظر، فَإِنَّهُ(8/82)
حسنٌ كَمَا قَالَه التِّرْمِذِيّ.
قلت: وصحيحٌ كَمَا قَالَه الْحَاكِم، وَلَعَلَّ ابْن الْعَرَبِيّ أَرَادَ بِهَذِهِ الرِّوَايَة مَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، حَدثنِي عبد الله بن أبي جَعْفَر، عَن حَنش بن عبد الله السبائي، عَن فضَالة بن [عبيد] الْأنْصَارِيّ، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ثَلَاث لَا يجوز اللّعب فِيهِنَّ: الطَّلَاق، وَالنِّكَاح، وَالْعِتْق» (مِمَّن عرف) .
وَعبد الله هَذَا فِيهِ خلاف، وثَّقه أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم، وَقَالَ مُحَمَّد بن حميد: كَانَ فَاسِقًا. قَالَ ابْن عدي: فِي بعض حَدِيثه مَا لَا يتُابع عَلَيْهِ. ثمَّ تنبه بعد ذَلِك لوهن فَاحش وَقع لِابْنِ الْجَوْزِيّ فِي هَذَا الحَدِيث؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» بعد أَن أخرجه من طَرِيق التِّرْمِذِيّ: فِي إِسْنَاده عَطاء، وَهُوَ ابْن عجلَان، مَتْرُوك الحَدِيث. وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ، فعطاء هَذَا ابْن أبي رَبَاح كَمَا وَقع مُبَيَّنًا فِي «سنَن أبي دَاوُد» ، و «ابْن مَاجَه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» ، وَكَذَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من ثَلَاث طرق، وَكَذَا بيَّنه الحافظان ابْن طَاهِر، والمزي فِي «أطرافهما» وَسبب هَذِه الْمقَالة مِنْهُ أَنه وَقع فِي رِوَايَة(8/83)
التِّرْمِذِيّ غير مَنْسُوب، وَهِي الَّتِي سَاقهَا، وَكَذَا فِي إِحْدَى رِوَايَات الدَّارَقُطْنِيّ.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رُفع عَن أُمتي الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتُكْرهوا عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب شُرُوط الصَّلَاة فراجِعْه مِنْ ثَمَّ.
الحَدِيث السَّادِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا طَلَاق فِي إغلاق» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها [قَالَت] : سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَا طَلَاق فِي إغلاق» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد كَذَلِك بِزِيَادَة: «وَلَا إِعْتَاق» . وَفِي إسنادهما مُحَمَّد بن عبيد بن أبي صَالح، وَقد ضعفه أَبُو حَاتِم، ووثَّقه ابْن حبَان.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من هَذَا الطَّرِيق بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم - أَي فِي ابْن إِسْحَاق -(8/84)
لَكِن لم يحْتَج بِهِ مُسلم، وَوَقع فِي رِوَايَة الْحَاكِم: مُحَمَّد بن عبيد بن صَالح، بِإِسْقَاط «أبي» ، وَكَأن الصَّوَاب الأوَّل.
قَالَ الْحَاكِم بعد أَن أخرجه من طَرِيقه: قد تَابع أَبُو صَفْوَان الْأمَوِي مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَلَى رِوَايَته عَن ثَوْر بن يزِيد، فأسقط من الْإِسْنَاد مُحَمَّد بن عبيد، فَرَوَاهُ عَن [ثَوْر] بن يزِيد، عَن صَفِيَّة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا.
قلت: لَكِن فِيهِ نعيم بن حَمَّاد، وَهُوَ صَاحب مَنَاكِير، وَضعف هَذَا الحَدِيث عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِسَبَب مُحَمَّد بن عبيد الْمَذْكُور، وَقَالَ: إِنَّه ضعيفٌ.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَنهُ، وَلَكِن فِي إِسْنَاده عبيد بن أبي صَالح، بِإِسْقَاط مُحَمَّد.
وَرَوَاهُ أَبُو يعْلى من رِوَايَة ثَوْر، عَن (عُبَيْدَة بن سُفْيَان) عَن صَفِيَّة بنت شيبَة، عَن عَائِشَة، قَالَ الْمزي فِي «تهذيبه» : وَرِوَايَة أبي دَاوُد هَذَا الحَدِيث عَن ثَوْر، عَن مُحَمَّد بن عبيد بن أبي صَالح أصوب من رِوَايَة ابْن مَاجَه، قَالَ: وَكَذَا قَالَه ابْن أبي حَاتِم وَغَيره.(8/85)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من طَرِيق آخر لَيْسَ فِيهَا مُحَمَّد بن عبيد الْمَذْكُور، وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق، وَمُحَمّد بن عُثْمَان جَمِيعًا، عَن صَفِيَّة بنت شيبَة، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا طَلَاق وَلَا إِعْتَاق فِي إغلاق» .
وسَاق ابْن الْجَوْزِيّ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق الإِمَام أَحْمد محتجًا بِهِ، وَلم يضعِّف محمدَ بن عبيد هَذَا، وَلَا ذكره فِي «ضُعَفَائِهِ» ، وَلَيْسَ بجيِّدٍ مِنْهُ.
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ: فَسَّرَ علماءُ الْعَرَبيَّة الإغلاق بِالْإِكْرَاهِ وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد [قَالَه] الإِمَام أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ عَلَى مَا نَقله ابْنه فِي «علله» عَنهُ، وَكَذَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة وَغَيره: إِنَّه الْإِكْرَاه عَلَى الطَّلَاق وَالْعتاق، وَهُوَ مِنْ أغلقت الْبَاب، كَأَن الْمَكْرُوه أُغْلق عَلَيْهِ حَتَّى يفعل، قَالَ المطرزي فِي (الْمغرب) : ومَنْ أوَّله بالجنون، وَأَن الْجُنُون هُوَ المغلق عَلَيْهِ، فقد أبْعَدَ.
قَالَ: وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» الإغلاق: أَظُنهُ الْغَضَب. وَمِنْه: إياك والمغلق، أَي الضجر والغلق، وَمَعْنَاهُ: لَا تغلق التطليقات كلهَا دفْعَة حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْء، لَكِن تُطَلِّق طَلَاق السّنة.(8/86)
الحَدِيث السَّابِع عشر
ورد الْخَبَر بِأَن «مَنْ أعتق شِقْصا من عبد أعتق كُله إِن كَانَ لَهُ مَال، وَإِلَّا يستسعى غير مشقوق عَلَيْهِ» .
وَفَى «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث همام، عَن قَتَادَة، عَن أبي [الْمليح] عَن أَبِيه: أَن رجلا أعتق شِقْصا من غُلَام، فَذكر ذَلِك للنبيِ (، فَقَالَ: لَيْسَ لله شريك) .
قَالَ أَبُو دَاوُد: زَاد ابْن كثير فِي حَدِيثه: «فَأجَاز - عَلَيْهِ السَّلَام - عِتْقه» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من هَذَا الْوَجْه، وَمن حَدِيث سعيد بن أبي عرُوبَة، وَهِشَام، عَن قَتَادَة، عَن أبي الْمليح بِدُونِ ذكر أَبِيه، ثمَّ قَالَ: هِشَام، وَسَعِيد أثبت [فِي] قَتَادَة [من] همام، وحديثهما أَوْلى بِالصَّوَابِ.(8/87)
قلت: قد رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث عبد الله بن بكر السَّهْمِي: ثَنَا سعيد، عَن قَتَادَة، عَن أبي الْمليح عَن أَبِيه: «أَن رجلا من قومه أعتق شِقْصا لَهُ [من] مَمْلُوك، فَرفع ذَلِك [إِلَى] النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَجعل عَلَيْهِ خُلَاصَة فِي مَاله [و] قَالَ: لَيْسَ لله شريك» .
فَهَذَا عبد الله بن بكر رَوَاهُ عَن سعيد، وَقَالَ فِيهِ عَن أَبِيه: «أَن رجلا من هُذَيْل أعتق سقصًا لَهُ من مَمْلُوك، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: هُوَ حر كُله، لَيْسَ لله شريك» .
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا طَلَاق إِلَّا بعد نِكَاح، وَلَا عِتْق إِلَّا بعد مِلْك» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من عدَّة طرق:
مِنْهَا: طَرِيق جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا طَلَاق لمَنْ لَا يملك، وَلَا عتاق لمَنْ لَا يملك» .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، قَالَ: وَشَاهده الْمَشْهُور فِي الْبَاب: عَن عَمرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا طَلَاق قَبْل نِكَاح» .
وَفِي حَدِيث هشيم: «لَا نَذْرَ لابْنِ آدم فِيمَا لَا يملك، وَلَا طَلَاق فِيمَا لَا يملك، وَلَا عتاق فِيمَا لَا يملك» .(8/88)
ثمَّ أسْند الحاكمُ من طَرِيق ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «مَا قَالَهَا ابْن مَسْعُود، وَإِن يكن قَالَهَا [فَزَلّةٌٌ] من عالمٍ، فِي الرجل يَقُول: إِن تزوجتُ فُلَانَة فَهِيَ طالقٌ، فَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن) وَلم يقل: إِذا طلّقْتُم الْمُؤْمِنَات ثمَّ نكحتموهن» .
ثمَّ قَالَ - أَعنِي: الْحَاكِم -: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، هَذَا آخر مَا ذكره هِشَام، ثمَّ أعَاد قَول ابْن عَبَّاس فِي أثْنَاء كتاب التَّفْسِير، فِي سُورَة الْأَحْزَاب لَكِن بِلَفْظ آخر وَهُوَ: «أَن ابْن عَبَّاس تلى قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ) : فَلَا يكون طَلَاق حَتَّى يكون نِكَاح» .
ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، قَالَ الْحَاكِم: أَنا متعجبٌ من الشَّيْخَيْنِ والإمامين - يعْنى: البُخَارِيّ وَمُسلمًا -، كَيفَ أهملا هَذَا الحَدِيث وَلم يخرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ؟ ! ، فقد صَحَّ عَلَى شَرطهمَا: حديثُ ابْنِ عُمر، وعائشةَ، وعَبْدِ الله بن عَبَّاس، ومعاذِ بن جبل، وجابرِ بْنِ عبد الله.
أما حَدِيث ابْن عمر: فَرَوَاهُ نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «لَا [طَلَاق إِلَّا] بعد نِكَاح» .
قلت: وَنقل الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» عَن صاعد أَنه قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، لَا أعرف لَهُ عِلّة.(8/89)
وَأما حَدِيث عَائِشَة: فَرَوَاهُ عُرْوَة عَنْهَا مَرْفُوعا بِهِ وَزِيَادَة: «وَلَا عتق إِلَّا بَعْدَ مِلْك» .
قلت: قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ، فَقَالَ: حَدِيث مُنكر، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «لَا طَلَاق قبل نِكَاح، وَلَا عتق قَبْل مِلْك» .
ثمَّ قَالَ: إِنَّه لَا يَصح، فِيهِ بشر بن السّري. قَالَ الحميدى: لَا يحل أَن يكْتب عَنهُ.
وَأما حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس: فَرَوَاهُ عَطاء بن أبي رَبَاح عَنهُ مَرْفُوعا: «لَا طَلَاق لمَنْ لَا يملك» .
وَأما حَدِيث معَاذ: فَرَوَاهُ طَاوس عَنهُ مَرْفُوعا: «لَا طَلَاق إِلَّا بعد نِكَاح، وَلَا عتق إِلَّا بعد مِلْك» .
وَأما حَدِيث جَابر بن عبد الله فَرَوَاهُ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَنهُ مَرْفُوعا «لَا طَلَاق لما لَا يملك، وَلَا عتق لما لَا يملك» .
وَفَى رِوَايَة عَنهُ: «لَا طَلَاق وَلَا نِكَاح» .
قلت: وَرَوَاهُ أَبُو الزبير عَنهُ، كَذَا أخرجه أَبُو يَعْلى الْموصِلِي فِي «مُسْنده» عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن سهم الْأَنْطَاكِي، ثَنَا بَقِيَّة بن الْوَلِيد، ثَنَا مُبشر بن عبيد، عَن أبي الزبير عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله(8/90)
(: «لَا تنْكح النِّسَاء إِلَّا من الْأَكفاء، وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إِلَّا الْأَوْلِيَاء، وَلَا مهر دون عدَّة دَرَاهِم» .
وَعَن جَابر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا طَلَاق قَبْلَ نِكَاح، وَلَا عتق قَبْلَ ملك، وَلَا نِكَاح إِلَّا بوليٍّ» .
قَالَ الْحَافِظ مُحَمَّد الْمَقْدِسِي: رجال إِسْنَاده ثِقَات، كَذَا نَقله عَنهُ الْحَافِظ شرف الدِّين الدمياطي وَأقرهُ، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ، ف [مُبشر] بن عبيد: وضَّاع، هَالك.
وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي (علله) من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا «لَا طَلَاق قَبْلَ نِكَاح، وَلَا عتق لمن لَا يملك، وَلَا صمت يَوْم إِلَى اللَّيْل، وَلَا وصال فِي صِيَام، وَلَا رضَاع بعد فِطَام، وَلَا يُتْمَ بعد حُلُم، وَلَا رَهْبَانِيَّة [فِينَا] » .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، لأجْلِ سعيد بن المزبان الْبَقَّال: مَتْرُوك.
قَالَ الْحَاكِم: مدَار سَنَد هَذَا الحَدِيث، يَعْنِي: أصل حَدِيث: «لَا طَلَاق قبل نِكَاح، وَلَا عتق قبل ملك» : عَلَى إسنادين ذاهبَيْن؛ جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك، عَن النزال بن سُبْرَة، عَن عَلّي، وَعَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، فَلذَلِك لم يَقع الِاسْتِقْصَاء من الشَّيْخَيْنِ فِي [طلب] هَذِه(8/91)
الْأَسَانِيد الصَّحِيحَة.
قلت: وَطَرِيق جُوَيْبِر: أخرجهَا ابْن مَاجَه بِلَفْظ: «لَا طَلَاق قبل النِّكَاح» .
وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من وَجه آخر عَن عليِّ مَرْفُوعا بِلَفْظ: «لَا طَلَاق إِلَّا بعد ملك، وَلَا عتاق إِلَّا بعد ملك» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، لأجْل عبد الله بن زِيَاد بن [سمْعَان] الكذَّاب، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْكَدر مُرْسلا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ الصَّوَاب.
قَالَ: وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْكَدر، عَن جَابر، وَلَا يَصح، عَن جَابر، وَنقل بَعْد عَن الدَّارَقُطْنِيّ: أَن الْمَحْفُوظ فِيهِ وَقفه عَلَى جُوَيْبِر، بعد أَن أردفه بِلَفْظ: «لَا يُتْمَ بعد حُلُم، وَلَا طَلَاق إِلَّا بعد نِكَاح، وَلَا عتق إِلَّا بعد ملك، وَلَا وصال فِي صِيَام، وَلَا صَمْت يَوْم إِلَى اللَّيْل» .
ثمَّ ذكر الْحَاكِم حَدِيث عَمرو بن شُعَيْب فِي كتاب: الْأَيْمَان وَالنُّذُور، فَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، عَن عَمرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن عَمرو: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ طلق مَا لَا يملك فَلَا طَلَاق لَهُ، ومَنْ أعتق مَنْ لَا يملك فَلَا عتاق لَهُ، ومَنْ نذر فِيمَا لَا يملك فَلَا نذر لَهُ، ومَنْ حلف عَلَى معصيةٍ فَلَا يَمِين لَهُ،(8/92)
ومَنْ حلف عَلَى قطيعة رحم: فَلَا يَمِين لَهُ» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ.
قلت: وَعبد الرَّحْمَن هَذَا قَالَ فِيهِ أَحْمد: مَتْرُوك. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ.
قَالَ الْحَاكِم: و [عِنْد] عَمْرو بن شُعَيْب فِيهِ إسنادٌ آخر، فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، عَن سعيد بن الْمسيب: « [أَن أَخَوَيْنِ] من الْأَنْصَار كَانَ بَينهمَا مِيرَاث، فَسَأَلَ أحدُهُما صَاحبه الْقِسْمَة، فَقَالَ: لَئِن عُدَّتَ سَأَلتنِي الْقِسْمَة: لم أكلِّمك أبدا، وكل ماليِ فِي رتاج الْكَعْبَة، فَقَالَ عمر بن الْخطاب: إِن الْكَعْبَة لغَنِيَّة عَن مَالك، كفر [عَن يَمِينك] وكلِّمْ أَخَاك، فَإِنِّي سمعتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا يَمِين عَلَيْك، وَلَا نذر فِي مَعْصِيّة الرب، وَلَا فِي قطيعة الرَّحِم، وَلَا فِيمَا لَا يملكهُ ابْن آدم» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ.
قلت: وَحَدِيث عَمرو بن شُعَيْب هَذَا أخرجه أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث مطر الْوراق عَنهُ بِلَفْظ «د» : «لَا(8/93)
طَلَاق إِلَّا فِيمَا تملك، وَلَا عتق إِلَّا فِيمَا تملك، وَلَا بيع إِلَّا فِيمَا تملك، وَلَا وَفَاء نذر فِيمَا لَا تملك» .
وَلَفظ النَّسَائِيّ: «لَيْسَ عَلَى رجلٍ بيعٌ فِيمَا لَا يملك» .
وَلَفظ أَحْمد: «لَيْسَ عَلَى رجلٍ طَلَاق فِيمَا لَا يملك وَلَا عتاق فِيمَا لَا يملك، وَلَا بيع فِيمَا لَا يملك» .
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْأَحول عَنهُ مَرْفُوعا: «لَا نذر لِابْنِ آدم فِيمَا لَا يملك، وَلَا عتق لَهُ فِيمَا لَا يملك، وَلَا طَلَاق لَهُ فِيمَا لَا يملك» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، قَالَ: وَهُوَ أحسن شَيْء رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَقَالَ [البُخَارِيّ أَنه] : أصح شَيْء فِي الطَّلَاق قَبْل النِّكَاح. وَقَالَ الْخطابِيّ: أسعد النَّاس بِهَذَا الحَدِيث مَنْ قَالَ بِظَاهِرِهِ وأجْرَاه عَلَى عُمُومه، إذْ لَا حُجَّة مَعَ مَنْ فرق بَين حالٍ وحالٍِ، والْحَدِيث حسن.
قلت: وَفَى الْبَاب أَيْضا عَن الْمسور [بن] مخرمَة، رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيثه مَرْفُوعا: «لَا طَلَاق قبل نِكَاح، وَلَا عتق قبل ملك» .(8/94)
وَفَى إِسْنَاده عليّ بن حُسَيْن بن وَاقد: ضعَّفه أَبُو حَاتِم، وقوَّاه (عُرْوَة) ، وَهِشَام بن سعد المَخْزُومِي: وَهُوَ من رجال مُسلم فِي الشواهد، وَقد ضَعَّفُوهُ، وَاقْتصر عَلَى هَذِه الطَّرِيقَة صَاحب «الْإِلْمَام» ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو بكر الصدِّيق، وعليُّ بن أَبَى طَالب، وَابْن عَبَّاس، ومعاذ، وَزيد، وَأَبُو سعيد، وَعمْرَان، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو هُرَيْرَة، والمسور، وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، قَالَ: وَأَصَح حَدِيث فِيهِ وأشْهَرُه: حديثُ عَمرو بن شُعَيْب المتقدِّم، وحديثُ الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة ... . قَالَه البُخَارِيّ.
قَالَ: وروُي مِثْلُ ذَلِك عَن جماعات من التَّابِعين فَذكرهمْ، وَفَى «علل ابْن أَبَى حَاتِم» : سَمِعت أبي يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن خلف الْعَسْقَلَانِي يَقُول قَالَ ليِ يَحْيَى بْنُ معِين: لَا يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا طَلَاق قبل نِكَاح» ، وَأَصَح شَيْء فِيهِ: حديثُ [الثَّوْريّ] عَن ابْن الْمُنْكَدر عَمَّنْ سمع طاوسًا أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا طَلَاق قبل نِكَاح» .
وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي « [استذكاره] » : إِن هَذَا الحَدِيث قد رُوي من وُجُوه، إِلَّا أَنَّهَا عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، معلولة.
قلت: وَقد عرفتَ صِحَة بَعْضهَا من كَلَام التِّرْمِذِيّ، وَالْحَاكِم(8/95)
، وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهم، وَلَا يقْدَح فِيهَا بعض طرقها الضعيفة.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «دَعَتْنِى أُمِّي إِلَى قريبٍ لَهَا، فراودني فِي الْمهْر، فَقلت: إِن نكحتها فَهِيَ طالقٌ ثَلَاثًا، ثمَّ سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: انْكحْهَا؛ فَإِنَّهُ لَا طَلَاق قَبْل نِكَاح» .
هَذَا الحَدِيث غريبٌ من هَذَا الْوَجْه.
وَهُوَ فِي «الدَّارَقُطْنِيّ» من حَدِيث زيد بن عَلّي عَن آبَائه: «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله: إِن أُمِّي عَرَضَتْ عليَّ قرَابَة لَهَا أَتَزَوَّجُهَا، فَقلت: (هى طالقٌ ثَلَاثًا إنْ تزوجْتُهَا) ؟ ، فَقَالَ النبى (: هَل كَانَ قبل ذَلِك مِنْ مِلْكٍ؟ ، قَالَ: لَا. قَالَ: لَا بَأْس، تزوَّجْهَا» .
وَفِيه أَيْضا من حَدِيث: عَلّي بن قرين - الْكذَّاب -، ثَنَا بَقِيَّة بن الْوَلِيد، عَن ثَوْر بن يزِيد، عَن خَالِد بن معدان، عَن أَبَى ثَعْلَبَة الْخُشَنِي قَالَ: «قَالَ عَمٌّ لي: اعملْ لي عملا حَتَّى أُزوِّجَكَ ابْنَتي، فَقلت: إنْ تزوجْتُهَا فَهِيَ طَالِق ثَلَاثًا، ثمَّ بَدَا لي أنْ أتزوَّجَهَا، فأتيتُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلته. فَقَالَ لي: تَزَوَّجْهَا فَإِنَّهُ لَا طَلَاق إِلَّا بعد نكاحٍ، فتزوجْتُهَا، فولدتْ لي سَعْدًا وسعيدًا» .
وَفِيه أَيْضا من حَدِيث معَاذ بن جبل مَرْفُوعا: «لَا طَلَاق إِلَّا بعد نِكَاح وإنْ سَمَّيْتَ المرأةَ بِعَيْنِهَا» .
وَإِسْنَاده واهٍ.(8/96)
الحَدِيث الْعشْرُونَ
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الطَّلَاق بِالرِّجَالِ، وَالْعدة بِالنسَاء» .
[سُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ] فَقَالَ: يرويهِ أَشْعَث بن سوار، وَاخْتلف عَنهُ، فَرَوَاهُ عبد الله بن الأحلج، عَن أَشْعَث، عَن الشّعبِيّ، عَن عبد الله [بن عتبَة، عَن ابْن مَسْعُود] كَذَلِك رَفعه وَخَالفهُ شعبةُ فَرَوَاهُ عَن أَشْعَث [عَن الشّعبِيّ] عَن مَسْرُوق [عَن عبد الله قَالَ: (السّنة فِي الطَّلَاق وَالْعدة بِالنسَاء) . وَرَوَاهُ الْحسن بن صَالح، عَن أَشْعَث، عَن الشّعبِيّ] عَن عبد الله مثله، لم يذكر [بَينهمَا] أحدا.
قَالَ: وَيُشبه أَن يكون هَذَا من أَشْعَث، وَالله أعلم.
وَكَذَلِكَ قَالَ الثَّوْريّ، وَابْن [فُضَيْل] وأسباط كلُّهم، عَن أَشْعَث، عَن الشّعبِيّ [عَن عبد الله، وَقَالَ يزِيد بن هَارُون: عَن أَشْعَث، عَن الشّعبِيّ] ، عَن مَسْرُوق، عَن عبد الله مثل [قَول] شُعْبَة. هَذَا آخر مَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» .(8/97)
وَحَال «أَشْعَث» مَعْرُوف، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» مَوْقُوفا عَلَى ابْنِ مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، وَقَالَ بعض مَنْ تَبَصَّرَ هَذِه الْمَسْأَلَة: رَوَاهُ عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا.
قلت: وَفِي «علل أَحْمد» : ثَنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر [غنْدر] ، ثَنَا همام، عَن قَتَادَة، عَن سعيد بن المسيَّب: «أَن عليًَّا قَالَ: السُّنَّة بِالنسَاء - يعْنى: الطَّلَاق -، وَالْعدة» . قَالَ مُحَمَّد: قلت لهمام: مَا يرويهِ أحدٌ غَيْرك عَن سعيد؟ ، قَالَ: مَا أَشك فِيهِ وَمَا أَمْتَري.
وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» عَن عليّ: أَنه قَالَ: «السُّنَّة بِالنسَاء - يَعْنِي: الطَّلَاق -، وَالْعدة» . وَكَذَا حَكَاهُ فِي «الاستذكار» عَنهُ. . انْتَهَى.
الحَدِيث الحادى بعد الْعشْرين
رُوي عَن ابْن عمر مَرْفُوعا وموقوفًا: «العَبْد يطلَّق تَطْلِيقَتَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» مَوْقُوفا عَلَى ابْن عُمر (بِاللَّفْظِ) الْمَذْكُور، وَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الأُمِّ» .(8/98)
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» لَكِن بِلَفْظ: «يَنْكِحُ العبدُ اثْنَتَيْنِ، ويطلِّق اثْنَتَيْنِ، وعدة الْأمة حيضتين، فَإِن لم تحضْ فشهرين» .
وَالْمَاوَرْدِيّ أخرجه من حَدِيث (عَطِيَّة) عَنهُ مَرْفُوعا: «يطلِّق العَبْد تَطْلِيقَتَيْنِ، وَتعْتَد الأَمة حيضتين» . ثمَّ قَالَ: وَهَذَا أثبت من حَدِيث عَائِشَة، [لِأَن فِي حَدِيث مظَاهر]- يَعْنِي: الَّذِي. فِي إِسْنَاد حَدِيثهَا - من (الالتواء) .
قلت: وَالْآخر قد قيل: إِنَّه مُنْقَطع، وَمن الْعجب أَن الْغَزالِيّ فِي «بسيطه» تبعا للْإِمَام قَالَ: وَقد صَحَّ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تَعْتَد الأَمَةُ بحيضتين» .
قلت: وَقد رُوي من حَدِيث ابْن عُمر مَرْفُوعا بلفظٍ آخر، رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» بإسنادهم إِلَيْهِ: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «طَلَاق الأَمة اثْنَتَانِ، وعدتها حيضتان» .
وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف أَيْضا بِسَبَب عُمر بن شبيب الْكُوفِي الواهي، وعَطِيَّة الْعَوْفِيّ الواهي أَيْضا، الْمَذْكُورين فِي إِسْنَاده.(8/99)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا الحَدِيث مُنكر غير ثَابت، من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن عَطِيَّة ضَعِيف، وَسَالم وَنَافِع أثبت مِنْهُ وَأَصَح رِوَايَة، وَالْوَجْه الآخر: أَن عمر بن شبيب ضَعِيف، لَا يحْتَج بروايته.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ عُمَرُ بْنُ شبيب مَرْفُوعا، وَكَانَ ضَعِيفا، وَالصَّحِيح: مَا رَوَاهُ سَالم وَنَافِع، عَن ابْن عمر مَوْقُوفا أَنه قَالَ: «إِذا طلَّق العبدُ امْرَأَته طَلْقَتَيْنِ: فقد حَرُمَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى تنْكح زوجا غَيره، حُرَّةً كَانَت أَو أَمَة، وعدة الْحرَّة ثلاثُ حِيَض، وعدة الْأمة حيضتان» .
هَكَذَا رَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأ» .
قلت: وَحَدِيث عَائِشَة السالف فِي كَلَام الْمَاوَرْدِيّ: أخرجه أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ من رِوَايَة مظَاهر بن أسلم، عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِلَفْظ الْجَمَاعَة الْمَذْكُورين أَولا، وَالْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: «طَلَاق العَبْد اثْنَتَانِ» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا حَدِيث مَجْهُول، وَكَذَا نقل ابْن الْأَعرَابِي عَنهُ أَنه قَالَ فِيهِ: إِنَّه لَيْسَ بِمَعْرُوف، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث مظَاهر بن أسلم، وَمظَاهر: لَا نَعْرِف [لَهُ] فِي الْعلم غَيْرَ(8/100)
هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ الْعقيلِيّ: هَذَا حَدِيث لَا يُحفظ إِلَّا عَن مظَاهر، وَقَالَ أَبُو عَاصِم النَّبِيل: لَيْسَ بِالْبَصْرَةِ حَدِيث أنكر من هَذَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ مظَاهر بن أسلم، وَهُوَ رجل مَجْهُول، يُعْرف بِهَذَا الحَدِيث، وَالصَّحِيح عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد: «أَنه سُئِلَ عَن عدَّة الأَمة، فَقَالَ: النَّاس يَقُولُونَ: حيضتان» .
وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ عبد الْحق: ذُكر عَن ابْن الْقَاسِم أَنه قيل لَهُ: أَبَلَغَكَ من هَذَا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْء؟ ، قَالَ: لَا. وَنَقله الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا، وَقَالَ [الْمزي] فِي «أَطْرَافه» : رفْعه غير مَحْفُوظ.
قلت: وَأما الْحَاكِم فَرَوَاهُ من هَذَا الْوَجْه، ثمَّ قَالَ «مظَاهر بن أسلم» : شيخ من أهل الْبَصْرَة، لم يذكرهُ أحدٌ مِنْ مُتَقَدِّمي مَشَايِخنَا بِجرح فَإِذا الحَدِيث. [صَحِيح وَلم يخرجَاهُ] .
قلت: عجيبٌ مِنْهُ، فقد ضعفه أَبُو حَاتِم، وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. مَعَ أَنه لَا يُعْرف، ووَهَِمَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه»(8/101)
فَعَزاهُ إِلَى يَحْيَى بن سعيد، فاجْتَنِبْهُ، وَقَالَ فِيهِ الرزاي: مُنكر الحَدِيث. فَأَما ابْن حبَان: فَذكره فِي «الثِّقَات» من أَتبَاع التَّابِعين، رَوَى عَنهُ: ابْنُ جريج والثوريُّ وعاصمُ النَّبِيل.
الحَدِيث الثَّانِي و [الْعشْرُونَ]
«أَن ركَانَة بن عَبْد يزِيد أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي طلقت امْرَأَتي سهيمة الْبَتَّةَ، وواللَّهِ مَا أردتُ إِلَّا وَاحِدَة؟ ، فَقَالَ [رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: وَالله مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة؟ فَقَالَ:] واللَّهِ مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة؛ فردَّها عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» .
رَوَاهُ الشَّافِعِي من رِوَايَة عبد الله بن عليّ بن السَّائِب، عَن نَافِع بن عجير بن عَبْد يزِيد (أَن ركَانَة بن عَبْد يزِيد طلَّق امْرَأَته سهيمة الْبَتَّةَ، ثمَّ أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي طلقتُ امْرَأَتي سهمية الْبَتَّةَ؛ [و] واللَّهِ مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة [فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لركانة: وَالله مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة؟ فَقَالَ ركَانَة: وَالله مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة] ، فردَّها إِلَيْهِ، وَطَلقهَا(8/102)
الثانيةَ فِي زمن عمر، وَالثَّالِثَة فِي زمن عُثْمَان) .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة عبد الله بن يزِيد بن ركَانَة، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «أتيتُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فقلتُ: يَا رَسُول الله إِنِّي طلقت امْرَأَتي الْبَتَّةَ، فَقَالَ: مَا أردتَ [بهَا] ؟ قلت: وَاحِدَة، قَالَ: واللَّهِ؟ ، قلت: واللًَّهِ، قَالَ: فَهُوَ مَا أردتَ» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة نَافِع بن عجير بن عَبْد يزِيد بن ركَانَة «أَن ركَانَة بن عَبْد يزِيد طلق امْرَأَته سهيمة الْبَتَّةَ فَأخْبر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بذلك وَقَالَ: واللَّهِ مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة [فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: وَالله مَا أردْت إِلَّا وَاحِدَة؟] فَقَالَ ركَانَة: واللَّهِ مَا أردتُ إِلَّا وَاحِدَة، فردَّها إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَطلقهَا الثَّانِيَة فِي زمَان عمر، وَالثَّالِثَة فِي زمَان عُثْمَان» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من رِوَايَة عبد الله بن عَلّي بن يزِيد بن ركَانَة، عَن أَبِيه، عَن جده: «أَنه طلق امْرَأَته الْبَتَّةَ، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: مَا أردتَ؟ قَالَ: وَاحِدَة. قَالَ: اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ. قَالَ: هُوَ عَلَى مَا أردتَ» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا أصح من حَدِيث ابْن جريج: «أَن ركَانَة طلق امْرَأَته ثَلَاثًا» ؛ لأَنهم أهل بَيته وهُمْ أعلم بِهِ، وَحَدِيث ابْن جريج [رَوَاهُ] عَن بعض بني [أبي] رَافع، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة عبد الله بن عَلّي بن يزِيد بن ركَانَة،(8/103)
عَن أَبِيه، عَن جده: «أَنه طلق امْرَأَته الْبَتَّةَ، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَا أردْت بهَا؟ ، قَالَ: وَاحِدَة. قَالَ: آللَّهِ مَا أردتَ بهَا إِلَّا وَاحِدَة. قَالَ: اللَّهِ مَا أردتُ بهَا إِلَّا وَاحِدَة. قَالَ: فردَّها عَلَيْهِ» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا حَدِيث صَحِيح.
وَقَالَ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» : سمعتُ أَبَا الْحسن عَلّي بن مُحَمَّد الطنافسي يَقُول: مَا أشرف هَذَا الحَدِيث! .
وَأخرجه ابْن [حبَان] فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة عبد الله [بن عَلّي] بن يزِيد بن ركَانَة، كَمَا سَاقه أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَته الثَّانِيَة.
وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَمَا سَاقه ابْنُ حبَان سندًا ومتنًا، ثمَّ قَالَ: قد انحرف الشَّيْخَانِ - يَعْنِي: البخاريَّ وَمُسلمًا - عنِ الزبير بن سعيد الْهَاشِمِي - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده -، غير أَن لهَذَا الحَدِيث مُتَابَعًا من بنت رُكانة بن [عبد] يزِيد المطلبي، فَيصح بِهِ الحَدِيث، ثمَّ رَوَاهُ عَن الْأَصَم، عَن الرّبيع، عَن الشَّافِعِي، عَن عَمه مُحَمَّد بن عَلّي بن شَافِع، عَن نَافِع بن عجير بن عَبْد يزِيد «أَن ركَانَة بن عَبْد يزِيد طلَّق امْرَأَته سهيمة الْبَتَّةَ» .
ثمَّ سَاقه بِلَفْظ أبي دَاوُد فِي الرِّوَايَة الأولَى، ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: قد صَحَّ الحَدِيث بِهَذِهِ الرِّوَايَة، فَإِن الإِمَام الشَّافِعِي قد أتقنه وَحفظه عَن أهل بَيته، والسائب بن عَبْد [يزِيد أَب الشافع بن السَّائِب وَهُوَ أَخ ركَانَة(8/104)
بن عبد يزِيد] وَمُحَمّد بن عَلّي بن شَافِع عَم الشَّافِعِي: شيخُ قُرَيْش فِي عصره.
وَأخرجه الْحَاكِم أَيْضا فِي كتاب «عُلُوم الحَدِيث» بِلَفْظ أبي دَاوُد الثَّانِي، ثمَّ قَالَ: رُوَاة هَذَا الحَدِيث عَن آخِرهم قرشيون، وَأما التِّرْمِذِيّ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَسَأَلت مُحَمَّدًا - يَعْنِي: البخاريَّ - عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إِنَّه مُضْطَرب؛ (حَيْثُ رُوي تَارَة أَنه طَلقهَا ثَلَاثًا، وَتارَة وَاحِدَة، وَتارَة الْبَتَّةَ وَهُوَ أصحُّها، والثلاثُ ذكرت فِيهِ عَلَى الْمَعْنى) ، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد كَمَا نَقله ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» ، وَعلله: [حَدِيث] ركَانَة لَيْسَ بِشَيْء، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: طرقه ضَعِيفَة، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» : فِي تَصْحِيح أبي دَاوُد لهَذَا الحَدِيث نَظَرٌ؛ فقد ضعفه الإِمَام أَحْمد، وَهُوَ مُضْطَرب إِسْنَادًا ومتنًا؛ لِأَن فِي إِسْنَاده الزبير بن سعيد الْهَاشِمِي الْمدنِي: وَقد ضعفه غيرُ واحدٍ. قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ مَرَّةً: ضَعِيف. وَكَذَلِكَ قَالَ عَلّي(8/105)
بن الْمَدِينِيّ وزَكَرِيا [السَّاجِي] وَالنَّسَائِيّ. وَقَالَ يَحْيَى مَرَّةً: ثِقَة. وَقَالَ الْعقيلِيّ الْحَافِظ: هَذَا حَدِيث لَا يُتابع عَلَيْهِ وَلَا يُعرف إِلَّا بِهِ، وَقَالَ فِي تَرْجَمَة عبد الله بن عَلّي بن يزِيد بن ركَانَة: إِسْنَاده مُضْطَرب وَلَا يُتابع عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ: إِسْنَاده مُخْتَلف فِيهِ. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : فِي إِسْنَاده عبد الله بن عَلّي بن السَّائِب، عَن نَافِع بن عجير، عَن ركَانَة، وَالزبير بن سعيد، عَن عبد الله بن عَلّي بن عَبْد يزِيد بن ركَانَة، عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: وَكلهمْ ضَعِيف، الزبير أَضْعَفُهُمْ.
قَالَ البُخَارِيّ: عَلّي بن يزِيد بن ركَانَة، عَن أَبِيه: لم يَصح حَدِيثه، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» : هَذَا الحَدِيث ضعَّفوه.
قلت: وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق آخر، رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي أَوَاخِر كتاب التَّفْسِير مِنْهُ، من حَدِيث ابْن عَبَّاس: [قَالَ: طلق عبد يزِيد أَبُو ركَانَة أم ركَانَة ثمَّ نكح امْرَأَة من مزينة فَجَاءَت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] فَقَالَت: يَا رَسُول الله: مَا تغني عني هَذِه الشعرة، لشعرةٍ أَخَذتهَا من رَأسهَا، فَأخذ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَمِيَّةٌ عِنْد ذَلِك، فَدَعَا ركَانَة وإخوتَه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعَبْدِ يزِيد: طلِّقْها، فَفعل، فَقَالَ لأبي ركَانَة:(8/106)
ارتجِعْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُول الله: إِنِّي طَلقتهَا، قَالَ: قد علمتُ ذَلِك، فارتجِعْهَا، فَنزلت (يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن) .
ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح.
قلت: فِيهِ نظر، لأجْل مُحَمَّد بن [عبيد الله] بن أبي رَافع الواهي، قَالَ الذَّهَبِيّ: فَالْخَبَر خطأ، عَبْدُ يزِيد لم يدْرك الْإِسْلَام.
قلت: وَرُوِيَ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا عَلَى نمطٍ آخر، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث: ابْن إِسْحَاق، ثَنَا دَاوُد بن الْحصين، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «طلق ركانةُ بْنُ [عبد] يزِيد امْرَأَته ثَلَاثًا فِي مجْلِس وَاحِد، فَحزن عَلَيْهَا حزنا شَدِيدا، فَسَأَلَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَيفَ طلقْتَها؟ قَالَ: طلقتُهَا ثَلَاثًا. قَالَ: فِي مجلسٍ واحدٍ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: [فَإِنَّمَا تِلْكَ] وَاحِدَة؛ فارتجِعْهَا إِن شئتَ، فرجعها» .
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح، ابْن إِسْحَاق مَجْرُوح، وَدَاوُد أشدُّ مِنْهُ ضعفا، قَالَ: والْحَدِيث الأوَّل أقرب، وَكَأن هَذَا من غلط الروَاة.
فَائِدَة: رُكَانة بِضَم الرَّاء الْمُهْملَة، وبالنون بعد الإلِف، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْوَقار بِمَعْنى السَّكِيْنَة، يُقَال مِنْهُ رُكن - بِالضَّمِّ - ركَانَة فَهُوَ ركينٌ، و(8/107)
«ركَانَة» هَذَا هُوَ ابْن عبد يزِيد بن هَاشم بن الْمطلب بن عبد منَاف بن قصي الْقرشِي المطلبي الْحِجَازِي، ثمَّ الْمَكِّيّ، ثمَّ الْمدنِي، الصَّحَابِيّ، وَهُوَ بِضَم الرَّاء وَتَخْفِيف الْكَاف، وبالنون، وَلَيْسَ فِي الْأَسْمَاء ركَانَة غَيره ... هَكَذَا قَالَه البُخَارِيّ، وَابْن أَبَى حَاتِم وغيرُهما، أَسْلَمَ يَوْم الْفَتْح، وَكَانَ من أَشد النَّاس، وَهُوَ الَّذِي صارعه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَصَرَعَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، تُوفِّي بِالْمَدِينَةِ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين، وَقيل: تُوفِّي فِي خلَافَة عُثْمَان.
فَائِدَة ثَانِيَة: اخْتُلِف فِي اسْم امْرَأَة ركَانَة، فروَى الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي «معرفَة الصَّحَابَة» : أَن اسْمهَا هشيمة، ثمَّ قَالَ: وَالْأَشْهر سهيمة، قَالَ: وَقيل سهيمة، وسفيحة، وَفَى «ابْن الْأَثِير» : الْجَزْم بِأَنَّهَا سهيمة المزنية ... انْتَهَى. زَاد غَيره: وَقيل: بنت عُمَيْر.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ طلَّقَ أَو أعْتَقَ وَاسْتَثْنَى فَلهُ ثنياه» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك إِمَام الْحَرَمَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِي «نهايته» : رَوَى أَبُو الْوَلِيد فِي «مجرده» عَن معدي كرب مَرْفُوعا فَذكره، وَهَذَا قد رَوَاهُ من الطَّرِيق الْمَذْكُور بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب «معرفَة الصَّحَابَة» إِلَّا أَنه قَالَ «ثُمَّ» بدل «الْوَاو» .
وَفَى «كَامِل ابْن عدي» و «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث ابْن عَبَّاس(8/108)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ لامْرَأَته: أَنْت طَالِق - إِن شَاءَ الله -، أَو غُلَامه: أَنْت حُرٌّ - إِن شَاءَ الله -، أَو عَلَيْهِ الْمَشْي إِلَى بَيت الله - إِن شَاءَ الله - فَلَا شَيْء عَلَيْهِ» .
وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، ثمَّ قَالَ ابْن عدي: هَذَا الحَدِيث إِسْنَاده مُنكر، لَا يرويهِ إِلَّا إسحاقُ بن أبي يَحْيَى الكعبي، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِمثلِهِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح، لَا يرويهِ بِهَذَا الْإِسْنَاد إِلَّا إِسْحَاق بن أبي يَحْيَى، وَقَالَ فِي «تَحْقِيقه» : لَا يروي هَذَا الحَدِيث إِلَّا إسحاقُ هَذَا. وَقَالَ فِيهِ ابْن عدي: إِنَّه حدَّث عَن الثِّقَات بِالْمَنَاكِيرِ. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا (يحل) الِاحْتِجَاج بِهِ وَلَا الرِّوَايَة عَنهُ إِلَّا عَلَى سَبِيل الِاعْتِبَار، زَاد فِي كِتَابه «الضُّعَفَاء» عَن الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف الحَدِيث.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (وَرُوِيَ) عَن الْجَارُود بن يزِيد، عَن بهز بن حَكِيم، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا فِي الطَّلَاق وَحده، وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف.
وَفِي حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا حلف الرجلُ فَقَالَ: إِن شَاءَ الله، فقد اسْتثْنى» .
وَفَى رِوَايَة: «مَنْ حلف عَلَى يمينٍ فَقَالَ: إِن شَاءَ الله، فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ فعل، وَإِن شَاءَ لم يفعل» .(8/109)
قلت: وَحَدِيث ابْن عمر هَذَا أخرجه أَصْحَاب «السّنَن» الْأَرْبَعَة، وَصَححهُ ابْن حبَان، وسيأتى وَاضحا فِي كتاب: الْأَيْمَان - إِن شَاءَ الله وَقدره -.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
قَالَ الرَّافِعِيّ: الِاسْتِثْنَاء مَعْهُود، وَفَى الْقُرْآن وَالسّنة مَوْجُود.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَهُوَ كثير فِي السّنة، كَحَدِيث: «لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب» . وغَيرِه.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَكَثِيرًا مَا وَقع فِي كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه كرر اللفظَ الواحِدَ.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَمن ذَلِك: الحَدِيث السالف: «أَيُّمَا امْرَأَة نكحتْ نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا، فنكاحها بَاطِل - وكرَّرَ ذَلِك ثَلَاثًا» .
وَمِنْهَا: «أَنه إِذا تكلَّم بكلمةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا، وَإِذا سلَّم سَلَّمَ ثَلَاثًا» .
أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث أنس.
وَمِنْهَا: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «واللَّهِ لأغزونَّ قُريْشًا - ثَلَاثًا» وَسَيَأْتِي فِي: الْأَيْمَان.(8/110)
وَفِي «صَحِيح مُسلم» عَن ابْن مَسْعُود: «كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَام - إِذا دَعَا: دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا» .
وَفَى «مُسْند أَحْمد» و «صَحِيح ابْن حبَان» عَنهُ: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يُعجبهُ أَن يَدْعُو ثَلَاثًا، ويستغفر ثَلَاثًا» .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
«أَن جَعْفَر بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أُعطي جناحين يطير بهما» .
هَذَا صَحِيح، (فَفِي) البُخَارِيّ عَن الشّعبِيّ: «أَن ابْن عمر كَانَ إِذا سلَّم عَلَى ابْنِ جَعْفَر قَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا ابْنَ ذِي الجناحين» .
جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غير «البُخَارِيّ» : «أَنه قُطِعَتْ يَدَاهُ (فى) غَزْوَة مُؤْتَة، فَجعل الله لَهُ جناحين يطير بهما» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس.
وَفِيه - أَعنِي: «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» - و «صَحِيح ابْن حبَان» و «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رأيتُ جعفرًا يطير فِي الْجنَّة مَعَ الْمَلَائِكَة» .(8/111)
هَذَا (لفظ) التِّرْمِذِيّ.
وَلَفظ الْحَاكِم وَابْن حبَان: «رَأَيْت جَعْفَر بن أبي طَالب مَلَكًا يطير مَعَ الْمَلَائِكَة» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث غَرِيب، وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح.
قلت: لَا، بل واهٍ؛ فَإِن فِي إِسْنَاد الْحَاكِم: الْمَدِينِيّ، وَهُوَ واهٍ.
وَفِيه أَيْضا - أَعنِي: «الْمُسْتَدْرك» - من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لمَّا أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَتْلُ جَعْفَر: دَاخله من ذَلِك، فَأَتَاهُ جبريلُ فَقَالَ: إِن الله جعل لجعفرٍ جناحين مسرَّجين بِالدَّمِ؛ يطيرُ بهما مَعَ الْمَلَائِكَة» .
قَالَ الْحَاكِم: لَهُ طرق عَن الْبَراء، قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «اختصاره للمستدرك» : طرقه كلهَا ضَعِيفَة عَن الْبَراء.
وَفِيه أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «دخلتُ الجنةَ فَإِذا جَعْفَر يطير مَعَ الْمَلَائِكَة» .
صَححهُ أَيْضا، وَلَا يَصح، فَفِي إِسْنَاده «سَلمَة بن وهرام» : وَقد ضَعَّفُوهُ.
قلت: ورُوي أَيْضا من حَدِيث عليّ بن أبي طَالب - كرَّم الله وَجهه -،(8/112)
وَهُوَ واهٍ، قَالَ ابْن عدي: هُوَ بَاطِل عَن الثَّوْريّ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث (عليّ بن عَلّي الْهِلَالِي) ، عَن أَبِيه [و] من حَدِيث أبي الْيُسْر: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «رَأَيْت جعفرًا ذَا جناحين مضرجًا بالدماء، وَزيد مُقَابِله، وَابْن رَوَاحَة مَعَهم كَأَنَّهُ معرض عَنْهُم، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَن ذَلِك: (إِن) جعفرًا حِين تقدم، فَرَأَى الْقَتْلَى لم يصرف وَجهه، وَزيد كَذَلِك، وَابْن رَوَاحَة صرف وَجهه» .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شروطهم» .
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فى: الْبيُوع، وَكَذَا حَدِيث: «صُومُوا لرُؤْيَته» .
سلف فِي: الصَّوْم.(8/113)
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب - بِحَمْد الله ومنِّه -.
وَأما آثاره: فستة عشر:
أَحدهَا: «أَن رجلا عَلَى عهد عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ لامْرَأَته: حَبْلُكِ عَلَى غاربك، (فَلَقِيَهُ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالَ: أنْشدك الله وبهذه البنية هَل أردْت بِقَوْلِك حبلك عَلَى غاربك الطَّلَاق) . فَقَالَ الرجل: أردْت الْفِرَاق؟ ، فَقَالَ: هُوَ مَا أردتَ» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مَالك، وَهُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» : أَنه بلغه «أَنه كُتِبَ إِلَى عمر بن الْخطاب من الْعرَاق: أَن رجلا قَالَ لامْرَأَته: حَبْلُك عَلَى غاربك، فَكتب عَمرُ إِلَى عَامله: أَن مُرْهُ فليوافيني فِي الْمَوْسِم، فَبَيْنَمَا عمرُ بن الْخطاب يطوف بِالْبَيْتِ إذْ لقِيه الرجلُ فسلَّم عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْت.؟ ، قَالَ: أَنا الذى أَمَرْتَ أَن يجلب عَلَيْك. (قَالَ) : أُنْشِدُكَ بربِّ هَذِه البِنْيَة؛ هَل (أردْت بِقَوْلِك) حبلك عَلَى غاربك الطلاقَ؟ ، فَقَالَ (الرجل) : لَو اسْتَحْلَفْتِنَي فِي غير هَذَا الْمَكَان مَا صَدَقْتُكَ؛ أردتُ الفراقَ، فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هُوَ مَا أردتَ» .
وَفِي رِوَايَة للبيهقي قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى عمر بن الْخطاب فَقَالَ: إِنَّه قَالَ لامْرَأَته: حبْلك عَلَى غاربك، فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: وافِ مَعنا الْمَوْسِم، فَأَتَاهُ الرجلُ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّة، فَقَالَ: أَتَرَى ذَلِك الأصلع يطوف بِالْبَيْتِ، اذهبْ إِلَيْهِ، فَسَلْهُ ثمَّ ارجعْ فَأَخْبرنِي بِمَا رَجَعَ(8/114)
إِلَيْك، قَالَ: فذهبتُ إِلَيْهِ، فَإِذا هُوَ عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فَقَالَ: مَنْ بَعثك إليَّ؟ ، فَقَالَ: أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: إِنَّه قَالَ لامْرَأَته: حبْلُك عَلَى غاربك، فَقَالَ: اسْتَقْبِلِِ الْبَيْت واحلف بِاللَّه مَا أردتَ طَلَاقا، فَقَالَ الرجل: وَأَنا أَحْلف باللَّه مَا أردتُ إِلَّا الطَّلَاق؟ فَقَالَ: بَانَتْ مِنْك امْرَأَتك» .
وَفَى رِوَايَة لَهُ أَيْضا: من حَدِيث سعيد بن [مَنْصُور، نَا هشيم، أَنا] مَنْصُور، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح: «أَن رجلا قَالَ لامْرَأَته: حبلك عَلَى غاربك - قَالَ ذَلِك مرَارًا - فَأَتَى عُمرَ بْنَ الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فاستحلفه بَين [الرُّكْن] وَالْمقَام مَا الذى أردتَ بِقَوْلِك؟ ، قَالَ: أردتُ الطلاقَ؛ ففرَّق بَينهمَا» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا استحلفه عَلَى إِرَادَة التَّأْكِيد بالتكرير دون الِاسْتِئْنَاف، وَكَأَنَّهُ أقرَّ فَقَالَ: أردتُ بِكُل مَرَّةٍ إِحْدَاث طلاقٍ ففرَّق بَينهمَا.
قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: وَذكر ابْن جريج، عَن عَطاء: «أَن عمر بن الْخطاب رُفِعَ إِلَيْهِ رجلٌ قَالَ لامْرَأَته: حَبْلُك عَلَى غاربك، فَقَالَ لعليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: انْظُرْ بَينهمَا» فَذكر مَعْنَى مَا روينَا، إِلَّا أَنه قَالَ: «فأمضاه عليٌّ ثَلَاثًا» .
قَالَ: وذُكِرَ عَن سعيد، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن عَن عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، مِثْلَهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا لَا يُخَالف رِوَايَة مَالك، وَكَأن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه جعلهَا وَاحِدَة كَمَا قَالَ فِي الْبَتَّةَ، وعليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه جعلهَا ثَلَاثًا، وَيحْتَمل أَنَّهُمَا جعلاه ثَلَاثًا لتكريره اللَّفْظ - فِي الْمَدْخُول بهَا - ثَلَاثًا، وإرادته بِكُل مرّة إِحْدَاث طلاقٍ، كَمَا قُلْنَا فِي رِوَايَة [مَنْصُور] عَن عَطاء.(8/115)
الْأَثر الثَّانِي: «أَن رجلا أَتَى ابْنَ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالَ: إِنِّي جعلتُ امْرَأَتي عليَّ حَرَامًا؟ ، قَالَ: كذبتَ؛ لَيست عليكَ بحرامٍ، ثمَّ تلى: (يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك) الْآيَة» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» بِهَذَا اللَّفْظ، وَزَاد فِي آخِره: «عَلَيْك أَغْلَظُ الْكَفَّارَة: عِتْقُ رَقَبَة» .
الْأَثر الثَّالِث إِلَى الْعَاشِر: قَالَ الرَّافِعِيّ: اخْتلفت الصَّحَابَة فِي لفظ «الْحَرَام» ، فَذهب أَبُو بكر، وَعَائِشَة إِلَى: أَنه يَمِين، وكفارته كَفَّارَة يَمِين.
وَذهب عمر إِلَى أَنه صَرِيح فِي (طَلْقَة رَجْعِيَّة وَعُثْمَان إِلَى أَنه ظِهَار وَعلي إِلَى أَنه صَرِيح فِي) الطلقات [الثَّلَاث] وَبِه قَالَ زيدٌ وَأَبُو هُرَيْرَة، وَذهب ابْن مَسْعُود إِلَى: أَنه لَيْسَ بِيَمِين، وَفِيه كَفَّارَة يَمِين.
وَهَذِه الْآثَار ذكرهَا البيهقيُّ فِي «سنَنه» .
مِنْهَا: أثر عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. ورُوي عَن ابْن مَسْعُود: أَنه قَالَ فِيهِ: «إِن نَوى يَمِينا فيمينٌ، وَإِن نَوى طَلَاقا فطلاقٌ، وَهُوَ مَا نَوى من ذَلِك» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَنهُ: «نِيَّته فِي الْحَرَام مَا نَوى، إِن لم يكن نَوى طَلَاقا فَهِيَ يمينٌ» .
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ عَنهُ: «إِن نَوى طَلَاقا فَهِيَ تَطْلِيقَة وَاحِدَة،(8/116)
وَهُوَ أملك بالرجعة، وَإِن لم يَنْوِ طَلَاقا فيمينٌ يُكَفِّرُهَا» .
وَهَذِه الرِّوَايَات الثَّلَاث مُخَالفَة لما نَقله الرَّافِعِيّ عَنهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: واختلفتِ الروايةُ عَن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي ذَلِك، فَرُوي عَنهُ أَنه قَالَ فِيهِ «هُوَ يَمِين يكفرهَا» .
ورُوي عَنهُ: «أَنه أَتَاهُ رجل قد [طلق] امْرَأَته [تَطْلِيقَتَيْنِ] فَقَالَ: أنْتِ عليَّ حرَام، فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لَا أَرُدُّهَا إِلَيْك» .
قَالَ: وروينا عَن عليّ وزيدٍ بن ثَابت: «أَن فِي البَرِيَّة والبتة وَالْحرَام أَنَّهَا ثلاثٌ ثلاثٌ» .
قَالَ: وَرَوَى مطرف عَن عَامر - هُوَ: الشّعبِيّ -: «فى الرجل يَجْعَل امْرَأَته عَلَيْهِ حَرَامًا، قَالَ: يَقُولُونَ: إِن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (جعلهَا ثَلَاثًا قَالَ عَامر: مَا قَالَ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) هَذَا إِنَّمَا قَالَ: لَا أُحِلُّهَا وَلَا أُحرِّمُهَا» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالرِّوَايَة الْمَاضِيَة عَن عَلّي: «أَنَّهَا ثَلَاث إِذا نَوى» . إِلَّا أَنَّهَا رِوَايَة ضَعِيفَة.
الْأَثر الْحَادِي عشر: عَن (قدامَة) بن إِبْرَاهِيم: «أَن رجلا عَلَى عَهْدِ عمر بن الْخطاب تدلىَّ (بِحَبْلٍ) ليشتار عسلًا، فأقبلتْ امرأتُه فجلستْ عَلَى الحَبْلِ وَقَالَت: تُطَلِّقنِي ثَلَاثًا وَإِلَّا قطعتُ الْحَبل، فذكَّرَها (الله) وَالْإِسْلَام، فأبتْ، فَطلقهَا ثَلَاثًا، ثمَّ خرج إِلَى عمر، فَذكر ذَلِك(8/117)
لَهُ، فَقَالَ: ارجعْ إِلَى أهلك؛ فَلَيْسَ بطلاقٍ» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الْملك بن قدامَة [بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد] بن حَاطِب الجُمَحِي، عَن أَبِيه: «أَن رجلا تدلىَّ» فَذكره. ثمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَن عُمر. قَالَ: ورُوي: «أَن عمر أَبَانهَا مِنْهُ» . وَالرِّوَايَة الأولَى أشبه.
قلت: مَعَ انقطاعها، فَإِن قدامَة لم يدْرك عُمَرَ، إِنَّمَا يروي، عَن ابْنه عبد الله بن عمر، وَسَهل بن سعد، وَغَيرهمَا من الْمُتَأَخِّرين. لَا جرم قَالَ الْبَيْهَقِيّ مَرَّةً: إِن رِوَايَة: «أَبَانَهَا مِنْهُ» خطأ، والْحَدِيث مُنْقَطع.
قلت: وَأما حَدِيث صَفْوَان بن (عمرَان) : «أَن رجلا كَانَ نَائِما مَعَ امْرَأَته، فقامتْ وَأخذت سكينًا وجلستْ عَلَى صَدره، ووضعتْ السكين عَلَى حَلْقِهِ وَقَالَت: طلقْنِي ثَلَاثًا، وَإِلَّا ذبَحْتُك، فطلَّقَهَا، فَذكر ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: لَا قيلولة فِي الطَّلَاق» .
فضعيفٌ، ذكره ابْن أَبَى حَاتِم فِي «علله» عَن أبي زُرْعة: أَنه رُوي من حَدِيث صَفْوَان هَذَا، ثمَّ قَالَ أَبُو زرْعَة: هَذَا حَدِيث واهٍ جدا. وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابع عَلَيْهِ صَفْوَان، ومداره عَلَيْهِ.(8/118)
فَائِدَة: قَوْله: (يشتار) : هُوَ بالشين الْمُعْجَمَة وبالراء الْمُهْملَة، يُقَال: شِرْتُ الْعَسَل أشور، عَلَى وزن: قلت أَقُول، واشْتَرْتُ عَلَى وزن: اخْتَرْت، إِذا جَنَيْتَه من مَكَان النَّحْل فِي الْجبَال أَو غَيرهَا، وأشرت لُغَة فِيهِ، ذكره الْجَوْهَرِي فِي الْكَلَام عَلَى: «شور» .
الْأَثر الثَّانِي عشر: «أَن عمر (بن الْخطاب) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سُئِلَ عَمَّنْ طلَّق طَلْقَتَيْنِ، فانقضتْ عدتهَا، فتزوَّجَها غيرُه وفارقها، ثمَّ تزوَّجها الأَوَّلُ، فَقَالَ: (هِيَ) عِنْده عَلَى مَا بَقِي من الطَّلَاق» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث: الْحميدِي، ثَنَا سُفْيَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حميدِ بْنِ عبد الرَّحْمَن، وعبيدِ الله - هُوَ ابْن عبد الله بن عتبَة -، وسليمانَ بْنِ يسَار، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «سَأَلت عُمرَ عَن رجلٍ من أهل الْبَحْرين طلق امْرَأَته تَطْلِيقَة [أَو اثْنَتَيْنِ] ، فنكحتْ زوجا، ثمَّ مَاتَ عَنْهَا أَو طلَّقَهَا، فرجعتْ إِلَى الزوْج الأول، عَلَى كم هِيَ عِنْده؟ ، قَالَ: هِيَ عِنْده عَلَى مَا بَقِي» .
قَالَ الْحميدِي: وَكَانَ سُفْيَان قيل لَهُ: فيهم سعيد بن المسيَّب؟ ، فَقَالَ: ثَنَا الزُّهْرِيّ. هَكَذَا، لم [يزدنا] عَلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، فلمَّا فرغ مِنْهُ قَالَ: لَا أحفظ فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ سعيدًا، وَلَكِن يَحْيَى بن سعيد حدَّثْنَاه،(8/119)
عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو ذَلِك، (وَكَانَ) حَسبك بِهِ.
الْأَثر الثَّالِث عشر: «أَن نفيعًا - وَكَانَ عَبْدًا سَأَلَ عُثْمَان وزيدًا، وَقَالَ: طلقتُ (امْرَأَة لي) حرَّة طَلْقَتَيْنِ؟ ، فَقَالَا: حَرُمَتْ عَلَيْك» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك عَنْهُمَا، وَهُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» أَيْضا كَذَلِك.
الْأَثر الرَّابِع عشر: «أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف طلَّق امْرَأَته الكلبيةَ فِي مرض مَوته، فورَّثها عثمانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق (فِي «مُصَنفه» ) عَن ابْن جريج، أَخْبرنِي ابْن أبي مليكَة «أَنه سَأَلَ عَبْدَ الله بْنَ الزبير [عَن الرجل يُطلق الْمَرْأَة فيبتها ثمَّ يَمُوت وَهِي فِي عدتهَا] ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزبير: «طلَّق عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بِنْتَ الْأَصْبَغ الْكَلْبِيَّة، فَبَتَّهَا، ثمَّ مَاتَ، فورَّثها عثمانُ فِي عدتهَا» .
ورَوَى حَمَّاد بن سَلمَة، ومِنْ طَرِيقه رَوَاهُ ابْنُ حزم، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه: «أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف طلَّق امْرَأَته ثَلَاثًا فِي مَرضه، فَقَالَ عُثْمَان: لَئِنْ مِتَّ لأُوَرِّثُهَا مِنْكَ» .
وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن ابْن شهَاب، عَن طَلْحَة بن عبد(8/120)
الله بن عَوْف - قَالَ: وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بذلك -، وَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: «أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف طلَّق امْرَأَته الْبَتَّةَ وَهُوَ مَرِيض، فورَّثها عُثْمَان بن (عَفَّان) مِنْهُ بعد انْقِضَاء عدتهَا» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَكَانَ الطَّلَاق فِي هَذِه الْقِصَّة بسؤالها.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، فقد (قَالَ) مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» : أَنه سمع (ربيعَة) ابْن أبي عبد الرَّحْمَن يَقُول: بَلغنِي «أَن (امْرَأَة) عبد الرَّحْمَن بن عَوْف سَأَلته أَن يطلِّقَهَا، فَقَالَ: إِذا حِضْتِ ثمَّ طهرتِ فآذنيني، فَلم تَحضْ حَتَّى مرض عبدُ الرَّحْمَن بن عَوْف، فلمَّا طهرتْ آذنَتْهُ، فطلَّقَهَا الْبَتَّةَ، أَو تَطْلِيقَة لم يكن بَقِي لَهُ عَلَيْهَا من الطَّلَاق غَيْرَها. (وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف يَوْمئِذٍ مَرِيض. فَورثَهَا عُثْمَان بن عَفَّان مِنْهُ بعد انْقِضَاء عدتهَا» ) .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي بِدُونِهِ، فروَى عَن ابْن أبي روَّاد وَمُسلم بن خَالِد، عَن ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي ابْن أَبَى مليكَة «أَنه سَأَلَ ابْنَ الزبير عَن الرجل يُطلق الْمَرْأَة فيبتها، ثمَّ يَمُوت وهى فِي عدتهَا؟ ، فَقَالَ عبد الله بن الزبير: طلَّق عبدُ الرَّحْمَن بْنُ عَوْف تُمَاضِرَ بِنْتَ الْأَصْبَغ الْكَلْبِيَّة، فَبَتَّهَا، ثمَّ مَاتَ، وَهِي فِي عدتهَا، فورَّثها عثمانُ. قَالَ ابْن الزبير: وَأما أَنا: فَلَا أرَى أَن (تَرث) مبتوتة» .(8/121)
قَالَ الشَّافِعِي فِيمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ عَن الرّبيع عَنهُ حَدِيث ابْنِ الزبير: مُتَّصِل، وَهُوَ يَقُول: «ورَّثها عثمانُ فِي الْعدة» .
وَحَدِيث ابْن شهَاب: مَقْطُوع.
قلت: لم يظْهر فِي وَجهه انقطاعُهُ، وَقد نقل عَنهُ البيهقيُّ إِثْر هَذَا، أَنه قَالَ فِي «الْإِمْلَاء» : «ورَّثَ عثمانُ بن عَفَّان امْرَأَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف - وَقد طَلقهَا ثَلَاثًا - بَعْدَ انْقِضَاء الْعدة» .
قَالَ: وَهُوَ فِيمَا [يخيل] إليَّ أثْبَتُ الْحَدِيثين، وَذكر الْبَيْهَقِيّ مَا يُؤَكد رِوَايَة مَالك بِإِسْنَادِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد مُتَّصِل، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «استذكاره» : اخْتلف عَن عُثْمَان: هَل ورَّث زوجةَ عَبْدِ الرَّحْمَن فِي الْعدة؟ أَو بعْدهَا؟ ، وَأَصَح الرِّوَايَات عَنهُ: أَنه ورَّثها بعد انْقِضَاء الْعدة.
تَنْبِيَهات:
أَحدهَا: وَقع فِي رِوَايَة مَالك السالفة: «أَن عبد الرَّحْمَن طَلقهَا الْبَتَّةَ» .
وَوَقع فِي رِوَايَته الْأُخْرَى: «أَنه طَلقهَا الْبَتَّةَ، أَو تَطْلِيقَة لم يكن بَقِي لَهُ عَلَيْهَا من الطَّلَاق غَيرهَا» .
وَفِي رِوَايَة الشَّافِعِي: «أَنه بَتَّ طلاقَهَا» .
وَذكر الْبَيْهَقِيّ من هَذِه الطّرق، وَنقل عَن الشَّافِعِي: «أَنه طَلقهَا ثَلَاثًا» .(8/122)
وَفَى «تَارِيخ ابْن عَسَاكِر» : « (أَنَّهَا كَانَت آخر طلقاتها الثَّلَاث وَذكر) أَنه كَانَ لَهَا سوء خلق، فَطلب الطَّلَاق» .
وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ (أَنه - يَعْنِي: عُثْمَان - ورَّثَ امرأةَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْكَلْبِيَّة، وَقد طَلقهَا وَهُوَ مَرِيض آخِرٍ ثلاثَ تَطْلِيقَات) .
التَّنْبِيه الثَّانِي: زَوْجَة عبد الرَّحْمَن اسْمهَا: تُماضِر، كَمَا سلف فِي رِوَايَة الشَّافِعِي، وَهِي بِضَم التَّاء ثمَّ ألف ثمَّ ضاد مُعْجمَة مَكْسُورَة ثمَّ رَاء مُهْملَة، ووالدها الأصْبغ، بِفَتْح الْهمزَة ثمَّ صَاد مُهْملَة سَاكِنة، ثمَّ بَاء مُوَحدَة، ثمَّ غين مُعْجمَة، ابْن عَمرو بن ثَعْلَبَة بن حصن بن كلب، وَأمّهَا: جوَيْرِية بنت وبرة بن رُومَان.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَهِي أوَّل كلبيَّة نَكَحَهَا قريشيٌّ.
التَّنْبِيه الثَّالِث: قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَابْن دَاوُد - مِنَ الشَّافِعِيَّة -: صُولِحَتْ زَوْجَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْمَذْكُورَة من ربع الثُّمُن عَلَى ثَمَانِينَ ألْف دَنَانِير، وَقيل: دراهمٍ.
التَّنْبِيه الرَّابِع: هَذَا الْأَثر اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ تبعا للأصحاب لِلْقَوْلِ الْقَدِيم، عَلَى: أَن المبتوتة فِي مرض (الْمَوْت) تَرِثُ.
وَلَا حُجَّة فِيهِ؛ لِأَن ابْن الزبير خَالف عُثْمَان فِي ذَلِك، كَمَا سلف، وَإِذا اختلفَتِ الصحابةُ لم يكن قَول بَعضهم حُجَّة. وَهَذَا هُوَ جَوَاب القَوْل الصَّحِيح الْجَدِيد عَن فِعْل عُثْمَان.
الْأَثر الْخَامِس عشر: « (عَن) ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَنه سُئِلَ عَن رجلٍ(8/123)
قَالَ لامْرَأَته: أَنْت طَالِق إِلَى سَنَةٍ، فَقَالَ: هِيَ امْرَأَته يسْتَمْتع بهَا إِلَى سَنَةٍ» .
وَهَذَا الْأَثر، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم «فِي رجل قَالَ لامْرَأَته: هِيَ طَالِق إِلَى سنة، قَالَ: هِيَ امْرَأَته يسْتَمْتع مِنْهَا إِلَى سنة» . قَالَ: ورُوي مِثْلُهُ عَن ابْن عَبَّاس.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ: «أَنه كَانَ يرَى الِاسْتِثْنَاء وَلَو بَعْدَ سَنَةٍ» . وَرَوَاهُ هُوَ أَيْضا والبيهقيُّ عَنهُ: أَنه قَالَ: «إِذا حلف الرجل عَلَى يمينٍ، فَلهُ أَن يَسْتَثْنِي وَلَو (إِلَى) سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نزلتْ هَذِه الْآيَة فِي هَذَا: (وَاذْكُر رَبك إِذا نسيت) ، قَالَ: إِذا ذَكَرَ اسْتثْنى» .
قَالَ عَلّي بن مسْهر: وَكَانَ الْأَعْمَش يَأْخُذ بِهَذَا. قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: بقول ابْنِ عُمر نَأْخُذ للأمان، حَيْثُ قَالَ: كل اسْتثِْنَاء مَوْصُول، فَلَا حنث عَلَى صَاحبه، وإنْ كَانَ غير مَوْصُول فَهُوَ حانثٌ.
قَالَ: وَيحْتَمل قَول ابْن عَبَّاس أَن يكون المُرَاد بِهِ أَنه كَانَ مُسْتَعْملا لِلْآيَةِ، وَإِن ذكر الِاسْتِثْنَاء بعد حِين، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: (وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله) لَا فِيمَا يكون يَمِينا.(8/124)
قلت: وَهَذَا مَا قَرَّرَهُ القرافيُّ (فى) «الْأُصُول» فِي تَعْلِيقه عَلَى الْحِنْث، حَيْثُ قَالَ: الْمَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس إِنَّمَا هُوَ فِي اسْتثِْنَاء الْمَشِيئَة، لقَوْله تَعَالَى: (وَاذْكُر رَبك إِذا نسيت) (فَإِنَّهُ قَالَ: إِن سَبَب نُزُولهَا ترك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الِاسْتِثْنَاء بِالْمَشِيئَةِ وتقديرها كَمَا قَالَ ابْن العصري فِي التَّفْسِير (وَاذْكُر رَبك إِذا نسيت) أَي إِذا شِئْت الِاسْتِثْنَاء) : أَي إِذا تذكرت وَلَو بَعْدَ سَنَةٍ فَقُلْ: إِن شَاءَ الله؛ فَإِنَّهُ يُسقط عَنْك الْمُؤَاخَذَة فِي ترك الِاسْتِثْنَاء، وَقدره الْعِرَاقِيّ بِأَن: الذكْر فِي زمن النسْيَان مُحَال، فدلَّ عَلَى أَنه أَرَادَ طرف بِمَنْع النسْيَان فِي جُزْء مِنْهُ، والذكْر فِي جُزْء آخر، وَلم يحدده الشَّرْع، فَجَاز عَلَى التَّرَاخِي.
الْأَثر السَّادِس عشر: عَن زيد بن ثَابت أَنه لَا يَقع الطَّلَاق فِي الْمَسْأَلَة السريجية.
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني مَنْ خَرَّجه.(8/125)
كتاب الرّجْعَة(8/127)
كتاب الرّجْعَة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا. أما الْأَحَادِيث فَثَلَاثَة:
أَحدهَا
قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي قصَّة طَلَاق ابْن عمر: «مُرْهُ فليراجِعْهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف بَيَانه فِي كتاب الطَّلَاق بطولِهِ.
ثَانِيهَا
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لرُكَانَةَ: ارْدُدْها» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه أَيْضا فى: الطَّلَاق، لَكِن (لَفظه) «ارْتَجِعْهَا» .
قَالَ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» : وَذَلِكَ عندنَا فِي الْعدة، وَالله أعلم.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يُجْمع أحدكُم فِي بطن أمه أَرْبَعُونَ يَوْمًا نُطْفَة، وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا علقَة، وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا مُضْغَة، ثمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرّوح» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مُتَّفق عَلَى صِحَّته وثبوته وَعظم موقعه، وَأَنه أحد أَرْكَان الْإِسْلَام.(8/129)
أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ الصَّادِق المصدوق: «إِن أحدكُم يُجْمَعُ خلقه فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ يكون علقَة مِثْلَ ذَلِك، ثمَّ يكون مُضْغَة مِثْل ذَلِك، ثمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ، فينفخ فِيهِ الرّوح، وَيُؤمر بِأَرْبَع كَلِمَات، بكتب أَجله، وَعَمله، ورزقه، وشقي أم سعيد، فوالذي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة، حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فَيعْمل بِعَمَل أهل النَّار فيدخلها، وَإِن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل النَّار، حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فَيعْمل بِعَمَل أهل الْجنَّة فيدخلها» .
وَذكر الرافعيُّ فِي أَوَائِل الْبَاب أَن: «رجعتك» و «أرجعتك» و «ارتجعتك» سَوَاء صَرِيح، لوُرُود الْأَخْبَار والْآثَار بهَا، وَقد سلف لَك حَدِيث ابْن عمر: (مُرْهُ فليراجِعْها) .
وحديثُ ركَانَة: (ارْتَجِعْهَا) .
هَذَا آخر مَا ذكر فِيهِ من الْأَحَادِيث.
وَأما الْآثَار فاثنان:
أَحدهمَا: «أَن عمرَان بن الْحصين سُئِلَ عَمَّن رَاجع (امْرَأَته) وَلم يُشْهِدْ، فَقَالَ: رَاجَعَ فِي غير سُنَّة، فَيُشْهِد الْآن» .
وَهَذَا الْأَثر حسن، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَالْبَيْهَقِيّ،(8/130)
ولَفْظُ الْبَيْهَقِيّ قريبٌ من لفظ الرافعيِّ، فَإِن لَفظه: عَن ابْن سِيرِين: «أَن عمرَان بن حُصَيْن سُئِلَ عَن رجلٍ طلق امْرَأَته وَلم يُشْهِدْ، وراجع وَلم يُشْهِدْ، قَالَ عمرَان: طَلَّقَ فِي غير عدَّة، ورَاجَعَ فِي غير سُنَّة، فلِيُشْهِد الْآن» .
وَلَفظ أبي دَاوُد: «أَن عمرَان سُئِلَ عَن الرجل يُطلق امْرَأَته، ثمَّ يَقع بهَا، وَلم يُشْهِدْ عَلَى طَلاقهَا وَلَا عَلَى رَجعتهَا، (فَقَالَ) : طَلَّقْتَ لغير سُنَّةٍ، وراجعت لغير سنة، أشهد عَلَى طَلاقهَا وَعَلَى رَجعتهَا، وَلَا تَعُدْ» . وَلَفظ ابْن مَاجَه كَلَفْظِ أبي دَاوُد، إِلَّا أَنه لم يَقُلْ «وَلَا تَعُدْ» .
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» : « (وليْستَغْفر) اللَّه» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «اتَّقِ (اللَّهَ وَأشْهد) » .
الْأَثر الثانى: عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه أُتي بِامْرَأَة وَلَدَتْ لسِتَّة أشهر، فَشَاور الْقَوْم فِي رَجمهَا، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: أنزل الله: (وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا) ، (وَأنزل (وفصاله فِي عَاميْنِ) وَإِذا كَانَ الْحمل والفصال ثَلَاثُونَ شهرا) والفصال فِي عَاميْنِ، كَانَ أقل الْحمل سِتَّة أشهر» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» (مفصلا) ، أَنه بلغه:(8/131)
«أَن عُثْمَان بن عَفَّان أُتي بِامْرَأَة قد ولدت فِي سِتَّة أشهر، فَأمر بهَا أَن ترْجم، فَقَالَ عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لَيْسَ ذَلِك عَلَيْهَا، إِن الله تبَارك وَتَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه: (وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا) ، وَقَالَ: (والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة) ، فالحمل يكون سِتَّة أشهر، فَلَا رجم عَلَيْهَا، فَبَعَثَ عثمانُ فِي أَثَرهَا، فَوَجَدَهَا قد رُجِمَتْ» .
هَكَذَا فِي «الْمُوَطَّأ» أَن المناظِرَ فِي ذَلِك عليٌّ لَا ابْنُ عَبَّاس، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: فَرجع عُثْمَان ومَنْ حضر إِلَى قَوْله: فَصَارَ إِجْمَاعًا، وَرَوَاهُ ابْن وهب، عَن يُونُس، عَن ابْن شهَاب قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو عبيد مولَى عبد الرَّحْمَن بن أَزْهَر: (أَن عُثْمَان بن عَفَّان خَرَجَ يَوْمًا فصلىَّ الصَّلَاة، ثمَّ جلس عَلَى الْمِنْبَر، فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثمَّ قَالَ: أما بعد: فَإِن هَاهُنَا امْرَأَة إخالها قد جَاءَت بشيءٍ، ولدتْ فِي سِتَّة أشهر، فَمَا ترَوْنَ فِيهَا؟ ، فناداه ابْنُ عَبَّاس فَقَالَ: إِن الله قَالَ: (وَوَصينَا الإنسانَ (إِلَى قَوْله: (ثَلَاثُونَ شهرا) ، وَقَالَ: (والوالدات يُرْضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين» ) الآيةَ، فَأَقل الْحمل سِتَّة أشهر، فَتَركهَا عُثْمَان، وَلم يرجمها» .
وَهَذَا مُطَابق لرِوَايَة الرَّافِعِيّ، إسنادها صَحِيح، وَفِي «الاستذكار» لِابْنِ عبد الْبر: «أَن ابْن عَبَّاس أنكر عَلَى عمر» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم عَلَى نمط آخر، عَن الْأَصَم، حَدثنَا يَحْيَى بن أبي(8/132)
طَالب، نَا أَبُو بدر (شُجَاع) بن الْوَلِيد، ثَنَا سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن دَاوُد بن [أبي] القصاب، عَن أبي حَرْب بن أبي الْأسود الديلِي: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أُتي بِامْرَأَة [قد ولدتْ] لسِتَّة أشهر، فَهَمَّ برجمها، فَبلغ ذَلِك عليًَّا، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهَا رجم، فَبلغ ذَلِك عُمَرَ، فَأرْسل إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: (والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين لمَنْ أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة) ، وَقَالَ: (وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا) ، فستة أشهر: حمله، وحولين: تمامٌ، لَا حدَّ عَلَيْهَا - أَو قَالَ: لَا رجم عَلَيْهَا - قَالَ: فخلى عَنْهَا: (ثمَّ ولدتْ» .
وَكَذَا رَوَاهُ الحسنُ عَن عُمَرَ موصلًا.
كَمَا رَوَاهُ أَبُو الْأسود (و) فِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «إِذا حملتْهُ تسعةَ أشهر أرضعَتْهُ وَاحِدًا وَعشْرين شهرا، وَإِذا حملَتْه سِتَّة أشهر: أرضعتْه أَرْبَعَة وَعشْرين شهرا، ثمَّ تلى: (وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا) » .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.(8/133)
كتاب الْإِيلَاء(8/135)
كتاب الْإِيلَاء
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حديثين وأثرًا وَاحِدًا.
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ حلف عَلَى يمينٍ فَرَأَى غَيْرَها خيرا مِنْهَا، فليأت الذى هُوَ خير، وليكفِّرْ عَن يَمِينه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة.
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث عدي بن حَاتِم وَأبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وستكون لنا عودة إِلَيْهِ فِي كتاب: الْأَيْمَان - إِن شَاءَ الله -. وَهَذَا الحَدِيث ذكره الرافعيُّ دَلِيلا لما رَوَاهُ (عَن) أَحْمد بن حَنْبَل: أَنه إِذا آلَى ثمَّ فَاء بالوطىء: أَنه تلْزمهُ كَفَّارَة يَمِين؛ لِأَنَّهُ قد حلف بِاللَّه تَعَالَى، وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فَذكره.
وَفِي «التِّرْمِذِيّ» حَدِيث فِي غير الْمَسْأَلَة، رَوَاهُ من حَدِيث عَائِشَة قَالَت: «آلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من نِسَائِهِ، وحرَّم، فَجعل الحرامَ حَلَالا،(8/137)
وَجعل فِي الْيَمين الْكَفَّارَة» .
ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: ومرسلًا أشبه.
الحَدِيث الثَّانِي
رُوي: أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الطَّلَاق لِمَنْ أَخذ بالساق» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من (طَرِيقين) .
أَحدهمَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله: [إِن] سَيِّدي زَوجنِي (أمة) ، وَهُوَ يُرِيد أَن يفرق بيني وَبَينهَا، قَالَ: فَصَعدَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمِنْبَر فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس مَا بَال أحدكُم يزوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثمَّ يُرِيد أَن يفرق بَينهمَا، إِنَّمَا الطَّلَاق لمَنْ أَخذ بالساق» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وعِلَّتُه: ابْن لَهِيعَة.
الطَّرِيق الثَّانِي: (من) حَدِيث عصمَة بن مَالك قَالَ: «جَاءَ مَمْلُوك إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن مولَايَ زوَّجني ... » الحديثَ.
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وعلَّتُه الْفضل بن الْمُخْتَار، قَالَ(8/138)
ابْن عدي: أَحَادِيثه مُنكرَة، وَعَامة أَحَادِيثه لَا يُتابع عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مَجْهُول، وَأَحَادِيثه مُنكرَة، يحدث بالأباطيل. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: مُنكر الحَدِيث جدًّا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح.
قلت: وَلِحَدِيث ابْن عَبَّاس السالف طَرِيق آخر، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث: يَحْيَى بن عبد الحميد الْحمانِي، عَن يَحْيَى بن يعْلى، عَن مُوسَى بن أَيُّوب، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن العَبْد يزوِّجه سَيِّدُهُ، بِيَدِ مَنْ الطَّلَاق؟ قَالَ: بِيَدِ مَنْ أَخذ بالساق» .
الْحمانِي مَعَ حفظه وتأليفه للمسند: مِمَّن اخْتُلِفَ فِيهِ، وَثَّقَهُ ابْن معِين وغيرُه، وكذَّبه أَحْمد وَغَيره، والراوي عَنهُ إِن كَانَ التَّيْمِيّ فَثِقَة، وَإِن كَانَ ابْن الْمُعَلَّى (الْقَطوَانِي) فَلَيْسَ بِشَيْء.
وَأما الْأَثر: فَقَالَ: (الرَّافِعِيّ) رووا: «أَن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يطوف لَيْلًا، فَسمع امْرَأَة تَقول فِي طرف بَيتهَا:
أَلا طَال هَذَا الليلُ وازور جَانِبه
وأَرَّقْنِي ألاَّ حليل أُلاعبه
فواللَّهِ لَوْلَا الله لَا شَيْء (فَوْقه)
لزعزع من هَذَا السرير جوانبه
مَخَافَة رَبِّي وَالْحيَاء يلمني
وَأكْرم بَعْلِي أَن تنَال مراكبه(8/139)
فبحث عمرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) عَن حَالهَا، فأخبِرَ أَن زَوجهَا غَابَ فِيمَن غزا، فَسَأَلَ عمرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه النساءَ: كم تصبر الْمَرْأَة عَن زَوجهَا؟ تصبرُ شهرا؟ فَقُلْنَ: نعم، [فَقَالَ: تصبر شَهْرَيْن؟ ، فَقُلْنَ: نعم] ، فَقَالَ: فَثَلَاثَة أشهر؟ فَقُلْنَ: نعم، ويَقِلُّ صبرُها، قَالَ: أَرْبَعَة أشهر؟ ، فَقُلْنَ: نعم، (وَينفذ) صَبْرُها فَكتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد: فِي رجالٍ غَابُوا عَن نِسَائِهِم أَرْبَعَة أشهر أَن يردهم» .
ويُرْوى: «أَنه سَأَلَ حفصةَ عَن ذَلِك، فأجابت بذلك» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِنَحْوِهِ فِي أَوَائِل كتاب: السِّيَر، من رِوَايَة عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر قَالَ: «خرج عمرُ من اللَّيْل فَسمع امْرَأَة تَقول:
تطاول هَذَا اللَّيْل (واسودَّ) جَانِبه
وأَرَّقْنِى أَلا حبيب أُلاَعِبُه
فوَاللَّه لَوْلَا الله أَنِّي أراقبه
لتحرك من هَذَا السرير (جوانبه)
فَقَالَ عُمرُ بن الْخطاب لحفصة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: كم أَكثر مَا تصبر المرأةُ عَن زَوجهَا؟ فَقَالَت حَفْصَة: سِتَّة أَو أَرْبَعَة أشهر، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَحْبِسُ (الْجَيْش) أكْثَرَ مِنْ هَذَا» .(8/140)
وَرَوَاهُ ابْن وهب، عَن مَالك، عَن ابْن دينارٍ بِإِسْقَاط ابْن عمر، وَقَالَ فِي آخِرِه: الشَّك (فِي) أَرْبَعَة أَو سِتَّة، لَا أَدْرِي. وَحَكَى ابْنُ الرّفْعَة فِي «مطلبه» : أَن الَّذِي سَأَلَهَا عمر: مَيْمُونَة.
فَائِدَة: الازورار: التحرك، وَكَذَا قَوْلهَا: لزعزع، وَقد صُرح بِهَذَا فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ.
وَقَالَ صَاحب «المُسْتَعْذَب عَلَى المهذَّب» : ازور جَانِبه بعد (صباحه) (يُقَال) بِئْر (زوراء) أَي: (بعيدَة) الْغَوْر والزورة الْبَعِيدَة، وَهُوَ من الازورار.
والأرق: السَّهر، وَالْمرَاد بالسرير: نَفْسها، شبهت نَفسهَا بالسرير من حَيْثُ إِنَّهَا فِرَاشٌ للرجل، ومركوب كسرير الْخشب الذى يجلس عَلَيْهِ، و (الحَليل) فِي رِوَايَة الرَّافِعِيّ تَبَعًا لصَاحب «المهذَّب» اشتقاقه إِمَّا من: الْحل ضد الْحَرَام، وَإِمَّا من: حُلولهما عَلَى الْفراش. قَالَه صَاحب «المستعذب عَلَى المهذَّب» ، وكنتُ أحفظه بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، إِلَى أَن عثرتُ عَلَى هَذَا الْكتاب.(8/141)
كتاب الظِّهَار(8/143)
كتاب [2] الظِّهَار
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَلَاثَة أَحَادِيث، وأثرًا وَاحِدًا.
الحَدِيث الأول
«أَن أَوْس بن الصَّامِت ظَاهَرَ من زَوجته خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة - عَلَى اختلافٍ فِي اسْمهَا ونسبها - فأتتْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مشتكيةً مِنْهُ، فَأنْزل الله - تَعَالَى - فيهمَا: (قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا وتشتكي إِلَى الله) إِلَى آخر الْآيَات» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «الْحَمد لله الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَات، لقد جاءتِ المجادِلة (تَشْكُو) إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَأَنا فِي نَاحيَة الْبَيْت مَا أسمع مَا تَقول، فَأنْزل الله عَزَّ وجَلَّ: (قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا وتشتكي إِلَى الله) » .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة أَيْضا قَالَت: «تبَارك الَّذِي وَسِعَ سَمعه كلَّ شيءٍ؛ (إِنِّي) لأسْمع كَلَام خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة(8/145)
ويَخْفى عليَّ بعضه، وَهِي تَشْتَكِي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زَوْجَهَا، وَهِي تَقول: يَا رَسُول الله، أكل شَبَابِي ونثرتُ لَهُ بَطْني، حَتَّى إِذا كَبُرَ سني وانقطعت لَهُ وَلَدي ظَاهَرَ منِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك. قَالَت عَائِشَة: فَمَا برحتْ حَتَّى نزل جبريلُ بهؤلاء (الْآيَات) : (قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا (الْآيَات. قَالَ: (وزوجُهَا) (أَوْس بن أَوْس) بْنُ الصَّامِت» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه أَيْضا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة: «أَن جميلَة كَانَت امْرَأَة أَوْس بن الصَّامِت، وَكَانَ أَوْس [امْرأ] بِهِ لَمَمٌ، فَإِذا اشْتَدَّ بِهِ لمَمُهُ: ظَاهر من امْرَأَته، فَأنْزل الله - تَعَالَى - فِيهِ كَفَّارَة الظِّهَار» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حديثٌ صحيحٌ عَلَى شَرط مُسلم، ذَكَرَ ذَلِكَ كلَّه فِي كتاب: التَّفْسِير من «مُسْتَدْركه» . وَأخرج أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» هَذِه الرِّوَايَة.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث (خُوَيْلَةَ) بنت مَالك بن ثَعْلَبَة قَالَت:(8/146)
«ظاهَرَ منِّي زَوجي أوسْ بْنُ الصَّامِت، فجئتُ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَشْكُو إِلَيْهِ، وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يجادلني فِيهِ وَيَقُول: اتَّقِي اللهَ، فَإِنَّهُ ابْن عمك، فَمَا (برحتُ) حَتَّى نزل الْقُرْآن: (قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا (إِلَى الْفَرْض، قَالَ: يعتقُ رَقَبَة. قلتُ: لَا يَجِدُ. قَالَ: يَصُومُ شَهْرَيْن مُتَتَابعين. قَالَت: يَا رَسُول الله، (إِنَّه) شيخٌ كَبِير، مَا بِهِ من صيامٍ. قَالَ: قلت: يطعم سِتِّينَ مِسْكينا. قلتُ: مَا عِنْده شَيْء يتصدَّق بِهِ (قَالَت) : فَأَتَى (ساعتئذ) (بعرق) من تمرٍ، قلت: يَا رَسُول الله، (وَإِنِّي) أُعينه (بعرق) آخَرٍ، قَالَ: قد (أَحْسَنت) اذهبي فأطعمي بهَا عَنهُ سِتِّينَ مِسْكينا، وارجعي إِلَى ابْن عمك» .
(قَالَ) : والعرق سُتُّون صَاعا. وَفِي رِوَايَة لَهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد نَحوه، إِلَّا أَنه قَالَ: و (الْعرق) : مكتل يسع ثَلَاثِينَ صَاعا. قَالَ(8/147)
أَبُو دَاوُد: هَذَا أَصَحُّ الْحَدِيثين. وَخَالف ابْنُ الْقطَّان، فأعله من طريقيه بِأَن قَالَ: يَرْويه مُحَمَّد بن إِسْحَاق (عَن معمر بن عبد الله بن حَنْظَلَة، وَمعمر لم يذكر بِأَكْثَرَ من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق) عَنهُ، فَهُوَ مَجْهُول الْحَال.
قلت: لَكِن ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَرَوَاهُ فِي «صَحِيحه» بِنَحْوِ هَذِه الرِّوَايَة، وَلم يذكر قَدْرَ (الْعرق) ، وَقَالَ فِيهِ: «فليطعمْ سِتِّينَ مِسْكينا وَسْقًا من تمر» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: « (الْعرق) : زبيل (يَأْخُذ) خَمْسَة عشر صَاعا» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فأُتي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بتمرٍ، فَأعْطَاهُ إِيَّاه، وَهُوَ قريبٌ من خَمْسَة عشر صَاعا، فَقَالَ: تَصَدَّقْ بهَا. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، عَلَى أفْقر منِّي وَمن (أَهلِي) ؟ ! فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: كُلْهُ أَنْت وأهْلُك» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ، عَن عَطاء، عَن (أَوْس أخي) عبَادَة بن الصَّامِت: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعطَاهُ خَمْسَة عشر صَاعا من شعير إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا» .(8/148)
قَالَ أَبُو دَاوُد: عَطاء لم يدْرك أوسَ بْنَ الصَّامِت، هَذَا مُرْسل، أَوْس من أهل بدر (قديم الْمَوْت) ، وَإِنَّمَا رَوَوْهُ عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عَطاء، [أَن] أَوْس. قَالَ: وَعَطَاء لم يسمع من أَوْس.
وَفِي رِوَايَة للدارقطني عَن أنس: «أَن أَوْسًا قَالَ: مَا أجدُ إِلَّا أَن تعينني بعونٍ (و) صلةٍ، فأعانه عَلَيْهِ السَّلَام بِخَمْسَة عشر صَاعا. قَالَ: وَكَانُوا يرَوْنَ أَن عِنْده مثلهَا، وَذَلِكَ لستين مِسْكينا» .
وَفِي رِوَايَة (الطَّحَاوِيّ) عَن خَوْلَة: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أعَان زَوْجَهَا حِين ظَاهر مِنْهَا (بعرق) ، وأعانَتْه هِيَ (بعرق) آخر، وَذَلِكَ سِتُّونَ صَاعا» .
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن الْمَرْأَة اسْمهَا خُوَيْلَة بنت (خويلد) ، وَأَنَّهَا امرأةٌ جَلِدَةٌ، وَأَنه ضعيفٌ. وَفِيه عِنْد ذكْر الرَّقَبَة: «واللهِ مَا لَهُ خَادِم غَيْرِي» . وَفِيه عِنْد الصَّوْم: «إِنَّه إِذا لم يَأْكُل فِي الْيَوْم مرَّتَيْنِ (بلي) (بَصَره) » . وَفِيه عِنْد(8/149)
الْإِطْعَام: «واللهِ مَا لنا فِي الْيَوْم إِلَّا (وقية) » . وَفِيه: «فَلْيَنْطَلِقْ إِلَى فلانٍ، فيأخُذْ مِنْهُ شَطْرَ وَسْقٍ من تمر، فليتصدقْ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكينا، وليراجِعْكِ» . وَفِيه: «فانْطَلَقَ يسْعَى حَتَّى جَاءَ بِهِ، قَالَت: وعَهْدِي بِهِ قَبلَ ذَلِكَ مَا يستطيعُ أَن يحمل عَلَى ظَهْره خَمْسَة آَصْعِ تَمْرٍ من الضَّعْفِ» .
وَفِي إِسْنَاد هَذِه «أَبُو حَمْزَة الثمالِي» : وَقد ضَعَّفُوهُ.
واعلمْ: أَنه قد أسلفنا عَن الرَّافِعِيّ: أَنه قَالَ وَقع الِاخْتِلَاف فِي اسْم زَوْجَة أَوْس بن الصَّامِت وَفِي نَسَبهَا. فَأَما اسْمهَا فقد أسلفنا ذَلِكَ فِيهِ هَل هِيَ خَوْلَة أَو خُوَيْلَة بِالتَّصْغِيرِ، أَو: جميلَة، ورجَّح الأَوَّلَ غَيْرُ واحدٍ، كَمَا قَالَه الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» وَقيل: اسْمهَا «حَبِيبَة» حَكَاهُ صَاحب «الْمطلب» ، وَذكر أَن خَوْلَة هِيَ بنت جميل، وَلَا أعرف (لَهُ) سلفا فِي ذَلِكَ.
وَأما الِاخْتِلَاف فِي نَسَبهَا: فَقيل: خَوْلَة بنت مَالك بن ثَعْلَبَة، وَقيل: خُوَيْلَة بنت خويلد - بِالتَّصْغِيرِ فيهمَا -، وَقيل: بنت ثَعْلَبَة بن مَالك بن الأجشم، وَقيل: (بنت الصَّامِت، وَذكر هَذَا الِاخْتِلَاف أَبُو نعيم بعد أَن قَالَ: و) خَوْلَة الْأَنْصَارِيَّة، المظاهَرُ مِنْهَا مختلفٌ فِي اسْمهَا ونسبها. وَذكر الِاخْتِلَاف الَّذِي ذكرته أَولا فِي اسْمهَا، خلا «جميلَة» .
تَنْبِيهَات: أَحدهَا: زَوجهَا أوسٌ أَنْصَارِي خزرجي، وَهُوَ أَخُو عبَادَة بن الصَّامِت.(8/150)
(الثَّانِي) : قَالَ ابْن عَبَّاس: وَكَانَ ذَلِكَ أول (ظِهَار) جَرَى فِي الْإِسْلَام، كَمَا سَاقه الطَّبَرَانِيّ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ السالف (عَنهُ) ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي «سنَنه» من حَدِيث: الْأَصَم [نَا الْعَبَّاس بن مُحَمَّد] ، ثَنَا [عبيد الله] بن مُوسَى، ثَنَا أَبُو حَمْزَة (الثمالِي) ، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «وَكَانَ أوَّل مَنْ ظاهَرَ فِي الْإِسْلَام: أَوْس» فَذكره.
الثَّالِث: اللمم: طرق من الْجُنُون، قَالَه ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» ، وَنقل النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» عَن الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الْمروزِي: أَن المُرَاد باللمم: الْإِلْمَام بِالنسَاء وَشدَّة الشوق إلَيْهِنَّ.
الحَدِيث الثَّانِي
قَالَ الرَّافِعِيّ: تَعْلِيق الظِّهَار صَحِيح، وَاحْتج لَهُ بِمَا رُوي: «أَن (سَلمَة) بن صَخْر رَضي اللهُ عَنهُ جعل امْرَأَته عَلَى نَفسه كظهْر أُمِّه إِن غشيها حَتَّى ينْصَرف رمضانُ، فَذكر ذَلِكَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: أعْتِقْ رَقَبَة» .
هَذَا الحَدِيث كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ هُنَا، وَرَوَاهُ بعد ذَلِكَ بِلَفْظ: «أَن سَلمَة بن صَخْر ظاهَرَ مِنِ امْرَأتِهِ حَتَّى يَنْسَلِخ رمضانُ، ثمَّ وَطئهَا فِي(8/151)
المدَّةِ، فَأمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بتحرير رقبةٍ» وَهُوَ حَدِيث جيدٌ مذكورٌ باللفظين المذكورَيْن:
أما الأوَّل: فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن أبي كثير، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان، وَأبي سَلمَة: «أَن سَلمَة بن صَخْر البياضي جعل امْرَأَته عَلَيْهِ كظهْر أُمِّه إِن غشيها حَتَّى يمْضِي رمضانُ، فلمَّا مَضَى النِّصْفُ من رَمَضَان سمنت المرأةُ وتربعت، فأعْجَبَتْهُ، فغشيها لَيْلًا، ثمَّ أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكر ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أعْتِقْ رَقَبَة. فَقَالَ: لَا أجد. فَقَالَ: صُمْ شَهْرَيْن مُتَتَابعين. قَالَ: لَا أَسْتَطِيع. قَالَ: أطعِمْ سِتِّينَ مِسْكينا [قَالَ: لَا أجد] . قَالَ: فأُتي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعرق فِيهِ خَمْسَة عشر صَاعا أَو سِتَّة عشر صَاعا، فَقَالَ: تصدَّقْ بِهَذَا عَلَى سِتِّينَ مِسْكينا» .
وَأما اللَّفْظ الثَّانِي: فَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه من حَدِيث سُلَيْمَان بن يسَار، عَن سَلمَة بن صَخْر البياضي قَالَ: «كنتُ امْرَءًا أُصيبُ من النِّسَاء مَا لَا يُصيب غَيْرِي، فلمَّا دخل شهرُ رَمَضَان خِفْتُ أَن أُصيبَ مِنِ امْرَأَتي شَيْئا تتايع بِي حَتَّى أصبح، فظاهرتُ مِنْهَا حَتَّى يَنْسَلِخ شَهْرُ رَمَضَان، فَبينا هِيَ تخدمني ذَات لَيْلَة (إِذا(8/152)
تكشف) لي مِنْهَا شَيْء، فَمَا لَبِثت أَن نزوتُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أصبحتُ خرجتُ إِلَى قومِي فأخبرتُهُم الخَبَرَ، قَالَ: فقلتُ: امْشُوا معي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالُوا: لَا واللهِ. فانطلقتُ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأخبرتُه. فَقَالَ: أَنْت بِذَاكَ يَا سَلمَة؟ قلت: أَنا بِذَاكَ يَا رَسُول الله - مرَّتَيْنِ - وَأَنا صابرٌ لأمْر الله، فاحْكُمْ فيَّ بِمَا أَرَاك الله. قَالَ: حَرِّرْ رَقَبَة. قلت: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ؛ مَا أَمْلُكُ رَقَبَة غَيرهَا، وضربتُ صفحةَ رقبتي. قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْن مُتَتَابعين. قَالَ: وَهل أصبتُ الَّذِي أصبتُ إِلَّا من الصّيام. قَالَ: فأطعمْ وَسْقاً من تمرٍ بَين سِتِّينَ مِسْكينا. قلت: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ؛ لقد بتنا (وحشين) ، مَا أمْلِكُ لنا طَعَاما. قَالَ: فانْطَِقْ إِلَى صَاحب صَدَقَة بني زُرَيْق، فليدفَعْهَا إِلَيْك. قَالَ: فأطعمْ سِتِّينَ مِسْكينا وَسْقًا من تمرٍ، وكُلْ أَنْت وعيالُك بَقِيَّتَهَا. فرجعتُ إِلَى قومِي فقلتُ: وجدتُ عنْدكُمْ الضيقَ وسوءَ الرَّأْي، ووجدتُ عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - السعَة وحُسْنَ الرَّأْي، (و) قد أَمرنِي - أَو - أَمر لي بصدقتكم» .
