الحَدِيث الرَّابِع بعد الْأَرْبَعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مكث بمنى حَتَّى طلعت الشَّمْس، ثمَّ ركب، وَأمر بقبة من شعر أَن تضرب لَهُ بنمرة فَنزل بهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر الطَّوِيل، وَقد سلف.
ونَمِرة: بِفَتْح (أَوله) وَكسر ثَانِيه، كَمَا ضَبطه الْبكْرِيّ وَغَيره، وَهُوَ مَوضِع مَعْرُوف بِقرب عَرَفَات.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْأَرْبَعين
(رُوِيَ «أَنه) (رَاح إِلَى الْموقف؛ فَخَطب النَّاس الْخطْبَة الأولَى، ثمَّ أذن بِلَال، ثمَّ أَخذ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْخطْبَة الثَّانِيَة، ففرغ من الْخطْبَة وبلال من الْأَذَان، ثمَّ أَقَامَ بِلَال؛ فَصَلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ فصلَّى الْعَصْر» .
هَذَا الحَدِيث أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيّ، وَقد رَوَاهُ كَذَلِك الشَّافِعِي (و) الْبَيْهَقِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد وَغَيره، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جَابر مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ هَكَذَا إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى.(6/219)
قلت: كَيفَ يَقُول: تفرد بِهِ وَالشَّافِعِيّ يَقُول: (نَا) إِبْرَاهِيم وغيرُه؟ ! إِلَّا أَن يكون مُرَاده: أَنه لم يشْتَهر عَن غَيره. وَفِي «مُسْند الشَّافِعِي» عقب هَذَا الحَدِيث: أَنا الرّبيع، أَنا الشَّافِعِي، أَنا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل (أَو) عبد الله بن نَافِع، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم، عَن أَبِيه، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس - يَعْنِي بذلك - وَأَبُو الْعَبَّاس هَذَا هُوَ الْأَصَم، فَالَّذِي أبْهَمَه الشَّافِعِي فِي الأول قد فسَّرهُ ثَانِيًا بِأحد هذَيْن الرجلَيْن، لَكِن سَمِعت من ينْقل أَن هَذَا من أَوْهَام «الْأَصَم» وَإِنَّمَا حَدِيث سَالم هَذَا عَن أَبِيه فِي «الْجمع بِمُزْدَلِفَة» لَا (يعرف) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل مَا دَلَّ عَلَى أَنه (خطبه) ثمَّ أذن بِلَال إِلَّا أَنه لَيْسَ فِيهِ ذِكْر: « (ثمَّ) أَخذ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْخطْبَة الثَّانِيَة» . وَقَالَ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» : رِوَايَة الشَّافِعِي مُغَايرَة (لرِوَايَة) مُسلم من وَجْهَيْن: وَقت الْأَذَان وَمَكَان الْخطْبَة، فَإِن مُسلما ذكر أَن الْخطْبَة كَانَت بِبَطن الْوَادي قبل إتْيَان عَرَفَة، وَرِوَايَة الشَّافِعِي تخالفها، وحديثُ مُسلم أصح، ويتوجَّه بأمرٍ معقولٍ وَهُوَ: أنَّ الْمُؤَذّن قد أُمِرَ بالإنصات للخطبة كَمَا أُمِر غَيره، فَكيف يُؤذن مَن قد أُمِرَ بالإنصات ثمَّ لَا يَبْقَى (للخطبة) مَعَه.(6/220)
فَائِدَة: إِذْ يفوت الْمَقْصُود فِيهَا أَكثر النَّاس لاشتغال سمعهم بِالْأَذَانِ عَن استماعها، وَذكر الملا فِي «سيرته» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما فرغ من خطبَته أذن بِلَال، وَسكت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَلَمَّا فرغ بِلَال من الْأَذَان تكلم بِكَلِمَات، ثمَّ أَنَاخَ رَاحِلَته، وَأقَام بِلَال الصَّلَاة» . وَهَذَا أقرب مِمَّا ذكره الشَّافِعِي؛ إِذْ لَيْسَ يفوت بِهِ سَماع الْمُؤَذّن (بِهِ) وَلَا غَيره.
تَنْبِيه: فِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث ابْن عمر: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جمع بَين الظّهْر وَالْعصر، ثمَّ خطب النَّاس، ثمَّ رَاح فَوقف عَلَى الْموقف من عَرَفَة» . وَفِيه مُخَالفَة لحَدِيث جَابر فِي (تَقْدِيم) الصَّلَاة عَلَى الْخطْبَة، (فَإِن) فِي حَدِيث جَابر تَقْدِيم الْخطْبَة عَلَى الصَّلَاة، وَفِي إِسْنَاده ابْن إِسْحَاق، قَالَ عبد الْحق: وَتَقْدِيم الْخطْبَة هُوَ الْمَشْهُور الَّذِي عمل بِهِ الْمُسلمُونَ وَالْأَئِمَّة.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْأَرْبَعين
قَالَ الرَّافِعِيّ: «وَليقل الإِمَام إِذا سلم أَتموا يَا أهل مَكَّة؛ فَإنَّا قوم سفر. كَمَا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هُوَ كَمَا قَالَ، (وَقَالَ هَذَا عَام الْفَتْح، كَمَا) رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، عَن عليّ بن زيد بن جدعَان، (عَن أبي نَضْرة)(6/221)
عَن عمرَان بن حُصَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «غزوت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ فَلم يصل إِلَّا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة، وَحَجَجْت مَعَه فَلم يصل إِلَّا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة، وَشهِدت (مَعَه) الْفَتْح فَأَقَامَ بِمَكَّة ثَمَان عشرَة لَيْلَة لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ يَقُول لأهل الْبَلَد: أَتمُّوا؛ فإنَّا سفر» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَلّي بن زيد أَيْضا كَمَا ذكرته فِي بَاب صَلَاة الْمُسَافِر. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِنَحْوِهِ، وَهَذَا لَفظه: «حججْت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَصَلى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أبي بكر فَصَلى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عمر فَصَلى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُثْمَان سِتّ سِنِين من خِلَافَته - أَو ثَمَان سِنِين - فصلَّى رَكْعَتَيْنِ» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث (حسن) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِأَلْفَاظ: أَحدهَا: «فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ يَقُول: يَا أهل مَكَّة أَتموا فصلُّوا رَكْعَتَيْنِ؛ فَإنَّا قوم سفر» . ثَانِيهَا: «يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَقُول: (أَتموا) الصَّلَاة يَا أهل مَكَّة؛ فَإنَّا سفر» . ثَالِثهَا: «يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمغرب، ثمَّ يَقُول: يَا أهل مَكَّة، أَتموا صَلَاتكُمْ، فَإنَّا قوم سفر» . ومداره من هَذِه الطّرق كلهَا (عَلَى) عليِّ بن زيد بن جدعَان، وَقد حسنه التِّرْمِذِيّ من طَرِيقه، وَهُوَ صَاحب(6/222)
غرائب كَمَا أسلفناه فِي بَاب بَيَان النَّجَاسَات، مَعَ كَلَام الْأَئِمَّة (فِيهِ) (وَظَاهر إِيرَاد الرَّافِعِيّ وُرُوده وَهُوَ غَرِيب، وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» من قَول عمر نَفسه فِي مَكَّة.
وسفر: بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْفَاء، كَمَا سلف إيضاحه فِي بَاب مسح الْخُف) .
الحَدِيث السَّابِع بعد الْأَرْبَعين
«أَن سَالم بن عبد الله قَالَ (للحجاج) : إِن كنت تُرِيدُ تصيب السّنة: فأقصر الْخطْبَة وَعجل الْوُقُوف. فَقَالَ ابْن عمر: صدق» .
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) ، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث (سَالم) بن عبد الله قَالَ: «كتب عبد الْملك (بن مَرْوَان) (إِلَى) الْحجَّاج أَن لَا تخَالف ابْن عمر فِي الْحَج، فجَاء ابْن عمر وَأَنا مَعَه يَوْم عَرَفَة حِين زَالَت الشَّمْس، فصاح عِنْد سرادق الْحجَّاج، فَخرج وَعَلِيهِ ملحفة معصفرة فَقَالَ: مَا لَك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن؟ فَقَالَ: الرواح إِن كنتَ تُرِيدُ السّنة. قَالَ: هَذِه السَّاعَة؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَأَنْظرْنِي حَتَّى أُفِيض عَلَى رَأْسِي ثمَّ أَخْرُج. فَنزل حَتَّى خرج الْحجَّاج فَسَار بيني(6/223)
وَبَين أبي، فَقلت: إِن كنت تُرِيدُ السّنة فأقصر الْخطْبَة وَعجل الْوُقُوف. فَجعل ينظر إِلَى عبدِ الله، فلمَّا رَأَى ذَلِك عبد الله قَالَ: صدق» .
فَائِدَة: السرادق: الخباء وَشبهه، وكل مَا أحَاط بالشَّيْء. وَقيل: مَا يدار حول الخباء.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْأَرْبَعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وقف واستقبل الْقبْلَة، وَجعل (بطن) نَاقَته للصخرات» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل، وَقد سلف. قَالَ الرَّافِعِيّ (بعد ذَلِك) فِي كَلَامه عَلَى الْوُقُوف وموقف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عِنْد جبل الرَّحْمَة، مَعْرُوف. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْأَرْبَعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وقف بِعَرَفَة رَاكِبًا» .
هَذَا (الحَدِيث) صَحِيح، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث أم الْفضل بنت الْحَارِث زوج الْعَبَّاس وَرَوَاهُ مُسلم (من حَدِيث جَابر) .(6/224)
الحَدِيث الْخَمْسُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أفضل الدُّعَاء دُعَاء يَوْم عَرَفَة، وَأفضل مَا قلت أَنا والنبيون من قبلي لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن زِيَاد بن أبي زِيَاد مولَى ابْن عَبَّاس، عَن طَلْحَة بن (عبيد الله) بن كريز - بِفَتْح الْكَاف وَآخره زَاي - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أفضل الدُّعَاء دُعَاء يَوْم عَرَفَة، وَأفضل مَا قلت أَنا والنبيون من قبلي لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ» . وَهَذَا مُرْسل، طَلْحَة (هَذَا) تَابِعِيّ كُوفِي، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : وَقد رُوِيَ عَن مَالك بِإِسْنَاد آخر مَوْصُولا، قَالَ: وَوَصله ضَعِيف. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» مطولا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خير الدُّعَاء دُعَاء يَوْم عَرَفَة، وَخير مَا قلت أَنا والنبيون من قبلي لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد، وَهُوَ عَلَى كل شَيْء قدير» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَحَمَّاد بن أبي حميد الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده هُوَ أَبُو إِبْرَاهِيم الْمدنِي الْأنْصَارِيّ، وَلَيْسَ (هُوَ) بِالْقَوِيّ عِنْد أهل الحَدِيث. وَرَوَاهُ أَحْمد من هَذَا الطَّرِيق بِلَفْظ: «كَانَ أَكثر دُعَاء النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم عَرَفَة: لَا(6/225)
إِلَه إِلَّا الله، وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد، وَهُوَ عَلَى كل شَيْء قدير» . وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أفضل دعائي وَدُعَاء الْأَنْبِيَاء قبلي عَشِيَّة عَرَفَة لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد، وَهُوَ عَلَى كل شَيْء قدير» . قَالَ الْعقيلِيّ: فِي إِسْنَاده فرج بن فضَالة، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «مَنَاسِكه» من حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أفضل مَا قلت والأنبياء (قبلي) عَشِيَّة عَرَفَة: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك (وَله الْحَمد) وَهُوَ عَلَى كل شَيْء قدير» . وَفِي إِسْنَاده قيس بن الرّبيع القَاضِي وَقد سَاءَ حفظه بِأخرَة. قَالَ الرَّافِعِيّ: وأضيف (إِلَيْهِ) : «لَهُ الْملك وَله الْحَمد، وَهُوَ عَلَى كل شَيْء قدير، اللَّهُمَّ اجْعَل فِي قلبِي نورا، (وَفِي سَمْعِي نورا) وَفِي بَصرِي نورا، اللَّهُمَّ اشرح لي صَدْرِي، وَيسر لي أَمْرِي» .
قلت: أما قَوْله: «لَهُ الْملك» إِلَى قَوْله: «قدير» فقد أسلفناه فِي عدَّة أَحَادِيث، وَأما قَوْله: «اللَّهُمَّ اجْعَل فِي قلبِي نورا ... » إِلَى آخِره فَرَوَاهُ(6/226)
الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُوسَى بن عُبَيْدَة، عَن أَخِيه (عبد الله) بن عُبَيْدَة، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَكثر دعائي وَدُعَاء الْأَنْبِيَاء قبلي (بِعَرَفَة) : لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد، وَهُوَ عَلَى كل شَيْء قدير، اللَّهُمَّ اجْعَل فِي قلبِي نورا، وَفِي سَمْعِي نورا، وَفِي بَصرِي نورا، اللَّهُمَّ اشرح لي صَدْرِي وَيسر لي أَمْرِي، وَأَعُوذ بك من وسواس الصَّدْر، وشتات الْأَمر، وفتنة الْقَبْر، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من شَرّ مَا يلج فِي اللَّيْل، (وَشر مَا يلج فِي النَّهَار) ، وَشر مَا تهب بِهِ الرِّيَاح، وَمن شَرّ بوائق الدَّهْر» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ مُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي، وَهُوَ ضَعِيف وَلم يدْرك أَخُوهُ عليًّا.
قلت: فَصَارَ الحَدِيث ضَعِيفا بِوَجْهَيْنِ، وَعبد الله أَخُو مُوسَى: ضَعِيف أَيْضا (و) قَالَ ابْن حبَان: مُنكر الحَدِيث جدًّا، لَيْسَ (لَهُ) راوٍ غير أَخِيه مُوسَى، ومُوسَى لَيْسَ بِشَيْء فِي الحَدِيث، وَلَا أَدْرِي الْبلَاء من أَيهمَا.(6/227)
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْخمسين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسير حِين دفع فِي حجَّة الْوَدَاع العَنَقَ، فَإِذا وجد (فُرْجَة) نَص» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أُسَامَة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (كَذَلِك) ، وَفِي رِوَايَة لَهما: «فجوة» بدل «فُرْجَة» وهما بِمَعْنى. والفجوة: السعَة من الأَرْض. والفُّرجة: بِضَم الْفَاء وَفتحهَا. والعَنَق: بِفَتْح النُّون -: ضرب مَعْرُوف من السّير فِيهِ إسراع يسير. والنَصَّ: - بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة - " أَكثر من العَنَق. (والفرجة: يُقَال: فرج بِلَا هَاء أَيْضا. ورُوِيَ فِي الحَدِيث بدلهَا: «فجوة لَهَا» وَهِي الْمَكَان المتسع يخرج إِلَيْهِ من مضيق) .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْخمسين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَى الْمزْدَلِفَة فَجمع (بهَا) بَين الْمغرب وَالْعشَاء» .
هَذَا الحَدِيث وجدتُه فِي المبيضة من هَذَا (الْكتاب) ، وَلم أره(6/228)
(الْآن) فِي «الرَّافِعِيّ» ، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَأُسَامَة بن زيد، (و) رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْخمسين
قَالَ الرَّافِعِيّ: «وسلكَ الناسُ طريقَ المأْزمين، - وَهُوَ الطَّرِيق الضيّق بَين الجبلين - اقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالصَّحَابَة» .
هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أُسَامَة بن زيد قَالَ: «دفع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من عَرَفَة، حَتَّى إِذا كَانَ بِالشعبِ نزل فَبَال (ثمَّ)(6/229)
تَوَضَّأ وَلم يسبغ الْوضُوء، (فَقلت لَهُ) : الصَّلَاة يَا رَسُول الله. فَقَالَ: الصَّلَاة أمامك» . وَفِي رِوَايَة لَهما: «ردفت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من عَرَفَات، فَلَمَّا بلغ الشّعب الْأَيْسَر الَّذِي دون الْمزْدَلِفَة أَنَاخَ رَاحِلَته، فَبَال ثمَّ جَاءَ فصببتُ عَلَيْهِ الْوضُوء فَتَوَضَّأ وضُوءًا خَفِيفا، فَقلت: الصَّلَاة يَا رَسُول الله. فَقَالَ: الصَّلَاة أمامك» . ترْجم عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : من اسْتحبَّ سلوك طَرِيق المأْزمين دون (طَرِيق) ضبٍّ.
والمأْزم: بِهَمْزَة بعد الْمِيم، وَكسر الزَّاي، وَقد فسَّرَهُ الرَّافِعِيّ (كَمَا سلف) .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْخمسين
قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْحَج عَرَفَة، فَمن أدْرك عَرَفَة فقد أدْرك الْحَج» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَصْحَاب «السّنَن» الْأَرْبَعَة، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي(6/230)
«مُسْتَدْركه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن يعمر (الدِّيليِّ) قَالَ: «شهِدت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ وَاقِف بِعَرَفَات، وَأَتَاهُ نَاس من أهل نجد، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، كَيفَ الْحَج؟ فَقَالَ: الْحَج عَرَفَة، من جَاءَ قبل صَلَاة الْفجْر من لَيْلَة جمع فقد تمّ حجه، وَأَيَّام منى ثَلَاثَة أَيَّام، فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ، وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ، وَأَرْدَفَ رجلا خَلفه فَجعل يُنَادي بِهن» هَذَا لفظ أَحْمد. وَلَفظ أبي دَاوُد: «فجَاء نَاس - أَو نفر - من أهل نجد، فَأمروا رجلا فَنَادَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: كَيفَ الْحَج؟ فَأمر رجلا فَنَادَى: الْحَج يَوْم عَرَفَة، وَمن جَاءَ قبل (صَلَاة) الصُّبْح من لَيْلَة جمع يتم حجه» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «الْحَج عَرَفَات، (الْحَج عَرَفَات) ، أَيَّام منى ثَلَاث ... » إِلَى قَوْله: «فَلَا إِثْم عَلَيْهِ، وَمن أدْرك عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد أدْرك الْحَج» . وَلَفظ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ: «الْحَج عَرَفَة» وَالْبَاقِي بِنَحْوِهِ، وَفِي لفظ للنسائي: «الْحَج عَرَفَة، فَمن أدْرك عَرَفَة قبل طُلُوع الْفجْر من لَيْلَة جمع فقد تمّ(6/231)
حجه» . وَلَفظ ابْن مَاجَه كَلَفْظِ أَحْمد، وَلَفظ ابْن حبَان: «الْحَج عَرَفَات، فَمن أدْرك عَرَفَة لَيْلَة جمع قبل أَن يطلع الْفجْر فقد أدْرك، أَيَّام منى ... » إِلَى قَوْله: «فَلَا إِثْم عَلَيْهِ» . وَلَفظ الْحَاكِم كَلَفْظِ ت س وَلَفظه فِي كتاب التَّفْسِير: «الْحَج عَرَفَة - (أَو عَرَفَات) - فَمن أدْرك عَرَفَة قبل طُلُوع الْفجْر فقد أدْرك الْحَج، أَيَّام منى ثَلَاث» بِمثل رِوَايَة ابْن حبَان. وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ: «الْحَج عَرَفَات، الْحَج عَرَفَات، فَمن أدْرك لَيْلَة جمع قبل أَن يطلع الْفجْر فقد أدْرك ... » وَالْبَاقِي بِمثلِهِ. وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ: «الْحَج عَرَفَة، (الْحَج عَرَفَة) ، من أدْرك عَرَفَة قبل طُلُوع الْفجْر فِي يَوْم النَّحْر فقد تمّ حجه، أَيَّام منى ثَلَاثَة ... » الحَدِيث. قَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: هَذَا أَجود حَدِيث رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ. وَفِي «ابْن مَاجَه» : قَالَ مُحَمَّد بن يَحْيَى: مَا أرَى (للثوري) حَدِيثا أشرف مِنْهُ. وَفِي «التِّرْمِذِيّ» (عَن) وَكِيع أَن هَذَا الحَدِيث أُمّ الْمَنَاسِك. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل (عَلَى هَذَا الحَدِيث) عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَغَيرهم. وَقَالَ (ابْن حبَان) وَالْبَيْهَقِيّ: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: قلت لِسُفْيَان الثَّوْريّ: لَيْسَ عنْدكُمْ بِالْكُوفَةِ [حَدِيث] أحسن وَلَا أشرف من هَذَا.(6/232)
وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا (حَدِيث) صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. ذكره فِي أثْنَاء تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة من «مُسْتَدْركه» .
فَائِدَة: عبد الرَّحْمَن هَذَا لَهُ صُحْبَة، بكري، ديلي - بِكَسْر الدَّال وَسُكُون الْمُثَنَّاة تَحت - وَقَالَ ابْن [معن] فِي «تنقيبه» : هُوَ بِكَسْر الدَّال وهمز الْيَاء وَفتحهَا، وَأَبوهُ يَعْمر، بِفَتْح الْمُثَنَّاة تَحت، وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة، وَفتح الْمِيم وَضمّهَا، ثمَّ رَاء مُهْملَة. وَذكر أَبُو عمر بن عبد الْبر: أَنه لم يرو عَنهُ غير هَذَا الحَدِيث. قلت: أخرج لَهُ ت ق ن حَدِيثا آخر فِي النَّهْي عَن الدُّبَّاء والحنتم، وَذكر أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» أَنه رَوَى حديثين، وَذكر هذَيْن. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» : رَوَى هَذَا الحَدِيث ابْن شاهين فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» وَقَالَ: عَن «أبي الْأسود الديلِي» بدل «عبد الرَّحْمَن بن يعمر الديلِي» وَهُوَ خطأ، لَا مدْخل لأبي الْأسود فِي هَذَا الحَدِيث.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْخمسين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (عَرَفَة كلهَا موقف» .(6/233)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «نحرت هَاهُنَا وَمنى كلهَا منحر، فَانْحَرُوا فِي رحالكُمْ، ووقفت هَاهُنَا وعرفة كلهَا موقف، ووقفت هَاهُنَا وَجمع كلهَا موقف» . وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث عَلّي مَرْفُوعا: «عَرَفَة كلهَا موقف، وَجمع كلهَا موقف، وَمنى كلهَا منحر» .
فَائِدَة: جمع، والمشعر الْحَرَام، والمزدلفة، ثَلَاثَة أَسمَاء لموْضِع وَاحِد. قَالَه ابْن عبد الْبر.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْخمسين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَرَفَة كلهَا (موقف) ، وارتفعوا عَن وَادي عُرَنَة» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق: أَحدهَا: عَن جَابر مَرْفُوعا، إِلَّا أَنه قَالَ: «عَن بطن عُرَنَة» بدل «وَادي عُرَنَة» وَزِيَادَة: «وَكَذَلِكَ الْمزْدَلِفَة موقف، وارتفعوا عَن بطن محسر، وكل منى منحر إِلَّا مَا (وَرَاء) الْعقبَة» . رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَإِسْنَاده ضَعِيف بِسَبَب الْقَاسِم بن عبد الله الْعمريّ الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده فَإِنَّهُ واهٍ، قَالَ أَحْمد: كَانَ يكذب، وَيَضَع الحَدِيث، ترك النَّاس حَدِيثه.(6/234)
ثَانِيهَا: عَن ابْن الْمُنْكَدر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «عَرَفَة كلهَا موقف، وارتفعوا عَن عُرَنَة، والمزدلفة كلهَا موقف، وارتفعوا عَن محسر» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الْوَهَّاب بن عَطاء، قَالَ ابْن جريج: (وَأَخْبرنِي) مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر ... فَذكره، وَهُوَ مُرْسل، (وَيَأْتِي) مَوْصُولا من طَرِيقه عَن أبي هُرَيْرَة.
ثَالِثهَا: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (ارْفَعُوا) عَن بطن عُرَنَة، و (ارْفَعُوا) عَن بطن محسر» . رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. قَالَ: وَله شَاهد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ إِلَّا أَن فِيهِ تقصيرًا فِي سَنَده. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس (قَالَ) : «كَانَ يُقَال: ارتفعوا عَن محسر، وارتفعوا عَن عرنات» أما قَوْله: « (العرنات) » فالوقوف [بعرنة] (أَي) لَا تقفوا (بعرنة) . وَأما قَوْله: «عَن محسر» فالنزول (بِجمع) أَن لَا تنزلوا محسرًا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن شَيْخه(6/235)
الْحَاكِم مَرْفُوعا وموقوفًا، وَاعْترض النَّوَوِيّ عَلَى الْحَاكِم فِي تَصْحِيحه وَأَنه عَلَى شَرط مُسلم؛ فَقَالَ: لَيْسَ كَمَا قَالَ، فَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرط مُسلم، وَلَا إِسْنَاده صَحِيح؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة مُحَمَّد بن (كثير) وَلم يرو لَهُ مُسلم، وَقد ضعفه جُمْهُور الْأَئِمَّة.
قلت: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من طَرِيق أُخْرَى، لَكِنَّهَا ضَعِيفَة، رَوَاهُ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الْمليكِي - وَهُوَ تَالِف، قَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث - عَن ابْن أبي مليكَة، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «عَرَفَة كلهَا موقف، (وارتفعوا) عَن بطن عُرَنَة، ومزدلفة كلهَا موقف، (وارتفعوا) عَن بطن محسر» . وَعَزاهُ عبد الْحق من رِوَايَة ابْن عَبَّاس إِلَى الطَّحَاوِيّ بِلَفْظ: «عَرَفَة كلهَا موقف، وارتفعوا عَن بطن عُرَنَة، ومزدلفة كلهَا موقف، وارتفعوا عَن بطن محسر، وشعاب منى كلهَا منحر» زَاد ابْن وهب: «وَمن جَازَ عَرَفَة قبل أَن تغيب الشَّمْس فَلَا حج لَهُ» .(6/236)
رَابِعهَا: عَن مَالك: أَنه بلغه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَرَفَة كلهَا موقف، وارتفعوا عَن بطن عُرَنَة، والمزدلفة كلهَا موقف، وارتفعوا عَن بطن محسر» . كَذَا هُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» ، قَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا الحَدِيث يرْوَى من حَدِيث عَلّي وَابْن عَبَّاس، وأكثرها لَيْسَ فِيهِ ذكر «بطن عُرَنَة» ، واستثناؤه صَحِيح عِنْد الْفُقَهَاء، ومحفوظ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، ذكره عبد الرَّزَّاق عَن معمر، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن (أبي) هُرَيْرَة.
خَامِسهَا: عَن حبيب بن (خماشة) قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «عَرَفَة كلهَا موقف إِلَّا بطن عُرَنَة، والمزدلفة كلهَا موقف إِلَّا بطن محسر» . رَوَاهُ ابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» : عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن آدم الشَّاشِي، ثَنَا أَحْمد بن جَعْفَر بن سلم الْجمال، نَا مُحَمَّد بن عمر بن وَاقد، نَا صَالح بن خَوات، عَن يزِيد بن رُومَان، عَن حبيب بن عُمَيْر، عَن حبيب بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو نعيم أَيْضا فِي «معرفَة الصَّحَابَة»(6/237)
عَن أبي بكر بن خَلاد، نَا الْحَارِث بن أبي أُسَامَة، نَا مُحَمَّد بن عمر بِهِ سَوَاء، وَزَاد: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ذَلِك بِعَرَفَة» . قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» : حبيب هَذَا أوسي خطمي، لَهُ هَذَا الحَدِيث الْغَرِيب. وَقَالَ بعد ذَلِك: حبيب بن عَمْرو ذكره عَبْدَانِ. وسَاق حَدِيثا عَن أبي جَعْفَر الخطمي عَنهُ (ثمَّ قَالَ: حبيب بن عُمَيْر) الخطمي سَاق لَهُ عَبْدَانِ عَن أبي جَعْفَر الخطمي عَن جدّه حبيب، وَهُوَ الأول، وَهُوَ حَدِيث ابْن (خماشة) الخطمي، إِذْ الرَّاوِي عَنْهُم وَاحِد.
قلت: وَمُحَمّد بن عمر (بن) وَاقد الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده وَضاع.
سادسها: عَن عَمْرو بن شُعَيْب وَسَلَمَة بن كهيل أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «هَذَا الْموقف، وكل عَرَفَة موقف، وارتفعوا عَن بطن عُرَنَة، (وَمن) جَازَ بطن عُرَنَة قبل أَن تغيب الشَّمْس فَعَلَيهِ حج قَابل» . رَوَاهُ(6/238)
ابْن وهب فِي «موطئِهِ» عَلَى مَا حَكَاهُ ابْن الْقطَّان وَغَيره عَنهُ، عَن يزِيد بن عِيَاض، عَن إِسْحَاق بن عبد الله، عَن عَمْرو بن شُعَيْب بِهِ، وَأعله عبد الْحق ب «يزِيد» هَذَا، وَقَالَ: إِنَّه مَتْرُوك. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَابْن الْقطَّان ب «إِسْحَاق» هَذَا، وَقَالَ: إِنَّه ابْن أبي فَرْوَة، وَهُوَ مُتَّهم بِالْكَذِبِ، وَكَذَا يزِيد بن عِيَاض.
سابعها - وَكَانَ يتَعَيَّن تَقْدِيمهَا -: عَن جُبَير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «كل عَرَفَات موقف، (وَارْفَعُوا) عَن (عُرَنَة، وكل مُزْدَلِفَة موقف، وارتفعوا عَن) محسر، وكل فجاج منى منحر، وَفِي كل أَيَّام التَّشْرِيق ذبح» . رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن أَحْمد بن الْحسن بن عبد الْجَبَّار الصُّوفِي، عَن أبي نصر التمار، عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي حُسَيْن، عَن جُبَير بِهِ. واحتجَّ بِهِ ابْن حزم فِي «محلاه» ؛ فَأخْرجهُ من حَدِيث سُلَيْمَان بِهِ بِلَفْظ: «كل عَرَفَات موقف، وَارْفَعُوا عَن بطن عُرَنَة، والمزدلفة كُله موقف، وَارْفَعُوا عَن بطن محسر» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي الْأَضَاحِي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: رَوَاهُ سُلَيْمَان(6/239)
بن مُوسَى عَن جُبَير بن مطعم، وَهُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ مُرْسل بِإِسْقَاط عبد الرَّحْمَن بن أبي حُسَيْن.
قلت: وَكَذَا أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» ، و (أخرجه) الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث سُلَيْمَان أَيْضا عَن نَافِع بن جُبَير عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «كل عَرَفَة موقف، وَارْفَعُوا عَن عُرَنَة، وكل مُزْدَلِفَة موقف وَارْفَعُوا عَن بطن محسر» .
تَنْبِيه: عُرَنة: بِضَم أَوله و (فتح) ثَانِيه ثمَّ نون ثمَّ هَاء، كَذَا ضَبطه الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» قَالَ: وَهُوَ وَادي عُرَنَة، قَالَ: وَالْفُقَهَاء (يَقُولُونَهُ) بِضَم الرَّاء وَهُوَ خطأ. قَالَ: وَذكر أَبُو بكر « (عُرَنَة» ) بِضَم أَوله وَإِسْكَان ثَانِيه، مَوضِع، وَلم يُحَدِّده وَأرَاهُ غير الَّذِي بِعَرَفَة.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْخمسين
عَن (عُرْوَة) بن مضرِّس الطَّائِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من صَلَّى مَعنا هَذِه الصَّلَاة - يَعْنِي: الصُّبْح يَوْم النَّحْر - وَأَتَى عَرَفَات قبل ذَلِك لَيْلًا أَو نَهَارا فقد تمّ حجه، وَقَضَى تفثه» .(6/240)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه. وَلَفظ أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ: عَن عُرْوَة بن مُضرس قَالَ: «أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين أَقَامَ الصَّلَاة (بالموقف) - يعْنى: بِجمع - فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي جِئْت من جبلي طَيئ، أكللت راحتي - وَلَفظ د ن: مطيتي - وأتعبت نَفسِي، وَالله يَا رَسُول الله، مَا تركت من حَبْل - وَفِي لفظ: من جَبَل - إِلَّا (وقفت) عَلَيْهِ؛ فَهَل لي من حج؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من شهد صَلَاتنَا هَذِه، ووقف مَعنا حَتَّى ندفع وَقد وقف بِعَرَفَة قبل ذَلِك لَيْلًا أَو نَهَارا فقد تمّ حجه وَقَضَى تفثه» وَلَفظ أَحْمد نَحْو هَذَا، وَفِي رِوَايَة(6/241)
للنسائي «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَاقِفًا بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقَالَ: من صَلَّى مَعنا صَلَاتنَا هَذِه هَاهُنَا، ثمَّ أَقَامَ مَعنا وَقد وقف قبل ذَلِك بِعَرَفَة لَيْلًا أَو نَهَارا فقد تمّ حجه» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من أدْرك جمعا مَعَ الإِمَام وَالنَّاس حَتَّى يفِيض (مِنْهَا) فقد أدْرك الْحَج، وَمن لم يدْرك مَعَ النَّاس وَالْإِمَام فَلم (يُدْرِكهُ) » . وَلَفظ ابْن مَاجَه عَن عُرْوَة: «أَنه حج عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يدْرك النَّاس إِلَّا وهم بِجمع، قَالَ: فَأتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقلت: يَا رَسُول الله، أنصبت رَاحِلَتي وأتعبت نَفسِي، وَالله مَا تركت من جبل إِلَّا وقفت عَلَيْهِ؛ فَهَل لي من حج؟ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: من شهد (مَعنا) الصَّلَاة، وأفاض من عَرَفَات لَيْلًا أَو نَهَارا فقد قَضَى تفثه وَتمّ حجه» وَلَفظ ابْن حبَان: «أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ بجمْع، فَقلت: هَل (عَلّي) من حج؟ قَالَ: من شهد مَعنا هَذَا الْموقف حَتَّى يفِيض، وَقد أَفَاضَ قبل ذَلِك من عَرَفَات لَيْلًا أَو نَهَارا فقد تمّ حجه وَقَضَى تفثه» . وَفِي لفظ (لَهُ) : «وَهُوَ وَاقِف بِالْمُزْدَلِفَةِ فَقَالَ: من صَلَّى صَلَاتنَا هَذِه، ثمَّ أَقَامَ مَعنا وَقد وقف قبل ذَلِك بِعَرَفَة لَيْلًا أَو نَهَارا، فقد تمّ حجه» . وَلَفظ الْحَاكِم: «أتيت(6/242)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ بِجمع، فَقلت: هَل لي من حج؟ فَقَالَ: من صَلَّى مَعنا هَذِه الصَّلَاة بِهَذَا الْمَكَان، ثمَّ وقف مَعنا هَذَا الْموقف حَتَّى يفِيض الإِمَام قبل ذَلِك من عَرَفَات لَيْلًا أَو نَهَارا فقد تمّ حجه وَقَضَى تفثه» . وَفِي رِوَايَتَيْنِ لَهُ نَحْو هَذِه. وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ: «من صَلَّى مَعنا صَلَاة الْغَدَاة، ووقف هَا هُنَا حَتَّى نفيض، وَقد (أُتِي) عَرَفَات قبل ذَلِك لَيْلًا (أَو) نَهَارا فقد تمّ حجه وَقَضَى تفثه» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من وقف مَعنا بِعَرَفَة فقد تمّ حجه» وَفِي رِوَايَة لأبي يعْلى فِي «مُسْنده» : «ومَنْ لم يدْرك جمْعًا فَلَا حج لَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عِنْد كَافَّة أَئِمَّة الحَدِيث، وَهُوَ قَاعِدَة من قَوَاعِد الْإِسْلَام، وَقد أمسك عَن إِخْرَاجه الشَّيْخَانِ عَلَى أَصلهمَا أَن عُرْوَة بن مُضرس لم يحدِّث عَنهُ غير عَامر الشّعبِيّ. قَالَ: وَقد وجدنَا عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام حدَّث عَنهُ.
(قلت) : وَقد حدَّث عَنهُ أَيْضا غَيرهمَا، كَمَا ذكرته فِي (كتابي) : «الْمقنع فِي عُلُوم الحَدِيث» اختصارُ كتاب أبي عَمرو بْنِ الصّلاح، فراجعْهُ مِنْهُ، (قَالَ الْحَاكِم) : وتابع (عُرْوَة) بن المضرس فِي رِوَايَة هَذِه السُّنة من الصَّحَابَة: عبدُ الرَّحْمَن بن يعمر الديلِي. ثمَّ ذكر(6/243)
حَدِيثه السالف، وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْمعَافِرِي: هَذَا الحَدِيث من لَوَازِم «الصَّحِيحَيْنِ» و (إِن) لم يخرجَاهُ.
فَائِدَة: عُرْوَة بن مُضرس هَذَا طائي، وَكَانَ سيدًا فِي قومه يضاهي عديَّ بْنَ حَاتِم فِي الرياسة، وَكَانَ أَبوهُ مُضَرِّس - بِضَم الْمِيم، وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَكسر الرَّاء الْمُهْملَة وتشديدها، ثمَّ سين مُهْملَة - عَظِيم الرياسة أَيْضا، وجدُّه أَوْس بن حَارِثَة بن لَام، (وَعُرْوَة) صَحَابِيّ وَشهد مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حجَّة الْوَدَاع، قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: لم يروِ عَنهُ غير الشّعبِيّ. وَقد أسلفنا أَن جمَاعَة رووا عَنهُ أَيْضا غَيره.
فَائِدَة ثَانِيَة: الْحَبل - بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، ثمَّ لَام - قَالَ التِّرْمِذِيّ (فِي) «جَامعه» : الحَبْل - بِالْحَاء - هُوَ مَا كَانَ من رمْلٍ، فَإِن كَانَ من حِجَارَة يُقَال لَهُ: جبل - يَعْنِي: بِالْجِيم. وَكَذَا قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال للرمل المستطيل: حبْل. وَكَذَا قَالَ القَاضِي عِيَاض: الْحَبل - بِالْحَاء الْمُهْملَة - مَا طَال من الرمل وضَخُم، وَيُقَال: الحبال دون الْجبَال. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِي السّنَن» : الْحَبل - بِالْحَاء الْمُهْملَة - هُوَ المستطيل من الرمل، وَقيل: مَا ضخم(6/244)
مِنْهُ، (وَقيل: مَا طَال وضخم) وَقيل: الَّذِي يسلكونه فِي الرمل، قَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَه.
فَائِدَة ثَالِثَة: (جبليّ) طَيئ: هما «سلْمَى» و «أجا» . قَالَه الْمُنْذِرِيّ. والتفث: بمثناة ثمَّ فَاء ثمَّ مُثَلّثَة، قَالَ الْأَزْهَرِي: لَا يُعرف من كَلَام الْعَرَب إِلَّا من قَول ابْن عَبَّاس وَأهل التَّفْسِير. قَالَ: وَهُوَ الْأَخْذ من الشَّارِب وقص الْأَظْفَار ونتف الْإِبِط وَحلق الْعَانَة، هَذَا عِنْد الْخُرُوج من الْإِحْرَام. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: التفث فِي كَلَام الْعَرَب إذهابُ الشَّعَث.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْخمسين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وقف بعد الزَّوَال» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف لَك فِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل، وَكَذَا وقف الْخُلَفَاء فَمن بعدهمْ وهلُمَّ جرّا، وَمَا نُقِلَ عَن أحدٍ أَنه (وقف) قبل الزَّوَال، وَأجَاب أَصْحَابنَا عَن حَدِيث عُرْوَة الْمَذْكُور قبله: أَنه مَحْمُول عَلَى مَا بعد الزَّوَال.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْخمسين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ترك نُسُكًَا فَعَلَيهِ دم» .
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب الْمَوَاقِيت، من قَول ابْن عَبَّاس، وَلَا يُعرف رَفعه.(6/245)
الحَدِيث السِّتُّونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَوْم عَرَفَة الْيَوْم الَّذِي يعرف النَّاس فِيهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» كَذَلِك من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن خَالِد بن أسيد، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ مُرْسل جيد.
قلت: وَعبد الْعَزِيز هَذَا ذكره الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» وَقَالَ: أوردهُ ابْن شاهين فِي «الصَّحَابَة» وَقَالَ: كَذَا قَالَ ابْن أبي دَاوُد، وَقد اختُلف فِيهِ. وَذكره أَبُو نُعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة عبد الله بن خَالِد بن أسيد المخزومى، من رِوَايَة وَلَده عبد الْعَزِيز (عَنهُ) ، ثمَّ قَالَ: «عبد الله» فِي صحبته (ورؤيته) نظر. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ مَرْفُوعا، رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، عَن سُفْيَان، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «عَرَفَة يَوْم يعرف الإِمَام، والأضحى يَوْم يُضحي الإِمَام، و (الْفطر) يَوْم يفْطر الإِمَام» . قَالَ: و (مُحَمَّد) هَذَا يعرف بالفارسي، وَهُوَ كُوفِي، قَاضِي فَارس، تفرد بِهِ عَن سُفْيَان. وَقَالَ فِي «خلافياته» : مُحَمَّد(6/246)
بن الْمُنْكَدر عَن عَائِشَة مُرْسل. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مُسلم بن خَالِد الزنْجِي - إِمَام أهل مَكَّة (ومفتيها) - عَن ابْن جريج قَالَ: قلت لعطاء: رجل حجَّ أول مَا حَجَّ فَأَخْطَأَ الناسَ بِيَوْم النَّحْر، أيجزئ عَنهُ؟ (قَالَ: نعم أَي لعمري إِنَّهَا لتجزئ عَنهُ) قَالَ - وَأَحْسبهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فطركم يَوْم تفطرون، وأضحاكم يَوْم تضحون - وَأرَاهُ قَالَ - وعرفة: يَوْم تعرفُون» . وَمُسلم هَذَا مُخْتَلف فِيهِ، وَذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» من حَدِيث عَائِشَة مَرْفُوعا: «يَوْم النَّحْر يَوْم ينْحَر النَّاس وَالْإِمَام، وَيَوْم عَرَفَة يَوْم يعرف النَّاس وَالْإِمَام» . ثمَّ قَالَ: (وَقْفه) عَلَيْهَا هُوَ الصَّوَاب. وَرَوَاهُ(6/247)
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَيْضا بِلَفْظ آخر: «الْفطر يَوْم يفْطر النَّاس، والأضحى يَوْم يُضحي النَّاس» . ثمَّ قَالَ: (حسن صَحِيح) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «الْفطر يَوْم تفطرون، والأضحى يَوْم تضحون» . وَمُحَمّد هَذَا لم يسمع من أبي هُرَيْرَة وَلم يَلْقَه؛ كَمَا قَالَه ابْن معِين وَأَبُو زُرْعة. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة (وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، وَحسنه مَعَ الغرابة) وَزَاد فِي أَوله: «الصَّوْم يَوْم تصومون» .
الحَدِيث الحادى بعد السِّتين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «حجُّكم يَوْم تحجون» .
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من خرَّجه بِهَذَا اللَّفْظ، ويُغْني عَنهُ الحَدِيث الَّذِي قبله.(6/248)
الحَدِيث الثَّانِي بعد السِّتين
رَوَى أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ ترك الْمبيت بِمُزْدَلِفَة فَلَا حجَّ لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث أَيْضا غَرِيب، لَا أعلم من خرَّجه بعد الْبَحْث عَنهُ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح المهذَّب» : إِنَّه لَيْسَ بِثَابِت وَلَا مَعْرُوف. قَالَ: وَيُجَاب عَنهُ عَلَى تَقْدِير ثُبُوته أَن المُرَاد: لَا حجَّ كَامِل. وَقَالَ الْحَافِظ محبُّ الدَّين الطَّبَرِيّ فِي «شرح التَّنْبِيه» : (لَا) أَدْرِي مِنْ أَيْن أَخذه الرافعيُّ؟ .
الحَدِيث الثَّالِث بعد السِّتين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْحَج عَرَفَة، فَمَنْ أدْركهَا فقد أدْرك الحجَّ» .
هَذَا الحَدِيث قد تقدم بَيَانه قَرِيبا وَاضحا.
الحَدِيث الرَّابِع بعد السِّتين
«أَن سَوْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أفاضتْ فِي النّصْف الْأَخير من مُزْدَلِفَة بِإِذن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلم يأمرها بِالدَّمِ، وَلَا النَّفَر الَّذين كَانُوا مَعهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «اسْتَأْذَنت سَوْدَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَيْلَة (جمع) ، وَكَانَت(6/249)
ثَقيلَة ثبطة، فأذِنَ لَهَا» . هَذَا لفظ إِحْدَى رواياتهم، وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن عَائِشَة قَالَت: «كَانَت سَوْدَة امْرَأَة ضخمة ثبطة؛ فاستأذنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أَن تفيض من جمع بلَيْل، فَأذن لَهَا، قَالَت عَائِشَة: فليتني كنت اسْتَأْذَنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) (كَمَا استأذنتْهُ سودةُ) » . وَفِي لفظ لَهُ: «فأصلي الصُّبْح بمنى، فأرمي الجمرةَ قبل أَن يَأْتِي النَّاس» (وَكَانَت عَائِشَة لَا تفيض إِلَّا مَعَ الإِمَام) .
الحَدِيث الْخَامِس بعد السِّتين
«أَن أُمَّ سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أفاضت فِي النّصْف الْأَخير من مُزْدَلِفَة بِإِذن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلم يأمُرُها وَلَا مَنْ مَعهَا بِالدَّمِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الضَّحَّاك - يَعْنِي: ابْن عُثْمَان - عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا قَالَت: «أرسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بأُمِّ سَلمَة لَيْلَة النَّحْر فرمت الجمرةَ قبل الْفجْر، ثمَّ مَضَت فأفاضت، وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم (الْيَوْم) الَّذِي يكون رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَعْنِي عِنْدهَا» وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، لَا جَرَمَ أخرجه(6/250)
الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: صَحِيح عَلَى (شَرط مُسلم) وَلم يخرجَاهُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي كتبه الثَّلَاثَة «السّنَن» و «الْمعرفَة» وَقَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح لَا غُبَار عَلَيْهِ. و «الخلافيات» وَقَالَ: رُوَاته ثِقَات. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي مُرْسلا، فَقَالَ - وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من جِهَته (أَيْضا) -: أَنا دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن الْعَطَّار وعبدُ الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، عَن هِشَام، عَن أَبِيه قَالَ: «دَار رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى أم سَلمَة يَوْم النَّحْر وأمَرَها أَن تتعجَّل الْإِفَاضَة من جمع حَتَّى ترمي الجمرةَ (و) توافي (صَلَاة) الصُّبْح بِمَكَّة، وَكَانَ يَوْمهَا فَأحب أَن توافقه أَو توافيه» . قَالَ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» : وَهَذَا لَا يكون إِلَّا وَقد رمت الْجَمْرَة قبل الْفجْر بساعة. قَالَ: وَأَخْبرنِي من أَثِق من المشرقيين عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة، عَن أم سَلمَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثله. هَكَذَا رَوَاهُ فِي «الْإِمْلَاء» ، وَرَوَاهُ فِي «الْمُخْتَصر الْكَبِير» بالإسنادين جَمِيعًا، إِلَّا أَنه قَالَ: «ترمي الجمرةَ وتوافي صلاةَ الصُّبْح بِمَكَّة، وَكَانَ يَوْمهَا، فَأحب أَن توافقه أَو توافيه» . وَقَالَ فِي الْإِسْنَاد الثَّانِي: أَخْبرنِي الثِّقَة عَن هِشَام. وَكَانَ الشَّافِعِي(6/251)
أَخذه (من) أبي مُعَاوِيَة الضَّرِير، وَقد رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة مَوْصُولا فَذكره وَقَالَ فِي (سنَنه) أَيْضا: وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن حَازِم الضَّرِير عَن هِشَام بن عُرْوَة مَوْصُولا، يَعْنِي: وَفِيه: «صلَاتهَا الصُّبْح بِمَكَّة» ثمَّ سَاقه (عَن) الْحَاكِم بِإِسْنَادِهِ إِلَى (أبي) مُعَاوِيَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة، عَن أم سَلمَة: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أمَرَها أَن (توافيه) صَلَاة الصُّبْح بِمَكَّة يَوْم النَّحْر» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَكَذَا رَوَاهُ جمَاعَة عَن أبي مُعَاوِيَة، وَرَوَاهُ أَسد بن مُوسَى عَن أبي مُعَاوِيَة بِإِسْنَادِهِ، قَالَت: «أمرهَا يَوْم النَّحْر أَن توافي مَعَه صَلَاة الصُّبْح بِمَكَّة» .
قلت: وَهَذَا أنكرهُ الإِمَام أَحْمد وَغَيره، أَعنِي: الموافاة بهَا فِي صَلَاة الصُّبْح بِمَكَّة، وَهُوَ لائح؛ فَإِنَّهُ لَا يُمكن أَن توافي مَعَه صَلَاة الصُّبْح بِمَكَّة، فَإِنَّهُ صلَّى الصبحَ يَوْمئِذٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وأفاض يَوْم النَّحْر، وَأما حَدِيث (أبي الزبير عَن) عَائِشَة وَابْن (عَبَّاس) «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أخر طواف)(6/252)
الزِّيَارَة إِلَى اللَّيْل» فَفِيهِ نظر ثمَّ اعْلَم أَن الرافعيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذكر حَدِيث أمِّ سَلمَة هَذَا، وَحَدِيث سَوْدَة الَّذِي قبله، دَلِيلا عَلَى أَنه إِذا دفع من مُزْدَلِفَة بعد انتصاف اللَّيْل لَا شَيْء عَلَيْهِ مَعْذُورًا كَانَ أَو غير مَعْذُور، وَلَيْسَ فِيهَا التَّحْدِيد بذلك، نعم فِي حَدِيث أَسمَاء فِي «الصَّحِيحَيْنِ» التَّوْقِيت بغيبوبة الْقَمَر فَقَط.
فَائِدَة: قَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي «الْبَحْر» : قَوْله توافي تجوز قِرَاءَته بِالْيَاءِ وَالتَّاء، يَعْنِي الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت وَالتَّاء الْمُثَنَّاة فَوق، قَالَ: لِأَن قَوْله «وَكَانَ يَوْمهَا» فِيهِ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ: وَكَانَ يَوْمهَا من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فأحبَّ عَلَيْهِ السَّلَام أَن يوافي التَّحَلُّل وَهِي قد فرغت.
ثَانِيهمَا: أَنه أَرَادَ: وَكَانَ يَوْم حَيْضهَا، (فأحبَّ) أَن توافي أُمُّ سَلمَة التَّحَلُّل قبل أَن تحيض. قَالَ: فَيقْرَأ عَلَى (الأوَّل) بِالْمُثَنَّاةِ تَحت، وَعَلَى الثَّانِي بِالْمُثَنَّاةِ فَوق.
فَائِدَة ثَانِيَة: رَوَى النَّسَائِيّ من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَيْضا «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أمَرَ إِحْدَى نِسَائِهِ أَن تنفر من جمع [لَيْلَة جمع] ، فتأتي جَمْرَة الْعقبَة فترميها، (وَتصلي) فِي منزلهَا» . هَكَذَا رَوَاهُ، وَلم(6/253)
يسم الْمَرْأَة، فَيحْتَمل (حِينَئِذٍ) أَن تكون أمَّ سَلمَة، وَيحْتَمل أَن تكون سودةَ، وَيحْتَمل أَن تكون أمَّ حَبِيبَة. فَفِي «صَحِيح مُسلم» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث بهَا من جمع بلَيْل» .
(تَنْبِيه: لمَّا ذكر الرَّافِعِيّ أَنه يكره أَن يُرْمَى من المرمى قيل: «إِن من تقبل حجّه يرفع حجره، وَمَا بَقِي فَهُوَ مَرْدُود» . وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قد أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا، لَكِن بِإِسْنَاد ضَعِيف، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ويُرْوى من وَجه آخر ضَعِيف أَيْضا عَن ابْن عمر مَرْفُوعا. قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ مَشْهُور عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا عَلَيْهِ) .
الحَدِيث السَّادِس بعد السِّتين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كنتُ فِيمَن قدَّمَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي ضعفةِ أَهله (من الْمزْدَلِفَة) إِلَى منى» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنهُ، قَالَ: «أَنا (مِمَّن) قَدَّمَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَيْلَة الْمزْدَلِفَة فِي ضعفة أَهله» . وَاللَّفْظ(6/254)
الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ هُوَ لفظ رِوَايَة الإِمَام الشَّافِعِي كَمَا سَاقه الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، وَفِي رِوَايَة للنسائي: وَقَالَ لَهُم: «لَا ترموا الْجَمْرَة حَتَّى تطلع الشَّمْس» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَرْسلنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَعَ ضعفة أَهله، فصلينا الصُّبْح بمنى، ورمينا (الْجَمْرَة) » . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قدم ضعفةَ أَهله وَقَالَ: لَا ترموا الْجَمْرَة حَتَّى تطلع الشَّمْس» ثمَّ قَالَ: حسن صَحِيح، وَقَالَ بِهِ أَكثر أهل الْعلم، ورخَّص بعض أهل الْعلم فِي أَن يرموا بليلٍ، وَالْعَمَل عَلَى حَدِيثه عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر فِي «الإشراف» : الرَّمْي قبل الْفجْر مُخَالف لسُنَّته عَلَيْهِ السَّلَام، وَلَا يُجزئ. وَكَأَنَّهُ تشبث بِحَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا، لَكِن حَدِيث أم سَلمَة وَسَوْدَة يُخَالِفهُ.
الحَدِيث السَّابِع بعد السِّتين
عَن أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَى منى، فَأَتَى الْجَمْرَة فَرَمَاهَا، ثمَّ أَتَى منزله بمنى وَنحر، ثمَّ قَالَ للحلاَّق: خُذْ. وَأَشَارَ إِلَى جَانِبه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر، ثمَّ جعل يُعْطِيهِ النَّاس» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك، وَهَذَا الحَدِيث لم يذكرهُ الرَّافِعِيّ، وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بعد ذَلِك بقوله: (ثمَّ) إِذا رموا جَمْرَة الْعقبَة نحرُوا إِن كَانَ مَعَهم هدي، فَذَلِك سُنّة.(6/255)
(فَائِدَة) : هَذَا الحالقُ هُوَ: معمر بن (عبد الله) بن نَافِع بن نَضْلَة الْعَدوي، كَذَا سَاقه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَأَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» ، (هَذَا) هُوَ الْمَشْهُور، وَبِه (جزم) ابْنُ (نقطة) فِي « (تكملته» ) . وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» : «زَعَمُوا أَنه معمر بن عبد الله» ، وَقيل: اسْمه «خرَاش بن أُميَّة بن ربيعَة الْكَلْبِيّ» مَنْسُوب إِلَى (كُلَيْب) بن (حبشية) .(6/256)
(الحَدِيث الثَّامِن بعد السِّتين)
قَالَ الرَّافِعِيّ: «فَإِذا انْتَهوا إِلَى وَادي محسر فالمستحب للراكبِيْن أَن يُحركوا دوابَّهم، وللماشِيْن أَن يُسرعوا. قدر رمية بِحجر» . رُوِيَ ذَلِك عَن جَابر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم من حَدِيث جابرٍ الطَّوِيل بِنَحْوِهِ، وَهَذَا لَفظه: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى بطن محسر، فحرك قَلِيلا، ثمَّ سلك الطَّرِيق [الْوُسْطَى] الَّتِي تخرج عَلَى الْجَمْرَة الْكُبْرَى» . وَقد سبق بِطُولِهِ، وَفِي «السّنَن» الْأَرْبَعَة من حَدِيث سُفْيَان، عَن أبي الزبير، (عَن) جَابر أَيْضا. «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أوضع فِي وَادي محسر - زَاد بشر بن السّري أحد رُوَاته -: وأفاض من جَمْع وَعَلِيهِ السكينَة (وَأمرهمْ بِالسَّكِينَةِ) - وَزَاد فِيهِ أَبُو نعيم أحد رُوَاته -: وَأمرهمْ أَن يرموا بِمثل حَصى الْخذف، وَقَالَ: لعَلي لَا أَرَاكُم بعد عَامي هَذَا» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد السِّتين
قَالَ الرَّافِعِيّ: «وَلَا ينزل الراكبون حَتَّى يرموا كَمَا فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .(6/257)
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد صحَّ ذَلِك من طرق: (أَحدهَا) : عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَرْمِي عَلَى رَاحِلَته يَوْم النَّحْر، وَهُوَ يَقُول: خُذُوا عني مَنَاسِككُم، لَا أَدْرِي لعَلي لَا أحج بعد حجتي هَذِه» . أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ (أَيْضا) وَقَالَ: «إِنِّي لَا أَدْرِي لعَلي لَا أعيش بعد عَامي هَذَا» . وَقد سلف حَدِيث جَابر الطَّوِيل، وَظَاهر سِيَاقه أَنه رَمَاهَا رَاكِبًا.
ثَانِيهَا: من حَدِيث أم الْحصين قَالَت: «حجَجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حجَّة الْوَدَاع، فَرَأَيْت أُسَامَة وبلالاً، أَحدهمَا آخذ بِخِطَام نَاقَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَالْآخر رَافع ثَوْبه يستره من الحرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَة الْعقبَة» . أخرجه مُسلم مُنْفَردا بِهِ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَسَيَأْتِي أول مُحرمَات الْإِحْرَام.
ثَالِثهَا: من حَدِيث قدامَة بن عبد الله بن عمار الْكلابِي قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَرْمِي الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر عَلَى نَاقَة صهباء، لَا ضرب وَلَا طرد وَلَا إِلَيْك إِلَيْك» . أخرجه الشَّافِعِي وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم فِي(6/258)
«مُسْتَدْركه» وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا، لَكِن لَفظه: «يَرْمِي الْجمار» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَعَزاهُ عبد الْحق إِلَى أبي دَاوُد، وَهُوَ غلط، فَلَيْسَ هُوَ فِيهِ، وَقد تعقبه ابْن الْقطَّان.
وَورد أَيْضا من طَرِيقين (آخَرين) أَحدهمَا: من طَرِيق ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَمَى الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر رَاكِبًا» رَوَاهُ أَحْمد، وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَإِنَّمَا لم يُصَحِّحهُ؛ لِأَن فِي إِسْنَاده الْحجَّاج بن أَرْطَاة؛ وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، وَهُوَ مُدَلّس وَلم يذكر سَمَاعا.
ثَانِيهمَا: من طَرِيق سُلَيْمَان بن عَمْرو بن الْأَحْوَص عَن أمه (أم) جُنْدُب، وَقد ذكره صَاحب «المهذَّب» ، وأوضحته فِي «تخريجي لأحاديثه» ؛ فَليُرَاجع مِنْهُ.(6/259)
الحَدِيث السبْعون
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قطع التَّلْبِيَة عِنْد أول حَصَاة رَمَاهَا» .
هَذَا الحَدِيث متَّفق عَلَى صِحَّته، من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن أُسَامَة بن زيد كَانَ ردف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من عَرَفَة إِلَى الْمزْدَلِفَة، ثمَّ أرْدف الْفضل من الْمزْدَلِفَة إِلَى مِنًى وَكِلَاهُمَا قَالَ: وَلم يَزَلِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُلبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَة الْعقبَة» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أرْدف الْفضل، فَأخْبر الْفضل أَنه لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَة الْعقبَة» . (وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث الْفضل: «فَلم يزل يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَة الْعقبَة) ، وَكبر مَعَ كل حَصَاة، ثمَّ قطع التَّلْبِيَة مَعَ آخر حَصَاة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: و (تكبيره) مَعَ كل حَصَاة كالدلالة عَلَى قطعه بِأول حَصَاة، وَأما (مَا) فِي رِوَايَة الْفضل من الزِّيَادَة فَإِنَّهَا غَرِيبَة، أوردهَا ابْن خُزَيْمَة، واختارها وَلَيْسَت فِي الرِّوَايَات الْمَشْهُورَة عَن ابْن عَبَّاس [عَن الْفضل بن الْعَبَّاس] .
تَنْبِيه: قَالَ ابْن المُغلِّس الظَّاهِرِيّ: يقطع الْمُعْتَمِر التَّلْبِيَة إِذا(6/260)
اسْتَلم الْحجر، قَالَ: (و) بذلك ثَبت الْخَبَر، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ أسْند حَدِيثا عَن ابْن عَبَّاس فِيهِ ابْن أبي لَيْلَى، وَهُوَ مَشْهُور الْحَال.
الحَدِيث الْحَادِي بعد السّبْعين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا رميتم وحلقتم حل لكم كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث حجاج عَن أبي بكر [بن] مُحَمَّد، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «إِذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطّيب وَالثيَاب وكل شَيْء إِلَّا النِّسَاء» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فَقَالَ: (ثَنَا) مُسَدّد، نَا (عبد الْوَاحِد) بن زِيَاد، نَا الْحجَّاج، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن، عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا رَمَى أحدكُم جَمْرَة الْعقبَة فقد حل لَهُ كل شَيْء(6/261)
إِلَّا النِّسَاء» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «إِذا رَمَى (و) حلق وَذبح فقد حل لَهُ كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء» وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «إِذا رميتم (وحلقتم وذبحتم) [فقد] حل لكم كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء» وَعَن الْحجَّاج، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثله. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن (عَمْرو بن) حزم، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «إِذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطّيب وَالثيَاب وكل شَيْء إِلَّا النِّسَاء» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن أبي (بكر) - يَعْنِي: ابْن حزم - عَن يزِيد بن هَارُون؛ وَزَاد فِيهِ: «وذبحتم فقد حل لكم كل شَيْء الطّيب وَالثيَاب إِلَّا النِّسَاء» . هَذِه أَلْفَاظ رِوَايَة هَذَا الحَدِيث، ومدارها عَلَى الْحجَّاج، وَهُوَ ابْن أَرْطَاة كَمَا جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي «الدَّارَقُطْنِيّ» و «الْبَيْهَقِيّ» كَمَا مَرَّ، وَهُوَ مِمَّن اخْتلف فِيهِ، ثمَّ فِيهِ عِلّة أُخْرَى و (هِيَ) الِانْقِطَاع؛ فَإِن الْحجَّاج لم يَرَ الزُّهْرِيّ وَلَا سمع مِنْهُ كَمَا نَص عَلَيْهِ غير وَاحِد من الْحفاظ، وَقد ضعف أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» هَذَا(6/262)
الحَدِيث من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ؛ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، وَالْحجاج لم يَرَ الزُّهْرِيّ وَلم يسمع مِنْهُ. وَقَالَ المنذريُّ فِي «مُخْتَصر السّنَن» : ذكر عباد بن الْعَوام وَيَحْيَى بن معِين وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة الرازيان أَن الْحجَّاج لم يسمع من الزُّهْرِيّ شَيْئا، وَذكر عَن الْحجَّاج نَفسه أَنه لم يسمع مِنْهُ شَيْئا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا الحَدِيث من تخليطات الْحجَّاج بن أَرْطَاة. قَالَ: وَإِنَّمَا الحَدِيث عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، كَمَا رَوَاهُ سَائِر النَّاس عَن عَائِشَة، ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ عَن الضَّحَّاك، عَن أبي الرِّجَال، عَن أمه، عَن عَائِشَة قَالَت: «طيبت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (لحرمه) حِين أحرم، ولحله قبل أَن يفِيض بأطيب مَا وجدت» . رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» ، وَأم [أبي] الرِّجَال هِيَ «عمْرَة» قَالَ - أَعنِي: الْبَيْهَقِيّ -: وَقد رويتُ (تِلْكَ اللَّفْظَة) فِي حَدِيث أُمِّ سَلمَة مَعَ حكم (آخر) ، لَا أعلم أحدا من الْفُقَهَاء قَالَ بذلك. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى أُمِّ سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَت (اللَّيْلَة) الَّتِي يَدُور فِيهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسَاء لَيْلَة النَّحْر، فَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عِنْدِي؛ فَدخل عليَّ وهبُ(6/263)
بن زَمعَة وَرجل من (آل) أبي أُميَّة (متقمصين) ، فَقَالَ لَهما رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أفضتما؟ (قَالَا) : لَا. قَالَ: فانزعا قميصكما. (فنزعاهما) ، قَالَ وهب: ولِمَ يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: هَذَا يَوْم أرخص لكم فِيهِ إِذا رميتم الْجَمْرَة، ونحرتم هَديا إِن كَانَ لكم فقد حللتم من كل شيءٍ حُرِمْتُم مِنْهُ إِلَّا النِّسَاء حَتَّى تطوفوا بِالْبَيْتِ، فَإِذا أمسيتم وَلم تفيضوا صرتم حرما كَمَا كُنْتُم أوَّل مرةٍ، حَتَّى تفيضوا بِالْبَيْتِ» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِن هَذَا يَوْم (رخَّص) لكم إِذا رميتم الْجَمْرَة أَن تَحِلُّوا من كل مَا حرمتم مِنْهُ إِلَّا النِّسَاء، فَإِذا أمسيتم قبل أَن تطوفوا بِهَذَا الْبَيْت (صرتم) حُرُمًا كهيئتكم قبل أَن ترموا الْجَمْرَة حَتَّى تطوفوا» . وَهَذَا الحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ثمَّ الحاكمُ فِي «مُسْتَدْركه» فِي كتاب الْحَج بِاللَّفْظِ الأول، وَفِي إِسْنَاده ابْن إِسْحَاق، (و) لَكِن صرَّح (بِالتَّحْدِيثِ) فَقَالَ: «ثَنَا أَبُو عُبَيْدَة بن عبد الله بن زَمعَة» . وَفِي «صَحِيح الْحَاكِم» وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ عَن عبد الله بن الزبير (أَنه) قَالَ: (مِنْ سُنَّة الْحَج أَن يُصَلِّي الإِمَام الظهرَ والعصرَ، والمغربَ والعشاءَ الآخرةَ، والصبحَ(6/264)
بمنى، ثمَّ يَغْدُو إِلَى عَرَفَة فيقيل حَيْثُ قضي لَهُ، حَتَّى إِذا زَالَت الشَّمْس خطب الناسَ، ثمَّ صلَّى الظّهْر وَالْعصر (جَمِيعًا) ، ثمَّ وقف بِعَرَفَات حَتَّى تغيب الشَّمْس، ثمَّ يفِيض فيصلِّي بِالْمُزْدَلِفَةِ أَو حَيْثُ قَضَى الله، ثمَّ يقف بِجمع حَتَّى (أَسْفر دفع) قبل طُلُوع الشَّمْس، فَإِذا رَمَى الْجَمْرَة الْكُبْرَى حلَّ لَهُ كلُّ شَيْء حرم عَلَيْهِ إِلَّا النِّسَاء وَالطّيب، حَتَّى يزور الْبَيْت» . وَفِي «مُسْند أَحْمد» و «سنَن النَّسَائِيّ» وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «إِذا رميتم الْجَمْرَة فقد حلّ لكم كلُّ شيءٍ إِلَّا النِّسَاء، فَقَالَ (لَهُ) (رجل) : يَا ابْن عَبَّاس، وَالطّيب؟ فَقَالَ: أما أَنا فقد رأيتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يضمح رَأسه بالطيب، (فَلَا أَدْرِي) أطيب ذَلِك أم لَا» . إِسْنَاده حسن كَمَا قَالَه الْمُنْذِرِيّ وَغَيره، إِلَّا أَن يَحْيَى بْنَ معِين وَغَيره قَالُوا: يُقَال: إِن الْحسن العرني لم يسمع من ابْن عَبَّاس نعم فِي «مُسْند أَحْمد» عَنهُ قَالَ: ذُكِرَ عِنْد ابْن عَبَّاس: «يقطع الصلاةَ المرأةُ والكلبُ والحمارُ؟ قَالَ: بئس مَا (عدلتم) بامرأةٍ مسلمة كَلْبا وَحِمَارًا ... » (و) ذكر الحَدِيث بِطُولِهِ، وَظَاهر هَذَا سَمَاعه مِنْهُ. ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك(6/265)
كُله أَن الرافعيَّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَن الْحلق نسك، قَالَ: فعلق الْحل بِالْحلقِ كَمَا علقه بِالرَّمْي. وَقد علمتَ ضعف الحَدِيث، فَإِن فِي بعض الرِّوَايَات علقه بِالذبْحِ، وَلَا قَائِل بِأَن التَّحَلُّل يقف عَلَيْهِ، وَلَو اسْتدلَّ لَهُ بِالْحَدِيثِ الآتى الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من طَرِيق عبد الله بن عَمرو: «أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: حلقتُ قبل أَن أرمي؟ فَقَالَ: ارْمِ وَلَا حرج» . وَجه الدّلَالَة مِنْهُ أَنه لَو لم يكن نُسكًا لما جَازَ تَقْدِيمه عَلَى الرَّمْي، وَفِي «صَحِيح أبي حَاتِم بن حبَان» (فِي) حَدِيث طَوِيل: «أَن للحالق بِكُل شَعْرَة سَقَطت من رَأسه نورا يَوْم الْقِيَامَة» وَوَقع لِابْنِ الرّفْعَة فِي هَذَا الحَدِيث شَيْء غَرِيب، فَإِنَّهُ لما ذكر قولَ صَاحب «التَّنْبِيه» : فَإِن قُلْنَا إِن الْحلق نسك، حصل لَهُ التَّحَلُّل الأول بِاثْنَيْنِ من ثَلَاثَة وَهِي: الرَّمْي وَالْحلق وَالطّواف. ثمَّ اسْتدلَّ بِلَفْظ أبي دَاوُد السالف، ثمَّ قَالَ: وَفِي كتب الْفُقَهَاء: « (إِذا) رميتم وحلقتم ... » الحَدِيث، وَهُوَ غَرِيب؛ (فَإِنَّهُ عزاهُ) إِلَى كتب الْفُقَهَاء، ونفيه عَن كتب الحَدِيث هُوَ مَا أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» وغيرُه كَمَا عَرفته، فتنبَّهْ (لذَلِك) ؛ فَإِنَّهُ من الْغَرِيب.(6/266)
الحَدِيث الثَّانِي بعد السّبْعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاء حلق وَإِنَّمَا (يقصرن) » .
(هَذَا الحَدِيث) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن الْحسن (الْعَتكِي) ، نَا مُحَمَّد بن بكر، نَا ابْن جريج قَالَ: بَلغنِي عَن صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت: أَخْبَرتنِي أم عُثْمَان: أَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاء حلق، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاء التَّقْصِير» . قَالَ أَبُو دَاوُد: (و) نَا رجل ثِقَة يكنى: أَبَا يَعْقُوب، نَا هِشَام بن يُوسُف، عَن ابْن جريج، عَن (عبد الحميد) بن جُبَير بن شيبَة، عَن صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت: أَخْبَرتنِي أم عُثْمَان بنت أبي سُفْيَان أَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثله. سكت أَبُو دَاوُد عَلَيْهِ وَلم يُضعفهُ، فَهُوَ حُجَّة عَلَى قَاعِدَته، وَتَبعهُ عَلَى سُكُوته (عَلَيْهِ) عبدُ الْحق فِي «أَحْكَامه» ، وصرَّح النوويُّ فِي «شرح المهذَّب» بحُسْن إِسْنَاده، وَتعقب ابْنُ الْقطَّان عبد الْحق فَقَالَ: سكت عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِك تَصْحِيحا لَهُ مِنْهُ، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف(6/267)
مُنْقَطع، (أما) ضَعْفُه فإنَّ أُمَّ عُثْمَان بنت أبي سُفْيَان لَا يعرف لَهَا حَال - قلت: لَا يُحْتاج إِلَى معرفَة حَالهَا، فَإِنَّهَا صحابية، وَهِي (أم بني) شيبَة الأكابر - وَأما انْقِطَاعه فبيِّن، أما طَرِيق أبي دَاوُد الأول فموضعه قَول ابْن جريج: «بَلغنِي عَن صَفِيَّة» ، وَأما الثَّانِي: فموضعه قَول أبي دَاوُد: «نَا رجل ثِقَة يكنى أَبَا يَعْقُوب» (فَإنَّا) لَا نَعْرِف الَّذِي حدَّث بِهِ حَتَّى يوضع فِيهِ النّظر، فَهُوَ بِمَثَابَة من لم يذكر، فَإِن فسَّر مُفَسّر (بِأَنَّهُ) أَبُو يَعْقُوب (إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن أبي إِسْرَائِيل) ؛ فَإِنَّهُ يَرْوي هَذَا الحَدِيث عَن هِشَام بن يُوسُف، لم يقنع مِنْهُ بذلك، وَهُوَ أَيْضا رجل قد عُلم لَهُ رَأْي فَاسد يتجرح بِهِ تَركه النَّاس من أَجله، وَهُوَ الْوَقْف فِي أَن الْقُرْآن مَخْلُوق، وَإِن كَانَ لَا يُؤْتَى من جِهَة الصدْق، (و) من طَرِيقه ذكر الدَّارَقُطْنِيّ هَذَا الحَدِيث عَن الْبَغَوِيّ عَنهُ.
قلت: وَتَابعه إِبْرَاهِيم بن مُوسَى، عَن هِشَام وَسَعِيد القداح، عَن ابْن جريج، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سألتُ أبي عَن حديثٍ رَوَاهُ(6/268)
إِبْرَاهِيم بن مُوسَى، عَن هِشَام بن يُوسُف، عَن ابْن جريج، عَن عبد الحميد، عَن صَفِيَّة، عَن أم عُثْمَان، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ سعيد القداح عَن ابْن جريج عَن صَفِيَّة بِهِ. وَلم يذكر «عبد الحميد» فَقَالَ: هِشَام بن يُوسُف ثِقَة متقن. قلت: وَتَابعه يَعْقُوب (بن) عَطاء، عَن صَفِيَّة، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي بكر بن عَيَّاش عَن يَعْقُوب بن عَطاء، عَن صَفِيَّة بنت شيبَة، عَن أم عُثْمَان، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا (بِهِ) ، وَيَعْقُوب هَذَا ضَعَّفه أَحْمد، (وَيَحْيَى) وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان.
الحَدِيث الثَّالِث بعد السّبْعين
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر أَصْحَابه أَن يَحْلِقُوا أَو يقصِّرُوا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم عَنهُ: «أَنه حج مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام سَاق الْهَدْي مَعَه، وَقد أهلوا بِالْحَجِّ مُفردا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: حلوا من إحرامكم، وطوفوا بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة، وَأقِيمُوا (حَلَالا)
» الحَدِيث. وَرَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا بِلَفْظ: «أحلُّوا من إحرامكم بِطواف(6/269)
(الْبَيْت) وَبَين الصَّفَا والمروة، وقصِّرُوا، ثمَّ أقِيمُوا (حَلَالا)
» (الحَدِيث) .
الحَدِيث الرَّابِع بعد السّبْعين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رحم الله المحلقين. قيل: يَا رَسُول الله، والمقصرين؟ قَالَ: رحم الله المحلقين. قيل: يَا رَسُول الله، والمقصرين؟ قَالَ: رحم الله المحلقين. قيل: يَا رَسُول الله، والمقصرين؟ (قَالَ: والمقصرين) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور. قَالَ البُخَارِيّ: وَقَالَ اللَّيْث عَن نَافِع: «رحم الله المحلقين. مرّة أَو مرَّتَيْنِ» وَقَالَ: حَدثنِي عبيد الله عَن نَافِع قَالَ فِي الرَّابِعَة: «والمقصرين» . وَأَخْرَجَاهُ من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة بِمثلِهِ، وَأخرجه مُسلم من رِوَايَة أم الْحصين، وَأخرجه أَحْمد من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَقد ذكرتُها فِي «تخريجي لأحاديث الْوَسِيط» مَعَ ذكر سَبَب الحَدِيث، فَليُرَاجع مِنْهُ.(6/270)
الحَدِيث الْخَامِس بعد السّبْعين
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أوَّل مَا قَدِم (من) منًِى رَمَى جَمْرَة الْعقبَة، ثمَّ ذبح، ثمَّ حلق، ثمَّ طَاف للإفاضة» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أخرجه مُسلم كَذَلِك من حَدِيث جَابر الطَّوِيل كَمَا سلف إِلَّا الْحلق، فَإِنَّهُ ثَابت من حَدِيث أنس كَمَا أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيثه كَمَا سلف أَيْضا، وَأما حَدِيث عَائِشَة وَابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أخَّر (طَوَافه) يَوْم النَّحْر إِلَى اللَّيْل» فمخالف (لهَذَا، وَقد سلف) ، وَهُوَ مؤوَّل كَمَا أوضحته فِي «تخريجي لأحاديث المهذَّب» .
الحَدِيث السَّادِس بعد السّبْعين
عَن عبد الله بن عَمرو قَالَ: «وقف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حجَّة الْوَدَاع بمنى للنَّاس يسألونه، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، إِنِّي حلقتُ قبل أَن أرمي؟ فَقَالَ: ارْمِ وَلَا حرج. وَأَتَاهُ آخرُ فَقَالَ: إِنِّي ذبحتُ قبل أَن أرمي؟ فَقَالَ: ارْمِ وَلَا حرج. وَأَتَاهُ آخرُ فَقَالَ: إِنِّي أفضتُ إِلَى الْبَيْت قبل أَن أرمي؟ فَقَالَ: ارْمِ وَلَا حرج. فَمَا سُئِلَ عَن شيءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلاَّ قَالَ: افعلْ وَلَا حرج» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من هَذَا الْوَجْه من(6/271)
طرق، وَأَخْرَجَا نَحوه من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
الحَدِيث السَّابِع بعد السّبْعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمَرَ أُمَّ سَلمَة لَيْلَة النَّحْر، فرمت جَمْرَة الْعقبَة قبل (الْفجْر) ، ثمَّ أفاضت، وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْمهَا من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سبق فِي الْبَاب وَهُوَ الحَدِيث الْخَامِس بعد السِّتين.
الحَدِيث الثَّامِن بعد السّبْعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا رميتم وحلقْتُم فقد حلَّ لكم الطيبُ واللباسُ وكلُّ شيءٍ إِلَّا النِّسَاء» .
هَذَا الحَدِيث (تقدم) قَرِيبا وَاضحا.
الحَدِيث التَّاسِع بعد السّبْعين
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «طيَّبْتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لإحرامه قبل أَن يُحْرِمَ، ولحلِّه قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف فِي بَاب سنَن الْإِحْرَام، وَاضحا.(6/272)
الحَدِيث الثَّمَانُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ترك نُسُكًَا فَعَلَيهِ دم» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب الْمَوَاقِيت، وَأَنه مَوْقُوف.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّمَانِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَات بمنى ليَالِي التَّشْرِيق، وَقَالَ: خُذُوا عني مَنَاسِككُم» .
هُوَ كَمَا ذكر، أما مبيته بمنى فَصَحِيح مَشْهُور، (وبَيَّنَه) حديثُ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «أَفَاضَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من آخر يَوْمه يَوْم النَّحْر (حِين) صلَّى الظهرَ، ثمَّ رَجَعَ إِلَى منى فَمَكثَ بهَا ليَالِي أَيَّام التَّشْرِيق، يَرْمِي الجمرَةَ إِذا زَالَت الشَّمْس ... » الحَدِيث. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَصَححهُ ابْنُ حبَان، وَالْحَاكِم وَقَالَ: عَلَى شَرط مُسلم. وَأما قَوْله: «خُذُوا عنِّي مناسكَكم» فقد سلف فِي أَوَائِل الْبَاب.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّمَانِينَ
(عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) «أَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب(6/273)
استأذنَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يبيت بِمَكَّة ليَالِي منى لأجْلِ سقايته؛ فأذِنَ لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من هَذَا الْوَجْه كَذَلِك. وَفِي رِوَايَة (للْبُخَارِيّ) : «رخَّص النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » كَذَا قَالَ من غير زِيَادَة.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّمَانِينَ
عَن عَاصِم بن عدي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رخَّص للرعاة أَن (يتْركُوا) الْمبيت بمنى، ويرموا يَوْم النَّحْر جمرةَ الْعقبَة، ثمَّ يرموا يَوْم النَّفْر الأوَّل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الأئمةُ: مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وأحمدُ فِي «الْمسند» وأصحابُ «السّنَن» الْأَرْبَعَة وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» والحاكمُ فِي «مُسْتَدْركه» . رَوَاهُ مَالك عَن عبد الله(6/274)
بن أبي بكر، عَن أَبِيه، عَن (أبي) البدَّاح عَاصِم بن عدي، عَن أَبِيه. كَذَا فِي رِوَايَة يَحْيَى بن يَحْيَى، كَمَا قَالَ أَحْمد بن خَالِد قَالَ: وَيَحْيَى وَحده من بَين أَصْحَاب مَالك قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث عَن مَالك بِإِسْنَادِهِ «أَن أَبَا البدَّاح عَاصِم بن عدي» فَجعل أَبَا البدَّاح كنية عَاصِم بن عدي، وجَعَل الحَدِيث لَهُ. (قَالَ ابْن عبد الْبر: والْحَدِيث) إِنَّمَا (هُوَ) لعاصم بن عدي، هُوَ الصاحب، وَأَبُو البدَّاح ابْنُه يرويهِ عَنهُ، وَهُوَ الصَّحِيح فِيهِ: عَن أبي البدَّاح بن عَاصِم بن عدي عَن أَبِيه. قيل: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ وهب وابْنُ الْقَاسِم، قَالَ أَبُو عمر: لم نجد عِنْد شُيُوخنَا فِي كتب يَحْيَى إلاَّ عَن أبي البداح بن عَاصِم بن عدي، كَمَا رَوَاهُ جماعةُ الروَاة عَن مَالك، وَهُوَ الصَّحِيح فِي إِسْنَاد هَذَا (الْبَاب) كَمَا قَالَ أَحْمد - يَعْنِي: ابْن خَالِد - فَإِن كَانَ [يَحْيَى] رَوَاهُ كَمَا قَالَ أَحْمد فَهُوَ غلط من يَحْيَى، وَالله أعلم، أَو من غَيره، وَلم يَخْتَلِفُوا فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عَن مَالك إِلَّا مَا ذكر أَحْمد عَن يَحْيَى. وَرَوَاهُ أَحْمد عَن عبد الرَّحْمَن، عَن مَالك، كَمَا فِي رِوَايَة يَحْيَى بن يَحْيَى. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمرو بن حزم، عَن(6/275)
أَبِيه، عَن أبي البدَّاح بن عدي، عَن أَبِيه، ثمَّ قَالَ: رَوَاهُ مَالك (بن أنس، عَن عبد الله بن أبي بكر، عَن أَبِيه، عَن أبي البداح بن عَاصِم بن عدي، عَن أَبِيه. قَالَ: وَرِوَايَة مَالك) أصح. قَالَ: وَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح.
قلت: وَمَعْنى قَوْله: «رِوَايَة مَالك أصح» : أَن سُفْيَان اختُلف عَلَيْهِ فَرُبمَا قيل: عَن أبي البداح بن عدي، بِدُونِ ذكر أَبِيه، نبَّه (عَلَيْهِ) صاحبُ «الإِمَام» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث مَالك، وَفِيه: عَن أبي البداح بن عَاصِم عَن أَبِيه، وَمن حَدِيث أبي البداح بن عدي، عَن أَبِيه، (وَرَوَاهُ النسائيّ من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي البداح بن عدي عَن أَبِيه) ، (و) من حَدِيث أبي البداح بن عَاصِم، عَن أَبِيه. وَرَوَاهُ ابْن حبَان كَمَا رَوَاهُ مَالك أوَّلاً، وَرَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث أبي البداح بن عدي عَن أَبِيه، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: وَأَبُو البداح هُوَ ابْن عَاصِم بن عدي، وَهُوَ مَشْهُور فِي(6/276)
(التَّابِعين) ، وَعَاصِم بن عدي مَشْهُور فِي الصَّحَابَة، وَهُوَ صَاحب اللِّعَان، فَمن قَالَ: «عَن أبي البداح بن عدي» فَإِنَّهُ نسبه إِلَى جدِّه. قَالَ: (وبصحة) مَا ذكرتُه حَدثنِي أَبُو (عَلّي الْحسن) بن عَلّي بن دَاوُد. ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ إِلَى مَالك عَن عبد الله بن أَبَى بكر بن مُحَمَّد بن عَمرو بن حزم، عَن أَبِيه أَن ابْن عَاصِم بن عدي أخبرهُ، عَن أَبِيه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره. (هَذَا) مَا ذكره الْحَاكِم فِي كتاب الْحَج، وَذكره فِي كتاب المناقب فِي تَرْجَمَة عَاصِم بن عدي، فَقَالَ: ولعاصمٍ حَدِيث مَشْهُور. فَذكره بِإِسْنَاد مَالك الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، جوَّده مَالك بن أنس، وزلق فِيهِ غيرُه. ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ عَن يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ فِي حَدِيث أبي البداح بن عَاصِم بن عدي: يرويهِ مَالك، عَن عبد الله بن أبي بكر، عَن أَبِيه، عَن (أبي) البداح بن عَاصِم بن عدي، عَن أَبِيه (مَرْفُوعا) . (قَالَ: وَحدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن(6/277)
مُحَمَّد بن أبي بكر، عَن أَبِيه، عَن أبي البداح بن (عَاصِم) ، عَن أَبِيه مَرْفُوعا) . قَالَ يَحْيَى: وَهَذَا خطأ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ مَالك. قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ سُفْيَان إِذا حدّثنا بِهَذَا الحَدِيث قَالَ: ذهب عني فِي هَذَا الحَدِيث شَيْء.
قلت: هَذَا مَا يتَعَلَّق بِإِسْنَادِهِ، وَأما أَلْفَاظه، فَلفظ مَالك: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أرخص لرعاء الْإِبِل فِي البيتوتة عَن منى، يرْمونَ يَوْم النَّحْر، ثمَّ يرْمونَ الْغَد ومِنْ بعد الْغَد ليومين، ثمَّ يرْمونَ يَوْم النَّفْرِ» . هَذَا مَا رأيتُه من طَرِيق يَحْيَى بن يَحْيَى. وَذكر أَبُو عُمر: أَن الْقطَّان لم يقل فِي حَدِيثه هَذَا عَن مَالك: «ثمَّ يرْمونَ يَوْم النَّفْر» ، وَهُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» . قَالَ صَاحب «الإِمَام» : وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يَحْيَى الْقطَّان «رخَّص للرعَاء فِي البيتوتة» وَلم يقل: «عَن منى» ، وَفِي رِوَايَة: «يرْمونَ يَوْم النَّحْر واليومين (اللَّذَيْن) بعده» . قَالَ مَالك بعد سِيَاقه مَا نقلتُه لَك من رِوَايَته: نرَى - واللَّهُ أعلم - فِي تَفْسِير ذَلِك: أَنهم يرْمونَ يَوْم النَّحْر، فَإِذا مَضَى الْيَوْم الَّذِي يَلِي يَوْم النَّحْر رموا من الْغَد، وَذَلِكَ يَوْم النَّفر الأوَّل، ويرمون لليوم الَّذِي مَضَى، ثمَّ يرْمونَ ليومهم (ذَلِك) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضي أحد شَيْئا حَتَّى يجب عَلَيْهِ، فَإِذا وَجب عَلَيْهِ وَمَضَى كَانَ القضاءُ بعد ذَلِك، فَإِن بدا لَهُم فِي النَّفر فقد فرغوا، وَإِن أقامُوا إِلَى الْغَد رَمَوا مَعَ النَّاس يَوْم النَّفر الآخر، ونفروا.(6/278)
وَلَفظ أَحْمد كَرِواية مَالك (الأولَى) ، إِلَّا أَنه قَالَ: «يرْمونَ الْغَد أَو من (بعد) الْغَد ليومين» . وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «أرخِص لرعاء الْإِبِل فِي البيتوتة عَن منى، يرْمونَ يَوْم النَّحْر (ثمَّ) يجمعُونَ رمْيَ يَوْمَيْنِ بعد يَوْم النَّحْر، فيرمونه فِي أَحدهمَا» . قَالَ: قَالَ مَالك: ظننا أَنه قَالَ فِي الأول مِنْهُمَا: «ثمَّ يرْمونَ يَوْم النَّفْر» ، وَفِي أُخْرَى (لَهُ) وَلأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (رخَّص) للرعاء أَن يرموا يَوْمًا ويَدَعُوا يَوْمًا» . وَفِي رِوَايَة للنسائي: «أَنه رخَّص للرعاء فِي البيتوتة، يرْمونَ يَوْم النَّحْر واليومين (اللَّذين) بعده، (يجمعونه) فِي أَحدهمَا» . وَلَفظ ابْن مَاجَه فِي الأولَى: «رخص للرعاء أَن يرموا يَوْمًا ويَدَعُوا يَوْمًا» . وَفِي الثَّانِيَة: «رخص لرعاء الْإِبِل فِي البيتوتة أَن يرموا يَوْم النَّحْر، ثمَّ يجمعوا رمي يَوْمَيْنِ بعد النَّحْر فيرمونه فِي أَحدهمَا» . قَالَ(6/279)
مَالك: ظننتُ أَنه قَالَ فِي الأوَّل مِنْهُمَا: «ثمَّ يرْمونَ يَوْم النَّفر» . وَلَفظ ابْن حبَان وَالْحَاكِم كَلَفْظِ أبي دَاوُد، (وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم كَلَفْظِ مَالك) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «رخص لَهُم أَن يرموها لَيْلًا» .
فَائِدَة: البَدَّاح: بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، ثمَّ دَال مُهْملَة مُشَدّدَة، ثمَّ ألِف، ثمَّ حاء مُهْملَة، وَأَبُو البداح هَذَا مَشْهُور فِي التَّابِعين، ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، قَالَ: وَيُقَال: إِن لَهُ صُحْبَة. قَالَ: وَفِي الْقلب مِنْهُ شَيْء لِكَثْرَة الِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده. وَقَالَ الصريفيني: الْأَصَح أَن لَهُ صُحْبَة. وَكَذَا صَححهُ ابْن عبد الْبر فِي كتاب « (الِاسْتِيعَاب» وَفِي) كتاب أبي مُوسَى: أَنه زوج جُمَيْل بنت يسَار أُخْت معقل الَّتِي عضلها، ووالده: عَاصِم بن عدي صَحَابِيّ مَشْهُور بَدْرِي (أُحُدِي) سيد بني العجلان.
فَائِدَة أُخْرَى: رِعاء الْإِبِل: بِكَسْر الرَّاء وبالمد، جمع رَاع، كصاحب وصِحَاب.(6/280)
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّمَانِينَ
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَمَى الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر ضُحًى، ثمَّ لم يَرْمِ فِي سَائِر الْأَيَّام حَتَّى زَالَت الشَّمْس» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك من حَدِيث أبي الزبير عَنهُ، وَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح بِسَمَاع أبي الزبير مِنْهُ، وَقد ثَبت سَمَاعه مِنْهُ فِي رِوَايَة أبي ذرّ الهرويِّ، فَذكره عَن أبي الزبير قَالَ: سَمِعت جَابر بن عبد الله يَقُول: «رَأَيْت النبى (رَمَى جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر ضُحًى، وَأما بَعْدُ فَإِذا زالتِ الشمسُ» . وَقد أخرجه ابنُ حزم فِي كِتَابه «حجَّة الْوَدَاع» من طَرِيق مُسلم، وَلم (يتعقبه) ، وَلَعَلَّ سَببه مَا ذَكرْنَاهُ من التَّصْرِيح بِسَمَاع أبي الزبير من جَابر عَلَى طَرِيقَته، وَذكره البخاريُّ فِي «صَحِيحه» تَعْلِيقا بِصِيغَة (جَزْمٍ) فَقَالَ: وَقَالَ جَابر: «رَمَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم النَّحْر ضُحًى، وَرَمَى بعد ذَلِك بعد الزَّوَال» . وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث ابْن جريج عَن عَطاء قَالَ: «لَا أرمي حَتَّى (تزِيغ) الشَّمْس؛ إِن جَابر بن عبد الله قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَرْمِي يَوْم النَّحْر قبل الزَّوَال، فَأَما بعد ذَلِك فَعِنْدَ الزَّوَال» . (ثمَّ قَالَ) :(6/281)
هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّمَانِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَمَى بالأحجار، وَقَالَ: بِمثل هَذَا فارموا» .
هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي «صَحِيح مُسلم» عَن الْفضل بن عَبَّاس، وَكَانَ رَدِيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه قَالَ فِي عَشَّيةِ عَرَفَة وغداة جمْع للنَّاس حِين دفعُوا: عَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ. وَهُوَ كَاف نَاقَته حَتَّى دخل محسرًا، وَهُوَ من منى قَالَ: عَلَيْكُم بحصى الْخذف الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَة» . (وَرَوَاهُ أَبُو ذَر الهرويُّ بإسنادٍ حسنٍ كَمَا قَالَه صَاحب «الإِمَام» ، وَلَفظه: عَن الْفضل قَالَ: «كنت (رَدِيف) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم النَّحْر فَقَالَ: القط لي حَصَيَات. (فَلَقَطْتُ) لَهُ حَصَيَات هن قدر الْخذف، فَقَالَ بِهِنَّ فِي يَده: بأمثالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُم والغُلُو فِي الدِّين؛ فَإِنَّمَا (أَهْلَك) مَنْ كَانَ (قبلكُمْ الغلو فِي الدَّين) » . وَفِي «سنَن النَّسَائِيّ» و «سنَن ابْن مَاجَه» و (صحيحي) ابْن حبَان وَالْحَاكِم من (حَدِيث) ابْن عَبَّاس(6/282)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَدَاة الْعقبَة وَهُوَ عَلَى رَاحِلَته: هاتِ - القط - (لي) فلقطت (لَهُ) حَصَيَات مثل حَصى الْخذف، فلمَّا وضعتهم فِي يَده قَالَ: بأمْثال هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُم والغلو فِي الدَّين، فَإِنَّمَا هلك مَنْ كَانَ قبلكُمْ بالغلو فِي الدَّين» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن أَخِيه الْفضل بن عَبَّاس، ثمَّ قَالَ الطَّبَرَانِيّ: (رَوَاهُ) جمَاعَة عَن عَوْف مِنْهُم سُفْيَان الثَّوْريّ، فَلم يقل مِنْهُم أحد: عَن ابْن عَبَّاس عَن أَخِيه إِلَّا جَعْفَر بن سُلَيْمَان، وَلَا رَوَاهُ عَنهُ إِلَّا عبد الرَّزَّاق.
قلت: (قد) أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي الزبير، عَن أبي (معبد) ، عَن ابْن عَبَّاس، عَن الْفضل بن عَبَّاس: «أَنه كَانَ رَدِيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَوقف يهلل (وَيكبر وَيَدْعُو فَلَمَّا دفع) النَّاس صَاح: عليكمُ السكينةَ. فلمَّا بلغ الشِّعْبَ أهْرَاقَ الماءَ، وَتَوَضَّأ ثمَّ ركب، فَلَمَّا قدم الْمزْدَلِفَة جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْح وقف،(6/283)
فلمَّا نَفَرَ دَفَعَ النَّاس، فَقَالَ حِين دفعُوا: عَلَيْكُم السكينَة. وَهُوَ كافّ راحلتَهُ، حَتَّى إِذا دخل بطن منى، قَالَ: عَلَيْكُم بحصى الْخذف (أَن) يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَة. وَهُوَ فِي ذَلِك يُهلل، حَتَّى رَمَى الْجَمْرَة» . وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي تَرْجَمَة الْفضل بِنَحْوِهِ، ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَفِي «مُسْند أَحْمد» : نَا عَفَّان، نَا [وُهَيْب] ، نَا عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة، عَن يَحْيَى بن هِنْد أَنه سمع حَرْمَلَة بن عَمْرو قَالَ: «حججْت حجَّة الْوَدَاع (مُرْدِفي) عمي سِنَان بن (سَنَّة) ، فَلَمَّا وقفنا بِعَرَفَات رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَاضِعا إِحْدَى أصبعيه عَلَى الْأُخْرَى؛ فَقلت لعمِّي: مَاذَا يَقُول رَسُول الله؟ قَالَ: يَقُول: ارموا الْجَمْرَة بِمثل حَصى الْخذف» . وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث سُلَيْمَان بن عَمْرو بن الْأَحْوَص عَن أمه مَرْفُوعا: «يَا أَيهَا النَّاس، لَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا، وَإِذا رميتم الْجَمْرَة فارموا بِمثل حَصى الْخذف» . وَإِسْنَاده جيد كَمَا قَرّرته فِي «تخريجي (لأحاديث) الْمُهَذّب» ، وَفِيه غير ذَلِك من الْأَحَادِيث.(6/284)
(فَائِدَة: الْخذف: (بِالْخَاءِ) والذال المعجمتين) .
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّمَانِينَ
(أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «عَلَيْكُم بحصى الْخذف» ) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا عَرفته آنِفا، قَالَ الرَّافِعِيّ قبل هَذَا بِوَرَقَة: وَجُمْلَة مَا يُرْمَى فِي الْحَج سَبْعُونَ حَصَاة، يَرْمِي إِلَى جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر سبع حَصَيَات، وَإِحْدَى وَعشْرين فِي كل يَوْم من أَيَّام التَّشْرِيق إِلَى الجمرات الثَّلَاث، إِلَى كل (وَاحِدَة) سبع، تَوَاتر النَّقْل بِهِ قولا وفعلاً. هَذَا لَفظه، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَالْأَحَادِيث مَشْهُورَة بذلك.
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّمَانِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَمَى الحصيات فِي سبع رميات، وَقَالَ: خُذُوا عني مَنَاسِككُم» .
هَذَا (الحَدِيث) كُله صَحِيح، أما الأول: فَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث جَابر: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى الْجَمْرَة الَّتِي عِنْد الشَّجَرَة - يَعْنِي: جَمْرَة الْعقبَة - فَرَمَاهَا بِسبع حَصَيَات، يكبر مَعَ كل حَصَاة» . وَسَيَأْتِي بعده(6/285)
(من) حَدِيث ابْن عمر أَيْضا. وَأما الثَّانِي: وَهُوَ قَوْله: «خُذُوا عني مَنَاسِككُم» فسلف غير مرّة.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّمَانِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَتَّبَ بَين الجمرات الثَّلَاث، وَقَالَ: خُذُوا عني مَنَاسِككُم» .
هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» عَن سَالم بن عبد الله: «أَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَة الدُّنْيَا بِسبع حَصَيَات، يكبر (مَعَ كل حَصَاة) ، ثمَّ يتَقَدَّم فيُسْهِل فَيقوم مُسْتَقْبل الْقبْلَة طَويلا، وَيَدْعُو وَيرْفَع يَدَيْهِ، ثمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثمَّ يَأْخُذ (ذَات) الشمَال، فيسهل فَيقوم مُسْتَقْبل الْقبْلَة، ثمَّ يَدْعُو وَيرْفَع يَدَيْهِ، وَيقوم طَويلا، ثمَّ يَرْمِي الْجَمْرَة ذَات الْعقبَة من بطن (الْوَادي) وَلَا يقف عِنْدهَا، ثمَّ ينْصَرف وَيَقُول: هَكَذَا رأيتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يَفْعَله» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن الزُّهْرِيّ «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) إِذا رَمَى الْجَمْرَة الَّتِي تلِي المنحر وَمَسْجِد منى رَمَاهَا بِسبع حصياتٍ، يكبر كلما رَمَى بحصاةٍ، ثمَّ تقدَّم أمامها فَوقف مُسْتَقْبل الْقبْلَة رَافعا يَدَيْهِ يَدْعُو (ويطيل الْوُقُوف، ثمَّ يَأْتِي الْجَمْرَة الثَّانِيَة فيرميها بِسبع(6/286)
حَصَيَات يكبر كلما رَمَى بحصاة، ثمَّ ينحرف ذَات الشمَال فيقف مُسْتَقْبل الْقبْلَة رَافعا يَدَيْهِ يَدْعُو) ثمَّ يَرْمِي الْجَمْرَة الَّتِي عِنْد الْعقبَة فيرميها بِسبع حَصَيَات وَلَا يقف عِنْدهَا» قَالَ الزُّهْرِيّ: سمعتُ سالما يحدِّث بِهَذَا الحَدِيث عَن أَبِيه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَكَانَ ابْن عمر يَفْعَله. وَرَوَى النسائيُّ وَالْحَاكِم (هَذِه) الرِّوَايَة، وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وَقد عرفت أَنه فِي «البُخَارِيّ» ؛ فَيكون الِاسْتِدْرَاك عَلَى مُسلم فَقَط، وَفِي «مُسْند أَحْمد» و «سنَن أبي دَاوُد» و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «أَفَاضَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من آخر يَوْمه يَوْم النَّحْر (حِين) صلَّى الظهرَ، ثمَّ رَجَعَ إِلَى منى فَمَكثَ بهَا ليَالِي أيامِ التَّشْرِيق، يَرْمِي الجمرةَ إِذا زَالَت الشَّمْس، كل جَمْرَة بِسبع حصياتٍ، يكبِّر مَعَ كل حَصَاة، وَيقف عِنْد الأولَى وَالثَّانيَِة ويتضرع وَيَرْمِي الثَّالِثَة وَلَا يقف عِنْدهَا» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. أَي: فِي ابْن إِسْحَاق مُتَابعَة لَا اسْتِقْلَالا، لكنه عنعن، نعم صرَّح بِالتَّحْدِيثِ فِي «صَحِيح ابْن حبَان» وَفِيه: «يقف عِنْد الأولَى وَعند الْوُسْطَى بِبَطن الوداي، فيطيل الْقيام، وينصرف إِذا رَمَى الْكُبْرَى، وَلَا يقف عِنْدهَا، وَكَانَت الجِمَارُ من آثَار (أَمر مُحَمَّد) صلوَات الله(6/287)
وَسَلَامه عَلَيْهِ» وَأما قَوْله: (وَقَالَ) : «خُذُوا عني مَنَاسِككُم» فسلف غير مرةٍ.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّمَانِينَ
قَالَ الرَّافِعِيّ: «والسُّنة أَن يرفع الْيَد عِنْد الرَّمْي، فَهُوَ (أَهْون) عَلَيْهِ، وَأَن يَرْمِي أَيَّام التَّشْرِيق مُسْتَقْبل الْقبْلَة، وَفِي يَوْم النَّحْر مستدبرها» . كَذَلِك ورد فِي الْخَبَر.
هُوَ كَمَا قَالَ، أما رفع الْيَد فقد سلف من حَدِيث ابْن عمر، وَأما رمي أَيَّام التَّشْرِيق مُسْتَقْبل الْقبْلَة فسلف من حَدِيثه أَيْضا. وَأما رمي (يَوْم) النَّحْر فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه انْتَهَى إِلَى الْجَمْرَة الْكُبْرَى، فَجعل الْبَيْت عَن يسَاره (وَمنى) عَن يَمِينه، وَرَمَى بِسبع وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِي أنزلت عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة» وَلمُسلم فِي رِوَايَة: «جَمْرَة الْعقبَة» (وَلأَحْمَد فِي رِوَايَة «أَنه انْتَهَى إِلَى جَمْرَة الْعقبَة) فَرَمَاهَا من بطن الْوَادي ... » وَذكر الحَدِيث، وَرَوَى أَبُو معمر، عَن عَاصِم بن سُلَيْمَان، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: «رَأَيْت(6/288)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَمَى الجمرةَ يَوْم النَّحْر وظهره مِمَّا يَلِي مَكَّة» . وَعَاصِم هَذَا قَالَ ابْن عدي: يعد مِمَّن يضع الحَدِيث.
الحَدِيث التِّسْعُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صلَّى الظّهْر وَالْعصر، وَالْمغْرب وَالْعشَاء بالبطحاء، ثمَّ هجع بهَا هجعة، ثمَّ دخل مَكَّة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث نَافِع: «أَن ابْن عمر كَانَ يُصَلِّي بهَا - يَعْنِي: المحصب - الظّهْر وَالْعصر» . أَحْسبهُ قَالَ: «وَالْمغْرب» قَالَ خَالِد بن الْحَارِث - أحد رُوَاته -: لَا أَشك فِي الْعشَاء (ويهجع هجعة. وَيذكر) ذَلِك عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. (و) رَوَاهُ مُسلم عَن نَافِع: «أَن ابْن عمر كَانَ يَرْمِي التحصيب سنة، وَكَانَ يُصَلِّي الظّهْر يَوْم النَّفر بالحصبة، وَقَالَ نَافِع: قد حصب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالْخُلَفَاء بعده» . وَأخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث أنس بن مَالك: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى الظّهْر وَالْعصر، وَالْمغْرب وَالْعشَاء، ثمَّ رقد رقدة بالمحصب» (وَقَالَ نَافِع: «قد حصب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صلَّى الظهرَ والعصرَ، والمغربَ والعشاءَ، ثمَّ رقد رقدةً بالمحصب) ، ثمَّ ركب إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ» .(6/289)
الحَدِيث الْحَادِي بعد التسعين
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (أَنَّهَا) قَالَت: «نزل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - المحصب وَلَيْسَ بسُنَّة، فَمن شَاءَ نزله، وَمن شَاءَ فليتركه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة: «أَنَّهَا لم تكن تفعل ذَلِك - يَعْنِي: تنزل الأبطحَ - وَقَالَت: إِنَّمَا نزله رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلاً أسمح لِخُرُوجِهِ» . وللطبراني فِي «أكبر معاجمه» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا انْتظر بِهِ عَائِشَة حَتَّى تَأتي» . وَلمُسلم عَنْهَا: «نزُول الأبطح لَيْسَ بسُنَّةٍ» وَله (و) للْبُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس: «لَيْسَ التحصيب بِشَيْء؛ إِنَّمَا هُوَ منزل نزله رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
فَائِدَة:
المحصب: اسْم لمَكَان متسع بَين مَكَّة وَمنى، قَالَ صَاحب «الْمطَالع» وغيرُه: وَهُوَ إِلَى منى أقرب. وَأقرهُ النوويُّ فِي «شرح الْمُهَذّب» عَلَى ذَلِك، وَاعْترض عَلَيْهِ فِي «تهذيبه» وَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ(6/290)
بِصَحِيح، بل هُوَ (بقُرْب) مَكَّة. قَالَ صَاحب «الْمطَالع» : وَيُقَال لَهُ: الأبطح والبطحاء، وَخيف بني كنَانَة. والمحصب أَيْضا: مَوضِع الْجمار من منى. وَلَكِن لَيْسَ مرَادا هُنَا، قَالَ الرَّافِعِيّ وغيرُه: وَسمي ب «المحصب» لِاجْتِمَاع الْحَصَى فِيهِ (يحمل) السَّيْل، فَإِنَّهُ مَوضِع منهبط. وَعبارَة البكريِّ فِي «مُعْجَمه» : المحصب - بِضَم أَوله وَفتح ثَانِيه - مُفعل من الْحَصْبَاء، مَوضِع بِمَكَّة.
الحَدِيث الثَّانِي بعد التسعين
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لمَّا فرغ من أَعمال الْحَج طَاف للوداع» .
هَذَا صَحِيح مَشْهُور، وَقد أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث أنس كَمَا سلف قَرِيبا.
الحَدِيث الثَّالِث بعد التسعين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يَنْفِرَنَّ أحدُكم حَتَّى يكون آخر عَهده بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنه رخَّص للحائض» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم بِلَفْظ: عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «كَانَ النَّاس يَنْصَرِفُونَ فِي كل وَجه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا يَنْفِرَنَّ أحد(6/291)
حَتَّى يكون آخر عَهده بِالْبَيْتِ» . وَرَوَاهُ البُخَارِيّ عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس: «رخص للحائض أَن تنفر إِذا أفاضتْ» . قَالَ: وَسمعت ابْنَ عُمر يَقُول: «إِنَّهَا لَا تنفر» ، ثمَّ (سمعته) بعد يَقُول: «إِن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أرخص لَهُنَّ» وَأَخْرَجَا عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «أَمر النَّاس أَن يكون آخر عَهدهم بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنه خفف عَن الْمَرْأَة الْحَائِض» . وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث ابْن عمر: «من حَجَّ هَذَا الْبَيْت فَلْيَكُن آخر عَهده بِالْبَيْتِ، إِلَّا الحيَّض؛ رخَّص لَهُنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . (وَالِاسْتِدْلَال للْوُجُوب بِالْأولِ أَوْلى؛ لِأَن لفظ (الْأَمر) لَا يدل عَلَى الْإِيجَاب بِخُصُوصِهِ، بل يحْتَمل لَهُ وللندب كَمَا هُوَ مُقَرر فِي «الْأُصُول» ) .
الحَدِيث الرَّابِع بعد التسعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا ينصرفن أحد حَتَّى يكون آخر عَهده الطّواف بِالْبَيْتِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سقناه أَيْضا من رِوَايَة ابْن عَبَّاس من «صَحِيح مُسلم» .(6/292)
الحَدِيث الْخَامِس بعد التسعين
«أَن صَفِيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها حَاضَت، فأمَرَها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تَنْصَرِف بِلَا وداع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها من طرق عَنْهَا.
الحَدِيث السَّادِس بعد التسعين
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ زارني بعد موتِي فَكَأَنَّمَا زارني فِي حَياتِي، ومَنْ زار قَبْرِي فَلهُ الجَنَّة» . هَذَا الحَدِيث مَأْخُوذ من حديثين:
أَحدهمَا: من حَدِيث هَارُون أبي قزعة، عَن رجل من آل حَاطِب، عَن حَاطِب (قَالَ) : قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَنْ زارني بعد موتِي فَكَأَنَّمَا زارني فِي حَياتِي، ومَنْ مَاتَ فِي أحد الحرمَيْن بُعِثَ من الْآمنينَ يَوْم الْقِيَامَة» . (أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلِك) ، وَهَذَا الرجل مَجْهُول كَمَا (ترَى) ، وَله طَرِيق ثانٍ من حَدِيث ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بعد وفاتي فَكَأَنَّمَا زارني فِي حَياتِي» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث حَفْص بن أبي دَاوُد، عَن لَيْث بن أبي(6/293)
سُليم، عَن مُجَاهِد، عَن (ابْن عمر) ، وَرَوَاهُ ابْن عدي بِلَفْظ: «مَنْ حج (فزارني) بعد موتِي كَانَ كَمَنْ زارني فِي حَياتِي وصحبني» . وَلَيْث هَذَا حسن الحَدِيث، ومَنْ ضعَّفه إِنَّمَا ضعَّفه لاختلاطه بِأخرَة، وَحَفْص هَذَا هُوَ (ابْن سُلَيْمَان) ، قَالَ ابْن عدي: وَأَبُو الرّبيع الزهْرَانِي يُسَمِّيه حفصَ بن أبي دَاوُد لضَعْفه، وَهُوَ حَفْص (بن سُلَيْمَان) (الغَاضِرِيّ) الْمُقْرِئ (الإِمَام. قَالَ البُخَارِيّ: تَرَكُوهُ) (وَوَثَّقَهُ وَكِيع، قَالَ أَحْمد: صالحُ. وَفِي رِوَايَة عَنهُ: مَا بِهِ بَأْس) وَقَالَ يَحْيَى بن معِين فِي رِوَايَة أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ: لَيْسَ بشيءٍ، وَمن أَحَادِيثه: «صنائع الْمَعْرُوف تَقِيّ مصَارِع السوء، وَصدقَة السِّرِّ تطفئُ غضبَ الرَّبِّ» . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ حَفْص، وَهُوَ ضَعِيف. وَرَوَاهُ أَبُو يعْلى الْموصِلِي بِزِيَادَة «كثير بْنِ شنظير» (بَين) «حَفْص» و «لَيْث» بِلَفْظ: «مَنْ حَجَّ(6/294)
فزارني بعد وفاتي (عِنْد) قَبْرِي فَكَأَنَّمَا زارني فِي حَياتِي» . و «كثير» هَذَا من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وإنْ ليَّنَه أَبُو زرْعَة، وصوَّب ابنُ عَسَاكِر الرِّوَايَة الَّتِي بإسقاطه، عَلَى أَن «حفصًا» هَذَا تَابعه عليُّ بن الْحسن بن هَارُون الْأنْصَارِيّ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» و «أكبرها» من حَدِيث أَحْمد بن رشدين عَنهُ، عَن اللَّيْث ابْن بنت اللَّيْث بن أبي سليم قَالَ: حَدَّثتنِي جدتي عَائِشَة بنت يُونُس امْرَأَة اللَّيْث، عَن لَيْث بن أبي سليم، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «مَنْ زار قَبْرِي كَانَ كَمَنْ زارني فِي حَياتِي» . ووَهِمَ بَعضهم فَجعل «حَفْصًا» جَعْفَرَ بن سُلَيْمَان الضبعِي، كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْنُ عَسَاكِر أَبُو اليُمْن بن أبي الْحسن فِي كِتَابه «إتحاف الزائر» ، قَالَ: وَتفرد بقوله: «وصحبني» الحسنُ بْنُ الطّيب، وَفِيه نظر.
قلت: (و) رُوي أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ العقيليُّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» من حَدِيث فضَالة بن سعيد أبي زميل (المأربي) ، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى (المأربي) ، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «مَنْ زارني فِي مماتي (فَكَانَ) كَمَنْ زارني فِي حَياتِي، ومَنْ زارني حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى قَبْرِي كنت لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شَهِيدا - أَو(6/295)
قَالَ: شَفِيعًا» . قَالَ العقيليُّ: فضَالة بن سعيد عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى لَا يُتابع عَلَى حَدِيثه، وَلَا يُعْرف إِلَّا بِهِ. وَفِيه أَيْضا من حَدِيث هَارُون بن قزعة عَن رجل من آل الْخطاب عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ زارني (مُتَعَمدا) كَانَ فِي (جِوَاري) يَوْم الْقِيَامَة» . قَالَ البُخَارِيّ: (هَارُون) مديني، لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وأمَّا الحَدِيث الثَّانِي: فَهُوَ (مَنْ زار قَبْرِي فَلهُ الجَنَّة ... » (فَرَوَاهُ) بِنَحْوِهِ الدَّارَقُطْنِيّ (عَن) القَاضِي الْمحَامِلِي (نَا) عبيد الله بن مُحَمَّد الْوراق، ثَنَا مُوسَى بن هِلَال الْعَبْدي، عَن عبيد الله بن عُمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عُمر مَرْفُوعا: «مَنْ زار قَبْرِي وجبتْ لَهُ شَفَاعَتِي» وَهَذَا إِسْنَاد جيد، لَكِن مُوسَى هَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ بعد أَن ذكر أَن جمَاعَة رووا عَنهُ: هُوَ مَجْهُول. وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «مُخْتَصر الْمُخْتَصر» عَن: مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الأحمسي، عَن مُوسَى بن هِلَال الْعَبْدي، عَن عبد الله بن (عمر، عَن) نَافِع، عَن ابْن عمر بِهِ، وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يَصح حَدِيث مُوسَى وَلَا يُتَابع عَلَيْهِ. قَالَ: وَالرِّوَايَة فِي هَذَا الْبَاب فِيهَا لين.(6/296)
(قلت: قد تَابعه عبدُ الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم عَن ابْن عُمر، أخرجه من طَرِيقه الْبَزَّار كَمَا سَتَعْلَمُهُ) . وَأما ابْن عدي فَقَالَ: (لَهُ غير هَذَا، وَأَرْجُو أَنه) (لَا) بَأْس بِهِ. لَكِن تعقبه ابْنُ الْقطَّان قَالَ: والحقُّ أَنه (لم) تثبت عَدَالَته. قَالَ: وَفِيه «الْعمريّ» أَيْضا.
قلت: لَكِن رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فِيهَا الْعمريّ المصغر وَهُوَ ثِقَة، وَكَذَا أخرجه مِنْ هَذَا الْوَجْه الخطيبُ الحافظُ فِي «تَلْخِيص الْمُتَشَابه» بِلَفْظ: «مَنْ زراني بعد موتِي وجبتْ لَهُ شَفَاعَتِي» . وَذكره عبدُ الْحق فِي «أَحْكَامه» من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: رَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا. وَسكت عَلَيْهِ، فَاعْترضَ عَلَيْهِ ابنُ الْقطَّان بِمَا تقدم، وَإسْنَاد الْبَزَّار لَيْسَ فِيهِ مُوسَى هَذَا، وَإِنَّمَا فِيهِ عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن أبي [عَمْرو] الْغِفَارِيّ. قَالَ البزارُّ: حدث بِأَحَادِيث لَا يُتَابع عَلَيْهَا. و (عبد الرَّحْمَن) بن زيد (بن) أسلم، وَهُوَ ضَعِيف. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من وَجه آخر؛ رَوَاهُ من حَدِيث أبي دَاوُد، نَا سوار بن مَيْمُون أَبُو الجرَّاح الْعَبْدي، حَدثنِي رجل من آل عمر، عَن عُمر قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول:(6/297)
«مَنْ زار قَبْرِي - أَو قَالَ: من زارني - كنت لَهُ شَفِيعًا أَو شَهِيدا، وَمن مَاتَ فِي أحد الْحَرَمَيْنِ بَعثه الله فِي الْآمنينَ يَوْم الْقِيَامَة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا إِسْنَاد مَجْهُول. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: فِي إِسْنَاده نظر. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، (عَن سَالم) عَن ابْن عُمر مَرْفُوعا: «من جَاءَنِي زَائِرًا لَا (تعمله) حَاجَة إِلَّا زيارتي كَانَ حقًّا عليَّ أَن أكون (لَهُ) شَفِيعًا يَوْم الْقِيَامَة» . أخرجه عَن عَبْدَانِ بن (أَحْمد) ، نَا عبد الله بن مُحَمَّد الْعَبَّادِيّ الْبَصْرِيّ، ثَنَا (مسلمة) بن سَالم الْجُهَنِيّ، ثَنَا عبيد الله بن عُمر بِهِ، وَعَزاهُ الضياءُ فِي «أَحْكَامه» إِلَى رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: «من جَاءَنِي زَائِرًا لَا يَنْزعهُ غير زيارتي، كَانَ حقًّا عَلَى الله أَن أكون لَهُ شَفِيعًا يَوْم الْقِيَامَة» ثمَّ قَالَ: رَوَاهُ من رِوَايَة عَبْد الله بن عمر الْعمريّ. قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَالَّذِي رَأَيْته فِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» : عُبَيْدَ الله بِالتَّصْغِيرِ كَمَا أسلفْتُه، فَلَعَلَّهُ فِي غير «المعجم الْكَبِير» وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه(6/298)
الصِّحَاح المأثورة» بِلَفْظ: «مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَا تنزعه حَاجَة إِلَّا زيارتي كَانَ حقًّا عليَّ أَن أكون لَهُ شَفِيعًا يَوْم الْقِيَامَة» وصدَّرَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» لاستحباب زِيَارَة قَبره - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - بِحَدِيث أَبَى هُرَيْرَة الْمَرْفُوع: «مَا مِنْ أحد يُسلِّم عليَّ: إِلَّا ردَّ اللَّهُ عليَّ روحي حَتَّى أردَّ عَلَيْهِ السَّلَام» . (و) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد جيدٍ، ثمَّ أردفه بِحَدِيث ابْن عمر السالف.
وَمن ضَعِيف الْبَاب: حَدِيث «مَنْ حَجَّ وَلم يَزُرْني فقد جفاني» رَوَاهُ الخطيبُ فِي كتاب «مَنْ رَوَى عَن مَالك» من حَدِيث مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، (و) قَالَ: تفرد بِهِ النُّعْمَان بن شبْل عَن مَالك.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب (بِحَمْد الله ومنِّه) وَذكر فِيهِ قبل حَدِيث الزِّيَارَة: أَنه يسْتَحبّ الشّرْب من مَاء زَمْزَم، وَلم يسْتَدلّ لَهُ، وَرَأَيْت أَن (أتبرع بِهِ) فَأَقُول: هُوَ حَدِيث مَشْهُور، وَله طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: من رِوَايَة عبد الله بن المؤمل، عَن أبي الزبير، عَن جَابر رَفَعَهُ: «ماءُ زَمْزَم لِمَا شُربَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وابنُ أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» ، وابنُ مَاجَه والبيهقيُّ فِي «سنَنَيْهِمَا» ، قَالَ(6/299)
الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ عبد الله بن المؤمل.
قلت: لَا، بل تَابعه إبراهيمُ بن طهْمَان، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا بِهِ، كَذَا أوردهُ الْبَيْهَقِيّ نَفسه فِي «سنَنه» فِيمَا بعد، فِي بَاب الرُّخْصَة فِي الْخُرُوج بِمَاء زَمْزَم. وتَبِعَ فِي الْعبارَة الأولَى العقيليَّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: رَوَاهُ عبد الله بن المؤمل، وَلَا يُتابع عَلَيْهِ. وَكَذَا ابْن حبَان (فَإِنَّهُ) قَالَ ذَلِك (فِي) تَرْجَمته، وَخَالف الْمُنْذِرِيّ فَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» : إِنَّه حَدِيث حسن، أخرجه ابنُ مَاجَه. وأَعَلَّهُ ابْن الْقطَّان بِأبي الزبير عَن جَابر، وَقَالَ: تَدْلِيس أبي الزبير مَعْلُوم.
قلت: قد صرّح (بِالتَّحْدِيثِ) فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب الرُّخْصَة فِي الْخُرُوج بِمَاء زَمْزَم.
قلت: وَله طَرِيق آخر عَن جَابر، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي « (شعب) الْإِيمَان» من حَدِيث سُوَيْد بن سعيد، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن ابْن أبي الموال، عَن ابْن الْمُنْكَدر، عَن جَابر مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: غَرِيب من حَدِيث ابْن أبي الموال، تفرد بِهِ سُوَيْد بن سعيد، عَن ابْن الْمُبَارك، وَرَوَى الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى سُوَيْد بن سعيد قَالَ: «رَأَيْت عبد الله(6/300)
بن الْمُبَارك أَتَى زَمْزَم، (فاستقى) مِنْهُ شربةً، واستقبل الْقبْلَة» . وَقَالَ ابْن أبي الموال: حُدِّثنا عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) : «مَاء زَمْزَم لِمَا شُرِب لَهُ. وَهَذَا أشربه (لعطش) الْقِيَامَة، ثمَّ شربه» . قَالَ النَّوَوِيّ فِي «طبقاته» : ابْن أبي الموال صَدُوق عِنْدهم، واسْمه عبد الرَّحْمَن.
قلت: وَذكره الشَّيْخ شرف الدَّين الدمياطي أَيْضا من حَدِيث سُوَيْد بن سعيد أَيْضا قَالَ: «رَأَيْت عبد الله بن الْمُبَارك بِمَكَّة أَتَى مَاء زَمْزَم فاستقى مِنْهُ شربةً، ثمَّ اسْتقْبل الْكَعْبَة، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن ابْن أبي الموال نَا عَن مُحَمَّد ... » فَذكره (بِهِ) سَوَاء، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث عَلَى رَسْمِ الصَّحِيح، فَإِن عبد الرَّحْمَن بن أبي الموال انْفَرد بِهِ البخاريُّ، وسُويد بن سعيد انْفَرد بِهِ مُسلم.
قلت: لكِنهمْ تكلمُوا فِيهِ.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث مُحَمَّد بن حبيب الجارودي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن ابْن أبي نجيح، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله(6/301)
عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَاء زَمْزَم لما شرب لَهُ، فَإِن شربته تستشفي شفاكَ الله، وَإِن شربته مستعيذًا أَعَاذَك الله، وَإِن شربته لتقطع ظمأك قطعه» . قَالَ: (وَكَانَ ابْن عَبَّاس إِذا شرب مَاء زَمْزَم قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك علما نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وشفاءً من كل دَاء» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَهَذَا لَفظه، وَلَفظ الدارقطني مثله إِلَى قَوْله: «قَطَعَه» ، وَزَاد: «وَهِي هَزْمة جِبْرِيل، وسقيا الله عَزَّ وَجَلَّ إِسْمَاعِيل» وأبدل قَوْله: «وَإِن شربته مستعيذًا أَعَاذَك الله» بقوله: «وَإِن شربته (مستشبعًا أشبعك الله) » . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد إِن سَلِمَ من مُحَمَّد بن حبيب الجارودي.
قلت: قد سَلِمَ مِنْهُ؛ قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : مُحَمَّد هَذَا قَدِمَ بغدادَ وحدَّث بهَا، وَكَانَ صَدُوقًا، لَكِن الرَّاوِي عَنهُ لَا يُعْرف حَاله وَهُوَ مُحَمَّد بن هِشَام بن عَلّي الْمروزِي.
قلت: لَكِن ظَاهر كَلَام الْحَاكِم يدل عَلَى أَنه (يعرف حَاله) إِذْ لم يتَوَقَّف إِلَّا عَن الجارودي فَقَط. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن [عمر] بن الْحسن الْأُشْنَانِي القَاضِي(6/302)
صَاحب ذَاك الْمجْلس، وَضَعفه الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْحسن بن أَحْمد الْخلال، ويُرْوى عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه كَذَّاب، وَلم يَصح هَذَا، وَلَكِن هَذَا الْأُشْنَانِي صَاحب بلايا، (من) ذَلِك هَذَا الحَدِيث. ثمَّ سَاقه، (و) قَالَ: ابْن حبيب صَدُوق، فآفتُه هُوَ. قَالَ: فَلَقد أَثِمَ الدَّارَقُطْنِيّ بسكوته عَنهُ، فَإِنَّهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد بَاطِل، مَا رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة قطّ بل الْمَعْرُوف حَدِيث جَابر. وَفِي «الأذكياء» لِابْنِ الْجَوْزِيّ: عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث: «مَاء زَمْزَم لما شرب لَهُ» فَقَالَ: حَدِيث صَحِيح. وصحَّ فِي زَمْزَم: «إِنَّهَا مباركة، إِنَّهَا طعامُ طعم» أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» ، زَاد أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده: «وشفاء سقم» .
وَأما آثَار الْبَاب (فستة) : أوَّلها: قَالَ الرَّافِعِيّ بعد أَن ذكر أَن من السّنَن إِذا وَقع بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْت أَن يَقُول: «اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْت ... » إِلَى آخِره، وَيسْتَحب أَن يضيف إِلَيْهِ: «اللَّهُمَّ أَنْت السَّلَام، ومنك السَّلَام فَحَيِّنَا ربّنَا بِالسَّلَامِ» يُرْوى ذَلِك عَن عُمر. وَفِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ: عَن ابْن عمر، وَالصَّوَاب: عَن عمر. كَذَلِك رَوَاهُ الْحَاكِم عَن الْأَصَم، ثَنَا(6/303)
الْعَبَّاس بن مُحَمَّد، (نَا يَحْيَى بن معِين) ، نَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، نَا إِبْرَاهِيم بن طريف، عَن حميد بن يَعْقُوب، سمع سعيد بن الْمسيب (يَقُول: سَمِعت) من عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَقُول (كلمة) مَا بَقِي أحد من النَّاس سَمعهَا غَيْرِي، سمعته يَقُول إِذا رَأَى الْبَيْت: «اللَّهُمَّ أَنْت السَّلَام، ومنك السَّلَام، فحينا رَبنَا بِالسَّلَامِ» . قَالَ الْعَبَّاس: قلت ليحيى - يَعْنِي ابْن معِين -: من إِبْرَاهِيم بن طريف هَذَا؟ قَالَ: (يماني) . قلت: فَمن [حميد بن يَعْقُوب] هَذَا؟ قَالَ: رَوَى عَنهُ يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ كَذَلِك، وَهُوَ شَاهد لسَمَاع سعيد من عمر. كَمَا قَالَ صَاحب «الإِمَام» وَأما الْمُنْذِرِيّ فَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى (أَحَادِيث) «الْمُهَذّب» (عقبه) : فِي سَماع سعيد (من) عمر نظر.
قلت: ورَوَاهُ عَن سعيد ابْنُه مُحَمَّد، ذكره ابْنُ الْمُغلس(6/304)
الظَّاهِرِيّ فِي كِتَابه، قَالَ: وَقد ذكر هشيم، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن سعيد بن الْمسيب، عَن أَبِيه: «أَن عمر كَانَ إِذا نظر إِلَى الْبَيْت قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْت السَّلَام، ومنك السَّلَام، حَيِّنَا رَبنَا بِالسَّلَامِ» . وَرَوَى أَيْضا من حَدِيث سعيد بِإِسْقَاط عمر، رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، نَا أَبُو الْأَحْوَص، أَنا يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «كَانَ أبي إِذا دخل الْمَسْجِد اسْتقْبل القِبْلة ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْت السَّلَام، ومنك السَّلَام، فحينا رَبنَا بِالسَّلَامِ» . قَالَ: ونا سُفْيَان، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن ابْن سعيد، عَن أَبِيه «أَنه كَانَ إِذا نظر إِلَى الْبَيْت قَالَ ... » فَذكر مثله، وَلَا مُنَافَاة بَين هَذَا وَبَين مَا سلف، قَالَ الرَّافِعِيّ: ويؤثر أَن يَقُول: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نحل عقدَة ونشدّ أُخْرَى ... » إِلَى آخِره. وَهَذَا شَيْء ذكره الشَّافِعِي حِكَايَة عَن بعض السّلف؛ (فَقَالَ) : وَقد كَانَ بعض من مَضَى من أهل الْعلم يتَكَلَّم بِكَلَام عِنْد رُؤْيَة الْبَيْت، وَرُبمَا تكلم بِهِ (عَلَى) الصَّفَا والمروة، (و) يَقُول: «مَا زلنا نحل عقدَة ... » (فَذكر نَحْوَهُ) .
الْأَثر الثَّانِي: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنه قَالَ: «لَا يدْخل أحد مَكَّة إِلَّا محرما» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن عبد الْملك، عَن عَطاء، (عَن) ابْن عَبَّاس قَالَ: «مَا يدْخل مَكَّة أحد من أَهلهَا وَلَا من غير أَهلهَا(6/305)
إِلَّا بِإِحْرَام» . وَقَالَ الشَّافِعِي: ثَنَا ابْن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو، عَن أبي الشعْثَاء «أَنه رَأَى ابْن عَبَّاس يرد من جَاوز الْمَوَاقِيت غير محرم» ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَنهُ، ثمَّ ذكر الأول تَعْلِيقا. وَرَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «لَا يدْخل أحد مَكَّة إِلَّا بِإِحْرَام، من أَهلهَا وَمن غير أَهلهَا» . وَفِي إِسْنَاده الْحجَّاج بن أَرْطَاة، وَقد سلف حَاله، وَمُحَمّد بن خَالِد الوَاسِطِيّ وَهُوَ كذَّاب، رجل سوء. كَمَا قَالَه يَحْيَى، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ (إِسْمَاعِيل بن) مُسلم، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس «فوَاللَّه مَا دَخلهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا حاجًّا أَو مُعْتَمِرًا» . وَإِسْمَاعِيل (هَذَا) هُوَ الْمَكِّيّ وَهُوَ ضَعِيف.
الْأَثر الثَّالِث: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنه كَانَ يقبل الْحجر الْأسود وَيسْجد عَلَيْهِ بجبهته» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث جَعْفَر بن عبد الله - وَهُوَ ابْن الحكم - قَالَ: «رَأَيْت مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر قبل الْحجر، وَسجد عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت خالَكَ ابْن عَبَّاس يقبله وَيسْجد عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: رَأَيْت عمر بن الْخطاب(6/306)
قبله وَسجد (عَلَيْهِ) ، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعل هَكَذَا؛ فَفعلت» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: وجعفر هَذَا تَابِعِيّ أخرجَا لَهُ، فَيَنْبَغِي أَن يكون عَلَى شَرطهمَا، لَكِن الْبَزَّار أخرجه من حَدِيث جَعْفَر بن عبد الله بن عُثْمَان المَخْزُومِي، وَهُوَ ثِقَة كَمَا قَالَ أَحْمد وَأَبُو خَالِد، وَرَأَيْت من يُوهم الْحَاكِم فِي كَونه ابْن الحكم، ويصوب مَا ذكره الْبَزَّار، (وَكَذَا) رَوَاهُ كَذَلِك أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَأَبُو عَاصِم والعقيلي، وَقَالَ: فِي حَدِيثه وهم واضطراب. وَاعْترض ابْن الْقطَّان عَلَى عبد الْحق فِي عزوه إِلَى الْبَزَّار؛ فَقَالَ: لَا ذكر لَهُ من حَدِيث عمر بن الْخطاب، من كتاب الْبَزَّار، وَلَعَلَّه من بعض أَمَالِيهِ، وَإِنَّمَا أعرفهُ عِنْد ابْن السكن. فَذكره من حَدِيث جَعْفَر بن عبد الله الْحميدِي - رجل من بني حميد (من) قُرَيْش - قَالَ: (رَأَيْت) مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر قبل الْحجر ثمَّ سجد عَلَيْهِ [فَقلت: مَا هَذَا؟ قَالَ: رَأَيْت خَالك عبد الله بن عَبَّاس قبله ثمَّ سجد عَلَيْهِ] ثمَّ(6/307)
قَالَ: رَأَيْت عمر بن الْخطاب قبله ثمَّ سجد عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: واللَّهِ (إِنِّي) لأعْلم أَنَّك حجر، وَلَكِن رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعل هَكَذَا ففعلتُه» . وَرَوَى الشَّافِعِي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ عَن مُسلم بن خَالِد، عَن ابْن جريج، عَن مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر قَالَ: «رَأَيْت ابْن عَبَّاس جَاءَ يَوْم التَّرويَة مسبدًا رَأسه، فَقبل الرُّكْن ثمَّ سجد عَلَيْهِ، ثمَّ قبله ثمَّ سجد عَلَيْهِ (ثَلَاث مَرَّات) وَرَوَى الْحَاكِم ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا قَالَ: «رأيتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسْجد عَلَى الْحجر» . قَالَ الْحَاكِم: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
الْأَثر الرَّابِع: يُؤثر عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنه كَانَ يَقُول عَلَى الصَّفَا والمروة: «اللَّهُمَّ اعصمني بِدينِك وطواعيتك وطواعية رَسُولك، اللَّهُمَّ حببني إِلَيْك وَإِلَى ملائكتك ورسلك وعبادك الصَّالِحين، اللَّهُمَّ اجْعَلنِي ممّن يحبك وَيُحب ملائكتك ورسلك وعبادك الصَّالِحين، اللَّهُمَّ آتني من خير مَا تؤتي بِهِ عِبَادك الصَّالِحين، اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من الْمُتَّقِينَ، واجعلني من وَرَثَة جنَّة النَّعيم، واغفر لي خطيئتي يَوْم الدِّين» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَنهُ: «أَنه كَانَ يَقُول عَلَى الصَّفَا: اللَّهُمَّ اعصمنا بِدينِك وطواعيتك وطواعية رَسُولك، وجنبنا حدودك، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا نحبك ونحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك ونحب(6/308)
عِبَادك الصَّالِحين، اللَّهُمَّ حببنا إِلَيْك وَإِلَى ملائكتك وَإِلَى أنبيائك ورسلك وعبادك الصَّالِحين، اللَّهُمَّ يسرنَا لليسرى وجنبنا (العسرى) ، واغفر لنا فِي الْآخِرَة وَالْأولَى، واجعلنا من أَئِمَّة الْمُتَّقِينَ» . وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «أَنه كَانَ يَقُول عَلَى الصَّفَا: اللَّهُمَّ أحينا عَلَى سُنَّةِ نبيك (، (وتوفنا) عَلَى مِلَّته، (وأعذنا) من مُضِلاَّت الْفِتَن» . وَفِي رِوَايَة: «أَنه كَانَ يَقُول عَلَى الصَّفَا: اللَّهُمَّ إِنَّك قلتَ: (ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم) وَإنَّك لَا تخلف الميعاد؛ فإنى أَسأَلك كَمَا هديتني لِلْإِسْلَامِ أَن لَا تنزعه مني حَتَّى تتوفاني وَأَنا مُسلم» رَوَاهَا مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَنهُ. وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي (كتاب) الْمَنَاسِك نقلهَا عَنهُ الضياء فِي «أَحْكَامه» - وَقَالَ: إسنادها جيد -: «أَنه كَانَ يَقُول عَلَى الصَّفَا: اللَّهُمَّ اعصمني بِدينِك وطواعيتك وطواعية رَسُولك، اللَّهُمَّ جنبني حدودك، اللَّهُمَّ اجْعَلنِي مِمَّن يحبك وَيُحب ملائكتك، وَيُحب رسلك، وَيُحب عِبَادك الصَّالِحين، اللَّهُمَّ يَسِّرْني لليُسْرى وجَنِّبْي العُسْرى، واغفر لي فِي الْآخِرَة وَالْأولَى، واجعلني من أَئِمَّة الْمُتَّقِينَ، اللَّهُمَّ إِنَّك قلتَ: (ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم) ، وَإنَّك لَا تخلف الميعاد، اللَّهُمَّ (إذْ(6/309)
هديتني) لِلْإِسْلَامِ فَلَا تنزعه مِنِّي وَلَا تنزعني مِنْهُ» . قَالَ نَافِع: وَكَانَ يَدْعُو بِهَذَا مَعَ دعاءٍ لَهُ طويلٍ عَلَى الصَّفَا والمروة، وبعرفاتٍ وبجمْعٍ وَبَين الْجَمْرَتَيْن وَفِي الطّواف.
الْأَثر الْخَامِس: اشْتهر السَّعْي من غير رقي عَلَى الصَّفَا عَن عُثْمَان وَغَيره من الصَّحَابَة من غير إِنْكَار.
ذكره الرَّافِعِيّ ردًّا عَلَى أبي حَفْص بن (الْوَكِيل) فِي وجوب الرقي قدر قامة عَلَى الصَّفَا، وَهَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، عَن سُفْيَان، عَن ابْن أبي نجيح، عَن أَبِيه قَالَ: أَخْبرنِي من رَأَى عُثْمَان بن عَفَّان يقوم فِي حَوْض فِي أَسْفَل الصَّفَا وَلَا يصعد عَلَيْهِ.
قلت: وَقد سَعَى عَلَيْهِ السَّلَام رَاكِبًا، كَمَا أخرجه مُسلم وَغَيره، وَلَا يُمكن الرقي مَعَه عَلَى الصَّفَا قدر مَا ذكر.
الْأَثر السَّادِس: عَن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «من أدْركهُ الْمسَاء فِي الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام التَّشْرِيق فَليقمْ إِلَى الْغَد حَتَّى [ينفر مَعَ] النَّاس» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» (لكنه) عَن(6/310)
نَافِع عَن ابْن عمر كَانَ يَقُول: «من غربت عَلَيْهِ الشَّمْس وَهُوَ بمنى، فَلَا ينفرن حَتَّى يَرْمِي الْجمار من الْغَد (من أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق) » . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ الثَّوْريّ، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ عمر ... فَذكر مَعْنَاهُ. قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن الْمُبَارك، عَن عبيد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَرَفعه ضَعِيف. وَذكر الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الْبَاب أَنه قيل: «من تقبل حجه رفع حَجَره، وَمَا بَقِي فَهُوَ مَرْدُود» . وَهَذَا حَدِيث مَشْهُور رَوَاهُ الْحَاكِم، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (قَالَ) : «قُلْنَا: يَا رَسُول الله، هَذِه الْجمار الَّتِي يُرْمَى بهَا كل عَام فنحسب أَنَّهَا تنقص. قَالَ: (أما) إِنَّه مَا تقبل مِنْهَا رفع، وَلَوْلَا ذَلِك لرأيتها أَمْثَال الْجبَال» . هَذَا لفظ الدَّارَقُطْنِيّ، وَلَفظ (الآخرين) : «قُلْنَا: يَا رَسُول الله، هَذِه الْأَحْجَار الَّتِي يُرْمَى بهَا تحمل فنحسب أَنَّهَا (تنقعر) . (قَالَ) : أما إِنَّه (مَا) يُقْبل مِنْهَا يرفع، وَلَوْلَا ذَلِك لرأيتها مثل الْجبَال» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ: وَيزِيد(6/311)
بن سِنَان الرهاوي - يَعْنِي الَّذِي فِي إِسْنَاده -: لَيْسَ بالمتروك.
وَقَالَ (الْبَيْهَقِيّ) فِي «سنَنه» : هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، وَيزِيد لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث. قَالَ: وَرُوِيَ من وَجه (آخر) ضَعِيف عَن ابْن عمر مَرْفُوعا. قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ مَشْهُور عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا: «مَا تقبل مِنْهَا رفع، وَمَا لم يتَقَبَّل ترك، وَلَوْلَا ذَلِك لسد مَا بَين الجبلين» . وَفِي رِوَايَة عَنهُ (أَنه) قَالَ: «وكل بِهِ ملك، مَا تقبل مِنْهُ رفع، وَمَا لم يتَقَبَّل ترك» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ عَن أبي سعيد مَوْقُوفا عَلَيْهِ: «أَنه سُئِلَ عَن رمي الْجمار، فَقَالَ (لي) : مَا تقبل (مِنْهُ) رفع، وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ أطول من ثبير» .(6/312)
بَاب حَجّ الصَّبِي
ذكر فِيهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس وَحَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَهُوَ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مر بِامْرَأَة وَهِي فِي محفتها، فَأخذت بعضد صبي كَانَ مَعهَا؛ فَقَالَت: أَلِهَذَا حَجّ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: نعم، وَلَك أجر» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» مُرْسلا عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة، عَن كريب مولَى ابْن عَبَّاس: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بِامْرَأَة وَهِي فِي محفتها، فَقيل لَهَا: هَذَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فأخذتْ بضبعي صبي كَانَ مَعهَا، فَقَالَت: أَلِهَذَا حج؟ قَالَ: «نعم، وَلَك أجر» . قَالَ ابْن عبد الْبر: وصل هَذَا الحَدِيث عَن مَالك: ابْن وهب وَالشَّافِعِيّ وَابْن عَثْمَة وَأَبُو (المصعب) وَعبد الله بن يُوسُف التنيسِي، رَوَوْهُ عَن مَالك، عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة، عَن كريب، (عَن) ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
(قلت: وَلَفظ رِوَايَة الشَّافِعِي: «بعضد صبي» بدل «بضبعي صبي» ، وَرَوَاهُ أَحْمد، عَن سُفْيَان، عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة بِنَحْوِهِ، وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة، عَن كريب،(6/313)
عَن ابْن عَبَّاس) [عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] «لَقِي ركبًا بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: من الْقَوْم؟ قَالَ: الْمُسلمُونَ. فَقَالُوا: من أَنْت؟ قَالَ: رَسُول الله. فَرفعت إِلَيْهِ امْرَأَة صبيًّا فَقَالَت: أَلِهَذَا حج؟ قَالَ: نعم، وَلَك أجر» . ثمَّ رَوَاهُ (من حَدِيث سُفْيَان) عَن مُحَمَّد بن عقبَة، عَن كريب، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «رفعت امْرَأَة صبيًّا لَهَا، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، أَلِهَذَا حج؟ قَالَ: نعم، وَلَك أجر» . وَمن حَدِيث سُفْيَان، عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة، عَن كريب: «أَن امْرَأَة رفعت صبيًّا صَغِيرا، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، أَلِهَذَا حج؟ قَالَ: نعم، وَلَك أجر» . وَمن حَدِيث سُفْيَان، عَن مُحَمَّد بن عقبَة، عَن كريب، عَن ابْن عَبَّاس مثله. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ كَلَفْظِ مُسلم الأول، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِأَلْفَاظ، أَحدهَا: كَرِوَايَة الشَّافِعِي. ثَانِيهَا: «بَيْنَمَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يمشى فِي بطن الروحاء، (إِذْ) أقبل وَفد، فَقَالَ رجل مِنْهُم: من أَنْتُم؟ فَقَالَ: نَحن الْمُسلمُونَ، ثمَّ قَالَت امْرَأَة: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا رَسُول الله. فأخرجت صبيًّا، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، أَلِهَذَا حج؟ فَقَالَ: نعم، وَلَك أجر» .(6/314)
ثَالِثهَا: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صدر من مَكَّة، فَلَمَّا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ، استقبله ركب فَسلم عَلَيْهِم، فَقَالَ: من الْقَوْم؟ قَالُوا: الْمُسلمُونَ. من أَنْتُم؟ (قَالَ) : رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ففرغتْ امْرَأَة مِنْهُم، فَرفعت صبيًّا لَهَا من محفة، وَأخذت بعضده، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، (هَل لهَذَا) حج؟ قَالَ: نعم، وَلَك أجر» . قَالَ إِبْرَاهِيم بن عقبَة: حدثت بِهَذَا الحَدِيث ابْن الْمُنْكَدر، فحجَّ بأَهْله أَجْمَعِينَ. وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» : «أَن امْرَأَة رفعت صبيًّا لَهَا فِي خرقَة، فَقَالَت: يَا رَسُول الله ... » الحَدِيث. (و) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث جَابر وَقَالَ: غَرِيب.
فَائِدَة: المِحَفة: بِكَسْر الْمِيم، وَفتح الْحَاء، كَذَا قَيده النَّوَوِيّ فِي «شرح المهذَّب» ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «المهذَّب» : المحفة: بِكَسْر الْمِيم وَبِفَتْحِهَا، وَهِي شبه الهودج، إِلَّا أَنه لَا قبَّة عَلَيْهَا.
والرَّوْحاء: بِفَتْح الرَّاء وَإِسْكَان الْوَاو وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة (ممدودة) ، مَوضِع من عمل الفُرْع - بِضَم الْفَاء وَإِسْكَان الرَّاء - (بَينهَا) وَبَين الْمَدِينَة(6/315)
النَّبَوِيَّة سِتَّة وَثَلَاثُونَ ميلًا، كَذَا جَاءَ فِي «صَحِيح مُسلم» من كَلَام طَلْحَة بن نَافِع التَّابِعِيّ الْمَشْهُور، (و) حَكَى صَاحب «الْمطَالع» (أَن بَينهمَا أَرْبَعُونَ) ميلًا، وَأَن فِي كتاب ابْن أبي شيبَة: بَينهمَا ثَلَاثُونَ ميلًا. وَكَانَ سُؤال الْمَرْأَة فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا فِي حجَّة الْوَدَاع سنة عشر من الْهِجْرَة، قبل وَفَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِنَحْوِ ثَلَاثَة أشهر. ذكره النَّوَوِيّ فِي «شرح المهذَّب» .
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ بعد ذَلِك فِي (تَوْجِيهه) الطَّرِيقَة القاطعة بِأَن الْأُم تحرم عَن الصَّبِي: أَنهم احْتَجُّوا بِخَبَر ابْن عَبَّاس هَذَا، وَقَالُوا: الظَّاهِر أَنَّهَا كَانَت تحرم عَن الَّذِي رفعته فِي محفتها. انْتَهَى. أما كَونهَا أمه، فَهُوَ ظَاهر رِوَايَة ابْن حبَان الثَّانِيَة وَرِوَايَة الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، وَأما أَنَّهَا الَّتِي أحْرمت عَنهُ فَلَيْسَ فِي الرِّوَايَات التَّصْرِيح بذلك، نعم هُوَ الظَّاهِر كَمَا قَالُوهُ.
وَأما حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «حجَجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ومعنا النِّسَاء وَالصبيان فلبينا عَن الصّبيان ورمينا عَنْهُم» .
فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث أَشْعَث بن سوار، عَن أبي الزبير، عَنهُ (بِهِ) ، وَاللَّفْظ لِابْنِ مَاجَه،(6/316)
وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «كُنَّا إِذا حجَجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَكُنَّا نلبي عَن النِّسَاء ونرمي عَن الصّبيان» . وَهُوَ حَدِيث مَعْلُول من أوجه، أَحدهَا: أَن أَشْعَث بن سوار (هَذَا) كوفيّ كِنْديّ، يعرف بالنجار التوابيتي الأفرق القَاضِي، من رجال مُسلم مُتَابعَة، وَلينه جمَاعَة، قَالَ أَبُو زرْعَة: فِيهِ لين. وَقَالَ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. (وَاخْتلف النَّقْل عَن يَحْيَى فِيهِ فَنقل عَبَّاس عَنهُ أَنه قَالَ فِيهِ: ضَعِيف) . وَنقل (ابْن) الدَّوْرَقِي (عَنهُ) أَنه قَالَ: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ ابْن حبَان: فَاحش الْخَطَأ، كثير الْوَهم. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّه حَدِيث غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. وَقَالَ عبد الْحق: أحسن مَا سَمِعت فِيهِ قَول ابْن عدي: لم أجد لَهُ متْنا مُنْكرا، إِنَّمَا يخلط فِي الْأَسَانِيد فِي الْأَحَايِين.
الثَّانِي: أَن أَبَا الزبير مُدَلّس، وَقد عنعن.
الثَّالِث: أَنه مُضْطَرب الْمَتْن، فمتن التِّرْمِذِيّ فِيهِ كَمَا مر: «نلبي عَن النِّسَاء ونرمي عَن الصّبيان» أَي: يُلَبِّي الرِّجَال عَن النِّسَاء، ويرمون عَن الصّبيان. وَلَفظ ابْن مَاجَه كَمَا مر، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة سَوَاء - أَعنِي: التَّلْبِيَة عَن الصّبيان أَيْضا - وَلم يذكر التَّلْبِيَة عَن النِّسَاء. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا أولَى بِالصَّوَابِ وأشبه بِهِ؛ فَإِن الْمَرْأَة لَا يُلَبِّي عَنْهَا(6/317)
غَيرهَا، أجمع أهل الْعلم عَلَى ذَلِك، حَكَاهُ هَكَذَا التِّرْمِذِيّ، قَالَ: وَإِنَّمَا لَا ترفع صَوتهَا بِالتَّلْبِيَةِ فَقَط. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» : لَعَلَّ أَنه يُرِيد أَنه لما كره لَهَا رفع صَوتهَا بِالتَّلْبِيَةِ كَانَ (رفع) أصواتنا بهَا كَأَنَّهَا عَنْهُن، وَكَأَنَّهُم لبوا عَنْهُن؛ إِذْ هَذَا الشعار مَقْصُود فِي الْحَج.(6/318)
بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام
ذكر فِيهِ أَحَادِيث وآثارًا؛ أما الْأَحَادِيث فستة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْمحرم الَّذِي خر من بعيره: «لَا تخمروا رَأسه؛ فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سلف بَيَانه فِي أوَّل (الْجَنَائِز) .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أم الْحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «حججْت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حجَّة الْوَدَاع، فَرَأَيْت أُسَامَة بن زيد وبلالاً، أَحدهمَا آخذ بِخِطَام نَاقَته، وَالْآخر رَافع ثَوْبه يستره من الْحر حَتَّى رَمَى جَمْرَة الْعقبَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، زَاد النسائيُّ: «فَحَمدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ ... » وَذكر قولا كثيرا، وَأغْرب ابْنُ الْجَوْزِيّ فَذكره فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» من طَرِيق أبي دَاوُد وَقَالَ: احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ بِجَوَاز تظليل الْمحرم بالمحمل. ثمَّ قَالَ(6/319)
: وَالْجَوَاب: أَن أَبَا عبد الرَّحِيم - الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - (ضَعِيف) . كَذَا قَالَ، وَأَخْطَأ فِي تَضْعِيفه، فَأَبُو عبد الرَّحِيم هَذَا ثِقَة، واسْمه: خَالِد بن (يزِيد) ، وَيُقَال: ابْن أبي يزِيد، وَقد احْتج بِهِ مُسلم فِي «صَحِيحه» ، وَأخرج الحديثَ المذكورَ فِي «صَحِيحه» من جِهَته، وَكَذَا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - احْتجم عَلَى رَأسه وَهُوَ محرم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عبد الله بن (مَالك ابْن) بُحَيْنَة قَالَ: «احْتجم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ محرم بِلحي جمل - من طَرِيق مَكَّة - فِي وسط رَأسه» . وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام احْتجم وَهُوَ محرم» . وللبخاري: «احْتجم وَهُوَ محرم، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم» . وَله أَيْضا: «احْتجم فِي(6/320)
رَأسه وَهُوَ محرم من وجع كَانَ بِهِ، بِمَاء يُقَال: لحي جمل» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من شَقِيقَة كَانَت (بِهِ) » واستدركه الْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: « (أَنه) - عَلَيْهِ السَّلَام - احْتجم وَهُوَ محرم عَلَى رَأسه» . ثمَّ (قَالَ) : هَذَا حَدِيث مخرج بِإِسْنَادِهِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» دون (ذكر) الرَّأْس» وَهُوَ صَحِيح عَلَى شَرطهمَا، وَقد علمت أَنه فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» وَرَوَاهُ أَحْمد (أَيْضا) بعد أَن ذكر الشَّاة المسمومة: «فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا وجد من ذَلِك شَيْئا احْتجم، فسافر مرَّةً، فلمَّا أحرم وَجَدَ من ذَلِك شَيْئا فاحتجم» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «احْتجم وَهُوَ محرم فِي رَأسه من صداع كَانَ بِهِ، أَو شَيْء كَانَ بِهِ (بماءٍ) يُقَال: لحي جملٍ» . وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن الْحجَّاج، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - احْتجم صَائِما محرما فَغشيَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَلذَلِك (كره) الْحجامَة للصَّائِم» .
الحَدِيث الرَّابِع
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَمَّا يلبس الْمحرم من الثِّيَاب، فَقَالَ: لَا يلبس الْقَمِيص وَلَا السَّرَاوِيل، وَلَا العمائم، وَلَا(6/321)
البرانس، وَلَا الْخفاف، إِلَّا أحد لَا يجد نَعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ، (وليقطعهما) أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِزِيَادَة: «وَلَا يلبس ثوبا مَسّه زعفران أَو ورس» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «وَلَا تنتقب الْمَرْأَة الْمُحرمَة وَلَا تلبس القفازين» . وَوَقع للمحب الطَّبَرِيّ أَن هَذِه الزِّيَادَة فِي «مُسلم» وَهُوَ من النَّاسِخ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي «البُخَارِيّ» وَحده، وَنقل الْحَاكِم عَن أبي عَلّي الْحَافِظ أَن: «لَا تنتقب الْمَرْأَة» من قَول ابْن عمر وَقد أدرج فِي الحَدِيث، وَأقرهُ الْبَيْهَقِيّ عَلَيْهِ، وَهَذَا [يحْتَاج] إِلَى دَلِيل؛ فَإِنَّهُ خلاف الظَّاهِر كَمَا نبه عَلَيْهِ صَاحب «الإِمَام» ، وَحَكَى ابْن الْمُنْذر خلافًا فِي أَن هَذِه الزِّيَادَة من الحَدِيث أَو من كَلَام ابْن عمر. وَادَّعَى بَعضهم أَن قَوْله: «وليقطعهما» من كَلَام نَافِع، كَذَلِك رَوَاهُ ابْنُ بَشرَان فِي «أَمَالِيهِ» بِإِسْنَاد جيد، وَفِيه النّظر السالف، وَزَاد الْبَيْهَقِيّ فِيهِ: «وَلَا تلبس القباء» . قَالَ: وَهَذِه (الزِّيَادَة) مَحْفُوظَة. وَزَاد أَبُو مُعَاوِيَة بعد قَوْله «زعفران» : «إِلَّا أَن يكون غسيلاً» . قَالَ ابْن أبي(6/322)
حَاتِم: سَأَلت (أبي) عَن هَذِه الزِّيَادَة؛ فَقَالَ: أَخطَأ أَبُو مُعَاوِيَة فِيهَا. وَخَالف الطحاويُّ فَقَالَ: قَالَ ابْن (أبي) عمرَان: عجب [يَحْيَى من] الْحمانِي (أَن) يحدث بِهَذَا، يَعْنِي: بِهَذِهِ اللَّفْظَة «إِلَّا أَن يكون غسيلاً» فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ: هَذَا عِنْدِي. ثمَّ وثب من فوره فجَاء بِأَصْلِهِ، فَأخْرج مِنْهُ هَذَا الحَدِيث عَن أبي مُعَاوِيَة كَمَا ذكره يَحْيَى الْحمانِي، فَكَتبهُ (يَحْيَى) بن معِين. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَثَبت بِهَذَا الْإِسْنَاد الغسيل مِمَّا مَسّه ورس أَو زعفران.
تَنْبِيه: وَقع فِي «الْخُلَاصَة» عَلَى مَذْهَب أبي حنيفَة النَّهْي عَن المعصفر أَيْضا، وَهُوَ غَرِيب، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب عَكسه وَهُوَ إِبَاحَته للنِّسَاء.
فَائِدَة: الْبُرْنُس: قلنسوة طَوِيلَة، كَانَ الزهاد يلبسونها فِي صدْر الْإِسْلَام.
والورس: نبت أصفر يكون بِالْيمن، يتَّخذ مِنْهُ (الغمرة) للْوَجْه، وتصبغ بِهِ الثِّيَاب. قَالَه الْجَوْهَرِي وَغَيره.(6/323)
والقُفَّاز: بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الْفَاء، قَالَ الْجَوْهَرِي فِي «صحاحه» : هُوَ شَيْء يعْمل لِلْيَدَيْنِ، يحشى بِقطن، يكون لَهُ أزرار (تزر) عَلَى الساعدين من البَرْد، تلبسه الْمَرْأَة فِي يَديهَا.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْمحرم الَّذِي خر (عَن) بعيره وَمَات: «خمروا (وَجهه) وَلَا تخمروا رَأسه» .
هَذَا الحَدِيث أَصله فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ، وَقد سلف أول الْبَاب بِلَفْظ: «وَلَا تخمروا رَأسه» . (و) قدَّمنا أَنه سلف فِي الْجَنَائِز، وَأما بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره المُصَنّف فَلَيْسَ بالمشهور، حَتَّى إِن ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» لم يعزه لأحد عَلَى خلاف عَادَته، وَإِنَّمَا قَالَ: رَوَاهُ أَصْحَابنَا. نعم رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي الْجَنَائِز من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن أبي حرَّة، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خمروا وَجهه وَلَا تخمروا رَأسه، وَلَا تمسوه طيبا، فَإِن الله يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة ملبيًا» . ثمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «خمروا وُجُوه مَوْتَاكُم، وَلَا تشبهوا بيهود» . ثمَّ قَالَ: إِن صَحَّ هَذَا يشْهد لرِوَايَة إِبْرَاهِيم بن أبي حرَّة فِي(6/324)
الْأَمر بتخمير الْوَجْه. (قَالَ) : إِلَّا أَن عبد الله بن أَحْمد قَالَ: (حدثت) أبي بِهَذَا (الحَدِيث) فَأنكرهُ وَقَالَ: هَذَا أَخطَأ فِيهِ حَفْص فرفعه، وَرَوَاهُ غيرُه مُرْسلا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَلِك رَوَاهُ الثَّوْريّ وَغَيره عَن ابْن جريج مُرْسلا. قَالَ: وَرُوِيَ عَن عليّ بن عَاصِم، عَن ابْن جريج كَمَا رَوَاهُ حَفْص، وَهُوَ وهم.
قلت: وَإِبْرَاهِيم بن أبي حرَّة ضعفه السَّاجِي، لَكِن وَثَّقَهُ ابْن معِين وَأحمد وَأَبُو حَاتِم، وَزَاد: لَا بَأْس بِهِ. وَعلي بن عَاصِم: ضَعِيف، كثير الْغَلَط، وَكَانَ فِيهِ لُجَاج، وَلم يكن مُتَّهمًا. كَمَا قَالَه أَحْمد بن حَنْبَل. قَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة: قيل لِابْنِ معِين: إِن أَحْمد يَقُول فِيهِ: ثِقَة. قَالَ: لَا واللَّهِ، مَا كَانَ عِنْده قطّ ثِقَة، وَلَا حدَّث عَنهُ بحرفٍ قطّ، فَكيف صَار عِنْده الْيَوْم ثِقَة؟ ! . ولمَّا ذكره ابْنُ الْقطَّان من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث حَفْص بن غياث، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس رَفَعَهُ: «خَمِّرُوا وُجُوهَ (مَوْتَاكُم) ، وَلَا تشبَّهُوا باليهود» . قَالَ: عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ - (رَاوِيه) عَن حَفْص بن غياث - صَدُوق. قَالَه أَبُو(6/325)
حَاتِم الرَّازِيّ، وباقى الْإِسْنَاد لَا يسْأَل عَنهُ، قَالَ: وَهُوَ أَعم من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ الأولَى - يَعْنِي: روايةَ عَلّي بن عَاصِم عَن ابْن جريج، فِي المُحْرم يَمُوت؛ فَقَالَ: «خمِّروهم وَلَا تشبَّهوا باليهود» - (وَأَصَح مِنْهَا) وَقَالَ ابْن حزم فِي كِتَابه «حجَّة الْوَدَاع» فِي رِوَايَة عَطاء الْمُرْسلَة: هَذَا مُرْسل، لَا يقوم بمِثْله حُجَّة. ورواهُ الْحَاكِم فِي «عُلُوم الحَدِيث» من حَدِيث سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: «أَن مُحْرِمًا ... » الحَدِيث، وَفِيه: «وَلَا تخمِّرُوا وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْم الْقِيَامَة يُلبِّي» . ثمَّ قَالَ: ذكْرُ «الْوَجْه» تَصْحِيف من بعض الروَاة؛ لإِجْمَاع الثِّقَات (الْأَثْبَات) مِنْ أَصْحَاب عَمرو بن دِينَار عَلَى رِوَايَته عَنهُ «وَلَا تُغَطُّوا رَأْسَه» ، وَهُوَ الْمَحْفُوظ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سألتُ أبي عَنهُ؛ فَقَالَ: حَدِيْث مُنْكَر.
الحَدِيث السَّادِس
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: لَا تَنْتَقِبُ المرأةُ، وَلَا تَلْبَسُ القُفَّازَيْن» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا تقدم بَيَانه فِي أثْنَاء الحَدِيث الرَّابِع.
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَهَى النساءَ فِي إحرامهن عَن النقاب، و (لتلبس) بعد ذَلِك(6/326)
مَا أحبت من ألوان الثِّيَاب مُعَصْفَرًا أَو خَزًّا أَو حليًّا أَو سَرَاوِيل أَو قَمِيصًا أَو خفًّا» .
هَذَا الحَدِيث حسن، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة عبد الله بن عُمر: «أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينْهَى النساءَ فِي إحرامهن عَن القفازين، والنقاب، وَمَا مس الورس والزعفران من الثِّيَاب، (ولتلبس) بعد ذَلِك مَا (أحبَّتْ) من ألوان الثِّيَاب من معصفرٍ أَو خَز أَو حُليّ أَو سَرَاوِيل أَو قميصٍ أَو خُفٍّ» . هَذَا لفظ الْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِم، وَلَفظ أبي دَاوُد كَلَفْظِ الرَّافِعِيّ الَّذِي أوردناه (بِزِيَادَة) : «وَمَا مس الورس والزعفران» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» إِلَى قَوْله: «والزعفران من الثِّيَاب» وَهُوَ مَا قَالَ أَبُو دَاوُد: (رَوَاهُ) عَن ابْن إِسْحَاق (عَبْدَة) بن سُلَيْمَان وَمُحَمّد بن سَلمَة إِلَى قَوْله: «وَمَا مس الورس والزعفران من الثِّيَاب» . وَلم يذكرَا مَا بعده، وَرِجَال إِسْنَاده مُحْتَج (بهم) فِي «الصَّحِيحَيْنِ» خلا محمدُ بن إِسْحَاق صَاحب «الْمَغَازِي» ، فَإِنَّهُمَا لم يحْتَجَّا بِهِ، وَإِنَّمَا أخرج لَهُ مُسلم مُتَابعَة، لَا جرم(6/327)
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ. وَمرَاده: أَنه عَلَى شَرط مُسلم فِي ابْن إِسْحَاق؛ فَإِنَّهُ أخرج لَهُ كَمَا قُلْنَاهُ، لكنه لم يخرج لَهُ مُسْتَقلاًّ، نَعَمْ أَكثر مَا عَابُوا عَلَى ابْن إِسْحَاق التَّدْلِيس، وَقد صرَّح فِي هَذَا الحَدِيث بِالتَّحْدِيثِ من نَافِع، والمدلِّس إِذا صرَّح بِالتَّحْدِيثِ احْتُجَّ بحَديثه؛ فَيكون حَدِيثه هَذَا حسنا، وَقد رُوِيَ بعضه مَوْقُوفا، أخرجه مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن نَافِع أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول: «لَا تنتقب الْمَرْأَة الْمُحرمَة، وَلَا تَلْبَس القفازين» . وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» ، وَرَوَاهُ أَبُو قُرَّة مُوسَى بن طَارق، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع مَوْقُوفا عَلَى ابْن عُمر.
الحَدِيث الثَّامِن
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَإِن تأتى اتِّخَاذ إِزَار - أَي: من السَّرَاوِيل - (فلبسه) عَلَى هَيئته - أَي: سراويلاً - فَهَل يلْزمه الْفِدْيَة؟ [فِيهِ] وَجْهَان: أَحدهمَا: (لَا) ، لإِطْلَاق الخَبَر.
قلت: مُرَاده بذلك مَا أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من(6/328)
حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ لم يجدْ إزارًا فَلْيَلْبَسْ سروايلَ، وَمن لم يجدْ نعلَيْن فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْن» . وَفِي رِوَايَة لَهما: «سمعتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخْطب بعرفاتٍ وَهُوَ يَقُول ... » الحَدِيث، وَأخرجه مُسلم من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ لم يَجِدْ نَعْلَيْن فليلبسْ خُفَّيْن، ومَنْ لم يجدْ إزارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيل» .
الحَدِيث التَّاسِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِحْرَام الْمَرْأَة (فِي) وَجههَا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطبرانيُّ فِي «أكبر معاجمه» وابْنُ عدي فِي «كَامِله» وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من رِوَايَة ابْن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى المرأةِ حرم إِلَّا فِي وَجههَا» . وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، فِي إِسْنَاده أَيُّوب بن (مُحَمَّد أَبُو) سُهَيْل الْعجلِيّ اليمامي، يلقب: أَبَا الْجمل، قَالَ أَبُو زرْعَة: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: ضَعِيف. وَقَالَ مَرَّةً: لَا شَيْء. وَقَالَ ابْن عدي: لَا أعلمهُ يرفعهُ عَن عبيد الله - (يَعْنِي: رَاوِيه) عَن نَافِع، عَن ابْن عمر -(6/329)
غير أبي الْجمل (هَذَا) . وَقَالَ فِي إِسْنَاده كَمَا سَيَأْتِي: إِنَّه ثِقَة. وَقَالَ العُقيلي فِي «ضُعَفَائِهِ» : لَا يُتابع أَيُّوب بن مُحَمَّد عَلَى رَفْعِهِ؛ فَإِنَّهُ يَهِم فِي بعض حَدِيثه، إِنَّمَا يرْوَى مَوْقُوف. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : الصَّوَاب وَقْفُهُ عَلَى ابْن عُمر. قَالَ: وَأَيوب هَذَا من أهل الْيمن ضَعِيف.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَقِبَ إِخْرَاجه من طَرِيق ابْن عدي، وذكْرِ توثيقه فِي إِسْنَاده: أَيُّوب هَذَا ضَعِيف عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، ضعفه يَحْيَى بْنُ معِين وغيرُه. وَقَالَ فِي «خلافياته» : قَالَ الْحَاكِم: هَكَذَا رَوَاهُ أَيُّوب عَن ابْن عُمر مُسْندًا مَرْفُوعا، وحاله عِنْد أَئِمَّة (أهل) النَّقْل بِخِلَاف مَا عدَّله بِهِ عبد الله بن رَجَاء، قَالَ ابْن معِين: شيخ يماني ضَعِيف. وَنقل الذهبيُّ فِي «مِيزَانه» عَن الْفَسَوِي توثيقَه. وَقَالَ فِي «ضُعَفَائِهِ» : ضعفه ابْنُ معِين وَوَثَّقَهُ غيرُه. وَقَالَ عبد الْحق: (أحسن) مَا سمعتُ فِي أَيُّوب هَذَا أَنه لَا بَأْس بِهِ. قَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ (قَوْلَةُ) أبي حَاتِم فِيهِ. قَالَ: وَقد سمع فِيهِ أحسن مِمَّا سَمعه أَبُو مُحَمَّد؛ (فَإِن) ابْن عدي ذكر توثيقَه فِي إِسْنَاده، فَإِنَّهُ لمَّا وصل فِي إِسْنَاده إِلَى يَعْقُوب بن سُفْيَان قَالَ: نَا عبيد الله(6/330)
بن رَجَاء، نَا أَيُّوب بن مُحَمَّد أَبُو الْجمل ثِقَة.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : وَقد رُوي هَذَا الحَدِيث من وَجه آخر مجهولٍ عَن عبيد الله بن عُمر مَرْفُوعا. قَالَ: وَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف عَلَى ابْن عُمر أَنه قَالَ: «إِحْرَام الْمَرْأَة فِي وَجههَا، وإحرام الرجل فِي رَأسه» هَكَذَا رَوَاهُ جماعةُ مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَكَذَا قَالَ فِي «الْمعرفَة» بعد أَن رَوَاهُ هَكَذَا مَوْقُوفا عَلَيْهِ: ورُوي عَنهُ مَرْفُوعا، ورَفْعه ضَعِيف.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن ابْن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي المُحْرِم: «لَا يَلْبَسُ من الثِّيَاب شَيْئا مَسّه زعفران وَلَا ورس» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا تقدم فِي الحَدِيث الرَّابِع.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعَلِيهِ جُبَّة، وَهُوَ متُضَمِّخ بالخلوق، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَحْرَمْتُ (بِالْعُمْرَةِ) وَهَذِه عليَّ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: مَا كُنْتَ (تصنعُ فِي حجتك؟ قَالَ: كنت أنزع هَذِه وأغسلُ هَذَا الخلوق. فَقَالَ (: مَا كنت) صانعًا فِي حجتك فَاصْنَعْ فِي عمرتك» .(6/331)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث يعْلى بن أُمَيَّةَ - بِضَم الْهمزَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْمُثَنَّاة تَحت، وَهُوَ أَبوهُ، وَيُقَال: ابْن مُنْية - بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَتَخْفِيف الْمُثَنَّاة تَحت، وَهِي أُمُّه - «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ بالجِعْرَانة قد أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَهُوَ مصفّر لحيته وَرَأسه، وَعَلِيهِ جُبَّة، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَحْرَمْتُ بِعُمَرةٍ وَأَنا كَمَا ترَى. قَالَ: انْزعْ عَنْك الجُبَّةَ واغْسِلْ عَنْك الصُّفْرَةَ ... » . وَفِي رِوَايَة لَهما: «وَهُوَ مُتَضَمِّخ بِطيب» ، وفيهَا: «إِن الْوَحْي جَاءَهُ إِذْ ذَاك وَأَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُ: اغْسِلْ الطّيب الَّذِي بك ثَلَاث مراتٍ، وانْزع (عَنْك) الجُبَّةَ، واصْنَعْ فِي عُمْرَتك مَا تَصْنَعُ فِي (حَجِّك) » . قلتُ لعطاء: أَرَادَ الإنقاء حِين أَمَرَه أَن يغسل ثَلَاث مراتٍ؟ قَالَ: نعم» . زَاد النَّسَائِيّ بعد قَوْله: «ثَلَاث مراتٍ» : «ثمَّ أَحْدِثْ (إحرامًا) » . (ثمَّ) قَالَ: لَا أحْسبُ هَذِه الزِّيَادَة مَحْفُوظَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ: لَا أعلم أَن أحدا قَالَ: «ثمَّ أَحْدِث إحرامًا» غَيْرَ نوح بن حبيب، وَلَا أَحْسبهُ مَحْفُوظًا بِهَذِهِ الزِّيَادَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ جماعات فَلم يذكرُوا هَذِه الزِّيَادَة، وَلم يقبلهَا أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ من نوح. وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام:(6/332)
«اخْلَعْ جُبَّتَك. (فخلعها) من رَأسه» .
فَائِدَة: الخَلُوق - بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة - طِيْب مَعْرُوف يُتَّخذ من الزَّعْفَرَان وَغَيره من أَنْوَاع الطِّيْب، وتَغْلُبُ عَلَيْهِ الحُمْرَةُ أَو الصُّفْرَةُ. قَالَه الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِي السُّنن» .
(فَائِدَة: المهمل الَّذِي وَقع فِي الحَدِيث الظَّاهِر أَنه عَمْرو بن سَواد إِذْ فِي كتاب «الشِّفَاء» لعياض عَنهُ قَالَ: «أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنا متخلق فَقَالَ: ورس ورس، حط حط. وغشيني بقضيب فِي يَده فِي بَطْني فأوجعني ... » الحَدِيث) .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن أبي أَيُّوب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يغْتَسل وَهُوَ مُحْرم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» مطولا (بِقِصَّةٍ) . (بِلَفْظ) : «أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يغْتَسل وَهُوَ محرم» لَا بِلَفْظ: «كَانَ» . وبذكر الْكَيْفِيَّة: «أَنه صَبَّ عَلَى رَأسه، (ثمَّ حرَّك رأسَهُ)(6/333)
(بيدَيْهِ) ؛ فأَقْبَلَ بهما وأدْبَر، وَقَالَ: هَكَذَا (رأيتُه) (يفعلُ» .
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن كَعْب بن عجْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه كَانَ يُوقد تَحت قدر، والهوام تنتثر من رَأسه، فَمر بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: أَيُؤْذِيك هوَام رَأسك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَاحْلِقْ رَأسك، وانسك بِدَم، أَو صم ثَلَاثَة أَيَّام، أَو تصدق بفرق من طَعَام عَلَى سِتَّة مَسَاكِين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» برواياتٍ فِي بَعْضهَا: « (فَاحْلِقْ) وصُم ثَلَاثَة أَيَّام، أَو أطْعم سِتَّة مَسَاكِين، أَو انسك نسيكةً» . قَالَ أَيُّوب - أحد رُوَاته -: فَلَا أَدْرِي بِأَيّ ذَلِك بَدَأَ. وَفِي بَعْضهَا: «قَالَ كَعْب: فيَّ نزلتْ هَذِه الْآيَة: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه) فأتيتُه، فَقَالَ: ادنه. فدنوتُ، فَقَالَ: أَيُؤْذِيك هوَام رَأسك؟ - قَالَ ابْن عون: (أَظُنهُ) قَالَ: نعم - قَالَ: فَأمرنِي بِصَدقَة أَو صِيَام أَو نسك مَا تيَسّر» . وَفِي بَعْضهَا: « (أَنه) عَلَيْهِ السَّلَام وقف عَلَيْهِ(6/334)
وَرَأسه تتهافتْ قملاً، قَالَ: أَيُؤْذِيك هَوَامك؟ قلت: نَعَمْ. قَالَ: فاحْلِقْ رَأسك، ففيَّ نزلت هَذِه الْآيَة: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَرِيضا (إِلَى قَوْله: (أَو نسك) ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: صُمْ ثَلَاثَة أَيَّام، أَو تصدَّقْ بِفِرْقٍ بَين سِتَّةٍ، أَو انْسك مَا تَيسَّر» . وَفِي بَعْضهَا: «فَاحْلِقْ رَأسك، وأطْعِمْ فِرْقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِين - وَالْفرق ثَلَاثَة آصُع - أَو صُمْ ثَلَاثَة أيامٍ، أَو (انسك نسيكة» وَفِي بَعْضهَا «صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام أَو) إطْعَام سِتَّة مَسَاكِين (نصف صاعٍ، نصف صَاع) طَعَاما لكل مِسْكين. قَالَ: فنزلَتْ فيَّ خَاصَّة، وَهِي لكم عَامَّة» . وَفِي بَعْضهَا: «أَنه خرج مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - محرِمًا، فَقَمُلَ رأسُهُ ولحيتُه، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ فأرْسلَ إِلَيْهِ، فَدَعَا الحلاَّقَ فَحَلَقَ رأسَهُ، ثمَّ قَالَ (لَهُ) : هَل عنْدك نُسُك؟ قَالَ: مَا أقدرُ عَلَيْهِ. فَأمره أَن يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام، أَو يطعم سِتَّة مَسَاكِين كلَّ مسكينٍ(6/335)
نصف صَاع» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «احْلِقْ ثمَّ اذْبَحْ شَاة نُسُكًا، أَو صُمْ ثَلَاثَة أَيَّام، أَو أَطْعِمْ ثَلَاثَة آصُع من تَمْر عَلَى سِتَّة مَسَاكِين» (وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي «صَحِيحه» «فَأمرنِي بصيام أَو صَدَقَة أَو نسك أَو أَيّمَا تيَسّر لَك» ) (كَذَا) رأيتُه، وَصَوَابه: «أَو نسك مَا تيسَّر» .
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاتَتْه صلاةُ الصُّبْح فَلم يُصَلِّها حَتَّى خرج من الْوَادي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سلف فِي بَاب الْأَذَان، فراجِعْه مِنْهُ. واعْلَمْ: أَن الرافعيَّ ذكر هَذَا دَلِيلا للمشهور أنَّ غير المتعدِّي لَا يلْزمه الْفَوْر فِي الْقَضَاء، وَلَك أَن تَقول: إِنَّمَا أخَّر لأمرٍ آخر وَهُوَ أَن فِي الْوَادي شَيْطَانا، كَمَا أخْبَر بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْفَائِتَة: فَلْيُصَلِّها إِذا ذكرهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سلف فِي بَاب التَّيَمُّم، فراجِعْهُ مِنْهُ.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الحَرَم: لَا ينفر صَيْدُه» .(6/336)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم فتح مَكَّة: «إنَّ هَذَا الْبَلَد حرَّمه الله يَوْم خلق السَّمَاوَات، لَا يعضد شَوْكُهُ، وَلَا يُخْتلى خَلاَهُ، وَلَا ينفر صيدُه، وَلَا تُلْتقط لُقَطَتُهُ إِلَّا لمعَرِّف. فَقَالَ الْعَبَّاس: إِلَّا الْإِذْخر؛ فَإِنَّهُ لَا بُد مِنْهُ (للقُيُون) والبيوت. فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخر» وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث أَبَى هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لمَّا فتح مكةَ قَالَ: «لَا ينفر صيدُها، وَلَا يُخْتَلى خَلاهَا، وَلَا تَحِلُّ ساقطتها إِلَّا لِمُنْشِد. فَقَالَ الْعَبَّاس: إِلَّا الْإِذْخر؛ فَإنَّا نجعله لِقُبُورِنَا وَبُيُوتنَا. فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخر» .
فَائِدَة: الْعَضُد: القطْع. والإِذْخر بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، كَذَا قيَّدَهُ (غيرُ واحدٍ) ، مِنْهُم صاحبُ «الإِمَام» وَهُوَ نَبْت طيب الرّيح، قَالَ الْخطابِيّ: وَهُوَ مكسور الأوَّل، والعامَّةُ تفتحه وَلَيْسَ بصوابٍ. والقَيْن: الحَدَّاد.
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن كَعْب بن عجْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي بَيْضِ نعَامٍ أَصَابَهُ المُحْرِمُ بِقِيمَتِهِ» .(6/337)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عباد بن يَعْقُوب، نَا إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى، عَن حُسَيْن بن عبد الله بن عبيد الله، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عباسٍ، عَن كَعْب بن عجْرَة: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي بَيْضِ النَّعَام أَصَابَهُ مُحْرِم بِقَدْر ثمنه» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ سَوَاء، ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ مُوسَى بن دَاوُد، عَن إِبْرَاهِيم وَقَالَ: «بِقِيمَتِه» وَهَذَا مَا فِي «الرَّافِعِيّ» وَعباد هَذَا هُوَ الروَاجِنِي، من رجال البُخَارِيّ، لَكِن قَالَ ابْن حبَان: هُوَ رَافِضِي دَاعِيَة، يروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير؛ فَاسْتحقَّ التركَ. وَقَالَ ابْن عدي: يروي أَحَادِيث أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ فِي فَضْلِ أهل البَيْتِ ومثالبِ غيرِهم. وَإِبْرَاهِيم هَذَا قد علمتَ حالَهُ فِي كتاب «الطَّهَارَة» وحُسَين هَذَا تَركه النسائيُّ وابْنُ الْمَدِينِيّ، وَقَالَ يَحْيَى: ضَعِيف. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِهِ بَأْس، يُكْتَبُ حديثُه. لَا جرم قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بشيءٍ.
قلت: وَرُوِيَ من طَرِيق آخر، رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي المهزم، عَن أبي هُرَيْرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي بَيْضٍ(6/338)
يُصِيبهُ الْمحرم ثمنه» . وَأَبُو المهزم هَذَا فتح الأميرُ (ابْن مَاكُولَا) الزايَ مِنْهُ، وَقَالَ ابْن نَاصِر: بِكَسْرِهَا. حَكَاهُ ابْن قُتَيْبَة فِيمَا غيَّرَهُ أَصْحَاب الحَدِيث من الْأَسْمَاء، واسْمه يزِيد بن سُفْيَان بَصرِي ضعَّفوه، قَالَ شُعْبَة: لَو أَعْطَوه فِلْسًا لَحَدَّثهم سبعين حَدِيثا. وَقَالَ ابْن حزم فِي «مُحَلاه» : هَالك. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَالَّذِي رَوَاهُ عَن أبي المهزم هُوَ عَلّي بن غرابٍ، (وَقد) عنعن وَلم يُصَرح (بِالتَّحْدِيثِ) ، وَهُوَ مَشْهُور بالتدليس وإنْ كَانَ صَدُوقًا.
قلت: بَين عَلّي بن غراب وَأبي المهزم «حسينُ المُعَلم» (كَذَا) هُوَ فِي «الدَّارَقُطْنِيّ» . وأمَّا ابْن مَاجَه فَفِي سَنَده بدل «عَلّي بن غرابٍ» : «عَلّي بن عبد الْعَزِيز» ، وَقيل: إِنَّه هُوَ، فتنبّه لذَلِك.
قَالَ الرّبيع: قلت للشَّافِعِيّ: (هَل) تروي (فِي) هَذِه المسألةِ شَيْئا عَالِيا؟ فَقَالَ: أما شَيْء يَثْبُتْ مِثْلُه فَلَا. فَقلت: مَا هُوَ؟ قَالَ: أَخْبرنِي الثِّقَة عَن أبي الزِّنَاد أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ «فِي بَيْضِ النعام يُصِيبهَا المُحْرِمُ قيمتهَا» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوي هَذَا مَوْصُولا، إِلَّا أَنه(6/339)
مُخْتَلف فِيهِ. قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» : وأجودُ مَا ورد فِي هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن يَحْيَى بن خلف، نَا أَبُو عَاصِم، عَن ابْن جريج قَالَ: أَخْبرنِي زِيَاد، عَن أبي الزِّنَاد قَالَ: بَلغنِي عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حكم فِي بيض النعام فِي كلِّ بَيْضَة صيامُ يَوْم» . قَالَ أَبُو دَاوُد: وَقد أسْند هَذَا الحَدِيث، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : إِن الصَّحِيح رِوَايَة زِيَاد، عَن أبي الزِّنَاد، عَن رجل، عَن عَائِشَة، قَالَه أَبُو دَاوُد السجستانيُّ وغيرُه من الحُفَّاظِ. وَقَالَ عبد الْحق: لَا يُسْنَدُ من وَجه صَحِيح.
قلت: وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا رَوَاهُ الدارقطنيُّ، وَقَالَ فِيهِ: زِيَاد بن سعد، عَن أبي الزِّنَاد، عَن رجل، عَن عَائِشَة. وَهَذَا فِي حُكْم الْمُنْقَطع، وَوَصله من حَدِيث أبي الزِّنَاد، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سألتُ أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ الوليدُ بن مُسلم، عَن ابْن جريج قَالَ: أحسن مَا سمعتُ فِي بيض النعام حَدِيث أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا فِي بَيْضِ النعامِ: «فِي كل بَيْضَةٍ صِيَام يومٍ، أَو إطْعَام مسكينٍ» . فَقَالَ: هَذَا حَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح عِنْدِي، وَلم يسمع ابْنُ جريج من أبي الزِّنَاد شَيْئا، يُشْبِهُ أَن يكون ابْن جريج أَخذه من إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : ذكر لِأَحْمَد بن حَنْبَل هَذَا الحديثُ فَقَالَ: لم يسمع ابْن جريج(6/340)
من أبي الزِّنَاد، إِنَّمَا يُرْوى عَن زِيَاد بن سعد عَن أبي الزِّنَاد.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَقْتُلُ المُحْرِمُ السَّبُعَ العَادِي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ كَذَلِك أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي «سنَنَيْهِمَا» ، والترمذيُّ فِي «جَامعه» من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عمَّا يَقْتُلُ المُحْرِمُ؟ قَالَ: الحَيَّة، وَالْعَقْرَب، والفُوَيسقة، وَيَرْمِي الغرابَ وَلَا يقْتله، وَالْكَلب الْعَقُور، والسَّبع العادي، والحدأة» . وَهُوَ من رِوَايَة يزِيد بن أبي زِيَاد، وَقد تكلم فِيهِ غيرُ واحدٍ، وَأخرج لَهُ مُسلم مُتَابعَة، وحسَّن التِّرْمِذِيّ حَدِيثه هَذَا وَلم يُصَحِّحهُ لأَجْلِهِ، وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : لم نَأْخُذ بِهَذَا الْخَبَر فِي النَّهْي عَن قَتْلِ الْغُرَاب؛ لِأَن (رَاوِيه) يزِيد بن أبي زِيَاد، وَقد قَالَ فِيهِ ابنُ الْمُبَارك: ارمِ بِهِ. عَلَى جمود لِسَان ابْن الْمُبَارك وَشدَّة توقيه، وَتكلم فِيهِ شعبةُ وأحمدُ، وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى: لَا يحْتَج بحَديثه. وكذَّبه أَبُو أُسَامَة وَقَالَ: لَو حلف خمسين يَمِينا مَا صدقته.
قلت: وَمَا نَقله عَن ابْن الْمُبَارك من قَوْله: «ارْم بِهِ» كَذَا نَقله(6/341)
ابْن الْجَوْزِيّ عَنهُ أَيْضا. لَكِن الَّذِي نَقله الحافظُ جمالُ الدِّين (الْمزي) عَنهُ أَنه قَالَ: أَكْرِم بِهِ. كَذَا هُوَ بخَطِّهِ، وَبَينهمَا تفَاوت لائح، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح المهذَّب» : إِن صَحَّ هَذَا الحَدِيث حُمِلَ قَوْلُهُ: «ويَرْمي الغرابَ وَلَا يقْتله» عَلَى أَنه لَا يتَأَكَّد ندب قَتله كتأكُّدِه فِي الحيَّة والفأرة وَالْكَلب الْعَقُور.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خَمْسُ فواسق يقتلن فِي الحَرَم: الْغُرَاب، والحدأة، وَالْعَقْرَب، والفأرة، وَالْكَلب الْعَقُور» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وَفِي رِوَايَة (لَهما) : «فِي الحِلِّ وَالْحرم» . وَلمُسلم عد «الْحَيَّة» منهُن، وَلم يذكرهَا البخاريُّ فِي هَذَا الحَدِيث، إِنَّمَا قَالَ: «الْعَقْرَب» وَلَا (قيد) الغرابَ بالأبقع، وَقَيده مُسلم بِهِ فِي رِوَايَة.