قَالَ ابْن إِدْرِيس: [وَبَنُو] بياضة بطن من (بني) زُرَيْق. هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَهُوَ من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن عَمرو بن عَطاء، (عَن) سُلَيْمَان بن يسَار، عَن سَلمَة بن صَخْر بِهِ، وَلَفظ(8/153)
التِّرْمِذِيّ، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن سلمَان بن صَخْر «أَنه جعل امْرَأَته عَلَيْهِ كَظهر أمه حَتَّى يمْضِي رَمَضَان، فَلَمَّا مَضَى نصف من رَمَضَان وَقع عَلَيْهَا لَيْلًا، فَأَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكر ذَلِكَ لَهُ ... » . ثمَّ ذكر الْبَاقِي نَحوه، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن. وَلَفظ ابْن مَاجَه [كطريق] أبي دَاوُد: «لما دخل رَمَضَان ظَاهَرت من امْرَأَتي حَتَّى يَنْسَلِخ رَمَضَان ... » . وَالْبَاقِي نَحوه.
وَرِوَايَة أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه مُنْقَطِعَة، قَالَ البُخَارِيّ فِيمَا نَقله التِّرْمِذِيّ: سُلَيْمَان بن يسَار لم يسمع عِنْدِي من سَلمَة بن صَخْر. وَكَذَا نقل غَيره عَنهُ أَن سُلَيْمَان لم يدْرك سلمةَ، لَا جرم قَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : إِنَّه مُنْقَطع. وَأما الْحَاكِم فَأخْرجهُ فِي «مُسْتَدْركه» من طَرِيق أبي دَاوُد وابْنِ مَاجَه، وَفِيه عنعنة ابْن إِسْحَاق أَيْضا، وَلم يذكر تأقِيْتَ الظِّهَار، بل قَالَ: «فلمَّا دخل رَمَضَان ظاهَرَ من امْرَأَته؛ مَخَافَة أَن يُصِيب مِنْهَا شَيْئا من اللَّيْل ... » الحَدِيث إِلَى آخِره.
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. أَي: فِي الشواهد لَا فِي الْأُصُول؛ لِأَن مُسلما لم يحْتَج بابْنِ إِسْحَاق، (وَإِنَّمَا) ذكره مُتَابعَة، كَمَا نَبَّهنا عَلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ.
قَالَ الْحَاكِم: وَله شَاهد من حَدِيث يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بِهِ.(8/154)
ثمَّ رَوَاهُ عَن ابْن خُزَيْمَة، أبنا هِشَام بن عليّ، ثَنَا عبد الله بن رَجَاء، ثَنَا حَرْب بن شَدَّاد، عَن ابْن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن: «أَن سَلْمان بن صَخْر الْأنْصَارِيّ جعل امْرَأَته كظهْر أُمِّه. .» . فَذكر الحديثَ بِنَحْوِهِ مِنْهُ، ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
تَنْبِيهَات: أَحدهَا: «سلمَان بن صَخْر» هُوَ «سَلمَة بن صَخْر» ، يُقَال فِيهِ هَذَا وَهَذَا، كَمَا سلف، وَقد نَصَّ عَلَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيّ وغيرُه، و «سَلمَة» أصح وَأشهر، كَمَا قَالَه ابْن الْأَثِير وَالنَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» وغَيْرُهما، وَهُوَ أَيْضا أنصاريّ خزرجيّ، وَيُقَال لَهُ: «بياضي» لِأَنَّهُ حَلِيف بني بياضة.
ثَانِيهَا: فِي (أَلْفَاظه) : قَوْله: «تتايع» هُوَ بمثناة تَحت قبل الْعين، فَقَالَ: تتايع فِي الْخَيْر وتتايع فِي الشَّرّ، قَالَ صَاحب «التنقيب» فِي كَلَامه عَلَى «المهذَّب» بعد أَن ضبط تتايع بِمَا (ضبطته) التتايع عبارَة (عَن) المسارعة إِلَى الشَّيْء (و) التهافت عَلَيْهِ. قَالَ: وَلم تسْتَعْمل هَذِه (اللَّفْظَة) فِي المسارعة إِلَى الْخَيْر إِلَّا عَلَى وجْه شَاذ.(8/155)
وَأما «التَّتَابُع» بباء مُوَحدَة قبل الْعين، فَلَا يُسْتعمل عِنْد الْجُمْهُور إِلَّا فِي الْمُتَابَعَة إِلَى الْخَيْر.
وَقَوله: «نزوتُ» : هُوَ بِفَتْح النُّون، ثمَّ زَاي مُعْجمَة، ثمَّ وَاو سَاكِنة، أَي: وَثَبْتُ عَلَيْهَا (أَرَادَ) الْجِمَاع.
وَقَوله: «أَنْت بِذَاكَ» مَعْنَاهُ: أَنْت الملم بِذَاكَ، والمرتكب لَهُ.
وَقَوله: «وَحْشين» : هُوَ بِفَتْح الْوَاو، ثمَّ حاء مُهْملَة سَاكِنة، ثمَّ شين مُعْجمَة، ثمَّ يَاء مثناة تَحت، ثمَّ نون، أَي: مقفرين لَا طَعَام لنا، يُقَال: رجل وَحْش - بِسُكُون الْحَاء - وَقوم أوحاش.
وَبَنُو زُريق: بِضَم الزَّاي، ثمَّ رَاء مُهْملَة مَفْتُوحَة، ثمَّ مثناة تَحت (ثمَّ قَاف) ، وَكَذَا ضَبطه النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» ، وهُمْ بطن من الْأَنْصَار.
ثَالِثهَا: اعْترض ابْن الرّفْعَة عَلَى الرَّافِعِيّ فِي استدلاله بِهَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: اسْتدلَّ الرَّافِعِيّ عَلَى صِحَة تَعْلِيق الظِّهَار بِمَا ذكره من حَدِيث سَلمَة، وَالَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: «أَنه ظاهَرَ حَتَّى يَنْسَلِخ رمضانُ» : فَهُوَ ظِهَار مُؤَقّت لَا معلَّق، قَالَ: فَلَعَلَّ تِلْكَ رِوَايَة أُخْرَى.
وَقَالَ فِي «مطلبه» : الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة فِيهِ غير هَذِه، وَلَا حُجَّة فِيهَا عَلَى جَوَاز التَّعْلِيق. هَذَا مَا ذكره فِي كِتَابيه، وَرِوَايَة الْبَيْهَقِيّ السالفة طبْقَ مَا ذكره الرَّافِعِيّ، فَلَا اعْتِرَاض إِذن.(8/156)
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لرجلٍ ظاهَرَ من امْرَأَته وواقعها: لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ) . ويُرْوى: «اعْتَزِلْهَا حَتَّى تكفِّر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أصحابُ «السّنَن» الْأَرْبَعَة د، وت، (وق) ، وس، وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ: «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد ظَاهر من امرأتِهِ فَوَقع عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي ظاهرتُ من امْرَأَتي فوقعتُ عَلَيْهَا قبل أَن أكفِّر، قَالَ: وَمَا حملك عَلَى ذَلِكَ - يَرْحَمك الله -؟ قَالَ: رأيتُ خُلخْالَهَا فِي ضوء الْقَمَر. فَقَالَ: لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تفعل مَا أَمر الله - عَزَّ وجَلَّ -» . هَذَا لفظ ت، وس.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عِكْرِمَة مُرْسلا، وَقَالَ فِيهِ: «رأيتُ خُلْخَالَهَا - أَو ساقَهَا - فِي ضوء الْقَمَر» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «اعْتَزِلْهَا حَتَّى تقضي مَا عليكَ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عِكْرِمَة: «أَن رجلا ظَاهر من امْرَأَته، ثمَّ وَاقعهَا قبل أَن يكفِّرَ، فَأَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخْبرهُ، فَقَالَ: مَا(8/157)
حملك عَلَى مَا صنعتَ؟ قَالَ: رَأَيْت بَيَاض ساقِهَا فِي الْقَمَر. قَالَ: فاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ عَنْك» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَنهُ عَن ابْن عَبَّاس (بِمَعْنَاهُ. وَقد رَوَاهُ ابْن مَاجَه، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس) «أَن رجلا ظاهَرَ من امْرَأَته، فغشيها قبل أَن يكفِّر، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكر ذَلِكَ [لَهُ] فَقَالَ: مَا حملك عَلَى ذَلِكَ؟ ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، رأيتُ بَيَاض حَجْلَيهَا فِي الْقَمَر، فَلم أملك (نَفسِي) - يَعْنِي: أَن وقعتُ عَلَيْهَا - فَضَحِك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأمره أَن لَا يَقْرَبْهَا حَتَّى يكفِّر» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب.
وَقَالَ النَّسَائِيّ: (الْمُرْسل) أوْلى بِالصَّوَابِ من الْمسند. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ، فَقَالَ: رَفْعُه خطأ، وَالصَّوَاب أَنه مُرْسل، بِإِسْقَاط ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ الْحَاكِم: شاهدُ هَذَا الحديثِ حديثُ إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن (عَمْرو) بن دِينَار، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس: «أَن رجلا ظاهَرَ(8/158)
مِنِ امرأتِهِ. .» الحديثَ، وَفِي آخِرِه: «أمسكْ عَنْهَا (حَتَّى تكفر) » . وَلم يحْتَج الشَّيْخَانِ بِإِسْمَاعِيل وَلَا بالحكم بن أبان - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي إِسْنَاد الحَدِيث الأول - قَالَ: إِلَّا أَن «الحكم بن أبان» صَدُوق.
قلت: «إِسْمَاعِيل» واهٍ، وَفِي إِسْنَاد رِوَايَة الْحَاكِم الأُولى «حَفْص بن عمر [الْعَدنِي] » : وَهُوَ ثِقَة، قَالَ الْبَزَّار: لَا نعلمهُ يُرْوى بإسنادٍ أحسن من هَذَا، عَلَى أَن «إِسْمَاعِيل بن مُسلم» قد تُكُلِّمَ فِيهِ، ويَرْوي عَنهُ جماعةٌ كثيرةٌ من أهل الْعلم.
وَأما الْحَافِظ أَبُو بكر الْمعَافِرِي فَقَالَ: لَيْسَ فِي الظِّهَار حَدِيث صَحِيح يُعوَّل عَلَيْهِ. ونقضه الْمُنْذِرِيّ فِي «اختصاره للسنن» فَقَالَ: قد صَححهُ التِّرْمِذِيّ، وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات، وَسَمَاع بَعضهم من بعض مشهورٌ. وترجمة عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس احْتج بهَا البخاريُّ فِي غير موضعٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. هَذَا آخر أَحَادِيث الْبَاب.(8/159)
وَأما أَثَره: فَهُوَ مَا رُوِيَ عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «إِذا ظَاهر الرجل من أَربع نسْوَة بِكَلِمَة وَاحِدَة ثمَّ أمسكهن فَعَلَيهِ كَفَّارَة وَاحِدَة» .
وَهُوَ أثر صَحِيح رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح إِلَى) مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس، [عَن عمر] «أَنه قَالَ فِي رجل ظَاهر من أَربع نسْوَة قَالَ: كَفَّارَة وَاحِدَة» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عمر «أَنه قَالَ فِي رجل ظَاهر من ثَلَاث نسْوَة قَالَ: عَلَيْهِ كَفَّارَة وَاحِدَة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : وَهُوَ صَحِيح عَنهُ. قلت: وَهَذَا (مِنْهُ يدل) عَلَى صِحَة سَماع (سعيد مِنْهُ) . قَالَ: وَبِه قَالَ عُرْوَة بن الزبير وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَرَبِيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ مَالك: وَذَلِكَ (الْأَمر) عندنَا. وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، وَقَالَ فِي الْجَدِيد: عَلَيْهِ فِي كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ (كَفَّارَة) . وَهُوَ رِوَايَة قَتَادَة عَن الْحسن الْبَصْرِيّ. وَبِه قَالَ الحكم بن عتيبة.(8/160)
كتاب الْكَفَّارَات(8/161)
كتاب الْكَفَّارَات
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَلَاثَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ» .
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الْوضُوء وَاضحا.
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ «أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَعَهُ أَعْجَمِيَّة - أَو خرساء - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، عَلّي عتق رَقَبَة فَهَل يُجزئ عني (هَذِه) فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَيْن الله فَأَشَارَتْ (إِلَى السَّمَاء) ، ثمَّ قَالَ لَهَا: من أَنا؟ فَأَشَارَتْ إِلَى أَنه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: اعتقها فَإِنَّهَا مُؤمنَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله، عَن رجل من الْأَنْصَار «أَنه جَاءَ بأَمَةٍ لَهُ سَوْدَاء فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن عَلّي عتق (رَقَبَة) مُؤمنَة، فَإِن كنت ترَى هَذِه مُؤمنَة (أعتقتها) . فَقَالَ لَهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أتشهدين أَن(8/163)
لَا إِلَه إِلَّا الله؟ قَالَت: نعم. قَالَ: أتشهدين أَنِّي رَسُول الله؟ قَالَت: نعم. قَالَ: أتؤمنين بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت؟ قَالَت: نعم. (قَالَ: أعْتقهَا فَإِنَّهَا مُؤمنَة» . وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» أَيْضا من رِوَايَة عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود «أَن رجلا من الْأَنْصَار جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِجَارِيَة لَهُ سَوْدَاء فَقَالَ: يَا رَسُول الله، عَلّي رَقَبَة مُؤمنَة أفأعتق هَذِه؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أتشهدين أَن لَا إِلَه إِلَّا الله؟ قَالَت: نعم. قَالَ: أتشهدين أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله؟ قَالَت: نعم. قَالَ: أتؤمنين بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت؟ قَالَت: نعم) . (فَقَالَ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فاعتقها» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُرْسل. قَالَ: وَقد رُوِيَ مَوْصُولا بِبَعْض مَعْنَاهُ. فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَى عون بن عبد الله بن عتبَة قَالَ: حَدَّثَني أبي، عَن جدي قَالَ: «جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِأمة سَوْدَاء (فَقَالَت) : يَا رَسُول الله، إنَّ عليَّ رَقَبَة مُؤمنَة (أفتجزئ) عني هَذِه؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: من رَبك؟ قَالَت: رَبِّي الله. قَالَ: فَمَا دينك؟ قَالَت: الْإِسْلَام (ديني) . قَالَ: فَمن أَنا؟ قَالَت: أَنْت رَسُول الله. قَالَ: أفتصلين الْخمس وتُقرِّينَ بِمَا جئتُ بِهِ من عِنْد الله؟ قَالَت: نعم. فَضرب عَلَى ظهرهَا وَقَالَ: (اعتقيها) » .
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» بِهَذَا الْإِسْنَاد وَاللَّفْظ(8/164)
لَهُ، ثمَّ قَالَ: عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود أدْرك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَسمع مِنْهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من رِوَايَة عون بن عبد الله (عَن عبد الله) بن عتبَة، عَن أبي هُرَيْرَة «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِجَارِيَة سَوْدَاء فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن عليّ رَقَبَة مُؤمنَة. فَقَالَ لَهَا: أَيْن الله؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاء بإصبعها. فَقَالَ لَهَا: فَمن أَنا؟ فَأَشَارَتْ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَإِلَى السَّمَاء - يَعْنِي أَنْت رَسُول الله - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اعتقها فَإِنَّهَا مُؤمنَة» .
إِذا عرفت هَذِه الرِّوَايَات وتأملتها (ظهر لَك) أَن الشَّك الْوَاقِع فِي رِوَايَة المُصَنّف: (وَهُوَ) «أَعْجَمِيَّة أَو خرساء» غَرِيب، بل رِوَايَة الشَّافِعِي صَرِيحَة فِي كَونهَا كَانَت (ناطقة) وَهِي مَا رَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ قَالَ: أبنا مَالك، عَن هِلَال بن أُسَامَة، عَن عَطاء بن يسَار، عَن عمر بن الحكم، قَالَ: «أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقلت: يَا رَسُول الله، إِن جَارِيَة لي كَانَت ترعى غنما لي فجئتها وَقد فقدت شَاة [من الْغنم] فسألتها فَقَالَت: أكلهَا الذِّئْب (فأسفت) عَلَيْهَا وَكنت من بني آدم فلطمت وَجههَا، وَعلي رَقَبَة (أفأعتقها) ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَيْن(8/165)
الله؟ فَقَالَت: فِي السَّمَاء. فَقَالَ: من أَنا؟ قَالَت: أَنْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ: فاعتقها» .
قَالَ الشَّافِعِي: اسْم الرجل مُعَاوِيَة بن الحكم كَذَا رَوَى الزُّهْرِيّ وَيَحْيَى بن أبي كثير.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا رَوَاهُ جمَاعَة عَن مَالك بن أنس، وَرَوَاهُ يَحْيَى بن يَحْيَى عَن مَالك (مجودًا) فَقَالَ: عَن مُعَاوِيَة بن الحكم. ثمَّ ذكر بِسَنَدِهِ، عَن يَحْيَى، عَن مَالك، عَن هِلَال، عَن عَطاء، عَن مُعَاوِيَة. قلت: الَّذِي فِي [موطأ] يَحْيَى بن يَحْيَى بِهَذَا السَّنَد عمر بن الحكم لَا مُعَاوِيَة، وَهَكَذَا أوردهُ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» ثمَّ قَالَ: هَكَذَا قَالَ مَالك فِي هَذَا الحَدِيث: عَن هِلَال، عَن عَطاء، عَن عمر بن الحكم. لم تخْتَلف الرِّوَايَة عَنهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ وهم عِنْد جَمِيع أهل الْعلم (بِالْحَدِيثِ) . قلت: (وَحَدِيث مُعَاوِيَة بن الحكم أخرجه م فِي «صَحِيحه» ) .
وَثمّ حَدِيث آخر مثل مَا ذكره المُصَنّف، أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان من حَدِيث الشَّرِيد بن سُوَيْد الثَّقَفِيّ(8/166)
«قلت: يَا رَسُول الله، إِن أُمِّي أوصت أَن نعتق عَنْهَا رَقَبَة وَعِنْدِي جَارِيَة سَوْدَاء. قَالَ: ادْع بهَا. فَجَاءَت، فَقَالَ: من رَبك؟ قَالَت: الله. قَالَ: (من) أَنا؟ قَالَت: رَسُول الله. قَالَ: اعتقها فَإِنَّهَا مُؤمنَة» . وَأخرجه أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: خَالِد بن عبد الله أرْسلهُ لم يذكر الشريد.
الحَدِيث الثَّالِث
رُوِيَ فِي حَدِيث الْأَعرَابِي الَّذِي جَامع فِي (نَهَار) رَمَضَان «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَى بعرق من تمر فِيهِ خَمْسَة عشر صَاعا فَقَالَ: خُذ هَذَا وَأطْعم عَنْك سِتِّينَ مِسْكينا» .
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي كتاب الصّيام وَلَفظه «خُذ هَذَا فَتصدق بِهِ» وَذكر الْعدَد سلف فِيهِ أَولا.(8/167)
كتاب اللّعان(8/169)
كتاب اللّعان
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا. أما الْأَحَادِيث فخمسة وَعِشْرُونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما «أَن هِلَال بن أُميَّة قذف امْرَأَته عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِشريك ابْن سَحْمَاء، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: الْبَيِّنَة أَو حدٌ فِي ظهرك. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِذا رَأَى أَحَدنَا عَلَى امْرَأَته رجلا ينْطَلق يلْتَمس الْبَيِّنَة؟ ! فَجعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: البينةُّ أَو حَدٌّ فِي ظهرك. فَقَالَ هِلَال: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ (نَبيا) إِنِّي لصَادِق ولينزلن الله مَا يُبرئ ظَهْري من الْحَد، فَنزل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأنزل قَوْله: (والذَّين يَرُمون أَزوَاجهم) الْآيَات» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور إِلَّا أَنه قَالَ بدل: «فَنزل جِبْرِيل ... » إِلَى آخِره: «فَنزلت (وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم وَلم يكن لَهُم شُهَدَاء إِلَّا أنفسهم (فَقَرَأَ حَتَّى بلغ (من الصَّادِقين) فَانْصَرف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأرْسل إِلَيْهِمَا فجاءا، فَقَامَ هِلَال(8/171)
بن أُميَّة فَشهد وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: إِن الله يعلم أَن أَحَدكُمَا كَاذِب فَهَل مِنْكُمَا من تائب؟ ثمَّ قَامَت فَشَهِدت، فَلَمَّا كَانَت عِنْد الْخَامِسَة (أَن غضب الله عَلَيْهَا إِن كَانَ من الصَّادِقين ( [وقفوها] (وَقَالُوا) : إِنَّهَا مُوجبَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: فتلكأت وَنَكَصت حَتَّى ظننا أَنَّهَا سترجع فَقَالَت: لَا أفضح قومِي سَائِر الْيَوْم. فمضت، قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أبصروها فَإِن جَاءَت بِهِ أكحل (الْعَينَيْنِ) سابغ الأليتَيَن خَدلج السَّاقَيْنِ فَهُو لِشَريك ابْن سَحماء فَجَاءت بِهِ كَذَلِك، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَوْلَا مَا مَضَى من كتاب الله لَكَانَ لي وَلها شَأْن» .
وَأخرج مُسلم فِي «صَحِيحه» (طرفا) من رِوَايَة أنس رَضي اللهُ عَنهُ.
فَائِدَة: شريك هَذَا - بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة - أَنْصَارِي بلوي حَلِيف الْأَنْصَار، يُقال: إِنَّهُ شَهد مَعَ أَبِيه أحدا، وَأَخْطَأ من زعم أَنه كَانَ يَهُودِيّا. سَحْمَاء: أُمُّه عَلَى الْأَصَح، وَأَبوهُ عبد بن معتب، وسحماء - بسين مَفْتُوحَة، ثمَّ حاء سَاكِنة مهملتين، وبالمد - مَأْخُوذ من السُّحمَةُ - بِضَم السِّين - وَهِي السوَاد، والمذكر أسحم، والمؤنثة: سَحْمَاء، وَيُقَال هَذَا اللَّفْظ، وَمَا يصرف مِنْهُ للسواد أَيْضا، وَلَكِن بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، والسخام سَواد الْقدر خَاصَّة.
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ: (وَشريك) هَذَا هُوَ المرمي بِالزِّنَا، سُئِلَ(8/172)
فَأنْكر، وَلم يحلفهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَهَذَا سبقه إِلَيْهِ الإِمَام الشَّافِعِي كَمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» حَيْثُ قَالَ: وَسَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَرِيكا فَأنْكر، فَلم يحلفهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يحْتَمل أَن يكون إنماأخذه عَن هَذَا التَّفْسِير فَإِنَّهُ كَانَ مسموعًا لَهُ. ثمَّ سَاق بِسَنَدِهِ إِلَى مقَاتل بن (حَيَّان) فِي قَوْله (وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات) إِلَى أَن قَالَ: «فَأَرْسَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الزَّوْج والخليل، وَالْمَرْأَة» إِلَى أَن قَالَ: «فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: وَيحك مَا يَقُول ابْن عمّك؟ ! فَقَالَ: (اقْسمْ) بِأَنَّهُ مَا رَأَى مَا يَقُول وَأَنه لمن الْكَاذِبين ... » ثمَّ لم يذكر أَنه أَحْلف شَرِيكا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلم أَجِدهُ فِي الرِّوَايَات (المنقطعة) . ثمَّ اعْلَم أَن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِمَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ لأحد الْقَوْلَيْنِ فِي أَن الْقَاذِف إِذا عجز عَن إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَى زنا الْمَقْذُوف أَن لَيْسَ لَهُ تَحْلِيفه أَنه مَا زنَى. (وَتعقبه) ابْن الرّفْعَة فَقَالَ فِي «مطلبه» : فِيهِ نظر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن ابْن الصّباغ قيل قَالَ: بَاب مَا جَاءَ فِي اللّعان بِمَسْأَلَة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يبْعَث إِلَى شريك.
ثَانِيهَا: أَنه لم ينْقل أَن شَرِيكا طلب الْحَد مِمَّن رَمَاه، وَالْيَمِين إِن تَوَجَّهت فَإِنَّمَا تكون بعد طلب الْمَقْذُوف الْحَد.(8/173)
الحَدِيث الثَّانِي
عَن سهل بن سعد السَّاعِدِي رَضي اللهُ عَنهُ «أَن عُويْمِر العَجَلاني قَالَ: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت رجلا وجد مَعَ امْرَأَته رجلا فيقتله فَتَقْتُلُونَهُ أم كَيفَ يفعل؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قد أنزل الله فِيك وَفِي صَاحبَتك فَاذْهَبْ فَائت بهَا. قَالَ سهل: فَتَلَاعَنا فِي الْمَسْجِد وَأَنا مَعَ النَّاس عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَزَادا: «فَلَمَّا فرغا قَالَ عُوَيْمِر: كذبت عَلَيْهَا يَا رَسُول الله إِن أَمْسَكتهَا. فَطلقهَا ثَلَاث قبل أَن يَأْمُرهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ ابْن شهَاب: فَكَانَت سنة المتلاعنين» . وَفِي رِوَايَة لَهما بِنَحْوِهِ، وأدرج فِيهِ قَوْله: «وَكَانَ فِرَاقه إِيَّاهَا بَعْدُ سُنَّةً فِي المتلاعنين» وَلم يقل: أَنه من قَول الزُّهْرِيّ، وَزَاد فِيهَا: قَالَ سهل: (وَكَانَت حَامِلا فَكَانَ ابْنهَا ينْسب (إِلَى أمه) ثمَّ جرت السّنة أَنه يَرِثهَا وترث مِنْهُ مَا فرض الله لَهَا» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد «حضرت لعانهما عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَأَنا ابْن (خمس عشرَة) سنة» .(8/174)
وَهَذِه فِي «البُخَارِيّ» بِلَفْظ: «شهِدت المتلاعنين وَأَنا ابْن (خمس عشرَة) سنة» .
فَائِدَة: الْجُمْهُور عَلَى أَن آيَة اللّعان نزلت بِسَبَب هِلَال هَذَا لَا بِسَبَب عُوَيْمِر، وَهُوَ أول رجل لَاعن فِي الْإِسْلَام، (وَجزم بِهِ) الرَّافِعِيّ أَيْضا (فِي الْكتاب) حَيْثُ قَالَ: ذكرُوا أَن الْآيَات وَردت فِي قصَّة هِلَال بن أُميَّة، وَقَوله فِي الْقِصَّة الثَّانِيَة: «أنزل فِيك وَفِي صَاحبَتك» حمل عَلَى أَن المُرَاد (أَنه بَين) حكم الْوَاقِعَة بِمَا أنزل فِي حق هِلَال، وَالْحكم عَلَى الْوَاحِد حكم عَلَى الْجَمَاعَة. وَجمع النَّوَوِيّ فِي «شَرحه لمُسلم» بَين الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ: يحْتَمل أَنَّهُمَا نزلت فيهمَا جَمِيعًا، فلعلهما سَأَلَا فِي وَقْتَيْنِ متقاربين فَنزلت الْآيَة فيهمَا وَسبق هِلَال بِاللّعانِ، فَيصدق أَنَّهَا نزلت فِي هَذَا وَذَاكَ، وَأَن هلالاً أول من لَاعن. ثمَّ اعْلَم أَنه وَقع فِي «الْوَسِيط» تبعا لإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْقَاضِي حُسَيْن: عُوَيْمِر بن مَالك، وَلَا أعلم لَهُم سلفا، وَإِنَّمَا هُوَ ابْن أَبيض، أَو ابْن الْحَارِث، أَو ابْن أشقر كَمَا أوضحته فِي تخريجي لأحاديثه فَتنبه لذَلِك، وَوَقع فِي كَلَامه شَيْء آخر قد نبهت عَلَيْهِ فِي الْكتاب الْمَذْكُور فَرَاجعه مِنْهُ.(8/175)
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ: «العينان تزنيان، وَالْيَدَانِ تزنيان» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحهمَا» من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «مَا رَأَيْت شَيْئا أشبه باللمم مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: إِن الله كتب عَلَى ابْن آدم حَظه من الزِّنَا أدْرك ذَلِكَ لَا محَالة، فزنا الْعين النّظر، وزنا اللِّسَان النُّطْق، وَالنَّفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذَلِكَ ويكذبه» وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «كتب عَلَى ابْن آدم نصِيبه من الزِّنَا مدرك ذَلِكَ لَا محَالة، فالعينان زناهما النّظر، والأذنان ذناهما الِاسْتِمَاع، وَاللِّسَان زِنَاهُ الْكَلَام، وَالْيَد زنَاهَا الْبَطْش، وَالرجل زنَاهَا الخطا، وَالْقلب يهْوَى ويتمنى، وَيصدق ذَلِكَ الْفرج ويكذبه» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا مَرْفُوعا: «العينان تزنيان، وَاللِّسَان يَزْنِي، وَالْيَدَانِ تزنيان، وَالرجلَانِ تزنيان ويحقق ذَلِكَ الْفرج ويكذبه» .
وَفِي الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير من حَدِيث همام، عَن عَاصِم، عَن أبي الضُّحَى، عَن مَسْرُوق، عَن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «العينان تزنيان، وَالْيَدَانِ تزنيان، وَالرجلَانِ تزنيان» .(8/176)
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، عَن عَفَّان، عَن همام بِهِ.
الحَدِيث الرَّابِع
«أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن امْرَأَتي لَا ترد يَد لامس. قَالَ: طَلقهَا. قَالَ: إِنِّي أحبها، قَالَ: أمْسكهَا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن هَارُون بن رِئَاب، عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر، قَالَ: «أَتَى رجل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن امْرَأَتي لَا ترد يَد لامس. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: طَلقهَا. فَقَالَ: إِنِّي أحبها قَالَ: أمْسكهَا إِذا» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فِي بَاب تَزْوِيج الْأَبْكَار فَقَالَ: كتب إليَّ حُسَيْن بن حُرَيْث الْمروزِي: ثَنَا الْفضل بن مُوسَى، عَن الْحُسَيْن بن وَاقد، عَن عمَارَة بن أبي حَفْصَة، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن امْرَأَتي لَا تمنع يَد لامس. قَالَ: غربها. قَالَ: أَخَاف أَن تتبعها نَفسِي. قَالَ: فاستمتع بهَا» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي بَاب تَزْوِيج الزَّانِيَة، عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا يزِيد، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة وَغَيره، عَن هَارُون بن رِئَاب، عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر. وَعبد الْكَرِيم، عَن عبد الله بن عبيد، عَن ابْن عَبَّاس - رَفعه إِلَى ابْن عَبَّاس، وَهَارُون لم يرفعهُ - قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: إِن عِنْدِي امْرَأَة من أحب النَّاس إِلَيّ، وَهِي لَا(8/177)
تمنع يَد لامس. قَالَ: طَلقهَا. قَالَ: لَا أَصْبِر عَنْهَا. قَالَ: استمتع بهَا» .
وَهَذِه الْأَسَانِيد كل رجالها ثِقَات: سُفْيَان لَا يسْأَل عَن مثله، وَهَارُون من رجال م، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره. وَعبد الله بن عبيد الله من رِجَاله أَيْضا، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَإسْنَاد رِوَايَة الشَّافِعِي هَذِه غير مُتَّصِلَة، وحسين بن حُرَيْث من رجال الصَّحِيحَيْنِ، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَغَيره. وَالْفضل بن مُوسَى هُوَ السينَانِي - بسين مُهْملَة مَكْسُورَة، ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ نون، ثمَّ ألف، ثمَّ نون، ثمَّ مثناة تَحت - نِسْبَة إِلَى سينان - قَرْيَة من قرَى مرو - من رجال الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَالنَّاس. وَالْحُسَيْن بن وَاقد، أخرجَا لَهُ أَيْضا ووثق. وَعمارَة من رجال البُخَارِيّ، ووثق. وَعِكْرِمَة أحد رِجَاله وَهُوَ أحد الْأَعْلَام. وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل شيخ النَّسَائِيّ (قَالَ) هُوَ فِي حَقه: حَافظ ثِقَة. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَيزِيد هُوَ ابْن هَارُون أحد الْأَعْلَام أخرجَا لَهُ أَيْضا. وَكَذَا حَمَّاد بن سَلمَة إِلَّا أَن البُخَارِيّ أخرج لَهُ تَعْلِيقا. وَعبد الْكَرِيم، قَالَ (النَّسَائِيّ) فِي حَقه: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.(8/178)
قَالَ: وَهَارُون بن رِئَاب أثبت مِنْهُ، وَقد أرسل الحَدِيث، وَهَارُون ثِقَة وَحَدِيثه أولَى بِالصَّوَابِ من حَدِيث عبد الْكَرِيم. وَقَالَ فِي «سنَنه» قبل ذَلِكَ: هَذَا حَدِيث لَيْسَ بِثَابِت. يَعْنِي الرِّوَايَة المرفوعة.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الْخلْع، عَن الْحُسَيْن بن حُرَيْث، ثَنَا الْفضل بن مُوسَى، ثَنَا الْحُسَيْن بن وَاقد، عَن عمَارَة بن أبي حَفْصَة، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن امْرَأَتي لَا تمنع يَد لامس. فَقَالَ: غربها إِن شِئْت. قَالَ: إِنِّي أَخَاف أَن تتبعها نَفسِي. قَالَ: استمتع بهَا» .
ثمَّ أخرجه عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَن النَّضر بن شُمَيْل، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، أبنا هَارُون بن رِئَاب، عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِن تحتي امْرَأَة لَا ترد يَد لامس. قَالَ: طَلقهَا. قَالَ: إِنِّي لَا أَصْبِر عَنْهَا. قَالَ: (أمْسكهَا)) ثمَّ قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا خطأ وَالصَّوَاب مُرْسل.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصر سنَن أبي دَاوُد» : رجال هَذَا الحَدِيث مُحْتَج بهم فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى الِاتِّفَاق والانفراد.
وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن الْحُسَيْن بن وَاقد تفرد بِهِ عَن عمَارَة بن أبي حَفْصَة، وَأَن (الْفضل بن مُوسَى) تفرد بِهِ عَن الْحُسَيْن بن وَاقد. وَقَالَ(8/179)
النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : هَذَا حَدِيث مَشْهُور صَحِيح، وَإسْنَاد أبي دَاوُد صَحِيح.
وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَذكره فِي «مَوْضُوعَاته» من حَدِيث عبيد الله بن عُمَيْر، عَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي، عَن أبي الزبير، قَالَ: «أَتَى رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن امْرَأَتي لَا ترد (يَد) لامس. قَالَ: طَلقهَا. قَالَ: إِنِّي أحبها. قَالَ: فاستمتع بهَا» .
ثمَّ قَالَ: وَقد رَوَاهُ عبيد بن عُمَيْر، وَحسان بن عَطِيَّة كِلَاهُمَا عَن (رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ نقل عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا يثبت) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَيْسَ لَهُ أصل. قلت: وَهَذَا لَا يقْدَح فِيمَا أسلفناه من الطّرق.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت (أبي عَن) حَدِيث معقل، عَن أبي الزبير، عَن جَابر ... فَذكره، فَقَالَ: ثَنَا مُحَمَّد بن كثير، عَن سُفْيَان (ثَنَا) عبد الْكَرِيم: حَدَّثَني أَبُو الزبير، عَن مولَى [لبني] هَاشم، قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره. وَرَوَاهُ غَيره، عَن الثَّوْريّ هَكَذَا فَسَمَّى هَذَا الرجل هشامًا مولَى لبني (هَاشم) قيل لأبي:(8/180)
أَيهمَا أشبه؟ قَالَ: الثَّوْريّ أحفظ. ثمَّ تنبه بعد ذَلِكَ لأمر غَرِيب وَقع لصَاحب «التنقيب» فَإِنَّهُ عزا هَذَا الحَدِيث إِلَى البُخَارِيّ، وَهُوَ من الْعجب العجاب.
فَائِدَة: اخْتلف فِي مَعْنَى قَوْله: « (لَا) ترد يَد لامس» عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهِ الْفُجُور. مِنْهُم النَّسائي، وَقد بوب عَلَيْهِ كَمَا سلف تَزْوِيج الزَّانِيَة. وَمِنْهُم ابْن الْأَعرَابِي، فَإِنَّهُ لما سُئِلَ عَنهُ قَالَ: إِنَّه من الْفُجُور. وَمِنْهُم الْخطابِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي (معالمه) مَعْنَاهُ الرِّيبَة، وَأَنَّهَا مطاوعة لمن أرادها لَا ترد يَده. قَالَ: وَقَوله: «غربها» أَي أبعدها بِالطَّلَاق، وأصل الغرب الْبعد. قَالَ: وَفِيه دلَالَة جَوَاز نِكَاح الْفَاجِرَة. قَالَ: وَقَوله «فاستمتع بهَا» أَي: لَا تمسكها إِلَّا بِقدر مَا تقضي مُتْعَة النَّفس مِنْهَا وَمن وطرها، والاستمتاع بالشَّيْء الِانْتِفَاع بِهِ مُدَّة، وَمِنْه نِكَاح الْمُتْعَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: (إِنَّمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا مَتَاع) . وَمِنْهُم ابْن الْأَثِير فَإِنَّهُ قَالَ فِي «جَامعه» : مَعْنَى «لَا ترد يَد لامس» أَي أَنَّهَا مطاوعة لمن طلب مِنْهَا الرِّيبَة والفاحشة. وَمِنْهُم الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ اسْتدلَّ بِهِ عَلَى الْمَرْأَة إِذا لم تصن فرجهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» بعد مَا أسلفناه عَن الْخطابِيّ: احْتج بالْخبر الْمَذْكُور جماعات من الْعلمَاء عَلَى(8/181)
أَن الْمَرْأَة إِذا لم تكن عفيفة يُستحب للزَّوْج طَلاقهَا، وَاحْتج بِهِ بَعضهم عَلَى [صِحَة] نِكَاح الزَّانِيَة، وَعَلَى أَن الزَّوْجَة إِذا زنت لَا يَنْفَسِخ نِكَاحهَا. قَالَ: وَهَذَا كُله مصير مِنْهُم (عَلَى) أَن المُرَاد باللمس: الزِّنَا.
قَالَ [النَّوَوِيّ] : فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَشَارَ عَلَيْهِ أَولا بفراقها نصيحة لَهُ وشفقة عَلَيْهِ فِي تنزهه من معاشرة من هَذَا حَالهَا، فَأعْلم الرجل شدَّة محبته لَهَا وخوفه فتْنَة بِسَبَب فراقها، فَرَأَى عَلَيْهِ السَّلَام الْمصلحَة لَهُ فِي هَذَا الْحَال بإمساكها خوفًا من مفْسدَة عَظِيمَة تترتب عَلَى فراقها، وَدفع أعظم الضررين بأخفهما مُتَعَيّن، و [لَعَلَّه] يُرْجَى الصّلاح بعد، ثمَّ شرع النَّوَوِيّ بعد (فِي) تَضْعِيف مَا سُوَى هَذَا القَوْل.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن المُرَاد أَنَّهَا لَا ترد يَد من يلمس مِنْهَا مَالا. يَقُول: هِيَ سخية تضع مَا كَانَ عِنْدهَا.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» : هَذَا الحَدِيث حمله أَبُو بكر الْخلال عَلَى الْفُجُور وَلَا يجوز هَذَا، إِنَّمَا يحمل عَلَى تفريطها فِي المَال لَو صَحَّ الحَدِيث. ثمَّ نقل كَلَام (الإِمَام) أَحْمد السالف فِيهِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِي - عَلَى مَا نَقله ابْن صَخْر فِي فَوَائده -: (إِنَّمَا كنى) عَن(8/182)
بذلها الطَّعَام، وَمَا يدْخلهُ عَلَيْهَا لَا غير. وأوضح ابْن نَاصِر الْحَافِظ ذَلِكَ فِي جُزْء لَهُ مُفْرد وصوبَ هَذَا القَوْل وَخطأ الأول. وَنقل الْمُنْذِرِيّ عَن الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: مَعْنَاهُ تُعطي من مَاله. فَقيل لَهُ: إِن أَبَا عبيد يَقُول: من الْفُجُور. فَقَالَ: لَيْسَ عندنَا إِلَّا أَنَّهَا تُعْطِي من مَاله، وَلم يكن عَلَيْهِ السَّلَام يَأْمر أَن يمْسِكهَا وَهِي تفجر. وَمَا حَكَاهُ عَن أبي عبيد خَالفه فِيهِ الْحَافِظ ابْن نَاصِر فَإِنَّهُ حَكَى عَنهُ أَنه قَالَ: إِنَّه من التبذير.
قَالَ: وَكَذَا ذكر غَيره من عُلَمَاء الْإِسْلَام، وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين: مَعْنَاهُ: أمْسكهَا عَن الزِّنَا إِمَّا بمراقبتها وَإِمَّا بِكَثْرَة جِمَاعهَا. وَهُوَ حسن بَالغ.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث احْتج بِهِ الرَّافِعِيّ عَلَى أَن الزَّوْج إِذا تَيَقّن زنا زَوجته أَو ظَنّه ظنًّا مؤكدًا وَلم يكن ثمَّ ولد أَنه لَا يجب عَلَيْهِ الْقَذْف، بل يجوز أَن يستر عَلَيْهَا ويفارقها بِغَيْر طَرِيق اللّعان، وَلَو أمْسكهَا لم يحرم. وَفِيه مُوَافقَة القَوْل الأول أَن المُرَاد بِهِ الْفُجُور، وَلَكِن فِيهِ مُخَالفَة لما ذكر الْحَافِظ ابْن نَاصِر فَإِنَّهُ ذكر لروايته لهَذَا الحَدِيث أَن لَهُ مِنْهَا ولد فَإِنَّهُ قَالَ: «شكى هَذَا الرجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أَنَّهَا) (تعري) طَعَامه، وتمره، ولبنه، وَأَنَّهَا تعطيه للسؤال، وَأَنَّهَا لَا تبقي فِي بَيت زَوجهَا شَيْئا من الطَّعَام، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: طَلقهَا. قَالَ: إِنِّي أحبها ولي مِنْهَا ولد. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: فاستمتع بهَا» . ثمَّ (نَفَى) (بعد ذَلِكَ أَن يُعْطين من أبيتهن(8/183)
(شَيْئا) إِلَّا بِإِذن (أَزوَاجهنَّ) ثمَّ رخص لَهُنَّ بعد ذَلِكَ فِي الصَّدَقَة فَقَالَ: «إِذا أنفقت الْمَرْأَة من بَيت زَوجهَا بِالْمَعْرُوفِ بِغَيْر إِذْنه فالأجر بَينهمَا نِصْفَانِ للزَّوْج بِمَا كسب وللمرأة مَا أنفقت» وَرخّص لَهُنَّ فِي إطْعَام الْأَشْيَاء الرّطبَة الَّتِي إِذا تركت فَسدتْ وحُمَّت وَلم تُؤْكَل.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا امْرَأَة أدخلت عَلَى قوم من لَيْسَ مِنْهُم فَلَيْسَتْ من الله فِي شَيْء وَلم يدخلهَا جنته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن يُونُس، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول حِين نزلت آيَة الْمُلَاعنَة: «أَيّمَا امْرَأَة أدخلت عَلَى قوم من لَيْسَ مِنْهُم فَلَيْسَتْ من الله فِي شَيْء، وَلنْ يدخلهَا الله جنته، وَأَيّمَا رجل جحد وَلَده وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ، احتجب الله مِنْهُ، وفضحه عَلَى رُءُوس الْأَوَّلين والآخرين» .
وَرَوَاهُ ابْن حبَان، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» أَيْضا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. قَالَ البُخَارِيّ: وَعبد الله(8/184)
بن يُونُس، عَن المَقْبُري رَوَى عَنهُ يزِيد بن الْهَاد (يعرف بِحَدِيث وَاحِد) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: عبد الله بن يُونُس يعرف بِحَدِيث وَاحِد، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... وَذكر هَذَا الحَدِيث، رَوَى عَنهُ يزِيد بن عبد الله بن الْهَاد، سَمِعت أبي يَقُول ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : عبد الله بن يُونُس هَذَا (لَا يعرف حَاله و) لَا يعرف لَهُ راو غير يزِيد بن عبد الله بن الْهَاد، وَلَا يعرف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث.
قلت: وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث مُوسَى بن عُبَيْدَة، عَن يَحْيَى بن حَرْب، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث يرويهِ مُوسَى بن عُبَيْدَة (الربذي) وَاخْتلف عَنهُ: فَرَوَاهُ بكر بن عبد الله بن عُبَيْدَة (الربذي) ، عَن عَمه، عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة، عَن المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة، وَخَالفهُ زيد بن الْحباب فَرَوَاهُ عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة، وَأدْخل بَينه وَبَين المَقْبُري رجلا يُقَال لَهُ يَحْيَى بن حَرْب، وَهُوَ رجل مَجْهُول، وَقَول زيد بن الْحباب أشبه بِالصَّوَابِ. قَالَ: وَرَوَى هَذَا الحَدِيث يزِيد بن الْهَاد، عَن عبد الله(8/185)
بن يُونُس، عَن أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ صَحِيح، وَعبد الله بن يُونُس لَا أعرفهُ إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث.
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا رجل جحد وَلَده وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ، احتجب الله مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة، وفضحه عَلَى رُءُوس الْخَلَائق يَوْم الْقِيَامَة» .
هَذَا الحَدِيث هُوَ قِطْعَة من الحَدِيث الَّذِي قبله، وَقد سلف بِلَفْظِهِ.
الحَدِيث السَّابِع
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ: «أَن رجلا قَالَ للنَّبِي (: إِن امْرَأَتي ولدت غُلَاما أسود. قَالَ: هَل لَك من إبل. قَالَ: نعم. قَالَ: مَا ألوانها؟ قَالَ: حمر. قَالَ: (فَهَل) فِيهَا من أَوْرَق؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَنى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ قَالَ: عَسى أَن يكون نَزعه عرق. قَالَ: فَلَعَلَّ هَذَا نَزعه عرق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَفِي روايتهما «وَهُوَ يعرض بِأَن يَنْفِيه فَلم يرخص لَهُ فِي الانتفاء مِنْهُ فَقَالَ: هَل لَك من إبل ... » إِلَى آخِره.
فَائِدَة: الأورق الَّذِي فِيهِ سَواد (و) لَيْسَ بصاف، وَمَعْنى نَزعه (عرق) أشبهه واجتذبه، وَأظْهر لَونه عَلَيْهِ، وَالْمرَاد بالعرق هُنَا:(8/186)
الأَصْل من النّسَب تَشْبِيها بعرق (الثَّمَرَة) ، وَقد ذكرت اسْم هَذَا الرجل فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب فَرَاجعه مِنْهُ فَإِنَّهُ مُهِمّ.
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لهِلَال بن أُميَّة: احْلِف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِنَّك لصَادِق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «لما قذف هِلَال بن أُميَّة امْرَأَته قيل لَهُ: ليجلدنك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَمَانِينَ جلدَة. قَالَ: الله أعدل من ذَلِكَ أَن يضربني ثَمَانِينَ ضَرْبَة، وَقد علم أَنِّي رَأَيْت حَتَّى استيقنت، وَسمعت حَتَّى استثبت، لَا وَالله (لَا) يضربني أبدا. فَنزلت آيَة الْمُلَاعنَة، فَدَعَا بهما النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين نزلت الْآيَة فَقَالَ: الله يعلم أَن أَحَدكُمَا كَاذِب فَهَل (مِنْكُمَا من) تائب. فَقَالَ هِلَال: وَالله إِنِّي لصَادِق. فَقَالَ لَهُ: احْلِف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِنِّي لصَادِق - يَقُول ذَلِكَ أَربع مَرَّات - فَإِن كنتُ كَاذِبًا فعلي لعنة الله. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قِفُوهُ عِنْد الْخَامِسَة فَإِنَّهَا مُوجبَة. فَحلف، ثمَّ قَالَت أَرْبعا: وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِنَّه لمن الْكَاذِبين فَإِن كَانَ صَادِقا فعلَيْهَا (غضب) الله. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قفوها عِنْد الْخَامِسَة فَإِنَّهَا مُوجبَة. فترددت وهمت بالاعتراف، ثمَّ(8/187)
قَالَت: لَا أفضح قومِي. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن جَاءَت بِهِ أكحل أدعج سابغ الأليتين، ألف الفخذين خَدلج السَّاقَيْن فَهُوَ للَّذي رميت بِهِ، وَإِن جَاءَت بِهِ أصفر سبطًا فَهُوَ لهِلَال بن أُميَّة. فَجَاءَت بِهِ عَلَى صفة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَلم يُخرجهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَة.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لما أَتَت الْمَرْأَة بِالْوَلَدِ عَلَى النَّعْت الْمَذْكُور الْمَكْرُوه، قَالَ: «لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لي وَلها شَأْن» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، من حَدِيث ابْن عَبَّاس كَذَلِك سَوَاء، وَهُوَ فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» بِلَفْظ: «لَوْلَا مَا مَضَى من كتاب الله» سلف أول الْبَاب.
الحَدِيث الْعَاشِر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «المتلاعنان لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (وَالْبَيْهَقِيّ) فِي سُنَنهمَا من رِوَايَة ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما بِلَفْظ: «المتلاعنان إِذا تفَرقا لَا(8/188)
يَجْتَمِعَانِ أبدا» ، وَفِي رِوَايَة لَهما من حَدِيث سهل: «فَفرق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَينهمَا وَقَالَ: لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده صَحِيح، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد فِي حَدِيث سهل أَيْضا: «مَضَت السنةُ بعد فِي المتلاعنين أَن يفرق بَينهمَا، ثمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ (أبدا) » وَقد تقدم فِي أول الْبَاب قَول (ابْن) شهَاب: فَكَانَت بعد سنة فِي المتلاعنين.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فرق بَين المتلاعنين وَقَضَى بِأَن لَا ترمى وَلَا وَلَدهَا، (فَمن رَمَاهَا أَو رَمَى وَلَدهَا فَعَلَيهِ الْحَد) » .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما آخر حَدِيث هِلَال بن أُميَّة، وَفِي إِسْنَاده عباد بن مَنْصُور، وَقد تكلم فِيهِ غير وَاحِد وَكَانَ قدريًّا دَاعِيَة.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن أبي هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، قَالَا: «جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ جَالس فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أنْشدك الله أَلا قضيت لي(8/189)
بِكِتَاب الله. فَقَالَ: الْخصم الآخر وَهُوَ أفقه مِنْهُ: نعم فَاقْض بَيْننَا بِكِتَاب الله وائذن لي. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قل. فَقَالَ: إِن ابْني كَانَ عسيفًا عَلَى هَذَا فزنا بامرأته، وَإِنِّي اجتزت أَن عَلَى ابْني الرَّجْم، وافتديت مِنْهُ بِمِائَة شَاة ووليدة، فَسَأَلت أهل الْعلم فَأَخْبرُونِي أَن عَلَى ابْني جلد مائَة وتغريب عَام، وَأَن عَلَى الْمَرْأَة الرَّجْم. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لأقضين بَيْنكُمَا بِكِتَاب الله، (الوليدة) وَالْغنم رد عَلَيْك، وَعَلَى ابْنك جلد مائَة وتغريب عَام، واغد يَا أنيس - رجل من أسلم - إِلَى امْرَأَة هَذَا فَإِن (اعْترفت فارجمها. فَغَدَا عَلَيْهَا) فَاعْترفت فَأمر بهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فرجمت» . قَالَ مَالك: والعسيف: الْأَجِير.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك، وَوَقع فِي الرَّافِعِيّ « (فَافْتَدَيْت) مِنْهُ مائَة شَاة وَجَارِيَة لي» وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكرْنَاهُ، إِذْ الوليدة: الْأمة، وَجَمعهَا ولائد.
وَأَرَادَ بقوله: «اقْضِ بَيْننَا بِكِتَاب الله مَا كتب عَلَى عباده من الْحُدُود وَالْأَحْكَام وَلم يرد بِهِ الْقُرْآن؛ لِأَن النَّفْي وَالرَّجم لَا ذكر لَهما فِيهِ، وَقيل: إِن ذَلِكَ من مُجمل الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى: (ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب) فبينه الشَّارِع. قَالَ الرَّافِعِيّ: قَالَ الْعلمَاء: وَإِنَّمَا بعث أنيسًا ليخبر بِأَن الرجل الآخر قَذَفَها بِابْنِهِ لَا ليفحص عَن زنَاهَا.(8/190)
تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: أنيس هَذَا هُوَ ابْن الضَّحَّاك الْأَسْلَمِيّ مَعْدُود فِي الشاميين، قَالَ ابْن عبد الْبر: وَيُقَال ابْن (مرْثَد) . قَالَ ابْن الْأَثِير: وَالْأول أشبه بِالصِّحَّةِ لِكَثْرَة الناقلين لَهُ وَلِأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقْصد أَن لَا يُؤمر فِي الْقَبِيلَة إِلَّا رجلا مِنْهَا لنفورهم من حكم غَيره، وَكَانَت امْرَأَة أسلمية.
ثَانِيهمَا: رَوَى الحَدِيث الْمَذْكُور، ت، وس، وق وَفِيه ذكر: شبْل مَعَ أبي هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد، وَقد قيل: إِن (شبلاً) هَذَا لَا صُحْبَة لَهُ. نَص عَلَى ذَلِكَ يَحْيَى بن معِين، وَيُشبه أَن يكون الشَّيْخَانِ تركاه لذَلِك.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم: رجل حلف يَمِينا عَلَى مَال مُسلم فاقتطعه، وَرجل (حلف) عَلَى يَمِين بعد صَلَاة الْعَصْر لقد أعْطى بسلعته أَكثر مِمَّا أعطي، وَرجل منع فضل المَاء» .(8/191)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَهَذَا لفظ البُخَارِيّ: «ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم رجل (حلف) عَلَى سلْعَة لقد أعْطى بهَا أَكثر مِمَّا أعطي وَهُوَ كَاذِب، وَرجل حلف عَلَى يَمِين كَاذِبَة بعد الْعَصْر ليقتطع بهَا مَال امْرِئ مُسلم، وَرجل منع فضل مَائه، فَيَقُول الله لَهُ: الْيَوْم أمنعك فضلي كَمَا منعت (فضل) مَا لم تعْمل يداك» .
(وَرِوَايَة) مُسلم: «ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة، ولاينظر إِلَيْهِم وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم: رجل عَلَى فضل ماءٍ بالفلاة يمنعهُ من ابْن السَّبِيل، وَرجل بَايع رجلا سلْعَةً بَعَد الْعَصْرِ فَحلف لَهُ بِاللَّه لأخذها بِكَذَا وَكَذَا، فصدَّقه، وَهُوَ عَلَى غير ذَلِكَ، وَرجل بَايع إِمَامًا لَا يبايعه إِلَّا لدُنْيَا فَإِن أعطَاهُ مِنْهَا (وفاه) ، وَإِن لم يُعْطه لم (يفه) » .
الحَدِيث الرَّابِع عشر
اشْتهر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «فِي يَوْم الْجُمُعَة سَاعَة لايوافقها عبد مُسلم يُصَلِّي يسْأَل الله شَيْئا إِلَّا أعطَاهُ» .
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ) من(8/192)
حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ وَسقط فِي رِوَايَات لَفْظَة «يُصَلِّي» ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم «وَأَشَارَ عَلَيْهِ السَّلَام بِيَدِهِ (يقللها) » وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَهِي سَاعَة خَفِيفَة» وَذكر الرَّافعي عقب رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث مَا نَصه، قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: هِيَ السَّاعَة بعد الْعَصْر. اعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «يُصَلِّي» وَالصَّلَاة بعد الْعَصْر مَكْرُوهَة، فَأجَاب بِأَن العَبْد فِي الصَّلَاة مَا دَامَ ينْتَظر الصَّلَاة.
قلت: الْمَوْجُود فِي كتب الحَدِيث أَن ذَلِكَ من قَول عبد الله بن سَلام لَا من قَول كَعْب، والمعترض هُوَ أَبُو هُرَيْرَة.
وَكَذَا أخرجه مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: (صَحِيح) عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَلَعَلَّ سَبَب مَا وَقع فِيهِ الرَّافِعِيّ أَنه وَقع فِي الحَدِيث أَن أَبَا هُرَيْرَة سَأَلَ أَولا كَعْب الْأَحْبَار، ثمَّ سَأَلَ عبد الله بن سَلام فَأَجَابَهُ، ثمَّ اعْترض عَلَيْهِ وأجابه بِمَا تقدم، فَتنبه لذَلِك.
فَائِدَة: اخْتلف الْعلمَاء فِي تعْيين هَذِه السَّاعَة عَلَى عدَّة أَقْوَال كَثِيرَة وَقد أوضحتها فِي جُزْء مُفْرد فَرَاجعهَا مِنْهُ.(8/193)
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أَن اللّعان حَضَره عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَسَهل بن سعد رَضي اللهُ عَنهم.
هَذَا صَحِيح عَنْهُم أَمَّا حُضُور ابْن عَبَّاسٍ وسَهْلٍ بن سَعْدٍ فَتَقَدَّم حَديثهما فِي أولِ البابِ، وَأما حُضُور ابْن عمر فَأخْرج الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» قصَّة اللّعان من طَرِيقه، وَلَيْسَ فِيهَا حُضُوره لَهَا صَرِيحًا، لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن ذكره من طَرِيق ابْن عمر: وَقد رَوَى قصَّة المتلاعنين، عبد الله بن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس، وَأنس بن مَالك، وَفِي ذَلِكَ دلَالَة عَلَى شهودهم مَعَ غَيرهم تلاعنهما. هَذَا كَلَامه.
وَلقَائِل أَن يَقُول: لَا يلْزم من الرِّوَايَة الْحُضُور.
الحَدِيث السَّادِس عشر
ورد أَن الْيَمين الْفَاجِرَة (تدع) الديار بَلَاقِع.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» من حَدِيث الإِمَام أبي حنيفَة عَن يَحْيَى بن أبي كثير [عَن] مُجَاهِد، وَعِكْرِمَة، عَن(8/194)
أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَيْسَ شَيْء أُطِيع الله (فِيهِ) أعجل ثَوابًا من صلَة الرَّحِم، وَلَيْسَ شَيْء أعجل عقَابا من الْبَغي وَقَطِيعَة الرَّحِم، وَالْيَمِين الْفَاجِرَة تدع الديار بَلَاقِع» . قَالَ (الْبَيْهَقِيّ) فِي «سنَنه» : كَذَا رَوَاهُ عبد الله بن يزِيد (الْمُقْرِئ) (عَن أبي حنيفَة، وَخَالفهُ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان وَعلي بن ظبْيَان وَالقَاسِم بن الحكم فَرَوَوْه) ، عَن أبي حنيفَة، عَن نَاصح بن عبد الله، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا. وَقيل: عَن يَحْيَى، عَن أبي سَلمَة، عَن أَبِيه. قَالَ: والْحَدِيث مَشْهُور بِالْإِرْسَال. ثمَّ سَاقه من حَدِيث عبد الرَّزَّاق: أبنا معمر، عَن يَحْيَى بن أبي كثير يرويهِ قَالَ: «ثَلَاث من كن فِيهِ رَأَى وبالهن قبل مَوته ... » فَذَكرهنَّ (وَفِي آخِرهنَّ) «وَالْيَمِين الْفَاجِرَة تدع الديار بَلَاقِع» . وَعَن مَكْحُول قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن أعجل الْخَيْر ثَوابًا صلَة الرَّحِم، وَإِن أعجل الشَّرّ عُقُوبَة الْبَغي وَالْيَمِين (الصَّبْر) الْفَاجِرَة تدع الديار بَلَاقِع» . قلت: وَذكره الْحَافِظ أَبُو الْفضل بن طَاهِر الْمَقْدِسِي فِي كِتَابه «تَخْرِيج أَحَادِيث الشهَاب» من أَربع طرق:(8/195)
أَحدهَا: من حَدِيث نَاصح بن عبد الله، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: وناصح هَذَا مَتْرُوك الحَدِيث مُنكر.
ثَانِيهَا: مُحَمَّد بن عبد الله بن علاثة، عَن هِشَام بن حسان، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن أَبِيه مَرْفُوعا.
وَأَبُو سَلمَة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف لم يسمع من أَبِيه شَيْئا، وَابْن علاثة فِيهِ ضعف.
قلت: وَأخرجه الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من هَذَا الْوَجْه «الْيَمين الْفَاجِرَة تذْهب المَال» ثمَّ قَالَ: لَا نعلمهُ يرْوَى عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَلَا نعلم أسْند هِشَام بن حسان، عَن يَحْيَى بن أبي كثير غير هَذَا الحَدِيث، وَلَا نعلم رَوَاهُ عَن هِشَام إِلَّا ابْن علاثة، وَابْن علاثة (هَذَا) لين الحَدِيث.
ثَالِثهَا: من حَدِيث الْحَارِث، عَن عَلّي قَالَ: والْحَارث لَيْسَ بِحجَّة.
رَابِعهَا: من (طَرِيق) شَامي (رَوَاهُ) إِبْرَاهِيم بن هَانِئ، عَن أَبِيه هَانِئ بن عبد الرَّحْمَن، عَن عَمه إِبْرَاهِيم بن أبي (عبلة) ، عَن (أم الدَّرْدَاء عَن) أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا. قَالَ: وَهَذَا إِسْنَاد مُتَّصِل وَرِجَاله لم يقْدَح فيهم، وَهُوَ أقرب إِلَى الصَّوَاب.(8/196)
(الحَدِيث) السَّابِع عشر
« (أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) قَالَ للمتلاعنين: حسابكما عَلَى الله أَحَدكُمَا كَاذِب، فَهَل مِنْكُمَا تائب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للمتلاعنين: حسابكما عَلَى الله أَحَدكُمَا كَاذِب لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا ... » الحَدِيث، وَفِي لفظ: «فرق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَين أخوي بني عجلَان وَقَالَ: الله يعلم أَن أَحَدكُمَا كَاذِب، فَهَل مِنْكُمَا تائب» وَسلف فِي الْبَاب أَيْضا (من حَدِيث) ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما بِنَحْوِهِ.
الحَدِيث الثَّامِن عشر، وَالتَّاسِع عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: ذكر (أَن) بِالْمَدِينَةِ يُلَاعن عِنْد الْمِنْبَر، وَهُوَ لفظ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» .
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: يُلَاعن عَلَى الْمِنْبَر. وَيروَى اللفظان عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هُوَ كَمَا قَالَ.
وَقد ذكر الرَّافِعِيّ بعد ذَلِكَ فَذكر عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من حلف عِنْد منبري عَلَى يَمِين آثمة وَلَو بسواك وَجَبت لَهُ النَّار» .
وَعَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من حلف عَلَى منبري(8/197)
(هَذَا) بِيَمِين آثمة تبوأ مَقْعَده من النَّار» .
فَأَما حَدِيث (أبي) هُرَيْرَة (فَأخْرجهُ) أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ «لَا يحلف (عِنْد هَذَا) الْمِنْبَر عبد وَلَا أمة عَلَى يَمِين آثمة وَلَو عَلَى سواكٍ رطب إِلَّا وَجَبت لَهُ النَّار» .
وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
فَائِدَة: قَوْله: «رُطْب» هُوَ بِضَم الرَّاء، وإسْكَان الطَّاء كَذَا قَيده الْجَوْهَرِي فِي «صحاحه» فِي فصل رطب، قَالَ: وَهُوَ الْكلأ وَهُوَ مثل عُسْر (وعُسُر) أَي فَيجوز فِيهِ ضم الطَّاء، وَكَذَا قَيده النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» فِي الْفَصْل الْمَذْكُور، وصحف بعض شُيُوخنَا الْفُقَهَاء فِي كَلَامه عَلَى الرَّافِعِيّ (وَالرَّوْضَة) «سواك» ب «شِرَاك» بالشين الْمُعْجَمَة، ثمَّ رَاء مُهْملَة، ثمَّ قَالَ: هُوَ السّير الَّذِي فِي أَعلَى النَّعْل تدخل فِيهِ الرجل للاستقرار. و (هُوَ) ذُهُول عَجِيب مِنْهُ فاحذره.(8/198)
وَأما حَدِيث جَابر: فَرَوَاهُ مَالك فِي «موطئِهِ» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَكَذَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «لَا يحلف أحد عِنْد منبري هَذَا عَلَى يَمِين آثمة وَلَو عَلَى سواك أَخْضَر إِلَّا تبوأ مَقْعَده من النَّار» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ مَالك، وَابْن حبَان إِلَّا أَنه قَالَ: «عَلَى يَمِين» بدل «بِيَمِين» .
وَرَوَاهُ أَحْمد بلفظين أَحدهمَا: «لَا يحلف أحد عَلَى منبري كَاذِبًا إِلَّا تبوأ مَقْعَده من النَّار» . ثَانِيهمَا: أَيّمَا امْرِئ من الْمُسلمين حلف عِنْد منبري هَذَا عَلَى يَمِين كَاذِبَة يسْتَحق بهَا حق مُسلم (أدخلهُ) الله النَّار وَلَو عَلَى سواك أَخْضَر» .
وَفِي سَنَده هَذَا مَجْهُول.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «من حلف بِيَمِين آثمة عِنْد منبري هَذَا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار وَلَو عَلَى سواك أَخْضَر» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من طَرِيقين عَن جَابر مَرْفُوعا:(8/199)
أَحدهمَا: كَلَفْظِ الرَّافِعِيّ «يتبوأ» إِلَّا أَنه قَالَ: «فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده» بدل «يتبوأ» . ثَانِيهمَا: بِلَفْظ «من حلف عَلَى منبري هَذَا عَلَى يَمِين آثمة فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار» وَقَالَ: «إِلَّا وَجَبت لَهُ النَّار، وَلَو عَلَى سواك أَخْضَر» . قَالَ الْحَاكِم فِي هَذِه الطَّرِيق: هَذَا حَدِيث صَحِيح (الْإِسْنَاد) . وَقَالَ فِي الأولَى: رَوَاهَا مَالك بن أنس، عَن هَاشم بن هَاشم، عَن عبد الله بن (نسطاس) ، عَن جَابر.
وَرَوَاهُ ابْن زبالة بِلَفْظ: «أحد ساقي الْمِنْبَر عَلَى عقر الْحَوْض فَمن حلف (عِنْده) عَلَى يَمِين فاجرة يقتطع مَال امْرِئ مُسلم فَليَتَبَوَّأ يَمِينا من النَّار» وَقَالَ: عقر الْحَوْض: من حَيْثُ يصب المَاء فِي الْحَوْض.
قلت: وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَأبي أُمَامَة الْحَارِث بن ثَعْلَبَة.
أما حَدِيث سَلمَة فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن (مُوسَى بن هَارُون ثَنَا) [أَبُو مُوسَى الْأنْصَارِيّ] ثَنَا عَاصِم بن عبد(8/200)
الْعَزِيز الْأَشْجَعِيّ، ثَنَا يزِيد بن أبي عبيد، عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحلف أحد عَلَى الْمِنْبَر عَلَى يَمِين كَاذِبَة إلاَّ تبوَّأَ مَقْعَده من النَّار» . وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة الْحَارِث بن ثَعْلَبَة: فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي «مُعْجَمه» الْمَذْكُور، عَن عَمْرو بن السَّرْح، وَأَبُو بشر الدولابي فِي كِتَابه «الْأَسْمَاء والكنى» عَن أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب، قَالَا: ثَنَا سعيد بن أبي مَرْيَم، ثَنَا (عبد الله بن الْمُنِيب بن عبد الله بن أبي أُمَامَة بن ثَعْلَبَة قَالَ: أَخْبرنِي أبي، عَن عبد الله بن عَطِيَّة، عَن) عبد الله بن أنس، عَن أبي أُمَامَة الْحَارِث بن ثَعْلَبَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من حلف عِنْد منبري هَذَا [بِيَمِين] كَاذِبَة يسْتَحل بهَا مَال امْرِئ مُسلم بِغَيْر حق فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ لَا يقبل الله مِنْهُ عدلا وَلَا صرفا» .
الحَدِيث الْعشْرُونَ
رُوِيَ (أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَاعن بَين الْعجْلَاني وَامْرَأَته عَلَى الْمِنْبَر) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْوَاقِدِيّ، ثَنَا الضَّحَّاك بن عُثْمَان، عَن عمرَان بن أبي [أنس] قَالَ: سَمِعت عبد الله(8/201)
بن جَعْفَر يَقُول: «حضرت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين لَاعن بَين عُوَيْمِر الْعجْلَاني وَامْرَأَته مرجع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من تَبُوك، فَأنْكر حملهَا الَّذِي فِي بَطنهَا، فَقَالَ: هُوَ من ابْن السحماء. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَات امْرَأَتك فقد نزل الْقُرْآن فيكما. ولاعن بَينهمَا بعد الْعَصْر عِنْد الْمِنْبَر» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَكَذَا بلغنَا هَذَا الحَدِيث (مَوْصُولا) من (جِهَة) مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ: وَيروَى مُنْقَطِعًا عَن ابْن وهب، عَن يُونُس، عَن ابْن شهَاب أَو غَيره «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر الزَّوْج وَالْمَرْأَة فَحَلفا بعد الْعَصْر عِنْد الْمِنْبَر» يَعْنِي فِي حَدِيث سهل بن سعد.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا بَين قَبْرِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة(8/202)
وَغَيره رَضي اللهُ عَنهم وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث أم سَلمَة رَضي اللهُ عَنهما وَله طرق عديدة.
قَالَ ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» : رَوَاهُ أَيْضا من الصَّحَابَة عَائِشَة، وَابْن عمر، وَعبد الله بن زيد الْمُزنِيّ، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَسَهل بن سعد، وَالصديق، والفاروق، وَعلي بن أبي طَالب، وَجَابِر بن عبد الله، وَسعد بن أبي وَقاص، وَجبير بن مطعم، وَالزبير بن الْعَوام، وَأَبُو سعيد زيد بن ثَابت - وَقيل: زيد بن خَارِجَة - وَأَبُو وَاقد اللَّيْثِيّ، ومعاذ بن الْحَارِث الْأنْصَارِيّ أَبُو حليمة الْقَارئ، وَأنس بن مَالك، وَأَبُو (الْمُعَلَّى) الْأنْصَارِيّ.
فَائِدَة: فِي مَعْنَى الحَدِيث قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن ذَلِكَ الْموضع بِعَيْنِه ينْقل إِلَى الْجنَّة. وَرجحه ابْن النجار فِي كِتَابه « (تَارِيخ) الْمَدِينَة» ، وَقَالَ: إِنَّه الَّذِي يقوى عِنْدِي.
وَثَانِيهمَا: أَن الْعِبَادَة فِيهِ تُؤدِّي إِلَى الْجنَّة فَمن لزم طَاعَة الله فِي هَذِه الْبقْعَة (آل) بِهِ الْحَال إِلَى رَوْضَة من رياض الْجنَّة. وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى بدل «قَبْرِي» «بَيْتِي» وَهُوَ المُرَاد كَمَا قَالَه زيد بن أسلم وَقيل: إِنَّه(8/203)
عَلَى ظَاهره، وَرُوِيَ «حُجْرَتي» بدل «قَبْرِي» وَهُوَ (هُوَ) لِأَن قَبره فِي حجرته (وَهُوَ) بَيته.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مَعْنَاهُ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت الصَّحَابَة تقتبس مِنْهُ الْعلم فِي ذَلِكَ الْموضع، وَهُوَ مثل الرَّوْضَة، قَالَ: وَيُؤَيِّدهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «إِذا مررتم برياض الْجنَّة فارتعوا. قَالُوا: يَا رَسُول الله، وَمَا رياض الْجنَّة؟ قَالَ: حِلق الذّكر» .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
قَالَ الرَّافِعِيّ: إِذا فرغ من الْكَلِمَات الْأَرْبَع بَالغ القَاضِي فِي تخويفه وتحذيره وَأمر رجلا أَن يضع يَده عَلَى فِيهِ فَلَعَلَّهُ ينزجر وَيمْتَنع، وَقَالَ لَهُ الْحَاكِم أَو صَاحب مَجْلِسه: اتَّقِ الله فقولك «فعلي لعنة الله» يُوجب اللَّعْنَة إِن كنت كَاذِبًا، وتضع الْمَرْأَة يَدهَا عَلَى فَم الْمَرْأَة إِذا انْتَهَت إِلَى كلمة الْغَضَب فَإِن أَبَيَا إلاّ المُضِيّ لقنتها الْكَلِمَة الْخَامِسَة. ورد النَّقْل بذلك عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما.
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فَفِي (سنَن أبي دَاوُد) من هَذَا الْوَجْه أَعنِي من حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَن هلالاً لما لَاعن وَانْتَهَى إِلَى الْكَلِمَة الْخَامِسَة قيل لَهُ: يَا هِلَال، اتَّقِ الله فَإِن عَذَاب (الدُّنْيَا) أَهْون من عَذَاب الْآخِرَة؛(8/204)
وَإِن هَذِه الْمُوجبَة الَّتِي توجب عَلَيْك الْعَذَاب. فَقَالَ: وَالله لَا يُعذبني الله عَلَيْهَا كَمَا لم يجلدني عَلَيْهَا. فَشهد الْخَامِسَة أَن لعنة الله عَلَيْهِ إِن كَانَ من الْكَاذِبين. ثمَّ قيل لَهَا: اشهدي. فَشَهِدت أَربع شَهَادَات بِاللَّه إِنَّه لمن الْكَاذِبين (فَلَمَّا كَانَت) الْخَامِسَة قيل لَهَا: اتقِي الله فَإِن عَذَاب الدُّنْيَا أَهْون من عَذَاب الْآخِرَة وَإِن هَذِه الْمُوجبَة الَّتِي توجب (عَلَيْك) الْعَذَاب فتلكأت سَاعَة ثمَّ قَالَت: وَالله لَا أفضح قومِي. فَشَهِدت الْخَامِسَة أَن غضب الله عَلَيْهَا إِن كَانَ من الصَّادِقين، فَفرق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَينهمَا وَقَضَى أَن لَا يُدعَى وَلَدهَا لأَب [وَلَا ترمى] وَلَا يُرْمَى وَلَدهَا، من رَمَاهَا أَو رَمَى وَلَدهَا فَعَلَيهِ الْحَد، وَقَضَى أَن لَا بَيت عَلَيْهِ لَهَا وَلَا قوت من أجل أَنَّهُمَا يتفرقان من غير طَلَاق وَلَا متوفى عَنْهَا. قَالَ عِكْرِمَة: فَكَانَ وَلَدهَا بعد ذَلِكَ أَمِيرا عَلَى مصر وَمَا يُدعَى لأَب» . وَفِي إِسْنَاده عباد بن مَنْصُور قد تكلمُوا فِي رَأْيه وَرِوَايَته، وَرَوَى هُوَ وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر رجلا حِين أَمر المتلاعنين أَن يتلاعنا أَن (يضع) يَده عِنْد الْخَامِسَة عَلَى فِيهِ وَيَقُول: إِنَّهَا مُوجبَة» .
وَلم أر فِي (هَذَا) الحَدِيث وضع امْرَأَة يَدهَا عَلَى فمها كَمَا فِي جَانب الرجل فنتبعه.(8/205)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «المتلاعنان لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا» .
هَذَا الحَدِيث سبق فِي الْبَاب وَاضحا.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لَاعن بَين هِلَال بن أُميَّة وَزَوجته، وَكَانَت حَامِلا وَنَفَى هِلَال الْحمل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف بَيَانه أول الْبَاب.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
أورد الْوَعيد فِي نفي من هُوَ مِنْهُ واستلحاق من لَيْسَ مِنْهُ.
هَذَا (الحَدِيث) صَحِيح، وَقد سلف حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي ذَلِكَ فِي الحَدِيث الْخَامِس من أَحَادِيث الْبَاب.
وَفِي (مُسْند أَحْمد) عَن وَكِيع، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن [أبي] المجالد، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من انْتَفَى من وَلَده ليفضحه فِي الدُّنْيَا فضحه الله يَوْم الْقِيَامَة عَلَى رُءُوس الأشهاد قصاص بقصاص» .(8/206)
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، وَأبي بكرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ادَّعَى أَبَا فِي الْإِسْلَام غير أَبِيه وَهُوَ يعلم أَنه غير أَبِيه فالجنة عَلَيْهِ حرَام» . وَفِيهِمَا أَيْضا من حَدِيث أبي ذَر رَضي اللهُ عَنهُ «لَيْسَ من رجل ادَّعَى (إِلَى غير) أَبِيه وَهُوَ يُعلمهُ إِلَّا كفر، وَمن ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ منا وليتبوأ مَقْعَده من النَّار» .
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: «من ادَّعَى إِلَى غير أَبِيه أَو انْتَهَى إِلَى غير موَالِيه فَعَلَيهِ لعنة الله المتتابعة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» .
وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «من انتسب إِلَى غير أَبِيه أَو تولى غير موَالِيه فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ» .
وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا بِلَفْظ: «من ادَّعَى» بدل «من انتسب» ] وَفِيه] أَيْضا من رِوَايَة ابْن عَمْرو؛ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ادَّعَى إِلَى غير أَبِيه لم يرح رَائِحَة الْجنَّة، وَإِن رِيحهَا ليوجد من مسيرَة خَمْسمِائَة عَام» .
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» عَن أبي بكر مَرْفُوعا: «كفر بِاللَّه من ادَّعَى(8/207)
بِنسَب لَا يعرف» ، قَالَ: الصَّوَاب من رَوَاهُ عَن الْأَعْمَش [مَوْقُوفا] .
وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث رشدين، عَن زبان، عَن سهل، عَن أَبِيه رَفعه «إِن لله - تَعَالَى - عبادًا لَا يكلمهم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَا ينظر إِلَيْهِم. قيل لَهُ: من أُولَئِكَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: متبرئ من وَالِديهِ وراغب عَنْهُمَا، ومتبرئ من وَلَده، وَرجل أنعم عَلَيْهِ قوم فَكفر نعمتهم وتبرأ مِنْهُم» .
وَهَذَا سَنَد واه، هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه.
وَأما آثاره فَثَلَاثَة:
أَحدهَا: عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «لَو أَن قدم ليقام عَلَيْهِ الْحَد، وَادَّعَى أَنه أول مَا [ابْتُلِيَ] بِهِ، إِن الله كريم لَا يهتك السّتْر أول مرّة» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره (الشَّافِعِي) فِي «الْأُم» بِلَفْظ: «وَقد أُتِي بِرَجُل إِلَى عمر بن الْخطاب وَقدم لإِقَامَة الْحَد، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن هَذَا مني لأوّل مرّة. فَقَالَ: كذبت، الله أكبر أَن يفضح عَبده بِأول جريمته» .(8/208)
وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث أبي إِسْحَاق، ثَنَا عَفَّان، حَدَّثَنَا حَمَّاد، عَن ثَابت، عَن أنس «أَن عمر أُتِي بسارق فَقَالَ: وَالله مَا سرقت قطّ قبلهَا. فَقَالَ: كذبت، مَا كَانَ الله ليسلم (عبدا) عِنْد أول ذَنبه (فَقَطعه) » .
الْأَثر الثَّانِي: قصَّة أبي بكرَة الثَّقَفِيّ حَيْثُ كرر قذف الْمُغيرَة وَلم يُكَرر عَلَيْهِ الْحَد.
وَهَذَا الْأَثر سَيَأْتِي بَيَانه فِي الْقَذْف فَإِنَّهُ أولَى (بِهِ) .
الْأَثر الثَّالِث: عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «إِذا أقرّ الرجل بولده طرفَة عين لم يكن لَهُ نَفْيه» .
وَهَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث مجَالد، عَن الشّعبِيّ، عَن شُرَيْح عَنهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.(8/209)
كتاب الْعدَد(8/211)
كتاب الْعدَد
ذكر فِيهِ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فسبعة:
أَحدهَا
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لفاطمة بنت أبي حُبَيْش: دعِي الصَّلَاة أَيَّام أَقْرَائِك» .
هَذَا الحَدِيث سبق الْكَلَام عَلَيْهِ فِي كتاب الْحيض وَاضحا فَليُرَاجع مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لِابْنِ عمر وَقد طلق امْرَأَته فِي الْحيض إِن السّنة أَن تسْتَقْبل الطُّهْر ثمَّ تطلقها فِي كل قرء طَلْقَة» .
هَذَا الحَدِيث سلف، بِطرقِهِ فِي كتاب الطَّلَاق فَرَاجعه من ثمَّ.
الحَدِيث الثَّالِث
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَرَأَ فطلقوهن (لقبل) (عدتهن) » .
وَهَذَا الحَدِيث هُوَ بعض من الَّذِي قبله، وَقد قدمنَا مَا أسلفناه فِي(8/213)
الطَّلَاق. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقبل الشَّيْء أَوله.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن ابْن عمر (مَرْفُوعا و) مَوْقُوفا «يُطلق العَبْد تَطْلِيقَتَيْنِ وَتعْتَد الْأمة بقرءين» .
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الطَّلَاق وَاضحا فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تسق (بمائك) زرع غَيْرك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من حَدِيث رويفع بن ثَابت الْأنْصَارِيّ [قَالَ: «كنت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] حِين افْتتح حنين فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: لَا يحل لأحد يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسْقِي مَاءَهُ زرع غَيره» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. زَاد أَحْمد: «وَلَا أَن يبْتَاع مغنمًا حَتَّى يقسم» ثمَّ ذكر الثَّوْب وَالدَّابَّة كَمَا سَيَأْتِي فِي رِوَايَة ابْن حبَان. زَاد أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَته: «وَلَا يحل لمُؤْمِن يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر [أَن] يَقع(8/214)
عَلَى امْرَأَة من سبي حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا، وَلَا يحل لامرئ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يَبِيع مغنمًا حَتَّى يُقسم» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا بِحَيْضَةٍ» . ثمَّ قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَة لَيست مَحْفُوظَة وَهِي وهم من أبي مُعَاوِيَة.
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِدُونِ الِاسْتِبْرَاء، وَهَذَا لَفظه: «من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يسْقِي مَاءَهُ ولد غَيره، وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يَأْخُذ دَابَّة من الْمَغَانِم فَيركبهَا حَتَّى إِذا أعجفها ردَّها فِي الْمَغَانِم، وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يلبس ثوبا من الْمَغَانِم حَتَّى إِذا أخلقه رده فِي الْمَغَانِم» .
قلت: وَله طَرِيق آخر من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ. أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من طَرِيقه (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى يَوْم خَيْبَر عَن بيع الْمَغَانِم حَتَّى تقسم، وَعَن الحبالى أَن يوطئن حَتَّى يَضعن مَا فِي بطونهن، وَقَالَ: لَا تسق (ماءك زرع) غَيْرك، وَعَن (أكل) لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وَعَن لحم كل ذِي نَاب من السبَاع» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ ذكر ذَلِكَ فِي موضِعين من «مُسْتَدْركه» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِنَحْوِهِ.(8/215)
الحَدِيث السَّادِس
ثَبت (أَن سبيعة الأَسلمية ولدت بعد وَفَاة زَوجهَا بِنصْف شهر فَقَالَ لَهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: حللت فَانْكِحِي من شِئْت من الْأزْوَاج» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مطولا أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث أم سَلمَة من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَنْهَا، وَمن حَدِيث الْمسور، عَن سبيعة.
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث أم سَلمَة أَيْضا، وَلَفظ الرَّافِعِيّ هُوَ لفظ إِحْدَى روايتي مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» برمتِهِ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيح تَقْدِير الْمدَّة بِنصْف شهر إِنَّمَا فِي البُخَارِيّ (أَنَّهَا وضعت بعده بِأَرْبَعِينَ لَيْلَة) وَفِي أُخْرَى لَهُ: «فَمَكثت قَرِيبا من عشر لَيَال» وَفِي أُخْرَى لَهُ: «بِليَال) من غير تعْيين.
وَفِي مُسلم هَذِه الْأَخِيرَة. وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث ابْن مَسْعُود (بِخمْس (عشرَة) لَيْلَة) . كَمَا فِي الرَّافِعِيّ وَفِي رِوَايَة لَهُ(8/216)
من حَدِيث الْأسود عَن أبي السنابل «بِثَلَاث وَعشْرين لَيْلَة» وَفِيه غير ذَلِكَ من الِاضْطِرَاب كَمَا أوضحته فِي شرحي لعمدة الْأَحْكَام فلتراجعه مِنْهُ.
فَائِدَة: اسْم زَوجهَا سعد بن خَوْلَة.
الحَدِيث السَّابِع
عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «امْرَأَة الْمَفْقُود تصبر حَتَّى يَأْتِيهَا يَقِين مَوته أَو طَلَاقه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارقطني فِي «سنَنه» ، عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن زِيَاد، ثَنَا مُحَمَّد بن الْفضل بن جَابر، ثَنَا (صَالح بن مَالك) ، ثَنَا سوار بن مُصعب، ثَنَا مُحَمَّد بن شُرَحْبِيل الْهَمدَانِي، عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «امْرَأَة الْمَفْقُود امْرَأَته حَتَّى يَأْتِيهَا الْخَبَر» . وَلم يُضعفهُ. وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف بِمرَّة، وَرِجَاله من مُحَمَّد بن الْفضل إِلَى الْمُغيرَة مَا بَين ضَعِيف ومجهول، مُحَمَّد بن الْفضل وَشَيْخه لَا يعرفان، كَمَا قَالَه ابْن الْقطَّان. وسوار واهٍ، قَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث. وَمُحَمّد بن شُرَحْبِيل: مَتْرُوك. قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: حَدِيث مُنكر قَالَ: (وَرَاوِيه) عَن الْمُغيرَة هُوَ(8/217)
مُحَمَّد بن شُرَحْبِيل وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث يروي عَن الْمُغيرَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَحَادِيث مَنَاكِير أباطيل. وَأعله عبد الْحق بِمُحَمد هَذَا فَقَط وَقَالَ إِنَّه مَتْرُوك، وأهمل مَا أسلفناه.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعد أَن رَوَى عَن عَلّي أَنَّهَا لَا (تتَزَوَّج) وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنَّهَا تلوم وتصبر.
وَرَوَى فِيهِ حَدِيث مُسْند فِي إِسْنَاده من لَا يحْتَج بحَديثه: أبنا أَبُو الْحسن (عَلّي بن أَحْمد) بن عَبْدَانِ، أَنا أَحْمد بن عبيد (الصفار) ، ثَنَا مُحَمَّد بن الْفضل بن جَابر، فَذكره كَمَا سَاقه الدَّارَقُطْنِيّ لَكِن لَفظه «الْبَيَان» بدل «الْخَبَر» .
قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ زَكَرِيَّا بن يَحْيَى الوَاسِطِيّ، عَن سوار بن مُصعب، وسوار ضَعِيف.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب. وَأما آثاره فستة وَعِشْرُونَ أثرا:
أَحدهَا، وَثَانِيها: عَن عَائِشَة، وَزيد بن ثَابت رَضي اللهُ عَنهما أَنَّهُمَا قَالَا: (إِذا طعنت الْمُطلقَة فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة فقد بَرِئت مِنْهُ) .
هَذَا صَحِيح عَنْهُمَا.
أما أثر عَائِشَة: فَرَوَاهُ مَالك فِي «موطئِهِ» ، عَن ابْن شهَاب، عَن(8/218)
عُرْوَة بن الزبير عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: «انْتَقَلت حَفْصَة بنت عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق حِين دخلت فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة، قَالَ ابْن شهَاب: فَذكرت ذَلِكَ لعمرة بنت عبد الرَّحْمَن فَقَالَت: صدق عُرْوَة (و) قد جادلها فِي ذَلِكَ النَّاس، وَقَالُوا: إِن الله - تَعَالَى - يَقُول: (ثَلَاثَة قُرُوء) ، فَقَالَت عَائِشَة: وتدرون مَا الْأَقْرَاء؟ إِنَّمَا الْأَقْرَاء الْأَطْهَار) قَالَ (ابْن) بكير: وأبنا مَالك، عَن ابْن شهَاب أَنه قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن يَقُول: مَا أدْركْت أحدا من فقهائنا إِلَّا وَهُوَ يَقُول: هَذَا يُرِيد الَّذِي قَالَت عَائِشَة (رَضي اللهُ عَنها. وَرَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ أَيْضا عَن عمْرَة عَن عَائِشَة) قَالَت: «إِذا دخلت الْمُطلقَة فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة فقد بَرِئت مِنْهُ» .
وَأما أثر زيد بن ثَابت: فَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» أَيْضا، عَن نَافِع، وَزيد بن أسلم، عَن سُلَيْمَان بن (يسَار) (أَن الْأَحْوَص هلك بِالشَّام حِين دخلت امْرَأَته فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة، وَقد كَانَ طَلقهَا وَكتب مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان إِلَى زيد بن ثَابت فَسَأَلَهُ عَن ذَلِكَ فَكتب إِلَيْهِ زيد أَنَّهَا إِذا دخلت فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة فقد بَرِئت مِنْهُ، وَبرئ مِنْهَا(8/219)
وَلَا تَرثه وَلَا يَرِثهَا) .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مَالك وَقَالَ: «وَكَانَ قد طَلقهَا» وَالْبَاقِي بِمثلِهِ وَرَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن الزُّهْرِيّ (عَن) سُلَيْمَان بن يسَار، قَالَ: (كتب مُعَاوِيَة إِلَى زيد فَكتب (زيد) إِذا طعنت الْمُطلقَة فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة فقد بَرِئت مِنْهُ) .
الْأَثر الثَّالِث، وَالرَّابِع: عَن عُثْمَان، وَابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما أَنَّهُمَا قَالَا: «إِذا طعنت فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة فَلَا رَجْعَة (لَهُ) » .
أما أثر عُثْمَان: فَغَرِيب لم أعثر عَلَيْهِ بعد الْبَحْث عَنهُ. وَأما أثر ابْن عمر، فَرَوَاهُ مَالك، وَالشَّافِعِيّ، عَنهُ، عَن نَافِع، عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول: (إِذا طلق الرجل امْرَأَته فَدخلت فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة فقد بَرِئت مِنْهُ وَبرئ مِنْهَا وَلَا تَرثه وَلَا يَرِثهَا.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من هَذَا الْوَجْه، وَمن حَدِيث أَيُّوب، عَن نَافِع عَنهُ، قَالَ: إِذا دخلت فِي الْحَيْضَة الثَّالِثَة فَلَا رَجْعَة لَهُ عَلَيْهَا.
الْأَثر الْخَامِس: قَالَ الرَّافِعِيّ: تَعْتَد الْأمة بقرءين عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه (قَالَ) : «يُطلق العَبْد تَطْلِيقَتَيْنِ وَتعْتَد الْأمة بقرءين» .(8/220)
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي، ثَنَا سُفْيَان، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن مولَى (آل) طَلْحَة، عَن سُلَيْمَان بن يسَار، عَن عبد الله بن عتبَة، عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: (ينْكح العَبْد امْرَأتَيْنِ وَيُطلق تَطْلِيقَتَيْنِ، وَتعْتَد الْأمة بحيضتين، فَإِن لم تكن تحيض فشهرين، أَو شهرا وَنصفا» . قَالَ سُفْيَان (وَكَانَ) ثِقَة.
ثمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَلّي بن الْمَدِينِيّ، حَدَّثَني يَحْيَى بن سعيد، ثَنَا شُعْبَة، حَدَّثَني مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن سُلَيْمَان بن يسَار، عَن عبد الله بن عتبَة، عَن عمر بن الْخطاب رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «عدَّة الْأمة إِذا لم تَحض شَهْرَيْن، وَإِذا حَاضَت حيضتين» .
ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق الشَّافِعِي: أبنا سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عَمْرو بن أَوْس الثَّقَفِيّ، عَن رجل من بني ثَقِيف أَنه سمع عمر بن الْخطاب يَقُول: (لَو اسْتَطَعْت لجعلتها حَيْضَة وَنصفا. فَقَالَ: رجل فاجعلها شهرا وَنصفا فَسكت عمر رَضي اللهُ عَنهُ) .
الْأَثر السَّادِس: قَالَ الرَّافِعِيّ عقب ذَلِكَ: وَيروَى ذَلِكَ عَن ابْن عمر مَرْفُوعا وموقوفًا. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أسلفنا فِي الْبَاب وأحلناه عَلَى الطَّلَاق.
الْأَثر السَّابِع: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالْقَدِيم أَنَّهَا تَتَرَبَّص تِسْعَة أشهر لنفي الْحمل، ثمَّ تَعْتَد بِالْأَشْهرِ وَهُوَ مَذْهَب عمر رَضي اللهُ عَنهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَقد رَوَاهُ(8/221)
مَالك، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن يَحْيَى بن سعيد، وَيزِيد بن عبد الله بن قسيط، عَن ابْن الْمسيب أَنه قَالَ: قَالَ عمر بن الْخطاب: «أَيّمَا امْرَأَة طلقت فَحَاضَت حَيْضَة أَو حيضتين، ثمَّ رفعتها حَيْضَة فَإِنَّهَا تنْتَظر تِسْعَة أشهر (فَإِن بَان بهَا حمل فَذَاك وَإِلَّا اعْتدت بعد التِّسْعَة ثَلَاثَة أشهر) ثمَّ حلت) .
الْأَثر الثَّامِن: «أَن حبَان بن منقذ طلق امْرَأَته طَلْقَة وَاحِدَة، وَكَانَت لَهَا مِنْهُ بُنية صَغِيرَة ترضعها فتباعد حَيْضهَا وَمرض حبَان. فَقيل لَهُ: إِنَّك إِن مت وَرثتك. فَمَضَى إِلَى عُثْمَان وَعِنْده عَلّي وَزيد رَضي اللهُ عَنهم فَسَأَلَهُ عَن ذَلِكَ فَقَالَ لعَلي وَزيد: مَا تريان؟ (فَقَالَا) : نرَى أَنَّهَا إِن مَاتَت ورثهَا، وَإِن مَاتَ ورثته؛ لِأَنَّهَا لَيست من الْقَوَاعِد اللَّاتِي يَئِسْنَ من الْمَحِيض وَلَا من اللواتي لم يحضن فَحَاضَت حيضتين، وَمَات حبَان قبل انْقِضَاء الثَّالِثَة فَورثَهَا عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن (سعيد بن سَالم) ، عَن ابْن جريج، عَن عبد الله بن أبي بكر، أخبرهُ «أَن رجلا من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ حبَان بن منقذ طلق امْرَأَته وَهُوَ صَحِيح، وَهِي ترْضع ابْنَته، فَمَكثَ سَبْعَة عشر شهرا لَا تحيض يمْنَعهَا الرَّضَاع أَن تحيض، ثمَّ مرض حبَان(8/222)
بعد أَن طَلقهَا بسبعة أشهر أَو ثَمَانِيَة، فَقيل لَهُ: إِن امْرَأَتك تُرِيدُ أَن تَرث. فَقَالَ لأَهله: احْمِلُونِي إِلَى عُثْمَان. فَحَمَلُوهُ إِلَيْهِ، فَذكر لَهُ شَأْن امْرَأَته وَعِنْده عَلّي بن أبي طَالب وَزيد بن ثَابت فَقَالَ لَهما عُثْمَان: مَا تريان؟ فَقَالَا: نرَى أَنَّهَا تَرثه إِن مَاتَ ويرثها إِن مَاتَت؛ فَإِنَّهَا لَيست من الْقَوَاعِد اللَّاتِي يئسن من الْمَحِيض، وَلَيْسَت من الْأَبْكَار اللَّاتِي لم يبلغن الْمَحِيض (ثمَّ) هِيَ عَلَى عدَّة حَيْضهَا مَا كَانَ (من) قَلِيل أَو كثير، فَرجع حبَان إِلَى أَهله فَأخذ ابْنَته فَلَمَّا فقدت الرَّضَاع حَاضَت حَيْضَة ثمَّ حَاضَت حَيْضَة أُخْرَى، ثمَّ توفّي حبَان قبل أَن تحيض الثَّالِثَة فاعتدت عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا وورثته» .
وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حبَان أَنه (قَالَ) : (كَانَت عِنْد جده حبَان امْرَأَتَانِ لَهُ هاشمية وأنصارية، فَطلق الْأَنْصَارِيَّة (وَهِي) ترْضع، فمرت بهَا سنة، ثمَّ هلك عَنْهَا وَلم تَحض، فَقَالَت: أَنا أرثه لم (أحض) فاختصما إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان فَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ، فلامت الهاشمية عُثْمَان، فَقَالَ عُثْمَان: ابْن عمك (هُوَ) أَشَارَ (علينا) بِهَذَا، يَعْنِي عَلّي بن أبي طَالب رَضي اللهُ عَنهُ» .
فَائِدَة: حَبان هَذَا بِفَتْح الْحَاء بِلَا خلاف، وَقد سلف فِي الْبيُوع وَاضحا، وَاسم هَذِه الْأَنْصَارِيَّة لم أره، وَأما الهاشمية فاسمها زَيْنَب(8/223)
الصُّغْرَى بنت ربيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب بن هَاشم الهاشمية. نبه عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» .
تَنْبِيه: ظَاهر إِيرَاد الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» أَن زَوْجَة حبَان هَذِه كَانَت مِمَّن انْقَطع حَيْضهَا بِغَيْر عَارض، وَلَيْسَ بجيد؛ لرِوَايَة الْبَيْهَقِيّ السالفة، والرافعي مَشَى عَلَى الصَّوَاب ذكره دَلِيلا عَلَى من انْقَطع حَيْضهَا بِعَارِض.
الْأَثر التَّاسِع: «أَن عَلْقَمَة طلق امْرَأَته طَلْقَة أَو طَلْقَتَيْنِ، فَحَاضَت حَيْضَة ثمَّ ارْتَفع حَيْضهَا سَبْعَة عشر شهرا، ثمَّ مَاتَت، فَأَتَى ابْن مَسْعُود فَقَالَ: حبس الله عَلَيْك مِيرَاثهَا. وَوَرَّثَهُ مِنْهَا» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُفْيَان، عَن حَمَّاد وَالْأَعْمَش وَمَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة بن قيس «أَنه طلق امْرَأَته تَطْلِيقَة أَو تطلقتين، ثمَّ حَاضَت حَيْضَة أَو حيضتين ثمَّ ارْتَفع حَيْضهَا سَبْعَة عشر شهرا، أَو ثَمَانِيَة عشر شهرا، ثمَّ مَاتَت (فجَاء) إِلَى ابْن مَسْعُود فَسَأَلَهُ فَقَالَ: حبس الله عَلَيْك مِيرَاثهَا. فورثه مِنْهَا» .
الْأَثر الْعَاشِر: مَذْهَب عمر فِي تربصها بسبعة أشهر ثمَّ تَعْتَد ثَلَاثَة أشهر، وَهَذَا قد سلف فِي الْبَاب قَرِيبا، وَهُوَ الْأَثر السَّابِع.
الْأَثر الْحَادِي عشر: قَالَ الرَّافِعُّي: وَرَوَى عَن عمر أَنه قَالَ: «أَيّمَا امْرَأَة طلقت فَحَاضَت حَيْضَة أَو حيضتين ثمَّ ارْتَفع حَيْضهَا فَإِنَّهَا تنْتَظر تِسْعَة أشهر، فَإِن بَان بهَا حمل فَذَاك، وَإِلَّا اعْتدت بِثَلَاثَة أشهر(8/224)
وحلت» . وَهَذَا الْأَثر هُوَ عين الْعَاشِر، وَالسَّابِع أَيْضا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِلَى ظَاهر هَذَا كَانَ يذهب الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ فِي الْجَدِيد إِلَى قَول ابْن مَسْعُود، ثمَّ حمل كَلَام عمر عَلَى كَلَام عبد الله فَقَالَ: قد يحْتَمل قَول عمر أَن تكون الْمَرْأَة قد بلغت السن الَّتِي من بلغَهَا من نسائها (يئسن من الْمَحِيض) فَلَا يكون مُخَالفا لقَوْل ابْن مَسْعُود، وَذَلِكَ وَجه عندنَا.
(الْأَثر الثَّانِي عشر) : عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه قَالَ فِي بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد: كَيفَ تبيعهن وَقد خالطت لحومنا لحومهن ودماءنا دماؤهن» .
هَذَا الْأَثر لم أره بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ، والرافعي ذكره دَلِيلا عَلَى أحد الْقَوْلَيْنِ فِي انْقِضَاء الْعدة، وَإِيجَاب الْغرَّة، وَحُصُول الِاسْتِيلَاد فِيمَا إِذا أَلْقَت (قِطْعَة) لحم وَقَالَ القوابل: إِنَّه أصل آدَمِيّ وَلَيْسَ فِيهِ صُورَة ظَاهِرَة وَفِي «الْمُوَطَّأ» عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: أَيّمَا وَلِيدة ولدت من سَيِّدهَا فَإِنَّهُ لَا يَبِيعهَا وَلَا يَهَبهَا وَلَا يُورثهَا ويستمتع بهَا مَا عَاشَ فَإِذا مَاتَ فَهِيَ حرَّة.