فَائِدَة: «خَمْس فواسق» : هُوَ بِإِضَافَة خمس لَا بتنوينه، كَمَا ذكره النوويُّ فِي «شَرحه لمُسلم» . وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيُّ الدِّين فِي «شرح(6/342)
العُمْدة» : الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة «خمس» بِالتَّنْوِينِ، (أَي) : و «فواسق» صفة لَهُ، وَتجوز بِالْإِضَافَة من غير تَنْوِين.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خَمْس من الدَّوَابّ لَيْسَ عَلَى المُحْرم فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاح ... » فَذكر (هَذَا) الحَدِيث الْمَذْكُور.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث ابْن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة لَهما: «فِي الحِلِّ وَالْإِحْرَام» ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «خمس من قتلهن وَهُوَ محرم فَلَا جُنَاح عَلَيْهِ» . وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن زيد بن جُبَير قَالَ: «سَأَلَ رجل ابْن عمر: مَا يقتل الرجل مِنَ الدَّواب وَهُوَ مُحْرِم؟ قَالَ: حدَّثني إحْدَى نِسْوَةِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه كَانَ يأمرُ بقتْل الْكَلْب، والفأرة، وَالْعَقْرَب، والحدأة، والغراب، والحيَّة. قَالَ: وَفِي الصَّلَاة أَيْضا» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي مَعْنَى هَذِه الْمَذْكُورَات الْحَيَّة وَالذِّئْب.(6/343)
قلت: قد ورد النصُّ فيهمَا، أمَّا الْحَيَّة؛ فقد أسلفناها فِي حَدِيث عَائِشَة قَرِيبا عِنْد مسلمٍ، وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر [محرما] بقَتْلِ حَيَّةٍ بمنى» قَالَ الْحَاكِم: وَهُوَ عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَعند أَحْمد من حَدِيث (جرير) عَن لَيْث، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خمس كُلهنَّ فاسقة، يقتلهن المُحْرِمُ ويُقْتَلْنَ فِي الْحرم: الْفَأْرَة، وَالْعَقْرَب، والحية، وَالْكَلب الْعَقُور، والغراب» . وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ ذكرهَا، وَقد (أسلفناه) فِي الحَدِيث الثَّامِن عشر. وَأما الذِّئْب: فَفِي «مَرَاسِيل أبي دَاوُد» عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يقتل المُحْرِمُ الذئبَ» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة عَن (وبرة) ونافعٍ عَن ابْن عمر مَرْفُوعا.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
ورد «النَّهْي عَن قَتْلِ النَّحْل والنمل» .(6/344)
هَذَا صَحِيح، فَفِي «مُسْند أَحْمد» و «سنَن أبي دَاوُد» فِي بَاب الْأَدَب - فِي آخِره - و «ابْنِ مَاجَه» فِي الصَّيْد، و «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن قَتْلِ أَربع مِنَ الدَّوَابّ: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد» . إِسْنَاده صَحِيح، قَالَ صَاحب «الإِمَام» : رِجَاله رجال الصَّحِيح. وَخَالف أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة، فَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سألتُ أبي عَنهُ فَقَالَ: هُوَ حَدِيث مُضْطَرب. قَالَ: وَقَالَ أَبُو زرْعَة: الصَّحِيح أَنه مُرْسل. وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي أَوَائِل بَاب الْأَطْعِمَة من طرق عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ: إِنَّه أَقْوَى مَا ورد فِي هَذَا الْبَاب. قَالَ: وَقد رُوي من حَدِيث عبد الْمُهَيْمِن بن عَبَّاس بن سهل بن سعد (السَّاعِدِيّ) قَالَ: سمعتُ أبي يذكر عَن (جَدِّي) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنه نهَى عَن قَتْلِ الْخَمْسَة: عَنِ النملة، والنحلة، والضفدع، والصرد، والهدهد» . قَالَ: وَهَذِه الطَّرِيق تفرد بهَا عبد الْمُهَيْمِن بن عَبَّاس (وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : ورُوي(6/345)
هَذَا الحَدِيث أَيْضا من طَرِيق أبي هُرَيْرَة) ، وَهُوَ وهم، وَإِنَّمَا الصَّوَاب أَنه عَن عبد الله بن عَبَّاس.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
ورد «النَّهْي عَن قَتْل الخطاف» .
هُوَ كَمَا قَالَ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة أبي الْحُوَيْرِث عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة - وَهُوَ من تَابِعِيّ التَّابِعين (أَو من التَّابِعين) - عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنه نهَى عَن قَتْل الخطاطيف، وَقَالَ: لَا تقتلُوا هَذِه العوذ، إِنَّهَا تعوذ بكم من غَيْركُمْ» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، عَن عباد بن إِسْحَاق، عَن أَبِيه قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن (الخطاطيف) عُوَّذِ البيوتِ» . وَمن هَذَا الْوَجْه أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كِلَاهُمَا مُنْقَطع. قَالَ: وَرَوَى حَمْزَة النصيبي فِيهِ حَدِيثا مُسْندًا، إِلَّا أَنه كَانَ يُرْمى بِالْوَضْعِ. وصَحَّ عَن عبد الله بن عَمرو بن الْعَاصِ (مَوْقُوفا) عَلَيْهِ أَنه قَالَ: «لَا تقتلُوا الضفادع؛ فَإِن نقيقها تَسْبِيح، وَلَا تقتلُوا الخفاش؛ فَإِنَّهُ لمَّا خَرِبَ بيتُ المقْدِسِ قَالَ: يَا ربِّ سَلطنِي (عَلَى) الْبَحْر حَتَّى أُغْرِقَهُمْ» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده صَحِيح. وَفِي(6/346)
بعض نُسَخ «التَّذْكِرَة» لِابْنِ طَاهِر الْحَافِظ من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «النهيُّ عَن قَتْلِ الخطاطيف والأمرُ بقَتْل العنكبوت، وَكَانَ يُقَال: إِنَّهَا مسخ» . أعلَّه ب «عَمرو بْنِ جُمَيْع» ، قَالَ يَحْيَى: كَانَ كذابا خبيثًا.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
وَرَدَ «النَّهْي عَن قَتْل الضُّفْدَع» .
هُوَ كَمَا قَالَ، رَوَاهُ أَحْمد فِي «الْمسند» وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن عبيد الله التَّيْمِيّ الصَّحَابِيّ، وَهُوَ ابْن أخي طَلْحَة بن عبيد الله، قَالَ: «ذكر طَبِيب عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دَوَاء وذَكَرَ الضفدعَ يُجْعَلُ فِيهِ؛ فَنَهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن قَتْلِ الضفدع» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِنَّه أَقْوَى مَا رُوِيَ فِي النهْي. وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن قَتْلِ: الصرد، والضفدع، والنملة، والهدهد» . وَفِي سَنَدِهِ إِبْرَاهِيم بن الْفضل المَخْزُومِي، وَقد تَركه غيرُ واحدٍ، وَقَالَ خَ وغيرُه: مُنْكَر الحَدِيث.(6/347)
تَنْبِيه: وَقع فِي «الْخُلَاصَة» عَلَى مَذْهَب الْحَنَفِيَّة: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن الضفدع يَجْعَل شحمه فِي الدَّوَاء؟ فَقَالَ: خَبِيث من الْخَبَائِث» . وَلم أره بِهَذَا اللَّفْظ؛ (نعم اللَّفْظ) الْأَخير وَرَدَ فِي (القنفد) ، كَمَا سَتَعْلَمُهُ فِي كتاب الْأَطْعِمَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَحْمُ الصَّيْد حَلَال لكم فِي الْإِحْرَام مَا لم تصطادوا (أَو) لم يُصد لكم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وابْنُ حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من حَدِيث عَمرو بن أبي عَمرو ميسرةَ مولَى الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب، عَن مَوْلَاهُ الْمطلب، عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «صَيْدُ البَرِّ لكم حَلَال مَا لم(6/348)
تصيدوه أَو يُصَاد لكم» هَذَا لفظ د، س، ت، إِلَّا أَن ت، س قَالَا: «يصد لكم» بِحَذْف الألِف، وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وحَذَفَ ابْن حبَان لَفْظَة «لكم» وَلَفظ الْحَاكِم مثل رِوَايَة الْأَوَّلين وَقَالَ: «يُصاد» بالألِف، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «لحم صيد البَرِّ لكم حَلاَل وَأَنْتُم حرم مَا لم تصيدوه أَو يصاد لكم» . وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ كهاتين الرِّوَايَتَيْنِ.
وَإسْنَاد هَذَا الحَدِيث إِلَى عَمرو (بن أبي عَمرو) صَحِيح، وأمَّا عَمرو بن أبي عَمرو فقد ليَّنَهُ جَماعة، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِقَوي وَإِن كَانَ قد رَوَى عَنهُ مَالك. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: لَا يحْتَج بحَديثه. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِقَوي وَلَيْسَ بحُجَّةٍ. وَقَالَ السَّعْدِيّ: مُضْطَرب الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَيْسَ بالقويّ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ مستضعف، وَأَحَادِيثه تدل عَلَى حالِهِ. (وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي «محلاه» : هَذَا خبر سَاقِط لأَجله) . وَأَشَارَ الترمذيُّ إِلَى تَضْعِيف الحَدِيث من وَجْهٍ آخَر فَقَالَ: لَا نَعْرِف للمطلَّب سَمَاعا من جابرٍ. وَقَالَ فِي موضعٍ آخر: قَالَ مُحَمَّد: لَا أعرف للمطلب سَمَاعا من أحدٍ من الصَّحَابَة إِلَّا قَوْله:(6/349)
«حدَّثني مَنْ شهد خُطْبةَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وَسمعت عبد الله بن عبد الرَّحْمَن - يَعْنِي: الدَّارمِيّ - يَقُول: لَا نَعْرف لَهُ سَمَاعا من أحدٍ من الصَّحَابَة. وطَعَنَ فِي الْمطلب ابْنُ سَعْدٍ فَقَالَ: لَيْسَ يُحتج بحَديثه؛ لِأَنَّهُ يُرْسل عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كثيرا (و) لَيْسَ لَهُ لِقَاء، وعامَّة أَصْحَابه يدلِّسُون.
وَالْجَوَاب عَن هَذِه التعليلات: أما تَضْعِيف عَمرو فَلَا يقبل؛ فَإِنَّهُ من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» ، و «السّنَن الْأَرْبَعَة» رووا عَنهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ، وَاحْتج بِهِ أَيْضا الإمامُ مَالك، ورَوى عَنهُ وَهُوَ الْقدْوَة، وَقد عُلِم من عَادتِهِ أَنه لَا يروي فِي كِتَابه إِلَّا عَن ثِقَة، وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل فِيهِ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو زُرْعة: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بِهِ؛ لِأَن مَالِكًا رَوَى عَنهُ، وَلَا يروي مَالك إلاَّ عَن صَدُوق ثِقَة. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ: رُبمَا أَخطَأ، يُعْتَبَرُ بحَديثه من رِوَايَة الثِّقَات عَنهُ.
وَهَذَا الحَدِيث كل من رَوَاهُ عَنهُ فَهُوَ ثِقَة، وَقد أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من جِهَته، (والحاكمُ) فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ: وَرَوَاهُ عَن عَمرو يعقوبُ بن عبد الرَّحْمَن الإسْكَنْدراني وَيَحْيَى بن عبد الله بن سَالم، ومالكُ بْنُ أنسٍ، وسليمانُ بْنُ بِلَال مسنَدًا مُتَّصِلا، وهم ثِقَات. قَالَ: وَلَا يُعلل هَذَا بِحَدِيث الشَّافِعِي، عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن عَمرو بن أبي عَمْرو، عَن رجلٍ مِنَ(6/350)
الْأَنْصَار، عَن جَابر مَرْفُوعا، فَإِن الْأَوَّلين وصَلُوه، وهم ثِقَات. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: حَدِيث صَحِيح عَن عَمرو بن أبي عَمرو. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : أَقَامَ ثَلَاثَة من الثِّقَات إِسْنَاد هَذَا الحديثِ عَن عَمرو، وهُمْ: يَحْيَى بْنُ عبد الله بن سَالم، ويعقوبُ بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ، وَسليمَان بن بِلَال. قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الشافعيُّ عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد (عَن) عَمرو، وَعَن الثِّقَة عِنْده، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن عَمروٍ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن أبي دَاوُد، عَن مَالك (بن) أنس، عَن عَمرو. قَالَ: ورَوَاهُ عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي، عَن عَمرو، عَن رجل من بني سَلمَة، عَن جابرٍ مَرْفُوعا. قَالَ الشَّافِعِي: وَابْن أبي يَحْيَى أحفظ من الدراورديِّ وَسليمَان مَعَ ابْن أبي يَحْيَى. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَلِكَ يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن وَيَحْيَى بن عبد الله بن سَالم وهما مَعَ سُلَيْمَان من الْأَثْبَات.
قلت: (فَحصل) من ذَلِك كُله تَوْثِيق عَمرو، (وَتَصْحِيح) هَذَا الحَدِيث، ومَنْ جرح عَمرو بْنَ أبي (عَمرو) فَلم (يفسِّرْ) جرحه، وَقد عُرف أَن الْجرْح لَا يقبل إِلَّا مُفَسرًا. قَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا الحَدِيث أَحْسَنُ شَيْء رُوي فِي هَذَا الْبَاب وأَقيس. وأمَّا إِدْرَاك الْمطلب(6/351)
لجابرٍ، فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: رَوَى (عَن) جَابر، وَيُشبه أَن يكون أدْرَكَهُ. هَذَا كَلَامه؛ فَحصل شكّ فِي إِدْرَاكه، وَمذهب مُسلم بن الْحجَّاج الَّذِي ادَّعَى فِي مُقَدّمَة «صَحِيحه» الْإِجْمَاع عَلَيْهِ أَنه لَا يُشْتَرَطُ فِي اتِّصَال الحَدِيث اللِّقَاء (بل) يَكْفِي إِمْكَانه. والإمكان حَاصِل قطعا، وَمذهب عَلّي بن الْمَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ والأكثرين اشْتِرَاط ثُبُوت اللِّقَاء. فَعَلَى مَذْهَب مُسلم الحَدِيث مُتَّصِل، وَعَلَى مَذْهَب الْأَكْثَرين يكون مُرْسل بعض التَّابِعين. ومرسل التَّابِعِيّ الْكَبِير حُجَّة إِذا اعتضد بِأحد أمورٍ، مِنْهَا: قَول بعض الصَّحَابَة بِهِ. وَقد قَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَة عثمانُ بْنُ عَفان، كَمَا نَقله (ابْن) الْمُنْذر عَنهُ. وَمِنْهَا: أَن يسند من جِهَة أُخْرَى. وَقد وُجدَ ذَلِك أَيْضا؛ فقد رَوَاهُ الخطيبُ فِي كتاب «مَنْ رَوى عَن مَالك» من حَدِيث عُثْمَان بن خَالِد الْمدنِي، نَا مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عُمر (قَالَ) : قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الصَّيْد يَأْكُلهُ الْمحرم مَا لم يصده أَو يصد لَهُ» . ثمَّ قَالَ الْخَطِيب: تفرَّد بروايته عُثْمَان عَن مَالك.
قلت: وَعُثْمَان ضعَّفوه، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من(6/352)
حَدِيث يُوسُف بن خَالِد (السَّمْتِي) ، عَن عَمرو بن أبي عَمرو، عَن الْمطلب، عَن (أبي) مُوسَى الْأَشْعَرِيّ (مَرْفُوعا) : «لحمُ الصَّيْد حَلَال لكم مَا لم تصيدوه أَو يُصَدْ لكم وَأَنْتُم حُرُم» . ويوسف هَذَا واهٍ. وَأما الْكَلَام فِي الْمطلب (فقد خَالف) ابْنَ سعد أَبُو زرْعَة فَقَالَ: ثِقَة. وَكَذَا وثَّقه الدارقطنيُّ وغيرُه.
فَائِدَة: رِوَايَة: «أَو يصاد لكم» بالألفِ، لَا إِشْكَال فِيهَا، وَرِوَايَة مَنْ رَوَى: «أَو يُصَدْ» بحذفها، جَائِزَة عَلَى لُغَة، وَمن ذَلِك: قَوْله تَعَالَى: (إِنَّه من يتقِ ويصبر) عَلَى قِرَاءَة من قَرَأَ بِالْيَاءِ، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
بِمَا لاقتْ لَبُونُ بني زِياد
ألَمْ يَأْتيكَ والأَنْبَاءُ تَنْمى
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
عَن أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه خرج مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتخلف مَعَ بعض أَصْحَابه، وَهُوَ حَلَال وهم محرمون، فَرَأَوْا حمر وَحش، فَاسْتَوَى عَلَى(6/353)
فَرَسه ثمَّ سَأَلَ أصحابَه أَن يناولوه سَوْطًا فَأَبَوا فسألَهُم رمْحَه، فَأَبَوا، فَأَخذه وَحمل عَلَى الْحمر فعقر مِنْهَا أَتَانَا، فَأكل مِنْهَا بَعضهم وأَبَى بَعضهم، فلمَّا أَتَوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَأَلُوهُ، فَقَالَ: هَل مِنْكُم أحد أمره أَن يحمل عَلَيْهَا أَو أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِي من لَحمهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنهُ، قَالَ: «كُنْتُ يَوْمًا جَالِسا مَعَ رجالٍ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي منزلٍ فِي طَرِيق مَكَّة، وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[نَازل] أمامنا، وَالْقَوْم مُحْرِمُون وَأَنا غيرُ مُحْرِم، عَام الْحُدَيْبِيَة، فأبْصَرُوا حمارا وحشيًّا وَأَنا مَشْغُول أَخْصِفُ نَعْلي، فَلم (يُؤْذِنُوني) وأحبوا لَو أَنِّي (أبصرته) ، فقمتُ إِلَى الفرسِ فأسرجته (ثمَّ) ركبتُ ونسيتُ السَّوْطَ والرُّمْحَ؛ فَقلت لَهُم: نَاوِلُوني السَّوْطَ والرُّمْحَ، قَالُوا: لَا واللهِ لَا نُعِينكَ عَلَيْهِ [بِشَيْء] ، فغضبتُ فنزلتُ (فأخذتُهما) ، ثمَّ ركبتُ، فشددتُ عَلَى الْحمار فعقرتُه، ثمَّ جئتُ بِهِ وَقد مَاتَ، فوقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ، ثمَّ إنَّهُمْ شكُّوا فِي أكْلِهم إِيَّاه وهم حُرُم، فرحنا وخبَّأتُ العضدَ (معي) فأدركْنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(6/354)
(فسألنَْاهُ) عَن ذَلِك، فَقَالَ: هَل مَعكُمْ مِنْهُ شَيْء؟ فَقلت: نَعَمْ. فناولْتُه العَضُدَ، فَأكلهَا [حَتَّى نَفَّدَها] وَهُوَ مُحْرِم» . وَفِي رِوَايَة لَهما: «إِنَّمَا هِيَ طعمة أطعمكموها اللَّهُ» . وَفِي أُخْرَى لَهما: «فَهُوَ حَلَال، فَكُلُوا» . وَفِي رِوَايَة لَهما من حَدِيث أبي قَتَادَة: فَقَالَ لَهُم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «هَل مِنْكُم أحد أمره أَن يَحْمِل عَلَيْهَا، أَو أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فكُلُوا مَا بَقِي مِنْ لَحمهَا» وَفِي رِوَايَة لمُسلم: « (هَل) أَعنتم أَو أَشرتم أَو أصدتم» . وَفِي رِوَايَة لَهُ قَالَ: «هَل مَعكُمْ مِنْهُ شَيْء؟ قَالَ: مَعنا رِجله. فَأَخذه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأكلهَا» . وَفِي رِوَايَة للطحاويِّ فِي «شرح الْآثَار» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث أَبَا قَتَادَة (عَلَى) الصَّدَقَة، وَخرج عَلَيْهِ السَّلَام وأصحابُه وهُمْ مُحْرِمُون، حَتَّى نزلُوا عسفانَ، وَجَاء أَبُو قَتَادَة وَهُوَ حل ... » الحَدِيث. وَفِي(6/355)
رِوَايَة للدارقطني وَالْبَيْهَقِيّ فِي حَدِيث أبي قَتَادَة أَنه قَالَ حِين اصطاد الْحمار الوحشي: « (فذكرتُ) شَأْنه لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (وذكرتُ) أَنِّي لم أَكُن أحرمتُ، وَأَنِّي إِنَّمَا اصطدته لَك، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَصْحَابه، فأكَلُوا وَلم يأكُلْ حِين أخبرتُه أَنِّي اصطدتُه لَهُ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ أَبُو (بكر) النيسابوريُّ: قَوْله: «إِنَّمَا اصطدتُه لَك» وَقَوله: « (و) لم يأكلْ مِنْهُ» لَا أعلم أحدا ذكَرَه فِي هَذَا الحَدِيث غير معمر، وَهُوَ مُوَافق لِمَا رُوي عَن عُثْمَان.
قَالَ ابْن حزم فِي «مُحَلاَّه» : وَلم يذكر سماعَه من عبد الله بن أبي قَتَادَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذِه الزِّيَادَة غَرِيبَة، وَالَّذِي فِي «الصَّحِيحَيْنِ» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أكل مِنْهُ» ، وَإِن كَانَ الإسنادان (صَحِيحَيْنِ) ، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح المهذَّب» : ويُحْتمل أَنه جَرَى لأبي قَتَادَة فِي تِلْكَ (السفرة) قضيتان للجَمْع (بَين) الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ ابْن حزم: إِنَّهَا قَضِيَّة وَاحِدَة(6/356)
فِي وَقت وَاحِد فِي مَكَان وَاحِد، فِي صيدٍ واحدٍ. قَالَ: وَلَا يشك أحد فِي أَن أَبَا قَتَادَة لم يصد الْحمار إِلَّا لنَفسِهِ ولأصحابه وهم محرمون، فَلم يمنعهُم رَسُول الله من أكله. وَخَالفهُ ابْن عبد الْبر فَقَالَ: كَانَ اصطياده الْحمار لنَفسِهِ لَا لأَصْحَابه، وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وجَّه أَبَا قَتَادَة عَلَى طَرِيق الْبَحْر مَخَافَة العدوِّ، فَلذَلِك لم يكن محرما إِذْ اجْتمع مَعَ أَصْحَابه؛ لِأَن مخرجهم لم يكن وَاحِدًا. قَالَ: وَكَانَ ذَلِك عَام الْحُدَيْبِيَة أَو بعده بعام عَام الْقَضِيَّة.
آخر الْجُزْء الرَّابِع، بحَمْدِ الله وعونه(6/357)
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
«أَن الصَّعْب بن جَثَّامة أهْدَى للنَّبِي (حمارا وحشيًّا فَرده عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجهه قَالَ: إِنَّا لم نَرده عَلَيْك إِلَّا أَنا حرم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) كَذَلِك، وَفِي روايتهما: «أَنه أهداه لَهُ وَهُوَ بالأبواء، أَو بودان» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «من لحم حمَار وَحش» . (وَفِي رِوَايَة لَهُ: «رجل حمَار وَحش» ) . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «عجز حمَار وَحش يقطر دَمًا» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «شقّ حمَار وَحش» . وَفِي رِوَايَة لَهُ فِي حَدِيث زيد بن أَرقم: «عُضْو من لحم صيد» . وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث (فِي) شرح الْعُمْدَة، فَليُرَاجع مِنْهُ.
والصَّعْب: بِفَتْح الصَّاد، وَإِسْكَان الْعين الْمُهْملَة، وجَثَّامة: بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الْمُثَلَّثَة.(6/358)
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي شُرُوط الصَّلَاة، فَرَاجعه من ثمَّ.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَضَى فِي الضَّبع بكبش» .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق، أقواها وأصحها رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أبي عمار، عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الضبع، فَقَالَ: هُوَ صيد، وَيجْعَل فِيهِ كَبْش إِذا صَاده الْمحرم» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَسكت عَلَيْهِ، (و) التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَالنَّسَائِيّ، وَصَححهُ ابْن حبَان أَيْضا وَلَفظه: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الضبع، فَقَالَ: هِيَ صيد، وفيهَا كَبْش» ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن هَذَا الْخَبَر تفرد بِهِ جرير بن (حَازِم) يَعْنِي(6/359)
رَاوِيه عَن عبد الله بن عبيد، عَن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور، ثمَّ سَاق من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن جُريج، عَن عبد الله بن عبيد، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمار، قَالَ: «سَأَلت جَابِرا عَن الضبع آكله؟ قَالَ: نعم. قلت: أصيد هُوَ؟ قَالَ: نعم، قلت: عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: نعم» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ: «جعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الضبع يُصِيبهُ الْمحرم كَبْشًا نجديًّا، وَجعله من الصَّيْد» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه كَذَلِك، إِلَّا أَنه لم يقل «نجديًّا» .
وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الضبع صيد؛ فَإِذا أَصَابَهُ الْمحرم فَفِيهِ جَزَاء كَبْش مسن ويؤكل» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بقريب من لفظ أبي دَاوُد (و) بقريب من لفظ الْحَاكِم الآخر، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث [جيد] تقوم بِهِ الْحجَّة. قَالَ: وَقَالَ أَبُو عِيسَى: سَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ فَقَالَ: هُوَ حَدِيث صَحِيح.
وَقَالَ عبد الْحق فِي كتاب الْأَضَاحِي من «أَحْكَامه» : إِسْنَاده صَحِيح، و (سكت) عَلَيْهِ هُنَا.
وَله طَرِيق أُخْرَى عَن جَابر رَوَاهُ الْأَجْلَح الْكِنْدِيّ، عَن أبي الزبير عَنهُ(6/360)
مَرْفُوعا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، وروياه أَيْضا مَوْقُوفا. قَالَ ابْن الْقطَّان: الْأَجْلَح يرفعهُ، وَالْجَمَاعَة تقفه. قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ.
الطَّرِيق الثَّانِي: رِوَايَة عَمْرو بن أبي عَمْرو، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الضبع صيد، وَجعل فِيهِ كَبْشًا» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ، وَعَمْرو هَذَا الْأَكْثَرُونَ عَلَى توثيقه كَمَا تقدم قَرِيبا فِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سعيد بن سَالم، عَن ابْن جريج، عَن عِكْرِمَة مولَى ابْن عَبَّاس يَقُول: «أنزل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ضبعًا (صيدا) ، وَقَضَى فِيهَا كَبْشًا» ، ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا حَدِيث لَا يثبت مثله لَو انْفَرد. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لانقطاعه، ثمَّ أكده بِحَدِيث ابْن أبي عمار السالف، قَالَ: وَقد رُوِيَ مَوْصُولا، فَذكره كَمَا أسلفناه.
وَرَوَاهُ مَوْقُوفا عَلَى ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «فِي الضبع كَبْش» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة، عَن عَلّي.
الطَّرِيق الثَّالِث: من رِوَايَة الْأَجْلَح، عَن أبي الزبير، عَن جَابر، عَن عمر بن الْخطاب - قَالَ: لَا أرَاهُ إِلَّا قد رَفعه -: «أَنه حكم فِي الضبع(6/361)
بكبش، وَفِي الغزال (بعنز) ، وَفِي الأرنب بعناق، وَفِي اليربوع بجفرة» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ: الصَّحِيح أَنه مَوْقُوف عَلَى عمر، كَذَلِك رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مَالك، عَن أبي الزبير، عَن جَابر عَنهُ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عبد الْملك بن [أبي] سُلَيْمَان، عَن عَطاء، عَن جَابر عَنهُ، وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِن الْمَوْقُوف أصح من الْمسند.
قلت: وَالْأَجْلَح صَدُوق شيعي جلد، قَالَ يَحْيَى: ثِقَة. وَقَالَ ابْن عدي: لم أجد لَهُ شَيْئا مُنْكرا إِلَّا أَنه يعدُّ فِي شيعَة الْكُوفَة، وَهُوَ صَدُوق. وَقَالَ السَّعْدِيّ: مفتر. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ لَا يدْرِي مَا يَقُول؛ جعل أَبَا سُفْيَان أَبَا الزبير. وَقَالَ أَحْمد: قد رَوَى غير حَدِيث مُنكر. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بِهِ.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله عَزَّ وجَلَّ حرم مَكَّة، لَا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلَا يعضد شَجَرهَا وَلَا ينفر صيدها. فَقَالَ الْعَبَّاس: إِلَّا الْإِذْخر يَا رَسُول الله؛ فَإِنَّهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتنَا، فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخر» .(6/362)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا تقدم فِي الْبَاب، وَهُوَ الحَدِيث السَّادِس عشر. (وَقَول الرَّافِعِيّ فِي الشوك، وَفِي وَجه اخْتَارَهُ صَاحب التَّتِمَّة أَنَّهَا مَضْمُونَة لإِطْلَاق الْخَبَر.
قلت: بل صَرِيحَة فِيهِ وَهِي لَا يعضد شَوْكهَا) .
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استهدي بِمَاء زَمْزَم (من) سُهَيْل بن عَمْرو عَام الْحُدَيْبِيَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الله بن المؤمل، وَقد سلف حَاله فِي أَوَاخِر الْبَاب قبله، عَن (ابْن مُحَيْصِن) ، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «استهدى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُهَيْل بن عَمْرو [من] مَاء زَمْزَم» .
قَالَ: وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، ثمَّ رُوِيَ من حَدِيث خَلاد بن يَحْيَى، ثَنَا إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، ثَنَا أَبُو الزبير قَالَ: «كُنَّا عِنْد جَابر بن عبد الله فَذكر حَدِيث: «مَاء زَمْزَم لما شرب لَهُ» قَالَ: ثمَّ أرسل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ (بِالْمَدِينَةِ) قبل أَن تفتح مَكَّة إِلَى سُهَيْل بن عَمْرو: أَن أهد لنا (من) مَاء زَمْزَم وَلَا يتْرك. قَالَ: فَبعث إِلَيْهِ بمزادتين» .(6/363)
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة مِثْلَمَا حرم إِبْرَاهِيم مَكَّة، لَا ينفر صيدها وَلَا يعضد شَجَرهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلاهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، خرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عبد الله بن زيد بن عَاصِم، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة ودعا لأَهْلهَا، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة كَمَا حرم إِبْرَاهِيم مَكَّة» .
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ بِلَفْظ: «اللَّهُمَّ إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة فَجَعلهَا حرما، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة حَرَامًا مَا بَين مأْزِمَيْها، أَلا يهراق فِيهَا دم، وَلَا يحمل فِيهَا سلَاح لقِتَال، وَلَا يُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَة إِلَّا لعلف» .
وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث جَابر بِلَفْظ: «إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة مَا بَين لابتيها، لَا يقطع عضاهها وَلَا يصاد صيدها» .
وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» ، من حَدِيث أبي قَتَادَة: «اللَّهُمَّ إِنِّي حرمت مَا بَين لابتيها، كَمَا حرمت عَلَى لِسَان إِبْرَاهِيم الْحرم» .
وَأخرجه مُسلم أَيْضا من حَدِيث رَافع بن خديج، وَسعد بن أبي(6/364)
وَقاص، وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث أنس.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنِّي (أحرم) مَا بَين لابتي الْمَدِينَة أَن يقطع عضاهها، أَو يقتل صيدها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص رَضي اللهُ عَنهُ بِهَذَا اللَّفْظ وَزِيَادَة.
واللابتان: الحرتان وَهِي أَرض (تلبسها) حِجَارَة سود، والعِضاه: الشّجر.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
«أَن سعد بن أبي وَقاص أَخذ سلب رجل قتل صيدا فِي الْمَدِينَة، وَقَالَ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: من رَأَى رجلا يصطاد بِالْمَدِينَةِ فليسلبه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عَامر بن سعد: «أَن سَعْدا ركب إِلَى قصره بالعقيق فَوجدَ عبدا يقطع شَجرا أَو يخبطه فسلبه، فَلَمَّا رَجَعَ سعد جَاءَهُ أهل العَبْد (فكلموه) أَن يرد عَلَى(6/365)
غلامهم (أَو) عَلَيْهِم مَا أَخذ من غلامهم، فَقَالَ: معَاذ الله أَن أرد شَيْئا نفلنيه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَأَبَى أَن يرد عَلَيْهِم» . وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم، واستدركه الْحَاكِم، وَقَالَ: إِنَّه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ.
وَقَالَ الْبَزَّار بعد أَن أخرجه: هَذَا الحَدِيث لَا نعلم رَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا سعد بن أبي وَقاص، وَلَا رَوَاهُ عَن سعد إِلَّا (عَامر) بن سعد.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: قد رَوَيْنَاهُ من حَدِيث سُلَيْمَان بن أبي عبد الرَّحْمَن، عَن سعد، وَمن حَدِيث مولَى سعد، عَن سعد، فَلَعَلَّهُ (أَرَادَ) من وَجه يثبت.
(فَائِدَة) : العقيق هَذَا بَينه وَبَين الْمَدِينَة عشرَة أَمْيَال، وَبِه مَاتَ سعد وَحمل إِلَى الْمَدِينَة وَدفن بهَا، (هَكَذَا) نقل الْحَافِظ محب الدَّين فِي «أَحْكَامه» عَن ابْن الْجَوْزِيّ أَن بَينهمَا عشرَة أَمْيَال، ثمَّ قَالَ: وَمَا أرَاهُ إِلَّا أقرب إِلَى الْمَدِينَة من هَذِه الْمسَافَة.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ: «أَنهم كلموا سَعْدا فِي هَذَا السَّلب، فَقَالَ: مَا كنت لأرد طعمة أطعمنيها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
قلت: هَذِه الرِّوَايَة بِهَذَا اللَّفْظ أخرجهَا أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من رِوَايَة سُلَيْمَان بن أبي عبد الله، قَالَ: «رَأَيْت سعد بن أبي وَقاص أَخذ(6/366)
رجلا يصيد فِي حرم الْمَدِينَة الَّذِي حرم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فسلب ثَوْبه) فجَاء موَالِيه فكلموه فِيهِ، فَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حرم هَذَا الْحرم، وَقَالَ: من وجد أحدا يصيد فِيهِ فليسلبه، فَلَا أرد عَلَيْكُم طعمة أطعمنيها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلَكِن إِن شِئْتُم دفعت إِلَيْكُم ثمنه» .
رِجَاله كلهم ثِقَات، إِلَّا سُلَيْمَان بن أبي عبد الله، فَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ هُوَ بالمشهور لَكِن يعْتَبر بحَديثه، وَلم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد، وَذكره أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَفِي رِوَايَة للبيهقي «أَن (سَعْدا) كَانَ يخرج من الْمَدِينَة فيجد الحاطب من الْحطاب مَعَه شجر رطب قد عضده من بعض شجر الْمَدِينَة فَيَأْخُذ سلبه، فَيُكَلَّم فِيهِ. فَيَقُول: لَا أدع غنيمَة غنمنيها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَإِنِّي لمن أَكثر النَّاس مَالا» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم بِهَذَا اللَّفْظ أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح (الْإِسْنَاد) .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صَيدُ وجّ مُحَرَّمٌ للهِ - تَعَالَى» .
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) ، أخرجه أَبُو دَاوُد (فِي «سنَنه» ) مُنْفَردا(6/367)
بِهِ، عَن (حَامِد) بن يَحْيَى، عَن عبد الله بن الْحَارِث، عَن مُحَمَّد بن عبد الله الطَّائِفِي، عَن أَبِيه، عَن عُرْوَة بن الزبير، (عَن أَبِيه) ، قَالَ: «لما أَقبلنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من لِيَّة حَتَّى إِذا كُنَّا عِنْد السِّدْرَة وقف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي طرف القَرْن الْأسود حذوها فَاسْتقْبل نَخِْبا ببصره - وَقَالَ مرّة: واديه - وقف حَتَّى (اتَّقَفَ) النَّاس كلهم، ثمَّ قَالَ: إِن صيدَ وجٍّ وعِضَاهه حَرْم مُحَرَّمٌ (لله» ) . وَذَلِكَ قبل نزُول الطَّائِف وحصاره لثقيف. سكت عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ عَلَى قَاعِدَته حسن أَو صَحِيح، وَكَذَا سكت عَلَيْهِ عبد الْحق، وَهُوَ قَاض بِصِحَّتِهِ عِنْده. (و) رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، عَن عبد الله بن الْحَارِث المَخْزُومِي: حَدَّثَني مُحَمَّد بن عبد الله بن إِنْسَان، وَأَثْنَى عَلَيْهِ خيرا، ثمَّ سَاقه، (وَمُحَمّد بن عبد الله هَذَا) قَالَ أَبُو حَاتِم: إِنَّه لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَفِي حَدِيثه نظر. وَذكره البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه الْكَبِير» وَذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: لم يُتَابع عَلَيْهِ،(6/368)
وَذكر أَبَاهُ وَذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: لم يَصح. وَكَذَا قَالَ الْأَزْدِيّ، وَقَالَ ابْن حبَان: رَوَى عَنهُ ابْنه مُحَمَّد، لم يَصح حَدِيثه. وَنقل مثل هَذِه الْعبارَة فِيهِ أَيْضا عَن البُخَارِيّ ابْن الْقطَّان فِي «علله» ، وَذكر ابْن أبي خَيْثَمَة، عَن ابْن معِين أَنه قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَذكر الْخلال فِي «علله» أَن أَحْمد ضعفه. وَقَالَ ابْن حبَان فِي «ثقاته» : كَانَ يُخطئ. وَمثل هَذِه الْعبارَة لَا تقال إِلَّا فِيمَن رَوَى عدَّة أَحَادِيث، فَأَما عبد الله فَهَذَا الحَدِيث أول مَا عِنْده وَآخره، فَإِن كَانَ قد أَخطَأ فَحَدِيثه مَرْدُود عَلَى قَاعِدَة ابْن حبَان.
وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابع مُحَمَّد هَذَا إِلَّا من جِهَة تقاربها، قَالَ: وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء إِلَّا مَرَاسِيل، وَإسْنَاد آخر يُقَارب هَذَا.
وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ فِي «علله» : يرويهِ عبد الله بن الْحَارِث المَخْزُومِي، عَن مُحَمَّد بن عبد الله (بن عبد الله) بن إِنْسَان، عَن أَبِيه، عَن عُرْوَة بن الزبير، عَن الزبير، كَذَلِك رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه. (والْحميدِي، وَحدث الْبَغَوِيّ، عَن أَحْمد بن حَنْبَل، عَن عبد الله بن الْحَارِث، فَقَالَ: عَن عبد الله بن عبد الله بن إِنْسَان. إِنَّمَا هُوَ(6/369)
مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الله، كَذَلِك حدث بِهِ عبد الله بن أَحْمد ومُوسَى بن هَارُون، عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحميدِي وَإِسْحَاق.
وَأغْرب الذَّهَبِيّ فَقَالَ فِي «مِيزَانه» : إِن الشَّافِعِي صحّح حَدِيثه وَاعْتمد عَلَيْهِ.
قلت: وَضَعفه من الْمُتَأَخِّرين: النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب، والتهذيب» : إِسْنَاده ضَعِيف. قَالَ: وَقَالَ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» : لَا يَصح. وَخَالف الْمُنْذِرِيّ فَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب، فَقَالَ: إِنَّه حَدِيث حسن بعد أَن سَاقه من طَرِيق أبي دَاوُد، وَقد خَالف هَذَا فِي مُخْتَصر سنَن أبي دَاوُد بِمَا تقدم.
فَائِدَة: فِي ضبط مَا وَقع فِي هَذَا الحَدِيث من الْأَلْفَاظ الَّتِي قد تُصَحَّف: لِيَّة: بِكَسْر أَوله، وَتَشْديد ثَانِيه، كَذَا ضَبطه الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» . وَقَالَ صَاحب الإِمَام: هُوَ مكسور اللَّام. فَفِي رِوَايَة الْخَطِيب مُخَفّفَة، وَفِي رِوَايَة غَيره مُشَدّدَة كَذَا قَالَ الْبكْرِيّ، وَهِي من أَرض الطَّائِف عَلَى أَمْيَال يسيرَة، وَهِي عَلَى لَيْلَة من قرن.
والقَرْن: جبل صَغِير، قَالَه الْخطابِيّ، قَالَ: ورأيته يشرف عَلَى وهدة.
ونَخْب: بِفَتْح أَوله، وَإِسْكَان ثَانِيه بعده بَاء مُوَحدَة، وَاد من وَرَاء(6/370)
الطَّائِف، قَالَه الْبكْرِيّ. قَالَ: وَحَكَى (السكونِي) نَخِب: بِكَسْر الْخَاء عَلَى وزن فَعِل.
قلت: وَكَذَا ضَبطه الْحَازِمِي فِي مؤتلفه نقلا عَنهُ، ثمَّ قَالَ. وَيُقَال: هُوَ وادٍ بالسِّرَاه، وَقَالَ الْأَخْفَش: وادٍ بِأَرْض هُذَيْل. وَقَالَ الْخطابِيّ: أرَاهُ جبلا أَو موضعا، وَلست أُحِقُّه.
وأيقف مُطَاوع وقف تَقول: وقفته فأيقف، مثل وعدته فأيعد وَالْأَصْل فِيهِ أييقف وأييعد، فَلَمَّا ثقل النُّطْق بِهِ أدغموا.
(قَالَ) ابْن الْأَثِير: والعِضَاه من الشّجر مَا كَانَ لَهُ شوك.
ووَجٌّ بواوٍ مَفْتُوحَة، ثمَّ جِيم مُشَدّدَة، قَالَ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب: وَهُوَ وادٍ بصحراء الطَّائِف. وَهَكَذَا قَالَه غَيره من أَصْحَابنَا الْفُقَهَاء، وَقَالَهُ الْخطابِيّ أَيْضا، وَهَذَا لَفظه: وَجٌّ ذكرُوا أَنه من نَاحيَة الطَّائِف. وَكَذَا قَالَه ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» : أَنه وادٍ بَين مَكَّة والطائف.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وجٌّ بلد الطَّائِف. وَنَقله النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» و «التَّهْذِيب» عَن أهل اللُّغَة كلهم. وَقَالَ الْحَازِمِي فِي(6/371)
مؤتلفه: وجٌّ: اسْم لحصون الطَّائِف، وَقيل لواحدٍ مِنْهَا.
وَقَالَ الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» : وَجَّ بِفَتْح أَوله وَتَشْديد ثَانِيه، هُوَ الطَّائِف، وَقيل هُوَ وادِ الطَّائِف، وَفِي الحَدِيث: «وَثَقِيف أَحَق النَّاس بوَجَّ» .
وَعَن خَوْلَة بنت حَكِيم امْرَأَة عُثْمَان بن مَظْعُون مَرْفُوعا: «إِن آخر وَطْأَة وَطئهَا الله - تَعَالَى - بوجّ» .
قَالَ (أَبُو مُحَمَّد) : يُرِيد أَن آخر مَا أوقع الله بالمشركين بوج، وَهِي الطَّائِف. وَكَذَلِكَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: آخر غَزْوَة غَزَاهَا رَسُول الله(6/372)
(الطَّائِف، وحنين، وحنين وَادي الطَّائِف.
وَقَالَ غَيره: إِن وَجًّا مقدس، مِنْهُ عرج الرب - تبَارك وَتَعَالَى - إِلَى السَّمَاء حَتَّى قَضَى إِلَى السَّمَاوَات وَالْأَرْض. قَالَ مُحَمَّد بن سهل: سميت بوج بن عبد الْحَيّ من العمالقة، هُوَ أول من نزلها.
قَالَ الْخطابِيّ: وَلست أعلم لتَحْرِيم صيد وجٍّ مَعْنَى إِلَّا أَن يكون حرمه وقتا مَخْصُوصًا ثمَّ أحله، وَيدل عَلَى ذَلِكَ قَوْله: «قبل نُزُوله الطَّائِف وحصاره ثقيفًا» ، ثمَّ عَاد الْأَمر [فِيهِ] إِلَى الْإِبَاحَة.
قلت: وَرُبمَا اشْتبهَ «وَج» هَذَا بوح بِالْحَاء الْمُهْملَة، قَالَ الْحَازِمِي: هِيَ نَاحيَة بعمان.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حمى النَّقيع لإبل الصَّدَقَة ونِعَمَ الْجِزْيَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ بلاغًا، وَأحمد وَأَبُو دَاوُد مُتَّصِلا، أما البُخَارِيّ فساق من حَدِيث الصعب بن جَثَّامة رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا حمى إِلَّا لله وَلِرَسُولِهِ» . وَقَالَ: «بلغنَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حمى النَّقيع، وَأَن عمر حمى الشّرف والربذة» .
وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَوَقع فِي «الْإِلْمَام» أَنه مُتَّفق عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَقد ذكر هُوَ فِي أَوَاخِر «اقتراحه» فِي أَحَادِيث عَلَى شَرط(6/373)
الصَّحِيحَيْنِ وَلم يخرجاها. نعم هُوَ فِي البُخَارِيّ كَمَا قَرّرته لَك، وَوَقع فِي هَذَا الْوَهم ابْن الرّفْعَة فِي «مطلبه» .
وَأما أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد فَإِنَّهُمَا أَخْرجَاهُ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، عَن ابْن شهَاب، عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود، عَن ابْن عَبَّاس عَن الصَّعْب بن جَثَّامة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حمى النقيع، وَقَالَ: لَا حمى إِلَّا للهِ عَزَّ وجَلَّ» .
هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَلَفظ أَحْمد: «إِلَّا لله وَلِرَسُولِهِ» .
وَأخرجه الْحَاكِم أَبُو عبد الله بِلَفْظ أَحْمد ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. هَكَذَا! إِنَّمَا اتفقَا عَلَى حَدِيث يُونُس بِإِسْنَادِهِ: «لَا حمى إِلَّا لله وَرَسُوله» هَذَا لَفظه وَقد علمت أَن [البُخَارِيّ] رَوَاهُ وَحده. وَذكر الْبَيْهَقِيّ هَذَا الحَدِيث فِي «سنَنه» ، ثمَّ قَالَ: قَالَ البُخَارِيّ: هَذَا وهم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ قَوْله: «حمى النقيع» من قَول الزُّهْرِيّ، وَكَذَا قَالَه ابْن أبي الزِّنَاد عَن [عبد الرَّحْمَن] بن الْحَارِث.
قلت: سِيَاق أبي دَاوُد يُخَالف مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، وَجعل عبد الْحق فِي جمعه بَين الصَّحِيحَيْنِ فِي بَاب النَّهْي عَن بيع فضل المَاء (إِلَّا لَفظه قَالَ وبلغنا قَول البُخَارِيّ) فَقَالَ: وَقَالَ(6/374)
البُخَارِيّ: بلغنَا «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حمى النيقع ... » إِلَى آخِره. وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة عَلَى ذَلِكَ فِي «مطلبه» .
وَفِي «مُسْند» أَحْمد، و «صَحِيح ابْن حبَان» رِوَايَة هَذَا الحَدِيث أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حمى النقيع لخيل الْمُسلمين» .
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» : الَّذِي عَرفْنَاهُ بِهِ نصًّا وَدلَالَة فِيمَا حمى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه حمى النقيع» . وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: أَنا غير وَاحِد من أهل الْعلم «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أَنه) حمى النقيع، وَأَن عمر حمى الشّرف والربذة» .
فَائِدَة: النقيع - الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث - هُوَ بالنُّون، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، قَالَ صَاحب الْمطَالع: اخْتلفت الروَاة فِي ضَبطه فقيده جماعات بالنُّون. وَكَذَا ذكره الْهَرَوِيّ والخطابي، قَالَ الْخطابِيّ: وَقد صحفه بعض أَصْحَاب الحَدِيث فقاله بِالْبَاء، وَهَذَا خطأ، إِنَّمَا الَّذِي بِالْبَاء بَقِيع الْغَرْقَد مدفن أهل الْمَدِينَة. قَالَ: وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: هُوَ بِالْبَاء مثل بَقِيع الْغَرْقَد. قَالَ صَاحب «الْمطَالع» : ومساحته مثل بريد، وَفِيه شجر كَبِير حَتَّى يغيب الرَّاكِب فِيهِ.
قلت: وَجزم الْحَازِمِي فِي «مؤتلفه» بِأَنَّهُ بالنُّون، قَالَ: وَهُوَ من ديار مزينة، قَالَ: وَهُنَاكَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَسْجِد. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» :(6/375)
عَلَى نَحْو عشْرين ميلًا من الْمَدِينَة، وَهُوَ فِي صدر وَادي العقيق.
والشرف: قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» : قَيده بَعضهم بِفَتْح السِّين وَكسر الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَبَعْضهمْ بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء الْمُهْملَة، قَالَ: وَالثَّانِي هُوَ الصَّوَاب.
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَسُوق الْهَدْي»
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عَائِشَة، وَعلي وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة رَضي اللهُ عَنهم.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَمَا كَانَت تشد أفواهها فِي الْحرم. قلت: هُوَ الظَّاهِر.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه.
وَأما آثاره فسبعة وَثَلَاثُونَ أثرا.
أَولهَا: «أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قدمُوا مَكَّة متقلدين بسيوفهم عَام عمْرَة الْقَضَاء» .
وَهَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «مُسْنده» عَن إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى، عَن عبد الله بن أبي بكر، «أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قدمُوا فِي عمْرَة الْقَضَاء(6/376)
متقلدين السيوف وهم محرمون» . وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ من رِوَايَة الْبَراء قَالَ: «اعْتَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي ذِي الْقعدَة، فَأَبَى أهل مَكَّة أَن يَدعُوهُ يدْخل مَكَّة حَتَّى قاضاهم لَا يدْخل مَكَّة سِلَاحا إِلَّا فِي القراب» .
وَفِيه أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج مُعْتَمِرًا فحال كفار قُرَيْش بَينه وَبَين الْبَيْت، فَنحر هَدْيه وَحلق رَأسه بِالْحُدَيْبِية، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَن يعْتَمر الْعَام الْمقبل، وَلَا يحمل سِلَاحا عَلَيْهِم إِلَّا سيوفًا وَلَا يُقيم [بهَا] إِلَّا مَا أحَبُّوا، فَاعْتَمَرَ من الْعَام الْمقبل فَدَخلَهَا كَمَا كَانَ صَالحهمْ فَلَمَّا أَقَامَ بهَا ثَلَاثًا أَمرُوهُ أَن يخرج فَخرج.
الْأَثر الثَّانِي وَالثَّالِث: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلَا بَأْس أَيْضا بشد الْهِمْيَان والمنطقة عَلَى الْوسط لحَاجَة النَّفَقَة، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
أما أثر عَائِشَة: فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي مُعَاوِيَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا سُئلت عَن الْهِمْيَان للْمحرمِ، فَقَالَت: وَمَا بَأْس ليستوثق من نَفَقَته» .
وَقَالَ أَبُو بكر بن أبي شيبَة: ثَنَا حَفْص بن غياث، (عَن) يَحْيَى بن سعيد، عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا سُئِلت عَن الْهِمْيَان للْمحرمِ (فَقَالَت) أوثق نَفَقَتك فِي حقويك» .(6/377)
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث الْقَاسِم، عَن عَائِشَة: «أَنَّهَا كَانَت ترخص فِي المنطقة للْمحرمِ» . فَقَالَ: يرويهِ يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَاخْتلف عَنهُ) : فَرَوَاهُ يَحْيَى بن سيعد الْقطَّان وَيَحْيَى بن أَيُّوب الْمصْرِيّ، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة.
وَخَالَفَهُمَا ابْن فُضَيْل فَرَوَاهُ، عَن يَحْيَى، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، قَال: وَالْأول أشبه بِالصَّوَابِ.
وَأما أثر ابْن عَبَّاس، فَرَوَاهُ (الْبَيْهَقِيّ) فِي «سنَنه» من حَدِيث شريك، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَطاء، وَسَعِيد بن جُبَير عَنهُ قَالَ: «رخص للْمحرمِ فِي الْخَاتم والهميان» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ من هَذَا الْوَجْه: «لَا بَأْس بالهميان والخاتم للْمحرمِ» ترْجم عَلَيْهِمَا الْبَيْهَقِيّ وَعَلَى أثر عَائِشَة السالف (الْمحرم يلبس المنطقة والهميان للنَّفَقَة والخاتم) ، وَلم يذكر «المنطقة» فِي روايتهما. فَكَأَنَّهُ قاسها عَلَى الْهِمْيَان.
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَن وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن حميد الْأَعْرَج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «لَا بَأْس بِهِ أَي: بالهميان للْمحرمِ» . وَرَوَاهُ ابْن عدي وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث يُوسُف بن خَالِد السَّمتي، ثَنَا زِيَاد بن سعد، عَن صَالح مولَى التَّوْأَمَة، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه كَانَ لَا يرَى بالهميان للْمحرمِ بَأْسا» .(6/378)
رَوَى ذَلِكَ ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ويوسف هَذَا واهٍ، وَصَالح مولَى التَّوْأَمَة تغير بِأخرَة.
وَرَوَاهُ ابْن عدي فِي «كَامِله» أَيْضا بِلَفْظ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رخص للهميان فِي الْمحرم» . وَفِي سَنَده مَعَ صَالح أَحْمد بن ميسرَة، قَالَ أَحْمد: لَا أعرفهُ. وَقَالَ ابْن عدي: لَا يعرف إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ: عَلَى أَنه قد رَوَاهُ عَن صَالح: إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى، وَإِبْرَاهِيم يحْتَمل تَضْعِيفه، وَزِيَاد لَا يحْتَمل؛ لِأَنَّهُ ثِقَة، وَهُوَ مُنكر من حَدِيث زِيَاد بن سعد، عَن صَالح.
(وَرَوَاهُ) من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «رخص فِي الْهِمْيَان للْمحرمِ يُشَدُّ فِيهِ نَفَقَته» .
الْأَثر الرَّابِع: قَالَ الرَّافِعِيّ: والحناء لَيْسَ بِطيب «كَانَ نسَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يختضبن وَهن مُحرمَات» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره صَاحب «الْمُهَذّب» أَيْضا، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» : إِنَّه غَرِيب. قَالَ: وَقد حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر فِي «الإشراف» بِغَيْر إِسْنَاد، وَإِنَّمَا رَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي الْمَسْأَلَة حَدِيث عَائِشَة «أَنَّهَا سُئِلت عَن الْحِنَّاء والخضاب، فَقَالَت: كَانَ خليلي (لَا يحب رِيحه» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِيهِ كالدلالة عَلَى أَن الْحِنَّاء لَيْسَ بِطيب؛ فقد كَانَ (يحب الطّيب، وَلَا يحب [ريح] الْحِنَّاء. انْتَهَى.(6/379)
وَهَذَا الْأَثر الَّذِي استغربه النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» أَيْضا وَلم يعزه.
وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب «الْمعرفَة» فَقَالَ: وروينا عَن عِكْرِمَة «أَن عَائِشَة وَأَزْوَاج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كن يختضبن بِالْحِنَّاءِ وَهن مُحرمَات» . ذكره ابْن الْمُنْذر.
قلت: وَهَذَا قد أسْندهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» (فَقَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن أَحْمد، حَدَّثَني أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَيُّوب صَاحب الْمَغَازِي) ، ثَنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش، عَن يَعْقُوب (بن) عَطاء، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «كن أَزوَاج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يختضبن بِالْحِنَّاءِ وَهن مُحرمَات، ويلبسن المعصفر وَهن مُحرمَات» .
وَيَعْقُوب بن عَطاء، الظَّاهِر أَنه ابْن أبي رَبَاح وهاه أَحْمد، وَضَعفه ابْن معِين وَأَبُو زرْعَة، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَعَمْرو بن دِينَار سمع من ابْن عَبَّاس كَمَا صرح بِهِ الرَّامَهُرْمُزِيُّ فِي كِتَابه «الْفَاصِل» ، وَلَا تغتر بقول الْحَاكِم: عَامَّة أَحَادِيثه (عَن الصَّحَابَة) غير مسموعة، فَزَالَتْ إِذن الغرابة الَّتِي ادَّعَاهَا النَّوَوِيّ، وَعرف مخرجه، وَللَّه الْحَمد.(6/380)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وروينا عَن عَائِشَة «أَنَّهَا سُئِلت عَن خضاب الْحِنَّاء فَقَالَت: كَانَ خليلي (لَا يحب رِيحه» . وَهَذَا قد أسْندهُ فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد حسن، قَالَ: وَمَعْلُوم أَنه كَانَ يحب الطّيب فَيُشبه أَن يكون الْحِنَّاء غير دَاخل فِي جملَة الطّيب. وَهَذَا قد قدمْنَاهُ عَن شيبَة أَيْضا.
وَذكر فِي «الْمعرفَة» عَن خَوْلَة بنت حَكِيم، عَن أَبِيهَا مَرْفُوعا: «لَا تطيبي وَأَنت مُحرمَة، وَلَا تمسي الْحِنَّاء؛ فَإِنَّهُ طيب» .
وَقَالَ: إِسْنَاده ضَعِيف؛ فِيهِ ابْن لَهِيعَة غير مُحْتَج بِهِ.
وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» : ثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى، ثَنَا حجاج، ثَنَا يزِيد بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا أَيُّوب، عَن (معَاذَة) «أَن امْرَأَة سَأَلت عَائِشَة قَالَت: تختضب الْحَائِض؟ فَقَالَت: كُنَّا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَنحن نختضب (فَلم يكن) ينهانا عَنهُ» وَهَذَا عَام.
فَائِدَة: عدَّ أَبُو حنيفةَ الدِّينوَرِي وَغَيره من أهل اللُّغَة الْحِنَّاء من أَنْوَاع الطّيب. وَقَالَ الْهَرَوِيّ فِي «غَرِيبه» فِي الحَدِيث: «سيد راحين الْجنَّة (الفاغية) » قَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ نَوْر الحِنَّاء، وَفِي الحَدِيث أَيْضا عَن أنس: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تعجبه الفاغية» .(6/381)
قلت: رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» . وَقَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ: الفاغية مَا أنبتت الصَّحرَاء من الأَنْوَار الريحة الَّتِي لَا تزرع.
الْأَثر الْخَامِس: عَن عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه سُئِلَ عَن الْمحرم هَل يدْخل الْبُسْتَان؟ قَالَ: نعم ويشم الريحان» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره صَاحب «الْمُهَذّب» ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» : إِنَّه غَرِيب. وَذكره الْمُنْذِرِيّ فِي تَخْرِيجه (لأحاديثه) من حَدِيث أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد، ثَنَا الباغندي مُحَمَّد بن سُلَيْمَان، ثَنَا أَحْمد بن الْمَرْزُبَان، عَن عبد الله بن الأرطبان، عَن الْمعَافى بن عمرَان، عَن جَعْفَر بن برْقَان، عَن مَيْمُون بن مهْرَان، عَن أبان بن عُثْمَان، عَن عُثْمَان بن عَفَّان «فِي الْمحرم يدْخل الْبُسْتَان؟ قَالَ: نعم، ويشم الريحان» . وَهَذَا من المسلسلات الغريبة، وسلسله ابْن عَسَاكِر أَيْضا من عِنْده إِلَى عُثْمَان كَمَا ذكرته عَنهُ فِي تخريجي لأحاديثه.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: هُوَ أثر غَرِيب. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد أحسن من هَذَا، من رِوَايَة ابْن عَبَّاس قَالَ: «الْمحرم يشم الريحان وَيدخل الْحمام» . قَالَ: وَهَذَا حَدِيث حسن، وَإِسْنَاده ثِقَات. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» : إِسْنَاده مُتَّصِل صَحِيح.
وَلَفظ رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس «أَنه كَانَ لَا يرَى بَأْسا للْمحرمِ بشم الريحان» .(6/382)
وَذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» تَعْلِيقا عَنهُ: «يشم الْمحرم الريحان، وَينظر فِي الْمرْآة، ويتداوى بِمَا يُؤْكَل: الزَّيْت وَالسمن» .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ خلاف هَذَا عَن ابْن عمر وَجَابِر بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ:
أَحدهمَا: عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يكره شم الريحان للْمحرمِ» .
ثَانِيهمَا: عَن أبي الزبير «أَنه سمع جَابِرا يسْأَل عَن الريحان أيشمه الْمحرم (و) الطّيب والدهن؟ فَقَالَ: لَا» .
الْأَثر السَّادِس: عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه دخل حمام الْجحْفَة محرما وَقَالَ: إِن الله لَا يعبأ بأوساخكم شَيْئا» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (إِلَيْهِ) : أبنا إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى، عَن أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه دخل حَماما وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ، وَقَالَ: مَا يعبأ الله بأوساخنا شَيْئا» .
وَإِبْرَاهِيم هَذَا قد عرفت حَاله غير مَا مرّة، وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور قَالَ: « (إِن) الله لَغَنِيّ عَن درني ووسخي» .
قَالَ الشَّافِعِي: وَأَنا الثِّقَة - إِمَّا سُفْيَان وَإِمَّا غَيره - عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه دخل حمام الْجحْفَة وَهُوَ محرم» .(6/383)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَنهُ، قَالَ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه أَبَاحَ ذَلِكَ. وَهَذَا أسْندهُ فِي «سنَنه» من حَدِيث عِكْرِمَة عَنهُ: «الْمحرم يشم الريحان، وَيدخل الْحمام، وَينْزع ضرسه، ويفقأ القرحة، وَإِذا انْكَسَرَ عَنهُ ظفره أماط عَنهُ الْأَذَى» . وَفِي البُخَارِيّ: وَقَالَ ابْن عَبَّاس: «يدْخل الْمحرم الْحمام» .
فَائِدَة: قَوْله «مَا يعبأ بِهَذَا» الْمَعْنى: مَا يصنع، وَمِنْه قَوْله: مَا عبأت بفلان عبئًا أَي: مَا باليت بِهِ، وَبَيَان أَيْضا «مَا يعبأ بِهَذَا» بِمَعْنى: «مَا يصنع بِهِ» . وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: (قل مَا يعبؤا بكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم) .
والدَّرَن: الْوَسخ.
الْأَثر السَّابِع، وَالثَّامِن، وَالتَّاسِع، والعاشر: قَالَ الرَّافِعِيّ: وللجماع فِي الْحَج وَالْعمْرَة نتائج، فَمِنْهَا: فَسَاد النّسك، يروون ذَلِكَ عَن عمر، وَعلي، وَابْن عَبَّاس، وَأبي هُرَيْرَة، وَغَيرهم من الصَّحَابَة. انْتَهَى.
أما أثر عمر: فَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» بلاغًا وَهَذَا لَفظه: «أَنه بلغه أَن عمر بن الْخطاب، وَعلي بن أبي طَالب، وَأَبا هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهم سئلوا: عَن رجل أصَاب أَهله وَهُوَ محرم بِالْحَجِّ؟ قَالُوا: ينفذان لوجههما - يَعْنِي (يقضيان) حجهما - ثمَّ عَلَيْهِمَا الْحَج من قَابل وَالْهَدْي.
وَقَالَ عَلّي: فَإِذا أَهلا بِالْحَجِّ (من) عَام قَابل، تفَرقا حَتَّى يقضيا(6/384)
حجهما. وأسنده الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَطاء أَن عمر بن الْخطاب قَالَ فِي محرم بِحجَّة أصَاب (امْرَأَته) يَعْنِي وَهِي مُحرمَة - فَقَالَ: «يقضيان حجهما وَعَلَيْهِمَا الْحَج من قَابل من حَيْثُ كَانَا أحرما، ويفترقان حَتَّى يُتِمَّا حجهما» . قَالَ عَطاء: وَعَلَيْهِمَا بَدَنَة إِن أَطَاعَته أَو استكرهها، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمَا بَدَنَة.
وَهَذَا مُنْقَطع فَإِن عَطاء لم يدْرك (عمر) إِنَّمَا ولد فِي آخر خلَافَة عُثْمَان.
وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، عَن سُفْيَان، [عَن يزِيد بن] يزِيد بن جَابر قَالَ: «سَأَلت مُجَاهدًا عَن الرجل يَأْتِي امْرَأَته وَهُوَ محرم فَقَالَ: قد كَانَ ذَلِكَ عَلَى عهد عمر بن الْخطاب فَقَالَ عمر: يقضيان حجهما، وَالله أعلم بحجهما، ثمَّ يرجعان حَلَالا حَتَّى إِذا كَانَا من قَابل حَجَّا وأهديا» .
وَأما أثر عَلّي فقد سلف آنِفا.
وَأما أثر ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، عَن هشيم، ثَنَا أَبُو بشر، حَدَّثَني رجل من قُرَيْش «أَن رجلا وَقع بامرأته وهما محرمان، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: اقضيا (مَا) عَلَيْكُمَا من نسككما هَذَا، وعليكما الْحَج من قَابل» . وَهَذَا فِيهِ جَهَالَة.(6/385)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شُعْبَة عَن أبي بشر، قَالَ أَبُو بشر: سَمِعت رجلا من بني عبد الدَّار قَالَ: أَتَى رجل ابْن عَبَّاس فَسَأَلَهُ عَن محرم وَقع بامرأته، فَقَالَ: يقضيان مَا بَقِي من (نسكهما) فَإِذا كَانَ قَابل حجَّا، فَإِذا أَتَيَا الْمَكَان الَّذِي أصابا فِيهِ مَا أصابا تفَرقا وَعَلَى كل واحدٍ مِنْهُمَا هدي، أَو قَالَ: عَلَيْهِمَا الْهَدْي. قَالَ أَبُو بشر: فَذكرت ذَلِكَ لسَعِيد بن جُبَير فَقَالَ: هَكَذَا كَانَ يَقُول ابْن عَبَّاس. وَهَذَا أَيْضا فِيهِ جَهَالَة كَمَا ترَى.
(وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي) حَدِيث عِكْرِمَة «أَن رجلا وَامْرَأَته من قُرَيْش لقيا ابْن عَبَّاس بطرِيق الْمَدِينَة، فَقَالَ: أصبت أَهلِي! فَقَالَ ابْن عَبَّاس: أما حجكما هَذَا فقد بَطل فحجَّا عَاما قَابلا، ثمَّ أهِلاَّ من حَيْثُ أهللتما حَتَّى إِذا بلغتما حَيْثُ وَقعت عَلَيْهَا ففارقها، فَلَا تراك وَلَا ترَاهَا حَتَّى ترميا الْجَمْرَة، ولتهد نَاقَة» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه سُئِلَ عَن رجل وَقع عَلَى امْرَأَته وَهُوَ محرم، قَالَ: اقضيا نسككما وارجعا إِلَى بلدكما، فَإِذا كَانَ عَام قَابل، (فاخرجا) حاجين، فَإِذا أحرمتما فتفرقا وَلَا تلتقيا حَتَّى تقضيا نسككما، وأهديا هَديا) .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «ثمَّ أهِلاَّ من حَيْثُ أهللتما أول مرّة» .
وَرَوَى ابْن خُزَيْمَة ثمَّ الْبَيْهَقِيّ إِلَيْهِ بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه قَالَ: «إِذا جَامع فعلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا بَدَنَة» وَفِي رِوَايَة لَهما: «يُجزئ بَينهمَا جزور» .(6/386)
وَفِي الْمُوَطَّأ بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ «أَنه سُئِلَ عَن رجل وَقع عَلَى أَهله وَهُوَ بمنى قبل أَن يفِيض، فَأمره أَن ينْحَر بَدَنَة» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ «الَّذِي يُصِيب أَهله قبل أَن يفِيض يعْتَمر ويُهْدي» .
وَفِي مُسْند أبي حنيفَة عَنهُ، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن ابْن عَبَّاس «الرجل يواقع امْرَأَته بَعْدَمَا وقف بِعَرَفَة، قَالَ: عَلَيْهِ بَدَنَة، وَتمّ حجه» .
وَأما أثر أبي هُرَيْرَة فَتقدم عَن رِوَايَة مَالك، وَقَول الرَّافِعِيّ وَغَيرهم من الصَّحَابَة هُوَ كَمَا قَالَ، وستعلمه عَن ابْن عَمْرو، وَابْن عمر.
الْأَثر الْحَادِي عشر إِلَى الرَّابِع عشر: رُوِيَ عَن عمر وَعلي وَابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهم قَالُوا: «من أفسد حجه (قَضَى فِي فاسده) ، وَقَضَى من قَابل» . وَهَذِه الْآثَار قد سلفت فِي الْآثَار قبلهَا.
وَرَوَى أَحْمد بن حَنْبَل، عَن إِسْمَاعِيل، ثَنَا أَيُّوب، عَن غيلَان بن جرير، أَنه سمع عليًّا الْأَزْدِيّ قَالَ: «سَأَلت ابْن عمر عَن رجل وَامْرَأَة من عمان أَقبلَا حاجين فقضيا الْمَنَاسِك حَتَّى لم يبْق (عَلَيْهِمَا) إِلَّا الْإِفَاضَة وَقع عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: ليحجَّا قَابلا» .
وَفِي الْبَيْهَقِيّ هُنَا وَآخر الْبيُوع من «الْمُسْتَدْرك» ، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه «أَن رجلا أَتَى عبد الله بن عَمْرو يسْأَله عَن محرم وَقع بامرأته فَأَشَارَ إِلَى عبد الله بن عمر فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ فسله. قَالَ(6/387)
شُعَيْب: فَلم يعرفهُ الرجل فَذَهَبت مَعَه، فَسَأَلَ ابْن عمر، فَقَالَ: بَطل حجك. فَقَالَ الرجل: فَمَا أصنع؟ قَالَ: اخْرُج مَعَ النَّاس واصنع مَا يصنعون؛ فَإِذا أدْركْت قابلَ فحُج وأهْدِ. فَرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو وَأَنا مَعَه فَأخْبرهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى عبد الله بن عَبَّاس فسله. قَالَ شُعَيْب: فَذَهَبت مَعَه إِلَى ابْن عَبَّاس فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ ابْن عمر، فَرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو وَأَنا مَعَه (فَأَخْبَرته) بِمَا قَالَ ابْن عَبَّاس ثمَّ قَالَ: مَا تَقول أَنْت؟ فَقَالَ: قولي مثل مَا قَالَا» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث رُوَاته ثِقَات حفاظ وَهُوَ كالآخذ بِالْيَدِ فِي صِحَة سَماع شُعَيْب بن مُحَمَّد من جده عبد الله بن عَمْرو، قَالَ: كنت أطلب الْحجَّة الظَّاهِرَة فِي سَماع شُعَيْب بن مُحَمَّد من عبد الله بن عَمْرو، قَالَ: فظفرت بهَا الْآن. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده صَحِيح.
قَالَ: وَفِيه دَلِيل عَلَى صِحَة سَماع شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عبد الله، من جده عبد الله بن عَمْرو، وَابْن عمر، وَابْن عَبَّاس. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ: إِنَّه حَدِيث حسن. وتعجب صَاحب «الإِمَام» مِنْهُ، قَالَ الْحَافِظ: رِجَاله كلهم مَشْهُورُونَ، فَقَالَ: فَلَا أَدْرِي لِم لَم يُصَحِّحهُ.
الْأَثر الْخَامِس عشر: عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما «أَنه قَالَ فِي المجامع امْرَأَته فِي الْإِحْرَام: فَإِذا أَتَيَا الْمَكَان الَّذِي أصابا فِيهِ مَا أصابا يفترقا.
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ كَمَا سلف قَرِيبا، وَرَوَاهُ (أَبُو دَاوُد) فِي(6/388)
مراسيله مَرْفُوعا، لكنه مُرْسل وَضَعِيف، رَوَاهُ عَن يزِيد بن نعيم أَو زيد بن نعيم - شكّ (أَبُو تَوْبَة) - أَن رجلا من جذام جَامع امْرَأَته وهما محرمان، فَسَأَلَ الرجل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ لَهما: اقضيا نسككما، وأهديا هَديا، ثمَّ ارْجِعَا، حَتَّى إِذا كنتما بِالْمَكَانِ الَّذِي أصبْتُمَا فِيهِ مَا أصبْتُمَا فتفرقا وَلَا يرَى وَاحِد مِنْكُمَا صَاحبه، وعليكما حجَّة أُخْرَى، فتقبلان حَتَّى إِذا كنتما بِالْمَكَانِ الَّذِي أصبْتُمَا فِيهِ مَا أصبْتُمَا فأحرما، وأتما نسككما وأهديا.
قَالَ ابْن الْقطَّان: زيد بن نعيم لَا يعرف و (يزِيد) بن نعيم ثِقَة.
قَالَ ابْن وهب فِي «موطئِهِ» : أَخْبرنِي ابْن لَهِيعَة، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن عبد الرَّحْمَن (بن حَرْمَلَة) ، عَن ابْن الْمسيب «أَن رجلا من جذام جَامع امْرَأَته وهما محرمان، فَسَأَلَ الرجل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ لَهما: أتِمَّا حجَّكما، ثمَّ ارْجِعَا وعليكما حجَّة أُخْرَى، فَأَقْبَلَا حَتَّى إِذا كنتما بِالْمَكَانِ الَّذِي أصبْتُمَا فِيهِ مَا أصبْتُمَا فأحرما وتفرقا، وَلَا يرَى وَاحِد مِنْكُمَا صَاحبه، ثمَّ أتِمَّا نسككما وأهديا» .
فَهَذَا الحَدِيث يُفَسر مَا أُمرا بِهِ، وَهُوَ أَن يَتَفَرَّقَا فِي العودة، وَالْأول فِيهِ الْأَمر بِالتَّفْرِيقِ فِي الرُّجُوع لَا فِي العودة. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا غير(6/389)
بَين وَوَقع فِي أَحْكَام عبد الْحق، عَن مَرَاسِيل أبي دَاوُد: الْأَمر بِالتَّفْرِيقِ فِي العودة، فَقَالَ: بعد قَوْله: «مَا أصبْتُمَا فتفرقا وَلَا يرَى أحد مِنْكُمَا صَاحبه فأحرما ... » إِلَى آخِره.
الْأَثر السَّادِس عشر: عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه أوجب فِي الْقبْلَة شَاة» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الشَّافِعِي، ثَنَا شريك، عَن جَابر، عَن أبي جَعْفَر، عَنهُ أَنه قَالَ: «من قبل امْرَأَته وَهُوَ محرم فليهرق دَمًا» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُنْقَطع: يُرِيد فِيمَا بَين أبي جَعْفَر وَهُوَ مُحَمَّد بن عَلّي بن الْحُسَيْن وَبَين عَلّي بن أبي طَالب.
قلت: وَجَابِر هُوَ الْجعْفِيّ، وحالته علمت.
الْأَثر السَّابِع عشر: عَن ابْن عَبَّاس مثله.
هَذَا الْأَثر أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ بِأَنَّهُ قَالَ لما رَوَى أثر عَلّي، قَالَ: وَمَا رُوِيَ فِي مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس: «فَإِنَّهُ يتم حَجَّه» قَالَ: وَهُوَ قَول سعيد بن جُبَير، وَقَتَادَة، وَالْفُقَهَاء.
الْأَثر الثَّامِن عشر: عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه أوجب الْجَزَاء بقتل الْجَرَاد» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، عَن شُعَيْب، عَن عَلّي بن عبد الله الْبَارِقي، قَالَ: كَانَ عبد الله بن عمر يَقُول: (فِي الْجَرَاد قَبْضَة من طَعَام) .(6/390)
وَرَوَاهُ أَيْضا عَن عَبدة، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة «أَن محرما أصَاب جَرَادَة فَحكم عَلَيْهِ عبد الله بن عُمر وَرجل آخر، فَحكم عَلَيْهِ أَحدهمَا بتمرة، وَالْآخر بكسرة. وَرَوَاهُ عبد الله بن عَمْرو أَيْضا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، عَن خَالِد بن عبد الله، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة عَنهُ «أَنه حكم فِي الْجَرَاد بتمرة» .
وَسَيَأْتِي فِي آخر الْبَاب أَيْضا، وَرَوَاهُ عمر أَيْضا، رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سعيد [عَن] ابْن جريج، عَن يُوسُف بن مَاهك أَن عبد الله بن أبي عمار أخبرهُ «أَنه أقبل مَعَ معَاذ بن جبل وَكَعب الْأَحْبَار فِي أنَاس محرمين من بَيت الْمُقَدّس بِعُمْرَة، حَتَّى إِذا كُنَّا بِبَعْض الطَّرِيق، وَكَعب عَلَى (نَار) يصطلي مرت بِهِ رِجْل (من) جرادٍ، فَأخذ جرادتين (قَتلهمَا) وَنسي إِحْرَامه، ثمَّ ذكر إِحْرَامه فألقاهما، فَلَمَّا قدمنَا الْمَدِينَة دخل الْقَوْم عَلَى عمر بن الْخطاب وَدخلت مَعَهم، فَقص كَعْب قصَّة الجرادتين (عَلَى عمر فَقَالَ عمر: مَا جعلت فِي نَفسك؟ قَالَ) : دِرْهَمَيْنِ قَالَ: بخ، دِرْهَمَانِ خير من مائَة جَرَادَة، اجْعَل مَا جعلت فِي نَفسك» .
الْأَثر التَّاسِع عشر: عَن ابْن عَبَّاس مثله.
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، عَن سعيد(6/391)
[عَن] ابْن جريج قَالَ: أَخْبرنِي بكير بن عبد الله، قَالَ: سَمِعت الْقَاسِم بن مُحَمَّد، «قَالَ: كنت جَالِسا عِنْد ابْن عَبَّاس فَسَأَلَهُ رجل عَن جَرَادَة قَتلهَا وَهُوَ محرم، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: فِيهَا قَبْضَة من طَعَام، ولنأخذن بقبضة جرادات، (وَلَكِن لَو) .
قَالَ الشَّافِعِي: قَوْله: «ولنأخذن بقبضة جرادات:) أَي إِنَّمَا فِيهَا الْقيمَة وَقَوله: «وَلَو» . يَقُول: تحتاط، فَتخرج أَكثر مِمَّا عَلَيْك بعد أَن أعلمتك أَنه أَكثر مِمَّا عَلَيْك.
ورويا أَيْضا بإسنادهما الصَّحِيح، عَن عَطاء، قَالَ «سُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن صيد الْجَرَاد فِي الْحرم؟ فَقَالَ: لَا. وَنَهَى عَنهُ، قَالَ: إِمَّا قلت لَهُ أَو رجل من الْقَوْم: فَإِن قَوْمك يأخذونه وهم محتبون فِي الْمَسْجِد؟ فَقَالَ: لَا يعلمُونَ» . وَفِي رِوَايَة: «منحنون» .
قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا أصوب، كَذَا رَوَاهُ الْحفاظ «منحنون» بنونين بَينهمَا حاء مُهْملَة.
وَقَالَ سعيد بن مَنْصُور فِي «سنَنه» : حَدَّثَنَا عبد الله بن وهب، عَن عَمْرو بن الْحَارِث، عَن بكير بن عبد الله، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد «أَن ابْن عَبَّاس أفتَى محرما قتل جَرَادَة، أَن يتَصَدَّق بقبضة من طَعَام» . قَالَ: وثنا هشيم، أَنا أَبُو يُونُس، عَن يُوسُف بن مَاهك، قَالَ: «جَاءَ (رِجْل) من جرادٍ حَتَّى دخل الْحرم، فَجعل غلْمَان مَكَّة يَأْخُذُونَ مِنْهُ، فنهاهم ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: لَو أَنهم يعلمُونَ مَا فِيهِ مَا أخذُوا مِنْهُ شَيْئا» .(6/392)
الْأَثر الْعشْرُونَ: عَن الصَّحَابَة (أَنهم قضوا فِي النعامة ببدنة) .
هَذَا مَشْهُور عَنْهُم؛ فَفِي الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَلّي بن أبي طَلْحَة، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «إِن قتل نعَامَة فَعَلَيهِ بَدَنَة من الْإِبِل» .
وَمن حَدِيث عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس فِي حمام الْحرم: «فِي الْحَمَامَة شَاة وَفِي بيضتين دِرْهَم، وَفِي النعامة جزور، وَفِي الْبَقَرَة بقرة، وَفِي الْحمار بقرة» . وَفِي إِسْنَاده عباد بن يَعْقُوب الروَاجِنِي من رجال البُخَارِيّ، لكنه رَافِضِي دَاعِيَة، وَقد حسنه الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيه أَيْضا من حَدِيث الشَّافِعِي، عَن سعيد بن سَالم، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي «أَن عمر وَعُثْمَان وَعلي بن أبي طَالب وَزيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة رَضي اللهُ عَنهم قَالُوا: فِي النعامة يَقْتُلهَا الْمحرم بَدَنَة من الْإِبِل» . قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا غير ثَابت عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قَول الْأَكْثَر مِمَّن لقِيت فبقولهم: إنَّ فِي النعامة بَدَنَة، وبالقياس قُلْنَا: فِي النعامة بَدَنَة، لَا بِهَذَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَجه ضعفه كَونه مُرْسلا؛ فَإِن عَطاء الْخُرَاسَانِي ولد سنة خمسين - قَالَ فِي «الْمعرفَة» : كَمَا قَالَه يَحْيَى بن معِين وَغَيره - وَلم يدْرك عمر وَلَا عُثْمَان، وَلَا عليًّا، وَلَا زيدا، وَكَانَ فِي زمن مُعَاوِيَة صبيًّا، وَلم يثبت لَهُ سَماع من ابْن عَبَّاس، وَإِن كَانَ يحْتَمل أَن يكون سمع مِنْهُ؛ فَإِن ابْن عَبَّاس توفّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ، إِلَّا أَن عَطاء الْخُرَاسَانِي مَعَ(6/393)
انْقِطَاع حَدِيثه عَمَّن سمينا تكلم فِيهِ أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ.
قَالَ فِي «الْمعرفَة» : وَقد روينَا عَن عَلّي بن أبي طَلْحَة، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ ذَلِكَ، وَفِيه أَيْضا إرْسَال. وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس، وَإِسْنَاده حسن، وَهَذَا قد أسْندهُ فِي «السّنَن» كَمَا سلف.
وَفِي «السّنَن» لَهُ أَيْضا فِي حَدِيث المَسْعُودِيّ، عَن قَتَادَة، عَن أبي الْمليح الهُذَلي «أَنه كتب إِلَى أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود يسْأَله عَن الْمحرم يُصِيب حمَار وحشٍ، أَو نعامةٍ، أَو بيض نعامةٍ، وَعَن الجرادة يُصِيبهَا الْمحرم، فَكتب إِلَيْهِ أما يُصِيب حمَار وحشٍ فَفِيهِ بَدَنَة، وَفِي النعامة بَدَنَة، وَفِي بيض النعام (صِيَام) يَوْم أَو إطْعَام مِسْكين، وَأما الجرادة فَإِن رجلا من أهل حمص أصَاب جَرَادَة وَهُوَ محرم، فَأَتَى عمر فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ عمر: مَا أَعْطَيْت عَنْهَا؟ قَالَ: أَعْطَيْت عَنْهَا درهما، فَقَالَ: إِنَّكُم معشر أهل حمص كَثِيرَة دراهمكم، ولتمرة أحب إليَّ من جَرَادَة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا فِي رِوَايَة المَسْعُودِيّ، وَرُوِيَ عَن ابْن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة فِي هَذَا الحَدِيث قَالَ: فَكتب إِلَيْهِ أَن ابْن مَسْعُود يَقُول فِيهَا - يَعْنِي: فِي النعامة - بَدَنَة.
قَالَ مَالك: وَلم أزل أسمع أَن فِي النعامة إِذا قَتلهَا الْمحرم بَدَنَة.
الْأَثر الْحَادِي بعد الْعشْرين: عَن الصَّحَابَة أَيْضا «أَنهم قضوا فِي حمَار الْوَحْش وبقرة بقرة» .(6/394)
هَذَا مَشْهُور عَنْهُم، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَيَّاش عَن أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود كَمَا سلف.
وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن هِشَام بن عُرْوَة «أَن أَبَاهُ كَانَ يَقُول فِي بقر الْوَحْش بقرة، وَفِي الشَّاة من الظباء شَاة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، عَن سعيد بن الْمسيب «أَنه قَالَ فِي النعامة بَدَنَة، وَفِي الْبَقَرَة بقرة (وَفِي الأرْويَّة بقرة) ، وَفِي الظببي شَاة، وَفِي حمام مَكَّة شَاة، وَفِي الأرنب شَاة، وَفِي [الجرادة] قَبْضَة من طَعَام.
الْأَثر الثَّانِي بعد الْعشْرين: (أَنهم قضوا أَيْضا فِي الغزالِ بعنز، وَفِي الأرنب بعناق، وَفِي اليربوع جفرة) .
هَذَا مَشْهُور عَنْهُم، رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مَالك، عَن أبي الزبير، عَن جَابر «أَن عمر بن الْخطاب قَضَى فِي الضبع بكبش، وَفِي الغزال (بعنز) وَفِي الأرنب بعناق، وَفِي اليربوع بجفرة» . وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَقد أسلفته لَك مَرْفُوعا فِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين، وصوبنا وَقفه.(6/395)
وَفِي رِوَايَة للبيهقي من حَدِيث [اللَّيْث] بن سعد: حَدَّثَني أَبُو الزبير، عَن جَابر، عَن عمر بن الْخطاب «أَنه قَضَى فِي الضبع يُصِيبهَا الْمحرم بكبش، وَفِي الظبي بِشَاة، وَفِي الأرنب بعناق، وَفِي اليربوع بجفرة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عِكْرِمَة، قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ: إِنِّي قتلت أرنبًا وَأَنا محرم فَكيف ترَى؟ قَالَ: هِيَ تمشي عَلَى أَربع والعناق يمشي عَلَى أَربع، وَهِي تَأْكُل الشّجر، والعناق تَأْكُل الشّجر وَهِي تجتر والعناق تجتر، أهد مَكَانهَا عنَاقًا» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سماك بن حَرْب، عَن النُّعْمَان بن حميد، عَن عمر «أَنه قَضَى فِي الأرنب بحلان - يَعْنِي إِذا قَتله الْمحرم» قَالَ الْأَصْمَعِي وَغَيره: الحلان: الجدي.
وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث أَيُّوب، عَن أبي الزبير، عَن جَابر، عَن عمر «أَنه قَضَى فِي الضبع كَبْشًا، وَفِي الظبي شَاة، وَفِي اليربوع جفرًا أَو جفرة» .
وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود، عَن أَبِيه ابْن مَسْعُود «أَنه قَضَى فِي اليربوع بجفر، أَو جفرة» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن ابْن أبي نجيح، عَن(6/396)
مُجَاهِد «أَن ابْن مَسْعُود حكم فِي [الْوَبر] بجفرة أَو جفر» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَن ابْن مَسْعُود مُرْسَلَتَانِ، وإحداهما تؤكد الْأُخْرَى.
وَرَوَى الشَّافِعِي، عَن سعيد عَن إِسْرَائِيل، عَن أبي إِسْحَاق، عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس «أَنه قَالَ فِي الأرنب شَاة» قَالَ: وأبنا سعيد، عَن ابْن جريج، أَن مُجَاهدًا قَالَ: «فِي الأرنب شَاة» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : كَذَا وجدته فِي ثَلَاث نسخ، وَالصَّوَاب عَن ابْن عَبَّاس: «فِي الأرنب عنَاق» . وَسَقَطت رِوَايَة سعيد، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء: «فِي الأرنب شَاة» ، وَدخل حَدِيث عَطاء فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَكَلَامه يدل عَلَى صِحَة مَا قلت.
قَالَ: وَالضَّحَّاك لَا يثبت سَمَاعه من (ابْن) عَبَّاس عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ وَرُوِيَ فِي «سنَنه» و «مَعْرفَته» من طَرِيق مَالك، [عَن عبد الْملك بن قرير الْبَصْرِيّ] ، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن عمر «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أوجب فِي الظبي عَنْزًا هُوَ وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف» وَهَذَا مُنْقَطع، مُحَمَّد لم يدْرك عمر) .(6/397)
وَرُوِيَ فِي «سنَنه» من طَرِيق قبيصَة بن جَابر، عَن عمر «أَنه أوجب فِي الظبي شَاة» .
فَائِدَة: العنز: هِيَ الْأُنْثَى من الْمعز الَّتِي تمت لَهَا سنة، قَالَه الْأَزْهَرِي.
والعناق - بِفَتْح الْعين - من أَوْلَاد الْمعز خَاصَّة، وَهِي الَّتِي لَهَا دون سنة، وَهِي الْأُنْثَى. والجفرة هِيَ: الَّتِي بلغت أَرْبَعَة أشهر وفصلت عَن أمهَا، وَالذكر: جفر، وَقيل: (الجفرة الْأُنْثَى) من ولد الضَّأْن. (زَاد فِي الدقائق والتحرير: إِذا قويت مَا لم تسْتَعْمل سنة. وَعبارَة أصل الرَّوْضَة: أَنَّهَا من حِين تولد إِلَى أَن ترعى. وَوَافَقَ فِي تهذيبه فِي جفر، وَقَالَ فِي غَيره نقلا عَن الْأَزْهَرِي: إِنَّهَا الْأُنْثَى من أَوْلَاد الْمعز إِذا أَتَت عَلَيْهَا سنة، وَغلط عَلَيْهِ فِي زاهره: أَنَّهَا الَّتِي لم تأت عَلَيْهَا سنة) .
الْأَثر الثَّالِث بعد الْعشْرين: عَن عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ: «أَنه قَضَى فِي أم حُبَيْن بُحلاَّن من الْغنم» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من جِهَته: أَنا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مطرف - وَهُوَ ابْن مَازِن - عَن أبي السّفر، «أَن عُثْمَان قَضَى فِي أم حُبَيْن بحلاَّن من الْغنم» . قَالَ فِي «الْمعرفَة» : قَالَ الشَّافِعِي فِي رِوَايَة أبي سعيد، والحُلاَّن: الحَمَل.
قَالَ الشَّافِعِي (فِي) رِوَايَة أبي عبد الله: فَإِن كَانَت الْعَرَب تأكلها(6/398)
فَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان يقْضِي فِيهَا بِولد شَاة حمل أَو مثله من الْمعز مِمَّا لايفوته.
قلت: ومطرف السالف هُوَ قَاضِي الْيمن، واهٍ، كذبه ابْن معِين. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يحدث بِمَا لم يسمع لَا تجوز الرِّوَايَة عَنهُ إِلَّا للاعتبار.
فَائِدَة: أم حُبَيْن بحاء مُهْملَة مَضْمُومَة، ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَفْتُوحَة تَصْغِير (أم حبن) ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَلْقَى بَطْنه. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهِي دَابَّة عَلَى خلقَة الحرباء عَظِيمَة الْبَطن. قَالَ وَمِنْه: (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ممازحًا لِبلَال - وَقد تدحرج (بَطْنه -: بطن) أم حُبَيْن) .
فَائِدَة ثَانِيَة: الحُلاَّن - بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة، وَتَشْديد اللَّام - وَهِي: الحمَل كَمَا سلف عَن الشَّافِعِي أَي بِفَتْح الْحَاء، وَالْمِيم وَهُوَ الخروف. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: هُوَ الجدي، وَيُقَال لَهُ: حُلاَّم بِالْمِيم أَيْضا.
وَذكر (الرَّافِعِيّ هَذَا عَن عَطاء وَمُجاهد «أَنَّهُمَا حكما فِي الْوَبر بِشَاة» . وَهَذَا رَوَاهُ) الشَّافِعِي عَن سعيد، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء «أَنه قَالَ فِي الْوَبر إِن كَانَ يُؤْكَل بِشَاة» . قَالَ: وَأخْبرنَا سعيد أَن مُجَاهدًا قَالَ «فِي الْوَبر شَاة) . قَالَ الشَّافِعِي: فَإِن كَانَت الْعَرَب تَأْكُل الْوَبر فَفِيهِ جفرة، فَلَيْسَ بِأَكْثَرَ من جفرة بدنًا.
قَالَ الرَّافِعِيّ: والوبر دَابَّة كالجراد إِلَّا أَنَّهَا أنبل وأكبر مِنْهَا تكون فِي الفلوات.(6/399)
وَذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا (عَن عَطاء) «أَن فِي الثَّعْلَب شَاة» .
وَهَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سعيد، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء بِهِ. ثمَّ رَوَى عَن عبد الله بن معبد مثله، ذكرهمَا عَنهُ فِي «الْمعرفَة» . وَذكر فِي «السّنَن» الأول بِغَيْر إِسْنَاد، وَرَوَى فيهمَا عَن شُرَيْح أَنه قَالَ: (لَو كَانَ معي حكم حكمت فِي الثَّعْلَب بجدي) .
الْأَثر الرَّابِع بعد الْعشْرين: عَن عمر «أَن فِي الضَّب جديًا» هَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ: أَنا سُفْيَان، عَن مُخَارق، عَن طَارق، «أَن أَرْبَد أوطأ ضبًا ففزر ظَهره، فَأَتَى عمر فَسَأَلَهُ، فَقَالَ عمر: مَا ترَى؟ فَقَالَ: جديًا قد جمع المَاء وَالشَّجر. قَالَ عمر فَذَلِك فِيهِ) . وروياه أطول من هَذَا كَمَا سَيَأْتِي.
وَوَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ عزو هَذَا الْأَثر إِلَى عُثْمَان، وَهُوَ من النَّاسِخ، وَصَوَابه عزوه إِلَى عمر كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الْأَثر الْخَامِس بعد الْعشْرين: عَن بَعضهم (أَن فِي الْإِبِل بقرة) .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سعيد - يَعْنِي ابْن سَالم - عَن إِسْرَائِيل، عَن أبي إِسْحَاق، عَن الضَّحَّاك بن مُزَاحم، عَن ابْن عَبَّاس، «أَنه قَالَ فِي بقرة الْوَحْش بقرة، وَفِي الأُيل بقرة» . وَهُوَ مُنْقَطع كَمَا سلف من أَن الضَّحَّاك لم يثبت سَمَاعه من ابْن عَبَّاس.(6/400)
والأُيل - بمثناة تَحت - ذكر الوعُول. قَالَ الْمُحب فِي أَحْكَامه: الأُيل - بِضَم الْهمزَة، وَيُقَال: بِكَسْرِهَا - ذكر الوعول. والأروى: الْأُنْثَى مِنْهَا، وَكَذَا قَالَ فِي «تَهْذِيب الْأَسْمَاء واللغات» : ضم الْهمزَة أرجح من كسرهَا، قَالَ: ورأيته فِي «الْمُجْمل» مضبوطًا بِالْكَسْرِ فَقَط.
الْأَثر السَّادِس بعد الْعشْرين: «أَن رجلا قتل (ضبًّا) فَسَأَلَ عمر رَضي اللهُ عَنهُ فَقَالَ: احكم فِيهِ. قَالَ: أَنْت خير مني وَأعلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ: إِنَّمَا أَمرتك أَن تحكم فِيهِ، وَلم آمُرك أَن تزكيني. فَقَالَ: أرَى فِيهِ جديا، قَالَ: فَذَاك فِيهِ) .
هَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، عَن سُفْيَان: أَنا مُخَارق، عَن طَارق بن شهَاب، قَالَ: «خرجنَا حجاجًا فأوطأ رجل منا يُقَال لَهُ أَرْبَد ضبًا ففزر ظَهره، فقدمنا عَلَى عمر فَسَأَلَهُ أَرْبَد فَقَالَ لَهُ عمر: احكم يَا أَرْبَد ... » ثمَّ ذكر الْبَاقِي بِمثلِهِ.
وَقَالَ: قَوْله فِيهِ «جديًا) قد جمع المَاء وَالشَّجر.
الْأَثر السَّابِع وَالثَّامِن بعد الْعشْرين: «عَن عمر وَعُثْمَان رَضي اللهُ عَنهما أَنه أوجب فِي الْحَمَامَة شَاة» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، عَن سعيد بن سَالم، عَن عمر بن سعيد بن أبي حُسَيْن، عَن عبد الله بن كثير الدَّارِيّ، عَن طَلْحَة بن أبي حَفْصَة، عَن نَافِع بن عبد الْحَارِث، قَالَ:(6/401)
«قدم عمر بن الْخطاب مَكَّة فَدخل دَار الندوة فِي يَوْم الْجُمُعَة، وَأَرَادَ أَن يستقرب مِنْهَا الرواح إِلَى الْمَسْجِد، فَألْقَى رِدَاءَهُ عَلَى واقفٍ فِي الْبَيْت، فَوَقع عَلَيْهِ طير من هَذَا الْحمام فأطاره، فَوَقع عَلَيْهِ، فانتهزته حَيَّة فَقتلته، فَلَمَّا صَلَّى الْجُمُعَة دخلت عَلَيْهِ أَنا وَعُثْمَان فَقَالَ: احكما عليَّ فِي شَيْء صَنعته الْيَوْم، إِنِّي دخلت هَذِه الدَّار وَأَرَدْت أَن أستقرب مِنْهَا الرواح إِلَى الْمَسْجِد فألقيت رِدَائي عَلَى هَذَا الْوَاقِف فَوَقع عَلَيْهِ طير من هَذَا الْحمام فَخَشِيت أَن يلطخه بسلحه فأطرته عَنهُ، فَوَقع عَلَى هَذَا الْوَاقِف الآخر فانتهزته حَيَّة فَقتلته، فَوجدت فِي نَفسِي أَنِّي أطرته من منزلةٍ كَانَ فِيهَا آمنا إِلَى (موقفة) كَانَ فِيهَا حتفه، فَقلت لعُثْمَان بن عَفَّان: كَيفَ ترَى فِي عنز ثنية عفراء نحكم بهَا عَلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: أرَى ذَلِكَ. فَأمر بهَا عمر رَضي اللهُ عَنهُ» . قَالَ الْحَافِظ زكي الدَّين الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاده حسن.
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَن غنْدر، عَن شُعْبَة، [عَن الحكم] ، عَن شيخ من أهل مَكَّة (أَن حَماما كَانَ عَلَى الْبَيْت فخرَّت عَلَى يَد عمر، فَأَشَارَ بِيَدِهِ فطار، فَوَقع عَلَى بعض بيُوت أهل مَكَّة، فَجَاءَت حَيَّة فأكلته، فَحكم عمر عَلَى نَفسه بِشَاة) . وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سعيد، عَن ابْن جريج، قَالَ: قَالَ مُجَاهِد: «أَمر عمر بن الْخطاب بحمامة فأطيرت، فَوَقَعت فِي الْمَرْوَة فأخذتها حَيَّة، فَجعل فِيهَا شَاة» .
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَن يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان، عَن مُحَمَّد(6/402)
بن أبي يَحْيَى، عَن صَالح بن الْمهْدي أَن أَبَاهُ أخبرهُ قَالَ: (حججْت مَعَ عُثْمَان فقدمنا امكة، ففرشت لَهُ فِي بَيت فرقد فَجَاءَت حمامة فَوَقَعت فِي كُوّة عَلَى فرَاشه، فَجعلت تبحث برجلها، فَخَشِيت أَن تنثر عَلَى فرَاشه، فيستيقظ فأطرتها، فَوَقَعت فِي كُوَّة أُخْرَى فَخرجت حيّة فقتلتها، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُثْمَان أخْبرته، فَقَالَ: أدِّ عَنْك شَاة فَقلت: إِنَّمَا أطرتها من أَجلك. قَالَ: وعني شَاة) .
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن وَكِيع، عَن إِسْرَائِيل، عَن جَابر، عَن عَطاء قَالَ: «أول من فدى طير الْحرم بِشَاة عُثْمَان» .
الْأَثر التَّاسِع بعد الْعشْرين: عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ (أَنه أوجب فِي الْحَمَامَة شَاة) .
هَذَا الْأَثر غَرِيب عَنهُ، لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ.
الْأَثر الثَّلَاثُونَ: عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ مثله.
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُفْيَان، عَن شُعْبَة، عَن رجل أَظُنهُ أَبَا بشر، عَن يُوسُف بن مَاهك، عَن ابْن عمر «فِي رجل أغلق بَابه عَلَى حمامة وفرخيها - يَعْنِي فَرجع وَقد موتت - فأغرمه ابْن عمر ثَلَاث شياة من الْغنم» . ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث ابْن أبي شيبَة، عَن هشيم، عَن أبي بشر، عَن عَطاء ويوسف بن مَاهك وَمَنْصُور، عَن عَطاء، «أَن رجلا أغلق بَابه عَلَى حمامة وفرخيها ثمَّ انْطلق إِلَى عَرَفَات وَمنى فَرجع وَقد موتت، فَأَتَى ابْن عمر فَذكر ذَلِكَ لَهُ فَجعل عَلَيْهِ ثَلَاثًا من الْغنم، وَحكم مَعَه رجل» .(6/403)
الْأَثر الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ: عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ مثله.
هَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ عَن سُفْيَان، عَن عَمْرو، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه قَضَى فِي حمامة من حمام مَكَّة بِشَاة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الْملك، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه جعل فِي حمام الْحرم عَلَى الْمحرم والحلال (بِكُل) حمامة شَاة» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سعيد، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء «أَن عُثْمَان بن (عبد الله) بن حميد قتل ابْن لَهُ حمامة، فجَاء ابْن عَبَّاس فَقَالَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: يذبح شَاة فَيتَصَدَّق بهَا» .
قَالَ ابْن جريج: فَقلت لعطاء: أَمن حمام مَكَّة؟ قَالَ: نعم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «فِي الْحَمَامَة شَاة لَا يُؤْكَل مِنْهَا، يتَصَدَّق بهَا» . وَعَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس «فِي الخضري، والدبسي، والقمري، والقطاة، والحجل شَاة شَاة» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار، «أَن غُلَاما من قُرَيْش قتل حمامة من حمام مَكَّة، فَأمر ابْن عَبَّاس أَن يفدى عَنهُ بِشَاة) .
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَن وَكِيع، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن عَطاء،(6/404)
عَن ابْن عَبَّاس «فِي طير الْحرم شَاة شَاة» .
الْأَثر الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ: عَن نَافِع بن الْحَارِث مثله.
هَذَا الْأَثر سلف قَرِيبا لَكِن عَن نَافِع بن عبد الْحَارِث.
الْأَثر الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ: عَن عَطاء مثله.
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَلّي بن الْجَعْد، أبنا شريك، عَن عبد الْكَرِيم عَنهُ، أَنه قَالَ (فِي عِظَام الطير شَاة الكركي، والحُبَارى والوز، وَنَحْوه) .
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَن ابْن فُضَيْل، عَن عَطاء بن السَّائِب قَالَ: «نزلنَا منزلا فأغلقنا بَاب الْمنزل عَلَى حمامة فَمَاتَتْ فسألنا عَطاء، فَقَالَ: فِيهَا شَاة» .
قَالَ: وثنا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر، عَن أَشْعَث، عَن عَطاء قَالَ: «من قتل حمامة من حمام مَكَّة فَعَلَيهِ شَاة» .
قَالَ: وثنا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، قَالَ: عَلَيْهِ شَاة» .
وَرَوَاهُ عَطاء عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَعُثْمَان كَمَا سلف.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ عَن عَاصِم بن عمر مثله.
قلت: ذكره الشَّافِعِي بِغَيْر إِسْنَاد، كَمَا حَكَاهُ عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» .(6/405)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ عَن سعيد بن الميسب مثله.
قلت: ذكره الشَّافِعِي أَيْضا بِغَيْر إِسْنَاد، وأسنده الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث مَالك، عَن يَحْيَى بن سعيد عَنهُ، «أَنه كَانَ يَقُول فِي حمام مَكَّة إِذا قتل شَاة» .
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب، قَالَ: (عَلَيْهِ شَاة) . قَالَ: وثنا عَبدة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب «أَنه كَانَ يَقُول فِي حمام الْحرم إِذا قتل بِمَكَّة فَفِيهِ شَاة» .
الْأَثر الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ: عَن الصَّحَابَة رَضي اللهُ عَنهم أَنهم حكمُوا فِي الْجَرَاد بِالْقيمَةِ وَلم يقدروا) .
هَذَا صَحِيح عَنْهُم وَقد تقدم ذَلِكَ فِي الْأَثر الثَّامِن عشر عَن عمر وَابْنه، وَعبد الله بن عَمْرو، وَفِي الْأَثر التَّاسِع عشر عَن (ابْن) عَبَّاس مثله أَيْضا، وَفِي الْأَثر الَّذِي يَلِيهِ عَن عمر أَيْضا، وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار «أَن رجلا سَأَلَ عمر بن الْخطاب عَن جَراد أصابهن وَهُوَ محرم، فَقَالَ: فِي الجرادة تَمْرَة» .
وَهَذَا رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ لَكِن مُنْقَطِعًا، عَن زيد بن أسلم، عَن عمر.(6/406)
وَرَوَاهُ سعيد أَيْضا عَن هشيم، (أبنا) أَبُو بشر، عَن يُوسُف بن مَاهك قَالَ: قَالَ كَعْب: «مَرَرْنَا برِجْلٍ من جَراد، وَنحن محرمون، فَعمد رجل منا إِلَى جرادتين فألقاهما فِي النَّار، ثمَّ أكلهما، فَلَمَّا قدمت عَلَى عمر بن الْخطاب ذكرت ذَلِكَ (لَهُ) فَقَالَ عمر: لَعَلَّك أَنْت هُوَ؟ قلت: نعم. قَالَ: فَمَا نَوَيْت فِي نَفسك؟ قلت: دِرْهَمَيْنِ. فَقَالَ: عمر إِنَّكُم معاشر أهل حمص كَثِيرَة دراهمكم، لتمرتين أحب إليَّ من جرادتين. ثمَّ قَالَ: أمض الَّذِي نَوَيْت فِي نَفسك» .
وَقد سلف هَذَا عَن عمر من طَرِيق آخر قبل الْأَثر الْحَادِي بعد الْعشْرين، وَمن طَرِيق آخر فِي الْأَثر الثَّامِن عشر.
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن فُضَيْل، عَن يزِيد، عَن إِبْرَاهِيم، عَن كَعْب فَذكره.
وَرَوَاهُ أَيْضا عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش، عَن الْأسود، عَن عمر بِمثلِهِ.
الْأَثر الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ: عَن ابْن الزبير رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «إِن الشَّجَرَة الْكَبِيرَة تضمن ببقرة، وَإِن الصَّغِيرَة تضمن بِشَاة» .
هَذَا الْأَثر ذكره الشَّافِعِي فَقَالَ (كَمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ عَنهُ «من قطع من شجر الْحرم شَيْئا جَزَاؤُهُ حَلَالا كَانَ أَو محرما، فِي الشَّجَرَة الْكَبِيرَة بقرة، وَفِي الصَّغِيرَة شَاة» .(6/407)
وَرُوِيَ هَذَا عَن ابْن الزبير وَعَطَاء.
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الْإِمْلَاء كَمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا) : والفدية فِي مُتَقَدم الْخَبَر عَن ابْن الزبير وَعَطَاء مجتمعة فِي أَن فِي الدوحة بقرة، والدَوْحَة: الشَّجَرَة الْعَظِيمَة. وَقَالَ عَطاء: فِي الشَّجَرَة دونهَا شَاة.
قَالَ الشَّافِعِي: فَالْقِيَاس أَولا مَا وصفت فِيهِ أَنه يفْدِيه من أَصَابَهُ بِقِيمَتِه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وروينا [عَن ابْن جريج] عَن عَطاء فِي الرجل يقطع من شجر الْحرم قَالَ: (فِي الْقَضِيب دِرْهَم، وَفِي الدَّوْحَة بقرة) .
قلت: وَقَالَ سعيد بن مَنْصُور بعد أَن قَالَ: أبنا هشيم، قَالَ: أَخْبرنِي بعض أشياخنا، عَن عَطاء أَنه كَانَ يَقُول: «الْمحرم إِذا قطع شَجَرَة عَظِيمَة من شجر الْحرم فَعَلَيهِ بَدَنَة» . وَهَذَا الشَّيْخ مَجْهُول لَا تقوم الْحجَّة بروايته.
[عَن هشيم] أَخْبرنِي حجاج قَالَ: «سَأَلت عَطاء غير مرّة عَمَّن قطع من شجر الْحرم قَالَ: يسْتَغْفر الله وَلَا يعود» . قلت: فَهَذَا خلاف عَن عَطاء.
فَائِدَة: الدَوْحَة - بِفَتْح الدَّال وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ -: الشَّجَرَة الْعَظِيمَة. والجَزْلة - بِفَتْح الْجِيم وبالزاي الْمُعْجَمَة الساكنة - هِيَ الغليظة. كَذَا قَالَه الْجَوْهَرِي.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد: الدَوْحَة: الشَّجَرَة الْكَبِيرَة ذَات الأغصان، والجَزْلة: الَّتِي لَا أَغْصَان لَهَا.(6/408)
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَأطلق أَكثر الْأَصْحَاب أَن الجزلة هِيَ الشَّجَرَة الصَّغِيرَة.
الْأَثر السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ: عَن ابْن عَبَّاس مثله.
هَذَا الْأَثر تبع فِي إِيرَاده عَنهُ الإِمَام وَلم أَر من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ.
وَذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمَام وَلم يعزه.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى عَن غَيرهمَا أَيْضا مثلهَا.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أسلفنا عَن عَطاء. وَذكر الْمَاوَرْدِيّ فِي «حاويه» أَن سُفْيَان رَوَى عَن دَاوُد بن شَابُور، عَن مُجَاهِد، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «فِي الدوحة إِذا [قطعت] من أَصْلهَا (بقرة) » .
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَكَذَلِكَ رَوَى عَن عَطاء لَكِن الشَّافِعِي لم يذكرهُ قلت: بلَى قد ذكره كَمَا سلف.
الْأَثر السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ: عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها (أَنَّهَا) كَانَت تنقل مَاء زَمْزَم.
هَذَا الْأَثر حسن رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» من حَدِيث عُرْوَة ابْن الزبير عَنْهَا «أَنَّهَا كَانَت تحمل مَاء زَمْزَم وتخبر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَفْعَله» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا(6/409)
حَدِيث حسن غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد - حَدَّثَنِيهِ ابْن خُزَيْمَة إِمَام الْأَئِمَّة وَغَيره - وَلم يخرجَاهُ.
وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ هَكَذَا وبلفظ «حمله رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الأداوى والقرب وَكَانَ يصب عَلَى الْمَرْضَى ويسقيهم» نقل عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: لَا يُتَابع خَلاد بن يزِيد عَلَى هَذَا الحَدِيث.
قلت: وخلاد هَذَا فِي رِوَايَة من سُقْنَا حَدِيثه وَهُوَ من رجال التِّرْمِذِيّ فَقَط وَذكره الْمزي فِي «تهذيبه» ، عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَإِنَّمَا لم يُصَحِّحهُ التِّرْمِذِيّ لأَجله. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : وَهَذَا الحَدِيث انْفَرد بِهِ.
خَاتِمَة: اسْتدلَّ الرَّافِعِيّ لأحد الْأَقْوَال فِيمَا إِذا حلق شَعْرَة أَو شعرتين، وأوجبنا فِي الشعرة الْوَاحِدَة درهما وَفِي الشعرتين (دِرْهَمَيْنِ) بِأَن قَالَ: كَانَت الشَّاة تقوَّم فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِثَلَاثَة دَرَاهِم تَقْرِيبًا فاعتبرت تِلْكَ الْقيمَة عِنْد الْحَاجة عِنْد التَّوْزِيع. وَكَذَا علل هَذَا القَوْل (غَيره) من الْأَصْحَاب وَهَذِه دَعْوَى غَرِيبَة وَقد أبطلها النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» فَقَالَ: هَذَا مُجَرّد دَعْوَى لَا أصل لَهَا - يَعْنِي تَقْوِيم الشَّاة فِي عَهده عَلَيْهِ السَّلَام بِثَلَاثَة دَرَاهِم - فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام عَادل بَينهَا وَبَين عشرَة دَرَاهِم فِي(6/410)
الزَّكَاة فَجعل الْجبرَان شَاة أَو عشْرين درهما.
وَقد سبقه إِلَى إِنْكَار ذَلِكَ الْمُتَوَلِي، وَقَالَ: إِنَّه بَاطِل لأوجه: أَحدهَا: أَن الْموضع الَّذِي يُصَار (فِيهِ) إِلَى التَّقْوِيم فِي فديَة الْحَج لَا تَخْرِيج الدَّرَاهِم بل يصرف الطَّعَام، وَهُوَ جَزَاء الصَّيْد وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يصرف إِلَى الطَّعَام.
ثَانِيهَا: أَن الِاعْتِبَار فِي الْقيمَة بِالْوَقْتِ لِأَن مَا كَانَ فِي عَهده عَلَيْهِ (الصَّلَاة) وَالسَّلَام كَانَ فِي جَزَاء الصَّيْد فَإِنَّهُ يقوم بالأمثل (لَهُ) من النعم بِقِيمَة الْوَقْت، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن تجب قيمَة (ثلث شَاة) .
ثَالِثهَا: أَن الشَّرْع خير بَين الشَّاة وَالطَّعَام، (وَالطَّعَام) يحْتَمل التَّبْعِيض كَمَا ذكرنَا.(6/411)
بَاب الْإِحْصَار والفوات
ذكر فِيهِ أَحَادِيث وآثارًا؛ أما الْأَحَادِيث فاثنى عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُحصر هُوَ وَأَصْحَابه بِالْحُدَيْبِية فَأنْزل الله تَعَالَى: (فَإِن أحصرتم فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث جماعات من الصَّحَابَة أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تحلل بِالْحُدَيْبِية حِين (صده) الْمُشْركُونَ عَنْهَا.
(مِنْهَا) حَدِيث (عبد الله) بن عمر الْآتِي بعد هَذَا.
قَالَ الشَّافِعِي فِيمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فَلم أسمع مِمَّن حفظت عَنهُ من أهل الْعلم بالتفسير مُخَالفا فِي أَن هَذِه الْآيَة وَهِي (وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله فَإِن أحصرتم فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي) نزلت بِالْحُدَيْبِية حِين أحْصر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فحال الْمُشْركُونَ بَينه وَبَين الْبَيْت وَأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نحر بِالْحُدَيْبِية وَحلق وَرجع حَلَالا وَلم يصل إِلَى الْبَيْت وَلَا أَصْحَابه إِلَّا عُثْمَان بن عَفَّان وَحده.(6/412)
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تحلل بالإحصار (عَام) الْحُدَيْبِيَة وَكَانَ محرما بِعُمْرَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فحال كفار قُرَيْش دون الْبَيْت، فَنحر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هداياه، وَحلق وَقصر أَصْحَابه» . وَمن حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: «أحْصر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فحلق رَأسه وجامع نِسَاءَهُ وَنحر هَدْيه حَتَّى اعْتَمر قَابلا» قَالَ الشَّافِعِي: وَالْحُدَيْبِيَة مَوضِع من الأَرْض مِنْهُ مَا هُوَ فِي الْحل وَمِنْه مَا هُوَ فِي الْحرم فَإِنَّمَا نحر الْهَدْي عندنَا فِي الْحل وَفِيه مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الَّذِي بُويِعَ فِيهِ تَحت الشَّجَرَة فَأنْزل الله فِيهِ (لقد رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة) .
فَائِدَة: الْحُدَيْبِيَة بتَخْفِيف الْيَاء وتشديدها كَمَا سلف وَكَانَت قصَّة الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ من الْهِجْرَة.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لضباعة بنت الزبير: أَتُرِيدِينَ الْحَج؟ فَقَالَت: أَنا شاكية، فَقَالَ: حجي واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني» .(6/413)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «دخل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى ضباعة بنت الزبير فَقَالَ لَهَا: لَعَلَّك أردْت الْحَج؟ فَقَالَت: وَالله مَا أجدني إلاَّ وجعة. فَقَالَ: حجي واشترطي، وَقَوْلِي: اللَّهُمَّ محلي حَيْثُ حبستني وَكَانَت تَحت الْمِقْدَاد» وَفِي رِوَايَة لمُسلم قَالَت عَائِشَة: «دخل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى ضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أُرِيد الْحَج وَأَنا شاكية. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «حجي واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني» وَأخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا «أَن ضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب أَتَت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: إِنِّي امْرَأَة ثَقيلَة، وَإِنِّي أُرِيد الْحَج، فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: أَهلِي بِالْحَجِّ واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني. قَالَ: فأدركت» .
وَفِي رِوَايَة «أَن ضباعة أَرَادَت الْحَج، فَأمرهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تشْتَرط. فَفعلت ذَلِكَ عَن أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ بأسانيد صَحِيحَة «أَنَّهَا أَتَت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أُرِيد الْحَج أفأشترط؟ قَالَ: نعم. قَالَت: كَيفَ أَقُول؟(6/414)
قَالَ: قولي: «لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، محلي من الأَرْض حَيْثُ تحبسني» زَاد النَّسَائِيّ: «فَإِن لَك عَلَى رَبك مَا استثنيت» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِنَّه رُوِيَ مُسْندًا ومرسلاً وَهُوَ أصح. وَقَالَ الْأصيلِيّ: لَا يثبت فِي الِاشْتِرَاط إِسْنَاد صَحِيح. وَهُوَ عجب مِنْهُ؛ فَالْحَدِيث مَشْهُور ثَابت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسنَن أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَسَائِر كتب الحَدِيث الْمُعْتَمدَة من طرق مُتعَدِّدَة بأسانيد كَثِيرَة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا أعلم أسْندهُ عَن الزُّهْرِيّ غير معمر. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: لم يسْندهُ عَن معمر غير عبد الرَّزَّاق فِيمَا أعلم. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي كتاب «الْمَنَاسِك» وَهُوَ من الْجَدِيد: لَو ثَبت حَدِيث عُرْوَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الِاسْتِثْنَاء لم أعده إِلَى غَيره؛ لِأَنَّهُ لَا يحل عِنْدِي خلاف مَا ثَبت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد ثَبت هَذَا الحَدِيث من أوجه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ثمَّ ذكر مَا سبق، وَقَالَ الْعقيلِيّ: رَوَى ابْن عَبَّاس قصَّة ضباعة بأسانيد ثَابِتَة جِيَاد انْتَهَى. وَثَبت عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يُنكر الِاشْتِرَاط فِي الْحَج» كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: عِنْدِي أَنه لَو بلغه حَدِيث ضباعة لصار إِلَيْهِ وَلم يُنكر الِاشْتِرَاط كَمَا لم يُنكره أَبوهُ فِيمَا روينَا عَنهُ.(6/415)
فَائِدَة: محلي - بِكَسْر الْحَاء - أَي مَكَان محلي، هُوَ الْمَكَان الَّذِي حَبَسَنِي فِيهِ الْمَرَض.
وضباعة - بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَبعدهَا بَاء مُوَحدَة، وَبعد الْألف عين مُهْملَة، وتاء تَأْنِيث - لَهَا صُحْبَة، وَهِي بنت عَم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وكنيتها أم حَكِيم، كَذَلِك ذكر كنيتها الشَّافِعِي فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «مناقبه» وَقَول الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» : ضباعة الأسْلَمِيَّة غلط، كَمَا نبه عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» و «مَجْمُوعَة» ، وَصَوَابه الهاشمية، فَإِنَّهَا ضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب بن هَاشم بنت عَم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الحَدِيث الرَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُحصر عَام الْحُدَيْبِيَة فذبح بهَا وَهِي من الْحل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف، وَسلف كَلَام الشَّافِعِي أَيْضا فِيهِ.
الحَدِيث الْخَامِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر (سَعْدا) أَن يتَصَدَّق عَن أمه بعد مَوتهَا» .
هَذَا مَرْوِيّ من طَرِيقين إِحْدَاهمَا: عَن الْحسن الْبَصْرِيّ عَن سعد بن عبَادَة «أَن أمه مَاتَت فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أُمِّي مَاتَت أفأتصدق عَنْهَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَأَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء. فَتلك(6/416)
سِقَايَة سعد بِالْمَدِينَةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَهُوَ مُرْسل، الْحسن لم يدْرك سَعْدا فَإِن الْحسن (ولد) سنة إِحْدَى وَعشْرين، وَسعد بن عبَادَة أقل مَا فِيهِ أَنه توفّي سنة خمس عشرَة، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من هَذِه الطَّرِيق، وَهَذَا لَفظه: «يَا رَسُول الله، دلَّنِي عَلَى صَدَقَة؟ قَالَ: اسْقِ المَاء» وَفِيه مبارك بن فضَالة، ضعفه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ، وَكَانَ يُدَلس.
ثَانِيهمَا: عَن سعيد بن الْمسيب عَن سعد بن عبَادَة: «أَنه أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أُمِّي مَاتَت أفأتصدق عَنْهَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَأَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان بِلَفْظ: «قلت: يَا رَسُول الله، أَي (الصَّدَقَة) أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء» وَهُوَ مُرْسل أَيْضا، سعيد لم يدْرك (سَعْدا) ، قَالَه يَحْيَى الْقطَّان فَإِن سعيدًا ولد سنة(6/417)
خمس عشرَة، وَتُوفِّي سعد بن عبَادَة بِالشَّام سنة (خَمْسَة عشرَة وَقيل: سنة أَربع عشرَة. وَقيل سنة إِحْدَى عشرَة، فَكيف يُدْرِكهُ. قَالَه (الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد) الْمُنْذِرِيّ وَغَيره، وَأما (الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين) الْمَقْدِسِي فِي «أَحْكَامه» ، فَقَالَ: أَظُنهُ أدْركهُ. وَلَعَلَّه أَخذه من تَصْحِيح ابْن حبَان بحَديثه هَذَا من الطَّرِيق الْمَذْكُور، فَإِن من شَرطه الِاتِّصَال كَمَا شَرط فِي خطْبَة كِتَابه، وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من الطَّرِيقَيْنِ (الْمَذْكُورين) ، فَأخْرجهُ من حَدِيث قَتَادَة، عَن سعيد بن الْمسيب، وَالْحسن، عَن سعد بن عبَادَة «أَنه أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: أَي الصَّدَقَة أعجب إِلَيْك؟ قَالَ: سقِِي المَاء» ذكر لَهُ مُتَابعًا من حَدِيث قَتَادَة عَن سعيد « [أَن سَعْدا] ... .» الحَدِيث، ثمَّ (قَالَ) : هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قلت: وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي «مُسْنده» وَفِيه سَمِعت الْحسن يحدث عَن سعد بن عبَادَة - وَهُوَ غَرِيب - «أَن أمه مَاتَت فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أُمِّي مَاتَت أَتصدق عَنْهَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَأَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء. قَالَ فَتلك سِقَايَة سعد بِالْمَدِينَةِ» قلت: وَله طَرِيق ثَالِث من حَدِيث حميد بن أبي الصعب عَن سعد بن عبَادَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ(6/418)
لَهُ: يَا سعد، أَلا أدلك عَلَى صَدَقَة يسيرَة مؤنتها، عَظِيم أجرهَا؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: سقِِي المَاء. فسقى سعد المَاء» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث ضرار بن صرد أبي نعيم [الطَّحَّان] ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن عمَارَة بن غزيَّة، عَن حميد، وَضِرَار هَذَا مَتْرُوك.
فَائِدَة: اسْم أم سعد عمْرَة بنت مَسْعُود بن قيس بن عَمْرو بن زيد مَنَاة بن عدي بن عَمْرو بن مَالك بن النجار، قَالَه ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَكَذَا ذكره ابْن باطيش وَغَيره أَن اسْمهَا عمْرَة بنت مَسْعُود، أسلمت وبايعت وَتوفيت سنة خمس.
الحَدِيث السَّادِس
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي امْرَأَة لَهَا زوج وَلها مَال وَلَا يَأْذَن لَهَا زَوجهَا فِي الْحَج لَيْسَ لَهَا أَن تَنْطَلِق إِلَّا بِإِذن زَوجهَا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد القرميسيني، ثَنَا الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن مجاشع، ثَنَا مُحَمَّد بن أبي يَعْقُوب، ثَنَا حسان بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا إِبْرَاهِيم الصَّائِغ قَالَ: قَالَ نَافِع، عَن ابْن عمر ... فَذكره مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» كَذَلِك ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن إِبْرَاهِيم إِلَّا حسان، وَرَوَاهُ(6/419)
الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» كَذَلِك وَقَالَ فِي «مَعْرفَته» : تفرد بِهِ حسان.
قلت: لَا يضرّهُ فقد أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ وَهُوَ ثِقَة، وَإِن قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَأعله عبد الْحق بِأَن قَالَ فِي إِسْنَاده: رجل مَجْهُول يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن أبي يَعْقُوب الْكرْمَانِي رَوَاهُ عَن حسان بن إِبْرَاهِيم الْكرْمَانِي قَالَ ابْن الْقطَّان: تبع فِي ذَلِكَ [أَبَا] حَاتِم الرَّازِيّ نصًّا وَالْبُخَارِيّ إِشَارَة، ورد الْخَطِيب عَلَى البُخَارِيّ وبيَّن أَنه مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يَعْقُوب الْكرْمَانِي وَهُوَ ثِقَة وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي «جَامعه» قَالَ: وَالْبُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» وهِم فِي ذَلِكَ فَجَعلهَا ترجمتين مُحَمَّد بن أبي يَعْقُوب الْكرْمَانِي وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن [أبي] يَعْقُوب الْكرْمَانِي. قَالَ الْخَطِيب: وهما وَاحِد. قَالَ ابْن الْقطَّان: فَإِذا ثَبت هَذَا عرف أَن هَذِه الْعلَّة كَلَا عِلة وَإِنَّمَا الْعلَّة الْجَهْل بِحَال الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن مجاشع فَإِنَّهُ لَا يعرف حَاله.
قلت: وَتَابعه أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَزْرَقِيّ كَمَا أخرجهَا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيثه عَن حسان بِهِ وَلم يعله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيقَته بل بوب لَهُ وَاحْتج بِهِ.(6/420)
الحَدِيث السَّابِع
«أَن رجلا اسْتَأْذن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْجِهَاد فَقَالَ: أَلَك أَبَوَانِ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: استأذنتهما؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ففيهما فَجَاهد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضي اللهُ عَنهما قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاستأذنه فِي الْجِهَاد، فَقَالَ: أحيّ والداك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: ففيهما فَجَاهد» وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان «أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، أتأذن لي فِي الْجِهَاد؟ قَالَ: أَلَك والدان؟ قَالَ: نعم. قَالَ: اذْهَبْ فبرهما. فَذهب وَهُوَ [يحمل] الركاب» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه «إِنِّي جِئْت أُرِيد الْجِهَاد مَعَك وَلَقَد أتيت وَإِن والديَّ يَبْكِيَانِ. قَالَ: فَارْجِع فأضحكهما كَمَا أبكيتهما» وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِهَذَا اللَّفْظ الْأَخير إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا «الْهِجْرَة» بدل «الْجِهَاد» ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.(6/421)
قلت: لَكِن فِي سَنَده عَطاء بن السَّائِب وَقد أسلفنا فِي بَاب الْأَحْدَاث أَنه تغير بِأخرَة وَأَن جَمِيع من رَوَى عَنهُ رَوَى عَنهُ فِي الِاخْتِلَاط إِلَّا شُعْبَة وسُفْيَان وَغَيرهمَا من الأكابر كَمَا عَيناهُ هُنَاكَ، وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة سُفْيَان عَنهُ عِنْد أبي [دَاوُد] وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم، وَمن رِوَايَة شُعْبَة عَنهُ عِنْد الْحَاكِم أَيْضا، وَمن رِوَايَة عبد الرَّحْمَن [الْمحَاربي] عَنهُ عِنْد ابْن مَاجَه، وَمن رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَنهُ عِنْد أَحْمد وَمن رِوَايَة ابْن جريج عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن عُيَيْنَة وَحَمَّاد بن سَلمَة عَنهُ، وَرَوَى نَحوه أَبُو دَاوُد وَابْن حبَان من رِوَايَة أبي سعيد، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة مُعَاوِيَة بن جاهمة، ورواهما الْحَاكِم وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: فِي الأول دراج وَقد ضَعَّفُوهُ، لَكِن التِّرْمِذِيّ صحّح حَدِيثه(6/422)
فَلَهُمَا بِهِ أُسْوَة، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: الْحق أَنَّهَا حسان لِأَنَّهُ مُخْتَلف فِيهِ.
الحَدِيث الثَّامِن
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْحَج عَرَفَة، من لم يدْرك عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد فَاتَهُ الْحَج» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَابْن عمر مَرْفُوعا وَلَفظه فِي الأول: «من فَاتَهُ عَرَفَات فَاتَهُ الْحَج فليحلل بِعُمْرَة وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل» . وَلَفظه فِي الثَّانِي: «من فَاتَهُ عَرَفَات بلَيْل فقد فَاتَهُ الْحَج» وَضعفهمَا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» فَقَالَ: هَذَانِ الحديثان ضعيفان، فِي الأول يَحْيَى بن عِيسَى، وَتفرد بِالثَّانِي رَحْمَة بن مُصعب، قَالَ يَحْيَى بن معِين: ليسَا بِشَيْء. فَأَما تَعْلِيله بِيَحْيَى بن عِيسَى فَلَيْسَ بجيد فَإِنَّهُ من رجال مُسلم وَهُوَ صَدُوق، وَلكنه يهم، وَضَعفه يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، ويروي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن أبي لَيْلَى. وَهُوَ صَدُوق سيئ الْحِفْظ. وَأما تَعْلِيله برحمة بن مُصعب فَأصَاب فِيهِ، وَرَوَاهُ عَن ابْن أبي لَيْلَى أَيْضا، وَأما ابْن الْقطَّان فَقَالَ: رَحْمَة هَذَا لَا أعرفهُ مَذْكُورا كَمَا سَاقه الدَّارَقُطْنِيّ، فَإِنَّهُ كناه فِي الْإِسْنَاد أَبَا هَاشم ونعته بالفراء. وَإِنَّمَا ذكر الْعقيلِيّ رَحْمَة بن مُصعب أَبَا مُصعب الوَاسِطِيّ(6/423)
وسَاق عَن ابْن معِين أَنه قَالَ: لَيْسَ بِشَيْء. يحدث عَن عزْرَة بن ثَابت، رَوَى عَنهُ الْقَاسِم بن عِيسَى، فَالَّذِي فِي الْإِسْنَاد مَجْهُول - وَالله أعلم - إِن كَانَ هُوَ إِيَّاه، وَدَاوُد بن جُبَير الرَّاوِي عَنهُ لَا أعرفهُ أَيْضا مَذْكُورا، ولسعيد بن جُبَير أَخ يُقَال لَهُ: دَاوُد بن جُبَير، وَهُوَ مَجْهُول الْحَال أَيْضا، وَلَيْسَت هَذِه طبقته قلت: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث القعْنبِي، ثَنَا عمر بن قيس، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «من أدْرك عَرَفَة قبل طُلُوع الْفجْر فقد أدْرك (الْحَج» ) وَعمر هَذَا هُوَ سندول، وَيُقَال: سندل تَرَكُوهُ، وَقَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الشَّافِعِي، أبنا أنس بن عِيَاض، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: «من أدْرك لَيْلَة النَّحْر من الْحَاج فَوقف بجبال عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد أدْرك الْحَج، وَمن لم يدْرك عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد فَاتَهُ الْحَج فليأت الْبَيْت فليطف بِهِ سبعا، وَيَطوف بَين الصَّفَا والمروة سبعا، ثمَّ ليحلق أَو يقصر إِن شَاءَ، وَإِن كَانَ مَعَه هَدْيه فلينحره قبل أَن يحلق، فَإِذا فرغ من طَوَافه وسعيه فليحلق أَو يقصر ثمَّ ليرْجع إِلَى أَهله، فَإِن أدْركهُ الْحَج من قَابل فليحج إِن اسْتَطَاعَ وليهد، فَإِن لم يجد هَديا فليصم عَنهُ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ لأَهله» .(6/424)
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن الَّذين صدوا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْحُدَيْبِية كَانُوا ألفا وَأَرْبَعمِائَة، وَالَّذين اعتمروا مَعَه فِي عمْرَة الْقَضَاء كَانُوا نَفرا يَسِيرا وَلم يَأْمر النَّاس بِالْقضَاءِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث جَابر رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أحرم بِالْعُمْرَةِ سنة سِتّ وَمَعَهُ ألف وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ عَاد فِي السّنة (الْآخِرَة) وَمَعَهُ جمع يسير» قَالَ الْبَيْهَقِيّ قَالَ الشَّافِعِي، قَالَ الله - تَعَالَى -: (فَإِن أحصرتم فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي) ، وَلم يذكر قَضَاء. قَالَ: وَالَّذِي أَعقل فِي أَخْبَار أهل الْمَغَازِي شَبيه مَا ذكرت من ظَاهر الْآيَة، وَذَلِكَ أَنا قد علمنَا فِي متواطئ أَحَادِيثهم أَن قد كَانَ مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام الْحُدَيْبِيَة رجال معروفون بِأَسْمَائِهِمْ، ثمَّ اعْتَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) عمْرَة الْقَضِيَّة، وتخلف بَعضهم بِالْمَدِينَةِ من غير ضَرُورَة، وَلَو لَزِمَهُم الْقَضَاء لأمرهم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِن شَاءَ الله - بِأَن لَا يتخلفوا عَنهُ. وَقَالَ الإِمَام مَالك بِنَحْوِ مِمَّا قَالَه الشَّافِعِي، قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَأكْثر مَا قيل: إِن الَّذين اعتمروا مَعَه فِي الْعَام الْقَابِل(6/425)
سَبْعمِائة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأكْثر الرِّوَايَات أَن أهل الْحُدَيْبِيَة كَانُوا ألفا وَأَرْبَعمِائَة. وَيُؤَيّد مَا قَالَه مَا رَوَى البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن جَابر قَالَ: «قَالَ لنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (أَنْتُم) خير أهل الأَرْض، وكنّا ألفا وَأَرْبَعمِائَة» وَقيل: كَانُوا ألفا وَخَمْسمِائة وَصَححهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَقيل: كَانُوا ألفا وثلاثمائة، وَقد رويت هَذِه الرِّوَايَات الثَّلَاث فِي الصَّحِيح، وَكَانَت عمْرَة الْقَضَاء، وَيُقَال لَهَا: الْقَضِيَّة، فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ، فصده الْمُشْركُونَ فَصَالحهُمْ وقاضى سُهَيْل بن عَمْرو عَلَى الْهُدْنَة، ثمَّ اعْتَمر فِي السّنة السَّابِعَة، وَقيل لَهَا: عمْرَة الْقَضَاء والقضية؛ لمقاضاة سُهَيْل بن عَمْرو، لَا أَنَّهَا قَضَاء عمْرَة سنة سِتّ لما ذَكرْنَاهُ، وَوَقعت عمْرَة سنة سبع فرضا، وَأما سنة سِتّ فحسبت عمْرَة فِي الثَّوَاب، فقد جَاءَت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِأَن عمره عَلَيْهِ السَّلَام أَربع: - مِنْهَا - عمْرَة الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ، وَعمرَة الْقَضَاء سنة سبع، وَعمرَة الْجِعِرَّانَة سنة ثَمَان، وَعمرَة مَعَ حجَّته سنة عشر كَمَا سلف فِي بَاب الْمَوَاقِيت.
الحَدِيث الْعَاشِر
حَدِيث كَعْب بن عجْرَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رَآهُ وَرَأسه يتهافت قملاً» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي الْبَاب قبله.(6/426)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من رَاح فِي السَّاعَة الأولَى فَكَأَنَّمَا قرب بَدَنَة، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّانِيَة فَكَأَنَّمَا قرب (بقرة) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف وَاضحا فِي بَاب صَلَاة الْجُمُعَة.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَشَارَ إِلَى مَوضِع النَّحْر من منى، وَقَالَ: هَذَا المنحر وكل فجاج مَكَّة منحر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر، قَالَ: «لما وقف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِعَرَفَة، وَقَالَ: وقفت هَاهُنَا وعرفة كلهَا موقف، ووقفت هَاهُنَا بِجمع وَجمع كلهَا موقف، ونحرت هَاهُنَا وَمنى كلهَا منحر فَانْحَرُوا فِي رحالكُمْ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِنَحْوِ من لفظ الرَّافِعِيّ وَهَذَا لَفظه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «كل عَرَفَة موقف وكل منى منحر، وكل مُزْدَلِفَة موقف، وكل فجاج مَكَّة طَرِيق ومنحر» .
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله ومنِّه.
وَأما آثاره فَأَرْبَعَة: أَولهَا: عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «لَا حصر إِلَّا حصر الْعَدو» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن(6/427)
ابْن طَاوس، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس. وَعَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «لَا حصر إِلَّا حصر الْعَدو» زَاد أَحدهمَا: «ذهب الْحصْر الْآن» . قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
ثَانِيهَا: عَن سُلَيْمَان بن يسَار «أَن أَبَا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ خرج حاجًّا حَتَّى إِذا كَانَ بالنازية من طَرِيق مَكَّة ضلت رَاحِلَته، فَقدم عَلَى عمر بن الْخطاب يَوْم النَّحْر فَذكر ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عمر: اصْنَع كَمَا يصنع الْمُعْتَمِر، ثمَّ قد حللت، فَإِذا أدْركْت الْحَج قَابلا فاحجج وأهد مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ثمَّ الشَّافِعِي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ الرَّافِعِيّ: واشتهر ذَلِكَ فِي الصَّحَابَة وَلم يُنكره مُنكر. والنازية بنُون ثمَّ زَاي ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ هَاء كَذَا ضَبطه صَاحب الإِمَام وَسَبقه إِلَيْهِ الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» فَقَالَ: النازية عَلَى وزن فاعلة مَوضِع.
الْأَثر الثَّالِث: عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه أَمر الَّذين فاتهم الْحَج بِالْقضَاءِ من قَابل، فَقَالَ: فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح عَن سُلَيْمَان بن يسَار «أَن هَبَّار بن الْأسود جَاءَ يَوْم النَّحْر وَعمر بن الْخطاب(6/428)
ينْحَر هَدْيه فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَخْطَأنَا الْعدة كُنَّا نرَى أَن هَذَا الْيَوْم يَوْم عَرَفَة. فَقَالَ عمر: اذْهَبْ إِلَى مَكَّة فَطُفْ أَنْت وَمن مَعَك وانحروا هَديا إِن كَانَ مَعكُمْ، ثمَّ احْلقُوا أَو قصروا وَارْجِعُوا إِذا كَانَ (عَاما) قَابلا فحجوا وأهدوا، فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ» وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَن الْأسود قَالَ: «سَأَلت عمر عَن رجل فَاتَهُ الْحَج، قَالَ: يهل بِعُمْرَة وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل، ثمَّ خرجت الْعَام الْمقبل فَلَقِيت زيد بن ثَابت فَسَأَلته عَن رجل فَاتَهُ الْحَج قَالَ: يهل بِعُمْرَة وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ عَن إِدْرِيس الأودي عَنهُ فَقَالَ: «ويهريق دَمًا» . قَالَ: وَرَوَاهُ الْأسود قَالَ: «ويهل بِعُمْرَة ويحج من قَابل وَلَيْسَ عَلَيْهِ هدي. قَالَ: فَلَقِيت زيد بن ثَابت بعد عشْرين سنة فَقَالَ مثل قَول عمر» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن الْأسود قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى عمر قد فَاتَهُ الْحَج قَالَ عمر: اجْعَلْهَا عمْرَة وَعَلَيْك الْحَج من قَابل» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن الْحَارِث بن عبد الله بن أبي ربيعَة قَالَ: «سَمِعت عمر وجاءه رجل فِي وسط أَيَّام التَّشْرِيق وَقد فَاتَهُ الْحَج فَقَالَ لَهُ عمر: طف بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة وَعَلَيْك الْحَج من قَابل. وَلم يهد هَديا» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذِه الرِّوَايَة وَمَا قبلهَا عَن الْأسود عَن عمر متصلتان، وَرِوَايَة سُلَيْمَان بن يسَار عَنهُ مُنْقَطِعَة. قَالَ الشَّافِعِي: الحَدِيث الْمُتَّصِل عَن عمر يُوَافق حديثنا عَن عمر وَيزِيد حديثنا عَلَيْهِ الْهَدْي، وَالَّذِي يزِيد فِي(6/429)
الحَدِيث أولَى بِالْحِفْظِ من الَّذِي لم يَأْتِ بِالزِّيَادَةِ ورويناه عَن ابْن عمر كَمَا قُلْنَا مُتَّصِلا، وَفِي رِوَايَة إِدْرِيس الأودي - إِن صحت - «ويهريق دَمًا» وَهِي تشهد لرِوَايَة سُلَيْمَان بن يسَار بِالصِّحَّةِ، وَرَوَى إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن سُلَيْمَان بن يسَار، عَن هَبَّار بن الْأسود أَنه حَدثهُ «أَنه فَاتَهُ الْحَج ... » فَذكره مَوْصُولا.
الْأَثر الرَّابِع: عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «الْأَيَّام المعلومات أَيَّام الْعشْر، والمعدودات أَيَّام التَّشْرِيق» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ (الْبَيْهَقِيّ) عَنهُ بِإِسْنَاد صَحِيح، وَصَححهُ ابْن السكن وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَنهُ، وَإِنَّمَا نقل صَاحب الْبَيَان عَنهُ أَنه قَالَ: «إِن الْأَيَّام المعلومات أَرْبَعَة: يَوْم عَرَفَة والنحر ويومان بعده» . فَغَرِيب، وَالْمَعْرُوف عَنهُ مَا تقدم، وَنقل صَاحب الْبَيَان مثله عَن عَلّي، وَاتفقَ الْعلمَاء عَلَى أَن الْأَيَّام المعدودات هِيَ أَيَّام التَّشْرِيق، وَهِي ثَلَاثَة بعد يَوْم النَّحْر. قَالَ: ومذهبنا أَن الْأَيَّام المعلومات هِيَ الْعشْر الأول من ذِي الْحجَّة آخرهَا يَوْم النَّحْر. وَقَالَ مَالك: وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام، يَوْم النَّحْر ويومان بعده. فالحادي عشر وَالثَّانِي عشر عِنْده من المعلومات والمعدودات. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: ثَلَاثَة أَيَّام: يَوْم عَرَفَة، والنحر، وَالْحَادِي عشر. كَذَا نَقله عَنهُ، وَنقل الزَّمَخْشَرِيّ (فِي كشافه) عَنهُ وَعَن(6/430)
صَاحِبيهِ (كمذهبنا) قَالَ صَاحب الْبَيَان: وَفَائِدَة الْخلاف أَن عندنَا يجوز ذبح الْهَدَايَا والضحايا فِي أَيَّام التَّشْرِيق كلهَا، وَعند مَالك لَا يجوز فِي الْيَوْم الثَّالِث. وَقَالَ: فِي الْعِيد فَائِدَة وَصفه بِأَنَّهُ مَعْلُوم جَوَاز النَّحْر فِيهِ (وَفَائِدَة أَنه مَعْدُود، انْقِطَاع الرَّمْي فِيهِ) .(6/431)
بَاب [1] الْهَدْي
ذكر فِيهِ أَرْبَعَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أهْدَى مائَة بَدَنَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث عَلّي وَمُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل رَضي اللهُ عَنهما.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى الظّهْر بِذِي الحليفة، ثمَّ دَعَا ببدنة فأشعرها فِي صفحة سنامها الْأَيْمن» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم بِهَذَا اللَّفْظ إِلَّا أَنه قَالَ: «نَاقَته» بدل «بَدَنَة» وَزَاد: «وسلت الدَّم وقلدها نَعْلَيْنِ، ثمَّ ركب رَاحِلَته، فَلَمَّا اسْتَوَت عَلَى الْبَيْدَاء أهلَّ بِالْحَجِّ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «ثمَّ دَعَا ببدنة» كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ وَقَالَ: «ثمَّ سلت الدَّم عَنْهَا بِيَدِهِ» وَفِي رِوَايَة «بِأُصْبُعِهِ» وَفِي رِوَايَة (عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «أَنه أشعر بَدَنَة من الْجَانِب(6/432)
الْأَيْسَر» قَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا مُنكر) فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس وَالصَّحِيح رِوَايَة مُسلم.
فَائِدَة: هَذِه الصَّلَاة كَانَت فِي الْيَوْم الثَّانِي من خُرُوجه عَلَيْهِ السَّلَام من الْمَدِينَة نَقله عبد الْحق عَن حجَّة الْوَدَاع لِابْنِ حزم.
فَائِدَة أُخْرَى: مَعْنَى «سلت الدَّم» : أماطه بِأُصْبُعِهِ، وأصل السلت: الْقطع، وَيُقَال سلت الله أنف فلَان أَي جدعه. والإشعار: الْإِعْلَام، وَهُوَ أَن يطعن فِي سنامها حَتَّى يسيل دَمهَا فَيكون ذَلِكَ عَلامَة عَلَى أَنَّهَا هدي.
الحَدِيث الثَّالِث
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أهْدَى مرّة غنما ملقدة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم كَذَلِك من حَدِيث عَائِشَة، وَالْبُخَارِيّ بِمَعْنَاهُ.
الحَدِيث الرَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْهَدْي إِذا عطب: لَا تَأْكُل مِنْهَا أَنْت وَلَا أحد من أهل رفقتك» .
هَذَا الحَدِيث انْفَرد مُسلم بِإِخْرَاجِهِ من طَرِيقين: أَحدهمَا عَن أبي(6/433)
التياح عَن مُوسَى بن سَلمَة بن المحبق الْهُذلِيّ قَالَ: «انْطَلَقت أَنا وَسنَان بن سَلمَة معتمرين. قَالَ: وَانْطَلق سِنَان مَعَه ببدنة يَسُوقهَا. فأزحفت عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ فَعِييَ بشأنها إِن هِيَ أبدعت كَيفَ يَأْتِي بهَا، فَقَالَ: لَئِن قدمت الْمَدِينَة لأستحفين عَن ذَلِكَ. قَالَ: فأضحيت. قَالَ: فنزلنا الْبَطْحَاء، قَالَ: انْطلق بِنَا إِلَى ابْن عَبَّاس نتحدث لَهُ: فَذكر لَهُ شَأْن بدنته. فَقَالَ: عَلَى الْخَبِير سَقَطت، بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[بست عشرَة] بَدَنَة مَعَ رجل وأمَّره فِيهَا، قَالَ: فَمَضَى ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ أصنع [بِمَا] أبدع عليّ مِنْهَا؟ قَالَ: (انحرها) ثمَّ اصبغ نعليها فِي دَمهَا. ثمَّ اجْعَلْهُ عَلَى صفحتها، وَلَا تَأْكُل مِنْهَا أَنْت وَلَا أحد من أهل رفقتك» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ «ثَمَان عشرَة بَدَنَة» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث ابْن عليَّة، عَن أبي التياح، عَن مُوسَى بِهِ، ثمَّ قَالَ: لم يسمع ابْن عليَّة من أبي التياح غير هَذَا الحَدِيث، وَمَعْنى أزحفت: وقفت من الكلال. وأبدعت: كلت أَيْضا. ولأستحفين - بِالْحَاء الْمُهْملَة - أَي: لأسألن سؤالاً بليغًا عَن ذَلِكَ. وأضحيت: (نزلت) فِي وَقت الضُّحَى.
(ثَانِيهمَا) : عَن قَتَادَة عَن سِنَان بن سَلمَة عَن ابْن عَبَّاس وَقد(6/434)
ذكره صَاحب «الْمُهَذّب» من هَذَا الْوَجْه وأوضحت الْكَلَام عَلَيْهِ فِي تخريجي لأحاديثه، قَالَ: قَالَ الْحَافِظ رشيد الدَّين الْعَطَّار: وَإِسْنَاده غير مُتَّصِل عِنْد جمَاعَة من أهل النَّقْل، فَإِن قَتَادَة لم يسمع هَذَا الحَدِيث من سِنَان بن سَلمَة، قَالَه الإمامان يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان وَيَحْيَى بن معِين، وناهيك بهما جلالة وَمَعْرِفَة بِهَذَا الشَّأْن، وَذكر الْحَافِظ أَبُو الْفضل الْمَقْدِسِي أَيْضا أَن هَذَا الحَدِيث مَعْلُول من ثَلَاثَة أوجه: عُمْدَ تُها مَا قَالَه يَحْيَى الْقطَّان وَابْن معِين، قَالَ الْحَافِظ رشيد الدَّين: وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِكَ أَن سِنَان بن سَلمَة هَذَا هُوَ سِنَان بن سَلمَة بن المحبق مَعْدُود فِي الصَّحَابَة، وَله أَيْضا رِوَايَة عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد نَص أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ عَلَى أَن قَتَادَة لم يلق من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا أنس بن مَالك وَعبد الله بن سرجس، وَذكر البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» أَنه سمع أنسا وَأَبا الطُّفَيْل وَلم يذكر (من) الصَّحَابَة غَيرهمَا والعذر لمُسلم إِنَّمَا أخرج هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد فِي الشواهد ليبين أَنه قد رُوِيَ من غير وَجه عَن ابْن عَبَّاس وَإِلَّا فقد أخرجه قبل ذَلِكَ من حَدِيث أبي التياح عَن مُوسَى بن سَلمَة عَن ابْن عَبَّاس مُتَّصِلا فَثَبت اتِّصَاله.
قلت: وَرَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم(6/435)
من حَدِيث نَاجِية الْأَسْلَمِيّ رَضي اللهُ عَنهُ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
(فَائِدَة) : الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث أَنه لَا يجوز لفقراء الرّفْقَة الْأكل مِنْهَا، وَفِيه نظر لاحْتِمَال أَن المُرَاد بالرفقة الْأَغْنِيَاء فَهِيَ وَاقعَة عين لَا عُمُوم فِيهَا.(6/436)
كتاب الْبيُوع(6/437)
كتاب الْبيُوع
بَاب مَا يَصح بِهِ البيع
ذكر فِيهِ من الْأَحَادِيث عشرَة أَحَادِيث، وَمن الْآثَار أثرا وَاحِدًا:
الحَدِيث الأول
عَن رَافع بن خديج رَضي اللهُ عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (سُئِلَ) عَن أطيب الْكسْب فَقَالَ: عمل الرجل بِيَدِهِ وكل (بيع) مبرور» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَلَى الصَّحِيحَيْنِ من ثَلَاثَة طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث شريك، عَن وَائِل بن دَاوُد، عَن جَمِيع بن عُمَيْر عَن خَاله أبي بردة، قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَي الْكسْب أطيب أَو أفضل؟ قَالَ: عمل الرجل بِيَدِهِ، وكل (كسب) مبرور» وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أفضل كسب الرجل وَلَده وكل بيع مبرور» .(6/439)
ثَانِيهَا: من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن وَائِل بن دَاوُد، عَن سعيد بن عُمَيْر، عَن عَمه قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَي الْكسْب أفضل؟ قَالَ: كسب مبرور» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، قَالَ: وَوَائِل بن دَاوُد ثِقَة قَالَ: وَقد ذكر يَحْيَى بن معِين أَن عَم سعيد بن عُمَيْر الْبَراء بن عَازِب، قَالَ وَإِذا اخْتلف الثَّوْريّ وَشريك فَالْحكم للثوري.
ثَالِثهَا: من حَدِيث المَسْعُودِيّ، عَن وَائِل بن دَاوُد، عَن عَبَايَة بن رَافع بن خديج، عَن أَبِيه، قَالَ: «قيل: يَا رَسُول الله، أَي الْكسْب أطيب؟ قَالَ: كسب الرجل بِيَدِهِ وكل بيع مبرور» وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك، قَالَ الْحَاكِم: وَهَذَا خلاف ثَالِث عَلَى وَائِل بن دَاوُد، قَالَ: إِلَّا أَن البُخَارِيّ (و) مُسلما لم يخرجَا عَن المَسْعُودِيّ وَمحله الصدْق، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من هَذِه الطَّرِيق لكنه قَالَ: عَن جده بدل عَن أَبِيه، وَلَا أعلم لجده خديج رِوَايَة وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من هَذِه الطّرق كلهَا، وَقَالَ فِي الطَّرِيق الأول: هَكَذَا رَوَاهُ شريك القَاضِي، وَغلط فِيهِ فِي موضِعين:
أَحدهمَا: فِي قَوْله جَمِيع بن عُمَيْر وَإِنَّمَا هُوَ سعيد بن عُمَيْر. والأخير: فِي وَصله، وَإِنَّمَا رَوَاهُ غَيره عَن وَائِل مُرْسلا، وَهُوَ الْمَحْفُوظ،(6/440)
قَالَ: وَقَالَ شريك، عَن وَائِل بن دَاوُد، عَن جَمِيع بن عُمَيْر عَن خَاله أبي بردة وجُميع خطأ، وَقَالَ المَسْعُودِيّ: عَن وَائِل بن دَاوُد، عَن عَبَايَة بن رَافع بن خديج [عَن أَبِيه] وَهُوَ خطأ، قَالَ: وَالصَّحِيح: رِوَايَة وَائِل عَن سعيد بن عُمَيْر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا قَالَ البُخَارِيّ: أسْندهُ بَعضهم وَهُوَ خطأ. وَكَذَا قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» أَن الْمُرْسل أشبه. وَله طَرِيق رَابِع، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» قَالَ: وَسَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ بهْلُول بن عبيد، عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي، عَن الْحَارِث، عَن عَلّي «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَي الْأَعْمَال أَزْكَى؟ قَالَ: كسب الْمَرْء بِيَدِهِ وكل بيع مبرور» . فَقَالَ أبي: هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد بَاطِل، وبهلول ذَاهِب الحَدِيث.
قلت: وَله طَرِيق خَامِس، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : وَسَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ قدامَة بن شهَاب، عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، عَن وبرة، عَن ابْن عمر، قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن أطيب الْكسْب، قَالَ: عمل الرجل بِيَدِهِ وكل بيع مبرور» . فقَالَ: هَذَا حَدِيث بَاطِل، وَقُدَامَة لَيْسَ بِالْقَوِيّ. قلت: وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من هَذَا الطَّرِيق أَيْضا.(6/441)
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن ثمن الْكَلْب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مَرْوِيّ من طرق: (إِحْدَاهَا) من رِوَايَة أبي مَسْعُود عقبه بن عَمْرو البدري رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن ثمن الْكَلْب، وَمهر الْبَغي، وحلوان الكاهن» أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» .
ثَانِيهَا: من رِوَايَة جَابر رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن ثمن الْكَلْب، والسنور» رَوَاهُ مُسلم وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن ثمن السنور، وَالْكَلب إِلَّا كلب صيد» ثمَّ قَالَ: هَذَا مُنكر.
(ثَالِثهَا: من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا يحل ثمن الْكَلْب، وَلَا حلوان الكاهن، وَلَا مهر الْبَغي» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد حسن، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن مهر الْبَغي وَثمن الْكَلْب والسنور وَكسب الْحجام من السُّحت» واستدركه الْحَاكِم بِلَفْظ) : «لَا يحل ثمن الْكَلْب وَلَا مهر الزَّانِيَة» ثمَّ(6/442)
قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، قَالَ: وَله شَاهد عَن ابْن (عَمْرو) قَالَ: «نهي عَن مهر الْبَغي، وَثمن الْكَلْب، وحلوان الكاهن» ذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ.
قلت: وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عِكْرِمَة عَنهُ مَرْفُوعا: «ثمن الْكَلْب خَبِيث وَهُوَ أَخبث مِنْهُ» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث رُوَاته كلهم ثِقَات إِن سلم من يُوسُف بن خَالِد السَّمْتِي فَإِنَّهُ صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ، وَقد خرجته لشدَّة الْحَاجة إِلَيْهِ، وَقد اسْتعْمل مثله الشَّيْخَانِ فِي غير مَوضِع يطول بشرحه الْكتاب. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : يُوسُف هَذَا غَيره أوثق مِنْهُ.
قلت: بل هُوَ كَذَّاب زنديق، كَمَا قَالَ ابْن معِين.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله - عَزَّ وجَلَّ - حرّم بيع الْخمر وَالْميتَة وَالْخِنْزِير والأصنام» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من هَذَا الْوَجْه، وَأَن جَابِرا سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول ذَلِكَ عَام الْفَتْح وَهُوَ بِمَكَّة، وَزَادا: «فَقيل: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت شحوم الْميتَة فَإِنَّهُ يطلى بهَا السفن، ويدهن(6/443)
بهَا الْجُلُود، ويستصبح بهَا النَّاس. فَقَالَ: لَا، هُوَ حرَام. ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عِنْد ذَلِكَ: قَاتل الله الْيَهُود، إِن الله لما حرَّم شحومها جملوه، ثمَّ باعوه فَأَكَلُوا ثمنه» .
مَعْنَى جملوه: أذابوه. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله جَالِسا عِنْد (الرُّكْنَيْنِ) فَرفع بَصَره إِلَى السَّمَاء فَضَحِك، فَقَالَ: لعن الله الْيَهُود - ثَلَاثًا - إِن الله إِذا حرّم عَلَى قوم أكل شَيْء حرم عَلَيْهِم ثمنه» .
وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بسياقة حَدِيث جَابر إِلَّا أَنه لم يذكر فِيهِ الْأَصْنَام، وَوَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ عَن جَابر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حرّم بيع الْخمر ... » إِلَى آخِره وَهُوَ صَحِيح، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، عَن جَابر «إِن (الله وَرَسُوله) حرّم بيع الْخمر ... » إِلَى آخِره.
الحَدِيث الرَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن، فَقَالَ: إِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا، وَإِن كَانَ ذائبًا فأريقوه» .
هَذَا الحَدِيث مَشْهُور إلاّ اللَّفْظَة الْأَخِيرَة، وَهِي «فأريقوه» فَلم أرها(6/444)
فِي كتب الحَدِيث، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّهَا جَاءَت فِي بعض الْأَخْبَار، فَأخْرجهُ البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، عَن مَيْمُونَة «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن فَأْرَة سَقَطت فِي سمن فَمَاتَتْ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: خذوها وَمَا حولهَا وكلوا سمنكم» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «ألقوها وَمَا حولهَا وكلوه» .
(و) أخرجه أَحْمد بِلَفْظ: «أَنَّهَا استفتت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي فَأْرَة سَقَطت فِي سمن لَهُم جامد، فَقَالَ: ألقوها وَمَا حولهَا وكلوا سمنكم» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي «صَحِيحه» : «إِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وكلوه، وَإِن كَانَ ذائبًا فَلَا تقربوه» وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «وَإِن كَانَ ذائبًا أَو مَائِعا لم يُؤْكَل» وَفِي الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» : «خذوها وَمَا حولهَا فاطرحوه، وكلوا سمنكم» . وَرُوِيَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن فَأْرَة وَقعت فِي سمن فَمَاتَتْ، فَقَالَ: إِن كَانَ جَامِدا فخذوها وَمَا حولهَا وكلوا مَا بَقِي، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تأكلوه» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «إِذا وَقعت الْفَأْرَة فِي السّمن فَإِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا،(6/445)
وَإِن كَانَ مَائِعا (فأريقوه) » . وَإِسْنَاده صَحِيح، قَالَ عبد الرَّزَّاق: وَرُبمَا حدث بِهِ معمر [عَن الزُّهْرِيّ] ، عَن عبيد الله بن عبد الله (عَن) ابْن عَبَّاس، عَن مَيْمُونَة، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَذكره التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَاد أبي دَاوُد ثمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ، قَالَ: وَسمعت البُخَارِيّ يَقُول: هُوَ خطأ، قَالَ: وَالصَّحِيح حَدِيث ابْن عَبَّاس، عَن مَيْمُونَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ ابْن أبي مَرْيَم، عَن عبد الْجَبَّار بن عمر الْأَيْلِي عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «فِي الْفَأْرَة تقع فِي السّمن، فَقَالَ: إِن كَانَ جَامِدا ... » الحَدِيث قَالَ ابْن أبي حَاتِم: وَرَوَاهُ معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه، قَالَ أبي: كِلَاهُمَا وهم، وَالصَّحِيح: الزُّهْرِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله، عَن ابْن عَبَّاس، عَن مَيْمُونَة، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : تَابع عبد الْجَبَّار يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن ابْن جريج،(6/446)
عَن الزُّهْرِيّ، وَخَالَفَهُمَا أَصْحَاب الزُّهْرِيّ؛ فَرَوَوْه عَن الزُّهْرِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله، عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ الصَّحِيح. وأمّا ابْن حبَان فَأخْرجهُ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بالسند الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: هُوَ مَحْفُوظ، وَلَفظه: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن، فَقَالَ: إِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه - يَعْنِي ذائبًا» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «سُئِلَ عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن فتموت، قَالَ: «إِن كَانَ جَامِدا أَلْقَاهَا وَمَا حولهَا وَأكله، وَإِن كَانَ مَائِعا لم يقربهُ» . وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الذَّبَائِح عَن عَبْدَانِ، عَن عبد الله، عَن يُونُس، عَن الزُّهْرِيّ، عَن (عبيد الله) بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود، عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: «بلغنَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بفأرة مَاتَت فِي سمن فَأمر بِمَا قرب مِنْهَا فَطرح ثمَّ أكل» . وَفِي «غَرِيب» أبي عبيد: ثَنَا هشيم، عَن معمر بن أبان، عَن رَاشد مولَى قُرَيْش، عَن ابْن عمر، «أَنه سُئِلَ عَن فَأْرَة وَقعت فِي سمن، قَالَ: إِن كَانَ مَائِعا فألقه كُله، وَإِن كَانَ جامسًا فَألْقوا الْفَأْرَة وَمَا حولهَا، وكل مَا بَقِي» قَالَ: والجامس الجامد.
فَائِدَة: فِي حد الجامد، قَالَ ابْن الصّلاح: بلغنَا عَن القَاضِي الْحُسَيْن أَنه حدَّ الجامد بِأَن يكون بِحَيْثُ إِذا غرف مِنْهُ بِيَدِهِ لَا ينكبس فِي الْحَال، قَالَ: وَهَذَا تقريب.(6/447)
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لحكيم بن حزَام: «لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث يُوسُف بن مَاهك، عَن حَكِيم بن حزَام، وَذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر «الاقتراح» فِي أَحَادِيث احْتج برواتيها الشَّيْخَانِ وَلم يخرجاها، أما أَحْمد فلفظه: «يَا رَسُول الله، يأتيني الرجل يسألني البيع لَيْسَ عِنْدِي فأبيعه مِنْهُ، ثمَّ أبتاعه من السُّوق، فَقَالَ: لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك» . وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن يُوسُف بن مَاهك يحدث عَن حَكِيم بن حزَام، قَالَ: «بَايَعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن (لَا) أخر إلاّ قَائِما. وَقلت: يَا رَسُول الله، الرجل يسألني البيع وَلَيْسَ عِنْدِي أفأبيعه، قَالَ: لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك» . وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقلت: يأتيني الرجل فيسألني من البيع مَا لَيْسَ عِنْدِي، أبتاع لَهُ من السُّوق وأبيعه مِنْهُ» وَلَفظ النَّسَائِيّ كَذَلِك فِي إِحْدَى روايتيه(6/448)
وَلَفظه فِي الْأُخْرَى: «ابتعت طَعَاما من طَعَام الصَّدَقَة فربحت فِيهِ قبل أَن أقبضهُ، فَأتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكرت لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا تبعه حَتَّى تقبضه» . لَكِن هَذِه من رِوَايَة عَطاء بن أبي رَبَاح عَن حَكِيم. وَلَفظ ابْن مَاجَه: «يَا رَسُول الله، الرجل يسألني البيع وَلَيْسَ عِنْدِي، أفأبيعه؟ قَالَ: لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، قد رُوِيَ [عَنهُ] من غير وَجه، رَوَى أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَأَبُو بشر عَن يُوسُف بن مَاهك عَن حَكِيم بن حزَام. قَالَ: وَرَوَى هَذَا الحَدِيث عَوْف وَهِشَام بن حسان، عَن ابْن سِيرِين، عَن حَكِيم بن حزَام، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَهَذَا حَدِيث مُرْسل؛ إِنَّمَا رَوَاهُ ابْن سِيرِين عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، عَن يُوسُف بن مَاهك عَن حَكِيم بن حزَام، قَالَ: «نهاني رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أبيع مَا لَيْسَ عِنْدِي» قَالَ: وَرَوَى وَكِيع هَذَا الحَدِيث عَن يزِيد بن إِبْرَاهِيم، عَن ابْن سِيرِين، عَن أَيُّوب، عَن حَكِيم بن حزَام وَلم يذكر فِيهِ عَن يُوسُف بن مَاهك، وَرِوَايَة عبد الصَّمد أصح، وَقد رُوِيَ عَن يَحْيَى بن أبي كثير هَذَا الحَدِيث عَن يعْلى بن حَكِيم عَن يُوسُف بن مَاهك، عَن عبد الله بن عصمَة، عَن حَكِيم بن حزَام عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عَلَى هَذَا الحَدِيث عِنْد أَكثر أهل الْعلم كَرهُوا أَن يَبِيع الرجل مَا لَيْسَ عِنْده. وَأخرجه(6/449)
أَحْمد فِي مُسْنده من طَرِيق يَحْيَى بن أبي كثير الَّتِي ذكرهَا التِّرْمِذِيّ آخرا وَلَفظه: «يَا رَسُول الله إِنِّي أبتاع هَذِه الْبيُوع فَمَا يحل لي مِنْهَا وَمَا يحرم عليَّ مِنْهَا؟ قَالَ: يَا ابْن أخي، لَا (تبع) شَيْئا حَتَّى تقبضه» . وَأخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «يَا رَسُول الله، إِنِّي رجل أَشْتَرِي [الْمَتَاع] فَمَا الَّذِي يحل (لي) مِنْهَا وَمَا يحرم عليّ، فَقَالَ: يَا ابْن أخي، إِذا ابتعت بيعا فَلَا تبعه حَتَّى تقبضه» . ثمَّ قَالَ: هَذَا الْخَبَر مَشْهُور عَن يُوسُف بن مَاهك عَن حَكِيم بن حزَام، لَيْسَ فِيهِ ذكر عبد الله بن عصمَة وَهَذَا الْخَبَر غَرِيب. وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث هِشَام الدستوَائي، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن يُوسُف بن مَاهك، أَن عبد الله بن عصمَة حَدثهُ، أَن حَكِيم بن حزَام حَدثهُ، قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي رجل أَشْتَرِي بيوعًا فَمَا يحل مِنْهَا وَمَا يحرم؟ قَالَ: يَا ابْن أخي، إِذا اشْتريت بيعا فَلَا تبعه حَتَّى تقبضه» قَالَ: لم يسمعهُ يَحْيَى من يُوسُف، إِنَّمَا سَمعه من يعْلى بن حَكِيم، عَن يُوسُف ثمَّ سَاقه من حَدِيث شَيبَان، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن يعْلى بن حَكِيم عَن يُوسُف بِهِ ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد حسن مُتَّصِل وَكَذَلِكَ رَوَاهُ همام بن يَحْيَى وَأَبَان الْعَطَّار عَن يَحْيَى وَقَالَ أبان فِي هَذَا الحَدِيث: «إِذا اشْتريت بيعا فَلَا تبعه حَتَّى تقبضه»(6/450)
وَبِمَعْنَاهُ قَالَ همام، وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من طَرِيق عَطاء عَن حزَام بن حَكِيم بن حزَام يَعْنِي عَن حَكِيم أَنه قَالَ: «اشْتريت طَعَاما من الصَّدَقَة فأربحت فِيهِ قبل أَن أقبضهُ فَأَرَدْت بَيْعه، فَسَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: لَا تبعه حَتَّى تقبضه» . وَقَالَ عبد الْحق: رَوَاهُ همام عَن يَحْيَى بن أبي كثير أَن يعْلى بن حَكِيم حَدثهُ أَن يُوسُف بن مَاهك، حَدثهُ أَن حَكِيم بن حزَام حَدثهُ فَذكره، هَكَذَا ذكر سَماع يُوسُف عَن حَكِيم وَهِشَام الدستوَائي يرويهِ عَن يَحْيَى وَيدخل بَين يُوسُف وَحَكِيم عبد الله بن عصمَة وَكَذَلِكَ هُوَ بَينهمَا فِي غير حَدِيث، وَعبد الله بن عصمَة ضَعِيف جدًّا. هَذَا كَلَامه، وَأقرهُ ابْن الْقطَّان عَلَيْهِ وَإِن اعْترض عَلَيْهِ من وَجه آخر، وَنقل عَن ابْن حزم أَنه قَالَ فِي ابْن عصمَة: إِنَّه مَجْهُول. وَصحح - أَعنِي - ابْن حزم من رِوَايَة يُوسُف نَفسه عَن حَكِيم؛ لِأَنَّهُ قد جَاءَ التَّصْرِيح بِسَمَاعِهِ مِنْهُ هَذَا الحَدِيث فِي بعض الرِّوَايَات، وَاعْلَم أَنْت أَن عبد الله بن عصمَة هَذَا أخرج لَهُ النَّسَائِيّ وَرَوَى عَنهُ يُوسُف بن مَاهك وَصَفوَان بن موهب، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَأخرج لَهُ فِي «صَحِيحه» كَمَا سلف، فَأَيْنَ الضعْف فِيهِ وَأَيْنَ الْجَهَالَة، نعم لَهُم عبد الله بن عصمَة الْعجلِيّ الْحَنَفِيّ آخر، وَهُوَ فِي طبقته، رَوَى عَن ابْن عمر وَأبي سعيد وَابْن عَبَّاس إِن كَانَ مَحْفُوظًا لَكِن لم أر أَنه رَوَى عَن حَكِيم بن حزَام، قَالَ ابْن عديّ: لَهُ أَحَادِيث أنكرتها. وَقَالَ ابْن حبَان:(6/451)
يُخطئ كثيرا. وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَالصَّوَاب فِي هَذَا: عبد الله بن عصم لَا عصمَة، قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ إِسْرَائِيل: عصمَة. وَقَالَ شريك: عصم، فَسمِعت أَحْمد يَقُول: القَوْل مَا قَالَ شريك. وَوَقع فِي «الضُّعَفَاء» للذهبي عَاصِم بدلهَا، وَهُوَ من الْكَاتِب، وَقد ذكره فِي «الْمِيزَان» عَلَى الصَّوَاب.
الحَدِيث السَّادِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دفع دِينَارا إِلَى عُرْوَة الْبَارِقي رَضي اللهُ عَنهُ (ليَشْتَرِي) بِهِ شَاة، فَاشْتَرَى بِهِ شَاتين، وَبَاعَ إِحْدَاهمَا بِدِينَار، وَجَاء بِشَاة ودينار، فَقَالَ (: بَارك الله لَك فِي صَفْقَة يَمِينك» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه فِي سُنَنهمْ من حَدِيث عُرْوَة الْبَارِقي «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أعطَاهُ دِينَارا يَشْتَرِي بِهِ أضْحِية - أَو شَاة - فَاشْتَرَى (شَاتين) فَبَاعَ إِحْدَاهمَا بِدِينَار، فَأَتَاهُ بِشَاة ودينار، فَدَعَا لَهُ بِالْبركَةِ فِي بَيْعه، فَكَانَ لَو اشْتَرَى (التُّرَاب) لربح فِيهِ» هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ عَن عُرْوَة قَالَ: «دفع إليَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دِينَارا لأشتري لَهُ شَاة (فاشتريت) لَهُ شَاتين (فَبِعْت) إِحْدَاهمَا بِدِينَار(6/452)
وَجئْت بِالشَّاة وَالدِّينَار إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكر لَهُ مَا كَانَ من أمره، فَقَالَ: بَارك الله فِي صَفْقَة يَمِينك، (فَكَانَ يخرج بعد ذَلِكَ إِلَى كناسَة الْكُوفَة فيربح الرِّبْح الْعَظِيم) ، فَكَانَ من أَكثر أهل (الْمَدِينَة) مَالا» . وَلَفظ ابْن مَاجَه عَن عُرْوَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أعطَاهُ دِينَارا يَشْتَرِي لَهُ شَاة، فَاشْتَرَى لَهُ شَاتين، فَبَاعَ إِحْدَاهمَا بِدِينَار وَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِشَاة ودينار، فَدَعَا لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْبركَةِ، فَكَانَ لَو اشْتَرَى التُّرَاب لربح فِيهِ» . أسانيدهم جَيِّدَة، وَإسْنَاد التِّرْمِذِيّ عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ إِلَى أبي لبيد لمازة بن زبَّار الرَّاوِي عَن عقبَة، وَهُوَ ثِقَة كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ الْحَافِظ زكي الدَّين الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاد التِّرْمِذِيّ حسن. (وَقَالَ) النَّوَوِيّ (فِي شرح الْمُهَذّب) إِسْنَاد التِّرْمِذِيّ (حسن) ، وَإسْنَاد الآخرين حسن فَهُوَ حَدِيث صَحِيح. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من طَرِيقين إِلَيْهِ بِزِيَادَة بعد دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لَهُ أَن يُبَارك لَهُ فِي صَفْقَة يَمِينه، قَالَ: «فَإِنِّي كنت لأَقوم بالكناسة فَمَا أَبْرَح حَتَّى أربح أَرْبَعِينَ ألفا» ، وَفِي رِوَايَته الْأُخْرَى: «فَلَقَد رَأَيْتنِي أَقف فِي كناسَة الْكُوفَة فأربح أَرْبَعِينَ ألفا قبل أَن أصل إِلَى أَهلِي» . وَفِي إسنادهما سعيد بن زيد، وَهُوَ من رجال مُسلم، وَاسْتشْهدَ بِهِ (خَ) ، وَثَّقَهُ جمَاعَة وَضَعفه يَحْيَى الْقطَّان وَأخرجه، أَحْمد فِي «مُسْنده» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «فَلَقَد رَأَيْتنِي أَقف بكناسة الْكُوفَة فأربح أَرْبَعِينَ ألفا قبل أَن أصل إِلَى أَهلِي قَالَ: وَكَانَ يَشْتَرِي الْجَوَارِي وَيبِيع» .(6/453)
والكناسة (بِضَم الْكَاف، سوق مَعْرُوف بِالْكُوفَةِ - كَمَا سلف، وَقَالَ الْبكْرِيّ إِنَّه (بِالْبَصْرَةِ) وَهُوَ سبق قلم قَالَ: وَكَانَ بَنو أَسد وَبَنُو تَمِيم يطرحون فِيهَا كناستهم وَمَا بِالْكُوفَةِ مثلهَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَن شيخ من أهل الْمَدِينَة عَن حَكِيم بن حزَام نَحوا من حَدِيث عُرْوَة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَهَذَا شيخ مَجْهُول، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ضُعِّفَ هَذَا الحَدِيث؛ لِأَن فِيهِ شيخ (غير) مُسَمَّى وَلَا نعرفه. وَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ غير مُتَّصِل؛ لِأَن فِيهِ مَجْهُول لَا يُدْرَى من هُوَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حبيب بن أبي ثَابت لم يسمع عِنْدِي من حَكِيم بن حزَام. وَأخرج الشَّافِعِي حَدِيث عُرْوَة الْبَارِقي مُرْسلا، فَقَالَ فِي «الْأُم» فِي الْجُزْء الرَّابِع عشر قبل كِرَاء الْإِبِل وَالدَّوَاب بأوراق: أبنا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن شبيب بن غرقدة أَنه سمع الْحَيّ يتحدثون عَن عُرْوَة بن [أبي] الْجَعْد «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعطَاهُ دِينَارا ... » الحَدِيث، فَذكره بِلَفْظ أبي دَاوُد وَكَذَا أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث سُفْيَان، عَن شبيب بن غرقدة، قَالَ: سَمِعت الْحَيّ يتحدثون عَن عُرْوَة «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعطَاهُ(6/454)
دِينَارا ... » الحَدِيث «ليَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاة، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتين، فَبَاعَ إِحْدَاهمَا بِدِينَار وجاءه بِدِينَار وشَاة فَدَعَا لَهُ بِالْبركَةِ فِي بَيْعه، فَكَانَ لَو اشْتَرَى التُّرَاب لربح فِيهِ» . قَالَ سُفْيَان: كَانَ الْحسن بن عمَارَة جَاءَنَا بِهَذَا الحَدِيث عَنهُ، قَالَ: سَمعه شبيب من عُرْوَة فَأَتَيْته، فَقَالَ: شبيب إِنِّي لم أسمعهُ من عُرْوَة، سَمِعت الْحَيّ يخبرونه عَنهُ، وَلَكِن سمعته يَقُول: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يَقُول) : «الْخَيْر مَعْقُود بنواصي الْخَيل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» . قَالَ: وَقد رَأَيْت فِي دَاره سبعين فرسا. قَالَ سُفْيَان: «يَشْتَرِي لَهُ شَاة كَأَنَّهَا أضْحِية» ذكر البُخَارِيّ هَذَا فِي «عَلَامَات النُّبُوَّة» وَذكر حَدِيث الْخَيل مُقْتَصرا عَلَيْهِ فِي الْجِهَاد، وَهنا أَيْضا، ونلخص من حَدِيث عُرْوَة هَذَا فِي الشَّاة أَنه مُرْسل لجَهَالَة الْحَيّ، وَلِهَذَا لم يحْتَج بِهِ الشَّافِعِي فِي بيع الْفُضُولِيّ بل قَالَ: إِن صَحَّ قلت بِهِ كَمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ فِي الْبُوَيْطِيّ: إِن صَحَّ حَدِيث عُرْوَة فَكل من بَاعَ (أَو عتق) ثمَّ رَضِي (فَالْبيع) وَالْعِتْق جَائِز. وَحَكَى الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه حَدِيث لَيْسَ بِثَابِت عِنْده، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِنَّمَا ضعف حَدِيث عُرْوَة هَذَا؛ لِأَن شبيب بن غرقدة رَوَاهُ عَن الْحَيّ وهم غير معروفين، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: إِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِي هَذَا لما فِي إِسْنَاده من الْإِرْسَال وَهُوَ أَن شبيب(6/455)
بن غرقدة لم يسمعهُ من عُرْوَة الْبَارِقي، إِنَّمَا سَمعه من الْحَيّ يخبرونه عَنهُ. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: الْحَيّ الَّذِي أخبر شبيب بن غرقدة عَن عُرْوَة الْبَارِقي لَا نعرفهم، وَلَيْسَ هَذَا من شَرط أَصْحَاب الحَدِيث فِي قبُول الْأَخْبَار. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا الْخَبَر غير مُتَّصِل لِأَن الْحَيّ حدثوه عَن عُرْوَة، وَمَا كَانَ سَبيله من الرِّوَايَة (هَكَذَا) لم تقم بِهِ الْحجَّة. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «تذنيبه» : خبر عُرْوَة هَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان كَمَا أخرجه البُخَارِيّ وَهُوَ مُرْسل. قلت: لَكِن قَالَ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» أَيْضا: قد رَوَى هَذَا الحَدِيث (غير) سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن شبيب فوصله، وَيَرْوِيه عَن عُرْوَة بن أبي الْجَعْد بِمثل هَذِه الْقِصَّة (ثمَّ) مَعْنَاهَا، وَلَعَلَّه يُشِير إِلَى رِوَايَة سعيد بن زيد (السالفة) وَقَالَ الْحَافِظ زكي الدَّين الْمُنْذِرِيّ فِي «اختصاره للسنن» تَخْرِيج البُخَارِيّ لهَذَا الحَدِيث فِي صدر حَدِيث «الْخَيْر مَعْقُود بنواصي الْخَيل» يحْتَمل أَن يكون سَمعه من عَلّي بن الْمَدِينِيّ عَلَى التَّمام، فَحدث بِهِ كَمَا سَمعه، وَذكر فِيهِ إِنْكَار شبيب سَمَاعه من عُرْوَة حَدِيث [شِرَاء] الشَّاة، وَإِنَّمَا سَمعه من الْحَيّ عَن عُرْوَة، وَإِنَّمَا سمع من عُرْوَة قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «الْخَيْر مَعْقُود بنواصي الْخَيل» قَالَ: وَيُشبه أَن الحَدِيث فِي الشِّرَاء لَو كَانَ عَلَى شَرطه لأخرجه فِي كتاب الْبيُوع وَكتاب(6/456)
الْوكَالَة، كَمَا جرت عَادَته فِي الحَدِيث الَّذِي يشْتَمل عَلَى أَحْكَام أَن يذكرهُ فِي الْأَبْوَاب الَّتِي تصلح لَهُ، وَلم يُخرجهُ إِلَّا فِي هَذَا الْموضع الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِ، وَذكر بعده حَدِيث الْخَيل من (رِوَايَة) ابْن عمر وَأنس وَأبي هُرَيْرَة، فَدلَّ ذَلِكَ عَلَى أَن مُرَاده حَدِيث الْخَيل فَقَط إِذْ هُوَ عَلَى شَرطه، وَقد أخرج مُسلم حَدِيث شبيب بن غرقدة عَن عُرْوَة، مُقْتَصرا عَلَى ذكر الْخَيل، وَلم يذكر حَدِيث الشَّاة. وَذكر ابْن حزم فِي «محلاه» من حَدِيث ابْن أبي شيبَة، ثَنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن شبيب عَن عُرْوَة كَمَا سلف، وَمن طَرِيق أبي دَاوُد، ثمَّ قَالَ: فِي أحد طريقيه سعيد بن زيد أَخُو حَمَّاد وَهُوَ ضَعِيف. وَقد أسلفنا من وثق هَذَا وَفِيه أَيْضا أَبُو لبيد لمازة - بِضَم اللَّام - ابْن زبار بِفَتْح الزَّاي وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وَلَيْسَ بِمَعْرُوف الْعَدَالَة، قلت: بلَى قد ذكره ابْن سعد فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة، وَقَالَ: سمع من عَلّي وَكَانَ ثِقَة. وَقَالَ أَحْمد: صَالح الحَدِيث وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاء حسنا.
فَائِدَة: عُرْوَة هُوَ ابْن عِيَاض بن أبي الْجَعْد، وَقيل لَهُ: الْبَارِقي؛ لِأَنَّهُ نزل عِنْد جبل بِالْيمن يُقَال لَهُ: بارق، فنسب إِلَيْهِ، وَقيل غير ذَلِكَ، وَمن قَالَ فِيهِ: عُرْوَة بن الْجَعْد، كَمَا قَالَ غنْدر فقد وهم، اسْتَعْملهُ عمر بن الْخطاب عَلَى قَضَاء الْكُوفَة قبل شُرَيْح.(6/457)
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الثنيا فِي البيع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر بِلَفْظ: «نهَى عَن بيع الثنيا» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ بِزِيَادَة حَسَنَة، وَهِي: «إِلَّا أَن تُعْلَمَ» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَة أَيْضا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَهَذِه الزِّيَادَة مبينَة لرِوَايَة مُسلم الْمُتَقَدّمَة، وَلما أخرجهَا ابْن حبَان قَالَ: سُفْيَان بن حُسَيْن الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده فِي غير الزُّهْرِيّ: ثَبت وَإِنَّمَا اخْتلطت عَلَيْهِ صحيفَة الزُّهْرِيّ، فَكَانَ يهم فِيهَا. وعزى ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» حَدِيث جَابر من «مُسْند أَحْمد» «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن المحاقلة، والمزابنة، وَالْمُخَابَرَة، والمعاومة والثنيا. وَرخّص فِي الْعَرَايَا» . إِلَى البُخَارِيّ وَمُسلم، و «الثنيا» من أَفْرَاد مُسلم فاعلمه.
الحَدِيث الثَّامِن
(أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الْغرَر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم (من حَدِيث أبي هُرَيْرَة)(6/458)
رَضي اللهُ عَنهُ وَهُوَ من أَفْرَاده، وَرَوَاهُ أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» من حَدِيث ابْن عمر، وَصَححهُ ابْن حبَان وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَفِي إِسْنَاده أَيُّوب بن عتبَة قَاضِي الْيَمَامَة وَقد ضَعَّفُوهُ وَرَوَاهُ أَحْمد من هَذَا الْوَجْه، وَفِيه قَالَ أَيُّوب: وَفسّر يَحْيَى بن أبي كثير بيع الْغرَر قَالَ: إِن من الْغرَر ضَرْبَة الغائص، وَبيع العَبْد الْآبِق، [وَبيع الْبَعِير الشارد] وَمَا فِي بطُون الْأَنْعَام، وَمَا فِي ضروعها [إِلَّا بكيل] وَبيع تُرَاب الْمَعَادِن» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث سهل بن سعد، وَأَبُو يعْلى الْموصِلِي من حَدِيث أنس، وَأحمد وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة عَلّي.
وَرَوَاهُ أَبُو بكر أَحْمد بن عَمْرو بن أبي عَاصِم فِي كتاب الْبيُوع من حَدِيث عمرَان بن الْحصين كَمَا نَقله عَنهُ الضياء فِي «أَحْكَامه» ، وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» مُرْسلا، عَن سعيد بن الْمسيب، وَكَذَا الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» وَقد ذَكرْنَاهُ مَوْصُولا من رِوَايَة جماعات من الصَّحَابَة.(6/459)
الحَدِيث التَّاسِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من اشْتَرَى مَا لم يره فَلهُ الْخِيَار إِذا رَآهُ» .
هَذَا الحَدِيث علق الشَّافِعِي فِي «الْأُم» فِي كتاب الصَدَاق القَوْل بِهِ عَلَى تَقْدِير ثُبُوته، وَقد خرجه الدَّارَقُطْنِيّ، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة داهر بن نوح، عَن عمر بن إِبْرَاهِيم بن خَالِد (عَن) وهب الْيَشْكُرِي، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من رِوَايَة أبي بكر بن عبد الله بن أبي مَرْيَم عَن مَكْحُول، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من اشْتَرَى شَيْئا لم يره فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذا رَآهُ، إِن شَاءَ أَخذه وَإِن شَاءَ تَركه» . وهما ضعيفان لَا يثبتان، أما الأول: فداهر بن نوح لَا يعرف كَمَا قَالَه ابْن الْقطَّان قَالَ: وَلَعَلَّ الْجِنَايَة مِنْهُ. وَعمر بن إِبْرَاهِيم بن خَالِد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو حَفْص الْكرْدِي مولَى بني هَاشم، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كَانَ كذابا يضع الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي عَن الثِّقَات مَا لم يحدثوا بِهِ قطّ، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ. وَقَالَ الْخَطِيب: كَانَ غير ثِقَة، يروي الْمَنَاكِير عَن الْأَثْبَات. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» :(6/460)
هَذَا الحَدِيث بَاطِل. لم يروه غير عمر بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ يضع الحَدِيث وَإِنَّمَا يروي هَذَا عَن ابْن سِيرِين من قَوْله. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» قبل أَن ينْقل كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ: حَدِيث لَا يَصح، وَقَالَ فِي «خلافياته» : هَذَا بَاطِل لَا يَصح. وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» اتِّفَاق الْحفاظ عَلَى ضعفه وَإِمَّا (بِسَبَب ضعف) الْإِرْسَال؛ لِأَن مَكْحُولًا تَابِعِيّ، وَضعف أبي بكر الْمَذْكُور فِيهِ، واسْمه بكر، وَقيل: بكير، وَقيل: عَمْرو، فَإِنَّهُ ضَعِيف بالِاتِّفَاقِ؛ لِكَثْرَة غلطه، وَفِي رِوَايَة عَن يَحْيَى أَنه صَدُوق، وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ من خِيَار أهل الشَّام وَلكنه كَانَ رَدِيء الْحِفْظ يحدث بالشَّيْء فَيَهِم، وَكثر ذَلِكَ حَتَّى اسْتحق التّرْك. وَقد ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث مُرْسل وَأَبُو بكر بن أبي مَرْيَم ضَعِيف. وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «مَعْرفَته» وَعبارَته فِيهَا: وَأما حَدِيث «من اشْتَرَى مَا لم يره فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذا رَآهُ» فَإِنَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي مَرْيَم، عَن مَكْحُول رَفعه، وَهُوَ مُرْسل، وَأَبُو بكر ضَعِيف، وأسنده عمر بن إِبْرَاهِيم الْكرْدِي من أوجه عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الثِّقَات من أَصْحَاب ابْن سِيرِين من قَوْله، وَعمر بن إِبْرَاهِيم كَانَ يضع الحَدِيث. ثمَّ عزاهُ إِلَى الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْحَاصِل أَنه حَدِيث (لَا يصلح) الِاحْتِجَاج بِمثلِهِ، وَإِن كَانَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة أَعنِي مَالِكًا، وَأَبا حنيفَة، وَأحمد قَالُوا بوقفه.(6/461)
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يُبَاع صوف عَلَى ظهر، أَو لبن فِي ضرع» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنهمَا من رِوَايَة عمر بن فروخ، عَن حبيب بن الزبير، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تبَاع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، أَو يُبَاع صوف عَلَى ظهر، أَو سمن فِي لبن، أَو لبن فِي ضرع» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ عمر بن فروخ مَرْفُوعا وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، قلت: تفرد بِهَذِهِ الْمقَالة فِيهِ، وَقد وَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم، ورضيه أَبُو دَاوُد، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد أرْسلهُ عَنهُ وَكِيع، وَرَوَاهُ غَيره مَوْقُوفا عَلَى ابْن عَبَّاس «لَا تشتري اللَّبن فِي ضروعها وَلَا الصُّوف عَلَى ظُهُورهَا» وَقَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ جماعات مَوْقُوفا عَلَيْهِ، قلت: وَكَذَا أخرجه الشَّافِعِي فِي «الْأُم» وَأَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» . وَقَالَ عبد الْحق: هَذَا حَدِيث أسْندهُ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ، عَن عمر بن فروخ وأرسله وَكِيع عَنهُ، وَلم يذكر السّمن وَاللَّبن، وأرسله ابْن الْمُبَارك عَن عِكْرِمَة بِمَعْنَاهُ، وَأما النَّهْي عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا فَصَحِيح مجمع عَلَيْهِ.(6/462)
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه
وَأما أَثَره: فَهُوَ مَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «لَا تشتروا السّمك فِي المَاء فَإِنَّهُ غرر» ، وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» أَولا من حَدِيث أَحْمد بن حَنْبَل، وَهُوَ فِي «مُسْنده» ثَنَا مُحَمَّد بن السماك، عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن الْمسيب بن رَافع، عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تشتروا» فَذكره، قَالَ أَحْمد: وثنا بِهِ هشيم، عَن يزِيد بن أبي زِيَاد وَلم يرفعهُ وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي «مُعْجَمه الْكَبِير» وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ هَكَذَا رُوِيَ مَرْفُوعا، وَفِيه إرْسَال بَين الْمسيب وَابْن مَسْعُود، وَالصَّحِيح مَا رَوَاهُ هشيم عَن يزِيد مَوْقُوفا عَلَى عبد الله، وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن يزِيد مَوْقُوفا عَلَى عبد الله أَنه كره بيع السّمك فِي المَاء. قلت: وَيزِيد هَذَا ضَعَّفُوهُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : يرويهِ يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن الْمسيب بن رَافع، وَاخْتلف عَنهُ فرفعه أَحْمد بن حَنْبَل، عَن أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن السماك، عَن يزِيد وَوَقفه غَيره، وزائدة وهشيم، عَن يزِيد بن أبي زِيَاد وَالْمَوْقُوف أصح، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح مَرْفُوعا، وَإِنَّمَا هُوَ من قَول ابْن مَسْعُود، قَالَ: وَرَوَاهُ (هشيم) وزائدة كِلَاهُمَا عَن يزِيد فَلم يرفعهُ قَالَ: فَيمكن أَن يكون يزِيد قد رَفعه فِي وَقت فَإِنَّهُ كَانَ يلقن فيتلقن وَقَالَ: وَيُمكن أَن يكون الْغَلَط من ابْن السماك، وَقد كَانَ عَلّي وَيَحْيَى وَغَيرهمَا (لَا يحتجون) بِهِ.(6/463)
بَاب الرِّبَا
ذكر فِيهِ من الْأَحَادِيث أحد عشر حَدِيثا، وَمن الْآثَار أثرا وَاحِدًا.
الحَدِيث الأول
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعن آكل الرِّبَا وموكله وكاتبه وَشَاهده» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر رَضي اللهُ عَنهُ بِهَذَا اللَّفْظ زَاد وَقَالَ: «هم سَوَاء» وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «لعن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - آكل الرِّبَا وموكله» قَالَ مُغيرَة: قلت: لإِبْرَاهِيم: وشاهديه وكاتبه. فَقَالَ: إِنَّمَا نُحدث بِمَا سمعنَا. وَرَوَاهُ أَحْمد وَابْن حبَان وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالُوا: «لعن آكل الرِّبَا وموكله وشاهديه وكاتبه» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَقَالَ: «آكل الرِّبَا وموكله وكاتبه إِذا علمُوا ذَلِكَ ملعونون عَلَى لِسَان مُحَمَّد (يَوْم الْقِيَامَة» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد كَذَلِك وَقَالَ: «وَشَاهده» بِالْإِفْرَادِ كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ، وَرَوَاهُ(6/464)
الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من حَدِيث مَسْرُوق. قَالَ: قَالَ عبد الله: «آكل الرِّبَا وموكله، وشاهداه إِذا علماه. والواشمة والمتوشمة [ولاوي الصَّدَقَة] وَالْمُرْتَدّ أَعْرَابِيًا بعد الْهِجْرَة ملعونون عَلَى لِسَان مُحَمَّد (يَوْم الْقِيَامَة» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا من حَدِيث الْحَارِث بن عبد الله، عَن ابْن مَسْعُود، وَزَاد: «وكاتبه» وَزَاد بعد «المتوشمة» : «لِلْحسنِ» وَزَاد «و [لاوي] الصَّدَقَة» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث الشّعبِيّ، عَن الْحَارِث، عَن عَلّي «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعن آكل الرِّبَا وموكله. .» الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّانِي
رَوَى الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» أبنا عبد الْوَهَّاب، عَن أَيُّوب، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن مُسلم بن يسَار، وَرجل آخر عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب (وَلَا الْوَرق بالورق، وَلَا الْبر بِالْبرِّ، وَلَا الشّعير بِالشَّعِيرِ) ، وَلَا التَّمْر بِالتَّمْرِ، وَلَا الْملح بالملح إلاّ سَوَاء بِسَوَاء، عينا بِعَين، يدا بيد، وَلَكِن بيعوا الذَّهَب بالورق، وَالْوَرق بِالذَّهَب، وَالشعِير بِالْبرِّ، وَالْبر بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْر بالملح، وَالْملح بِالتَّمْرِ يدا بيد كَيفَ شِئْتُم» قَالَ الشَّافِعِي: وَنقص أَحدهمَا: «التَّمْر» أَو «الْملح» وَزَاد الآخر: «فَمن زَاد أَو اسْتَزَادَ فقد أَرْبَى» .(6/465)
هَذَا صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي كَمَا ترَى فِي الْكتاب الْمَذْكُور، وَرَوَاهُ أَيْضا فِي كِتَابه «السّنَن المأثورة» الَّتِي رَوَاهَا الْمُزنِيّ عَنهُ، وَكَذَا رَوَاهُ عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» و «السّنَن» وَهُوَ فِي «صَحِيح مُسلم» من أَفْرَاده من حَدِيث أبي قلَابَة، عَن أبي الْأَشْعَث، عَن عبَادَة بِلَفْظ: «الذَّهَب بِالذَّهَب، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، وَالْبر بِالْبرِّ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْملح بالملح مثلا بِمثل سَوَاء بِسَوَاء، يدا بيد، فَإِذا اخْتلفت هَذِه (الْأَجْنَاس) فبيعوا كَيفَ شِئْتُم إِذا كَانَ يدا بيد» وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة، قَالَ: كنت بِالشَّام فِي حَلقَة فِيهَا مُسلم بن يسَار فجَاء أَبُو الْأَشْعَث فَحدث عَن عبَادَة «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بيع الذَّهَب بِالذَّهَب ... » إِلَى أَن ذكر الْأَصْنَاف السِّتَّة وَزَاد: «إِلَّا سَوَاء بسواءٍ عينا بِعَين، فَمن زَاد أَو ازْدَادَ فقد أَرْبَى» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» أَيْضا بِلَفْظ: «الذَّهَب بِالذَّهَب تِبْرها وعينها، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ تِبْرها وعينها، والبُرُّ بالبِّر (مُدْيٌ بُمدْيٍ) وَالشعِير بِالشَّعِيرِ (مُديٌ بمُديٍ) ، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ (مُديٌ بمديٍ) وَالْملح بالملح (مُديٌ بمديٍ) فَمن زَاد أَو ازْدَادَ فقد أَرْبَى، وَلَا بَأْس بِبيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ، وَالْفِضَّة أكثرهما يدا(6/466)
بيد، وأمَّا النَّسِيئَة فَلَا» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي آخر حَدِيث عبَادَة «فبيعوا كَيفَ شِئْتُم إِذا كَانَ يدا بيد» .
قلت: هَذِه الزِّيَادَة رَوَاهَا مُسلم كَمَا أسلفته لَك، قَالَ فِي أثْنَاء الْبَاب، وَفِي رِوَايَة بعد ذكر النَّقْدَيْنِ وَغَيرهمَا «إلاَّ يدا بيد» قلت: قد سلفت أَيْضا.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: فِي هَذَا الرجل الْمُبْهم فِي رِوَايَة الشَّافِعِي أَرْبَعَة أَقْوَال (أَحدهَا:) عبد الله بن عبيد. قَالَه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، وَيُقَال: ابْن عَتيق، وَيُقَال: ابْن عتِيك.
ثَانِيهَا: عبد الله بن عبيد الله الْمَعْرُوف بِابْن هُرْمُز. حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن بعض الشَّارِحين وَأَرَادَ بِهِ ابْن دَاوُد.
ثَالِثهَا: عبيد الله (الْمدنِي) حَكَاهُ القَاضِي حُسَيْن.
رَابِعهَا: أَبُو الْأَشْعَث الصَّنْعَانِيّ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ وَفِيه نظر؛ لِأَن الْبَيْهَقِيّ قَالَ فِي «الْمعرفَة» : زَعَمُوا أَن مُسلم بن يسَار لم يسمعهُ من عبَادَة نَفسه، إِنَّمَا سَمعه من أبي الْأَشْعَث الصَّنْعَانِيّ، عَن عبَادَة قَالَ: والْحَدِيث ثَابت من هَذَا الْوَجْه مخرج فِي كتاب مُسلم وَجزم فِي «سنَنه» بِهَذِهِ الْمقَالة.
ثَانِيهَا: قَوْله: وَنقص أَحدهمَا التَّمْر [أَو] الْملح يَعْنِي أحد(6/467)
الرجلَيْن وَلم يبين الَّذِي نقص (مِنْهُمَا) كَأَنَّهُ شكّ مِنْهُ، وَشك أَيْضا فِي أَن مَا نَقصه التَّمْر أَو الْملح، قَالَه الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب.
وَقَوله: «وَزَاد الآخر» يَعْنِي الَّذِي لم ينقص.
وَقَوله: «فَمن زَاد أَو اسْتَزَادَ» فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه شكّ آخر من الشَّافِعِي.
(ثَانِيهَا) : أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تلفظ بهما جَمِيعًا، وَأَرَادَ بقوله «زَاد» : أعْطى الزِّيَادَة وَبِقَوْلِهِ «اسْتَزَادَ» أَخذ الزِّيَادَة أَو طلبَهَا، وَشبه ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «الراشي والمرتشي فِي النَّار» حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ.
[ثَالِثهَا] : أَن هَذَا من بَاب بكر وابتكر، وَأَنه للتَّأْكِيد حَكَاهُ القَاضِي عَن بَعضهم.
التَّنْبِيه الثَّالِث: «التبر» الْمَذْكُور فِي رِوَايَة أبي دَاوُد فِيهِ اضْطِرَاب لأهل اللُّغَة، كَمَا ذكرته فِي «تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب» فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الراشي والمرتشي فِي النَّار» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجم شُيُوخه» ، عَن أَحْمد(6/468)
بن سهل بن أَيُّوب، ثَنَا عَلّي بن بَحر، ثَنَا هِشَام بن يُوسُف، أبنا ابْن جريج، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن ابْن [عَمْرو] قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الراشي والمرتشي فِي النَّار» ثمَّ قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يروه من حَدِيث ابْن جريج إلاّ عَلّي بن بَحر، عَن هِشَام.
قلت: وَإِسْنَاده جيد قَالَ: لَا أعلم بِهِ بَأْسا، والْحَارث لم يرو عَنهُ غير ابْن أبي ذِئْب، وَحَكَى عَنهُ الفضيل بن عِيَاض وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن معِين: مَشْهُور. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَفِي آخر كتاب الْفَضَائِل من «صَحِيح الْحَاكِم» ، من حَدِيث الْحسن بن بشر بن [سلم] ثَنَا سَعْدَان بن الْوَلِيد، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ولي عَلَى عشرَة فَحكم بَينهم أَحبُّوا أَو كَرهُوا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة (يَده) مغلولة إِلَى عُنُقه، فَإِن حكم بِمَا أنزل الله وَلم يرتش فِي حكمه وَلم يحف فك الله عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة، يَوْم لَا ظلّ إلاّ ظله، وَإِن حكم بِغَيْر مَا أنزل الله وارتشى فِي حكمه وحابى شدت يسَاره إِلَى يَمِينه، ثمَّ رمي بِهِ فِي جَهَنَّم فَلم يبلغ قعرها خَمْسمِائَة عَام» قَالَ الْحَاكِم: سَعْدَان بن الْوَلِيد البَجلِيّ كُوفِي قَلِيل الحَدِيث لم يخرجَا عَنهُ. قلت: وَالْحسن بن بشر من رجال البُخَارِيّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيره:(6/469)
صَدُوق. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن خرَاش: مُنكر الحَدِيث.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن معمر بن عبد الله قَالَ: «كنت أسمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: الطَّعَام بِالطَّعَامِ مثلا بِمثل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث معمر بن عبد الله بن نَافِع بِهَذَا اللَّفْظ، وَفِيه قصَّة حذفهَا الرَّافِعِيّ وَهِي: «أَنه أرسل غُلامه بِصَاع قَمح فَقَالَ: بِعْهُ ثمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيرًا. فَذهب الْغُلَام، فَأخذ صَاعا وَزِيَادَة بعض صَاع، فَلَمَّا جَاءَ معمر أخبرهُ بذلك، فَقَالَ لَهُ معمر: لم فعلت ذَلِكَ؟ انْطلق فَرده، وَلَا تأخذن إلاّ مثلا بِمثل، فَإِنِّي كنت أسمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: الطَّعَام بِالطَّعَامِ مثلا بِمثل، وَكَانَ طعامنا يومئذٍ الشّعير. قيل لَهُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمثلِهِ. قَالَ: إِنِّي أَخَاف أَن يضارع» .
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الذَّهَب بِالذَّهَب وزنا بِوَزْن، وَالْبر بِالْبرِّ كَيْلا بكيل» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِهَذَا اللَّفْظ بإسنادٍ صَحِيح من رِوَايَة أبي الْأَشْعَث الصَّنْعَانِيّ أَنه شَاهد عبَادَة يحدث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «الذَّهَب بِالذَّهَب وزنا بِوَزْن، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ وزنا بِوَزْن، وَالْبر بِالْبرِّ كَيْلا بكيل، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ (كَيْلا) بكيل، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْملح بالملح، فَمن زَاد أَو(6/470)
اسْتَزَادَ فقد أَرْبَى» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه بِإِسْنَاد صَحِيح بِلَفْظ: «الذَّهَب بِالذَّهَب تبره وعينه وزنا بِوَزْن، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ تبره وعينه وزنا بِوَزْن، وَالْملح بالملح وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْبر بِالْبرِّ وَالشعِير بِالشَّعِيرِ (كَيْلا بكيل) ، فَمن زَاد أَو ازْدَادَ فقد أَرْبَى» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد كَمَا سلف فِي الحَدِيث الثَّانِي.
الحَدِيث السَّادِس
عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: «أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أَشْتَرِي بَعِيرًا ببعيرين إِلَى (أجل) » .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن ابْن إِسْحَاق، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن مُسلم بن جُبَير، عَن أبي سُفْيَان، عَن عَمْرو بن حريش، عَن عبد الله بن عَمْرو «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أمره أَن يُجهز جَيْشًا فنفدت الْإِبِل، فَأمره أَن يَأْخُذ فِي قلاص الصَّدَقَة فَكَانَ يَأْخُذ الْبَعِير بالبعيرين إِلَى إبل الصَّدَقَة» سكت عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد، وَمُسلم بن جُبَير، وَعَمْرو بن حريش لَا أعلم حَالهمَا، وَلما ذكره عبد الْحق قَالَ: هَذَا الحَدِيث يرويهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَقد اخْتلف عَلَيْهِ فِي إِسْنَاده قَالَ: والْحَدِيث مَشْهُور. وَاعْترض ابْن الْقطَّان عَلَيْهِ،(6/471)
فَقَالَ: هَذَا قَول تبع غَيره - يَعْنِي يَحْيَى بن معِين - والشهرة لَا تَنْفَعهُ، فَإِن الضَّعِيف [قد] يشْتَهر، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرب. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد كَمَا تقدم، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن إِسْحَاق أَيْضا، عَن أبي سُفْيَان، عَن مُسلم، عَن عَمْرو بن حريش، قَالَ: «سَأَلت ابْن (عَمْرو) ، رَوَاهُ (جرير) بن حَازِم، عَن ابْن إِسْحَاق فأسقط يزِيد بن أبي حبيب، وَقدم أَبَا سُفْيَان عَلَى مُسلم.
قلت: وَكَذَا أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَرَوَاهُ عَفَّان، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، فَقَالَ فِيهِ: عَن ابْن إِسْحَاق، عَن يزِيد، عَن مُسلم، عَن عَمْرو أَنه قَالَ لِابْنِ عَمْرو، رَوَاهُ عبد الْأَعْلَى، عَن ابْن إِسْحَاق، عَن أبي سُفْيَان، عَن مُسلم بن كثير، عَن عَمْرو بن حريش. . فَذكره، رَوَاهُ عَن عبد الْأَعْلَى أَبُو بكر بن أبي شيبَة، فأسقط يزِيد بن أبي حبيب، وَقدم أَبَا سُفْيَان، وَقَالَ مُسلم بن كثير بدل ابْن أبي حبيب، قَالَ ابْن القطَّان: وَبعد هَذَا الِاضْطِرَاب فعمرو بن حريش مَجْهُول الْحَال، وَمُسلم بن جُبَير: لم أجد لَهُ (ذكرا) وَلَا أعلمهُ فِي غير هَذَا الْإِسْنَاد، وَكَذَلِكَ مُسلم بن كثير مَجْهُول الْحَال أَيْضا إِذا كَانَ [عَن] أبي سُفْيَان وَأَبُو سُفْيَان فِيهِ نظر، وَذَلِكَ أَنه بِحَسب هَذَا الِاضْطِرَاب تَارَة يروي عَن ابْن إِسْحَاق وَتارَة يروي ابْن إِسْحَاق عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن مُسلم بن جُبَير، وَتارَة أَبُو سُفْيَان(6/472)
(عَن) مُسلم بن كثير، وَذكره ابْن أبي حَاتِم، فَقَالَ: أَبُو سُفْيَان مُسلم بن كثير، عَن عَمْرو بن حريش، رَوَى عَنهُ ابْن إِسْحَاق. فبحسب هَذَا الِاضْطِرَاب فِيهِ لم يتَحَصَّل من أمره شَيْء يجب أَن يعْتَمد عَلَيْهِ، وَلَكِن مَعَ هَذَا فَإِن عُثْمَان الدَّارمِيّ قَالَ: قلت لِابْنِ معِين: ابْن إِسْحَاق، عَن أبي سُفْيَان مَا حَال أبي سُفْيَان هَذَا؟ فَقَالَ: ثِقَة مَشْهُور. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِيهِ: عَن مُسلم بن كثير، عَن عَمْرو بن حريش، هَذَا حَدِيث مَشْهُور. فَالله أعلم إِن (كَانَ) الْأَمر هَكَذَا، وَقد اسْتَقل تَعْلِيل الحَدِيث بِغَيْرِهِ، فَهُوَ لَا يَصح. هَذَا آخر كَلَام ابْن الْقطَّان، وَقد عنعن ابْن إِسْحَاق فِي هَذَا الحَدِيث، فَمن لَا يرَى الِاحْتِجَاج بِهِ إِلَّا إِذا صرح بِالْحَدِيثِ أعلّه بِهِ.
وأمّا الْحَاكِم فَأخْرجهُ فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد إِسْنَادًا ومتنًا، إِلَّا أَنه قَالَ: «من» بدل «فِي» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ. وَقد أسلفنا غير مرّة أَن مُسلما لم يخرج لَهُ اسْتِقْلَالا، وَإِنَّمَا أخرج لَهُ مُتَابعَة، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» : اخْتلفُوا عَلَى مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي إِسْنَاده، وَحَمَّاد بن سَلمَة أحْسنهم سِيَاقَة لَهُ، قَالَ: وَله شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح، فَذكره من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أمره أَن يُجهز جَيْشًا، قَالَ عبد الله: وَلَيْسَ عندنَا ظهر، قَالَ: فَأمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يبْتَاع ظهرا إِلَى خُرُوج الْمُصدق، فَابْتَاعَ عبد الله الْبَعِير بالبعيرين والأبعرة إِلَى خُرُوج الْمُصدق» . وَكَذَا قَالَ(6/473)
فِي «خلافياته» : لَهُ شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح ... فَذكره.
فَائِدَة: القِلاص - بِكَسْر الْقَاف - جمع قُلُص، والقُلُص جمع قَلُوص، وَهِي النَّاقة الشَّابَّة، ذكره الْجَوْهَرِي وَغَيره، وَقَوله: «فِي قلاص الصَّدَقَة» كَذَا هُوَ فِي «سنَن أبي دَاوُد» وَالْبَيْهَقِيّ و «المعجم الْكَبِير» للطبراني، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» : «من قلاص الصَّدَقَة» بدل (فِي) وَمَعْنَاهَا: السّلف عَلَى إبل الصَّدَقَة إِلَى أجل مَعْلُوم.
الحَدِيث السَّابِع
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر عَامل خَيْبَر أَن يَبِيع الْجمع بِالدَّرَاهِمِ، ثمَّ يبْتَاع بهَا جنيبًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «اسْتعْمل رجلا عَلَى خَيْبَر فَجَاءَهُمْ بِتَمْر جنيب، فَقَالَ: أكل تمر خَيْبَر هَكَذَا؟ قَالَ: إِنَّا لنأخذ الصَّاع بالصاعين (والصاعين) بِالثَّلَاثَةِ. قَالَ: لَا تفعل، بِعْ الْجمع بِالدَّرَاهِمِ، ثمَّ ابتع بِالدَّرَاهِمِ جنيبًا» . وَقَالَ فِي «الْمِيزَان» مثل ذَلِكَ وَلمُسلم عَن أبي سعيد: «كُنَّا نبيع تمر الْجمع صَاعَيْنِ بِصَاع من تمر الجنيب، فَقَالَ رَسُول(6/474)
الله (: لَا صاعي تمر بِصَاع تمر، وَلَا صاعي حِنْطَة بِصَاع حِنْطَة وَلَا دِرْهَمَيْنِ بدرهم» .
فَائِدَة: الجنيب - بجيم مَفْتُوحَة، ثمَّ نون مَكْسُورَة، ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ بَاء مُوَحدَة - وَهُوَ نوع من التَّمْر أَعْلَاهُ، وَعبارَة الرَّافِعِيّ أَنه أجوده.
وَالْجمع - بِفَتْح الْجِيم وَإِسْكَان الْمِيم - وَهُوَ تمر رَدِيء، قَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ تمر رَدِيء مختلط من أَنْوَاع مُتَفَرِّقَة من التمور وَلَيْسَ مرغوبًا فِيهِ لما فِيهِ من الِاخْتِلَاط وَمَا يخلط إِلَّا لرداءته فَإِنَّهُ مَتى كَانَ نوعا جيدا أفرد عَلَى حِدته ليرغب فِيهِ. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: كل نوع من النّخل لَا يعرف اسْمه فَهُوَ جمع، يُقَال: كثر الْجمع فِي أَرض بني فلَان. وَتَبعهُ الرَّافِعِيّ فِي هَذِه الْمقَالة حَيْثُ قَالَ: الْجمع كل لون من التَّمْر لَا يعرف لَهُ اسْم.
فَائِدَة ثَانِيَة: هَذَا الرجل الَّذِي اسْتعْمل عَلَى خَيْبَر هُوَ: سَواد بن غزيَّة فِيمَا قَالَه الْخَطِيب فِي «مبهماته» ، وَقيل: مَالك بن صعصعة، وَحَكَى مجلى الأول عَن الدَّارَقُطْنِيّ، وَأَنه أَخُو بني عَوْف من الْأَنْصَار شهد بَدْرًا وأحدًا والمشاهد كلهَا، لَهُ صُحْبَة.
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الصُّبْرَة من التَّمْر لَا يعلم (مكيلها) بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى من التَّمْر» .(6/475)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر رَضي اللهُ عَنهُ بِهَذَا اللَّفْظ، وَأغْرب الْحَاكِم فاستدركه، وَقَالَ إثره: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَهُوَ فِيهِ سندًا ومتنًا، وَلما أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن شَيْخه الْحَاكِم بِإِسْنَادِهِ. قَالَ عقبَة: رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» .
الحَدِيث التَّاسِع
عَن فضَالة بن عبيد، قَالَ: «أُتي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ بِخَيْبَر بقلادة فِيهَا خرز وَذهب وَهِي من الْغَنَائِم تبَاع بِالذَّهَب، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالذَّهَب الَّذِي فِي القلادة فَنزع وَحده، ثمَّ قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: الذَّهَب بِالذَّهَب وزنا بِوَزْن» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ وَلم يقل فِيهِ «تبَاع» ، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: (رُوِيَ) «لَا يُبَاع مثل هَذَا حَتَّى يفصل ويميز» قلت: هَذِه الرِّوَايَة رَوَاهَا مُسلم فِي «صَحِيحه» أَيْضا، وَهَذَا لَفظه: «اشْتريت (يَوْم) خَيْبَر قلادة بِاثْنَيْ عشر دِينَارا. فِيهَا ذهب وخرز ففصلتها، فَوجدت فِيهَا أَكثر من اثْنَي عشر دِينَارا، فَذكرت ذَلِكَ للنَّبِي (، فَقَالَ: لَا تبَاع حَتَّى تُفَصَّل» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد بِإِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم «أُتِي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام خَيْبَر بقلادة فِيهَا ذهب وخرز ابتاعها رجل(6/476)
بِتِسْعَة دَنَانِير أَو بسبعة دَنَانِير، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا، حَتَّى (تميز بَينه وَبَينه، فَقَالَ: إِنَّمَا أردْت الْحِجَارَة. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا، حَتَّى) تميز بَينهمَا» . قَالَ: فَرده حَتَّى يُمَيّز بَينهمَا» وَأغْرب صَاحب «التَّتِمَّة» فعزاها إِلَى مُسلم، وَعَزاهَا إِلَى مُسلم أَيْضا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَلَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَإِن مُرَاده أصل الحَدِيث، وطرق هَذَا الحَدِيث للطبراني فِي مُعْجَمه الْكَبِير من وُجُوه كَثِيرَة فَفِي بَعْضهَا «قلادة فِيهَا ذهب وخرز» وَفِي بَعْضهَا «خرز وَذهب» وَفِي بَعْضهَا «فِيهَا ذهب وجوهر، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «الْجَوْهَر عَلَى حِدة، وَالذَّهَب عَلَى حِدة» وَفِي بَعْضهَا: «بقلادة فِيهَا خرز معلقَة بِذَهَب» وَاعْلَم أَنه قد جَاءَ فِي بعض رِوَايَات هَذَا الحَدِيث «أَن القلادة أبيعت بِتِسْعَة دَنَانِير أَو سَبْعَة دَنَانِير» ، وَجَاء فِي بَعْضهَا «اثْنَي عشر دِينَارا» كَمَا سلف، وَأجَاب الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن هَذَا الِاخْتِلَاف، بِأَن قَالَ: سِيَاق هَذِه الْأَحَادِيث مَعَ عَدَالَة رواتها يدل عَلَى أَنَّهَا كَانَت بيوعًا شَهِدَهَا فضَالة كلهَا وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينْهَى عَنْهَا، فأدَّاها كلهَا.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن سعد بن أبي وَقاص رَضي اللهُ عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن بيع الرطب(6/477)
بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أينقص الرطب إِذا يبس؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: فَلَا إِذن» وَيروَى «فَنَهَى عَن ذَلِكَ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الْأَئِمَّة مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالْبَزَّار فِي مسانيدهم وَالشَّافِعِيّ أَيْضا فِي «السّنَن المأثورة» الَّتِي رَوَاهَا الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَنهُ، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي كتبه الثَّلَاثَة: «السّنَن» ، و «الْمعرفَة» ، و «الخلافيات» ، وَعَزاهُ غير وَاحِد إِلَى «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» ، رَوَوْهُ كلهم من حَدِيث أبي عَيَّاش - بِالْمُثَنَّاةِ تَحت وبالشين الْمُعْجَمَة - مولَى بني زهرَة، وَقيل: بني مَخْزُوم، واسْمه زيد. قَالَ الإِمَام أَحْمد: ابْن النُّعْمَان. وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد: ابْن الصَّامِت «أَنه سَأَلَ سعد بن أبي وَقاص عَن الْبَيْضَاء بالسلت، فَقَالَ لَهُ سعد: أَيهمَا أفضل؟ قَالَ: الْبَيْضَاء. فَنَهَاهُ عَن ذَلِكَ، وَقَالَ سعد: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُسأل عَن اشْتِرَاء التَّمْر بالرطب، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أينقص الرطب إِذا(6/478)
يبس؟» قَالُوا: نعم، فَنَهَاهُ عَن ذَلِكَ وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد سمع سعد بن أبي وَقاص يَقُول: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ نَسِيئَة» . وَفِي أُخْرَى لَهُ عَن مولَى لبني مَخْزُوم، عَن سعد، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... نَحوه. وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم عَن أبي عَيَّاش، قَالَ: «تبَايع رجلَانِ عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ببسر وَرطب، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَل ينقص الرطب إِذا يبس؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: فَلَا، إِذن» . وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي عَيَّاش، عَن سعد بن مَالك، قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: عَن الرطب بِالتَّمْرِ، فَقَالَ أينقص إِذا يبس؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: فَنَهَى عَنهُ» . وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان «سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن بيع التَّمْر بالرطب، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «أينقص الرطب إِذا (جف) ؟ قَالَ: نعم فَنَهَاهُ عَن ذَلِكَ» وَفِي رِوَايَة الْحَاكِم أَيْضا عَن أبي عَيَّاش أَنه سمع سعد بن أبي وَقاص يَقُول: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ نَسِيئَة» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح لإِجْمَاع أَئِمَّة النَّقْل عَلَى إِمَامَة مَالك بن أنس، وَأَنه مُحكم فِي كل مَا يرويهِ من الحَدِيث إِذْ لم يُوجد فِي رواياته إِلَّا الصَّحِيح خُصُوصا فِي حَدِيث أهل الْمَدِينَة (ثمَّ) لمتابعة هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، وَيَحْيَى بن أبي كثير، و (غَيرهمَا) إِيَّاه فِي رِوَايَته عَن عبد الله بن يزِيد. قَالَ: والشيخان(6/479)
لم يخرجَاهُ لما خشياه من جَهَالَة زيد أبي عَيَّاش. ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق آخر لَيْسَ فِيهِ عبد الله بن [يزِيد] وَذكر بدله عمرَان بن أبي أنس، قَالَ: سَمِعت أَبَا عَيَّاش يَقُول: «سَأَلت سعد بن أبي وَقاص عَن اشْتِرَاء السلت بِالتَّمْرِ، فَقَالَ سعد: أبينهما فضل؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: لَا يصلح. وَقَالَ سعد: سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن اشْتِرَاء الرطب بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أبينهما فضل؟ قَالُوا: نعم الرطب ينقص. قَالَ: فَلَا يصلح» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» وَقد سُئِلَ عَنهُ من حَدِيث أبي عَيَّاش زيد، عَن سعد بن أبي وَقاص، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه نهَى عَن بيع التَّمْر بالرطب» : هَذَا حَدِيث يرويهِ عبد الله بن يزِيد مولَى الْأسود بن سُفْيَان، عَن زيد أبي عَيَّاش، وَاخْتلف عَنهُ فِي لَفظه؛ فَرَوَاهُ مَالك بن أنس وَدَاوُد بن حُصَيْن وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة وَالضَّحَّاك بن عُثْمَان وَأُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ، عَن عبد الله بن يزِيد، عَن أبي عَيَّاش، عَن سعد «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع التَّمْر بالرطب» وَرَوَاهُ يَحْيَى بن أبي كثير عَن عبد الله بن يزِيد بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ فِيهِ: «إِن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ [نَسِيئَة] » وَلم يقل ذَلِكَ، الْآخرُونَ عَن عبد الله بن يزِيد؛ وَرَوَاهُ(6/480)
عمرَان بن أبي أنس عَن مولَى [لبني] مَخْزُوم، لم يسمه عَن سعد نَحْو قَول يَحْيَى بن أبي كثير. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رَوَى يَحْيَى بن أبي كثير هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة عبد الله بن عَيَّاش، عَن سعد، قَالَ: (وَيُقَال) : إِن عبد الله هَذَا هُوَ أَبُو عَيَّاش الَّذِي قَالَه مَالك، وَأَن يَحْيَى بن أبي كثير أَخطَأ فِي اسْمه بِلَا شكّ وَفِي مَوضِع إِذا شكّ فِيهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن عبد الله بن يزِيد، عَن زيد أبي عَيَّاش. قَالَ: وَرَوَاهُ عبد الله بن جَعْفَر الْمَدِينِيّ، عَن مَالك، عَن دَاوُد بن الْحصين، عَن عبد الله بن يزِيد. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ عَلّي بن عبد الله: وَسَمَاع أبي، عَن مَالك قديم قبل أَن يسمعهُ هَؤُلَاءِ، فأظن أَن مَالِكًا كَانَ علقه أَولا، عَن دَاوُد بن الْحصين، عَن عبد الله بن يزِيد ثمَّ سَمعه من عبد الله بن يزِيد فَحدث بِهِ قَدِيما، عَن دَاوُد ثمَّ نظر فِيهِ فصححه، عَن عبد الله بن يزِيد وَترك دَاوُد بن الْحصين. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، عَن عبد الله بن يزِيد وَمن رِوَايَة يَحْيَى بن أبي كثير عَنهُ، عَن أبي عَيَّاش، عَن سعد قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ نَسِيئَة» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: خَالف يَحْيَى بن أبي كثير مَالك وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة وَالضَّحَّاك بن عُثْمَان وَأُسَامَة بن زيد، رَوَوْهُ عَن عبد الله بن يزِيد وَلم يَقُولُوا فِيهِ «نَسِيئَة» واجتماع هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة عَلَى خلاف مَا قَالَه يَحْيَى يدل عَلَى ضبطهم للْحَدِيث، وَفِيهِمْ إِمَام حَافظ وَهُوَ مَالك بن أنس. قَالَ(6/481)
الْبَيْهَقِيّ: والعلّة المنقولة (فِي) هَذَا الْخَبَر تدل عَلَى خطأ هَذِه اللَّفْظَة. قَالَ: وَقد رَوَاهُ عمرَان بن أبي أنس عَن أبي عَيَّاش نَحْو رِوَايَة الْجَمَاعَة. فَذكرهَا بِإِسْنَادِهِ، ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث عبد الله بن وهب، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن عبد الله بن أبي سَلمَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن رطب بِتَمْر، فَقَالَ: أينقص الرطب إِذا يبس؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: فَلَا يُبَاع رطب بيابس» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُرْسل جيد شَاهد لما تقدم. قلت: فقد ظهر صِحَة حَدِيث سعد (بِطرقِهِ) وشواهده ومتابعاته وَللَّه الْحَمد وَقد طعن فِيهِ بَعضهم، قَالَ عبد الْحق: اخْتلف فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث، وَيُقَال: إِن زيدا أَبَا عَيَّاش هَذَا مَجْهُول، وَتبع فِي ذَلِكَ أَبَا مُحَمَّد بن حزم فَإِنَّهُ قَالَ فِي «الرسَالَة الَّتِي لَهُ فِي إبِْطَال الْقيَاس» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح لجَهَالَة أبي عَيَّاش. وَكَذَا قَالَ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ أَن أَبَا عَيَّاش لَا يعرف، وَذكر الِاخْتِلَاف الَّذِي وَقع فِي الحَدِيث ثمَّ قَالَ: فَبَان بِحَمْد الله فَسَاد هَذَا الحَدِيث إِسْنَادًا ومتنًا وَأَنه لَا حجَّة فِيهِ عَلَى من خَالفه من أبي حنيفَة وَمن تَابعه. قلت: ومدار تَضْعِيف من ضعفه عَلَى جَهَالَة أبي عَيَّاش، وَأول من رده بذلك أَبُو حنيفَة. قَالَ: هُوَ مَجْهُول؛ لما سُئِلَ عَن هَذِه الْمَسْأَلَة عِنْد دُخُوله بَغْدَاد، وَقَالَ الطَّبَرِيّ فِي «تهذيبه» : علل هَذَا الْخَبَر بِأَن زيدا تفرد بِهِ، وَهُوَ غير مَعْرُوف فِي نَقله الْعلم. وَالْجَوَاب عَن ذَلِكَ أَن أَبَا عَيَّاش لَيْسَ بِمَجْهُول بل هُوَ مَعْرُوف، رَوَاهُ عَنهُ مَالك فِي(6/482)
«الْمُوَطَّأ» وَهُوَ لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة وَذكره ابْن حبَان فِي «ثِقَات التَّابِعين» وَقَالَ: رَوَى عَن سعد بن أبي وَقاص، وَرَوَى عَنهُ عبد الله بن يزِيد مولَى الْأسود بن سُفْيَان، وَذكره فِي صَحِيحه من جِهَته وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم كَمَا سلف، وَقَالَ الصريفيني عَن الدَّارَقُطْنِيّ: إِنَّه ثِقَة ثَبت. وَأخرجه عَنهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» كَمَا سلف، وَقد علم شدَّة تحريه فِي الرِّجَال واجتهاده حَتَّى لقب بِإِمَام الْأَئِمَّة، وَانْفَرَدَ بذلك من بَين أقرانه، قَالَ الْخطابِيّ: قد تكلم بعض النَّاس فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: زيد أَبُو عَيَّاش رَاوِيه ضَعِيف، و (مثل هَذَا الحَدِيث عَلَى أصل الشَّافِعِي لَا يجوز أَن يحْتَج بِهِ) . قَالَ: وَلَيْسَ الْأَمر عَلَى مَا توهمه، وَأَبُو عَيَّاش هَذَا هُوَ مولَى لبني زهرَة مَعْرُوف، وَقد ذكره مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَهُوَ لَا يروي عَن رجل مَتْرُوك الحَدِيث بِوَجْه، هَذَا من شَأْن مَالك، وعادته مَعْلُومَة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : إِن قيل: قد قَالَ أَبُو حنيفَة زيد أَبُو عَيَّاش مَجْهُول، قُلْنَا: إِن كَانَ هُوَ لَا يعرفهُ فقد عرفه أهل النَّقْل، فَذكر رِوَايَته التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم وصححاها، وَذكره مُسلم فِي كتاب «الكنى» وَقَالَ: سمع من سعد، وَرَوَى عَنهُ عبد الله بن يزِيد. وَذكره ابْن خُزَيْمَة فِي رِوَايَة الْعدْل، عَن الْعدْل، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصره» لسنن أبي دَاوُد: حُكيَ عَن بَعضهم أَنه قَالَ: زيد أَبُو عَيَّاش مَجْهُول، قَالَ: وَكَيف يكون(6/483)
مَجْهُولا؟ وَقد رَوَى عَنهُ اثْنَان ثقتان: عبد الله بن يزِيد مولَى الْأسود بن سُفْيَان، وَعمْرَان بن أبي أنس، وهما مِمَّن احْتج (بهما) مُسلم فِي «صَحِيحه» وَقد عرفه أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن، هَذَا الإِمَام مَالك قد أخرج حَدِيثه فِي «موطئِهِ» مَعَ شدَّة تحريه فِي الرِّجَال، ونقده، وتتبعه لأحوالهم، وَالتِّرْمِذِيّ قد أخرج حَدِيثه وَصَححهُ، وَكَذَلِكَ الْحَاكِم، وَذكره مُسلم فِي «الكنى» وَذكر أَنه سمع من سعد وَكَذَا الْكَرَابِيسِي فِي كناه أَيْضا، وَذكره أَيْضا النَّسَائِيّ فِي كناه. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَمَا علمت أحدا طعن فِيهِ. وَهُوَ كَمَا (قَالَ) . قَالَ ابْن عبد الْبر فِي «استذكاره» و «تمهيده» : وَقد قيل: إِن زيدا أَبَا عَيَّاش هَذَا هُوَ أَبُو عَيَّاش الزرقي، واسْمه عِنْد طَائِفَة من أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ زيد بن الصَّامِت، وَقيل: زيد بن نعْمَان، وَهُوَ من صغَار الصَّحَابَة، وَمِمَّنْ حفظ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَرَوَى عَنهُ، وَشهد بعض مشاهده، وَلذَلِك جعله صَاحب «الْمغرب» من الْحَنَفِيَّة وَهُوَ المطرزي أَنه هُوَ الَّذِي تكلم فِيهِ أَبُو حنيفَة، وأحال الطَّحَاوِيّ أَن يكون هُوَ الزرقي قَالَ: لِأَنَّهُ من جملَة الصَّحَابَة وَلم (يُدْرِكهُ) عبد الله بن يزِيد، وَأَبُو عَيَّاش عَاشَ إِلَى زمن مُعَاوِيَة بعد الْأَرْبَعين، وَقيل بعد الْخمسين. وأعلّه بَعضهم بِوَجْه آخر فَقَالَ: إِنَّه تضمن مَا لَا يُمكن نسبته إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الِاسْتِفْهَام (عَمَّا) لَا يخْفَى. وَهَذَا عَجِيب من قَائِله، فَالْحَدِيث لَفظه لفظ اسْتِفْهَام،(6/484)
وَمَعْنَاهُ التَّقْرِير والتنبيه لينبه عَلَى ثَلَاثَة: الحكم وعلته ليعتبروها فِي نظائرها وَأَخَوَاتهَا، وَذَلِكَ أَنه لَا يجوز أَن يخْفَى عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَام أَن الرطب ينقص إِذا يبس فَيكون سُؤال تعرف واستفهام، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْوَجْه الَّذِي ذكرته وَهَذَا كَقَوْل جرير:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى الْعَالمين بطُون رَاح
وَلَو كَانَ استفهامًا لم يكن فِيهِ (مدح) وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنْتُم خير من ركب المطايا، وَهَذَا جَوَاب الْخطابِيّ والاستفهام بِمَعْنى التَّقْرِير كثير، مَوْجُود فِي الْقُرْآن الْعَظِيم فِي قَوْله تَعَالَى: (وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى) و (ألم نشرح لَك صدرك) إِلَى آخر ذَلِكَ.
فَائِدَة: قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : الْبَيْضَاء الرطب من السلت باليابس من السلت. وَفِي «الغريبين» : السلت حب بَين الْحِنْطَة وَالشعِير لَا قشر لَهُ. وَفِي «الصِّحَاح» : أَنه ضرب من الشّعير لَيْسَ لَهُ قشر، كَأَنَّهُ الْحِنْطَة. وَفِي الْمُجْمل: أَنه ضرب من الشّعير، رَقِيق القشرة، صغَار الْحبَّة.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك عَن زيد بن سَالم، عَن سعيد(6/485)
بن الْمسيب «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ» وَهَذَا مُرْسل كَمَا ترَى وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» من حَدِيث القعْنبِي، عَن مَالك بِهِ، قَالَ الرَّافِعِيّ فِي «تذنيبه» : وَقَوي هَذَا مَعَ إرْسَاله فَإِن الصَّحَابَة عمِلُوا بِهِ، ودرجوا عَلَيْهِ. قلت: وَرُوِيَ مُسْندًا من حَدِيث سهل بن سعد وَابْن (عمر) رَضي اللهُ عَنهما أما حَدِيث سهل فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ: نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ» ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ يزِيد بن مَرْوَان، عَن مَالك، عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ، وَلم يُتَابع عَلَيْهِ، وَصَوَابه مَا فِي «الْمُوَطَّأ» : عَن زيد، عَن سعيد مُرْسلا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: رَوَاهُ يزِيد بن مَرْوَان هَكَذَا وَغلط فِيهِ، وَالصَّحِيح مَا فِي «الْمُوَطَّأ» يَعْنِي مُرْسلا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذِه الطَّرِيق لَا ترضي. قَالَ يَحْيَى بن معِين: يزِيد بن مَرْوَان كَذَّاب. ووهاه ابْن حبَان أَيْضا. وَأما حَدِيث ابْن عمر فَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن بيع الْحَيَوَان بِاللَّحْمِ» رَوَاهُ من حَدِيث ثَابت بن زُهَيْر، عَن نَافِع عَنهُ، وثابت هَذَا ضَعَّفُوهُ، وَالصَّحِيح فِي هَذَا الحَدِيث الْإِرْسَال كَمَا صرح بِهِ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا، قَالَ عبد الْحق: الصَّحِيح أَن هَذَا الحَدِيث مُرْسل كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» ، قَالَ: وَلَا أعلمهُ مُسْندًا إِلَّا من حَدِيث ثَابت(6/486)
بن زُهَيْر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: ثَابت هَذَا مُنكر الحَدِيث ضَعِيف لَا يشْتَغل بِهِ. وَذكر الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : حَدِيث مَالك شَاهدا لحَدِيث الْحسن، عَن سَمُرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الشَّاة بِاللَّحْمِ» قَالَ: وَهُوَ صَحِيح الْإِسْنَاد، رُوَاته عَن آخِرهم أَئِمَّة حفاظ ثِقَات. قَالَ: وَقد احْتج البُخَارِيّ بالْحسنِ، عَن سَمُرَة. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح. قَالَ: وَمن أثبت سَماع الْحسن الْبَصْرِيّ من سَمُرَة عدَّه مَوْصُولا، وَمن لم يُثبتهُ فَهُوَ مُرْسل جيد انْضَمَّ إِلَى مُرْسل سعيد بن الْمسيب وَالقَاسِم بن أبي (بزَّة) ، وَقَول أبي بكر الصّديق يَعْنِي الْآتِي. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه.
وَأما أَثَره: فَهُوَ مَا رُوِيَ «أَن جزورًا نحرت عَلَى عهد أبي بكر رَضي اللهُ عَنهُ فجَاء رجل بعناق، فَقَالَ: أعطوني جزورًا. فَقَالَ أَبُو بكر: لَا يصلح هَذَا» ذكره الْمُزنِيّ تلو خبر سعيد بن الْمسيب، فَقَالَ: وَعَن ابْن عَبَّاس «أَن جزورًا نحرت عَلَى عهد أبي بكر، فجَاء رجل بعناق فَقَالَ: أعطوني ... » إِلَى آخِره كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن ابْن أبي يَحْيَى، عَن صَالح مولَى التوءمة، عَن ابْن عَبَّاس، عَن أبي بكر(6/487)
الصّديق «أَنه كره بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ» وَرَوَاهُ فِي الْقَدِيم، عَن رجل، عَن صَالح مولَى التوءمة، عَن ابْن عَبَّاس «أَن جزورًا نحرت عَلَى عهد أبي بكر فجَاء رجل بعناق، فَقَالَ: أعطوني جزورًا بِهَذِهِ العناق. فَقَالَ أَبُو بكر الصّديق: لَا يصلح هَذَا» قَالَ: فَلم يرو فِي هَذَا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْء، كَانَ قَول أبي بكر الصّديق فِيهِ مِمَّا لَيْسَ لنا خِلَافه؛ لأَنا لَا نعلم أَن أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ بِخِلَافِهِ، وإرسال سعيد بن الْمسيب.(6/488)
بَاب الْبيُوع الْمنْهِي عَنْهَا
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث تِسْعَة وَثَلَاثِينَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لحكيم بن حزَام: «لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك» .
هَذَا حَدِيث صَحِيح وَقد سلف بَيَانه فِي أثْنَاء بَاب مَا يَصح بِهِ البيع.
فَائِدَة: حَكِيم هَذَا ولد فِي جَوف الْكَعْبَة وَلَا يعرف أحد ولد فِيهَا غَيره، وَأما مَا رُوِيَ عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ أَنه ولد فِيهَا فضعيف، وَخَالف الْحَاكِم فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي تَرْجَمَة عَلّي أَن الْأَخْبَار تَوَاتَرَتْ بذلك، وعاش حَكِيم مائَة وَعشْرين سنة، سِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّة وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَام، أَي حِين انْتَشَر وشاع فِي النَّاس وَذَلِكَ بعد الْهِجْرَة بِنَحْوِ سِتّ سِنِين، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : وَلَا يُشَارِكهُ فِي هَذَا إِلَّا حسان بن ثَابت. قلت: لَيْسَ كَذَلِك فقد شاركهما فِي ذَلِكَ ثَمَانِيَة أنفس كَمَا ذكرته عَنْهُم فِي «الْمقنع» فِي عُلُوم الحَدِيث تأليفي فَرَاجعه، فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات المستفادة الَّتِي يرحل إِلَيْهَا.
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن عسب الْفَحْل» ، وَرُوِيَ «أَنه نهَى عَن ثمن عسب(6/489)
الْفَحْل» . وَهَذِه رِوَايَة الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» ، هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأول البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عمر، وَكَذَا د، ت، ن، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عَلّي بن الحكم، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن كسب الْفَحْل» وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد عَلَى شَرط البُخَارِيّ، وَعلي بن الحكم ثِقَة مَأْمُون من أعز الْبَصْرَة حَدِيثا، وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي الشَّافِعِي فِي «السّنَن المأثورة» الَّتِي رَوَاهَا الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَنهُ من حَدِيث سعيد بن سَالم القداح عَن شبيب بن عبد الله البَجلِيّ، عَن أنس بن مَالك «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن ثمن عسب الْفَحْل» وَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» بِدُونِ لَفْظَة «ثمن» ثمَّ قَالَ: سَأَلت أبي عَنهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا رُوِيَ هَذَا من كَلَام أنس، قَالَ: وَرَوَاهُ ابْن لَهِيعَة، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن ابْن شهَاب، عَن أنس مَرْفُوعا، وَيزِيد لم يسمع من الزُّهْرِيّ إِنَّمَا كتب إِلَيْهِ. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث أنس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى أَن يَبِيع الرجل فحلة فرسه» . قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» : وَالْمرَاد: ضرابه. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، عَن إِسْمَاعِيل، نَا عَلّي بن الحكم، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَيْضا، وَعَزاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» بِهَذَا اللَّفْظ إِلَى(6/490)
البُخَارِيّ، وَمرَاده أصل الحَدِيث، وَهِي مَوْجُودَة فِي نسخ أبي دَاوُد، وَرَوَاهُ بهَا أَيْضا الدَّارمِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة كَمَا سَيَأْتِي. وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر وَأبي هُرَيْرَة «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بيع ضراب الْجمل» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن ثمن الْكَلْب و [عسب] التيس» وَفِي رِوَايَة للخطيب فِي «تلخيصه» «إِن من خِصَال السُّحت عسب الْفَحْل» وَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» بِلَفْظ النَّسَائِيّ إِلَّا أَنه قَالَ: «الْفَحْل» بدل «التيس» ، ثمَّ قَالَ: سَأَلت أبي عَنهُ، فَقَالَ: لم يروه عَن الْأَعْمَش، عَن أبي حَازِم، عَن أبي هُرَيْرَة غير ابْن فُضَيْل، وأخشى أَنه أَرَادَ أَبَا سُفْيَان، عَن جَابر مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث حجاج، عَن عَطاء، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه نهَى عَن ثمن الْكَلْب و [عسب] الْفَحْل» وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» من حَدِيث ابْن فُضَيْل، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي حَازِم، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن ثمن عسب(6/491)
الْفَحْل» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس بِزِيَادَة: «فَرخص لَهُم فِي الْكَرَامَة» ثمَّ قَالَ: حسن غَرِيب. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة أبي سعيد بِلَفْظ رِوَايَة البُخَارِيّ، وَكَذَا ابْن السكن فِي «صحاحه» ، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: يَنْبَغِي أَن يُقَال فِيهِ: صَحِيح؛ فَإِن رِجَاله كلهم ثِقَات. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «عُلُوم الحَدِيث» من حَدِيث عَاصِم بن ضَمرَة عَن عَلّي مَرْفُوعا «نهَى عَن عسب كل ذِي فَحل» وَضَعفه وَهُوَ فِي «مُسْند أَحْمد» من رِوَايَة ابْنه كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَطْعِمَة فِي حَدِيث النَّهْي عَن كل ذِي نَاب، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب وَابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «نهَى عَن [عسب] الْفَحْل» وَفِي «غريبي الْهَرَوِيّ» فِي الحَدِيث «نهَى عَن شبر الْفَحْل» يَعْنِي أَخذ الْكرَى عَلَى ضرابه، أوردهُ صَاحب الْخُلَاصَة من الْحَنَفِيَّة بِهَذَا اللَّفْظ.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع حَبل الحبلة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) بِهَذَا(6/492)
اللَّفْظ وَزَادا: «كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتبايعون لُحُوم الْجَزُور إِلَى حَبل الحبلة. أَن تنْتج النَّاقة مَا فِي بَطنهَا ثمَّ تحمل الَّتِي نتجت، فنهاهم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن ذَلِكَ» وَفِي رِوَايَة: «كَانُوا يتبايعون الْجَزُور إِلَى حَبل الحبلة، فَنَهَى النَّبِي عَنهُ» ثمَّ فسَّره نَافِع: أَن تنْتج النَّاقة مَا فِي بَطنهَا. وَهَذَا يدل (عَلَى) أَن التَّفْسِير الأول لَيْسَ من كَلَام ابْن عمر، وَإِنَّمَا هُوَ من كَلَام نَافِع، وَقد قَرَّرَهُ كَذَلِك الْخَطِيب فِي كِتَابه «الْفَصْل للوصل المدرج فِي النَّقْل» .
تَنْبِيه: وَقع فِي «جَامع المسانيد» لِابْنِ الْجَوْزِيّ عقب إِخْرَاجه لَهُ من حَدِيث ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن بيع حَبل الحبلة» أَن مُسلما انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ، هَكَذَا قَالَ، وَقد أَخْرجَاهُ بِلَفْظ آخر، قَالَ ابْن عمر: «وَكَانُوا يتبايعون ... » إِلَى آخِره، وَلَيْسَ كَمَا ذكر من أَن مُسلما انْفَرد بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، فقد أخرجه أَيْضا كَذَلِك.
فَائِدَة: الْحَبل والحبلة بِفَتْح الْحَاء وَالْبَاء، (و) غلط من سكن الْبَاء فِي حَبل، وَالْحَبل مُخْتَصّ بالآدميات وَيُقَال فِي غيرهنّ: الْحمل، قَالَه أهل اللُّغَة، قَالَ أَبُو عبيد: وَلَا يُقَال لشَيْء حَبل إِلَّا مَا جَاءَ فِي الحَدِيث.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الملاقيح والمضامي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ من هَذَا الْوَجْه ابْن رَاهَوَيْه فِي «مُسْنده» عَن النَّضر بن شُمَيْل، نَا صَالح بن أبي الْأَخْضَر، عَن الزُّهْرِيّ أَن سعيد بن الْمسيب(6/493)
أخبرهُ، عَن أبي هُرَيْرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن المضامين والملاقيح، وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، ثَنَا سعيد بن سُفْيَان، عَن صَالح بِهِ، وَزَاد «وحبل الحبلة» ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث لَا نعلم أحدا رَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة إِلَّا صَالح بن أبي الْأَخْضَر وَلم يكن بِالْحَافِظِ. وَعَزاهُ الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين الْمَقْدِسِي من هَذِه الطَّرِيق إِلَى كتاب الْبيُوع تأليف أبي بكر أَحْمد بن أبي عَاصِم، وَعَزاهُ إِلَيْهِ أَيْضا من طَرِيق عمرَان بن حُصَيْن، ورأيته فِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن أبي حَبِيبَة، عَن دَاوُد بن الْحصين، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، فاستفد هَذِه الطّرق؛ فَإِنَّهَا عزيزة الْوُجُود، وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن ابْن شهَاب مُرْسلا أَن سعيد بن الْمسيب كَانَ يَقُول: «لَا رَبًّا فِي الْحَيَوَان وَإِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِنَّمَا نهَى فِي بيع الْحَيَوَان عَن ثَلَاث: عَن المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة» .
والمضامين: مَا فِي بطُون إناث الْإِبِل، والملاقيح: مَا فِي ظُهُور الْجمال، وحبل الحبلة هُوَ بيع الْجَزُور إِلَى أَن تنْتج النَّاقة ثمَّ تنْتج الَّذِي فِي بَطنهَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي رِوَايَة الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: المضامين مَا فِي (بطُون) الْجمال، والملاقيح: مَا فِي بطُون إناث الْإِبِل. قَالَ(6/494)
الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَلِكَ فسّره أَبُو عبيد. وسُئل الدَّارَقُطْنِيّ عَن حَدِيث سعيد بن الْمسيب هَذَا، فَقَالَ فِي «علله» : رَوَاهُ مَالك هَكَذَا عَن الزُّهْرِيّ وَوَافَقَهُ معمر عَلَى ذَلِكَ، وَرَوَاهُ عمر بن قيس وَصَالح بن أبي الْأَخْضَر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا.
قَالَ: وَالصَّحِيح غير مَرْفُوع من قَول سعيد غير مُتَّصِل.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ) «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الْمُلَامسَة والمنابذة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِهَذَا اللَّفْظ من هَذَا الْوَجْه وروياه أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أنس وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهم.
الحَدِيث السَّادِس
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الْحَصَاة» . هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم بِهَذَا اللَّفْظ.(6/495)
الحَدِيث السَّابِع
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيعَتَيْنِ فِي بيعَة» . هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي وَأحمد وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ بِهَذَا اللَّفْظ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن حبَان بِلَفْظ: «من بَاعَ بيعَتَيْنِ فِي بيعَة فَلهُ أوكسهما أَو الرِّبَا» وَرَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ بلاغًا بِلَفْظ الْأَوَّلين، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن ابْن عَمْرو وَابْن عمر وَابْن مَسْعُود. وَرَوَاهُ الْحَاكِم بِلَفْظ أبي دَاوُد ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَلْقَمَة، وَقد تكلم فِيهِ غير وَاحِد، قلت: والشيخان أخرجَا لَهُ مَقْرُونا، وَقدمه ابْن معِين عَلَى ابْن إِسْحَاق، وَقَالَ: هُوَ فَوق سُهَيْل (بن) أبي صَالح وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه(6/496)
لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح الحَدِيث يكْتب حَدِيثه. وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد من حَدِيث سماك، عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن مَسْعُود، عَن أَبِيه، قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن صفقتين فِي صَفْقَة» قَالَ سماك: هُوَ الرجل يَبِيع البيع فَيَقُول: هُوَ بنَسَاءٍ (كَذَا) وَهُوَ بِنَقْد (كَذَا) وَكَذَا، وَاخْتلف الْحفاظ فِي سَماع عبد الرَّحْمَن من أَبِيه، فَقَالَ يَحْيَى بن معِين فِي (إِحْدَى) الرِّوَايَتَيْنِ: لم يسمع مِنْهُ. وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ وَالْأَكْثَرُونَ: إِنَّه (سمع مِنْهُ) وَهِي زِيَادَة علم.
الحَدِيث الثَّامِن
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «نهَى عَن بيع وَشرط» .
هَذَا الحَدِيث لم يُخرجهُ أحد من أَصْحَاب السّنَن وَالْمَسَانِيد، وبيض (لَهُ) الرَّافِعِيّ فِي «تذنيبه» وَاسْتَغْرَبَهُ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي محلاه، عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل العذري القَاضِي بسرقسطة، نَا مُحَمَّد بن عَلّي الرَّازِيّ المطوعي، نَا مُحَمَّد بن عبد الله الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي، ثَنَا جَعْفَر بن مُحَمَّد الخالدي، نَا عبد الله(6/497)
بن أَيُّوب بن زَاذَان الضَّرِير، نَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الذهلي، نَا عبد الْوَارِث هُوَ ابْن سعيد التنوري قَالَ: «قدمت مَكَّة فَوجدت بهَا أَبَا حنيفَة وَابْن أبي لَيْلَى وَابْن شبْرمَة، فَسَأَلت أَبَا حنيفَة عَن رجل بَاعَ بيعا وَاشْترط شرطا، فَقَالَ: البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ سَأَلت ابْن أبي لَيْلَى عَن ذَلِكَ، فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ سَأَلت ابْن شبْرمَة عَن ذَلِكَ، فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز، فَرَجَعت إِلَى أبي حنيفَة فَأَخْبَرته بِمَا قَالَا، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَا، ثَنَا عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع وَشرط» البيع بَاطِل، وَالشّرط بَاطِل. فَأتيت ابْن أبي لَيْلَى فَأَخْبَرته (بِمَا) قَالَ: فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَا، ثَنَا هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اشْترِي بَرِيرَة واشترطي لَهُم الْوَلَاء» البيع جَائِز وَالشّرط بَطل. فَأتيت ابْن شبْرمَة فَأَخْبَرته بِمَا قَالَا فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَا، ثَنَا مسعر بن كدام، عَن (محَارب) بن دثار، عَن جَابر بن عبد الله «أَنه بَاعَ من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جملا وَاشْترط ظَهره إِلَى الْمَدِينَة» البيع جَائِز، وَالشّرط جَائِز» . وَرَوَاهُ الْخطابِيّ فِي «معالم السّنَن» ، عَن مُحَمَّد بن هَاشم بن هِشَام، نَا عبد الله بن فَيْرُوز الديلمي، نَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الذهلي، نَا عبد الْوَارِث بن سعيد، قَالَ: قدمت مَكَّة ... فَذكرهَا كَمَا سَاقهَا ابْن حزم وفيهَا «فَقلت: يَا سُبْحَانَ الله، ثَلَاثَة من فُقَهَاء الْعرَاق اخْتلفُوا فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة،(6/498)
فَأتيت أَبَا حنيفَة فَأَخْبَرته بِمَا قَالَا ... .» وساقها كَمَا تقدم، وَفِي الْجُزْء الثَّالِث من الْأَعْيَان الْجِيَاد من مشيخة بَغْدَاد تَخْرِيج الْحَافِظ شرف الدَّين الدمياطي أَن ابْن أبي الفوارس قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث ابْن شبْرمَة، عَن مسعر. وَهَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ عبد الْوَارِث بن سعيد، وَعَزاهُ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» إِلَى تَخْرِيج ابْن حزم فَقَالَ: خرجه أَبُو مُحَمَّد - يَعْنِي ابْن حزم - من طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الله الْحَاكِم. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَكَأَنَّهُ يَعْنِي عبد الْحق تَبرأ من عهدته بِذكر إِسْنَاده، وعلته ضعْف أبي حنيفَة فِي الحَدِيث، فَأَما عَمْرو عَن أَبِيه عَن جده فَإِن مذْهبه - يَعْنِي: عبد الْحق - عدم تَضْعِيفه.
قلت: وَفِي الْبَاب حَدِيث قريب مِنْهُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي سُنَنهمْ، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» (و) الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو رَضي اللهُ عَنهما، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يحل سلف وَبيع، وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع، وَلَا ربح مَا لم يضمن، وَلَا بيع مَا لَيْسَ عنْدك» هَذَا لَفظهمْ خلا ابْن حبَان، فَإِن لَفظه: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كتب إِلَى أهل مَكَّة لَا يجوز شَرْطَانِ فِي بيع، وَلَا بيع وَسلف جَمِيعًا، وَلَا ربح مَا لم يضمن» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن(6/499)
صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط جملَة من أَئِمَّة الْمُسلمين، قَالَ: وَرَوَاهُ عَطاء الْخُرَاسَانِي، عَن عَمْرو بن شُعَيْب بِزِيَادَة أَلْفَاظ، فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي، قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسمع مِنْك أَشْيَاء أَخَاف أَن أَنْسَاهَا، فتأذن فِي أَن أَكتبهَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَكَانَ (فِيهَا: كتبت) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه لما بعث عتاب بن أسيد إِلَى أهل مَكَّة، قَالَ: أخْبرهُم أَنه لَا يجوز بيعان فِي بيع، وَلَا بيع مَا لَا يملكك، وَلَا سلف فِي بيع وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع» وَرَوَى هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث عَطاء، عَن عَمْرو: الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» ، وَالنَّسَائِيّ فِي كتاب الْعتْق، ثمَّ قَالَ: (هَذَا) حَدِيث مُنكر وَهُوَ عِنْدِي خطأ.
الحَدِيث التَّاسِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر عبد الله بن (عَمْرو) أَن يُجهز جَيْشًا وَأمره أَن يبْتَاع ظهرا إِلَى خُرُوج الْمُصدق» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي الْبَاب قبله فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الْعَاشِر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا كَانَ من شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل» .(6/500)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك من حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها فِي قصَّة بَرِيرَة.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أَن عَائِشَة اشترت بَرِيرَة وَشرط مواليها أَن تعتقها وَيكون ولاؤها لَهُم، فَلم يُنكر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا شَرط الْوَلَاء، وَقَالَ: شَرط الله أوثق وَقَضَاء الله أَحَق، وَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ أَيْضا فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، والرافعي ذكره دَلِيلا لأظهر الْقَوْلَيْنِ، أَن البيع بِشَرْط الْعتْق صَحِيح، والْحَدِيث فِيهِ اشْتِرَاط الْوَلَاء لَيْسَ فِيهِ البيع بِشَرْط الْعتْق، فَلْيتَأَمَّل ذَلِكَ.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خطب بعد ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا بَال أَقوام يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله، كل شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل، شَرط الله أوثق ... » إِلَى آخِره.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من(6/501)
حَدِيث عَائِشَة أَيْضا، وَكَذَا مَا رَوَاهُ الرَّافِعِيّ بعد هَذَا من «أَن عَائِشَة أخْبرت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن مواليها لَا يبيعونها إِلَّا بِشَرْط أَن يكون الْوَلَاء لَهُم، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اشْترِي واشترطي لَهُم الْوَلَاء» قَالَ الرَّافِعِيّ: والصائرون إِلَى الْفساد لم يثبتوا الْإِذْن فِي شَرط الْوَلَاء، وَقَالُوا: إِن هشامًا تفرد بِهِ وَلم يُتَابِعه سَائِر الراوة عَلَيْهِ، فَيحمل عَلَى وهم وَقع لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَأْذَن فِيمَا لَا يجوز، وَبِتَقْدِير الثُّبُوت تكلمُوا عَلَيْهِ من وُجُوه يطول ذكرهَا، وَأما من صَححهُ قَالَ: إِنَّه نَهَاهُم عَن الْإِتْيَان بِمثل هَذِه الشُّرُوط، و [لما] جرت أنكر عَلَيْهِم لارتكابهم مَا نَهَاهُم عَنهُ، [لكنه صحّح] وَقد ينْهَى عَن الشَّيْء [ثمَّ] يُصَحِّحهُ. هَذَا مَا ذكره، وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَيْهِ فِي «شرح الْعُمْدَة» (وحُكيت فِيهِ أوجه سِتَّة) وَقد قيل: إِن عبد الرَّحْمَن بن أَيمن تَابع هشامًا عَلَيْهِ، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُتَبَايعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا إِلَّا بيع الْخِيَار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِهَذَا اللَّفْظ كُله من رِوَايَة ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما وَسَيَأْتِي فِي بَابه.(6/502)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُتَبَايعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا أَو يتخايرا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر كَذَلِك، وَهُوَ حَدِيث وَاحِد لَهُ طرق وَسَتَأْتِي مُوضحَة فِي بَاب الْخِيَار إِن شَاءَ الله.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحتكر إِلَّا خاطئ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ كَذَلِك من حَدِيث سعيد بن الْمسيب، عَن معمر بن عبد الله الْعَدوي بِهِ «قيل لسَعِيد: فَإنَّك تحتكر! قَالَ سعيد: إِن معمرًا الَّذِي كَانَ يحدث بِهَذَا الحَدِيث كَانَ يحتكر» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من احتكر فَهُوَ خاطئ» وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأول التِّرْمِذِيّ وَفِي آخِره «فَقلت لسَعِيد: يَا أَبَا مُحَمَّد، إِنَّك تحتكر! قَالَ: وَمعمر كَانَ يحتكر» وَكَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد وَفِي آخِره «قلت لسَعِيد: إِنَّك تحتكر! قَالَ: وَمعمر كَانَ يحتكر» وَالْقَائِل لسَعِيد هُوَ(6/503)
رَاوِيه عَنهُ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، وَفِي كتاب أبي مَسْعُود الدِّمَشْقِي عَن ابْن الْمسيب أَنه كَانَ يحتكر الزَّيْت. وَفِي التِّرْمِذِيّ: من قَوْله: إِنَّمَا كَانَ سعيد بن الْمسيب يحتكر الزَّيْت وَالْحِنْطَة وَنَحْو هَذَا. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ سعيد يحتكر النَّوَى والخبط والبزر. وَنقل عَن ابْن عبد الْبر وَغَيره عَن سعيد وَمعمر «أَنَّهُمَا كَانَا يحتكران الزَّيْت خَاصَّة» وأنهما حملا الحَدِيث عَلَى احتكار الْقُوت للْحَاجة إِلَيْهِ، وَكَذَا حمله أَصْحَابنَا، وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» عَن سعيد أَنه كَانَ يحتكر الزَّيْت لَيْسَ إلاَّ، ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ظَنِّي أَنَّهُمَا احتكرا عَلَى غير الْوَجْه الْمنْهِي عَنهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَسَأَلت أَحْمد مَا الحكرة؟ قَالَ: مَا فِيهِ عَيْش النَّاس. قَالَ ابْن الْأَثِير: والحكر الاحتكار. وَاعْلَم أَن ابْن بدر الْموصِلِي رد هَذَا الحَدِيث فِي كِتَابه «الْمُغنِي» بِأَن قَالَ: الرَّاوِي إِذا خَالف الحَدِيث دلّ عَلَى نسخه أَو ضعفه. قَالَ: ثمَّ هُوَ من أَفْرَاد مُسلم. قلت: الرَّاجِح فِي الْأُصُول أَن الْعبْرَة بِمَا رَوَى لَا بِمَا رَأَى وأفراد مُسلم حجَّة، نعم قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث أحد مَا ينْقض عَلَيْهِ - أَعنِي عَلَى مُسلم - أَن لَا يَصح حَدِيث صَحَابِيّ لَا يروي عَنهُ تابعيان، فَإِن معمرًا هَذَا لَيْسَ لَهُ راو غير سعيد بن الْمسيب. قلت: بلَى رَوَى عَنهُ بسر بن سعيد وَعبد الرَّحْمَن بن جُبَير الْمصْرِيّ وَغَيرهمَا فَلَا نقض عَلَى مَا ادَّعَاهُ عَنهُ، وَهنا أُمُور أُخْرَى نبهت عَلَيْهَا فِي تخريجي لأحاديث «الْمُهَذّب» فَرَاجعهَا مِنْهَا.(6/504)
فَائِدَة: الخاطئ بِالْهَمْزَةِ العَاصِي الآثم (قَالَه) أهل اللُّغَة وَكَذَا فسره الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب.
الحَدِيث السَّادِس عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الجالب مَرْزُوق، والمحتكر مَلْعُون» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث عَلّي بن سَالم بن ثَوْبَان، عَن عَلّي بن زيد بن جدعَان، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عمر بن الْخطاب مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، و (هَذَانِ) العليان: ابْن ثَوْبَان وَابْن جدعَان ضعيفان، وَالثَّانِي أخرج لَهُ مُسلم مُتَابعَة وَاحْتج بِهِ بَعضهم وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه بِاللَّفْظِ الْأَخير ثمَّ قَالَ: خرجته وَإِن لم يكن من شَرط الْكتاب احتسابًا لما فِيهِ النَّاس من الضّيق، وَلما رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» قَالَ: عَلّي بن سَالم قَالَ البُخَارِيّ: لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه. وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابِعه عَلَيْهِ أحد بِهَذَا اللَّفْظ. وَذكره رزين فِيمَا عزاهُ ابْن الْأَثِير إِلَيْهِ عَن ابْن عمر، عَن عمر: «الجالب مَرْزُوق، والمحتكر محروم» وَفِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» من حَدِيث عبد الْوَهَّاب بن مُجَاهِد - أحد الضُّعَفَاء - عَن أَبِيه، وَلم يسمع مِنْهُ، عَن العبادلة - عبد الله بن عمر، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَعبد الله(6/505)
بن الزبير، وَعبد الله بن عَمْرو - مَرْفُوعا: «التَّاجِر ينْتَظر الرزق، والمحتكر ينْتَظر اللَّعْنَة ... » الحَدِيث بِطُولِهِ كَذَا وَقع فِيهِ تَسْمِيَة العبادلة.
الحَدِيث السَّابِع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من احتكر الطَّعَام أَرْبَعِينَ لَيْلَة فقد برِئ من الله، وَبرئ الله مِنْهُ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا بِزِيَادَة: «وَأَيّمَا أهل غرصة أصبح فيهم امْرُؤ جَائِع فقد بَرِئت مِنْهُم ذمَّة الله» وَاعْتذر الْحَاكِم عَن إِخْرَاج هَذَا الحَدِيث فِي كِتَابه بِمَا اعتذر بِهِ فِي الحَدِيث قبله، وَيُشبه أَن فِي إِسْنَاده أصبغ بن زيد الْجُهَنِيّ مَوْلَاهُم الوَاسِطِيّ، وَفِيه مقَال، وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ثِقَة. وَقَالَ ابْن عدي: لَهُ أَحَادِيث غير مَحْفُوظَة. وسَاق لَهُ ثَلَاثَة أَحَادِيث هَذَا أَحدهَا، قَالَ: ولاأعلم رَوَى عَنهُ غير يزِيد بن (هَارُون) وَاعْترض عَلَيْهِ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» فَقَالَ: رَوَى عَنهُ عشرَة أنفس. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يُخطئ كثيرا لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ إِذا انْفَرد. وَفِي سَنَد الْحَاكِم أَيْضا عَمْرو بن الْحصين وَهُوَ مَتْرُوك، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح مُعَللا لَهُ(6/506)
بِضعْف أصبغ، وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا الحَدِيث بِسَبَبِهِ مَوْضُوعا. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: حَدِيث مُنكر و [أَبُو] بشر الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده لَا أعرفهُ يَعْنِي الَّذِي رَوَاهُ أصبغ عَنهُ، لكنه فِي «مُسْند أَحْمد» (أَبُو بشر بن الزَّاهِرِيَّة) وَكَذَا سَاقه ابْن حزم فَكَانَ صَوَابه أَبُو بشر عَن أبي الزَّاهِرِيَّة، فَفِي «الضُّعَفَاء» لِابْنِ الْجَوْزِيّ أَبُو بشر عَن أبي الزَّاهِرِيَّة، قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَا شَيْء. وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي» وَلما أوردهُ ابْن حزم من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ «من احتكر طَعَاما أَرْبَعِينَ يَوْمًا ... » إِلَى آخِره قَالَ: إِنَّه لَا يَصح؛ لِأَن أصبغ بن زيد وَكثير بن مرّة رَاوِيه عَن ابْن عمر مَجْهُولَانِ وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ فأصبغ قد رَوَى عَن جمَاعَة (وَعنهُ جمَاعَة) وَقد علمت حَاله، وَكثير بن مرّة رَوَى عَن جمَاعَة، وَأرْسل عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعنهُ جمَاعَة وَوَثَّقَهُ ابْن سعد وَالنَّاس، وَأخرج لَهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
«إِن السّعر غلا عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، سعر لنا. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن الله هُوَ المسعر الْقَابِض الباسط، وَإِنِّي لأرجو أَن ألْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أحد مِنْكُم يطلبني بمظلمة بِدَم وَلَا مَال» .(6/507)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَله طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث أنس رَضي اللهُ عَنهُ «أَن السّعر غلا ... » الحَدِيث، كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر «الاقتراح» : إِسْنَاده عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ عَن أنس «غلا السّعر عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، غلا السّعر فسعر لنا سعرًا. فَقَالَ: إِن الله هُوَ الْخَالِق الْقَابِض الباسط الرازق، وَإِنِّي لأرجو أَن لَا ألْقَى الله بمظلمة (طلبَهَا أحد) مِنْكُم فِي أهل وَلَا مَال» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رجلا جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، سعر. فَقَالَ: بل أَدْعُو، ثمَّ جَاءَهُ آخر فَقَالَ: يَا رَسُول الله، سعر. فَقَالَ: بل الله يخْفض وَيرْفَع، وَإِنِّي لأرجو أَن ألْقَى الله وَلَيْسَ لأحد عِنْدِي مظْلمَة» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد حسن، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «جَاءَ رجل فَقَالَ: سعر. فَقَالَ: إِن الله يخْفض وَيرْفَع، وَلَكِنِّي أَرْجُو أَن ألْقَى الله وَلَيْسَ لأحد عِنْدِي مظْلمَة» .(6/508)
ثَالِثهَا: من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «غلا السّعر عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: لَو قومت، يَا رَسُول الله. قَالَ: إِنِّي لأرجو أَن أفارقكم وَلَا يطلبني أحد مِنْكُم بمظلمة ظلمته» رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد جيد، وَله طَرِيق آخر من حَدِيث عَلّي - كرم الله وَجهه - قَالَ: «غلا السّعر بِالْمَدِينَةِ فَذهب أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، غلا السّعر فسعر لنا. فَقَالَ: إِن الله هُوَ الْمُعْطِي وَهُوَ الْمَانِع، وَإِن لله ملكا اسْمه عمَارَة عَلَى فرس من حِجَارَة الْيَاقُوت، طوله مد بَصَره يَدُور فِي الْأَمْصَار، وَيقف فِي الْأَسْوَاق يُنَادي: أَلا ليغلو كَذَا وَكَذَا، أَلا ليرخص كَذَا وَكَذَا» . وَهَذِه الطَّرِيقَة (ضَعِيفَة) وَذكرهَا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. ثمَّ بَين وَجهه، ثمَّ رَوَاهُ بِنَحْوِهِ من حَدِيث أنس من طرق أَرْبَعَة إِلَيْهِ (وضعفها كلهَا) .
الحَدِيث التَّاسِع عشر
عَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يبع حَاضر لباد» .
هَذَا صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث زُهَيْر بن مُعَاوِيَة، (عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا بِهِ وَزَاد: «دعوا النَّاس(6/509)
يرْزق الله) بَعضهم من بعض» قَالَ مُسلم: غير أَن رِوَايَة يَحْيَى «يُرزق» يَعْنِي بِضَم الْيَاء وَالْأُخْرَى بِالْفَتْح، وَأعله ابْن الْقطَّان بعنعنة أبي الزبير.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا مثله.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه، واتفقا أَيْضا عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث أنس وَابْن عَبَّاس وَانْفَرَدَ بِهِ البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عمر، وَمُسلم من حَدِيث جَابر كَمَا سلف.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي بعض الرِّوَايَات فِي آخر الْخَبَر: «دعوا النَّاس يرْزق الله بَعضهم من بعض» .
هَذَا صَحِيح وَقد سلف من حَدِيث جَابر عَن صَحِيح مُسلم.(6/510)
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تلقوا الركْبَان للْبيع» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إِسْنَاد، فَقَالَ: وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تتلقوا الركْبَان للْبيع» ثمَّ قَالَ: وَسمعت فِي هَذَا الحَدِيث: «فَمن تلقاها فَصَاحب السّلْعَة بِالْخِيَارِ بعد أَن يقدم السُّوق» وَله طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يتَلَقَّى الركْبَان للْبيع» أخرجه مُسلم كَذَلِك وَفِي رِوَايَة لَهُ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يتَلَقَّى الجلب» وَأخرجه البُخَارِيّ بِلَفْظ: «لَا تتلقوا الركْبَان» وبلفظ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن التلقي» .
ثَانِيهَا: عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تتلقوا السّلع حَتَّى يهْبط بهَا الْأَسْوَاق» أخرجه البُخَارِيّ كَذَلِك وَمُسلم بِلَفْظ: «نهَى أَن تتلقى السّلع حَتَّى تبلغ الْأَسْوَاق» .
ثَالِثهَا: عَن ابْن مَسْعُود رَضي اللهُ عَنهُ «نهَى عَن تلقي الْبيُوع» أَخْرجَاهُ أَيْضا.(6/511)
رَابِعهَا: عَن ابْن عَبَّاس «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يتَلَقَّى الركْبَان» أَخْرجَاهُ أَيْضا، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ فِي بعض الرِّوَايَات أَنه قَالَ: «فَمن تلقاها فَصَاحب السّلْعَة بِالْخِيَارِ بعد أَن يقدم السُّوق» . قلت: هَذِه الرِّوَايَة ذكرهَا الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» كَمَا أسلفته لَك، وَرَوَاهَا مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تلقوا الجلب، فَمن [تَلقاهُ] فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذا أَتَى سَيّده السُّوق فَهُوَ بِالْخِيَارِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «نهَى عَن تلقي الجلب، فَإِن تَلقاهُ متلق فَاشْتَرَاهُ فَصَاحب السّلْعَة بِالْخِيَارِ إِذا ورد السُّوق» ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: «نهَى أَن يتَلَقَّى الجلب، فَإِن تَلقاهُ إِنْسَان فابتاعه فَصَاحب السّلْعَة فِيهَا بِالْخِيَارِ إِذا ورد السُّوق» ثمَّ قَالَ: حسن غَرِيب. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ مُسلم، وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن هَذِه الزِّيَادَة الْوَارِدَة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا: «فَإِن صَاحب السّلْعَة بِالْخِيَارِ إِذا دخل الْمصر مَا بَينه وَبَين نصف النَّهَار» فَقَالَ: لَيْسَ فِي متن الحَدِيث هَذِه الزِّيَادَة.(6/512)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يسوم الرجل عَلَى سوم أَخِيه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك وَلمُسلم «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى أَن يستام الرجل عَلَى سوم أَخِيه» .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
عَن ابْن عمر مَرْفُوعا مثله.
هَذَا الحَدِيث أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من هَذَا الْوَجْه وهم بعض من حَدِيث طَوِيل وَنقل الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ فِي كتاب «الرسَالَة» : قد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «لايسوم أحدكُم عَلَى سوم أَخِيه» فَإِن كَانَ ثَابتا، وَلست أحفظه ثَابتا، فَهُوَ مثل «لَا يخْطب أحدكُم عَلَى خطْبَة أَخِيه، وَلَا يسوم عَلَى سومه» إِذا رَضِي البَائِع وَأذن بِأَن يُبَاع قبل البيع حَتَّى لَو بيع لزمَه، قَالَ: «وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَاعَ فِيمَن يزِيد» وَبيع من يزِيد سَوْمُ رجلٍ عَلَى سَوْمِ أَخِيه، وَلَكِن البَائِع لم يرْض السوْم الأول حَتَّى طلب الزِّيَادَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَحَدِيث السّوم قد ثَبت من أوجه سَاقهَا بأسانيده، وَفِي رِوَايَة ضَعِيفَة لِابْنِ أبي شيبَة من حَدِيث عَلّي «نهَى(6/513)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن السّوم قبل طُلُوع الشَّمْس» قَالَ الزّجاج: لِأَنَّهُ وَقت ذكر الله.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَادَى عَلَى قدح وحلس لبَعض أَصْحَابه، فَقَالَ رجل: هما عليَّ بدرهم. ثمَّ قَالَ آخر: هما عليَّ بِدِرْهَمَيْنِ. فَقَالَ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هما لَك بِدِرْهَمَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي فِي «الرسَالَة» كَمَا نَقَلْنَاهُ عَنهُ آنِفا، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث الْأَخْضَر بن عجلَان، قَالَ: حَدَّثَني أَبُو بكر الْحَنَفِيّ، عَن أنس بن مَالك «أَن رجلا من الْأَنْصَار أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَشَكا إِلَيْهِ الْحَاجة، فَقَالَ لَهُ: مَا عنْدك شَيْء؟ فَأَتَاهُ بقدح وحلس، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من يَشْتَرِي هَذَا؟ فَقَالَ رجل: أَنا آخذهما بدرهم، قَالَ: من يزِيد عَلَى دِرْهَم؟ فَسكت الْقَوْم، فَقَالَ: من يزِيد عَلَى دِرْهَم؟ فَقَالَ رجل: أَنا آخذهما بِدِرْهَمَيْنِ. فَقَالَ: هما لَك. ثمَّ قَالَ: إِن الْمَسْأَلَة لَا تحل إِلَّا لأحد ثَلَاث: لذِي دم موجع أَو غرم مفظع، أَو فقر مدقع» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب الزَّكَاة من «سنَنه» من هَذَا الْوَجْه عَن أنس «أَن رجلا من الْأَنْصَار أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسْأَله، قَالَ: أما فِي بَيْتك شَيْء؟ فَقَالَ: بلَى حلْس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وَقَعْب نشرب فِيهِ من المَاء. قَالَ: ائْتِنِي بهما. فَأَتَاهُ بهما [فَأَخذهُمَا] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِيَدِهِ،(6/514)
وَقَالَ: من يَشْتَرِي هذَيْن؟ قَالَ رجل: أَنا آخذهما بدرهم. قَالَ: من يزِيد عَلَى دِرْهَم؟ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، قَالَ رجل: آخذها بِدِرْهَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاه» ثمَّ سَاق الْبَاقِي أبسط مِمَّا تقدم، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع من هَذَا الْوَجْه مُخْتَصرا بِقصَّة البيع، وَكَذَا النَّسَائِيّ، نعم ذكره ابْن عبد الْبر فِي «كناه» وَلم ينْسبهُ، وَنقل عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: لم يَصح حَدِيثه. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي أَبْوَاب التِّجَارَات من «سنَنه» مطولا بِنَحْوِ لفظ أبي دَاوُد، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث الْأَخْضَر بن عجلَان. قلت: هُوَ (من غَرَائِبه) ، وَقد وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: لَا أرَى بِهِ بَأْسا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه. قَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : وَأَبُو بكر [رَاوِيه] عَن أنس لم أجد أحدا ينْسبهُ، قلت: قد قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» إِنَّه عبد الله الْحَنَفِيّ، قَالَ ابْن الْقطَّان: وَعبد الله لَا أعرف أحدا نقل عَدَالَته وَهُوَ علّة الْخَبَر وَلذَلِك حسنه التِّرْمِذِيّ. وَتبع الذَّهَبِيّ ابْن الْقطَّان فَقَالَ فِي «الْمُغنِي» :(6/515)
إِنَّه تَابِعِيّ مَجْهُول. نعم ذكره ابْن عبد الْبر فِي «كناه» وَلم ينْسبهُ، وَنقل عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: لم يَصح حَدِيثه. ثمَّ أعلّه ابْن الْقطَّان بِأَمْر آخر، فَقَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «علله» من حَدِيث مُعْتَمر بن سُلَيْمَان، عَن الْأَخْضَر، عَن أبي بكر الْحَنَفِيّ، [عَن أنس بن مَالك] ، عَن رجل من الْأَنْصَار «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بَاعَ حلسًا وَقَدحًا فِيمَن يزِيد» ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: كَذَا قَالَ مُعْتَمر عَن الْأَخْضَر. قَالَ ابْن الْقطَّان: كَأَن أنسا لم يُشَاهد الْقِصَّة [و] لم يسمع مَا فِيهَا عَن رَسُول الله فَيكون مَا عَداهَا مُرْسل.
فَائِدَة: الحِلَْس بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَإِسْكَان اللَّام وَفتحهَا. حَكَاهَا أَبُو عبيد قَالَ: وإحلاس الْبَيْت مَا يبسط فِيهِ تَحت الثِّيَاب، وَقد قيل: هُوَ المُرَاد من هَذَا الحَدِيث. قلت: وَقد قيل فِيهِ غير هَذَا كَمَا أوضحته فِي تخريجي أَحَادِيث «الْمُهَذّب» فَليُرَاجع مِنْهُ، والجوهري فسره بكساءٍ رَقِيق يكون تَحت برذعة الْبَعِير. قَالَ: وَيُقَال أَيْضا: حَلَس بِفَتْح الْحَاء وَاللَّام.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يبع بَعْضكُم عَلَى بيع بعض» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك،(6/516)
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يَبِيع الرجل عَلَى بيع أَخِيه، أَو يخْطب [عَلَى خطْبَة أَخِيه] » وَفِي رِوَايَة للنسائي: «لَا يَبِيع الرجل عَلَى بيع أَخِيه حَتَّى يبْتَاع أَو يذر» وَزَاد الدَّارَقُطْنِيّ: «إِلَّا الْغَنَائِم والمواريث» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «لَا يبع بَعْضكُم عَلَى بيع بعض، وَلَا تلقوا السّلع حَتَّى تهبط الْأَسْوَاق» وَأخرجه الشَّيْخَانِ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يَبِيع الرجل عَلَى بيع أَخِيه» وَأخرجه مُسلم من حَدِيث عقبَة بن عَامر.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن النجش» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من هَذَا الْوَجْه، زَاد مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» : «والنجش أَن تعطيه بسلعته أَكثر من ثمنهَا، وَلَيْسَ فِي نَفسك اشتراؤها فيقتدي بك غَيْرك» وَأخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي(6/517)
هُرَيْرَة أَيْضا بِلَفْظ: «لَا تناجشوا» وَأخرجه أَحْمد من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضي اللهُ عَنهم.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تُولَهُ وَالِدَة بِوَلَدِهَا» .
هَذَا الحَدِيث ذكره صَاحب الْمُهَذّب أَيْضا وَلم يعزه النَّوَوِيّ فِي شَرحه لَهُ، وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : (إِنَّه يرْوَى، عَن أبي سعيد وَهُوَ غير مَعْرُوف قَالَ) : وَفِي ثُبُوته نظر. قلت: وظفرت لَهُ أَنا بطرق أُخْرَى أَحدهَا: من حَدِيث أبي بكر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تُولَهُ وَالِدَة عَلَى وَلَدهَا» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي أَبْوَاب الْحَضَانَة فِي بَاب الْأُم تزوج فَتسقط حَقّهَا من حضَانَة الْوَلَد وينتقل إِلَى جدته، وَفِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة وحاله مَعْلُومَة سلفت.
ثَانِيهَا: من حَدِيث حجاج بن أَرْطَاة، عَن الزُّهْرِيّ، يرفعهُ «لَا تُولَهُ وَالِدَة عَن وَلَدهَا، وَلَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، وَلَا حَائِل حَتَّى تستبرأ بِحَيْضَة» رَوَاهُ أَبُو) عبيد فِي غَرِيبه من حَدِيث حجاج بن أَرْطَاة، عَن الزُّهْرِيّ كَذَلِك مُرْسلا، وحجاج قد عرفت حَاله فِيمَا مَضَى.