تَنْبِيه: ذكر الرَّافِعِيّ هَذَا عَن مَالك أَنه قَالَ: هَذِه جارتنا امْرَأَة مُحَمَّد بن عجلَان امْرَأَة صدق (وَزوجهَا رجل صدق) ، حملت ثَلَاثَة(8/225)
أبطن فِي اثْنَي عشر سنة تحمل كل بطن أَربع سِنِين. وَهَذَا لَا يلْزَمنِي تَخْرِيجه لكني أتبرع بِهِ، وَهَذَا قد أسْندهُ الدَّارقُطْنيُّ إِلَيْهِ قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرَوَى القتيبي أَن (هرم) بن حَيَّان حملت بِهِ أُمُّهُ ارْبَعْ سِنِين.
قلت: عبارَة (ابْن حزم) فِي إِيرَاده أَنَّهَا حملت بِهِ سنتَيْن فَإِنَّهُ لما حَكَى عَن الزُّهْرِيّ وَمَالك: أَن أَكثر الْحمل سبع سِنِين قَالَ: وَاحْتج مقلدون بِأَن مَالِكًا ولد لثَلَاثَة أَعْوَام وَأَن نسَاء من العجلان (ولدن) لثلاثين شهرا، وَأَن مولاة لعمر بن عبد الْعَزِيز حملت ثَلَاث سِنِين، وأَن (هرم) بن حَيَّان، وَالضَّحَّاك بن مُزَاحم حمل بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا سنتَيْن، قَالَ مَالك: بَلغنِي عَن امْرَأَة حملت سبع سِنِين. ثمَّ وَهَّى ذَلِكَ قَالَ: وَلَا يجوز أَن يكون حمل أَكثر من تِسْعَة أشهر وَلَا أقل من سِتَّة أشهر لقَوْله تَعَالَى: (وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا) وَقَوله: (والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة) فَمن ادَّعَى حملا وفصالاً يكون أَكثر من ثَلَاثِينَ شهرا فقد قَالَ الْبَاطِل والمحال، ورد كَلَام الله(8/226)
جهارًا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يكون الْحمل عَاميْنِ قَالَ: وَاحْتج لَهُ أَصْحَابه بِحَدِيث فِيهِ الْحَارِث بن حصيرة - وَهُوَ هَالك -: (أَن ابْن صياد ولد لِسنتَيْنِ) وَهَذَا كذب وباطل، وَابْن حصيرة هَذَا - سَيَأْتِي - يَقُول بالرجعة.
وَعَن أبي سُفْيَان، عَن أَشْيَاخ لَهُم عَن عمر «أَنه رفع إِلَيْهِ امْرَأَة غَابَ عَنْهَا زَوجهَا سنتَيْن فجَاء وَهِي حُبْلَى فهم (عمر) برجمها فَقَالَ لَهُ معَاذ بن جبل: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن يكون السَّبِيل لَك عَلَيْهَا فَلَا سَبِيل لَك عَلَى مَا فِي بَطنهَا، فَتَركهَا عمر حَتَّى ولدت فَولدت غُلَاما قد نَبتَت ثناياه فَعرف زَوجهَا (شبهها) ، فَقَالَ عمر: عجز النِّسَاء أَن (يلدن) مثل معَاذ، لَوْلَا معَاذ هلك عمر» . قَالَ ابْن حزم: وَهَذَا أَيْضا بَاطِل؛ لِأَنَّهُ عَن أبي سُفْيَان، وَهُوَ ضَعِيف، عَن أَشْيَاخ لَهُم وهم مَجْهُولُونَ. وَمن طَرِيق سعيد بن مَنْصُور، ثَنَا دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن، عَن ابْن جريج، عَن جميلَة بنت سعد، عَن عَائِشَةَ أُم الْمُؤْمنينَ قَالَتْ: «مَا تزيد الْمَرْأَة فِي الْحمل عَلَى سنتَيْن قدر مَا يتَحَوَّل ظلّ هَذَا المغزل» . جميلَة بنت سعد مَجْهُولَة لَا يُدْرَى من هِيَ، فَبَطل هَذَا القَوْل.
وَقَالَت طَائِفَة لَا يكون الْحمل أَكثر من أَربع سِنِين، (رويناهُ عَن سعيد بن الْمسيب) من طَرِيق فيهَا عَلّي بن (زيد) بن جدعَان، وَهُوَ ضَعِيف، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَلَا نعلم لهَذَا القَوْل شُبْهَة تعلقوا بهَا أصلا.(8/227)
وَقَالَت طَائِفَة: يكون الْحمل خمس سِنِين وَلَا يكون أَكثر أصلا، وَهُوَ قَول [عباد] بن الْعَوام، وَاللَّيْث، وَرُوِيَ عَن مَالك أَيْضا، وَلَا نعلم لَهُ مُتَعَلقا أصلا ثمَّ حَكَى القَوْل السالف، فاستفد ذَلِكَ.
فَائِدَة: قَوْله: امْرَأَة صدقٍ هُوَ منون عَلَى الْوَصْف بِالْمَصْدَرِ للْمُبَالَغَة بِمَعْنى صَادِق، كَرجل عدل وَامْرَأَة عدلٍ أَي: عَادل، وعادلة. وَفِي تَأْوِيله مَذَاهِب للنحاة مَشْهُورَة.
وهرم بِفَتْح الْهَاء، وَرَأَيْت من عاصرته من الْفُقَهَاء يُسَكِّنُ رَاءهُ وَالَّذِي أحفظ كسرهَا. وحيان: بمثناة تَحت. وَقد ذكر النَّوَوِيّ فِي آخر فَتَاوِيهِ أَنه اشْتهر فِي كتب الرَّقَائِق أَنه حِين دفنوه أرسل الله سحابًا فأمطرت حوالي الْقَبْر وَلم يصب الْقَبْر مِنْهُ شَيْئا.
الْأَثر الثَّالِث عشر: «أَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ فِي امْرَأَة الْمَفْقُود: تتَربص أَربع سِنِين ثمَّ تَعْتَد بعد ذَلِكَ» .
هَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: «أَيّمَا امْرَأَة فقدت زَوجهَا فَلم تدر أَيْن هُوَ فَإِنَّهَا تنْتَظر أَربع سِنِين، ثمَّ تنْتَظر أَرْبَعَة أشهر وَعشرا» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي كَذَلِك عَنهُ، وَفِي رِوَايَة (ابْن) بكير، عَن مَالك: (ثمَّ تحل) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ يُونُس بن يزِيد، عَن الزُّهْرِيّ،(8/228)
وَزَاد فِيهِ قَالَ: وَقَضَى فِي ذَلِكَ عُثْمَان بن عَفَّان بعد عمر رَضي اللهُ عَنهما. قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو عبيد، عَن مُحَمَّد بن كثير، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب أَن عمر، وَعُثْمَان رَضي اللهُ عَنهما قَالَا: «امْرَأَة الْمَفْقُود تَتَرَبَّص أَربع سِنِين ثمَّ تَعْتَد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، ثمَّ تنْكح» .
ثمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يزِيد بن هَارُون، أبنا سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ «أَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أجل امْرَأَة الْمَفْقُود أَربع سِنِين» . ثمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث شُعْبَة: سَمِعت منصورًا يحدث، عَن الْمنْهَال بن عَمْرو، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، قَالَ: «قَضَى عمر فِي الْمَفْقُود تربص امرأتُه أَربع سِنِين، ثمَّ يطلقهَا (ولي) زَوجهَا، ثمَّ تربص بعد ذَلِكَ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا ثمَّ تُزَوَّج» .
الْأَثر الرَّابِع عشر، وَالْخَامِس عشر: عَن عمر، وَعلي رَضي اللهُ عَنهما أَنَّهُمَا قَالَا: «إِذا كَانَ عَلَى الْمَرْأَة عدتان من شَخْصَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَا يتداخلان» .
وَهَذَا صَحِيح عَنْهُمَا، أما الأول: فَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ رَضي اللهُ عَنهُ، عَن ابْن شهَاب، عَن سعيد بن الْمسيب، وَسليمَان بن يسَار أَن طليحَة كَانَت تَحت رشيد الثَّقَفِيّ وَطَلقهَا الْبَتَّةَ، فنكحت فِي عدتهَا فضربها عمر رَضي اللهُ عَنهُ، وَضرب زَوجهَا بالمخفقة ضربات وَفرق بَينهمَا ثمَّ قَالَ عمر بن الْخطاب رَضي اللهُ عَنهُ: أَيّمَا امْرَأَة نكحت فِي عدتهَا فَإِن كَانَ زَوجهَا الَّذِي تزَوجهَا لم يدْخل بهَا فرق بَينهمَا ثمَّ اعْتدت بَقِيَّة عدتهَا من(8/229)
زَوجهَا الأول وَكَانَ خاطبًا من الْخطاب، وَإِن كَانَ دخل بهَا فرق بَينهمَا، ثمَّ اعْتدت بَقِيَّة عدتهَا من زَوجهَا الأول، ثمَّ اعْتدت من الآخر ثمَّ لم (ينْكِحهَا) أبدا. قَالَ سعيد - يَعْنِي ابْن الْمسيب -: وَلها مهرهَا بِمَا اسْتحلَّ مِنْهَا» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقَوله: «لم ينْكِحهَا أبدا» قد كَانَ الشَّافِعِي يَقُول بِهِ فِي الْقَدِيم ثمَّ رَجَعَ عَنهُ كَمَا رَوَى الثَّوْريّ، عَن أَشْعَث، عَن الشّعبِيّ، عَن مَسْرُوق «أَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ رَجَعَ عَن ذَلِكَ وَجعل لَهَا مهرهَا وجعلهما يَجْتَمِعَانِ» .
وَأما الْأَثر الثَّانِي فَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن يَحْيَى بن حسان، عَن جرير، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن زَاذَان أبي عمر، عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه قَضَى فِي الَّذِي تزوج فِي عدتهَا أَنه يفرق بَينهمَا وَلها الصَدَاق (بِمَا) اسْتحلَّ من فرجهَا وتكمل مَا أفسدت من عدَّة الأول، وَتعْتَد من الآخر» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث سُفْيَان، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء عَن عَلّي «فِي الَّتِي تُزوج فِي عدتهَا قَالَ: تكمل بَقِيَّة عدتهَا من الأول، ثمَّ تَعْتَد من الآخر عدَّة جَدِيدَة» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا.
الْأَثر السَّادِس عشر: عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: « (لَو) وضعت وَزوجهَا عَلَى السرير حلت» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن نَافِع، عَن(8/230)
ابْن عمر «أَنه سُئِلَ عَن الْمَرْأَة يتوفى عَنْهَا زَوجهَا وَهِي حَامِل فَقَالَ ابْن عمر: إِذا وضعت حملهَا فقد حلت. فَأخْبرهُ رجل من الْأَنْصَار أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: لَو ولدت وَزوجهَا عَلَى السرير لم يدْفن (لحلت)) .
الْأَثر السَّابِع عشر: عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها أَنَّهَا قَالَت: «لَو استقبلنا من أمرنَا مَا استدبرنا مَا غسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا نساؤه» .
وَهَذَا الْأَثر حسن صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَقَالَ صَاحب «الْإِلْمَام» : فِي إِسْنَاده يَحْيَى بن عباد، وَقد وَثَّقَهُ يَحْيَى. وَعباد أخرج لَهُ مُسلم.
فعلَى (قَوْلهمَا) هُوَ صَحِيح.
فَائِدَة: قيل إِن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها كَانَت تظن أَنَّهُنَّ لَو تركن حقهن من غسله (تولى) أَبُو بكر الْغسْل، فَلَمَّا تولاه عَلّي وَالْعَبَّاس نَدِمت عَلَى مَا تركت. ذكره فِي «النِّهَايَة» .
الْأَثر الثَّامِن عشر: «أَن أَسمَاء بنت عُمَيْس (غسلت) زَوجهَا أَبَا بكر وَكَانَ قد أَوْصَى بذلك» وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْوَاقِدِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن أخي الزُّهْرِيّ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة قَالَت: «توفّي أَبُو بكر رَضي اللهُ عَنهُ لَيْلَة الثُّلَاثَاء لثمان بَقينَ من(8/231)
جُمَادَى الأولَى سنة ثَلَاث عشرَة وَأَوْصَى أَن تغسله أَسمَاء بنت عُمَيْس امْرَأَته وَأَنَّهَا ضعفت فاستعانت بِعَبْد الرَّحْمَن» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الْمَوْصُول وَإِن كَانَ رَاوِيه مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ صَاحب التَّارِيخ والمغازي وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ فَلهُ شَوَاهِد مَرَاسِيل عَن ابْن أبي مليكَة، وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن سعد بن إِبْرَاهِيم «أَن أَسمَاء بنت عُمَيْس غسلت زَوجهَا أَبَا بكر» وَذكر بَعضهم أَن أَبَا بكر أَوْصَى بذلك. ثمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عَائِشَة وَضَعفه، وَفِي «الْمُوَطَّأ» عَن عبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم «أَن أَسمَاء بنت عُمَيْس غسلت أَبَا بكر الصّديق، فَلَمَّا فرغت قَالَت لمن حضرها من (الْمُهَاجِرين) : إِنِّي صَائِمَة وَإِن هَذَا يَوْم شَدِيد الْبرد فَهَل عليَّ من غسل؟ قَالُوا: لَا» . وَهَذَا مُنْقَطع.
فَائِدَة: عُمَيْس تَصْغِير عمس - بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم ثمَّ سين مُهْملَة - وَهُوَ التجاهل أَي إِظْهَار الْجَهْل بالشَّيْء وَأَنت عَارِف بِهِ.
الْأَثر التَّاسِع عشر وَالْعشْرُونَ وَالْحَادِي وَالْعشْرُونَ: لما حَكَى الرَّافِعِيّ عَن الْقَدِيم أَن امْرَأَة الْمَفْقُود تَتَرَبَّص أَربع سِنِين وَتعْتَد عدَّة الْوَفَاة ثمَّ تُنكح. قَالَ: وَيروَى ذَلِكَ عَن عمر وَعُثْمَان وَابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهم.
وَهُوَ كَمَا قَالَ أما أثر عمر فقد سلف عَن رِوَايَة «الْمُوَطَّأ» وَأما أثر عُثْمَان فسلف فِيهِ أَيْضا، وَأما أثر ابْن عَبَّاس فَذكره أَبُو عبيد عَلَى مَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ عَن يزِيد، عَن سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن جَعْفَر بن أبي وحشية، عَن عَمْرو بن هرم، عَن جَابر بن (زيد) «أَنه شهد ابْن عَبَّاس(8/232)
وَابْن عمر تذاكرا امْرَأَة الْمَفْقُود، فَقَالَا: تربص بِنَفسِهَا أَربع سِنِين، ثمَّ تَعْتَد عدَّة الْوَفَاة. حَتَّى ذكرُوا النَّفَقَة فقَالَ ابْن عمر: لَهَا نَفَقَتهَا لحبسها نَفسهَا عَلَيْهِ. قَالَ ابْن عَبَّاس: إِذا يضر ذَلِكَ بِأَهْل الْمِيرَاث، وَلَكِن لتنفق، فَإِن قدم أَخَذته من مَاله وَإِن لم يقدم فَلَا شَيْء لَهَا» .
الْأَثر الثَّانِي وَالثَّالِث بعد الْعشْرين: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَاحْتج للجديد أَنه لَا يجوز لَهَا أَن تُنكح حَتَّى تتيقن مَوته أَو طَلَاقه وَتعْتَد بِمَا رُوِيَ عَن الْمُغيرَة فَذكر الحَدِيث السالف الْمَرْفُوع الواهي. وَعَن عَلَى أَنه قَالَ: «هَذِه امْرَأَة ابْتليت فَلتَصْبِر» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن يَحْيَى بن حسان، عَن أبي عوَانَة، عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، عَن الْمنْهَال بن (عَمْرو) ، عَن عباد بن عبد الله الْأَسدي، عَن عَلّي «قَالَ فِي امْرَأَة الْمَفْقُود: إِنَّهَا لَا تتَزَوَّج» وَذكره مرّة بِغَيْر إِسْنَاد فَقَالَ: وَقَالَ عليّ فِي امْرَأَة الْمَفْقُود: «امْرَأَة ابْتليت فَلتَصْبِر لَا تنْكح حَتَّى يَأْتِيهَا نعي مَوته» قَالَ الشَّافِعِي: وَبِهَذَا نقُول. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرِوَايَة خلاس بن (عَمْرو) عَن أبي الْمليح، عَن عَلّي: «إِذا جَاءَ الأول خير بَين الصَدَاق الْأَخير وَبَين امْرَأَته» . ضَعِيفَة، وَأَبُو(8/233)
الْمليح لم يسمعهُ من عَلّي، ثمَّ رَوَى عَنهُ مَا يضعف هَذَا ووهاه، ثمَّ قَالَ: وَالْمَشْهُور عَن عَلّي الأول.
الْأَثر الرَّابِع بعد الْعشْرين: «أَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ لما عَاد الْمَفْقُود مكنه من أَخذ زَوجته» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سعد، عَن قَتَادَة، عَن أبي نَضرة، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، وَقد سقته بِطُولِهِ فِي تخريجي لأحاديث «الْمُهَذّب» فَرَاجعه مِنْهُ.
الْأَثر الْخَامِس بعد الْعشْرين: لما حَكَى الرَّافِعِيّ، عَن الْكَرَابِيسِي، عَن الشَّافِعِي أَن الْمَفْقُود بِالْخِيَارِ بَين أَن يَنْزِعهَا من الثَّانِي، وَبَين أَن يَتْرُكهَا وَيَأْخُذ مهر الْمثل مِنْهُ. قَالَ: مُسْتَنده أَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ كَذَلِك قَضَى، هُوَ كَمَا قَالَ، وَهُوَ فِي الْأَثر الْمشَار إِلَيْهِ قَرِيبا كَذَلِك سَوَاء.
الْأَثر السَّادِس بعد الْعشْرين: ذكر الرَّافِعِيّ أَن الزَّوْج الْغَائِب إِذا طلق أَو مَاتَ فالعدة من وَقت الطَّلَاق أَو الْمَوْت لَا من وَقت بُلُوغ الْخَبَر، قَالَ: وَعَن بعض (الصَّحَابَة) خِلَافه، وَهَذَا الَّذِي أفهمهُ الرَّافِعِيّ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث شُعْبَة، عَن الحكم بن عتيبة، عَن أبي صَادِق أَن عليًّا قَالَ: «تَعْتَد من يَوْم يَأْتِيهَا الْخَبَر» ثمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الشّعبِيّ، عَن عَلّي. وَقد رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي كتاب عَلّي، وَعبد الله بلاغًا عَن (هشيم) ، عَن أَشْعَث، عَن الحكم، عَن أبي(8/234)
صَادِق، عَن ربيعَة بن (ناجد) ، عَن عَلّي، قَالَ: «الْعدة من يَوْم يَمُوت أَو يُطلق» قَالَ: وَالرِّوَايَة الأولَى عَن عَلّي أشهر، وَنحن إِنَّمَا نقُول بِمَا قدمْنَاهُ من قَول غَيره اسْتِدْلَالا بِالْكتاب، وَأَشَارَ بذلك إِلَى مَا أخرجه أَولا من حَدِيث نَافِع، عَن عمر قَالَ: «تَعْتَد الْمُطلقَة والمتوفى عَنْهَا زَوجهَا مُنْذُ يَوْم طلقت وَتُوفِّي عَنْهَا زَوجهَا» .
وَعَن الْأسود، ومسروق، وَعبيدَة، عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: «عدَّة الْمُطلقَة من حِين تطلق، والمتوفى عَنْهَا زَوجهَا من حِين يتوفى» .
(و) روينَا عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن جَابر، عَن زيد أَحْسبهُ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «من (يَوْم) يَمُوت» . وَفِي كتاب ابْن الْمُنْذر، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «تَعْتَد من يَوْم طَلقهَا أَو مَاتَ عَنْهَا» .
ثمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ، عَن سعيد بن جُبَير، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَسليمَان بن يسَار أَنهم قَالُوا: من يَوْم مَاتَ أَو طلق. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح، وَالنَّخَعِيّ، وَالزهْرِيّ، وَغَيرهم.(8/235)
بَاب الْإِحْدَاد
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسَة أَحَادِيث:
أَحدهَا: عَن أم عَطِيَّة رَضي اللهُ عَنها أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تحد الْمَرْأَة فَوق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زوج فَإِنَّهَا تحد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، وَلَا تلبس ثوبا مصبوغًا إِلَّا ثوب عصب وَلَا تكتحل وَلَا تمس طيبا إِلَّا إِذا طهرت نبذة من قسط أَو أظفار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه، وللنسائي «وَلَا تمشط» وَرِجَاله ثِقَات عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ خلا شَيْخه [حُسَيْن بن] مُحَمَّد بن أَيُّوب الزَّارِع فَإِنَّهُ صَدُوق كَمَا قَالَه أَبُو حَاتِم.
فَائِدَة: «لَا تحُد» هُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة مَضْمُومَة ومكسورة، وبالمعجمة وَهُوَ غَرِيب، والعصب - بِالْعينِ وَالصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ -: ضرب من برود الْيمن، كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب وَهُوَ مَا صبغ غَزْلُه.
والنُبذة - بِضَم النُّون -: الْقطعَة وَالشَّيْء الْيَسِير وَأدْخل فِيهِ(8/236)
(الْهَاء) لإِرَادَة الْقطعَة كَمَا نبه عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب، والقُسط - بِضَم الْقَاف، وَيُقَال: بِالْكَاف كَمَا ورد فِي بعض رِوَايَات البُخَارِيّ. (وبتاء بدل) من الطَّاء لَا بِالْبَاء الْمُوَحدَة فَإِنَّهُ تَصْحِيف، وَهُوَ والأظفار نَوْعَانِ (من) البخُور، وليسا من مَقْصُود الطّيب، رخص فِيهِ للمغتسلة من الْحيض لإِزَالَة الرَّائِحَة الكريهة تتبع أثر الدَّم لَا للتطيب. والأظفار - بالظاء الْمُعْجَمَة -: جمع لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَقيل: مفرده: ظفر. حَكَاهُ ابْن الْأَثِير.
وَقَوله: «من قسط أَو أظفار» : قَالَ الرَّافِعِيّ: قد يرْوَى هَكَذَا عَلَى الشَّك، وَيروَى «من قسط وأظفار» وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَالْأولَى هِيَ المودوعة فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالثَّانيَِة فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» غير مُتَّصِلَة، وَفِي النَّسَائِيّ أَيْضا.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أم سَلمَة رَضي اللهُ عَنها أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا لَا تَلْبس المعصفر من الثِّيَاب وَلَا الممشقة وَلَا الحُلي وَلَا تختضب وَلَا تكتحل» .
هَذَا الحَدِيث كرر الرَّافِعِيّ بعضه فِي الْبَاب وَهُوَ حَدِيث حسن، رَوَاهُ(8/237)
أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد جيد إِلَّا أَن س لم يذكر (الْحلِيّ) ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ (مَوْقُوفا) عَلَيْهَا.
وَأما أَبُو مُحَمَّد بن حزم فوهاه فَقَالَ بعد أَن أخرجه: فِي هَذَا الْخَبَر ذكر الْحلِيّ وَلَا يَصح؛ لِأَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان ضَعِيف. وَإِبْرَاهِيم هَذَا هُوَ فِي طَرِيق الْجَمَاعَة؛ لأَنهم أَخْرجُوهُ من حَدِيث يَحْيَى بن أبي كثير عَنهُ، عَن بديل، عَن الْحسن بن مُسلم، عَن صَفِيَّة بنت شيبَة، عَن أم سَلمَة، وَإِبْرَاهِيم هَذَا احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَوَثَّقَهُ النَّاس، وأثنوا عَلَيْهِ، نعم رَمَوْهُ بالإرجاء، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ثِقَة، إِنَّمَا تكلمُوا فِيهِ للإرجاء، وَانْفَرَدَ ابْن عمار الْموصِلِي فَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف مُضْطَرب الحَدِيث وَلم ينْفَرد بِهِ إِبْرَاهِيم بل تَابعه معمر عَلَيْهِ. أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث أبي أُسَامَة، عَن سُفْيَان، عَن معمر، عَن بديل بِهِ بِلَفْظ: «لَا (تخضب) الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا وَلَا تكتحل، وَلَا تطيب،(8/238)
وَلَا تلبس ثوبا مصبوغًا وَلَا تلبس حليًّا» . وَقد أخرج ابْن حزم هَذَا بعد من طَرِيق عبد الرَّزَّاق، عَن معمر بِهِ لكنه أخرجه مَوْقُوفا. نعم الرافع مَعَه زِيَادَة علم، وَأم سَلمَة لَا تَقول هَذَا إِلَّا عَن تَوْقِيف من الشَّارِع.
فَائِدَة: الممشقة: المصبوغة بالمشق، وَهُوَ الْمغرَة. قَالَه الرَّافِعِيّ، قَالَ: وَيُقَال: شبه الْمغرَة وَهُوَ الطين الْأَحْمَر، وَقد تحرّك الْغَيْن، والعامة تنطق بِهِ مضموم الْمِيم، وَالصَّوَاب فتحهَا.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد عَلَى ميت فَوق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زوج أَرْبَعَة أشهر وَعشرا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك من هَذَا الْوَجْه.
تَنْبِيه: ادَّعَى الرَّافِعِيّ أَن عُمُوم «لَا يحل لامْرَأَة» دَالٌّ عَلَى تَحْرِيم الْإِحْدَاد عَلَى الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَة، وَفِيه نظر، فَإِن (الْمَوْت) لَا يُؤثر فِي عدتهَا وَقد يُجَاب بِأَن فرض المسئلة فِي عدتهَا عَن مستفرشها بِشُبْهَة إِذا مَاتَ 1651) .(8/239)
الحَدِيث الرَّابِع
عَن أم عَطِيَّة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كُنَّا ننهى أَن نحد عَلَى ميت فَوق ثَلَاث إِلَّا عَلَى زوج أَرْبَعَة أشهر وَعشرا وَأَن نكتحل وَأَن نلبس ثوبا معصفرًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: بدل «ثوبا معصفرًا» «ثوبا مصبوغًا إِلَّا ثوب عصب» كَمَا سلف أول الْبَاب.
الحَدِيث الْخَامِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل عَلَى أم سَلمَة وَهِي حادة عَلَى أبي سَلمَة، وَقد جعلت عَلَى عينهَا صبرا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أم سَلمَة؟ فَقَالَت: هُوَ صَبر لَا طيب فِيهِ. قَالَ: اجعليه بِاللَّيْلِ، وامسحيه بِالنَّهَارِ» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي «الْأُم» فَقَالَ: أبنا مَالك أَنه بلغه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل عَلَى أم سَلمَة وَهِي حادة عَلَى أبي سَلمَة وَقد جعلت عَلَى عينهَا صبرا فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أم سَلمَة؟ فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا هُوَ صَبر. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: اجعليه بِاللَّيْلِ وامسحيه بِالنَّهَارِ» .
وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» (بلاغًا) أَيْضا كَذَلِك، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ مُسْندًا من حَدِيث ابْن وهب، عَن مخرمَة بن بكير،(8/240)
عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت الْمُغيرَة بن الضَّحَّاك يَقُول: أَخْبَرتنِي أم حَكِيم بنت أسيد، عَن أمهَا «أَن زَوجهَا توفّي، وَكَانَت تَشْتَكِي عينهَا فتكتحل بكحل الْجلاء» . قَالَ أَحْمد - يَعْنِي ابْن صَالح أحد رُوَاته -: الصَّوَاب كحل الجلا يَعْنِي مَقْصُور - فَأرْسلت (مولَى) لَهَا إِلَى أم سَلمَة فَسَأَلَهَا عَن كحل الْجلاء فَقَالَت: لَا (تكتحل) بِهِ إِلَّا من أَمر لَا بُد مِنْهُ يشْتَد عَلَيْك فتكتحليه بِاللَّيْلِ وتمسحيه بِالنَّهَارِ، ثمَّ قَالَت عِنْد ذَلِكَ أم سَلمَة: دخل عَليَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين توفّي أَبُو سَلمَة، وَقد جعلت عَلَى (عَيْني) صبرا فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أم سَلمَة؟ فَقَالَت: إِنَّمَا هُوَ صَبر يَا رَسُول الله لَيْسَ فِيهِ طيب (قَالَ) : إِنَّه ليشب الْوَجْه فَلَا تجعليه إِلَّا بِاللَّيْلِ وتنزعيه بِالنَّهَارِ، وَلَا تمتشطي بالطيب وَلَا بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خضاب. قلت: بِأَيّ شَيْء أمتشط يَا رَسُول الله؟ قَالَ: بالسدر تغلفين بِهِ رَأسك» .
هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَلَفظ النَّسَائِيّ مثله إِلَّا أَنه لم يذكر قَول أَحْمد، وَلَا قَوْله: « (وتنزعه) بِالنَّهَارِ» .
وَلما أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث مَالك بلاغًا قَالَ: هَذَا مُنْقَطع. قَالَ: وَقد روينَا بِإِسْنَاد مَوْصُول ... فَذكره من طَرِيق أبي دَاوُد، وَلَعَلَّه يرَى بِسَمَاع مخرمَة من أَبِيه، وَفِيه خلاف. وَأعله الْمُنْذِرِيّ بِجَهَالَة أم حَكِيم، فَقَالَ: أمهَا مَجْهُولَة. وَقَالَ عبد الْحق: لَيْسَ لهَذَا الحَدِيث إِسْنَاد يعرف؛ لِأَنَّهُ عَن أم حَكِيم، عَن أمهَا، عَن مولاة لَهَا، عَن أم سَلمَة.(8/241)
فَائِدَة: الصَّبْر - بِكَسْر الْبَاء، وَيجوز إسكانها - مَعْرُوف، قَالَ الْأَزْهَرِي: والجلاء، والجلي، والجلا: الإثمد، وَقيل: كحل وَقد جَاءَ فِي بعض نسخ «الْمُوَطَّأ» بِالْكَسْرِ وَالْمدّ، وَقد سلف مَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد. وَقَالَ الْخطابِيّ: سمي بذلك لِأَنَّهُ يجلو الْعين. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» : هُوَ بِالْفَتْح وَالْقصر: كحل الإثمد، وبالكسر وَالْمدّ: كحل، وَمَعْنى يشب الْوَجْه: يوقده وينوره، من شب النَّار إِذا أوقدها، وَقَوله: «تغلفين رَأسك» يُقَال: غلفت الْمَرْأَة وَجههَا بالحمرة، إِذا جَعلتهَا (عَلَيْهِ) ، وَكَذَلِكَ غلفت شعرهَا إِذا لطخت بهَا وَأَكْثَرت مِنْهَا.(8/242)
بَاب السُّكْنَى للمعتدة
ذكر فِيهِ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث (فسبعة) :
الحَدِيث الأول
«أَن فريعة بنت مَالك أُخْت أبي سعيد الْخُدْرِيّ قتل زَوجهَا فَسَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن ترجع إِلَى أَهلهَا وَقَالَت: إِن زَوجي لم يتركني فِي منزل (يملكهُ) فأَذِنَ لَهَا فِي الرّجُوع قَالَت: فَانْصَرَفت حَتَّى إِذا كنت فِي (الْحُجْرَة) أَو فِي الْمَسْجِد دَعَاني فَقَالَ: امكثي فِي بَيْتك حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله. قَالَت: فاعتددت فِيهِ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن سعد بن إِسْحَاق، عَن عمته زَيْنَب، عَن الفريعة.
وَأحمد عَن يَحْيَى بن سعيد عَن سعد بِهِ. وَأَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي، وَالتِّرْمِذِيّ، عَن مُحَمَّد بن بشار، عَن يَحْيَى بن سعيد بِهِ،(8/243)
وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى، عَن (معن) ، عَن مَالك بِهِ.
وَالنَّسَائِيّ، عَن قُتَيْبَة، عَن اللَّيْث.
وَمن طَرِيق آخر عَن سعد بن إِسْحَاق.
وَابْن مَاجَه، عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر، عَن سعد بِهِ.
وَالطَّبَرَانِيّ عَن عَلّي بن عبد الْعَزِيز، وَأبي مُسلم الْكشِّي، عَن القعْنبِي، عَن مَالك، وَلما رَوَاهُ عبد الْغَنِيّ بن سعيد من حَدِيث اللَّيْث بن سعد، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن يزِيد بن مُحَمَّد، عَن سعد بن إِسْحَاق، قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث يزِيد بن مُحَمَّد لَا أعلم حدَّث بِهِ عَنهُ إِلَّا يزِيد بن أبي حبيب.
قلت: وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن إِسْحَاق، وَأَبُو بَحر البكراوي، عَن سعد كَذَلِك، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن زيد، عَن إِسْحَاق بن سعد، وَقيل: عَن حَمَّاد، عَن سعد بن إِسْحَاق، وَإِسْحَاق من رِوَايَة حَمَّاد أشهر، وَسعد(8/244)
من رِوَايَة (غَيره أشهر) كَمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ، قَالَ: وَزعم مُحَمَّد بن يَحْيَى الذهلي - فِيمَا يرَى - أَنَّهُمَا اثْنَان.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فَإِن لم يَكُونَا اثْنَيْنِ فسعد بن إِسْحَاق أولَى لموافقته سَائِر الروَاة عَن سعد، قَالَ: والْحَدِيث مَشْهُور بِسَعْد بن إِسْحَاق، وَقد رَوَاهُ عَنهُ جمَاعَة من الْأَئِمَّة.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : قَول من قَالَ عَن سعد بن إِسْحَاق هُوَ الصَّحِيح. وسياقة الحَدِيث لمَالِك، وَالشَّافِعِيّ، وَأبي دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، عَن سعد بن إِسْحَاق بن كَعْب بن عجْرَة، عَن عمته زَيْنَب بنت كَعْب بن عجْرَة «أَن الفريعة بنت مَالك بن سِنَان - وَهِي أُخْت أبي سعيد الْخُدْرِيّ - أخْبرتهَا أَنَّهَا جَاءَت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تسأله أَن ترجع إِلَى أَهلهَا فِي بني خُدرة؛ فَإِن زَوجهَا خرج فِي طلب أعبد لَهُ أَبقوا حَتَّى إِذا كَانُوا بِطرف الْقدوم لحقهم فَقَتَلُوهُ، قَالَت: فَسَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أرجع إِلَى أَهلِي فِي بني خدرة فَإِن زَوجي لم يتركني فِي مسكن يملكهُ وَلَا نفقةٍ، قَالَت: فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: نعم. قَالَت: فَانْصَرَفت حَتَّى إِذا كنت فِي (الْحُجْرَة) ناداني رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَو أمَر بِي فنوديت، فَقَالَ: كَيفَ قلت؟ فَرددت عَلَيْهِ الْقِصَّة الَّتِي ذكرت لَهُ من (شَأْن) زَوجي، فَقَالَ: أبيتي فِي بَيْتك حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله. قَالَت: فاعتددت فِيهِ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، قَالَت: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَان بن عَفَّان أرسل إليّ فَسَأَلَنِي عَن ذَلِكَ، فَأَخْبَرته فَاتبعهُ وَقَضَى بِهِ» .(8/245)
وَسِياقة النَّسَائِيّ «أَن زَوجهَا تَكَارَى عُلُوجًا لَيعمَلُوا لَهُ فَقَتَلُوهُ، فَذكرت ذَلِكَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَت: إِنِّي لست فِي مسكن لَهُ وَلَا يجْرِي عَلّي مِنْهُ رزق، [أفأنتقل إِلَى أَهلِي ويتاماي وأقوم عَلَيْهِم؟] قَالَ: افعلي. ثمَّ قَالَ: كَيفَ قلت؟ فأعادت عَلَيْهِ (قَوْلهَا) ، فَقَالَ: اعْتدي حَيْثُ بلغك الْخَبَر» .
وَفِي لفظٍ «أَن زَوجهَا خرج فِي طلب أعلاج لَهُ [فَقَتَلُوهُ] وَكَانَت فِي دارٍ قاصية فَجَاءَت وَمَعَهَا أَخَوَاهَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكرُوا [لَهُ] فَرخص لَهَا حَتَّى إِذا رجعت دَعَاهَا، فَقَالَ: اجلسي فِي بَيْتك حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله» . وسياقة ابْن مَاجَه أَن الفريعة بنت مَالك قَالَت: «خرج زَوجي فِي طلب أعْلاج لَهُ فأدركهم بِطرف الْقدوم فَقَتَلُوهُ، فجَاء نعي زَوجي وَأَنا فِي دارٍ من دور الْأَنْصَار شاسعة عَن دَار أَهلِي [فَأتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّه جَاءَ نعي زَوجي وَأَنا فِي دَار شاسعة عَن دَار أَهلِي] وَدَار إخوتي (وَلم يدع) مَالا ينْفق عليّ، وَلَا مَالا ورثته، وَلَا دَارا يملكهَا، فَإِن رَأَيْت أَن تَأذن [لي] فَألْحق بدار أَهلِي وَدَار إخوتي فَإِنَّهُ أحبُّ إِلَيّ وأَجْمَع لي فِي بعض أَمْرِي، قَالَ: فافعلي (مَا) شِئْت. قَالَت: فَخرجت قريرة عَيْني لما قَضَى الله لي عَلَى لِسَان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(8/246)
حَتَّى إِذا كنت فِي الْمَسْجِد أَو فِي (بعض) الْحُجْرَة دَعَاني، فَقَالَ: كَيفَ زعمت؟ قَالَت: فقصصت عَلَيْهِ، فَقَالَ: امكثي فِي بَيْتك الَّذِي جَاءَ فِيهِ نعي زَوجك حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله. قَالَت: فاعتددت فِيهِ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح كَمَا أسلفناه. وَقد أخرجه مَعَ من تقدم أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من الطَّرِيق الْمَذْكُور.
وَلم يذكر ابْن حبَان فِي أحد طريقيه إرْسَال عُثْمَان وَذكره فِي الْأُخْرَى، ثمَّ قَالَ: رَوَى هَذَا الْخَبَر الزُّهْرِيّ عَن مَالك، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد من طَرِيق حَمَّاد بن زيد، عَن إِسْحَاق بن سعد، عَن زَيْنَب، وَمن طَرِيق يَحْيَى بن سعيد، عَن سعد بن إِسْحَاق (عَن زَيْنَب، عَن فريعة. قَالَ: وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن سعد) ، عَن زَيْنَب عَنْهَا، قَالَ مُحَمَّد بن يَحْيَى الذهلي: هَذَا حَدِيث صَحِيح ومحفوظ وهما اثْنَان: سعد بن إِسْحَاق وَهُوَ أشهرهما، وَإِسْحَاق بن سعد بن كَعْب، وَقد رَوَى عَنْهُمَا جَمِيعًا يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، فقد ارْتَفَعت عَنْهُمَا جَمِيعًا الْجَهَالَة. وَخَالف أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَقَالَ فِي «محلاه» : حَدِيث فريعة هَذَا (فِيهِ) زَيْنَب بنت كَعْب بن عجْرَة وَهِي(8/247)
مَجْهُولَة لَا تعرف، وَلَا رَوَى عَنْهَا أحد غير (سعد) بن إِسْحَاق، وَهُوَ غير مَشْهُور بِالْعَدَالَةِ عَلَى أَن النَّاس أخذُوا عَنهُ هَذَا الحَدِيث لغرابته، وَلِأَنَّهُ لم يُوجد عِنْد أحد سواهُ [فسفيان] يَقُول سعيد، وَمَالك وَغَيره يَقُولُونَ سعد، وَالزهْرِيّ يَقُول عَن ابْن كَعْب بن عجْرَة (فَبَطل) الِاحْتِجَاج بِهِ؛ إِذْ لَا يحل أَن يُؤْخَذ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا مَا لَيْسَ فِي إِسْنَاده مَجْهُول وَلَا ضَعِيف. وَنقل هَذَا التَّعْلِيل عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» عَن ابْن حزم مُخْتَصرا، وَأقرهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: قَالَ عَلّي بن أَحْمد: زَيْنَب هَذِه مَجْهُولَة لم يرو حَدِيثهَا غير سعد بن إِسْحَاق بن كَعْب وَهُوَ غير مَشْهُور بِالْعَدَالَةِ. مَالك يَقُول: فِيهِ إِسْحَاق بن سعد، وسُفْيَان يَقُول: سعيد. وَاعْتَرضهُ ابْن الْقطَّان فَقَالَ: كَأَن عبد الْحق ارتضى هَذَا القَوْل من ابْن حزم وَصَححهُ عَلَى قَول ابْن عبد الْبر إِنَّه حَدِيث مَشْهُور. قلت: وَعِنْدِي أَنه لَيْسَ كَمَا ذهب إِلَيْهِ، بل الحَدِيث صَحِيح فَإِن سعد بن إِسْحَاق ثِقَة، وَمِمَّنْ وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ، وَزَيْنَب (كَذَلِك) ثِقَة، وَفِي (تَصْحِيح) التِّرْمِذِيّ توثيقها وتوثيق (سعد بن إِسْحَاق، وَلَا يضر الثِّقَة أَلا يروي عَنهُ إِلَّا وَاحِد. قَالَ: وَأما قَول ابْن حزم) إِسْحَاق بن سعد فَكَذَا وَقع فِي(8/248)
نسخ (صَحِيحَة) وَهُوَ خطأ وَصَوَابه سعد بن إِسْحَاق، قَالَ: وَالْأَمر فِيهِ بَين.
قلت: وتخطئته فِي ذَلِكَ لَيْسَ بجيد، فقد أسلفنا عَن الذهلي الْحَافِظ أَنَّهُمَا اثْنَان، وَقَول ابْن حزم: لم يرو عَن زَيْنَب غير سعد بن إِسْحَاق لَيْسَ كَذَلِك، وَكَأَنَّهُ تَابع فِي ذَلِكَ عليّ بن الْمَدِينِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لم يرو عَنْهَا غَيره، وَقد رَوَى عَنْهَا إِسْحَاق بن سعد كَمَا سلف، وَسعد بن إِسْحَاق - كَمَا سلف أَيْضا إِن كَانَ آخر - وَابْن أَخِيهَا سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن كَعْب بن عجْرَة، رَوَى حَدِيثه الإِمَام أَحْمد، أَنبأَنَا بِهِ غير وَاحِد عَن الْفَخر بن البُخَارِيّ، أبنا حَنْبَل، أبنا ابْن الْحصين، أبنا ابْن الْمَذْهَب، أبنا الْقطيعِي، أَنبأَنَا عبد الله بن أَحْمد، حَدَّثَني أبي، حَدَّثَني يَعْقُوب (ثَنَا أبي) ، عَن ابْن إِسْحَاق، حَدَّثَني عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن معمر بن حزم، عَن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن كَعْب بن عجْرَة، عَن عمته زَيْنَب بنت كَعْب بن عجْرَة - وَكَانَت عِنْد أبي سعيد الْخُدْرِيّ - عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «اشْتَكَى النَّاس عليًّا فَقَامَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَطِيبًا فَسَمعته يَقُول: أَيهَا النَّاس لَا تَشكوا عليًّا فوَاللَّه (إِنَّه) لأخشين فِي ذَات الله أَو فِي سَبِيل الله» .
قلت: وَأما زَيْنَب فقد أسلفنا ثقتها فِي كَلَام ابْن الْقطَّان، وَمِمَّنْ وثقها ابْن حبَان فَإِنَّهُ ذكرهَا فِي «ثقاته» بل ذكرهَا ابْن فتحون وَأَبُو(8/249)
إِسْحَاق بن الْأمين فِي جملَة (الصَّحَابَة) فصح الحَدِيث وَللَّه الْحَمد.
فَائِدَة: الفُرَيعة بِضَم الْفَاء وَفتح الرَّاء وبالعين الْمُهْملَة، وَيُقَال أَيْضا الفارعة، وَهِي خدرية أنصارية أُخْت أبي سعيد لِأَبِيهِ وَأمه، وَأمّهَا أنيسَة بنت أبي خَارِجَة (عَمْرو) بن قيس بن مَالك، قَالَه ابْن سعد، وَقَالَ غَيره: اسْمهَا حَبِيبَة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، وَلم يحك (الْمزي) فِي «تهذيبه» غَيره. شهِدت الفريعة بيعَة الرضْوَان.
فَائِدَة ثَانِيَة: الفريعة يجوز أَن تكون تصغيرًا للفرعة بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء مَفْتُوحَة وساكنة اسْم (للقملة) وَهُوَ مَا (اقْتصر) عَلَيْهِ الْجَوْهَرِي، وَيجوز أَن يكون من قَوْلهم: فُلَانَة فرعت قَومهَا فَهِيَ فارعتهم إِذا كَانَت أجمل (مَا) فيهم، ثمَّ حذفت الْألف لتصغيره تَصْغِير التَّرْخِيم.
فَائِدَة ثَالِثَة: الْقدوم الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث هُوَ بتَخْفِيف الدَّال كَذَا قَيده الْحَازِمِي فِي أَسمَاء الْأَمَاكِن، قَالَ: وَهُوَ جبل بالحجاز (قرب) الْمَدِينَة قَالَ: وَهُوَ بتَخْفِيف الدَّال أَيْضا قَرْيَة كَانَت عِنْد حلب، وَقيل: كَانَ اسْم مجْلِس إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام بحلب.(8/250)
وَفِي الحَدِيث «اختتن إِبْرَاهِيم بالقدوم» أَرَادَ بِهِ الْموضع كَذَا جَاءَ مُفَسرًا فِي الحَدِيث، قَالَ: وَقَول أَحْمد بن يَحْيَى الْقدوم - بتَشْديد الدَّال - اسْم مَوضِع، إِن أَرَادَ أحد هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ فَلَا يُتَابع عَلَى ذَلِكَ (لِاجْتِمَاع) (أهل) النَّقْل عَلَى خلاف ذَلِكَ، وَإِن أَرَادَ موضعا ثَالِثا صَحَّ. قلت: وَكَذَا جزم ابْن حبَان بِأَن الْقدوم الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث هُوَ الْمَذْكُور فِي الاختتان، فَقَالَ فِي «صَحِيحه» عقب هَذَا الحَدِيث: الْقدوم مَوضِع بالحجاز، قَالَ: وَهُوَ الْموضع الَّذِي رُوِيَ فِي بعض الْأَخْبَار أَن إِبْرَاهِيم اختتن بالقدوم.
وَوَقع فِي الْمطلب لِابْنِ الرّفْعَة أَن الْقدوم (فِي) هَذَا الحَدِيث يشدد ويخفف وَأَنه عَلَى سِتَّة أَمْيَال من الْمَدِينَة وَتَبعهُ الشَّيْخ نجم الدَّين البالسي فِي شَرحه للتّنْبِيه. فليحذر التَّشْدِيد.
فَائِدَة رَابِعَة: قَالَ الرَّافِعِيّ: من قَالَ: أَنه لَا سُكْنى للمعتدة من الْوَفَاة، قَالَ: قَوْله أمكثي فِي بَيْتك (ندب) لَهَا إِلَى الِاعْتِدَاد فِي ذَلِكَ الْبَيْت وَالْمَذْكُور أَولا بَيَان أَنه لَا سُكْنى لَهَا، و [ذهب] كثير من الْأَصْحَاب إِلَى بِنَاء الْقَوْلَيْنِ [عَلَى التَّرَدُّد] فِي [أَن] حَدِيث فريعة منزل (عَلَى) هَذَا التَّنْزِيل (أَو) الأول بِأَنَّهُ حكم بِأَنَّهُ لَا سُكْنى لَهَا،(8/251)
وَالَّذِي ذكره آخرا ينْسَخ الأول (قَالَ) : وَرُبمَا أُشير إِلَى حمل الأول عَلَى السَّهْو وَالثَّانِي عَلَى التَّدَارُك وَقد يسهو عَلَيْهِ السَّلَام (لكنه) لَا يقر عَلَى خطأ.
الحَدِيث الثَّانِي
«أَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش بت زَوجهَا طَلاقهَا فَأمرهَا أَن تَعْتَد فِي بَيت ابْن أم مَكْتُوم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» كَمَا سلف فِي بَاب النَّهْي عَن الْخطْبَة عَلَى الْخطْبَة لَكِنَّهَا فَاطِمَة بنت قيس، وَأما فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش فأخرى رَوَت حَدِيث الِاسْتِحَاضَة فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن مُجَاهِد «أَن رجَالًا اسْتشْهدُوا بِأحد، فَقَالَ نِسَاؤُهُم: يَا رَسُول الله، إِنَّا نستوحش فِي بُيُوتنَا فنبيت عِنْد إحدانا. فَأذن (لَهُنَّ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يتحدثن عِنْد إِحْدَاهُنَّ فَإِذا كَانَ وَقت النّوم تأوي كل امْرَأَة إِلَى بَيتهَا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن عبد الْمجِيد، عَن ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي إِسْمَاعِيل بن كثير، عَن مُجَاهِد، قَالَ: «اسْتشْهد رجال يَوْم أحد فأيم نساؤهن وَكن متجاورات فِي دَار، فجئن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقُلْنَ: يَا رَسُول الله، إِنَّا (لنستوحش) بِاللَّيْلِ فنبيت عِنْد إحدانا، فَإِذا أَصْبَحْنَا(8/252)
تبددنا إِلَى بُيُوتنَا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: تحدثن عِنْد إحداكنّ مَا بدا لكنّ، فَإِذا أردتن النّوم فلْتؤب كل امْرَأَة إِلَى بَيتهَا» وَهَذَا معضل وَعبد الْمجِيد هَذَا من رجال مُسلم مَقْرُونا بِهِشَام بن سُلَيْمَان الْمَكِّيّ وَهُوَ مِمَّن اخْتلف فِيهِ، وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: ثِقَة دَاعِيَة إِلَى الإرجاء، وَتَركه ابْن حبَان.
قلت: وَتَابعه عبد الرَّزَّاق فَرَوَاهُ عَن ابْن جريج، عَن عبد الله بن كثير، عَن مُجَاهِد، ذكره عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» ، ثمَّ قَالَ: هَذَا مُرْسل.
قلت: ويقوى هَذَا الْمُرْسل بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «الْمُطلقَة والمتوفى عَنْهَا زَوجهَا تخرجان بِالنَّهَارِ وَلَا تبيتان لَيْلَة تَامَّة عَن بيوتهما» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَنهُ: أَنه قَالَ: «الْمُطلقَة الْبَتَّةَ تزور بِالنَّهَارِ وَلَا (تغيب عَن) بَيتهَا» .
وَفِي (رِوَايَة) أُخْرَى لَهُ: أَنه كَانَ يَقُول: «لَا يصلح (للْمَرْأَة) أَن تبيت لَيْلَة وَاحِدَة إِذا كَانَت فِي عدَّة وَفَاة أَو طَلَاق إلاّ فِي (بَيتهَا) » .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَن عَلْقَمَة «أَن نسَاء من هَمَدَان نعي لَهُنَّ(8/253)
أَزوَاجهنَّ فسألن ابْن مَسْعُود فَقُلْنَ: [إِنَّا نستوحش] فأمرهن أَن يجتمعن بِالنَّهَارِ فَإِذا كَانَ اللَّيْل فَلْتَرْجِعْ كل امْرَأَة إِلَى بَيتهَا» (وَلما) رَوَاهُ أَيْضا عَن مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم، عَن رجل من أسلم «أَن امْرَأَة سَأَلت أم سَلمَة مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا تمرض أَبَاهَا، قَالَت أم سَلمَة: كوني أحد طرفِي النَّهَار فِي بَيْتك» (وَلما) رَوَى مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن يَحْيَى بن سعيد أَنه قَالَ: «بَلغنِي أَن السَّائِب بن خباب توفّي وَأَن امْرَأَته جَاءَت عبد الله بن عمر فَذكرت وَفَاة زَوجهَا وَذكرت لَهُ حرثًا (لَهُم) بقناة و (سَأَلته) هَل يصلح لَهَا أَن تبيت فِيهِ فَنَهَاهَا عَن ذَلِكَ، فَكَانَت تخرج من الْمَدِينَة بِسحر فَتُصْبِح فِي حرثِهم فتظل فِيهِ يَوْمهَا ثمَّ تدخل الْمَدِينَة إِذا (أمست) تبيت فِي بَيتهَا» .
فَائِدَة: قَوْله فِي حَدِيث مُجَاهِد «فأيَّم نِسَاؤُهُم» (أَي) صرن أيامى جمع أَيِّم: وَهِي الَّتِي لَا زوج لَهَا.
وَقَوله: «مَا بَدَا لَكُنَّ» أَي مَا شئتن، و (طرق) لَكُنَّ من سَهْو الحَدِيث، وَقَوله: فلتؤب أَي ترجع.(8/254)
الحَدِيث الرَّابِع
عَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «طُلقت خَالَتِي ثَلاثًا فَخرجت تَجِد نخلا لَهَا، فَنَهَاهَا رجل، فَأَتَت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكرت ذَلِكَ لَهُ، فقَالَ: اخْرُجِي فجدي نخلك لَعَلَّك أَن تصدقي مِنْهُ أَو تفعلي مَعْرُوفا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» كَذَلِك وَمُسلم فِي «صَحِيحه» وَهُوَ من أَفْرَاده وَلم يذكر لَفْظَة «ثَلَاثًا» .
وَهَذَا لَفظه: «طلقت خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَن تَجِد نخلها فزجرها رجل أَن تخرج، فَأَتَت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: بلَى فجدي نخلك فَإنَّك عَسى أَن تصدقي أَو تفعلي مَعْرُوفا» . أخرجه من حَدِيث مُحَمَّد بن حَاتِم، عَن يَحْيَى بن سعيد، [عَن ابْن جريج] عَن أبي الزبير، عَن جَابر بِهِ.
وَأما الْحَاكِم فَأخْرجهُ فِي «مُسْتَدْركه» عَن الْقطيعِي، (عَن عبد الله بن أَحْمد) عَن (أَبِيه) عَن يَحْيَى بِهِ، بِلَفْظ أبي دَاوُد ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح (عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ. فَكَأَنَّهُ استدرك عَلَيْهِ لَفْظَة «ثَلَاثًا» فَإِنَّهَا لَيست فِيهِ. وَلما أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَن شَيْخه الْحَاكِم قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح) وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» وَأَرَادَ أَصله.(8/255)
فَائِدَة: خالةُ جابرٍ هَذِه ذكرهَا أَبُو مُوسَى فِي الصَّحَابَة وَلم يسمهَا.
فَائِدَة ثَانِيَة: مَعْنَى تَجِد تقطع، والجداد فِي النّخل كالحصاد فِي الزَّرْع.
الحَدِيث الْخَامِس
«أَن الغامدية لما أَتَت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَاعْتَرَفت بِالزِّنَا رَجمهَا بعد وضع الْحمل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم من حَدِيث بُرَيْدَة رَضي اللهُ عَنهُ، وسيأتيك فِي بَاب حدّ الزِّنَا - إِن شَاءَ الله ذَلِكَ وَقدره.
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي قصَّة العسيف: «اغْدُ يَا أنيس عَلَى امْرَأَة هَذَا فَإِن اعْترفت فارجمها» وَلم يَأْمر بإحضارها.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَقد سبق بِطُولِهِ فِي بَاب اللّعان.
فَائِدَة: اسْم الغامدية: سبيعة، وَقيل: أبيَّة، حَكَاهَا الْخَطِيب فِي [مبهماته] وعدها أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي الصَّحَابَة، وَاسم الْمَرْأَة الْأُخْرَى لم أَقف عَلَيْهِ بعد الْبَحْث عَنهُ فتطلبه.(8/256)
الحَدِيث السَّابِع
اشْتهر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «لَا يخلون رجل بِامْرَأَة فَإِن ثالثهما الشَّيْطَان» .
هُوَ كَمَا قَالَ وَله طرق: أَحدهَا: من حَدِيث عَامر بن ربيعَة، رَوَاهُ أَحْمد، (وَالْحَاكِم وَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح) .
ثَانِيهَا: (وَصَححهُ ابْن حبَان) من حَدِيث عمر بن الْخطاب، رَوَاهُ أَحْمد (وَالْحَاكِم وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح) .
ثَالِثهَا: من حَدِيث جَابر بن عبد الله، رَوَاهُ ابْن حبَان (وَأَصله فِي مُسلم) . وَقد ذكرتها بألفاظها فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب فِي بَاب(8/257)
صفة الْأَئِمَّة، وأصل الحَدِيث فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عَبَّاس بِدُونِ الزِّيَادَة (الْأَخِيرَة) وَهِي «فَإِن ثالثهما الشَّيْطَان» وَلَفْظهمَا: «لَا يَخلون رجل بِامْرَأَة إلاّ وَمَعَهَا ذُو محرم» ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «لَا يدْخل عَلَيْهَا رجل إلاّ وَمَعَهَا محرم» .
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب. وَأما آثاره فَأَرْبَعَة:
أَحدهَا: «أَن عليا رَضي اللهُ عَنهُ نقل (ابْنَته) أم كُلْثُوم بَعْدَمَا اسْتشْهد عمر رَضي اللهُ عَنهُ بِسبع لَيَال» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن مهْدي، عَن سُفْيَان، عَن فراس، عَن الشّعبِيّ، قَالَ: «نقل عَلّي أم كُلْثُوم بعد قتل عمر بِسبع ليالٍ» . قَالَ: وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ فِي «جَامعه» وَقَالَ: لِأَنَّهَا كَانَت فِي دَار الْإِمَارَة.
الْأَثر الثَّانِي: عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما قَالَ: «لَا يصلح للْمَرْأَة أَن تبيت لَيْلَة وَاحِدَة إِذا كَانَت فِي عدَّة طَلَاق أَو وَفَاة إلاّ فِي بَيتهَا» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن عبد الْمجِيد، عَن ابْن جريج، عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم بن عبد الله، عَن عبد الله أَنه كَانَ يَقُول ... فَذكره، وَقد أسلفنا رِوَايَته عَن الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. وَعرفت حَال عبد الْمجِيد هَذَا أَيْضا.(8/258)
الْأَثر الثَّالِث: قَالَ الرَّافِعِيّ: لَو كَانَت تبدو وتستطيل بلسانها عَلَى أحمائها يجوز إخْرَاجهَا من الْمسكن، قَالَ تَعَالَى: (لَا تخرجوهنّ من بُيُوتهنَّ وَلَا يخرجنْ إلاّ أَن يَأْتِين بفاحشةٍ مبينَة) والفاحشة مفسّرة بذلك فِيمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره رَضي اللهُ عَنهم.
هُوَ كَمَا قَالَ: فقد رَوَى الشَّافِعِي، عَن [عبد الْعَزِيز بن] مُحَمَّد الدراورْدي عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَلْقَمَة، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله « (إلاّ أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة) ، قَالَ: أَن تبذُو عَلَى أَهلهَا فَإِذا بَذَت عَلَيْهِم فقد حلّ لَهُم إخْرَاجهَا» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من هَذَا الْوَجْه من حَدِيث عَمْرو مولَى الْمطلب، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «الْفَاحِشَة المبينة أَن تفحش الْمَرْأَة عَلَى أهل الرجل وتؤذيهم» .
(قَالَ الشَّافِعِي) : سنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس تدل عَلَى أَن مَا تَأَول ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة هُوَ الْبذاء عَلَى أهل زَوجهَا هُوَ كَمَا تَأَول - إِن شَاءَ الله - وَقَول الرَّافِعِيّ: أَن غير ابْن عَبَّاس قَالَ ذَلِكَ ستعلمه عَلَى (الإثر إِن شَاءَ الله) .(8/259)
الْأَثر الرَّابِع: عَن سعيد بن الْمسيب «أَنه كَانَ فِي لِسَان فَاطِمَة بنت قيس ذرابة فاستطالت عَلَى أحمائها» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَمْرو بن مَيْمُون (عَن أَبِيه) ، قَالَ: «قلت: (لسَعِيد بن الْمسيب: أَيْن تَعْتَد الْمُطلقَة ثَلَاثًا؟ قَالَ: تَعْتَد فِي بَيتهَا، قَالَ: قلت) : أَلَيْسَ قد أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَاطِمَة بنت قيس أَن تَعْتَد فِي بَيت ابْن أم مَكْتُوم؟ ثمَّ قَالَ: تِلْكَ الْمَرْأَة الَّتِي فتنت النَّاس إِنَّهَا استطالت بلسانها عَلَى أحمائها، فَأمرهَا عَلَيْهِ السَّلَام أَن تَعْتَد فِي بَيت (ابْن) أم مَكْتُوم، وَكَانَ رجلا مكفوف الْبَصَر» .
قلت: وَقد رُوِيَ أَن سَبَب ذَلِكَ خوفها أَن (يقتحم) عَلَيْهَا كَمَا أخرجه مُسلم فَيكون كل وَاحِد مِنْهُمَا عذر.
فَائِدَة: الذرابة (بذال مُعْجمَة) مَفْتُوحَة: الحدة، يُقَال (فِيهِ) : لِسَان ذرب وَفِيه ذرابة، وَالله أعلم.(8/260)
بَاب الِاسْتِبْرَاء
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَلَاثَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاس: لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع وَلَا حَائِل حَتَّى تحيض» .
هَذَا الحَدِيث (كَرَّرَه) الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب وَقد سلف بَيَانه فِي آخر كتاب الْحيض وَاضحا فَرَاجعه مِنْهُ.
ثَانِيهَا
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «لَا تسق بمائك زرع غَيْرك» .
هَذَا الحَدِيث سلف أَيْضا فِي الْعدَد وَاضحا.
ثَالِثهَا
«أَن سعد بن أبي وَقاص، وَعبد بن زَمعَة رَضي اللهُ عَنهما تنَازعا عَام الْفَتْح فِي ولد (وليدة) زَمعَة، وَكَانَ زَمعَة قد مَاتَ، فَقَالَ سعد: يَا رَسُول الله إِن أخي كَانَ عهد إليّ فِيهِ، وَذكر أَنه ألم بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقَالَ عبد: هُوَ أخي وَابْن وليدة أبي ولد عَلَى فرَاشه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة الْوَلَد للْفراش وللعاهر الْحجر» .(8/261)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها. بِمَعْنَاهُ وَزِيَادَة وَقد ذكرته بفوائده فِي شرحي للعمدة فسارع إِلَيْهِ فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات.
وَأما آثَار الْبَاب فستة:
أَحدهَا: عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما أَنه قَالَ: «وَقعت فِي نَفسِي جَارِيَة من سبي جَلُولَاء فَنَظَرت إِلَيْهَا فَإِذا عُنُقهَا مثل إبريق الْفضة، فَلم أتمالك أَن وَثَبت عَلَيْهَا فَقَبلتهَا وَالنَّاس ينظرُونَ وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد» .
وَهَذَا الْأَثر لم أر من أخرجه عَنهُ إِلَّا ابْن الْمُنْذر فَإِنَّهُ ذكره فِي «إشرافه» بِغَيْر إِسْنَاد فَقَالَ: وَقد روينَا عَن ابْن عمر «أَنه قبل جَارِيَة وَقعت فِي سَهْمه يَوْم جَلُولَاء» وأسنده فِي كِتَابه «الْأَوْسَط» وَمِنْه نقلت بعد أَن لم أظفر بِهِ إلاّ بعد عشْرين سنة من تبييض هَذَا الْكتاب فاستفده وَللَّه الْحَمد.
فَقَالَ: ثَنَا (عَلّي بن) عبد الْعَزِيز، ثَنَا حجاج، ثَنَا حَمَّاد، أَنبأَنَا عَلّي بن زيد، عَن أَيُّوب بن عبد الله اللَّخْمِيّ، عَن ابْن عمر، قَالَ: «وَقعت فِي سهمي جَارِيَة يَوْم جَلُولَاء كَأَن عُنُقهَا إبريق فضَّة قَالَ: فَمَا ملكت نَفسِي أَن وَثَبت عَلَيْهَا فَجعلت أقبلها وَالنَّاس ينظرُونَ» . وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن رِوَايَة الرَّافِعِيّ «فِي نَفسِي» صَوَابه «فِي سهمي» فَتَأَمّله.(8/262)
قَالَ ابْن الْمُنْذر: ذكر لِأَحْمَد حَدِيث ابْن عمر هَذَا فَقَالَ: ذَاك عَلَى السَّبي لَيْسَ لَهُ أَن يردهَا وَالَّذِي تستبرئ، عَسى أَن تكون أم ولد لرجل أَو يكون فِي بَطنهَا ولد.
فَائِدَة: جَلُولاء - بِفَتْح الْجِيم وَضم اللَّام وبالمد - قَرْيَة بنواحي فَارس النِّسْبَة إِلَيْهَا جلولي عَلَى غير قِيَاس كَمَا قَالَه الْجَوْهَرِي وَعبارَة «التَّهْذِيب» (أَنَّهَا [بَلْدَة] بَينهَا وَبَين بَغْدَاد نَحْو من مرحلة، وَقَالَ صَاحب (التنقيب) وَتَبعهُ البالسي فِي (شرح التَّنْبِيه) : بَينهمَا خَمْسَة وَعِشْرُونَ فرسخًا) وَعبارَة (صَاحب) (التنقيب) أَنه مَوضِع بِأَرْض الْعرَاق جرت فِيهِ وَاقعَة (وَقعت) سنة سِتّ عشرَة. وَعبارَة صَاحب (المستعذب عَلَى الْمُهَذّب) أَنَّهَا قَرْيَة من قرَى فَارس. وَعبارَة الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» أَنه بِالشَّام مَعْرُوف عقد سعد بن أبي وَقاص لهاشم بن عتبَة بن أبي وَقاص لِوَاء وَوَجهه فَفتح جَلُولَاء يَوْم اليرموك وَفِي ذَلِكَ الْيَوْم فقئت عينه قَالَ: وَكَانَت جَلُولَاء تسمى فتح الْفتُوح بلغت غنائمها ثَمَانِيَة عشر ألف ألف قَالَ: وَكَانَت سنة سبع عشرَة وَقيل تسع عشرَة قَالَ: وَقد قيل إِن سَعْدا شَهِدَهَا وَعبارَة النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» كَانَ بهَا غزَاة للْمُسلمين فِي زمن عمر وغنموا من الْفرس سَبَايَا وغيرهن بِحَمْد الله وفضله.(8/263)
الْأَثر الثَّانِي: (عَن) ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «عدَّة أم الْوَلَد إِذا هلك سَيِّدهَا حَيْضَة، واستبراؤها بقرءٍ وَاحِد» .
هَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» : عَن نَافِع، عَن ابْن عمر (أَنه) قَالَ: « (فِي) أم الْوَلَد يتوفى عَنْهَا سَيِّدهَا تَعْتَد بِحَيْضَة» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن نمير، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «عدَّة أم الْوَلَد حَيْضَة» وَرَوَاهُ من حَدِيث عَمْرو بن صَالح الْقرشِي، ثَنَا الْعمريّ، عَن نَافِع قَالَ: «سُئِلَ ابْن عمر عَن عدَّة أم الْوَلَد فَقَالَ: حَيْضَة. فَقَالَ رجل: إِن عُثْمَان كَانَ يَقُول ثَلَاثَة قُرُوء. قَالَ عُثْمَان: خيرنا وَأَعْلَمنَا» قَالَ: فِي هَذَا الْإِسْنَاد ضعف، وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث أبي أُسَامَة، عَن عبيد الله، عَن نَافِع، عَنهُ «عدَّة أم الْوَلَد إِذا مَاتَ سَيِّدهَا، وَالْأمة إِذا أعتقت أَو وهبت: حَيْضَة» قَالَ: وروينا عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: «تستبرأ الْأمة بِحَيْضَة» .
قلت: وَأما أثر عَمْرو بن الْعَاصِ: « (لَا) تلبسوا علينا سنة (نَبينَا) عدَّة أم الْوَلَد إِذا توفّي عَنْهَا سَيِّدهَا عدَّة الْحرَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا (زَوجهَا) » فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَضَعفه الدَّارَقُطْنِيّ(8/264)
ثمَّ الْبَيْهَقِيّ بالانقطاع بَين قبيصَة وَعَمْرو، وَأعله ابْن حزم بمطر الْوراق، وَهُوَ ثِقَة احْتج بِهِ مُسلم، (وَلم ينْفَرد بِهِ بل تَابعه قَتَادَة، لَا جرم) استدركه الْحَاكِم وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
الْأَثر الثَّالِث: عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «لَا تَأتِينِي أم ولد يعْتَرف سَيِّدهَا أَنه قد ألم بهَا إِلَّا (ألحقت) بِهِ وَلَدهَا؛ فأرسلوهن بعد أَو أمسكوهن» .
هَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مَالك، عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم، عَن أَبِيه (أَن) عمر قَالَ: «مَا بَال رجال يطئون ولائدهم ثمَّ (يعتزلونهن) لَا تَأتِينِي وليدة يعْتَرف سَيِّدهَا أَنه قد ألم بهَا إِلَّا ألحقت بِهِ وَلَدهَا، فاعتزلوا بعد أَو اتْرُكُوا» . قَالَ: وثنا مَالك، عَن نَافِع، عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد، عَن عمر «فِي إرْسَال الولائد يوطئن» بِمثل مَعْنَى حَدِيث ابْن شهَاب، عَن سَالم وَلَفظه: «مَا بَال رجال يطئون ولائدهم ثمَّ يدعوهن يخْرجن، لَا تَأتِينِي وليدة يعْتَرف سَيِّدهَا (أَن) قد ألم بهَا إِلَّا ألحقت بِهِ وَلَدهَا، فأرسلوهن بعد أَو أمسكوهن» .
الْأَثر الرَّابِع وَالْخَامِس وَالسَّادِس: قَالَ الرَّافِعِيّ: «وَإِن ولدت - أَي:(8/265)
الْأمة - لسِتَّة أشهر إِلَى أَربع سِنِين؛ فالمنصوص وَظَاهر الْمَذْهَب أَنه لَا يلْحقهُ الْوَلَد - يَعْنِي: إِذا نَفَاهُ - قَالَ: وَاحْتج لَهُ؛ بِأَن عمر وَزيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس نفوا أَوْلَاد جوارٍ لَهُم، وَهَذِه الْآثَار ذكرهَا الشَّافِعِي إِذْ رَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْأَصَم عَن الرّبيع قَالَ: قلت للشَّافِعِيّ: فَهَل خالفك فِي هَذَا غَيرنَا؟ قَالَ: نعم، بعض (المشرقيين) قلت: فَمَا كَانَ من حجتهم؟ قَالَ: كَانَت حجتهم أَن قَالُوا: انْتَفَى عمر من ولد جَارِيَة لَهُ، وانتفى زيد بن ثَابت من ولد جَارِيَة لَهُ، وانتفى ابْن عَبَّاس من ولد جَارِيَة (لَهُ) فَقلت: فَمَا كَانَ حجتك (عَلَيْهِم) - يَعْنِي: جوابك؟ قَالَ: أما عمر فَروِيَ عَنهُ أَنه أنكر حمل جَارِيَة لَهُ أقرَّت بالمكروه، وَأما زيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس؛ فَإِنَّهُمَا أنكرا أَن (كَانَا فعلا) ولد جاريتين (عرفا) أَن لَيْسَ مِنْهُمَا فحلال لَهما، وَكَذَلِكَ لزوج الْحرَّة إِذا (علم) أَنَّهَا حبلت من زنا أَن يدْفع وَلَدهَا وَلَا يلْحق (بنسبه) من لَيْسَ مِنْهُ، [فِيمَا] بَينه وَبَين الله عَزَّ وجَلَّ (ثمَّ تكلم) بِكَلَام طَوِيل.(8/266)
كتاب الرَّضَاع(8/267)
كتاب الرَّضَاع
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَمَانِيَة أَحَادِيث.
أَحدهَا
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يحرم من (الرضَاعَة) مَا يحرم من النّسَب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحهمَا» من هَذَا الْوَجْه، كَمَا سلف فِي بَاب مَا يحرم من النِّكَاح.
الحَدِيث الثَّانِي
قَالَ الرَّافِعِيّ: الْوُصُول إِلَيْهَا - أَي: الْمعدة - يثبت الْحُرْمَة سَوَاء ارتضع الصَّبِي أَو حلب اللَّبن أَو أوجر فِي حلقه حَتَّى وصل إِلَى (معدته) ؛ لِأَن الْإِرْضَاع مَا أنبت اللَّحْم وأنشز الْعظم، عَلَى مَا ورد فِي الْخَبَر.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن عبد السَّلَام بن مطهر، عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة، عَن أبي مُوسَى - هُوَ الهالي - عَن أَبِيه، عَن(8/269)
ابْن (لعبد الله) بن مَسْعُود «أَن رجلا كَانَ مَعَه امْرَأَته وَهُوَ فِي سفر (فَولدت) فَجعل الصَّبِي لَا يمص فَأخذ وَجها يمص لَبنهَا ويمجه - حَتَّى وجدت طعم لَبنهَا فِي حلقي - فَأَتَى (أَبَا) مُوسَى، (فَذكر) ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: حرمت عَلَيْك امْرَأَتك. فأتىابن مَسْعُود فَقَالَ: أَنْت الَّذِي تُفْتِي كَذَا وَكَذَا وَقد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا رضَاع إِلَّا مَا شَذَّ الْعظم وَأنْبت اللَّحْم» ؟ ! فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَا (تسلونا) وَهَذَا الحبر فِيكُم» . قَالَ أَبُو دَاوُد: وثنا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي، ثَنَا وَكِيع، عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة، عَن أبي مُوسَى الْهِلَالِي، عَن أَبِيه، عَن ابْن مَسْعُود، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: أنشز الْعظم. رجالهما، ثِقَات [إِلَّا] أَبَا مُوسَى الْهِلَالِي ووالده فَإِنَّهُمَا مَجْهُولَانِ كَمَا قَالَه أَبُو حَاتِم لما سُئِلَ عَنْهُمَا، لَكِن ذكر ابْن حبَان فِي «ثقاته» أَبَا مُوسَى، فَأَما ابْن عبد الله بن مَسْعُود فَلَا أعرفهُ.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِإِسْقَاط ابْنه كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد فَقَالَ: ثَنَا وَكِيع، ثَنَا سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة، عَن أبي مُوسَى الْهِلَالِي، عَن أَبِيه فَذكره بالقصة الأولَى، وَفِي آخِره: لَا يحرم من الرَّضَاع إِلَّا مَا أنبت اللَّحْم وأنشز الْعظم.(8/270)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث النَّضر بن شُمَيْل، ثَنَا سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة كَمَا سَاقه أَبُو دَاوُد أَولا، ثمَّ من حَدِيث أبي حُصَيْن عَن أبي عَطِيَّة قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى أبي مُوسَى فَقَالَ: «إِن امْرَأَتي ورم ثديها فمصصته فَدخل حلقي (شَيْء) سبقني فَشدد عَلَيْهِ أَبُو مُوسَى فَأَتَى عبد الله بن مَسْعُود فَقَالَ: سَأَلت أحدا غَيْرِي، قَالَ: نعم (أَبَا) مُوسَى فَشدد عَلّي، فَأَتَى أَبَا مُوسَى فَقَالَ: أرضيع هَذَا؟ ! فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الحَبْرُ فِيكُم» .
قَالَ: وَرَوَاهُ الثَّوْريّ، عَن أبي حُصَيْن (و) زَاد فِيهِ عَن عبد الله «إِنَّمَا (الرَّضَاع) مَا أنبت اللَّحْم وَالدَّم» .
فَائِدَة: أنشز يرْوَى بالزاي وَمَعْنَاهُ غلظ الْعظم، وَيروَى بالراء الْمُهْملَة وَمَعْنَاهُ الشدّة وَالْقُوَّة وَهُوَ (يرجع) إِلَى الأول فِي التَّحْقِيق.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا رضَاع إلاّ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي الْوَلِيد بن برد الْأَنْطَاكِي، ثَنَا الْهَيْثَم بن جميل، ثَنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحرم من الرَّضَاع إلاّ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ» ، ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يسْندهُ عَن ابْن عُيَيْنَة غير الْهَيْثَم بن جميل وَهُوَ ثِقَة حَافظ.(8/271)
ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس (أَنه كَانَ يَقُول: (لَا رضَاع بعد حَوْلَيْنِ كَامِلين) .
وَقَالَ ابْن عدي: هَذَا الحَدِيث يعرف بالهيثم بن جميل مُسْندًا عَن ابْن عُيَيْنَة وَغير الْهَيْثَم لَا يرفعهُ عَن ابْن عَبَّاس) والهيثم هَذَا سكن أنطاكية، وَيُقَال: هُوَ الْبَغْدَادِيّ ويغلط الْكثير عَلَى الثِّقَات كَمَا يغلط غَيره وَأَرْجُو أَنه لَا يتَعَمَّد الْكَذِب، وَذكر ابْن أبي حَاتِم الْهَيْثَم هَذَا، وَقَالَ: وَثَّقَهُ أَحْمد بن حَنْبَل.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» أَولا مَوْقُوفا عَلَى ابْن عَبَّاس من حَدِيث سعيد بن مَنْصُور، ثَنَا سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (لَا رضَاع إلاّ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ) ، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح مَوْقُوف، ثمَّ أوردهُ مَرْفُوعا من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ السالفة، ثمَّ نقل كَلَام ابْن عدي السالف مُخْتَصرا إِلَى قولة ابْن عَبَّاس، وَكَذَا فِي «الْمعرفَة» الصَّحِيح مَوْقُوف وأعل ابْن الْقطَّان رِوَايَة الرّفْع بِأبي الْوَلِيد الأنطَاكِي فَقَالَ: لَا يعرف وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ. فَهُوَ مَعْرُوف الْعين وَالْحَال. ذكره النَّسَائِيّ فِي «كناه» فِيمَن كنيتهُ أَبُو الْوَلِيد فَقَالَ: مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْوَلِيد بن برد الْأَنْطَاكِي صَالح، وَذكره ابْن أبي حَاتِم فَقَالَ: رَوَى عَن الْهَيْثَم(8/272)
بن جميل وَأَبِيهِ، ورواد بن الْجراح، وَمُحَمّد بن كثير المصِّيصِي أَدْرَكته وَلم (أسمع) مِنْهُ، وَكتب إليَّ بِشَيْء يسير من فَوَائده.
وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ هُنَا أَن أَبَا الْوَلِيد هَذَا رَوَى عَنهُ الْحسن بن إِسْمَاعِيل، وَإِبْرَاهِيم [بن دبيس بن أَحْمد] وَغَيرهمَا، فَزَالَتْ الْجَهَالَة العينية والحالية عَنهُ وَللَّه الْحَمد. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن رَوَى عَن عمر وَابْن مَسْعُود التَّحْدِيد بالحولين: ورويناه عَن التَّابِعين سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة بن الزبير وَالشعْبِيّ.
قلت: ويحتج لَهُ أَيْضا بِحَدِيث فَاطِمَة بنت الْمُنْذر، عَن أم سَلمَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يحرم من الرَّضَاع إِلَّا مَا فتق الأمعاء فِي الثدي وَكَانَ قبل الْفِطَام» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَعَزاهُ ابْن حزم إِلَى النَّسَائِيّ ثمَّ قَالَ: هَذَا خبرٌ مُنْقَطع؛ لِأَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر لم تسمع من أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ؛ لِأَنَّهَا كَانَت أسن من زَوجهَا (هِشَام) بِاثْنَيْ عشر عَاما، وَكَانَ مولد هِشَام سنة سِتِّينَ فمولد فَاطِمَة عَلَى هَذَا سنة ثَمَان وَأَرْبَعين، وَمَاتَتْ أم سَلمَة سنة تسع وَخمسين وَفَاطِمَة صَغِيرَة لم تلقها، فَكيف أَن تحفظ عَنْهَا، وَلم تسمع من خَالَة أَبِيهَا عَائِشَة(8/273)
أم الْمُؤمنِينَ شَيْئا، وَهِي فِي حجرها إِنَّمَا (أبعد) سماعهَا من جدَّتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر. وَتبع عبد الْحق ابْن حزم عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ فِي «أَحْكَامه» : تكلمُوا فِي سَماع فَاطِمَة بنت الْمُنْذر من أم سَلمَة، ثمَّ ذكر بعض كَلَام ابْن حزم وَيَنْبَغِي أَن تحرر رِوَايَة النَّسَائِيّ، فَلم أرَ أحدا من أَصْحَاب الْأَطْرَاف عزاهُ إِلَّا إِلَى التِّرْمِذِيّ خاصّة، وَقَول ابْن حزم: أَنه مُنْقَطع؛ لِأَن فَاطِمَة لم تسمع من أم سَلمَة وَذكر مولدها عَجِيب؛ لِأَن (عمر) فَاطِمَة حِين مَاتَت أم سَلمَة عَلَى مَا ذكر إِحْدَى عشرَة سنة فَكيف (لم) تلقها وهما فِي الْمَدِينَة. وَقد رُوِيَ عَن [هِشَام] أَيْضا أَن فَاطِمَة أكبر مِنْهُ بِثَلَاث عشرَة سنة فَيكون عَلَى هَذَا عمرها إِذْ ذَاك اثْنَي عشرَة سنة، وَعَلَى قَول من يَقُول (إِن) أم سَلمَة توفيت سنة اثْنَيْنِ و [سِتِّينَ] ، خمس عشرَة سنة.
وَقد أخرج ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» الحَدِيث الْمَذْكُور أَيْضا من هَذَا الطَّرِيق إِلَى قَوْله (الأمعاء) » .
وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا يحرم من(8/274)
الرَّضَاع المصة وَلَا المصتان، وَلَا يحرم إلاّ مَا فتق الأمعاء» .
الحَدِيث الرَّابِع
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كَانَ فِيمَا أنزل الله تَعَالَى من الْقُرْآن عشر رَضعَات (مَعْلُومَات) يحرمن، ثمَّ نسخن بخمسٍٍ مَعْلُومَات فَتوفي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهن فِيمَا (يقْرَأ) من الْقُرْآن» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَقَوله: وَهن فِيمَا يقْرَأ» أَي حكما كَمَا نبه عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ، وَقَالَ غَيره أَن النّسخ بِخمْس رَضعَات تَأَخّر إنزالهُ جدًّا حَتَّى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام توفّي وَبَعض النَّاس تقْرَأ خمس رَضعَات قُرْآنًا متلوًا لكَونه لم يبلغهُ النّسخ لقرب عَهده فَلَمَّا بَلغهُمْ النّسخ بعد ذَلِكَ رجعُوا عَن ذَلِكَ.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تحرم المصّة وَلَا المصّتان، وَلَا الرضعة وَلَا الرضعتان» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَله طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تحرم المصّة وَلَا المصّتان» .
رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ كَذَلِك من حَدِيث عبد الله بن الزبير عَنْهَا،(8/275)
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ: «لَا تحرم الْخَطفَة والخطفتان» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث أم الْفضل مَرْفُوعا: «لَا تحرم الإملاجة وَلَا الإملاجتان» .
رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ أَيْضا وَذكر فِيهِ قصَّة، وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَن رجلا من بني عَامر بن صعصعة، قَالَ: يَا نَبِي الله، هَل تحرم الرضعة الْوَاحِدَة؟ قَالَ: لَا» ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «لَا تحرم الرضعة أَو الرضعتان أَو المصّة أَو المصّتان» .
وَفِي لفظ: «والرضعتان والمصتان» من غير ألف. والملج: الرَّضَاع. قَالَ الرَّافِعِيّ: قيل المُرَاد بالمصّة هُنَا الجرعة يتجرعها وبالرضعة الرضعة الثَّانِيَة.
ثَالِثهَا: من حَدِيث عبد الله بن الزبير أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تحرم المصّة وَلَا المصتان» رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: الصَّحِيح عِنْد أهل الحَدِيث حَدِيث ابْن الزبير عَن عَائِشَة أَي كَمَا سلف عَن رِوَايَة مُسلم.
وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» ، قَالَ: لِأَنَّهُ زَاد، وَأما ابْن حبَان فَأخْرجهُ فِي «صَحِيحه» .(8/276)
رَابِعهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَفعه «لَا يحرم من الرضَاعَة المصة وَلَا المصتان، وَلَا يحرم مِنْهُ إلاّ مَا فتق الأمعاء من اللَّبن» رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا يَصح مَرْفُوعا، وَصَححهُ غَيره. كَمَا قَالَ عبد الْحق؛ لِأَن الَّذِي رَفعه حَمَّاد بن سَلمَة وَهُوَ ثِقَة، وَاعْترض ابْن الْقطَّان عَلَى عبد الْحق، فَقَالَ: هُوَ من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق وَلم يُنَبه.
تَنْبِيه: اعْترض ابْن جرير الطَّبَرِيّ عَلَى حَدِيثي عَائِشَة، وَأم الْفضل قَالَ: إنَّهُمَا مضطربان حَيْثُ رُوِيَ الأول عَن (ابْن) الزبير (تَارَة وَبَعْضهمْ عَنهُ عَن الزبير) مَرْفُوعا، (وَبَعْضهمْ عَن عَائِشَة مَرْفُوعا، وَبَعْضهمْ عَنْهَا مَوْقُوفا، وَحَيْثُ رُوِيَ الثَّانِي عَن سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة، عَن صَالح أبي الْخَلِيل، عَن عبد الله بن الْحَارِث، عَن مُسَيْكَة، عَن عَائِشَة مَوْقُوفا) .
وَهَذَا الِاضْطِرَاب عَن الْقَائِل لَا يقْدَح إِذْ يحْتَمل أَنه سَمعه من الشَّارِع مرّةً بِوَاسِطَة ومرّةً بِدُونِهَا، فَحدث بِكُل مرّة عَلَى مَا سمع وَبسط تَارَة فَرَوَاهُ مَرْفُوعا وَلم يبسط أُخْرَى فَوَقفهُ، وَمن جملَة طرق مُسلم لحَدِيث أم الْفضل من حَدِيث سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة، عَن صَالح، عَن عبد الله بن الْحَارِث عَن أم الْفضل بِإِسْقَاط مسيْكة هَذِه، وَكَذَا رَوَاهُ بإسقاطها حَمَّاد بن سَلمَة، وَهَمَّام أخرجهُمَا مُسلم أَيْضا فَينْظر رِوَايَة مسيْكة من أخرجهَا فَإِن ثَبت حمل عَلَى أَن لسَعِيد بن أبي عرُوبَة فِيهِ(8/277)
إسنادين، وَقد أجَاب بِنَحْوِ مَا قُلْنَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» فَقَالَ: بعد أَن أخرجه من حَدِيث ابْن الزبير مَرْفُوعا عَن أَبِيه رَفعه: «لَا تحرم المصة والمصتان، وَلَا الإملاجة وَلَا الإملاجتان» وَبعد أَن أخرجه من حَدِيث عَائِشَة مَرْفُوعا: «لَا تحرم المصة والمصتان» لست أنكر أَن يكون ابْن الزبير سمع هَذَا الْخَبَر من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وسَمعه من أَبِيه وخالته) فَمرَّة رَوَى مَا سمع، وَمرَّة رَوَى عَنْهَا قَالَ: وَهَذَا شَيْء مستفيض فِي الصَّحَابَة.
تَنْبِيه: بِأَن ورد حَدِيث (يُخَالف هَذَا الحَدِيث لكنه ضَعِيف مُنْقَطع ذكره عبد الْحق من حَدِيث) ابْن وهب، عَن مسلمة بن عَلّي، عَن رجال من أهل الْعلم، عَن عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل، عَن أم الْفضل بنت الْحَارِث قَالَت: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن مَا يحرم من الرَّضَاع، فَقَالَ: الرضعة والرضعتان» ، ثمَّ قَالَ: مسلمة بن عَلّي ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ، وَقد أنكر عَلَى ابْن وهب الرِّوَايَة عَنهُ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ حَدِيث مُنْقَطع.
الحَدِيث السَّادِس
قَالَ الرَّافِعِيّ: قد قرر أَن لبن الْفَحْل يحرم وَبِه قَالَ عَامَّة الْعلمَاء، وَعَن بعض الصَّحَابَة رَضي اللهُ عَنهم خِلَافه وَاخْتَارَهُ عبد الرَّحْمَن ابْن بنت الشَّافِعِي. لنا مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها «أَن أَفْلح أَخا (أبي) القعيس جَاءَ يسْتَأْذن عَلَيْهَا وَهُوَ عَمها من الرضَاعَة بعد أَن أنزلت آيَة الْحجاب، قَالَت:(8/278)
فأبيت أَن آذن لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أخْبرته بِالَّذِي صَنَعته، فَقَالَ: إِنَّه عمك فائذني لَهُ. فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا أرضعتني الْمَرْأَة وَلم يرضعني الرجل، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنَّه عمك فليلج عَلَيْك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَأَبُو القعيس زوج الْمَرْأَة الَّتِي أرضعت عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها.
فَائِدَة: القَعَس: بقاف وَعين مفتوحتين ثمَّ سين مُهْملَة خُرُوج الصَّدْر وَدخُول الظّهْر ضد الحدب، يَقُول رجل: أقعس وقعس. فالواقع فِي الحَدِيث مصغر فَيجوز أَن يكون تصغيرًا لكل من الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة إِلَّا أَنه إِن كَانَ تصغيرًا لأقعس فَيكون مَحْذُوف (الزَّوَائِد لكَونه تَصْغِير للترخيم) وَمَا ذكره عَن بعض الصَّحَابَة قد أخرجه الشَّافِعِي عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد [عَن مُحَمَّد] بن عَمْرو، عَن أبي (عُبَيْدَة بن) عبد الله بن زَمعَة «أَن أمه زَيْنَب بنت أبي سَلمَة أرضعتها أَسمَاء بنت أبي بكر امْرَأَة الزبير بن الْعَوام، فَقَالَت زَيْنَب بنت أبي سَلمَة: وَكَانَ الزبير يدْخل عليَّ وَأَنا أمتشط فَيَأْخُذ بقرن من قُرُون رَأْسِي فَيَقُول: أقبلي عليّ، فحدثيني أرَاهُ أَنه أبي وَمَا ولد فهم إخوتي ثمَّ أَن عبد الله بن الزبير قبل الْحرَّة أرسل(8/279)
إليَّ فَخَطب (إِلَى) أم كُلْثُوم ابْنَتي عَلَى حَمْزَة بن الزبير وَكَانَ حَمْزَة للكلبية فَقَالَت لرَسُوله: وَهل تحل لَهُ إِنَّمَا هِيَ ابْنة أَخِيه، فَأرْسل إِلَيّ عبد الله بن الزبير إِنَّمَا أردْت بِهَذَا الْمَنْع لما قبلك لَيْسَ لَك بِأَخ أَنا وَمَا ولدت أَسمَاء فهم إخْوَتك، وَمَا كَانَ من ولد الزبير من غير أَسمَاء (فليسوا) لَك بإخوة فأرسلي فسلي عَن هَذَا، فَأرْسلت فَسَأَلت وَأَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - متوافرون وَأُمَّهَات الْمُؤمنِينَ فَقُلْنَ لَهَا: إِن الرضَاعَة من قبل الرجل لَا تحرم شَيْئا فأنكحتها إِيَّاه فَلم تزل عِنْده حَتَّى هلك» .
وَإِسْنَاده عَلَى شَرط الصَّحِيح، عبد الْعَزِيز من رجال الصَّحِيحَيْنِ، وَأَبُو عُبَيْدَة من رجال مُسلم.
ثمَّ ذكر الرَّافِعِيّ (من) حَدِيث عَائِشَة أثرا عَن ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: رَوَى الشَّافِعِي «أَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ عَن رجل لَهُ امْرَأَتَانِ أرضعت إِحْدَاهمَا غُلَاما وَالْأُخْرَى جَارِيَة أينكح الْغُلَام (الْجَارِيَة) فَقَالَ: [لَا] اللقَاح وَاحِد (يَعْنِي) أَنَّهُمَا أَخَوان لأبٍ» وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِن الشَّافِعِي رَوَاهُ عَن مَالك وَهُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن ابْن شهَاب، عَن عَمْرو بن (الشريد) عَن عبد الله بن عَبَّاس «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن رجل كَانَت لَهُ(8/280)
امْرَأَتَانِ فأرضعت إِحْدَاهمَا غُلَاما وأرضعت الْأُخْرَى جَارِيَة فَهَل يتَزَوَّج) الْغُلَام الْجَارِيَة؟ فَقَالَ: لَا، اللقَاح وَاحِد» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» كَذَلِك سندًا ومتنًا إِلَّا أَنه قَالَ: «جاريتين» بدل «امْرَأتَيْنِ» .
الحَدِيث السَّابِع
لما ذكر الرَّافِعِيّ فِيمَا إِذا ارتضع من لبن در عَلَى وَطْء شُبْهَة وَلم يكن ثمَّ قافة (وَلَا مَا يتَعَيَّن بِهِ كَونه ولد إِحْدَاهمَا هَل للرضيع أَن ينتسب بِنَفسِهِ فِيهِ قَولَانِ) عَن الْأُم أَحدهمَا: لَا كَمَا لَا يعرض عَلَى الْقَافة وَيُخَالف الْمَوْلُود فَإِنَّهُ يعول عَلَى ميل الطَّبْع بِسَبَب أَنه مَخْلُوق من مَائه وأصحهما نعم كالمولود وَالرّضَاع يُؤثر فِي الطباع والأخلاق وَاسْتشْهدَ لذَلِك بِمَا يرْوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنا سيد ولد آدم بيد أَنِّي من قُرَيْش ونشأت فِي بني سعد واسترضعت فِي بني زهرَة» . وَيروَى «أَنه أفْصح الْعَرَب بيد أَنِّي من قُرَيْش ... » إِلَى آخِره.
هَذَا الحَدِيث ذكره الْفَقِيه نجم الدَّين بن الرّفْعَة فِي مطلبه وَلم يعزه إِلَّا إِلَى الْفُقَهَاء، فَقَالَ: رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «أَنا أفْصح الْعَرَب بيد أَنِّي من قُرَيْش، وأخوالي بني زهرَة وارتضعت فِي بني سعد» كَذَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ قَالَ فِي الشَّامِل وَتَعْلِيق القَاضِي أَنه قَالَ: «أَنا أفصحكم وَلَا فَخر بيد أَنِّي من قُرَيْش ونشأت فِي بني سعد وارتضعت فِي بني زهرَة» .(8/281)
قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى الرَّافِعِيّ قَالَ: وَالْمَشْهُور مَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَأَقُول أَنا الَّذِي ألفيته فِي كتب الحَدِيث بعد الفحص البليغ والتتبع الشَّديد.
مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث بَقِيَّة، عَن مُبشر بن عبيد، عَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن عَطِيَّة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنا النَّبِي لَا كذب أَنا ابْن عبد الْمطلب، أَنا أعرب الْعَرَب ولدتني قُرَيْش ونشأت فِي بني سعد بن بكر فَأَنَّى يأتيني اللّحن» وَهَذَا سَنَد ظَاهر الضعْف، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض فِي «الشفا» فِي الْبَاب الثَّانِي من الْقسم الأول وَقد قَالَ لَهُ أَصْحَابه: «مَا رَأينَا الَّذِي (هُوَ) أفْصح مِنْك، قَالَ: وَمَا يَمْنعنِي وَإِنَّمَا أنزل الْقُرْآن بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين ... » وَقَالَ مرّة أُخْرَى: «بيد أَنِّي من قُرَيْش ونشأت فِي بني سعد» .
وَفِي غَرِيب أبي عبيد وَكتاب الْمَطَر لِابْنِ دُرَيْد من حَدِيث مُوسَى بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما وصف سحابه طلعت عَلَيْهِم، قَالَ: يَا رَسُول الله مَا رَأينَا الَّذِي هُوَ أفْصح مِنْك قَالَ: وَمَا يَمْنعنِي وَإِنَّمَا أنزل الْقُرْآن بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين» .
وَرَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب «الْمَطَر والرعد» مُرْسلا من حَدِيث (مُوسَى بن) مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: «كَانُوا عِنْد(8/282)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي يَوْم دخن، فَقَالَ: مَا ترَوْنَ بَواسِقَها. .» فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: «فَقَالَ لَهُ رجل: يَا رَسُول الله مَا أفصحك أَو مَا رَأَيْت الَّذِي هُوَ أعرب أَو أفْصح مِنْك، فَقَالَ: حق لي وَإِنَّمَا أنزل الْقُرْآن بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين» ، وَرَوَاهُ الرامَهُرْمُزِي فِي «أَمْثَاله» بِنَحْوِهِ هَذَا مَا وجدته بعد التتبع من مظانه، وَذكره صَاحب «الْمُهَذّب» بِلَفْظ: «أَنا أفْصح الْعَرَب وَلَا فَخر بيد أَنِّي من قُرَيْش ونشأت فِي بني سعد واسترضعت فِي بني زهرَة» . وَلم يعزه صَاحب (التنقيب) كعادته فِي الغرائب وَإِنَّمَا تكلم عَلَى أَفْرَاده فَقَالَ: قَوْله: «بيد أَنِّي من قُرَيْش» (مَعْنَاهُ أَنِّي من قُرَيْش) أَرَادَ بذلك تفخيم أَمر قُرَيْش، قَالَ: وَيروَى «ميد» بِالْمِيم بدل الْبَاء، وَالْمِيم بدل إِحْدَاهمَا من الآخر. كَمَا يُقَال ضرب لَازم، ولازب، وَقَالَ صَاحب «المستعذب عَلَى الْمُهَذّب» «بيد» يكون بِمَعْنى غير، يُقَال: إِنَّه لكثير المَال بيد أَنه بخيل، وَمَعْنَاهَا هُنَا: لأجل أَنِّي من قُرَيْش، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: مَعْنَاهُ غير أَنِّي من قُرَيْش، وَقيل: عَلَى أَنه من قُرَيْش، وَقَوله: نشأت فِي بني سعد أَرَادَ مقَامه عِنْد حليمة السعدية لِأَنَّهَا مرضعته، وَفِي «الصِّحَاح» نشأت فِي بني فلَان نشأة ونشوءًا إِذا شببت فيهم. وزهرة أَبُو قَبيلَة، وَقَوله: «وَلَا فَخر» هُوَ بِسُكُون الْخَاء وَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ، فَقيل: كَانَ بَين يَدَيْهِ مُؤمنُونَ ومنافقون، فسر قُلُوب الْمُؤمنِينَ بقوله: «أَنا سيد ولد آدم» وَقطع أَلْسِنَة الْمُنَافِقين بقوله «وَلَا فَخر» وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَا فَخر لي بذلك بل فخري بربي، وَقيل غير ذَلِكَ.(8/283)
الحَدِيث الثَّامِن
«أَن عقبَة بن الْحَارِث نكح بِنْتا لأبي إهَاب بن عَزِيز فَأَتَتْهُ امْرَأَة، فَقَالَت: قد أرضعت عقبَة [وَالَّتِي] (نَكَحَهَا) ، فَقَالَ لَهَا عقبَة: لَا أعلم أَنَّك (أرضعتني) وَلَا أخبرتيني، فارسل إِلَى [آل أبي] إهَاب فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: مَا علمنَا أَرْضَعتك صَاحبَتك، فَركب إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ عَن ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: كَيفَ وَقد قيل، ففارقها ونكحت زوجا غَيره» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَهَذَا اللَّفْظ الَّذِي سقناه هُوَ لَفظه فِي كتاب الشَّهَادَات من «صَحِيحه» ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: تَعْرِيف الْمَنْكُوحَة بِأم يَحْيَى، وَاسْمهَا غنية كَمَا أَفَادَهُ ابْن مَاكُولَا. وَفِي رِوَايَة لَهُ أَعنِي البُخَارِيّ وَأَن الْمَرْأَة أمَة سَوْدَاء، وَفِي رِوَايَة لَهُ: وَكَانَت تَحْتَهُ ابْنة [أبي] إهَاب. من الأوهام عزو هَذَا الحَدِيث إِلَى مُسلم أَيْضا كَمَا وَقع فِيهِ صَاحب (التنقيب) وَهُوَ ظَاهر سكُوت (عُمْدَة الْأَحْكَام) عَنهُ فَتنبه لَهُ، وَقد استدركته عَلَيْهِ فِي شرحي وَللَّه الْحَمد هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله.(8/284)
كتاب النَّفَقَات(8/285)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت
كتاب النَّفَقَات
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث أحد عشر حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
«أَن هندًا امْرَأَة أبي سُفْيَان جَاءَت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن أَبَا (سُفْيَان) رجل شحيح لَا يعطيني من النَّفَقَة مَا يَكْفِينِي وَوَلَدي إِلَّا مَا أَخَذته سرًّا وَهُوَ لَا يعلم، فَهَل عليَّ (فِي ذَلِك شَيْء) فَقَالَ: خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وَقد كرر الرَّافِعِيّ بعضه فِي الْبَاب، وَفِي رِوَايَة لَهما: «مُمْسك» بدل «شحيح» ، وَفِي أُخْرَى: «مِسِّيك» وَفِي(8/287)
أُخْرَى: «فَهَل عليَّ حرج أَن أنْفق عَلَى عِيَاله من مَاله بِغَيْر إِذْنه؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: لَا حرج عَلَيْك أَن تنفقي عَلَيْهِم بِالْمَعْرُوفِ» . وَفِي أُخْرَى للْبُخَارِيّ: «أَن أطْعم من الَّذِي لَهُ؟ قَالَ: [إِلَّا] بِالْمَعْرُوفِ» . وَلم يذكر «من تطعم» . وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث عُرْوَة بن الزبير، عَن هِنْد قلت: «يَا رَسُول الله، أفنطعم عبيدنا من مَاله؟ قَالَ: نعم» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: واستخرج الْأَصْحَاب من الْخَبَر وَرَاء (وجوب) نَفَقَة الزَّوْجَة وَالْولد فَوَائِد، مِنْهَا: أَنه يجوز للْمَرْأَة الْخُرُوج من بَيتهَا لتستفتي.