ثَالِثهَا: من حَدِيث عَطاء بن نقادة، نَا عُيَيْنَة بن عَاصِم بن سعد بن نقادة قَالَ: حَدَّثَني أبي، عَن أَبِيه، عَن نقادة مَرْفُوعا: «لَا توله ذَات ولد فِي وَلَدهَا» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، والْحَدِيث فِيهِ طول(6/518)
اختصرت هَذَا مِنْهُ، وَعَطَاء هَذَا مَجْهُول، وَوَقع فِي أقضية ابْن الصّلاح وصف هَذَا الحَدِيث بالثبوت، فَقَالَ: فِي الحَدِيث الثَّابِت أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تُولَهُ وَالِدَة عَلَى وَلَدهَا» فَلَعَلَّهُ ظفر لَهُ بطرِيق صَحِيحَة، والوله: شدَّة الْحزن.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
عَن أبي أَيُّوب رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من فرق بَين وَالِدَة وَوَلدهَا فرق الله بَينه وَبَين أحبته يَوْم الْقِيَامَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه وباللفظ الْمَذْكُور، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. قلت: وَفِي إِسْنَاده حييّ بن عبد الله الْمعَافِرِي وَلم يخرج لَهُ مُسلم، وَقَالَ البُخَارِيّ: فِيهِ نظر. وَقَالَ أَحْمد: أَحَادِيثه مَنَاكِير، نعم قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بِهِ إِذا رَوَى عَنهُ ثِقَة. قلت: قد رَوَى هَذَا الحَدِيث عَنهُ عبد الله بن وهب، قَالَ ابْن الْقطَّان: ولهذه العلّة لم يُصَحِّحهُ التِّرْمِذِيّ. قلت: وَله متابع (مَا) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي عتبَة، نَا بَقِيَّة، نَا(6/519)
خَالِد بن حميد، عَن الْعَلَاء بن كثير، عَن أبي أَيُّوب، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «من فرق بَين الْوَلَد وَأمه فرق الله بَينه وَبَين أحبته يَوْم الْقِيَامَة» أَبُو عتبَة أَحْمد بن الْفرج مَحَله الصدْق كَمَا قَالَه أَبُو حَاتِم، وَتكلم فِيهِ غَيره، وَقد صرح بَقِيَّة بِالتَّحْدِيثِ، وخَالِد بن حميد وَثَّقَهُ ابْن حبَان والْعَلَاء صَدُوق لكنه لم يسمع من أبي أَيُّوب، فَيكون الحَدِيث مُنْقَطِعًا.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[قَالَ:] : «لَا يفرق بَين الْأُم وَوَلدهَا. قيل: إِلَى مَتى؟ قَالَ: حَتَّى يبلغ الْغُلَام وتحيض الْجَارِيَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن حسان، نَا سعيد بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: سَمِعت مَكْحُولًا يَقُول: نَا نَافِع بن مَحْمُود بن الرّبيع، عَن أَبِيه أَنه سمع عبَادَة بن الصَّامِت يَقُول: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يفرق بَين الْأُم وَوَلدهَا، فَقيل: يَا رَسُول الله، إِلَى مَتى؟ قَالَ: حَتَّى يبلغ الْغُلَام وتحيض الْجَارِيَة» ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: عبد الله بن عَمْرو هَذَا هُوَ الواقعي - أَي بِالْعينِ الْمُهْملَة - قَالَ: وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث، رَمَاه عَلّي بن الْمَدِينِيّ بِالْكَذِبِ، وَلم يروه عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز غَيره. قلت: وَضَعفه أَيْضا عبد الْحق فِي(6/520)
«أَحْكَامه» بِعَبْد الله هَذَا، وَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف الحَدِيث. وَخَالف الْحَاكِم فَأخْرجهُ فِي «مُسْتَدْركه» بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِيه النّظر الْمَذْكُور.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه فرق بَين جَارِيَة وَوَلدهَا فَنَهَاهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ورد البيع» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث مَيْمُون بن أبي شبيب عَن عَلّي فَذكره. ثمَّ قَالَ: مَيْمُون لم يدْرك عليًّا. وَذكر الْخطابِيّ أَن إِسْنَاده غير مُتَّصِل كَمَا ذكره أَبُو دَاوُد. وَرَوَاهُ الْحَاكِم وَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ أولَى أَن يكون مَحْفُوظًا لِكَثْرَة شواهده.
تَنْبِيه: ورد مثل ذَلِكَ فِي الْأَخَوَيْنِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن الحكم، عَن مَيْمُون بن أبي (شبيب) عَن عَلّي قَالَ: «وهب لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غلامين أَخَوَيْنِ(6/521)
فَبِعْت أَحدهمَا (فَقَالَ) لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا عَلّي، مَا فعل غلامك؟ فَأَخْبَرته، فَقَالَ: رده، رده» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب، وَفِيه نظر، فَإِن مَدَاره عَلَى الْحجَّاج هَذَا وَهُوَ ضَعِيف لَا جرم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : الْحجَّاج لَا يحْتَج بِهِ. قلت: وَلِأَنَّهُ مُرْسل فَإِن ميمونًا لم يدْرك عليًّا كَمَا سلف، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث الحكم، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن عَلّي قَالَ: «قُدم عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بسبي فَأمرنِي بِبيع أَخَوَيْنِ فبعتهما وَفرقت بَينهمَا، ثمَّ أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَخْبَرته فَقَالَ: أدركهما فارتجعهما وبعهما جَمِيعًا وَلَا تفرق بَينهمَا» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث غَرِيب صَحِيح عَلَى شَرط (الشَّيْخَيْنِ) وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : إِنَّهَا أول مَا اعْتمد عَلَيْهَا فِي هَذَا الْبَاب، وَرُوَاته كلهم ثِقَات. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَرَوَاهُ أَحْمد، عَن سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن الحكم، وَسَعِيد هَذَا لم يسمع من الحكم شَيْئا كَمَا قَالَه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا، وَرَوَاهُ أَحْمد مرّة عَن سعيد عَن رجل عَن الحكم. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث من هَذِه الطَّرِيق، أَي من طَرِيق الحكم، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن عَلّي فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ الحكم، عَن مَيْمُون، عَن عَلّي مَرْفُوعا، فَأَشَارَ أَبُو حَاتِم إِلَى خطأ هَذِه الرِّوَايَة. وَقَالَ(6/522)
الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن الحكم بن عتيبة، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، وَسَعِيد لم يسمع من الحكم شَيْئا، وَقد أسلفنا هَذَا، وَرَوَاهُ الْخفاف، عَن سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن رجل، عَن الحكم بِهِ وَهَذَا أسلفناه أَيْضا وَرَوَاهُ جماعات عَن الحكم [عَن] مَيْمُون بن [أبي] شبيب عَن عَلّي، قَالَ: وَلَا يمْتَنع أَن يكون الحكم سَمعه مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَرَوَاهُ مرّة عَن هَذَا وَمرَّة عَن هَذَا، وَرَوَاهُ ابْن أبي لَيْلَى، عَن الحكم مُرْسلا، عَن عَلّي. ثمَّ سَاقه، وَرَوَاهُ ابْن أبي عَاصِم، عَن مُحَمَّد بن عَلّي بن مَيْمُون، عَن سُلَيْمَان بن (عبيد الله) عَن عبيد الله بن عَمْرو، عَن زيد بن أبي أنيسَة، عَن الحكم، وَهَذَا إِسْنَاد جيد، وَسليمَان صدقه أَبُو حَاتِم، وَقَالَ عبد الْحق: وَقد رُوِيَ عَن عَلّي أَيْضا بِإِسْنَاد آخر وَلَا يَصح؛ لِأَنَّهُ من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن الحكم، وَلم يسمع من الحكم، وَهَذَا قد أسلفناه غير مرّة من طَرِيق مُحَمَّد بن عبيد الله، عَن الحكم وَهُوَ ضَعِيف جدًّا، وَقد رُوِيَ عَن شُعْبَة، عَن الحكم قَالَ: وَالْمَحْفُوظ حَدِيث سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن الحكم، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن (عَلّي) .(6/523)
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع المجر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ يتفرد بِهِ مُوسَى بن عُبَيْدَة. قَالَ يَحْيَى بن معِين: فَأنْكر عَلَى مُوسَى هَذَا، وَكَانَ من أَسبَاب تَضْعِيفه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «سَمعه ينْهَى عَن (بيع) المجر» فَعَاد الحَدِيث إِلَى رِوَايَة نَافِع، وَكَأن ابْن إِسْحَاق أَدَّاهُ عَلَى الْمَعْنى. قَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابع عَلَيْهِ إِلَّا من جِهَة فِيهَا ضعف.
فَائِدَة: المجر بِفَتْح الْمِيم وَإِسْكَان الْجِيم، قَالَ الْبَيْهَقِيّ نقلا عَن أبي عبيد، عَن أبي زيد: المجر أَن يُبَاع الْبَعِير أَو غَيره بِمَا فِي بطن النَّاقة. وَذكر الرَّافِعِيّ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَنه مَا فِي الرَّحِم، أَنه مَا فِي الرِّبَا، أَنه المحاقلة والمزابنة. قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : الْمَشْهُور فِي كتب اللُّغَة أَنه اشْتِرَاء مَا فِي بطن النَّاقة خَاصَّة.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع العربان. وَيُقَال لَهُ: العربون» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» قَالَ: أَخْبرنِي الثِّقَة، عَن(6/524)
عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن بيع العربان» هَكَذَا هُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» (عَن) يَحْيَى بن يَحْيَى وَأبي مُصعب الزُّهْرِيّ، وَمثل هَذَا لَا يحْتَج بِهِ أَصْحَابنَا وَلَا الْجُمْهُور، وَيُقَال: إِن الثِّقَة هَذَا هُوَ ابْن لَهِيعَة، حَكَاهُ ابْن عدي، وَقد رَوَاهُ ابْن وهب، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن عَمْرو بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي سُنَنهمَا، عَن مَالك أَنه بلغه، عَن عَمْرو، وَهَذَا أَيْضا مُنْقَطع لَا يحْتَج بِهِ، قَالَ أَبُو عَمْرو: رَوَاهُ التنيسِي وَغَيره كَذَلِك، عَن مَالك. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا، عَن الْفضل بن يَعْقُوب وَهُوَ الرخامي الثِّقَة الْحَافِظ، عَن حبيب بن أبي حبيب كَاتب الإِمَام مَالك، عَن عبد الله بن عَامر الْأَسْلَمِيّ، (عَن عَمْرو بن شُعَيْب بِهِ، وحبِيب بن أبي حبيب هَذَا وَعبد الله بن عَامر الْأَسْلَمِيّ) ضعيفان بِاتِّفَاق الْمُحدثين، وَذكر الْبَيْهَقِيّ رِوَايَة مَالك السالفة الَّتِي رَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَى مَالك هَذَا الحَدِيث فِي «الْمُوَطَّأ» فَلم يسم رَاوِيه الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ، قَالَ: وَرَوَاهُ حبيب، عَن مَالك، عَن عبد الله بن عَامر، عَن عَمْرو بن شُعَيْب. وَقيل: إِنَّمَا رَوَاهُ مَالك، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن عَمْرو قَالَه ابْن عدي، (قَالَ ابْن عدي) والْحَدِيث عَن ابْن لَهِيعَة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب مَشْهُور. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ هَذَا(6/525)
الحَدِيث عَن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن، عَن عَمْرو بن شُعَيْب. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ، عَن عَاصِم بن عبد الْعَزِيز، عَن الْحَارِث، عَن عَمْرو، قَالَ: وَعَاصِم هَذَا فِيهِ نظر، وحبِيب ضَعِيف، وَعبد الله بن عَامر وَابْن لَهِيعَة لَا يحْتَج بهما، وَالْأَصْل فِي هَذَا الحَدِيث مُرْسل مَالك. هَذَا آخر كَلَامه فِي «سنَنه» وَقَالَ فِي «مَعْرفَته» : بَلغنِي أَن مَالِكًا أَخذه عَن عبد الله بن عَامر، وَقيل: عَن ابْن لَهِيعَة، وَقيل: عَن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، قَالَ: وَفِي الْجَمِيع ضعف. قلت: قد قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: إِن مَالِكًا لم يكن يبلغ من الحَدِيث إِلَّا صَحِيحا، وَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي كتاب (من رَوَى عَن مَالك) من حَدِيث الْهَيْثَم بن الْيَمَان، عَن مَالك، عَن عَمْرو بن الْحَارِث، عَن عَمْرو بن شُعَيْب بِهِ.
وَأما حَدِيث عبد الرَّزَّاق فِي «مُصَنفه» أبنا الْأَسْلَمِيّ عَن زيد بن أسلم: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن العربان فِي البيع فأحلَّه، قلت لزيد: مَا العربان؟ قَالَ: هُوَ الرجل يَشْتَرِي السّلْعَة فَيَقُول: إِن أَخَذتهَا (بهَا) وَإِلَّا رَددتهَا ورددت مَعهَا درهما» فَفِي إِسْنَاده مَعَ الْأَسْلَمِيّ الْإِرْسَال.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
« (أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع السنين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر(6/526)
رَضي اللهُ عَنهُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد الصَّحِيح بِذكر «السنين» و «المعاومة» وَلَفظ «المعاومة» فِي التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَفِي رِوَايَة للنسائي: «نهَى عَن بيع الثَّمر سِنِين» وَهُوَ مُعْتَبر لسبع سِنِين. وَبيع المعاومة. قَالَ ابْن الْأَثِير: المعاومة بيع النّخل وَالشَّجر المثمر سنتَيْن أَو ثَلَاثًا.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ)
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع وَسلف» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» هَكَذَا بلاغًا.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث عتاب بن أسيد فَنَهَاهُ عَن شرطين فِي بيع وَعَن سلف وَبيع ... » الحَدِيث، وَقد سلف فِي الْبَاب مطولا، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا مطولا وَضَعفه.
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن ثمن الْهِرَّة» .(6/527)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث معقل بن عبيد الله، عَن أبي الزبير قَالَ: «سَأَلت جَابِرا عَن ثمن الْكَلْب والسنور، فَقَالَ: زجر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن ذَلِكَ» وَرَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر أَيْضا قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن ثمن الْكَلْب والسنور» قَالَ الْخطابِيّ: قد تكلم بعض الْعلمَاء فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث وَزعم أَنه غير ثَابت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ ابْن عبد الْبر: حَدِيث بيع السنور (لَا يثبت) رَفعه وَلم يروه عَن أبي الزبير غير حَمَّاد بن سَلمَة ورد عَلَيْهِمَا النَّوَوِيّ فَقَالَ: هَذَا غلط مِنْهُمَا فَالْحَدِيث فِي «صَحِيح مُسلم» بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: وَقَول ابْن عبد الْبر إِنَّه لم يروه عَن أبي الزبير غير حَمَّاد. غلط أَيْضا؛ فقد رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة معقل، عَن أبي الزبير، فهذان ثقتان روياه، عَن أبي الزبير وَهُوَ ثِقَة. قلت: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن أبي سُفْيَان، عَن جَابر مَرْفُوعا كَمَا سلف، قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط(6/528)
مُسلم. قَالَ: وَتَابعه أَبُو الزبير، عَن جَابر وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم دون البُخَارِيّ (فَإِن البُخَارِيّ) لَا يحْتَج بِرِوَايَة أبي الزبير، وَلَا بِرِوَايَة أبي سُفْيَان، قَالَ: وَلَعَلَّ مُسلما إِنَّمَا لم يُخرجهُ فِي الصَّحِيح؛ لِأَن وَكِيع بن الْجراح رَوَاهُ عَن الْأَعْمَش، قَالَ: قَالَ جَابر ... فَذكره، ثمَّ قَالَ: قَالَ الْأَعْمَش: أرَى أَبَا سُفْيَان ذكره، فالأعمش كَانَ يشك فِي وصل الحَدِيث فَصَارَت رِوَايَة أبي (سُفْيَان) بذلك ضَعِيفَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد حمله بعض أهل الْعلم عَلَى الهر إِذا توحش فَلم يقدر عَلَى تَسْلِيمه. قَالَ: وَمِنْهُم من زعم أَن ذَلِكَ كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام حِين كَانَ مَحْكُومًا بِنَجَاسَتِهِ، ثمَّ حِين صَار مَحْكُومًا بِطَهَارَة سؤره حل ثمنه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلَيْسَ عَلَى هذَيْن الْقَوْلَيْنِ دلَالَة بَيِّنَة. قلت: أجَاب بعض أَصْحَابنَا بِجَوَاب آخر وَهُوَ حمله عَلَى نهي التَّنْزِيه، وَالْمرَاد أَن يَبْقَى عَلَى الْعَادة يتَسَامَح النَّاس بِهِ ويتعاورنَّه فِي الْعَادة.
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الْحبّ حَتَّى يفرك» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث يَحْيَى بن إِسْحَاق السالحيني وَحسن بن مُوسَى الأشيب، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن حميد الطَّوِيل، عَن أنس بن مَالك «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى(6/529)
عَن أَن تبَاع الثَّمر حَتَّى يبين صَلَاحهَا تحمر أَو تصفر، وَعَن بيع الْعِنَب حَتَّى يسود، وَعَن بيع الْحبّ حَتَّى يفرك» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ أَيْضا عَن أنس «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بيع الْحبّ حَتَّى يفرك» أبانُ بن أبي عَيَّاش وَلَا يحْتَج بِهِ. قَالَ: وَرُوِيَ عَن أبي شبيبة، عَن أنس وَلَيْسَ بِشَيْء. وَذكر مثل ذَلِكَ فِي «الْمعرفَة» .
فَائِدَة: قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : قَوْله: «حَتَّى يفرك» إِن كَانَ بخفض الرَّاء عَلَى إِضَافَة الإفراك إِلَى الْحبّ وَافق رِوَايَة من قَالَ: «حَتَّى يشْتَد» وَإِن كَانَ بِفَتْح الرَّاء وَضم الْيَاء عَلَى إِضَافَة الفرك إِلَى مَا لم يسم فَاعله خَالف ذَلِكَ وَاقْتَضَى تنقيته عَن السنبل حَتَّى يجوز بَيْعه. قَالَ: وَلم أر أحدا من محدثي زَمَاننَا ضبط ذَلِكَ، وَالْأَشْبَه الأول. وَكَذَا قَالَ فِي «الْمعرفَة» إِنَّه الْأَشْبَه، فقد رَوَاهُ عَفَّان وَأَبُو الْوَلِيد وحبان بن هِلَال، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن حميد، عَن أنس قَالَ: «نهَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بيع الْحبّ حَتَّى يشْتَد» وَهَذِه رِوَايَة حَسَنَة. وَكَذَا قَالَ فِي «خلافياته» : إِن الْأَشْبَه خفض الرَّاء. وَقَالَ الصَّيْمَرِيّ فِي «شرح الْكِفَايَة» : رُوِيَ بِكَسْر الرَّاء ونصبها.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ
«رُوِيَ النَّهْي عَن بيع الْعِنَب حَتَّى يسود» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس(6/530)
رَضي اللهُ عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الْعِنَب حَتَّى يسود، وَعَن بيع الْحبّ حَتَّى يشْتَد» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» كَذَلِك وَكَذَا ابْن مَاجَه بِزِيَادَة: «نهَى عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى تزهو» فِي أول الحَدِيث. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة. قلت: وَهُوَ أحد الْأَعْلَام صَدُوق من فرسَان مُسلم، وَمِمَّنْ علق عَنهُ البُخَارِيّ، قَالَ ابْن معِين: إِذا رَأَيْت من يَقع فِيهِ فاتهمه عَلَى الْإِسْلَام. لَا جرم أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ «نهَى عَن بيع الْعِنَب حَتَّى يسود، وَعَن بيع الْحبّ حَتَّى يشْتَد، وَعَن بيع الثَّمر حَتَّى يحمر ويصفر» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: ذكر «الْحبّ حَتَّى يشْتَد وَالْعِنَب حَتَّى يسود» فِي هَذَا الحَدِيث مِمَّا تفرد بِهِ حَمَّاد بن سَلمَة، عَن حميد من بَين أَصْحَاب حميد. قَالَ: وَالصَّحِيح فِي هَذَا الْبَاب رِوَايَة أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر فِي النَّهْي عَن بيع النّخل حَتَّى يزهو، كَمَا سَاقه مُسلم، ثمَّ رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَلَى مَا ذكرنَا فِي لَفظه.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الثِّمَار حَتَّى تنجو من العاهة» .(6/531)
هَذَا الحَدِيث أخرجه مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» بِهَذَا اللَّفْظ عَن عمْرَة مُرْسلا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» رَوَاهُ أَبُو الرِّجَال، عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، قَالَ: وَمن عَادَة مَالك أَن يُرْسل الْأَحَادِيث، قلت: وَأَبُو الرِّجَال هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن حَارِثَة، وَثَّقَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَله عشرَة إخْوَة، وَسَيَأْتِي فِي بَاب الْأَلْفَاظ الَّتِي تطلق فِي البيع إِن شَاءَ الله حَدِيث ابْن عمر فِي النَّهْي عَن بيع الثِّمَار حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا إِن شَاءَ الله.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب، وينبه لأمرين: أَحدهمَا: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلَيْسَ من المناهي بيع الْعينَة ... إِلَى آخِره، مُرَاده لَيْسَ من المناهي عندنَا، وَإِلَّا فقد ورد النَّهْي عَنْهَا من طرق وَقد عقد لَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (بَابا) وَذكره من حَدِيث عَطاء الْخُرَاسَانِي، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ من وَجْهَيْن ضعيفين، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن ابْن عمر، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر مَوْقُوفا أَنه كره ذَلِكَ.
ثَانِيهمَا: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلَيْسَ من المناهي (بيع) دور مَكَّة بل هُوَ جَائِز، وَعَن مَالك وَأبي حنيفَة أَنه لَا يجوز.
لنا اتِّفَاق الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ عَلَيْهِ.
قلت: رَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» «أَن عمر اشْتَرَى من صَفْوَان بن أُميَّة دَارا بِمَكَّة بأَرْبعَة آلَاف وَجعلهَا سجنًا» ذكره من طَرِيقين عَنهُ.(6/532)
«وَأَن عبد الله بن الزبير اشْتَرَى حجرَة سَوْدَة» و «أَن حَكِيم بن حزَام بَاعَ دَار الندوة من مُعَاوِيَة بِمِائَة ألف، فَقَالَ عبد الله بن الزبير: يَا أَبَا خَالِد، بِعْت مأثرة قُرَيْش وكريمتها. فَقَالَ: هَيْهَات يَا ابْن أخي، ذهبت المكارم فَلَا مكرمَة الْيَوْم إِلَّا الْإِسْلَام، قَالَ: فَقَالَ: اشْهَدُوا أَنَّهَا فِي سَبِيل الله يَعْنِي الدَّرَاهِم» . وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر المعاجم» لما قيل لَهُ: أبعت دَارك بِمِائَة ألف؟ قَالَ: وَالله (إِن) أَخَذتهَا فِي الْجَاهِلِيَّة إِلَّا بزق خمر، واشهدوا (أَن ثمنهَا) فِي سَبِيل الله» وَفِي رِوَايَة لَهُ «بستين ألفا» وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي أَن دورها لَا تبَاع فِيهَا لين، لَيْسَ هَذَا مَوضِع الْخَوْض فِيهَا وَمحله الخلافيات.(6/533)
بَاب تَفْرِيق الصَّفْقَة
ذكر فِيهِ حَدِيثا وَاحِدًا وَهُوَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر فِي بيع الْمُصراة برد الشَّاة و (بدل) اللَّبن الْهَالِك» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَسَيَأْتِي فِي بَابه إِن شَاءَ الله.(6/534)
بَاب خِيَار الْمجْلس وَالشّرط وَمَا يتَّصل بهما
وَذكر فِيهِ رَحْمَة الله ثَمَانِيَة أَحَادِيث:
الأول
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُتَبَايعَانِ كل وَاحِد مِنْهُمَا عَلَى صَاحبه بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا إِلَّا بيع الْخِيَار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مسلسل بالفقهاء فِي سَنَده، قَالَ ابْن الْمُبَارك: هُوَ أثبت من هَذِه الأساطين. رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، عَن مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا (بِهِ) سَوَاء. وَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من طرق فَفِي لفظ «إِذا تبَايع الرّجلَانِ فَكل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَو يُخَيّر أَحدهمَا الآخر، فَإِن خير أَحدهمَا الآخر فتبايعا عَلَى ذَلِكَ فقد وَجب البيع [وَإِن تفَرقا] بعد أَن يتبايعا، وَلم يتْرك وَاحِد مِنْهُمَا البيع، فقد وَجب البيع» . وَفِي آخر: «البيِّعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، أَو يَقُول أَحدهمَا للْآخر: اختر. وَرُبمَا قَالَ: أَو يكون بيع خِيَار» وَفِي آخر: «الْمُتَبَايعَانِ بِالْخِيَارِ فِي بيعهمَا مَا لم يَتَفَرَّقَا، أَو يكون البيع(6/535)
خيارًا. قَالَ نَافِع: وَكَانَ ابْن عمر إِذا اشْتَرَى شَيْئا يُعجبهُ فَارق صَاحبه» وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «حَتَّى يَتَفَرَّقَا من مكانهما إِلَّا أَن يكون صَفْقَة خِيَار» رَوَاهَا من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «لَا يحل لَهُ أَن يُفَارق صَاحبه خشيَة أَن يستقيله» .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لن يَجْزِي ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «لَا يَجْزِي» بدل «لن يَجْزِي» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «لَا يَجْزِي ولد والدًا ... » إِلَى آخِره، وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاده.
الحَدِيث الثَّالِث
رُوِيَ فِي بعض الرِّوَايَات أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «أَو يَقُول أَحدهمَا للْآخر اختر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر كَمَا سلف.
الحَدِيث الرَّابِع
قَالَ الرَّافِعِيّ: الأَصْل فِي خِيَار الشَّرْط الْإِجْمَاع، وَمَا رُوِيَ عَن(6/536)
ابْن عمر «أَن رجلا ذكر لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه يُخدع فِي الْبيُوع، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِذا بَايَعت فَقل: لَا خلابة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك، وَفِي لفظ: «فَكَانَ إِذا بَايع يَقُول: لَا (خِيابة) » وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة» ، وَالْحَاكِم من حَدِيث أنس بِنَحْوِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث صَحِيح غَرِيب. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَذكر أَن ذَلِكَ الرجل كَانَ حبَان بن منقذ، أَصَابَته آمة فِي رَأسه، فَكَانَ يخدع فِي البيع، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا بَايَعت فَقل: لَا خلابة. وَجعل لَهُ الْخِيَار ثَلَاثًا» قلت: هَذَا أحد الْقَوْلَيْنِ فِيهِ، وَبِه جزم ابْن الطلاع فِي «أَحْكَامه» ، وَورد كَذَلِك مُصَرحًا فِي بعض رِوَايَات هَذَا الحَدِيث، وَفِي بَعْضهَا أَنه وَالِده منقذ، وَجزم (بِهِ) عبد الْحق فِي «جمعه بَين الصَّحِيحَيْنِ» ، وَتردد فِي ذَلِكَ الْخَطِيب فِي «مبهماته» ، وَابْن الْجَوْزِيّ فِي (تلقيحه) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْأَشْهر(6/537)
الْأَصَح الثَّانِي. كَذَا ذكره البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» وَلم يذكر غَيره، وَهَذِه الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا الرَّافِعِيّ، رَوَاهَا ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمَا» (وَلَفْظهمَا) «ثمَّ أَنْت فِي كل سلْعَة ابتعتها بِالْخِيَارِ ثَلَاث لَيَال، فَإِن رضيت فَأمْسك، وَإِن سخطت فارددها عَلَى صَاحبهَا» وَقد ذكرت طرق هَذَا الحَدِيث مستوفاة فِي «تخريجي لأحاديث الْوَسِيط» بِزِيَادَة فَوَائِد فَرَاجعهَا مِنْهُ فَإِنَّهَا من الْمُهِمَّات. وحَبَّان هَذَا بِفَتْح الْحَاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة بِلَا خلاف، وَمن كسر حاءه فقد صحف، و «منقذ» بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، و «الآمة» بتَشْديد الْمِيم وَالْمدّ، كَذَا قَيده الصغاني وصاحبا «الْمُحكم» و «الْمَشَارِق» ، وَمَعْنى «لَا خلابة» لَا خديعة أَي لَا يحل لَك خديعتي وَلَا تلزمني خديعتك. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة «وَجعل (لَهُ) ذَلِكَ ثَلَاثَة أَيَّام» . وَفِي رِوَايَة فَقل: «لَا خلابة وَلَك الْخِيَار ثَلَاثًا» ، وَهَذِه الرِّوَايَات كلهَا فِي كتب الْفِقْه، وَلَا تلقى فِي مشهورات كتب الحَدِيث سُوَى الرِّوَايَة المقتصرة عَلَى قَوْلهم «لَا خلابة» ثمَّ قَالَ بعد قَلِيل: وَأما (اللَّفْظَة) المروية فِي «الْوَجِيز» وَهِي قَوْله « (ولي) الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام» فَلَا تكَاد تُوجد فِي كتاب حَدِيث وَلَا فقه، نعم فِي «شرح مُخْتَصر الْمُزنِيّ» للموفق ابْن طَاهِر «قل: لَا خلابة، وَاشْترط الْخِيَار ثَلَاثًا» وهما متقاربان (فِي كتاب الْحَج وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «وَاشْترط الْخِيَار ثَلَاثًا» وَالْمرَاد الْأَيَّام والليالي) ، وَكَذَا قَالَ فِي «تذنيبه» : أَن قَوْله: «وَلَك الْخِيَار ثَلَاثًا» لَا(6/538)
ذكر لَهُ فِي الرِّوَايَات، وَقَالَ فِي «الشَّرْح الصَّغِير» : لَا تكَاد تُوجد فِي كتب الحَدِيث، وَأَقُول: إِنَّمَا قَوْله: «وَلَك الْخِيَار ثَلَاثًا» فرواها الْحميدِي فِي «مُسْنده» عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن منقذًا سفع فِي رَأسه فِي الْجَاهِلِيَّة مأمومة فخبلت لِسَانه، فَكَانَ إِذا بَايع يخدع فِي البيع، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: بَايع وَقل: لَا خلابة، وَأَنت بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا. قَالَ ابْن عمر: فَسَمعته يُبَايع وَيَقُول: لَا خدابة لَا خدابة» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» شَاهدا لحَدِيث عقبَة بن عَامر «عُهْدَة الرَّقِيق أَربع لَيَال» وَفِي رِوَايَته «حبَان» بدل «منقذ» ، وَأَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جعل لَهُ الْخِيَار فِيمَا اشْتَرَى ثَلَاثًا. وَرَوَاهَا البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» وَصرح فِيهِ بتصريح ابْن إِسْحَاق بِالتَّحْدِيثِ، وَقَالَ: «منقذ» بدل «حبَان» وَلَفظه: «إِذا بِعْت فَقل: لَا خلابة، وَأَنت فِي كل سلْعَة ابتعتها بِالْخِيَارِ ثَلَاث لَيَال ... » الحَدِيث، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» بِدُونِ التحديث، وَقَالَ: «بِعْ وَقل: لَا خلابة» ثمَّ قَالَ: رُوَاته ثِقَات، وَأما الرِّوَايَة الأولَى فرواها الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث طَلْحَة بن يزِيد بن ركَانَة «أَنه كلم عمر بن الْخطاب فِي الْبيُوع، فَقَالَ: لَا أجد لكم شَيْئا أوسع مِمَّا جعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لحبان بن منقذ، إِنَّه كَانَ ضَرِير الْبَصَر فَجعل لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عُهْدَة ثَلَاثَة أَيَّام، إِن رَضِي أَخذ، وَإِن سخط (تَركه) » . وَرَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ أَيْضا ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ ابْن لَهِيعَة. وَهُوَ ضَعِيف بإجماعهم. وَأما رِوَايَة «وَاشْترط الْخِيَار ثَلَاثًا» فَغَرِيبَة، قَالَ ابْن الصّلاح: (مُنكرَة) لَا(6/539)
أصل لَهَا.
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ بعد ذَلِكَ: أما جَوَاز اشْتِرَاط الْخِيَار للْمُشْتَرِي فلحديث حبَان، وَأما للْبَائِع أَوْ لَهما فبالقياس عَلَيْهِ، وَمَا ذكره من أَن الحَدِيث ورد فِي حق المُشْتَرِي لَيْسَ كَذَلِك فاعلمه.
تَنْبِيه (آخر) : من الْأَحَادِيث الْوَاهِيَة مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق من حَدِيث أبان بن أبي عَيَّاش - الْمَتْرُوك - عَن أنس «أَن رجلا اشْتَرَى من رجل بَعِيرًا وَاشْترط الْخِيَار أَرْبَعَة أَيَّام، فَأبْطل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - البيع وَقَالَ: الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام» .
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي المتخايرين: «لَا بيع بَينهمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف أول الْبَاب، وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «من ابْتَاعَ بيعا فَوَجَبَ لَهُ فَهُوَ (فِيهِ) بِالْخِيَارِ (عَلَى صَاحبه مَا لم يُفَارِقهُ) إِن شَاءَ أخذو إِن شَاءَ ترك، فَإِن فَارقه فَلَا خِيَار (لَهُ) » قَالَ ابْن حبَان: والفراق هُنَا بالأبدان لَا بالْكلَام.(6/540)
الحَدِيث السَّادِس
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها «أَن رجلا اشْتَرَى غُلَاما فِي زمن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ فَكَانَ عِنْده مَا شَاءَ الله، ثمَّ رده من عيب وجده» .
(هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مُسلم) بن خَالِد الزنْجِي، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى أَن الْخراج بِالضَّمَانِ» قَالَ فِي «الْأُم» : وَأَحْسبهُ - بل لَا أَشك إِن شَاءَ الله - أَن مُسلما نَص الحَدِيث فَذكر «أَن رجلا ابْتَاعَ عبدا (فاستغله) ثمَّ ظهر مِنْهُ عَلَى عيب فَقَضَى لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - برده بِالْعَيْبِ. فَقَالَ الْمقْضِي عَلَيْهِ: قد (استغله) . فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْخراج بِالضَّمَانِ» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» كَذَلِك رَوَاهُ مُسلم بن خَالِد كَمَا حَسبه الشَّافِعِي، وَذكر الْخَبَر (بِلَفْظِهِ) من رِوَايَة يَحْيَى بن يَحْيَى، عَن مُسلم بن خَالِد. قَالَ: وَقد أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد آخر عَن مُسلم بن خَالِد، وَقد وثق يَحْيَى بن معِين مُسلما. قلت: وَقد أخرجه الْحَاكِم من طَرِيقه، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَتَابعه عمر بن عَلّي الْمقدمِي - الثِّقَة - فَرَوَاهُ عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «الْخراج بِالضَّمَانِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب من حَدِيث هِشَام. قَالَ: وَاسْتَغْرَبَهُ البُخَارِيّ(6/541)
من حَدِيث عمر بن عَلّي، قلت: ترَاهُ مدلسًا؟ قَالَ: لَا. وَحَكَى التِّرْمِذِيّ أَنه ذكره لمُحَمد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ فَكَأَنَّهُ أعجبه، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث مُسلم بن خَالِد مطولا. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي مرّة من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب، عَن مخلد بن خفاف، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة مطولا بالقصة كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَاب الْآتِي بعد هَذَا، وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، عَن ابْن أبي ذِئْب، وَحَدِيث الشَّافِعِي أتم، وَرَوَاهُ من هَذَا الْوَجْه أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» ، وَحسنه التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ ابْن الْقطَّان وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَى طرق هَذَا الحَدِيث فِي «تخريجي لأحاديث الْوَسِيط» فَبلغ عدَّة أوراق، فَرَاجعه مِنْهُ فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات، قَالَ أَبُو عبيد: وَمَعْنى الحَدِيث أَن الرجل يَشْتَرِي الْمَمْلُوك فيستغله ثمَّ يجد بِهِ عَيْبا (كَانَ عِنْد البَائِع) فَيَقْتَضِي أَنه يرد العَبْد عَلَى البَائِع بِالْعَيْبِ وَيرجع بِالثّمن فَيَأْخذهُ وَيكون لَهُ الْغلَّة طيبَة وَهِي الْخراج، وَإِنَّمَا طابت لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنا للْعَبد، لَو مَاتَ مَاتَ فِي [مَال] المُشْتَرِي لِأَنَّهُ فِي يَده. وَكَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ مَعْنَاهُ أَن مَا يخرج من الْمَبِيع من فَائِدَة وغلة فَهُوَ للْمُشْتَرِي فِي مُقَابلَة أَنه لَو تلف كَانَ من ضَمَانه.(6/542)
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ منا من غَشنَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر فِي السُّوق عَلَى صبرَة طَعَام، فَأدْخل يَده فِيهَا، فنالت أَصَابِعه بللاً فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحب الطَّعَام؟ قَالَ: يَا رَسُول الله، أَصَابَته السَّمَاء. قَالَ: أَفلا جعلته فَوق الطَّعَام (حَتَّى) يرَاهُ النَّاس، من (غَشنَا) فَلَيْسَ (منا) » . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مرّ بِرَجُل يَبِيع طَعَاما فَسَأَلَهُ: كَيفَ تبيع؟ فَأخْبرهُ، فأُوحي إِلَيْهِ أَن أَدخل يدك فِيهِ، فَأدْخل يَده فِيهِ، فَإِذا هُوَ مبلول، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَيْسَ منّا من غش» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه أَيْضا بِلَفْظ «مرّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - برجلٍ يَبِيع طَعَاما فأعجبه، فَأدْخل يَده فِيهِ، فَإِذا هُوَ بطعامٍ مبلول، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: لَيْسَ منا من غَشنَا» ثمَّ أخرجه من طرق، وَقَالَ: هَذِه الْأَسَانِيد كلهَا صَحِيحَة عَلَى شَرط مُسلم، قَالَ: وَإِنَّمَا أخرجه مُسلم من حَدِيث سُهَيْل، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غَشنَا فَلَيْسَ منَّا» قَالَ: وَأما شرح الْحَال فَلم يخرجَاهُ. قلت: بلَى قد أخرجه كَمَا سقته لَك، وَذكره عبد الرَّزَّاق مُرْسلا، فَقَالَ: نَا مُحَمَّد(6/543)
بن رَاشد قَالَ: سَمِعت مَكْحُولًا يَقُول: «مرّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِرَجُل يَبِيع طَعَاما قد خلط جيدًّا بقبيح، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا حملك عَلَى مَا صنعت؟ قَالَ: أردْت أَن ينْفق. فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ميز كل وَاحِد مِنْهُمَا عَلَى حِدته، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ديننَا غش» وَله طرق أُخْرَى مِنْهَا: عَن ابْن عمر قَالَ: «مرّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِطَعَام قد حسنه صَاحبه فَأدْخل يَده فِيهِ، فَإِذا الطَّعَام رَدِيء، فَقَالَ: بِعْ هَذَا عَلَى حِدة وَهَذَا عَلَى حِدة، من غَشنَا فَلَيْسَ منا» رَوَاهُ أَحْمد، عَن خلف بن الْوَلِيد، ثَنَا أَبُو معشر، عَن نَافِع عَنهُ، وَأَبُو معشر هَذَا هُوَ السندي ضَعَّفُوهُ (و) رَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» ، عَن مُحَمَّد بن الصَّلْت، ثَنَا أَبُو عقيل يَحْيَى بن المتَوَكل، أَخْبرنِي الْقَاسِم بن [عبيد الله] ، عَن سَالم، عَن ابْن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مرّ بِطَعَام بسوق الْمَدِينَة، فأعجبه حسنه، فَأدْخل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَده فِي جَوْفه، فَأخْرج شَيْئا لَيْسَ بِالظَّاهِرِ فأفّف [لصَاحب] الطَّعَام، ثمَّ قَالَ: لَا غش بَين الْمُسلمين، من غَشنَا فَلَيْسَ منّا» وَالقَاسِم هَذَا ضَعَّفُوهُ، وَمِنْهَا عَن أبي الْحَمْرَاء، قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مرَّ بجنبات رجل عِنْده طَعَام فِي وعَاء، فَأدْخل يَده فِيهِ، فَقَالَ: لَعَلَّك (غششته) ، من غشّنا فَلَيْسَ منّا» رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي دَاوُد عَنهُ، وَأَبُو دَاوُد هَالك واسْمه(6/544)
نفيع، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا، وَمِنْهَا عَن ابْن مَسْعُود رَضي اللهُ عَنهُ مَرْفُوعا: «من غشّنا فَلَيْسَ منا، وَالْمَكْر والخديعة فِي النَّار» رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَمِنْهَا: عَن أبي بردة بن نيار، قَالَ: «انْطَلَقت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى بَقِيع الْمُصَلى، فَأدْخل يَده فِي طَعَام، ثمَّ أخرجهَا فَإِذا هُوَ مغشوش - أَو مُخْتَلف - فَقَالَ: لَيْسَ منّا من غشَّنا» رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث حجاج، نَا شريك، عَن عبد الله بن عِيسَى، عَن جَمِيع بن عُمَيْر، عَن خَاله أبي بردة.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن عقبَة بن عَامر رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُسلم أَخُو الْمُسلم، لَا يحل لمن بَاعَ من أَخِيه بيعا يعلم فِيهِ عَيْبا إلاّ بَينه لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» مَوْقُوفا عَلَى عقبَة، فَقَالَ: وَقَالَ عقبَة بن عَامر «لَا يحل لامرئ يَبِيع سلْعَة يعلم أَن بهَا دَاء إِلَّا أخبر» وَرَوَاهُ مَرْفُوعا الْأَئِمَّة أَحْمد وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث [ابْن] شماسَة، عَن عقبَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْمُسلم أَخُو الْمُسلم، لَا يحل لامرئ مُسلم أَن يغيب مَا(6/545)
بسلعته، عَن أَخِيه إِن علم [بهَا] تَركهَا» هَذَا لفظ أَحْمد، وَلَفظ ابْن مَاجَه «الْمُسلم أَخُو الْمُسلم لَا يحل لمُسلم بَاعَ من أَخِيه بيعا وَفِيه عيب إلاّ بَينه [لَهُ] » وَلَفظ الْحَاكِم وَالطَّبَرَانِيّ «الْمُسلم أَخُو الْمُسلم، وَلَا يحل لمُسلم إِن بَاعَ من أَخِيه بيعا فِيهِ عيب إِلَّا بَينه لَهُ» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَأقرهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» عَلَى تَصْحِيحه (هَذَا حَدِيث صَحِيح) وَفِي مُسْند الإِمَام أَحْمد وَحده ابْن لَهِيعَة وَقد عرفت حَاله فِيمَا مَضَى، وَابْن شماسَة هُوَ عبد الرَّحْمَن انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ مُسلم وَثَّقَهُ الْعجلِيّ وَغَيره، وَفِي سَنَد الْحَاكِم مُحَمَّد بن سِنَان الْقَزاز، وَهُوَ شيخ شيخ الْحَاكِم، نسبه ابْن خرَاش وَأَبُو دَاوُد إِلَى الْكَذِب، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَقد تَابعه ابْن سيار الإِمَام الثِّقَة كَمَا هُوَ عِنْد ابْن مَاجَه، وَأما ابْن جرير الطَّبَرِيّ فَقَالَ: فِي إِسْنَاده نظر. قلت: وَله شَاهد من حَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع، رَوَاهُ (أَحْمد و) الْحَاكِم وَصحح إِسْنَاده، وَفِيه نظر، وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَيْهِ فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب فَليُرَاجع مِنْهُ، هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثرا وَاحِدًا وَهُوَ «أَن (ابْن) عمر رَضي اللهُ عَنهُ كَانَ إِذا(6/546)
(ابْتَاعَ) شَيْئا وَأَرَادَ أَن يُوجب البيع قَامَ وَمَشى قَلِيلا» .
وَهُوَ أثر صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَمَا سلف فِي آخر الحَدِيث الأول من أَحَادِيث الْبَاب، وَفِي رِوَايَة لمُسلم قَالَ نَافِع: «فَكَانَ ابْن عمر إِذا بَايع رجلا فَأَرَادَ أَن لَا يقيله قَامَ فَمَشى هنيهة ثمَّ رَجَعَ [إِلَيْهِ] » وَفِي رِوَايَة «للموطأ» «وَكَانَ ابْن عمر إِذا ابْتَاعَ بيعا وَهُوَ قَاعد قَامَ ليجب لَهُ» وَفِي رِوَايَة للشَّافِعِيّ: «كَانَ إِذا ابْتَاعَ الشَّيْء يُعجبهُ أَن يجب لَهُ، فَارق صَاحبه فَمَشى قَلِيلا ثمَّ رَجَعَ» .(6/547)
بَاب الْمُصراة وَالرَّدّ بِالْعَيْبِ
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث سَبْعَة أَحَادِيث:
الحَدِيث الأول
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تصرّوا الْإِبِل وَالْغنم للْبيع، فَمن ابتاعها بعد ذَلِكَ فَهُوَ بِخَير النظرين من بعد أَن يحلبها إِن رضيها أمْسكهَا، وَإِن سخطها ردهَا وصاعًا من تمر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث مَالك عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» عَن مَالك بِهِ، وَلَفظه كَمَا سَاقه الرَّافِعِيّ سَوَاء إِلَّا أَنه لم يقل «من» ، وَقَالَ: «بعد أَن يحلبها» : بإسقاطها، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» كَذَلِك إلاّ أَنه لم يذكر فِيهِ «للْبيع» وَلَا «فَمن ابتاعها» ، بل قَالَ «فَإِن ابتاعها» بدله، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن سُفْيَان، عَن أبي الزِّنَاد (بِهِ) ، وَقَالَ فِيهِ: «فَمن ابتاعها» وَلَفظ البُخَارِيّ «وَمن ابتاعها» وَلم يقل «بعد ذَلِكَ» وَلم يذكر فِيهِ «الْإِبِل» بل قَالَ: «وَلَا تصروا الْغنم» ، وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث اللَّيْث، عَن جَعْفَر بن ربيعَة، عَن(6/548)
الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا تصروا الْإِبِل وَالْغنم، فَمن ابتاعها بعد فَإِنَّهُ بِخَير النظرين بعد أَن يحلبها، إِن شَاءَ أمسك وَإِن شَاءَ ردهَا وصاعَ تمر» وَقَالَ البُخَارِيّ: وَيذكر عَن أبي صَالح، وَمُجاهد، والوليد بن رَبَاح ومُوسَى بن يسَار، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «صَاع تمر» وقَالَ بَعضهم: عَن ابْن سِيرِين: «صَاعا من (طَعَام وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا» وَقَالَ بَعضهم: عَن ابْن سِيرِين: «صَاعا من) تمر» وَلم يذكر «ثَلَاثًا» وَالتَّمْر أَكثر. وَفِي رِوَايَة (لَهُ «من اشْتَرَى) غنما مصراة فاحتلبها فَإِن رضيها أمْسكهَا، وَإِن سخطها فَفِي حلبتها صَاع من تمر» وَرَوَاهُ مُسلم بِأَلْفَاظ مِنْهَا: «من اشْتَرَى شَاة مصراة فلينقلب بهَا فليحلبها، فَإِن رَضِي بهَا أمْسكهَا، وَإِلَّا ردهَا وَمَعَهَا صَاع من تمر» وَمِنْهَا: «من ابْتَاعَ شَاة مصراة فَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، إِن شَاءَ أمْسكهَا، وَإِن شَاءَ ردهَا ورد مَعهَا صَاعا من تمر» وَمِنْهَا: «من اشْتَرَى شَاة مصراة فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا من طَعَام، لَا سمراء» قَالَ التِّرْمِذِيّ: (مَعْنَى) «لَا سمراء» : لَا (بُرّ) . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ(6/549)
«بعد أَن يحلبها ثَلَاثًا» قلت: هَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة، هَكَذَا لم أرها فِي كتاب حَدِيث، وَتبع فِي إيرادها الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» ، وَالْغَزالِيّ تبع إِمَامه فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك من طَرِيق الشَّافِعِي، وَقَالَ: إِنَّه صحت الرِّوَايَة بِهِ. وَالْإِمَام تبع القَاضِي (حُسَيْنًا) فَإِنَّهُ ادَّعَى ذَلِكَ، وَقَالَ ابْن دَاوُد شَارِح «الْمُخْتَصر» إِنَّه جَاءَ ذَلِكَ فِي بعض الْأَخْبَار كَمَا قلت، وَكَأَنَّهَا مركبة من الْمَعْنى، وَيجب تقديرها: فَهُوَ بِخَير النظرين ثَلَاثًا بعد أَن يحلبها.
فَائِدَة: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «لَا تُصَرّوا» هُوَ بِضَم أَوله وَفتح ثَانِيه وَتَشْديد ثالثه عَلَى مِثَال لَا تزكوا، وَالْإِبِل مَنْصُوب، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي ضبط هَذِه اللَّفْظَة، وَمِنْهُم من يرويهِ بِفَتْح أَوله وَضم ثَانِيه من صر يصر إِذا ربط، والمصراة هِيَ الَّتِي يرْبط أخلافها فيجتمع اللَّبن، وَالْإِبِل عَلَى هَذَا مَنْصُوب أَيْضا، وَأما مَا حَكَاهُ بَعضهم من ضم أَوله وَفتح ثَانِيه وَضم لَام الْإِبِل عَلَى مَا لم يسم فَاعله فَلَا يَصح مَعَ اتِّصَال ضمير الْفَاعِل، وَإِنَّمَا يَصح مَعَ إِفْرَاد الْفِعْل، وَلَا تعرف رِوَايَة حذف فِيهَا هَذَا الضَّمِير.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من اشْتَرَى (شَاة) مصراة فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا من تمر لَا سمراء» .(6/550)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم كَمَا سلف بِلَفْظِهِ قَرِيبا.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من (ابْتَاعَ) محفلة فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن ردهَا رد مَعهَا مثل أَو مثلي لَبنهَا قمحًا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» كَذَلِك وَابْن مَاجَه، وَقَالَ: «من بَاعَ» بدل «من ابْتَاعَ» وَقَالَ: «مثل» فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَإِسْنَاده متماسك بِسَبَب جَمِيع بن عُمَيْر اللَّيْثِيّ، فَإِنَّهُ من الْمُخْتَلف فيهم، كَمَا أوضحته فِي تخريجي أَحَادِيث «الْمُهَذّب» و «الْوَسِيط» ، وَالتِّرْمِذِيّ حسن لَهُ، وَأعله الْبَيْهَقِيّ بتفرده، فَقَالَ: تفرد بِهِ وَفِيه نظر، يَعْنِي فِي توثيقه. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» : هَذِه الرِّوَايَة غير قَوِيَّة، وَأعله عبد الْحق بِصَدقَة بن سعيد الْحَنَفِيّ الرَّاوِي عَن جَمِيع، فَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف. قلت: قد وثق أَيْضا كَمَا ذكرته فِي الْكِتَابَيْنِ الْمشَار إِلَيْهِمَا وَذكرت فيهمَا أَيْضا أَن قَوْله: «مثل أَو مثلي» شكّ من الرَّاوِي فِيمَا يظْهر فَرَاجعه ترشد وَالله الْمُوفق.(6/551)
الحَدِيث الرَّابِع
حَدِيث حبَان بن منقذ، هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي الْبَاب قبله فَليُرَاجع مِنْهُ.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شروطهم» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق أَحدهَا: عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْمُسلمُونَ عِنْد شروطهم» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث كثير بن زيد، عَن الْوَلِيد بن رَبَاح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِهِ، وَكثير هَذَا هُوَ مولَى الأسلميين، وَفِيه مقَال. قَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق فِيهِ لين. وَاخْتلف قَول يَحْيَى بن معِين فِيهِ فضعفّه مرّة وَوَثَّقَهُ أُخْرَى، وَضَعفه النَّسَائِيّ، وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَأخرج لَهُ فِي «صَحِيحه» كَمَا ستعلمه فِي كتاب الصُّلْح، وتحامل عَلَيْهِ ابْن حزم فوهاه، وخلط بَينه وَبَين غَيره فجلعهما وَاحِدًا كَمَا ستعلمه هُنَاكَ إِن شَاءَ الله، وَقَالَ عبد الْحق: هُوَ ضَعِيف عِنْدهم وَإِن كَانَ قد رَوَى عَنهُ جلة. والوليد بن رَبَاح ادَّعَى ابْن حزم جهالته وَتَبعهُ عبد الْحق فَقَالَ: لَا أعلم رَوَى عَن الْوَلِيد إِلَّا كثير بن زيد وَلَيْسَ كَمَا قَالَا، فقد رَوَى عَنهُ ابناه مُحَمَّد وَمُسلم. وَقَالَ أَبُو(6/552)
حَاتِم فِي حَقه: صَالح. وَرَوَى عَن أبي هُرَيْرَة وَسَهل بن حنيف وَغَيرهمَا. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَيَنْبَغِي أَن يُقَال فِيهِ: حسن لما بِكَثِير بن زيد من الضعْف وَلَو كَانَ صَدُوقًا. قلت: قد أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: رُوَاة هَذَا الحَدِيث مدنيون وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَله شَاهد من حَدِيث أنس وَعَائِشَة فذكرهما وسيأتيان.
ثَانِيهَا: عَن كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا بِهِ وَزِيَادَة «إِلَّا شرطا حرم حَلَالا أَو أحل حَرَامًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه، وَفِي نسخةٍ تَصْحِيحه وستعلم مَا فِيهِ فِي كتاب الصُّلْح إِن شَاءَ الله.
ثَالِثهَا: عَن أنس رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْمُسلمُونَ عِنْد شروطهم مَا وَافق الْحق من ذَلِكَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث خصيف، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن أنس مَرْفُوعا بِهِ (و) رَوَاهُ الْحَاكِم شَاهدا لحَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف، وخصيف مُخْتَلف فِيهِ كَمَا سلف فِي الْحَج، وَقَالَ ابْن عدي: إِذا حدث عَنهُ ثِقَة فَلَا بَأْس بِهِ. قلت: قد حدث عَنهُ بِهَذَا الحَدِيث مُتَّهم وَهُوَ عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن البالسي، لَا جرم قَالَ ابْن الْقطَّان: خصيف ضَعِيف، والراوي عَنهُ هُوَ عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن يروي عَنهُ أَحَادِيث هِيَ كذب مَوْضُوعَة. قَالَه أَحْمد بن حَنْبَل.(6/553)
رَابِعهَا: عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها مَرْفُوعا: مثل (الحَدِيث) الَّذِي قبله سَوَاء، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث خصيف، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِهِ، وَكَذَا الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» شَاهدا لحَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف. قلت: وَرُوِيَ مُرْسلا من طَرِيق عمر بن عبد الْعَزِيز، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَن يَحْيَى بن أبي زَائِدَة، عَن عبد الْملك، عَن عَطاء بلغنَا أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُسلمُونَ عِنْد شروطهم» . وَرَوَاهُ ابْن حزم من طَرِيق عبد الْملك بن حبيب الأندلسي، حَدَّثَني الْحزَامِي، عَن مُحَمَّد بن عمر، عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، عَن عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْمُسلمُونَ عِنْد شروطهم» وَعبد الْملك هَذَا هَالك، قَالَ ابْن حزم: رِوَايَته سَاقِطَة مطرحة. وَهُوَ عَالم مُصَنف (الْوَاضِحَة) عَلَى مَذْهَب مَالك، وَلكنه كَانَ كثير الْوَهم وَرُبمَا تعمد الْكَذِب (لنصر) التَّقْلِيد، وَفِيه مَعَه مُحَمَّد بن عمر وَهُوَ الْوَاقِدِيّ، وحاله مَعْلُوم وَعبد الرَّحْمَن شَيْخه، قَالَ البُخَارِيّ: رَوَى عَنهُ عجائب. فَهَذِهِ ثَلَاث علل مَعَ الْإِرْسَال، وَأَقْوَى طرقه المسندة عَلَى علاته الطَّرِيق الأول ثمَّ الثَّانِي، وَالْبَاقِي شَوَاهِد.
الحَدِيث السَّادِس
«أَن مخلد بن خفاف ابْتَاعَ غُلَاما فاستغله، ثمَّ أصَاب بِهِ عَيْبا، فَقَضَى لَهُ عمر بن عبد الْعَزِيز برده وغلته، فَأخْبرهُ عُرْوَة عَن عَائِشَة أَن رَسُول الله(6/554)
(قَضَى فِي مثل هَذَا أَن الْخراج بِالضَّمَانِ، فَرد عمر قَضَاءَهُ، وَقَضَى لمخلد بالخراج» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الْمُزنِيّ فِي «الْمُخْتَصر» فِي أَوَائِل بَاب الْخراج بِالضَّمَانِ فَقَالَ: أَخْبرنِي من لَا أتهم، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن مخلد بن خفاف - أَي بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء - «أَنه ابْتَاعَ غُلَاما. .» فَذكره كَمَا سَاقه الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَقَالَ فِي آخِره: «وَقَضَى لمخلد برد الْخراج - أَي غَلَّته» قَالَ الشَّافِعِي: فَبِهَذَا آخذ. وَهَذِه الرِّوَايَة ذكرهَا الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة الرّبيع، عَن الشَّافِعِي، وَزَاد فِيهَا: من لَا أتهم من أهل الْمَدِينَة، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن مخلد بن خفاف، قَالَ: «ابتعت غُلَاما ... » فَذكره بِنَحْوِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ (وَبِمَعْنَاهُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، عَن ابْن أبي ذِئْب، وَحَدِيث الشَّافِعِي أتم. وَمن لَا يتهمه الشَّافِعِي فِي هَذَا الْخَبَر قيل: إِنَّه إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى فِيمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ وَقد أسلفنا فِي الْبَاب الْمَاضِي أَن (أَحْمد و) أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» (رَوَوْهُ) وَحسنه التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ ابْن الْقطَّان، وَأما ابْن حزم قَالَ: إِنَّه لَا يَصح، وَأَن مخلد بن خفاف وَمُسلم بن خَالِد الزنْجِي انفردا بِهِ. وَلَيْسَ كَمَا ذكر؛ فقد رَوَاهُ أَيْضا عمر بن عَلّي الْمقدمِي كَمَا سلف هُنَاكَ.
فَائِدَة [2] : مخلد بن خفاف هَذَا غفاري، يُقَال: إِن لَهُ ولأبيه وجده صُحْبَة.(6/555)
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أقَال أَخَاهُ الْمُسلم صَفْقَة كرهها أقاله الله عثرته يَوْم الْقِيَامَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد عَلَى شَرط الصَّحِيح من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من أقَال مُسلما أقاله الله عثرته» زَاد ابْن مَاجَه: «يَوْم الْقِيَامَة» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَلَفْظِ أبي دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ بِأَلْفَاظ هَذَا أَحدهَا. وَثَانِيها: «من أقَال نَادِما أقاله الله» .
ثَالِثهَا: «من أقَال نَادِما أقاله الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة» .
رَابِعهَا: «من أقَال مُسلما عثرته أقاله الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة» .
خَامِسهَا: «من أقَال نَادِما أقاله الله نَفسه يَوْم الْقِيَامَة» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط [الشَّيْخَيْنِ] ، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر الاقتراح: إِنَّه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ ابْن حزم: إِنَّه صَحِيح. وَأخرجه أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث إِسْحَاق الْفَروِي عَن مَالك، عَن سمي، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من أقَال نَادِما بيعَته أقاله الله عثرته يَوْم الْقِيَامَة»(6/556)
وَقَالَ: مَا رَوَاهُ عَن مَالك إِلَّا إِسْحَاق الْفَروِي، ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث يَحْيَى بن معِين عَن حَفْص بن غياث، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: «من أقَال مُسلما عثرته أقاله الله عثرته يَوْم الْقِيَامَة» ثمَّ قَالَ: مَا رَوَى عَن الْأَعْمَش إِلَّا حَفْص بن غياث وَمَالك بن (سعير) ، وَمَا رَوَى عَن حَفْص إِلَّا يَحْيَى بن معِين وَلَا عَن مَالك بن (سعير) إِلَّا زِيَاد بن يَحْيَى الحساني، قلت: وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق آخر مَعْلُول. رَوَاهُ الْحَاكِم فِي كِتَابه «عُلُوم الحَدِيث» من حَدِيث معمر، عَن مُحَمَّد بن وَاسع، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من أقَال نَادِما أقاله الله نَفسه يَوْم الْقِيَامَة» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا إِسْنَاد من نظر إِلَيْهِ من غير أهل الصَّنْعَة لم يشك فِي صِحَّته وَسَنَده، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن معمرًا هُوَ ابْن (رَاشد) الصَّنْعَانِيّ ثِقَة مَأْمُون، وَلم يسمع من مُحَمَّد بن وَاسع وَمُحَمّد بن وَاسع، ثِقَة مَأْمُون، وَلم يسمع من أبي صَالح، قَالَ: وَله علَّة يطول شرحها، هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثرا وَاحِدًا وَهُوَ: «أَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ بَاعَ عبدا من زيد بن ثَابت، بثمانمائة دِرْهَم بِشَرْط الْبَرَاءَة، فَأصَاب زيد بِهِ عَيْبا، فَأَرَادَ رده عَلَى ابْن عمر فَلم يقبله، وترافعا إِلَى عُثْمَان، فَقَالَ عُثْمَان لِابْنِ عمر: أتحلف أَنَّك لم تعلم بِهَذَا الْعَيْب. فَقَالَ: لَا. فَرده عَلَيْهِ، فَبَاعَهُ(6/557)
ابْن عمر بِأَلف دِرْهَم» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سَالم بن عبد الله «أَن عبد الله بن عمر بَاعَ غُلَاما لَهُ بثمانمائة دِرْهَم. وَبَاعه بِالْبَرَاءَةِ فَقَالَ الَّذِي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام دَاء لم تسمه (لي) فاختصما إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان، فَقَالَ الرجل: بَاعَنِي عبدا وَبِه دَاء لم يسمه لي. فَقَالَ عبد الله بن عمر: بِعته بِالْبَرَاءَةِ فَقَضَى عُثْمَان بن عَفَّان عَلَى عبد الله بن عمر بِالْيَمِينِ أَن يحلف لَهُ لقد بَاعه الْغُلَام وَمَا بِهِ دَاء يُعلمهُ. فَأَبَى عبد الله أَن يحلف وارتجع العَبْد [فصح عِنْده] فَبَاعَهُ عبد الله بن عمر بعد ذَلِكَ بِأَلف وَخَمْسمِائة دِرْهَم» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا أصح مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب، وَرُوِيَ قبل ذَلِكَ عَن زيد بن ثَابت، وَابْن عمر «أَنَّهُمَا كَانَا يريان الْبَرَاءَة من كل عيب جَائِزا» وَضَعفه وَمَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي سِيَاقَة هَذِه الْقِصَّة أَن المُشْتَرِي زيد بن ثَابت قلدا فِيهِ صاحبا الشَّامِل وَالْحَاوِي، وَلم أره فِي غَيرهمَا، وَفِيهِمَا «أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول بعد بَيْعه الْغُلَام بِأَلف وَخَمْسمِائة دِرْهَم: تركت الْيَمين لله فعوضني الله عَنْهَا» وَفِي تَعْلِيق القَاضِي (أبي الطّيب) أَنه لما اسْترْجع الْغُلَام زَالَ مَا بِهِ من الْعَيْب عِنْده وَبَاعه بِأَلف وَأَرْبَعمِائَة دِرْهَم.(6/558)
بَاب الْقَبْض وَأَحْكَامه
ذكر فِيهِ رَحْمَة الله تَعَالَى تِسْعَة أَحَادِيث:
الحَدِيث الأول
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِهَذَا اللَّفْظ، وَفِي رِوَايَة لَهما «حَتَّى يقبضهُ» ، وَفِي رِوَايَة لَهما «قَالَ ابْن عمر: وَكُنَّا نشتري الطَّعَام من الركْبَان جزَافا فنهانا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نبيعه حَتَّى ننقله من مَكَانَهُ» وَفِي رِوَايَة لَهما: «كُنَّا فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نبتاع الطَّعَام فيبعث علينا من يَأْمُرنَا بانتقاله من الْمَكَان الَّذِي ابتعناه فِيهِ إِلَى مَكَان سواهُ قبل أَن نبيعه» وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، أَن تبَاع السّلع (بِحَيْثُ) تبْتَاع حَتَّى يحوزها التُّجَّار إِلَى رحالهم» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: «من اشْتَرَى طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه،(6/559)
قَالَ: وَنَهَى أَن يَبِيعهُ حَتَّى يحوله من مَكَانَهُ أَو يَنْقُلهُ» .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما قَالَ: «أما الَّذِي نهَى عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَهُوَ الطَّعَام أَن يُبَاع حَتَّى يُسْتَوْفَى. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَلَا أَحسب كل شَيْء إِلَّا مثله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «أما الَّذِي نهَى عَنهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَهُوَ الطَّعَام أَن يُبَاع قبل أَن يقبض. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَلَا أَحسب كل شَيْء إِلَّا مثله» وَرَوَاهُ مُسلم بِلَفْظ: «من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يقبضهُ. قَالَ ابْن عَبَّاس: وأحسب كل شَيْء بِمَنْزِلَة الطَّعَام» وَفِي لفظ: «وَأَحْسبهُ كل شَيْء مثله» وَفِي لفظ: «حَتَّى يَسْتَوْفِيه» وَفِي لفظ: «حَتَّى يكتاله» قَالَ طَاوس: فَقلت لِابْنِ عَبَّاس: لم؟ فَقَالَ: أَلا تراهم يتبايعون بِالذَّهَب وَالطَّعَام مرجأ» وَفِي البُخَارِيّ قَالَ: «قلت لِابْنِ عَبَّاس: كَيفَ ذَلِكَ؟ [قَالَ: ذَلِكَ] دَرَاهِم بِدَرَاهِم وَالطَّعَام مرجأ وَقَالَ: مرجئون: [مؤخرون] » وَهَذَا تَفْسِير لقَوْله: «مرجأ» قَالَ الْخطابِيّ: يتَكَلَّم بِهِ مهموزًا وَغير مَهْمُوز. قَالَ: وَذَلِكَ مثل أَن(6/560)
يَشْتَرِي مِنْهُ طَعَاما بِدِينَار إِلَى أجل فيبيعه قبل أَن يقبضهُ مِنْهُ بدينارين، وَهُوَ غير جَائِز.
تَنْبِيه: حَدِيث حَكِيم السَّابِق فِي أول البيع «لَا تبيعن شَيْئا حَتَّى تقبضه» يدل عَلَى أَن اشْتِرَاط الْقَبْض فِي البيع لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالطَّعَامِ كَمَا حَسبه ابْن عَبَّاس أَيْضا فتفطن لَهُ.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع مَا لم يقبض وَربح مَا لم يضمن» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الحَدِيث الثَّامِن فِي بَاب الْبيُوع الْمنْهِي عَنْهَا بِلَفْظ «وَلَا ربح مَا لم يضمن وَلَا بيع مَا لَيْسَ عنْدك» وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا: «لَا يحل بيع مَا لَيْسَ عنْدك، وَلَا ربح مَا لم تضمن» .
الحَدِيث الرَّابِع
رُوي «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما بعث عتاب بن أسيد إِلَى أهل مَكَّة قَالَ لَهُ: انههم عَن بيع مَا لم يقبضوا وَربح مَا لم يضمنوا» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الْغَزالِيّ فِي «الْوَجِيز» ، وَلم يعزه الرَّافِعِيّ فِي «تذنيبه» ، وَقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن عَطاء، عَن صَفْوَان بن يعْلى، عَن أَبِيه، قَالَ: «اسْتعْمل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عتاب بن أسيد عَلَى مَكَّة، فَقَالَ: إِنِّي قد أَمرتك عَلَى أهل الله - عَزَّ وجَلَّ - بتقوى(6/561)
الله، وَلَا يَأْكُل أحد مِنْكُم من ربح مَا لم يضمن، وانههم عَن سلف وَبيع، وَعَن الصفقتين فِي البيع الْوَاحِد، وَأَن ييبع أحدهم مَا لَيْسَ عِنْده» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث يَحْيَى بن صَالح، عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعتاب بن أسيد: «إِنِّي قد بَعَثْتُك إِلَى أهل الله وَأهل مَكَّة، فانههم عَن بيع مَا لم يقبضوا، أَو ربح مَا لم يضمنوا، وَعَن بيع وقرض، وَعَن شرطين فِي بيع، وَعَن بيع وَسلف» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ يَحْيَى بن صَالح الْأَيْلِي وَهُوَ مُنكر بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث لَيْث عَن عَطاء، عَن عتاب بن أسيد، قَالَ: «لما بَعثه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى مَكَّة نَهَاهُ عَن (شف) مَا لم يضمن» .
والشف بِالْكَسْرِ: الرِّبْح. قَالَه الْجَوْهَرِي، وَابْن الْأَثِير.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أسلف فِي شَيْء فَلَا يصرفهُ إِلَى غَيره» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث زِيَاد بن خَيْثَمَة، عَن سعد - يَعْنِي - الطَّائِي، عَن عَطِيَّة بن سعد، عَن أبي سعيد مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، وعطية هَذَا هُوَ الْعَوْفِيّ وَقد(6/562)
ضَعَّفُوهُ، وَإِن كَانَ التِّرْمِذِيّ يحسن لَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا يحْتَج بعطية، والاعتماد عَلَى حَدِيث النَّهْي عَن بيع الطَّعَام قبل أَن يُسْتَوْفَى. وَقَالَ عبد الْحق: لَا يحْتَج أحد بِحَدِيث عَطِيَّة وَإِن كَانَ رَوَى عَنهُ الجلة.
قلت: قَالَ ابْن معِين فِي حَقه: صَالح. وَاعْترض ابْن الْقطَّان عَلَى عبد الْحق فَقَالَ: أعله عبد الْحق بعطية، وَلم يبين أَن دونه سَعْدا الطَّائِي أَبَا الْمُجَاهِد، وَلَا يعرف حَاله، وَقد رَوَى عَنهُ جمَاعَة.
قلت: هُوَ من رجال البُخَارِيّ ووثق أَيْضا، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من (طَرِيقين) عَن أبي سعيد إِحْدَاهمَا: مثل رِوَايَة أبي دَاوُد وَلَفظه فِيهَا: «إِذا (أسلمت) فِي شَيْء فَلَا تصرفه إِلَى غَيره» .
ثَانِيهَا: بِإِسْقَاط سعد الطَّائِي. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من الطَّرِيق الأول بِلَفْظ «من أسلم فِي شَيْء فَلَا يصرفهُ فِي غَيره» (وَفِي لفظ لَهُ: «وَلَا يصرفهُ فِي غَيره» ) ، وَفِي لفظ لَهُ «فَلَا يَأْخُذ إلاّ مَا أسلم فِيهِ أَو رَأس مَاله» ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث عبد السَّلَام، عَن أبي خَالِد وَالْحجاج عَن عَطِيَّة، عَن أبي سعيد، قَالَ عبد السَّلَام: وَهُوَ عِنْدِي عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَكِنِّي أقصرته إِلَى أبي سعيد قَالَ: إِذا [أسلفت] فَلَا تبعه حَتَّى تستوفيه» وَهَذِه مُتَابعَة لسعد الطَّائِي الَّذِي فِي «سنَن أبي دَاوُد» و «ابْن مَاجَه» فَإِنَّهُ لم ينْفَرد بِهِ،(6/563)
وَفِي علل ابْن أبي حَاتِم سَأَلت أبي عَن حَدِيث أبي سعيد هَذَا، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ عَطِيَّة، عَن ابْن عَبَّاس قَوْله.
قلت: فَهَذِهِ ثَلَاث علل: الضعْف، و (الِاضْطِرَاب) ، وَالْوَقْف.
الحَدِيث السَّادِس
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما قَالَ: «كنت أبيَع الْإِبِل بِالبَقِيعِ بِالدَّنَانِيرِ وآخذ مَكَانهَا الْوَرق، وأبيع بالورق وآخذ مَكَانهَا الدَّنَانِير، فَأتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلته عَن ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا بَأْس بِهِ بِالْقيمَةِ» وَفِي رِوَايَة: «لَا بَأْس إِذا تفرقتما وَلَيْسَ بَيْنكُمَا شَيْء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَالْبَيْهَقِيّ (فِي سنَنه) من حَدِيث سماك بن حَرْب، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عمر قَالَ: «كنت أبيع الْإِبِل بِالبَقِيعِ فأبيع بِالدَّنَانِيرِ وآخذ الدَّرَاهِم، وأبيع بِالدَّرَاهِمِ وآخذ الدَّنَانِير، أَخذ هَذِه من هَذِه،(6/564)
وَأعْطِي هَذِه من هَذِه، فَأتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ فِي بَيت حَفْصَة، فَقلت: يَا رَسُول الله، رويدك أَسأَلك إِنِّي أبيع الْإِبِل بِالبَقِيعِ، فأبيع بِالدَّنَانِيرِ وآخذ الدَّرَاهِم، وأبيع بِالدَّرَاهِمِ وآخذ الدَّنَانِير، آخذ هَذِه من هَذِه، وَأعْطِي هَذِه من هَذِه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا بَأْس أَن تأخذها بِسعْر يَوْمهَا مَا لم تفترقا وبينكما شَيْء» هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَلَفظ أَحْمد: «لَا بَأْس بِهِ بِالْقيمَةِ» وَفِي أُخْرَى لَهُ: «لَا يفارقنك وَبَيْنك وَبَينه بيع» وَفِي آخر لَهُ كَلَفْظِ أبي دَاوُد إِلَّا أَنه قَالَ: «وَلَيْسَ بَيْنكُمَا شَيْء» وَفِي أُخْرَى لَهُ: «إِذا اشْتريت وَاحِدًا مِنْهُمَا بِالْآخرِ فَلَا يفارقك صَاحبك (وَبَيْنك) وَبَينه لبس» وَلَفظ التِّرْمِذِيّ كَلَفْظِ أَحْمد الأول، وَلَفظ ابْن مَاجَه «إِذا أخذت أَحدهَا وَأعْطيت الآخر فَلَا يفارقك صَاحبك وَبَيْنك وَبَينه لبس» ، وَلَفظ النَّسَائِيّ: «لَا بَأْس أَن تَأْخُذ بِسعْر يَوْمهَا مَا لم تتفرقا وبينكما شَيْء» وَفِي أُخْرَى لَهُ: «مَا لم يفرق بَيْنكُمَا شَيْء» ، وَلَفظ ابْن حبَان: «لَا بَأْس أَن تأخذها بِسعْر (يومهما فافترقهَا) وَلَيْسَ بَيْنكُمَا شَيْء» ، وَلَفظ الْحَاكِم كَلَفْظِ أبي دَاوُد إِلَّا أَنه قَالَ: «تَأْخُذ» بدل (تأخذهما) ، وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ كَلَفْظِ أبي دَاوُد وَسَاقه من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن سماك، ثمَّ قَالَ: وَبِهَذَا الْمَعْنى رَوَاهُ إِسْرَائِيل عَن سماك، ثمَّ سَاقه من حَدِيث عمار بن زُرَيْق عَن سماك وَلَفظه: «إِذا بَايَعت الرجل بِالذَّهَب وَالْفِضَّة فَلَا تُفَارِقهُ وبينكما لبس» . قَالَ: وبقريب من مَعْنَاهُ رَوَى فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، عَن إِسْرَائِيل، عَن سماك، وَعَن أبي الْأَحْوَص عَن سماك، والْحَدِيث يتفرد بِرَفْعِهِ سماك بن حَرْب، عَن سعيد(6/565)
بن جُبَير من بَين أَصْحَاب ابْن عمر. وسَاق فِي «الْمعرفَة» حَدِيث إِسْرَائِيل بِلَفْظ: «إِذا (كَانَ) أَحدهمَا بِالْآخرِ فَلَا يفترقا - أَو قَالَ: لَا يفارقك - وَبَيْنك وَبَينه بيع» ثمَّ سَاق عَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، قَالَ: «كُنَّا عِنْد شُعْبَة فَجَاءَهُ خَالِد بن طليق وَأَبُو الرّبيع السَّمان وَكَانَ خَالِد الَّذِي سَأَلَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بسطَام حَدِّثْنا حَدِيث سماك بن حَرْب، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عمر فِي اقْتِضَاء الْوَرق من الذَّهَب وَالذَّهَب من الْوَرق. فَقَالَ: شُعْبَة، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر وَلم يرفعهُ، ونا قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب عَن ابْن عمر وَلم يرفعهُ، (وثنا دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر وَلم يرفعهُ) ، ونا يَحْيَى بن أبي إِسْحَاق، عَن سَالم، عَن ابْن عمر وَلم يرفعهُ، وَرَفعه لنا سماك بن حَرْب، وَأَنا أفرقه. قلت: لما علمه من سوء حفظه، وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيّ وَغَيره لم يرفعهُ غير سماك، وعلق الشَّافِعِي - فِي [رِوَايَة] حَرْمَلَة - القَوْل بِهِ عَلَى صِحَّته، وَأما الْحَاكِم فَقَالَ فِي «مُسْتَدْركه» : إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَكَأَنَّهُ بناه عَلَى الْمَذْهَب الصَّحِيح فِي تَقْدِيم الرّفْع عَلَى الْوَقْف.
فَائِدَة: البقيع الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث هُوَ بِالْبَاء الْمُوَحدَة مدفن أهل الْمَدِينَة، وَقد ورد مُصَرحًا بِهِ فِي «الْمعرفَة» للبيهقي «كنت أبيع الْإِبِل ببقيع الْغَرْقَد ... » الحَدِيث، وَأما ابْن باطيش فَقَالَ فِي كِتَابه «الْمُغنِي» : لم أجد أحدا ضَبطه فِي هَذَا الحَدِيث، وَالظَّاهِر أَنه بالنُّون فَإِنَّهُ(6/566)
أشبه بِالبَقِيعِ الَّذِي هُوَ مدفن. وَكَأَنَّهُ لم يقف عَلَى رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ لَا جرم، اعْترض النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فِي «تهذيبه» فَقَالَ: لَيْسَ كَمَا قَالَ بل هُوَ البقيع بِالْبَاء وَهُوَ المدفن، وَلم يكن ذَلِكَ الْوَقْت كثرت فِيهِ الْقُبُور، قَالَ: وَأما قَول ابْن معن فِي كِتَابه «أَلْفَاظ الْمُهَذّب» أَنه بِالْبَاء، وَقيل: بالنُّون، فَالظَّاهِر أَن حكايته النُّون عَن ابْن باطيش.
(الحَدِيث) السَّابِع
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الكالئ بالكالئ» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق، عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَحدهَا؛ من طَرِيق عبد الله بن دِينَار (عَنهُ قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بيع الكالئ بالكالئ، وَهُوَ بيع الدَّين بِالدّينِ» رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق قَالَ: ثَنَا الْأَسْلَمِيّ، ثَنَا عبد الله بن دِينَار) عَن ابْن عمر ... . فَذكره، والأسلمي هَذَا إِن كَانَ ابْن أبي يَحْيَى فالجمهور عَلَى تَضْعِيفه، وَإِن كَانَ الْوَاقِدِيّ فَكَذَلِك.
ثَانِيهَا: من طَرِيق نَافِع عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الكالئ بالكالئ» رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع بِهِ، قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. قلت: وَعبد الْعَزِيز من رجال الصَّحِيحَيْنِ لكنه مَعْرُوف بِسوء الْحِفْظ كَمَا قَالَه أَبُو زرْعَة.(6/567)
ثَالِثهَا: من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة أَيْضا، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِهِ، (و) رَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث ذُؤَيْب بن عِمَامَة السَّهْمِي - وَقد ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره وَلم يهدر - نَا حَمْزَة بن عبد الْوَاحِد، عَن مُوسَى بن عقبَة (بِهِ) وَهَذَا الَّذِي ذكرَاهُ من كَون الْوَاقِع فِي هذَيْن الإسنادين هُوَ مُوسَى بن عقبَة وهم، وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي الواهي، قَالَ أَحْمد: لَا تحل عِنْدِي الرِّوَايَة عَنهُ وَلَا أعرف هَذَا الحَدِيث عَن غَيره.
قلت: وَمن هَذَا يتَبَيَّن وهم الْحَاكِم فِي حكمه عَلَى هَذَا الحَدِيث بِأَنَّهُ عَلَى شَرط مُسلم حَيْثُ ظن أَن رَاوِيه مُوسَى بن عقبَة وَقد سَعَى فِي ذَلِكَ الْبَيْهَقِيّ حَيْثُ قَالَ فِي «سنَنه» بَعْدَمَا رَوَاهُ من رِوَايَة مُوسَى غير مَنْسُوب عَن نَافِع كَمَا سلف.
(مُوسَى) هَذَا هُوَ ابْن عُبَيْدَة الربذي، قَالَ: وَشَيخنَا أَبُو عبد الله - يَعْنِي - الْحَاكِم قَالَ فِي رِوَايَته عَن مُوسَى بن عقبَة وَهُوَ خطأ. قَالَ: وَالْعجب من أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ شيخ عصره، رَوَى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب «السّنَن» عَن أبي الْحسن عَلّي بن مُحَمَّد الْمصْرِيّ، فَقَالَ: عَن مُوسَى بن عقبَة، وَشَيخنَا أَبُو الْحُسَيْن بن بَشرَان، رَوَاهُ لنا عَن أبي الْحسن الْمصْرِيّ فِي الْجُزْء الثَّالِث من «سنَن الْمصْرِيّ» ، فَقَالَ: عَن مُوسَى غير مَنْسُوب، ثمَّ رَوَاهُ الْمصْرِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي عبد الْعَزِيز الربذي عَن نَافِع(6/568)
عَن ابْن عمر مَرْفُوعا ... فَذكره. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأَبُو عبد الْعَزِيز الربذي هُوَ مُوسَى بن عُبَيْدَة. قَالَ: وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو أَحْمد بن عدي من رِوَايَة عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة ... فَذكره بِمثلِهِ. قَالَ ابْن عدي: وَهَذَا مَعْرُوف بمُوسَى بن عُبَيْدَة، عَن نَافِع. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رَوَاهُ عبيد الله بن مُوسَى، وَزيد بن الْحباب وَغَيرهمَا، عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر. رَوَاهُ أَيْضا من طَرِيق آخر، عَن حَمْزَة بن عبد الْوَاحِد، عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلم ينْسب شَيخنَا أَبُو الْحُسَيْن، عَن أبي الْحسن الْمصْرِيّ. فَقَالَ: عَن (مُوسَى - وَهُوَ ابْن عُبَيْدَة بِلَا شكّ - قَالَ: وَقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي الْحسن الْمصْرِيّ فَقَالَ عَن) مُوسَى بن عقبَة، وَرَوَاهُ شَيخنَا أَبُو عبد الله - يَعْنِي - الْحَاكِم بِإِسْنَاد آخر عَن مقدم بن دَاوُد الرعيني، فَقَالَ: عَن مُوسَى بن عقبَة وَهُوَ وهم، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: والْحَدِيث الْمَشْهُور بمُوسَى بن عُبَيْدَة مرّة عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَمرَّة عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر. قلت: وَقد قَالَ إمامنا الشَّافِعِي فِي حق هَذَا الحَدِيث: أهل (الحَدِيث) يوهنوه. وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ فِي هَذَا حَدِيث يَصح إِنَّمَا إِجْمَاع النَّاس عَلَى أَنه لَا يجوز بيع دين بدين. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث لَا يثبت.
فَائِدَة: الكالئ مَهْمُوز، قَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا الْوَلِيد يَقُول: النَّهْي عَن بيع الكالئ بالكالئ هُوَ بيع النَّسِيئَة(6/569)
بِالنَّسِيئَةِ. قلت: وَكَذَا نَقله الْبَيْهَقِيّ وَغَيره عَن أبي عبيد عَن شَيْخه أبي عُبَيْدَة، وَكَذَا رَأَيْته فِي غَرِيبه عَنهُ. وَكَذَا هُوَ فِي سنَن الدَّارَقُطْنِيّ نقلا عَن أهل اللُّغَة ذكره فِي آخر حَدِيث حَمْزَة بن عبد الْوَاحِد السالف وَهَذَا لَفظه: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن بيع الكالئ بالكالئ» وَقَالَ اللغويون: هُوَ النَّسِيئَة بِالنَّسِيئَةِ. وَنقل الْبَيْهَقِيّ عَن نَافِع أَنه قَالَ: هُوَ بيع الدَّين بِالدّينِ ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن كالئ بكالئ الدَّين بِالدّينِ» وَأوردهُ الشَّافِعِي فِي بَاب الْخلاف فِيمَا يجب بِهِ البيع بِلَفْظ «نهَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بيع الدَّين بِالدّينِ» .
الحَدِيث الثَّامِن
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كُنَّا نشتري الطَّعَام من الركْبَان جزَافا فنهانا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نبيعه حَتَّى ننقله من مَكَانَهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف بَيَانه أول الْبَاب.
الحَدِيث التَّاسِع
رُوِيَ مُرْسلا وَمُسْندًا «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الطَّعَام حَتَّى يجْرِي فِيهِ الصاعان: صَاع البَائِع وَصَاع المُشْتَرِي» .
هُوَ كَمَا قَالَ، أما الْمسند فَمن طَرِيق جَابر رَضي اللهُ عَنهُ وَغَيره أخرجه ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي إِسْنَاده ابْن أبي لَيْلَى(6/570)
وَقد سَاءَ حفظه بآخرة لاشتغاله بِالْقضَاءِ كقيس بن الرّبيع، وَحَفْص بن غياث، وَشريك النَّخعِيّ، وَفِيه أَيْضا أَبُو الزبير عَن جَابر وَيحْتَاج إِلَى دعامة، وَلم يُصَرح (بِالتَّحْدِيثِ) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن أبي هُرَيْرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الطَّعَام حَتَّى يجْرِي فِيهِ الصاعان فَيكون للْبَائِع الزِّيَادَة وَعَلِيهِ النُّقْصَان» . وَأما الْمُرْسل فَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن الْحسن فَقَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ الْحسن عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «نهَى عَن بيع الطَّعَام حَتَّى يجْرِي فِيهِ الصاعان فَيكون لَهُ زِيَادَته وَعَلِيهِ نقصانه» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَن الْحَاكِم أبي عبد الله، عَن أبي الْوَلِيد، نَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق، نَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الأحمسي، نَا وَكِيع، عَن الرّبيع بن صبيح عَن الْحسن. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ ذَلِكَ مَوْصُولا من أوجه (إِذا) ضم بَعْضهَا إِلَى بعض قوي مَعَ مَا ثَبت عَن ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس يُشِير إِلَى حَدِيثهمَا السَّابِق أول الْبَاب، وَفِي البُخَارِيّ بِغَيْر إِسْنَاد قَول النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «يَا عُثْمَان، إِذا ابتعت فاكتل وَإِذا بِعْت فكِل» وأسنده أَحْمد وَالْبَزَّار وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، نَا مُوسَى بن وردان، قَالَ: سَمِعت سعيد بن الْمسيب يَقُول: «سَمِعت عُثْمَان(6/571)
يخْطب عَلَى الْمِنْبَر، وَهُوَ يَقُول: كنت أبتاع التَّمْر من بطن من الْيَهُود يُقَال لَهُم (بَنو) قينقاع وأبيعه بِرِبْح، فَبلغ ذَلِكَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا عُثْمَان، إِذا اشْتريت فاكتل، وَإِذا بِعْت فكِل» وَابْن لَهِيعَة قد علمت مَا فِيهِ غير مرّة، وَرَوَاهُ جمَاعَة من الْكِبَار عَنهُ كَمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ، وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن (عبد الله) بن أبي فَرْوَة، عَن سعيد كَمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ، وَأما مُوسَى بن وردان فَثِقَة، وَإِن نقل الذَّهَبِيّ عَن ابْن معِين تَضْعِيفه فقد قَالَ فِي رِوَايَة عَبَّاس عَنهُ: كَانَ يقص بِمصْر وَهُوَ صَالح. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه بِمَعْنَاهُ من هَذَا الْوَجْه أَيْضا، قَالَ الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ يرْوَى [عَن عُثْمَان] إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد. قلت: بل لَهُ إِسْنَاد آخر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي صَالح كَاتب اللَّيْث، حَدَّثَني يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عبيد الله بن الْمُغيرَة، عَن منقذ مولَى سراقَة، عَن عُثْمَان أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعُثْمَان: «إِذا ابتعت فاكتل وَإِذا بِعْت فكِل» وَأَبُو صَالح مُتَكَلم فِيهِ، وَيَحْيَى هُوَ الغافقي يغرب، و (عبيد الله) بن الْمُغيرَة (وَثَّقَهُ) أَبُو حَاتِم، ومنقذ ذكره ابْن حبَان فِي ثقاته،(6/572)
وَقَالَ عبد الْحق: منقذ لَيْسَ بِمَشْهُور وَقَبله من لَا يحْتَج بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَرُوِيَ من وَجه آخر مُرْسلا عَن عُثْمَان فَذكره. وَفِي علل ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ مُحَمَّد بن حمير، قَالَ: حَدَّثَني الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: حَدَّثَني ثَابت بن ثَوْبَان، قَالَ: حَدَّثَني مَكْحُول عَن أبي قَتَادَة، قَالَ: كَانَ عُثْمَان يَشْتَرِي الطَّعَام ويبيعه قبل أَن يقبضهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا ابتعت فاكتل وَإِذا بِعْت فَكل» . فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر بِهَذَا الْإِسْنَاد.(6/573)
بَاب الْأُصُول وَالثِّمَار
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسَة عشر حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من بَاعَ نَخْلَة بعد أَن تؤبر فثمرتها للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه مَرْفُوعا بِهِ.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن سُفْيَان وَهُوَ ابْن عُيَيْنَة بالسند الْمَذْكُور، وَمن رِوَايَة مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «من بَاعَ نخلا قد أبرت فثمرتها للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع» وَقد أخرج مُسلم الراوية الأولَى عَن يَحْيَى بن يَحْيَى وَغَيره عَن سُفْيَان، وَأخرج لَهُ الشَّيْخَانِ الرِّوَايَة الثَّانِيَة من حَدِيث مَالك وَهُوَ كَمَا قَالَ، قَالَ الشَّافِعِي: وَهَذَا الحَدِيث ثَابت عندنَا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَبِه نَأْخُذ.
فَائِدَة: «أبرت» قَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ الزبيدِيّ: وبالتشديد أَيْضا.(6/574)
تَنْبِيه: قَوْله: «بعد أَن تؤبر» هَكَذَا صَوَابه، وَوَقع فِي بعض نسخ (الرَّافِعِيّ) بدل «بعد» «قبل» وَهُوَ من النَّاسِخ، وَكَذَا وَقع فِي الْمطلب عَن رِوَايَة الْمُخْتَصر لَكِن الَّذِي رَأَيْته فِيهِ بِلَفْظ «بعد» فَقَط وَكَذَا هُوَ فِي النِّهَايَة عَنهُ.
الحَدِيث الثَّانِي
«رُوِيَ أَن رجلا ابْتَاعَ نخلا من آخر وَاخْتلفَا، فَقَالَ الْمُبْتَاع: أَنا أَبرته بعد مَا ابتعت (و) قَالَ البَائِع: أَنا أَبرته قبل البيع. فتحاكما إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَضَى بالثمرة لمن أبر (مِنْهُمَا) » .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي مُرْسلا فَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» إِلَيْهِ: نَا سعيد بن سَالم، عَن ابْن جريج أَن عَطاء أخبرهُ «أَن رجلا بَاعَ عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَائِطا مثمرًا وَلم يشْتَرط الْمُبْتَاع الثَّمر وَلم يسْتَثْن البَائِع الثَّمر وَلم يذكراه، فَلَمَّا ثَبت البيع اخْتلفَا فِي الثَّمر واحتكما فِيهِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَضَى بالثمر الَّذِي لقح النّخل للْبَائِع» وَفِي «الدَّلَائِل» للأصيلي عَلَى مَا حَكَاهُ ابْن الطلاع عَنهُ عَن ابْن عمر «أَن رجلا اشْتَرَى نخلا قد أبرها فتخاصما إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن الثَّمَرَة لصَاحِبهَا الَّذِي أبرها إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع» .
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الثِّمَار حَتَّى تنجو من العاهة» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي آخر الْبيُوع الْمنْهِي عَنْهَا.(6/575)
الحَدِيث الرَّابِع
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الثِّمَار حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّافِعِي عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الثِّمَار حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، نهَى البَائِع وَالْمُشْتَرِي» . وَأخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث مَالك، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «نهَى عَن بيع النّخل حَتَّى (تزهى) ، وَعَن السنبل حَتَّى يبيض ويأمن العاهة، نهَى البَائِع وَالْمُشْتَرِي» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: « (لَا تتبايعوا الثَّمَرَة) حَتَّى يَبْدُو (صَلَاحهَا) وَتذهب (عَنْهَا) الآفة. قَالَ: يَبْدُو صَلَاحه، حمرته وصفرته» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «قيل لِابْنِ عمر: مَا صَلَاحه؟ قَالَ: تذْهب عاهته» . وَفِي رِوَايَة للشَّافِعِيّ حَتَّى تذْهب العاهة، قيل لِابْنِ عمر: مَتى ذَاك؟ قَالَ: طُلُوع الثريا» وَقد جَاءَ هَذَا الْخَبَر من غير طَرِيق ابْن عمر رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر(6/576)
وَأبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (لَا) تبتاعوا الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه» .
فَائِدَة: مَعْنَى يَبْدُو: يظْهر وَهُوَ بِلَا همز، وَوَقع فِي كثير من كتب الْمُحدثين وَغَيرهم «حَتَّى يبدوا» هَكَذَا بِالْألف وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب حذفهَا، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي إِثْبَاتهَا إِذا لم يكن ناصب مثل «زيد يبدوا» وَالِاخْتِيَار حذفهَا أَيْضا وَيَقَع مثله فِي حَتَّى يزهوا، وَصَوَابه حذف الْألف كَمَا ذكرنَا.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَرَأَيْت إِذا منع الله الثَّمَرَة فَبِمَ يسْتَحل أحدكُم مَال أَخِيه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أنس رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الثِّمَار حَتَّى تزهى، قيل: وَمَا تزهى؟ قَالَ: تحمر. قَالَ: أَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة بِمَ يَأْخُذ أحدكُم مَال أَخِيه» وَهَذَا لفظ البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة لَهُ «نهَى أَن تبَاع ثَمَرَة النّخل حَتَّى تزهو - يَعْنِي حَتَّى تحمر» وَفِي رِوَايَة لَهُ «نهَى عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا أَو عَن النّخل حَتَّى تزهو. قيل: وَمَا تزهو؟ قَالَ: تحمار(6/577)
وتصفار» وَفِي رِوَايَة لَهُ «نهَى عَن بيع الثَّمر حَتَّى يزهو، فَقُلْنَا لأنس: مَا هُوَ زهوها؟ قَالَ: تحمر وَتَصْفَر، أَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة بِمَ يسْتَحل أحدكُم مَال أَخِيه» .
وَرَوَاهُ مُسلم بِأَلْفَاظ: أَحدهَا: «نهَى عَن بيع ثَمَر النّخل حَتَّى يزهو فَقيل لأنس: مَا زهوها؟ قَالَ: تحمر وَتَصْفَر أَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة بِمَ تستحل مَال أَخِيك؟» .
ثَانِيهَا: «نهَى عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى تزهى، قَالُوا: وَمَا تزهى؟ قَالَ: تحمر. قَالَ: إِذا منع الله الثَّمَرَة بِمَ تستحل مَال أَخِيك؟» .
ثَالِثهَا: «إِن لم يثمرها الله فَبِمَ يسْتَحل أحدكُم مَال أَخِيه؟» .
(وَاعْلَم) إِن الْحفاظ اخْتلفُوا فِي قَوْله: «أَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة ... » إِلَى آخِره، هَل هُوَ من قَول أنس، أَو مَرْفُوع كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ (وسُفْيَان الثَّوْريّ وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر إِلَى الأول) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث يرويهِ مَالك بن أنس والدراوردي مُسْندًا كُله وَإِبْرَاهِيم بن أبي حَمْزَة وَيَحْيَى بن سُلَيْمَان وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَبشر بن الْمفضل وَأَبُو خَالِد الْأَحْمَر وَمعمر بن سُلَيْمَان، وهشيم، وَعبيدَة بن معتب وسُفْيَان بن حبيب وَيَحْيَى بن أَيُّوب ومروان بن مُعَاوِيَة وَيزِيد بن هَارُون جعلُوا آخر الحَدِيث من قَول أنس وَهُوَ الصَّوَاب. وَقَالَ(6/578)
الْحَاكِم فِي كِتَابه «عُلُوم الحَدِيث» : هَذِه الزِّيَادَة فِي هَذَا الحَدِيث «أَرَأَيْت ... » إِلَى آخِره عَجِيبَة فَإِن مَالِكًا ينْفَرد بهَا لم يذكرهَا غَيره فِيمَا علمت فِي هَذَا الْخَبَر وَقد قَالَ بعض أَئِمَّتنَا إِنَّهَا من قَول أنس، فَسمِعت ابْن خُزَيْمَة يَقُول: رَأَيْت مَالك بن أنس فِي النّوم (شَيخا أسمرَ طوَالًا) ، فَقلت أحدثكُم حميد الطَّوِيل عَن أنس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة ... » الحَدِيث قَالَ: نعم. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَن ذَلِكَ [فَقَالَا] : رَفعه خطأ إِنَّمَا هُوَ من كَلَام أنس. قَالَ أَبُو زرْعَة: والدراوردي وَمَالك بن أنس يرويانه مَرْفُوعا وَالنَّاس يرونه مَوْقُوفا (من) كَلَام أنس.
وَقَالَ الْخَطِيب فِي كِتَابه «الْفَصْل للوصل المدرج فِي النَّقْل» : رَوَاهُ مَالك عَن حميد مَرْفُوعا بِكُل هَذِه الْأَلْفَاظ، وَوهم فِي ذَلِكَ لِأَن قَوْله «أَرَأَيْت ... » إِلَى آخِره من كَلَام أنس، بَين ذَلِكَ يزِيد بن هَارُون والدراوردي وَأَبُو خَالِد الْأَحْمَر وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر كلهم عَن حميد فِي روايتهم هَذَا الحَدِيث عَن حميد و (فصلوا) كَلَام أنس من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَرَوَاهُ الْأنْصَارِيّ وهشيم وَابْن الْمُبَارك وَعبيدَة عَن حميد فاقتصروا عَلَى الْمَرْفُوع (هُنَا) دون كَلَام أنس. قَالَ الْبَغَوِيّ: رَوَى هَذَا(6/579)
الحَدِيث جمَاعَة كلهم عَن حميد من قَول أنس، وَلَا نعلم أحدا رَفعه إِلَّا الدَّرَاورْدِي. قَالَ الْخَطِيب: قد رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة الزبيري عَن الدَّرَاورْدِي مَوْقُوفا، وَإِبْرَاهِيم أتقن من مُحَمَّد بن عباد وَلَيْسَ يَصح أَن أحدا رَفعه سُوَى مَالك.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي: جعل مَالك والدراوردي قَول أنس «أَرَأَيْت إِن منع الله» مَرْفُوعا، وأظن حميدا حدث بِهِ فِي الْحجاز كَذَلِك وَقَالَ عبد الْحق فِي «جمعه» : قَوْله: «أَرَأَيْت. .» إِلَى آخِره لَيْسَ بموصول عَنهُ فِي كل طَرِيق.
قلت: فَتحصل أَن الْمُعظم عَلَى وَقفه عَلَيْهِ خلاف مَا وَقع فِي الْكتاب.
الحَدِيث السَّادِس
«نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بيع الثِّمَار حَتَّى تزهى، فَقيل: يَا رَسُول الله، وَمَا تزهى؟ قَالَ: تحمر أَو تصفر» .
هَذَا (الحَدِيث) أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أنس كَمَا سلف فِي الحَدِيث قبله.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك عَن حميد عَن أنس مَرْفُوعا بِمثل مَا ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء إِلَى قَوْله (تحمر) ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (فِي «السّنَن» و «الْمعرفَة» عَنهُ، وَقَالَ: أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيح) من حَدِيث مَالك إِلَّا(6/580)
أَنَّهُمَا لم يَقُولَا: «يَا رَسُول الله» بل قَالَا: «قيل: وَمَا تزهى أَو قيل لأنس: مَا زهوها» وَأخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث جَابر قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تبَاع الثَّمَرَة حَتَّى تشقح. قيل: وَمَا تشقح؟ قَالَ: تحمار وتصفار، ويؤكل مِنْهَا» .
فَائِدَة: مَعْنَى تزهى: تصير زهوًا وَهُوَ ابْتِدَاء أرطابها وطيبها، يُقَال: زهت وأزهت، وَأنكر بَعضهم زهت.
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الْحبّ حَتَّى يشْتَد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا تقدم بَيَانه فِي آخر بَاب الْبيُوع الْمنْهِي عَنْهَا.
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن المحاقلة والمزابنة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحهمَا» من طرق كَمَا ستعلمه عَلَى الإثر.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن المحاقلة والمزابنة، والمحاقلة أَن يَبِيع الرجل الرجل الزَّرْع بِمِائَة فرق من الْحِنْطَة، والمزابنة أَن يَبِيع الثَّمر عَلَى رُءُوس النّخل بِمِائَة فرق من تمر» .(6/581)
قَالَ الرَّافِعِيّ: فَهَذَا التَّفْسِير إِن كَانَ من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذَاك، وَإِن كَانَ من الرَّاوِي فَهُوَ أعرف بتفسير مَا رَوَاهُ.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» فَقَالَ: أبنا سُفْيَان، عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن جَابر ... فَذكره بالتفسير الْمَذْكُور سَوَاء، (ثمَّ) قَالَ: عَن ابْن جريج قَالَ: قلت لعطاء: مَا المحاقلة؟ فَقَالَ: المحاقلة فِي (الْحَرْث) كَهَيئَةِ الْمُزَابَنَة فِي النّخل سَوَاء، بيع الزَّرْع بالقمح. وَقَالَ ابْن جريج: قلت لعطاء: أفسّر لكم جَابر المحاقلة كَمَا أَخْبَرتنِي؟ قَالَ: نعم. وَرَوَى الرَّبيع حَدِيث جَابر لكنه أبدل «الْمُزَابَنَة» «بالمخابرة» وَفِي آخِره: «وَالْمُخَابَرَة كِرَاء الأَرْض بِالثُّلثِ وَالرّبع» . وَأخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث سُفْيَان بِنَحْوِهِ.
وَرَوَى الرّبيع أَيْضا أبنا الشَّافِعِي، أبنا مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الْمُزَابَنَة، والمزابنة بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ كَيْلا، وَبيع الْكَرم بالزبيب كَيْلا» وخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث مَالك.
وَرَوَى الرَّبيع عَن الشَّافِعِي، أبنا سعيد بن سَالم، عَن ابْن جريج «أَنه قَالَ لعطاء: وَمَا المحاقلة ... » فَذكره كَمَا تقدم من طَرِيق الْمُخْتَصر، ثمَّ قَالَ الرّبيع: قَالَ الشَّافِعِي: وَتَفْسِير المحاقلة والمزابنة فِي الْأَحَادِيث يحْتَمل أَن يكون عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَنْصُوصا، وَيحْتَمل أَن يكون عَن رِوَايَة من رَوَاهُ.(6/582)
قلت: وَأخرج النَّهْي عَن المحاقلة والمزابنة غير من قدمنَا من الصَّحَابَة (جمَاعَة) مِنْهُم: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الْمُزَابَنَة والمحاقلة» .
والمزابنة: اشْتِرَاء الثَّمر عَلَى رُءُوس النّخل، والمحاقلة: كِرَاء الأَرْض أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» .
وَمِنْهُم ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَخْرجَاهُ أَيْضا بِذكر الْمُزَابَنَة فَقَط.
وَمِنْهُم ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ البُخَارِيّ بِذكر «المحاقلة والمزابنة» .
وَمِنْهُم أنس أخرجه البُخَارِيّ بِذكر «المحاقلة» فَقَط.
وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث سعيد بن الْمسيب، وَأخرجه النَّسَائِيّ من حَدِيث رَافع بن خديج، وَسَيَأْتِي من حَدِيث سهل بن سعد أَيْضا.
فَائِدَة: ذكر الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب أَن المحاقلة مَأْخُوذَة من الحقل وَهِي المساحة الَّتِي تزرع. كَذَا قَالَ: «المساحة» بِالْإِفْرَادِ، وَالصَّوَاب الساحات؛ لِأَن الحقل جمع حقلة (كَمَا) قَالَه الْجَوْهَرِي فَلَا يَصح تَفْسِيره (بالمفردة) .(6/583)
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الْمُزَابَنَة وَهِي بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنه رخص فِي العريّة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّافِعِي عَن سُفْيَان، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن جَابر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الْمُزَابَنَة، والمزابنة: بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنه أرخص فِي الْعَرَايَا، وَأَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيح» من هَذَا الْوَجْه، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب الشّرْب عَن عبد الله بن مُحَمَّد، عَن سُفْيَان، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، سمع جَابر بن عبد الله «نهَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن المخابرة والمحاقلة وَعَن الْمُزَابَنَة، وَعَن بيع التَّمْر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه، وَأَن لَا يُبَاع إِلَّا بالدينار وَالدِّرْهَم إِلَّا الْعَرَايَا» .
وَرَوَاهُ مُسلم كَذَلِك أَيْضا.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن سهل بن أبي (حثْمَة) «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنه رخص فِي الْعرية أَن تبَاع بِخرْصِهَا تَمرا يأكلها أَهلهَا رطبا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن يَحْيَى(6/584)
بن سعيد عَن بشير بن يسَار عَن سهل بِهِ سَوَاء (كَذَا) أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» سَوَاء، وَأخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحهمَا» من حَدِيث سُفْيَان، وَلَفظ مُسلم «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ وَقَالَ: ذَلِكَ الرِّبَا، تِلْكَ الْمُزَابَنَة إِلَّا أَنه رخص فِي بيع الْعرية النَّخْلَة والنخلتين يَأْخُذهَا أهل الْبَيْت بِخرْصِهَا تَمرا يأكلونها رطبا» .
وَفِي رِوَايَة (لَهُ) «ذَلِك الزَّبْنَ» مَكَان «ذَلِكَ الرِّبَا» وَلَفظ البُخَارِيّ «نهَى عَن بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ، وَرخّص فِي الْعرية أَن تبَاع بِخرْصِهَا يأكلها أَهلهَا رطبا» .
فَائِدَة: الثَّمر الْمَذْكُور أَولا بِالْمُثَلثَةِ وَالْمرَاد الرطب، وَالْمَذْكُور ثَانِيًا بِالْمُثَنَّاةِ. وَقَوله «بِخرْصِهَا» هُوَ بِفَتْح الْخَاء وَكسرهَا كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيّ، وَالْفَتْح أشهر، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمُرَاد المخروص.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رَوَى الشَّافِعِي عَن مَالك، عَن دَاوُد - هُوَ ابْن الْحصين - عَن أبي سُفْيَان مولَى ابْن أبي أَحْمد، عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أرخص فِي بيع الْعَرَايَا بِخرْصِهَا فِيمَا دون خَمْسَة أوسق أَو فِي خَمْسَة أوسق» شكّ دَاوُد.(6/585)
هُوَ كَمَا قَالَ رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، و «الْمُخْتَصر» عَن مَالك كَذَلِك وَرَوَاهُ مُسلم عَن القعْنبِي وَيَحْيَى بن يَحْيَى عَن مَالك كَذَلِك، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ عَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب قَالَ: سَمِعت مَالِكًا وَسَأَلَهُ عبيد الله بن الرّبيع: أحَدثك دَاوُد عَن أبي سُفْيَان عَن أبي هُرَيْرَة «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رخص فِي بيع الْعَرَايَا فِي خَمْسَة أوسق أَو دون خَمْسَة أوسق» ؟ قَالَ: نعم. وَلم يذكر قَوْله: «شكّ دَاوُد» هُنَا، وَذكرهَا فِي كتاب الشّرْب من «صَحِيحه» .
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن زيد بن ثَابت رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه سَمّى رجَالًا مُحْتَاجين من الْأَنْصَار شكوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن الرطب يَأْتِي وَلَا نقد بِأَيْدِيهِم يبتاعون بِهِ رطبا يَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاس، وَعِنْدهم فضول قوت من ثَمَر فَرخص لَهُم أَن يبتاعوا الْعَرَايَا بِخرْصِهَا من التَّمْر» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي «اخْتِلَاف الحَدِيث» بِغَيْر إِسْنَاد بِنَحْوِهِ فَقَالَ: «والعرايا الَّتِي أرخص رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فِيهَا) فِيمَا ذكر مَحْمُود بن لبيد قَالَ: سَأَلت زيد بن ثَابت فَقلت: مَا عراياكم هَذِه الَّتِي تحلونها؟ فَقَالَ: فلَان وَأَصْحَابه (شكوا) إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن الرطب(6/586)
يحضر وَلَيْسَ عِنْدهم ورق وَلَا ذهب يشْتَرونَ بهَا وَعِنْدهم فضل تمر من قوت سنتهمْ، فأرخص لَهُم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يشتروا الْعَرَايَا بِخرْصِهَا من التَّمْر يأكلونها رطبا» وَذكره الشَّافِعِي فِي «الْأُم» و «الْمُخْتَصر» أَيْضا وَقَالَ: وَقيل لمحمود بن لبيد أَو (قَالَ) مَحْمُود بن لبيد لرجل من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِمَّا زيد بن ثَابت وَإِمَّا غَيره: «مَا عراياكم هَذِه؟ قَالَ: فلَان وَفُلَان وَسَمَّى رجَالًا مُحْتَاجين من الْأَنْصَار شكوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن الرطب يَأْتِي وَلَا نقد بِأَيْدِيهِم يبتاعون بِهِ رطبا يَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاس وَعِنْدهم فضول من قوتهم من التَّمْر فَرخص لَهُم أَن يبتاعوا الْعَرَايَا بِخرْصِهَا من التَّمْر الَّذِي فِي أَيْديهم يأكلونها رطبا» . قَالَ الْمُزنِيّ: وَفِي الْإِمْلَاء «أَن قوما شكوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه لَا نقد عِنْدهم وَلَهُم تمر من فضل قوتهم فأرخص لَهُم فِيهِ» وَكَذَا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَن الشَّافِعِي مُعَلّقا وَلم يذكر لَهُ إِسْنَادًا يتَّصل بِهِ، قَالَ (الشَّافِعِي) وَحَدِيث سُفْيَان - يَعْنِي - السالف يدل عَلَى مثل هَذَا الحَدِيث. وَذكره التِّرْمِذِيّ من غير تعْيين (رَاوِيه) فَقَالَ لما ذكر حَدِيث الْعَرَايَا: وَمَعْنى هَذَا عِنْد أهل الْعلم: أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَرَادَ التَّوسعَة عَلَيْهِم فِي هَذَا؛ لأَنهم شكوا إِلَيْهِ وَقَالُوا: مَا نجد مَا نشتري من التَّمْر إِلَّا بِالتَّمْرِ فَرخص لَهُم فِيمَا دون خَمْسَة أوسق أَن يشتروها فيأكلوها رطبا. وَيحْتَمل أَن يكون مُرَاد التِّرْمِذِيّ بِبَعْض الْعلمَاء الشَّافِعِي. قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لم يُسند الشَّافِعِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ(6/587)
نَقله من السّير.
قلت: وَأَشَارَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم الظَّاهِرِيّ إِلَى تَضْعِيف هَذَا بقوله: إِن الشَّافِعِي ذكر فِيهِ حَدِيثا لَا يدْرِي أحد (منشأه) وَلَا مبدأه وَلَا طَرِيقه، وَذكره أَيْضا بِغَيْر إِسْنَاد، فَبَطل أَن يكون فِيهِ حجَّة - يَعْنِي فِي اخْتِصَاص الْعَرَايَا بالفقراء.
قلت: وَأنكر رِوَايَته عَلَى الشَّافِعِي ابْن دَاوُد الظَّاهِرِيّ ورد عَلَيْهِ ابْن شُرَيْح فِي إِنْكَاره مُقَابل هَذَا قَول الْمُوفق الْحَنْبَلِيّ فِي كافيه لما سَاقه بِهَذِهِ (المساقة) مُتَّفق عَلَيْهِ، وَهُوَ عَجِيب فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَلَا فِي «السّنَن» ، نعم أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث زيد بن ثَابت بِلَفْظ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رخص فِي الْعرية يَأْخُذهَا أهل (الْبَيْت) بِخرْصِهَا تَمرا يأكلونها رطبا» وَفِي لفظ «رخص فِي الْعَرَايَا أَن تبَاع بِخرْصِهَا كَيْلا» .
فَائِدَة: مَحْمُود بن لبيد هَذَا صَحَابِيّ ابْن صَحَابِيّ، وَوَقع فِي «الوافي» فِي شرح الْمُهَذّب فِيهِ شَيْء لايمكن التفوه بِهِ فليحذر وليترك مِنْهُ.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بِوَضْع الجوائح» .(6/588)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث جَابر رَضي اللهُ عَنهُ. وَفِي رِوَايَة للنسائي «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وضع الجوائح» وَاعْتذر الشَّافِعِي عَن هَذَا الحَدِيث بِمَا ذكرته عَنهُ فِي تَخْرِيج أَحَادِيث الْوَسِيط فاطلبه مِنْهُ.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أَن رجلا ابْتَاعَ ثَمَرَة فأذهبتها الْجَائِحَة، فَسَأَلَهُ أَن يضع عَنهُ، فَأَبَى أَن لَا يفعل، فَذكر للنَّبِي (فَقَالَ: تألى أَن لَا يفعل خيرا. فَأخْبر البَائِع بِمَا ذكر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فسمح بِهِ للْمُبْتَاع» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن الشَّافِعِي عَن مَالك عَن أبي الرِّجَال مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن أمه عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن أَنه سَمعهَا تَقول: «ابْتَاعَ رجل ثَمَر حَائِط فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعالجه وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى تبين لَهُ النُّقْصَان، فَسَأَلَ رب الْحَائِط أَن يضع عَنهُ أَو أَن يقيله، فَحلف أَن لَا يفعل، فَذَهَبت أم المُشْتَرِي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَذكرت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) (تألى أَن لَا يفعل خيرا. فَسمع ذَلِكَ رب الْحَائِط فَأَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) فَقَالَ: هُوَ لَهُ» . قَالَ الرّبيع: قَالَ الشَّافِعِي: حَدِيث عمْرَة هَذَا مُرْسل وَأهل الحَدِيث وَنحن لَا نثبت الْمُرْسل، فَلَو ثَبت حَدِيث عمْرَة كَانَت فِيهِ - وَالله أعلم - دلَالَة عَلَى أَن لَا تُوضَع الْجَائِحَة، لقولها: «قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: تألى أَن لَا يفعل خيرا» وَلَو كَانَ الحكم(6/589)
عَلَيْهِ أَن يضع الْجَائِحَة لَكَانَ أشبه أَن يَقُول ذَلِكَ لَازم لَهُ حلف أَو لم يحلف. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد أسْندهُ حَارِثَة بن أبي الرِّجَال، فَرَوَاهُ عَن أَبِيه عَن عمْرَة عَن عَائِشَة إِلَّا أَن حَارِثَة ضَعِيف لَا يحْتَج بِخَبَرِهِ. قَالَ: وأسنده يَحْيَى (بن سعيد) عَن أبي الرِّجَال إِلَّا أَنه مُخْتَصر لَيْسَ (فِيهِ) ذكر الثَّمر. فَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ عَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن قَالَت: سَمِعت عَائِشَة تَقول: «سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَوت خصوم بِالْبَابِ عالية أَصْوَاتهم، وَإِذا أحدهم يستوضع الآخر ويسترفقه فِي شَيْء، وَهُوَ يَقُول: وَالله لَا أفعل. فَخرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَيْهِمَا فَقَالَ: أَيْن المتألي عَلَى الله لَا يفعل الْمَعْرُوف؟ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَنا، فَلهُ أَي ذَلِكَ أحب» رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَرَوَاهُ مُسلم عَن بعض أَصْحَابه عَن إِسْمَاعِيل.(6/590)
بَاب معاملات العبيد
ذكر فِيهِ حَدِيثا وَاحِدًا وَهُوَ:
قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «من بَاعَ عبدا وَله مَال» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ابْتَاعَ عبدا فَمَاله للَّذي بَاعه إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع» وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي كتاب الشّرْب من «صَحِيحه» : «من ابْتَاعَ عبدا وَله مَال ... » الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة للشَّافِعِيّ وَالتِّرْمِذِيّ «من بَاعَ عبدا لَهُ مَال. .» الحَدِيث. ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا: «من بَاعَ عبدا وَله مَال فَمَاله للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع» وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ «من ابْتَاعَ عبدا وَله مَال فَلهُ مَاله وَعَلِيهِ دينه إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع» وَرَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ أَيْضا إِلَّا أَنه قَالَ: «من بَاعَ» بدل «من ابْتَاعَ» ثمَّ قَالَ: إِن صَحَّ هَذَا الحَدِيث فَإِنَّمَا أَرَادَ - وَالله أعلم - العَبْد(6/591)
الْمَأْذُون لَهُ فِي التِّجَارَة إِذا كَانَ فِي يَده مَال وَفِيه دين يتَعَلَّق بِهِ، فالسيد يَأْخُذ مَاله وَيَقْضِي دينه. وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» أَيْضا من حَدِيث ابْن وهب، عَن ابْن لَهِيعَة وَاللَّيْث بن سعد بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن عمر مَرْفُوعا: «من أعتق عبدا وَله مَال فَمَال العَبْد لَهُ إِلَّا أَن يَشْتَرِطه السَّيِّد» قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : وَمن عدَّ ابْن لَهِيعَة من رجال الصَّحِيح؟ ! وَأخرجه ابْن مَاجَه من وَجْهَيْن أَحدهمَا: عَن ابْن لَهِيعَة. وَالثَّانِي: عَن اللَّيْث وَفِيه «إِلَّا أَن يشْتَرط السَّيِّد مَاله فَيكون لَهُ مَال» . وَقَالَ ابْن لَهِيعَة: «إِلَّا أَن يستثنيه السَّيِّد» .(6/592)
بَاب اخْتِلَاف الْمُتَبَايعين
ذكر فِيهِ حَدِيثا وَاحِدًا وَهُوَ:
حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ فَالْقَوْل قَول البَائِع والمبتاع بِالْخِيَارِ» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضي اللهُ عَنهُ: أَحدهَا: عَن عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ: «حضرت أَبَا (عُبَيْدَة) بن عبد الله بن مَسْعُود وَأَتَاهُ رجلَانِ تبَايعا سلْعَة فَقَالَ هَذَا: أخذت بِكَذَا وَكَذَا. وَقَالَ (هَذَا) بِعْت بِكَذَا (وَكَذَا) فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أُتِي (عبد الله) بن مَسْعُود فِي مثل هَذَا فَقَالَ: «حضرت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي مثل هَذَا فَأمر بالبائع أَن يسْتَحْلف، ثمَّ يُخَيّر (الْمُبْتَاع) إِن شَاءَ أَخذ وَإِن شَاءَ ترك» رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سعيد بن سَالم وَالْإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن الشَّافِعِي عَن سعيد بن سَالم عَن ابْن جريج أَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة أخبرهُ عَن(6/593)
عبد الْملك بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنهمَا كَذَلِك، وَهُوَ ضَعِيف لأجل انْقِطَاعه فَإِن أَبَا (عُبَيْدَة) لم يدْرك أَبَاهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي خلافياته: حَدِيث أبي (عُبَيْدَة) هَذَا إِن (كَانَ) سعيد بن سَالم حفظ عبد الْملك بن عُمَيْر فِي إِسْنَاده فَهُوَ جيد لَا بَأْس بِهِ إِلَّا أَنه مُرْسل. أَبُو (عُبَيْدَة) لم يسمع من أَبِيه، وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» قيل لَهُ سَماع أبي (عُبَيْدَة) عَن أَبِيه صَحِيح؟ قَالَ: مُخْتَلف فِيهِ. قَالَ: وَالصَّحِيح عِنْدِي أَنه لم يسمع مِنْهُ، وَلكنه كَانَ صَغِيرا بَين يَدَيْهِ و (خَالفه) الْحَاكِم فَأخْرج هَذِه الطَّرِيقَة فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَفِيه النّظر الْمَذْكُور. وَكَذَا ابْن السكن فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صحاحه» ، ثمَّ اعْلَم أَنه وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عبد الْملك بن عبيد (وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ من غير طَرِيق الشَّافِعِي: أبي عُبَيْدَة. وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد بعد أَن ذكر الحَدِيث من طَرِيق هِشَام عَن ابْن جريج عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر) وَقَالَ أبي: قَالَ حجاج الْأَعْوَر: عبد الْملك(6/594)
بن عُبَيْدَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : هُوَ الصَّوَاب. قَالَ: وَقد رَوَاهُ يَحْيَى بن سليم عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر كَمَا قَالَ سعيد بن سَالم، وَرِوَايَة هِشَام بن يُوسُف وحجاج عَن ابْن جريج أصح. كَذَا قَالَ، وَالَّذِي فِي رِوَايَة حجاج مُخَالف لرِوَايَة هِشَام كَمَا ذكره هُوَ فَإِن رِوَايَة حجاج: عبد الْملك بن عُبَيْدَة كَمَا مر، وَرِوَايَة هِشَام: عبد الْملك بن عُمَيْر وَظَاهر كَلَام البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» أَنه عبد الْملك بن عبيد فَإِنَّهُ قَالَ عبد الْملك بن عبيد عَن بعض ولد عبد الله بن مَسْعُود، رَوَى عَنهُ إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، مُرْسل، وَذكر بعده عبد الْملك بن عُمَيْر الْكُوفِي سمع عبد الله وَرَأَى الْمُغيرَة وَعنهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن عبد الْملك بن عُمَيْر أَيْضا عَن بعض بني عبد الله بن مَسْعُود عَن عبد الله بن مَسْعُود مَرْفُوعا: «إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ وَلَيْسَ بَينهمَا شَاهد - وَفِي لفظ بَيِّنَة - اسْتحْلف البَائِع، ثمَّ كَانَ الْمُبْتَاع بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذ وَإِن شَاءَ ترك» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث يَحْيَى بن سليم عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن عبد الْملك بِهِ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث سعيد بن مسلمة عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن عبد الْملك (بن) عُبَيْدَة عَن ابْن لعبد الله بن مَسْعُود عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا «إِذا اخْتلف (البيعان) وَلَا شَهَادَة بَينهمَا اسْتحْلف البَائِع ... » إِلَى آخِره،(6/595)
وَبَعض بني عبد الله لَا يدْرِي من هُوَ.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن عون بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «إِذا اخْتلف البيعان. .» الحَدِيث بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» فَقَالَ: أبنا سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَن عون فَذكره، وَذكره فِي «الْأُم» «بِغَيْر إِسْنَاد وَقَالَ: هَذَا حَدِيث مَقْطُوع عَن ابْن مَسْعُود. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَن عونًا لم يدْرك ابْن مَسْعُود كَمَا قَالَه التِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» كَذَلِك.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: «إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ اسْتحْلف البَائِع و (كَانَ) الْمُبْتَاع بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذ وَإِن شَاءَ ترك» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن الْقَاسِم بِهِ، وَفِي رِوَايَة لَهُ «إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ فِي البيع، والسلعة كَمَا هِيَ لم تستهلك، فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع، أَو يترادان البيع» وَهَذَا ضَعِيف، إِسْمَاعِيل فِيهِ مقَال لاسيما إِذا رَوَى عَن أهل الْحجاز، وَابْن أبي لَيْلَى قد عرفت حَاله فِي (ضَبطه وَأَنه بِسَبَبِهِ) . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَمَعْنى الحَدِيث أَن الْمُبْتَاع بِالْخِيَارِ بَين إِمْسَاكه بِمَا حلف عَلَيْهِ البَائِع وَبَين أَن يحلف عَلَى مَا يَقُوله انْتَهَى. وَقد عرفت فِي هَذِه الطّرق تَفْسِير الْخِيَار بِالْأَخْذِ أَو(6/596)
بِالتّرْكِ، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فِي هَذَا الحَدِيث: «إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ تحَالفا» . قلت: هَذِه رِوَايَة غَرِيبَة عَلَى هَذَا النمط لم أرها كَذَلِك فِي شَيْء من كتب الحَدِيث، ثمَّ قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ تحَالفا (و) ترادا» .
قلت: وَهَذِه رِوَايَة غَرِيبَة أَيْضا لم أَجدهَا فِي شَيْء من كتب الحَدِيث بعد الْبَحْث التَّام، والرافعي تبع فِيهَا الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ أوردهَا كَذَلِك فِي «وسيطه» ، وَالْغَزالِيّ تبع إِمَامه فَإِنَّهُ اسْتدلَّ بهَا فِي «أساليبه» وَأفَاد الرَّافِعِيّ فِي كِتَابه «التذنيب» أَن هَذِه الرِّوَايَة لَا ذكر لَهَا فِي كتب الحَدِيث، وَإِنَّمَا تُوجد فِي كتب الْفِقْه، وَالْعجب مِنْهُ أَنه يسْتَدلّ بهَا فِي «شرحيه» مَعَ قَوْله هَذَا الْكَلَام. نعم (التراد) بِدُونِ التَّحْلِيف ورد فِي هَذَا الحَدِيث من طرق إِحْدَاهَا: عَن ابْن مَسْعُود أَنه كَانَ يحدث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «أَيّمَا بيعين تبَايعا فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع أَو يترادان» رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» أَنه بلغه عَن ابْن مَسْعُود ... فَذكره، وَهَذَا ضَعِيف لانقطاعه.
ثَانِيهَا: عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: «إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ وَلَيْسَ بَينهمَا بَيِّنَة، فَالْقَوْل مَا يَقُول صَاحب السّلْعَة أَو يترادان» رَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد فِي مُسْند أَبِيه، وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا بِلَفْظ: «إِذا اخْتلف البيعان والسلعة كَمَا هِيَ. فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع أَو يترادان» وَهُوَ ضَعِيف أَيْضا لانقطاعه، فَإِن الْقَاسِم لم يدْرك جده عبد الله(6/597)
بن مَسْعُود، قَالَه الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» ، وَعبارَة ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : لم يسمع مِنْهُ، وَذكره التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» أَيْضا وَقَالَ: إِنَّه مُرْسل. وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» .
ثَالِثهَا: عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود مَرْفُوعا: «البيعان إِذا اخْتلفَا فِي البيع ترادا» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن مُحَمَّد بن هِشَام الْمُسْتَمْلِي، ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن صَالح، ثَنَا فُضَيْل بن عِيَاض، ثَنَا مَنْصُور، عَن عَلْقَمَة ... فَذكره، وَهَذَا الطَّرِيق عِنْدِي أَقْوَى طرقه، وَلم يظفروا بهَا ومِن فُضَيْل بن عِيَاض إِلَى ابْن مَسْعُود أَئِمَّة أَعْلَام سمع بَعضهم من بعض خُصُوصا عَلْقَمَة، فَإِنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآن عَلَى ابْن مَسْعُود، لَكِن عبد الرَّحْمَن بن صَالح نسب إِلَى الرَّفْض، وَوضع مثالب الصَّحَابَة، وَهُوَ كُوفِي عتكي، أخرج لَهُ النَّسَائِيّ فِي خَصَائِص عَلّي وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: ثِقَة شيعي؛ لِأَن يَخِرَّ من السَّمَاء أحب إِلَيْهِ من أَن يكذب فِي نصف حرف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق. وَقَالَ مُوسَى بن هَارُون مرّة: ثِقَة، وَكَانَ يحدث بمثالب أَزوَاج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَصْحَابه (وَقَالَ صَالح جزرة:) صَالح إِلَّا أَنه يقْرض عُثْمَان. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: سمعته يَقُول: أفضل - أَو خير - هَذِه الْأمة (بعد نبيها أَبُو) بكر وَعمر.(6/598)
رَابِعهَا: من حَدِيث الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه قَالَ: «بَاعَ عبد الله بن مَسْعُود سبيًا من سبي الْإِمَارَة بِعشْرين ألفا - يَعْنِي من الْأَشْعَث بن قيس - فجَاء بِعشْرَة آلَاف، فَقَالَ: أَنا بِعْتُك بِعشْرين ألفا قَالَ: إِنَّمَا أخذتهم بِعشْرَة آلَاف، وَإِنِّي أَرْضَى فِي ذَلِكَ بِرَأْيِك. قَالَ ابْن مَسْعُود: إِن شِئْت (حدثتك) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ: أجل. قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -:) إِذا تبَايع الْمُتَبَايعَانِ بيعا لَيْسَ بَينهمَا شُهُود فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع أَو يترادان البيع. قَالَ الْأَشْعَث: فَرددت عَلَيْك» .
رَوَاهُ (الطَّبَرَانِيّ) فِي «سنَنه» عَن أبي مُحَمَّد بن صاعد إملاءً وَغَيره قَالُوا: ثَنَا مُحَمَّد بن مُسلم بن وارة حَدَّثَني مُحَمَّد بن سعيد بن سَابق ثَنَا عَمْرو بن أبي قيس عَن عمر بن قيس عَن الْقَاسِم بِهِ، وَهَذَا إِسْنَاد جيد أَيْضا رِجَاله كلهم ثِقَات، وَابْن صاعد وَابْن وارة حَافِظَانِ. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى: «إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ (والسلعة قَائِمَة) وَلَا بَيِّنَة لأَحَدهمَا تحَالفا» وَهَذِه الرِّوَايَة وَردت من طرق: إِحْدَاهَا: من طَرِيق الْقَاسِم عَن ابْن مَسْعُود وَقد سلفت قَرِيبا.
ثَانِيهَا: من طَرِيق الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: «إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ فِي البيع والسلعة قَائِمَة كَمَا هِيَ لم تستهلك فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع أَو يترادان البيع» رَوَاهَا (الطَّبَرَانِيّ) فِي «سنَنه» وَهِي ضَعِيفَة(6/599)
أَيْضا؛ لِأَن فِي إسنادها مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ وَإِن كَانَ فِي الْفِقْه كَبِيرا فَهُوَ ضَعِيف فِي الرِّوَايَة لسوء حفظه وَكَثْرَة خطئه فِي الْأَسَانِيد والمتون، ومخالفته الْحفاظ فِيهَا، وَالله يغْفر لنا وَله.
ثَالِثهَا: من طَرِيق الْقَاسِم أَيْضا عَن أَبِيه قَالَ: «بَاعَ عبد الله بن مَسْعُود من الْأَشْعَث رَقِيقا من رَقِيق الْإِمَارَة فاختلفا فِي الثّمن، فَقَالَ عبد الله: بِعْتُك بِعشْرين ألفا، وَقَالَ الْأَشْعَث: اشْتريت مِنْك بِعشْرَة آلَاف. فَقَالَ عبد الله: إِن شِئْت (حدثتك) بِحَدِيث سمعته من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ: هَات. قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) يَقُول: «إِذا اخْتلف البيعان وَالْمَبِيع قَائِم بِعَيْنِه وَلَيْسَ بَينهمَا بَيِّنَة فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع أَو (يترادان) البيع. قَالَ الْأَشْعَث: أرَى أَن ترد البيع» رَوَاهُ (الطَّبَرَانِيّ) فِي «سنَنه» كَذَلِك، والدارمي فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «البيعان إِذا اخْتلفَا وَالْمَبِيع قَائِم بِعَيْنِه وَلَيْسَ بَينهمَا بَيِّنَة فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع، أَو يترادان البيع» .
وَرَوَاهَا أَبُو دَاوُد من حَدِيث هشيم عَن ابْن أبي لَيْلَى عَن الْقَاسِم عَن أَبِيه «أَن ابْن مَسْعُود بَاعَ من الْأَشْعَث بن قيس رَقِيقا. .» فَذكر مَعْنَى حَدِيث مُحَمَّد بن الْأَشْعَث الْآتِي قَرِيبا، وَالْكَلَام يزِيد وَينْقص وَهِي(6/600)
ضَعِيفَة أَيْضا لأجل ابْن أبي لَيْلَى، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: خَالف الْجَمَاعَة فِي رِوَايَة هَذَا حَيْثُ قَالَ: «عَن أَبِيه» ، وَفِي مَتنه حَيْثُ زَاد فِيهِ: «وَالْمَبِيع قَائِم بِعَيْنِه» . وَهُوَ كَمَا قَالَ حَتَّى عدوا هَذِه الزِّيَادَة من غلطاته، وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: إِنَّه لَا أصل لَهَا.
رَابِعهَا: من طَرِيق الْقَاسِم أَيْضا عَن أَبِيه عَن عبد الله مَرْفُوعا: «إِذا اخْتلف البيعان فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع، فَإِذا اسْتهْلك فَالْقَوْل مَا قَالَ المُشْتَرِي» رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا وَهِي ضَعِيفَة لِأَن فِي (إسنادها) الْحسن بن عمَارَة رِوَايَة عَن الْقَاسِم وَهُوَ أحد الهلكى قَالَ (زَكَرِيَّا) السَّاجِي: أَجمعُوا عَلَى ترك حَدِيثه، نعم لم يتفرد بِهِ بل تَابعه (معن) بن عبد الرَّحْمَن. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث سُفْيَان عَن (معن) عَن الْقَاسِم وَلَفظه: «إِذا اخْتلف (الْمُتَبَايعَانِ) والسلعة قَائِمَة بِعَينهَا فَالْقَوْل قَول البَائِع أَو يترادان» وَهَذِه طَريقَة خَامِسَة جَيِّدَة لكنه اخْتلف عَلَيْهِ فِيهَا كَمَا ستعلمه من كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ.(6/601)
سادسها: من طَرِيق أبي وَائِل عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: «إِذا اخْتلف البيعان وَالْمَبِيع مستهلك فَالْقَوْل قَول البَائِع» . وَرفع الحَدِيث إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي إِسْنَاده عبد الله بن عصيم وَهُوَ ضَعِيف وَقد أعله عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِهِ، وَتفرد شريك بِتَسْمِيَة أَبِيه عصمَة وَالصَّوَاب عصيم (وَفِي بعض الرِّوَايَات الْمُنكرَة الَّتِي لَا أصل لَهَا: «والسلعة قَائِمَة أَو هالكة» وَأما قَول الْغَزالِيّ فِي كتاب «المأخذ» : أجمع أهل الحَدِيث عَلَى صِحَّتهَا فَهُوَ من الْعجب العجاب) . فَهَذَا مَا حَضَرنَا من طرق هَذَا الحَدِيث وَاخْتِلَاف أَلْفَاظه، وَبَقِي لَهُ طرق أخر وَهُوَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَابْن عدي من حَدِيث سعيد بن الْمَرْزُبَان عَن الشّعبِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ، وَهُوَ ضَعِيف أَيْضا لأجل سعيد هَذَا وَهُوَ كُوفِي أَعور مُنكر الحَدِيث كَمَا قَالَه أَحْمد وَالْبُخَارِيّ، وَخَالف أَبُو أُسَامَة فَقَالَ: كَانَ ثِقَة، فَقَالَ: لَا جرم أعله ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» فَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَأعله فِي «تَحْقِيقه» بِوَجْه آخر فَقَالَ: عبد الرَّحْمَن لم يسمع من أَبِيه فَهُوَ مُرْسل وَضَعِيف. وَتبع فِي هَذِه الْمقَالة ابْن معِين فِي أحد قوليه، لَكِن قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ وَالثَّوْري وَشريك وَالْبُخَارِيّ وَالْأَكْثَرُونَ الْمُحَقِّقُونَ:(6/602)
إِنَّه سمع مِنْهُ. وَقَالَ الْعجلِيّ: لم يسمع من أَبِيه إِلَّا حرفا وَاحِدًا «محرم الْحَلَال (كمستحل) الْحَرَام» . وَجزم ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» بِسَمَاعِهِ مِنْهُ، وَجزم فِي أَخِيه أبي عُبَيْدَة بِأَنَّهُ لم يسمع من أَبِيه. قلت: لكنه أدْرك أَبَاهُ وَكَانَ أكبر من أَخِيه إِذْ ذَاك. قَالَ يَحْيَى الْقطَّان: مَاتَ ابْن مَسْعُود ولعَبْد الرَّحْمَن سِتّ سِنِين. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: مَاتَ ابْن مَسْعُود ولابنه أبي عُبَيْدَة سبع سِنِين. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : وَفِي إِسْنَاد هَذِه الطَّرِيق إِبْرَاهِيم بن مجشر بن معدان الْبَغْدَادِيّ، قَالَ ابْن عدي: لَهُ أَحَادِيث مَنَاكِير من جِهَة الْأَسَانِيد. رفع حَدِيثا لَا أعلم رَفعه غَيره «الرَّهْن محلوب ومركوب» قلت: قد توبع عَلَيْهِ كَمَا ستعلمه فِي بَابه. قلت: وَقد بَقِي للْحَدِيث طَرِيق آخر وَهُوَ أَقْوَى طرقه، وَأَقْوَى من الطَّرِيق الَّتِي قدمناها أَيْضا رَوَاهَا عبد الرَّحْمَن بن قيس بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث بن قيس عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: قَالَ عبد الله بن مَسْعُود قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا اخْتلف البيعان وَلَيْسَ بَينهمَا بَيِّنَة فَهُوَ مَا يَقُول رب السّلْعَة أَو يتتاركا» أخرجه الْأَئِمَّة أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي سُنَنهمْ. وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَنقل مقَالَة الْحَاكِم هَذِه الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» ، وَأقرهُ(6/603)
عَلَيْهَا وَقَالَ فِي «سنَنه» : إسنادها حسن مَوْصُول، قَالَ: وَقد رُوِيَ من أوجه (بأسانيد) مَرَاسِيل إِذا جمع بَينهمَا صَار الحَدِيث بذلك قويًّا. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» : إِنَّه أصح إِسْنَاد رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: فِيهِ انْقِطَاع، قَالَ: وَهُوَ حَدِيث مَحْفُوظ عَن ابْن مَسْعُود مَشْهُور الأَصْل عِنْد جمَاعَة الْعلمَاء تلقوهُ بِالْقبُولِ فبنوا عَلَيْهِ كثيرا من فروعه، قد اشْتهر عَنْهُم بالحجاز وَالْعراق شهرة يُسْتَغْنَى بهَا عَن الْإِسْنَاد كَمَا اشْتهر حَدِيث «لَا وَصِيَّة لوَارث» . وَخَالف أَبُو مُحَمَّد بن حزم فأعله بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: بالانقطاع كَمَا رَمَاه بِهِ ابْن عبد الْبر، وَتَابعه عَلَيْهِ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» فَقَالَ: مُحَمَّد هَذَا لم يسمع من ابْن مَسْعُود. ثَانِيهمَا: بِأَن فِي إِسْنَاده مَجْهُولَانِ وهما عبد الرَّحْمَن بن قيس وَأَبوهُ، قَالَ: مَجْهُول بن مَجْهُول. قَالَ: وَعبد الرَّحْمَن ظَالِم من ظلمَة الْحجَّاج لَا حجَّة لَهُ فِي رِوَايَته، وَتَبعهُ عَلَى تجهيلهما ابْن الْقطَّان وَزَاد: أَن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث جدهما مَجْهُول أَيْضا. قَالَ (إِلَّا) أَنه أشهرهم، رَوَى عَنهُ جماعات وعددهم. وَأَقُول: أما كَونه لم يسمع مِنْهُ فَهَذِهِ دَعْوَى، فَإِن إِدْرَاكه لَهُ مُمكن قطعا؛ لِأَن عبد الله بن مَسْعُود توفّي بعد الثَّلَاثِينَ إِمَّا سنة اثْنَيْنِ كَمَا قَالَه أَبُو نعيم وَغير وَاحِد، وَإِمَّا سنة ثَلَاث كَمَا قَالَه ابْن بكير وَغَيره، وَمُحَمّد بن الْأَشْعَث قَتله الْمُخْتَار بعد السِّتين سنة سِتّ أَو سبع كَمَا قَالَه(6/604)
خَليفَة فَليخْرجْ عَلَى المذهبين مشهورين فِي ذَلِكَ، وَأما جَهَالَة عبد الرَّحْمَن بن قيس فَهُوَ كَمَا (ادَّعَاهَا) فَإنَّا لَا نعلم لَهُ رَاوِيا غير أبي (العميس) وَهُوَ مَسْتُور لَا نعلم من وَثَّقَهُ وَلَا من جرحه، وَأما وَالِده فحاشاه من الْجَهَالَة فقد رَوَى عَنهُ ابناه عبد الرَّحْمَن وَعُثْمَان، وَأَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ، وَرَوَى عَن جده، وَعَن عدي بن حَاتِم، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَأما جده مُحَمَّد فَهُوَ تَابِعِيّ رَوَى عَن عمر وَعُثْمَان وَابْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَرَوَى عَنهُ الشّعبِيّ وَجَمَاعَة، وَأمه أم فَرْوَة أُخْت الصّديق، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَتَصْحِيح الْحَاكِم وتحسين الْبَيْهَقِيّ لَهُ (رَافِعَة لجَهَالَة) عبد الرَّحْمَن السالف فَإِنَّهُ لَا يحل الْإِقْدَام عَلَى التَّصْحِيح والتحسين بِدُونِ ذَلِكَ، وَأعله ابْن حزم أَيْضا بِوَجْه ثَالِث فَقَالَ: رَوَاهُ عَن عبد الرَّحْمَن أَبُو عُمَيْس وَلم يسمع أَبُو عُمَيْس مِنْهُ لتأخر سنه عَن لِقَائِه. قلت: قد صرح بِالسَّمَاعِ مِنْهُ فِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» فَفِيهِ عَن أبي عُمَيْس أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن. وَبِالْجُمْلَةِ وكل طرق هَذَا الحَدِيث لَا تَخْلُو من عِلّة، وَلَقَد أحسن إمامنا الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ عَلَى مَا نَقله الْبَيْهَقِيّ عَن الزَّعْفَرَان عَنهُ: حَدِيث ابْن مَسْعُود وَهَذَا مُنْقَطع لَا أعلم أحدا وَصله عَنهُ.(6/605)
قلت: لَكِن قد وَصله عَلْقَمَة عَنهُ كَمَا قدمْنَاهُ، وَهُوَ من الْفَوَائِد الَّتِي رَحل إِلَيْهَا وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ فِي «علله» بعد أَن ذكره (السَّائِل) من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «إِذا اخْتلف البيعان وَلَيْسَ بَينهمَا بَيِّنَة فَالْقَوْل قَول البَائِع أَو (يترادان) » . هَذَا حَدِيث يرويهِ الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن، وَاخْتلف عَنهُ فَرَوَاهُ عمر بن قيس عَنهُ عَن أَبِيه عَن جده، وَرَوَاهُ (معن) بن عبد الرَّحْمَن عَن الْقَاسِم وَاخْتلف عَنهُ فَرَوَاهُ أَبُو حُذَيْفَة عَن الثَّوْريّ عَن (معن) عَن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن جده. وَخَالفهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَأَبُو دَاوُد الْحَضْرَمِيّ وَغَيرهمَا فَرَوَوْه عَن الثَّوْريّ عَن (معن) عَن الْقَاسِم مُرْسلا عَن ابْن مَسْعُود، وَرَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن الْقَاسِم (بِهِ) وَرَوَاهُ ابْن أبي لَيْلَى عَن الْقَاسِم وَاخْتلف (عَنهُ) فَرَوَاهُ مُوسَى بن عقبَة عَنهُ عَن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن جده وَزَاد فِيهِ لَفْظَة لم يَأْتِ بهَا غَيره قَالَ: «والسلعة قَائِمَة كَمَا هِيَ» وَخَالف هشيم فَرَوَاهُ عَن ابْن أبي لَيْلَى عَن الْقَاسِم عَن ابْن مَسْعُود مُرْسلا، قَالَ ذَلِكَ أَحْمد بن حَنْبَل وَسَعِيد بن مَنْصُور عَن هشيم. وَقيل: عَن هشيم عَن ابْن أبي لَيْلَى عَن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن جده، وَرَوَاهُ أبان بن تغلب وَعبد الرَّحْمَن المَسْعُودِيّ عَن الْقَاسِم عَن ابْن مَسْعُود(6/606)
مُرْسلا قَالَ: وَالْمَحْفُوظ (هُوَ) الْمُرْسل. تَنْبِيه: عزى الرَّافِعِيّ فِي تذنيبه طَرِيق «أَو يتتاركا» الْأَخِيرَة إِلَى أبي دَاوُد فَقَالَ: رَوَاهَا مطرف عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا وَهَذَا لَيْسَ فِي أبي دَاوُد وَالَّذِي فِيهِ رِوَايَته لَهُ عَن حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن قيس عَن أَبِيه عَن جده. وَمن حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى عَن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن جده كَمَا سلف أَيْضا فَتنبه لذَلِك.(6/607)
كتاب السّلم(6/609)
كتاب السَّلم
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا أما الْأَحَادِيث فَثَلَاثَة:
أَحدهَا
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قدم الْمَدِينَة وهم يسلفون فِي التَّمْر السّنة والسنتين - وَرُبمَا قَالَ: وَالثَّلَاث - فَقَالَ: من أسلف فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» عَن سُفْيَان عَن (ابْن) أبي نجيح (عَن عبد الله) قَالَ الْمُزنِيّ: أَحْسبهُ ابْن كثير عَن أبي الْمنْهَال عَن ابْن عَبَّاس عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... فَذكره سَوَاء، إِلَّا أَنه قَالَ: «السّنة وَرُبمَا قَالَ السنتين وَالثَّلَاث» وَقَالَ: «وَأجل مَعْلُوم» وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» بِهَذَا السَّنَد وَقَالَ «عَن عبد الله بن كثير» ، وَقَالَ: «السّنة والسنتين وَرُبمَا قَالَ: والسنتين، وَالثَّلَاث» وَالْبَاقِي بِمثلِهِ، ثمَّ قَالَ: حفظته كَمَا وَصفته من سُفْيَان مرَارًا. قَالَ: وَأَخْبرنِي من أصدقه عَن سُفْيَان أَنه قَالَ كَمَا قلت، وَقَالَ فِي الْأَجَل «إِلَى أجل مَعْلُوم» وَأخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث سُفْيَان و (قَالَا) فِي الحَدِيث: «إِلَى(6/611)
أجل مَعْلُوم» وَأَخْرَجَاهُ من غير هَذَا الْوَجْه أَيْضا كَمَا ذكرته فِي «تخريجي لأحاديث الْوَسِيط» .
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اشْتَرَى من يَهُودِيّ إِلَى ميسرَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث عَمْرو بن عَلّي وَهُوَ الفلاس، ثَنَا يزِيد بن زُرَيْع، ثَنَا عمَارَة بن أبي حَفْصَة، ثَنَا عِكْرِمَة، عَن عَائِشَة قَالَت: «كَانَ عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَوْبَان قطريان غليظان فَكَانَ إِذا قعد فعرق ثقلا عَلَيْهِ، فَقدم بز من الشَّام لفُلَان الْيَهُودِيّ فَقلت (لَو) بعثت إِلَيْهِ فاشتريت (مِنْهُ) ثَوْبَيْنِ إِلَى الميسرة فَأرْسل إِلَيْهِ فَقَالَ: قد علمت مَا يُرِيد (إِنَّمَا يُرِيد) أَن يذهب بِمَالي أَو بدراهمي. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: كذب عليَّ قد علم أَنِّي من أَتْقَاهُم وأدَّاهم للأمانة» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حسن صَحِيح غَرِيب. قَالَ: وَقد رَوَاهُ شُعْبَة أَيْضا عَن عمَارَة بن أبي حَفْصَة. قَالَ: وَسمعت مُحَمَّد بن فَارس الْبَصْرِيّ يَقُول: سَمِعت أَبَا دَاوُد الطَّيَالِسِيّ يَقُول: سُئِلَ شُعْبَة يَوْمًا عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: لست أحدثكُم حَتَّى تقوموا إِلَى حرمي بن عمَارَة بن أبي حَفْصَة(6/612)
لتقبلوا رَأسه. قَالَ: وحرمي فِي الْقَوْم، قَالُوا أَبُو عِيسَى: أيْ إعجابًا بِهَذَا الحَدِيث. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث يزِيد بن زُرَيْع أَيْضا، عَن عمَارَة بن أبي حَفْصَة، عَن عِكْرِمَة، عَن عَائِشَة [قَالَت] : «كَانَ عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[بردَان قطريان غليظان خشنان] ، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِن ثوبيك [خشنان غليظان] وَإنَّك ترشح فيهمَا فيثقلان عَلَيْك، وَإِن (فلَانا) قدم لَهُ بزٌ من الشَّام (فَلَو بقيت) إِلَيْهِ فَأخذت مِنْهُ ثَوْبَيْنِ (بنسيئة) إِلَى ميسرَة، فَأرْسل إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: قد علمت مَا يُرِيد [مُحَمَّد] يُرِيد أَن يذهب (بثوبي) ويمطلني بهما. فَأَتَى الرَّسُول إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخْبرهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قد كذب. قد علمُوا أَنِّي أَتْقَاهُم لله وأدَّاهم للأمانة» ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن شُعْبَة، عَن عمَارَة مُخْتَصرا. ثمَّ سَاقه إِلَى عمَارَة، عَن عِكْرِمَة، عَن عَائِشَة قَالَت: «قلت: يَا رَسُول الله، ثوباك غليظان (فَلَو) نزعتهما (وَبعثت) إِلَى فلَان(6/613)
التَّاجِر فَأرْسل (إِلَيْك) ثَوْبَيْنِ إِلَى الميسرة، قَالَت: فَأرْسل إِلَيْهِ: ابْعَثْ لي ثَوْبَيْنِ إِلَى الميسرة. فَأَبَى» وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي دَاوُد عَن شُعْبَة، عَن عمَارَة بن أبي حَفْصَة، عَن عِكْرِمَة، قَالَ: قَالَت عَائِشَة: «قدم تَاجر بمتاع، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِذا ألقيت هذَيْن الثَّوْبَيْنِ الغليظين عَنْك وَأرْسلت إِلَى فلَان التَّاجِر فباعك ثَوْبَيْنِ إِلَى الميسرة. فَبعث النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَن أرسل إليَّ ثَوْبَيْنِ إِلَى الميسرة. فَقَالَ: إِن مُحَمَّدًا يُرِيد أَن يذهب بِمَالي. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: وَالله لقد علمُوا أَنِّي أدّاهم للأمانة وأخشاهم لله» وَنَحْو هَذَا. قَالَ: هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنه استدعى البيع إِلَى الميسرة لَا أَنه عقد إِلَيْهَا بيعا ثمَّ لَو أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ [أشبه] أَن يُوَقت وقتا مَعْلُوما أَو يعْقد البيع مُطلقًا ثمَّ يَقْضِيه مَتى أيسر. وَحَكَى ابْن الصّباغ فِي «شامله» عَن ابْن الْمُنْذر أَنه قَالَ: رَوَاهُ حرمي عَن شُعْبَة. قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: حرمي فِيهِ غَفلَة إِلَّا أَنه صَدُوق. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلم يُتَابع عَلَيْهِ فَأَخَاف أَن يكون من غفلاته. قلت: رِوَايَة حرمي لَهُ لم نرها فِي الحَدِيث وَإِنَّمَا وَقع ذكره فِي كَلَام التِّرْمِذِيّ فِي الْحِكَايَة السالفة، وَإِنَّمَا رَوَاهُ وَالِده كَمَا أسلفناه فَتنبه لذَلِك، وَلِلْحَدِيثِ طَرِيق آخر من حَدِيث أنس رَضي اللهُ عَنهُ شَاهد لحَدِيث عَائِشَة لَكِن فِيهِ أَنه نَصْرَانِيّ لَا يَهُودِيّ، قَالَ أَحْمد فِي «مُسْنده» ثَنَا مُحَمَّد بن يزِيد، ثَنَا أَبُو سَلمَة - صَاحب الطَّعَام - قَالَ: أَخْبرنِي جَابر بن يزِيد - وَلَيْسَ بالجعفي - عَن الرّبيع بن أنس، عَن أنس قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى حليق النَّصْرَانِي (يبْعَث) إِلَيْهِ بأثواب(6/614)
إِلَى الميسرة، فَأَتَيْته فَقلت: بَعَثَنِي إِلَيْك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لتبعث إِلَيْهِ أثوابًا إِلَى الميسرة فَقَالَ: وَمَا الميسرة؟ وَمَتى الميسرة؟ وَالله مَا لمُحَمد ثاغية وَلَا راغية. فَرَجَعت فَأتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَلَمَّا رَآنِي (قَالَ) : كذب عَدو الله، أَنا خير من بَايع، لِأَن يلبس أحدكُم ثوبا من رقاع شَتَّى خير لَهُ من أَن يَأْخُذ بأمانته - أَو فِي أَمَانَته - مَا لَيْسَ عَنهُ» .
ثاغية من أصوات الشَّاء، وراغية من أصوات الْإِبِل، قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» سَأَلت أبي عَن حَدِيث نصر بن عَلّي عَن سُلَيْمَان (بن سليم) عَن جَابر بن يزِيد عَن سُفْيَان الزيات عَن الرّبيع بن أنس عَن أنس «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استسلف من رجل من الْيَهُود شَيْئا إِلَى الميسرة، فَقَالَ الْيَهُودِيّ: وَهل لمُحَمد من ميسرَة؟ فَأتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَخْبَرته فَقَالَ: كذب الْيَهُودِيّ ... .» ثمَّ سَاق بَاقِي الحَدِيث، فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَسليمَان وسُفْيَان مَجْهُولَانِ.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضي اللهُ عَنهما قَالَ: «أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أَشْتَرِي لَهُ بَعِيرًا ببعيرين إِلَى أجل» .
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي بَاب الرِّبَا. بِهِ انْتَهَى الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فَأَرْبَعَة:(6/615)
أَحدهَا: عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما أَنه قَالَ «فِي قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمَّى: أَنه السّلم» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد الصَّحِيح من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة، عَن أبي حسان الْأَعْرَج، عَنهُ أَنه قَالَ: «أشهد أَن السّلف الْمَضْمُون إِلَى أجل مُسَمَّى أَن الله - عَزَّ وجَلَّ - أحله، وَأذن فِيهِ، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمَّى، وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث أبي [حَيَّان] عَن رجل، عَنهُ قَالَ: «فِي هَذِه الْآيَة (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم) قَالَ: فِي الْحِنْطَة فِي كيلٍ مَعْلُوم» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ «أَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ عَن (السّلف) فَقَالَ: أشهد أَن الله أحله وَأنزل فِيهِ أطول (آيَة فِي) كتاب الله (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم) الْآيَة.
الْأَثر الثَّانِي: عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما «أَنه اشْتَرَى رَاحِلَة بأَرْبعَة(6/616)
أَبْعِرَة (يوفيها) صَاحبهَا بالربذة» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِغَيْر إِسْنَاد، فَقَالَ: «فَاشْتَرَى ابْن عمر رَاحِلَة بأَرْبعَة أَبْعِرَة مَضْمُونَة عَلَيْهِ، يوفيها صَاحبهَا بالربذة» . وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه اشْتَرَى رَاحِلَة بأَرْبعَة أَبْعِرَة ... » فَذكره.
قلت: وَقد جَاءَ عَن ابْن عمر خلاف هَذَا، قَالَ عبد الرَّزَّاق: أبنا معمر، عَن (ابْن) طَاوس، عَن أَبِيه أَخْبرنِي «أَنه سَأَلَ ابْن عمر عَن بعير ببعيرين نظرة، فَقَالَ: لَا. وَكره» . وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: ثَنَا ابْن أبي زَائِدَة، عَن ابْن عون، عَن ابْن سِيرِين» قلت لِابْنِ عمر: الْبَعِير بالبعيرين إِلَى أجل. فكرهه» .
فَائِدَة: الرَّاحِلَة النجيب: الْبَعِير، والربذة - بِفَتْح الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة ثمَّ ذال مُعْجمَة - مَوضِع عَلَى ثَلَاث مراحل من الْمَدِينَة، وَقد أَطَالَ الْبكْرِيّ فِي تَعْرِيفهَا.
الْأَثر الثَّالِث: عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه بَاعَ بَعِيرًا بِعشْرين بعير إِلَى أجل» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن(6/617)
صَالح بن كيسَان، عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن عَلّي، عَن عَلّي بن أبي طَالب «أَنه (بَاعَ) جملا لَهُ يُدعَى [عصيفيرًا] بِعشْرين بَعِيرًا إِلَى أجل» . وَالْحسن هَذَا لم يلق جده عليًّا لَا جرم، قَالَ ابْن الْأَثِير: هَذَا مُرْسل؛ لِأَن الْحسن لم يلق جده عليًّا. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : فِي إِسْنَاده انْقِطَاع بَين حسن وَعلي فَلم يُدْرِكهُ.
قلت: وَقد جَاءَ [عَن] عَلي خلاف ذَلِكَ، قَالَ عبد الرَّزَّاق فِي «مُصَنفه» : أَخْبرنِي عبد الله بن أبي بكر، عَن ابْن [أبي] قسيط، عَن ابْن الْمسيب، عَن عَلّي «أَنه كره بَعِيرًا ببعيرين نَسِيئَة» . وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: ثَنَا وَكِيع، ثَنَا ابْن أبي ذِئْب، عَن يزِيد بن عبد الله بن قسيط، عَن أبي الْحسن البراد، عَن عَلّي (قَالَ) : «لَا يصلح الْحَيَوَان [بالحيوانين] ، وَلَا الشَّاة بالشاتين، إِلَّا يدا بيد» .
الْأَثر الرَّابِع: «أَن أنسا رَضي اللهُ عَنهُ كَاتب عبدا لَهُ عَلَى مَال، فجَاء العَبْد بِالْمَالِ، فَلم يقبله أنس، فَأَتَى العَبْد عمر فَأَخذه مِنْهُ وَوَضعه فِي بَيت المَال» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، فَقَالَ: «أخبرنَا أَن أنس(6/618)
بن مَالك كَاتب غُلَاما (لَهُ) عَلَى نُجُوم إِلَى أجل، فَأَرَادَ الْمكَاتب تَعْجِيلهَا ليعتق، فَامْتنعَ أنس من قبُولهَا، وَقَالَ: لَا آخذها إِلَّا عِنْد محلهَا. فَأَتَى الْمكَاتب عمر بن الْخطاب فَذكر ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عمر: إِن أنسا يُرِيد الْمِيرَاث» . فَكَانَ فِي الحَدِيث «فَأمره عمر بأخذها مِنْهُ وَأعْتقهُ» . وَكَذَا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَن الرّبيع عَنهُ، وَرَوَاهُ فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث أنس بن سِيرِين عَن أَبِيه قَالَ: «كاتبني أنس بن مَالك عَلَى عشْرين ألف دِرْهَم فَكنت فِيمَن فتح تستر فاشتريت رثَّة فربحت فِيهَا، فَأتيت أنس بن مَالك بكتابته فَأَبَى أَن يقبلهَا مني (إِلَّا نجومًا كاتبت عمر بن الْخطاب فَذكرت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَرَادَ أنس الْمِيرَاث) وَكتب إِلَى أنس أَن اقبلها من الرِّجَال فقبلها، وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع، عَن أبي بكر «أَن رجلا كَاتب غُلَاما لَهُ فنجمها نجومًا فَأَتَى (بمكاتبته) كلهَا فَأَبَى أَن يَأْخُذهَا إِلَّا نجومًا، فَأَتَى الْمكَاتب عمر فَأرْسل عمر إِلَى مَوْلَاهُ، فجَاء فَعرض عَلَيْهِ فَأَبَى أَن يَأْخُذهَا، فَقَالَ عمر رَضي اللهُ عَنهُ: فَإِنِّي أطرحها فِي بَيت المَال. وَقَالَ للْمولَى: خُذْهَا نجومًا. وَقَالَ للْمكَاتب: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت» .(6/619)
بَاب الْقَرْض
ذكر فِيهِ سِتَّة أَحَادِيث
أَحدهَا
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتقْرض بكرا ورد بازلاً» .
وَهُوَ حَدِيث تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» وَهُوَ تبع إِمَامه فِي «نهايته» وَطوله بِقصَّة، وَزَاد أَنه صَحَّ، وَهُوَ مخرج فِي الصَّحِيح من طَرِيقين:
إِحْدَاهمَا: عَن أبي رَافع «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ استسلف من رجل بكرا، فَقدمت عَلَيْهِ إبل من الصَّدَقَة فَأمر أَبَا رَافع أَن (يقْضِي) الرجل بكره، فَرجع إِلَيْهِ أَبُو رَافع. فَقَالَ: لم أجد فِيهَا إِلَّا خيارًا رباعيًّا. (فَقَالَ: أعْطه إِيَّاه، إِن خِيَار النَّاس أحْسنهم قَضَاء» انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ مُسلم) وَوهم صَاحب «التنقيب» فَعَزاهُ إِلَى البُخَارِيّ.
ثَانِيهمَا: عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «كَانَ لرجل عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حق فَأَغْلَظ لَهُ، فهم بِهِ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: دَعوه فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا. فَقَالَ لَهُم: اشْتَروا لَهُ سنًّا فَأَعْطوهُ إِيَّاه. فَقَالُوا: إنّا(6/620)
لَا نجد إِلَّا سنًّا هُوَ خير من سنه، قَالَ: فاشتروه فَأَعْطوهُ إِيَّاه فَإِن من خَيركُمْ - أَو خَيركُمْ - أحسنكم قَضَاء» . أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» إِذا تقرر ذَلِكَ، فالبكر هُوَ: الصَّغِير من الْإِبِل. والرباعي - بِفَتْح الرَّاء - مَاله سِتّ سِنِين وَدخل فِي السَّابِعَة. والبازل - الْوَاقِع فِي رِوَايَة الرَّافِعِيّ تبعا للْإِمَام وَالْغَزالِيّ -: مَاله ثَمَان سِنِين وَدخل فِي التَّاسِعَة. كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَغَيره، وَلم يقضه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ من إبل الصَّدَقَة، وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ مِنْهَا مِمَّن اسْتَحَقَّه فملكه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بِثمنِهِ وأوفاه مُتَبَرعا بِالزِّيَادَةِ من مَاله مِمَّا افترضه لنَفسِهِ، هَذَا أحسن الْأَجْوِبَة، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر مَا يبنيه.
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن قرض جر مَنْفَعَة» وَرُوِيَ أَنه قَالَ: «كل قرض جر مَنْفَعَة فَهُوَ رَبًّا» .
هَذَا الحَدِيث أوردهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي القَاضِي حُسَيْن، وَأوردهُ الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» بِالْأولِ، وَتبع فِيهِ إِمَامه فَإِنَّهُ كَذَلِك أوردهُ، وَزَاد: إِنَّه صَحَّ. وَرَوَاهُ الْحَارِث بن أبي أُسَامَة وَغَيره من حَدِيث عَلّي بن أبي طَالب رَضي اللهُ عَنهُ بِلَفْظ القَاضِي والرافعي لَكِن فِي إِسْنَاده سوار بن مُصعب وَهُوَ مَتْرُوك،(6/621)
قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَهُوَ فِي جُزْء أبي الجهم الْعَلَاء بن مُوسَى من حَدِيث سوار هَذَا عَن عمَارَة عَن عَلّي مَرْفُوعا، وَهُوَ مُنْقَطع فِيمَا بَين عمَارَة وَعلي، وَفِي الْبَيْهَقِيّ من قَول فضَالة بن عبيد مَوْقُوفا عَلَيْهِ «كل قرض جرَّ مَنْفَعَة فَهُوَ وَجه من وُجُوه الرِّبَا» وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» وروينا فِي مَعْنَاهُ عَن ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب وَعبد الله بن سَلام وَابْن عَبَّاس. وأوضح ذَلِكَ فِي «سنَنه» عَنْهُم، وَفِي «الْمُغنِي» عَن الْحِفْظ وَالْكتاب لِابْنِ بدر الْموصِلِي بَاب كل قرض جر مَنْفَعَة فَهُوَ رَبًّا: لم يَصح فِيهِ شَيْء عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ: وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» «أَنه اقْترض صَاعا ورد صَاعَيْنِ» .
الحَدِيث الثَّالِث
عَن عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي قَالَ: «أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أجهز جَيْشًا فنفدت الْإِبِل، فَأمرنِي أَن آخذ بَعِيرًا ببعيرين إِلَى أجل» . هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الرِّبَا.
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خياركم أحسنكم قَضَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف بَيَانه قَرِيبا.(6/622)
الحَدِيث الْخَامِس (وَالسَّادِس)
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ نهَى عَن بيع وَسلف» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب (الْبيُوع) الْمنْهِي (عَنْهَا) فَرَاجعه من ثمَّ، وَذكر الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب نهي (السّلف) عَن إقراض الولائد، وَتبع فِي هَذَا إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَإِنَّهُ حَكَاهُ كَذَلِك وَقَالَ: إِنَّه صَحَّ عَنْهُم. وَخَالف فِي «الْوَسِيط» فَعَزاهُ إِلَى «الصَّحَابَة» بدل «السّلف) وَقَالَ ابْن حزم (ردا) عَلَى المتابع: مَا نعلم لَهُ حجَّة أصلا من كتاب وَلَا من رِوَايَة سقيمة، وَلَا من قَول صَاحب، وَلَا من إِجْمَاع، وَلَا من قِيَاس، وَلَا من رَأْي سديد. وَذكر الرَّافِعِيّ عَن «الْوَجِيز» أَنه قَالَ: «وَله الْمُطَالبَة بِبَدَلِهِ للجبر» وَصوب أَنه يقْرَأ بِالْجِيم لَا بِالْخَاءِ لِأَنَّهُ مُنَاسِب للْمعنى الْمَذْكُور، وَهُوَ مَا أوردهُ الإِمَام وَالْغَزالِيّ فِي «وسيطه» .(6/623)
كتاب الرَّهْن(6/625)
(كتاب) الرَّهْن
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ سِتَّة أَحَادِيث:
الحَدِيث الأول
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رهن درعه من يَهُودِيّ، فَمَاتَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَدِرْعه مَرْهُونَة عِنْده» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عَائِشَة قَالَت: «اشْتَرَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من يَهُودِيّ طَعَاما وَرَهنه درعًا من حَدِيد» وَهَذَا لفظ مُسلم، وَفِي لفظ لَهُ «طَعَاما إِلَى أجل» وَفِي لفظ لَهُ «نَسِيئَة فَأعْطَاهُ درعًا لَهُ رهنا» وَرَوَاهُ البُخَارِيّ بِلَفْظ «اشْتَرَى طَعَاما من يَهُودِيّ نَسِيئَة وَرَهنه درعًا لَهُ من حَدِيد» وَفِي لفظ لَهُ «توفّي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَدِرْعه مَرْهُونَة عِنْد يَهُودِيّ بِثَلَاثِينَ صَاعا من شعير» (قَالَ ابْن الطلاع فِي «أَحْكَامه» وَفِي الْأَحْكَام لإسماعيل) «بِعشْرين صَاعا(6/627)
من شعير أَخذهَا لأَهله» قلت: هَذِه فِي النَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَقَالَ فِي «مُصَنف عبد الرَّزَّاق» : «بوسق شعير أَخذه لأَهله» . قَالَ: وَفِي «الْمُدَوَّنَة» : أَنه قَضَى بذلك دينا كَانَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَفِي غير البُخَارِيّ: أَنه لضيف طرقه، ثمَّ فداها أَبُو بكر. قلت: وَأخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث أنس قَالَ: «رهن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - درعًا عِنْد يَهُودِيّ بِالْمَدِينَةِ وَأخذ مِنْهُ شَعِيرًا لأَهله» وَأخرجه أَحْمد (عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل، أَنا الْأَعْمَش، عَن أنس قَالَ: «كَانَ درع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَرْهُونَة مَا وجد مَا يفكها حَتَّى مَاتَ» وَأخرجه أَحْمد) وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس مثل حَدِيث عَائِشَة، قَالَ صَاحب «الاقتراح» : وَهُوَ عَلَى شَرط البُخَارِيّ: قَالَ: لَا جرم أخرجه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ، ووراه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَقَالَ فِي رِوَايَته: «فَمَا وجد مَا يفكها حَتَّى مَاتَ» . وَفِي إسنادها قيس بن الرّبيع صَدُوق سَاءَ حفظه بِآخِرهِ.
فَائِدَة: هَذَا الْيَهُودِيّ يُقَال لَهُ (أَبُو) الشَّحْم. قَالَه الْخَطِيب(6/628)
الْبَغْدَادِيّ فِي (مبهماته) وَكَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة الشَّافِعِي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ رهن درعًا لَهُ عِنْد أبي الشَّحْم الْيَهُودِيّ - رجل من بني ظفر - فِي شعير» لكنه مُنْقَطع، كَمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ، وَوَقع وَفِي «نِهَايَة إِمَام الْحَرَمَيْنِ» فِي كتاب الرَّهْن قبيل بَاب الرَّهْن والحميل بِنَحْوِ ورقتين تَسْمِيَة هَذَا الْيَهُودِيّ بِأبي شحمة.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أنس رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أنتخذ (الْخمر خلاًّ) ؟ قَالَ: لَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ كَذَلِك، وَهَذَا السَّائِل لم أر أحدا نَص عَلَى اسْمه مِمَّن ألف فِي المبهمات، وَيحْتَمل أَن يكون رَاوِي الحَدِيث الْآتِي بعد (وَرَوَى) مجَالد عَن أبي الوداك، عَن أبي سعيد قَالَ: «كَانَ عندنَا خمر ليتيم، فَلَمَّا نزلت الْمَائِدَة سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقلت: إِنَّه ليتيم. فَقَالَ: أهريقوه» وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع قبيل بَاب الْعَارِية مُؤَدَّاة، ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن، وَقد رُوِيَ من غير وَجه نَحوه.(6/629)
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن أَبَا طَلْحَة سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: عِنْدِي خمور لأيتام فَقَالَ: أرقها. قَالَ: أَلا أخللها؟ قَالَ: لَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس «أَن أَبَا طَلْحَة سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن أَيْتَام ورثوا خمرًا فَقَالَ: أهرقها. قَالَ: أَلا أجعلها خلاًّ؟ قَالَ: لَا» . هَذَا لفظ أَحْمد وَأبي دَاوُد، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ «يَا نَبِي الله، إِنِّي اشْتريت خمرًا لأيتام فِي حجري، فَقَالَ: أهرق الْخمر وَكسر الدِّنان» ثمَّ قَالَ: وَقد (رُوِيَ) عَن أنس «أَن أَبَا طَلْحَة كَانَ عِنْده خمر لأيتام» وَهُوَ أصح. زَاد الطَّبَرَانِيّ فِي الأول بعد: «وَكسر الدنان» «قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّهَا لأيتام. قَالَ: أهرق الْخمر وَكسر الدنان» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الثَّوْريّ وَإِسْرَائِيل فجعلاه من مُسْند أنس، وَخَالَفَهُمَا قيس فَجعله من مُسْند [أبي] طَلْحَة، وَالْأول هُوَ الصَّحِيح.
فَائِدَة: قَوْله «أهرقها» هُوَ بِفَتْح الْهَاء والهمزة أَي أرقها، وَفِي «مُسْند(6/630)
أَحْمد» من حَدِيث ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ شقّ (أزقاق) الْخمر بمدية وَأمر بذلك» فَلَعَلَّهُ كَانَ حِين كَانَت الْعقُوبَة بِالْمَالِ.
فَائِدَة ثَانِيَة: فِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أم سَلمَة مَرْفُوعا «أَن الدّباغ يحل من الْميتَة كَمَا يحل الْخلّ من الْخمر» يَعْنِي: أَن الْخمر إِذا صَارَت خلاًّ حلت (وَهُوَ لَا يقْدَح فِي حَدِيث أنس الْمَذْكُور) لِأَن فِي إِسْنَاده فرج بن فضَالة وَهُوَ وَإِن وَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن معِين فقد ضعفه غَيرهمَا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تفرد بِهِ فرج هَذَا عَن يَحْيَى بن سعيد وَهُوَ ضَعِيف يروي عَن يَحْيَى بن سعيد أَحَادِيث عدَّة لَا يُتَابع عَلَيْهَا. قلت: وَلَا يقْدَح أَيْضا فِيهِ حَدِيث جَابر الْمَرْفُوع «مَا أفقر أهل بَيت من أَدَم فِيهِ خل، وَخير خلكم خل خمركم» لِأَن فِي سَنَده الْمُغيرَة بن زِيَاد الْموصِلِي وَإِن وَثَّقَهُ ابْن معِين وَجَمَاعَة، فَقَالَ الْحَاكِم (فِيمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَغَيرهَا) : إِنَّه حَدِيث واهٍ شَاذ الْإِسْنَاد، والمغيرة صَاحب مَنَاكِير. وَحدث عَن عبَادَة بن نسي (بِحَدِيث) مَوْضُوع، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» فِي هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث أم سَلمَة: هَذَانِ حديثان لَا يعرفان(6/631)
وَلَا أصل لَهما. وَنسب الصغاني (الأول) إِلَى الْوَضع، وَأجَاب الْبَيْهَقِيّ: بِأَن أهل الْحجاز يَقُولُونَ لخل الْعِنَب: خل الْخمر. وَهُوَ المُرَاد بالْخبر إِن صَحَّ، أَو خمرًا تخللت بِنَفسِهَا. وَعَلَى ذَلِكَ حمله فرج بن فضَالة رَاوِيه.
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الظّهْر يركب إِذا كَانَ مَرْهُونا، وَعَلَى الَّذِي يركبه نَفَقَته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث زَكَرِيَّا عَن الشّعبِيّ عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الرَّهْن يركب بِنَفَقَتِهِ، وَيشْرب لبن الدّرّ إِذا كَانَ مَرْهُونا» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «الظّهْر يركب بِنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ مَرْهُونا، وَلبن الدّرّ يشرب بِنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ مَرْهُونا، وَعَلَى الَّذِي يركب وَيشْرب النَّفَقَة» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك وَيَحْيَى الْقطَّان عَن زَكَرِيَّا، وَرَوَاهُ هشيم وسُفْيَان بن حبيب عَن زَكَرِيَّا، و (زادا) فِي مَتنه: «الْمُرْتَهن» وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ، وَفِي رِوَايَة يَعْقُوب الدَّوْرَقِي عَن هشيم قَالَ: «إذاكانت الدَّابَّة مَرْهُونَة فعلَى الَّذِي رهن عَلفهَا، وَلبن الدّرّ يشرب، وَعَلَى الَّذِي يشرب ويركب نَفَقَته» قَالَ فِي «الْمعرفَة» : وَصَحَّ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: «لَا(6/632)
ينْتَفع من الرَّهْن بِشَيْء» . وَعَن زَكَرِيَّا، عَن الشّعبِيّ فِي رجل ارْتهن جَارِيَة فأرضعت لَهُ، قَالَ: «يغرم لصَاحب الْجَارِيَة قيمَة الرَّضَاع» وَهَذَا يدل عَلَى خطأ تِلْكَ الزِّيَادَة. وَإِذا لم تصح تِلْكَ الزِّيَادَة كَانَ مَحْمُولا عَلَى الرَّاهِن فَيكون لَهُ درها وظهرها كَمَا يكون عَلَيْهِ نَفَقَتهَا، وَذَلِكَ يُوَافق رِوَايَة [زِيَاد] بن سعد وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «لَا يغلق الرَّهْن، لَهُ غنمه وَعَلِيهِ غرمه» وَرَوَاهُ (غَيره) مُرْسلا « [لَا يغلق] الرَّهْن من صَاحبه الَّذِي رَهنه، لَهُ غنمه وَعَلِيهِ غرمه» وَهَذَا أولَى من حمله عَلَى الْمُرْتَهن، وَحمله عَلَى النّسخ بِلَا حجَّة، (لما) فِي هَذَا من حمل هَذِه الرِّوَايَات عَن أبي هُرَيْرَة عَلَى الْمُوَافقَة وَالْقَوْل بهَا دون ترك شَيْء مِنْهَا. قلت: وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى الرَّد عَلَى «الطَّحَاوِيّ» فَإِنَّهُ رَوَى عَن الشّعبِيّ أَنه «لَا ينْتَفع من الرَّهْن بِشَيْء» ثمَّ قَالَ: (فَهَذَا) الشّعبِيّ يَقُول هَذَا، وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا مَا ذَكرْنَاهُ. ثمَّ ادَّعَى نسخه. وَلما رَوَى التِّرْمِذِيّ الحَدِيث السالف من حَدِيث وَكِيع عَن زَكَرِيَّا بِاللَّفْظِ الثَّانِي للْبُخَارِيّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، لَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيث عَامر الشّعبِيّ، وَقد رَوَى غير وَاحِد هَذَا الحَدِيث عَن الْأَعْمَش،(6/633)
عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة [مَوْقُوفا] وَأما أَبُو مُحَمَّد بن حزم، فَقَالَ فِي «محلاه» ، وَاعْترض بعض من لَا يَتَّقِي الله - تَعَالَى - عَلَى حَدِيث النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «الرَّهْن محلوب ومركوب» فَقَالَ: خبر رَوَاهُ هشيم، عَن زَكَرِيَّا، عَن الشّعبِيّ، عَن أبي هُرَيْرَة، وَذكر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا كَانَت الدَّابَّة مَرْهُونَة فعلَى الْمُرْتَهن عَلفهَا، وَلبن الدّرّ يشرب، وَعَلَى الَّذِي يشرب نَفَقَتهَا وتركب» قَالَ: هَذَا (الْقَائِل الْمُتَقَدّم) : فَإِذا (كَانَ) المُرَاد بذلك الْمُرْتَهن فَهُوَ مَنْسُوخ بِتَحْرِيم الرِّبَا، وبالنهي عَن سلف جر مَنْفَعَة. قَالَ ابْن حزم: وَهَذَا كَلَام فِي غَايَة الْفساد والجرأة، أول ذَلِكَ أَن هَذَا خبر لَيْسَ مُسْندًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَان أَن هَذَا اللَّفْظ من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَأَيْضًا فَإِن فِيهِ لفظا (مختلطًا) لَا يفهم أصلا (وَهُوَ) قَوْله: «وَلبن الدّرّ يشرب بنفقتها ويركب» وحاش لله أَن يكون هَذَا من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَأْمُور بِالْبَيَانِ لنا، وَهَذِه الرِّوَايَة إِنَّمَا هِيَ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن سَالم الصَّائِغ مولَى بني هَاشم، عَن هشيم فالتخليط من قبله لَا من قبل هشيم (فَمن فَوْقه) لِأَن حَدِيث هشيم هَذَا رَوَيْنَاهُ من طَرِيق سعيد بن مَنْصُور الَّذِي هُوَ أحفظ النَّاس لحَدِيث هشيم وأضبطهم لَهُ، فَقَالَ: هشيم، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة رفع الحَدِيث فِيمَا زعم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الرَّهْن يركب ويعلف، وَلبن الدّرّ إِذا كَانَ مَرْهُونا يشرب، وَعَلَى الَّذِي يشربه النَّفَقَة والعلف» .(6/634)
قلت: إِسْمَاعِيل هَذَا رَوَى عَنهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» محتجًا بِهِ وَتَابعه عَلَيْهِ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث زِيَاد بن أَيُّوب عَن هشيم بِهِ إِلَّا أَنه قَالَ: «وَعَلَى الَّذِي يشرب نَفَقَته ويركب» . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي رِوَايَة يَعْقُوب (الدَّوْرَقِي) ، عَن هشيم، قَالَ: «إِذا كَانَت الدَّابَّة (مَرْهُونَة) فعلَى الَّذِي رهن عَلفهَا، وَلبن الدّرّ يشرب وَعَلَى الَّذِي يشرب ويركب نَفَقَته» . وَقد أسلفنا هَذِه فقد رَوَاهُ عَن هشيم (غير) إِسْمَاعِيل: يَعْقُوب الدَّوْرَقِي وَزِيَاد بن أَيُّوب وهما ثقتان رَوَى عَنْهُمَا البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» .
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الرَّهْن مركوب ومحلوب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مجشر، ثَنَا (أَبُو) مُعَاوِيَة، وَمن حَدِيث يَحْيَى بن حَمَّاد، ثَنَا أَبُو عوَانَة جَمِيعًا، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَذَلِك ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ - وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَكَذَا: - لم يخرجَاهُ لِاجْتِمَاع الثَّوْريّ وَشعْبَة عَلَى وَقفه(6/635)
عَلَى أبي هُرَيْرَة قَالَ: وَأَنا عَلَى أُصَلِّي الَّذِي أصلته فِي قبُول الزِّيَادَة من الثِّقَة.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ أَيْضا أَعنِي طَرِيق أبي عوَانَة، وَأبي مُعَاوِيَة، ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق شَيبَان بن فروخ، ثَنَا أَبُو عوَانَة، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِهِ. فَذكرت ذَلِكَ لإِبْرَاهِيم فكره أَن ينْتَفع بِشَيْء مِنْهُ. قَالَ: وَرَوَاهُ الْجَمَاعَة مَوْقُوفا عَلَى أبي هُرَيْرَة. ثمَّ سَاقه عَنْهُم وَذكره فِي «الْمعرفَة» مَوْقُوفا من طَرِيق الشَّافِعِي، قَالَ: وَذكره الْمُزنِيّ مَرْفُوعا بِلَا إِسْنَاد قَالَ: وَوَقفه هُوَ الصَّحِيح. وَفِي علل (ابْن) أبي حَاتِم سَمِعت أبي يَقُول: ثَنَا الطنافسي، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة ثَنَا الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «الرَّهْن مركوب ومحلوب» رَفعه مرّة ثمَّ ترك بعدُ الرّفْع (فَكَانَ يقفه) وَقَالَ ابْن عدي: لَا أعلم رَفعه عَن أبي مُعَاوِيَة غير إِبْرَاهِيم بن مجشر.
قلت: قد رَفعه (الطنافسي) عَنهُ كَمَا رَوَاهُ وَكَذَا شَيبَان بن فروخ كَمَا سلف، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» أَن شُعْبَة اخْتلف عَلَيْهِ فِي رَفعه وَأَن الصَّوَاب رِوَايَة الْوَقْف ثمَّ ذكر اخْتِلَافا فِي رَفعه وَوَقفه بَين مَنْصُور وَغَيره ثمَّ قَالَ: وَالْمَوْقُوف أصح.(6/636)
قلت: وَهُوَ مَا اقْتصر عَلَيْهِ إمامنا فِي «الْأُم» حَيْثُ رَوَاهُ عَن سُفْيَان، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «الرَّهْن مركوب ومحلوب» ، قَالَ الشَّافِعِي: يشبه قَول أبي هُرَيْرَة - وَالله أعلم - أَن من رهن ذَات در وَظهر وَلم يمْنَع الرَّاهِن من درها وظهرها؛ لِأَن لَهُ رقبَتهَا فَهِيَ مركوبة ومحلوبة كَمَا كَانَت قبل الرَّهْن.
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « [لَا يغلق] الرَّهْن من راهنه لَهُ غُنمه وَعَلِيهِ غُرمه» .
هَذَا الحَدِيث رُوِيَ مُتَّصِلا ومرسلاً، أما الْمُتَّصِل: فَمن طَرِيق أبي هُرَيْرَة، وَأما الْمُرْسل فَمن طَرِيق سعيد بن الْمسيب، رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» و «الْمُخْتَصر» عَن ابْن أبي فديك، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن ابْن شهَاب، عَن سعيد بن الْمسيب أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يغلق الرَّهْن من صَاحبه الَّذِي رَهنه لَهُ غنمه وَعَلِيهِ غرمه» . قَالَ الشَّافِعِي: غنمه زِيَادَته، وغرمه: هَلَاكه، قَالَ: وَأخْبرنَا الثِّقَة عَن يَحْيَى بن أبي أنيسَة، عَن ابْن شهَاب، عَن ابْن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمثلِهِ أَو بِمثل مَعْنَاهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن ابْن أبي ذِئْب مَوْصُولا، وَيَحْيَى بن أبي أنيسَة ضَعِيف، وَحَدِيث(6/637)
ابْن عَيَّاش عَن غير أهل الشَّام ضَعِيف. ثمَّ سَاق بِسَنَدِهِ من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن زِيَاد بن (سعد) ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «لَا يغلق الرَّهْن لَهُ غنمه وَعَلِيهِ غرمه» ثمَّ قَالَ: قَالَ عَلّي - يَعْنِي الدَّارَقُطْنِيّ -: زِيَاد بن (سعد) من الْحفاظ الثِّقَات، وَهَذَا إِسْنَاد حسن مُتَّصِل. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَخَالف فِي «سنَنه» ، فَقَالَ عقب قَول الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا قد رَوَاهُ غَيره عَن سُفْيَان عَن زِيَاد مُرْسلا وَهُوَ الْمَحْفُوظ، وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ وَيُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن الْمسيب مُرْسلا إِلَّا أَنَّهُمَا جعلا قَوْله «لَهُ غنمه وَعَلِيهِ غرمه» من قَول ابْن الْمسيب. وَتبع فِي ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا فَإِنَّهُ قَالَ فِي «علله» إرْسَاله هُوَ الصَّوَاب، وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» : إِنَّه الصَّحِيح. وَأخرجه فِي «سنَنه» أَعنِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الله بن نصر الْأَصَم، عَن (شَبابَة) ، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا يغلق الرَّهْن، وَالرَّهْن لمن رَهنه لَهُ غنمه وَعَلِيهِ غرمه» وَعبد الله هَذَا ضَعِيف وَلما ذكره عبد الْحق من هَذَا الْوَجْه من طَرِيق قَاسم بن أصبغ، قَالَ: وَرُوِيَ هَذَا(6/638)
الحَدِيث مُرْسلا عَن سعيد، وَرفع عَنهُ فِي هَذَا الْإِسْنَاد وَغَيره، وَرَفعه صَحِيح. وناقشه ابْن الْقطَّان فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أرَاهُ تبع فِي ذَلِكَ ابْن عبد الْبر فَإِنَّهُ صَححهُ. وَهَذَا حَدِيث فِي إِسْنَاده عبد الله بن نصر الْأَنْطَاكِي، لَا يعرف حَاله، وَقد رَوَى عَنهُ جمَاعَة، وَذكر ابْن عدي لَهُ أَحَادِيث أنْكرت عَلَيْهِ مِنْهَا هَذَا الحَدِيث.