قلت: فِي هَذَا نظر؛ لِأَنَّهَا خرجت عَام الْفَتْح مُتَقَدّمَة عَلَى سَائِر النِّسَاء لما نزل: (يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك) فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «أُبايعُكُنَّ عَلَى أَن لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا. فَقَالَت هِنْد: لَو أشركنا بِاللَّه شَيْئا مَا دَخَلنَا فِي الْإِسْلَام. وَقَالَ: أُبايعُكُنَّ عَلَى أَن لَا تقتلنَّ أولادكنَّ. فَقَالَت هِنْد: هَل تركْتُم لنا من ولد، رَبَّيْنَاهُمْ صغَارًا وَقَتَلْتُمُوهُمْ كبارًا. فَقَالَ: أبُايعُكُنَّ عَلَى أَن لَا تزنين. فَقَالَت هِنْد: أُفٍّ أوَ تَزني الْحرَّة؟ !(8/288)
فَقَالَ: أبُايعُكُنَّ عَلَى أَن لَا تسرقنَ شَيْئا. فَقَالَت هِنْد: إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح ... » الحَدِيث. وَظَاهر هَذَا، أَنه لم تكن خرجت لتستفتي عَنْهُم. (قَالَ الرَّافِعِيّ: وَمِنْهَا أَنه يجوز للْقَاضِي أَن يقْضِي بِعِلْمِهِ عَلَى الْغَائِب، وَأجِيب عَنْهَا بِأَنَّهُ أفتَى وَلم يقْض. هَذَا لَفظه وَهُوَ [يَقْتَضِي] بِأَنَّهُ أفتَى وَهُوَ مَا رَجحه فِي بَاب نَفَقَة الْأَقَارِب، وَجزم فِي أول الْقَضَاء عَلَى الْغَائِب بِأَنَّهُ حكم عَلَى غَائِب، وَسَيَأْتِي هُنَالك قصَّة لَهُ، ثمَّ ذكر عَنْهُم) فَوَائِد أُخْرَى ذكرتها فِي شرحي للعمدة، مَعَ زيادات فليُراجع مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّانِي
أَنه عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: «إِن الله أَعْطَاكُم (ثلث أَمْوَالكُم) فِي آخر أعماركم» .
هَذَا الحَدِيث، تقدم بَيَانه وَاضحا فِي «الْوَصَايَا» فَرَاجعه (من تَمَّ) .
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، سُئل عَن حق الزَّوْجَة عَلَى الزَّوْج، فَقَالَ: أَن تطعمها إِذا طعمت، وتكسوها إِذا (اكتسيت) » .(8/289)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي قزعة سُوَيْد بن [حُجَيْر] ، عَن حَكِيم بن مُعَاوِيَة، عَن أَبِيه مُعَاوِيَة (بن) حيْدَة، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله مَا حق زَوْجَة إحدانا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَن تطعمها إِذا طعمت، وتكسوها إِذا اكتسيت أَو (كُسِيت) ، وَلَا تقبح، وَلَا تهجر إِلَّا فِي الْبَيْت» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث حَكِيم بن مُعَاوِيَة أَيْضا، عَن أَبِيه «أَن رجُلاً سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا حق الْمَرْأَة عَلَى الزَّوْج؟ قَالَ: أَن يطْعمهَا إِذا (أطْعم) وَأَن تكسوها إِذا (اكتسيت) ، وَلَا يضْرب الْوَجْه (وَلَا يقبح) وَلَا يهجر إِلَّا فِي الْبَيْت» . وَعَزاهُ المزِّيُّ فِي «أَطْرَافه» إِلَى النَّسَائِيّ فِي «عشرَة النِّسَاء» وَفِي «التَّفْسِير» بأتم مِنْهُ، ورأيته(8/290)
فِي الْموضع الأول من رِوَايَة ابْن الْأَحْمَر. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ أبي دَاوُد، بِزِيَادَة: «وَلَا يضْرب الْوَجْه» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وألزم الدَّارَقُطْنِيّ الشَّيْخَيْنِ تَخْرِيج (هَذِه) التَّرْجَمَة، وَهِي: حَكِيم بن مُعَاوِيَة عَن أَبِيه. وَقَالَ فِي «علله» فِي حَدِيث مُعَاوِيَة: إِنَّه حَدِيث صَحِيح. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث بهز بن حَكِيم، عَن أَبِيه، عَن جده، قلت: «يَا رَسُول الله، نساؤنا، مَا نأتي مِنْهَا وَمَا ندر؟ قَالَ: أئت حرثك أنَّى شِئْت، وأطعمها إِذا طعمت، (واكسوها) إِذا اكتسيت. قَالَ: وَلَا تقبح (الْوَجْه وَلَا تضرب» قَالَ: وَرَوَاهُ شُعْبَة: «إِذا طعمت وتكسوها إِذا اكتسيت. قَالَ: وَلَا تقبح) أَن تَقول: قبحك الله» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث بهز بن حَكِيم بن مُعَاوِيَة، عَن أَبِيه، عَن جده مُعَاوِيَة، قَالَ: «أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقلت: مَا تَقول فِي نسائنا؟ فَقَالَ: أطعموهنَّ مِمَّا تَأْكُلُونَ، واكسوهنَّ مِمَّا (تلبسُونَ) ، وَلَا تضربوهنَّ، وَلَا تقبحوهنَّ» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «عشرَة النِّسَاء» من «سنَنه» (من حَدِيث بهز أَيْضا فِي رِوَايَة(8/291)
ابْن الْأَحْمَر كَمَا سلف) .
(الحَدِيث) الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لفاطمة بنت قيس: «لَا نَفَقَة لَك عَلَيْهِ» وَكَانَت مبتوتة حَائِلا.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» وَقد تقدم قِطْعَة مِنْهُ فِي بَاب: «النَّهْي عَن الْخطْبَة عَلَى الْخطْبَة» . فَإِن قلتَ: كَيفَ تَعمل فِي رِوَايَة مُسلم الْأُخْرَى عَنْهَا: «فَلم يَجْعَل لي سُكْنى وَلَا نَفَقَة» . قلتُ: هِيَ من رِوَايَة مجَالد وَحده عَن الشّعبِيّ، كَمَا بَينه الْحسن بن عَرَفَة، عَن هشيم، وكما بَينه سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَبدَة بن سُلَيْمَان وَمُسلم، وَالدَّارَقُطْنِيّ سَاقهَا من طَرِيق جمَاعَة وَمِنْهُم مجَالد وقرنه بهم، وَهُوَ يُوهم أَنه من رِوَايَة جَمِيعهم وَقد سبق أَنهم لم يرووها، وَإِنَّمَا انْفَرد بهَا مجَالد، وَقد تولى بَيَان ذَلِك الْخَطِيب فِي كِتَابه «غنية الملتمس فِي(8/292)
أيضاح الملتبس» وَتَبعهُ ابْن الْقطَّان، فَإِن قيلَ: قد رويت هَذِه الزِّيَادَة من غير طَرِيق مجَالد، رَوَاهَا النَّسَائِيّ، من حَدِيث سعيد بن [يزِيد] الأحمسي، ثَنَا الشّعبِيّ، عَن فَاطِمَة ... فَذكره.
قلتُ: سعيد هَذَا كُوفِي لم تثبت عَدَالَته كَمَا قَالَه ابْن الْقطَّان فِي «كِتَابه» وَقَالَ أَبُو حَاتِم فِي حَقه: شيخ.(8/293)
الحَدِيث الْخَامِس
(قَالَ (: «أَلا لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي الْحيض وَغَيره كَمَا مر.
الحَدِيث السَّادِس)
قَالَ الرَّافِعِيّ بعد (أَن) قرر أَنه إِذا سلم النَّفَقَة عَلَى ظن الْحمل فَبَان خِلَافه أَن لَهُ الرُّجُوع، مَا نَصه: وَعَن القَاضِي الْحُسَيْن أَنه احْتج لذَلِك بِمَا رُوِي « (أَن) أبي بن كَعْب رضى الله عَنهُ علم رجلا الْقُرْآن أَو شَيْئا مِنْهُ، فأهدى لَهُ قوسًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن أَخَذتهَا أخذت قوسًا من النَّار» . وَقَالَ: إِن ذَلِك (الرجل) ظن وجوب الْأُجْرَة عَلَيْهِ من غير شَرط وَكَانَ يُعْطي الْقوس عَلَى ظن أَنه عَن الْوَاجِب عَلَيْهِ، فَمنع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من أَخذه.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن سهل بن أبي سهل، ثَنَا يَحْيَى بن سعيد، عَن ثَوْر بن يزِيد، قَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن سلم، عَن عَطِيَّة الكلَاعِي، عَن أبي بن كَعْب قَالَ: «علمت رجلا من الْقُرْآن(8/294)
فأهدى لي قوسًا، فَذكرت ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن أَخَذتهَا أخذت قوسًا من نارٍ. فرددتها» . عبد الرَّحْمَن هَذَا لَيْسَ بالمشهور، رَوَى لَهُ ابْن مَاجَه هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : إِنَّه ضَعِيف، وَإِن هَذَا الحَدِيث لَا يَصح لأَجله. وَكَذَا جزم بضعفه فِي كِتَابه «الضُّعَفَاء والمتروكين» ، من غير نِسْبَة ذَلِك لأحدٍ، لَكِن خَالف ذَلِك فاستدل بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور فِي «تَحْقِيقه» لمذهبه. وَذكر الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «أَطْرَافه» بَين عبد الرَّحْمَن وثورٍ «خَالِد بن معدان» وَلم أره فِي نُسْخَة من نسخ ابْن مَاجَه، وَقد وهم فِي ذَلِك ثمَّ ذكر اضطرابًا فِي إِسْنَاده، فَقَالَ: رَوَاهُ مُوسَى بن عَلّي بن رَبَاح، عَن أَبِيه، عَن أبي بن كَعْب، وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن جحادة، عَن رجل يُقَال لَهُ: أبان، عَن أُبي، وَرَوَاهُ بنْدَار، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن عبد الرَّحْمَن بن مُسلم، عَن عطيَّة(8/295)
بِهِ، وَرَوَى هِشَام بن عمار، عَن عَمْرو بن وَاقد، عَن إِسْمَاعِيل بن عبيد الله، عَن أم الدَّرْدَاء، عَن أبي الدَّرْدَاء «أَن أُبي بن كَعْب أَقرَأ رجلا من أهل الْيمن سُورَة، فَرَأَى عِنْده قوسًا، فَقَالَ: تبيعها؟ [فَقَالَ] : لَا، بل هِيَ لَك. فَسَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن كنت تُرِيدُ أَن تقلَّد قوسًا من نَار فَخذهَا» . وَرَوَى إِسْمَاعِيل بن عيَّاش، عَن عبد ربه بن سُلَيْمَان بن عُمير بن زيتون، عَن الطُّفَيْل بن عَمْرو الدوسي: «أَقْرَأَنِي أبي بن كَعْب الْقُرْآن، فأهديتُ لَهُ قوسًا، فغدا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ (متقلدها)
» فَذكر الحَدِيث.
انْتَهَى مَا ذكره الْحَافِظ جمال الدَّين، وَقد رَوَاهُ مُحَمَّد بن هَارُون الرَّوْيَانِيّ، عَن بنْدَار بِخِلَاف مَا ذكره عَنهُ حَيْثُ قَالَ: ثَنَا مُحَمَّد بن بشار، ثَنَا يَحْيَى بن سعيد، ثَنَا ثَوْر بن يزِيد، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي مُسلم، عَن عَطِيَّة بن قيس الكلَاعِي، عَن أُبيّ بن كَعْب «أَنه علَّم رجلا من الْقُرْآن، فأهدى إِلَيْهِ قوسًا، فَوَقع فِي نَفسِي شَيْء، فَذكرت ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن أَخَذتهَا فَخذهَا قوسًا من نَار» . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي أثْنَاء «الْإِجَارَة» من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي بكر، ثَنَا يَحْيَى(8/296)
بن سعيد، عَن ثَوْر، حَدثنِي عبد الرَّحْمَن ... فَذكره، وَقَالَ: إِنَّه مُنْقَطع. وَلم يبين سَبَب انْقِطَاعه، ورماه بالانقطاع أَيْضا ابْن عبد الْبر، وَبَينه الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي، فَقَالَ: عَطِيَّة بن قيس الرَّاوِي عَن أبي، أرسل عَنهُ وَهُوَ ثِقَة أخرج لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» .
قلت: وعطيَّة هَذَا تَابِعِيّ، وَذكر صَاحب «الْكَمَال» عَن أبي مسْهر أَنه ولد فِي حَيَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فعلَى هَذَا رِوَايَته عَن أبي مَحْمُولَة عَلَى الِاتِّصَال.
قلت: وَله طَرِيق آخر عِنْد عبد الْحق، رَوَاهُ قَاسم بن أصبغ بِإِسْنَاد ضَعِيف ومنقطع، وبيَّن ذَلِك ابْن الْقطَّان فِي «علله» بِأَن قَالَ: فِيهِ عبد الله بن روح، وَلَا يُعرف حَاله، وَرَوَاهُ عَن أُبي بن كَعْب أَبُو إِدْرِيس الْخَولَانِيّ، وَلم يُشَاهد أَبُو إِدْرِيس ذَلِك (فَإِنَّهُ لَا صُحْبَة لَهُ، إِلَّا أَن يكونُ أبيِّ أخبرهُ بِمَا اتّفق لَهُ وَلَيْسَ ذَلِك) فِيهِ. قَالَ: وَرُوِيَ من طرقٍ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْء يثبت الْبَتَّةَ، ذكرهَا بقيّ بن مخلد.(8/297)
قلت: وَمِنْهَا حَدِيث عُبادة بن الصَّامِت وَأبي الدَّرْدَاء: أما حَدِيث عُبادة؛ فَأخْرجهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث مُغيرَة بن زِيَاد، عَن عُبادة بن نُسَي، عَن الْأسود بن ثَعْلَبَة، عَن عُبادة بن الصَّامِت، قَالَ: «علَّمت نَاسا من أهل الصّفة الْكِتَابَة وَالْقُرْآن، فأهدى إليَّ رجل مِنْهُم قوسًا، فَقلت: أرمي (عَنْهَا) فِي سَبِيل الله، فَسَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن سرك أَن تُطوق طوقًا من نَار فاقبلها» أُعلَّ بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: الْمُغيرَة بن زِيَاد، جزم بضعفه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» وَقَالَ فِي «علله» : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح، وَيَنْبَغِي أَن يعلم أَنه مِمَّن اخْتلف فِي حَاله. وَقد وَثَّقَهُ وَكِيع وَابْن معِين وَالْعجلِي وَغَيرهم، وَتكلم فِيهِ البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم وَغَيرهمَا، قَالَ أَحْمد: كل حديثٍ رَفعه فَهُوَ مُنكر. وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ مَعْرُوف بِحمْل الْعلم، وَله مَنَاكِير،(8/298)
مِنْهَا هَذَا. وَأما الْحَاكِم، فصحح حَدِيثه هَذَا، وَخَالف مرّة، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: الْمُغيرَة بن زِيَاد، صَاحب مَنَاكِير، لم (يخْتَلف أحد) فِي تَركه، وَيُقَال: إِنَّه حدث عَن عُبادة بن نُسَي بِحَدِيث مَوْضُوع. الْوَجْه الثَّانِي: أَن الْأسود بن ثَعْلَبَة، مَجْهُول لَا يعرف. قَالَه ابْن الْمَدِينِيّ وَابْن الْقطَّان، وَزَاد: أَنه لَا يعرف رَوَى عَنهُ غير عُبادة بن نُسي. وَتبع ابْن حزم فِي نَقله ذَلِك عَن ابْن الْمَدِينِيّ وَالَّذِي نَقله غير ابْن حزم عَنهُ: لَا أعرف لَهُ إِلَّا هَذَا الحَدِيث. وَأسْندَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَنهُ - أَعنِي عَلّي بن الْمَدِينِيّ - أَنه قَالَ: إِسْنَاده كُله مَعْرُوف، إِلَّا الْأسود بن ثَعْلَبَة، فَإِنَّهُ لَا يحفظ عَنهُ إِلَّا هَذَا الحَدِيث.
قلت: لَهُ حديثان آخرَانِ: «أَنْتُم الْيَوْم عَلَى بَيِّنَة من ربكُم» . رَوَاهُ أَبُو(8/299)
الشَّيْخ فِي «ثَوَاب الْأَعْمَال» . وَالثَّانِي: فِيهِ ذكر الشُّهَدَاء. رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ. وَذكر الأسودَ ابنُ حبّان فِي «ثقاته» وَتَابعه (جُنادة) بن أبي أُميَّة؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث بَقِيَّة، ثَنَا بشر بن عبد الله بن يسَار، عَن عُبادة بن نُسي، عَن (جُنادة) بن أبي أُميَّة، عَن عُبادة، وتابع بَقِيَّة أَبُو الْمُغيرَة عبد القدوس بن الْحجَّاج، عَن بشر بن عبد الله؛ أخرجه أَحْمد وَأما حَدِيث أبي الدَّرْدَاء؛ فقد تقدم. وَله طَرِيق آخر صَحِيح الْإِسْنَاد رَوَاهُ الدَّارمِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن يَحْيَى(8/300)
بن إِسْمَاعِيل بن عبد الله، ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، ثَنَا سعيد بن عبد الْعَزِيز، عَن إِسْمَاعِيل بن عبيد الله، عَن أم الدَّرْدَاء (عَن أبي الدَّرْدَاء) ، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَخذ قوسًا عَلَى (تَعْلِيمه) الْقُرْآن قلَّده الله قوسًا من نَار» . وَهَذَا إِسْنَاد كُله عَلَى شَرط مُسلم إِلَّا عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق. وَقد أخرج مُسلم بالسَّند الْمَذْكُور حَدِيثا عَن دَاوُد بن رُشيد، عَن الْوَلِيد بن مُسلم بِهِ فِي الصَّوْم فِي السّفر. وَأما الْبَيْهَقِيّ، فَقَالَ قبل أَن أخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيق الدَّارمِيّ: رُوِيَ من وجهٍ ضَعِيف عَن أبي الدَّرْدَاء. ثمَّ سَاقه (من طَرِيقه) ، ثمَّ نقل عَن الدَّارمِيّ، عَن دُحَيْم، أَنه قَالَ: حَدِيث أبي الدَّرْدَاء، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من تقلَّد قوسًا عَلَى تَعْلِيم الْقُرْآن» . لَيْسَ لَهُ أصل. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ عقب حَدِيث عُبادة بن الصَّامِت: هَذَا حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ عَلَى عُبادة بن نُسي كَمَا ترَى، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس وَأبي سعيد أصح إِسْنَادًا (مِنْهُ) . وَمرَاده بِحَدِيث ابْن عَبَّاس وَأبي سعيد فِي قصَّة اللديغ، وَالْأول فِي خَ،(8/301)
وَالثَّانِي فِي خَ وم. وَكَذَا قَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : لَيْسَ هَذِه الطّرق تعَارض مَا (قد) صَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «إِن أَحَق مَا أَخَذْتُم عَلَيْهِ أجرا كتاب الله» وَهُوَ كَمَا قَالَا.
الحَدِيث (السَّابِع)
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الرجل لَا يجد مَا ينْفق عَلَى امْرَأَته: يفرق بَينهمَا» . وَيروَى: «من أعْسر بِنَفَقَة امْرَأَته، (فرق) بَينهمَا» و «سُئِلَ سعيد بن الْمسيب عَن رجل لَا يجد مَا ينْفق عَلَى امْرَأَته، قَالَ: يفرق بَينهمَا. فَقَالَ لَهُ: سنة؟ قَالَ: نعم سنة» . قَالَ الشَّافِعِي: الَّذِي يشبه قَول ابْن الْمسيب أَنه سنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن رَوَى من جِهَة الشَّافِعِي (ثَنَا) سُفْيَان، عَن أبي الزِّنَاد قَالَ: «سَأَلت سعيد بن الْمسيب عَن الرجل لَا يجد مَا ينْفق عَلَى امْرَأَته، قَالَ: يفرق بَينهمَا. قَالَ أَبُو الزِّنَاد: قلت: سنة؟ فَقَالَ سعيد: سنة» . قَالَ الشَّافِعِي: وَالَّذِي يشبه قَول سعيد سنة أَن يكون سنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ثمَّ رَوَى من جِهَة الدَّارَقُطْنِيّ ثَنَا عُثْمَان بن أَحْمد(8/302)
بن السماك وَعبد الْبَاقِي بن قَانِع، وَإِسْمَاعِيل بن عَلّي قَالُوا: ثَنَا أَحْمد بن عَلّي الخزاز، ثَنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم (الباوردي) ، ثَنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب «فِي الرجل لَا يجد مَا ينْفق عَلَى امْرَأَته، قَالَ: يفرق بَينهمَا» قَالَ: وثنا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، بِمثلِهِ. هَذَا مَا فِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» عَن الدَّارَقُطْنِيّ، وَأَنت إِذا تَأَمَّلت مَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وجدته مُخَالفا لما أوردهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: حَدثكُمْ القَاضِي الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل، ثَنَا عبد الله بن أَحْمد بن أبي (ميسرَة) ، ثَنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمُقْرِئ، ثَنَا سعيد بن أبي أَيُّوب، حَدثنِي مُحَمَّد بن عجلَان، عَن زيد بن أسلم، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى، وَالْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلَى، وابدأ بِمن تعول. قَالَ: وَمن أعول يَا رَسُول الله؟ قَالَ: امْرَأَتك تَقول: أَطْعمنِي وَإِلَّا فارقني. خادمك يَقُول: أَطْعمنِي واستعملني. ولدك يَقُول: إِلَى من تتركني» . ثمَّ قَالَ:(8/303)
حَدثكُمْ أَبُو بكر الشَّافِعِي، ثَنَا مُحَمَّد بن بشر بن مطر، ثَنَا (شَيبَان) بن فروخ، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَاصِم، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمَرْأَة تَقول لزَوجهَا: أَطْعمنِي وَإِلَّا طَلقنِي. وَيَقُول عَبده: أَطْعمنِي واستعملني. وَيَقُول وَلَده: إِلَى من تكلنا» . قَالَ - (يَعْنِي) : شَيبَان بن فروخ -: وثنا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب، أَنه قَالَ «فِي الرجل يعجز عَن نَفَقَة امْرَأَته قَالَ: إِن عجز فرق بَينهمَا» ثمَّ قَالَ: حَدثكُمْ عُثْمَان بن أَحْمد [بن] السماك وَعبد الْبَاقِي بن قَانِع وَإِسْمَاعِيل بن عَلّي قَالُوا: ثَنَا أَحْمد بن عَلّي الخزار، ثَنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الباوردي، ثَنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب «فِي الرجل لَا يجد مَا ينْفق عَلَى امْرَأَته، قَالَ: يفرق بَينهمَا» . ثمَّ قَالَ: (حَدثكُمْ عُثْمَان بن أَحْمد وَعبد الْبَاقِي وَإِسْمَاعِيل بن عَلّي، قَالُوا: ثَنَا أَحْمد بن عَلّي الخزاز، قَالَ: ثَنَا إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم) ثَنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، مثله. هَذَا نَص مَا فِي الدَّارَقُطْنِيّ برمتِهِ، وَالظَّاهِر أَن قَوْله «مثله» عَائِد إِلَى الْمَتْن السالف الَّذِي ذكره عَن(8/304)
زيد بن أسلم، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، ثمَّ عقبه بِكَلَام ابْن الْمسيب، ثمَّ الْعَطف عَلَى الأول، فَذكر من وَجه آخر عَن حَمَّاد بِسَنَدِهِ الأول، وَلَيْسَ رَاجعا إِلَى مَا نَقله سعيد بن الْمسيب.
وَالْبَيْهَقِيّ لم يذكر الأول بل ذكر كَلَام ابْن الْمسيب من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ، ثمَّ ذكر السَّنَد الآخر الْمَرْفُوع وَفِي آخِره «مثله» ففهم عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَن المُرَاد بقوله: «مثله» كَلَام ابْن الْمسيب، وَأَن ذَلِك من هَذَا الْوَجْه مَرْفُوع، وَكَذَا وَقع للبيهقي هَذَا فِي «الْمعرفَة» فَإِنَّهُ قَالَ - لما أسْند أَبُو سعيد من طَرِيق الشَّافِعِي كَمَا سلف -: وَقد رُوِيَ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب «فِي الرجل لَا يجد مَا ينْفق عَلَى امْرَأَته قَالَ: يفرق بَينهمَا» . قَالَ: وثنا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، بِمثلِهِ. ثمَّ أسْندهُ عَن الدَّارَقُطْنِيّ إِلَى إِسْحَاق بن مَنْصُور. وَكَذَا وَقع لَهُ فِي «خلافياته» أَيْضا بِزِيَادَة فَإِنَّهُ لما رَوَى كَلَام سعيد من طَرِيق الشَّافِعِي رَوَاهُ من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: وثنا حَمَّاد بن سَلمَة، ثَنَا عَاصِم بن بَهْدَلَة، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثل ألفاظهم سَوَاء. هَذَا نَص مَا ذكره فَتنبه (لذَلِك) ثمَّ رَأَيْت بعد ذَلِك فِي «علل ابْن أبي حَاتِم» سَأَلت أبي عَن(8/305)
حَدِيث أبي هُرَيْرَة ... فَذكر كَمَا سلف مَرْفُوعا، فَقَالَ: وهِمَ إِسْحَاق رَاوِيه فِي اختصاره، إِنَّمَا الحَدِيث: «ابدأ بِمن تعول، تَقول امْرَأَتك: أنْفق عليَّ أَو طَلقنِي» ثمَّ اعْلَم أَن ابْن حزم ضعف مَا سلف عَن سعيد بِأَن قَالَ: روينَا من طَرِيق عبد الرَّزَّاق، عَن الثَّوْريّ، عَن يَحْيَى الْأنْصَارِيّ، عَن ابْن الْمسيب، قَالَ: «إِذا لم يجد الرجل مَا ينْفق عَلَى امْرَأَته أجبر عَلَى طَلاقهَا» ، ثمَّ قَالَ: لم نجد لأهل هَذِه الْمقَالة (حجَّة) أصلا إِلَّا تعلقهم بقول ابْن الْمسيب: «إِنَّه سنة» وَقد صَحَّ عَنهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: يجْبر عَلَى مفارقتها. و: أَلا يفرق بَينهمَا. وهما (قَولَانِ) مُخْتَلِفَانِ وَلم يقل: إِنَّه سنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَلَو قَالَ ذَلِك كَانَ مُرْسلا، وَلَعَلَّه أَرَادَ سنة عمر كَمَا (روينَا) من فعله. ثمَّ ذكر عَن جمع من التَّابِعين مثل ذَلِك، ثمَّ قَالَ: وَلَا نَأْخُذ بقول من يفرق بَينهمَا كَأبي حنيفَة؛ لِأَن الله - تَعَالَى - قَالَ: (لينفق ذُو سَعَة من سعته) الْآيَة. وَلِأَن أَبَا بكر قَالَ: «يَا رَسُول الله، لَو رَأَيْت ابْنة خَارِجَة سَأَلتنِي النَّفَقَة فَقُمْت إِلَيْهَا فَوَجَأْت عُنُقهَا. فَضَحِك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ: هن حَولي كَمَا ترَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَة. فَقَامَ أَبُو بكر إِلَى عَائِشَة يجَأ عُنُقهَا، وَقَامَ عمر إِلَى حَفْصَة يجَأ عُنُقهَا، كِلَاهُمَا يَقُول: تسألن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا لَيْسَ عِنْده» . الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم من(8/306)
حَدِيث جَابر، قَالَ: وَمن الْمحَال (الْمُبين) أَن يضربا عَلَى حق.
تنبيهُُ: مَا نقل عَن الشَّافِعِي (كَون) من لفظ السّنة مَرْفُوعا قد نقل عَنهُ (الدَّاودِيّ) فِي «شرح الْمُخْتَصر» نَحوه أَيْضا، وَلَكِن فِي الْقَدِيم خَاصَّة فَقَالَ فِي بَاب أَسْنَان إبل الْخَطَأ: إِن الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم كَانَ يرَى أَن ذَلِك مَرْفُوع إِذا صدر من الصَّحَابِيّ أَو التَّابِعِيّ، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ لأَنهم قد يطلقونه ويريدون سنة الْبَلَد. وَفِي «الْأُم» مَا يُوَافق الأول فِي «بَاب ذكر الْكَفَن» حَيْثُ قَالَ: وَابْن (عَبَّاس) وَالضَّحَّاك بن قيس صحابيان (لَا يَقُولَانِ السّنة إِلَّا سنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) وَذكر بعده بِقَلِيل مثله، وَظَاهره يَقْتَضِي أَن التَّابِعِيّ لَيْسَ كَذَلِك، وَحِينَئِذٍ (يتَحَصَّل) فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال أنَّ الرّفْع بِالنِّسْبَةِ إِلَى (الصَّحَابِيّ) مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْجَدِيد وَالْقَدِيم مَعًا فَيكون أرجح من (عَكسه) .
تَنْبِيه آخر: قَول الرَّافِعِيّ بعد إِيرَاده الحَدِيث السالف: وَيروَى: «من أعْسر بِنَفَقَة امْرَأَته فرق بَينهمَا» . لَا أعلمهُ مرويًا بِهَذَا اللَّفْظ أصلا بعد الفحص عَنهُ.(8/307)
الحَدِيث الثَّامِن
ورد فِي الْخَبَر: «طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الِاثْنَيْنِ» .
هَذَا صَحِيح، فَفِي «صَحِيح مُسلم» ، من حَدِيث جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَام الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَة، وَطَعَام الْأَرْبَعَة يَكْفِي الثَّمَانِية» . وَهَذَا الحَدِيث وَقع ذكره فِي «الْوَجِيز» أَيْضا، وبيَّن الرَّافِعِيّ فِي «تذنيبه» (رَاوِيه) وَعَزاهُ إِلَى التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة جَابر وَإِلَى ابْن مَاجَه من رِوَايَة عمر، وَلَا شكّ أَن عزوه إِلَى «صَحِيح مُسلم» أولَى.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن أطيب مَا أكل الرجل من كَسبه، وَولده من كَسبه فَكُلُوا من أَمْوَالهم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَصْحَاب السّنَن(8/308)
الْأَرْبَعَة، وَابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن أطيب مَا أكلْتُم من كسبكم، وَإِن أَوْلَادكُم من كسبكم» . هَذَا لَفظهمْ خلا ابْن مَاجَه فَإِن لَفظه: «مَا أطيب مَا أكل الرجل من كَسبه، وَإِن وَلَده من كَسبه» وَإِلَّا إِحْدَى روايتي أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم فَإِن لَفظهمْ: «ولد الرجل من كَسبه وَأطيب كَسبه فَكُلُوا من أَمْوَالهم» .
وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْحَاكِم «وَأطيب كَسبه» وَفِي رِوَايَة لَهُ كَمَا أوردهُ الرَّافِعِيّ سَوَاء إِلَّا قَوْله: «فَكُلُوا من أَمْوَالهم» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا (حَدِيث) حسن. وَقَالَ الْحَاكِم فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: هَذَا حَدِيث صَحِيح، عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: (صَحَّ) رَفعه من رِوَايَة يَحْيَى الْقطَّان وَلم يرفعهُ غَيره. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر من «علله» : سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَنهُ فَقَالَ: رُوِيَ عَن الْأسود، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا، وَعَن عمَارَة، عَن عمته،(8/309)
عَن عَائِشَة (مَرْفُوعا) . فَقَالَ أبي: عَن عمَارَة أشبه وَأَرْجُو أَن يَكُونَا صَحِيحَيْنِ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا أَيْضا. وَخَالف ابْن الْقطَّان (فَقَالَ) فِي كِتَابه «الْوَهم وَالْإِيهَام» : رُوِيَ تَارَة عَن عمَارَة عَن عمته، وَتارَة عَنهُ عَن أمه، وكلتاهما لَا تعرف. وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: «إنَّ أَوْلَادكُم هبة الله لكم، يهبُ لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهبُ لمن يَشَاء الذُّكُور (وَأَوْلَادكُمْ) وَأَمْوَالهمْ لكم إِذا احتجتم إِلَيْهَا» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ هَكَذَا، إِنَّمَا اتفقَا عَلَى حَدِيث: «أطيب مَا أكل الرجل من كَسبه وَولده من كَسبه» .
هَذَا لَفظه، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ فَلم يُخرجهُ وَاحِد مِنْهُمَا، وَالزِّيَادَة وَهِي: «إِذا احتجتم (إِلَيْهَا) » رَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ: لَيست بمحفوظة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: إِنَّهَا مُنكرَة.
الحَدِيث الْعَاشِر
«أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، معي دِينَار. فَقَالَ: أنفقهُ عَلَى نَفسك. فَقَالَ: معي آخر. فَقَالَ: أنفقهُ عَلَى ولدك. فَقَالَ: معي آخر. فَقَالَ: أنفقهُ عَلَى أهلك» .(8/310)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان [بن] عُيينة، عَن مُحمد بن عجلَان، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، عِنْدِي دِينَار. فَقَالَ: أنفقهُ عَلَى نَفسك. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، عِنْدِي آخر. قَالَ: أنفقهُ عَلَى ولدك. قَالَ: عِنْدِي آخر قَالَ: (أنفقهُ عَلَى أهلك. قَالَ: عِنْدِي آخر. قَالَ: أنفقهُ عَلَى خادمك. قَالَ عِنْدِي آخر قَالَ:) أَنْت أعلم» . قَالَ المَقْبُري: ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة إِذا حَدثَك بِهَذَا: «يَقُول ولدك: أنْفق عليّ إِلَى من تَكِلنِي؟ وَتقول زَوجتك: أنْفق عليَّ أَو طَلقنِي. وَيَقُول خادمك: أنْفق عليَّ أَو بِعني» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من طَرِيق الشَّافِعِي الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنْت أبْصر» بدل (أَنْت) أعلم» . وَفِي أُخْرَى لَهُ: «عَلَى زَوجتك» بدل «أهلك» . وَرَوَاهُ أَيْضا أَحْمد وَالنَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه أَيْضا - أَعنِي من حَدِيث أبي هُرَيْرَة - بِلَفْظ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «تصدقوا. قَالَ رجل: عِنْدِي دِينَار. قَالَ: تصدق بِهِ عَلَى نَفسك. قَالَ: عِنْدِي دِينَار آخر. قَالَ: تصدق بِهِ عَلَى زَوجتك. قَالَ: عِنْدِي دِينَار آخر، قَالَ: تصدق بِهِ عَلَى ولدك. قَالَ: عِنْدِي دِينَار آخر. قَالَ: تصدق بِهِ عَلَى خادمك. قَالَ: عِنْدِي دِينَار آخر. قَالَ: أَنْت أبْصر» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا(8/311)
الحَدِيث رُوَاته ثِقَات. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد لكنه قدم الْوَلَد عَلَى الزَّوْجَة كَمَا فِي الْكتاب؛ وَرِوَايَة الشَّافِعِي السالفة، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَذَلِك، ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح. عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» فَتَارَة قدم الزَّوْجَة عَلَى الْوَلَد وَتارَة عكس. وَقَالَ ابْن حزم: اخْتلف سُفْيَان وَيَحْيَى الْقطَّان، فَقدم سُفْيَان الْوَلَد عَلَى الزَّوْجَة، وَقدم يَحْيَى الزَّوْجَة عَلَى الْوَلَد، وَكِلَاهُمَا ثِقَة، فَالْوَاجِب أَن لَا يقدم الْوَلَد عَلَى الزَّوْجَة وَلَا الزَّوْجَة عَلَى الْوَلَد، بل يَكُونَا سَوَاء؛ لِأَنَّهُ قد صَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ [يُكَرر] كَلَامه ثَلَاث مَرَّات، فَيمكن أَن يكون كرر فتياه ثَلَاث مَرَّات، فَمرَّة قدم الْوَلَد وَمرَّة قدم الزَّوْجَة فصارا سَوَاء.
قلت: وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث جَابر تَقْدِيم الْأَهْل عَلَى (ذَوي) الْقَرَابَة.
وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ لما (قرر) تَقْدِيم نَفَقَة الزَّوْجَة عَلَى الْقَرِيب، ثمَّ قَالَ: وَاعْترض الإِمَام بِأَن (نَفَقَتهَا) إِذا كَانَت كَذَلِك كَانَت كالديون(8/312)
(وَنَفَقَة الْقَرِيب فِي مَال الْمُفلس مُقَدّمَة عَلَى الدُّيُون) وَخرج لذَلِك احْتِمَالَانِ فِي الْمَسْأَلَة وأيده بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: (قدم) نَفَقَة الْوَلَد عَلَى نَفَقَة الْأَهْل كَمَا قدم نَفَقَة النَّفس عَلَى نَفَقَة الْوَلَد. وَهَذَا ماش عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ المتقدمتين دون الْأُخْرَى الْمُقدمَة للزَّوْجَة عَلَى الْوَلَد، فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أَن رجلا أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: من أبر؟ قَالَ: أمك. قَالَ: ثمَّ من؟ قَالَ: أمك. (قَالَ) ثمَّ (من) قَالَ: أَبَاك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، من أَحَق النَّاس بِحسن صَحَابَتِي؟ قَالَ: أمك. (قَالَ) ثمَّ من؟ قَالَ: أمك. قَالَ: ثمَّ من؟ قَالَ: أمك. قَالَ: ثمَّ من؟ قَالَ: ثمَّ أَبوك» . وَفِي رِوَايَة لَهما: «أمك، ثمَّ أمك، ثمَّ أَبَاك، ثمَّ أدناك أدناك» . زَاد ابْن حبَان: قَالَ: «فيرون أَن للْأُم ثُلثي الْبر» . وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي(8/313)
ذكره الرَّافِعِيّ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث بهز بن حَكِيم، عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، من أبر؟ قَالَ: أمك. قلت: ثمَّ من؟ قَالَ: أمك. قلت: ثمَّ من؟ قَالَ: أمك. قلت ثمَّ من؟ قَالَ: ثمَّ أَبَاك، ثمَّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب» . هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ، وَلَفظ أبي دَاوُد «قلت: يَا رَسُول الله، من أبر؟ قَالَ: أمك، ثمَّ أمك، ثمَّ أمك، ثمَّ أَبَاك، ثمَّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. (و) رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ، ثمَّ قَالَ: (هَذَا) حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ عَلَى شَرطهمَا فِي حَكِيم بن مُعَاوِيَة أَنه لَيْسَ لَهُ راو غير بهز، وَقد رَوَى عَنهُ غير بهز، وَقد رَوَى عَنهُ (أَبُو) قزعة الْبَاهِلِيّ. قَالَ: ثمَّ وجدنَا لهَذَا الحَدِيث شَوَاهِد (فَذكرهَا) بأسانيده. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث كُلَيْب بن مَنْفَعَة الْحَنَفِيّ، عَن جده «أَنه أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، من أبر؟ قَالَ: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الَّذِي يَلِي ذَلِك، حقًّا وَاجِبا ورحمًا مَوْصُولَة» . قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذِه الرِّوَايَة فَقَالَ: هِيَ أشبه من رِوَايَة من(8/314)
رَوَى عَن كُلَيْب، عَن أَبِيه، عَن جدِّه. هَذَا آخر مَا ذكره الرَّافِعِيّ من الْأَحَادِيث.
وَذكر فِيهِ: أَن نَفَقَة الْوَلَد عَلَى الْأَب منصُوصٌ عَلَيْهَا فِي قصَّة هِنْد وَغَيرهَا، فَأَما حَدِيث هِنْد فسلف أول الْبَاب، وَأما غَيره، فَلَعَلَّهُ إِشَارَة إِلَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف: «خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى» إِلَى أَن قَالَ «ولدك يَقُول: إِلَى من تتركني» .
وَذكر فِيهِ، من الأثار أثرا وَاحِدًا: وَهُوَ «أَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد فِي رجال غَابُوا عَن نِسَائِهِم فَأَمرهمْ أَن يأمروهم إِمَّا بِأَن ينفقوا وَإِمَّا أَن يطلقوا، فَإِن طلقوا (بعثوا بِنَفَقَة) مَا حبسوا» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مُسلم بن خَالِد، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور. قَالَ الشَّافِعِي: وأحسب أَنه لم يكن يحضرهُ عمر. قَالَ: وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي «مُصَنفه» بِإِسْنَاد جيد. وَمن جِهَته أخرجه ابْن الْمُنْذر فِي كِتَابه «الْأَوْسَط» قَالَ فِيهِ: ثَنَا إِسْحَاق، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «كتب عمر إِلَى أُمَرَاء الأجناد: أَن ادعُ فلَانا وَفُلَانًا - نَاسا قد انْقَطَعُوا من الْمَدِينَة وخلو مِنْهَا - إِمَّا أَن يرجِعوا إِلَى نِسَائِهِم وَإِمَّا أَن يبعثوا إليهنَّ نَفَقَة، وَإِمَّا أَن يطلِّقوا ويبعثوا نَفَقَة(8/315)
مَا مَضَى» . وَقَالَ: قيل: هَذَا ثَابت عَن عمر أَنه كتب يَأْمُرهُم أَن ينفقوا أَو يطلقوا.
وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» فَقَالَ: سَمِعت أبي وَذكر حَدِيث حَمَّاد، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع «أَن عمر كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد: أَن مُروا أهل الْمَدِينَة أَن يقدموا عَلَى نِسَائِهِم أَو يطلقوهنَّ فيبعثوا إليهنَّ بِنَفَقَة (مَا) مَضَى» قَالَ (أبي) : نَحن نَأْخُذ بِهَذَا فِي نَفَقَة مَا مَضَى. قَالَ الشَّافِعِي - فِيمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ (عَنهُ) -: وَلم يُخَالِفهُ أحد من الصَّحَابَة. وَقَالَ ابْن حزم: لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ لم يُخَاطب بذلك إِلَّا أَغْنِيَاء قَادِرين عَلَى النَّفَقَة وَلَيْسَ فِيهِ (ذكر حكم [الْمُعسر] بل قد صَحَّ عَن عمر إِسْقَاط طلب الْمَرْأَة للنَّفَقَة إِذا أعْسر بهَا الزَّوْج) (و) ذكر فِيهِ عَن زيد بن أسلم «أَنه فسَّر قَوْله تَعَالَى (ذَلِك أدنَى أَن لَا تعولُوا) : أَن لَا تكْثر عيالكم» وَهَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ و (الدَّارَقُطْنِيّ) فِي «سُنَنهمَا» بِلَفْظ: «أَن لَا يكثر من تعولُوا» .(8/316)
بَاب الْحَضَانَة
ذكر فِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَادِيث وأثرين. أما الْأَحَادِيث فخمسة
أَحدهَا
عَن عبد الله بن (عَمْرو) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن امْرَأَة قَالَت: يَا رَسُول الله، إِن ابْني هَذَا بَطْني لَهُ وعَاء، وثديي لَهُ سقاء، وحجري لَهُ حَوَّاء، وَإِن أَبَاهُ طَلقنِي وَأَرَادَ أَن (يَنْزعهُ) مني. فَقَالَ: أنتِ أَحَق بِهِ مَا لم تنكحي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ كَذَلِك أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بإسنادٍ صَحِيح، من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده عبد الله بن عَمْرو، قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
فَائِدَة: (الحَجر) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَهُوَ (الحِضْن) مَا دون(8/317)
الْإِبِط إِلَى الكشح، و (الحواء) بِكَسْر الْحَاء (مَمْدُود) اسْم للمكان الَّذِي يحوي الشَّيْء، أَي: يضمه ويجمعه.
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خير غُلَاما بَين أَبِيه الْمُسلم وَأمه المشركة، فَمَال إِلَى الْأُم، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اللَّهُمَّ اهده. فَمَال إِلَى الْأَب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَعبد الرَّزَّاق فِي «مُصَنفه» وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه» ، من حَدِيث عبد الحميد بن جَعْفَر الْأنْصَارِيّ، [عَن أَبِيه] عَن جده «أَن جَده أسلم، وأبت امْرَأَته أَن تسلم فجَاء بِابْن لَهَا صَغِير لم يبلغ، قَالَ: فأجلس النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبَاهُ هَاهُنَا وَالأُم هَاهُنَا، ثمَّ خَيره، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اهده. فَذهب إِلَى (أَبِيه) » . وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا، وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث (عبد الحميد) بن جَعْفَر الْأنْصَارِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي أبي، عَن جدي رَافع بن سِنَان «أَنه أسلم وأبت امْرَأَته أَن تسلم فَأَتَت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: ابْنَتي وَهِي فطيم - أَو شبهه - وَقَالَ(8/318)
رَافع: ابْنَتي. فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اقعد نَاحيَة. وَقَالَ لَهَا: اقعدي نَاحيَة. وأقعد (الصَّبِي) بَينهمَا، ثمَّ قَالَ: [ادعواها] . (فمالت إِلَى أمهَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اللَّهُمَّ اهدها) . فمالت إِلَى أَبِيهَا فَأَخذهَا» وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، من حَدِيث (عبد الحميد) بن سَلمَة، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن أَبَوَيْهِ اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَحدهمَا كَافِر وَالْآخر (مُسلم) فخيره فَتوجه إِلَى الْكَافِر، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهده. فَتوجه إِلَى الْمُسلم فَقَضَى لَهُ بِهِ»
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَمَا رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : اخْتلف فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث. وَلم يُبينهُ، وَبَينه ابْن الْقطَّان فَقَالَ: الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور: هُوَ أَنه من رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس وَأبي عَاصِم وَعلي بن غراب، كلهم عَن (عبد الحميد) بن جَعْفَر، عَن أَبِيه، عَن جده رَافع بن سِنَان (قَالَ) (عبد الحميد) بن جَعْفَر بن عبد الله بن الحكم بن رَافع بن سِنَان،(8/319)
و (عبد الحميد) ثِقَة، وَأَبوهُ جَعْفَر كَذَلِك، قَالَه الْكُوفِي. ذكر رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس هَذِه أَبُو دَاوُد، وَرِوَايَة أبي عَاصِم وَعلي بن غراب فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» وَسميت الْبِنْت الْمَذْكُورَة من رِوَايَة [أبي] عَاصِم «عميرَة» - أَي: بنت أبي الحكم - كَمَا فِي «الْمعرفَة» لأبي نعيم. (قلت) : وَاخْتلف أَيْضا فِي مَتنه فَرَوَاهُ عُثْمَان البَتِّي، عَن (عبد الحميد) بن سَلمَة، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن أَبَوَيْهِ اخْتَصمَا فِيهِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَحدهمَا مُسلم وَالْآخر كَافِر، فخيره، فَتوجه إِلَى الْكَافِر، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهده. فَتوجه إِلَى الْمُسلم، فَقَضَى بِهِ» . هَكَذَا ذكره أَبُو بكر بن أبي شيبَة، عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم - هُوَ ابْن علية - عَن عُثْمَان، وَكَذَا رَوَاهُ يَعْقُوب الدَّوْرَقِي عَن إِسْمَاعِيل أَيْضا. وَرَوَاهُ يزِيد بن زُرَيْع، عَن عُثْمَان البتي، وَقَالَ فِيهِ: عَن (عبد الحميد) بن (يزِيد بن سَلمَة «أَن جده أسلم وأبت امْرَأَته أَن تسلم وَبَينهمَا ولد صَغِير» فَذكر مثله. رَوَاهُ عَن) يزِيد بن ذريع يَحْيَى بن (عبد الحميد) من رِوَايَة ابْن أبي خَيْثَمَة عَنهُ. ذكر(8/320)
هَذَا كُله قَاسم بن أصبغ فِيمَا حَكَاهُ ابْن الْقطَّان، قَالَ - أَعنِي: ابْن الْقطَّان -: إِلَّا أَن هَذِه الْقِصَّة هَكَذَا تجْعَل الْمُخَير غُلَاما وجدًّا ل (عبد الحميد) بن يزِيد بن سَلمَة لَا يَصح؛ لِأَن (عبد الحميد) وأباه وجده لَا يعْرفُونَ وَلَو صحت لم [يَنْبغ] أَن يَجْعَل خلافًا لرِوَايَة أَصْحَاب عبد الحميد) بن جَعْفَر فَإِنَّهُم ثِقَات، وَهُوَ وَأَبوهُ ثقتان، وجده رَافع بن سِنَان مَعْرُوف. بل كَانَ يجب أَن يُقَال: لعلهما قصتان خَيَّر فِي أَحدهمَا (غُلَاما) (فِي) الْأُخْرَى جَارِيَة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامعه» : إِن رِوَايَة من رَوَى أَنه كَانَ غُلَاما أصح.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: (عبد الحميد) بن جَعْفَر وَإِن ضعفه يَحْيَى بن سعيد من جِهَة الْقدر، وسُفْيَان كَانَ يحمل عَلَيْهِ بِسَبَب خُرُوجه مَعَ (عبد الله) ، فَلَا يقْدَح ذَلِك فِيهِ، وَقد زكَّاه المزكُّون: أَحْمد وَابْن معِين وَالنَّسَائِيّ،(8/321)
وَأخرج لَهُ مُسلم، وَقَالَ صَاحب «الْمُغنِي» الْحَنْبَلِيّ - بعد أَن ذكر الحَدِيث، وَأَن الْمُخَير كَانَت بِنْتا -: قد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَلَى غير هَذَا الْوَجْه وَلَا يُثبتهُ أهل النَّقْل، وَفِي إِسْنَاده مقَال، قَالَه ابْن الْمُنْذر.
ثَانِيهَا: ذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من وَجه آخر، وَفِيه أَنه عَلَيْهِ السَّلام قَالَ لَهما: «هَل لَكمَا أَن (تخيراه) فَقَالَا: نعم» .
ثَالِثهَا: قَالَ أَبُو نعيم الْحَافِظ: ذكر بعض الْمُتَأَخِّرين - يَعْنِي ابْن مَنْدَه - أَن (هَذَا) الحَدِيث رَوَاهُ بعض الْمُتَأَخِّرين عَن شيخ، عَن أبي مَسْعُود، عَن (عبد الرَّزَّاق) وَقَالَ فِيهِ: «عَن جده حوط أَنه أسلم» وَهُوَ وهم ظَاهر، وَإِنَّمَا جده رَافع بن سِنَان.
رَابِعهَا: اسْم هَذِه الْجَارِيَة «عميرَة» كَمَا سلف، وَكَذَا وَقع فِي الدَّارَقُطْنِيّ.
خَامِسهَا: احْتج الْإِصْطَخْرِي من أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَنه يثبت (للكافرة) حق الْحَضَانَة، وَأجَاب غَيره من الْأَصْحَاب عَنهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخ أَو مَحْمُول عَلَى أَنه عَلَيْهِ السَّلام عرف أَنه يُسْتَجَاب دعاؤه وَأَنه يخْتَار الْأَب الْمُسلم (وقصده) بالتخيير استمالة قلب الْأُم. كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ(8/322)
عَنْهُم، وَهُوَ أولَى من قَول ابْن الصّباغ وَالْمَاوَرْدِيّ، وتبعهما صَاحب الْمطلب (فَقَالَ: إِنَّه) حَدِيث ضَعِيف عِنْد أهل الحَدِيث. وَادَّعَى الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ نسخه بِإِجْمَاع الْأمة عَلَى أَنه لَا يسلَّم إِلَى الْكَافِر. قَالَ القَاضِي مُجَلِّي: وَلَعَلَّ نَسْخَه وَقع بقوله تَعَالَى: (وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤمنِينَ سَبِيلا) قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: (و) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام دَعَا بهدايته إِلَى مُسْتَحقّ كفَالَته لَا إِلَى الْإِسْلَام لثُبُوت إِسْلَامه بِإِسْلَام أَبِيه، فَلَو لأمه حق [لأقرها] وَلما دَعَا بهدايته إِلَى مُسْتَحقّه. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: هَذَا الْخَبَر كَانَ فِي مَوْلُود غير مميزٍ.
قلت: قد سلف ذَلِك فِي الحَدِيث وَهُوَ قَوْله: «وَهِي فطيم أَو شبهه» .
الحَدِيث الثَّالِث
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْأُم أَحَق بِوَلَدِهَا مَا لم تتَزَوَّج» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث [أبي] العوَّام، عَن الْمثنى بن الصَّباح، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن امْرَأَة(8/323)
خَاصَمت زَوجهَا فِي وَلَدهَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: الْمَرْأَة أَحَق بِوَلَدِهَا مَا لم تتَزَوَّج» . وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف بِسَبَب الْمثنى بن الصَّباح، فَإِنَّهُم ضَعَّفُوهُ، و (أَبُو) الْعَوام هُوَ عمرَان بن دَاَور الْقطَّان وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ كَمَا سلف فِي صَلَاة الْجَمَاعَة. وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث والْحَدِيث الأول اسْتدلَّ بهما الرَّافِعِيّ عَلَى أَنَّهَا إِذا نكحت أجنبيًّا سقط حضانتها، وَلَا دلَالَة فيهمَا عَلَى ذَلِك، إِنَّمَا يدلان عَلَى عدم تَقْدِيمهَا، وَحِينَئِذٍ فَيحْتَمل السُّقُوط وَيحْتَمل التَّسَاوِي، حَتَّى لَا تقدم أَحدهمَا إِلَّا بِقرْعَة أَو تَخْيِير من الطِّفْل أَو اجْتِهَاد من الْحَاكِم أَو غير ذَلِك.
الحَدِيث الرَّابِع
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَاحْتج فِي «التَّتِمَّة» لبَقَاء حق الْحَضَانَة إِذا نكحت مُسْتَحقَّة الْحَضَانَة من لَهُ حق فِي الْحَضَانَة أَو كَانَت فِي نِكَاح مثله، بِمَا رُوِيَ «أَن عليًّا وجعفرًا وَزيد بن حَارِثَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم تنازعوا فِي حضَانَة بنت حَمْزَة بعد أَن اسْتشْهد، فَقَالَ عَلّي: بنت عمىِ، وَعِنْدِي بنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَقَالَ زيد: بنت أخي - وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام قد آخَى بَين زيد وَحَمْزَة - وَقَالَ جَعْفَر: الْحَضَانَة لي، هِيَ بنت عمي وَعِنْدِي خَالَتهَا. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: الْخَالَة أم - وَفِي رِوَايَة: الْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُم - وَسلمهَا إِلَى جَعْفَر [و] جعل لَهَا الْحَضَانَة، وَهِي ذَات زوج» .(8/324)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) من رِوَايَة الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «خرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَعْنِي من مَكَّة - فاتبعتهم ابْنة حَمْزَة تنادي: يَا عَم. فَتَنَاولهَا عَلّي فَأَخذهَا بِيَدِهِ وَقَالَ لفاطمة: دُونك ابْنة عمك (فاحمليها) فاختصم فِيهَا عَلّي وَزيد (و) جَعْفَر، فَقَالَ عليّ: أَنا أَحَق بهَا وَهِي ابْنة عمي. (وَقَالَ جَعْفَر: ابْنة عمي) وخالتها تحتي. وَقَالَ زيد: بنت أخي. فَقَضَى (بهَا) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لخالتها، وَقَالَ: الْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُم. وَقَالَ لعليّ: أَنْت مني وَأَنا مِنْك. وَقَالَ لجَعْفَر: أشبهتَ خُلقي وخَلقي. وَقَالَ لزيد: أَنْت أخونا ومولانا» . وَعَزاهُ الْمجد فِي «أَحْكَامه» وَابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» إِلَى مُسلم أَيْضا، وَهُوَ ظَاهر إِيرَاد «الْعُمْدَة» أَيْضا، وَلم يعزه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» والمزي فِي «أَطْرَافه» إِلَّا إِلَى البُخَارِيّ وَحده، وَكَأن مُرَاد الْأَوَّلين بِإِخْرَاج مُسلم (مِنْهُ فِي) قصَّة الْحُدَيْبِيَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وروينا هَذِه القصَّة أَيْضا من حَدِيث عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي قصَّة بنت حَمْزَة، قَالَ: «فَقَالَ جَعْفَر: أَنا أَحَق بهَا،(8/325)
(فَإِن) خَالَتهَا عِنْدِي. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أما الْجَارِيَة فأقضي بهَا لجَعْفَر، فَإِن خَالَتهَا عِنْده، وَإِنَّمَا الْخَالَة أم» . قَالَ: والْحَدِيث الأول أصح من هَذَا.
قلت: وَحَدِيث عليّ هَذَا أخرجه الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد بِهِ وَالْبَزَّار وَقَالَ: لَا يرْوَى عَن عليّ إِلَّا من الطَّرِيق الْمَذْكُور. وَأعله ابْن حزم وَقَالَ: إِسْرَائِيل ضَعِيف، وهانئ وهبيرة مَجْهُولَانِ. وَوهم فِي ذَلِك، أما إِسْرَائِيل فاحتج بِهِ الشَّيْخَانِ، ووُثِّق هَانِئ، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وهبيرة هُوَ ابْن يريم رَوَى عَن جمَاعَة، وَعنهُ أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، وَقد أسلفنا حَاله فِي (بَاب) النَّجَاسَات فِي أَوَائِل الْكتاب. وَأَبُو فَاخِتَة قَالَ أَحْمد: لَا بَأْس بحَديثه. وَرَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث مُحَمَّد بن نَافِع بن عجير، عَن أَبِيه، عَن عَلّي فِي قصَّة بنت حَمْزَة، قَالَ:(8/326)
«فَقَالَ جَعْفَر: أَنا أَحَق بهَا وَإِن خَالَتهَا عِنْدِي. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أما الْجَارِيَة فأقضي بهَا لجَعْفَر وَإِن خَالَتهَا عِنْده، وَإِنَّمَا الْخَالَة أم» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، عَن نَافِع بن عجير، عَن أَبِيه، عَن عَلّي. فاضطرب إِسْنَاده كَمَا ترَى.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خيَّرَ غُلامًا بَين أَبِيه وَأمه» . وَعنهُ: «أَنه اخْتصم رجل وَامْرَأَة فِي (وَلَده مِنْهَا) إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَت الْمَرْأَة: يَا رَسُول الله، إِن ابْني هَذَا قد نَفَعَنِي وسقاني من بِئْر أبي عنبة، وَإِن أَبَاهُ يُرِيد أَن يَأْخُذهُ مني. فَقَالَ الْأَب: لَا أحد يحاقني فِي ابْني. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا غُلَام، هَذِه أمك وَهَذَا أَبوك، فَاتبع أَيهمَا شِئْت. فَاتبع أمه» . وَيروَى «أَن رجلا وَامْرَأَة أَتَيَا أَبَا هُرَيْرَة يختصمان فِي ابْن لَهما، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: لأقضين بَيْنكُمَا بِمَا شهِدت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْضِي بِهِ، يَا غُلَام، هَذَا أَبوك وَهَذِه أمك، فاختر أَيهمَا شِئْت» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأول أَحْمد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، عَن أَبِيه، عَن(8/327)
أبي هُرَيْرَة وَقَالَ: حسن. وَنقل ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» عَنهُ تَصْحِيحه وَتَبعهُ صَاحب (الْمُنْتَقَى) نعم صَححهُ ابْن حبَان فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» من حَدِيث هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَأَيْضًا عَن أبي مَيْمُونَة «أَنه شهد أَبَا هُرَيْرَة خير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه، وَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خير غُلَاما بَين أَبَوَيْهِ» . وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي من حَدِيث هِلَال بن أبي مَيْمُونَة - وَقيل: أُسَامَة - أَن أَبَا مَيْمُونَة سليما - من أهل الْمَدِينَة رجل صدق - قَالَ: «بَيْنَمَا أَنا جَالس مَعَ أبي هُرَيْرَة جَاءَتْهُ امْرَأَة فارسية مَعهَا ابْن لَهَا وَقد طَلقهَا زَوجهَا فادعياه، فَقَالَت: يَا أَبَا هُرَيْرَة - رطنت بِالْفَارِسِيَّةِ - زَوجي يُرِيد أَن يذهب بِابْني. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: اسْتهمَا عَلَيْهِ - رطن لَهَا بذلك - فجَاء زَوجهَا فَقَالَ: من يحاقني فِي وَلَدي؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: اللَّهُمَّ إِنِّي (لأقول هَذَا لِأَنِّي) سَمِعت امْرَأَة جَاءَت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنا قَاعد عِنْده فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن زَوجي يُرِيد أَن يذهب بِابْني، وَقد سقاني من بِئْر أبي عنبة وَقد نَفَعَنِي. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اسْتهمَا عَلَيْهِ. فجَاء زَوجهَا فَقَالَ: من يحاقني فِي وَلَدي؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: هَذَا أَبوك وَهَذِه أمك. (فَأخذ بيد) أمه فَانْطَلَقت بِهِ» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِنَحْوِهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي كتاب الْأَحْكَام فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ أبي دَاوُد، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح(8/328)
الْإِسْنَاد. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا بِلَفْظ أبي دَاوُد (رَوَاهُ) مُخْتَصرا أَيْضا. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي «مُسْنده» أَيْضا، عَن وَكِيع، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي مَيْمُونَة، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: «جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: اسْتهمَا (فِيهِ) (وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: تخير أَيهمَا شِئْت. قَالَ: فَاخْتَارَ أمه فَذَهَبت بِهِ» ) .
وَلما أخرجه ابْن حزم فِي «محلاه» عَنهُ أعله بِأبي مَيْمُونَة هَذَا، فَقَالَ: أَبُو مَيْمُونَة هَذَا مَجْهُول لَيْسَ هُوَ وَالِد هِلَال الَّذِي رَوَى عَنهُ.
قلت: هُوَ سليم كَمَا سلف فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَكَذَا سَمَّاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا بعد إِيرَاده الحَدِيث، وَكَذَا سَمَّاهُ البُخَارِيّ، قَالَ ابْن عَسَاكِر: وَيُقَال: «سلمَان» رَوَى عَن جمَاعَة، وَعنهُ جمَاعَة، وَوَثَّقَهُ الْعجلِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَالصَّحِيح أَنه لَيْسَ بوالد هِلَال. وَقَالَ عبد الْحق: يرويهِ هِلَال بن أُسَامَة، عَن أبي مَيْمُونَة سلْمَى - من أهل الْمَدِينَة رجل صدق - عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يفهم من هَذَا الْكَلَام تَصْحِيح(8/329)
الحَدِيث وَلَا (توهِينه) وَذَلِكَ أَن أَبَا مَيْمُونَة هَذَا إِن لم يكن رَوَى عَنهُ غير هِلَال بن أُسَامَة (فَيَنْبَغِي أَن يكون عَلَى مذْهبه مَجْهُولا، وَلَا يَنْفَعهُ قَول هِلَال بن أُسَامَة فِيهِ: رجل صدق. وَإِن كَانَ لَا يعرف، وَأَيْضًا إِنَّه لم يثن عَلَيْهِ إِلَّا بالصلاح وَذَلِكَ لَا يقْضِي لَهُ بالثقة وَلَا بِالصّدقِ الَّذِي نبتغيه فِي الرِّوَايَة، قيل: لم نر الصَّالِحين فِي شَيْء أكذب مِنْهُم فِي الحَدِيث. فَأَما هِلَال بن أُسَامَة) فقد كنى من حَدثهُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور أَبَا مَيْمُونَة وَسَماهُ «سلْمَى» ، وَذكر أَنه مولَى من أهل الْمَدِينَة وَوَصفه بِأَنَّهُ رجل صدق، وَهَذَا الْقدر كَاف فِي الرَّاوِي مَا لم يتَبَيَّن خِلَافه، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قد رَوَى عَن أبي مَيْمُونَة الْمَذْكُور أَبُو النَّضر، قَالَه أَبُو حَاتِم، (ثمَّ) رَوَى عَنهُ يَحْيَى بن أبي كثير هَذَا الحَدِيث نَفسه، ثمَّ سَاق الحَدِيث من «مُسْند ابْن أبي شيبَة» ثمَّ قَالَ: فجَاء من هَذَا جودة هَذَا الحَدِيث وَصِحَّته، وَلَعَلَّه مَقْصُود (عبد الْحق) .
فَائِدَة: قَوْلهَا: «نَفَعَنِي وسقاني» مَعْنَاهُ بلغ حدًّا (لينْتَفع بِهِ بِحمْل) مَاء أَو مَتَاع. كَمَا نبه عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ، والبئر الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث عَلَى ميلين من الْمَدِينَة كَذَا ذكره أَبُو عبيد الْبكْرِيّ. قَالَ: وَهِي مَعْرُوفَة ولفظها عَلَى لفظ الْمَأْكُول.
والرطانة - بِفَتْح الرَّاء وَكسرهَا -: الْكَلَام بالأعجمية.(8/330)
والاستهام: المقارعة.
ويحاقني: أَي يُنَازعنِي فِي حَقي مِنْهُ.
تَنْبِيه: قيل هَذَا فِي الْغُلَام الَّذِي عقل وَاسْتَغْنَى عَن الْحَضَانَة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك خير بَين وَالِديهِ، وللعلماء خلاف فِي ذَلِك. (قَالَ) الْخطابِيّ: وَإِن صَحَّ الحَدِيث فَلَا مَذْهَب عَنهُ. قلت: قد صُحح كَمَا سلف. هَذَا آخر مَا ذكر (فِيهِ) من الْأَحَادِيث.
وَأما الأثران، (أَحدهمَا) : «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه خيَّر غُلَاما بَين أَبَوَيْهِ» وَهَذَا الْأَثر ذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» (بِغَيْر) إِسْنَاد فَقَالَ: جَاءَ عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه خيرَّ غُلَاما بَين أَبَوَيْهِ» . وأسنده فِي الْقَدِيم عَلَى مَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَنهُ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن يزِيد بن يزِيد بن جَابر، عَن إِسْمَاعِيل بن (عبيد الله) بن أبي المُهَاجر، عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم «أَن عمر بن الْخطاب خير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه» .
الْأَثر الثَّانِي: عَن عمَارَة الْجرْمِي قَالَ: «خيرَّني عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بَين أُمِّي وَعمي وَأَنا ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان» .
هَذَا الْأَثر ذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إِسْنَاد فَقَالَ: وَعَن عمَارَة قَالَ: «خيرَّني عَليّ بَين أُمِّي وَعمي، ثمَّ قَالَ لأخ أَصْغَر مني: وَهَذَا أَيْضا لَو قد بلغ خيرته» وَقَالَ فِي الحَدِيث: «وَكنت ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان(8/331)
سِنِين» وَذكره فِي «الْأُم» مُسْندًا من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن يُونُس بن عبد الله الْجرْمِي، عَن عمَارَة الْجرْمِي قَالَ: «خيرَّني عَلّي بَين أُمِّي وَعمي، وَقَالَ لأخ لي أَصْغَر مني: وَهَذَا لَو بلغ مبلغ هَذَا خيرته» . وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من هَذَا الْوَجْه، ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي: قَالَ إِبْرَاهِيم، عَن يُونُس، عَن عمَارَة، عَن عَلّي، مثله وَقَالَ فِي الحَدِيث: «وَكنت ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان» .
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن يُونُس بن عبد الله، عَن عمَارَة، وَذكر نَحوه، وَفِيه: «وَقَالَ لأخ لي أَصْغَر مني: وَهَذَا لَو بلغ لخيرته» . قَالَ إِبْرَاهِيم: وَفِي الحَدِيث: «وَكنت ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان سِنِين» . وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث حَيْثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، عَن شُعْبَة، عَن يُونُس الْجرْمِي، عَن عَلّي بن ربيعَة، قَالَ: «شهِدت عليًّا ... » فَذكر الحَدِيث، فَقَالَ: هَذَا خطأ إِنَّمَا هُوَ (عَن) يُونُس الْجرْمِي، عَن عمَارَة، عَن عَليَّ. قلت لأبي: الْخَطَأ من أبي دَاوُد أَو من شُعْبَة؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. وَكَانَ أَكثر خطأ شُعْبَة فِي أَسمَاء الرِّجَال.(8/332)
بَاب (نَفَقَة) الرَّقِيق
والرفق بهم وَنَفَقَة الْبَهَائِم
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
أَحدهَا
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «للمملوك طَعَامه وَكسوته بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يُكَلف من الْعَمَل (مَا لَا) يُطيق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم كَذَلِك من هَذَا الْوَجْه إِلَّا أَنه قَالَ: (مَا يُطيق) . وَرَوَاهُ الشَّافِعِي بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَفِي إِسْنَاده (مُحَمَّد بن عجلَان) ، وَفِيه لين.
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «هم إخْوَانكُمْ خولكم جعلهم الله تَحت أَيْدِيكُم، فَمن(8/333)
كَانَ (أَخُوهُ) تَحت يَده فليطعمه مِمَّا يَأْكُل ويلبسه مِمَّا يلبس» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث الْمَعْرُور بن سُوَيْد، قَالَ: «رَأَيْت أَبَا ذَر عَلَيْهِ حٌلة وَعَلَى غُلَامه مثلهَا فَسَأَلته عَن ذَلِك فَذكر أَنه سَاب رجلا عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنَّك امْرؤُُ فِيك جَاهِلِيَّة. قلت عَلَى سَاعَتِي هَذِه من كبر السن؟ ! قَالَ: نعم، هم إخْوَانكُمْ وخولكم جعلهم الله تَحت أَيْدِيكُم، فَمن كَانَ أَخُوهُ تَحت يَده فليطعمه مِمَّا يَأْكُل وليلبسه مِمَّا يلبس، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ. فَإِن كلفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ» . وَفِي رِوَايَة لَهما: «فَإِن كلفه بِمَا يغلبه فليعنه» وَفِي رِوَايَة لَهما: «فليبعه» .
فَائِدَة:
الخوَل - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وواو مَفْتُوحَة -: الحشم، الْوَاحِد خائل، وَقد يكون الخول وَاحِدًا، وَهُوَ اسْم يَقع عَلَى العَبْد وَالْأمة، وَقَالَ الْفراء: إِنَّه جمع خائل، وَهُوَ الرَّاعِي. وَقَالَ غَيره: هُوَ مَأْخُوذ من التخويل وَهُوَ التَّمْلِيك. حَكَاهُ الْجَوْهَرِي.(8/334)
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا (جَاءَ) أحدكُم خادمه بطعامه، وَقد كَفاهُ حره وَعَمله، فليقعد فَليَأْكُل مَعَه، وَإِلَّا فليناوله أَكلَة من طَعَام» . وَفِي رِوَايَة قَالَ: «إِذا كفَى أحدكُم خادمه طَعَامه حره ودخانه فليجلسه مَعَه، فَإِن أَبَى فليروغ لَهُ لقْمَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث (أبي) هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا أَتَى أحدكُم خادمه بطعامه، فَإِن لم يجلسه مَعَه فليناوله [لقْمَة أَو] لقمتين أَو أَكلَة أَو أكلتين فَإِنَّهُ ولي حرَّه وعلاجه» . هَذَا لفظ البُخَارِيّ، وَلَفظ مُسلم: «إِذا صنع لأحدكم خادمه طَعَامه ثمَّ جَاءَ بِهِ، وَقد ولي حره ودخانه، فليقعده مَعَه (فَليَأْكُل) ، فَإِن كَانَ الطَّعَام مشفوهًا قَلِيلا فليضع مِنْهُ فِي يَده أَكلَة أَو أكلتين» . قَالَ دَاوُد بن قيس: يَعْنِي لقْمَة أَو لقمتين. وَأخرجه الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا.(8/335)
فَائِدَة:
الأَُكلة - بِضَم الْهمزَة -: اللُّقْمَة، وَبِفَتْحِهَا: الْمرة الْوَاحِدَة من الْأكل، وَلَيْسَ مرَادا هُنَا، وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ: إِنَّهَا هُنَا بِالضَّمِّ. وحره: تَعبه ومشقته. وعلاجه: مزاولته. وروغ اللُّقْمَة: رَوَاهَا دسمًا. والمشفوه: الْقَلِيل.
فَائِدَة:
أَشَارَ الشَّافِعِي فِي ذَلِك إِلَى ثَلَاث احتمالات، ذكرهَا الرَّافِعِيّ: أَحدهَا: وجوب الترويغ والمناولة. ثَانِيهَا: وجوب أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه. (وأصحهما) أَنه لَا (يجب) وَاحِد مِنْهُمَا. انْتَهَى. وَقد يتَوَقَّف النَّاظر فِي تغايرها؛ لِأَن حَقِيقَة الأول التَّخْيِير، وَالثَّانِي كَذَلِك، وَالْأول يَقُول بأفضلية الإجلاس، وَالثَّانِي يُسَوِّي بَينهمَا. وَلما ذكر الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» هَذِه الثَّلَاثَة ذكر بدل الأول أَنه يجب التَّرْتِيب، وَرجح الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» الِاحْتِمَال الأول، وَقَالَ: إِنَّه أولَى بِمَعْنى الحَدِيث، (بِخِلَاف) مَا رَجحه الرَّافِعِيّ.
الحَدِيث الرَّابِع
ثَبت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «عذبت امْرَأَة فِي هرة (سجنتها) حَتَّى مَاتَت (فَدخلت فِيهَا النَّار، لَا هِيَ أطعمتها وسقتها إِذْ هِيَ حبستها، وَلَا(8/336)
هِيَ تركتهَا تَأْكُل) من خشَاش الأَرْض» . أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَفِي بعض طرق البُخَارِيّ: «حَتَّى مَاتَت جوعا فَدخلت فِيهَا النَّار» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، رَفعه: «عذبت امْرَأَة فِي هرة لم تطعمها، وَلم تسقها، وَلم تتركها تَأْكُل من خشَاش الأَرْض» . رَوَاهُ مُسلم و (قَالَ) البُخَارِيّ لما سَاق حَدِيث ابْن عمر: فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة (مثله) .
ثَالِثهَا: من حَدِيث جَابر، أخرجه مُسلم فِي الْكُسُوف وَلَفظه: «وَعرضت عليَّ النَّار فَرَأَيْت امْرَأَة من بني إِسْرَائِيل تعذب فِي هرة لَهَا ربطتها فَلم تطعمها، وَلم [تدعها] تَأْكُل من خشَاش الأَرْض» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «رَأَيْت فِي النَّار امْرَأَة حميرية سَوْدَاء طَوِيلَة» وَلم يقل: «من بني إِسْرَائِيل» . وَفِي رِوَايَة: «رَأَيْت فِيهَا صَاحِبَة الْهِرَّة الَّتِي ربطتها فَلم تطعمها ... » الحَدِيث.(8/337)
رَابِعهَا: من حَدِيث (أَسمَاء) رَوَاهُ مُسلم أَيْضا وَلَفظه: «فَإِذا امْرَأَة حبستها هرة» . الحَدِيث، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من هَذَا الْوَجْه فِي بَاب مَا (يُقَال) بعد التَّكْبِير.
خَامِسهَا وسادسها: من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، وَعقبَة بن عَامر (رَوَاهُمَا) ابْن حبَان فِي «صَحِيحه) . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن أبي الزبير، عَن جَابر، بِهِ.
فَائِدَة: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «فِي هرة» أَي: (بِسَبَب) هرة. و «الخشاش» بِفَتْح الْخَاء وَكسرهَا. قالهُ الرَّافِعِيّ، وَبِضَمِّهَا كَمَا حَكَاهُ القَاضِي فِي «مشارقه» وَالْفَتْح أشهر. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهُوَ هوَام الأَرْض.
قلت: وَهَذَا هُوَ الصَّواب، وَقد جَاءَ ذَلِك فِي رِوَايَة مُسلم: «تَأْكُل من (حشرات) الأَرْض» ، وَأبْعد من قَالَ: إِنَّه النَّبَات. والخشاش بِالْمُعْجَمَةِ، وَقيل بِالْمُهْمَلَةِ، وَهَذِه الْمَرْأَة يجوز أَن تكون كَافِرَة، لَكِن ظَاهر الحَدِيث أَنَّهَا مسلمة وعذبت عَلَى إصرارها عَلَى ذَلِك، وَلَيْسَ فِي(8/338)
الحَدِيث تخليدها. (قلت: رَوَى الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي «تَارِيخ أَصْبَهَان» أَنَّهَا كَافِرَة، وَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْبَعْث والنشور» أَنَّهَا عَن عَائِشَة؛ فَتكون من جملَة اسْتِحْقَاقهَا النَّار حبس الْهِرَّة، وأبداه القَاضِي احْتِمَالا، وَأنْكرهُ النَّوَوِيّ واستبعده) .
وَذكر الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب أثرا وَاحِدًا: وَهُوَ: رُوِيَ عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أَنه قَالَ: «لَا تكلفوا الصَّغير الْكسْب فيسرق، وَلَا الْأمة غير ذَات الصَّنْعَة فتكتسب بفرجها» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره الشَّافِعِي كَذَلِك فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إِسْنَاد وأسنده فِي غَيره، عَن مَالك وَهُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن (عَمه) أبي سُهَيْل، عَن أَبِيه، أَنه سمع عُثْمَان بن عَفَّان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أَنه (قَالَ) : «لَا تكلفوا الصَّغِير الْكسْب (فَإِنَّكُم مَتى كلفتموه الْكسْب) (يسرق) وَلَا الْأمة غير ذَات الصَّنْعَة (الْكسْب فَإِنَّهُ مَتى كلفتموها الْكسْب) (كسبت)(8/339)
بفرجها» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَزَاد ابْن أبي أويس فِي رِوَايَته: «وعفوا إِذا أعفكم الله وَعَلَيْكُم من المطاعم بِمَا طَابَ مِنْهَا» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَفعه بَعضهم عَن عُثْمَان من حَدِيث الثَّوْريّ. وَرَفعه ضَعِيف.
فَائِدَة: قَالَ صَاحب «الْمطَالع» وَقع فِي «موطأ يَحْيَى» : الْمَرْأَة. وَفِي « (موطأ) ابْن بكير» : الْأمة. وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَالْأمة أوجه.(8/340)
كتاب الْجراح(8/341)
كتاب الْجراح
بَاب مَا جَاءَ فِي التَّشْدِيد فِي الْقَتْل
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ أَي الذَّنب أكبر عِنْد الله؟ فَقَالَ: أَن تجْعَل لله ندًّا وَهُوَ خلقك. قيل: ثمَّ (أَي) قَالَ: أَن تقتل ولدك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح، عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَي الْكَبَائِر أكبر؟ قَالَ: أَن تجْعَل لله نِدًّا وَهُوَ خلقك. قلت: ثمَّ أَي؟ قَالَ: أَن تقتل ولدك من أجل أَن يَأْكُل مَعَك» . وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه أَيْضا بِلَفْظ: «سَأَلت - أَو سُئِلَ - رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَي الذَّنب عِنْد الله أعظم؟ قَالَ: أَن تجْعَل لله ندًّا وَهُوَ خلقك. قَالَ: قلت: إِن ذَلِك لعَظيم. قلت: ثمَّ أَي؟ قَالَ: أَن تقتل ولدك مَخَافَة أَن يطعم مَعَك. قلت: ثمَّ أَي؟ قَالَ: أَن تُزَانِي حَلِيلَة جَارك. قَالَ: وَنزلت هَذِه الْآيَة تَصْدِيقًا لقَوْل(8/343)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ» .
فَائِدَة: الند: الْمثل، والحليلة: الْمَرْأَة، و (الحليل) : الزَّوْج.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل قتل امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: كفر بعد إِيمَان، وزنا بعد إِحْصَان، وَقتل نفسٍ بِغَيْر حق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي «مُسْنده» ، وَابْن مَاجَه (وَالنَّسَائِيّ فِي (سُنَنهمَا) ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه) ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، من حَدِيث أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف «أَن عُثْمَان بن عَفَّان أشرف يَوْم الدَّار فَقَالَ: أنْشدكُمْ بِاللَّه، أتعلمون أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: لَا يحل دم امرئٍ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: زنا بعد إِحْصَان، وارتداد بعد إِسْلَام، أَو قتل نَفْس بِغَيْر حق ليقْتل بِهِ؟ فوَاللَّه مَا زَنَيْت فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام، وَلَا ارتددت مُنْذُ بَايَعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلَا قتلت النَّفس الَّتِي حرم الله فَبِمَ تقتلونني» . هَذَا(8/344)
لفظ الْحَاكِم، وَلَفظ البَاقِينَ بِنَحْوِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. رَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة، عَن يَحْيَى بن سعيد فرفعه، وَرَوَاهُ الْقطَّان وَغير وَاحِد عَن يَحْيَى بن سعيد فوقفوه عَلَى عُثْمَان قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من غير وجهٍ عَن عُثْمَان مَرْفُوعا. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح، عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل دم امْرِئ مُسلم يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: الثّيّب الزَّانِي، وَالنَّفس بِالنَّفسِ، والتارك لدينِهِ المفارق للْجَمَاعَة» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «والمفارق من الدَّين التارك للْجَمَاعَة» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «التارك لِلْإِسْلَامِ» . وَفِي رِوَايَة للنسائي: « (زَان مُحصن) » وَفِيه: «لَا يحل قتل مُسلم إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاث خِصَال: رجل يقتل مُسلما مُتَعَمدا، وَرجل يخرج من الْإِسْلَام فيحارب الله وَرَسُوله فَيقْتل، أَو يصلب، أَو ينفى من الأَرْض» .(8/345)
وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ مُسلم، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن عُثْمَان، مَرْفُوعا ثمَّ قَالَ: لَا نعلم رَوَاهُ هَكَذَا إِلَّا مطر الْوراق.
الحَدِيث الثَّالِث
فِي الْخَبَر: «لقتل مُؤمن أعظم عِنْد الله من زَوَال الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .
هَذَا الْخَبَر مَشْهُور، رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» فَقَالَ: (أَخْبرنِي) مُسلم بن خَالِد الزنْجِي بِإِسْنَاد لَا أحفظه، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «قتل الْمُؤمن عِنْد الله يعدل زَوَال الدُّنْيَا» . وَقد أُسند (هَذَا) من وُجُوه صَحِيحَة لَا مطْعن لأحدٍ فِي رجالها.
أَحدهَا: من حَدِيث عبد الله بن بُريدة، عَن أَبِيه، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «قتل الْمُؤمن أعظم عِنْد الله من زَوَال الدُّنْيَا» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث الْحسن بن إِسْحَاق الْمروزِي، عَن خَالِد بن خِدَاش، عَن حَاتِم (بن) إِسْمَاعِيل، عَن (بَشير) بن المُهَاجر الغَنَوي، عَن عبد الله(8/346)
بن بُريدة (بِهِ) . وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، كل رِجَاله ثِقَات مُحْتَج بهم فِي «الصَّحِيح» .
(ثَانِيهَا: من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، مَرْفُوعا: «لزوَال الدُّنْيَا أَهْون عِنْد الله من قتل مُؤمن بِغَيْر حقٍ» رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح) .
(ثَالِثهَا) : من حَدِيث عبد الله بن (عَمْرو) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لزوَال الدُّنْيَا أَهْون (عِنْد) الله من قتل رجل مُسلم» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: رُوِيَ مَرْفُوعا وموقوفًا عَلَى عبد الله بن عَمْرو، وَالْمَوْقُوف أصح. وَفِي رِوَايَة للنسائي: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقتل الْمُؤمن (أعظم عِنْد الله) من زَوَال الدُّنْيَا» . وَلَفظ الطَّبَرَانِيّ: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقتل الْمُؤمن (أعظم عِنْد الله) من زَوَال الدُّنْيَا» (فِي رِوَايَة لَهُ: «قتل مُؤمن عِنْد الله أعظم من زَوَال الدُّنْيَا»(8/347)
وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» لم يروه عَن (ابْن) المُهَاجر إِلَّا ابْن إِسْحَاق، تفرد بِهِ مُحَمَّد بن (سَلمَة) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَن حَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر، عَن إِسْمَاعِيل مولَى عبد الله بن عَمْرو، عَن عبد الله بن (عَمْرو) مَرْفُوعا: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقتل الْمُؤمن (أعظم) عِنْد الله من زَوَال الدُّنْيَا» فَقَالَا: هَكَذَا رَوَاهُ الحكم بن مُوسَى، عَن مُحَمَّد بن (سَلمَة) ، عَن ابْن إِسْحَاق (والخراسانيون) يدْخلُونَ بَين ابْن إِسْحَاق وَإِبْرَاهِيم بن مهَاجر (الْحسن بن عمَارَة) وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَفعه: «وَالله (للدنيا) وَمَا فِيهَا أَهْون عَلَى الله من قتل مُؤمن بِغَيْر حق» . لَكِن فِي إِسْنَاده يزِيد بن زِيَاد الشَّامي وَقد ضعَّفوه.
الحَدِيث الرَّابِع
وَقَالَ أَيْضا: «من أعَان عَلَى قتل مُسلم وَلَو بِشَطْر كلمة لَقِي الله وَهُوَ مَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ آيس من رَحْمَة الله» .(8/348)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن (الثِّقَة) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من أعَان ... » فَذكره بِحَذْف لَفْظَة «وَلَو» ذكره من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من طَرِيقه مَرْفُوعا «من شرك فِي دم حرَام بِشَطْر كلمة جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ: آيس من رَحْمَة الله» وَفِي سَنَده [عبد الله] بن خرَاش، وَلَا أعرفهُ.
ثَانِيهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من طَرِيقه مَرْفُوعا، وَاللَّفْظ الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ لفظ ابْن مَاجَه، إِلَّا أَنه قَالَ: «مُؤمن» بدل «مُسلم» (وبحذف «وَلَو» ) وبحذف «وَهُوَ» وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ: «من أعَان عَلَى قتل مُسلم لَقِي الله يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوب عَلَى جَبهته: آيس من رَحْمَة الله» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «يَوْم يلقاه» . وَفِي إِسْنَاده يزِيد بن زِيَاد، وَقيل: ابْن أبي زِيَاد، وَقد ضَعَّفُوهُ قَالَ البُخَارِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ صَدُوقًا إِلَّا أَنه لما كبر سَاءَ حفظه(8/349)
وَتغَير، وَكَانَ يَتَلَقَّن مَا لقِّن فَوَقَعت الْمَنَاكِير فِي حَدِيثه، فسماع من سمع مِنْهُ قبل (التَّغَيُّر) صَحِيح. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. ثمَّ ذكر كَلَام الْأَئِمَّة فِيهِ، ثمَّ نقل عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح. وَقَالَ ابْن حبَان: هَذَا حَدِيث مَوْضُوع، لَا أصل لَهُ من حَدِيث الثِّقَات. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : وَقد رُوِيَ هَذَا الْمَتْن مُرْسلا، عَن الْفرج بن فضَالة، عَن الضَّحَّاك، عَن الزُّهْرِيّ يرفعهُ قَالَ: «من أعَان عَلَى قتل مُؤمن بِشَطْر كلمة لَقِي الله - عَزَّ وَجَلَّ - (يَوْم الْقِيَامَة) مَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ: آيس من رَحْمَة الله» . قلت: والفرج بن فضَالة قوَّاه أَحْمد، وضَعَّفه غَيره. قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
ثَالِثهَا: من حَدِيث عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته) ، من حَدِيث حَكِيم بن نَافِع، عَن خلف بن حَوْشَب، عَن (الحكم بن عتيبة) عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عمر مَرْفُوعا: «من أعَان عَلَى امْرِئ مُسلم (بِشَطْر) كلمة لَقِي الله يَوْم الْقِيَامَة (مَكْتُوب)(8/350)
بَين عَيْنَيْهِ: آيس من رَحْمَة الله» ثمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيث لَا يَصح. قَالَ أَبُو زرْعَة: حَكِيم بن نَافِع لَيْسَ بِشَيْء. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث (عَمْرو بن) مُحَمَّد الأعسم، عَن يَحْيَى بن سَالم الْأَفْطَس، عَن أَبِيه، عَن سعيد، عَن عمر مَرْفُوعا: «من أعَان عَلَى سفك دم امرئٍ مُسلم (بِشَطْر كلمة) لَقِي الله يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَين عَيْنَيْهِ: آيس من رَحْمَة الله» . قَالَ: وَهَذَا حَدِيث لَا يَصح. قَالَ ابْن حبَان: الأعسم يروي عَن الثِّقَات الْمَنَاكِير، وَيَضَع أسامي للمحدثين، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ بِحَال. ثمَّ ذكره من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: «يَجِيء الْقَاتِل يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَين عَيْنَيْهِ: آيس من رَحْمَة الله» . ثمَّ قَالَ: وَهَذَا لَا يَصح، فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن عُثْمَان (بن أبي شيبَة) كذبه عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل، وعطية الْعَوْفِيّ وَقد ضعَّفه الْكل.
فَائِدَة: نقل الْقُرْطُبِيّ فِي أول تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة، عَن (سُفْيَان) أَنه قَالَ فِي تَفْسِير شطر الْكَلِمَة: أَن يَقُول فِي اقْتُل: اق. كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «كفَى بِالسَّيْفِ شا» . مَعْنَاهُ شافيًا.(8/351)
تَنْبيِه: ذكر الرَّافِعِيّ فِي الْكَلَام عَلَى الْإِكْرَاه فِي وجوب التَّلَفُّظ بِكَلِمَة الْكفْر أَن الْأَصَح عدم وجوب التَّلَفُّظ (بهَا) للأحاديث الصَّحِيحَة فِي الْحَث عَلَى (الصَّبْر) عَلَى الدَّين، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب الْآتِي ضرب مِنْهُ. وَهُوَ الْخَامِس.(8/352)
بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص
(ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا:
أَحدهَا
«أَن الرّبيع بنت النَّضر - عمَّة أنس بن مَالك - كسرت ثنية جَارِيَة فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْقصاصِ، فَقَالَ أَخُوهَا أنس بن النَّضر: أتكسر ثنية الرّبيع! لَا وَالله. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: كتاب الله الْقصاص» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن الرُّبَيع كسرت ثنية جَارِيَة، فطلبوا إِلَيْهَا الْعَفو فَأَبَوا، فعرضوا الأَرْش فَأَبَوا، فَأتوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَبَوا إِلَّا الْقصاص، فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْقصاصِ، فَقَالَ أنس بن النَّضر: أتكسر ثنية الرُّبَيع! لَا وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ، لَا تكسر ثنيتها. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: يَا أنس، كتاب الله الْقصاص. فَرضِي الْقَوْم فعفوا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن من عباد الله من لَو أقسم عَلَى الله لَأَبَره» .
وَأخرجه مُسلم عَلَى وَجه آخر عَن أنس أَيْضا «أَن أُخْت الرُّبيع أم حَارِثَة جرحت إنْسَانا فاختصموا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: الْقصاص(8/353)
الْقصاص. فَقَالَت أم الرّبيع: يَا رَسُول الله، أيقتص من فُلَانَة! وَالله لَا يقْتَصّ مِنْهَا. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: سُبْحَانَ الله يَا أم الرّبيع! الْقصاص كتاب الله. قَالَت: وَالله لَا يقْتَصّ مِنْهَا أبدا. (قَالَ) : فَمَا زَالَت حَتَّى قبلوا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن من عباد الله من لَو أقسم عَلَى الله لأبرَّه» .
(فَائِدَتَانِ: الأولَى: رجح بَعضهم رِوَايَة البُخَارِيّ (أَن الرّبيع كسرت ثنية جَارِيَة) عَلَى رِوَايَة مُسلم «أَن أُخْت الرّبيع جرحت إنْسَانا» وَقَالَ ...
الثَّانِيَة: فِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَن الْحَالِف أنس بن النَّضر، وَفِي مُسلم أم الرّبيع وَهِي بِفَتْح الرَّاء وَكسر ... ) النَّوَوِيّ فِي «شَرحه لمُسلم» ، وَإِن كَانَ الدمياطي والمزي ضما الرَّاء وفتحا الْبَاء للجارحة، وَجمع الرَّافِعِيّ فِي «أَحْكَامه» أَن كلًّا مِنْهُمَا حلف عَلَى أَنه لَا يقْتَصّ مِنْهَا، وَأَن الْجراحَة(8/354)
نسبت إِلَى إِحْدَاهمَا بِالْمُبَاشرَةِ، وَإِلَى الْأُخْرَى بِالسَّبَبِ، وَنسب الْقصاص إِلَى إِحْدَاهمَا من جِهَة أَنَّهَا الْمُبَاشرَة للجناية، وَإِلَى الْأُخْرَى من جِهَة تأثرها بالاقتصاص من هَذِه فَكل مَا نيل مِنْهَا نيل من أُخْتهَا.
فَائِدَة ثَالِثَة: قَوْله: «كتاب الله الْقصاص» المُرَاد بهَا قَوْله تَعَالَى: (وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا) إِلَّا أَنه فِي نقل الرَّافِعِيّ عَن الْأَصْحَاب أَن هَذَا وَإِن كَانَ خَبرا مَا فِي التَّوْرَاة، لَكِن شرع من قبلنَا شرع لنا إِذا لم يرد نَاسخ لَهُ عَلَى رَأْي الْأُصُولِيِّينَ، وَبِتَقْدِير أَن لَا يكون كَذَلِك، فَإِن ورد مَا يقرره فَهُوَ شرع لنا لَا محَالة ثمَّ ذكر الحَدِيث، وَمَا ذكره من أَن قَوْله: «كتاب الله الْقصاص» تَقْرِير لشرع من قبلنَا غَرِيب، فَإِنَّهُ إِخْبَار عَمَّا فِي كتاب الله - تَعَالَى - لَا إنْشَاء حكم، بل الْجَواب عِنْد من لَا يَقُول بِأَنَّهُ شرع لنا، أَن ذَلِك إِشَارَة إِلَى آيَات تدل عَلَيْهَا بِالْعُمُومِ لقَوْله تَعَالَى: (وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا) وَقَوله: (فَمن اعْتَدَى عَلَيْكُم) الْآيَة، وَقَوله: (وَإِن عَاقَبْتُمْ) الْآيَة وَهَذِه الْآيَات وَإِن طرقها التَّخْصِيص إِلَّا أَن دلالتها بَاقِيَة عَلَى مَا لم يثبت تَخْصِيصه.
الحَدِيث الثَّانِي
قَالَ (: «قيل السَّوْط والعصى فِيهِ مائَة من الْإِبِل» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي بَاب الدِّيات، وَهُوَ حَدِيث رَوَاهُ(8/355)
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة حَمَّاد عَن خَالِد، عَن الْقَاسِم بن ربيعَة، عَن عقبَة بن أَوْس، عَن عبد الله بن عَمْرو «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خطب يَوْم الْفَتْح بِمَكَّة فَكبر ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده، صدق وعده، وَنصر عَبده، وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده، أَلا كل مأثرة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة تذكر وتدعى من دم أَو مَال تَحت قدمي، إِلَّا مَا كَانَ من سِقَايَة الْحَاج وسدانة الْبَيْت. ثمَّ قَالَ: أَلا إِن دِيَة الْخَطَأ شبه الْعمد مَا كَانَ بِالسَّوْطِ والعصا (فِيهِ) مائَة من الْإِبِل مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بطونها أَوْلَادهَا» .
هَذَا لفظ أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «عقل شبه الْعمد مغلَّظ مثل عقل الْعمد وَلَا يقتل صَاحبه» زَاد فِي رِوَايَة «وَذَلِكَ أَن [ينَزْوَ] الشَّيْطَان بَين النَّاس فَتكون دِمَاء فِي عمياء فِي غير ضغينة وَلَا حمل سلَاح» . وَلَفظ ابْن مَاجَه « (الْخَطَأ) شبه الْعمد، قَتِيل السَّوْط والعصى مائَة من الْإِبِل أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بطونها أَوْلَادهَا» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن خَالِد الْحذاء، عَن الْقَاسِم بن ربيعَة، عَن عقبَة بن أَوْس، عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ يَوْم فتح مَكَّة: أَلا إِن قَتِيل(8/356)
الْخَطَأ شبه الْعمد قَتِيل السَّوْط والعصى، وَالدية مُغَلّظَة مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بطونها أَوْلَادهَا» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ الْقَاسِم بن ربيعَة، عَن ابْن (عمر) مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ كَذَلِك أَيْضا النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن جدعَان، عَن الْقَاسِم عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ يَوْم فتح مَكَّة وَهُوَ عَلَى درج الْكَعْبَة فَحَمدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي صدق وعده وَنصر عَبده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده) أَلا إِن قَتِيل الْخَطَأ قَتِيل السَّوْط والعصى، فِيهِ مائَة من الْإِبِل، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا، أَلا إِن كل مأثرة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة وَدم تَحت قدمي هَاتين، إِلَّا مَا كَانَ من سدانة الْبَيْت وسقاية الحاجِّ، أَلا إِنِّي قد أمضيتها لأَهْلهَا كَمَا كَانَا» . وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن ابْن جدعَان بِهِ بِلَفْظ: «أَلا إِن قَتِيل الْخَطَأ» إِلَى قَوْله: «أَوْلَادهَا» . وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، أَنا عَلّي بن زيد بن جدعَان، عَن يَعْقُوب السدُوسِي، عَن ابْن عمر، رَفعه: «أَلا إِن دِيَة الْخَطَأ الْعمد (وَالسَّوْط والعصى)
» . الحَدِيث. وَعلي بن زيد بن جدعَان قد سلف الْكَلَام عَلَيْهِ غير مرّة، وَالقَاسِم لَا يَصح سَمَاعه من(8/357)
ابْن (عمر) كَمَا قَالَه عبد الْحق وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن خُزَيْمَة أَنه قَالَ: حضرت مجْلِس الْمُزنِيّ يَوْمًا وَسَأَلَهُ سَائل من الْعِرَاقِيّين عَن شِبه الْعمد، فَقَالَ السَّائِل: إِن الله - تبَارك وَتَعَالَى - وصف الْقَتْل فِي كِتَابه صفتين عمدا وَخطأ، فَلم قُلْتُمْ إِنَّه عَلَى ثَلَاثَة أَصْنَاف؟ وَلم قُلْتُمْ شبه الْعمد؟ فاحتج الْمُزنِيّ بِحَدِيث ابْن عمر، فَقَالَ لَهُ مناظره: أتحتج بعلي بن زيد بن جدعَان؟ (فَسكت) الْمُزنِيّ، فَقلت لمناظره: قد رَوَى هَذَا الْخَبَر غير عَلّي بن زيد. فَقَالَ: وَمن رَوَاهُ غير عَلّي؟ قلت: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وخَالِد الْحذاء. قَالَ لي: فَمن عقبَة بن أَوْس؟ (فَقلت) : عقبَة بن أَوْس رجل من أهل الْبَصْرَة؛ فقد رَوَاهُ عَنهُ مُحَمَّد بن سِيرِين مَعَ جلالته. فَقَالَ للمزني: أَنْت تناظر أم هَذَا؟ فَقَالَ: إِذا جَاءَ الحَدِيث فَهُوَ مناظر؛ لِأَنَّهُ أعلم بِالْحَدِيثِ مني، ثمَّ أَتكَلّم أَنا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَرَادَ ابْن خُزَيْمَة بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذكرهَا طَرِيق حَدِيث عبد الله بن (عمر) يَعْنِي (السالف) . وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه) : حَدِيث ابْن عمر هَذَا مُضْطَرب الْإِسْنَاد، يرويهِ الْقَاسِم بن ربيعَة. فَتَارَة يَقُول: عَن يَعْقُوب بن أَوْس. وَتارَة يَقُول: عَن عقبَة بن أَوْس، عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَتارَة يَقُول: عَن (ابْن عمر) ، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.(8/358)
وَتارَة يَقُول: (عَن ابْن عَمْرو) . قلت: عقبَة بن أَوْس وَيَعْقُوب بن أَوْس وَاحِد كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِم بِإِسْنَادِهِ إِلَى يَحْيَى بن معِين، وَأغْرب ابْن حزم فَقَالَ: عُقبة هَذَا مَجْهُول. وَتَبعهُ عبد الْحق فَقَالَ: لَيْسَ بالمشهور وَلَيْسَ بجيد، فقد رَوَى عَنهُ جماعات وَوَثَّقَهُ الْعجلِيّ فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ ابْن الْقطَّان. (وَقَالَ عبد الْحق: طَريقَة عبد الله بن عَمْرو هِيَ الصَّحِيحَة. أَي وَطَرِيقَة ابْن عمر ضَعِيفَة كَمَا سلف. قلت: لَا جرم) أخرجهَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِنَحْوِ من لفظ أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : هُوَ صَحِيح وَلَا يضرّهُ الِاخْتِلَاف قَالَ: وَأما رِوَايَة ابْن عمر (فَلَا) ؛ لضعف ابْن جدعَان. وَخَالف أَبُو زرْعَة فَقَالَ فِيمَا حَكَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : حَدِيث ابْن عمر أصح من حَدِيث ابْن عَمْرو. قَالَ ابْن أبي حَاتِم: وَقد رُوِيَ حَدِيث ابْن عمر مُرْسلا وَهُوَ أشبه. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث اخْتلف فِيهِ عَن(8/359)
الْقَاسِم بن ربيعَة فَروِيَ عَنهُ (عَن ابْن عمر، وَعنهُ) ، عَن ابْن عَمْرو، وأرسله حميد الطَّوِيل، عَن الْقَاسِم بن ربيعَة، وَقَالَ خَالِد الْحذاء: عَن الْقَاسِم، عَن عقبَة بن أَوْس، عَن ابْن عمر، وَهَذَا أشبه. وَسُئِلَ يَحْيَى فِيمَا حَكَاهُ الْحَاكِم (بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ) عَن حَدِيث عبد الله بن عَمْرو - يَعْنِي السالف - فَقَالَ لَهُ الرجل: إِن سُفْيَان يَقُول: عَن عبد الله بن عمر. فَقَالَ يَحْيَى بن معِين: عَلّي بن زيد لَيْسَ بِشَيْء، والْحَدِيث حَدِيث (خَالِد) إِنَّمَا هُوَ عبد الله بن عَمْرو.
فَائِدَة:
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «فِي بطونها أَوْلَادهَا» مِمَّا يسْأَل عَنهُ، وَيُقَال: الخلفة هِيَ الَّتِي فِي بَطنهَا وَلَدهَا، فَمَا الْحِكْمَة فِي ذَلِك؟ وَأجِيب عَنهُ بأجوبة: أَحدهَا: أَنه تَأْكِيد وإيضاح. ثَانِيهَا: أَنه تَفْسِير لَهَا لَا قيد. ثَالِثهَا: أَنه نفي لوهم متوهم يتَوَهَّم أَنه يَكْفِي فِي الخلفة أَن تكون حملت فِي وَقت مَا وَلَا يشْتَرط حملهَا حَالَة دَفعه فِي الدِّيَة. رَابِعهَا: أَنه إِيضَاح (بحكمها) وَأَنه يشْتَرط فِي نَفْس الْأَمر أَن تكون حَامِلا، وَلَا يَكْفِي قَول أهل الْخِبْرَة أَنَّهَا خلفة إِذا بَينا أَنه لم يكن فِي بَطنهَا ولد. خَامِسهَا: ذكره الرَّافِعِيّ حَيْثُ قَالَ: (وَقيل) اسْم الخلفة يَقع عَلَى الْحَامِل، وَعَلَى الَّتِي ولدت وَوَلدهَا يتبعهَا. فَأَرَادَ أَن يبين أَن الْوَاجِب الْحَامِل، ثمَّ ذكر الْوَجْه السالف فَقَالَ: وَيجوز أَن يُقَال هُوَ تَفْسِير الخلفة.(8/360)
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن يَهُودِيّا رض رَأس جَارِيَة بَين حجرين فَقَتلهَا فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - برض رَأسه بَين حجرين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد ذكره الرَّافِعِيّ فِي آخر الْبَاب بِلَفْظ: «أَن يهوديًّا (رضخ) رَأس جَارِيَة بِالْحِجَارَةِ فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أَن يرض) رَأسه بِالْحِجَارَةِ» . وَقد أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن يهوديًّا قتل جَارِيَة عَلَى أوضاح لَهَا فَقَتلهَا بِحجر، فجيء بهَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَبهَا رَمق فَقيل لَهَا: أَقْتلك فلَان؟ فَأَشَارَتْ برأسها أَن لَا، ثمَّ قَالَ لَهَا الثَّانِيَة فَأَشَارَتْ برأسها أَن لَا، ثمَّ سَأَلَهَا الثَّالِثَة فَقَالَت: نعم، وأشارت برأسها، فَقتله رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بحجرين» . وَفِي روايةٍ لَهما (فرض) رَأسه بَين حجرين» وَفِي رِوَايَة لَهما» : «أَن يهوديًّا (رضخ) رَأس جَارِيَة بَين حجرين فَأخذ الْيَهُودِيّ فَأقر، فَأمر بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يرض(8/361)
رَأسه بِالْحِجَارَةِ» . وَقَالَ همام: «بحجرين» . وَفِي رِوَايَة لَهما: «أَن الْيَهُودِيّ اعْترف بَعْدَمَا أشارت إِلَيْهِ» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قتل يهوديًّا [بِجَارِيَة] قَتلهَا عَلَى أوضاح لَهَا» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «أَن رجلا من الْيَهُود قتل جَارِيَة عَلَى حُلي لَهَا ثمَّ أَلْقَاهَا فِي القليب، ورضخ رَأسهَا بِالْحِجَارَةِ، فَأخذ فَأتي بِهِ رَسُول «وَأمر) أَن يرْجم حَتَّى يَمُوت، فرجم حَتَّى مَاتَ» .
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (يقتل) الْقَاتِل ويصبر الصابر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» (عَن) أبي دَاوُد (الْحَفرِي) عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا أمسك الرجلُ الرجلَ وَقَتله الآخر، يقتل الَّذِي قتل وَيحبس الَّذِي أمسك» . وَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم، لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِنَّه غير مَحْفُوظ. قَالَ: وَقد قيل: عَن(8/362)
إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قلت: هُوَ فِي الدَّارَقُطْنِيّ وَلَفظه: «أُتي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - برجلَيْن أَحدهمَا قتل وَالْآخر أمسك، فَقتل الْقَاتِل، وَحبس الممسك» . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالصَّوَاب مَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن أُميَّة قَالَ: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي رجل أمسك رجلا وَقتل الآخر، قَالَ: يقتل الْقَاتِل، وَيحبس الممسك» . وَعَن سُفْيَان، عَن جَابر، عَن عَامر، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَنه) قَضَى بذلك. قَالَ: (وَكَذَلِكَ) معمر، عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة يرفعهُ، قَالَ: «اقْتُلُوا الْقَاتِل، واصبروا الصابر» .
قلت: وَكَذَا هُوَ فِي الدَّارَقُطْنِيّ، عَن معمر وَابْن جريح، عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة رفع الحَدِيث، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يقتل الْقَاتِل ويصبر الصابر» . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: والإرسال فِي هَذَا الحَدِيث أَكثر. وَتَبعهُ عبد الْحق، وتعقبهما ابْن الْقطَّان فَقَالَ: (أوهما) بِهَذَا القَوْل ضعف (الْخَبَر) وَهُوَ عِنْدِي صَحِيح، فَإِن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة من الثِّقَات فَلَا يعد رَفعه مرّة وإرساله أُخْرَى اضطرابًا، إِذْ يجوز لِلْحَافِظِ أَن يُرْسل الحَدِيث عِنْد المذاكرة فَإِذا أَرَادَ التحميل أسْندهُ، وَإِنَّمَا يعد هَذَا اضطرابًا (بِمن) لم نثق بحفظه، وَالثَّوْري أحد الْأَئِمَّة وَقد وَصله غَيره كَمَا ذكر.(8/363)
فَائِدَة: قَالَ أَبُو عُبيد فِي «غَرِيبه» بعد أَن أخرج الحَدِيث بِلَفْظ «اقْتُلُوا الْقَاتِل واصبروا الصابر» ، قَوْله: «اصْبِرُوا» ، يَعْنِي: احْبِسُوا الَّذِي حَبسه. وَكَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ: قيل: مَعْنَاهُ أَنه يحبس تعزيرًا وَالصَّبْر هُوَ الْحَبْس، يَقُول: صَبر يصبِر بِكَسْر الْبَاء فِي الْمُضَارع، وصبرته أَنا أَي حَبسته، قَالَ تَعَالَى: (واصبر نَفسك) الْآيَة. قَالَ الْجَوْهَرِي ثمَّ ذكر الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: أَي احْبِسُوا الَّذِي حَبسه للْمَوْت حَتَّى يَمُوت. هَذَا لَفظه. وَالْفُقَهَاء ينازعون فِي حَبسه للْمَوْت كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي (الْفِقْه) .
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كَانَ الرجل فِيمَن كَانَ قبلكُمْ يحْفر لَهُ فِي الأَرْض فَيجْعَل فِيهِ، فيجاء بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَع عَلَى رَأسه فَيشق بِاثْنَيْنِ (وَمَا) يصده عَن دينه، وَيُمشط بِأَمْشَاط الْحَدِيد مَا دون لَحْمه من عظم وعصبٍ وَمَا يصده ذَلِك عَن دينه» .
هَذَا الحَدِيث (أخرجه) البُخَارِيّ من حَدِيث خباب (بن) الْأَرَت قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ (مُتَوَسِّد) بردة (لَهُ) فِي ظلّ الْكَعْبَة (فَقُلْنَا) : أَلا تَسْتَنْصِر لنا، أَلا تَدْعُو لنا؟ فَقَالَ (: قد(8/364)
كَانَ من قبلكُمْ يُؤْخَذ الرجل فيحفر لَهُ فِي الأَرْض (حفيرة) فَيجْعَل فِيهَا، ثمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَع عَلَى رَأسه فَيجْعَل نِصْفَيْنِ، وَيُمشط بِأَمْشَاط الْحَدِيد مَا دون لَحْمه وعظمه، مَا يصده ذَلِك عَن دينه، وَالله لَيتِمَّن الله هَذَا الْأَمر حَتَّى يسير الرَّاكِب من صنعاء إِلَى حَضرمَوْت لَا يخَاف إِلَّا الله وَالذِّئْب عَلَى غنمه وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُون» وَأخرجه أَبُو دَاوُد بِلَفْظ الرَّافِعِيّ (سَوَاء، إِلَّا أَنه قَالَ: «لَا يصرفهُ ذَلِك عَن دينه» بدل «يصده» ، وَهنا فَائِدَة) المئشار بِهَمْزَة بعد الْمِيم هَذَا هُوَ (الْأَفْصَح) وَيجوز تَخْفيف الْهمزَة، وَيجوز بالنُّون بدلهَا. ذكره (كُله) النَّوَوِيّ فِي «شَرحه لمُسلم» ، فِي «بَاب ذكر الدَّجَّال» وَهُوَ (ملخص) من الصِّحَاح فِي مَادَّة: أشر، ووشر، وَنشر.
الحَدِيث السَّادِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (أَلا) لايقتل مُؤمن بِكَافِر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي جُحَيْفَة وهْب بن عبد الله السَّوائي قَالَ: «قلت لعَلي: يَا أَمِير(8/365)
الْمُؤمنِينَ، هَل عنْدكُمْ شَيْء من الْوَحْي إِلَّا مَا فِي كتاب الله؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة مَا عَلمته إِلَّا فهما يُعْطِيهِ الله رجلا فِي الْقُرْآن وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة. قلت: وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة؟ قَالَ: فِيهَا الْعقل وفكاك الْأَسير، وَأَن لَا يقتل مُسلم بِكَافِر» . هَكَذَا هُوَ فِي بَابَيْنِ من البُخَارِيّ: «مسلمٌ بِكَافِر» وَهُوَ من أَفْرَاده كَمَا نبه عَلَيْهِ الْحميدِي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ (و) الْبَزَّار من حَدِيث قيس بن عباد، عَن عَلّي فِي الصَّحِيفَة الَّتِي عِنْده: «لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده» . قَالَ الْبَزَّار: رُوِيَ عَن عَلّي من غير وَجه، وَهَذَا الْإِسْنَاد أحسن إِسْنَاد يرْوَى فِي ذَلِك وأصحه. قَالَ: وَلَا نعلم أسْند قيس بن عباد عَن عَلّي إِلَّا حديثين أَحدهمَا هَذَا وَثَانِيهمَا حَدِيثه فِي سَبَب نزُول (هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم) وَسَيَأْتِي هَذَا فِي أثْنَاء السّير إِن شَاءَ الله - تَعَالَى - وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا، وحسَّنه التِّرْمِذِيّ، وَلَفظ أبي دَاوُد: «لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر» وَلَفظ البَاقِينَ: «مسلمٌ» بدل: «مُؤمن» .(8/366)
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِمثل حَدِيث قيس بن عباد السالف. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن عمر فِي حَدِيث طَوِيل بِلَفْظ: «لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده» . وَرَوَاهُ الشَّافِعِي مُرْسلا من رِوَايَة عَطاء وَطَاوُس وَمُجاهد وَالْحسن أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ يَوْم الْفَتْح: «لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر» . قَالَ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» (و «الْمُخْتَصر» : و) هَذَا عَام عِنْد أهل الْمَغَازِي أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تكلم بِهِ فِي خطبَته يَوْم الْفَتْح، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُسْندًا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب (عَن أَبِيه عَن جده) وَحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن. هَذَا آخر كَلَام الشَّافِعِي. وَقيل: إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَه فِي خطْبَة الْوَدَاع. حَكَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عمرَان وَعَائِشَة أَيْضا وَعَزاهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي أوردهُ الرَّافِعِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَعمْرَان بن حُصَيْن.
تَنْبِيه: هَذِه الْأَحَادِيث دَالَّة عَلَى ضعف حَدِيث ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قتل مُسلما بمعاهد وَقَالَ: أَنا أكْرم من وفَّى بِذِمَّتِهِ» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هُوَ خطأ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: وَصله بِذكر ابْن عمر (فِيهِ) وَإِنَّمَا هُوَ (عَن) ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا. ثَانِيهمَا: رِوَايَته(8/367)
عَن إِبْرَاهِيم (عَن) ربيعَة، وَإِنَّمَا يرويهِ إِبْرَاهِيم، عَن ابْن الْمُنْكَدر، وَالْحمل فِيهِ عَلَى عمار بن مطر الرهاوي، وَقد كَانَ يقلب الْأَسَانِيد وَيسْرق الْأَحَادِيث حَتَّى كثر ذَلِك فِي رواياته وَسقط عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ أَبُو عبيد: هَذَا حَدِيث لَيْسَ بِمُسْنَد وَلَا يَجْعَل مثله إِمَامًا (تسْقط) بِهِ دِمَاء الْمُسلمين. وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: هَذَا الحَدِيث يَدُور عَلَى ابْن أبي يَحْيَى لَيْسَ لَهُ وَجه. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم (يروه) غير إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث، وَالصَّوَاب عَن ربيعَة، عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا، وَابْن الْبَيْلَمَانِي ضَعِيف لَا تقوم بِمثلِهِ حجَّة إِذا وصل الحَدِيث، فَكيف بِمَا يُرْسِلهُ. وَمَا أحسن قَول الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل: من حكم بِحَدِيث ابْن الْبَيْلَمَانِي فَهُوَ عِنْدِي مُخطئ، فَإِن حكم بِهِ حَاكم (وَرفع) إِلَى حَاكم آخر (رده) .
الحَدِيث السَّابِع
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يقتل حرّ بِعَبْد» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث عُثْمَان بن مقسم الْبري، عَن جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ، وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، عُثْمَان هَذَا كذبه يَحْيَى وَغَيره(8/368)
وجويبر مَتْرُوك، وَالضَّحَّاك لم يدْرك ابْن عَبَّاس، فَهُوَ إِذن ضَعِيف مُنْقَطع، وَقد ضعفه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فَقَالَ: فِي إِسْنَاده ضعف. وَعبد الْحق (قَالَ) : إِنَّه (مُنْقَطع) (وَقد ضعفه الْبَيْهَقِيّ) . وَقَالَ ابْن الْقطَّان: ترك عبد الْحق أَن يبين أَنه من رِوَايَة عُثْمَان الْبري عَنهُ، وَقد قَالَ فِي حَدِيث آخر: إِنَّه كثير الْوَهم وَالْخَطَأ، وَكَانَ صَاحب بِدعَة كَانَ يُنكر الْمِيزَان، وَخَالف ابْن الْجَوْزِيّ (فاحتج) بِهِ فِي «تَحْقِيقه» وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ. قَالَ عبد الْحق: وَقد رَوَى أَيْضا من رِوَايَة عمر بن عِيسَى الْأَسْلَمِيّ، عَن ابْن جُريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس، عَن عمر مَرْفُوعا: «لَا يُقَاد مَمْلُوك من مَالِكه، وَلَا ولد من وَالِده» . وَعمر هَذَا مُنكر الحَدِيث ضَعِيف، قَالَه ابْن عدي، (ورويا) - أَعنِي: الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ - عَن عَلّي أَنه قَالَ: «من السّنة أَن لَا يقتل حر بِعَبْد» . وَهُوَ ضَعِيف لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن فِي إِسْنَاده جَابر الْجعْفِيّ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : تفرد بِهِ جَابر. وَثَانِيهمَا: أَنه لَيْسَ بمتصلٍ،(8/369)
قَالَه عبد الْحق. ورويا (أَيْضا) ، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن أَبَا بكر وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، كَانَا لَا يقتلان الْحر بقتل العَبْد» وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا، وَفِي إِسْنَاده ابْن أَرْطَاة وَقد ضَعَّفُوهُ لَكِن تَابعه عَلَيْهِ (عَمْرو) بن عَامر. وَفِي الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن قَالَ: «لَا يُقَاد الْحر بِالْعَبدِ» . وَفِيه أَيْضا: عَن ابْن أبي جَعْفَر، عَن بكير قَالَ: «مَضَت السّنة بِأَن لَا يقتل الْحر الْمُسلم بِالْعَبدِ وَإِن قَتله عمدا، وَعَلِيهِ الْعقل» . فِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة.
تَنْبِيه: مَا عَارض هَذِه الْأَحَادِيث والْآثَار مُتَكَلم فِيهَا أَيْضا.
فَفِي الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الحكم، عَن عَلّي وَابْن عَبَّاس أَيْضا قَالَا: «إِذا قتل الْحر العَبْد مُتَعَمدا فَهُوَ قَود» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا تقوم بِهِ حجَّة؛ لِأَنَّهُ مُرْسل. وَفِي الْبَيْهَقِيّ أَيْضا(8/370)
(عَن) عَلّي وَعبد الله بن عَبَّاس (فِي الْحر يقتل العَبْد (قَالَا) : الْقود» . ثمَّ قَالَ - أَعنِي الْبَيْهَقِيّ -: هُوَ مُنْقَطع. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وثنا عبد الله بن وهب (قَالَ) أَخْبرنِي ابْن أبي ذِئْب وَمَالك بن أنس، عَن ابْن شهَاب أَنه قَالَ: «لَا قَود بَين الْحر وَالْعَبْد فِي شَيْء إِلَّا أَن العَبْد إِذا قتل الْحر عمدا قتل بِهِ» . وَقَالَ لي مَالك مثله. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (و) روينَا عَن ابْن جريج، عَن عَطاء مثله. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أما حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة مَرْفُوعا: «من قتل عَبده قَتَلْنَاهُ، وَمن جدعه جدعناه، وَمن خصاه خصيناه» . قَالَ قَتَادَة: ثمَّ إِن الْحسن نسي هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: «لَا يقتل حر بعبدٍ» (و) يشبه أَن يكون الْحسن لم ينس الحَدِيث لَكِن رغب عَنهُ لضَعْفه، وَأكْثر أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ رَغِبُوا عَن رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة.
قلت: وَأما التِّرْمِذِيّ فَإِنَّهُ حسَّن الحَدِيث (و) قَالَ الْحَاكِم: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ. ثمَّ ذكر لَهُ شَاهدا، وَأجَاب غير الْبَيْهَقِيّ بأوجه: أَحدهَا: أَنه ورد عَلَى وَجه الْوَعيد، وَقد يتواعد بِمَا لَا يفعل، كَمَا قَالَ: «من شرب الْخمر فِي الرَّابِعَة فَاقْتُلُوهُ» . قَالَه ابْن قُتَيْبَة، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه) : إِنَّه الصَّحِيح. ثَانِيهَا: أَنه أَرَادَ من كَانَ(8/371)
عَبده لِئَلَّا يتَوَهَّم بِعَدَمِ الرّقّ مَانِعا، ذكره صَاحب «الْمُنْتَقَى» فِي «أَحْكَامه» فَقَالَ: أَكثر أهل الْعلم عَلَى أَن السَّيِّد لَا يقتل بِعَبْدِهِ، وتأولوا هَذَا الحَدِيث عَلَى ذَلِك. وَقد رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده: «أَن رجلا قتل عَبده مُتَعَمدا فجلده النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ونفاه سنة ومحى سَهْمه من الْمُسلمين، وَلم يقده بِهِ، وَأمره أَن يعْتق رَقَبَة» . وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة إِسْمَاعِيل (بن) عَيَّاش إِذْ هُوَ حجَّة فِيمَا رَوَى عَن أهل الشَّام (وَقد رَوَى) هَذَا الحَدِيث عَن الْأَوْزَاعِيّ وَهُوَ من عُلَمَاء أهل الشَّام. ثَالِثهَا: أَنه مَنْسُوخ بِحَدِيث: «من حُرق بالنَّار أَو مُثل بِهِ فَهُوَ حر، وَهُوَ مولَى لله وَرَسُوله» . قَالَه ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه) .
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا (يُقَاد) الْوَالِد بِالْوَلَدِ» .
هَذَا الحَدِيث مرويٌ من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَا يُقَاد الْوَالِد بِالْوَلَدِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث (عَمْرو بن) شُعَيْب، عَن (أَبِيه، عَن جده، عَنهُ) (رَوَاهُ) ابْن مَاجَه(8/372)
أَيْضا وعلته الْحجَّاج بن أَرْطَاة (وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : رَوَاهُ حجاج بن أَرْطَاة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «حضرت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[يُقيد] الْأَب من ابْنه وَلَا يُقيد الابْن من أَبِيه) .
ثَانِيهَا: من حَدِيث سراقَة بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «حضرت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يُقيد) الْأَب من ابْنه وَلَا يُقيد الابْن من أَبِيه» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا، من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، عَنهُ بِهِ. ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه من حَدِيث سراقَة إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَلَيْسَ إِسْنَاده بِصَحِيح، رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش (و) الْمثنى بن الصَّباح، والمثنى يضعف فِي الحَدِيث.
قلت: وَإِسْمَاعِيل (هَذَا) ضَعِيف عَن غير الشاميين، وَهُوَ هَا هُنَا رَوَى عَن الْمثنى بن الصَّباح وَلَيْسَ بشامي. قَالَ: وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث أَبُو خَالِد الْأَحْمَر، عَن الْحجَّاج، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ثمَّ سَاق الحَدِيث السالف، ثمَّ قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن عَمْرو بن شُعَيْب مُرْسلا، وَهَذَا حَدِيث فِيهِ اضْطِرَاب.(8/373)
ثَالِثهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَفعه: «لَا تُقَام الْحُدُود فِي الْمَسَاجِد، وَلَا يقتل الْوَالِد بِالْوَلَدِ» . رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا نعرفه بِهَذَا الْإِسْنَاد مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم، وَقد تكلم فِيهِ بعض أهل الْعلم من قبل حفظه.
قلت: وَقد تَابعه عَلَى رِوَايَته الْحسن بن عبيد الله الْعَنْبَري، عَن عَمْرو بن دِينَار، أَفَادَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، و «مَعْرفَته» قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أهل الْعلم أَن الْأَب إِذا قتل ابْنه لَا يقتل بِهِ، وَإِذا قذفه لَا يُحد. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه) : هَذِه الْأَحَادِيث كلهَا معلولة لَا يَصح مِنْهَا شَيْء. وبيَّن ذَلِك ابْن الْقطَّان كَمَا بَيناهُ.
رَابِعهَا: (من) حَدِيث ابْن لَهِيعَة، ثَنَا عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا: «لَا يُقَاد وَالِد من وَلَده، وَيَرِث المَال من يَرث الْوَلَاء» . رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده) من هَذَا الْوَجْه عَن ابْن لَهِيعَة بِالتَّحْدِيثِ، وَقد قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لم يسمع ابْن لَهِيعَة من عَمْرو بن شُعَيْب شَيْئا.(8/374)
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «الْأَفْرَاد» من حَدِيث مُحَمَّد بن جَابر (اليمامي) ، عَن يَعْقُوب بن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن (عَمْرو) . وَمُحَمّد وَيَعْقُوب لَا يحْتَج بهما.
قلت: وَلِحَدِيث (عمر) السالف طَرِيق آخر، رَوَاهُ أَحْمد، عَن أسود بن عَامر، أَنا جَعْفَر الْأَحْمَر، عَن مطرف، عَن الحكم، عَن مُجَاهِد قَالَ: «حذف رجل ابْنا لَهُ بِسيف فَقتله فرُفع إِلَى عمر فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا يُقَاد الْوَالِد من وَلَده. لقتلتك قبل أَن تَبْرَح» . وَطَرِيق آخر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مطرف بن طريف، عَن الحكم بن عتيبة، عَن رجل يُقَال لَهُ: عرْفجَة، عَن عمر بن الْخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، قَالَ: سَمِعت رَسُول (يَقُول: «لَيْسَ عَلَى (الْوَالِد) قَود من وَلَده» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من طَرِيق الشَّافِعِي، عَن مَالك، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن عَمْرو بن شُعَيْب «أَن رجلا من بني (مُدْلِج) يُقَال لَهُ: قَتَادَة، حذف ابْنه بِسيف فَأصَاب سَاقه، فنزا فِي جرحه فَمَاتَ، فَقدم سراقَة بن جعْشم عَلَى عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ عمر: أعدد لي عَلَى قديد عشْرين وَمِائَة بعير حَتَّى أقدم عَلَيْهِ. فَلَمَّا قدم عمر أَخذ(8/375)
من تِلْكَ الْإِبِل ثَلَاثِينَ حقة وَثَلَاثِينَ جَذَعَة وَأَرْبَعين خلفة، ثمَّ قَالَ: أَيْن أَخ الْمَقْتُول؟ قَالَ: هَا أَنا ذَا. قَالَ: خُذْهَا فَإِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: لَيْسَ لقَاتل شَيْء» . قَالَ الشَّافِعِي: وَقد حفظته عَن عدد من أهل الْعلم لقيتهم أَن لَا يقتل الْوَالِد بِالْوَلَدِ، وَبِذَلِك أَقُول. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث مُنْقَطع، فأكده الشَّافِعِي بِأَن عددا من أهل الْعلم يَقُول بِهِ. (قَالَ) : وَقد رُوِيَ مَوْصُولا فساقه من حَدِيث مُحَمَّد بن عجلَان، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: «نحلت لرجل من بني مُدْلِج جَارِيَة فَأصَاب مِنْهَا ابْنا، فَكَانَ يستخدمها، فَلَمَّا شب الْغُلَام دَعَاهَا يَوْمًا فَقَالَ: اصنعي كَذَا وَكَذَا. (فَقَالَ) : لَا تَأْتِيك حَتَّى مَتى (تستأمي) أُمِّي. قَالَ: فَغَضب فَحَذفهُ بِسيف فَأصَاب رجله، فنزف الْغُلَام فَمَاتَ، فَانْطَلق فِي رهطٍ من قومه إِلَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فَقَالَ: يَا عَدو نَفسه، أَنْت الَّذِي قتلت ابْنك، لَوْلَا أَنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا يُقَاد الْأَب من ابْنه. لقتلتك، هَلُمَّ دِيَته. فَأَتَاهُ بِعشْرين أَو ثَلَاثِينَ وَمِائَة بعير، فَخير مِنْهَا مائَة فَدَفعهَا إِلَى ورثته وَترك أَبَاهُ» . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة) (إِسْنَاده) صَحِيح. وَنقل هَذِه القولة عَن الْبَيْهَقِيّ أَيْضا صَاحب «الْإِلْمَام» وَأقرهُ عَلَيْهَا.(8/376)
قلت: وَهَذِه الطَّرِيق هِيَ الْعُمْدَة وَكَانَ يَنْبَغِي تَقْدِيمهَا، وَالْأول شَاهد لَهَا.
الحَدِيث التَّاسِع
يرْوَى عَن (عَمْرو) بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كتب فِي كِتَابه إِلَى أهل الْيمن: أَن الذّكر يقتل بِالْأُنْثَى» .
هَذَا الحَدِيث عُمْدَة الدِّيات، وَقد فرقه الرَّافِعِيّ فِي مَوَاضِع من الْكتاب، وَأَنا أذكرهُ هُنَا مجموعًا وأحيل (عَلَيْهِ) مَا يَقع (بعده) عَلَيْهِ، وَهُوَ (مُشْتَمل) أَيْضا عَلَى غير الدِّيات من الْفَرَائِض وَالسّنَن وَالصَّدقَات، وَهُوَ حَدِيث متداول (من) الْأُمَّهَات، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن عبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيه: «أَن فِي الْكتاب الَّذِي كتبه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعَمْرو بن حزم فِي الْعُقُول: أَن فِي النَّفس مائَة من الْإِبِل، وَفِي الْأنف إِذا أوعب (جدعه) مائَة من الْإِبِل، وَفِي المأمومة ثلث الدِّيَة، وَفِي الْجَائِفَة مثلهَا، وَفِي الْعين خَمْسُونَ، وَفِي الْيَد خَمْسُونَ، وَفِي الرجل خَمْسُونَ، وَفِي كل أصْبع مِمَّا هُنَالك عشر من الْإِبِل، وَفِي السن خمس، وَفِي الْمُوَضّحَة خمس» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله) ، عَن ابْن شهَاب،(8/377)
قَالَ: «قَرَأت فِي كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعَمْرو بن حزم حِين بَعثه إِلَى نَجْرَان، وَكَانَ الْكتاب عِنْد أبي بكر بن حزم، فَكتب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فِيهِ) : هَذَا (بَيَان) من الله وَرَسُوله (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ) وَكتب الْآيَات حَتَّى بلغ (إِلَى) (إِن الله سريع الْحساب) ثمَّ كتب: هَذَا (كتاب) الْجراح: فِي النَّفس مائَة من الْإِبِل، وَفِي الْأنف إِذا (أوعى) جدعه مائَة من الْإِبِل، وَفِي الْعين خَمْسُونَ من الْإِبِل وَفِي الْيَد خَمْسُونَ من الْإِبِل، وَفِي الرجل خَمْسُونَ من الْإِبِل، وَفِي كل إِصْبَع (فَمَا) هُنَالك عشر من الْإِبِل، وَفِي المأمولة ثلث الدِّيَة، وَفِي المنقلة خمس عشرَة، وَفِي الْمُوَضّحَة خمس (من) الْإِبِل، وَفِي السّنَن خمس من الْإِبِل» . قَالَ ابْن شهَاب: فَهَذَا الَّذِي قَرَأت فِي الْكتاب الَّذِي كتبه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عِنْد أبي بكر(8/378)
بن حزم. وَهُوَ فِي رِوَايَة (لَهُ) من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قَالَ: «كَانَ فِي كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَعْنِي هَذَا - (و) فِي الذّكر الدِّيَة، وَفِي اللِّسَان الدِّيَة» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» عَن عَمْرو بن مَنْصُور الْحَافِظ عَن الحكم بن مُوسَى، عَن يَحْيَى بن حَمْزَة، عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد حَدثنِي الزُّهري، عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (كتب إِلَى أهل الْيمن كتابا فِيهِ السُنن والفرائض والديات، وَبعث بِهِ مَعَ عَمْرو بن حزم فَقُرئت عَلَى أهل الْيمن وَهَذِه نسختها: من مُحَمَّد النَّبي إِلَى شُرَحْبِيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قَيْل ذِي رعين ومعافر وهمدان أما بعد - وَكَانَ فِي كِتَابه -: إِن من اعتبط مُؤمنا قتلا عَن بَيِّنَة فَإِنَّهُ قَود إِلَّا أَن يرْضَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول، وَإِن فِي النَّفس الدِّيَة مائَة من الْإِبِل، وَفِي الْأنف إِذا أُوعبَ جَدْعه الدِّيَة، وَفِي اللِّسَان الدِّيَة، وَفِي الشفتين الدِّيَة، وَفِي البيضتين الدِّيَة، وَفِي الذّكر الدِّيَة، وَفِي الصلب الدِّيَة، وَفِي الْعَينَيْنِ الدِّيَة، وَفِي الرجل الْوَاحِدَة نصف الدِّيَة، وَفِي المأمومة ثلث الدِّيَة، وَفِي الْجَائِفَة ثلث الدِّيَة، وَفِي المنقلة خمس عشرَة من الْإِبِل، وَفِي كل أصْبع من أَصَابِع الْيَد وَالرجل عشر من الْإِبِل، وَفِي(8/379)
السن خمس من الْإِبِل، وَفِي الْمُوَضّحَة خمس من الْإِبِل، وَأَن الرجل يقتل بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أهل الذَّهَب ألف دِينَار» وَفِي رِوَايَة لَهُ مثله، وَقَالَ فِيهَا: «وَفِي الْعين الْقَائِمَة نصف الدِّيَة، وَفِي الْيَد الْوَاحِدَة نصف الدِّيَة، وَفِي الرجل الْوَاحِدَة نصف الدِّيَة» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث الحكم بن مُوسَى، عَن يَحْيَى بن حَمْزَة، عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد، قَالَ: حَدثنِي الزُّهْرِيّ، عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كتب إِلَى أهل الْيمن بِكِتَاب فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن والديات وَبعث بِهِ مَعَ عَمْرو بن حزم وَقُرِئَ عَلَى أهل الْيمن وَهَذِه نسختها: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من مُحَمَّد النَّبِي إِلَى شُرَحْبِيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والْحَارث بن عبد كلال قَيْل ذِي رعين ومعافر وهمدان، أما بعد: فقد رَجَعَ رَسُولكُم وأعطيتم من المعافر خمس الله، وَمَا كتب الله عَلَى الْمُؤمنِينَ من الْعشْر فِي الْعقار، وَمَا سقت السَّمَاء أَو كَانَ سيحًا أَو بعلاً الْعشْر إِذا بلغ خَمْسَة أوسق، وَمَا سقِِي بالرشاء والدالية فَفِيهِ نصف الْعشْر إِذا بلغ خَمْسَة أوسق» ثمَّ ذكر نصيب الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم ومتعلقاتها - وَقد ذكرت ذَلِك بِطُولِهِ فِي «تحفة الْمُحْتَاج إِلَى أَدِلَّة الْمِنْهَاج» فَرَاجعه مِنْهُ - إِلَى أَن قَالَ: «وَكَانَ فِي الْكتاب أَن أكبر الْكَبَائِر عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة إشراك بِاللَّه، وَقتل(8/380)
النَّفس المؤمنة بِغَيْر حق، والفرار يَوْم الزَّحْف، وعقوق الْوَالِدين، وَرمي المحصنة، وَتعلم السحر، وَأكل الرِّبَا، وَأكل مَال الْيَتِيم، وَأَن الْعمرَة الْحَج الْأَصْغَر، وَلَا يمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر، وَلَا طَلَاق قبل إملاك، وَلَا عتاق [حَتَّى] يبْتَاع، وَلَا يصلين مِنْكُم وَاحِد لَيْسَ عَلَى مَنْكِبَيْه شَيْء، وَلَا يحتبين فِي ثوب وَاحِد لَيْسَ بَين فرجه وَبَين السَّمَاء شَيْء، وَلَا يصلين أحدكُم فِي ثوب وَاحِد وَشقه بَادِي، وَلَا يصلين أحد مِنْكُم عاقص شعره» . وَكَانَ فِي الْكتاب: «أَن من اعتبط مُؤمنا قتلا عَن بَيِّنَة فَإِنَّهُ قَود إِلَّا أَن يرْضَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول، وَأَن فِي النَّفس مائَة من الْإِبِل، وَفِي [الْأنف] إِذا أوعب جدعه الدِّيَة، وَفِي اللِّسَان الدِّيَة، وَفِي البيضتين الدِّيَة، وَفِي الشفتين الدِّيَة، وَفِي الذّكر الدِّيَة، وَفِي الصلب الدِّيَة، وَفِي الْعَينَيْنِ الدِّيَة، وَفِي الرجل الْوَاحِدَة نصف الدِّيَة، وَفِي المأمومة ثلث الدِّيَة، وَفِي الْجَائِفَة ثلث الدِّيَة، وَفِي المنقلة خمس عشرَة من الْإِبِل، وَفِي كل إِصْبَع من الْأَصَابِع من الْيَد وَالرجل عشر من الْإِبِل، وَفِي السن خمس من الْإِبِل، وَفِي الْمُوَضّحَة خمس من الْإِبِل، وَأَن الرجل يقتل بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أهل الذَّهَب ألف دِينَار» .
وَرَوَاهُ أَيْضا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» مَعَ تفَاوت يسير، قَالَ النَّسَائِيّ بعد أَن رَوَاهُ عَن الْهَيْثَم بن مَرْوَان، عَن مُحَمَّد بن بكار، عَن(8/381)
يَحْيَى بن حَمْزَة، عَن سُلَيْمَان بن أَرقم، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي بكر: وَهَذَا أشبه بِالصَّوَابِ من حَدِيث عَمْرو بن مَنْصُور - يَعْنِي السالف - قَالَ: وَسليمَان بن أَرقم مَتْرُوك الحَدِيث. قَالَ: وَقد يروي هَذَا الحَدِيث يُونُس عَن الزُّهْرِيّ مُرْسلا. وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» : قد أسْند هَذَا الحَدِيث وَلَا يَصح. قَالَ: وَالَّذِي فِي إِسْنَاده سُلَيْمَان بن دَاوُد وهم إِنَّمَا هُوَ سُلَيْمَان بن أَرقم. وَقَالَ فِي غَيرهَا: هَذَا الحَدِيث لَا أحدث بِهِ، وَقد وهم فِيهِ الحكم بن مُوسَى فِي قَوْله: «عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد» وَقد حَدثنِي هَذَا الحَدِيث أَبُو هُبَيْرَة مُحَمَّد بن الْوَلِيد الدِّمَشْقِي أَنه قَرَأَهُ فِي أصل يَحْيَى بن حَمْزَة: «سُلَيْمَان بن أَرقم» . وَهَكَذَا قَالَ أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي: إِنَّه الصَّوَاب. وَصَالح بن أَحْمد جزرة وَأَبُو الْحسن الْهَرَوِيّ، وَقَالَ غَيره: غلط. وَقَالَ ابْن مَنْدَه: كَذَلِك قرأته فِي أصل يَحْيَى بن حَمْزَة وَإنَّهُ الصَّوَاب. وَقَالَ صَالح جزرة: حَدثنَا دُحَيْم قَالَ: نظرت فِي كتاب يَحْيَى حَدِيث عَمْرو بن حزم فِي الصَّدقَات فَإِذا هُوَ عَن سُلَيْمَان بن أَرقم. قَالَ: وَيُقَال: إِنَّه وجد كَذَلِك بالعراق، وَمِنْهُم من يَقُول: سُلَيْمَان بن دَاوُد الدِّمَشْقِي. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قد رُوِيَ عَن سُلَيْمَان حَدِيث عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي بكر بن حزم، الحَدِيث الطَّوِيل؛ لَا يكْتب عَنهُ. وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : صحيفَة عَمْرو بن حزم مُنْقَطِعَة لَا تقوم بهَا حجَّة، وَسليمَان(8/382)
بن دَاوُد الْجَزرِي الَّذِي رَوَاهَا مُتَّفق عَلَى تَركه، وَأَنه لَا يحْتَج بِهِ. كَذَا فِي «كتاب الزَّكَاة» من «محلاه» وَقَالَ فِي «الدِّمَاء وَالْقصاص مِنْهُ» وَقد أورد بعضه: سُلَيْمَان بن دَاوُد ضَعِيف مَجْهُول الْحَال. وَهَذِه عبارَة غَرِيبَة مِنْهُ مَعَ الأول. وَقَالَ عبد الْحق: سُلَيْمَان بن دَاوُد، هَذَا الَّذِي يروي هَذِه النُّسْخَة) عَن الزُّهْرِيّ هُوَ ضَعِيف، وَيُقَال: إِنَّه سُلَيْمَان بن أَرقم. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : ترجح أَنه ابْن أَرقم. فَالْحَدِيث إِذا ضَعِيف الْإِسْنَاد.
وَخَالفهُم فِي ذَلِك الْحَافِظ أَبُو أَحْمد بن عدي فَقَالَ: هَذَا خطأ، وَالْحكم بن مُوسَى فقد ضبط ذَلِك، وَسليمَان بن دَاوُد صَحِيح كَمَا ذكره (الحكم) ، وَقد رَوَاهُ عَنهُ يَحْيَى بن حَمْزَة إِلَّا أَنه مَجْهُول. وَقَالَ أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي: عرضت هَذَا الحَدِيث عَلَى أَحْمد بن حَنْبَل فَقَالَ: هَذَا حَدِيث رجل من أهل الجزيرة يُقَال لَهُ: سُلَيْمَان بن أبي دَاوُد، لَيْسَ بِشَيْء. قَالَ ابْن عدي: وَهَذَا أَيْضا خطأ، وَسليمَان بن دَاوُد صَحِيح كَمَا (ذكره) الحكم بن مُوسَى. قَالَ ابْن عدي: وَحَدِيث سُلَيْمَان بن دَاوُد مجود الْإِسْنَاد.
قلت: وَقد تكلم (الْحفاظ) عَلَى كل من سُلَيْمَان بن أَرقم(8/383)
وَسليمَان بن دَاوُد قَالَ يَحْيَى فِي سُلَيْمَان بن أَرقم: لَيْسَ بِشَيْء، لَا يُسَاوِي فلسًا. وَقَالَ البُخَارِيّ: (تَرَكُوهُ) . وَقَالَ يَحْيَى فِي سُلَيْمَان بن دَاوُد: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ مرّة: شَامي ضَعِيف. وَقَالَ مرّة: لَا يعرف، والْحَدِيث لَا يَصح. وَقَالَ ابْن حبَان: صَدُوق. وَقَالَ (ابْن أبي حَاتِم) وَأَبُو زرْعَة: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا بَأْس بِهِ. قَالَ: وَلَا يثبت عَنهُ هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: هُوَ ضَعِيف، مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: سَمِعت ابْن أبي دَاوُد (يَقُول) : سُلَيْمَان بن دَاوُد هَذَا وَسليمَان بن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي ضعيفان جَمِيعًا. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: لَا يحْتَج بحَديثه إِذا انْفَرد.
وأعل هَذَا الحَدِيث بِوَجْه آخر وَهُوَ الْإِرْسَال، فقد رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك، عَن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيه. وَرَوَاهُ أَيْضا عَن الزنْجِي، عَن ابْن جريج، عَن عبد الله بن أبي بكر مُرْسلا. قَالَ ابْن جريج: فَقلت لعبد الله بن أبي بكر: أَفِي شكّ أَنْت أَنه كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: لَا. وَرَوَاهُ يُونُس بن يزِيد وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز، عَن الزُّهْرِيّ مُرْسلا. وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي كِتَابه «الرَّد عَلَى بشر» ، عَن نعيم بن حَمَّاد، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن معمر، عَن عبد الله بن أبي بكر(8/384)
بن حزم، عَن أَبِيه، عَن جده ... الحَدِيث، وَهَذَا اخْتِلَاف آخر. وجماعات صححوا الحَدِيث مِنْهُم: أَبُو حَاتِم بن حبَان فَأخْرجهُ فِي «صَحِيحه» كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: سُلَيْمَان بن دَاوُد هُوَ الْخَولَانِيّ من أهل دمشق فَقِيه مَأْمُون. قَالَ: وَسليمَان بن أَرقم لَا شَيْء، وجميعًا يرويان عَن الزُّهْرِيّ. وَمِنْهُم الْحَاكِم فَأخْرجهُ فِي «مُسْتَدْركه» كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث كَبِير مُفَسّر فِي هَذَا الْبَاب شهد لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن عبد الْعَزِيز، وَإِمَام الْعلمَاء فِي عصره مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ بِالصِّحَّةِ. ثمَّ سَاق ذَلِك عَنْهُمَا بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: وَإسْنَاد هَذَا الحَدِيث من شَرط هَذَا الْكتاب. قَالَ: وَسليمَان بن دَاوُد الدِّمَشْقِي الْخَولَانِيّ مَعْرُوف بالزهري، وَإِن كَانَ يَحْيَى بن معِين غمزه فقد عدله غَيره، كَمَا (أخبرنيه) أَبُو أَحْمد الْحُسَيْن بن عَلّي عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم، ثمَّ قَالَ: سَمِعت أبي (و) سُئِلَ عَن حَدِيث عَمْرو بن حزم فِي كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الَّذِي كتبه فِي الصَّدقَات، فَقَالَ: سُلَيْمَان بن دَاوُد عندنَا مِمَّن لَا بَأْس بِهِ. قَالَ [أَبُو] مُحَمَّد بن أبي حَاتِم: وَسمعت أَبَا زرْعَة يَقُول ذَلِك. وَمِنْهُم الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فَإِنَّهُ لما أخرجه فِي «سنَنه» مطولا رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه سُئِلَ عَن (حَدِيث) عَمْرو بن حزم هَذَا، فَقَالَ: أَرْجُو أَن يكون صَحِيحا. (قَالَ) البيهقى: قَالَ عبد الله بن مُحَمَّد الْبَغَوِيّ: حَدِيث سُلَيْمَان بن دَاوُد هَذَا مجود الْإِسْنَاد.(8/385)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَان بن دَاوُد الْخَولَانِيّ هَذَا: أَبُو زرْعَة، وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَعُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ، وَجَمَاعَة من الْحفاظ، (وَرَأَوا) هَذَا الحَدِيث مَوْصُولا حسنا. وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان الْحَافِظ: لَا أعلم فِي جَمِيع الْكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عَمْرو بن حزم هَذَا فَإِن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - والتابعون (ترجع) إِلَيْهِ وَيدعونَ آراءهم. وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي فِي «رسَالَته» لم يقبلُوا هَذَا الحَدِيث حَتَّى (يثبت) عِنْدهم أَنه كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. (و) قَالَ ابْن عبد الْبر: كتاب عَمْرو بن حزم هَذَا (كتاب) مَشْهُور عِنْد أهل السّير، مَعْرُوف مَا فِيهِ عِنْد أهل الْعلم (معرفَة) يُستغنى بشهرتها عَن الْإِسْنَاد؛ لِأَنَّهُ أشبه التَّوَاتُر فِي مَجِيئه لتلقي النَّاس لَهُ بِالْقبُولِ (والمعرفة) .
قَالَ: وَمِمَّا يدلك عَلَى شهرة كتاب (عَمْرو) بن حزم، وَصِحَّته مَا ذكره ابْن وهب، عَن مَالك وَاللَّيْث بن سعد، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: وجد كتاب عِنْد آل حزم يذكرُونَ أَنه من رَسُول(8/386)
الله (فِيهِ: «وَفِيمَا هُنَالك من الْأَصَابِع عشر عشر» فَصَارَ الْقَضَاء فِي الْأَصَابِع إِلَى عشر عشر. وَقَالَ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» : هَذَا حَدِيث (ثَابت) مَحْفُوظ إِن شَاءَ الله - تَعَالَى - إِلَّا أَنا نرَى أَنه كتاب غير مسموع عَمَّن فَوق الزُّهري.
الحَدِيث الْعَاشِر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ: «فِي كل إِصْبَع عشر من الْإِبِل» .
هَذَا الحَدِيث بعض من الحَدِيث الَّذِي فَرغْنَا (آنِفا) مِنْهُ، وَذكره صَاحب «الْمُهَذّب» من هَذَا الْوَجْه، وَمن حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب أَيْضا، وَقد عزيته فِي تخريجي لأحاديثه، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَأبي مُوسَى أَيْضا.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة، وَإِذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» (وَهُوَ من أَفْرَاده) من حَدِيث أبي يعْلى شَدَّاد بن أَوْس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ:(8/387)
«إِن الله كتب الْإِحْسَان عَلَى كل شَيْء، فَإِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة، وَإِذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة، وليحد أحدكُم شفرته وليرح ذَبِيحَته» . وَرَوَاهُ (أَحْمد و) أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه بِلَفْظ: «الذّبْح» وَهُوَ بِفَتْح الذَّال بدل: «الذبْحَة» ، كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ وَهُوَ فِي كثير من نسخ مُسلم، (وللنسائي) رِوَايَة (أُخْرَى) كالأولى.
فَائِدَة: القِتلة والذِّبحة - بِكَسْر الْقَاف والذال - أَي: هَيْئَة الْقَتْل وَالذّبْح. وَقَوله «وليُحِد» هُوَ بِضَم الْيَاء وَكسر الْحَاء، يُقَال: أحد السكين وحددها واستحدها، كل ذَلِك بِمَعْنى.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أَن الغامدية أَتَت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: زَنَيْت فطهرني، وَالله إِنِّي لحُبلى. قَالَ: اذهبي حَتَّى تلدي. فَلَمَّا ولدت أَتَت بِالصَّبِيِّ فِي خرقَة فَقَالَت: هَذَا قد وَلدته. قَالَ: اذهبي فأرضعيه. فَلَمَّا (فَطَمته) أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَده كسرة خبز فَقَالَت: قد فَطَمته، فَدفع الصَّبِي إِلَى رجل من الْمُسلمين (وَأمر) برجمها» .(8/388)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» وَهُوَ حَدِيث طَوِيل (يشْتَمل) عَلَى قصَّتهَا وقصة مَاعِز الْأَسْلَمِيّ، وَسَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي «حد الزِّنَا» إِن شَاءَ الله، وَجَاء فِي «صَحِيح مُسلم» أَيْضا مَا ظَاهره: أَنه رَجمهَا عقب الْولادَة فتأول.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه (قَالَ) : «من حرَّق حرقناه، وَمن غرق غرقناه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» من حَدِيث بشر بن حَازِم، عَن عمرَان (بن نَوْفَل) بن يزِيد بن الْبَراء، عَن أَبِيه، عَن جده، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من عرض (عرضنَا) لَهُ، وَمن حرق حرقناه، وَمن غرق غرقناه» . رَوَاهُ هَكَذَا وَسكت عَلَيْهِ، وَذكره فِي «الْمعرفَة» وَقَالَ: فِي هَذَا الْإِسْنَاد بعض من يجهل. ذكر فِي أثْنَاء السّرقَة (وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَقَالَ فِي «تَحْقِيقه» : إِنَّه لَا يثبت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) وَإِنَّمَا قَالَه زِيَاد فِي خطبَته.(8/389)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
ورد أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا قَود إِلَّا بِالسَّيْفِ» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق كلهَا (ضَعِيفَة) :
أَحدهَا: من طَرِيق النُّعْمَان بن بشير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا رَوَاهُ ابْن مَاجَه كَذَلِك وَالطَّبَرَانِيّ فِي « (أكبر) معاجمه» (وَلَفظه: «لَا عمد إِلَّا بِالسَّيْفِ» . وَالْبَيْهَقِيّ وَلَفظه: «لَا قَود إِلَّا بحديدة» وَالْبَزَّار فِي «مُسْنده» وَلَفظه) : «الْقود بِالسَّيْفِ، وَلكُل خطأ أرش» وعلته جَابر الْجعْفِيّ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: مطعون فِيهِ. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» : ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ وَاخْتلف عَلَيْهِ فِي لَفظه. وَوَقع فِي «تَحْقِيق ابْن الْجَوْزِيّ» هُنَا أَنهم اتَّفقُوا عَلَى تَكْذِيبه، وَهُوَ غَرِيب مِنْهُ، وَقد قَالَ هُوَ فِي مَوضِع آخر: اعْترض عَلَيْهِ بِتَضْعِيف جَابر أما جَابر فقد وَثَّقَهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة، وناهيك (بهما) . فَكيف يَقُول هَذَا ثمَّ يَحْكِي الِاتِّفَاق! وَفِي « (سنَن) الْبَيْهَقِيّ» : قيس بن الرّبيع وَقد ضَعَّفُوهُ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا بِلَفْظ: «كل شَيْء خطأ إِلَّا السَّيْف، وَفِي كل خطأ أرش» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كل شَيْء خطأ إِلَّا(8/390)
مَا كَانَ بحديدة، وَلكُل خطأ أرش» . وَرَوَاهُ (أَحْمد) فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «لكل شَيْء خطأ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَلكُل خطأ أرش» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ بِلَفْظ: «لَا قَود إِلَّا بحديدة» وَفِي سَنَده قيس السالف. وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِلَفْظ: «لَا قَود إِلَّا بِالسَّيْفِ» وَفِيه مَكَان «قيس» هَذَا «سُفْيَان الثَّوْريّ» كَمَا فِي إِحْدَى روايتي الدَّارَقُطْنِيّ، وَأَبُو عَازِب الْمَذْكُور فِي رواياتهم لَيْسَ بِمَعْرُوف، واسْمه مُسلم بن عَمْرو، كَمَا قَالَه أَبُو حَاتِم وَغير وَاحِد، وَقَالَ غَيره: اسْمه مُسلم بن أَرَاك. وَوَقع كَذَلِك فِي إِحْدَى روايتي الدَّارَقُطْنِيّ.
ثَانِيهَا: من حَدِيث أبي [بكرَة] رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا كَذَلِك رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْبَزَّار وَالْبَيْهَقِيّ قَالَ الْبَزَّار: لَا نعلم أحدا أسْنده بِأَحْسَن من هَذَا الْإِسْنَاد وَلَا نعلم أحدا قَالَ: «عَن أبي (بكرَة) » إِلَّا (الْحر) بن مَالك وَلم يكن بِهِ بَأْس، وَأَحْسبهُ أَخطَأ فِي هَذَا(8/391)
الحَدِيث؛ لِأَن النَّاس يَرْوُونَهُ عَن الْحسن مُرْسلا. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَالْبَزَّار يرويهِ عَن شيخ (لَهُ) يُقَال لَهُ: أَبُو زيد الأبلي، عَن (الْحر) بن مَالك الْمَذْكُور وَلَا أعرف حَال (أبي) زيد هَذَا. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم فِي (الْحر) بن مَالك: لَا بَأْس بِهِ. قلت: فِيهِ مَعَ ذَلِك مبارك بن فضَالة وَثَّقَهُ قوم، وَضَعفه آخَرُونَ، أخرج لَهُ البُخَارِيّ مُتَابعَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ووثقاه. وَقَالَ (عَفَّان) : كَانَ ثِقَة (وَكَانَ وَكَانَ) . وَاخْتلف قَول يَحْيَى فِيهِ، وَكَانَ ابْن عدي لَا يروي عَنهُ، أنكر أَحْمد قَوْله فِي غير حَدِيث عَن الْحسن، ثَنَا عمرَان. وَأَصْحَاب الْحسن لَا يَقُولُونَ ذَلِك وَكَانَ يُدَلس، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: كَانَ يُدَلس كثيرا فَإِذا قَالَ «حَدثنَا» فَهُوَ ثِقَة. وَقَالَ [يَحْيَى] الْقطَّان: لم أقبل مِنْهُ شَيْئا قطّ إِلَّا شَيْئا يَقُول فِيهِ «حَدثنَا» ، وَحَدِيثه هَذَا لم يقل فِيهِ «حَدثنَا» وَإِنَّمَا رَوَاهُ بِلَفْظ «عَن» . وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ السَّعْدِيّ: يضعف. وَقَالَ أَحْمد لرجل سَأَلَهُ عَنهُ: دَعه، وَلم يعبأ بِهِ. وَقَالَ عبد(8/392)
الْحق: أسْند (الْحر) بن مَالك (هَذَا) لَا بَأْس بِهِ، وَالنَّاس يرسلونه عَن الْحسن. وَفِي «خلافيات» الْبَيْهَقِيّ أَن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِالْقَوِيّ، ومبارك غير مُحْتَج بِهِ تَركه ابْن مهْدي وَابْن سعيد فَمن بعدهمَا؟ ! قَالَ ابْن أبي حَاتِم (فِي «علله» ) : سَأَلت أبي عَنهُ؟ فَقَالَ: حَدِيث مُنكر. وَقَول الْبَزَّار: لَا (نعلم) أحدا قَالَ فِيهِ عَن مبارك، عَن الْحسن، عَن أبي بكرَة غير (الْحر) بن مَالك. غَرِيب، فَإِنَّهُ قد قَالَ ذَلِك غير مبارك، الوليدُ بن صَالح، ذكره الدَّارَقُطْنِيّ كَمَا أَفَادَهُ ابْن الْقطَّان. قلت: وَفِي الْبَيْهَقِيّ «الْوَلِيد بن مُسلم» بدل «ابْن صَالح» .
ثَالِثهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا كَذَلِك. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» وعلته أَبُو معَاذ سُلَيْمَان بن أَرقم، وَهُوَ مَتْرُوك، (وَنقل) ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» (أَنهم) أَجمعُوا عَلَى تَركه،(8/393)
وَقَالَ فِي «علله» : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح.
رَابِعهَا: من حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «لَا قَود فِي النَّفس وَغَيرهَا إِلَّا بحديدة» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلِك وعلته مُعلى بن هِلَال (وَهُوَ) كَذَّاب وَضاع، قَالَ أَحْمد: مَتْرُوك الحَدِيث، حَدِيثه مَوْضُوع كذب.
خَامِسهَا: من حَدِيث ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا (إِلَّا بِسَيْفِهِ) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَذَلِك وَالْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: «لَا قَود إِلَّا بسلاح» وعلته عنعنة بَقِيَّة وَأَبُو معَاذ سُلَيْمَان بن أَرقم (الْمَتْرُوك) السالف.
(سادسها: من حَدِيث جَابر الْجعْفِيّ وَأَبُو عَازِب عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: «لَا قَود إِلَّا بِالسَّيْفِ وَالْخَطَأ عَلَى الْعَاقِلَة» ذكره الْمزي فِي «أَطْرَافه» وعلته جَابر الْجعْفِيّ وَأَبُو عَازِب السالف،) وَفِيه أَيْضا أَبُو شيبَة وَهُوَ غير مُحْتَج بِهِ.
فتلخص من هَذَا كُله ضعف الحَدِيث من جَمِيع طرقه الْمَذْكُورَة، وَقد صرح بضعفه جماعات من الْحفاظ مِنْهُم: الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ، فَإِنَّهُ لما أخرجه من طَرِيق ابْن مَسْعُود والنعمان وَأبي بكرَة قَالَ: هَذَا الحَدِيث لم يثبت لَهُ إِسْنَاد، مُعلى مَتْرُوك، وَسليمَان ضَعِيف،(8/394)
ومبارك لَا يحْتَج بِهِ، وَجَابِر مطعون فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي «خلافياته» ، وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» مَا ملخصه: (أوجهه) كلهَا ضَعِيفَة. وَمِنْهُم: عبد الْحق، فَإِنَّهُ ذكره فِي «أَحْكَامه» من طَرِيق أبي بكرَة والنعمان، وَضعفهمَا، ثمَّ قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث أَيْضا عَن عَلّي وَأبي هُرَيْرَة وَابْن مَسْعُود، وَكلهَا ضَعِيفَة وَمِنْهُم: ابْن الْجَوْزِيّ، فَإِنَّهُ ذكره فِي «تَحْقِيقه» من طَرِيق عَلّي، وَأبي هُرَيْرَة، وَابْن مَسْعُود، وضعفها كلهَا، وَلَعَلَّ الرَّافِعِيّ (لما) استشعر ضعف هَذَا الحَدِيث قَالَ: ورد. وَلم يجْزم بِرَفْعِهِ، هَذَا آخر (الْكَلَام عَلَى) أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فثمانية:
أَحدهَا:
«أَن رجلَيْنِ شَهدا عِنْد عَلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (عَلَى رجل) بِسَرِقَة فَقَطعه، ثمَّ رجعا عَن شَهَادَتهمَا. فَقَالَ: لَو أعلم أنكما تعمدتما لَقطعت أيديكما» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ البُخَارِيّ (فِي تَرْجَمَة بَاب) وَهَذَا لَفظه: وَقَالَ مطرف، عَن الشّعبِيّ «فِي رجلَيْنِ شَهدا عَلَى رجل أَنه سرق فَقَطعه عَلّي، ثمَّ جَاءَا بآخر فَقَالَا: أَخْطَأنَا. فَأبْطل شَهَادَتهمَا فَأخذ بدية الأول، وَقَالَ: لَو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق(8/395)
الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن مطرف، عَن الشّعبِيّ «أَن رجلَيْنِ (شَهدا) عِنْد عَليّ بِالسَّرقَةِ فَقطع عَليّ يَده، ثمَّ جَاءَا بآخر، فَقَالَا: هَذَا هُوَ السَّارِق وأخطأنا عَلَى الأول» . وَفِي رِوَايَة لَهُ « (لَا الأول) فأغرم عَلَى الشَّاهِدين (دِيَة الْمَقْطُوع) الأول وَقَالَ: لَو أعلم أنكما تعمدتما لَقطعت أيديكما. وَلم يقطع الثَّانِي» . قَالَ الشَّافِعِي: بِهَذَا نقُول. قلت: وَإِسْنَاده صَحِيح، عَلَى رَأْيه.
الْأَثر الثَّانِي:
«أَن رجلا قتل آخر فِي عهد عمر، فطالب أولياءه بالقود، ثمَّ قَالَت أُخْت الْقَتِيل - وَكَانَت زَوْجَة الْقَاتِل -: قد عَفَوْت عَن حَقي. فَقَالَ عمر: عتق الرجل» .
هَذَا الْأَثر رَأَيْت من عزاهُ إِلَى رِوَايَة عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الْأَعْمَش، عَن زيد بن وهب: «أَن عمر بن الْخطاب رفع إِلَيْهِ رجل فَقَالَت امْرَأَة الْقَاتِل: قد عَفَوْت عَن حَقي من زَوجي. فَقَالَ عمر: عتق الرجل من الْقَتْل» . وَترْجم الْبَيْهَقِيّ فِي «بَاب عَفْو بعض الْأَوْلِيَاء عَن الْقصاص دون بعض» ثمَّ صَدره بِحَدِيث عَائِشَة الْمَرْفُوع «عَلَى المقتتلين أَن ينحجزوا الأول فَالْأول، وَإِن كَانَت امْرَأَة» . وَإِسْنَاده صَحِيح. قَالَ أَبُو عبيد: مَعْنَاهُ أَن يقتل الْقَتِيل وَله وَرَثَة رجال وَنسَاء، يَقُول: فَأَيهمْ عَفا(8/396)
عَن دَمه من الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب من رجل أَو امْرَأَة فعفوه جَائِز؛ لِأَن قَوْله: «ينحجزوا» يَعْنِي يكفوا عَن الْقود. ثمَّ ذكر الْبَيْهَقِيّ بعده بِإِسْنَاد صَحِيح، عَن زيد بن وهب أَنه قَالَ: «وجد رجل عِنْد (امْرَأَته) رجلا فَقَتلهَا، فَرفع ذَلِك إِلَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (فَوجدَ عَلَيْهَا بعض إخوتها فَتصدق [عَلَيْهِ] بِنَصِيبِهِ فَأمر عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) لسائرهم بِالدِّيَةِ» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَن رجلا قتل (امْرَأَته) استعدى ثَلَاثَة إخْوَة لَهَا عَلَيْهِ، فَرفع ذَلِك إِلَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَعَفَا أحدهم، فَقَالَ عمر للباقين: خذا ثُلثي الدِّيَة فَإِنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى قَتله» . وَرَوَى الشَّافِعِي، عَن مُحَمَّد بن الْحسن، عَن أبي حنيفَة، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: «أَن عمر بن الْخطاب أُتِي بِرَجُل قد قتل عمدا فَأمر بقتْله، فَعَفَا بعض الْأَوْلِيَاء فَأمر بقتْله، فَقَالَ ابْن مَسْعُود: كَانَت النَّفس لَهُم جَمِيعًا، فَلَمَّا عَفا هَذَا أَحْيَا النَّفس فَلَا يَسْتَطِيع (أَن) يَأْخُذ حَقه حَتَّى يَأْخُذ غَيره فَمَا ترَى؟ قَالَ: أرَى أَن تجْعَل الدِّيَة عَلَيْهِ فِي مَاله وترفع حِصَّته الَّتِي عَفا. فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَأَنا أرَى ذَلِك» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُنْقَطع - أَي بَين إِبْرَاهِيم وَعمر - والموصول (قبله) يؤكده.
الْأَثر الثَّالِث:
« (أَن عمر) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَوْصَى وَهُوَ مَجْرُوح: لَا يعِيش مثله» .(8/397)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلَو أصَاب الحشوة خرق وَقطع وَكَانَ يتقين مَوته بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ فَهُوَ الَّذِي يجب الْقصاص (بقتْله) وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَذَلِك عَلَى مَا رُوِيَ «أَن الطَّبِيب سقَاهُ لَبَنًا فَخرج من (جروحه) لما أصَاب أمعاءه من الْخرق، فَقَالَ الطَّبِيب: اعهد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ» .
هَذَا هُوَ الْأَثر الْوَارِد فِي وَفَاة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد أخرجه البُخَارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي «صَحِيحه» مطولا من حَدِيث عَمْرو بن مَيْمُون الْأَزْدِيّ قَالَ: (رَأَيْت عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قبل أَن يصاب بأيام بِالْمَدِينَةِ (وَقد وَفد عَلَيْهِ) حُذَيْفَة بن الْيَمَان وَعُثْمَان بن حنيف، قَالَ: كَيفَ فعلتما؟ (تخافان) أَن تَكُونَا قد حملتما الأَرْض مَا لَا تطِيق؟ قَالَا: حملناها أمرا هِيَ لَهُ مطيقة وَمَا فِيهَا كَبِير فضل. فَقَالَ: (انظرا) أَن تَكُونَا حملتما الأَرْض مَا لَا تطِيق. فَقَالَا: لَا. فَقَالَ عمر: لَئِن سلمني الله لأدعنَّ أرامل (أهل) الْعرَاق لَا يحتجن إِلَى أحد بعدِي أبدا. (فَقَالَ) : فَمَا أَتَت إِلَّا رَابِعَة حَتَّى أُصِيب. قَالَ عَمْرو بن مَيْمُون: وَإِنِّي لقائم مَا بيني وَبَينه إِلَّا عبد الله بن عَبَّاس غَدَاة أُصِيب - وَكَانَ إِذا مرَّ بَين الصفين قَامَ بَينهمَا، فَإِذا رَأَى(8/398)
خللاً قَالَ: اسْتَووا. حَتَّى إِذا لم ير فيهم خللاً تقدم فَكبر، وَرُبمَا قَرَأَ سُورَة يُوسُف أَو النَّحْل أَو نَحْو ذَلِك فِي الرَّكْعَة الأولَى حَتَّى يجْتَمع النَّاس - فَمَا هُوَ إِلَّا أَن كبر فَسَمعته يَقُول: قتلني - أَو أكلني - الْكَلْب. (حِين طعنه) فطار العلج بسكين ذَات طرفين لَا يمر عَلَى أحد يَمِينا وَلَا شمالاً إِلَّا طعنه، حَتَّى إِذا طعن ثَلَاثَة عشر رجلا مَاتَ مِنْهُم تِسْعَة - وَفِي رِوَايَة: سَبْعَة - فَلَمَّا رَأَى ذَلِك رجل من الْمُسلمين طرح عَلَيْهِ برنسًا فَلَمَّا ظن العلج أَنه مَأْخُوذ (نحر) نَفسه، فَتَنَاول عمر يَد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فقدمه، فَأَما من كَانَ يَلِي عمر فقد رَأَى الَّذِي رَأَيْت، وَأما نواحي الْمَسْجِد فَإِنَّهُم لَا يَدْرُونَ مَا الْأَمر غير أَنهم فقدوا صَوت عمر وهم يَقُولُونَ: سُبْحَانَ الله، سُبْحَانَ الله. فَصَلى بهم عبد الرَّحْمَن صَلَاة خَفِيفَة فَلَمَّا انصرفوا، قَالَ: يَا ابْن عَبَّاس، انْظُر من قتلني. فجال سَاعَة ثمَّ جَاءَ فَقَالَ: غُلَام الْمُغيرَة. فَقَالَ: الصَّنَع؟ (قَالَ) : نعم. قَالَ: قَاتله الله لقد كنت أمرت بِهِ مَعْرُوفا، الْحَمد لله الَّذِي لم يَجْعَل ميتتي بيد رجل مُسلم، قد كنت (أَنْت) وَأَبُوك تحبان (أَن) تكْثر العلوج بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ الْعَبَّاس أَكْثَرهم رَقِيقا، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِن شِئْت فعلت - أَي إِن شِئْت قتلنَا - قَالَ: بَعْدَمَا تكلمُوا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا (حَجكُمْ) ؟ ! فَاحْتمل إِلَى بَيته فَانْطَلَقْنَا مَعَه، وَكَأن النَّاس لم تصبهم مُصِيبَة قبل يَوْمئِذٍ،(8/399)
فَقَائِل يَقُول: أَخَاف عَلَيْهِ. وَقَائِل يَقُول: (لَا بَأْس. فَأتي بنبيذ) (فشربه) فَخرج من جَوْفه، ثمَّ أُتِي بِلَبن (فشربه) فَخرج من جَوْفه، فعملوا أَنه ميت، قَالَ: (فَدَخَلْنَا) عَلَيْهِ وَجَاء النَّاس يثنون عَلَيْهِ، وَجَاء رجل شَاب (فَقَالَ: أبشر) يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ببشرى الله - عَزَّ وَجَلَّ - قد كَانَ لَك من صُحْبَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقدم فِي الْإِسْلَام مَا قد عَلمته، ثمَّ وليت فعدلت، ثمَّ شَهَادَة. قَالَ: وددت أَن ذَلِك كَانَ كفافًا لَا عَلّي وَلَا لي. فَلَمَّا أدبر الرجل إِذا إزَاره يمس الأَرْض، فَقَالَ: ردوا عليَّ الْغُلَام. فَقَالَ: يَا ابْن أخي، ارْفَعْ ثَوْبك؛ فَإِنَّهُ أنقى لثوبك وَأَتْقَى لربِّك، يَا عبد الله بن عمر، انْظُر مَا عَلّي من الدَّين. فحسبوه فوجدوه سِتَّة وَثَمَانِينَ ألفا أَو نَحوه، فَقَالَ: إِن وَفَى بِهِ مَال عمر فأده من أَمْوَالهم، وَإِلَّا فسل فِي بني عدي بن كَعْب، فَإِن لم تف أَمْوَالهم فسل فِي قُرَيْش وَلَا تعدهم إِلَى غَيرهم، وأدِّ عني هَذَا المَال، انْطلق إِلَى أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، فَقل: يقْرَأ عَلَيْك عمر السَّلَام، وَلَا تقل أَمِير الْمُؤمنِينَ (فَإِنِّي) لست للْمُؤْمِنين (أَمِيرا) ويستأذن أَن يدْفن مَعَ صَاحِبيهِ. فَسلم وَاسْتَأْذَنَ، ثمَّ دخل عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا (قَاعِدَة تبْكي) فَقَالَ: يقْرَأ عَلَيْك عمر السَّلَام ويستأذن أَن يدْفن مَعَ صَاحِبيهِ. فَقَالَت: كنت أريده لنَفْسي، ولأوثرنه بِهِ الْيَوْم عَلَى نَفسِي.(8/400)
فَلَمَّا أقبل (قيل) : هَذَا عبد الله بن عمر قد جَاءَ. فَقَالَ: ارفعوني. فأسنده رجل إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لديك؟ (قَالَ) : الَّذِي تحب (يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَذِنت) . فَقَالَ: الْحَمد لله، (مَا كَانَ عليَّ مَا كَانَ شَيْء أهمُّ) إليَّ من ذَلِك، فَإِذا أَنا قبضت فاحملوني، ثمَّ سلِّم [فَقل] يسْتَأْذن عمر بن الْخطاب فَإِن (أَذِنت) (فأدخلوني) ، وَإِن ردتني فردوني إِلَى مَقَابِر الْمُسلمين. وَجَاءَت أم الْمُؤمنِينَ حَفْصَة وَالنِّسَاء (تسترنها) ، فَلَمَّا رَأَيْتهَا قمنا، فولجت عَلَيْهِ فَبَكَتْ عِنْده سَاعَة، وَاسْتَأْذَنَ [الرِّجَال] فولجتُ دَاخِلا لَهُم فسمعنا بكاءها من الدَّاخِل، فَقَالُوا: أوص يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، اسْتخْلف. قَالَ: مَا أرَى أحدا أَحَق بِهَذَا الْأَمر من هَؤُلَاءِ النَّفر - (أَو) الرَّهْط - (الَّذين) توفّي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ عَنْهُم رَاض، فَسَمَّى عليًّا وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَالزبير وسعدًا وَعبد الرَّحْمَن، وَقَالَ: يشهدكم عبد الله وَلَيْسَ لَهُ من الْأَمر شَيْء - كَهَيئَةِ التَّعْزِيَة لَهُ - فَإِن أَصَابَت الإمرة سَعْدا فَهُوَ ذَاك، وَإِلَّا فليستعن بِهِ أَيّكُم مَا أُمِّر، (فَإِنِّي) لم أعزله من عجز وَلَا خِيَانَة. وَقَالَ: أوصِي الْخَلِيفَة بعدِي بالمهاجرين الْأَوَّلين،(8/401)
أَن يعرف لَهُم حَقهم ويحفظ لَهُم حرمتهم، (وأوصيه) بالأنصار خيرا، الَّذين تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم، أَن يقبل من محسنهم وَيَعْفُو عَن مسيئهم، وأُوصيه بِأَهْل الْأَمْصَار خيرا، فَإِنَّهُم ردءُ الْإِسْلَام وجباة المَال وغيظ الْعَدو، وَأَن لَا يُؤْخَذ مِنْهُم إِلَّا فَضلهمْ عَن رضى مِنْهُم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فَإِنَّهُم أصل الْعَرَب، ومادة الْإِسْلَام، أَن يُؤْخَذ من حَوَاشِي أَمْوَالهم ويُرد عَلَى فقرائهم، وأُوصيه بذمةِ الله وذمةِ رَسُوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، أَن يُوفي لَهُم (بعهدهم) ، وَأَن يُقَاتل من ورائهم، وَلَا يُكلفوا إِلَّا طاقتهم. (قَالَ) : فَلَمَّا قبض خرجنَا بِهِ فَانْطَلَقْنَا نمشي فَسلم عبدُ الله بن عُمر وَقَالَ: يستأذنُ عمر بن الْخطاب. قَالَت: (أدخلوه) . فَأدْخل وَوضع هُنَالك مَعَ صَاحِبيهِ، فَلَمَّا فرغ من دَفنه اجْتمع هَؤُلَاءِ الرهطُ، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: اجعلوا أَمركُم إِلَى ثلاثةٍ مِنْكُم. فَقَالَ الزبير: قد جعلت أَمْرِي إِلَى عَليّ. وَقَالَ طَلْحَة: قد جعلت أَمْرِي إِلَى عُثْمَان. وَقَالَ سعد: قد جعلتُ أَمْرِي إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: أيكما يبرأ من هَذَا الْأَمر فنجعله إِلَيْهِ، وَالله عَلَيْهِ وَالْإِسْلَام لينظرنَّ أفضلهم فِي نَفسه. فأسكت الشَّيْخَانِ، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: أفتجعلونه إليَّ، وَالله عليَّ أَن لَا آلو عَن أفضلكم؟ قَالَا: نعم. فَأخذ بيد أَحدهمَا فَقَالَ: لَك من قرَابَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - والقدم فِي الْإِسْلَام مَا قد علمت، فَالله عَلَيْك لَئِن أمَّرْتُك لتعدِلنَّ، وَلَئِن أمَّرت عُثْمَان لتسمعنَّ (ولتطيعن) . ثمَّ خلا بِالْآخرِ فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك، فَلَمَّا أَخذ الْمِيثَاق قَالَ:(8/402)
ارْفَعْ يدك يَا عُثْمَان. فَبَايعهُ (فَبَايع) لَهُ عَلّي، وولج أهل الدَّار فَبَايعُوهُ» . رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِكُل هَذَا اللَّفْظ، وَفِيه بعض أَلْفَاظ غَرِيبَة يَنْبَغِي أَن تضبط مِنْهَا: قَوْله: «الصَّنَع» : هُوَ بِفَتْح الصَّاد وَالنُّون، وَهُوَ الصَّانِع الْمجِيد المتقن وَالْمَرْأَة صناع. وَقَوله: «أَي (لاَتَعْدُهم) » : أَي لَا تجاوزهم، يُقَال: عداهُ يعدوه إِذا جاوزه إِلَى غَيره. و «الرَّقِيق» اسْم لجَمِيع العبيد وَالْإِمَاء. و «الْبُرْنُس» : قلنسوة طَوِيلَة كَانَ يلبسهَا الزهاد فِي صدر الْإِسْلَام. و «النَّبِيذ» : شراب هُوَ تمر أَو زبيب منبوذ فِي ماءٍ، وَالْمرَاد بِهِ الْحَلَال الْمُبَاح الَّذِي لَا يسكر.
وَقَوله: «فَإِنَّهُم ردءُ الْإِسْلَام» أَي عونه. وَقَاتل عمر هُوَ أَبُو لؤلؤة فَيْرُوز غُلَام الْمُغيرَة بن شُعْبَة عَدو الله، قيل: ضربه سِتّ ضربات.
الْأَثر الرَّابِع
لما ذكر الرَّافِعِيّ عَن عَطاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ أَنَّهُمَا قَالَا: «إِذا قتل الرجل الْمَرْأَة يُخَيّر وَليهَا بَين أَن يَأْخُذ دِيَتهَا وَبَين أَن يقْتله ويبذل نصف دِيَته، (و) إِذا قتلت الْمَرْأَة الرجل يُخَيّر وليه بَين أَن (يَأْخُذ) جَمِيع دِيَته من مَالهَا وَبَين أَن يَقْتُلهَا وَيَأْخُذ نصف دِيَته» . قَالَ: وَيروَى مثله عَن عليّ - كرم الله وَجهه - فِي رِوَايَة.
وَهَذَا (الْأَثر) لَا أعلم من خرجه عَنهُ، وَرَأَيْت بِخَط بَعضهم أَنه مُنْقَطع؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة الشّعبِيّ عَنهُ (فليتتبع) .(8/403)
الْأَثر الْخَامِس:
أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «قتل خَمْسَة أَو سَبْعَة بِرَجُل قَتَلُوهُ غيلَة، وَقَالَ: لَو تمالأ عَلَيْهِ أهل صنعاء لقتلتهم جَمِيعًا» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن يَحْيَى بن سعيد [عَن] سعيد بن الْمسيب: «أَن عمر بن الْخطاب قتل (نَفرا) خَمْسَة أَو سَبْعَة بِرَجُل قَتَلُوهُ قتل غيلَة، وَقَالَ: لَو تمالأ عَلَيْهِ أهل صنعاء لقتلتهم جَمِيعًا» . وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن مَالك كَذَلِك، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي تَرْجَمَة بَاب قَالَ: (قَالَ) لي ابْن بشار: حَدثنَا يَحْيَى، عَن عبيد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن غُلَاما قُتل غيلَة، فَقَالَ عمر: لَو اشْترك فِيهِ أهل صنعاء لقتلتهم» . قَالَ البُخَارِيّ: وَقَالَ مُغيرَة بن حَكِيم، عَن أَبِيه: «إِن أَرْبَعَة قتلوا صبيًّا فَقَالَ عمر ... » مثله. وَفِي رِوَايَة (للدارقطني) وَالْبَيْهَقِيّ الْجَزْم «بِأَن عمر قتل سَبْعَة فِي دم غُلَام اشْتَركُوا فِي قَتله، (وَقَالَ) : لَو تمالأ عَلَيْهِ أهل صنعاء لقتلتهم جَمِيعًا» .(8/404)
وَفِي رِوَايَة (للبيهقي) بإسنادٍ جيد عَن جرير بن حَازِم، أَن الْمُغيرَة بن حَكِيم الصَّنْعَانِيّ حَدثهُ، عَن [أَبِيه] : «أَن امْرَأَة من (صنعاء) غَابَ عَنْهَا زَوجهَا وَترك فِي حجرها ابْنا لَهُ من غَيرهَا، غُلَام يُقَال لَهُ: أصيل، فاتخذت الْمَرْأَة بعد زَوجهَا خَلِيلًا، فَقَالَت لخليلها: إِن هَذَا الْغُلَام يفضحنا فاقتله. فَأَبَى فامتنعت مِنْهُ، فطاوعها (فَاجْتمع) عَلَى قَتله الرجل [وَرجل آخر] وَالْمَرْأَة وخادمها فَقَتَلُوهُ، ثمَّ قطعوه أَعْضَاء وجعلوه فِي عَيْبةٍ من أَدَم وطرحوه فِي ركية فِي نَاحيَة الْقرْيَة وَلَيْسَ فِيهَا مَاء، ثمَّ صاحت الْمَرْأَة، فَاجْتمع النَّاس فَخَرجُوا يطْلبُونَ الْغُلَام، قَالَ: فَمر رجل بالركية الَّتِي فِيهَا الْغُلَام فَخرج مِنْهَا الذُّبَاب الْأَخْضَر (فَقلت) وَالله إِن فِي هَذِه لجيفة (وَمَعِي) خليلها فَأَخَذته رعدة، فذهبنا بِهِ فحبسناه وَأَرْسَلْنَا رجلا فَأخْرج الْغُلَام، فأخذنا الرجل فاعترف فَأخْبرنَا (الْخَبَر) فَاعْترفت الْمَرْأَة وَالرجل الآخر وخادمها، وَكتب (لعَلي) - وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَمِير - بشأنهم فَكتب إِلَيْهِ عمر بِقَتْلِهِم جَمِيعًا، وَقَالَ: وَالله لَو أَن أهل صنعاء اشْتَركُوا (فِي) قَتله لقتلتهم أَجْمَعِينَ» .(8/405)
فَائِدَة: «صَنْعاء» : بِفَتْح الصَّاد وَإِسْكَان النُّون وبالمد فِيهِ وَهِي صنعاء الْيمن، وَهِي قَاعِدَة الْيمن، وَهِي من عجائب الدُّنْيَا كَمَا قَالَه الشَّافِعِي، وينسب إِلَيْهَا صنعاني عَلَى غير قِيَاس. وَذكر الْحَازِمِي فِي «مؤتلفه» : أَن صنعاء الْيمن يُقَال لَهَا: أَزَال، بِفَتْح الْهمزَة وَالزَّاي، ثمَّ ألف، ثمَّ لَام، وَيجوز كسرهَا وَضمّهَا، ذكره فِي بَاب الْهمزَة. وَذكر فِي حرف الضَّاد الْمُعْجَمَة أَن ضنعان لُغَة قَليلَة فِي صنعاء.
فَائِدَة (ثَانِيَة) : لَهُم صنعاء دمشق قَرْيَة كَانَت فِي جَانبهَا الغربي فِي نَاحيَة الربوة، وَصَنْعَاء الرّوم.
فَائِدَة أُخْرَى: «الغِيْلة» : بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة، ثمَّ يَاء مثناة تَحت سَاكِنة بنقطتين.
(تَنْبِيهُ) : الْحِيلَة والغيلة عَلَى أَنْوَاع:
أَحدهَا: (الحنكة وَالْقَتْل) هَذَا وَهُوَ أَن يحتال فِي قَتله. ثَانِيهَا: قتل (الفتك) وَهُوَ أَن يكون آمنا فيراقب حَتَّى يجد مِنْهُ غَفلَة (فيقتله) . ثَالِثهَا: قتل الصَّبْر وَهُوَ الْقَتْل مجاهرة. رَابِعهَا: قتل الْغدر وَهُوَ الْقَتْل بعد الْأمان وَقَوله: «تمالأ» هُوَ مَهْمُوز أَي: تعاون، قَالَ عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «وَالله مَا قتلت عُثْمَان وَلَا مالأت فِي قَتله» أَي عاونت. قَالَ الْخطابِيّ فِي «تصاحيف الروَاة» : هُوَ مَهْمُوز من الْمَلأ، أَي صَارُوا كلهم مَلأ وَاحِدًا فِي قَتله،(8/406)
قَالَ: و (المحدثون) يَقُولُونَهُ بِغَيْر همز، وَالصَّوَاب الْهَمْز؛ لِأَن الْمَلأ مَهْمُوز غير مَقْصُور الْعَصَا.
الْأَثر السَّادِس:
قَالَ الرَّافِعِيّ عَن أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: «عِنْدِي أَنه لَا يقْتَصّ باللطمة، كَمَا لَا يقْتَصّ بالهاشمة؛ لِأَن لَا قصاص فِي اللَّطْمَة لَو انْفَرَدت كالهاشمة، وَاحْتج لَهُ (بأثر) عليّ - كرم الله وَجهه - وَهَذَا حسن.
هَذَا الْأَثر غَرِيب كَذَلِك، وَقَالَ البُخَارِيّ عَكسه، فَقَالَ فِي أثْنَاء الدِّيات: وأقاد أَبُو بكر (وَابْن الزبير) وعليّ وسُويد بن مقرن من لطمة.
الْأَثر (السَّابِع وَالثَّامِن) :
عَن عمر وعليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما (أَنَّهُمَا) قَالَا: «من مَاتَ من حدٍّ أَو قصاص فَلَا دِيَة لَهُ، (الْحق) قَتله» .
وَهَذَا رَوَاهُ عَنْهُمَا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عَطاء عَن عبيد بن عُمَيْر، عَن عمر بن الْخطاب وَعلي أَنَّهُمَا قَالَا: « (فِي) الَّذِي يَمُوت فِي الْقصاص: لَا دِيَة لَهُ» . ثمَّ رَوَى من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن أبي يَحْيَى، عَن عَلّي، قَالَ: «من مَاتَ فِي حد فَإِنَّمَا قَتله الْحَد فَلَا(8/407)
عقل لَهُ (مَاتَ) فِي حد من حُدُود الله» . قَالَ ابْن الْمُنْذر: (ورويناه) عَن أبي بكر أَيْضا.
تَنْبِيه:
لما ذكر الرَّافِعِيّ، عَن أبي إِسْحَاق: «أَن الشلاء لَا تقطع مُطلقًا» علله بِأَن الشَّرْع لم يرد بِالْقصاصِ فِيهَا، ثمَّ ذكر أَن الْمَشْهُور أَنه يُرَاجع أهل الْخِبْرَة ... إِلَى آخِره. وَيُؤَيّد مَا ذكره مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن عمر أَنه قَالَ: «فِي الْيَد الشلاء ثلث دِيَتهَا» . قَالَ: (و) روينَا عَن مَسْرُوق أَنه قَالَ: «فِي الْيَد الشلاء حكم» وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: «فِي الْيَد الشلاء حُكُومَة عدلٍ» .(8/408)
بَاب الْعَفو عَن الْقصاص
ذكر فِيهِ حديثين وأثرين:
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « [فِي] الْعمد الْقود» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس، رَفعه إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من قتل فِي عمية أَو عصبية بِحجر أَو سَوط أَو عَصا، فَعَلَيهِ عقل الْخَطَأ، وَمن قتل عمدا فَهُوَ قَود، وَمن حَال بَينه وَبَينه فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ، (لَا يقبل مِنْهُ صرف وَلَا عدل) » . وَإسْنَاد رِوَايَة ابْن مَاجَه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ (وَوَصله) الْحسن بن عمادة وَالْحسن بن مُسلم أَيْضا. أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من طريقهما، وَرَوَاهُ عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس مُرْسلا. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَفِي رِوَايَة للدارقطني من حَدِيث(8/409)
ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا: «الْعمد قَود إِلَّا أَن يعْفُو ولي الْمَقْتُول» . وَفِي إِسْنَاده إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، قَالَ - أَعنِي الدَّارَقُطْنِيّ - فِي «علله» : وَهَذَا الحَدِيث يرويهِ طَاوس، عَن أبي هُرَيْرَة (أَيْضا) مَرْفُوعا. وَرَوَاهُ أَيْضا طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا. قَالَ: وَالصَّحِيح عَن طَاوس مُرْسلا.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أبي شُرَيْح الكعبي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثمَّ أَنْتُم يَا خُزَاعَة قتلتم هَذَا الْقَتِيل من هُذَيْل، وَأَنا وَالله عاقله، فَمن قتل بعده قَتِيلا فأهله بَين خيرتين (إِن أَحبُّوا قتلوا وَإِن أَحبُّوا أخذُوا الْعقل» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه الْأَئِمَّة: الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك، وَأَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «أَلا إِنَّكُم معشر خُزَاعَة قتلتم هَذَا الْقَتِيل من هُذَيْل وَإِنِّي عاقله، فَمن قتل لَهُ بعد مَقَالَتي هَذِه قَتِيل فأهله بَين خيرتين بَين أَن يَأْخُذُوا الْعقل، وَبَين أَن يقتلُوا» وَالتِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: «ثمَّ إِنَّكُم معشر خُزَاعَة قتلتم هَذَا الرجل من هُذَيْل، وَإِنِّي عاقله، فَمن قتل لَهُ قَتِيل بعد الْيَوْم، فأهله بَين خيرتين) إِمَّا أَن يقتلُوا أَو يَأْخُذُوا (الْعقل) » . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. قَالَ: وَرُوِيَ عَن أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «من(8/410)
قتل لَهُ قَتِيل فَلهُ أَن يقتل أَو يعْفُو أَو يَأْخُذ الدِّيَة» (فَظَاهر) كَلَام التِّرْمِذِيّ هَذَا يُعْطي أَن أَبَا شُرَيْح هَذَا غير الأول، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ إِيَّاه، وَهُوَ كعبي خزاعي؛ لِأَن كَعْبًا بطن من خُزَاعَة. وأصل هَذَا الحَدِيث فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ - لما فتح الله عَلَى رَسُوله مَكَّة -: مَن قُتل لَهُ قَتِيل فَهُوَ بِخَير النظرين إِمَّا أَن يقتل، وَإِمَّا أَن يفدى» .
وَأما الأثران فهما:
مَا رُوِيَ عَن عمر وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنَّهُمَا قَالَا: «إِذا عَفا بعض الْمُسْتَحقّين للْقصَاص أَن الْقصاص يسْقط، وَإِن لم يرض الْآخرُونَ» . وَلَا مُخَالف لَهما من الصَّحَابَة (وَكَانَ كالإجماع) ، وَقد (أخرجهُمَا «الْبَيْهَقِيّ» ) كَمَا سلف فِي الْأَثر الثَّانِي فِي الْبَاب قبله.(8/411)
كتاب الدِّيات(8/413)
كتاب الدِّيات
ذكر فِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فستة وَسِتُّونَ:
الحَدِيث الأول
عَن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كتب إِلَى أهل الْيمن (بِكِتَاب) - ذكر فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن والديات - وَفِيه: أَن فِي النَّفس المؤمنة مائَة من الْإِبِل» .
هَذَا الحَدِيث سلف بِطُولِهِ فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّانِي
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهَذِه الْمِائَة تجب إِذا كَانَ الْقَتْل خطأ، (مخمسة) : عشرُون مِنْهَا بنت مَخَاض، وَعِشْرُونَ بنت لبون، وَعِشْرُونَ ابْن لبون، وَعِشْرُونَ حقة، وَعِشْرُونَ جَذَعَة. وَبِه قَالَ مَالك، وَبدل أَبُو حنيفَة «ابْنا لبون» ب «ابْنا الْمَخَاض» وَبِه قَالَ أَحْمد، وَعَن ابْن الْمُنْذر مثله، وَاحْتج الْأَصْحَاب بِمَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي دِيَة الْخَطَأ بِمِائَة من الْإِبِل» وفصلها عَلَى مَا ذكرنَا.(8/415)
وَيروَى ذَلِك مَوْقُوفا عَلَى ابْن مَسْعُود، وَعَن سُلَيْمَان بن يسَار أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: «دِيَة الْخَطَأ مائَة من الْإِبِل» وَفصل كَذَلِك.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَرْفُوعا الْأَئِمَّة أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن زيد بن جُبَير، عَن خِشْف بن مَالك الطَّائِي، عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه « (أَن) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي دِيَة الْخَطَأ بِمِائَة من الْإِبِل: عشرُون حقة، وَعِشْرُونَ جَذَعَة، وَعِشْرُونَ بنت مَخَاض، وَعِشْرُونَ بنت لبون، وَعِشْرُونَ بني مَخَاض (ذكر) » ، بدل «ابْن لبون» . وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، الْحجَّاج (بن أَرْطَاة) ضَعِيف مُدَلّس (وَرِوَايَة ابْن مَاجَه وَإِن صرح فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ) ، فَقَالَ: «ثَنَا زيد بن جُبَير» فقد قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فِي حَقه: إِنَّه (يُدَلس) عَن الضُّعَفَاء فَإِذا قَالَ: «ثَنَا فلَان» فَلَا يرتاب بِهِ. وخِشْف - بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة، ثمَّ شين مُعْجمَة سَاكِنة، ثمَّ فَاء - بن مَالك مَجْهُول، كَمَا قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ والخطابي.(8/416)
وَقَالَ الْأَزْدِيّ: إِنَّه لَيْسَ (بِذَاكَ) . قَالَ الْخطابِيّ: وَعدل الشَّافِعِي عَن القَوْل بِهِ، لما ذكرنَا من الْعلَّة فِي رِوَايَته وَلِأَن فِيهِ «بني مَخَاض» وَلَا مدْخل لبني مَخَاض فِي شَيْء من أَسْنَان الصَّدَقَة. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي قصَّة الْقسَامَة «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ودى) قَتِيل خَيْبَر بِمِائَة من إبل الصَّدَقَة» وَلَيْسَ (فِي) أَسْنَان الصَّدَقَة ابْن مَخَاض. وَخَالف النَّسَائِيّ فوثق خِشْفًا، وَكَذَا ابْن حبَان ذكره فِي «ثقاته» من التَّابِعين، وَقَالَ: (إِن) عداده فِي أهل الْكُوفَة يروي عَن عمر وَابْن مَسْعُود، (و) رَوَى عَنهُ زيد بن جُبَير الطَّائِي. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : هَذَا الحَدِيث (لَا نعرفه) مَرْفُوعا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَقد رُوِيَ مَوْقُوفا عَلَى عبد الله. وَقَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ مَرْفُوعا عَن عبد الله إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَقَالَ عبد الْحق: رَوَى أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث من حَدِيث الْحجَّاج [عَن] زيد، عَن خِشْف، عَن عبد الله، وَهُوَ إِسْنَاد ضَعِيف، وسط الدَّارَقُطْنِيّ القَوْل فِي «سنَنه» فِي هَذَا الحَدِيث (فَإِنَّهُ لما ذكره) من(8/417)
حَدِيث (أبي) عُبَيْدَة، عَن ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ السالف، وَفِيه: «وَعِشْرُونَ (بَنو) لبون ذُكُور» . قَالَ: هَذَا إِسْنَاد حسن، وَرُوَاته ثِقَات. قَالَ: وَقد رُوِيَ (عَن) عَلْقَمَة، عَن عبد الله بِنَحْوِ هَذَا، ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن حجاج، عَن زيد، عَن خِشْف، عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الدِّيَة فِي الْخَطَأ ... » فَذكره كَمَا سلف أَولا، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف غير ثَابت عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ من وُجُوه (عديدة) :
أَحدهَا: أَنه مُخَالف لما رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة (بن) عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه بالسند الصَّحِيح [عَنهُ] الَّذِي لَا (مطْعن) فِيهِ [و] لَا تَأْوِيل عَلَيْهِ، وَأَبُو عُبَيْدَة أعلم بِحَدِيث أَبِيه ومذهبه من خِشْف بن مَالك ونظرائه، وَعبد الله (بن) مَسْعُود أَتْقَى لربِّه وأشح عَلَى دينه من أَن يروي عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه (قَضَى) بِقَضَاء ويفتي (هُوَ) بِخِلَافِهِ، هَذَا لَا يتَوَهَّم مثله عَلَى عبد الله بن مَسْعُود، وَهُوَ الْقَائِل فِي مَسْأَلَة وَردت(8/418)
عَلَيْهِ لم يسمع [فِيهَا] من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْئا لم يبلغهُ (عَنهُ) فِيهَا قَول: «أَقُول فِيهَا برأيي، فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله، وَإِن كَانَ خطأ فمني» . ثمَّ [بلغه] بعد ذَلِك أَن فتياه فِيهَا وَافق قَضَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي مثلهَا فَرَآهُ أَصْحَابه فَرح عِنْد ذَلِك فَرحا مَا فَرح مثله؛ بموافقة (فتياه) قَضَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَمن كَانَت هَذِه صفته وَهَذَا حَاله كَيفَ يَصح عَنهُ أَن يروي عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَيُخَالِفهُ! وَيشْهد لذَلِك مَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم، عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: «دِيَة الْخَطَأ أَخْمَاسًا» ثمَّ فَسرهَا كَمَا فَسرهَا عَنهُ أَبُو عُبَيْدَة وعلقمة سَوَاء. وَهَذِه الرِّوَايَة وَإِن كَانَ فِيهَا إرْسَال فإبراهيم النَّخعِيّ هُوَ من أعلم النَّاس بِعَبْد الله وفتياه.
ثَانِيهَا: أَن الْمَرْفُوع الَّذِي فِيهِ ذكر: «بني (مَخَاض) » لَا نعلم من رَوَاهُ إِلَّا خشف، عَن ابْن مَسْعُود، وَهُوَ رجل (مَجْهُول) لم (يروه) عَنهُ إِلَّا زيد بن جُبَير، (وَأهل) الْعلم (لَا) يحتجون بِخَبَر (مُنْفَرد) بروايته رجل مَجْهُول غير مَعْرُوف.
ثَالِثهَا: أَن خبر خِشْف بن مَالك لَا نعلم أحدا رَوَاهُ عَن زيد بن جُبَير عَنهُ، غير حجاج بن أَرْطَاة، وَالْحجاج رجل مَشْهُور بالتدليس (وَلِأَنَّهُ)(8/419)
يحدث عَمَّن لم يلقه وَلم يسمع مِنْهُ. ثمَّ ذكر أَقْوَال الْأَئِمَّة فِي الْحجَّاج.
رَابِعهَا: أَن (جمَاعَة) من (الثِّقَات) رَوَوْهُ عَن الْحجَّاج فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِيهِ، فَرَوَاهُ (عبد الرَّحِيم) بن سُلَيْمَان وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَلَى اللَّفْظ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنهُ. وَرَوَاهُ يَحْيَى بن سعيد الْأمَوِي، عَن الْحجَّاج فَجعل مَكَان (الحقاق) «بني اللَّبُون» . وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير وَحَفْص بن غياث وَجَمَاعَة، عَن الْحجَّاج بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ: «جعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دِيَة الْخَطَأ أَخْمَاسًا» وَلم يزِيدُوا عَلَى هَذَا، وَلم يذكرُوا فِيهِ تَفْسِير الْأَخْمَاس (وَيُشبه) أَن يكون الْحجَّاج رُبمَا كَانَ يُفَسر الْأَخْمَاس بِرَأْيهِ بعد فَرَاغه من الحَدِيث، فيتوهم السَّامع أَن ذَلِك فِي الحَدِيث وَلَيْسَ كَذَلِك.
خَامِسهَا: أَنه رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعَن جمَاعَة من (الصَّحَابَة) الْمُهَاجِرين فِي دِيَة الْخَطَأ بأقاويل مُخْتَلفَة لَا نعلم رُوِيَ عَن أحد مِنْهُم ذكر «بني مَخَاض» إِلَّا فِي حَدِيث (خِشْف) هَذَا. هَذَا آخر مَا ذكره (الدَّارَقُطْنِيّ) مُلَخصا. ولمّا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (عَن) ابْن مَسْعُود من طَرِيق إِسْرَائِيل، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَلْقَمَة عَنهُ، أَنه قَالَ: «فِي(8/420)
الْخَطَأ أَخْمَاسًا: عشرُون حقة، وَعِشْرُونَ جَذَعَة، وَعِشْرُونَ بَنَات لبون، وَعِشْرُونَ بَنَات مَخَاض، وَعِشْرُونَ بني مَخَاض» . قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ وَكِيع فِي كِتَابه «المُصَنّف» فِي الدِّيات، عَن الثَّوْريّ، عَن مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عبد الله. وَعَن (سُفْيَان) ، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَلْقَمَة، عَن عبد الله. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي (وَعبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي، عَن الثَّوْريّ، عَن مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عبد الله. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث) يزِيد بن هَارُون، عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن أبي مجلز، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن عبد الله «فِي دِيَة الْخَطَأ أَخْمَاس، خمس بَنو مَخَاض ... » إِلَى آخِره، ثمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف عَن عبد الله بن مَسْعُود (بِهَذِهِ) الْأَسَانِيد. قَالَ: وَقد رَوَى بعض حفاظنا - وَهُوَ الدَّارَقُطْنِيّ - هَذِه الْأَسَانِيد، عَن عبد الله، وَجعل مَكَان «بني الْمَخَاض» «بني اللَّبُون» . قَالَ: وَهُوَ غلط. وَقَالَ فِي «خلافياته» : كَذَا رَوَاهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الأوحد فِي عصره فِي هَذَا الشَّأْن وَهُوَ واهم فِيهِ، والجواد رُبمَا يعثر. قَالَ: وَقد رَأَيْته فِي «كتاب ابْن خُزَيْمَة» وَهُوَ إِمَام فِي رِوَايَة وَكِيع، عَن سُفْيَان بِإِسْنَادِهِ كَذَلِك «بني لبون» . وَفِي رِوَايَة: سعيد بن بشير، عَن قَتَادَة، عَن أبي مجلز، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن ابْن مَسْعُود، كَذَلِك «بني لبون» . وَرَوَاهُ من حَدِيث ابْن أبي زَائِدَة، عَن أَبِيه وَغَيره، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَلْقَمَة، عَن(8/421)
ابْن مَسْعُود (كَذَلِك) «بني مَخَاض» فَإِن كَانَ مَا روياه (مَحْفُوظًا) فَهُوَ الَّذِي نَمِيل إِلَيْهِ، وَصَارَت الرِّوَايَات فِيهِ عَن ابْن مَسْعُود (متعارضة) ، وَمذهب عبد الله مَشْهُور فِي «بني الْمَخَاض» .
وَقد اخْتَار ابْن الْمُنْذر فِي هَذَا مذْهبه، وَاحْتج بِأَن الشَّافِعِي إِنَّمَا صَار إِلَى قَول أهل الْمَدِينَة فِي دِيَة الْخَطَأ؛ لِأَن النَّاس قد اخْتلفُوا فِيهِ، وَالسّنة عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَردت مُطلقَة بِمِائَة من الْإِبِل غير مفسرة، وَاسم الْإِبِل يتَنَاوَل الصغار والكبار، فالتزم الْقَاتِل أقل مَا قَالُوا إِنَّه يلْزمه، وَكَانَ عِنْده قَول أهل الْمَدِينَة أقل مَا قَالُوا فِيهَا، وَكَأَنَّهُ لم يبلغهُ قَول ابْن مَسْعُود، فَوَجَدنَا قَول عبد الله أقل مَا قيل فِيهَا لِأَن «بني الْمَخَاض» أقل من «بني اللَّبُون» وَاسم الْإِبِل يتَنَاوَلهُ، فَكَانَ هُوَ الْوَاجِب دون مَا زَاد عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول صَحَابِيّ (فَهُوَ أولَى من غَيره) .
(قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ حَدِيث ابْن مَسْعُود من وَجه) آخر مَرْفُوعا، وَلَا يَصح رَفعه ... فَذكره من رِوَايَة أبي دَاوُد وَغَيره كَمَا مر، قَالَ: (وَقَالَ) أَبُو دَاوُد: هُوَ قَول عبد الله. يَعْنِي إِنَّمَا رُوِيَ من قَول عبد الله مَوْقُوفا غير مَرْفُوع. ثمَّ نقل الْبَيْهَقِيّ عَن الدَّارَقُطْنِيّ مَا قَالَه فِي خِشْف وَالْحجاج، ثمَّ قَالَ: وكيفما كَانَ فالحجاج غير مُحْتَج بِهِ، وخِشْف مَجْهُول، وَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف عَلَى عبد الله بن مَسْعُود، وَالصَّحِيح عَن عبد الله أَنه جعل أحد أخماسها «بني الْمَخَاض» فِي الْأَسَانِيد الَّتِي تقدَّم ذكرهَا، لَا كَمَا توهمه الدَّارَقُطْنِيّ.(8/422)
(قَالَ) : وَقد اعتذر من رغب عَن قَول عبد الله بن مَسْعُود فِي هَذَا بشيئين:
أَحدهمَا: ضعف رِوَايَة خِشْف عَن ابْن مَسْعُود بِمَا ذكرنَا، وَانْقِطَاع رِوَايَة من رَوَاهُ عَنهُ مَوْقُوفا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عبد الله، وَأَبُو عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه، وَأَبُو إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله. وَرِوَايَة إِبْرَاهِيم عَن عبد الله مُنْقَطِعَة لَا شكّ فِيهَا، وَرِوَايَة أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه؛ لِأَن أَبَا عُبَيْدَة لم يدْرك أَبَاهُ، وَكَذَلِكَ رِوَايَة أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن عَلْقَمَة مُنْقَطِعَة؛ لِأَن أَبَا إِسْحَاق رَأَى عَلْقَمَة لَكِن لم يسمع مِنْهُ شَيْئا.
(وَثَانِيهمَا) حَدِيث سهل بن أبي (حثْمَة) فِي الَّذِي (وداه) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِيهِ: «بِمِائَة من إبل الصَّدَقَة» «وَبَنُو الْمَخَاض» لَا أصل لَهَا فِي أصل الْقسَامَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَحَدِيث الْقسَامَة (وَإِن) كَانَ فِي قتل الْعمد وَنحن نتكلم فِي قتل الْخَطَأ (فحين) لم يثبت ذَلِك الْقَتْل عَلَى أحدٍ مِنْهُم بِعَيْنِه وداه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بدية الْخَطَأ مُتَبَرعا بذلك، وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ (أَنه) قَالَ: «من إبل الصَّدَقَة» وَلَا مدْخل (للخلفات) الَّتِي تجب (فِي) دِيَة الْعمد فِي (إبل الصَّدقَات) وَأجَاب ابْن الْجَوْزِيّ عَن(8/423)
كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ بِأَن قَالَ: يُعَارض قَوْله إِن أَبَا عُبَيْدَة لم يسمع من (أَبِيه فَكيف جَازَ أَن يسكت عَن ذكر) هَذَا؟ ! ثمَّ إِنَّه إِنَّمَا حَكَى عَنهُ فتواه، وخِشْف رَوَى عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَمَتى كَانَ الْإِنْسَان ثِقَة فَيَنْبَغِي أَن يقبل قَوْله، وَكَيف يُقَال عَن الثِّقَة إِنَّه مَجْهُول؟ ! وَاشْتِرَاط الْمُحدثين أَن يروي عَنهُ اثْنَان لَا وَجه لَهُ. هَذَا آخر كَلَامه وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ، وَكَيف ذهل عَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة! وَأما ذكر ذَلِك تَرْجِيحا لمذهبه فِي إِبْدَال «بني اللَّبُون» ب «بني الْمَخَاض» ، وَالْمَاوَرْدِيّ - من الشَّافِعِيَّة - قَالَ: رَوَاهُ مَوْقُوفا عَن قَتَادَة، عَن لَاحق بن حميد، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن أَبِيه. وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن الْحجَّاج، عَن زيد، عَن خِشْف، عَن ابْن مَسْعُود (مَرْفُوعا) بِذكر «بني اللَّبُون» . قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَة أثبت من رِوَايَة (عبد الرَّحِيم) بن سُلَيْمَان عَن الْحجَّاج بِهِ؛ لِأَن هَذَا خلاف مَا رَوَاهُ عَنهُ ابْنه عبد الله وعلقمة، وَهُوَ لَا يُفْتِي بِخِلَاف مَا يروي. قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَحَدِيث الْحجَّاج ضَعِيف، وخِشْف مَجْهُول؛ لِأَنَّهُ لم يرو عَنهُ إِلَّا زيد بن جُبير. وَأما مَا ذكره الرَّافِعِيّ عَن سُلَيْمَان بن يسَار، فَرَوَاهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن ابْن شهَاب وَرَبِيعَة بن عبد الرَّحْمَن، وبلغه عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: «دِيَة الْخَطَأ عشرُون ابْنة مَخَاض، وَعِشْرُونَ ابْنة لبون، وَعِشْرُونَ ابْن لبون (ذكر) وَعِشْرُونَ حقة، وَعِشْرُونَ جَذَعَة» . قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَسليمَان هَذَا تَابِعِيّ. وَأَشَارَ بقوله: «يَقُولُونَ» إِلَى الصَّحَابَة(8/424)
فَذَاك إِجْمَاع. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ مثل ذَلِك عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة ومشيخة جلة سواهُم من نظرائهم.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) : «إِن أَعْتَى النَّاس (عَلَى) الله ثَلَاثَة: رجل قتل فِي الْحرم، وَرجل قتل غير قَاتله، وَرجل قتل بذحل الجاهليَّة» .
(لما ذكر الرَّافِعِيّ أَنه لم يرد فِي الْإِحْرَام من التَّغْلِيظ مَا ورد فِي الْقَتْل فِي الْحرم قَالَ: وَرُوِيَ الحَدِيث من أوجه أخر) .
أَحدهَا: من طَرِيق عبد الله بن (عَمْرو) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «أعدى» بِالدَّال الْمُهْملَة بدل «أَعْتَى» بِالتَّاءِ، وَقَالَ: «بذحُول» بدل «بذحل» .
ثَانِيهَا: من طَرِيق عبد الله بن عمر فِي حَدِيث طَوِيل بِلَفْظ: «وَإِن أَعْتَى النَّاس عَلَى الله ثَلَاثَة: من قتل فِي حرم الله، أَو قتل غير قَاتله لذحل الْجَاهِلِيَّة» .
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» كَذَلِك سَوَاء وَمن هَذِه الطَّرِيق، وَيجوز أَن يكون هُوَ عبد الله بن عَمْرو فَسَقَطت الْوَاو، وَالله أعلم.(8/425)
ثَالِثهَا: من طَرِيق أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَعْتَى النَّاس عَلَى الله من قتل غير قَاتله، أَو طلب بِدَم الْجَاهِلِيَّة وَمن (بصر) عَيْنَيْهِ فِي النّوم مَا لم تبصر» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ: «وَإِن أعدى النَّاس عَلَى الله ثَلَاثَة: رجل قتل (فِيهَا) - يَعْنِي مَكَّة - وَرجل قتل غير قَاتله (بذحل الْجَاهِلِيَّة) » . (وَلم يذكر الثَّالِثَة، وَرَوَاهُ فِي مَوضِع آخر بِلَفْظ: «أَعْتَى النَّاس عَلَى الله رجل قتل غير قَاتله، أَو طلب بِدَم الْجَاهِلِيَّة من أهل الْإِسْلَام، وَمن بصر عَيْنَيْهِ فِي النّوم مَا لم تبصره» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «وَإِن أَعْتَى النَّاس عَلَى الله ثَلَاثَة: رجل قتل فِيهَا - يَعْنِي مَكَّة - وَرجل قتل غير قَاتله، وَرجل طلب بذحل فِي الْجَاهِلِيَّة» ) . وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق و [خُولِفَ] ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عَطاء بن يزِيد،(8/426)
عَن أبي شُرَيْح مَرْفُوعا. وَرَوَاهُ عقيل وَيُونُس وَغَيرهمَا (عَن الزُّهْرِيّ) عَن مُسلم بن يزِيد، عَن أبي شُرَيْح مَرْفُوعا وَهُوَ الصَّحِيح، وَأَخْطَأ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق. (قلت: وَمَعَ خطئه فَفِيهِ مقَال) . قَالَ الْعجلِيّ: يكْتب حَدِيثه، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. (وَكَذَا) قَالَ أَبُو حَاتِم وَقَالَ البُخَارِيّ: لَيْسَ مِمَّن يعْتَمد عَلَى حفظه، وَإِن كَانَ مِمَّن يحْتَمل فِي بعض. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة: لَيْسَ بِهِ بَأْس.
رَابِعهَا: من طَرِيق عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «وجد فِي قَائِم سيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (كِتَابَانِ) : إِن أَشد النَّاس عتوًّا رجل ضرب غير ضاربه، وَرجل قتل غير قَاتله، وَرجل تولى غير أهل نعْمَته، فَمن فعل ذَلِك فقد كفر بِاللَّه وَرَسُوله، لَا يقبل الله مِنْهُ صرفا وَلَا عدلا» .
رَوَاهُ الْحَاكِم، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد [عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد] عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: «وجد فِي قَائِم سيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (كتاب) : إِن أعدى النَّاس عَلَى الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْقَاتِل غير قَاتله، والضارب غير ضاربه، وَمن تولى غير(8/427)
موَالِيه، فقد كفر بِمَا أنزل الله (عَلَى مُحَمَّد) - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أبْغض النَّاس إِلَى الله ثَلَاثَة: ملحد فِي الْحرم، ومبتغ فِي الْإِسْلَام سنة الْجَاهِلِيَّة، ومطلب دم امْرئٍ بِغَيْر حقٍّ ليهريق دَمه» .
فَائِدَة:
العتو - بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة -: التكبر والتجبر. يُقَال: عتا يعتو عُتوًّا، وعُتيًّا - بِضَم الْعين وَكسرهَا - فَهُوَ عَاتٍ، وَأما عثى - بالثاء الْمُثَلَّثَة - يعثو فَمَعْنَاه: أفسد وَكَذَلِكَ عَثِي - بِكَسْر الثَّاء - يعثى بِفَتْحِهَا - قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين) .
وَقَوله: «غير قَاتله» هُوَ مجَاز جعل قَاتل مُوَرِثه قَاتلا لَهُ، وَمِنْه: «وتستحقون دم صَاحبكُم - أَو قَالَ: قاتلكم» . وَأما «الذحْل» فبذال مُعْجمَة وحاء مُهْملَة سَاكِنة، وَهُوَ الحقد والعداوة، يُقَال: طلب بذحله أَي بثأره. وَالْجمع ذحول. قَالَه الْجَوْهَرِي.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَلا إنَّ فِي قتل الْعمد الْخَطَأ قَتِيل السَّوْط والعصا مائَة من الْإِبِل مُغَلّظَة، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» فَرَاجعه مِنْهُ.(8/428)
الحَدِيث الْخَامِس
عَن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من قتل مُتَعَمدا سلم إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول، فَإِن أحبُّوا قتلوا، وَإِن أَحبُّوا أخذُوا الْعقل ثَلَاثِينَ حقة، وَثَلَاثِينَ جَذَعَة، وَأَرْبَعين خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا» .
هَذَا الحَدِيث عزاهُ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب إِلَى بعض الشُّرُوح وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ، فَإِنَّهُ حَدِيث مَشْهُور فِي كتابي التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه لَكِن من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو - بِالْوَاو - ولعلها مِمَّا أسقطها النَّاسِخ، أَخْرجَاهُ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من قتل مُتَعَمدا دفع إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول، فَإِن شَاءُوا قتلوا، وَإِن شَاءُوا أخذُوا الدِّيَة، وَهِي: ثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاثُونَ جَذَعَة، وَأَرْبَعُونَ خلفة، وَمَا صُولحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم. وَذَلِكَ لتشديد الْعقل» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب.
قلت: وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن رَاشد المكحولي الدِّمَشْقِي وَقد وَثَّقَهُ أَحْمد وَجَمَاعَة، وَلينه النَّسَائِيّ، وَنسب إِلَى الْقدر وَأَنه يرَى الْخُرُوج. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: مُحَمَّد هَذَا وَإِن كُنَّا نروي حَدِيثه لرِوَايَة الْكِبَار عَنهُ، فَلَيْسَ مِمَّن تقوم الْحجَّة بِمَا ينْفَرد بِهِ. وَقَالَ صَاحب «الْإِلْمَام» : رَوَاهُ مُحَمَّد بن رَاشد، عَن سُلَيْمَان وَقد وثقا. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ بِلَفْظ:(8/429)
«إِن من قتل خطأ فديته من الْإِبِل (مائَة) : ثَلَاثُونَ بنت مَخَاض، وَثَلَاثُونَ بنت لبون، وَثَلَاثُونَ حقة، وَعشر بني لبون» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا لَا يحْتَج بِمثلِهِ، فِيهِ مُحَمَّد بن رَاشد وَهُوَ ضَعِيف عِنْد أهل الحَدِيث. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» : لَعَلَّه يُرِيد خطأ الْعمد حملا عَلَى مَا سلف؛ لِأَن التنويع نوع من التَّغْلِيظ.
الحَدِيث السَّادِس
«أَن امْرَأتَيْنِ ضرتين اقتتلتا فَضربت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بعمود فسطاط فَمَاتَتْ، فَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالدِّيَةِ عَلَى عاقلتها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» مطولا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة والمغيرة بن شُعْبَة. (ذكره) الرَّافِعِيّ آخر الْبَاب، وَقد تَكَلَّمت عَلَيْهِ وَاضحا فِي «شرحي للعمدة» مَعَ بَيَان هَاتين الْمَرْأَتَيْنِ، فَرَاجعه مِنْهُ ترَى مهمات، (وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس) .(8/430)
الحَدِيث السَّابِع
حَدِيث: «الْعمد الْخَطَأ» عَلَى مَا تقدم، قد سلف هَذَا وَاضحا.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَلا إِن فِي الدِّيَة الْعُظْمَى مائَة من الْإِبِل مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد مُنْقَطع، من حَدِيث إِسْحَاق بن يَحْيَى بن الْوَلِيد بن عبَادَة بن الصَّامِت، عَن عبَادَة بن الصَّامِت، قَالَ: «إِن من قَضَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي الدِّيَة الْكُبْرَى الْمُغَلَّظَة بِثَلَاثِينَ ابْنة لبون، وَثَلَاثِينَ حقة (وَأَرْبَعين خلفة، وَقَضَى فِي الدِّيَة الصُّغْرَى بِثَلَاثِينَ ابْنة لبون، وَثَلَاثِينَ حقة) وَعشْرين بنت مَخَاض، وَعشْرين بني مَخَاض ذُكُور، ثمَّ غلت (الْإِبِل) بعد وَفَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وهانت الدَّرَاهِم فقوم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إبل الدِّيَة سِتَّة آلَاف حِسَاب أُوقِيَّة وَنصف لكل بعير، ثمَّ غلت الْإِبِل وهانت الدَّرَاهِم فأقامها عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه اثْنَي عشر ألف دِرْهَم حِسَاب [ثَلَاث] (أَوَاقٍ) لكل بعير، وَيُزَاد ثلث(8/431)
الدِّيَة فِي الشَّهْر الْحَرَام، وَثلث آخر للبلد الْحَرَام، (أُقِيمَت) دِيَة الْحرم (عشْرين) ألفا. قَالَ: (و) كَانَ (يُقَال) يُؤْخَذ من أهل الْبَادِيَة من ماشيتهم لَا يكلفون الْوَرق (وَلَا) الذَّهَب (وَيُؤْخَذ) من كل قوم من مَالهم قيمَة الْعدْل فِي أَمْوَالهم» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث مُنْقَطع، إِسْحَاق بن يَحْيَى لم يدْرك عبَادَة بن الصَّامِت.
الحَدِيث التَّاسِع والعاشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي النَّفس مائَة من الْإِبِل» . وَقَالَ: «فِي قَتِيل (السَّوط) والعصا مائَة من الْإِبِل» .
هَذَانِ الحديثان تقدما فراجعهما.
الحَدِيث الْحَادِي عشر وَالثَّانِي عشر
عَن مَكْحُول وَعَطَاء قَالَا: «أدركنا النَّاس عَلَى أَن دِيَة الْحر الْمُسلم عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مائَة من الْإِبِل، فقومها عمر بِأَلف دِينَار (أَو) اثْنَي عشر ألف دِرْهَم» .
هَذَانِ الحديثان رَوَاهُمَا الشَّافِعِي، عَن مُسلم، عَن عبيد الله(8/432)
بن عمر، عَن أَيُّوب بن مُوسَى، عَن ابْن شهَاب، وَعَن مَكْحُول وَعَطَاء قَالُوا: «أدركنا النَّاس عَلَى أَن دِيَة الْحر الْمُسلم عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مائَة من الْإِبِل، فقوم عمر بن الْخطاب (تِلْكَ) الدِّيَة عَلَى (الْقَرَوِي) ألف دِينَار، أَو اثْنَي عشر ألف دِرْهَم» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: زَاد أَبُو سعيد - يَعْنِي ابْن أبي عَمْرو - عَن الْأَصَم، عَن الرّبيع فِي رِوَايَته قَالَ: «فَإِن كَانَ الَّذِي أَصَابَهُ من الْأَعْرَاب فديته مائَة من الْإِبِل، لَا يُكَلف الْأَعرَابِي الذَّهَب وَلَا الْوَرق» .
وَهُوَ كَذَلِك فِيمَا (رَأَيْنَاهُ) من «مُسْنده» بعد قَوْله: «أَو (اثْنَي) عشر ألف دِرْهَم، ودية الْحرَّة الْمسلمَة إِذا كَانَت من أهل الْقرى خَمْسمِائَة دِينَار أَو سِتَّة آلَاف دِرْهَم، فَإِن كَانَ الَّذِي أَصَابَهَا من الْأَعْرَاب فَفِيهَا خَمْسُونَ من الْإِبِل، ودية الأعرابية إِذا أَصَابَهَا الْأَعرَابِي خَمْسُونَ من الْإِبِل، لَا يُكَلف الْأَعرَابِي الذَّهَب وَلَا الْوَرق» . (و) رَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن مُسلم، عَن ابْن جريج قَالَ: «قلت لعطاء: الدِّيَة الْمَاشِيَة أَو الذَّهَب؟ قَالَ: كَانَت الْإِبِل حَتَّى كَانَ عمر فقوم الْإِبِل عشْرين وَمِائَة كل بعير، فَإِن شَاءَ الْقَرَوِي أعطَاهُ مائَة (نَاقَة) وَلم يُعْطه ذَهَبا كَذَلِك الْأَمر الأول» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شريك بن عبد الله «أَن عُثْمَان(8/433)
قَضَى بِالدِّيَةِ اثْنَا عشر ألفا وَكَانَت الدَّرَاهِم يَوْمئِذٍ (وزن) سِتَّة» . قَالَ الشَّافِعِي: رَوَى عَطاء وَمَكْحُول وَعَمْرو بن شُعَيْب وعدة من أهل الْحجاز «أَن عمر فرض الدِّيَة (اثْنَي) عشر ألف دِرْهَم» (وَلم أعلم) أحدا بالحجاز خَالفه فِيهِ بالحجاز وَلَا عَن عُثْمَان، وَمِمَّنْ قَالَ الدِّيَة اثْنَا عشر ألف دِرْهَم: ابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. وَلَقَد رَوَاهُ عِكْرِمَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنه قَضَى فِي الدِّيَة اثْنَي عشر ألف دِرْهَم» . قَالَ الشَّافِعِي: فَقلت لمُحَمد بن الْحسن: أفتقول إِن الدِّيَة اثْنَا عشر ألف دِرْهَم (وزن) سِتَّة؟ فَقَالَ: لَا. فَقلت: فَمن أَيْن زعمت أَنَّك عَن عمر (قلتهَا) وَأَن عمر قَضَى بهَا بِشَيْء لَا تقضي بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الرِّوَايَة عَن عمر هَذِه مُنْقَطِعَة، وَكَذَلِكَ عَن عُثْمَان، وَحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب - يَعْنِي فِي ذَلِك - قد رُوِيَ مَوْصُولا وَمَعَهُ حَدِيث ابْن عَبَّاس.
الحَدِيث الثَّالِث وَالرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قضي فِي الدِّيَة بِأَلف دِينَار، أَو (اثْنَي) عشر (ألف دِرْهَم) » . وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن رجلا قتل عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَجعل دِيَته (اثْنَي) عشر ألف دِرْهَم» .(8/434)
أما الحَدِيث الأول، فقد سلف فِي حَدِيث عَمْرو بن حزم الطَّوِيل أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «وَعَلَى أهل الذَّهَب ألف دِينَار) وَأما قَضَاؤُهُ بِاثْنَيْ عشر ألف دِرْهَم فَهُوَ (غير) حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور بعده. وَأما الحَدِيث الثَّانِي؛ فَأخْرجهُ «أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة» من حَدِيث عِكْرِمَة، عَنهُ، قَالَ: «قتل رجل عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَجعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دِيَته (اثْنَي) عشر ألفا» زَاد التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي إِحْدَى روايتيه: (وَذَلِكَ قَوْله: (وَمَا نقموا إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله) فِي أَخذ الدِّيَة» . وَفِي أبي دَاوُد: «أَن ذَلِك الرجل من بني عدي» . قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة، عَن (عَمْرو) عَن عِكْرِمَة لم يذكر ابْن عَبَّاس. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ - بعد أَن رَوَاهُ (من حَدِيث) مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عِكْرِمَة، وَمن حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بِدُونِ ابْن عَبَّاس -: لَا نعلم أحدا يذكر فِي هَذَا الحَدِيث، عَن ابْن عَبَّاس غير مُحَمَّد بن مُسلم. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» :(8/435)
سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: الْمُرْسل أصح.
قلت: وَمُحَمّد هَذَا هُوَ الطَّائِفِي فِيهِ لين، وَقد وثق. قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصر السّنَن» : أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي الْمُتَابَعَة وَمُسلم فِي الاستشهاد. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: لَهُ فِي مُسلم فَرد حَدِيث وَاحِد. وَقَالَ شَيخنَا قطب الدَّين عبد الْكَرِيم: احْتج بِهِ مُسلم. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ مرّة: إِذا حدث من حفظه يُخطئ، وَإِذا حدث من كِتَابه فَلَيْسَ بِهِ بَأْس. وضعَّفه أَحْمد (جدًّا) . وَقَالَ النَّسَائِيّ: إِنَّه لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي (هَذَا الحَدِيث وَهَذَا) الحَدِيث خطأ، وَالصَّوَاب عَن عِكْرِمَة مُرْسل. وَكَذَا قَالَ عبد الْحق: إِن الْمُرْسل أصح. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن مَيْمُون، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو، عَن عِكْرِمَة. قَالَ: (سمعناه مرّة) يَقُول، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَضَى بِاثْنَيْ عشر ألفا فِي الدِّيَة» ثمَّ قَالَ: مُحَمَّد بن مَيْمُون لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَالصَّوَاب عَن عِكْرِمَة مُرْسل. وَقَالَ ابْن معِين: ابْن عُيَيْنَة أثبت من الطَّائِفِي فِي عَمْرو بن دِينَار وأوثق مِنْهُ. وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن أبي مُحَمَّد بن صاعد، عَن مُحَمَّد بن مَيْمُون، وَقَالَ فِيهِ: عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ مُحَمَّد(8/436)
بن مَيْمُون، وَإِنَّمَا قَالَ لنا فِيهِ: عَن ابْن عَبَّاس مرّة وَاحِدَة، وَأكْثر ذَلِك كَانَ يَقُول: عَن عِكْرِمَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَذكره الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الطَّائِفِي مَوْصُولا وَقَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضا عَن سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار مَوْصُولا.
قلت: وَمُحَمّد بن مَيْمُون هَذَا هُوَ أَبُو عبد الله الْمَكِّيّ الْخياط الْبَزَّاز رَوَى عَنهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، وَخرج لَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ: صَالح. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ: رُبمَا وهم. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: كَانَ أميًّا مغفلاً، رَوَى عَن شُعْبَة حَدِيثا بَاطِلا، وَمَا أبعد أَن يكون وضع لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ أميًّا. وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَذكر حَدِيث ابْن (مُسلم) هَذَا من طَرِيق التِّرْمِذِيّ، ثمَّ قَالَ: إِن قيل رَوَاهُ سُفْيَان، عَن عَمْرو، عَن عِكْرِمَة مُرْسلا، وَلم يذكر ابْن عَبَّاس غير (مُحَمَّد) بن مُسلم، وَقد ضعَّفه أَحْمد. قُلْنَا: قد قَالَ يَحْيَى: هُوَ ثِقَة. وَالرَّفْع زِيَادَة. قَالَ: ثمَّ قد رُوِيَ من غير طَرِيقه. ثمَّ سَاقه من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ السالفة الَّتِي فِي إسنادها مُحَمَّد بن مَيْمُون وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ؛ فقد ذكر هُوَ فِي كِتَابه مُحَمَّد بن مُسلم وَمُحَمّد بن مَيْمُون وَقد قررهم فِي خطْبَة «ضُعَفَائِهِ» بِغَيْر تَقْدِيم الْجرْح عَلَى(8/437)
التَّعْدِيل. وَأما ابْن حزم فَذكره فِي «محلاه» من طَرِيق أبي دَاوُد، عَن مُحَمَّد بن مُسلم، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنه قَضَى بِالدِّيَةِ اثْنَي عشر ألف دِرْهَم» . (ثمَّ) قَالَ: مُحَمَّد هَذَا سَاقِط لَا يحْتَج بحَديثه. ثمَّ ذكره من طَرِيق ابْن عُيينة السالفة، عَن النَّسَائِيّ، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا لَا حجَّة فِيهِ؛ لِأَن قَوْله فِي الْخَبَر الْمَذْكُور «يَعْنِي فِي الدِّيَة» لَيْسَ من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلَا فِي الْخَبَر بَيَان أَنه من قَول ابْن عَبَّاس، فالقطع أَنه قَوْله حكم بِالظَّنِّ، فَإِن كَانَ من قَول من دون ابْن عَبَّاس فَلَا حجَّة فِيهِ، وَقد يقْضِي عَلَيْهِ السَّلَام بِاثْنَيْ عشر (ألفا) فِي دين أَو فِي دِيَته بتراضي الْغَارِم والمقضي لَهُ (فَإِذا) لَيْسَ فِي الْخَبَر بَيَان أَنه قَضَى فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَام بِأَن الدِّيَة اثْنَا عشر ألف دِرْهَم، وَالَّذِي رَوَاهُ مشاهير أَصْحَاب ابْن عُيَيْنَة عَنهُ فِي هَذَا الْخَبَر فَإِنَّمَا هُوَ عَن عِكْرِمَة لم يذكر فِيهِ ابْن عَبَّاس، كَمَا روينَا من طَرِيق عبد الرَّزَّاق، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عِكْرِمَة قَالَ: «قتل مولَى لبني عدي بن كَعْب رجلا من الْأَنْصَار، فَقَضَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي دِيَته بِاثْنَيْ عشر (ألفا) » والمرسل لَا تقوم بِهِ حجَّة. هَذَا آخر كَلَامه.
وَقَوله فِي الطَّائِفِي: «إِنَّه سَاقِط وَإنَّهُ لَا يحْتَج بحَديثه» لَيْسَ بجيد(8/438)
مِنْهُ، وَقد أسلفت لَك أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ وَلَا يَنْتَهِي حَاله إِلَى هَذَا، وَقد تقدم عَن الْبَيْهَقِيّ أَن سُفْيَان رَوَاهُ مَوْصُولا. وَقَول ابْن حزم أَن قَوْله: « (يَعْنِي) فِي الدِّيَة» إِنَّه لَيْسَ من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلَا من كَلَام ابْن عَبَّاس. (سلف مَا) يُخَالِفهُ.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (كَانَ يقوم) الْإِبِل عَلَى أهل الْقرى، فَإِذا غلت رفع فِي قيمتهَا، وَإِذا هَانَتْ نقص من قيمتهَا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مُسلم بن خَالِد، عَن ابْن جريج، عَن عَمْرو بن شُعَيْب قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقوم الْإِبِل عَلَى أهل الْقرى أَرْبَعمِائَة دِينَار أَو عدلها من (الْوَرق) ويقسمها عَلَى أَثمَان الْإِبِل، فَإِذا غلت رفع فِي قيمتهَا، وَإِذا هَانَتْ نقص من قيمتهَا عَلَى أهل الْقرى الثّمن مَا كَانَ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد (عَن) مُحَمَّد بن رَاشد، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقوم دِيَة الْخَطَأ عَلَى أهل الْقرى أَرْبَعمِائَة دِينَار أَو عدلها من الْوَرق، ويقومها عَلَى أَثمَان الْإِبِل، (فَإِذا) غلت رفع فِي قيمتهَا (فَإِذا) (هَانَتْ) (رخصًا) ينقص من قيمتهَا،(8/439)
وَبَلغت عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا بَين أَرْبَعمِائَة إِلَى ثَمَانمِائَة دِينَار أَو عدلها من الْوَرق ثَمَانِيَة آلَاف دِرْهَم، وَقَضَى عَلَى أهل (الْبَقر) بِمِائَتي بقرة، وَمن كَانَ دِيَة عقله فِي (شَاءَ) (فألفي شَاة) . وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: الْعقل مِيرَاث بَين وَرَثَة الْقَتِيل عَلَى قرابتهم فَمَا فضل فللعصبة. وَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْأنف إِذا جدع الدِّيَة كَامِلَة، وَإِن جدعت ثندوته فَنصف الْعقل (خَمْسُونَ من الْإِبِل أَو عدلها من الذَّهَب أَو الْوَرق أَو مائَة بقرة أَو ألف شَاة، وَفِي الْيَد إِذا قطعت نصف الْعقل، وَفِي الرجل نصف الْعقل) وَفِي المأمومة ثلث الْعقل ثَلَاث وَثَلَاثُونَ من الْإِبِل أَو قيمتهَا من الذَّهَب أَو الْوَرق أَو الْبَقر أَو الشَّاة، وَفِي الْجَائِفَة مثل ذَلِك، وَفِي الْأَصَابِع فِي كل أصْبع عشر من الْإِبِل، وَفِي الْأَسْنَان خمس من الْإِبِل فِي كل سنّ، وَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن عقل الْمَرْأَة بَين عصبتها من كَانُوا لَا يَرِثُونَ مِنْهَا شَيْئا إِلَّا مَا فضل عَن (ورثتها) وَإِن قلت فعقلها بَين ورثتها (وهم) يقتلُون قاتلها، قَالَ: وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَيْسَ للْقَاتِل شَيْء (فَإِن) لم يكن لَهُ وَارِث فوارثه أقرب النَّاس إِلَيْهِ، وَلَا يَرث الْقَاتِل شَيْئا» . قَالَ مُحَمَّد بن رَاشد: هَذَا كُله حَدثنِي بِهِ سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، مَرْفُوعا.(8/440)
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بالسند الْمَذْكُور إِلَى قَوْله: «فللعصبة» ثمَّ من عِنْد قَوْله: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن عقل الْمَرْأَة» إِلَى قَوْله: «وهم يقتلُون قاتلها» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا بالسَّند الْمَذْكُور بِلَفْظ: «من قتل خطأ فديته من الْإِبِل ثَلَاثُونَ بنت مَخَاض، وَثَلَاثُونَ بنت لبون، وَثَلَاثُونَ حقة، وَعِشْرُونَ بني لبون، وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقومها عَلَى أهل الْقرى أَرْبَعمِائَة دِينَار أَو عدلها من الْوَرق، ويقومها عَلَى أَثمَان الْإِبِل، إِذا غلت رفع فِي ثمنهَا، وَإِذا هَانَتْ نقص من ثمنهَا عَلَى نَحْو الزَّمَان، مَا كَانَ يبلغ قيمتهَا عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا بَين الأربعمائة دِينَار إِلَى ثَمَانمِائَة دِينَار أَو عدلها من الْوَرق ثَمَانِيَة آلَاف دِرْهَم (وَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن من كَانَ عقله فِي الْبَقر) عَلَى أهل الْبَقر مِائَتي بقرة، وَمن كَانَ عقله فِي الشاءِ عَلَى أهل الشَّاء ألفي شَاة» .
وَمُحَمّد بن رَاشد وَسليمَان بن مُوسَى سلف حَالهمَا فِي الحَدِيث الْخَامِس من الْبَاب.
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان ثَنَا حُسَيْن الْمعلم، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده: «كَانَت قيمَة الدِّيَة عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَمَانمِائَة دِينَار أَو ثَمَانِيَة آلَاف دِرْهَم، ودية أهل الْكتاب يَوْمئِذٍ عَلَى النّصْف من دِيَة الْمُسلمين. قَالَ: فَكَانَت كَذَلِك(8/441)
حَتَّى اسْتخْلف عمر فَقَامَ (خَطِيبًا) فَقَالَ: أَلا إِن الْإِبِل قد غلت ففرضها عمر عَلَى أهل الذَّهَب ألف دِينَار، وَعَلَى أهل الْوَرق اثْنَي عشر ألف دِرْهَم، وَعَلَى أهل الْبَقر مِائَتي بقرة، وَعَلَى أهل الشَّاء ألفي شَاة، وَعَلَى أهل الْحلَل مِائَتي حلَّة» .
وَعبد الرَّحْمَن هَذَا هُوَ البكراوي ضعفه جمَاعَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِقَوي.
الحَدِيث السَّادِس عشر
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «دِيَة الْمَرْأَة نصف دِيَة الرجل» .
هَذَا الحَدِيث لَا (أعلم) من خرجه من حَدِيث عَمْرو بن حزم وَقد أسلفناه بِطُولِهِ، وَلَيْسَ هَذَا فِيهِ، نعم هُوَ مَوْجُود بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من حَدِيث معَاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا. أخرجه الْبَيْهَقِيّ كَذَلِك، قَالَ: وَيروَى ذَلِك من وَجه آخر عَن (عبَادَة) بن نسي، وَفِيه ضعف. وَقَالَ فِي الْبَاب الَّذِي بعده: رُوِيَ عَن معَاذ بن جبل، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِإِسْنَاد لَا يثبت مثله. قلت: وَسَيَأْتِي فِي آخر الْبَاب آثَار تعضد هَذَا.(8/442)
الحَدِيث السَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عقل الْمَرْأَة كعقل الرجل إِلَى ثلث الدِّيَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن ابْن جريج، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عقل الْمَرْأَة مثل عقل الرجل حَتَّى تبلغ الدِّيَة من ثلثهَا» وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف (لِأَنَّهُ) من رِوَايَة إِسْمَاعِيل، عَن غير الشاميين فَإِن ابْن جريج حجازي مكي. وَقد قَالَ يَحْيَى بن معِين: هُوَ ثِقَة فِيمَا رَوَى عَن الشاميين. وَقَالَ أَحْمد: مَا رَوَى عَن الشاميين صَحِيح، وَمَا رَوَى عَن الْحِجَازِيِّينَ فَلَيْسَ بِصَحِيح. قَالَ الشَّافِعِي: وَكَانَ مَالك يذكر أَنه السّنة وَكنت أتابعه عَلَيْهِ وَفِي نَفسِي مِنْهُ شَيْء، حَتَّى علمت أَنه يُرِيد سنة أهل الْمَدِينَة فَرَجَعت عَنهُ. قلت: وَحَدِيث عَمْرو هَذَا (يرجح مَا قَالَه) مَالك.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «دِيَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ (أَرْبَعَة آلَاف) » .
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من خرجه بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ وَعَزاهُ الرَّافِعِيّ إِلَى احتجاج الْأَصْحَاب، وَصَاحب «الْمطلب» عزاهُ إِلَى رِوَايَة أبي إِسْحَاق الْمروزِي فِي شَرحه، وَإِنَّمَا أعرفهُ من قَضَاء عمر.(8/443)
رَوَى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي، عَن فُضَيْل بن عِيَاض، عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، عَن ثَابت الْحداد، عَن ابْن الْمسيب «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قَضَى فِي دِيَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ بأَرْبعَة آلَاف، وَفِي دِيَة الْمَجُوسِيّ ثَمَانمِائَة دِرْهَم» (وَفِي «علل أَحْمد» : وثنا عبد الله، ثَنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، ثَنَا شريك، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عمر: «دِيَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ أَرْبَعَة آلَاف، والمجوسي ثَمَانمِائَة» فَحدثت بِهِ أبي فَأنْكر أَن يكون من حَدِيث يَحْيَى بن سعيد، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث ثَابت الْحداد، قَالَ أبي: وَقد رَوَاهُ قَتَادَة، عَن سعيد) وَفِي سَماع ابْن الْمسيب (من عمر) مقَال. قَالَ مَالك: لم يسمع مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: سمع مِنْهُ. وَقد جَاءَ عَن عمر خلاف هَذَا (قَالَ) عبد الرَّزَّاق فِي «مُصَنفه» ثَنَا رَبَاح (بن) عبيد الله، أَخْبرنِي حميد الطَّوِيل أَنه سمع أنس بن مَالك يحدث: «أَن يَهُودِيّا قتل غيلَة، فَقَضَى فِيهِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاثْنَيْ عشر ألف دِرْهَم» وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: ثَنَا إِبْرَاهِيم بن منقذ، ثَنَا عبد الله بن يزِيد الْمُقْرِئ، عَن سعيد بن أبي أَيُّوب، حَدثنِي يزِيد بن أبي(8/444)
حبيب أَن جَعْفَر بن عبد الله بن الحكم أخبرهُ: «أَن رِفَاعَة بن السموءل الْيَهُودِيّ قتل بِالشَّام فَجعل عمر دِيَته ألف دِينَار» وَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم خلا ابْن منقذ وَهُوَ ثِقَة (أخرج لَهُ) الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» .
قلت: وَرُوِيَ عَن عُثْمَان مثل مَا رُوِيَ عَن عمر أَولا: رَوَى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن صَدَقَة بن يسَار قَالَ: «أرسلنَا إِلَى سعيد بن الْمسيب نَسْأَلهُ (عَن) دِيَة الْمعَاهد، فَقَالَ: قَضَى فِيهِ عُثْمَان بأَرْبعَة آلَاف. قَالَ: فَقُلْنَا: فَمن (قبله) ؟ قَالَ: فحصبنا» وَرُوِيَ عَن عُثْمَان بِخِلَاف ذَلِك وَهُوَ مُنْقَطع.
قلت: وَقد ورد أَيْضا أَن دِيَة الْكَافِر نصف دِيَة الْمُسلم، لكنه مُتَكَلم فِيهِ.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، ويقيموا الصَّلَاة، ويؤتوا الزَّكَاة؛ فَإِذا فعلوا ذَلِك فقد عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وحسابهم عَلَى الله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من(8/445)
حَدِيث عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وَهُوَ حَدِيث عَظِيم أحد أَرْكَان الْإِسْلَام، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لمُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ مثله إِلَّا أَنه قَالَ: «بِحَق الْإِسْلَام» وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث أنس: «فَإِذا شهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صَلَاتنَا؛ حرمت علينا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ (إِلَّا بِحَقِّهَا» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان «فقد حرمت دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ) وَلَهُم مَا للْمُسلمين وَعَلَيْهِم مَا عَلَيْهِم» .
الحَدِيث الْعشْرُونَ
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «فِي الْكتاب الَّذِي كتبه (إِلَى) أهل الْيمن:
(وَفِي) الْمُوَضّحَة خمس من الْإِبِل» .
هَذَا الحَدِيث سلف بِطُولِهِ فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الْمُوَضّحَة خمس من الْإِبِل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من هَذَا الْوَجْه من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن عِكْرِمَة بن خَالِد، عَن أبي بكر بن عبيد(8/446)
الله [بن عمر] ، عَن أَبِيه، عَن عمر، مَرْفُوعا بِهِ، وَبِزِيَادَة عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبا بِطُولِهِ وَكَلَام الْبَزَّار عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ أَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة» من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي المواضح خمس (خمس) » هَذَا لَفظهمْ خلا النَّسَائِيّ؛ فَإِن لَفظه «لما افْتتح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَكَّة قَالَ فِي خطبَته: فِي المواضح خمسٌ خمسٌ» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَفِي رِوَايَة: لعبد الرَّزَّاق (عَن ابْن جريج، عَن عَمْرو بن شُعَيْب قَالَ: «قضي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْمُوَضّحَة بِخمْس من الْإِبِل أَو عدلها من الذَّهَب أَو الْوَرق) أَو الْبَقر أَو الشَّاء» وَهِي مُرْسلَة كَمَا ترَى.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
عَن عَمْرو بن حزم، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي المنقلة خمس عشرَة من الْإِبِل» .
هَذَا الحَدِيث سلف بِطُولِهِ فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» أَيْضا.(8/447)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن زيد بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أوجب فِي الهاشمة (عشرا) من الْإِبِل» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: كَذَا ذكر بعض الْأَصْحَاب. وَمِنْهُم من قَالَ: لم يرد فِي الهاشمة شَيْء عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَإِنَّمَا جَاءَ فِي ذَلِك عَن زيد بن ثَابت مَوْقُوفا عَلَيْهِ. هُوَ كَمَا قَالَ هَذَا الْقَائِل الْأَخير، فَلَا يحضرني من رَوَاهُ مَرْفُوعا، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف. أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ كَذَلِك بِلَفْظ: «فِي الْمُوَضّحَة خمس من الْإِبِل، وَفِي الهاشمة عشر، وَفِي المنقلة خمس عشرَة، وَفِي المأمومة: ثلث الدِّيَة» .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
عَن عَمْرو بن حزم، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي المأمومة ثلث الدِّيَة» .
هَذَا (الحَدِيث سلف بِطُولِهِ فِي بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي المأمومة ثلث الدِّيَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد لَكِن من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب، عَن(8/448)
أَبِيه، عَن جده، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي المأمومة ثلث الْعقل ثَلَاث وَثَلَاثُونَ ... » وَقد تقدم قَرِيبا بِطُولِهِ فَرَاجعه مِنْهُ وَهُوَ الحَدِيث الْخَامِس عشر.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
عَن مَكْحُول مُرْسلا «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جعل فِي الْمُوَضّحَة خمْسا من الْإِبِل، وَلم يُوقف فِيمَا دون ذَلِك شَيْئا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِنَحْوِهِ من حَدِيث ابْن إِسْحَاق عَنهُ قَالَ: «قضي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْجِرَاحَات، فِي الْمُوَضّحَة خمس من الْإِبِل ... » الحَدِيث ( ... ) عَن الْحسن «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يعقل مَا دون الْمُوَضّحَة بِشَيْء» وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن شهَاب وَرَبِيعَة وَأبي الزِّنَاد وَإِسْحَاق بن عبد الله «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يعقل مَا دون الْمُوَضّحَة، وَجعل مَا دون الْمُوَضّحَة عفوا بَين الْمُسلمين» وَقَالَ مَالك بن أنس: الْأَمر الْمجمع عَلَيْهِ عندنَا أَنه لَيْسَ فِيمَا دون الْمُوَضّحَة من الشجاج عقل حَتَّى تبلغ الْمُوَضّحَة، وَإِنَّمَا الْعقل فِي الْمُوَضّحَة فَمَا [فَوْقهَا] وَذَلِكَ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - انْتَهَى فِي كِتَابه إِلَى الْمُوَضّحَة لعَمْرو بن حزم فَجعل فِيهَا خمس.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
عَن عَمْرو بن حزم أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الْجَائِفَة ثلث الدِّيَة»(8/449)
هَذَا الحَدِيث سلف بِطُولِهِ فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» .
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جعل فِي الْجَائِفَة ثلث الدِّيَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلِي، عَن عِكْرِمَة بن خَالِد، عَن أبي بكر بن عبيد الله بن عَمْرو، عَن أَبِيه، عَن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فِي الْأنف إِذا استوعب جدعه الدِّيَة، وَفِي الْعين خَمْسُونَ، وَفِي الْيَد خَمْسُونَ، وَفِي الرجل خَمْسُونَ، وَفِي الْجَائِفَة ثلث النَّفس، وَفِي المنقلة خمس عشرَة، وَفِي الْمُوَضّحَة خمس، وَفِي السن خمس، وَفِي كل إِصْبَع مِمَّا هُنَالك عشر عشر» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا نعلمهُ يرْوَى عَن عمر إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَا نعلم رَوَى عِكْرِمَة بن خَالِد عَن أبي بكر بن عبيد الله إِلَّا هَذَا الحَدِيث. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، ثَنَا أَبُو الْجَواب، ثَنَا عمار بن رُزَيْق، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن عِكْرِمَة بن خَالِد، عَن أبي بكر بن عبيد الله بن عمر، عَن عمر، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «فِي الْأنف الدِّيَة إِذا استوعى جدعه مائَة من الْإِبِل، وَفِي الْيَد خَمْسُونَ، وَفِي الرجل خَمْسُونَ، وَفِي الْعين خَمْسُونَ، وَفِي الْأمة ثلث النَّفس، فِي الْجَائِفَة ثلث النَّفس، وَفِي المنقلة خمس(8/450)
عشرَة، وَفِي الْمُوَضّحَة خمس، وَفِي السن خمس، وَفِي كل إِصْبَع مِمَّا هُنَالك عشر» قَالَ: وَرَوَاهُ وَكِيع عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن عِكْرِمَة بن خَالِد، عَن رجل من آل عمر قَالَ: «قضي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره بِزِيَادَات ونقصان.
قلت: وَرَوَى الْقطعَة الَّتِي ذكرهَا المُصَنّف أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا، فقد سلف قَرِيبا بِطُولِهِ فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
رُوِيَ فِي كتاب عَمْرو بن حزم أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الْأذن خَمْسُونَ من الْإِبِل» .
هَذَا الحَدِيث لَيْسَ واردًا فِي طَرِيق حَدِيث عَمْرو بن حزم، والرافعي عزاهُ إِلَى الموجهين لظَاهِر الحَدِيث، حَيْثُ قَالَ بعد أَن ( ... ) أَن فِي الْأُذُنَيْنِ ( ... ) الإِمَام قَالَ: الَّذِي يُقَوي هَذَا الْوَجْه أَنه لم يجز عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - للأذنين ذكرا فِي كتاب عَمْرو بن حزم مَعَ سَائِر الْأَعْضَاء الَّتِي أوجب فِيهَا الدِّيَة، وَذَلِكَ يشْعر بإخراجها عَن الْأَعْضَاء الَّتِي لَهَا بدل مُقَدّر لَكِن الموجهين لظَاهِر الْمَذْهَب رووا عَن كتاب عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن فِي الْأُذُنَيْنِ خمسين من الْإِبِل» هَذَا لَفظه، وَفِي «النِّهَايَة» لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَيْضا أَنه لم يجز لَهَا ذكر فِي كتاب عَمْرو بن حزم، قَالَ: وَقد رَوَاهُ بَعضهم - يَعْنِي: القَاضِي الْحُسَيْن - عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ مجازفة فِي الرِّوَايَة، وَلم(8/451)
يَصح عندنَا خبر بذلك فِي كتب الحَدِيث.
قلت: وَمَعَ الْمَاوَرْدِيّ القَاضِي الْحُسَيْن؛ فَإِنَّهُ قَالَ: رَوَى عَمْرو بن حزم «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي كِتَابه إِلَى أهل الْيمن: وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَة» .
قلت: وَهَذَا الحَدِيث أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْأَصَم عَن بَحر بن نصر، عَن ابْن وهب قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس بن يزِيد، عَن ابْن شهَاب قَالَ: «قَرَأت كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الَّذِي كتبه لعَمْرو بن حزم حِين بَعثه عَلَى نَجْرَان فَكتب فِيهِ: وَفِي الْأذن خَمْسُونَ من الْإِبِل» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا) .
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
عَن عَمْرو بن حزم أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَفِي الْعين: خَمْسُونَ من الْإِبِل» .
هَذَا الحَدِيث سلف بِطُولِهِ فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» وَاللَّفْظ الْمَذْكُور هُوَ لفظ مَالك وَأبي دَاوُد.
الحَدِيث الْحَادِي (وَالثَّلَاثُونَ)
عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «فِي الْعَينَيْنِ الدِّيَة» .
هَذَا الحَدِيث هُوَ حَدِيث عَمْرو بن حزم الْمَذْكُور رَوَاهُ بِاللَّفْظِ(8/452)
الْمَذْكُور النَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ والرافعي غاير بَينهمَا وهما حَدِيث وَاحِد بِلَفْظ مُخْتَلف، اللَّهُمَّ إِلَّا (أَن يُرِيد) أَنه ورد حَدِيث آخر غير حَدِيث (عَمْرو) بن حزم، وَقد جَاءَ من (طَرِيق آخر) ، لَكِن بِاللَّفْظِ الأول رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الْعين خَمْسُونَ» وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل أسلفناه، وَفِي إِسْنَاده ابْن إِسْحَاق، وَقد صَّرح بِالتَّحْدِيثِ (كَمَا سلف) وَقد أسلفناه أَيْضا عَن رِوَايَة الْبَزَّار من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن عِكْرِمَة بن خَالِد، عَن أبي بكر بن عبيد الله (بن عمر) ، عَن أَبِيه، عَن عمر.
الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع بعد (الثَّلَاثِينَ)
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «فِي كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَفِي الْأنف إِذا أوعى جدعًا الدِّيَة» . أَي استوعب، وَحمل ذَلِك عَلَى المارن دون جَمِيع الْأنف؛ لما رُوِيَ عَن طَاوس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «عِنْدِي كتاب النبَّي(8/453)
(، وَفِيه: وَفِي الْأنف إِذا قطع مارنه مائَة من الْإِبِل» وَيروَى: «وَفِي الْأنف إِذا استؤصل المارن الدِّيَة الْكَامِلَة» .
أما حَدِيث عَمْرو بن حزم فسلف فِي بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص بِطُولِهِ، وَأما حَدِيث: طَاوس فَذكره الشَّافِعِي (فَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ إِلَى الشَّافِعِي) قَالَ: وَقد رَوَى ابْن طَاوس، عَن أَبِيه قَالَ: «عِنْد أبي كتاب عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيهِ: وَفِي الْأنف إِذا قطع المارن مائَة من الْإِبِل» وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن (جريج) قَالَ: أَخْبرنِي طَاوس، قَالَ فِي الْكتاب الَّذِي عِنْدهم عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «وَفِي الْأنف إِذا قطع من المارن مائَة من الْإِبِل» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي رِوَايَة وَكِيع، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن عِكْرِمَة بن خَالِد، عَن رجل من آل عمر قَالَ: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْأنف إِذا استوعب مارنه الدِّيَة» . وَأما الرِّوَايَة الثَّالِثَة: فرواها الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم قَالَ: «كَانَ فِي كتاب عَمْرو بن حزم حِين بَعثه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى نَجْرَان: وَفِي الْأنف إِذا استؤصل المارن الدِّيَة الْكَامِلَة» .(8/454)
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) «وَفِي الشفتين الدِّيَة» .
هَذَا الحَدِيث سلف بِطُولِهِ فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» .
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي اللِّسَان الدِّيَة» .
هَذَا الحَدِيث تقدم فِي الْبَاب الْمشَار إِلَيْهِ وَاضحا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن مَكْحُول أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي اللِّسَان الدِّيَة» .
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الْجمال، فَقَالَ: هُوَ اللِّسَان» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن مُحَمَّد بن صَالح بن هَانِئ، ثَنَا الْحُسَيْن بن الْفضل (ثَنَا) مُوسَى بن دَاوُد الضَّبِّيّ، ثَنَا الحكم بن الْمُنْذر، عَن مُحَمَّد بن بشير الْخَثْعَمِي، عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلّي بن (الْحُسَيْن) ، عَن أَبِيه قَالَ: «أقبل الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعَلِيهِ حلتان، وَله(8/455)
(ظفيرتان) وَهُوَ أَبيض، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَبَسم. فَقَالَ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله، مَا أضْحكك؟ أضْحك الله سنك. فَقَالَ: أعجبني جمال عَم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ الْعَبَّاس: مَا الْجمال (فِي الرجل) ؟ قَالَ: اللِّسَان» وَهَذَا مُرْسل لَا جرم، قَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الشهَاب» : إِنَّه مُنْقَطع ثمَّ سرد السَّند الَّذِي ذكرته، ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد مَجْهُول.
قلت: وَله طَرِيق آخر بإسنادٍ مظلم رَوَاهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ من حَدِيث أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن (بن) الْجَارُود الرقي، ثَنَا هِلَال بن الْعَلَاء، ثَنَا مُحَمَّد بن مُصعب، ثَنَا الْأَوْزَاعِيّ، عَن ابْن (الْمُنْكَدر) ، عَن جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «جمال الرجل فصاحة لِسَانه» . ثمَّ (قَالَ) : أَحْمد هَذَا كَانَ كذابا، وَمن بلاياه هَذَا الحَدِيث، (و) ذكره ابْن طَاهِر أَيْضا فِي الْكتاب الْمَذْكُور (و) قَالَ: (لَعَلَّه من) ابْن الْجَارُود، فَإِنَّهُ غير مُعْتَمد، وَمُحَمّد بن مُصعب لَيْسَ بِشَيْء.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَفِي السن خمس من الْإِبِل» .(8/456)
هَذَا الحَدِيث سلف بِطُولِهِ فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي كل سنّ خمس من الْإِبِل» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الْبَاب فِي الحَدِيث الْخَامِس عشر مِنْهُ.
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «جعل رَسُول (أَصَابِع الْيَد وَالرجل سَوَاء وَقَالَ: الْأَسْنَان سَوَاء، الثَّنية والضرس سَوَاء، وَهَذِه (و) هَذِه سَوَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد صَحِيح، كَذَلِك (سَوَاء) إِلَّا أَنه قَالَ فِي أَوله «الْأَصَابِع سَوَاء» بدل «أَصَابِع الْيَد وَالرجل سَوَاء» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «هَذِه وَهَذِه» يَعْنِي: الْخِنْصر والإبهام. وَفِي رِوَايَة للإسماعيلي: «دِيَتهمَا سَوَاء» وَفِي أخري: «وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصر والإبهام» وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فِي دِيَة الْأَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ (عشر) من الْإِبِل لكل إِصْبَع» ثمَّ قَالَ: هَذَا(8/457)
حَدِيث حسن غَرِيب. قَالَ ابْن الْقطَّان: كَذَا قَالَ، وَلَا أعلم لَهُ عِلّة تمنع من تَصْحِيحه، فرجاله كلهم ثِقَات، وَلَا يَنْبَغِي أَن يعل بِعِكْرِمَةَ؛ لِأَن (مَا) قيل فِيهِ فِي الْحَقِيقَة شَيْء لَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا يعرج أهل الْعلم عَلَيْهِ.
قلت: لَا جرم، أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه) وَلَفظه «دِيَة الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ سَوَاء عشر من الْإِبِل (لكل) إِصْبَع» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «الْأَسْنَان سَوَاء، والأصابع سَوَاء» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «الْأَصَابِع سَوَاء هَذِه وَهَذِه» . وَلابْن مَاجَه (مِنْهُ) : «الْأَسْنَان سَوَاء الثَّنية والضرس سَوَاء» وَرُوِيَ أَيْضا من غير طَرِيق ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، مَرْفُوعا: «فِي كل إِصْبَع عشر من الْإِبِل، وَفِي كل سنّ خمس من الْإِبِل، والأصابع والأسنان سَوَاء» (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ(8/458)
وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي مُوسَى، قَالَ: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن الْأَصَابِع سَوَاء) عشرا عشرا من الْإِبِل» .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين
عَن معَاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ: «فِي الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ الدِّيَة، وَفِي إِحْدَاهمَا نصفهَا» .
هَذَا الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه غَرِيب، ويغني عَنهُ حَدِيث عَمْرو بن حزم، وَعَمْرو بن شُعَيْب السالفين مَعَ الْإِجْمَاع.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الْيَدَيْنِ مائَة من الْإِبِل، وَفِي الْيَد خَمْسُونَ، وَفِي كل أصْبع من أَصَابِع الْيَد وَالرجل: عشر من الْإِبِل» وَفِي (لفظ) : «كل أصْبع مِمَّا (هُنَالك) عشر من الْإِبِل»
هَذَا الحَدِيث سلف فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْأَرْبَعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قطع السَّارِق من الْكُوع» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن(8/459)
أَبِيه، عَن جده: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بِقطع السَّارِق من الْمفصل» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِمثلِهِ من حَدِيث عدي بن ثَابت وَجَابِر بن عبد الله، وَرَوَاهُ ابْن عدي، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن (عمر) قَالَ: «قطع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَارِقا من الْمفصل» وَفِي إِسْنَاده عبد الرَّحْمَن بن سَلمَة وَلَا يعرف لَهُ حَال كَمَا قَالَ ابْن الْقطَّان، وَلَيْث حَاله مَعْرُوف.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْأَرْبَعين
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَفِي الذّكر الدِّيَة، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَة» وَيروَى: «فِي البيضتين» .
هَذَا الحَدِيث سلف فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» ، فَرَاجعه مِنْهُ، وَفِي «مَرَاسِيل أبي دَاوُد» من حَدِيث معمر، عَن الزُّهْرِيّ «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الذّكر الدِّيَة» وفيهَا أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن مَكْحُول، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الذّكر الدِّيَة، وَفِي (الْأُنْثَيَيْنِ) الدِّيَة» .(8/460)
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْأَرْبَعين
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الرجلَيْن الدِّيَة، وَفِي الْوَاحِدَة نصفهَا» .
هَذَا الحَدِيث سلف فِي الْبَاب الْمشَار إِلَيْهِ قبل، فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْأَرْبَعين
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الْعقل الدِّيَة» .
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من رَوَاهُ فِي كتاب عَمْرو بن حزم هَذَا بعد الْبَحْث عَنهُ، وكأنَّ الرَّافِعِيّ تبع الْمَاوَرْدِيّ فَإِنَّهُ رَوَاهُ كَذَلِك، وَالَّذِي أعرفهُ أَنه من رِوَايَة معَاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (كَمَا) أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، وَقَالَ: إِن إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ أَي لِأَن فِي إِسْنَاده (رشدين بن) سعد، وَعبد الرَّحْمَن الأفريقي (وَقد) ضعفا، وَعبادَة بن نسي وَفِيه ضعف (كَمَا) قَالَ الْبَيْهَقِيّ. قَالَ: وروينا، عَن عمر بن الْخطاب مَا دلّ عَلَى «أَنه قَضَى فِي الْعقل بِالدِّيَةِ» . وَعَن زيد بن ثَابت مثله، وَفِي روايةٍ لَهُ عَن زيد: «مَضَت السّنة فِي الْعقل إِذا ذهب الدِّيَة» ، (وإسنادها صَحِيح) .(8/461)
الحَدِيث السَّابِع بعد الْأَرْبَعين
عَن معَاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الْبَصَر الدِّيَة» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب، لَا أعلم من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْأَرْبَعين
عَن معَاذ (بن جبل) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي السّمع الدِّيَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَفِي إِسْنَاده مَا فِي حَدِيث: «فِي الْعقل الدِّيَة» وَقد سلف قَرِيبا بَيَانه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وروينا عَن عمر بن الْخطاب مَا دلّ عَلَى «أَنه قَضَى فِي السّمع بِالدِّيَةِ» . قَالَ: وَعَن زيد بن ثَابت وَسَعِيد بن الْمسيب وَرَبِيعَة وَمَكْحُول وَيَحْيَى بن سعيد وَالشعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم وَغَيرهم مثله.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْأَرْبَعين
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الشم الدِّيَة» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب، لَا أعلم من خرجه لَا من هَذَا الْوَجْه، وَلَا من غَيره بعد الْبَحْث عَنهُ، وَكَأن الرَّافِعِيّ قلد الْمَاوَرْدِيّ فِي إِيرَاده فَإِنَّهُ قَالَ: حَكَى بعض الروَاة عَن عَمْرو بن حزم أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة والسَّلام قَالَ: « (و) فِي الشم الدِّيَة» .(8/462)
الحَدِيث الْخَمْسُونَ
عَن عَمْرو بن حزم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الصلب الدِّيَة» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» . وَفِي «مَرَاسِيل أبي دَاوُد» من حَدِيث يزِيد بن عبد الله بن الْهَاد اللَّيْثِيّ، عَن الزُّهْرِيّ: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي الصلب بِالدِّيَةِ» .
الحَدِيث الْحَادِي (وَالْخَمْسُونَ)
أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْبِئْر جَبَّار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مطولا: «العجماء جرحها جُبَار، والبئر جُبَار، والمعدن جُبَار، و (فِي) الرِّكَاز الْخمس» .
فَائِدَة: فِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه: «وَالنَّار جُبَار» . لَكِنَّهَا وهيت، قَالَ أَحْمد فِيمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ: هَذِه الرِّوَايَة لَيست بِشَيْء، لم تكن فِي الْكتب وَهِي بَاطِلَة لَيست صَحِيحَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: لم أزل أسمع أهل الحَدِيث، يَقُولُونَ: غلط (فِيهِ)(8/463)
عبد الرَّزَّاق، إِنَّمَا هُوَ «الْبِئْر جُبَار» حَتَّى وجدته لأبي دَاوُد، عَن عبد الْملك الصَّنْعَانِيّ، عَن معمر، فَدلَّ أَن الحَدِيث لم ينْفَرد بِهِ عبد الرَّزَّاق.
قلت: وَعبد الْملك هَذَا ضعفه همام بن يُوسُف وَأَبُو (الْفَتْح) الْأَزْدِيّ. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ تَصْحِيف «الْبِئْر» فَإِن أهل الْيمن يميلون (الْيَاء) ويكسرون النُّون، فَسَمعهُ بَعضهم عَلَى الإمالة فَكَتبهُ بِالْيَاءِ فنقلوه مُصحفا. فعلَى هَذَا، الَّذِي ذكره هُوَ عَلَى الْعَكْس مِمَّا قَالَه، فَإِن صَحَّ نَقله فَهِيَ النَّار يوقدها الرجل فِي ملكه لأربٍ فيطيرها الرّيح فتتلف مَتَاعا لغيره بِحَيْثُ لَا يملك ردهَا فَيكون هدرا. وَكَذَا قَالَ ابْن معِين عَلَى مَا حَكَاهُ صَاحب «التَّمْهِيد» أَصله «الْبِئْر جَبَّار» وَلكنه صحفه معمر. ثمَّ قَالَ أَبُو عمر: فِي قَوْله نظر، وَلَا يسلم لَهُ حَتَّى يَتَّضِح. وَقَالَ فِي «الاستذكار» : لم يَأْتِ ابْن معِين عَلَى ذَلِك بِدَلِيل، وَلَيْسَ هَكَذَا ترد أَحَادِيث الثِّقَات. وَخَالف أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح تقوم بِهِ الْحجَّة.
فَائِدَة ثَانِيَة: فِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ: «وَالرجل جُبَار» وَهِي واهية أَيْضا. قَالَ الشَّافِعِي: هَذِه الرِّوَايَة غلط؛ لِأَن الْحفاظ لم يحفظوها هَكَذَا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: لم يروها غير سُفْيَان(8/464)
بن حُسَيْن وَخَالفهُ الْحفاظ عَن الزُّهْرِيّ فَلم يذكرُوا هَذِه (الزِّيَادَة) وَبسط الْبَيْهَقِيّ القَوْل فِي تضعيفها فِي «خلافياته» و «سنَنه» . وَقَالَ الْخطابِيّ: تكلم النَّاس فِي هَذَا الحَدِيث، وَقيل: إِنَّه غير مَحْفُوظ (وسُفْيَان بن حُسَيْن مَعْرُوف بِسوء الْحِفْظ) .
فَائِدَة ثَالِثَة: فِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: «والسائمة جُبَار» وَفِي إسنادها الْحسن بن عمَارَة أحد الهلكى، وَرَوَاهَا أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن خلف بن الْوَلِيد، ثَنَا عباد بن عباد، عَن مجَالد، عَن الشّعبِيّ، عَن جَابر رَفعه: «السَّائمة جَبَّار والمعدن جَبَّار، وَفِي الرِّكَاز الْخمس» .
فَائِدَة رَابِعَة: «العجماء» مَمْدُود: الْبَهِيمَة، سميت بذلك لِأَنَّهَا لَا تنطق و «الجُبَار» : الهدر، وَقد (رَأَيْت) هَذَا التَّفْسِير (فِي) آخر الحَدِيث. قَالَ عبد الله بن أَحْمد فِي «الْمسند» : ثَنَا أَبُو كَامِل الجحدري (حَدثنَا) الْفضل بن سُلَيْمَان، حَدثنِي مُوسَى بن عقبَة، عَن إِسْحَاق بن يَحْيَى بن الْوَلِيد (بن) عبَادَة بن الصَّامِت (أَنه) ، قَالَ:(8/465)
«إِن من قَضَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن الْبِئْر جُبار، والمعدن جُبَار، والعجماء جرحها جَبَّار» والعجماء: الْبَهِيمَة من الْأَنْعَام وَغَيرهَا، والجبار: هُوَ الهدر الَّذِي لَا يغرم (ثمَّ) (ذكره مطولا) ، كَذَا رَأَيْت فِي «الْمسند» إِسْحَاق بن يَحْيَى بن الْوَلِيد بن عبَادَة بن الصَّامِت، وَلَعَلَّه عَن عبَادَة، فَإِن الْمَعْرُوف أَنه يروي عَن جد أَبِيه عبَادَة (كَمَا) هُوَ فِي ابْن مَاجَه، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لم يُدْرِكهُ. قَالَ الذَّهَبِيّ: وَعنهُ مُوسَى بن عقبَة فَقَط (و) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِسْحَاق بن يَحْيَى بن أخي عبَادَة بن الصَّامِت. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : إِسْحَاق بن يَحْيَى، عَن (مُحَمَّد) (بن يَحْيَى) بن عبَادَة بن الصَّامِت، قَالَ ابْن عدي: أَحَادِيثه غير مَحْفُوظَة. وَقَوله: «جرحها» : قَالَ بَعضهم (هُوَ هُنَا) بِفَتْح الْجِيم عَلَى الْمصدر لَا غير (قَالَ) : فَأَما الجُرح بِالضَّمِّ فالاسم. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَأكْثر مَا يقْرَأ هَذَا بِالضَّمِّ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْخمسين
«أَن عمر (بن الْخطاب) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مر تَحت ميزاب الْعَبَّاس بن عبد(8/466)
الْمطلب فقطر عَلَيْهِ قطرات، فَأمر بنزعه، فَخرج الْعَبَّاس (فَقَالَ) : أتقلع ميزابًا نَصبه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِيَدِهِ! فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: وَالله لَا (ينصبنه) إِلَّا من يرقى عَلَى ظَهْري. وانحنى للْعَبَّاس حَتَّى رقي عَلَيْهِ فَأَعَادَهُ إِلَى مَوْضِعه» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي كتاب الصُّلْح، وَاضحا من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن أَحْمد بن عَبدة، عَن سُفْيَان عَن أبي هَارُون الْمدنِي، قَالَ: «كَانَ فِي دَار الْعَبَّاس ميزاب يصب فِي الْمَسْجِد، فجَاء عمر فقلعه، فَقَالَ الْعَبَّاس: إِن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هُوَ الَّذِي (صنعه) بِيَدِهِ. فَقَالَ لَهُ عمر: لَا يكون لَك سلم (إِلَّا) ظَهْري حَتَّى ترده مَكَانَهُ» .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْخمسين
رُوِيَ: «أَن نَاسا بِالْيمن حفروا زُبية للأسد فَوَقع الْأسد فِيهَا، فازدحم النَّاس عَلَيْهَا، فتردى فِيهَا وَاحِد فَتعلق بِوَاحِد فَجَذَبَهُ، وجذب الثَّانِي ثَالِثا، وَالثَّالِث رَابِعا، فَرفع ذَلِك إِلَى عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالَ: للْأولِ ربع الدِّيَة، وَللثَّانِي الثُّلُث، وللثالث النّصْف، وللرابع الْجَمِيع. فَرفع ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَمْضَى قَضَاءَهُ» .(8/467)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار فِي (مسنديهما) ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة حَنش بن الْمُعْتَمِر الْكِنَانِي الصَّنْعَانِيّ قَالَ: ثَنَا عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لما بَعَثَنِي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن انتهينا إِلَى قوم قد بنوا زُبية للأسد (فَبينا) هم كَذَلِك يتدافعون إِذْ سقط رجل فَتعلق بآخر، ثمَّ تعلق الرجل بآخر حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَة، فجرحهم الْأسد، فَانْتدبَ لَهُ رجل بِحَرْبَة فَقتله، وماتوا من جراحهم كلهم (فَقَامُوا) أَوْلِيَاء الأول إِلَى أَوْلِيَاء الآخر فأخرجوا السِّلَاح ليقتتلوا، فَأَتَاهُم عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَلَى تفيئة ذَلِك فَقَالَ: تُرِيدُونَ أَن تقتتلوا وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حيُُّ؟ إِنِّي أَقْْضِي بَيْنكُم قَضَاء إِن رَضِيتُمْ بِهِ فَهُوَ الْقَضَاء وَإِلَّا (يحْجر) بَعْضكُم عَلَى بعض حَتَّى تَأْتُوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَيكون هُوَ الَّذِي يقْضِي بَيْنكُم فَمن عدا بعد ذَلِك فَلَا حق لَهُ، (اجْمَعُوا من قبائل الْعَرَب الَّذين حفروا الْبِئْر ربع الدِّيَة وَثلث الدِّيَة وَنصف الدِّيَة وَالدية كَامِلَة، فللأول ربع الدِّيَة، لِأَنَّهُ هلك من فَوْقه ثَلَاثَة، وَللثَّانِي ثلث الدِّيَة، وللثالث نصف الدِّيَة، وللرابع الدِّيَة كَامِلَة فَأَبَوا أَن يرْضوا، فَأتوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ عِنْد مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام) فقصوا عَلَيْهِ الْقِصَّة [فَقَالَ: أَنا أَقْْضِي بَيْنكُم، واحتبى، فَقَالَ رجل من الْقَوْم: إِن عليا قَضَى فِينَا فقصوا عَلَيْهِ الْقِصَّة] فَأَجَازَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . هَذَا(8/468)
لفظ أَحْمد، وَلَفظ الْبَزَّار وَالْبَيْهَقِيّ بِنَحْوِهِ، وَفِي روايتهما: «للْأولِ ربع الدِّيَة من أجل أَنه هلك من فَوْقه ثَلَاثَة، وَالثَّانِي ثلث (دِيَة) لِأَنَّهُ هلك من فَوْقه اثْنَان، وللثالث نصف (دِيَة) لِأَنَّهُ هلك من فَوْقه وَاحِد، وَللْآخر الدِّيَة كَامِلَة» . وَفِي رِوَايَة: «وَجعل الدِّيَة عَلَى قبائل الَّذين ازدحموا» . (وحنش) هَذَا هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَبَعْضهمْ يَقُول: ابْن ربيعَة، تَابِعِيّ رَوَى عَنهُ سماك وَالْحكم بن عتيبة قَالَ البُخَارِيّ: يَتَكَلَّمُونَ فِي حَدِيثه. وَأورد لَهُ فِي «ضُعَفَائِهِ» هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيّ: (لَيْسَ) بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يحْتَج بِهِ، ينْفَرد عَن عليّ بأَشْيَاء لَا تشبه حَدِيث الثِّقَات. وَقَالَ (الْبَيْهَقِيّ) : إِنَّه غير مُحْتَج بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: كَانَ عبدا صَالحا، وَلَيْسَ أَرَاهُم يحتجون بحَديثه. وَوَثَّقَهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ الْبَزَّار فِي حَدِيثه هَذَا: لَا (نعلمهُ) يروي إِلَّا عَن عَلّي، وَلَا نعلم لَهُ طَرِيقا عَن عليٍّ إِلَّا هَذَا الطَّرِيق وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الناصرون (للأصح) فِي الْمَسْأَلَة لم يثبتوا قصَّة عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَرُبمَا تكلفوا تَأْوِيلهَا. وَقَالَ صَاحب «الشَّامِل» : إِنَّه حَدِيث ضَعِيف لَا يُثبتهُ أهل النَّقْل، وَالْقِيَاس خِلَافه، وَكَذَا فِي «الْبَيَان» أَيْضا.(8/469)
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْخمسين
«أَن امْرَأتَيْنِ من هُذَيْل اقتتلتا، فرمت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بِحجر - وَيروَى بعمود فسطاط - فقتلتها فَأسْقطت (جَنِينا) فَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَة القاتلة، وَفِي الْجَنِين بغرة عبدٍ أَو أمة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» . من حَدِيث أبي هُرَيْرَة والمغيرة بن شُعْبَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما مطولا، وَقد سلف فِي (أَوَائِل) الْبَاب (طرفا) مِنْهُ.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْخمسين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن امْرَأتَيْنِ من هُذَيْل اقتتلتا، فقتلت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى وَلكُل (وَاحِدَة) مِنْهُمَا زوج وَولد، فَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بدية المقتولة عَلَى عَاقِلَة القاتلة، وبرأ الزَّوْج وَالْولد، ثمَّ مَاتَت القاتلة فَجعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِيرَاثهَا لبنيها وَالْعقل عَلَى الْعصبَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن يَحْيَى بن حسان، أبنا اللَّيْث بن سعد، عَن ابْن شهَاب، عَن ابْن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي جَنِين امْرَأَة من بني لحيان سقط مَيتا بغرة عبد أَو أمة، ثمَّ إِن الْمَرْأَة الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بالغرة توفيت، فَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن مِيرَاثهَا (لابنتها) وَزوجهَا، وَالْعقل عَلَى عصبتها» . وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ كَذَلِك فِي(8/470)
«صَحِيحَيْهِمَا» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد: «ثمَّ إِن الْمَرْأَة الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بالغرة توفيت فَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِأَن مِيرَاثهَا لبنيها، وَأَن (الْعقل) عَلَى عصبتها» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث مجَالد، عَن الشّعبِيّ، عَن جَابر بن عبد الله: «أَن امْرَأتَيْنِ من هُذَيْل قتلت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى، وَلكُل وَاحِدَة مِنْهُمَا زوج وَولد، قَالَ: فَجعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دِيَة (المقتولة) عَلَى عَاقِلَة القاتلة وبرأ زَوجهَا وَوَلدهَا (قَالَ: فَقَالَت عَاقِلَة المقتولة: مِيرَاثهَا لنا. قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا مِيرَاثهَا لزَوجهَا وَوَلدهَا) » مجَالد ضعَّفوه، وَقَالَ يَحْيَى بن معِين مرّة: صَالح. (وَوَقع) فِي أصل «الرَّوْضَة» تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث، وَهَذَا لَفظه: وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَضَى بدية المقتولة عَلَى عَاقِلَة القاتلة وبرأ زَوجهَا وَوَلدهَا» انْتَهَى. وَقد عرفت مَا فِيهِ، وَفِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» - و «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي نُعَيْم - والسياق لَهُ - من حَدِيث الْمنْهَال بن خَليفَة، عَن سَلمَة بن تَمام، عَن أبي الْمليح (الْهُذلِيّ) ،(8/471)
عَن أَبِيه قَالَ: «كَانَ فِينَا رجل يُقَال لَهُ: حمل بن مَالك، لَهُ امْرَأَتَانِ (إِحْدَاهمَا) هذلية وَالْأُخْرَى عامرية، فَضربت (الهذلية) بطن العامرية بعمود ... » الحَدِيث. وَفِيه. «فَقَالَ عمرَان بن عُوَيْمِر أَخُو الضاربة أندي من (لَا أكل)
» إِلَى آخِره، وَفِيه: «دَعْنِي من رجز الْأَعْرَاب، فِيهِ غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَو أمة، أَو خَمْسمِائَة، أَو فرس، أَو عشرُون وَمِائَة [شَاة] . فَقَالَ: يَا نَبِي الله! إِن لَهَا (ابْنَيْنِ) هما سادة [الْحَيّ] وهما أَحَق أَن (يعقلوا) عَن أمّهم قَالَ: (أَنْت) أَحَق أَن تعقل عَن أختك من وَلَدهَا. قَالَ: مَالِي شَيْء أَعقل فِيهِ. فَقَالَ: يَا حمل بن مَالك - وَهُوَ يَوْمئِذٍ عَلَى صدقَات هُذَيْل، وَهُوَ زوج الْمَرْأَتَيْنِ وَأَبُو الْجَنِين الْمَقْتُول - اقبض من تَحت يدك من صدقَات هُذَيْل (عشْرين) وَمِائَة شَاة. فَفعل» .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْخمسين
«أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَعَهُ ابْنه (فَقَالَ: من هَذَا) ؟ فَقَالَ: ابْني. فَقَالَ: (أما إِنَّه لَا) يجني عَلَيْك وَلَا تجني عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد(8/472)
وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم من رِوَايَة أبي رمثة قَالَ «خرجت مَعَ أبي حَتَّى أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَرَأَيْت (بِرَأْسِهِ) ردع حناء، وَقَالَ لأبي: هَذَا ابْنك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أما إِنَّه لَا تجني عَلَيْهِ وَلَا يجني عَلَيْك (وَقَرَأَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) «وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى) وَلَيْسَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: وَقَرَأَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَأخرجه أَحْمد أَيْضا وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَمْرو بن الْأَحْوَص «أَنه شهد حجَّة الْوَدَاع مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا يجني جَان إِلَّا عَلَى نَفسه، لَا يجني (وَالِد) عَلَى وَلَده، (وَلَا مَوْلُود عَلَى وَالِده) » . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح. وَأخرجه أَحْمد وَابْن مَاجَه من رِوَايَة الخشخشاش الْعَنْبَري قَالَ: «أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَعِي ابْني،(8/473)
(فَقَالَ) : ابْنك هَذَا؟ فَقلت: نعم. قَالَ: لَا يجني عَلَيْك وَلَا تجني عَلَيْهِ» . وَلأَحْمَد وَالنَّسَائِيّ - مَعْنَى هَذَا الحَدِيث - من رِوَايَة ثَعْلَبَة من زَهْدَم الْيَرْبُوعي، وللنسائي وَابْن مَاجَه وَابْن حبَّان من رِوَايَة طَارق الْمحَاربي، وَلابْن مَاجَه بن رِوَايَة أُسَامَة بن شريك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
(فَائِدَة) : قَالَ الرَّافِعِيّ: لَيْسَ المُرَاد من الحَدِيث الْمَذْكُور نفي نَفْس (الْجِنَايَة) ، وَإِنَّمَا الْمَعْنى أَنه لَا يلزمك مُوجب جِنَايَته، وَلَا يلْزمه مُوجب جنايتك.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْخمسين
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «مَا (كَانَت) تقطع الْيَد فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الشَّيْء التافه» .
(هَذَا الحَدِيث) سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي «كتاب اللّقطَة» فَرَاجعه مِنْهُ.(8/474)
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْخمسين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جعل الدِّيَة عَلَى الْعَاقِلَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف قَرِيبا (فَرَاجعه) .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْخمسين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تحمل الْعَاقِلَة عمدا وَلَا اعترافًا» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب بِهَذَا اللَّفْظ وَعَزاهُ الإِمَام فِي «نهايته» إِلَى رِوَايَة الْفُقَهَاء، فَقَالَ: قد رَوَى الْفُقَهَاء، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تحمل الْعَاقِلَة عبدا وَلَا اعترافًا» ، وغالب ظَنِّي أَن الصَّحِيح الَّذِي أوردهُ أَئِمَّة الحَدِيث: «لَا تحمل الْعَاقِلَة عمدا وَلَا اعترافًا» فَلَو صَحَّ النَّقْل فِي (العَبْد) عَسُر التَّأْوِيل. وكأنَّ الرَّافِعِيّ تبعه فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَاخِر الْبَاب إِن هَذَا الحَدِيث (مِمَّا) تكلمُوا فِي ثُبُوته، وَنقل ابْن الصّباغ أَن الْخَبَر لم يثبت مُتَّصِلا، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف عَلَى ابْن الْعَبَّاس.
قلت: وَالْمَعْرُوف فِي كتب الحَدِيث مَا فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» من حَدِيث ابْن وهب عَن الْحَارِث بن نَبهَان، عَن مُحَمَّد (بن) سعيد عَن رَجَاء بن حَيْوَة، عَن (جُنَادَة) بن أبي أُميَّة، عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تجْعَلُوا عَلَى الْعَاقِلَة من دِيَة الْمُعْتَرف شَيْئا» . وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، الْحَارِث مَتْرُوك مُنكر الحَدِيث، كَمَا قَالَه أَحْمد(8/475)
وَالْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ. وَمُحَمّد بن سعيد - أَظُنهُ المصلوب - الشَّامي الْكذَّاب الوضاع، قَالَ أَحْمد: حَدِيثه حَدِيث مَوْضُوع. وَاعْترض ابْن الْقطَّان عَلَى عبد الْحق حَيْثُ أعل الحَدِيث بِمُحَمد بن سعيد، وَقَالَ: أَظُنهُ المصلوب وَأصَاب فِي تشككه فِيهِ. وَلكنه ترك من لَا يشك فِي تَعْلِيله (بِهِ) وَهُوَ الْحَارِث بن نَبهَان.
وَرُوِيَ عَن جماعات مَوْقُوفا عَلَيْهِم رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عَامر [عَن عمر] أَنه قَالَ: «الْعمد وَالْعَبْد وَالصُّلْح وَالِاعْتِرَاف لَا تعقله الْعَاقِلَة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (كَذَا) قَالَ: عَن عَامر، عَن عمر، وَهُوَ عَن عمر مُنْقَطع. قلت: وَضَعِيف، فَإِن فِيهِ عبد الْملك بن حُسَيْن وَقد ضَعَّفُوهُ قَالَ: وَالْمَحْفُوظ أَنه عَن عَامر الشّعبِيّ من قَوْله: «لَا تعقل الْعَاقِلَة عبدا وَلَا عمدا وَلَا صلحا وَلَا اعترافًا» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من هَذِه الطَّرِيق، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا أَنه قَالَ: «لَا تحمل الْعَاقِلَة عمدا وَلَا صلحا وَلَا اعترافًا وَلَا مَا جنَى(8/476)
الْمَمْلُوك» وَرَوَى مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: «مَضَت السّنة أَن الْعَاقِلَة لَا تحمل شَيْئا (من دِيَة الْعمد إِلَّا أَن تعينه الْعَاقِلَة من طيب نَفْس» قَالَ مَالك: وحَدثني يَحْيَى بن سعيد) مثل ذَلِك، قَالَ يَحْيَى: وَلم أدْرك النَّاس إِلَّا عَلَى ذَلِك، وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْفُقَهَاء من أهل الْمَدِينَة أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: «لَا تحمل (الْعَاقِلَة) مَا كَانَ عمدا وَلَا بصلح وَلَا اعْتِرَاف وَلَا ماجنى الْمَمْلُوك، إِلَّا أَن يُحِبُّوا ذَلِك طولا مِنْهُم» .
الحَدِيث السِّتُّونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بالغرة عَلَى الْعَاقِلَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن امْرَأتَيْنِ ضربت إِحْدَاهمَا بعمود فَأسْقطت، فَرفع ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَضَى فِيهِ بغرة وَجعله عَلَى أَوْلِيَاء الْمَرْأَة» . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ: «وَجعله عَلَى عَاقِلَة الْمَرْأَة» وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: «عَلَى عصبَة الْمَرْأَة» .(8/477)
الحَدِيث الْحَادِي بعد السِّتين
قَالَ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» : لَا أعلم مُخَالفا: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَة فِي ثَلَاث سِنِين» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: تكلم أَصْحَابنَا فِي وُرُود الْخَبَر بذلك، فَمنهمْ من قَالَ: ورد وَنسب إِلَى رِوَايَة عَلّي كرم الله وَجهه. وَمِنْهُم من قَالَ: أَرَادَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَة. وَأما التنجيم فَلم يرد بِهِ الْخَبَر، وَأخذ ذَلِك من إِجْمَاع الصَّحَابَة، كَمَا رُوِيَ عَن عمر وَعلي وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس: «أَنهم أجلوا الدِّيَة ثَلَاث سِنِين» انْتَهَى مَا ذكره وَمَا عزاهُ إِلَى الشَّافِعِي رَحْمَة الله عَلَيْهِ.
لم أره فِي كَلَام غَيره، وَقد أضَاف تَأْجِيل الدِّيَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مرّة فِيمَا رَوَاهُ الرّبيع عَنهُ كَمَا ذكره فِي «الرسَالَة» وأضافه مرّة أُخْرَى فِيهَا إِلَى قَول الْعَامَّة، وَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِك التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» . وَنقل ابْن الرّفْعَة فِي «شرح الْوَسِيط» عقب قَول الشَّافِعِي السالف فِي «الْمُخْتَصر» عَن ابْن الْمُنْذر، أَن مَا ذكره الشَّافِعِي لَا يعرف لَهُ أصل من كتاب وَلَا سنة (وَأَن) أَحْمد بن حَنْبَل سُئِلَ عَنهُ، فَقَالَ: لَا أعرف فِيهِ شَيْئا. فَقيل لَهُ: إِن أَبَا عبد الله رَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: لَعَلَّه سَمعه من ذَلِك الْمدنِي فَإِنَّهُ كَانَ حسن الظَّن فِيهِ - يَعْنِي عَن ابْن أبي يَحْيَى. قَالَ ابْن دَاوُد من أَصْحَابنَا فِي «شرح الْمُخْتَصر» كَانَ الشَّافِعِي يروي هَذَا الحَدِيث وَيَقُول: حَدثنِي من هُوَ ثِقَة فِي الحَدِيث غير ثِقَة فِي دينه. ورد(8/478)
ابْن الرّفْعَة عَلَى ابْن الْمُنْذر مقَالَته الْمَذْكُورَة فَقَالَ: جَوَابه أَن من عرف حجَّة عَلَى من لم يعرف، وَقَول الشَّافِعِي لَا يرد بِمثل ذَلِك وَهُوَ أعرف الْقَوْم بالأخبار والتواريخ. وَلما ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» قولة الشَّافِعِي السالفة لم يعقبها إِلَّا بِقَضَاء عمر وَعلي، وَقَول يَحْيَى بن سعيد: «أَنه السّنة» فَإِنَّهُ رَوَى عَن الْحَاكِم، عَن الْأَصَم، عَن الرّبيع، عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: وجدنَا عَاما فِي أهل الْعلم «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي جِنَايَة الْحر الْمُسلم عَلَى الْحر خطأ مائَة من الْإِبِل عَلَى عَاقِلَة الْجَانِي» ، وعامًا فيهم أَنَّهَا فِي مُضِيّ الثَّلَاث سِنِين فِي كل سنة ثلثهَا وبأسنان مَعْلُومَة. ثمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ، عَن الْأَشْعَث بن سوار، عَن عَامر الشّعبِيّ، قَالَ: جعل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الدِّيَة فِي ثَلَاث سِنِين، وثلثي الدِّيَة فِي سنتَيْن، وَنصف الدِّيَة فِي سنتَيْن، وَثلث الدِّيَة فِي سنة» قَالَ: وَقَالَ لي مَالك مثل ذَلِك سَوَاء، وَقَالَ لي مَالك: فِي النّصْف يكون فِي سنتَيْن؛ لِأَنَّهُ زِيَادَة عَلَى الثُّلُث.
قلت: وَهَذَا مُنْقَطع. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن يزِيد بن أبي حبيب «أَن عليّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَضَى بِالْعقلِ فِي قتل الْخَطَأ فِي ثَلَاث سِنِين» وَعَن يَحْيَى بن سعيد: «أَن من السّنة أَن تنجَّم الدِّيَة فِي ثَلَاث سِنِين» هَذَا مَجْمُوع مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ، وَبَقِي عَلَيْك أثر ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَلَا يحضرني من خرجه عَنْهُمَا.(8/479)
الحَدِيث الثَّانِي بعد السِّتين
رُوِيَ فِي الْخَبَر: «لَا تحمل الْعَاقِلَة عمدا وَلَا عبدا وَلَا اعترافًا» .
هَذَا الحَدِيث سلف قَرِيبا الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا، وَبَقِي عَلَيْك أَن تعرف مَعْنَى قَوْله: «عبدا» ، وَنقل الْبَيْهَقِيّ عَن أبي عبيد أَنه قَالَ: اخْتلفُوا فِي تَأْوِيله، فَقَالَ لي مُحَمَّد بن الْحسن: إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَن يقتل العَبْد حرًّا، يَقُول: فَلَيْسَ عَلَى عَاقِلَة مَوْلَاهُ شَيْء من جِنَايَة عَبده، وَإِنَّمَا جِنَايَته فِي رقبته، وَاحْتج فِي ذَلِك بِشَيْء رَوَاهُ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، عَن أَبِيه، عَن عبيد الله بن عبد الله، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «لَا تعقل الْعَاقِلَة عمدا وَلَا صلحا وَلَا اعترافًا وَلَا مَا جنَى الْمَمْلُوك» . قَالَ أَبُو عبيد: وَقَالَ ابْن أبي لَيْلَى: إِنَّمَا مَعْنَاهُ العَبْد يجني عَلَيْهِ، يَقُول: فَلَيْسَ عَلَى عَاقِلَة الْجَانِي شَيْء، إِنَّمَا ثمنه فِي مَاله خاصَّة. وَإِلَيْهِ ذهب الْأَصْمَعِي وَلَا يرَى فِيهِ قَول غَيره جَائِزا، يذهب إِلَى أَنه لَو كَانَ الْمَعْنى عَلَى مَا قَالَه لَكَانَ الْكَلَام لَا تعقل الْعَاقِلَة عَن عبد. قَالَ أَبُو عبيد: وَهُوَ عِنْدِي كَمَا قَالَ ابْن أبي لَيْلَى، وَعَلِيهِ كَلَام الْعَرَب.
الحَدِيث الثَّالِث بعد السِّتين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَة الْجَانِي» .
هَذَا الحَدِيث تكَرر فِي الْبَاب وَقد سلف قَرِيبا.(8/480)
الحَدِيث الرَّابِع بعد السِّتين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن امْرَأتَيْنِ من هُذَيْل رمت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بِحجر فقتلتها وَمَا فِي جوفها، فَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بغرة عبدٍ أَو وليدة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» . وَقد سلف بِلَفْظ آخر فِي الْبَاب. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى: «فَضربت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بِحجر فقتلتها وَمَا فِي جوفها، فَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْجَنِين بغرة عبدٍ أَو أمةٍ» .
قلت: صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ أَيْضا فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى: «فَقَضَى بدية جَنِينهَا غُرة عبد أَو أمة، فَقَالَ بَعضهم: كَيفَ ندي من لَا أكل وَلَا شرب وَلَا صَاح وَلَا اسْتهلّ فَمثل ذَلِك يطلّ - وَيروَى بَطل - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن هَذَا من إخْوَان (الْجَاهِلِيَّة) - وَيروَى أسجعًا كسجع الْجَاهِلِيَّة» .
قلت: هَذَا صَحِيح، وَقد أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة) والمغيرة بن شُعْبَة وَلَفْظهمَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: «الْكُهَّان» بدل «الْجَاهِلِيَّة» . فِي حَدِيث (مُغيرَة) «أسجع(8/481)
كسجع الْأَعْرَاب» . وَمَعْنى «يطلّ» يهدر. و «بَطل» من الْبطلَان. قَالَ الرَّافِعِيّ: يُقَال: «غرَّة عبد أَو أمة» عَلَى الْإِضَافَة. قَالَ: وَرُوِيَ عَلَى الْبَدَل وَهُوَ كَمَا قَالَ. قَالَ: والغرة الْخِيَار، وَيُقَال: طُلَّ دَمه، أَي (أهْدر) .
الحَدِيث الْخَامِس بعد السِّتين
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي غرَّة الْجَنِين الْيَهُودِيّ أَو النَّصْرَانِي فِيهِ أوجه. أَحدهَا: أَنه كمسلم قَالَ: وَقد يحْتَج لَهُ بِظَاهِر مَا رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي الْجَنِين بغرة» .
هَذَا الحَدِيث سلف فِي الْبَاب. لَكِن فِي جَنِين الْمَرْأَة السَّالفة الَّتِي ضربت بِحجر فقتلت وَمَا فِي بَطنهَا، فَتَأَمّله.
الحَدِيث السَّادِس بعد السِّتين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَسَوَاء كَانَت الْجِنَايَة عمدا أَو خطأ فالغرة عَلَى الْعَاقِلَة، كَمَا ورد بِهِ الْخَبَر.
وَهَذَا قد سلف فِي الْبَاب قَرِيبا. هَذَا آخر أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله ومنّه.
وَأما آثاره فسبعة وَثَلَاثُونَ:
أَحدهَا: عَن ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ فِي تخميس الدِّيَة وَقد سلف فِي أَوَائِل الْبَاب.
ثَانِيهَا: عَن سُلَيْمَان بن يسَار «أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: دِيَة الْخَطَأ مائَة(8/482)
من الْإِبِل» وَفصل كَذَلِك، وَهَذَا قد (تقدم) أَيْضا فِي الْموضع الْمَذْكُور. ثَالِثهَا: قَالَ الرَّافِعِيّ: عَن الْأَكْثَرين أَنه لَا (تتغلظ) بِمُجَرَّد الْقَرَابَة وَيعْتَبر مَعهَا الْمَحْرَمِيَّة، وَقد رُوِيَ عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَا يدل عَلَيْهِ ويشعر بِهِ وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق عبد الرَّزَّاق، ثَنَا معمر، عَن لَيْث، عَن مُجَاهِد «أَن عمر بن الْخطاب قَضَى فِيمَن قتل فِي الْحرم أَو فِي الشَّهْر الْحَرَام (أَو) هُوَ محرم: بِالدِّيَةِ وَثلث الدِّيَة» هَذَا لَفظه، (و) هَذَا مُنْقَطع وَضَعِيف، وَرُوِيَ بعضه من طَرِيق آخر وَهُوَ مُنْقَطع أَيْضا، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث (إِسْحَاق) بن يَحْيَى، عَن عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ: «زَاد - يَعْنِي عمر بن الْخطاب - ثلث الدِّيَة فِي الشَّهْر الْحَرَام، وَثلث الدِّيَة فِي الْبَلَد الْحَرَام» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة، عَن عمر مَا دلّ عَلَى التَّغْلِيظ فِي الشَّهْر الْحَرَام وَالْحُرْمَة. وَقد سلف حكم عمر فِيمَن قتل ابْنه فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» فِي الحَدِيث الثَّامِن مِنْهُ.
الْأَثر الرَّابِع وَالْخَامِس وَالسَّادِس: قَالَ الرَّافِعِيّ: عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك هَذِه الْأَسْبَاب الثَّلَاثَة لَا تَقْتَضِي التَّغْلِيظ، وَتمسك الْأَصْحَاب (للْمَذْهَب) بالآثار عَن عمر، وَعُثْمَان، وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وَادعوا فِيهَا الاشتهار وَحُصُول الِاتِّفَاق. هَذَا آخر كَلَامه. أما أثر عمر: فقد فَرغْنَا مِنْهُ(8/483)
آنِفا وَعرفت أَن لَيْسَ فِيهِ التَّغْلِيظ بِالْقَرَابَةِ. وَأما أثر عُثْمَان: فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شُعْبَة: حَدثنَا عبد الله بن أبي نجيح قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: «أَن امْرَأَة مولاة (للعبلات) وَطئهَا رجل فَقَتلهَا وَهِي فِي الْحرم، فَجعل لَهَا عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه دِيَة وَثلثا» وَرَوَاهُ من طَرِيق آخر كَذَلِك وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن [ابْن عُيَيْنَة عَن] أبي نجيح، عَن أَبِيه «أَن رجلا أوطأ امْرَأَة بِمَكَّة، فَقَضَى فِيهَا عُثْمَان (بِثمَانِيَة آلَاف) دِرْهَم: دِيَة وَثلث» . قَالَ الشَّافِعِي: ذهب عُثْمَان إِلَى التَّغْلِيظ (بقتلها) فِي الْحرم (قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَفِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور، عَن سُفْيَان فِي هَذَا الحَدِيث فِي ذِي الْقعدَة «فَقَتلهَا» ) وَأما أثر ابْن عَبَّاس: فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» مُتَّصِلا حَيْثُ قَالَ: روينَا عَن نَافِع بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «يُزَاد فِي دِيَة الْمَقْتُول فِي الشَّهْر الْحَرَام أَرْبَعَة (آلَاف) وَفِي دِيَة الْمَقْتُول فِي الْحرم» . وأسنده فِي «الْمعرفَة» من حَدِيث مُحَمَّد(8/484)
بن إِسْحَاق، عَن عبد الرَّحْمَن بن [أبي] زيد، عَن نَافِع بن جُبَير، قَالَ (قَالَ) ابْن عَبَّاس: «يُزَاد فِي دِيَة الْمَقْتُول فِي الْأَشْهر الْحَرَام أَرْبَعَة (آلَاف) وَفِي دِيَة الْمَقْتُول فِي الْحرم أَرْبَعَة (آلَاف) : دِيَة وَثلث» . وَرَوَاهُ ابْن حزم من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق. عَن عبد الرَّحْمَن بن [أبي] زيد، عَن نَافِع بن جُبَير قَالَ: «قتل رجل فِي الْبَلَد الْحَرَام فِي شهر حرَام، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: دِيَته اثْنَا عشر ألف دِرْهَم، والشهر الْحَرَام والبلد الْحَرَام أَرْبَعَة (آلَاف) » . وَاعْلَم أَن الرَّافعي ذكر بعد ذَلِك هَذِه الْآثَار أَيْضا، فَقَالَ يرْوَى عَن عمر «أَنه قَضَى فِيمَن قتل فِي الْحرم أَو فِي الشَّهْر الْحَرَام أَو محرما بدية وَثلث» (وَعَن عُثْمَان «أَنه قَضَى فِي امْرَأَة وطِئت بالأقدام بِمَكَّة بدية وَثلث) وَهُوَ ثَمَانِيَة (آلَاف) دِرْهَم» . ثمَّ حَكَى بعد ذَلِك وَجها أَنه إِذا تعدد سَبَب التَّغْلِيظ بِأَن قتل محرما(8/485)
فِي الْحرم، فَإِنَّهُ يُزَاد لكل سَبَب ثلث الدِّيَة فَيجب فِي قتل الْمحرم فِي الْحرم عشرُون ألف، وَيروَى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
الْأَثر السَّابِع إِلَى الثَّالِث عشر: عَن عمر وَعُثْمَان وَعلي والعبادلة - ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس - «دِيَة الْمَرْأَة عَلَى النّصْف من دِيَة الرجل» قَالَ الْأَصْحَاب: قد اشْتهر ذَلِك وَلم يخالفوا فَصَارَ إِجْمَاعًا.
أما الْأَثر عَن عمر وعليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: فَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مُحَمَّد بن الْحسن، أبنا مُحَمَّد بن أبان، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عمر وَعلي أَنَّهُمَا قَالَا: «عقل الْمَرْأَة عَلَى النّصْف من دِيَة (عقل) الرجل» . وَهَذَا مُنْقَطع كَمَا ترَاهُ، وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، عَن هشيم، أَخْبرنِي مُغيرَة، عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: «كَانَ فِيمَا جَاءَ بِهِ عُرْوَة الْبَارِقي إِلَى شُرَيْح من عِنْد عمر، أَن الْأَصَابِع سَوَاء الْخِنْصر والإبهام، وَأَن جراح الرِّجَال وَالنِّسَاء سَوَاء فِي السن (و) الْمُوَضّحَة، وَمَا خلا ذَلِك فعلَى النّصْف، وَأَن فِي عين الدَّابَّة ربع ثمنهَا، وَإِن أقل (الْأَحْوَال) أَن يصدق عَلَيْهَا عِنْد مَوته (وَلَده إِذا أقرّ بِهِ) قَالَ مُغيرَة: ونسيت الْخَامِسَة حَتَّى ذَكرنِي عُبَيْدَة أَن الرجل إِذا طلق امْرَأَته ثَلَاثًا ورثته مَا دَامَت فِي الْعدة» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُفْيَان، عَن جَابر، عَن الشّعبِيّ، عَن شُرَيْح قَالَ: «كتب إِلَى عمر (بِخمْس) من صوافي الْأُمَرَاء: أَن الْأَسْنَان(8/486)
سَوَاء، والأصابع سَوَاء، وَفِي عين الدَّابَّة ربع ثمنهَا، وَأَن الرجل يسْأَل عِنْد مَوته عَن وَلَده فَأَصدق مَا يكون عِنْد مَوته، وجراحات الرِّجَال وَالنِّسَاء (سَوَاء) إِلَى (الثُّلُث) » وَجَابِر ضَعِيف. وَرَوَى الشَّافِعِي أثر عَلّي: عَن مُحَمَّد بن الْحسن، أبنا أَبُو حنيفَة، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلّي أَنه قَالَ: «عقل الْمَرْأَة عَلَى النّصْف من عقل الرجل فِي النَّفس وَمَا دونهَا» . وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور أَيْضا عَن هشيم، عَن الشَّيْبَانِيّ، وَابْن أبي لَيْلَى وزَكَرِيا، عَن الشّعبِيّ أَن عليا كَانَ يَقُول: «جراحات النِّسَاء عَلَى النّصْف من دِيَة الرجل فِيمَا قل وَكثر» وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمَقْدِسِي: لَا نعلم (ثُبُوته عَن عَلّي) .
قلت: وَله (طَرِيق) آخر، عَن عَلّي ستعرفها بعد، وَأما أثر عُثْمَان: فَغَرِيب لَا يحضرني من خرجه عَنهُ، وَأما أثر ابْن مَسْعُود: فَرَوَاهُ أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ: نَا عَلّي بن الْجَعْد، أبنا شُعْبَة عَن الحكم، عَن الشّعبِيّ، عَن زيد بن ثَابت أَنه قَالَ: «جراحات الرِّجَال وَالنِّسَاء سَوَاء إِلَى (الثُّلُث) فَمَا زَاد فعلَى النّصْف» وَقَالَ ابْن مَسْعُود: «إِلَّا السن والموضحة فَإِنَّهُمَا سَوَاء، وَمَا زَاد فعلَى النّصْف» وَقَالَ عَلّي بن أبي طَالب: «عَلَى النّصْف فِي كل شَيْء» قَالَ: وَكَانَ قَول عَلّي أعجبها إِلَى الشّعبِيّ (وَرَوَى) أَيْضا من حَدِيث إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، عَن زيد بن ثَابت، وَابْن مَسْعُود، وَمن حَدِيث سُفْيَان، عَن ابْن مَسْعُود.(8/487)
وَأما أثر ابْن عمر: فَغَرِيب وَكَذَا أثر ابْن عَبَّاس ثمَّ إِن تَفْسِير الرَّافِعِيّ (العبادلة) بِثَلَاثَة: ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن مَسْعُود، تبع فِيهِ الزَّمَخْشَرِيّ فَإِنَّهُ (ذكره) كَذَلِك فِي «مفصلة» فِي الْكَلَام عَلَى علم العلمية، وَهُوَ غَرِيب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: عده لَهُم بِثَلَاثَة، وَالْمَعْرُوف أَنهم أَرْبَعَة صحابة أَوْلَاد صحابة. ثَانِيهمَا: عده ابْن مَسْعُود مِنْهُم، وَقد نَص الإِمَام أَحْمد (بن حَنْبَل) عَلَى أَنه لَيْسَ مِنْهُم والعبادلة عبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن الزبير، (هَكَذَا) ذكره أهل هَذَا الْفَنّ وَغَيرهم، وَفِي الصَّحَابَة من اسْمه عبد الله فَوق المئين لَكِن هَؤُلَاءِ اشتهروا بالعبادلة. يروي الْبَيْهَقِيّ عَن الإِمَام أَحْمد أَنه قيل لَهُ لما ذكر هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة (فَابْن) مَسْعُود؟ فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ من العبادلة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَسَببه أَن ابْن مَسْعُود تقدّمت وَفَاته وَهَؤُلَاء عاشوا حَتَّى احْتِيجَ إِلَى علمهمْ، فَإِذا اتَّفقُوا عَلَى شَيْء قيل هَذَا قَول العبادلة أَو فعلهم أَو مَذْهَبهم.
(تَنْبِيه) : (وَقع فِي) مبهمات النَّوَوِيّ و «تَهْذِيب الْأَسْمَاء واللغات» فِي تَرْجَمَة ابْن الزبير أَن صَاحب «الصِّحَاح» أثبت ابْن مَسْعُود فيهم وَحذف ابْن [عَمْرو] ثمَّ شرع يعْتَرض عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ قلد فِي ذَلِك غَيره، فَإِن الَّذِي فِي نسخ «الصِّحَاح» إِثْبَات ابْن [عَمْرو](8/488)
دون ابْن مَسْعُود، نعم حذف ابْن الزبير فَإِنَّهُ عدهم ثَلَاثَة فَتنبه لذَلِك.
الْأَثر الثَّالِث عشر وَالرَّابِع عشر وَالْخَامِس عشر: عَن عمر وَعُثْمَان وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «أَن دِيَة الْمَجُوسِيّ ثلثا عشر دِيَة الْمُسلم» فَصَارَ إِجْمَاعًا.
أما أثر عمر: فسلف فِي الْبَاب فِي الحَدِيث الثَّامِن عشر مِنْهُ من طَرِيق الشَّافِعِي عَنهُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن أبي الْمِقْدَام، عَن سعيد بن الْمسيب «أَن عمر قَضَى فِي دِيَة الْمَجُوسِيّ بثمانمائة دِرْهَم» ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث عَطاء، عَن عبيد بن عُمَيْر، عَن عمر بذلك، قَالَ: «والمجوسية أَرْبَعمِائَة دِرْهَم» عَن عمر قَالَ: (و) قَالَ لي مَالك مثله وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا.
وَأما أثر عُثْمَان: فَلَا يحضرني من خرجه عَنهُ. وَالشَّافِعِيّ إِنَّمَا حَكَاهُ عَن عمر وَحده، فَإِنَّهُ قَالَ: «قَضَى عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن عَفَّان فِي دِيَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ بِثلث دِيَة الْمُسلم، وَقَضَى عمر فِي دِيَة الْمَجُوسِيّ بثمانمائة دِرْهَم» . قَالَ الشَّافِعِي: وَلم نعلم أحدا قَالَ (فِي) دياتهم أقل من هَذَا.
وَأما أثر ابْن مَسْعُود: (فَرَوَاهُ) الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن ابْن شهَاب «أَن عليا وَابْن مَسْعُود كَانَا يَقُولَانِ فِي دِيَة الْمَجُوسِيّ بثمانمائة دِرْهَم» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ ذَلِك عَن(8/489)
ابْن لَهِيعَة، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي الْخَيْر، عَن عقبَة بن عَامر، مَرْفُوعا: «دِيَة الْمَجُوسِيّ ثَمَانمِائَة دِرْهَم» . (قَالَ الْبَيْهَقِيّ) : تفرد (بِهِ) أَبُو صَالح كَاتب اللَّيْث، وَالْأول أشبه أَن يكون مَحْفُوظًا.
الْأَثر السَّادِس عشر: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلَو طعنه وَنفذ السنان (من) الْبَطن حَتَّى خرج من الظّهْر أَو من أحد الجنبين إِلَى الآخر، فَفِيهِ وَجْهَان: وَيُقَال قَولَانِ أصَحهمَا: ويحكى عَن مَالك أَن الْحَاصِل جائفتان، لما رُوِيَ عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَضَى فِيهِ بِثُلثي الدِّيَة» وَلم يُخَالف، وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن عبيد الله، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن سعيد بن الْمسيب: «أَن رجلا رَمَى رجلا فأصابته جَائِفَة فَخرجت من الْجَانِب الآخر، فَقَضَى (فِيهَا) أَبُو بكر بِثُلثي الدِّيَة» . وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث سعيد بن مَنْصُور، ثَنَا هشيم، ثَنَا حجاج، حَدثنِي عَمْرو بن شُعَيْب، عَن سعيد بن الْمسيب، أَن أَبَا بكر: «قَضَى فِي الْجَائِفَة نفذت ثُلثي الدِّيَة» . (قلت) : وَكِلَاهُمَا مُرْسل؛ لِأَن سعيدًا لم يدْرك أَبَا بكر، فَإِنَّهُ ولد لِسنتَيْنِ بَقِيَتَا من خلَافَة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
الْأَثر السَّابِع عشر وَالثَّامِن عشر: عَن عمر وَعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنَّهُمَا قَالَا: «فِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَة» وَهَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنْهُمَا بِإِسْنَادِهِ، وَرَوَى عَن عمر «أَنه: قَضَى فِي الْأذن بِنصْف الدِّيَة» وَعَن عَلّي أَنه قَالَ:(8/490)
«فِي الْأذن النّصْف» قَالَ زيد بن أسلم: «مَضَت السّنة أَن فِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَة» . وَقَالَ عِكْرِمَة: «قَضَى (عمر) فِي الْأذن بِنصْف الدِّيَة» قَالَ معمر: وَالنَّاس عَلَيْهِ.
الْأَثر التَّاسِع عشر: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه قَضَى فِي الترقوة بجمل، وَفِي الضلع بجمل» وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ فِي «الْأُم» عَنهُ عَن زيد بن أسلم، عَن مُسلم بن جُنْدُب، عَن أسلم مولَى عمر بن الْخطاب «أَن عمر قَضَى فِي الضرس بجمل، وَفِي الترقوة بجمل، وَفِي الضلع بجمل» قَالَ الشَّافِعِي: فِي الأضراس خمس خمس؛ لما جَاءَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فِي السن خمس ... » وَكَانَت الضرس سنا، وَأَنا أَقُول بقول عمر فِي الترقوة والضلع؛ لِأَنَّهُ لم يُخَالِفهُ أحد من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيمَا عَلمته، فَلم أر أَن أذهب إِلَى رَأْي فأخالفه فِيهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِلَى هَذَا ذهب سعيد بن الْمسيب. قَالَ الشَّافِعِي: فَيُشبه أَن يكون مَا حُكيَ عَن عمر فِيمَا وصفت حُكُومَة لَا تَوْقِيت عقل، فَفِي كل عظم كسر من إِنْسَان غير السن حُكُومَة، وَلَيْسَ فِي (شَيْء) مِنْهَا أرش مَعْلُوم.
الْأَثر الْعشْرُونَ وَالْحَادِي بعده: عَن عمر وَزيد بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنَّهُمَا قَالَا: «فِي إذهاب الْعقل الدِّيَة» . وَهَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ(8/491)
عَنْهُمَا كَمَا سلف فِي الْبَاب فِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْأَرْبَعين.
الْأَثر الثَّانِي بعد الْعشْرين: عَن زيد بن أسلم أَنه قَالَ: «مَضَت السُّنة فِي إِيجَاب الدِّيَة فِيمَا إِذا جني عَلَى لِسَانه فَأبْطل كَلَامه» وَهَذَا لم أره كَذَلِك وَفِي الْبَيْهَقِيّ (من) حَدِيث ابْن وهب، أَخْبرنِي عِيَاض بن عبد الله الفِهري، أَنه سمع زيد بن أسلم يَقُول: «مَضَت السّنة فِي أَشْيَاء من الْإِنْسَان، قَالَ: وَفِي اللِّسَان الدِّيَة، وَفِي الصَّوْت إِذا انْقَطع الدِّيَة» . وَفِيه من حَدِيث عبد الله بن (عمر) مَرْفُوعا: « (و) فِي اللِّسَان الدِّيَة إِن امْتنع الْكَلَام» ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، مُحَمَّد بن عبيد الله الْعَرْزَمِي والْحَارث بن نَبهَان ضعيفان.
الْأَثر الثَّالِث وَالرَّابِع وَالْخَامِس بعد الْعشْرين: (حَدِيث أبي بكر وَعمر وَعلي) أَنهم قَالُوا: «إِذا جنَى إِنْسَان (عَلَى آخر فِي صلبه) (فَذهب) جمَاعُة أَن الدِّيَة تلْزمهُ» . وَهَذَا لَا يحضرني من خرجه (عَنهُ) ، وَقد سلف فِي حَدِيث عَمْرو بن حزم الطَّوِيل: « (أَن) فِي الصلب الدِّيَة» .
الْأَثر السَّادسُ بعد الْعشْرين:
عَن زيد بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «فِي الْإِفْضَاء الدِّيَة» . وَهَذَا الْأَثر(8/492)
لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ.
الْأَثر (السَّابِع) وَالثَّامِن وَالتَّاسِع بعد الْعشْرين: (عَن) عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن جراح العَبْد من ثمنه كجراح الْحر من دِيَته» وَعَن عَليّ مثله وَهَذَا لَا يحضرني من خرجه عَنْهُمَا. نعم فِي الْبَيْهَقِيّ عَنْهُمَا: فِي الْحر يقتل العَبْد ثمنه بَالغا مَا بلغ» قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالْمرَاد من الثّمن: الْقيمَة، (قَالَ) وَعَن سعيد بن الْمسيب مثلهمَا.
قلت: هَذَا ذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» وأسنده الْبَيْهَقِيّ إِلَى الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَنهُ، أَنه قَالَ: «عقل العَبْد فِي ثمنه» . وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «عقل العَبْد فِي ثمنه مثل عقل الْحر فِي دِيَته» .
الْأَثر الثَّلَاثُونَ: ن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أرسل إِلَى امْرَأَة ذكرت عِنْده بِسوء فأجهضت مَا فِي بَطنهَا، فَقَالَ عمر للصحابة: مَا ترَوْنَ؟ فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: إِنَّمَا أَنْت مؤدب، لَا شَيْء عَلَيْك. فَقَالَ: لعَلي: مَاذَا تَقول؟ فَقَالَ إِن لم يجْتَهد فقد غشك، وَإِن اجْتهد فقد أَخطَأ، أرَى أَن عَلَيْك الدِّيَة. فَقَالَ عمر: أَقْسَمت عَلَيْك لتفرقها فِي قَوْمك» . وَهَذَا الْأَثر علقه الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ فِي «سنَنه» وَيذكر عَن الْحسن «أَنه قَالَ لعمر فِي جِنَايَة جناها عمر: عزمت لما قسمت الدِّيَة عَلَى بني ابْنك. قَالَ: فقسمتها عَلَى(8/493)
قُرَيْش» . وَقَالَ فِي «سنَنه» فِي «بَاب الشَّارِب يضْرب زِيَادَة عَلَى الْأَرْبَعين» قَالَ الشَّافِعِي: بلغنَا «أَن عمر بن الْخطاب أرسل (إِلَى امْرَأَة) فَفَزِعت فأجهضت مَا فِي بَطنهَا، فَاسْتَشَارَ عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يَدَيْهِ، فَأمر عمر عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فَقَالَ: عزمت عَلَيْك لتقسمنها عَلَى قَوْمك» وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مطر الْوراق، عَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: «أرسل عمر إِلَى امْرَأَة مغيبة كَانَ يدْخل عَلَيْهَا فَأنْكر ذَلِك، فَقيل لَهَا: أجيبي عمر. قَالَت: وَيْلَهَا مَالهَا ولعمر. فَبَيْنَمَا هِيَ فِي الطَّرِيق ضربهَا الطلق فَدخلت دَارا (فَأَلْقَت) وَلَدهَا، فصاح الصَّبِي صيحتين وَمَات، فَاسْتَشَارَ عمر الصَّحَابَة فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعضهم أَن لَيْسَ لَهَا عَلَيْك؛ شَيْء إِنَّمَا أَنْت والٍ ومؤدب، فَقَالَ: مَا تَقول يَا عَلّي؟ فَقَالَ: إِن كَانُوا قَالُوا برأيهم فقد أخطأوا رَأْيهمْ، وَإِن كَانُوا قَالُوا فِي هَوَاك فَلم ينصحوا لَك، أرَى أَن دِيَته عَلَيْك لِأَنَّك أَنْت أفزعتها وَأَلْقَتْ وَلَدهَا من سببك. فَأمر عَلّي أَن يُقيم عقله عَلَى قُرَيْش؛ فَأخذ عقلهَا من قُرَيْش لِأَنَّهُ أَخطَأ» وَهَذَا مُنْقَطع، الْحسن لم يدْرك عمر.
فَائِدَة: قَوْله «لتفرقها فِي قَوْمك» قَالَ الرَّافِعِيّ: (قيل) أَرَادَ بِهِ قومه لَكِن أضافهم إِلَى عَلّي إِكْرَاما وإظهارًا للاتحاد.
الْأَثر الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ: رُوِيَ «أَن بَصيرًا كَانَ يَقُود أَعْمَى فَوَقع الْبَصِير فِي بِئْر فَوَقع الْأَعْمَى فَوْقه فَقتله، فَقَضَى عمر بعقل الْبَصِير عَلَى الْأَعْمَى، فَذكر أَن الْأَعْمَى كَانَ ينشد فِي الْمَوْسِم:(8/494)
يَا أَيهَا النَّاس رأيتُ مُنْكرا
هَل يعقل الْأَعْمَى الصحيحَ المبصرا
خرّا مَعًا كِلَاهُمَا تكسرا» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث زيد بن الْحباب عَن موسي بن عَلّي بن رَبَاح اللَّخْمِيّ قَالَ: سَمِعت أبي (يَقُول) : «إِن أَعْمَى كَانَ ينشد فِي الْمَوْسِم فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب وَهُوَ يَقُول: أَيهَا النَّاس ... » إِلَى آخِره، إِلَّا أَنه قَالَ «لقِيت» بدل «رَأَيْت» . وَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا.
الْأَثر الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ: قَالَ الرَّافِعِيّ: فِي الْكَلَام عَلَى من يتَحَمَّل الْعَاقِلَة لَا يتَحَمَّل (أهل) الدِّيوَان بَعضهم من بعض. وَالْمرَاد الَّذين رتبهم الإِمَام للْجِهَاد وأدرَّ لَهُم أرزاقًا وجعلهم تَحت راية أَمِير يصدرون عَن رَأْيه، وَعند أبي حنيفَة: يتَحَمَّل بَعضهم من بعض، وَإِن لم يكن قرَابَة ويقدمون عَلَى الْقَرَابَة اتبَاعا لما ورد من قَضَاء عمر. قَالَ: وَاحْتج الْأَصْحَاب بِأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَة، وَلم يكن فِي عَهده ديوَان، وَلَا فِي عهد أبي بكر، وَإِنَّمَا وَضعه عمر حِين كثر النَّاس، وَاحْتَاجَ إِلَى ضبط الْأَسْمَاء والأرزاق فَلَا يتْرك مَا اسْتَقر فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (مِمَّا) أحدث بعده، وَقَضَاء عمر كَانَ فِي الْأَقَارِب من أهل الدِّيوَان. هَذَا آخر كَلَامه. وَقَضَاء عمر هَذَا قد أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» «بَاب من فِي الدِّيوَان وَمن لَيْسَ فِيهِ من الْعَاقِلَة(8/495)
سَوَاء. ثمَّ رَوَى فِيهِ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي الزبير (عَن جَابر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَلَى كل بطن عقوله» . وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي الزبير) أَنه سمع جَابِرا يَقُول: «كتب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى كل بطن عقولة» . رَوَاهُ مُسلم. قَالَ الشَّافِعِي: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْعَاقِلَة، وَلَا ديوَان حَتَّى كَانَ الدِّيوَان حِين كثر المَال فِي زمَان عمر» . ثمَّ رَوَى عَن جَابر بن عبد الله: «أول من دون الدَّوَاوِين وَعرف العرفاء عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» . (وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ) وَالْحَاكِم عَن الْأَصَم، ثَنَا (أَحْمد بن) عبد الْجَبَّار، نَا يُونُس بن بكير، عَن أبي إِسْحَاق، حَدثنِي عمر بن مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الْأَخْنَس بن شريق قَالَ: «أخذت من آل عمر بن الْخطاب هَذَا الْكتاب - كَانَ مَقْرُونا (بِكِتَاب) الصَّدَقَة الَّذِي كتب (للعمال) -: بِسْم الِلَّه اِلرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كتاب مُحَمَّد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَين الْمُسلمين وَالْمُؤمنِينَ من قُرَيْش ويثرب وَمن تَبِعَهُمْ فلحق بهم وجاهد مَعَهم، أَنهم أمة وَاحِدَة دون النَّاس (الْمُهَاجِرين) من قُرَيْش عَلَى ربعتهم (يتعاقلون) بَينهم وهم يفدون عانيهم بِالْمَعْرُوفِ والقسط بَين الْمُؤمنِينَ، وَبَنُو عَوْف -(8/496)
يَعْنِي الْأَنْصَار - عَلَى ربعتهم (يتعاقلون) ، (معاقلهم الأولَى وكل طَائِفَة تفدي عانيها بِالْمَعْرُوفِ والقسط بَين الْمُؤمنِينَ) ثمَّ ذكر عَلَى هَذَا النسق بني الْحَارِث، ثمَّ بني سَاعِدَة، ثمَّ بني (خَيْثَمَة) ثمَّ بني النجار، ثمَّ بني عَمْرو بن عَوْف، ثمَّ بني النبيت، ثمَّ بني الْأَوْس، ثمَّ قَالَ: وَإِن الْمُؤمنِينَ لَا يتركون مُفْرَحًا مِنْهُم أَن يعطوه بِالْمَعْرُوفِ فِي فدَاء أَو عقل» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَى كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف، عَن أَبِيه، عَن جده، أَنه قَالَ: «كَانَ فِي كتاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن كل طَائِفَة تفدي عانيها بِالْمَعْرُوفِ والقسط بَين الْمُؤمنِينَ، وَأَن عَلَى الْمُؤمنِينَ أَن لَا يتْركُوا مُفْرَحًا مِنْهُم حَتَّى يعطوه فِي فدَاء أَو عقل» . قَالَ الْأَصْمَعِي فِي «المُفْرح» بِالْحَاء هُوَ الَّذِي قد أفرحه (الدَّين) - يَعْنِي أثقله.
الْأَثر الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَضَى عَلَى عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِأَن يعقل عَن موَالِي صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب، وَقَضَى بِالْمِيرَاثِ لابنها الزبير الْعَوام، وَلم يضْرب الدِّيَة عَلَى الزبير، وضربها عَلَى (عليِّ) لِأَنَّهُ كَانَ ابْن أَخِيهَا» . هَذَا الْأَثر ذكره الشَّافِعِي حَيْثُ قَالَ: «قَضَى عمر عَلَى(8/497)
عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، بِأَن يعقل عَن موَالِي صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب، وَقَضَى للزبير بميراثها؛ لِأَنَّهُ ابْنهَا» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُفْيَان، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم «أَن عليًّا وَالزبير اخْتَصمَا فِي موَالِي لصفية إِلَى عمر بن الْخطاب فَقَضَى بِالْمِيرَاثِ للزبير وَالْعقل عَلَى عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وسها الإِمَام وَالْغَزالِيّ فِي «الْوَسِيط» فَجعلَا عليًّا ابْن عَمها. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أوضحت ذَلِك فِي تخريجي لأحاديث «الْوَسِيط» فَرَاجعه مِنْهُ.
الْأَثر الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «دِيَة الْمَرْأَة تضرب فِي سنتَيْن، تُؤْخَذ فِي آخر السّنة الأولَى ثلث دِيَة الرجل، وَالْبَاقِي فِي آخر السّنة الثَّانِيَة» . وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِنَحْوِهِ من حَدِيث عَامر الشّعبِيّ قَالَ: «جعل عمر بن الْخطاب الدِّيَة فِي ثَلَاث سِنِين، وثلثي الدِّيَة فِي سنتَيْن، وَنصف الدِّيَة فِي سنتَيْن، وَثلث الدِّيَة فِي سنة» . وَقد سلف هَذَا فِي الْأَحَادِيث فِي الحَدِيث الْحَادِي بعد السِّتين.
الْأَثر الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنه قَالَ: «العَبْد لَا يغرم سَيّده فَوق نَفسه شَيْئا» . وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مُجَاهِد عَنهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور بِزِيَادَة «وَإِن كَانَ الْمَجْرُوح أَكثر من ثمن العَبْد فَلَا يُزَاد لَهُ» .
الْأَثر السَّادِس (وَالسَّابِع) بعد الثَّلَاثِينَ: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قوم الغُرة بِخمْس من الْإِبِل» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ عَن زيد بن ثَابت، وَفِي(8/498)
رِوَايَة عَنهُ: أَن ذَلِك عِنْد عدم الْغرَّة وَهَذَا (غَرِيب) عَنهُ، وَالَّذِي أعرفهُ عَن عمر مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ: «أَنه قوم الْغرَّة بِخَمْسِينَ دِينَارا» ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده مُنْقَطع وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَن مَالك وَيَحْيَى بن أَيُّوب عَن ربيعَة أَنه بلغه «أَن الْغرَّة تقوم خمسين دِينَارا أَو سِتّمائَة دِرْهَم، ودية الْمَرْأَة خَمْسمِائَة (دِينَار) أَو سِتَّة آلَاف دِرْهَم، ودية جَنِينهَا عشر دِيَتهَا» . قَالَ مَالك: فنرى أَن جَنِين الْأمة عشر دِيَة أمه (وَالله أعلم) .(8/499)
كتاب كَفَّارَة الْقَتْل(8/501)
كتاب كَفَّارَة الْقَتْل
ذكر فِيهِ حديثين وأثرًا وَاحِدًا
الحَدِيث الأول
عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «أَتَيْنَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي صَاحب لنا قد اسْتوْجبَ النَّار بِالْقَتْلِ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اعتقوا عَنهُ رَقَبَة يعْتق الله بِكُل عُضْو مِنْهَا عضوا مِنْهُ من النَّار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ (وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
(الحَدِيث) الثَّانِي
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْقَتْل كَفَّارَة» .
هَذَا الحَدِيث ذكره أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة خُزَيْمَة بن ثَابت، من حَدِيث ابْن وهب، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن بكير بن عبد(8/503)
الله، عَن ابْن الْمُنْكَدر، عَن ابْن خُزَيْمَة بن ثَابت عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «الْقَتْل كَفَّارَة» ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ قُتَيْبَة، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن ابْن الْمُنْكَدر نَفسه وَلم يذكر بكيرًا
قلت: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» مَوْقُوفا عَلَى الْحسن بن عَلّي وَابْن مَسْعُود فَقَالَ: أبنا عَلّي بن عبد الْعَزِيز، ثَنَا أَبُو نعيم، ثَنَا سُفْيَان، عَن يُونُس بن عبيد، عَن الْحسن، قَالَ: «كَانَ (زِيَاد) يتبع شيعَة عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فيقتلهم فَبلغ ذَلِك الْحسن بن عَلّي. فَقَالَ: اللَّهُمَّ (تفرد بِمَوْتِهِ) فَإِن الْقَتْل كَفَّارَة» . وَأخْبرنَا (الدبرِي) ، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن جريج، عَن بعض أَصْحَابه، عَن مجَالد، عَن الشّعبِيّ (عَن مَسْرُوق) فِي الَّذِي يُصِيب الْحُدُود ثمَّ يقتل عمدا، قَالَ: إِذا جَاءَ الْقَتْل محى كل شَيْء. ويغني عَن هَذَا كُله الحَدِيث الصَّحِيح الثَّابِت فِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَتَى مِنْكُم حدًّا أقيم عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَته، وَمن ستره الله عَلَيْهِ فَأمره إِلَى الله إِن شَاءَ عذبه، وَإِن شَاءَ غفر لَهُ» . قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي «شَرحه لمُسلم» : قَالَ أَكثر الْعلمَاء: الْحُدُود كَفَّارَة. اسْتِدْلَالا بِهَذَا الحَدِيث قَالَ: وَمِنْهُم من توقف لحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا أَدْرِي الْحُدُود كَفَّارَة» .(8/504)
قلت: أخرجه أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ القَاضِي: وَحَدِيث عُبادة الَّذِي نَحن فِيهِ أصح إِسْنَادًا، وَلَا تعَارض بَين الْحَدِيثين، فَيحْتَمل أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة قبل حَدِيث عُبادة فَلم يعلم (بِهِ) ثمَّ علم.
وَأما الْأَثر: فَهُوَ: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه صَاح بِامْرَأَة فَأسْقطت (جَنِينا) فَأعتق عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (غرَّة) » . وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن لَيْث، عَن شهر بن حَوْشَب، عَنهُ ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده مُنْقَطع قلت: وَضَعِيف. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَن عمر أَيْضا قَالَ: «جَاءَ قيس بن عَاصِم التَّمِيمِي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي وَأَدت فِي الْجَاهِلِيَّة ثَمَان بَنَات فَقَالَ: اعْتِقْ عَن كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ نسمَة» . ثمَّ ذكر لَهُ شَاهدا.(8/505)
كتاب دَعْوَى الدَّم والقسامة(8/507)
كتاب دَعْوَى الدَّم والقسامة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حديثين:
أَحدهمَا:
عَن سهل بن أبي حثْمَة: «أَن عبد الله بن سهل (ومحيصة) بن مَسْعُود خرجا إِلَى خَيْبَر، فتفرقا لحاجتهما، فَقتل عبد الله، فَقَالَ محيصة للْيَهُود: أَنْتُم قَتَلْتُمُوهُ، (قَالُوا) مَا قَتَلْنَاهُ، فَانْطَلق هُوَ وَأَخُوهُ حويصة و (عبد الرَّحْمَن) بن سهل أَخُو الْمَقْتُول رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكرُوا لَهُ قتل عبد الله بن سهل، فَقَالَ: تحلفون خمسين يَمِينا وتستحقون دم صَاحبكُم فَقَالُوا: يَا رَسُول الله لم نشْهد وَلم نحضر. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (فتحلف) لكم الْيَهُود، فَقَالُوا: كَيفَ نقبل أَيْمَان قوم كفار؟ فَذكر أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فدَاه من عِنْده، فَبعث إِلَيْهِم بِمِائَة نَاقَة، قَالَ سهل: لقد ركضتني مِنْهَا نَاقَة حَمْرَاء» . وَيروَى: «يقسم مِنْكُم خَمْسُونَ عَلَى رجل مِنْهُم فَيدْفَع برمتِهِ» وَفِي رِوَايَة «إِمَّا أَن تدوا صَاحبكُم، وَإِمَّا أَن تأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من(8/509)
حَدِيث سهل بن أبي حثْمَة، قَالَ: «انْطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مَسْعُود إِلَى خَيْبَر وَهِي يَوْمئِذٍ صلح فتفرقا، فَأَتَى محيصة إِلَى عبد الله بن سهل وَهُوَ يَتَشَحَّط فِي دَمه قَتِيلا فدفنه، ثمَّ قدم الْمَدِينَة فَانْطَلق (عبد الرَّحْمَن) بن سهل ومحيصة وحويصة ابْنا مَسْعُود إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَذهب عبد الرَّحْمَن يتَكَلَّم، فَقَالَ: كبر كبر. وَهُوَ أحدث الْقَوْم فَسكت، فتكلما، فَقَالَ: أتحلفون وتستحقون (دم) قاتلكم أَو صَاحبكُم. (قَالُوا) : وَكَيف نحلف وَلم نشْهد وَلم نر؟ قَالَ: فتبرئكم يهود بِخَمْسِينَ. قَالُوا: كَيفَ نَأْخُذ أَيْمَان قوم كفار؟ فعقله النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من عِنْده» وَفِي رِوَايَة لَهما (قَالَ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام) : «يقسم خَمْسُونَ مِنْكُم عَلَى رجل مِنْهُم فَيدْفَع برمتِهِ. قَالُوا: أمرٌ لم نشهده كَيفَ نحلف؟ قَالَ: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين مِنْهُم. قَالُوا: يَا رَسُول الله، قوم كفار! . (قَالَ) : فوداه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من قبله. قَالَ سهل: فَدخلت مربدًا لَهُم يَوْمًا، (فركضتني) نَاقَة من تِلْكَ الْإِبِل ركضة برجلها» وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث سهل بن أبي حثْمَة، عَن رجل من(8/510)
(كبراء) قومه «أَن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إِلَى خَيْبَر من جهد أَصَابَهُم فَأَتَى محيصة فَأخْبر (أَن) عبد الله بن سهل قد قتل وَطرح فِي عين أَو فَقير فَأَتَى يهود فَقَالَ: أَنْتُم وَالله قَتَلْتُمُوهُ. فَقَالُوا: وَالله مَا قَتَلْنَاهُ. ثمَّ أقبل حَتَّى قدم عَلَى قومه فَذكر ذَلِك لَهُم، ثمَّ أقبل هُوَ وَأَخُوهُ حويصة - وَهُوَ أكبر مِنْهُ - وَعبد الرَّحْمَن بن سهل، فَذهب محيصة ليَتَكَلَّم - وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَر - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لمحيصة: كَبِّر، كَبِّر - يُرِيد السِّنَّ - فَتكلم حويصة ثمَّ تكلم محيصة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِمَّا أَن تدوا صَاحبكُم وَإِمَّا أَن تؤذنوا (بِحَرب) . فَكتب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (إِلَيْهِم) فِي ذَلِك، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَالله مَا قَتَلْنَاهُ. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لحويصة ومحيصة: فتحلفون وتستحقون دم صَاحبكُم؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فتحلف لكم يهود؟ قَالُوا: لَيْسُوا مُسلمين. فوداه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من عِنْده، فَبعث إِلَيْهِم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مائَة نَاقَة حَتَّى (أدخلت) عَلَيْهِم الدَّار. فَقَالَ سهل: فَلَقَد ركضتني مِنْهَا نَاقَة حَمْرَاء» . هَذَا كُله لفظ مُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ عَن سهل بن أبي حثْمَة «هُوَ وَرِجَال من كبراء قومه ... » الحَدِيث، وَفِيه: «فَذهب محيصة ليَتَكَلَّم ... » وَفِي آخِره «فوداه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من عِنْده بِمِائَة نَاقَة حَتَّى (أدخلت) الدَّار، قَالَ سهل: فركضتني مِنْهَا نَاقَة» وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «تَأْتُونِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى من قَتله. قَالُوا: مَا لنا بَيِّنَة. قَالَ: فَيحلفُونَ. قَالُوا: لَا نرضى بأيمان الْيَهُود. فكره رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يبطل(8/511)
دَمه فوداه (رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) مائَة نَاقَة من إبل الصَّدَقَة» وَذكر مُسلم إِسْنَاده وَذكر بعضه وسَاق الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: «فكره ... ...» إِلَى آخِره.
فَائِدَة: حويصة ومحيصة: بتَشْديد الْيَاء عَلَى الْأَشْهر وَحكي تخفيفها. وَقَوله: «فوداه» هُوَ بتَخْفِيف الدَّال أَي دفع دِيَته وَقَوله: «من عِنْده» يحْتَمل أَنه من خَالص مَاله، وَيحْتَمل أَنه من مَال بَيت المَال. وَقَوله: «من إبل الصَّدَقَة» قَالَ بَعضهم: إِنَّهَا غلط من الروَاة؛ لِأَن الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة لَا تصرف هَذَا الْمصرف، إِنَّمَا تصرف لأصناف سماهم الله. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي من أَصْحَابنَا: ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنه يجوز صرفهَا من إبل الصَّدَقَة. وتأوله (جمهورهم) عَلَى أَنه اشْتَرَاهَا من إبل الصَّدَقَة بعد أَن ملكوها، ثمَّ دَفعهَا (تَبَرعا) إِلَى أهل الْقَتِيل. «والرُّمه» (الْمَذْكُورَة) فِي الحَدِيث المُرَاد بهَا الْحَبل الَّذِي فِي رَقَبَة الْقَاتِل، فَيسلم فِيهِ إِلَى ولي الْمَقْتُول. و (المربد) بِكَسْر الْمِيم وَفتح الْبَاء، الْموضع الَّذِي تجمع فِيهِ الْإِبِل وتجلس. «وَالْفَقِير» الْبِئْر الْقَرِيب القعر الواسعة الْفَم، وَقيل: هُوَ الحفرة الَّتِي تكون حول الْمحل.
فَائِدَة: فِي «مُصَنف عبد الرَّزَّاق» أَنه أول من كَانَت فِيهِ الْقسَامَة فِي الْإِسْلَام.
تَنْبِيهُ: قَالَ الرَّافِعِيّ: فَإِن (كَانَ) الْوَارِث جمَاعَة فَقَوْلَانِ:(8/512)
أَحدهمَا أَن كل وَاحِد مِنْهُم يحلف خمسين يَمِينا، وأصحهما أَن الْأَيْمَان توزع عَلَيْهِم عَلَى قدر مواريثهم؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «يحلفُونَ خمسين يَمِينا» فَلم يُوجب عَلَى الْجَمَاعَة إِلَّا الْخمسين. هَذَا آخر كَلَامه وَالِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث عَجِيب؛ لِأَن الْوَارِث إِنَّمَا هُوَ أَخُو الْقَتِيل وَهُوَ أَخُو عبد الرَّحْمَن بن سهل، وحويصة ومحيصة أَعْمَامه، والحالف إِنَّمَا هُوَ الْوَارِث، إِنَّمَا عبر عَلَيْهِ السَّلَام بقوله «تحلفون» لِأَن الْحلف وَإِن صدر من وَاحِد لَكِن بعد اتِّفَاق العمين فِي الْعَادة فَإِنَّهُمَا حضرا مَعَهُمَا فِي الْقِصَّة فَعبر عَن اتِّفَاقهم (عَلَى الْحلف وَأَن صدر من وَاحِد) مجَازًا، وَهُوَ مجَاز شَائِع، والغريب أَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ قد نبه عَلَى هَذَا كُله وَقد كَانَ يكثر من نَظِير كَلَامه.
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْبَيِّنَة عَلَى من ادَّعَى وَالْيَمِين عَلَى من أنكر إِلَّا فِي الْقسَامَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُسلم (بن) خَالِد الزنْجِي، عَن ابْن جريج، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء. وَلم يضعفاه، وَمُسلم هَذَا فِيهِ مقَال. وَثَّقَهُ قوم وضعَّفه آخَرُونَ، لَا جرم قَالَ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» بعد أَن أخرجه من هَذِه الطَّرِيق: فِي إِسْنَاده لين.(8/513)
قلت: وَثمّ عِلّة أُخْرَى وَهِي أَن ابْن جريج لم يسمع من عَمْرو بن شُعَيْب كَمَا قَالَه البُخَارِيّ فِيمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ فِي «سنَنه» فِي «بَاب وجوب (الْفطْرَة) عَلَى أهل الْبَادِيَة» . وَعلة أُخْرَى وَهِي أَن مُسلم بن خَالِد قد خُولِفَ فِيهِ، فَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق و [حجاج] ، عَن ابْن جريج، عَن عَمْرو مُرْسلا، ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا وَاخْتلف فِيهِ عَلَى مُسلم أَيْضا، فَرَوَاهُ عُثْمَان بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الرَّازِيّ عَنهُ، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن أبي هُرَيْرَة، مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ (أَيْضا) فِي «سنَنه» وَابْن عدي من هَذِه الطَّرِيق، ثمَّ قَالَ: هَذَانِ الإسنادان - يَعْنِي هَذَا وَالَّذِي قبله - يعرفان بِمُسلم بن خَالِد. وَذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا فِي الْبَاب عَن «التَّتِمَّة» : أَنه لَو وجد قَتِيل بَين قريتين أَو قبيلتين وَلم يعرف بَينه وَبَين (وَاحِد مِنْهُم) عَدَاوَة فَلَا يَجْعَل قربه من إِحْدَاهمَا لوثًا؛ لِأَن (الْعَادة) جرت بِأَن يبعد الْقَاتِل الْقَتِيل عَن (فنائه) وينقله إِلَى بقْعَة أُخْرَى دفعا للتُّهمَةِ عَن نَفسه وَمَا(8/514)
رُوِيَ فِي الْخَبَر والأثر عَلَى خلاف مَا ذَكرْنَاهُ، فَإِن الشَّافِعِي لم يثبت إِسْنَاده. هَذَا كَلَامه، وَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى حَدِيث أبي إِسْرَائِيل، عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «وجد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَتِيلا بَين قريتين فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فذرع) مَا بَينهمَا قَالَ: فَكَأَنِّي انْظُر إِلَى شبر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . (رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد وَلَفظه: «أَن قَتِيلا وجد بَين حيَّين، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُقَاس إِلَى أَيَّتهمَا أقرب، فَوجدَ أقرب إِلَى أحد الْحَيَّيْنِ بشبر، فَقَالَ أَبُو سعيد: فَكَأَنِّي أنظر إِلَى شبر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) فَألْقَى دِيَته عَلَيْهِم» . ترْجم عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» «بَاب مَا رُوِيَ فِي الْقَتِيل يُوجد بَين قريتين» وَلَا يَصح. ثمَّ قَالَ بعد إِيرَاده: تفرد بِهِ أَبُو إِسْرَائِيل، عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ، وَكِلَاهُمَا لَا يحْتَج (بروايته) . وَأما الْأَثر فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي، ثَنَا سُفْيَان، عَن مَنْصُور، عَن الشّعبِيّ، أَن عمر بن الْخطاب: «كتب فِي قَتِيل وجد بَين (قريتين) - خيوان ووداعة - أَن يُقَاس مَا بَين القريتين فَإلَى أَيَّتهمَا (كَانَ) أقرب أخرج إِلَيْهِ مِنْهُم خمسين رجلا حَتَّى (يوافونه) مَكَّة فأدخلهم الحِجْر فأحلفهم، ثمَّ قَضَى عَلَيْهِم بِالدِّيَةِ، وَقَالُوا: مَا وَقت أَمْوَالنَا أَيْمَاننَا وَلَا أَيْمَاننَا أَمْوَالنَا. قَالَ عمر: كَذَلِك الْأَمر» . قَالَ الشَّافِعِي:(8/515)
لَيْسَ بِثَابِت، إِنَّمَا رَوَاهُ الشّعبِيّ، عَن الْحَارِث الْأَعْوَر وَهُوَ مَجْهُول.
قلت: عَجِيب هُوَ مَعْرُوف، لكنه مِمَّن اخْتلف فِيهِ. وَقَالَ الشّعبِيّ: كَانَ الْحَارِث كذابا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ عَن مجَالد، عَن الشّعبِيّ، عَن مَسْرُوق، عَن عمر، ومجالد غير مُحْتَج بِهِ. وَرُوِيَ عَن مطرف، عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْحَارِث بن الأزمع، عَن عمر، وَأَبُو إِسْحَاق لم يسمعهُ من الْحَارِث. قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ، عَن أبي زيد، عَن شُعْبَة قَالَ: سَمِعت أَبَا إِسْحَاق يحدث حَدِيث الْحَارِث بن الأزمع: «أَن قَتِيلا وجد بَين ودَاعَة وخيوان» فَقلت: يَا أَبَا إِسْحَاق من حَدثَك؟ قَالَ: حَدثنِي مجَالد، عَن الشّعبِيّ، عَن الْحَارِث بن الأزمع فَعَادَت رِوَايَة (أبي) إِسْحَاق إِلَى حَدِيث مجَالد، وَاخْتلف فِيهِ عَلَى مجَالد فِي إِسْنَاده، (ومجالد) غير مُحْتَج بِهِ.
قلت: وَعَن الْعقيلِيّ الْحَافِظ: أَن حَدِيث «إِذا وجد الْقَتِيل بَين قريتين ضمن أقربهما» لَيْسَ لَهُ أصل.(8/516)
بَاب مَا جَاءَ أَن للسحر حَقِيقَة وَمَا جَاءَ فِي تنَاوله
ذكر فِيهِ حديثين وأثرًا وَاحِدًا
الأول
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُحر حَتَّى كَانَ يخيل إِلَيْهِ أَنه يفعل الشَّيْء وَلم يَفْعَله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - طب حَتَّى أَنه ليُخَيل إِلَيْهِ أَنه قد صنع الشَّيْء وَمَا صنعه، وَأَنه دَعَا ربه، ثمَّ قَالَ: (أشعرت) أَن الله قد أفتاني فِيمَا (استفتيته فِيهِ) قَالَت عَائِشَة: وَمَا ذَاك يَا رَسُول الله؟ قَالَ: جَاءَنِي (رجلَانِ) فَجَلَسَ أَحدهمَا عِنْد رَأْسِي، وَالْآخر عِنْد رجْلي فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: مَا وجع الرجل؟ قَالَ الآخر: مطبوب. قَالَ: من طبه؟ قَالَ: لَبِيد بن الأعصم. قَالَ: فِيمَا ذَا؟ قَالَ: فِي مُشط ومشاطة، وجُفِّ طلعة ذكر. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي ذروان - وذروان بِئْر فِي بني زُريق - قَالَت عَائِشَة: فَأَتَاهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَة فَقَالَ: وَالله لكأنَّ (ماءها) نقاعة الْحِنَّاء، ولكأن نخلها رُءُوس الشَّيَاطِين، قَالَت: فَقلت لَهُ: يَا رَسُول الله، هلا أخرجته؟ قَالَ: أما أَنا فقد شفاني الله، وكرهت أَن أثير عَلَى النَّاس مِنْهُ شرًّا» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي ذَلِك نزلت المعوذتان.(8/517)
قلت: ذكره الثَّعْلَبِيّ فِي «تَفْسِيره» من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة بِغَيْر إسنادٍ.
فَائِدَة: «بِئْر ذَرْوان» هَذِه بِفَتْح أَولهَا وَإِسْكَان ثَانِيهَا (سلف) محلهَا، وَحكي بِالْهَمْز (مَكَان) الذَّال، وَخَطأَهُ الْأَصْمَعِي وَصحح ابْن قُتَيْبَة ذِي أروان، وَلأبي زيد ذِي أَوَان، (ووهمه الْأصيلِيّ) .
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ منّا من سحر أَو سُحر لَهُ، أَو تكهن أَو كهن لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث عِيسَى بن إِبْرَاهِيم البركي، ثَنَا إِسْحَاق بن الرّبيع أَبُو حَمْزَة الْعَطَّار، عَن الْحسن، عَن عمرَان بن حُصَيْن «أَنه رَأَى رجلا فِي عضده حَلقَة من صُفر، فَقَالَ لَهُ، مَا هَذِه؟ قَالَ: نعتت لي من (الراهبة) ، قَالَ: أما إِن مت وَهِي عَلَيْك وكلت إِلَيْهَا، قَالَ رَسُول (: لَيْسَ منا من تطير (أَو تطير لَهُ) أَو تكهن أَو تكهن لَهُ» أَظُنهُ قَالَ: «أَو سحر أَو سحر لَهُ» . وَإِسْحَاق هَذَا ضعَّفه الفلاَّس، وَقَالَ ابْن عدي: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه.(8/518)
وَعِيسَى البركي صَدُوق لَهُ أَوْهَام» . قَالَ ابْن معِين: لَا يُسَوِّي شَيْئا، أَو لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء كَذَا فِي «الْكَمَال» لعبد الْغَنِيّ، ووهمه الْمزي وَقَالَ: إِنَّمَا (ذَاك) الْقرشِي، وَهُوَ أقدم من هَذَا. قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق.
قلت: والبركي مَنْسُوب إِلَى سكَّة البرك من الْبَصْرَة هَذَا كُله مَعَ الِاخْتِلَاف فِي سَماع الْحسن من عمرَان، كَمَا (سأذكره) فِي بَاب النّذر وَاضحا فَلَا عَلَيْك [إِلَّا] أَن تتمهل. وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «الْحِلْية» فِي تَرْجَمَة أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ من حَدِيث مُخْتَار بن غَسَّان، ثَنَا عِيسَى بن مُسلم، ثَنَا أَبُو دَاوُد (عَن) عبد الْأَعْلَى بن عَامر قَالَ: قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ: «دخلت الْمَسْجِد وأمير الْمُؤمنِينَ عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَلَى الْمِنْبَر. وَهُوَ يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن الله أوحى إِلَى نَبِي من أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل ... » فَذكر حَدِيثا طَويلا إِلَى أَن قَالَ: «لَيْسَ منا من تطير أَو تطير لَهُ، أَو تكهن أَو تكهن لَهُ، أَو سحر أَو سحر لَهُ، إِنَّمَا أَنا وَخلقِي وكل (خلقي لَهُ) » . ثمَّ قَالَ أَبُو نعيم: غَرِيب من حَدِيث أبي عبد الرَّحْمَن، لم نَكْتُبهُ إِلَّا من حَدِيث أبي دَاوُد الطهوي، تفرد بِهِ عَنهُ مُخْتَار.(8/519)
قلت: مُخْتَار هَذَا أخرج لَهُ ابْن مَاجَه، وَلَا أعرف حَاله. وَعبد الْأَعْلَى بن عَامر هُوَ الثَّعْلَبِيّ ضعَّفوه، وَعِيسَى بن مُسلم، قَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيره: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَأما الْأَثر فَهُوَ: «أَن مُدبرَة لعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها سحرتها استعجالاً لعتقها، فباعتها عَائِشَة مِمَّن يسيء (ملكهَا) من الْأَعْرَاب» وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة [عمْرَة] عَنْهَا. قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ ابْن (الصّلاح) : وَذكر أَن عَائِشَة قتلتها وَلَا يثبت، وَإِنَّمَا يثبت أَنَّهَا باعتها، قَالَ: وَفعلت ذَلِك أَيْضا حَفْصَة فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» لإسماعيل.
قلت: و «المعجم الْكَبِير» للطبراني، وَذكر أَن (ابْن عمر) أنكر ذَلِك عَلَيْهَا (إِذْ فعلته) دون أَمر السُلطان.(8/520)
كتاب الْإِمَامَة وقتال الْبُغَاة(8/521)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(8/523)
كتاب الْإِمَامَة وقتال الْبُغَاة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا أما الْأَحَادِيث فَثَلَاثَة عشر حَدِيثا
الحَدِيث الأول
«أَن الْأَنْصَار وَقع بَينهم قتال، فَنزل قَوْله تَعَالَى (وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا) الْآيَة، فقرأها عَلَيْهِم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأقلعوا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قيل يَا رَسُول الله، لَو أتيت عبد الله بن أبي؟ قَالَ: فَانْطَلق إِلَيْهِ، وَركب حِمَاره وَركب مَعَه قوم من أَصْحَابه، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ عبد الله: تَنَح فقد آذَانِي نَتن حِمَارك. فَقَالَ رجل من الْمُسلمين: وَالله لحِمَار رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أطيب ريحًا مِنْك. قَالَ: فَغَضب لكل وَاحِد مِنْهُمَا قومه فتضاربوا بِالْجَرِيدِ وَالنعال، فَبَلغنَا أَنَّهَا أنزلت فيهم هَذِه الْآيَة (وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا» ) .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «بَايعنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى السّمع وَالطَّاعَة فِي المنشط وَالْمكْره وَأَن لَا ننازع الْأَمر أَهله» .(8/525)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِزِيَادَة فِيهِ، وَهَذَا لَفْظهمَا (عَنهُ) ، قَالَ: «بَايَعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى السّمع وَالطَّاعَة فِي الْعسر واليسر، والمنشط وَالْمكْره، وَعَلَى أَثَرَة علينا وَعَلَى أَن لَا ننازع الْأَمر أَهله (وَعَلَى أَن نقُول الْحق أَيْنَمَا كُنَّا وَلَا نَخَاف فِي الله لومة لائم» . وَفِي رِوَايَة «عَلَى أَن لَا ننازع الْأَمر أَهله) إِلَّا أَن تروا كفرا بواحًا عنْدكُمْ فِيهِ من الله برهَان» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي «صَحِيحه» : «اسْمَع وأطع فِي عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك وأثرة (علينا) وَإِن أكلُوا مَالك وضربوا ظهرك، إِلَّا أَن يكون مَعْصِيّة» .
فَائِدَة: «المنشط» . مفعل من النشاط، الْأَمر الَّذِي ينشط لَهُ، وَيَجِيء إِلَيْهِ، ويؤثر فعله. و «الْمُكْره» : الَّذِي يكرههُ ويتثاقل عَنهُ. و «الأثرة» : بِفَتْح الْهمزَة والثاء، وَيُقَال: بِضَم الْهمزَة وَإِسْكَان الثَّاء، وبكسر الْهمزَة وَإِسْكَان الثَّاء، ثَلَاث لُغَات حكاهن صَاحب «الْمَشَارِق» ، وَهِي الاستئثار بالشَّيْء والانفراد بِهِ. وَالْمرَاد (فِي الحَدِيث) إِن منعنَا حَقنا من الْغَنَائِم والفيء، وَأعْطَى غَيرنَا (نصبر) عَلَى ذَلِك. و «الْكفْر البواح» : الجهَار. و «الْبُرْهَان» : الْحجَّة وَالدَّلِيل.(8/526)
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من فَارق الْجَمَاعَة قدر شبر فقد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور إِلَّا أَنه قَالَ: «شبْرًا» بدل «قدر شبر» وَهُوَ مَوْجُود فِي النّسخ الصَّحِيحَة من الرَّافِعِيّ كَذَلِك وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» أَيْضا، وَكَذَا الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (كَذَلِك) إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: «قيد شبر» بدل: «قدر شبر» وَهُوَ لُغَة فِيهِ. قَالَ الْحَاكِم: وَرُوِيَ هَذَا الْمَتْن من رِوَايَة عبد الله بن عمر بِإِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، ثمَّ سَاقه بِلَفْظ: «من خرج من الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه حَتَّى يُرَاجِعهُ» قَالَ: «وَمن مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِمَام جمَاعَة فَإِن موتته موتَة جَاهِلِيَّة» . (و) رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الْحَارِث الْأَشْعَرِيّ مَرْفُوعا، وَلَفظه: «فَمن فَارق الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربق الْإِسْلَام من عُنُقه، إِلَّا أَن يُرَاجع» . وَرَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم من هَذِه الطَّرِيق ثمَّ ذكر لَهُ شَاهِدين، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، قَالَ: والْحَارث الْأَشْعَرِيّ(8/527)
صَحَابِيّ مَعْرُوف. قَالَ: ولهذه اللَّفْظَة شَاهد عَن مُعَاوِيَة، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا دخل النَّار» .
فَائِدَة: أَرَادَ «بربقة الْإِسْلَام» : عقد الْإِسْلَام، وَأَصله أَن الربق حَبل فِيهِ عدَّة عرى يشد بهَا (الْغنم) (الْوَاحِدَة) من العُرى ربقة قَالَه ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» .
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من حمل علينا السِّلَاح فَلَيْسَ منا» .
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. وَأخرجه مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَلَفظه فِي هَذَا: «من سَلَّ» بدل: «من حمل» . وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، بِلَفْظ: «من حمل» .
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من خرج من الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فميتته جَاهِلِيَّة» .(8/528)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من خرج من الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فَمَاتَ (مَاتَ) ميتَة جَاهِلِيَّة وَمن (قَاتل) تَحت راية عمِّيَّةٍ يغْضب لعصبة، أَو يَدْعُو إِلَى عصبَة، أَو ينصر عصبَة، فقُتل فقتلة جَاهِلِيَّة، وَمن خرج عَلَى أمتِي يضْرب برهَا وفاجرها لَا يتحاشى من مؤمنها، وَلَا يَفِي بِعَهْد ذِي عهد، فَلَيْسَ مني وَلست مِنْهُ» . وَأخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من كره من أميره شَيْئا فليصبر، فَإِنَّهُ من خرج من السُّلْطَان شبْرًا مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة» وَفِي رِوَايَة لَهما: «فليصبر عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فَمَاتَ فميتة جَاهِلِيَّة» . وَأخرجه مُسلم فِي أَفْرَاده عَن نَافِع قَالَ: «جَاءَ عبد الله بن عمر إِلَى عبد الله بن مُطِيع، حِين كَانَ من (أَمر) الْحرَّة مَا كَانَ زمن يزِيد بن مُعَاوِيَة فَقَالَ: اطرحوا لأبي عبد الله وسَادَة، فَقَالَ: إِنِّي لم (آتِك) لأجلس أَتَيْتُك (لأحدثك) ، سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: من(8/529)
خلع يدا من (طَاعَة) لَقِي الله يَوْم الْقِيَامَة (و) وَلَا حجَّة لَهُ، وَمن مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة» .
فَائِدَة: «العَمِّيّة» : بِكَسْر الْعين وَفتحهَا لُغَتَانِ، وَالْمِيم مَكْسُورَة مُشَدّدَة، وَالْيَاء مُشَدّدَة أَيْضا: (هِيَ) الْجَهَالَة والضلالة وَهِي فعلية من الْعَمى. وَقَوله: « (فميتته) جَاهِلِيَّة» . هِيَ بِكَسْر الْمِيم. أَي عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أهل الْجَاهِلِيَّة قبل (المبعث) من الْجَهَالَة والضلالة. وَقَوله: «يغْضب لعصبة أَو يدعوا إِلَى عصبَة أَو ينصر عصبَة» كل هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاث بِالْعينِ وَالصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَحَكَى القَاضِي عِيَاض: اعجامها، وَالصَّوَاب الأول.
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْأَئِمَّة من قُرَيْش» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
(أَحدهَا) : من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ النَّسَائِيّ (فِي) «كتاب الْقَضَاء» من «سنَنه» من رِوَايَة شُعْبَة، عَن عَلّي أبي الْأسد، عَن بكير بن وهب الْجَزرِي، عَن أنس مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء، قَالَ: هَكَذَا يَقُول شُعْبَة: (عَن) عَلّي أبي الْأسد. وَرَوَى عَنهُ الْأَعْمَش فَقَالَ: عَن سهل أبي(8/530)
الْأسد. قلت: وَبُكَيْر هَذَا، قَالَ الْأَزْدِيّ: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يعرف حَاله. وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» فَقَالَ: يجهل. وَهَذَا عَجِيب مِنْهُمَا (فَهُوَ) مَعْرُوف الْعين وَالْحَال، فقد رَوَى عَنهُ (عَلّي أَبُو الْأسد الثِّقَة، كَمَا قَالَ ابْن معِين، وَأَثْنَى عَلَيْهِ شُعْبَة وَرَوَى عَنهُ) أَبُو صَالح الْحَنَفِيّ. كَمَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «كتاب الدُّعَاء» من رِوَايَة الْأَعْمَش عَنهُ، عَن بكير، عَن أنس (وَأَبُو صَالح هَذَا اسْمه [عبد الرَّحْمَن بن قيس] ثِقَة أخرج لَهُ مُسلم) وَوَثَّقَهُ ابْن معِين.
وَرَوَى عَنهُ أَيْضا سهل أَبُو الْأسد. أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من رِوَايَة مسعر بن كدام، عَنهُ، عَن بكير بِهِ. وَسَهل هَذَا ذكره أَبُو حَاتِم فِي «كِتَابه» وَنقل توثيقه عَن ابْن معِين وَأبي زرْعَة، وَذكره ابْن حبَان فِي ثِقَات التَّابِعين، وَكَلَام مُسلم فِي كِتَابه يَقْتَضِي أَن سهلاً أَبَا الْأسد وعليًّا أَبَا الْأسود وَاحِد، فقد عرفت أَن ثَلَاثَة رووا عَنهُ، وَأما حَاله(8/531)
فَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» عَلَى أَنه لم ينْفَرد بل تَابعه عَلَيْهِ خلق أَوَّلهمْ سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَنهُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَإِسْنَاده عَلَى شَرط البُخَارِيّ، وَلما رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» عَن مُحَمَّد بن معمر، ثَنَا أَبُو دَاوُد، ثَنَا إِبْرَاهِيم بن سعد، عَن أَبِيه، عَن أنس بن مَالك أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْأَئِمَّة من قُرَيْش مَا عمِلُوا بِثَلَاث: إِذا استرحموا رحموا، وَإِذا عَاهَدُوا وفوا، وَإِذا حكمُوا عدلوا» . (قَالَ) : لَا نعلم أسْند سعد بن إِبْرَاهِيم، عَن أنس إِلَّا هَذَا الحَدِيث.
قلت: وَرِجَاله رجال الصَّحِيح أَبُو دَاوُد احْتج بِهِ مُسلم، وَعلي احْتج بِهِ البُخَارِيّ، وَالْبَاقُونَ احتجا بهم. لَكِن رَوَى ابْن عدي، عَن سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث قَالَ: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يُسأل عَن حَدِيث إِبْرَاهِيم هَذَا (فَقَالَ) : لَيْسَ هَذَا فِي كتب إِبْرَاهِيم، لَا يَنْبَغِي أَن يكون لَهُ أصل. ثانيهم: حبيب بن أبي ثَابت وَهُوَ ثِقَة أخرج لَهُ البُخَارِيّ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «كتاب الدُّعَاء» من رِوَايَة عبد الله بن فروخ الْخُرَاسَانِي، وَفِيه مقَال، قَالَ البُخَارِيّ: تعرف وتنكر. وَقَالَ الْجوزجَاني: أَحَادِيثه مَنَاكِير، لَكِن أَثْنَى عَلَيْهِ سعيد بن أبي مَرْيَم، وَهُوَ رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَنهُ، فَقَالَ: هُوَ(8/532)
أَرْضَى أهل الأَرْض عِنْدِي، عَن ابْن جريج، عَن حبيب. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث حبيب من وَجه آخر عَن أنس، وَفِيه يَحْيَى بن عِيسَى الرَّمْلِيّ، أخرج لَهُ مُسلم، وَوَثَّقَهُ الْعجلِيّ، وَتكلم فِيهِ غَيرهمَا، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ تَعْلِيقا. ثالثهم: قَتَادَة، عَن أنس، لَكِن بِلَفْظ: «إِن الْملك فِي قُرَيْش» . وَفِيه: سعيد بن بشير وَفِيه مقَال. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن أخرجه من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن سهل، عَن بكير الْجَزرِي، عَن أنس قَالَ: «دخل علينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَنحن فِي بَيت فِي نفر من الْمُهَاجِرين قَالَ: فَجعل كل رجل منا يوسِّع لَهُ يَرْجُو أَن يجلس إِلَى جنبه، (فَقَامَ) عَلَى بَاب الْبَيْت فَقَالَ: الْأَئِمَّة من قُرَيْش، ولي عَلَيْكُم حق عَظِيم، وَلَهُم مثله، مَا فعلوا ثَلَاثًا: إِذا استرحموا رحموا، وحكموا فعدلوا، وعاهدوا فوفوا؛ فَمن لم يفعل ذَلِك مِنْهُم فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ» . كَذَا رَوَاهُ الْأَعْمَش، عَن سهل، (عَن بكير، عَن أنس، وَكَذَا رَوَاهُ جمَاعَة، عَن الْأَعْمَش، عَن سهل) يكنى أَبَا (الْأسد) ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مسعر بن كدام، عَن سهل وَرَوَاهُ شُعْبَة، عَن عَلّي [بن] أبي الْأسد (وَقيل عَنهُ، عَن عَلّي أبي الْأسد) وَهُوَ واهم(8/533)
فِيهِ. قَالَ: وَالصَّحِيح مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش ومسعر. ثمَّ سَاقه من طَرِيق أُخْرَى إِلَى أنس.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، وَكَذَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» لَكِن فِي سَنَد الْبَيْهَقِيّ وَأَظنهُ فِي الآخر ربيعَة بن ناجد وَقد ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» . لَكِن تفرد عَنهُ بالرواية أَبُو صَادِق، وَبَاقِي رِجَاله ثِقَات، وَأما الْحَاكِم فَأخْرجهُ فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه من هَذِه (الطَّرِيق) فِي آخر فَضَائِل الْقَبَائِل بِزِيَادَة عَلَيْهِ وَلم يُضعفهُ. وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» وَقد سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث من طَرِيق عَلّي مَرْفُوعا: «الْأَئِمَّة من قُرَيْش» فَقَالَ: يرويهِ مسعر وَاخْتلف عَنهُ فرفعه فيض بن الْفضل، عَن مسعر [عَن] سَلمَة بن كهيل، عَن أبي صَادِق، عَن ربيعَة بن ناجد، عَن عَلّي مَرْفُوعا. وَخَالفهُ (دَاوُد بن عبد الحميد) فَرَوَاهُ عَن مسعر، عَن عُثْمَان(8/534)
بن الْمُغيرَة، عَن أبي صَادِق، وَرَفعه أَيْضا وَغَيرهمَا يرويهِ عَن مسعر مَوْقُوفا وَكَذَلِكَ رَوَاهُ (أَبُو) عوَانَة، عَن عُثْمَان بن الْمُغيرَة مَوْقُوفا، وَالْمَوْقُوف أشبه بالصَّواب.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْأَئِمَّة من قُرَيْش» . رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي عَاصِم، عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، عَن سكين بن عبد الْعَزِيز، عَن أبي الْمنْهَال (سيَّار) بن سَلامَة عَن أبي بَرزَة بِهِ. وسكين هَذَا بَصرِي، وَثَّقَهُ وَكِيع وَابْن معِين، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» (من) أَتبَاع التَّابِعين، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: ضَعِيف. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا بَأْس بِهِ.
قلت: ويعضد هَذِه الطّرق أَحَادِيث فِي الصَّحِيح دَالَّة عَلَى أَن الْأَئِمَّة من قُرَيْش.
أَحدهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «النَّاس تبع لقريش فِي هَذَا الشَّأْن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم» . أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا»
ثَانِيهَا: من حَدِيث ابْن عمر، مَرْفُوعا: «لَا يزَال هَذَا الْأَمر فِي(8/535)
قُرَيْش مَا بَقِي مِنْهُم اثْنَان» (أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم) أَيْضا
(ثَالِثهَا) : من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا: «النَّاس تبع لقريش فِي الْخَيْر وَالشَّر» . (أخرجه مُسلم) .
(رَابِعهَا) : من حَدِيث مُعَاوِيَة، مَرْفُوعا: «إِن هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش لَا يعاديهم أحد إِلَّا (أكبه) الله عَلَى وَجهه» أخرجه البُخَارِيّ. (خَامِسهَا) : من حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «قُرَيْش وُلَاة النَّاس فِي الْخَيْر وَالشَّر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَرَوَى الشَّافِعِي (عَن ابْن أبي فديك) عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن الزُّهْرِيّ، أَنه بلغه، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) : «قدمُوا قُريْشًا وَلَا تقدموها، وتعلموا من قُرَيْش وَلَا تُعالِمُوها» . وَرَوَى ابْن حبَّان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جُبَير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) قَالَ: «للقرشي قُوَّة(8/536)
الرجلَيْن من غير قُرَيْش» . فَسَأَلَ سَائل ابْن شهَاب: مَا مَعْنَى ذَلِك؟ قَالَ: نبل الرَّأْي. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقد احْتج بِهَذَا - (يَعْنِي) «الْأَئِمَّة من قُرَيْش» - أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَلَى الْأَنْصَار يَوْم السَّقِيفَة فتركوا (مَا توهموه) .
قلت: هَذِه الْقِصَّة أخرجهَا البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي جملَة حَدِيث طَوِيل إِلَى أَن قَالَ: «إِنَّه بَلغنِي أَن قَائِلا مِنْكُم يَقُول: إِنَّمَا كَانَت بيعَة (أبي) بكر فلتة وتمت. أَلا وَإِنَّهَا قد كَانَت كَذَلِك، وَلَكِن الله وقى شَرها، وَلَيْسَ فِيكُم من تقطع إِلَيْهِ الْأَعْنَاق مثل أبي بكر (وَإنَّهُ) كَانَ من خبرنَا حِين توفّي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن الْأَنْصَار خالفونا واجتمعوا (بأسرهم) فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة، وَخَالف عَنَّا عليّ وَالزبير وَمن مَعَهُمَا، وَاجْتمعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أبي بكر، فَقلت لأبي بكر: انْطلق بِنَا إِلَى إِخْوَاننَا هَؤُلَاءِ من الْأَنْصَار، فَانْطَلَقْنَا نريدهم، فَلَمَّا دنونا مِنْهُم لَقينَا مِنْهُم رجلَانِ صالحان فذكرا مَا (تمالأ) عَلَيْهِ الْقَوْم، فَقَالَا: أَيْن تُرِيدُونَ يَا معشر الْمُهَاجِرين؟ فَقُلْنَا: نُرِيد إِخْوَاننَا هَؤُلَاءِ من الْأَنْصَار، فَقَالَا: لَا عَلَيْكُم (لَا) تقربوهم، اقضوا أَمركُم، فَقلت: وَالله لنأتينهم، فَانْطَلَقْنَا(8/537)
حَتَّى أتيناهم فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة، فَإِذا رجل مزمل بَين ظهرانيهم فَقلت: من هَذَا؟ (فَقَالُوا) : هَذَا سعد بن عبَادَة. فَقلت: مَا لَهُ؟ قَالُوا: يوعك. فَلَمَّا جلسنا قَلِيلا تشهد خطيبهم فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهله، ثمَّ قَالَ: أمَّا بعد، فَنحْن أنصار الله وكتيبة الْإِسْلَام، وَأَنْتُم يَا معشر الْمُهَاجِرين رَهْط منا، وَقد دفَّت دافة من قومكم، فَإِذا هم أَرَادوا أَن يختزلونا من أصلنَا وَإِن يحضنونا من الْأَمر. فَلَمَّا سكت أردْت أَن أَتكَلّم (وَكنت زورت مقَالَة أعجبتني أُرِيد أَن أقدمها بَين يَدي أبي بكر وَكنت أداري مِنْهُ بعض الْحَد فَلَمَّا أردْت أَن أَتكَلّم) قَالَ أَبُو بكر: عَلَى رسلك [فَكرِهت] أَن (أغضبهُ) فَتكلم أَبُو بكر، فَكَانَ أحكم مني وأوقر، وَالله مَا ترك من كلمة أعجبتني إِلَّا قَالَ فِي بديهته مثلهَا أَو (أفضل) مِنْهَا حَتَّى سكت، فَقَالَ: مَا ذكرْتُمْ (فِيكُم) من خير فَأنْتم لَهُ أهل، وَلنْ يعرف الْعَرَب هَذَا الْأَمر إِلَّا (لهَذَا) الْحَيّ من قُرَيْش هم أَوسط الْعَرَب نسبا ودارًا، وَقد رضيت لكم أحد هذَيْن الرجلَيْن فَبَايعُوا أَيهمَا شِئْتُم. فَأخذ بيَدي (وبيد) أبي عُبَيْدَة بن الْجراح، وَهُوَ جَالس بَيْننَا، فَلم أكره مِمَّا قَالَ غَيرهَا، كَانَ وَالله لِأَن أقدم فَتضْرب عنقِي لَا (يُقرِّبني) ذَلِك من إِثْم(8/538)
أحب إِلَيّ من (أَن) أتأمر عَلَى قوم فيهم أَبُو بكر، اللَّهُمَّ (إِلَّا) أَن تسول نَفسِي عِنْد الْمَوْت شَيْئا لَا أَجِدهُ الْآن، فَقَالَ قَائِل من الْأَنْصَار: أَنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجَّب، منا أَمِير ومنكم أَمِير يَا معشر قُرَيْش. فَكثر اللَّغط وَارْتَفَعت الْأَصْوَات حَتَّى فرقت من الِاخْتِلَاف، فَقلت: ابسُط يدك يَا أَبَا بكر فَبَايَعته وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ (ثمَّ) بَايعه الْأَنْصَار (ونزونا) عَلَى سعد بن عبَادَة، فَقَالَ قَائِل مِنْهُم: قتلتم سعد بن عبَادَة» . وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث عَائِشَة: «فَقَالَ أَبُو بكر: نَحن الْأُمَرَاء وَأَنْتُم الوزراء. فَقَالَ الْحباب بن الْمُنْذر: لَا وَالله لَا نَفْعل ذَلِك أبدا (منا أَمِير ومنكم) أَمِير، فَقَالَ أَبُو بكر: لَا وَلَكنَّا الْأُمَرَاء وَأَنْتُم الوزراء، هم أَوسط الْعَرَب دَارا وأعرفهم أحسابًا فبايِعُوا عمر بن الْخطاب أَو أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح، فَقَالَ عمر: بل نُبَايِعك، أَنْت خيرنا وَأحب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَأخذ عمر بِيَدِهِ فَبَايعهُ وَبَايَعَهُ النَّاس. (فَقَالَ قَائِل) : قتلتم سعد بن عبَادَة. فَقَالَ عمر: قَتله الله» .
وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَن مُحَمَّد بن يسَار فِي خطْبَة أبي بكر قَالَ: «وَإِن هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش مَا أطاعوا الله واستقاموا عَلَى أمره، قد بَلغَكُمْ ذَلِك أَو سمعتموه عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم(8/539)
واصبروا إنَّ الله مَعَ الصابرين) فَنحْن الْأُمَرَاء وَأَنْتُم الوزراء إِخْوَاننَا (فِي الدَّين) وأنصارنا عَلَيْهِ» .
فَائِدَة: فِي ضبط مَا وَقع فِي هَذَا الْأَثر من الْأَلْفَاظ الَّتِي قد تُصحف، وسنبين مَعَانِيهَا. «الفلت» الْفجأَة، وَذَلِكَ أَنهم لم ينتظروا بيعَة أبي بكر عَامَّة (الصَّحَابَة) وَإِنَّمَا ابتدرها عمر وَمن تَابعه. وَقَوله: «لَكِن وقى الله شَرها» يُرِيد الشَّرّ المتوقع فِي الفلتات لَا أَن بيعَة أبي بكر كَانَ فِيهَا شَرّ. قَالَه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» . و «السَّقِيفَة» الصّفة فِي الْبَيْت. و «بَنو سَاعِدَة» بطن من الْأَنْصَار. و «المزمل» المدثر بِثَوْب وَنَحْوه، وظهرانيهم أَي: بَينهم. و «الوعك» : الحمَّى. و «الكتيبة» الْجَيْش. و «الدافة» الْجَمَاعَة من النَّاس من أهل الْبَادِيَة يقصدون الْمصر، أَي: جَاءَت جمَاعَة وَمَعْنى (يختزلونا) : (يقتطفونا) عَن مرادنا. وَمَعْنى «تحضنوننا» : تفردونا. وَمَعْنى «زورت» هيأت وزينت فِي نَفسِي كلَاما (لأذكره) . و «الْحَد» و «الحدة» سَوَاء من الْغَضَب. و «المدارأة» بِالْهَمْز: المدافعة بلين، وَسُكُون وَبِغير همز: الخديعة وَالْمَكْر، وَقيل: هما لُغَتَانِ بِمَعْنى (وَاحِد) . وَقَوله: «عَلَى رسلك» هُوَ بِكَسْر الرَّاء أَي عَلَى هنيتك. و «البديهة» ضد التروي والتفكر. وَقَوله: «إِلَّا أَن تسول لي نَفسِي» أَي تُحسنهُ. و «الجذيل» تَصْغِير (الجذل) وَهُوَ عود ينصب لِلْإِبِلِ الجربى تَحْتك بِهِ فتشتفي.(8/540)
و «المحكك» : الَّذِي (يكثر) بِهِ الاحتكاك حَتَّى صَار أملس و «العذيق» بِضَم الْعين تَصْغِير العذق [و] بِفَتْحِهَا النَّخْلَة. و «المرجَّب» بِالْجِيم الْمسند بالرجبة وَهِي خَشَبَة ذَات (شعبتين) ، وَذَلِكَ إِذا طَالَتْ وَكثر حملهَا اتَّخذُوا ذَلِك لِضعْفِهَا (من) كَثْرَة حملهَا، وَالْمعْنَى: أَنِّي ذُو رَأْي يستشفى بِهِ فِي الْحَوَادِث، لَا سِيمَا فِي مثل هَذِه الْحَادِثَة، وَأَنِّي فِي ذَلِك كالعود الَّذِي يشفي الجربى (و) كالنخلة الْكَثِيرَة الْحمل؛ من توفر مواد الآراء عِنْدِي، ثمَّ إِنَّه أَشَارَ بِالرَّأْيِ الصائب عِنْده فَقَالَ: «منا أَمِير ومنكم أَمِير» و «الْفرق» : الْخَوْف (والفزع) . «اللَّغط» : كَثْرَة الْأَصْوَات واختلاطها. و «النزو» الْوُثُوب وَمِنْه نزى التيس عَلَى الشَّاة. وَقَول عمر لسعد: «قَتله الله» ، قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» يُرِيد فِي (سَبِيل الله) قَالَ ابْن حبَان: قَالَ مَالك: أَخْبرنِي الزُّهْرِيّ، أَن عُرْوَة بن الزبير أخبرهُ: أَن الرجلَيْن الأنصاريين اللَّذين لقيا الْمُهَاجِرين هما (عويم) بن سَاعِدَة و (معن بن) عدي. وَزعم مَالك أَن الزُّهْرِيّ سمع سعيد بن الْمسيب (يزْعم) أَن الَّذِي قَالَ يَوْمئِذٍ: «أَنا جذيلها المحكك»(8/541)
رجل من بني سَلمَة يُقَال لَهُ: حباب بن الْمُنْذر. وَحَكَى ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» قولا: أَنه سعد بن عبَادَة
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمَّر (عَلَى) غَزْوَة مُؤْتَة زيد بن حَارِثَة، وَقَالَ: إِن قتل زيد فجعفر، وَإِن قتل جَعْفَر فعبد الله بن رَوَاحَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَسلف فِي «كتاب الْوكَالَة» وَاضحا، وَذكره الرَّافِعِيّ أَيْضا فِي «الْوَصَايَا» وَعبارَته هُنَا نقلا عَن الْمَاوَرْدِيّ: (وَأَنه) إِذا عهد إِلَى اثْنَيْنِ (أَو) أَكثر عَلَى التَّرْتِيب، فَقَالَ: الْخَلِيفَة بعد موتِي فلَان، وَبعد مَوته فلَان، جَازَ وانتقلت الْولَايَة (إِلَيْهِم) عَلَى مَا (رتب) كَمَا رتب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُمَرَاء جَيش مُؤْتَة. قلت: وَوَقع كَمَا أخبر (النَّبِي) (وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» أَيْضا عَن أنس قَالَ: «خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَقَالَ:) أَخذ الرَّايَة زيد بن (حَارِثَة) فأصيب (فَأَخذهَا) جَعْفَر فأصيب ثمَّ أَخذهَا عبد الله فأصيب، ثمَّ أَخذهَا خَالِد بن الْوَلِيد (من)(8/542)
غير إمرة فَفتح الله عَلَيْهِ، (فَمَا يسرني) - أَو قَالَ: مَا يسرهم - أَنهم عندنَا، وَإِن عَيْنَيْهِ لتذرفان» .
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اسمعوا وَأَطيعُوا وَإِن أمَّر عَلَيْكُم عبد حبشِي مجدع الْأَطْرَاف» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أم الْحصين الأحمسية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (قَالَت) : «حججْت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حجَّة الْوَدَاع فرأيته حِين رَمَى جَمْرَة الْعقبَة، وَانْصَرف وَهُوَ عَلَى رَاحِلَته وَمَعَهُ بِلَال وَأُسَامَة، أَحدهمَا يَقُود رَاحِلَته، وَالْآخر رَافع ثَوْبه عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يظله من الشَّمْس، قَالَت: فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قولا كثيرا لم أفهمهُ، وسمعته يَقُول: إِن أَمر عَلَيْكُم عبد أسود يقودكم بِكِتَاب الله فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا» . وَفِي رِوَايَة لَهُ (نَحوه فِي (الْإِمَارَة) فَقَط وَقَالَ: «عبدا حَبَشِيًّا مجدعًا» وَقَالَت أَنَّهَا سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بمنى أَو بِعَرَفَات. وَفِي رِوَايَة لَهُ) من حَدِيث أبي ذَر قَالَ: «أَوْصَانِي خليلي (أَن اسْمَع وأطع وَلَو لعبد مجدع الْأَطْرَاف» وَقد سلف هَذَا الحَدِيث من طَرِيق أنس أَيْضا.(8/543)
فَائِدَة: «المجدوع» : الْمَقْطُوع الْأَطْرَاف، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي الْأنف وَالْأُذن.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من نزع يَده من طَاعَة إِمَامه فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة وَلَا حجَّة لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من خلع يدا من طَاعَة (إِمَامه) لَقِي الله يَوْم الْقِيَامَة لَا حجَّة لَهُ، وَمن مَاتَ لَيْسَ فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة» .
الحَدِيث الْعَاشِر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ولي عَلَيْهِ والٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئا من مَعْصِيّة الله فليكره مَا يَأْتِي من مَعْصِيّة الله، وَلَا ينزعن يَده من طَاعَته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عَوْف بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «خِيَار أئمتكم الَّذين تحبونهم ويحبونكم، وَيصلونَ عَلَيْكُم وتصلون عَلَيْهِم، وشرار أئمتكم الَّذين تبغضونهم ويبغضونكم (وتلعنوهم ويلعنوكم) . قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُول الله أَفلا ننابذهم؟ قَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُم الصَّلَاة، أَلا من ولي(8/544)
عَلَيْهِ والٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئا من مَعْصِيّة الله فليكره مَا يَأْتِي من مَعْصِيّة الله، وَلَا ينزعن يدا من طَاعَة» وَفِيه أَيْضا من حَدِيث أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (يسْتَعْمل) عَلَيْكُم أُمَرَاء تعرفُون وتنكرون، فَمن كره فقد برِئ، وَمن أنكر فقد سلم، وَلَكِن من رَضِي وتابع. قَالُوا: (أَولا نقاتلهم) ؟ قَالَ: لَا مَا صلوا» . وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عَبَّاس، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من (كره) من أميره شَيْئا فليصبر، فَإِنَّهُ من خرج من السُّلْطَان شبْرًا مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة» .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا بُويِعَ لخليفتين، فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وَأعله ابْن الْقطَّان بِسَعِيد الجُريري، فَإِنَّهُ مختلط.(8/545)
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ لَا تطيعوه وَلَا تقبلُوا لَهُ قولا فَيكون كمن مَاتَ، وَقيل مَعْنَاهُ، إِن أصر وَلم يُبَايع الأول فَهُوَ بَاغ يُقَاتل أَي فَيكون عَلَى الأول بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَعَلَى الثَّانِي بِالْمُثَنَّاةِ تَحت.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
فِي الْخَبَر الْمَشْهُور «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعمَّار: تقتلك الفئة الباغية» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي قَتَادَة، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَأم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وَأخرجه البُخَارِيّ فِي بَاب التعاون فِي بِنَاء الْمَسْجِد من كتاب الصَّلَاة من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَثَبت ذَلِك فِي نُسْخَة صَحِيحَة مِنْهُ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ (من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأحمد فِي «مُسْنده» ) من حَدِيث خُزَيْمَة بن ثَابت. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، من حَدِيث أبي الْهُذيْل، عَنهُ، وَمن حَدِيث أبي رَافع ومولاة(8/546)
لعمَّار، وَأبي الْيُسْر، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَمُعَاوِيَة وَعُثْمَان بن عَفَّان وَعمر، وَعَمْرو بن حزم، وَأم سَلمَة، وَمن حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى عَن عمار، وَمن حَدِيث زِيَاد بن الْفَرد، وَأبي أَيُّوب، وَحُذَيْفَة، وَمن حَدِيث وَلَده مُحَمَّد عَنهُ، وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَغَيره. بل قَالَ ابْن عبد الْبر فِي «استيعابه» : تَوَاتَرَتْ (الْأَخْبَار) عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «تقتل عمار الفئة الباغية» وَهُوَ من أصح (الْأَحَادِيث) . قَالَ ابْن دحْيَة فِي (كِتَابه) «مرج الْبَحْرين» : وَكَيف يكون فِي هَذَا(8/547)
(الحَدِيث) اخْتِلَاف، وَقد رَأينَا مُعَاوِيَة نَفسه (حِين) لم يقدر عَلَى إِنْكَاره قَالَ: «إِنَّمَا قَتله من أخرجه» . وَلَو كَانَ حَدِيثا فِيهِ شكّ لرده مُعَاوِيَة وَأنْكرهُ، وَقد أجَاب (عَلّي) عَن قَول مُعَاوِيَة بِأَن قَالَ: «رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قتل حَمْزَة حِين أخرجه» وَهُوَ من عليّ إِلْزَام لَا جَوَاب عَنهُ. قلت: وَجَمَاعَة من الْحفاظ طعنوا فِي الحَدِيث. قَالَ الْخلال فِيمَا حَكَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» عَنهُ أَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَيَحْيَى بن معِين، وَأَبا خَيْثَمَة، وَغَيرهم ذكرُوا هَذَا الحَدِيث: «تقتل عمار الفئة الباغية» ، فَقَالُوا: مَا فِيهِ حَدِيث صَحِيح. وَأَن الإِمَام أَحْمد قَالَ: قد رُوِيَ فِي «عمار تقتله الفئة الباغية» ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، لَيْسَ فِيهَا حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «التَّنْوِير» : هُوَ حَدِيث لَا مطْعن فِي صِحَّته، وَقد رَوَاهُ جمَاعَة عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد اسْتَوْفَى طرقه الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه الْكَبِير» فَرَوَاهُ عَن مُعَاوِيَة نَفسه، وَعَن (عمر وَابْنه) وَغَيرهمَا، وَلَو كَانَ حَدِيثا غير صَحِيح لرده مُعَاوِيَة وَأنْكرهُ.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لِابْنِ مَسْعُود: يَا بن أم عبدٍ مَا حكم من بغى من(8/548)
أمتِي؟ قَالَ: الله وَرَسُوله أعلم. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا يتبع مدبرهم، وَلَا (يجاز) عَلَى جريحهم، وَلَا يقتل أسيرهم» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، رَوَاهُ ابْن عدي وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعبد الله ابْن مَسْعُود: «يَا ابْن مَسْعُود، أَتَدْرِي مَا حكم الله - تعالي - فِيمَن بغى من هَذِه الْأمة؟ قَالَ ابْن مَسْعُود: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: فَإِن حكم الله فيهم أَن لَا يتبع مدبرهم، وَلَا يقتل أسيرهم وَلَا يذفف عَلَى جريحهم» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي رِوَايَة: «وَلَا يجاز عَلَى جريحهم، وَلَا يقسم فيؤهم» .
سكت عَنهُ الْحَاكِم، وَأعله ابْن عدي فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث غير مَحْفُوظ. وَأعله أَيْضا الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ فِي «خلافياته» : إِسْنَاده ضَعِيف، وَقَالَ فِي «سنَنه» : تفرد بِهِ كوثر بن حَكِيم وَهُوَ ضَعِيف. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد قَالَ أَحْمد: أَحَادِيثه بَوَاطِيلُ، لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ مرّة: مَتْرُوك الحَدِيث. وَكَذَا قَالَ السَّعْدِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ الرازيان: ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ البُخَارِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير، وَيَأْتِي عَن الثِّقَات بِمَا لَيْسَ من حَدِيث الْأَثْبَات. وَضَعفه أَيْضا الْمَقْدِسِي فِي «أَحْكَامه» وَكَذَا عبد الْحق.
فَائِدَة: «يُتّبع» : بِضَم الْيَاء وَتَشْديد التَّاء يطْلب. و «التذفيف»(8/549)
بِالْمُعْجَمَةِ، (وَيروَى) (بِالْمُهْمَلَةِ وَهُوَ تتميم) الْقَتْل. وَقَوله فِي رِوَايَة الرَّافِعِيّ: «يَا ابْن أم عبد» قيل: أَرَادَ بِهِ عبد الله، أَي: يَا ابْن أمك. وَقيل: (اسْمه الَّذِي) سَمَّاهُ بِهِ أَبَوَاهُ عبد. وَقَوله: «لَا يجاز عَلَى جريحهم» ، أَي: لَا يتمم قَتله، يُقَال: أجزت عَلَيْهِ، أَي: أسرعت قَتله. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه.
وَأما آثاره فَأَرْبَعَة عشر أثرا:
الأول: «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَاتل مانعي الزَّكَاة» . وَهَذَا أثر صَحِيح، وَقد سلف بِطُولِهِ فِي «الزَّكَاة» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَسَببه أَن بعض مانعي الزَّكَاة قَالُوا لأبي بكر: أمرنَا بِدفع الزَّكَاة إِلَى من صلَاته سكن لنا وَهُوَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: (خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم (إِلَى قَوْله (سكن لَهُم) ، وصلوات غَيره لَيست سكنًا لنا.
الْأَثر الثَّانِي: «أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَاتل أَصْحَاب الْجمل، وَأهل الشَّام بالنهروان، وَقَاتل أهل الْبَصْرَة، وَلم يتبع بعد الِاسْتِيلَاء مَا (أَخَذُوهُ) من الْحُقُوق» . وَهَذَا مَعْرُوف عَنهُ وَلَا حَاجَة إِلَى الْخَوْض فِيهِ، وَلَا فِيمَا قَالَه الرَّافِعِيّ بعدُ من (أَن) أهل الْجمل والنهروان ثَبت أَنهم بغاة وَلَا (مَا) ذكره (فِي) مُعَاوِيَة - رَضِي الله (عَنْهُم) ، وَعَن سَائِر الصَّحَابَة أَجْمَعِينَ. و «النهروان» : مَكَان بِقرب بَغْدَاد، وَهُوَ بِفَتْح النُّون(8/550)
(وَالرَّاء) وَإِسْكَان الْهَاء، كَذَا ضَبطه ثَعْلَب وَابْن قُتَيْبَة فِي «أدب الْكَاتِب» والجوهري فِي «صحاحه» وَآخَرُونَ، وَهُوَ الْمَشْهُور فِي ضَبطه كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» . وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هُوَ بِضَم النُّون (وَالرَّاء) وَذكره الجواليقي فِي كِتَابه «المعرب» بِالْوَجْهَيْنِ فَقَالَ: النهروان - بِفَتْح النُّون، وَالرَّاء - فَارسي مُعرب. قَالَ وَقَالَ أَبُو عَمْرو: سَمِعت من يَقُول: نهروان بضمهما. وَذكره السَّمْعَانِيّ فِي «أنسابه» بِالضَّمِّ (فَقَط) قَالَ: وَهِي بَلْدَة قديمَة لَهَا عدَّة نواحي خرب أَكْثَرهَا، وَهِي بِقرب بَغْدَاد. (ووهمه الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه «سير النبلاء» . وَقَالَ الْبكْرِيّ فِي «مُعْجم مَا استعجم» النهروان، بالعراق مَعْلُوم بِفَتْح أَوله، وَإِسْكَان ثَانِيه، وَفتح الرَّاء الْمُهْملَة وبكسرها أَيْضا نهروان (و) بضَمهَا أَيْضا نهروان (وَيُقَال) أَيْضا: بِضَم النُّون وَالرَّاء مَعًا، أَربع لُغَات وَالْهَاء فِي جَمِيعهَا سَاكِنة. وَسُئِلَ الْأَصْمَعِي: هَل هُوَ بِضَم النُّون (أَو)(8/551)
كسرهَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي.
وَأنْشد ابْن الطرماح:
قل فِي شط نهروان (اغتماضي)
وَدَعَانِي حب الْعُيُون المراض
(فَأمْسك)
الْأَثر الثَّالِث: «أَن الصَّحَابَة بَايعُوا أَبَا بكر فَأول من بَايعه عمر، ثمَّ وَافقه الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم» . وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، وَقد أسلفناه بِطُولِهِ فِي أثْنَاء الحَدِيث السَّادِس.
الْأَثر الرَّابِع: «أَن أَبَا بكر عهد إِلَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما» . وَهَذَا الْأَثر صَحِيح مستفيض وَفِي الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن (مُحَمَّد بن يُوسُف) قَالَ: «بَلغنِي أَن أَبَا بكر أَوْصَى فِي مَرضه فَقَالَ لعُثْمَان اكْتُبْ:
بِسْمِ الَلّهِ الرّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَبُو بكر بن أبي قُحَافَة عِنْد آخر عَهده بالدنيا خَارِجا مِنْهَا، وَأول عَهده بِالآخِرَة (دَاخِلا فِيهَا) حِين يصدق الْكَاذِب. وَيُؤَدِّي الخائن، ويؤمن الْكَافِر، إِنِّي (اسْتخْلف) بعدِي عمر بن الْخطاب، فَإِن عدل فَذَاك ظَنِّي بِهِ ورجائي فِيهِ، وَإِن بدل وجار فَلَا أعلم الْغَيْب، وَلكُل امْرِئ مَا اكْتسب (من الْإِثْم) (وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أيَّ مُنْقَلب يَنْقَلِبُون (. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ مُتَّصِلا عَن هِشَام(8/552)
بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة.
الْأَثر الْخَامِس: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه جعل الْأَمر شُورَى بَين سِتَّة، فاتفقوا عَلَى عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» . وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ، وَقد سلف بِطُولِهِ فِي «بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص» .
الْأَثر السَّادس: عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «أقيلوني من الْخلَافَة» . وَهَذَا غَرِيب، لَا يحضرني من خرجه عَنهُ.
الْأَثر السَّابع: «أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سمع رجلا من الْخَوَارِج يَقُول لَا حكم إِلَّا لله وَلِرَسُولِهِ، وَتعرض بتخطئته فِي التَّحْكِيم. فَقَالَ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كلمة حق أُرِيد بهَا بَاطِل، لكم علينا ثَلَاث: لَا نمنعكم مَسَاجِد الله أَن تَذكرُوا فِيهَا اسْم الله وَلَا نمنعكم الْفَيْء مَا دَامَت أَيْدِيكُم مَعنا، وَلَا نبدأ بقتالكم» وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي بلاغًا، وَالْبَيْهَقِيّ مَوْصُولا «أَن عليًّا بَيْنَمَا هُوَ يخْطب إِذْ سمع من نَاحيَة الْمَسْجِد قَائِلا يَقُول: لَا حكم ... » إِلَى آخِره. وَرَوَى مُسلم فِي «صَحِيحه» صَدره من حَدِيث عبيد الله بن أبي رَافع «أَن الحرورية لما خرجت عَلَى عَليّ بن أبي طَالب وَهُوَ مَعَه فَقَالُوا: لَا حكم إِلَّا لله. فَقَالَ عليّ بن أبي طَالب: كلمة حق أُرِيد بهَا بَاطِل، إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وصف نَاسا إِنِّي لأعرف صفتهمْ فِي هَؤُلَاءِ ... » الحَدِيث، وَهُوَ حَدِيث(8/553)
طَوِيل. قَالَ الرَّافِعِيّ: والخوارج فرقة من المبتدعة خَرجُوا عَلَى عَليّ (حَيْثُ) اعتقدوا أَنه يعرف قتلة عُثْمَان وَيقدر عَلَيْهِم وَلَا يقْتَصّ مِنْهُم لرضاه بقتْله ومواطأته إيَّاهُم، ويعتقدون أَن من أَتَى كَبِيرَة فقد كفر، وَاسْتحق الخلود فِي النَّار، ويطعنون (لذَلِك) فِي الْأَئِمَّة، وَلَا يَجْتَمعُونَ مَعَهم فِي الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَات. أعاذنا الله من رُؤْيَتهمْ. قَالَ الشَّافِعِي: وَابْن ملجم الْمرَادِي قتل عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه متأولاً. قَالَ الرَّافِعِيّ: أَرَادَ الشَّافِعِي أَنه قَتله وَزعم أَن لَهُ شُبْهَة وتأويلاً بَاطِلا وَحكي أَن تَأْوِيله أَن امْرَأَة من الْخَوَارِج تسمى قطام، خطبهَا ابْن ملجم، وَكَانَ عَليّ قتل أَبَاهَا فِي جملَة الْخَوَارِج، فَوَكَّلَتْهُ فِي الْقصاص (وهما يزعمان أَن عَلَيْهِ قصاصا وَأَن الْوَاحِد من الْوَرَثَة ينْفَرد بِالْقصاصِ) ، وشرطت لَهُ مَعَ ذَلِك ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم وعبدًا وقينة لتحببه (فِي ذَلِك) ، (وَفِي ذَلِك) قيل:
كَمَهَرِ قَطَامٍ من فَصَيحٍ وأعجَم
وَقتل عليٍّ بالحُسامِ المُصَمْصَم
فَلَم أرَ مَهْرًا ساقَهُ ذُو سَمَاحَةٍ
ثَلاثَةُ آلافٍ وَعبدٍ وقَيْنَةٍ
هَذَا آخر مَا ذكره.
(أما مَا ذكره) من كَونه قَتله متأولا فقد قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، بَاب الرجل يقتل وَاحِدًا من الْمُسلمين عَلَى التَّأْوِيل، ثمَّ ذكر عَن الشَّافِعِي مَا سَيَأْتِي. وَقَالَ ابْن حزم: لَا خلاف بَين أحد من الْأَئِمَّة فِي أَن ابْن ملجم(8/554)
قتل عليًّا متأولا (مُجْتَهدا) مُقَدرا عَلَى أَنه صَواب وَفِي ذَلِك يَقُول عمرَان بن (حطَّان) :
ليبلغ من ذِي الْعَرْش رضوانا
أَوْفَى الْبَريَّة عِنْد الله ميزانًا
يَا ضَرْبَة من تَقِيّ مَا أَرَادَ بهَا إِلَّا
إِنِّي [لأذكره حينا] فأحسبه
وَقد أَجَابَهُ من الْمُتَقَدِّمين بكر بن حَمَّاد بِأَبْيَات ذكرهَا ابْن عبد الْبر فِي «استيعابه» ، وَمن الْمُتَأَخِّرين القَاضِي (أَبُو) الطّيب الطَّبَرِيّ ببيتين فَقَالَ:
إِلَّا ليهْدم الْإِسْلَام أركانا)
كَذَاك ألعن [عمرَان بن حطانا]
يَا ضَرْبَة من شقي مَا أَرَادَ بهَا
إِنِّي لأذكره يَوْمًا (فألعنه)
وَفِي «الِاسْتِيعَاب» أَن ابْن ملجم قَالَ لشبيب الْأَشْجَعِيّ: هَل لَك أَن تساعدني عَلَى قتل عَلّي. (فَقَالَ) : وَيلك إِنَّه ذُو سابقةٍ فِي الْإِسْلَام، فَقَالَ ابْن ملجم: إِنَّه حكم الرِّجَال فِي دين الله، وَقتل إِخْوَاننَا الصَّالِحين. وَأَنه ضربه عَلَى رَأسه، وَقَالَ: الحكم لله يَا عَلّي (لَا) لَك، وَلَا(8/555)
(لأصحابكم) . وَظَاهر هَذَا أَنه كَانَ مُسلما (متأولاً) وَذكر ابْن قُتَيْبَة فِي «كتاب السياسة» : أَن ابْن ملجم دخل الْمَسْجِد فِي (بزوغ) الْفجْر الأولَى، فَدخل فِي الصَّلَاة تَطَوّعا ثمَّ افْتتح الْقِرَاءَة فَجعل يُكَرر هَذِه الْآيَة (وَمن النَّاس من يشري نَفسه) فَأقبل عَلّي وَبِيَدِهِ مخفقة يوقظ النَّاس للصَّلَاة، فَمر بِابْن ملجم وَهُوَ يردد هَذِه الْآيَة، فَظن أَنه تعيى فِيهَا فَفتح لَهُ (وَالله رؤوف بالعباد) ثمَّ انْصَرف عَلّي فَتَبِعَهُ (فَضَربهُ) عَلَى قرنه، فَقَالَ عليّ: احْبِسُوهُ ثَلَاثًا وأطعموه واسقوه، فَإِن أعش أرَى فِيهِ رَأْيِي، وَإِن (أمت) فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تمثلوا بِهِ. فَمَاتَ فَأَخذه عبد الله بن جَعْفَر فَقطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ، فَلم يجزع، وَأَرَادُوا قطع لِسَانه فجزع، فَقيل لَهُ مَا هَذَا الْجزع عَلَى لسَانك وَحده؟ فَقَالَ: إِنِّي أكره أَن تمر بِي سَاعَة من نَهَار لَا أذكر الله فِيهَا. ثمَّ قطعُوا لِسَانه، وضربوا عُنُقه» . وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ فِي «تهذيبه» : أهل السّير لَا تدافع (عَنْهُم) «أَن عليًّا أَمر بقتل قَاتله قصاصا، وَنَهَى أَن يمثل بِهِ» . وَفِي كتاب «التَّجْرِيد» للقدوري الْحَنَفِيّ: أَنه لَو كَانَ مُرْتَدا لجازت الْمثلَة بِهِ، وَقد قَالَ (عَلّي) : لَا تمثلوا بِهِ، وَأَيْضًا مَا كَانَ عَلّي يقف قَتله عَلَى شَرط(8/556)
[الْمَوْت] ، وَلَو قتل لسعيه فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ لم يجز الْعَفو عَنهُ (أَي) وَقد قَالَ عَلّي: «إِن شِئْت (أَن) أعفو عَنهُ» . كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي (تذنيبه) : عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي، كَانَ من الْخَوَارِج المارقين، وَذكر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شهد (عَلَيْهِ) بالشقاوة.
قلت: وَهَذَا الحَدِيث سَيَأْتِي فِي أثْنَاء الْأَثر الْحَادِي عشر، وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كتاب «التَّنْوِير» : لَا أعلم أحدا توقف فِي لعن ابْن ملجم، إِلَّا مَا كَانَ من عمرَان بن حِطّان أصلاه الله النيرَان. وَأما الْقِصَّة الَّتِي ذكرهَا الرَّافِعِيّ فرواها بِنَحْوِ ذَلِك الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِإِسْنَادِهِ إِلَى إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: «كَانَ عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي عشق امْرَأَة من الْخَوَارِج من تيم الربَاب يُقَال لَهَا: قطام فنكحها وَأصْدقهَا ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم، وَقتل عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» وَفِي ذَلِك قَالَ الفرزدق؛ فَلم أر مهْرا ... الْبَيْت. كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ إِلَّا أَنه قَالَ: «بيّن غير مُعْجم» بدل: «من فصيح وأعجم» وَالْبَيْت الثَّانِي: كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء وَزَاد بَيْتا. ثَالِثا:
وَلَا فتك إِلَّا دون فتك ابْن ملجم
فَلَا مهر أغلا من عَلّي وَإِن غلا
الْأَثر الثَّامِن: «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ للَّذين قَاتلهم بعد مَا تَابُوا: تدون قَتْلَانَا وَلَا ندي قَتْلَاكُمْ» . وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي(8/557)
إِسْحَاق، عَن عَاصِم بن [ضَمرَة] ، قَالَ: «ارْتَدَّ عَلْقَمَة بن علاثة عَن دينه بعد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَبَى أَن يجنح للسَّلم، فَقَالَ أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لَا نقبل مِنْك إِلَّا بسلم مخزية أَو حَرْب مجلية، فَقَالَ: مَا سلم مخزية؟ قَالَ: تَشْهَدُون عَلَى قَتْلَانَا أَنهم فِي الْجنَّة وَأَن قَتْلَاكُمْ فِي النَّار وَلَا ندي قَتْلَاكُمْ. فَاخْتَارُوا سلما مخزية» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وروينا فِي هَذِه الْقِصَّة: «أَن عمر بن الْخطاب رَأَى أَن لَا يدوا قَتْلَانَا، وَقَالَ: قَتْلَانَا قتلوا عَلَى أَمر الله فَلَا ديات لَهُم» . وَفِي رِوَايَة لَهُ فِي بَاب قتال أهل الرِّدَّة وَمَا أُصِيب فِي أَيْديهم من مَتَاع الْمُسلمين، عَن طَارق بن شهَاب قَالَ: «جَاءَ (وَفد) بزاخة - أَسد وغَطَفَان - إِلَى أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يسألونه الصُّلْح، فَخَيرهمْ أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بَين الْحَرْب المجلية، أَو السّلم المخزية، (قَالَ: فَقَالُوا) : هَذَا الْحَرْب المجلية وَقد عَرفْنَاهُ، فَمَا السّلم المخزية؟ قَالَ أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تؤدون الْحلقَة والكراع، وتتركون أَقْوَامًا يتبعُون أَذْنَاب الْإِبِل حَتَّى يرَى خَليفَة نبيه وَالْمُسْلِمين أمرا يعذرونكم بِهِ، وتدون قَتْلَانَا وَلَا ندي قَتْلَاكُمْ، وقتلانا فِي الْجنَّة وَقَتلَاكُمْ فِي النَّار، وتردون مَا أصبْتُم منا ونغنم مَا أصبْنَا مِنْكُم. فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قد رَأَيْت أمرا وسنشير عَلَيْك، أما أَن [يؤدوا] الحلقةوالكراع (فَنعما) رَأَيْت، وَأما أَن تتركوا أَقْوَامًا يتبعُون أَذْنَاب الْإِبِل حَتَّى يري الله خَليفَة نبيه وَالْمُسْلِمين [أمرا] يعذرونهم بِهِ (فَنعما)(8/558)
رَأَيْت (وَأما) أَن قتلاهم فِي النَّار وقتلانا فِي الْجنَّة (فَنعما) رَأَيْت وَأما أَن يدوا قَتْلَانَا فَلَا، (قَتْلَانَا) قتلوا عَلَى أَمر الله فَلَا ديات لَهُم. فَبَايع النَّاس عَلَى ذَلِك» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (و) قَول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي الْأَمْوَال لَا يُخَالف قَوْله فِي الدِّمَاء، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ وَالله أعلم مَا أُصِيب فِي أَيْديهم من أَعْيَان (أَمْوَال) الْمُسلمين لَا تضمن مَا أتلفوه.
فَائِدَة: «بُزَاخة» : الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْأَثر هِيَ - بِضَم الْبَاء، وَفتح الزَّاي وَالْخَاء الْمُعْجَمَة - مَوضِع، قَالَ صَاحب «الْمطَالع» : بِالْبَحْرَيْنِ قَالَ: وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ مَاء (لِطَيِّئٍ) وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَاء لبني أَسد.
الْأَثر التَّاسِع: «أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه نَادَى من وجد (مَاله) فليأخذه. قَالَ الرَّاوِي: فَمر بِنَا رجل فَعرف قدرا نطبخ فِيهَا فَسَأَلْنَاهُ أَن يصبر حَتَّى نطبخ فَلم يفعل» . وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِنَحْوِهِ من رِوَايَة عرْفجَة، عَن أَبِيه: (أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما قتل أهل النهروان جال فِي عَسْكَرهمْ فَمن كَانَ يعرف شَيْئا أَخذه، حَتَّى بقيت قدر، ثمَّ رَأَيْتهَا أخذت بعد» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أُتِي برثة أهل النَّهر فعرفها، فَكَانَ من عرف شَيْئا أَخذه، حَتَّى بقيت قدر لم تعرف» .
الْأَثر الْعَاشِر: «أُتِي عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَاتل أهل الْبَصْرَة، وَلم يتتبع بعد(8/559)
الِاسْتِيلَاء مَا أَخَذُوهُ من الْحُقُوق» . وَهَذَا لَا يحضرني. وَفِي الْبَيْهَقِيّ: «بَاب أهل الْبَغي إِذا غلبوا عَلَى بلد وَأخذُوا صدقَات أَهلهَا، وَأَقَامُوا عَلَيْهِم الْحُدُود لم تعد عَلَيْهِم» اسْتِدْلَالا بِحَدِيث أبي ذَر: «أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أسمع (وأطع) وَلَو لعبد حبشِي مجدع الْأَطْرَاف» . أخرجه مُسلم.
الْأَثر الْحَادِي عشر: عَن الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن عليًّا أَمر بِحَبْس ابْن ملجم وَقَالَ: إِن قَتَلْتُمُوهُ فَلَا تمثلوا بِهِ، وَرَأَى عَلَيْهِ الْقَتْل، فَقتله الْحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» . وَهَذَا الْأَثر (صَحِيح) رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد (عَن) جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه «أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ فِي (أَمر) ابْن ملجم بعد مَا ضربه: أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره، فَإِن عِشْت فَأَنا ولي دمي أعفو إِن شِئْت، وَإِن شِئْت استقدت، وَإِن قَتَلْتُمُوهُ فَلَا تمثلوا بِهِ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَنهُ، وَرَوَى فِي «مَنَاقِب الشَّافِعِي» تأليفه فِي بَاب مَا جَاءَ فِي حسن مناظرة الشَّافِعِي بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي ثَوْر قَالَ: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: ناظرت، بشر بن غياث المريسي فِي الْمَقْتُول لَهُ (وَرَثَة) صغَار [وكبار] يقتل الْقَاتِل دون بُلُوغ(8/560)
الصغار؟ قَالَ: لَا. فَقلت لَهُ: فَإِن الْحسن بن عَلّي قتل ابْن ملجم، وَفِي الْوَرَثَة صغَار لم يبلغُوا. فَقَالَ: أَخطَأ الْحسن. فَقلت: مَا كَانَ عنْدك جَوَاب أحسن من هَذَا وهجرته يَوْمئِذٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَانَ الشَّافِعِي يذهب أَيْضا إِلَى أَنه لَا يقتل قصاصا قبل بُلُوغ الصغار، وَيُشبه أَن يكون حمل قتل الْحسن بن عَلّي ابنَ ملجم عَلَى أَنه من الساعين فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ، فَرَأَى قَتله بِالْولَايَةِ الْعَامَّة دون ولَايَة الْقصاص. وَقَالَ فِي «سنَنه» نقلا عَن بعض أَصْحَابنَا إِنَّمَا استبد بقتْله قبل بُلُوغ الصغار من (ولد) عَلّي؛ لِأَنَّهُ فعله حدًّا لكفره لَا قصاصا. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» يشبه أَن يكون الْحسن وقف عَلَى استحلال عبد الرَّحْمَن بن ملجم قتل أَبِيه فَقتله لأجل ذَلِك. وَاسْتدلَّ بعض من قَالَ ذَلِك. من أَصْحَابنَا بِمَا روينَا عَن أبي سِنَان الدؤَلِي «أَنه عَاد عليًّا فِي شكوى لَهُ قَالَ: فَقلت (لَهُ: لقد) تخوفنا عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: لكني وَالله مَا تخوفت؛ لِأَنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الصَّادِق (المصدوق) يَقُول: «إِنَّك ستضرب ضَرْبَة هَاهُنَا، وضربة هَاهُنَا - وَأَشَارَ إِلَى صدغيه - فيسيل دَمهَا حَتَّى تختضب لحيتك، وَيكون صَاحبهَا أشقاها كَمَا كَانَ عَاقِر النَّاقة أَشْقَى ثَمُود» وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي يَحْيَى، قَالَ: «لما جَاءُوا بِابْن ملجم إِلَى عَليّ، قَالَ: اصنعوا بِهِ مَا صنع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِرَجُل جُعِلَ لَهُ عَلَى أَن يقْتله، فَأمر أَن يُقتل ويُحرق بالنَّار» وَفِيه أَيْضا عَن أبي إِسْحَاق(8/561)
الْهَمدَانِي قَالَ: «رَأَيْت قَاتل عَلّي بن أبي طَالب يحرق بالنَّار فِي أَصْحَاب الرماح» وَفِيه أَيْضا عَن الشّعبِيّ قَالَ: «لما ضرب ابْن ملجم عليًّا تِلْكَ الضَّرْبَة أَوْصَى فَقَالَ: قد ضَرَبَنِي، فَأحْسنُوا إِلَيْهِ وألينوا (لَهُ) فرَاشه، فَإِن أعش فعفو أَو قصاص، وَإِن أمت فعاجلوه فَإِنِّي مخاصمه عِنْد رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» .
الْأَثر الثَّانِي عشر: «أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بعث ابْن عَبَّاس إِلَى أهل النهروان للْحَاجة والنصيحة فَرجع بَعضهم إِلَى الطَّاعَة بذلك» وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» فِي حَدِيث طَوِيل، فِيهِ ذكر قصَّة الخارجين عَلَى عَلّي: «فَإِنَّهُ بعث إِلَيْهِم عبد الله بن عَبَّاس فناظرهم فَرجع مِنْهُم أَرْبَعَة آلَاف، وَكَانُوا ثَمَانِيَة آلَاف» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا كَذَلِك. «وَأَنه بَعثه (إِلَيْهِم وَأَنه رَجَعَ) مِنْهُم أَرْبَعَة آلَاف» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» «أَنه بَعثه إِلَى الحروراء فَرجع مِنْهُم عشرُون ألفا، وَبَقِي مِنْهُم أَرْبَعَة آلَاف قتلوا» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي زُميل الْحَنَفِيّ عَنهُ «أَن ابْن عَبَّاس (خرج) إِلَى الحرورية وَأَنَّهُمْ سِتَّة آلَاف (فحاجهم) فَرجع مِنْهُم أَلفَانِ، وَقتل الْبَاقِي» ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنه بَعثه. وَفِي(8/562)
الْبَيْهَقِيّ أَيْضا: «أَن عليًّا بعث الْبَراء بن عَازِب إِلَى أهل النَّهر إِلَى الْخَوَارِج فَدَعَاهُمْ ثَلَاثًا قبل أَن يقاتلهم» .
الْأَثر الثَّالِث عشر: «أَنه نَادَى مُنَادِي عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَوْم الْجمل أَلا لَا يتبع مدبرهم، وَلَا يذفف عَلَى جريحهم» وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، وَسَعِيد بن مَنْصُور وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ. قَالَ الْحَاكِم: هُوَ صَحِيح، قَالَ: وَصَحَّ مثله فِي وقْعَة صفّين.
فَائِدَة: قَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «مرج الْبَحْرين» : كَانَت وقْعَة الْجمل فِي نصف جُمَادَى الْآخِرَة، وَقيل: كَانَت فِي يَوْم الْخَمِيس لعشر ليالٍ خلت مِنْهُ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ، أفرجت عَن ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ ألفا. قَالَه ابْن شبة، وَقيل: سَبْعَة عشر ألفا من أَصْحَاب عَائِشَة، وَمن أَصْحَاب عَلّي نَحْو من ألف رجل، وَقيل: أقل من ذَلِك، وَكَانَت إِقَامَة عليّ، وَمُعَاوِيَة بصفين تِسْعَة أشهر، وَقيل: سَبْعَة. وَقيل: ثَلَاثًا. وَكَانَ بَينهمَا قبل (الْقِتَال) نَحْو من سبعين زحفًا. وَقيل: فِي ثَلَاثَة أَيَّام من أَيَّام الْبيض سَبْعُونَ ألفا من الْفَرِيقَيْنِ. وَفِي «المعجم الْكَبِير» للطبراني من حَدِيث ابْن شهَاب «أَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن العَاصِي شهد الْقِتَال يَوْم صفّين، وَكَانَ أهل الشَّام يَوْم صفّين خَمْسَة وَثَلَاثِينَ وَمِائَة ألف، وَكَانَ (أهل) الْعرَاق عشْرين أَو ثَلَاثِينَ وَمِائَة ألف، وَقطع عَلَى خطام (جمل) عَائِشَة(8/563)
(واسْمه عَسْكَر) سَبْعُونَ يدا من بني ضبة، كلما قطعت يَد رجل أَخذ الزِّمَام آخر، وهم ينشدون:
تبَارك الْمَوْت إِذْ الْمَوْت نزل
بني ضبة أَصْحَاب الْجمل
وَالْمَوْت أشهى عندنَا من الْعَسَل
الْأَثر الرَّابِع عشر
«أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قتل لَيْلَة الهرير ألفا وَخَمْسمِائة» . وَهَذَا قد سلف فِي صَلَاة الْخَوْف.(8/564)
كتاب الرِّدَّة(8/565)
كتاب الرِّدَّة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث تِسْعَة أَحَادِيث.
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل دم (امْرِئ) مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث ... » الحَدِيث.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف بَيَانه فِي أَوَائِل «بَاب الْجراح» .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من بدّل دينه فَاقْتُلُوهُ» . هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عِكْرِمَة (قَالَ) : «أُتِي عَليٌّ بزنادقة فأحرقهم. فَلَمَّا بلغ ذَلِك ابْن عَبَّاس قَالَ: لَو كنت أَنا لم أحرقهم؛ لنهي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تعذبوا بِعَذَاب الله. ولقتلتهم؛ لقَوْل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ» . وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» «من ترك» بدل «من بدل» وَرَوَاهُ(8/567)
مَالك وَالشَّافِعِيّ عَنهُ من حَدِيث زيد بن أسلم أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من غيرّ دينه فاضربوا عُنُقه» . قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا الحَدِيث مُنْقَطع. أَي: لِأَن زيد بن أسلم إِنَّمَا يروي عَن الصَّحَابَة، عَن أَبِيه. وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ مَوْصُولا كَمَا تقدم. وَوَصله الْحَاكِم أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَلَفظه فِيهِ: «من يُخَالف دينه من الْمُسلمين فَاقْتُلُوهُ» . ثمَّ صَححهُ؛ لَكِن فِي إِسْنَاده حَفْص بن عمر الْعَدنِي وَقد ضَعَّفُوهُ. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِدُونِهِ وَقَالَ فِي آخِره: «فاضربوا عُنُقه» وَقَالَ: «إِذا شهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَلَا سَبِيل عَلَيْهِ إِلَّا أَن يَأْتِي شَيْئا فيقام عَلَيْهِ حَده» .
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِر فقد بَاء بهَا أَحدهمَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عبد الله بن عمر، مَرْفُوعا بِهَذَا اللَّفْظ. وَزِيَادَة: «فَإِن كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رجعت عَلَيْهِ» . وَأَخْرَجَا مثله من حَدِيث أبي ذرٍ أَيْضا.(8/568)
الحَدِيث الرَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (كَانَ إِذا أكل) لحس أَصَابِعه الثَّلَاث» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث كَعْب بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَأْكُل بِثَلَاث أَصَابِع فَإِذا فرغ لعقها» . وَله مثله: من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد جَاءَ الْأَمر بذلك فِي عدَّة أَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَمِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَجَابِر، أخرجهُمَا مُسلم وَمِنْهَا حَدِيث أم عَاصِم، أخرجه التِّرْمِذِيّ.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا بَين قَبْرِي ومنبري رَوْضَة من رياض الجنَّة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَقد سلف بَيَانه فِي اللّعان.
الحَدِيث السَّادِس
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن امْرَأَة يُقَال لَهَا: أم رُومَان ارْتَدَّت، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِأَن يعرض عَلَيْهَا الْإِسْلَام، فَإِن تابت وَإِلَّا قتلت» .(8/569)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ (الْبَيْهَقِيّ و) الدارقطني فِي «سنَنه» من طَرِيقين، هَذَا لَفظه (فِي) أَحدهمَا، وَلَفظه فِي الثَّانِي: «ارْتَدَّت امْرَأَة عَن الْإِسْلَام، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن (يعرضُوا) عَلَيْهَا الْإِسْلَام، فَإِن أسلمت وَإِلَّا قتلت، فَعرض عَلَيْهَا الْإِسْلَام فَأَبت أَن تسلم فقتلت» . وإسنادهما غير ثَابت، فِي الأول: معمر بن بكار، قَالَ الْعقيلِيّ: فِي حَدِيثه وهم. وَذكره (ابْن أبي حَاتِم) وَسكت عَنهُ. وَالطَّرِيق الثَّانِي: مظلم، وَفِيه عبد الله بن عُطَارِد بن أذينة، وهاه ابْن حبّان (وَلما ذكره عبد الْحق بِاللَّفْظِ الأول نقل عَن ابْن عدي أَنه يرويهِ عبد الله هَذَا، وَأَنه لَا يُتَابع عَلَيْهِ، وَأَنه مُنكر الحَدِيث، قَالَ: وَلم أر للْمُتَقَدِّمين فِيهِ كلَاما) . وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِهَذَا اللَّفْظ، قَالَ: فِي إِسْنَاده بعض من يجهل. ثمَّ رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأول إِلَّا أَنه قَالَ: «مَرْوَان» بدل «رُومَان» وَكَأَنَّهُ من تَحْرِيف النَّاسِخ قَالَ: وَرُوِيَ من وَجه آخر ضَعِيف، عَن الزُّهْرِيّ،(8/570)
عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أَن امْرَأَة ارْتَدَّت يَوْم أحد فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تستتاب فَإِن تابت وَإِلَّا قتلت» . وَخَالف ابْن الْجَوْزِيّ فَذكره فِي «تَحْقِيقه» من هَذِه الطّرق محتجًّا بهَا، وَضعف حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَرْفُوع: «لَا تقتل الْمَرْأَة إِذا ارْتَدَّت» ثمَّ نقل عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه لَا يَصح، وَذكره فِي «مَوْضُوعَاته» وَمذهب الزُّهْرِيّ أَنَّهَا تقتل إِذا لم تتب، وَهُوَ صَحِيح عَنهُ.
فَائِدَة: «أم رُومَان» . بِضَم الرَّاء، كَذَا ضَبطه ابْن [معن] فِي «تنقيبه» وَحَكَى فِي «أم رَوْمَان أم عَائِشَة الصديقة (فتح) الرَّاء» .
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله ... » الحَدِيث.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد سلف (بِطُولِهِ) فِي «كتاب الدِّيات» .
الحَدِيث الثَّامِن
«أَنه اشْتَدَّ نَكِير النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى أُسَامَة حِين قتل من تكلم بِكَلِمَة الْإِسْلَام، وَقَالَ: إِنَّمَا قَالَهَا فرقا مني. فَقَالَ: هلا شققت عَن قلبه» .(8/571)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أُسَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «بعثنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَرِيَّة إِلَى الحُرُقات فنذروا (فَهَرَبُوا) فَأَدْرَكنَا رجلا فَلَمَّا غشيناه قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله. فضربناه حَتَّى قَتَلْنَاهُ، فَعرض فِي نَفسِي شَيْء من ذَلِك فَذَكرته للنّبي (فَقَالَ: من لَك بِلَا إِلَه إِلَّا الله يَوْم الْقِيَامَة. فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا قَالَهَا مَخَافَة السِّلَاح وَالْقَتْل. قَالَ: أَفلا شققت عَن قلبه حَتَّى تعلم (أقالها) من أجل ذَلِك أم لَا، من لَك بِلَا إِلَه إِلَّا الله يَوْم الْقِيَامَة. قَالَ: فَمَا زَالَ يَقُول حَتَّى وددت أَنِّي لم أسلم إِلَّا يَوْمئِذٍ» .
فَائِدَة: «الحرقات» : اسْم قَبيلَة من جُهَيْنَة، وَجَمعهَا عَلَى لفظ «الحرقات» إِشَارَة إِلَى بطُون تِلْكَ الْقَبِيلَة، وهما فِي الأَصْل حرقان ابْنا قيس بن (تغلب) تَمِيم وَسعد.
فَائِدَة أُخْرَى: ذكر الْخَطِيب فِي «مبهماته» من طَرِيق حميد بن هِلَال قَالَ: حَدثنِي من كَانَ فِي السّريَّة قَالَ: «حمل رجل من أَصْحَابنَا عَلَى رجل من الْمُشْركين، فَلَمَّا غشيه قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله فَقتله، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: أقتلته وَهُوَ يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله؟ ! ... » الحَدِيث. قَالَ الْخَطِيب: اخْتلف فِي الْقَاتِل، قيل: أُسَامَة بن زيد وَقيل: الْمِقْدَاد بن عَمْرو. وَأما الْمَقْتُول فمرداس بن نهيك، وَقد علمت التَّصْرِيح بِأَنَّهُ(8/572)
أُسَامَة إِن كَانَت الْقِصَّة وَاحِدَة، وَأما الْمِقْدَاد، فَفِي «صَحِيح مُسلم» ، أَنه قَالَ: «يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت إِن لقِيت رجلا من الكفَّار يقاتلني ... » الحَدِيث. و (قد) قيل إِن قَوْله (وَلَا تَقولُوا لمن ألْقَى إِلَيْكُم السَّلم) نزلت فِي هَذَا الْمَقْتُول، أَعنِي: مرداس بن نهيك.
الحَدِيث التَّاسِع
«رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استتاب رجلا أَربع مَرَّات» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن وهب، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن رجل، عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استتاب نَبهَان أَربع مَرَّات، وَكَانَ نَبهَان ارْتَدَّ» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِسْنَاده مُرْسل، قَالَ: وَظَاهر الْأَخْبَار الصَّحِيحَة فِيمَا يحقن بِهِ الدَّم يشْهد لهَذَا. قلت: (و) قد وصل هَذَا الْمُرْسل بإسْنادٍ واهٍ، أخرجه إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا، عَن (الْمُعَلَّى) ، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن جَابر: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استتاب رجلا ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام أَربع مَرَّات» . والمعلى هَذَا هُوَ ابْن هِلَال بن [سُوَيْد] الطَّحَّان، وَهُوَ هَالك هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فَأَرْبَعَة:(8/573)
أَحدهَا: «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه استتاب امْرَأَة من بني فَزَارَة ارْتَدَّت» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث اللَّيْث بن سعد، عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز التنوخي: «أَن امْرَأَة يُقَال لَهَا: أم قرفة كفرت بعد إسْلَامهَا، فاستتابها أَبُو بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَلم تتب فَقَتلهَا» . قَالَ اللَّيْث: وَذَلِكَ الَّذِي سمعنَا وَهُوَ رَأْي. قَالَ عبد الله بن وهب: وَقَالَ لي مَالك مثل ذَلِك. قَالَ الشَّافِعِي: وَرَوَى بَعضهم عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قتل نسْوَة ارتددن عَن الْإِسْلَام» وَمَا كَانَ لنا أَن نحتج بِهِ (إِذا) كَانَ ضَعِيفا عِنْد أهل الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ضعفه فِي انْقِطَاعه. قَالَ: وَقد رَوَيْنَاهُ من وَجْهَيْن مرسلين.
تَنْبِيه: وَقع فِيمَا تقدم أَن الَّذِي قَتلهَا الصّديق هِيَ أم قرفة، وَكَذَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا وَلَفظه: «أَن أَبَا بكر قتل أم قرفة الفزارية فِي ردتها (قتلة) مثلَة، شدّ رِجْلَيْهَا (بَين فرسين) ثمَّ صَاح بهما (فضرباها) فشقاها» . وَذكر الْوَاقِدِيّ أَنَّهَا قتلت يَوْم (بزاخة) (وَذكر) أَبُو عمر فِي «الاستذكار» : «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قتل يَوْم قُرَيْظَة وَالْخَنْدَق أم قرفة» فلعلها أُخْرَى. وَفِي «الْإِكْمَال» لِابْنِ مَاكُولَا، فِي حرف الْمِيم فِي تَرْجَمَة «مُجَشِّر ومُحَسَّر» : قيس بن المحسر كَانَ خرج(8/574)
مَعَ زيد بن حَارِثَة فِي السّريَّة إِلَى أم قرفة (فَأَخذهَا) ، وَهُوَ الَّذِي تولى قَتلهَا» وَالله أعلم.
الْأَثر الثَّانِي: «أَن رجلا وَفد عَلَى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (من قبل أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) ، فَقَالَ لَهُ عمر: هَل من مغربة خبر؟ فَأخْبرهُ أَن رجلا كفر بعد إِسْلَامه، فَقَالَ: مَا فَعلْتُمْ بِهِ؟ فَقَالَ: قربناه، وضربنا عُنُقه. فَقَالَ: هلا حبستموه ثَلَاثًا وأطعمتموه كل يَوْم رغيفًا، واستتبتموه لَعَلَّه يَتُوب، اللهمَّ إِنِّي لم أحضر، وَلم آمُر، وَلم أَرض إِذْ بَلغنِي» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن مَالك، عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبدٍ الْقَارِي، عَن أَبِيه، أَنه قَالَ: «قدم عَلَى عمر بن الْخطاب ... » الحَدِيث بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور. قَالَ الشَّافِعِي: (من) قَالَ لَا يتأنى بالمرتد (زَعَمُوا) أَن هَذَا الْأَثر الْمَرْوِيّ عَن عمر: «لَو حبستموه ثَلَاثًا» لَيْسَ بِثَابِت؛ لِأَنَّهُ لَا (يُعلمهُ) مُتَّصِلا، وَإِن كَانَ ثَابتا كَانَ لم يَجْعَل عَلَى من قَتله قبل ثَلَاث شَيْئا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد رُوِيَ فِي التأني بالمرتد حَدِيث آخر عَن عمر بإسنادٍ متصلٍ، فَذكره عَن أنس بن مَالك قَالَ: «لما نزلنَا عَلَى تستر ... » فَذكر الحَدِيث فِي (الصَّحِيح) وَفِي قدومه عَلَى عمر بن الْخطاب «قَالَ عمر: يَا أنس، مَا فعل بالرهط السِّتَّة من بكر بن وَائِل الَّذين ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام فَلَحقُوا بالمشركين(8/575)
(قَالَ: فَأخذت بِهِ فِي حَدِيث آخر يشْغلهُ عَنْهُم، قَالَ: مَا فعل الرَّهْط الَّذين ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام فَلَحقُوا بالمشركين) من بكر بن وَائِل؟ قَالَ: (يَا) أَمِير الْمُؤمنِينَ، قتلوا فِي المعركة. قَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون. قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَهل كَانَ سبيلهم إِلَّا الْقَتْل؟ قَالَ: نعم، كنت (أعرض) عَلَيْهِم أَن يدخلُوا (فِي) الْإِسْلَام؛ فَإِن أَبَوا استودعتهم السجْن» .
فَائِدَة: قَوْله: «هَل من مُغَرِّبة حبر» يُقَال بِفَتْح الرَّاء وَكسرهَا (مَعَ) الْإِضَافَة فيهمَا، وَأَصله من الغرب وَهُوَ الْبعد، يُقَال: دَار غربَة أَي: بعيدَة، الْمَعْنى: هَل من خبر جَدِيد جَاءَ من بلادٍ بعيدَة. قَالَه ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» . وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : شُيُوخ «الْمُوَطَّأ» فتحُوا الْغَيْن وكسروا الرَّاء وشددوها (وأضافوها) . قَالَ: وَقد تفتح الرَّاء وَقد تسكَّن الْغَيْن. قَالَ: ويجوّز بَعضهم نصب الْخَبَر عَلَى الْمَفْعُول من مَعْنَى الْفِعْل فِي مغربة. قَالَ: وَهَذَا مثل يُقَال: هَل من مغربة خبر؟ أَي: هَل عنْدكُمْ خبر عَن حَادِثَة تستغرب؟ وَقيل: هَل من خبر جَدِيد جَاءَ من بلدٍ بعيد؟ يُقَال: غرب الرجل (إِذا بعد) وَغرب أَيْضا بِالتَّخْفِيفِ وَسَار مغرب، ومغرب أَيْضا أَي: بعيد.
الْأَثر الثَّالِث: «أَن أم مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة كَانَت مرتدة فاسترقها عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (واستولدها) » .(8/576)
وَهَذَا ذكره الْوَاقِدِيّ فِي «كتاب الرِّدَّة» من حَدِيث خَالِد بن الْوَلِيد «أَنه قسم سهم بني حنيفَة خَمْسَة أَجزَاء؛ فقسم عَلَى النَّاس أَرْبَعَة، وعزل الْخمس حَتَّى قدم بِهِ عَلَى أبي بكر» ثمَّ ذكر من عدّة طرق أَن أم مُحَمَّد بن عَلّي الْمَعْرُوف بِابْن الْحَنَفِيَّة كَانَت من ذَلِك السَّبي. قَالَ الرَّافِعِيّ: وقاس الْأَصْحَاب الْمَرْأَة عَلَى الرجل وَرووا أَن الْحَنَفِيَّة كَانَت أمة لبَعْضهِم، فَلَمَّا قُتِلَ علَى الرِّدَّة كَانَت من الْفَيْء.
فَائِدَة: اسْم أم مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة: خَوْلَة بنت جَعْفَر بن قيس بن سَارِيَة بن مسلمة بن عبيد بن ثَعْلَبَة بن يَرْبُوع. كَذَا حَكَاهُ ابْن مَاكُولَا فِي «إكماله» فِي «بَاب سَارِيَة من حرف السِّين» عَن ابْن الْكَلْبِيّ.
قَالَ ابْن خلكان: (وَيُقَال) كَانَت من سبي الْيَمَامَة، وَصَارَت إِلَى عليّ. وَقيل: بل كَانَت سندية سَوْدَاء، وَكَانَت أمة لبني حنيفَة وَلم تكن مِنْهُم، وَإِنَّمَا صَالحهمْ خَالِد بن الْوَلِيد عَلَى الرَّقِيق وَلم يصالحهم عَلَى أنفسهم.
الْأَثر الرَّابِع: عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَالَ لقوم من أهل الرِّدَّة جَاءُوا تَائِبين: تدون قَتْلَانَا، وَلَا ندي قَتْلَاكُمْ. فَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لَا نَأْخُذ لقتلانا دِيَة» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ بِنَحْوِهِ الْبَيْهَقِيّ، وَقد سلف فِي الْبَاب قبله بِطُولِهِ.(8/577)
قَالَ الرَّافِعِيّ - نقلا عَن الْأَئِمَّة -: (قَول) عمر ذَهَابًا إِلَى أَنهم لَا يضمنُون. (قلت) : وَيجوز أَن يكون الْغَرَض استمالتهم، أَي: لَا نَأْخُذ شَيْئا، وَإِن وَجب.(8/578)
كتاب حد الزِّنَا(8/579)
كتاب حد الزِّنَا
ذكر فِيهِ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فَثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قلت يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَي الذَّنب أعظم عِنْد الله؟ قَالَ: أَن تجْعَل لله ندًّا وَهُوَ (خلقك) . قلت: ثمَّ أَي؟ قَالَ: أَن تقتل ولدك خشيَة أَن يَأْكُل مَعَك. قلت: ثمَّ أَي؟ قَالَ: أَن تَزني بحليلة جَارك. فَأنْزل الله تَعَالَى تصديقها: (وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون» ) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَقد سلف بِطُولِهِ فِي أول «بَاب الْخراج» فَرَاجعه.
الحَدِيث الثَّانِي
قَالَ الرَّافِعِيّ: أجمع أهل الْملَل عَلَى تَحْرِيم الزِّنَا وَيتَعَلَّق بِهِ الْحَد، وَكَانَ الْوَاجِب فِي صدر الْإِسْلَام الْحَبْس والإيذاء عَلَى مَا قَالَ (تَعَالَى) : (واللاتي يَأْتِين الْفَاحِشَة من نِسَائِكُم (إِلَى قَوْله: (فآذوهما) . وَذهب عَامَّة الْأَصْحَاب إِلَى أَن الْحَبْس كَانَ فِي حق(8/581)
الثّيّب، والإيذاء (كَانَ) فِي حق الْبكر، وحملوا الْإِيذَاء عَلَى الثّيّب وَالتَّعْزِير بالْكلَام. وَعَن أبي الطّيب (بن) سَلمَة: أَن المُرَاد بالآيتين الْأَبْكَار، وَأَن الْحَبْس كَانَ فِي حق النِّسَاء، والإيذاء (بالْكلَام) فِي حق الرِّجَال، ثمَّ اسْتَقر الْأَمر عَلَى أَن الْبكر يجلد ويغرب، وَالثَّيِّب يرْجم، وَهل نسخ مَا كَانَ؟ قيل: لَا، بل بَان (بِمَا) اسْتَقر عَلَيْهِ الْأَمر آخرا السَّبِيل والإيذاء المطلقان فِي الِاثْنَيْنِ عَلَى مَا رُوِيَ عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خُذُوا عني، خُذُوا عني، قد جعل الله لهنَّ سَبِيلا الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام، (و) الثّيّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة وَالرَّجم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك سَوَاء.
الحَدِيث الثَّالِث
ثمَّ قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقيل: نسخ مَا كَانَ، ثمَّ عَلَى قَول ابْن سَلمَة: الْحَبْس والإيذاء منسوخان بقوله - تعالي -: (الزَّانِيَة وَالزَّانِي(8/582)
فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة) وَأما عَلَى قَول الْجُمْهُور، فَمن جوَّز نسخ الْكتاب بِالسنةِ قَالَ: نسخت عُقُوبَة الْبكر (بِآيَة الْجلد) و (عُقُوبَة (الثّيّب) بالأخبار الْوَارِدَة فِي الرَّجْم - (أَي) وَسَيَأْتِي - وَمن منع ذَلِك قَالَ) : عُقُوبَة الثّيّب نسخت بِالْقُرْآنِ أَيْضا إِلَّا أَنه لم يبْق متلوًا (رُوِيَ) عَن عمر أَنه قَالَ فِي خطبَته: «إِن الله - تَعَالَى - بعث مُحَمَّدًا (نبيًّا، وَأنزل عَلَيْهِ كتابا وَكَانَ فِيمَا أنزل عَلَيْهِ آيَة الرَّجْم فتلوناها ووعيناها (الشيخُ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نكالاً من الله وَالله عَزِيز حَكِيم (. وَقد رجم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ورجمنا بعده، وَإِنِّي أخْشَى أَن يطول بِالنَّاسِ زمَان فَيَقُول قَائِل: لَا رجم فِي كتاب الله، الرَّجْم حق عَلَى كل من زنَى من رجل أَو امْرَأَة إِذا أحصنا، وَلَوْلَا أَنِّي أخْشَى أَن يَقُول النَّاس زَاد (عمر) فِي كتاب الله لأثبته عَلَى حَاشِيَة الْمُصحف» وَكَانَ ذَلِك بمشهد من الصَّحَابَة فَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد، وَحَكَى ابْن كج وَجها أَنه لَو قَرَأَ قَارِئ آيَة الرَّجْم فِي صلَاته لم تفْسد.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من(8/583)
حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنه جلس عَلَى الْمِنْبَر، فَلَمَّا سكت الْمُؤَذّن قَامَ فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهله، ثمَّ قَالَ: أما بعد، فَإِنِّي قَائِل لكم مقَالَة قد قدر أَن أقولها، لَا أَدْرِي فلعلها بَين يَدي أَجلي، فَمن عقلهَا ووعاها (فليحدث) بهَا حَيْثُ انْتَهَت بِهِ رَاحِلَته، وَمن خشِي أَن لَا يَعْقِلهَا فَلَا أحل لأحدٍ أَن يكذب عليّ، إِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأنزل عَلَيْهِ الْكتاب، فَكَانَ مِمَّا أنزل عَلَيْهِ آيَة الرَّجْم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ورجمنا بعده، وأخشى إِن طَال بِالنَّاسِ زمَان أَن يَقُول قَائِل: وَالله مَا نجد آيَة الرَّجْم فِي كتاب الله، فيضلوا بترك فَرِيضَة أنزلهَا الله، وَالرَّجم فِي كتاب الله حق عَلَى من زنَى إِذا أحصن من الرِّجَال وَالنِّسَاء إِذا قَامَت الْبَيِّنَة، وَكَانَ الْحَبل أَو الِاعْتِرَاف» . وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: «وَلَوْلَا أَنِّي أكره أَن أَزِيد فِي كتاب الله لكتبته فِي الْمُصحف؛ فَإِنِّي قد خشيت أَن يَجِيء أَقوام فَلَا يجدونه فِي كتاب الله فيكفرون بِهِ» . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «وَايْم الله، لَوْلَا أَن يَقُول النَّاس: زَاد فِي كتاب الله لكتبتها» . وَفِي رِوَايَة للبيهقي «أَن الْآيَة: (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ) » . وَعَزاهَا إِلَى البُخَارِيّ وَمُسلم، وَمرَاده أصل الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة لَهُ: «الشَّيْخ وَالشَّيْخَة) إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نكالاً من الله وَالله عَزِيز حَكِيم (. وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» من(8/584)
حَدِيث أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف، عَن خَالَته العجماء، قَالَت: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ (بِمَا) قضيا من اللَّذَّة» . أخرجه من ثَلَاث طرق (كَذَلِك، وَفِي «مُسْند أَحْمد» و «صَحِيح الْحَاكِم» ) وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد و (فِي) «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَاصِم، عَن زر، عَن أُبيٍّ أَنه قَالَ: «كَانَت سُورَة الْأَحْزَاب توازي سُورَة الْبَقَرَة، وَكَانَ فِيهَا آيَة الرَّجْم (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نكالاً من الله وَالله عَزِيز حَكِيم (. وَفِي هَذِه الرِّوَايَة تعْيين مَحل هَذِه الْآيَة من الْقُرْآن.
الحَدِيث الرَّابِع إِلَى التَّاسِع
ثمَّ قَالَ الرَّافِعِيّ: وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّا لَا ننسخ الْكتاب بِالسنةِ إِذا لم تتواتر، وَالرَّجم مِمَّا اشْتهر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي قصَّة مَاعِز والغامدية واليهوديين، وَعَلَى ذَلِك جَرَى الْخُلَفَاء بعده وَبلغ حد التَّوَاتُر، فَعَن أبي هُرَيْرَة، وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ أَحدهمَا: يَا رَسُول الله، اقْضِ بَيْننَا بِكِتَاب الله ... »(8/585)
الحَدِيث الَّذِي تقدم فِي «اللّعان» ، وَفِي آخِره: «فَأمر أنيسًا الْأَسْلَمِيّ (أَن يَغْدُو) عَلَى امْرَأَة الآخر؛ فَإِن اعْترفت فارجمها، فَأَتَاهَا فَاعْترفت فرجمها» وَرُوِيَ: «أَن مَاعِز بن مَالك الْأَسْلَمِيّ اعْترف بِالزِّنَا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فرجمه» . وَعَن بُرَيْدَة «أَن امْرَأَة من غامد اعْترفت بِالزِّنَا، فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (برجمها) » . وَعَن عمرَان بن حُصَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مثل ذَلِك فِي امْرَأَة من جُهَيْنَة.
هَذَا آخر مَا ذكره الرَّافِعِيّ، وَهُوَ مُشْتَمل عَلَى خَمْسَة أَحَادِيث، أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد فَتقدم بيانهما مَبْسُوطا فِي اللّعان، وَأما حَدِيث الْيَهُودِيين فَسَيَأْتِي حَيْثُ ذكره المُصَنّف، وَأما حَدِيث مَاعِز فَأخْرجهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «جَاءَ مَاعِز بن مَالك إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، طهرني. فَقَالَ: وَيحك، ارْجع واستغفر الله وَتب إِلَيْهِ. قَالَ: فَرجع غير بعيد، ثمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، طهرني. فَأَعَادَ القَوْل عَلَيْهِ، فَأَعَادَ هُوَ حَتَّى إِذا كَانَت الرَّابِعَة قَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مِم أطهرك؟ قَالَ: من الزِّنَا. فَسَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أبه جُنُون؟ فَأخْبر أَنه لَيْسَ بمجنون، فَقَالَ: أشربت خمرًا؟ فَقَامَ رجل فاستنكهه فَلم يجد مِنْهُ ريح خمر، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أزنيت؟ قَالَ: نعم. فَأمر بِهِ فرجم، (وَكَانَ) النَّاس فِيهِ فرْقَتَيْن: (فَقَائِل) يَقُول: قد هلك، لقد أحاطت بِهِ خطيئته. (وَقَائِل) يَقُول: مَا تَوْبَة أفضل من تَوْبَة مَاعِز، إِنَّه جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَوضع يَده فِي يَده (فَقَالَ) : اقتلني بِالْحِجَارَةِ.(8/586)
(قَالَ) : فلبثوا بذلك يَوْمَيْنِ وَثَلَاثَة، ثمَّ جَاءَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وهم جُلُوس فَسلم ثمَّ جلس فَقَالَ: اسْتَغْفرُوا لماعز بن مَالك. فَقَالُوا: غفر الله لماعز بن مَالك. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لقد تَابَ تَوْبَة لَو قسمت بَين أمة لوسعتهم» . هَذَا لفظ مُسلم فِي إحدي روايتيه. وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» : «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، إِنَّه الْآن لفي أَنهَار الْجنَّة ينغمس فِيهَا» . وَرَوَى قصَّة مَاعِز الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس وَمُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما رجم مَاعِز بن مَالك قَالَ: لقد رَأَيْته يتخضخض فِي أَنهَار الْجنَّة» . وَرَوَاهُ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر بِهِ فطرد فِي الثَّلَاث مَرَّات الأول» .
فَائِدَة: مَاعِز هَذَا هُوَ ابْن مَالك، وَهُوَ أسلمي قَالَ ابْن عبد الْبر: هُوَ مَعْدُود فِي الْمَدَنِيين، كتب لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كتابا بِإِسْلَام قومه، رَوَى عَنهُ ابْنه عبد الله حَدِيثا وَاحِدًا. وَحَكَى الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم خلف بن عبد الْملك الْقُرْطُبِيّ، عَن أبي (عَلّي) بن السّكن، وَأبي الْوَلِيد(8/587)
بن الفرضي: أَن ماعزًا لقب لَهُ، وَأَن اسْمه غَرِيب بن مَالك.
وَأما حَدِيث الغامدية: فَأخْرجهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» عقب (حَدِيث) مَاعِز من رِوَايَة بُرَيْدَة قَالَ: «ثمَّ جَاءَت امْرَأَة من غامد من الأزد، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، طهرني. قَالَ: وَيحك، ارجعي فاستغفري الله وتوبي إِلَيْهِ. فَقَالَت: أَرَاك تُرِيدُ أَن ترددني كَمَا رددت مَاعِز بن مَالك. قَالَ: وَمَا ذَاك؟ قَالَت: إِنَّهَا حُبلى من الزِّنَا، فَقَالَ: آنت؟ قَالَت: نعم. فَقَالَ لَهَا: حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنك. قَالَ: فكفلها رجل من الْأَنْصَار حَتَّى وضعت، قَالَ: (فَأتي) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين وضعت، (فَقَالَ) : وضعت الغامدية يَا رَسُول الله، قَالَ: إِذا لَا نرجمها وَنَدع وَلَدهَا صَغِيرا، لَيْسَ (لَهُ) من يرضعه. فَقَامَ رجل من الْأَنْصَار فَقَالَ: إليَّ رضاعه يَا رَسُول الله. فرجمها» هَذَا لفظ إِحْدَى روايتي مُسلم، وَقد سلف فِي «بَاب السُّكْنَى للمعتدة» الِاخْتِلَاف فِي اسْمهَا. وَفِي «علل (ابْن) أبي حَاتِم» : سُئِلَ أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَذكره وَفِيه: أَنَّهَا قَالَت: «أقِم عليَّ الْحَد، فَقَالَ: حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنك. فَلَمَّا وضعت جَاءَت فَقَالَت: قد (وضعت)(8/588)
قَالَ: فاذهبي فأرضعيه حَتَّى تفطميه. فَذَهَبت فأرضعته حَتَّى فَطَمته، ثمَّ جَاءَت فَقَالَ: قد فَطَمته. قَالَ: اذهبي فاكفليه. فَذَهَبت، ثمَّ جَاءَت هِيَ وَأُخْت لَهَا تماشيان، فَقَالَت: هَذِه أُخْتِي تكفله. فَجعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[يعجب] مِنْهَا، وَمن أُخْتهَا، ثمَّ أَمر بهَا أَن ترْجم، ثمَّ قَالَ: إِذا وضعتموها فِي حفرتها فليذهب رجل (مِنْكُم) من بَين يَديهَا كَأَنَّهُ يُرِيد أَن يرميها حَتَّى إِذا (شغلها) فليذهب (بِرَجُل) مِنْكُم (من) خلفهَا بِحجر عَظِيم فليرم [بِهِ] رَأسهَا» . قَالَ ابْن أبي حَاتِم: قَالَ أبي: هَذَا حَدِيث مُنكر.
وَأما حَدِيث عمرَان: فَأخْرجهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» أَيْضا عَنهُ: «أَن امْرَأَة من جُهَيْنَة أَتَت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَهِي حُبلى من الزِّنَا، فَقَالَت: يَا نَبِي الله، أصبت حدًّا فأقمه عليّ. قَالَ: فَدَعَا نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَليهَا، فَقَالَ: أحسن إِلَيْهَا، فَإِذا وضعت فائتني بهَا. فَفعل، فَأمر بهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فشكت عَلَيْهَا ثِيَابهَا، ثمَّ أَمر بهَا فرجمت، ثمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عمر: تصلي عَلَيْهَا يَا نَبِي الله وَقد زنت؟ ! فَقَالَ (لي) : يَا عمر، لقد تابت تَوْبَة لَو قسمت بَين سبعين من أهل الْمَدِينَة لوسعتهم، وَهل وجدت تَوْبَة أفضل من أَن(8/589)
جَادَتْ بِنَفسِهَا إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ؟» . وَفِي النَّسَائِيّ: «حضر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَجمهَا ورماها بِحجر قدر الحمصة، وَهُوَ رَاكب عَلَى بغلته، ثمَّ قَالَ للنَّاس: ارموا، وَإِيَّاكُم وَجههَا» . وَفِي الطَّبَرَانِيّ: «لقد تابت تَوْبَة لَو قَامَ بهَا أهل الْمَدِينَة لقبل مِنْهُم» .
الحَدِيث التَّاسِع (إِلَى الثَّالِث عشر)
قَالَ الرَّافِعِيّ: حد المحصنين الرَّجْم، رجلا كَانَ أَو امْرَأَة، وَلَا يجلد مَعَ الرَّجْم، خلافًا لِأَحْمَد حَيْثُ قَالَ: يجلد ثمَّ يرْجم. وَبِه قَالَ ابْن الْمُنْذر لما سبق من حَدِيث عبَادَة وَيروَى: «أَن عليًّا - كرم الله وَجهه - جلد شراحة الهمدانية ثمَّ رَجمهَا، (وَقَالَ) : جلدتها بِكِتَاب الله، ورجمتها بسُنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَوجه ظَاهر الْمَذْهَب مَا رُوِيَ عَن جَابر: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجم ماعزًا وَلم يجلده، ورجم الغامدية وَلم يرد أَنه جلدهَا» . قَالَ الْأَصْحَاب: وَحَدِيث عبَادَة فِي الْجلد مَنْسُوخ بِفعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَمَا نقل عَن عَليّ فَعَن عمر خِلَافه.
هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ، وَهُوَ (يشْتَمل) عَلَى أَرْبَعَة أَحَادِيث: (أَحدهَا) حَدِيث عبَادَة (بن الصَّامِت) : وَقد سلف قَرِيبا.
ثَانِيهَا: حَدِيث عليّ: رَوَاهُ كَذَلِك أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالنَّسَائِيّ(8/590)
فِي «سنَنه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» قَالَ: وَإِسْنَاده صَحِيح وَلم يخرجَاهُ، قَالَ: وَكَانَ الشّعبِيّ يذكر أَنه شهد رجم شراحة، وَيَقُول: إِنَّه لَا يحفظ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ غير ذَلِك. وَعَزاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع الْأَسَانِيد» والمزي فِي «أَطْرَافه» إِلَى البُخَارِيّ أَيْضا. وَلما ذكره الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين الْمَقْدِسِي فِي «أَحْكَامه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور قَالَ: هَكَذَا ذكره (أَبُو) مَسْعُود فِي) «الْأَطْرَاف» ، والْحميدِي فِي «جمعه بَين الصَّحِيحَيْنِ» وَقَالا: رَوَاهُ البُخَارِيّ، قَالَ: وَلم أره فِي البُخَارِيّ إِلَّا عَن الشّعبِيّ، عَن عَلّي حِين رجم الْمَرْأَة يَوْم الْجُمُعَة قَالَ: «رجمتها بِسنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . قَالَ: وَيحْتَمل أَن (يكون) فِي بعض النّسخ كَمَا ذكرا.
فَائِدَة: «شراحة» هَذِه بالشين الْمُعْجَمَة والحاء الْمُهْملَة؛ فاعلمه فَإِنَّهُ يلتبس ب «شراجة» بِالْجِيم، وَهُوَ زيد بن شراجة شيخ لعوف الْأَعرَابِي، وَإِن كَانَ حُكيَ فِي هَذَا أَيْضا بِالْحَاء الْمُهْملَة لَكِن الإعجام أصح كَمَا قَالَه يَحْيَى بن معِين. وتَنْبِيه لأمر آخر وَرَاء هَذَا كُله، وَهُوَ أَن شراحة بِالْحَاء أَو بِالْجِيم بِضَم (أَوله) إِذْ لَا يفتح كَمَا يجْرِي عَلَى الْأَلْسِنَة، كَذَا ضَبطه(8/591)
ابْن نقطة بِخَطِّهِ فِي كتاب «الْإِكْمَال» فِي موضِعين؛ فاعلمه.
ثَالِثهَا: حَدِيث جَابر - وَهُوَ ابْن سَمُرَة - رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، عَنهُ: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجم مَاعِز بن مَالك» . وَلم يذكر (جلدا) هَذَا لَفظه. وَكَذَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» .
رَابِعهَا: حَدِيث رجم الغامدية دون جلدهَا: وَهُوَ مَشْهُور فِي طرقه، قَالَ الشَّافِعِي: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «خُذُوا عني قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا» ، أول مَا انْزِلْ فنسخ بِهِ الْحَبْس والأذى عَن (الزَّانِيَيْنِ) فَلَمَّا رجم عَلَيْهِ السَّلَام ماعزًا (وَلم يجلده) وَأمر أنيسًا أَن (يغدوا) عَلَى امْرَأَة الآخر «فَإِن اعْترفت (فارجمها) » . دلّ عَلَى نسخ الْجلد عَن الزَّانِيَيْنِ الحرين الثيبين. (قُلْنَا) وَقَول الرَّافِعِيّ: وَمَا نقل عَن عليّ فَعَن عمر خِلَافه هُوَ حَدِيث عمر السالف، فَإِنَّهُ لم يذكر فِيهِ إِلَّا الرَّجْم.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
حَدِيث هِنْد فِي الْبيعَة: «أوتزني الْحرَّة؟ !» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو يعْلى الْموصِلِي فِي «مُسْنده» ، عَن نصر بن عَلّي (حَدَّثتنِي غِبْطَة) أم عَمْرو - عَجُوز من بني مجاشع -(8/592)
(قَالَت) حَدَّثتنِي عَمَّتي، عَن جدتي، عَن عَائِشَة قَالَت: «جَاءَت هِنْد بنت عتبَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لتبايعه، فَنظر إِلَى (يَديهَا) فَقَالَ لَهَا: اذهبي فغيري يَديك. قَالَت: فَذَهَبت فغيرتها بحناء، ثمَّ جَاءَت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: أُبَايِعك عَلَى أَلا تشركي بِاللَّه شَيْئا، وَلَا تسرقي، وَلَا تَزني. قَالَت: أوتزني الْحرَّة؟ ! قَالَ: وَلَا (تقتلي أولادك) خشيَة إملاق. قَالَت: وَهل تركت لنا أَوْلَادًا (فنقتلهم) ؟ ! قَالَت: فَبَايَعته ثمَّ قَالَت لَهُ - وَعَلَيْهَا (سواران) من ذهب -: مَا تَقول فِي هذَيْن السوارين؟ قَالَ: (جمرتين) من جمر جَهَنَّم» . وَقد وَقع لنا هَذَا الحَدِيث بعلو أنبأنيه المزيّ وَغَيره، أبنا أَحْمد بن هبة الله، أبنا (عبد الْمعز) بن مُحَمَّد الْهَرَوِيّ، أَنا تَمِيم بن أبي سعيد الْجِرْجَانِيّ، أَنا أَبُو سعيد الكنجروذي، أَنا أَبُو عَمْرو بن حمدَان، أبنا أَبُو يعْلى ... فَذكره، وَفِي إِسْنَاده نسْوَة (و) لَا يعرفن. وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (كِتَابه) «معرفَة الصَّحَابَة» من(8/593)
حَدِيث (كرْدُوس بن مُحَمَّد بن خلف) ، ثَنَا يَعْقُوب بن مُحَمَّد الزُّهْرِيّ، ثَنَا عبد الله بن مُحَمَّد، (عَن) هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، قَالَ: «قَالَت هِنْد لأبي سُفْيَان: إِنِّي أُرِيد أَن أبايع (مُحَمَّدًا) ، قَالَ: قد رَأَيْتُك (تَكْفِي) من هَذَا الحَدِيث أمس. فَقَالَت: إِنِّي وَالله (مَا رَأَيْت) الله عبد حق عِبَادَته فِي هَذَا الْمَسْجِد قبل اللَّيْلَة، وَالله إنْ باتوا إِلَّا مصلين قيَاما وركوعًا وسجودًا. قَالَ: فَإنَّك قد فعلت (فاذهبي) بِرَجُل من قَوْمك مَعَك، قَالَ: (فَذَهَبت) إِلَى عُثْمَان فَذهب مَعهَا، فَدخلت وَهِي (منتقبة) فَقَالَ: تبايعي عَلَى أَن أَلا تشركي بِاللَّه شَيْئا، وَلَا تسرقي، وَلَا تَزني. فَقلت: أَو (هَل) تَزني الْحرَّة؟ ! قَالَ: وَلَا تقتلي (ولدك) فَقَالَت: إِنَّا رَبَّيْنَاهُمْ صغَارًا و (قَتلتهمْ) كبارًا. قَالَ: قَتلهمْ الله يَا هِنْد. فَلَمَّا فرغ من الْآيَة بايعته قَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي بَايَعْتُك عَلَى أَن لَا أسرق وَلَا أزني، وإنَّ أَبَا سُفْيَان رجل بخيل وَلَا يعطيني مَا يَكْفِينِي إِلَّا مَا أخذت مِنْهُ من غير علمه. قَالَ: مَا تَقول يَا أَبَا سُفْيَان؟ فَقَالَ (أَبُو)(8/594)
سُفْيَان: أما يَابسا فَلَا، وَأما رطبا فأحله. قَالَ: فحدثتني عَائِشَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهَا: خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ» قَالَ أَبُو نعيم: لَا نعلم أحدا سَاقه هَذَا السِّيَاق إِلَّا عبد الله. وَاقْتصر سُفْيَان عَلَى قَوْله: «إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح» قلت: وَيَعْقُوب هَذَا ضعفه أَبُو زرْعَة. وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء.
وَعبد الله بن مُحَمَّد بن (عُرْوَة) الظَّاهِر أَنه عبد الله بن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن عُرْوَة وَهُوَ واهٍ. قَالَ ابْن حبَّان: يروي الموضوعات عَن الثِّقَات. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وسَاق ابْن عدي لَهُ أَحَادِيث فَقَالَ: عامتها مِمَّا لَا يُتَابع عَلَيْهِ الثِّقَات. وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» فِي تَرْجَمَة فَاطِمَة بنت عتبَة أُخْت هِنْد بِإِسْنَادِهِ إِلَى فَاطِمَة بنت عتبَة «أَن أَبَا حُذَيْفَة ذهب بهَا وبأختها هِنْد تبايعان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا اشْترط عَلَيْهِنَّ قَالَت هِنْد: أوتعلم فِي نسَاء قَوْمك من هَذِه الهنات والعاهات (شَيْئا) . فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَة لَهَا: الْآن فبايعيه، فَإِنَّهُ هَكَذَا يشْتَرط» وَفِيه فِي سُورَة الامتحان بِإِسْنَادِهِ إِلَى فَاطِمَة فَذكره، وَزَاد: « (فَقَالَت) هِنْد: لَا أُبَايِعك عَلَى السّرقَة، إِنِّي أسرق من زَوجي. فَكف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَده وكفت يَدهَا، حَتَّى أرسل إِلَى أبي سُفْيَان يتَحَلَّل لَهَا مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: أما الرطب فَنعم وَأما الْيَابِس فَلَا، وَلَا نعْمَة. قَالَت: فَبَايَعْنَاهُ ... » الحَدِيث ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَرَوَاهُ الْحَازِمِي فِي(8/595)
«ناسخه ومنسوخه» من حَدِيث حُصَيْن، عَن عَامر الشّعبِيّ، وَفِيه: «فَلَمَّا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (وَلَا يَزْنِين) . قَالَت: أوتزني الْحرَّة؟ ! لقد كُنَّا نستحي من ذَلِك فِي الْجَاهِلِيَّة فَكيف فِي الْإِسْلَام» . ثمَّ قَالَ الْحَازِمِي: هَذَا مُنْقَطع. قلت: وَذكره السُّهيْلي أَيْضا قَالَ: «كَانَ من حَدِيث هِنْد يَوْم الْفَتْح أَنَّهَا بَايَعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَهُوَ عَلَى الصَّفا وَعمر دونه بِأَعْلَى الْعقبَة، فَجَاءَت فِي نسْوَة من قُرَيْش يبايعن عَلَى الْإِسْلَام وَعمر يكلمهن عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا أَخذ عَلَيْهِنَّ أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا، قَالَت هِنْد: قد علمنَا أَنه لَو كَانَ مَعَ الله غَيره لأغنى عَنَّا. فَلَمَّا قَالَ: (وَلَا يَسْرِقن) . قَالَت: وَهل تسرق الْحرَّة؟ ! وَلَكِن يَا رَسُول الله أَبُو سُفْيَان رجل مِسِّيك (و) رُبمَا أخذت من مَاله بِغَيْر علمه مَا يصلح وَلَدي. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ. ثمَّ قَالَ: لِأَنَّك لأَنْت هِنْد؟ قَالَت: نعم يَا رَسُول الله، اعْفُ عني عَفا اللهُ عَنْك. وَكَانَ أَبُو سُفْيَان حَاضرا، فَقَالَ: أَنْت فِي حل مِمَّا أخذت. فَلَمَّا قَالَ: (وَلَا يَزْنِين) قَالَت: وَهل تَزني الْحرَّة يَا رَسُول الله؟ ! فَلَمَّا قَالَ: (وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف) قَالَت: بِأبي أَنْت وَأمي مَا أكرمك وَأحسن مَا دَعَوْت إِلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعت: (وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ) قَالَت: وَالله قد رَبَّيْنَاهُمْ صغَارًا حَتَّى قَتلتهمْ أَنْت وَأَصْحَابك ببدر كبارًا. قَالَ: فَضَحِك عمر من قَوْلهَا حَتَّى مَال» .(8/596)
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إِلَّا وَمَعَهَا زَوجهَا أَو محرم لَهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن تُسَافِر الْمَرْأَة مسيرَة يَوْمَيْنِ أَو لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا زَوجهَا أَو ذُو محرم» . وَذكر الْمحرم ثَابت فيهمَا، من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إِلَّا مَعَ ذِي محرم» . وَمن حَدِيث ابْن عمر: «لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «فَوق ثَلَاث» . وَفِي أُخْرَى: «ثَلَاثَة إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم» وَفِي أُخْرَى لَهُ: «لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر تُسَافِر مسيرَة ثَلَاثًا إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم» . وَفِي أُخْرَى لَهُ: «لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تُسَافِر سفرا يكون ثَلَاثَة أَيَّام فَصَاعِدا إِلَّا وَمَعَهَا أَبوهَا أَو ابْنهَا أَو زَوجهَا أَو أَخُوهَا أَو ذُو محرم مِنْهَا» . وَفِي أُخْرَى لَهُ: «لَا تُسَافِر الْمَرْأَة يَوْمَيْنِ من الدَّهْر إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم مِنْهَا أَو زَوجهَا» .(8/597)
وثابت فيهمَا أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لَا يحل لامْرَأَة تُسَافِر مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة إِلَّا مَعَ ذِي محرم عَلَيْهَا» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم أُخْرَى: «لَيْلَة» وَأغْرب الْحَاكِم فاستدركها عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا عَلَى شَرطه. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «لَا تُسَافِر امْرَأَة مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا مَعَ ذِي محرم» . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَابْن حبَان: «بريدًا» وَفِي الطَّبَرَانِيّ «الْكَبِير» ، من حَدِيث أبي مَالك الْجَنبي، عَن جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «لَا تُسَافِر الْمَرْأَة ثَلَاثَة أَمْيَال إِلَّا مَعَ زوج أَو (مَعَ ذِي) محرم» . فَقيل لِابْنِ عَبَّاس: النَّاس يَقُولُونَ: ثَلَاثَة أَيَّام. قَالَ: إِنَّمَا هُوَ وهم. قلت: وَهَذَا سَنَد واهٍ، وَاخْتِلَاف هَذِه الْأَلْفَاظ لاخْتِلَاف السَّائِلين والمواطن، وَلَيْسَ فِي النَّهْي عَن الثَّلَاثَة تَصْرِيح بِإِبَاحَة الْيَوْم أَو اللَّيْلَة أَو الْبَرِيد، وَالْحَاصِل أَن كل مَا يُسمى سفرا ينْهَى عَنهُ بِغَيْر زوج أَو محرم.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجم يهوديين زَنَيَا وَكَانَا قد أحصنا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من(8/598)
حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: [سَمِعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ] «زنَى رجل وَامْرَأَة من الْيَهُود وَقد أحصنا، حِين قدم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَدِينَة، وَقد كَانَ الرَّجْم مَكْتُوبًا عَلَيْهِم فِي التَّوْرَاة، فَتَرَكُوهُ وَأخذُوا بالتجبية، يضْرب مائَة بِحَبل مَطْلِي بقار وَيحمل عَلَى حمَار وَوَجهه مِمَّا يَلِي دبُر الْحمار، فَاجْتمع أَحْبَار من أَحْبَارهم، فبعثوا قوما آخَرين إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: سلوه عَن حد الزَّانِي ... » قَالَ: وسَاق الحَدِيث، قَالَ (فِيهِ) : «وَلم (يَكُونُوا) من أهل دينه، فَيحكم بَينهم، فَخير فِي ذَلِك (قَالَ) : (فَإِن جاءوك فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم)
» هَذَا لفظ أبي دَاوُد بِكَمَالِهِ، وَأَشَارَ بقوله: «وسَاق الحَدِيث» إِلَى مَا رَوَاهُ أَولا بِإِسْنَاد لَيْسَ فِيهِ [ابْن] إِسْحَاق، عَن أبي هُرَيْرَة: «زنَى رجل من الْيَهُود وَامْرَأَة، فَقَالَ: بَعضهم لبَعض: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِي - (- فَإِنَّهُ نَبِي بعث بِالتَّخْفِيفِ، فَإِن أَفتانا بِفُتْيَا دون الرَّجْم قبلناها واحتججنا [بهَا] عِنْد الله، قُلْنَا: فتيا نَبِي من أنبيائك. قَالَ: فَأتوا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ جَالس فِي الْمَسْجِد فِي أَصْحَابه، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِم، مَا ترَى فِي رجل وَامْرَأَة مِنْهُم زَنَيَا(8/599)
؟ فَلم يكلمهم كلمة حَتَّى أَتَى بَيت مدارسهم فَقَامَ عَلَى الْبَاب فَقَالَ: أنْشدكُمْ (بِاللَّه) الَّذِي أنزل التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى، مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة عَلَى من زنَى إِذا أحصن؟ قَالُوا: يحمم ويُجبه ويجلد - وَالتَّجْبِيَة: أَن يحمل الزانيان عَلَى حمَار وتقابل أقفيتهما وَيُطَاف بهما - قَالَ: وَسكت شَاب مِنْهُم، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ألظّ بِهِ النِّشدة، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدتنَا فَإنَّا نجدُ فِي التَّوْرَاة الرَّجْم. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَمَا أول مَا ارتخصتم أَمر الله؟ قَالُوا: زنَى ذُو قرَابَة من ملكٍ من مُلُوكنَا فَأخر عَنهُ الرَّجْم، ثمَّ زنَى رجل فِي أسرة [من] النَّاس فَأَرَادَ رجمه، فحال قومه دونه، وَقَالُوا: لَا نرجم صاحبنا حَتَّى (يَجِيء صَاحبك) فنرجمه. فَاصْطَلَحُوا (عَلَى) هَذِه الْعقُوبَة بَينهم. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَإِنِّي أحكم (بَيْنكُم) بِمَا فِي التَّوْرَاة. فَأمر بهما فَرُجِمَا» . قَالَ الزُّهْرِيّ: فَبَلغنَا أَن هَذِه (الْآيَة) نزلت فيهم: (إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هُدى وَنور يحكمُ بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا) كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِنْهُم. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد فِيهِ ضَعِيف عَن عبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء الزبيدِيّ: «أَن الْيَهُود أَتَوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّة زَنَيَا، (قد(8/600)
أحصنا) فَأمر بهما رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَرُجِمَا. قَالَ عبد الله بن الْحَارِث: فَكنت أَنا (ممَّن) رجمهما» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَيروَى هَذَا اللَّفْظ فِي حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن (يزِيد) بن ركَانَة، عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الشَّيْبَانِيّ. عَن ابْن عبَّاس قَالَ: «أُتِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّة قد أحصنا، (فسألوا) أَن يحكم فِيمَا بَينهم فَحكم بَينهمَا بِالرَّجمِ» . قلت: وَأخرجه الْحَاكِم (كَذَلِك) فِي «مُسْتَدْركه» ، وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وأوضح حَال إِسْمَاعِيل الشَّيْبَانِيّ هَذَا. وأصل قصَّة رجم الْيَهُودِيين فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عمر، وَفِيه: «أَنه عَلَيْهِ السَّلام أَمر بهم فَرُجِمَا» . وَفِيه: «أَن الرجل جعل يحني عَلَى الْمَرْأَة يَقِيهَا الْحِجَارَة» . وَفِي «صَحِيح مُسلم» ، من حَدِيث جَابر قَالَ: «رجم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (رجلا) من أسلم ورجلاً من الْيَهُود وَامْرَأَة» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب - يَعْنِي «رجم أهل الْكتاب» - عَن ابْن عمر، والبراء، وَجَابِر،(8/601)
وَابْن أبي أَوْفَى، وَعبد الله بن الْحَارِث بن جَزْءٍ، وَابْن عَبَّاس، وَجَابِر بن سَمُرَة، (قَالَ) وَحَدِيث ابْن عمر حَدِيث حسن صَحِيح، وَحَدِيث جَابر بن سَمُرَة حسن غَرِيب.
الحَدِيث السَّادِس عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من وجدتموه يعْمل عمل قوم لوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة خلا النَّسَائِيّ، وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ كلهم من هَذَا الْوَجْه (رَوَاهُ) أَحْمد، عَن أبي الْقَاسِم بن أبي الزِّنَاد، عَن ابْن أبي حَبِيبَة، [عَن] دَاوُد بن الْحصين، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا: «اقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ فِي عمل قوم لوط، والبهيمة وَالْوَاقِع عَلَى الْبَهِيمَة، وَمن وَقع عَلَى ذَات محرمٍ فَاقْتُلُوهُ» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن النُّفَيْلِي، عَن الدَّرَاورْدِي، عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو مولَى الْمطلب، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عباسٍ مَرْفُوعا. كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن الدَّرَاورْدِي بِهِ(8/602)
سَوَاء. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَأبي بكر بن الخلاد كِلَاهُمَا، عَن الدَّرَاورْدِي سَوَاء. وَرَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن عَمْرو بِهِ، (وَمن حَدِيث [عبد الله بن جَعْفَر] المخرمي عَن عَمْرو بِهِ) سَوَاء أَيْضا.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، عَن شَيْخه الْحَاكِم بِهِ وَرَوَاهُ ابْن عدي، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث دَاوُد بن الْحصين، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا. وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي «مُعْجَمه» ، من حَدِيث دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عباسٍ، ثمَّ قَالَ: الصَّحِيح دَاوُد بن الْحصين. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَى هَذَا الحَدِيث سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو، بِمثلِهِ. وَرَوَاهُ عباد بن مَنْصُور، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، رَفعه. وَرَوَاهُ ابْن جريج، عَن إِبْرَاهِيم، عَن دَاوُد بن الْحصين، عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَفعه. وَرَوَاهُ سعيد بن جُبَير، وَمُجاهد، عَن ابْن عَبَّاس، أَنه قَالَ: «فِي الْبكر يُوجد عَلَى اللوطية؟ قَالَ: يرْجم» . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّمَا يعرف هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا من هَذَا الْوَجْه. قَالَ: وَرَوَى مُحَمَّد بن إِسْحَاق هَذَا الحَدِيث، عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو، فَقَالَ: «مَلْعُون من عمل عمل قوم لوط» وَلم يذكر الْقَتْل فِيهِ، وَذكر فِيهِ: «مَلْعُون من أَتَى الْبَهِيمَة» .(8/603)
هَذَا آخر كَلَامه، وَعَمْرو هَذَا من رجال «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيح» لَكِن تكلم فِيهِ بَعضهم كَمَا أوضحته لَك فِي «بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام» وَنقل عبد الْحق، عَن النَّسَائِيّ أَنه قَالَ: هُوَ ثِقَة، لَكِن يُنكر عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث. وَأما الْحَاكِم فَقَالَ فِي «مُسْتَدْركه» بعد أَن أخرجه من جِهَته فِي كل من طريقيه: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ ثمَّ ذكر لَهُ شَاهدا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من عمل عمل قوم لوط فارجموا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ» . قلت: فِيهِ عبد الرَّحْمَن الْعمريّ وَهُوَ سَاقِط، وَابْن أبي (حَبِيبَة) الْوَاقِع فِي رِوَايَة أَحْمد، وَثَّقَهُ أَحْمد نَفسه وَضَعفه (غَيره) ، وَدَاوُد بن الْحصين من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَإِن لينه أَبُو زرْعَة. وَرَوَى الْحَاكِم أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» ، من حَدِيث عَمْرو بن أبي عَمْرو، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عباسٍ مَرْفُوعا: «لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من غيرّ تخوم الأَرْض، لعن الله من كمه الْأَعْمَى عَن السَّبيل، لعن الله من سبَّ وَالِديهِ، لعن الله من تولى غير موَالِيه، لعن الله من عمل عمل قوم لوط» . وَفِي رِوَايَة: «لعن الله من وَقع عَلَى بَهِيمَة» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: وَقَالَ: سُلَيْمَان بن بِلَال: سَمِعت يَحْيَى بن سعيد وَرَبِيعَة يَقُولَانِ: «من عمل عمل قوم لوطٍ، فَعَلَيهِ الرَّجم رجلا كَانَ أَو(8/604)
امْرَأَة» . قلت: وَأخرج النَّسَائِيّ من طَرِيق قُتَيْبَة، عَن الدَّرَاورْدِي، عَن (عَمْرو) مَرْفُوعا: «لعن الله من وَقع عَلَى بهيمةٍ» . ثمَّ قَالَ: عَمْرو لَيْسَ بِالْقَوِيّ. قَالَ الْمزي فِي «أَطْرَافه» : قد تَابعه خَالِد بن مخلد، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن عَمْرو. وَقَالَ ابْن الطلاع فِي «أَحْكَامه» : لم يثبت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه رجم فِي اللواط، وَلَا أَنه حكم فِيهِ، وَثَبت عَنهُ أَنه قَالَ: «اقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ» رَوَاهُ عَنهُ ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: «أحصنا أَو لم يحصنا» . كَذَا قَالَ، وَقد علمت مَا فِيهِ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَاسْتشْهدَ بِهِ الْحَاكِم، وَقَالَ [التِّرْمِذِيّ] : فِي إِسْنَاده مقَال، لَا نَعْرِف أحدا رَوَاهُ عَن (سُهَيْل بن أبي صَالح) (غير) عَاصِم الْعمريّ وَهُوَ يضعَّف فِي الحَدِيث. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن جَابر أَيْضا.
فَائِدَة: ادَّعَى ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» نسخ حَدِيث ابْن عباسٍ هَذَا بِحَدِيث عُثْمَان: «لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث» وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ، فَأَيْنَ التَّارِيخ؟ بل هُوَ دَاخل فِي حَدِيث عُثْمَان؛(8/605)
لِأَن فِيهِ «زنا بعد إِحْصَان» واللوطي زَان، لَا جرم تعقبه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «إِعْلَامه» بِمَا ذكرت.
الحَدِيث السَّابع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أَتَى الرجل الرجل فهما زانيان» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن خَالِد الْحذاء، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أَتَى الرجل الرجل فهما زانيان، وَإِذا أَتَت الْمَرْأَة الْمَرْأَة فهما زانيتان» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن هَذَا لَا أعرفهُ، وَهُوَ مُنكر (بِهَذَا) الْإِسْنَاد. قلت: مُحَمَّد هَذَا مَعْرُوف، يُقَال لَهُ: الْمَقْدِسِي الْقشيرِي، رَوَى عَن: جَعْفَر بن مُحَمَّد، وَحميد الطَّوِيل، وخَالِد الْحذاء، وَعبيد الله بن عمر، وَفطر بن خَليفَة. رَوَى عَنهُ: أَبُو حَمْزَة، وَبَقِيَّة، وَأَبُو بدر، وَسليمَان (بن) شُرَحْبيل. ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «كِتَابه» ، وَقَالَ: ذكره البُخَارِيّ. قَالَ: وَسَأَلت أبي عَنهُ (فَقَالَ) : مَتْرُوك الحَدِيث، كَانَ يكذب، ويفتعل الحَدِيث. قلت: وَله طَرِيق آخر إِلَى أبي مُوسَى، أخرجه الْأَزْدِيّ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، من حَدِيث(8/606)
بشر بن الْفضل (البَجلِيّ) ، عَن أنس بن سِيرِين، عَن أبي يَحْيَى، عَن أبي (مُوسَى) مَرْفُوعا: «إِذا بَاشر الرجل الرجل، وَالْمَرْأَة الْمَرْأَة فهما زانيان» . قَالَ الْأَزْدِيّ: (بشر) هَذَا مَجْهُول.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَتَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ، واقتلوا الْبَهِيمَة - قيل لِابْنِ عَبَّاس: فَمَا شَأْن الْبَهِيمَة؟ قَالَ: مَا أرَاهُ قَالَ ذَلِك إِلَّا أَنه كره (أَن يُؤْكَل) لَحمهَا، وَقد عمل بهَا ذَلِك الْعَمَل» . وَيروَى أَنه قَالَ فِي الْجَواب: «إِنَّهَا تُرى، فَيُقَال: هَذَا الَّذِي فعل بهَا مَا فعل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه الْكُبْرَى» بِإِسْنَاد حَدِيث ابْن عَبَّاس السَّالف، وَقد سلف هُنَاكَ لفظ أَحْمد. وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن أبي عَمْرو، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «من أَتَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ، واقتلوها مَعَه» . وَلَفظ أبي دَاوُد مثله، وَزَاد الْمقَالة الأولَى الَّتِي ذكرهَا الرَّافِعِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ: «من وجدتموه وَقع(8/607)
عَلَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ واقتلوا الْبَهِيمَة - فَقيل لِابْنِ عَبَّاس: مَا شَأْن الْبَهِيمَة؟ قَالَ: مَا سَمِعت من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي ذَلِك شَيْئا، وَلَكِن أرَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كره أَن يُؤْكَل من لَحمهَا وَينْتَفع بهَا، وَقد عمل (بهَا) ذَلِك الْعَمَل» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِهَذَا اللَّفْظ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «مَلْعُون من وَقع عَلَى بَهِيمَة. وَقَالَ: اقْتُلُوهُ واقتلوها؛ لَا يُقَال هَذِه (الَّتِي) فعل بهَا كَذَا وَكَذَا» وَقد سلف لَعنه من طَرِيق الْحَاكِم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا فِي الحَدِيث السَّادِس عشر. (قَالَ أَبُو دَاوُد: وَفِي رِوَايَة عَاصِم، عَن أبي رزين، عَن ابْن عَبَّاس، أَنه قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الَّذِي يَأْتِي) (الْبَهِيمَة) حد» . قَالَ أَبُو دَاوُد: وَكَذَلِكَ قَالَ: عَطاء. قَالَ: وَحَدِيث عَاصِم يضعف حَدِيث عَمْرو بن أبي عَمْرو. (و) قَالَ الْخطابِيّ: يُرِيد أَن ابْن عَبَّاس لَو كَانَ عِنْده فِي الْبَاب حَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يُخَالِفهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث عَمْرو بن أبي عَمْرو، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا. (وَقد رَوَى) سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن عَاصِم، عَن أبي رزين، عَن ابْن عَبَّاس، أَنه قَالَ: «من أَتَى بَهِيمَة فَلَا حد عَلَيْهِ» قَالَ: وَهَذَا أصح من الحَدِيث الأول. (وَكَذَا أخرجه) النَّسَائِيّ، من حَدِيث أبي حنيفَة، عَن عَاصِم ثمَّ قَالَ: هَذَا غير صَحِيح، وَالْأول(8/608)
ضَعِيف. وَأما الْحَاكِم فَأخْرجهُ من حَدِيث يزِيد بن هَارُون، عَن عبد الله بن جَعْفَر المخرمي، عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «من وجدتموه يَأْتِي بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ، واقتلوا الْبَهِيمَة» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: وَله شَاهد من حَدِيث عباد بن مَنْصُور، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا، بِمثلِهِ. ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ قَول ابْن عَبَّاس السالف من رِوَايَة أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل، عَن دَاوُد بن الْحصين عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا: «من وَقع عَلَى ذَات محرم فَاقْتُلُوهُ، وَمن وَقع عَلَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ واقتلوا الْبَهِيمَة» . وَقد عرفت حَال إِبْرَاهِيم هَذَا فِيمَا مَضَى فَإِنَّهُ ابْن أبي حَبِيبَة. وَرَوَى الْحَاكِم الْقطعَة الأولَى (من هَذَا الحَدِيث) بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وصححها. وَلما نقل الْبَيْهَقِيّ كَلَام أبي دَاوُد السالف إِلَى حَدِيث عَاصِم يضعف حَدِيث عَمْرو بن أبي عَمْرو. قَالَ: قد روينَا حَدِيث عَمْرو بن أبي عَمْرو (من) أوجه عَن عِكْرِمَة، وَلَا أرَى عَمْرو بن أبي عَمْرو يقصر عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة فِي الْحِفْظ، كَيفَ وَقد تَابعه عَلَى رِوَايَته جمَاعَة، وَعِكْرِمَة عِنْد أَكثر الْأَئِمَّة من الثِّقَات الْأَثْبَات. قلت: وَالشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما رَوَى هَذَا الحَدِيث فِي اخْتِلَاف عليّ وَعبد الله، قَالَ: إِن صَحَّ قلتُ بِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لِأَن فِي رُوَاته ضعفاء. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب: فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث(8/609)
كَلَام، وَقد عَلمته أَنْت وَاضحا.
فَائِدَة: قَالَ ابْن شاهين: هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ بِحَدِيث عُثْمَان بن عَفَّان: «لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث» . قلت: ومعارض بِالْحَدِيثِ الْآتِي وَهُوَ: «النَّهْي عَن ذبح الْحَيَوَان إِلَّا لمأكله» إِن ثَبت.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من وَقع عَلَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ واقتلوا الْبَهِيمَة» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي إِسْنَاده كَلَام.
هَذَا الحَدِيث ذكره ابْن عدي فِي «كَامِله» ، عَن أَحْمد بن عَلّي بن الْمثنى، ثَنَا عبد الْغفار بن عبد الله بن الزبير، ثَنَا عَلّي بن مسْهر، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَتَى الْبَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ واقتلوا الْبَهِيمَة» . قَالَ ابْن عدي: قَالَ (لنا) ابْن الْمثنى: بَلغنِي أَن عبد الْغفار رَجَعَ عَنهُ. وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» أَيْضا، من حَدِيث (أبي) الشَّيْخ، ثَنَا أَبُو يعْلى، ثَنَا عبد الصَّمد بن عبد الله، ثَنَا عَلّي بن مسْهر فَذكره بِلَفْظ: «من وَقع عَلَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ واقتلوا الْبَهِيمَة مَعَه» .
تَنْبِيه: فِي «علل ابْن أبي حَاتِم» ، عَن أَبِيه، من حَدِيث يزِيد(8/610)
بن أبي زِيَاد، عَن زيد بن وهب مَرْفُوعا: «تَعُج الأَرْض من ثَلَاثَة: من الديوث، وَالَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَة، وَالشَّيْخ الزَّانِي» . ثمَّ قَالَ: قَالَ (أبي) : هَذَا حَدِيث لَا أعرفهُ.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
رُوِيَ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلام نهَى عَن ذبح (الْحَيَوَان) إِلَّا لمأكله» . هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي «كتاب الْغَصْب» .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ادرءوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ» .
هَذَا الحَدِيث (أخرجه أَبُو مُسلم الْكَجِّي، عَن ابْن الْمُقْرِئ، ثَنَا مُحَمَّد بن عَلّي الشَّامي، ثَنَا أَبُو عمرَان الْجونِي، عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ادرءوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ» (و) ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» كَذَلِك فَقَالَ: قد روينَا عَن عَلّي مَرْفُوعا: «ادرءوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ» . ثمَّ ذكر حَدِيث عَائِشَة الْآتِي، وَقَالَ: يزِيد الْمَذْكُور فِيهِ غير قوي. ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ عَنهُ وَكِيع (مَرْفُوعا) ، وَهُوَ أشبه. قَالَ: وَأَصَح مَا رُوِيَ فِيهِ حَدِيث سُفْيَان، عَن عَاصِم، عَن أبي وَائِل، عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: «ادرءوا الْجلد وَالْقَتْل عَن الْمُسلمين مَا اسْتَطَعْتُم» .(8/611)
قلت: وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث يزِيد بن زِيَاد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ادرءوا الْحُدُود عَن الْمُسلمين مَا اسْتَطَعْتُم، فَإِن كَانَ لَهُ مخرج فَخلوا سَبيله، فَإِن الإِمَام إِن يُخطئ فِي الْعَفو خير من أَن يُخطئ فِي الْعقُوبَة» . ثمَّ قَالَ: ثَنَا هناد، ثَنَا وَكِيع، عَن يزِيد بن زِيَاد، نَحْو هَذَا الحَدِيث، وَلم يرفعهُ. قَالَ: وَلَا نَعْرِف حَدِيث عَائِشَة هَذَا مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيث مُحَمَّد بن ربيعَة، عَن يزِيد بن زِيَاد الدِّمَشْقِي، وَهُوَ ضَعِيف فِي الحَدِيث، وَرِوَايَة وَكِيع أصح، وَقد رَوَى نَحْو هَذَا عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة أَنهم قَالُوا مثل ذَلِك، وَيزِيد بن زِيَاد الدِّمَشْقِي يضعف فِي الحَدِيث، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَذَلِك سندًا ومتنًا. ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِيمَا ذكره نظر، وَيزِيد الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده واه بِمرَّة، قَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَقد ضعفه بِهِ تِلْمِيذه الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ فِي «خلافياته» : هَذَا حَدِيث مَشْهُور بَين الْعلمَاء، وَإِسْنَاده ضَعِيف. قَالَ: وَيزِيد هَذَا غير مُحْتَج بِهِ، وَقد تفرد بِهِ، وَرَوَاهُ وَكِيع، عَن يزِيد مَوْقُوفا. قَالَ. وَقد رُوِيَ عَن عَلّي مَرْفُوعا بِهِ (وَإِسْنَاده شبه لَا شَيْء) وَرُوِيَ عَن عبد الله، ومعاذ، وَعقبَة بن عَامر مَوْقُوفا. وَقَالَ فِي «سنَنه» : تفرد بِهِ يزِيد بن زِيَاد، عَن الزُّهْرِيّ، وَفِيه ضعف، قَالَ: وَرِوَايَة وَكِيع أقرب إِلَى الصَّوَاب - يَعْنِي رِوَايَة الْوَقْف. قَالَ: وَرَوَاهُ رشدين (بن) سعد، عَن عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، مَرْفُوعا،(8/612)
وَرشْدِين ضَعِيف. قَالَ: وَرُوِيَ عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ادرءوا الْحُدُود (بِالشُّبُهَاتِ) وَلَا يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يعطل الْحُدُود» وَفِي إِسْنَاده ضعف، فِيهِ الْمُخْتَار بن نَافِع، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ مُنْقَطِعًا وموقوفًا عَلَى عمر وَابْن مَسْعُود أَيْضا، (وَفِي) رِوَايَة عَن ابْن مَسْعُود «إِذا اشْتبهَ الْحَد فادرأه» وَهُوَ مُنْقَطع. قَالَ: وَرُوِيَ بِإِسْنَاد مَوْصُول (عَنهُ) : «ادرءوا الْجلد وَالْقَتْل عَن الْمُسلمين مَا اسْتَطَعْتُم» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: (وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة، وَعبد الله بن [عَمْرو] . قلت: أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه، فِي «سنَنه» عَنهُ مَرْفُوعا: «ادفعوا الْحُدُود مَا وجدْتُم لَهُ مدفعًا» ) .
وَفِي إِسْنَاده إِبْرَاهِيم بن الْفضل المَخْزُومِي وَهُوَ ضَعِيف، وَأما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث [عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز] عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده عبد الله بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «تعافوا الْحُدُود فِيمَا بَيْنكُم، فَمَا بَلغنِي من حد فقد وَجب» .(8/613)
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي «بَاب شُرُوط الصَّلَاة» وَاضحا.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَنه) قَالَ: «جَاءَ مَاعِز بن مَالك إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي قد زَنَيْت. فَأَعْرض عَنهُ. ثمَّ جَاءَهُ من شقَّه الْأَيْمن فَقَالَ: يَا رَسُول الله، قد زَنَيْت. فَأَعْرض عَنهُ. ثمَّ جَاءَهُ من شقَّه الْأَيْسَر فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي قد زَنَيْت. فَأَعْرض عَنهُ. ثمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قد زَنَيْت. قَالَ ذَلِك أَربع مَرَّات، قَالَ: أبك جُنُون؟ فَقَالَ: لَا يَا رَسُول الله. فَقَالَ: أحصنت؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَانْطَلقُوا بِهِ فارجموه. فَانْطَلقُوا، فَلَمَّا مسته الْحِجَارَة أدبر يشْتَد، فَلَقِيَهُ رجل فِي يَده لحي (جمل) فَضَربهُ فصرعه، فَذكرُوا لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هزيمته حِين مسته الْحِجَارَة، فَقَالَ: هلا تَرَكْتُمُوهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِلَفْظ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجل من النَّاس وَهُوَ فِي الْمَسْجِد فناداه: يَا رَسُول الله، إِنِّي زَنَيْت ... » الحَدِيث إِلَى قَوْله: «فاذهبوا بِهِ فارجموه» قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي من سمع جَابِرا قَالَ:(8/614)
«فَكنت فِيمَن رجمه فرجمناه بالمصلى، فَلَمَّا أذلقته الْحِجَارَة فر حَتَّى أدركناه بِالْحرَّةِ فرجمناه» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِاللَّفْظِ الَّذِي أوردهُ الرَّافِعِيّ، إِلَّا أَنه لم يذكر فِيهِ «أحصنت» . (ثمَّ) قَالَ: حَدِيث حسن.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن جَابر «أَن رجلا من أسْلم جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاعترف بِالزِّنَا فَأَعْرض عَنهُ، ثمَّ اعْترف فَأَعْرض عَنهُ (حَتَّى) شهد عَلَى نَفسه أَربع مَرَّات، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أبك جُنُون؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أحصنت؟ قَالَ: نعم. فَأمر بِهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فرجم بالمصلى، فَلَمَّا أذلقته الْحِجَارَة فرَّ فَأدْرك فرجم حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خيرا، وَلم يُصَِلّ عَلَيْهِ» .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
قَالَ الرَّافِعِيّ نقلا عَن الْأَصْحَاب: لم يكن ترديد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ماعزًا لِيُقِر أَربع مَرَّات، وَلكنه ارتاب فِي أمره، فاستثبته ليعرف أبه جُنُون، أَو سُكْر أم لَا؟ وَإِلَّا فالإقرار مرّة وَاحِدَة كَافِيَة بِدَلِيل مَا رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأنيس: «اغْدُ عَلَى امْرَأَة هَذَا فَإِن اعْترفت فارجمها ... » وَقد سبق تعلق الرَّجْم بِمُطلق الِاعْتِرَاف.
هَذَا الحَدِيث سلف فِيمَا مَضَى كَمَا نبه عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ أَيْضا، وَلَك أَن تَقول قد رَوَى أَبُو دَاوُد من طَرِيق نعيم بن هزال [عَن أَبِيه] أَنه عَلَيْهِ السَّلَام(8/615)
قَالَ لَهُ: «إِنَّك قلت أَربع مَرَّات، فبمن؟ قَالَ: بفلانة» . وَرَوَى أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن بُريدة قَالَ: «كُنَّا نتحدث أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن مَاعِز بن مَالك لَو جلس فِي رَحْله بعد اعترافه ثَلَاث مَرَّات لم يَطْلُبهُ، وَإِنَّمَا رجمه عِنْد الرَّابِعَة» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «كُنَّا أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نتحدث أَن الغامدية وماعز بن مَالك لَو رجعا ... » الحَدِيث. وَفِي النَّسَائِيّ: «لَو لم يجيبا فِي الرَّابِعَة لم يطلبهما رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَعند ابْن أبي شيبَة: أَن بعد الرَّابِعَة حَبسه، ثمَّ سَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا: مَا نعلم إِلَّا خيرا. فَأمر برجمه. فَدلَّ ذَلِك عَلَى أَن الِاعْتِبَار بتعدده أَرْبعا، وَحَدِيث الغامدية السالف إِن تَأَخّر عَنهُ فَهُوَ نَاسخ لَهُ، وَإِن تقدمه فَيحمل قَوْله: «فَإِن اعْترفت» عَلَى الِاعْتِرَاف الْمَعْرُوف فِي حَدِيث مَاعِز عَلَى أَن (ظَاهر) رِوَايَة النَّسَائِيّ السالفة «أَنَّهَا اعْترفت أَيْضا أَرْبعا» وَهِي غَرِيبَة.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَتَى من هَذِه القاذورات شَيْئا فليستتر بستر الله، فَإِن من أبدى لنا صفحته، أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَد» وَفِي رِوَايَة: «حد الله» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن زيد بن أسْلم: «أَن(8/616)
رجلا اعْترف عَلَى نَفسه بِالزِّنَا عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَدَعَا لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِسَوْط، فَأتي بِسَوْط مكسور، فَقَالَ: فَوق هَذَا. فَأتي بِسَوْط جَدِيد لم تقطع ثَمَرَته، فَقَالَ: دون هَذَا. فَأتي بِسَوْط قد ركب بِهِ ولان، فَأمر بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فجلد، ثمَّ قَالَ: أَيهَا النَّاس، قد آن لكم أَن تنتهوا عَن حُدُود الله، فَمن أصَاب من هَذِه القاذورات شَيْئا فليستتر بستر الله، فَإِنَّهُ من يُبدْ لنا صفحته نقم عَلَيْهِ كتاب الله» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مَالك بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث مُنْقَطع، لَيْسَ مِمَّا تثبت بِهِ - هُوَ نَفسه - حجَّة، وَقد رَأَيْت (من) أهل الْعلم عندنَا من يعرفهُ وَيَقُول بِهِ، فَنحْن نقُول بِهِ (و) قَالَ ابْن الصَّلاح: كَانَ الشَّافِعِي يَقُول: إِسْنَاده ضَعِيف وَمَتنه حجَّة، بِأَمْر من خَارج. وَقَالَ الشَّافِعِي - فِي مَوضِع آخر -: هَذَا الحَدِيث مَعْرُوف عندنَا، وَهُوَ غير مُتَّصِل الْإِسْنَاد فِيمَا أعرفهُ و (نقل) عبد الْحق، عَن ابْن عبد الْبر، أَنه قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا (أعلم) أسْند بِهَذَا اللَّفْظ من وَجه من الْوُجُوه.
قلت: قد أسْند بعضه من طَرِيق ابْن عمر رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، عَن الْأَصَم، عَن الرّبيع - وناهيك بهما - عَن أَسد بن مُوسَى - وَهُوَ أَسد السّنة، قَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة - عَن أنس بن عِيَاض - وَهُوَ ثِقَة من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» - عَن يَحْيَى بن سعيد، (و) عبد الله(8/617)
بن دِينَار - وناهيك بهما - عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ بعد أَن رجم الْأَسْلَمِيّ، فَقَالَ: اجتنبوا هَذِه (القاذورات) الَّتِي نهَى الله عَنْهَا فَمن ألمَّ فليستتر بستر الله، وليتب إِلَى الله، فَإِنَّهُ من يبد لنا صفحته نقم عَلَيْهِ كتاب الله عزَّ وَجل» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وأسنده الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، عَن أبي الْفَتْح هِلَال بن مُحَمَّد الحفار الْحَافِظ، عَن الْحُسَيْن بن يَحْيَى بن عَيَّاش الْقطَّان، عَن حَفْص بن عَمْرو الربالي، عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، عَن يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعد أَن رجم الْأَسْلَمِيّ قَالَ: اجتنبوا هَذِه (القاذورات) الَّتِي نهَى الله عَنْهَا، فَمن ألمَّ فليستتر بستر الله - تَعَالَى» وأسنده أَيْضا، عَن أبي الْحسن بن عَبْدَانِ، عَن أَحْمد بن عبيد، عَن عمر بن أَحْمد بن بشر، عَن هَارُون بن مُوسَى الْفَروِي، عَن أبي ضَمرَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن عبد الله بن دِينَار ... فَذكره بِمثلِهِ، وَزَاد: «وليتب إِلَى الله، فَإِنَّهُ من أبدى لنا صفحته نقم عَلَيْهِ كتاب الله» . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث رُوِيَ، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَعَن عبد الله بن دِينَار، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. مُرْسلا، وَهُوَ أشبه. وَقَالَ ابْن الصّباغ من أَصْحَابنَا: قد رُوي هَذَا الحَدِيث مُسْندًا عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَأغْرب الإِمَام، فَقَالَ فِي «نهايته» : وَقَول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من أَتَى من(8/618)
هَذِه القاذورات (شَيْئا) فليستتر بستر الله» فَهُوَ حَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته. هَذَا لَفظه، وَحط عَلَيْهِ ابْن الصَّلاح، وَقَالَ: هَذَا مِمَّا يتعجب مِنْهُ الْعَارِف بِالْحَدِيثِ. قَالَ: وَله أشباه (بذلك) كثير أوقعه (فِيهَا) إطراحه صناعَة الحَدِيث الَّذِي يفْتَقر إِلَيْهَا كل فَقِيه وعالم. قلت: لم يرد الإِمَام بقوله: «مُتَّفق عَلَى صِحَّته» مِمَّا اصْطلحَ عَلَيْهِ (من) اصْطلحَ عَلَى إِطْلَاق هَذِه الْعبارَة (عَلَى) مَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بل مُرَاده إِن سَنَده صَحِيح، وَقد أسلفت عَن الْحَاكِم أَنه قَالَ فِيهِ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصّحاح» إِلَى قَوْله «بستر الله» .
فَائِدَة:
«القاذورات» : بِالذَّالِ (الْمُعْجَمَة) . مَا يُوجب الْعقُوبَة وَتطلق القاذورة أَيْضا عَلَى الَّذِي يمْتَنع من تعَاطِي المستقذر، وَعَلَى الرجل الَّذِي لَا يُبَالِي بِمَا قَالَ، وَبِمَا صَنع. قَالَه ابْن الْأَثِير.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي قصَّة مَاعِز: «لَعَلَّك قبلت، لَعَلَّك لمست» .
هَذَا (الحَدِيث) صَحِيح، فقد أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: «لما أَتَى مَاعِز النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ لَهُ: لَعَلَّك(8/619)
قبلت، أَو غمزت، أَو نظرت. قَالَ: لَا يَا رَسُول الله. قَالَ: أنكْتها؟ ! لَا يكني، فَعِنْدَ ذَلِك أَمر برجمه» . واستدركه الْحَاكِم عَلَى شَرط (الشَّيْخَيْنِ وأنهما) لم يخرجَاهُ، وَإِنَّمَا ذكر عَلَيْهِ السَّلَام هَذِه اللَّفْظَة؛ لِأَنَّهُ خَافَ أَن لَا يعرف مَاعِز الزِّنَا كَيفَ، وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «العينان تزنيان، وَالْيَدَانِ تزنيان» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَجَاء فِي رِوَايَة فِي قصَّة مَاعِز: «فَهَلا تَرَكْتُمُوهُ» . قلت: هَذِه الرِّوَايَة سلفت (قَرِيبا. قَالَ: وَرُوِيَ فِي بعض الرِّوَايَات أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لماعز: «ارْجع واستغفر الله وَتب إِلَيْهِ» . قلت: هَذِه الرِّوَايَة سلفت) فِي أَوَائِل الْبَاب فِي حَدِيث بُرَيْدَة. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «هلا رددتموه إليَّ لَعَلَّه يَتُوب» . قلت: هَذِه الرِّوَايَة رَوَاهَا أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، من حَدِيث يزِيد بن نعيم بن هزال، عَن أَبِيه، قَالَ: «كَانَ مَاعِز بن مَالك يَتِيما فِي حجر أبي، فَأصَاب جَارِيَة من الْحَيّ، فَقَالَ لَهُ أبي: ائْتِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخْبرهُ بِمَا صنعت لَعَلَّه يسْتَغْفر لَك - وَإِنَّمَا يُريد بذلك رَجَاء أَن يكون لَهُ مخرجا - فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي زَنَيْت، فأقم عليّ كتاب الله. فَأَعْرض عَنهُ. (فَعَاد فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي زَنَيْت فأقم عليَّ كتاب الله. فَأَعْرض عَنهُ) حَتَّى قَالَهَا أَربع مَرَّات. قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قد قلتهَا أَربع مَرَّات، فبمن؟ قَالَ: بفلانة. قَالَ: هَل ضاجعتها؟ قَالَ: نعم. قَالَ: هَل باشرتها؟ قَالَ: نعم. قَالَ: هَل جامعتها؟ (قَالَ: نعم) قَالَ: فَأمر بِهِ أَن يرْجم، فَأخْرج بِهِ إِلَى الحَرَّة، فَلَمَّا رجم فَوجدَ(8/620)
مس الْحِجَارَة فجزع فَخرج يشْتَد، فَلَقِيَهُ عبد الله بن أنيس، وَقد عجز أَصْحَابه فَنزع لَهُ بوظيف - وظيف الْبَعِير: خفه - بعيرٍ فَرَمَاهُ بِهِ فَقتله، ثمَّ أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكر ذَلِك لَهُ فَقَالَ: هلا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّه يَتُوب فيتوب الله عَلَيْهِ» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِنَحْوِهِ، وَفِي إِسْنَاده هِشَام بن سعد المَخْزُومِي الْمدنِي قَالَ فِيهِ يَحْيَى مرّة: لَيْسَ بِشَيْء. وَمرَّة: لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي. وَمرَّة: ضَعِيف. قَالَ: وَكَانَ يَحْيَى الْقطَّان لَا يكْتب عَنهُ. وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ هُوَ بمحكم الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ مَعَ ضعفه يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: لين. قَالَ: وَقد احْتج بِهِ مُسلم. (و) قَالَ (عبد الْحق) : هَذَا إِسْنَاد لَا يحْتَج بِهِ.
قلت: وَله طَرِيق آخر. قَالَ ابْن سعد: أَنا مُحَمَّد بن عمر، قَالَ: حَدثنِي (هَاشم) بن عَاصِم، عَن يزِيد بن نعيم بن هزّال، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «كَانَ مَالك (أَبُو مَاعِز قد أَوْصَى إِلَيّ بِابْنِهِ فَكَانَ فِي حجري أكفله بِأَحْسَن) مَا يكفل بِهِ أحدا، فَجَاءَنِي يَوْمًا فَقَالَ لي: إِنِّي [كنت](8/621)
(أطلب) مهيرة امْرَأَة كنت أعرفهَا، حَتَّى (أتيت) مِنْهَا الْآن مَا كنت أُرِيد، ثمَّ نَدِمت عَلَى مَا أتيت، فَمَا رَأْيك؟ فَأمره أَن يَأْتِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فيخبره، فَأَتَاهُ فاعترف عِنْده بِالزِّنَا - وَكَانَ مُحصنا - فَأمر بِهِ أَبَا بكر الصّديق فرجمه فمسته الْحِجَارَة ففر يعدو قبل العقيق، فَأدْرك بالمكيمن، وَكَانَ الَّذِي أدْركهُ عبد الله بن أنيس بوظيف حمَار فَلم يزل يضْربهُ بِهِ حَتَّى قَتله، ثمَّ جَاءَ عبد الله بن أنيس إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخْبرهُ، قَالَ: فَهَلا تَرَكْتُمُوهُ (لَعَلَّه) يَتُوب فيتوب الله عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: يَا هزال، بئس مَا صنعت بيتيمك، لَو سترت عَلَيْهِ بِطرف ردائك لَكَانَ خيرا لَك. قَالَ: يَا رَسُول الله، (لم أدر أَن) فِي الْأَمر سَعَة. ودعا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَرْأَة الَّتِي أَصَابَهَا فَقَالَ: اذهبي. وَلم يسْأَلهَا عَن شَيْء، فَقَالَ النَّاس (فِي) مَاعِز (فَأَكْثرُوا) فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: لقد تَابَ تَوْبَة لَو تابها طَائِفَة من أمتِي لأجزأت عَنْهُم» .
فَائِدَة: «هَزّال» : بِفَتْح الْهَاء وَتَشْديد الزَّاي (أسلمي) لَهُ صُحْبَة قَالَه ابْن حبَان، وَابْن مَنْدَه، والعسكري، وَابْنه نعيم مُخْتَلف فِي صحبته. قَالَ أَبُو عمر: لَا (صُحْبَة) لَهُ، وَإِنَّمَا الصُّحْبَة لِابْنِهِ، هَذَا أولَى(8/622)