قلت: وَوَقع فِي «الْمُحَلَّى» لِابْنِ حزم بدل عبد الله هَذَا نصر بن عَاصِم الثِّقَة، وَكَأَنَّهُ تَحْرِيف، وَالصَّوَاب كَمَا وَقع فِي الدَّارَقُطْنِيّ، وَأخرجه أَعنِي الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث بشر بن يَحْيَى الْمروزِي، ثَنَا أَبُو عصمَة، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَلْقَمَة، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه «لَا يغلق الرَّهْن (لَك) غنمه و (عَلَيْك) غرمه» ثمَّ قَالَ: بشر وَأَبُو عصمَة ضعيفان وَلَا يَصح عَن مُحَمَّد بن عَمْرو. وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «لايغلق الرَّهْن، لصَاحبه غنمه وَعَلِيهِ غرمه» وَمن حَدِيث إِسْمَاعِيل، عَن الزبيدِيّ، عَن الزُّهْرِيّ، وَقد سبق كَلَام الْبَيْهَقِيّ فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل هَذَا، وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث أبي ميسرَة أَحْمد بن عبد الله بن ميسرَة حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد الرقي، عَن الزُّهْرِيّ،(6/639)
(عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «لَا يغلق الرَّهْن حَتَّى يكون (لَك) غنمه و (عَلَيْك) غرمه» وَأحمد هَذَا مَتْرُوك) ، وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن يزِيد بن الدواس، ثَنَا كدير أَبُو يَحْيَى (نَا) معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد، عَن ابي هُرَيْرَة رَفعه «لَا يغلق الرَّهْن لَك غنمه وَعَلَيْك غرمه» هَذَا حَدِيث غَرِيب عَن معمر وَالْمَعْرُوف عَنهُ إرْسَاله، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أرْسلهُ عبد الرَّزَّاق وَغَيره عَن معمر. قلت: وَأما ابْن حبَان فَأخْرجهُ فِي «صَحِيحه» كَمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ كَمَا مَضَى وَقَالَ فِيهِ: إِنَّه حسن مُتَّصِل. وَكَذَا الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث (صَحِيح حسن) عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ فَلم يخرجَاهُ لخلاف فِيهِ عَلَى أَصْحَاب الزُّهْرِيّ، قَالَ: وَقد تَابع مَالك وَابْن أبي ذِئْب وَسليمَان بن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي وَمُحَمّد بن الْوَلِيد (الزبيدِيّ) وَمعمر بن رَاشد عَلَى هَذِه(6/640)
الرِّوَايَة. ثمَّ ذكر ذَلِكَ كُله عَنْهُم بأسانيده، وَفِي رِوَايَة لَهُ: « (لَا يغلق الرَّهْن، الرَّهْن لمن رَهنه، لَهُ غنمه وَعَلِيهِ غرمه» وَفِي رِوَايَة) «لَا يغلق الرَّهْن حَتَّى يكون لَك غنمه وَعَلَيْك غرمه» .
فَائِدَة: قد تقدم عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: غنمه: زِيَادَته، وغرمه: هَلَاكه. وَقَالَ غَيره: غرمه أَدَاء مَا يُقْضَى بِهِ الدَّين. وَوَقع فِي الحَدِيث فِي «الْخُلَاصَة» عَلَى مَذْهَب أبي حنيفَة زِيَادَة تكْرَار «لَا يغلق الرَّهْن» ثَلَاثًا، وَلم أره فِي كتاب حَدِيث وَهَذِه اللَّفْظَة وَهِي «لَهُ غنمه وَعَلِيهِ غرمه» قيل: إِنَّهَا مدرجة فِي الحَدِيث من كَلَام ابْن الْمسيب كَمَا (ينْقل) وَيحْتَمل خِلَافه.
وَقَوله: «الرَّهْن من راهنه» أَي من ضَمَان راهنه. قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا من أفْصح مَا قالته الْعَرَب: الشَّيْء من فلَان، أَي من ضَمَانه، وَقيل «من» هُنَا بِمَعْنى لَام الْملك. حَكَاهُ صَاحب «المستعذب» .
وَقَوله: «لَا يغلق الرَّهْن» مَعْنَاهُ لَا يُستحق المُرْتَهَن إِذا لم يستفكه صَاحبه، وَكَانَ هَذَا من فعل الْجَاهِلِيَّة، أَن الرَّاهِن إِذا لم يرد مَا عَلَيْهِ فِي الْوَقْت الْمعِين الْمَشْرُوط ملك الْمُرْتَهن الرَّهْن، فأبطله الْإِسْلَام (والغلق ضد الفك وأغلقت الرَّهْن) أَي أوجبته للْمُرْتَهن، وَذكر أَبُو عبيد فِيهِ(6/641)
تأويلين أَحدهمَا هَذَا أَي: لَا يملكهُ الْمُرْتَهن عِنْد تَأَخّر الْحق، وَالثَّانِي: لَا يكون غلقًا عِنْد تلف الْحق بتلفه. قَالَ: فَوَجَبَ حمله عَلَيْهِمَا.
وَقَوله: «لَا يغلق» الْقَاف فِيهِ مَرْفُوعَة، كَذَا قَيده الْقُرْطُبِيّ فِي أَوَاخِر تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة، وَقَالَ صَاحب «التنقيب» : الْقَاف بِالْكَسْرِ عَلَى النَّهْي أَو بِالرَّفْع عَلَى النَّفْي خلاف.(6/642)
كتاب التَّفْلِيس(6/643)
كتاب التَّفْلِيس
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث تِسْعَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
عَن كَعْب بن مَالك رَضي اللهُ عَنهُ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حجر عَلَى معَاذ وَبَاعَ عَلَيْهِ مَاله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث هِشَام بن يُوسُف، أبنا معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن كَعْب بن مَالك، عَن أَبِيه « (أَن) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حجر عَلَى معَاذ بن جبل مَاله وَبَاعه فِي دين كَانَ عَلَيْهِ» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا رَوَاهُ هِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ، عَن معمر وَخَالفهُ عبد الرَّزَّاق فِي إِسْنَاده فَرَوَاهُ مُرْسلا. قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عبد الله بن الْمُبَارك عَن معمر. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي مَوَاضِع هُنَا وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَفِي كتاب الْأَحْكَام وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِي تَرْجَمَة معَاذ وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ ابْن الطلاع: إِنَّه حَدِيث ثَابت. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن(6/645)
الزُّهْرِيّ، عَن ابْن كَعْب بن مَالك وَهُوَ عبد الرَّحْمَن «أَن معَاذ بن جبل لم يزل يدَّان حَتَّى أغلق مَاله كُله، فَأَتَى غرماؤه إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَطلب معَاذ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يسْأَل غرماءه أَن يضعوا لَهُ أَو يؤخروا، فَأَبَوا، فَلَو ترك [لأحد] من أجل أحد لترك لِمعَاذ من أجل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَبَاعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَاله كُله فِي دينه حَتَّى قَامَ معَاذ بِغَيْر شَيْء» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن عبد الرَّحْمَن «فَلم يزدْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غرماءه عَلَى أَن خلع لَهُم مَاله» . وَرَوَاهُ أَيْضا مُرْسلا سعيد بن مَنْصُور وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ عبد الْحق: إِنَّه أصح من الْمُتَّصِل. وَقَالَ صَاحب (الْإِلْمَام) : إِنَّه الْمَشْهُور فِيهِ. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيق آخر مُتَّصِلا رَوَاهُ من حَدِيث [عبد الله بن مُسلم] بن هُرْمُز، عَن سَلمَة الْمَكِّيّ، عَن جَابر بن عبد الله «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (خلع معَاذ بن جبل من غُرَمَائه ثمَّ اسْتَعْملهُ عَلَى الْيمن، فَقَالَ معَاذ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) استخلصني بِمَا لي ثمَّ استعملني» وَعبد الله هَذَا ضعفه أَحْمد وَغَيره، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَسَلَمَة لَا أعرف حَاله وَلَا رَوَى عَنهُ غير عبد الله وَلَا رَوَى عَن غير جَابر. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: رَوَى عَن جَابر من وَجْهَيْن ضعيفين.(6/646)
فَائِدَة: كَانَ تفليس معَاذ سنة تسع من الْهِجْرَة كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن الطلاع فِي «أَحْكَامه» قَالَ: وَحصل لغرمائه خَمْسَة أَسْبَاع حُقُوقهم، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، بِعْهُ لنا. فَقَالَ: «لَيْسَ لكم إِلَيْهِ سَبِيل» . قلت: وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَقَالَ: تفرد بِبَعْض أَلْفَاظه الْوَاقِدِيّ. و (بَعثه) إِلَى الْيمن وَقَالَ: «لَعَلَّ الله أَن يجبرك» وَذَلِكَ فِي ربيع الآخر سنة تسع بعد أَن غزا غَزْوَة تَبُوك وَقدم بعد مَوته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ فِي خلَافَة الصّديق وَمَعَهُ غلْمَان، فَرَآهُمْ عمر فَقَالَ: مَا هم. فَقَالَ: أصبهم فِي وَجْهي. فَقَالَ عمر: من أَي وَجه؟ فَقَالَ: أهدوا إليّ وأكرمت بهم. فَقَالَ عمر: اذكرهم لأبي بكر. فَقَالَ معَاذ: فأذكر هَذَا لأبي بكر! فَنَامَ معَاذ فَرَأَى كَأَنَّهُ عَلَى شَفير جَهَنَّم وَعمر آخذ بحجزته من وَرَائه لِئَلَّا يَقع فِي النَّار، فَفَزعَ معَاذ فَذكرهمْ لأبي بكر كَمَا أمره عمر فسوغه إيَّاهُم أَبُو بكر، وَقَالَ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَعَلَّ الله أَن يجبرك. فَقَضَى غرماءه بَقِيَّة (دُيُونهم) » وَرَوَى الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه» «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ لما حج بَعثه إِلَى الْيمن، وَأَنه أول من تجر فِي مَال الله حَتَّى إِذا كَانَ فتح مَكَّة بَعثه إِلَى الْيمن» .
تَنْبِيه: لما ذكر عبد الْحق هَذَا الحَدِيث من مَرَاسِيل أبي دَاوُد تعقبه بِأَن قَالَ: أسْندهُ هِشَام بن يُوسُف والمرسل أصح. فَاعْترضَ ابْن الْقطَّان فَقَالَ: كَذَا ذكر هَذِه الرِّوَايَة وَلم يعزها وَلَا أعرف موقعها. هَذَا لَفظه، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ، فَهِيَ فِي الْكتب الْمَشْهُورَة كالدارقطني وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ كَمَا أسلفناها.(6/647)
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أفلس الرجل وَقد وجد البَائِع سلْعَته بِعَينهَا فَهُوَ أَحَق بهَا من الْغُرَمَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من هَذَا الْوَجْه وَلَفظ البُخَارِيّ «من أدْرك مَاله بِعَيْنِه عِنْد رجل أَو إِنْسَان قد أفلس فَهُوَ أَحَق بِهِ من غَيره» وَرَوَاهُ مُسلم بِأَلْفَاظ هَذَا أَحدهَا، وَثَانِيها: «إِذا أفلس الرجل فَوجدَ الرجل مَتَاعه بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِهِ» .
ثَالِثهَا: إِلَّا أَنه قَالَ: «سلْعَته بِعَينهَا» .
رَابِعهَا: «فَهُوَ أَحَق بِهِ من الْغُرَمَاء» وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك بِلَفْظ «أَيّمَا رجل أفلس فَأدْرك الرجل مَتَاعه بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِهِ» وَرَوَاهُ عَن غَيره بِلَفْظ «من أدْرك مَاله عِنْد رجل بِعَيْنِه (قد أفلس فَهُوَ أَحَق بِهِ من غَيره» وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «إِذا أفلس الرجل فَوجدَ البَائِع سلْعَته بِعَينهَا) فَهُوَ أَحَق بهَا دون (الْغُرَمَاء) » . قَالَ فِي «الْمعرفَة» : وإسنادها صَحِيح.(6/648)
الحَدِيث الثَّالِث
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه قَالَ فِي مُفلس أَتَوْهُ بِهِ: هَذَا الَّذِي قَضَى فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَيّمَا رجل مَاتَ - أَو أفلس - فَصَاحب الْمَتَاع أَحَق بمتاعه إِذا (وجده) بِعَيْنِه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» عَن ابْن أبي فديك، عَن ابْن أبي ذِئْب قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الْمُعْتَمِر بن عَمْرو بن [رَافع] ، عَن [خلدَة]- أَو ابْن [خلدَة] الزرقي، شكّ: الْمُزنِيّ - عَن أبي هُرَيْرَة «أَنه رَأَى رجلا أفلس فَقَالَ: هَذَا الَّذِي قَضَى فِيهِ ... » فَذكره سَوَاء وَذكر الرّبيع هَذِه الرِّوَايَة عَن ابْن [خلدَة] (من غير شكّ لَكِن) عَن عَمْرو بن رَافع بدل «نَافِع» وَزَاد فِيهَا: أَن (ابْن خلدَة) كَانَ قَاضِيا بِالْمَدِينَةِ وَلَفظه «جِئْنَا أَبَا هُرَيْرَة فِي صَاحب قد أفلس فَقَالَ: هَذَا الَّذِي قَضَى فِيهِ ... »(6/649)
فَذكره وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَكَذَا رَوَاهَا عَن عَمْرو بن (رَافع) حَرْمَلَة وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن الرّبيع: عَمْرو بن نَافِع - بالنُّون - وَهِي أصح، وَابْن (خلدَة) هُوَ عَمْرو بن (خلدَة) وَيُقَال: عمر وَهُوَ أصح، [وَرَوَاهُ أَبُو] دَاوُد الطَّيَالِسِيّ [وَغَيره] عَن ابْن أبي ذِئْب وَفِيه من الزِّيَادَة «إِلَّا أَن يدع الرجل وَفَاء» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فَقَالَ: عَن [أبي] الْمُعْتَمِر عَن عمر بن (خلدَة) قَالَ: «أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَة فِي صَاحب لنا أفلس، فَقَالَ: لأقضين فِيكُم بِقَضَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، من أفلس أَو مَاتَ فَوجدَ رجل مَتَاعه بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِهِ» . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» فَقَالَ عَن [أبي] الْمُعْتَمِر بن عَمْرو بن رَافع عَن [ابْن خلدَة] الزرقي وَكَانَ قَاضِيا بِالْمَدِينَةِ «جِئْنَا أَبَا هُرَيْرَة فِي(6/650)
صَاحب لنا قد أفلس فَقَالَ: هَذَا الَّذِي قَضَى فِيهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، أَيّمَا رجل ... » فَذكره بِلَفْظ «الْمُخْتَصر» .
قلت: وأعل هَذَا الحَدِيث بِأبي الْمُعْتَمِر فَحَكَى عَن أبي دَاوُد أَنه قَالَ: من يَأْخُذ بِهَذَا وَأَبُو الْمُعْتَمِر من هُوَ لَا يعرف. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا يُعرف من هُوَ، وَلَا سمعنَا لَهُ ذكرا إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث. انْتَهَى.
وَقد ذكره ابْن أبي حَاتِم وَقَالَ: رَوَى عَن [ابْن خلدَة] وَعَن عبيد الله بن عَلّي بن أبي رَافع، وَعَن الصَّلْت بن بهْرَام، وَعنهُ ابْن أبي ذِئْب سَمِعت أبي يَقُول ذَلِكَ، وَذكره الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي (كناه) كَذَلِك إِلَّا أَنه أسقط الصَّلْت بن بهْرَام وَذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» .
وَأخرج الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» هَذَا الحَدِيث من جِهَته من غير شكّ فِي ابْن (خلدَة) وَإِسْقَاط (وَاو) عَمْرو وبلفظ «الْمُخْتَصر» ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث عَال صَحِيح الْإِسْنَاد بِهَذَا اللَّفْظ، وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الشَّافِعِي: خبر مَوْصُول. وَقَول ابْن الْمُنْذر: هَذَا حَدِيث مَجْهُول الْإِسْنَاد. قد تبين لَك ابْتِدَاء الْجَهَالَة عَنهُ فاعلمه.(6/651)
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا رجل مَاتَ أَو أفلس فَصَاحب الْمَتَاع أَحَق بمتاعه إِذا وجده بِعَيْنِه مَا لم يخلف وَفَاء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد الحَدِيث الَّذِي قبله من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا قَالَ: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي رجل مَاتَ أَو أفلس أَن صَاحب الْمَتَاع أَحَق بمتاعه إِذا وجده بِعَيْنِه إِلَّا أَن يتْرك مَا فِيهِ وَفَاء» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا بِلَفْظ «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن من أفلس أَو مَاتَ فَأدْرك رجل مَتَاعه بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِهِ إِلَّا أَن يدع الرجل (مَا فِيهِ) وَفَاء» وَفِي رِوَايَة لَهُ «إِلَّا أَن يتْرك صَاحبه وَفَاء» .
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِنَّمَا حجر عَلَى معَاذ بالتماس مِنْهُ دون طلب الْغُرَمَاء» .
هَذَا (الحَدِيث) تبع فِيهِ الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» فَإِنَّهُ قَالَ «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ حجر عَلَى معَاذ بالتماسه» وَتبع فِيهِ إِمَامه فَإِنَّهُ قَالَ فِي نهايته: قَالَ الْعلمَاء: مَا كَانَ حجر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى معَاذ من جِهَة (استدعاء) غرماءه، وَالْأَشْبَه أَن ذَلِكَ جَرَى باستدعائه، وَكَذَا هُوَ فِي (الْبَسِيط) للغزالي.(6/652)
قلت: بل رِوَايَة أبي دَاوُد السالفة عَن مراسيله تدل عَلَى طلب الْغُرَمَاء فَإِن فِيهَا «فَأَتَى غرماؤه إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَطلب معَاذ ... » الحَدِيث أما رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فَفِيهَا «أَن معَاذًا أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَكَلمهُ ليكلم غرماءه» فقد يتخيل فِيهَا طلب معَاذ، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن إِتْيَانه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لأجل استدعائه مِنْهُم طلب الرِّفْق، كَمَا (بَينه فِيهِ) لَا للحجر عَلَيْهِ نبه عَلَى ذَلِكَ صَاحب «الْمطلب» .
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا رجل بَاعَ مَتَاعا فأفلس الَّذِي بَاعه وَلم يقبض البَائِع من ثمنه شَيْئا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَإِن كَانَ قد اقْتَضَى من ثمنه شَيْئا فَهُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء» .
هَذَا الحَدِيث كَذَا هُوَ ثَابت فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ الصَّحِيحَة وَفِي بَعْضهَا «أَيّمَا رجل بَاعَ سلْعَة فَأدْرك سلْعَته بِعَينهَا عِنْد رجل قد أفلس وَلم يكن قبض من ثمنهَا شَيْئا (فَهِيَ لَهُ وَإِن كَانَ قبض من ثمنهَا شَيْئا) فَهُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء» . وَهُوَ حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن عبد الله بن مسلمة، عَن مَالك، عَن ابْن شهَاب، عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا رجل بَاعَ مَتَاعا فأفلس الَّذِي ابتاعه وَلم يقبض الَّذِي بَاعه من ثمنه شَيْئا فَوجدَ مَتَاعه بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَإِن مَاتَ المُشْتَرِي فَصَاحب الْمَتَاع أُسْوَة الْغُرَمَاء» قَالَ(6/653)
أَبُو دَاوُد: ثَنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد، ثَنَا عبد الله - يَعْنِي - ابْن وهب قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس، عَن ابْن شهَاب قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكر بِمَعْنى حَدِيث مَالك، وَزَاد «وَإِن كَانَ قد قَضَى من ثمنهَا شَيْئا فَهُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء» فِيهِ قَالَ: وثنا مُحَمَّد بن عَوْف، ثَنَا عبد الله بن عبد الْجَبَّار - يَعْنِي - الخبائري ثَنَا إِسْمَاعِيل - يَعْنِي - ابْن عَيَّاش عَن الزبيدِيّ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَحوه، قَالَ: «فَإِن كَانَ قَضَاهُ من ثمنهَا شَيْئا فَمَا بَقِي فَهُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء، وَأَيّمَا امْرُؤ هلك وَعِنْده مَتَاع امْرِئ بِعَيْنِه، اقْتَضَى مِنْهُ شَيْئا أَو لم يقتض فَهُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء» قَالَ أَبُو دَاوُد: حَدِيث مَالك أصح. يَعْنِي الْمُرْسل وَقد أخرجه كَذَلِك فِي «موطئِهِ» وَكَذَا نَص غير وَاحِد من الْحفاظ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الشَّافِعِي: حَدِيث ابْن (خلدَة) الْمُتَقَدّم أولَى من هَذَا وَحَدِيث ابْن شهَاب مُنْقَطع. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش مُضْطَرب الحَدِيث وَلَا يثبت هَذَا عَن الزُّهْرِيّ [مُسْندًا] وَإِنَّمَا هُوَ مُرْسل. وَخَالفهُ الْيَمَان بن عدي فِي إِسْنَاده واليمان ضَعِيف [الحَدِيث] وَكَذَلِكَ قَالَ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ - وَقد سَأَلَهُ عَنهُ ابْنه مَرْفُوعا بِذكر(6/654)
(أبي) هُرَيْرَة -: إِنَّمَا هُوَ مُرْسل وَالْأول خطأ فِيهَا الْيَمَان، وَهُوَ شيخ ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن الزبيدِيّ، عَن الزُّهْرِيّ مَوْصُولا وَلَا يَصح. وَقد أخرجه مُرْسلا إِمَام دَار الْهِجْرَة فِي «موطئِهِ» وَجزم بذلك الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب فَقَالَ: هُوَ مُرْسل. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» بعد نَقله مقَالَة الدَّارَقُطْنِيّ (السالفة) : «هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن الزبيدِيّ وَهُوَ شَامي» وَقد اشْتهر تَصْحِيح حَدِيث إِسْمَاعِيل (عَن) الشاميين إِلَّا أَنه شَامي رَوَى عَن الْحِجَازِيِّينَ.
قلت: وَله متابعات فَذكر صَاحب «التَّمْهِيد» (أَنه) رَوَاهُ عبد الله بن بركَة وَمُحَمّد بن عَلّي وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الصنعانيون، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن مَالك، عَن ابْن شهَاب، عَن أبي بكر، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا مُسْندًا. وَكَذَا رَوَاهُ عرَاك بن مَالك عَن أبي هُرَيْرَة ذكره ابْن حزم، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تَابع عبد الرَّزَّاق عَلَى إِسْنَاده عَن مَالك: أَحْمد بن مُوسَى، وَأحمد بن أبي طيبَة، وَرَوَى عبد الرَّزَّاق فِي «مُصَنفه» عَن مَالك الْمُرْسل الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: ثَنَا أَبُو سُفْيَان، عَن هِشَام صَاحب الدستوَائي، حَدَّثَني قَتَادَة عَن بشير بن نهيك، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِمثل حَدِيث الزُّهْرِيّ.(6/655)
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (ليُّ الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته» ) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنهمْ من حَدِيث عَمْرو بن (الشريد) ، عَن أَبِيه (بِاللَّفْظِ) الْمَذْكُور.
وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي أَوَاخِر كتاب الْأَحْكَام أَيْضا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَذكره البُخَارِيّ فِي بَاب لصَاحب [الْحق مقَال] ، فَقَالَ: وَيذكر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ليُّ الْوَاجِد يُحلُّ عُقُوبَته وَعرضه» .
فَائِدَة: الليُّ - بِفَتْح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء - المطل، والواجد - بِالْجِيم - الْمُوسر، قَالَ سُفْيَان: يَعْنِي عرضه أَن يَقُول مطلني حَقي وعقوبته (أَن) يسجن. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: يحل عرضه يغلظ(6/656)
(عَلَيْهِ) وعقوبته يحبس لَهُ، وَنقل الإِمَام أَحْمد عَن وَكِيع: أَن عرضه شكايته، وعقوبته حَبسه. قَالَ الرَّافِعِيّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَرَادَ بالعقوبة الْحَبْس والملازمة.
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حبس رجلا أعتق شِقْصا لَهُ فِي عبد فِي قيمَة الْبَاقِي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِنَحْوِهِ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى، عَن إِسْمَاعِيل، عَن أبي مجلز «أَن عبدا كَانَ بَين رجلَيْنِ فَأعتق أَحدهمَا نصِيبه فحبسه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى بَاعَ فِيهِ (غنمة) لَهُ» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُنْقَطع، قَالَ: وَقد رَوَاهُ (الثَّوْريّ) عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي مجلز بِمَعْنَاهُ.
قَالَ: وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن الْقَاسِم، عَن [أَبِيه عَن] عبد الله بن مَسْعُود وَهُوَ ضَعِيف.
وَذكر ابْن الطلاع فِي «أقضيته» عَن أَحْكَام بن زِيَاد، عَن الْفَقِيه أبي صَالح أَيُّوب بن سُلَيْمَان «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ سجن رجلا أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَوَجَبَ عَلَيْهِ استتمام عتقه» . قَالَ فِي الحَدِيث: «حَتَّى بَاعَ (غنمة) لَهُ» .(6/657)
الحَدِيث (التَّاسِع)
«أَن رجلا ذكر للنَّبِي (جَائِحَة أَصَابَته فَسَأَلَهُ أَن يُعْطِيهِ من الصَّدَقَة، فَقَالَ (: «حَتَّى يشْهد ثَلَاثَة من ذَوي الحجمى من قومه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث قبيصَة بن مُخَارق الْهِلَالِي قَالَ: «تحملت حمالَة فَأتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أسأله فِيهَا فَقَالَ: أقِم حَتَّى تَأْتِينَا الصَّدَقَة، فنأمر لَك بهَا. ثمَّ قَالَ: يَا قبيصَة إِن (الْمَسْأَلَة) لَا تحل إِلَّا لأحد ثلاثةٍ: رجل تحمل حمالَة فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى (يُصِيبهَا أَو يمسك، وَرجل أَصَابَته جَائِحَة اجتاحت مَاله فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى) يُصِيب قوامًا من عَيْش - أَو قَالَ: سدادًا من عَيْش - وَرجل أَصَابَته فاقة حَتَّى يقوم ثَلَاثَة من ذَوي الحجا من قومه لقد أَصَابَت فلَانا فاقة فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة، حَتَّى يُصيب قوامًا من عَيْش - أَو قَالَ: سدادًا من عَيْش - فَمَا سواهن [من الْمَسْأَلَة] يَا قبيصَة سحتًا يأكلها صَاحبهَا سحتا» .
كَذَا وَقع فِي مُسلم «يقوم» وَوَقع فِي أبي دَاوُد «يَقُول» بِاللَّامِ. وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» فَيشْهد وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد مُسلم بل لم يخرج البُخَارِيّ عَن قبيصَة فِي كِتَابه شَيْئا و (الْحمالَة) بِفَتْح الْحَاء الِاسْتِدَانَة.(6/658)
والحجى مَقْصُور: الْعقل، والقِوام والسِداد (بِكَسْر أَولهمَا) قَالَ ابْن درسْتوَيْه: والعامة تَقول: هُوَ قوام الْأَمر - بِالْفَتْح - وَهُوَ خطأ.
قلت: قد حَكَاهُ يَعْقُوب فِي «إِصْلَاحه» وَأَبُو (عبيد) وَغَيرهمَا، وَقَالَ ابْن سَيّده: الْعَامَّة تَقول السَداد بِالْفَتْح، وَهُوَ خطأ. قلت: قد حَكَاهُ يَعْقُوب فِي «إِصْلَاحه» أَنه يُقَال: سداد، وَمن عَوَز بِالْفَتْح فَحصل وَجها (من هَذَا) فِي السداد، وَالْكَسْر أفْصح وَهُوَ مَا يسد بِهِ الْخلَّة، وَأما سِداد القارورة وَالْبَعِير فبالكسر لَا غير، والسداد بِمَعْنى الْإِصَابَة مَفْتُوح، وَكَذَلِكَ «السدد» أَيْضا بِغَيْر ألف حَكَاهُ الْجَوْهَرِي. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثرا وَاحِدًا: وَهُوَ «أَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ خطب النَّاس وَقَالَ: أَلا إِن الأسيفع أسيفع جُهَيْنَة قد رَضِي من دينه وأمانته أَن يُقَال سبق الْحَاج فادَّان معرضًا. فَأصْبح وَقد (رين بِهِ) فَمن كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دين فليحضر فَإنَّا بَايعُوا (مَاله) وقاسموه بَين غُرَمَائه» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «موطئِهِ» فِي آخر بَاب (جَامع) الْقَضَاء عَن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن دلاف عَن أَبِيه «أَن رجلا من جُهَيْنَة(6/659)
كَانَ [يسْبق الْحَاج فيشتري] الرَّوَاحِل (فيغالي) بهَا ثمَّ يسْرع السّير فَيَسْبق الْحَاج فأفلس، فَرفع أمره إِلَى عمر فَقَالَ: أما بعد، أَيهَا النَّاس، فَإِن الأسيفع، أسيفع جُهَيْنَة رَضِي من دينه وأمانته أَن يُقَال: سبق الْحَاج. أَلا وَإنَّهُ قد ادَّان معرضًا فَأصْبح قد رين بِهِ، فَمن كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دين (فيلقانا) بِالْغَدَاةِ نقسم مَاله بَين غُرَمَائه، وَإِيَّاكُم وَالدّين فَإِن أَوله هم وَآخره (حَرَب) » .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَرَوَاهُ أَيُّوب فَقَالَ: نبئت عَن عمر بن الْخطاب مثل ذَلِكَ، وَقَالَ: «نقسم مَاله بَينهم بِالْحِصَصِ» . قلت: وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي «غَرِيبه» عَن أبي النَّضر، عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي سَلمَة، عَن ابْن دلاف، عَن عمر ... فَذكره بِمثلِهِ إِلَّا أَنه قَالَ: «سَابق الْحَاج» ، أَو قَالَ: «سبق الْحَاج» . وَفِي آخِره: «فَمن كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دين فليغد بِالْغَدَاةِ فلنقسم مَاله بَينهم بِالْحِصَصِ» .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَقد سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: هُوَ حَدِيث يرويهِ عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عَطِيَّة بن دلاف، عَن أَبِيه، عَن بِلَال بن الْحَارِث، عَن عمر حدث بِهِ زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن (عبيد الله) عَن عمر كَذَلِك. وَتَابعه عَبدة بن سُلَيْمَان (وَأَبُو حَمْزَة) وَخَالفهُم يَحْيَى الْقطَّان، فَرَوَاهُ عَن عبيد الله، عَن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عَطِيَّة، عَن(6/660)
عَمه، عَن بِلَال بن الْحَارِث.
وَرَوَاهُ زِيَاد بن سعد عَن ابْن دلاف وَهُوَ [عمر] بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عمر. وَلم يذكر «بِلَالًا» . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بكر الْهُذلِيّ وَمَالك وَعبد الله الْعمريّ عَن ابْن دلاف.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَالْقَوْل قَول زُهَيْر وَمن تَابعه عَن عبيد الله. وَرَوَاهُ مُوسَى بن عُبَيْدَة عَن ابْن دلاف مُرْسلا عَن عمر.
فَائِدَة: الرَّوَاحِل: جمع رَاحِلَة يَعْنِي الْإِبِل. والأسيفع بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين وَإِسْكَان الْيَاء وَكسر الْفَاء، كَذَا قَيده جماعات: ابْن أبي عصرون فِي «النَّص الْمَذْهَب عَلَى الْمَذْهَب» وَابْن [معن] فِي «تنقيبه» والقلعي فِي «تَحْرِير شَوَاهِد الْمُهَذّب» . وَوَقع فِي «تَهْذِيب الْأَسْمَاء واللغات» للنووي تَقْيِيده بِفَتْحِهَا، وَلَعَلَّه من النَّاسِخ فقد ضَبطه بِكَسْرِهَا فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» .
قَالَ ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» : أسيفع تَصْغِير أسفع. قَالَ: والسَّفعة فِي اللَّوْن السوَاد. وجهينة: بطن من بطُون قضاعة بن مَالك بن (حمير) وَعَن قطرب أَنَّهَا منقولة من (مصغرة جهانة) عَلَى التَّرْخِيم، يُقَال: جَارِيَة جهانة، أَي: شَابة.(6/661)
وَقَوله: ادَّان هُوَ بتَشْديد الدَّال وألفه ألف وصل أَي اسْتقْرض كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ. يُقَال: ادَّان الرجل (ودانته) إِذا بِعْت مِنْهُ بِأَجل. وَدنت وادّنت إِذا اشْتريت مِنْهُ إِلَى أجل. وَقَوله: «معرضًا» أَي يعْتَرض النَّاس فيستدين مِمَّن أمكنه قَالَه الرَّافِعِيّ، وَكَذَا قَالَ ابْن الْأَثِير: المعرض هُنَا بِمَعْنى الْمُعْتَرض أَي اعْترض لكل من يقْرضهُ.
يُقَال: عرض لي الشَّيْء وَأعْرض وَتعرض وَاعْترض بِمَعْنى وَاحِد. قَالَ: وَقيل: مَعْنَاهُ ادّان معرضًا عَمَّن يَقُول لَهُ لَا تستدن فَلَا يقبل.
قَالَ: وَقيل مَعْنَاهُ أَخذ الدَّين معرضًا عَن الْأَدَاء. وَحَكَى هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة القلعي فِي «مستغربه» وَقَالَ ابْن [معن] فِي «تنقيبه» بِكَسْر الرَّاء الْمُشَدّدَة وَمَعْنَاهُ يتَعَرَّض النَّاس مستدينًا مِنْهُم قَالَ: رُوِيَ (بتَخْفِيف الرَّاء، وَمَعْنَاهُ معرضًا عَن الْعدْل فَلَا يقبل إِذا نهي، وَقيل عَن الْأَدَاء.
وَقَوله: «وَقد رين بِهِ» أَي أحَاط بِهِ الدَّين، كَأَن الدَّين قد علاهُ وغطاه، يُقَال: رين بِالرجلِ رينًا إِذا وَقع فِيمَا لَا يَسْتَطِيع الْخُرُوج مِنْهُ. وَبِه جزم الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب وَنقل عَن أبي عبيد أَنه قَالَ: كل مَا غلبك فقد ران بك ورانك قَالَ تَعَالَى: (كلا بل ران عَلَى قُلُوبهم) .
و «الْحَرْب» بِسُكُون (الرَّاء) مَعْرُوف يَعْنِي أَنه تعقب الْخُصُومَة،(6/662)
وبفتح الرَّاء: السَّلب والنهب. قَالَه ابْن الْأَثِير. وَقَالَ المطرزي فِي «الْغَرِيب» : قَوْله حَرْب هُوَ بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ أَن يُؤْخَذ مَاله كُله كَذَا حَكَاهُ الْأَزْهَرِي عَن النَّضر بن شُمَيْل. قَالَ: وَيروَى حزن (وَهُوَ) هم وغم يُصِيب الْإِنْسَان بعد فَوَات المحبوب.(6/663)
كتاب الْحجر(6/665)
كتاب الْحجر
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا. أما الْأَحَادِيث فثمانية.
الحَدِيث الأول
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «عرضت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي جَيش وَأَنا ابْن أَربع عشرَة (سنة) فَلم يقبلني وَلم يرني بلغت، وَعرضت عَلَيْهِ من قَابل وَأَنا ابْن [خمس] عشرَة (سنة) فأجازني ورآني بلغت» .
هَذَا الحَدِيث فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِدُونِ ذكر الْبلُوغ فيهمَا، وَهَذَا سياقته عَن ابْن عمر: «عرضت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم أحد وَأَنا ابْن أَربع عشرَة (سنة) فَلم يجزني وَعرضت عَلَيْهِ يَوْم الخَنْدَق وَأَنا ابْن خمس عشرَة (سنة) فأجازني» زَاد مُسلم بعد قَوْله «يَوْم أحد» : «فِي [الْقِتَال] » قَالَ نَافِع: (فَقدمت) عَلَى عمر بن عبد الْعَزِيز وَهُوَ يَوْمئِذٍ خَليفَة [فَحَدَّثته] هَذَا الحَدِيث. فَقَالَ: إِن هَذَا لحدُّ بَين الصَّغِير وَالْكَبِير(6/667)
وَكتب إِلَى عماله بذلك أَن يفرضوا لمن كَانَ ابْن خمس عشرَة سنة» زَاد مُسلم: «وَمن كَانَ دون ذَلِكَ فَاجْعَلُوهُ فِي الْعِيَال» .
وَفِي لفظ لمُسلم: «فاستصغرني» مَكَان «فَلم يجزني» .
قَالَ الشَّافِعِي فِي (سير) الْوَاقِدِيّ: وَقد جعل ذَلِكَ مَعَ (سَبْعَة) عشر مِنْهُم زيد بن ثَابت وَرَافِع بن خديج.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ ابْن جريج عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَزَاد فِيهِ عِنْد قَوْله: «فَلم يجزني» : «وَلم يرني بلغت» ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ، ثمَّ (قَالَ) قَالَ ابْن صاعد: فِي هَذَا الحَدِيث حرف غَرِيب وَهُوَ قَوْله «وَلم يرني بلغت» .
قلت: وَأخرجه بِهَذَا الْحَرْف أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» . وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «عُرضت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم بدر وَأَنا ابْن ثَلَاث عشرَة فَلم يجزني فِي الْمُقَاتلَة وَعرضت عَلَيْهِ يَوْم أحد فأجازني فِي الْمُقَاتلَة» .
وَالْمرَاد بقوله: «وَأَنا ابْن أَربع عشرَة» أَي طعنت فِيهَا. وَبِقَوْلِهِ: «وَأَنا ابْن خمس عشرَة» أَي استكملتها وزدت عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَين أحد وَالْخَنْدَق سنتَانِ كَمَا نبه عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» وَغَيرهمَا.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أنس رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا اسْتكْمل الْمَوْلُود خمس عشرَة سنة كتب مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وأقيمت عَلَيْهِ الْحُدُود» .(6/668)
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» فَإِنَّهُ قَالَ: ومعتمدنا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ... فَذكره، وَهُوَ تبع فِيهِ إِمَامه، فَإِنَّهُ كَذَلِك ذكره فِي (كِفَايَته) . وَقَالَ: إِن الدَّارَقُطْنِيّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ وَلم أره أَنا فِي سنَن الدَّارَقُطْنِيّ بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ.
وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِغَيْر إِسْنَاد. فَقَالَ: وَرَوَى قَتَادَة، عَن أنس مَرْفُوعا: «الصَّبِي إِذا بلغ خمس عشرَة أُقِيمَت عَلَيْهِ الْحُدُود» قَالَ: وَإِسْنَاده ضَعِيف وَهُوَ بِإِسْنَادِهِ فِي «الخلافيات» . وَهُوَ كَمَا قَالَ فقد رَأَيْته (فِيهَا) لَكِن من غير طَرِيق قَتَادَة (عَنهُ و) رَوَاهُ من حَدِيث مُحَمَّد بن عِيسَى الرَّاوِي، عَن سعيد بن عبد الْملك الدِّمَشْقِي، عَن حَمَّاد بن زيد، عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، عَن أنس مَرْفُوعا: «الصَّبِي (تكْتب لَهُ حَسَنَاته، وَلَا تكْتب عَلَيْهِ سيئاته حَتَّى إِذا بلغ ثَلَاث عشرَة) كتب مَا لَهُ وَعَلِيهِ فَإِذا بلغ خمس عشرَة سنة أُقِيمَت عَلَيْهِ الْحُدُود أَو أخذت مِنْهُ الْحُدُود» .
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة، عَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَقد تقدم بَيَانه مَبْسُوطا فِي كتاب الصَّلَاة فَرَاجعه من ثَمَّ. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة «رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة عَن الْغُلَام حَتَّى(6/669)
يَحْتَلِم فَإِن لم يَحْتَلِم حَتَّى يكون ابْن ثَمَان عشرَة، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ فَإِن - يَعْنِي - طلق فِي مَنَامه لم يَقع الطَّلَاق، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يَصح. قيل: يَا رَسُول الله، وَمن الْمَجْنُون؟ قَالَ: من أبلى شبابه فِي مَعْصِيّة الله» . مَوْضُوع.
ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» وَقَبله الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث مَوْضُوع وَمُحَمّد بن الْقَاسِم (الطائكاني) الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده كَانَ مَعْرُوفا بِوَضْع الحَدِيث. نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان وَكَذَا قَالَ الْحَاكِم: إِنَّه وَضاع. وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» .
الحَدِيث الرَّابِع
«أَن سعد بن معَاذ حكم (عَلَى) بني قُرَيْظَة فَقتل مُقَاتلَتهمْ وَسبي ذَرَارِيهمْ فَكَانَ يكْشف عَن مؤتزر المراهقين فَمن أنبت مِنْهُم قتل، وَمن لم ينْبت جعل فِي الذَّرَارِي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مَشْهُور، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ «أَن سعد بن معَاذ حكم فِي بني قُرَيْظَة أَن تقتل مُقَاتلَتهمْ وتسبى ذَرَارِيهمْ. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لقد حكمت بِحكم الله» . قَالَ الشَّافِعِي: فَكَأَن الْعلم فِي الْمُقَاتلَة والذرية الإنبات. وَهُوَ كَمَا قَالَ،(6/670)
وَسَيَأْتِي عَلَى الإثر بَيَانه.
وَفِي «مُسْند الْبَزَّار» من حَدِيث عَامر بن سعد عَن أَبِيه «أَن سعد بن معَاذ حكم عَلَى بني قُرَيْظَة أَن يقتل مِنْهُم كل من جرت عَلَيْهِ المواسي، وَأَن تقسم ذَرَارِيهمْ وَأَمْوَالهمْ. فَذكر ذَلِكَ للنَّبِي (فَقَالَ: لقد حكم بَينهم بِحكم الله الَّذِي حكم بِهِ من فَوق سبع سموات» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من غير وَجه، وَأَعْلَى من رَوَى ذَلِكَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سعد بن أبي وَقاص، وَلَا نعلم لَهُ عَن سعد طَرِيقا غير هَذَا الطَّرِيق.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن عَطِيَّة الْقرظِيّ قَالَ: «عرضنَا عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم قُرَيْظَة وَكَانَ من أنبت قتل، وَمن لم ينْبت خلي سَبيله فَكنت مِمَّن لم ينْبت فخلى سبيلي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة من حَدِيث عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ: حَدَّثَني عَطِيَّة الْقرظِيّ قَالَ: «كنت من سبي قُرَيْظَة فَكَانُوا ينظرونَ فَمن أنبت الشّعْر قتل، وَمن لم ينْبت لم يقتل فَكنت فِيمَن لم ينْبت» .
هَذَا لفظ أبي دَاوُد فِي الْحُدُود، وَفِي لفظ لَهُ «فكشفوا عَن عانتي فوجدوها لم تنْبت فجعلوني فِي السَّبي» .(6/671)
وَلَفظ التِّرْمِذِيّ «عرضنَا عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم قُرَيْظَة فَكَانَ من أنبت قتل، وَمن لم ينْبت خلي سَبيله فَكنت مِمَّن لم ينْبت فخلى سبيلي» أخرجه فِي السّير، وَلَفظ النَّسَائِيّ «كنت فِي سبي قُرَيْظَة وَكَانَ ينظر فَمن خرجت شعرته قتل، وَمن لم تخرج استحيي وَلم يقتل» هَذَا لَفظه فِي كتاب الْقطع، وَلَفظه فِي كتاب الطَّلَاق «كنت يَوْم حكم سعد فِي بني قُرَيْظَة غُلَاما فشكّوا فيَّ فَلم يجدوني أنبت فاستبقيت وَهَا أَنا ذَا بَين أظْهركُم» . وَأخرجه فِيهِ أَيْضا من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أبي جَعْفَر الخطمي، عَن عمَارَة بن خُزَيْمَة، عَن كثير بن السَّائِب قَالَ: حَدَّثَني ابْنا قُرَيْظَة «أَنهم عرضوا عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم قُرَيْظَة، فَمن كَانَ محتلمًا أَو (نَبتَت عانته) قتل وَمن لم يكن محتلمًا أَو لم تنْبت عانته ترك» .
وَهَذِه الطَّرِيقَة أخرجهَا الإِمَام أَحْمد من هَذَا الْوَجْه، وَقَالَ: بدل «عمَارَة بن خُزَيْمَة» : «مُحَمَّد بن كَعْب» .
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي «السّنَن» (من) حَدِيث عبد الْملك (عَن) عَطِيَّة الْقرظِيّ قَالَ: «كنت فِيمَن حكم فِيهِ سعد فجيء بِي وَأَنا(6/672)
أرَى أَنه استقبلني؛ فكشفوا عَن عانتي فوجدوني لم أنبت فجعلوني فِي السَّبي» وَفِي رِوَايَة لَهُ فِيهِ «عرضنَا عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم قُرَيْظَة فَكَانَ من أنبت قتل وَمن لم ينْبت خُلي سَبيله فَكنت فِيمَن لم ينْبت فخلي سبيلي» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ فِيهِ أَيْضا من حَدِيث مُجَاهِد عَن عَطِيَّة «أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جردوه يَوْم قُرَيْظَة فَلَمَّا يرَوا المواسي جرت عَلَى شعره - يُرِيد عانته - تَرَكُوهُ من الْقَتْل» .
وَلَفظ ابْن مَاجَه كَلَفْظِ التِّرْمِذِيّ ذكره فِي الْحُدُود.
قَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن أخرجه: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
قلت: وَصَححهُ ابْن حبَان أَيْضا فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عبد الْملك، عَن عَطِيَّة بِأَلْفَاظ أَحدهَا: «كنت فِيمَن حكم فيهم سعد بن معَاذ فشكُّوا فيَّ أَمن الذُّرِّيَّة أَنا أم من الْمُقَاتلَة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «انْظُرُوا فَإِن [كَانَ] أنبت الشّعْر فَاقْتُلُوهُ وَإِلَّا فَلَا تقتلوه» .
ثَانِيهَا: «فَلم يجدوني أنبت فاستبقيت فها أَنا (ذَا) » .
ثَالِثهَا: «فشكوا فيّ فَقيل لي: هَل أنبتَّ؟ ففتشوني فوجدوني لم أنبت، فخلي سبيلي» .(6/673)
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» فِي مَوَاضِع مِنْهُ فِي الْبَاب وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَفِي كتاب فَضَائِل النيب (وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِي آخر كتاب الْحُدُود. قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه «أَحْكَام النّظر» : وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن عَطِيَّة «لما كَانَ يَوْم قُرَيْظَة جعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من (أنبت) ضربت عُنُقه، فَكنت فِيمَن لم ينْبت فعرضت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فخلى عني» .
قَالَ ابْن الْقطَّان: رِوَايَة حَمَّاد هَذِه تقطع كل نزاع مصرحة بِأَن ذَلِكَ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: وَفِي «المعجم الْكَبِير» « (وَالصَّغِير) » للطبراني من حَدِيث مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أسلم الْأنْصَارِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده أسلم الْأنْصَارِيّ قَالَ: «جعلني رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى أُسَارَى قُرَيْظَة فَكنت أنظر فِي فرج الْغُلَام فَإِن رَأَيْته قد أنبت ضربت عُنُقه، وَإِن لم أره قد أنبت جعلته فِي مَغَانِم الْمُسلمين» .
قَالَ فِي «أَصْغَر معاجمه» : لَا يرْوَى عَن أسلم إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد تفرد بِهِ الزبير بن بكار. قَالَ: وَهُوَ أسلم بن بجرة. قلت: والراوي عَن مُحَمَّد هُوَ إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي فَرْوَة وَهُوَ ضَعِيف.
ذكره ابْن عبد الْبر وَقَالَ: إِن الحَدِيث يَدُور عَلَيْهِ، وَتوقف فِي صِحَة هَذَا الْإِسْنَاد.(6/674)
فَائِدَة: لَا نَعْرِف لعطية غير هَذَا الحَدِيث وَلَا يعرف نسبه.
الحَدِيث السَّادِس
«رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأسماء بنت أبي بكر: إِن الْمَرْأَة إِذا بلغت الْمَحِيض لَا يصلح أَن يرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من رِوَايَة الْوَلِيد عَن سعيد بن بشير، عَن قَتَادَة، عَن خَالِد بن دريك، عَن عَائِشَة «أَن أَسمَاء بنت أبي بكر دخلت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعَلَيْهَا ثِيَاب رقاق، فَأَعْرض عَنْهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ: يَا أَسمَاء، إِن الْمَرْأَة إِذا بلغت الْمَحِيض لم يصلح أَن يرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجهه وكفيه» .
وَرَوَاهُ مُوسَى بن أَيُّوب، عَن الْوَلِيد بِإِسْنَادِهِ فَقَالَ: «وَعَلَيْهَا ثِيَاب شامية رقاق فَأَعْرض عَنْهَا» .
ذكره ابْن عدي، وَهُوَ مَعْلُول من أوجه: أَحدهَا: الطعْن فِي سعيد بن بشير لاسيما فِي رِوَايَته عَن قَتَادَة، وَقد سلف أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ فِي أَوَاخِر بَاب كَيْفيَّة الصَّلَاة.
ثَانِيهَا: أَن خَالِد بن دريك مَجْهُول الْحَال. كَذَا قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه «الْوَهم وَالْإِيهَام» ، وَهُوَ وهم مِنْهُ فقد وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَغير وَاحِد، وَقد قَالَ هُوَ فِي كِتَابه «أَحْكَام النّظر» : خَالِد بن دريك رجل شَامي عسقلاني مَشْهُور يروي عَن ابْن محيريز.(6/675)
قَالَ أَبُو حَاتِم: لَا بَأْس بِهِ. هَذَا نَص مَا ذكره، فَهَذَا خَالف مِنْهُ.
ثَالِثهَا: أَنه مُرْسل، خَالِد بن دريك لم يدْرك عَائِشَة قَالَه أَبُو دَاوُد برمتِهِ وَأَرَادَ بِهِ الِانْقِطَاع. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» من حَدِيث هِشَام عَن قَتَادَة أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الْجَارِيَة إِذا حَاضَت لم يصلح أَن يرَى مِنْهَا إِلَّا وَجههَا ويداها إِلَى الْمفصل» هَذَا معضل.
رَابِعهَا: أَنه مُضْطَرب قَالَ ابْن عدي: لَا أعلم يرويهِ عَن قَتَادَة غير سعيد بن بشير وَقَالَ فِيهِ مَرَّةً: عَن خَالِد بن دريك عَن أم سَلمَة بدل عَن عَائِشَة.
قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه «أَحْكَام النّظر» : فَهَذِهِ زِيَادَة عِلّة الِاضْطِرَاب وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: إِنَّه وهم وَإِنَّمَا هُوَ عَن قَتَادَة عَن خَالِد بن دريك أَن عَائِشَة مُرْسل.
فَائِدَة: المُرَاد بالمحيض هُنَا الْوَقْت وَالزَّمَان الَّذِي تحيض فِيهِ.
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يقبل الله صَلَاة حَائِض إِلَّا بخمار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف بَيَانه فِي شُرُوط الصَّلَاة وَاضحا.
الحَدِيث الثَّامِن
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يَشْتَرِي الْوَصِيّ من مَال الْيَتِيم» .(6/676)
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا أعلم من خرجه بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ وَقد ترْجم الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بَاب لَا يَشْتَرِي [من] مَاله لنَفسِهِ إِذا كَانَ وصيًّا. ثمَّ رُوِيَ فِيهِ أثرا عَن ابْن مَسْعُود فَقَط.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فَثَلَاثَة.
أَحدهَا: «أَن عبد الله بن جَعْفَر اشْتَرَى أَرضًا سبخَة بِثَلَاثِينَ ألفا فَبلغ ذَلِكَ عليًّا فعزم عَلَى أَن يسْأَل عُثْمَان الْحجر عَلَيْهِ، فجَاء عبد الله بن جَعْفَر إِلَى الزبير فَذكر ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ الزبير: أَنا شريكك فَلَمَّا سَأَلَ عَلّي عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهما الْحجر عَلَى عبد الله، فَقَالَ: كَيفَ أحجر عَلَى من كَانَ شَرِيكه الزبير» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي فَقَالَ: ثَنَا مُحَمَّد بن الْحسن أَو غَيره من أهل الصدْق فِي الحَدِيث وهما، عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: «ابْتَاعَ عبد الله بن جَعْفَر بيعا فَقَالَ عَلّي لَآتِيَن عُثْمَان فلأحجرن عَلَيْك. فَأعْلم بذلك [ابْن] جَعْفَر الزبير. فَقَالَ: أَنا شريكك فِي بيعك فَأَتَى [عليّ] عُثْمَان فَقَالَ: احجر عَلَى هَذَا. فَقَالَ الزبير: أَنا شَرِيكه. فَقَالَ عُثْمَان: أحجر عَلَى رجل شَرِيكه الزبير؟ !» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من طَرِيقين.
إِحْدَاهمَا: من حَدِيث [الزبير بن الْمَدِينِيّ] عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن(6/677)
أَبِيه «أَن عبد الله بن جَعْفَر اشْتَرَى أَرضًا بستمائة ألف دِرْهَم، قَالَ: فهمَّ عَلِيٌّ وَعُثْمَان أَن يحجرا عَلَيْهِ. قَالَ: فَلَقِيَهُ الزبير قَالَ: مَا اشْتَرَى أحد بيعا أرخص مِمَّا اشْتريت. قَالَ: فَذكر لَهُ عبد الله الْحجر قَالَ: لَو أَن عِنْدِي مَالا لشاركتك. قَالَ: فَإِنِّي أقرضك نصف المَال. قَالَ: فَإِنِّي شريكك. قَالَ: فأتاهما عَلّي وَعُثْمَان وهما يتراوضان. قَالَ: مَا تراوضان. فَذكر لَهُ الْحجر عَلَى عبد الله بن جَعْفَر فَقَالَ: أتحجران عَلَى رجل أَنا شَرِيكه. قَالَا: لَا، لعمري. قَالَ: فَأَنا شَرِيكه فَتَركه» .
ثَانِيهمَا: من حَدِيث أبي يُوسُف القَاضِي يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه «أَن عبد الله بن جَعْفَر أَتَى الزبير بن الْعَوام فَقَالَ: إِنِّي اشْتريت كَذَا وَكَذَا، وَإِن عليًّا يُرِيد أَن يَأْتِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان - يَعْنِي - فيسأله أَن يحْجر عليَّ فِيهِ فَقَالَ الزبير: أَنا شريكك فِي البيع. وَأَتَى عَلّي عُثْمَان فَذكر ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ عُثْمَان: كَيفَ أحجر عَلَى رجل فِي بيع (شَرِيكه فِيهِ) الزبير» . قَالَ الشَّافِعِي: فعلي لَا يطْلب الْحجر إِلَّا وَهُوَ يرَاهُ، وَالزبير لَو كَانَ الْحجر بَاطِلا (لقَالَ) : لَا يحْجر عَلَى بَالغ حر، وَكَذَلِكَ عُثْمَان بل كلهم يعرف الْحجر.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَعَائِشَة لم (تنكره) أَيْضا. قَالَ: وَقد كَانَ الْحجر مَعْرُوفا فِي عَهده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ من غير أَن يرْوَى عَنهُ إِنْكَار. و (لما) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من طَرِيق أبي يُوسُف قَالَ: قيل:(6/678)
تفرد بِهِ أَبُو يُوسُف، وَقد تَابعه الزبيري الْمدنِي فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم: روينَا من طَرِيق أبي عبيد، حَدَّثَني عَفَّان بن مُسلم، عَن حَمَّاد بن زيد، عَن هِشَام بن حسان، عَن ابْن سِيرِين قَالَ عُثْمَان لعَلي: «أَلا تَأْخُذ عَلَى يَدي ابْن أَخِيك - يَعْنِي عبد الله بن جَعْفَر - وتحجر عَلَيْهِ اشْتَرَى سبخَة بستين ألفا مَا يسرني أَنَّهَا لي بنعلي» .
وَرُوِيَ مُخْتَصرا هَكَذَا وَمُطَولًا من حَدِيث حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن مُحَمَّد بن سِيرِين «أَن عُثْمَان قَالَ لعَلي: خُذ عَلَى يَد ابْن أَخِيك اشْتَرَى سبخَة أبي فلَان بستين ألفا مَا أحب أَنَّهَا لي بِأَقَلّ مَال. فجزأها عبد الله بن جَعْفَر ثَمَانِيَة أَجزَاء وَألقَى فِيهِ الْعمَّال فَأَقْبَلت الأَرْض فَمر بهَا عُثْمَان فَقَالَ: لمن هَذِه؟ قَالُوا: لعبد الله بن جَعْفَر. فَقَالَ: ياابن أخي ولي جزءين مِنْهَا. قَالَ عبد الله بن جَعْفَر: لَا وَالله، ائْتِنِي بالذَّين سفهتني عِنْدهم يطْلبُونَ إليَّ. فَفعل، قَالَ: وَالله لَا أجعَل جزءين مِنْهَا مائَة وَعشْرين ألفا قَالَ عُثْمَان: قد أَخَذتهَا» .
إِذا علمت طرق هَذَا الْأَثر حكمت عَلَى رِوَايَة الرَّافِعِيّ فِي مِقْدَار الثّمن بِكَوْنِهِ «ثَلَاثِينَ ألفا» بالغرابة وَالَّذِي فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ «بستمائة ألف دِرْهَم» وَفِي رِوَايَة ابْن حزم «بستين ألفا» .
وَصَاحب «الْمُهَذّب» ذكره كَرِوَايَة ابْن حزم.
وَقَالَ صَاحب «التنقيب» عَلَى الْمُهَذّب: المُرَاد «بستين ألف» : سِتُّونَ ألف دِرْهَم، هَكَذَا فِي «الصَّحِيح» هَذَا لَفظه.
وَلَا أَدْرِي مَا مُرَاده بِالصَّحِيحِ.
الْأَثر الثَّانِي: «عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما فِي قَوْله تَعَالَى: (فَإِن(6/679)
آنستم مِنْهُم رشدا) مَعْنَاهُ: رَأَيْتُمْ مِنْهُم صلاحًا فِي دينهم وحفظًا لأموالهم» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن عَلّي بن أبي طَلْحَة، عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: « (وابتلوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم) قَالَ: يَقُول الله تَعَالَى: اختبروا الْيَتَامَى عِنْد الحكم فَإِن عَرَفْتُمْ مِنْهُم الرشد فِي حَالهم والإصلاح فِي أَمْوَالهم فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم وَأشْهدُوا عَلَيْهِم» .
وَرَوَاهُ فِي «الْمعرفَة» . كَمَا ذكره الشَّافِعِي سَوَاء، ذكره من حَدِيث مُحَمَّد بن مَرْوَان عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة قَالَ: «رَأَيْتُمْ مِنْهُم صلاحًا فِي دينهم وحفظًا لأموالهم» . قَالَ: وَرُوِيَ فِي مَعْنَاهُ عَن سماك، عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: « (فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا) قَالَ: الْيَتِيم يدْفع إِلَيْهِ مَاله بحلم وعقل ووقار» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ مثله عَن الْحسن وَمُجاهد. هُوَ كَمَا قَالَ، فقد قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» .
وَأما مَا قَالَ الشَّافِعِي فِي مَعْنَى الرشد فقد روينَا عَن الْحسن أَنه قَالَ «فِي قَوْله: (فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا) قَالَ: صلاحًا فِي دينه وحفظًا لمَاله» .(6/680)
وروينا عَن الثَّوْريّ، عَن مَنْصُور، عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: «رشدا فِي الدَّين وصلاحًا فِي المَال» . وروينا مَعْنَاهُ عَن مقَاتل بن حَيَّان. ثمَّ أسْند رِوَايَة أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس ثمَّ قَالَ: والاعتماد عَلَى مَا مَضَى. وَأسْندَ فِي «سنَنه» مقَالَة الْحسن وَمُقَاتِل.
الْأَثر الثَّالِث: «أَن غُلَاما من الْأَنْصَار شَبَّبَ بِامْرَأَة فِي شعره فَرفع إِلَى عمر فَلم يجده أنبت، فَقَالَ لَو أنبت الشّعْر حددتك» . وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث (أبي عبيد، ثَنَا ابْن علية، عَن) إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حبَان «أَن عمر رفع إِلَيْهِ غُلَام ابتهر جَارِيَة فِي شعره (فَقَالَ) : انْظُرُوا إِلَيْهِ. فَلم يُوجد أنبت؛ فدرأ عَنهُ الْحَد» قَالَ أَبُو عبيد: وَبَعْضهمْ يرويهِ عَن عُثْمَان.
قَالَ أَبُو عبيد: والابتهار أَن يقذفها بِنَفسِهِ (فَيَقُول) : فعلت بهَا كَاذِبًا، فَإِن كَانَ قد فعل فَهُوَ الابتيار. ثمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُفْيَان، ثَنَا أَيُّوب بن مُوسَى، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حبَان قَالَ: «أُتِي عمر بن الْخطاب بِابْن أبي الصعبة قد ابتهر امْرَأَة فِي شعره، قَالَ: انْظُرُوا(6/681)
إِلَى مؤتزره. فنظروا فَلم يَجدوا أنبت الشّعْر. فَقَالَ: لَو أنبت الشّعْر لجلدته الْحَد» . وَعَن سُفْيَان، ثَنَا أَبُو حُصَيْن، عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر قَالَ: «أُتِي عُثْمَان بِغُلَام قد سرق، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى مؤتزره. فنظروا فَلم يجدوه أنبت الشّعْر فَلم يقطعهُ» .(6/682)
كتاب الصُّلْح
ذكر فِيهِ خَمْسَة أَحَادِيث:
الحَدِيث الأول
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين، إِلَّا صلحا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث كثير بن زيد، عَن الْوَلِيد بن رَبَاح، عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الصُّلْح جَائِز ... » فَذكره بِزِيَادَة «الْمُسلمين عَلَى شروطهم» .
وَقد أسلفنا الْكَلَام عَلَى هَذَا الْإِسْنَاد فِي بَاب الْمُصراة وَالرَّدّ بِالْعَيْبِ حَيْثُ ذكر الرَّافِعِيّ الْقطعَة الْأَخِيرَة مِنْهُ، وَذكرنَا هُنَاكَ أَن الْحَاكِم أخرجه من هَذَا الْبَاب من (مُسْتَدْركه) (مُخْتَصرا بِدُونِ الِاسْتِثْنَاء) ثمَّ قَالَ: رُوَاة هَذَا الحَدِيث مدنيون وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَله شَاهد من حَدِيث أنس وَعَائِشَة ... فذكرهما بِإِسْنَادِهِ بِلَفْظ: (الْمُسلمُونَ عَلَى شروطهم مَا وَافق الْحق) .
وَرَوَاهُ بعد هَذَا الْموضع بِقَلِيل من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ «الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين) وَلَيْسَ فِي إِسْنَاده كثير بن زيد الْمَذْكُور، ثمَّ(6/685)
قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط (الصَّحِيحَيْنِ) .
قَالَ: وَعبد الله بن الْحُسَيْن المصِّيصِي - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - ثِقَة تفرد بِهِ.
قلت: وَقَالَ ابْن حبَان فِي حَقه: إِنَّه يسرق الحَدِيث.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي كتاب الْأَحْكَام، وَهُوَ فِي أَوَاخِر «مُسْتَدْركه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا بِلَفْظ: «الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين» ثمَّ قَالَ: وَشَاهده حَدِيث عَمْرو بن عَوْف - يَعْنِي: الْآتِي بعده - وَبِه يعرف.
وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن الْعَلَاء، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين» فَهَذِهِ طرق متعاهدة. ثمَّ قَالَ: الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب: ووقف هَذَا الحَدِيث عَلَى عمر أشهر.
قلت: كَذَا ادَّعَاهُ.
وَذكره الشَّافِعِي فِي «الْأُم» و «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إِسْنَاد. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «مَعْرفَته» عَن الْحَاكِم، عَن الْأَصَم، ثَنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصغاني، ثَنَا ابْن كناسَة، ثَنَا جَعْفَر بن برْقَان، عَن معمر الْبَصْرِيّ، عَن أبي الْعَوام الْبَصْرِيّ قَالَ: «كتب عمر إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ... » فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: «وَالصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين إِلَّا صلحا أحل حَرَامًا أَو حرَّم حَلَالا» .(6/686)
ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ هَذَا من أوجه.
قلت: وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ فِي «سنَنه» عَن أبي طَاهِر الْفَقِيه، ثَنَا أَبُو حَامِد بن بِلَال، ثَنَا يَحْيَى بن الرّبيع الْمَكِّيّ [ثَنَا سُفْيَان عَن] إِدْرِيس الأودي قَالَ: (أخرج إِلَيْنَا سعيد بن أبي بردة كتابا فَقَالَ: هَذَا كتاب (عمر) إِلَى أبي مُوسَى ... » فَذكره وَفِيه «وَالصُّلْح جَائِز بَين النَّاس إِلَّا صلحا أحل حَرَامًا أَو حرّم حَلَالا» .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شروطهم، إِلَّا شرطا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا، وَالصُّلْح جَائِز» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» بِلَفْظ «الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين إِلَّا صلحا أحل حَرَامًا أَو حرّم حَلَالا، والمسلمون عَلَى شروطهم إِلَّا شرطا حرم حَلَالا أَو حلل حَرَامًا» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث خَالِد بن مُحَمَّد عَن كثير بِهِ إِلَى آخر الِاسْتِثْنَاء الأول.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.(6/687)
قلت: (بل) واهٍ بِمرَّة، بِسَبَب كثير هَذَا، وَقد أوضحت كَلَام الْأَئِمَّة فِيهِ (فِي) صَلَاة الْعِيدَيْنِ فِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين، عَلَى أَن التِّرْمِذِيّ لم ينْفَرد بتصحيح حَدِيثه، فقد أخرج لَهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» حَدِيثا فِي زَكَاة الْفطر، وَحسن البُخَارِيّ حَدِيثا لَهُ. قَالَ التِّرْمِذِيّ: قلت للْبُخَارِيّ (فِي) حَدِيث كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف، عَن أَبِيه، عَن جده «فِي السَّاعَة الَّتِي ترجى يَوْم الْجُمُعَة» قَالَ: حَدِيث حسن.
وَحسن التِّرْمِذِيّ حَدِيثه: «إِن الدَّين بَدَأَ غَرِيبا» وَكَذَا حَدِيث التَّكْبِير فِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ، كَمَا سلف فِي بَابه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي كتاب حَرْمَلَة عَن عبد الله بن نَافِع عَن كثير.
وَرَوَاهُ فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن زبالة عَن كثير (كَرِوَايَة) ابْن مَاجَه، ثمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو عَامر الْعَقدي عَن كثير والاعتماد عَلَى رِوَايَته، وَمُحَمّد بن الْحسن بن زبالة ضَعِيف بِمرَّة، وَرِوَايَة كثير(6/688)
إِذا انضمت إِلَى مَا قبلهَا [قويتا] . يُشِير إِلَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف قَرِيبا، وخلط ابْن حزم بَين حَدِيث كثير هَذَا وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف، فَقَالَ فِي «محلاه» : وروينا من طَرِيق كثير بن عبد الله وَهُوَ كثير بن (زيد) ، عَن أَبِيه، عَن جده، وَعَن الْوَلِيد بن رَباح، عَن أبي هُرَيْرَة - كِلَاهُمَا - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين إِلَّا صلحا ... » الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: كثير بن عبد الله بن زيد بن عَمْرو سَاقِط مُتَّفق عَلَى إطراحه؛ فَإِن الراوية عَنهُ لَا تحل. كَذَا هُوَ فِي «محلاه» وَقد خلط بَين الترجمتين، وَصَوَابه روينَا من طَرِيق كثير بن عبد الله، عَن أَبِيه، عَن جده، وَمن طَرِيق كثير بن زيد، عَن الْوَلِيد، وَكثير هَذَا مُخْتَلف فِيهِ كَمَا أسلفته لَك فِيمَا مَضَى، وَكثير الأول واهٍ بِمرَّة كَمَا أَشرت إِلَيْهِ هُنَا، وأوضحته فِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نصب بِيَدِهِ ميزابًا فِي دَار الْعَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن أَسْبَاط بن مُحَمَّد، ثَنَا هِشَام بن سعد، عَن عبيد الله بن عَبَّاس أَخُو عبد الله بن عَبَّاس قَالَ: «كَانَ للْعَبَّاس ميزاب عَلَى طَرِيق عمر بن الْخطاب، فَلبس ثِيَابه يَوْم الْجُمُعَة وَقد(6/689)
كَانَ ذُبح (للْعَبَّاس) فرخان، فَلَمَّا وافى الْمِيزَاب صب مَاء بِدَم الفرخين فَأصَاب عمر دم الفرخين، فَأمر عمر بقلعه، ثمَّ رَجَعَ عمر فَطرح ثِيَابه، وَلبس عمر ثيابًا غير ثِيَابه، ثمَّ جَاءَ فَصَلى بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الْعَبَّاس فَقَالَ: وَالله إِنَّه للموضع الَّذِي وَضعه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَقَالَ عمر للْعَبَّاس: وَأَنا أعزم عَلَيْك لما صعدت عَلَى ظَهْري حَتَّى تضعه فِي الْموضع الَّذِي وَضعه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَفعل ذَلِكَ الْعَبَّاس» وَهِشَام هَذَا حسن الحَدِيث، ضعفه النَّسَائِيّ وَغَيره، وَخرج لَهُ مُسلم مُتَابعَة.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث يَعْقُوب بن سُفْيَان، ثَنَا عبيد الله بن مُوسَى، أبنا مُوسَى بن عُبَيْدَة، عَن يَعْقُوب بن زيد: «أَن عمر خرج فِي يَوْم جُمُعَة فقطر ميزاب عَلَيْهِ للْعَبَّاس فَأمر بِهِ فَقلع، فَقَالَ الْعَبَّاس: قلعت ميزابي وَالله مَا وَضعه حَيْثُ كَانَ إِلَّا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِيَدِهِ. فَقَالَ عمر: (وَالله) لَا يَضَعهُ إِلَّا أَنْت بِيَدِك، ثمَّ لَا يكون لَك سلم إِلَّا عمر! قَالَ: فَوضع الْعَبَّاس رجلَيْهِ عَلَى عَاتِقي عمر ثمَّ أَعَادَهُ حَيْثُ كَانَ» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد ورد من وَجْهَيْن آخَرين عَن عمر وعباس، ثمَّ رَوَى بِإِسْنَاد من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمسيب وَمن حَدِيث عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن سعيد بن الْمسيب «أَن عمر ... » فَذكر الْقِصَّة بمعناها، قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضا عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه، عَن جده عمر بِمَعْنَاهُ. وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن أبي هَارُون الْمدنِي مُنْقَطِعًا مُخْتَصرا بِبَعْض مَعْنَاهُ.
قلت: وَطَرِيق عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم رَوَاهَا الْحَاكِم فِي(6/690)
(مُسْتَدْركه) فِي تَرْجَمَة الْعَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم هَذَا، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عمر «أَنه دخل الْمَسْجِد فَإِذا ميزاب للْعَبَّاس شَارِع فِي مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسيل مَاء الْمَطَر مِنْهُ، فَقَالَ (عمر) بِيَدِهِ فَقلع الْمِيزَاب، فَقَالَ: هَذَا الْمِيزَاب لَا يسيل فِي مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -! فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس: وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ؛ إِنَّه هُوَ الَّذِي وضع هَذَا الْمِيزَاب فِي هَذَا الْمَكَان ونزعته أَنْت يَا عمر! فَقَالَ عمر: ضع رجليك عَلَى عنقِي لترده إِلَى مَا كَانَ. فَفعل الْعَبَّاس» ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث كتبناه عَن أبي جَعْفَر وَأبي عَلّي الْحَافِظ؛ لم نَكْتُبهُ إِلَّا بإسنادنا هَذَا، والشيخان لم يحْتَجَّا بِعَبْد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم. قَالَ: وَقد وجدت لَهُ شَاهدا من حَدِيث أهل الشَّام ... فَذكره.
وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» سَأَلت أبي عَن حَدِيث هِشَام بن سعد عَن زيد بن أسلم، وَعَن حَدِيث عبد الله بن عبيد الله بن عَبَّاس، عَن أَبِيه قَالَ: «كَانَ للْعَبَّاس ميزاب عَلَى ظهر الطَّرِيق فَمر عمر ... » الحَدِيث. فَقَالَ: إِن هَذَا خطأ؛ النَّاس لَا يَقُولُونَهُ هَكَذَا.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يمنعن أحدكُم جَاره أَن يضع خَشَبَة عَلَى جِدَاره. قَالَ: فَنَكس الْقَوْم. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: مَا لي أَرَاكُم (عَنْهَا) معرضين، وَالله لأرمينها بَين أكتافكم - أَي: لأرمين هَذِه السّنة(6/691)
بَين أظْهركُم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث مَالك بن شهَاب، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يمْنَع أحدكُم جَاره أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره. ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة: مَا لي أَرَاكُم عَنْهَا معرضين؟ ! وَالله لأرمين بهَا بَين أكتافكم» .
هَذَا لفظ مُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «لَا يمْنَع جَار جَاره» وَقَالَ: «لأرمينها» بدل «لأرمين بهَا» وَأخرجه الشَّافِعِي عَن مَالك كَمَا سلف، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من طرق: مِنْهَا من حَدِيث سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ بِلَفْظ «إِذا اسْتَأْذن أحدكُم جَاره أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره فَلَا يمنعهُ» فَلَمَّا حَدثهمْ طأطئوا رُءُوسهم، فَقَالَ: مَا لي أَجِدكُم معرضين، وَالله لأرمين بهَا بَين (أكتافكم)) . ثمَّ عزاهُ إِلَى مُسلم وَهُوَ فِيهِ سندًا لَا متْنا.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه، وَلَفظ أبي دَاوُد: «إِذا اسْتَأْذن أحدكُم أَخَاهُ أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره فَلَا يمنعهُ. فنكسوا فَقَالَ: مَا لي أَرَاكُم قد أعرضتم لألقينها بَين أكتافكم» وَلَفظ(6/692)
ابْن مَاجَه كَلَفْظِ الْبَيْهَقِيّ أَعْلَاهُ، وَكَذَا التِّرْمِذِيّ ثمَّ قَالَ: حسن صَحِيح. قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن ابْن عَبَّاس وَمجمع بن جَارِيَة.
قلت: هما فِي «سنَن ابْن مَاجَه» وَقد ذكرت لحَدِيث أبي هُرَيْرَة طرقًا فِي «تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب» فَرَاجعهَا مِنْهُ.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا بِطيب نَفْس مِنْهُ» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
أَحدهَا: من طَرِيق ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي خطبَته: أَلا وَإِن الْمُسلم أَخُو الْمُسلم لَا يحل لَهُ دَمه وَلَا شَيْء من مَاله إِلَّا بِطيب نَفسه، أَلا هَل بلغت؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث [يَحْيَى بن أبي بكير] ثَنَا أَبُو يُوسُف، عَن مُحَمَّد بن عبيد الله، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ. وَمُحَمّد هَذَا هُوَ الْعَرْزَمِي سَاقِط، وَله طَرِيق آخر جيد رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي أَوَائِل كتاب الْعلم مِنْهُ من حَدِيث أبي أويس، عَن ثَوْر بن زيد الديلِي، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خطب النَّاس فِي حجَّة الْوَدَاع فَقَالَ: لَا يحل لامرئ من مَال أَخِيه(6/693)
إِلَّا مَا أعطَاهُ (عَن طيب نَفْس) » وَهُوَ حَدِيث طَوِيل وَهَذَا طرف مِنْهُ، ثمَّ قَالَ: قد احْتج البُخَارِيّ بِأَحَادِيث عِكْرِمَة وَمُسلم بِأبي أويس، وَسَائِر رُوَاته مُتَّفق عَلَيْهِم.
قلت: وثور هَذَا اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى الِاحْتِجَاج بِهِ، واتهمه ابْن البرقي بِالْقدرِ، وَكَأَنَّهُ يشْتَبه عَلَيْهِ بثور بن [يزِيد] .
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث عَمْرو بن يثربي عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يحل لامرئ من مَال أَخِيه شَيْء إِلَّا بِطيب نَفْس مِنْهُ»
رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: قَالَ البُخَارِيّ: عَمْرو هَذَا هُوَ عبد الرَّحْمَن بن سعد بن مَالك، وَهُوَ ابْن أبي سعيد الْخُدْرِيّ. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» بعد أَن ذكره من هَذِه الطَّرِيق وَغَيره: أصح مَا رُوِيَ فِيهِ حَدِيث أبي حميد.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل لامرئ أَن يَأْخُذ عَصا أَخِيه بِغَيْر طيب نَفْس مِنْهُ) . وَذَلِكَ(6/694)
لشدَّة مَا حرم الله مَال الْمُسلم عَلَى الْمُسلم.
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» كَذَلِك.
وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» رَوَاهُ من حَدِيث سُهَيْل بن أبي صَالح عَن عبد الرَّحْمَن بن سعد عَن أبي حميد. وَقَالَ غَيره: ابْن سعيد. وَرَوَاهُ غَيرهمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد، عَن عمَارَة بن حَارِثَة الضمرِي عَن عَمْرو بن يثربي. ثمَّ نقل عَن ابْن الْمَدِينِيّ أَنه قَالَ: الحَدِيث عِنْدِي حَدِيث [سُهَيْل] .
الطَّرِيق الرَّابِع: من حَدِيث أنس بن مَالك رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا بِطيب نَفسه» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحَارِث بن مُحَمَّد الفِهري، عَن يَحْيَى بن سعيد عَن أنس بِهِ، والْحَارث هَذَا لَا أعرف حَاله.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق آخر من حَدِيث دَاوُد بن الزبْرِقَان، عَن حميد، عَن أنس مَرْفُوعا: «لَا يشربن أحدكُم مَاء أَخِيه إِلَّا بِطيب نَفسه» .
وَدَاوُد هَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد: مَتْرُوك. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُتَقَارب الحَدِيث.
الطَّرِيق الْخَامِس: من حَدِيث أبي حرَّة الرقاشِي عَن عَمه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا عَن طيب نَفسه» .(6/695)
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَلّي بن زيد بن جدعَان عَن أبي حرَّة.
وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي «مُسْنده» وعليّ هَذَا من رجال مُسلم وَلَقَد لين، وَأَبُو حرَّة الرقاشِي اسْمه: حنيفَة، ضعفه أَبُو حَاتِم، وَعَمه لَا يحضرني اسْمه.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي كتاب الْغَصْب، وَقَالَ عَن «أبي وحرة» بدل «أبي حرَّة» ذكره بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء.
الطَّرِيق السَّادِس: من حَدِيث عبد الله بن السَّائِب عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: «لَا يَأْخُذ أحدكُم مَتَاع أَخِيه لاعبًا وَلَا جادًّا (وَمن أَخذ) عَصا أَخِيه فليردها» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب من «سنَنه» كَذَلِك سَوَاء، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» بِلَفْظ: «لَا يَأْخُذ أحدكُم عَصا أَخِيه لاعبًا (وَلَا) جادًّا، فَمن أَخذ عَصا أَخِيه فليردها إِلَيْهِ» ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب، والسائب بن يزِيد لَهُ صُحْبَة، سمع من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ غُلَام، وقُبض النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ ابْن سبع سِنِين، ووالده(6/696)
يزِيد لَهُ أَحَادِيث رَوَاهَا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ من الصَّحَابَة.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن عبد الله قَالَ: وَفِي رِوَايَة ابْن بَشرَان: عَن عبد الله بن السَّائِب [بن] يزِيد، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا: «لَا يَأْخُذ (أحدكُم) مَتَاع أَخِيه لاعبًا وَلَا جادًّا، وَإِذا أَخذ أحدكُم عَصا أَخِيه فليردها إِلَيْهِ» قَالَ الْأَثْرَم: سَمِعت أَحْمد يُسأل عَن حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن عبد الله هَذَا «لَا يَأْخُذ أحدكُم عَصا أَخِيه» : تعرفه من غير حَدِيث ابْن أبي ذِئْب؟ قَالَ: لَا، وَهُوَ [ابْن] يزِيد بن أُخْت نمر، وَلَا أعرف لَهُ غَيره، وَأما السَّائِب فقد رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الخلافيات» : إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث حسن. قَالَ: وَحَدِيث أبي حرَّة يضم إِلَيْهِ حَدِيث عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس وخطبة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَرِوَايَة عَمْرو بن يثربي فيقوى. وَكَذَا قَالَ فِي «الْمعرفَة» : وروينا فِي حَدِيث عَمْرو بن يثربي ... فَذكره كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: روينَا فِي ذَلِكَ أَيْضا عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَعَن أبي حرَّة الرقاشِي عَن عَمه مَرْفُوعا، وَإِذا ضم بعضه إِلَى بعض صَار قويًّا، وَأَصَح مَا رُوِيَ فِيهِ حَدِيث أبي حميد، وروينا فِي الحَدِيث الثَّابِت عَن أبي بكرَة وَغَيره عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه قَالَ فِي خطبَته بمنى: أَلا إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام؛ كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا، فِي شهركم هَذَا، فِي بلدكم هَذَا» .(6/697)
تَنْبِيه: الرَّافِعِيّ حمل حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف قبل هَذَا (عَلَى الِاسْتِحْبَاب) لأجل هَذَا الحَدِيث، وَفِيه نظر؛ لِأَنَّهُ يُقَال أَنه (خص) من ذَلِكَ الْعَام.(6/698)
كتاب الْحِوَالَة(6/699)
كتاب الْحِوَالَة
ذكر فِيهِ ثَلَاثَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
مَا رَوَاهَا الشَّافِعِي عَن مَالك، عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مطل الْغَنِيّ ظلم، وَإِذا اتبع أحدكُم عَلَى مليءٍ فَليتبعْ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث مَالك بِهِ، رَوَاهُ خَ عَن عبد الله بن يُوسُف، عَن مَالك، عَن يَحْيَى بن يَحْيَى عَنهُ، وَأَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَنهُ، وَالنَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَنهُ، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام من «سنَنه» (عَن هِشَام بن عمار، وَالنَّسَائِيّ فِي الْبيُوع من «سنَنه» ) أَيْضا عَن قُتَيْبَة كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن أبي الزِّنَاد بِهِ. وَله شَاهد من حَدِيث ابْن عمر أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «مطل الْغَنِيّ ظلم، وَإِذا أحلّت عَلَى مليءٍ فَاتبعهُ» رَوَاهُ أَحْمد (فِي(6/701)
«مُسْنده» وَابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام من «سنَنه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن تَوْبَة عَن هشيم) ، عَن يُونُس بن عبيد، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِهِ.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن عبد الله الْحَافِظ عَن هشيم بِهِ، وَهَذَا إِسْنَاد جيد لَكِن نقل الضياء فِي «أَحْكَامه» عَن الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: لم يسمع يُونُس بن عبيد من نَافِع؛ إِنَّمَا سمع من ابْن نَافِع. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى «فَإِذا أُحِيل أحدكُم عَلَى مليءٍ فَليَحْتَلْ» وَهُوَ بِمَعْنى اللَّفْظ الأول.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ وَقد أخرجه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور أَحْمد فِي «مُسْنده» .
فَائِدَة: المطل المدافعة. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: إِنَّه إطالة المدافعة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض وَغَيره: إِنَّه (تَأْخِير) قَضَاء مَا اسْتحق أَدَاؤُهُ. والمليء بِالْهَمْز: الْغَنِيّ المكثر. قَالَه فِي «المستغرب» والأزهري قَالَ: إِنَّه الْغَنِيّ. وَقد ورد (كَذَلِك) فِي رِوَايَة سليم والبندنيجي من أَصْحَابنَا بدل قَوْله: «مليءٍ» وَكَذَا عبارَة صَاحب «المستغرب» : إِنَّه الْغَنِيّ. قَالَ: وَأَصله الْوَاسِع الطَّوِيل. وَقَوله: «فَليتبعْ» هُوَ بِإِسْكَان الْمُثَنَّاة فَوق، وَعَن بعض الْمُحدثين بتشديدها، حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض فِي «شَرحه» وَنَقله الْخطابِيّ عَن(6/702)
أَصْحَاب الحَدِيث، ثمَّ غلطهم فِيهِ وَصوب الإسكان. وَقَوله: «فَإِذا أتبع» قَالَ صَاحب الْبَحْر من أَصْحَابنَا: أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: «اتبع» بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ غلط، وَصَوَابه بِأَلف مَضْمُومَة وباء مُخَفّفَة.
قلت: و «اتبع» يتَعَدَّى بِنَفسِهِ، وعدى هُنَا بِعلَى (تصحيبًا) لَهُ بِمَعْنى أُحِيل، وَنقل الرَّافِعِيّ عَن الْجَوْهَرِي أَنه قَالَ: يُقَال: أتبع فلَان بفلان؛ أَي: أُحِيل لَهُ عَلَيْهِ، و (التبيع) الَّذِي لَك عَلَيْهِ (مَال) وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَهُوَ كَذَلِك فِيمَا قَالَ الرَّافِعِيّ: ثمَّ الْأَشْهر فِي الرِّوَايَة «وَإِذا أُحِيل أحدكُم» بِالْوَاو. قلت: هِيَ رِوَايَة الشَّافِعِي وم وت. قَالَ: وَيروَى: «فَإِذا أُحِيل أحدكُم» بِالْفَاءِ. قلت: هِيَ رِوَايَة خَ (لكنه) قَالَ: «فَإِذا أتبع» بدل «فَإِذا أُحِيل» . قَالَ: فعلَى التَّقْدِير الأول هُوَ مَعَ قَوْله: «مطل الْغَنِيّ ظلم» جملتان لَا تعلق للثَّانِيَة بِالْأولَى؛ كَقَوْلِه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «الْعَارِية مَرْدُودَة، والزعيم غَارِم» وَعَلَى الثَّانِي يجوز أَن يكون الْمَعْنى فِي التَّرْتِيب أَنه إِذا كَانَ المطل ظلما من الْغَنِيّ (فليقبل من حيل بِدِينِهِ عَلَيْهِ) فَإِن الظَّاهِر أَنه يحْتَرز عَن الظُّلم وَلَا يمطل. وَهَذَا إِذا كَانَ الْوَصْف بِالْمَعْنَى يعود إِلَى من عَلَيْهِ الدَّين، وَقد قيل: إِنَّه يعود إِلَى من لَهُ الدَّين، وَعَلَى هَذَا لَا يحْتَاج أَن يذكر فِي التَّقْدِير من الْغَنِيّ. نبه عَلَيْهِ صَاحب «الْمطلب» قَالَ الرَّافِعِيّ: ثمَّ قَوْله: «فَليَحْتَلْ» أَو «فَليتبعْ» أَمر اسْتِحْبَاب، وَعند أَحْمد للْوُجُوب. قلت: وَعند غَيرهمَا للْإِبَاحَة.(6/703)
الحَدِيث الثَّانِي
قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ «الْعَارِية مَرْدُودَة، والزعيم غَارِم» .
هَذَا الحَدِيث سَيَأْتِي بَيَانه عَلَى الإثر - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الحَدِيث الثَّالِث
النَّهْي عَن بيع الدَّين بِالدّينِ.
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي بَاب الْقَبْض وَأَحْكَامه فَرَاجعه من ثَمَّ.(6/704)
كتاب الضَّمَان(6/705)
كتاب الضَّمَان
ذكر فِيهِ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
الحَدِيث الأول
عَن أبي أُمَامَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْعَارِية مَرْدُودَة، وَالدّين مقضي، والزعيم غَارِم» .
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن شُرَحْبِيل بن مُسلم قَالَ: سَمِعت أَبَا أُمَامَة يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «الْعَارِية مُؤَدَّاة، والمنحة مَرْدُودَة، وَالدّين مقضي، والزعيم غَارِم» هَذَا (لفظ أَحْمد) وَلَفظ أبي دَاوُد فِي الْبيُوع مثله إِلَّا أَنه لم يذكر «والمنحة مَرْدُودَة» وَلَفظ التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع والوصايا مثل لفظ أبي دَاوُد فِي الْبيُوع «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع» وَلَفظ ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام: «الْعَارِية مُؤَدَّاة والمنحة مَرْدُودَة» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» فِي الْعَارِية من حَدِيث حَاتِم بن حُرَيْث(6/707)
الْحِمصِي، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا بِمثل لفظ ابْن مَاجَه، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من هَذِه الطَّرِيق بِزِيَادَة عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث الْحجَّاج بن الفرافصة حَدَّثَني مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن أبي عَامر الرصافي، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: «الْعَارِية مُؤَدَّاة ... » الحَدِيث، ومداره خلا طريقي النَّسَائِيّ عَلَى إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش الْحِمصِي كَمَا أسلفته لَك، ورده أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي «محلاه» بِهِ فَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف. وَقد أسلفت لَك أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ فِي بَاب الْغسْل وحكينا عَن الإِمَام أَحْمد وَغَيره صِحَة مَا رَوَاهُ عَن الشاميين دون مَا رَوَاهُ عَن الْحِجَازِيِّينَ، وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَته عَن الشاميين؛ فَإِن إِسْمَاعِيل حمصي من أهل الشَّام فَيكون صَحِيحا عَلَى رَأْي هَؤُلَاءِ، لَا جرم أَن الْمُنْذِرِيّ حسنه هُنَا، وَفِي الْوَصَايَا قَالَ هُنَا: وَقد رُوِيَ عَن أبي أُمَامَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَيْضا من غير هَذَا الْوَجْه. وَنقل الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «إلمامه» عَن التِّرْمِذِيّ أَيْضا تَصْحِيحه، وَالَّذِي رَأَيْته فِي عدَّة نسخ مِنْهُ تحسينه فَقَط. وَصرح بِتَصْحِيحِهِ أَيْضا الْقُرْطُبِيّ فِي «تَفْسِيره» فِي أَوَائِل تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة عِنْد قَوْله تَعَالَى: (وَقُلْنَا يَا آدم اسكن) الْآيَة، وَأغْرب ابْن حزم فَادَّعَى فِي «محلاه» فِي بَاب الْحجر أَن شُرَحْبِيل بن مُسلم مَجْهُول لَا يُدْرَى من هُوَ، وَلَو استحضر هَذَا هُنَا لرد الحَدِيث بِهِ، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ؛ فقد رَوَى عَنهُ(6/708)
جمَاعَة، وَقَالَ الإِمَام (أَحْمد) : هُوَ من ثِقَات الْمُسلمين. وَوَثَّقَهُ أَيْضا ابْن معِين وَالْعجلِي، وأعل طَريقَة النَّسَائِيّ الأولَى بحاتم بن حُرَيْث فَقَالَ: إِنَّه مَجْهُول. وَهَذَا نَحْو قَول أبي حَاتِم: شيخ مَجْهُول. وَقَالَ ابْن معِين: لَا نعرفه. نعم قد عرفه غَيرهم، فروَى عَن خلق، وَعنهُ الْجراح بن مليح وَمُعَاوِيَة بن صَالح، وَقَالَ عُثْمَان الدَّارمِيّ: ثِقَة. لَا جرم أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» كَمَا سلف، وأعل طَرِيقه الثَّانِي بالحجاج بن الفرافصة فَقَالَ: إِنَّه مَجْهُول. وَهُوَ وهم مِنْهُ؛ فقد رَوَى عَن ابْن سِيرِين وَجَمَاعَة، وَعنهُ الثَّوْريّ وَجَمَاعَة. قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ صَالح متعبد. نعم قَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. عَلَى أَن لحَدِيث أبي أُمَامَة هَذَا شَوَاهِد:
أَحدهَا: من حَدِيث أنس رَضي اللهُ عَنهُ رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث مُحَمَّد بن شُعَيْب عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد، عَن سعيد بن أبي سعيد عَنهُ مَرْفُوعا: «الْعَارِية مُؤَدَّاة، والمنحة مَرْدُودَة» قَالَ أَبُو طَاهِر: إِسْنَاده مُتَّصِل.
ثَانِيهَا: حَدِيث سُوَيْد بن جبلة الْفَزارِيّ، رَوَاهُ (الْحَافِظ) أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة سُوَيْد هَذَا من حَدِيث بَقِيَّة عَن الزبيدِيّ عَن رَاشد بن سعد عَنهُ مَرْفُوعا: «الْعَارِية مُؤَدَّاة، والمنحة(6/709)
مَرْدُودَة، والزعيم غَارِم» وَبَقِيَّة حَالَته مَعْلُومَة سلفت، وَرَاشِد هَذَا وثقوه، وشذ ابْن حزم فضعفه، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (لَا يعْتَبر بِهِ، وَفِي «مُخْتَصر الصَّحَابَة» للذهبي) سُوَيْد بن جبلة الْفَزارِيّ لَا تصح لَهُ صُحْبَة، شَامي حَدِيثه مُرْسل. وَبَعْضهمْ يَقُول: لَهُ صُحْبَة رَوَى عَنهُ لُقْمَان بن عَامر وَأَبُو المصبح (المقرائي) .
ثَالِثهَا: من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن عبد الله بن حبَان اللَّيْثِيّ، عَن رجل، عَن آخر مِنْهُم من قَالَ: «إِنِّي لتَحْت نَاقَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصِيبنِي لُعَابهَا ويسيل عَلَى جرنها حِين قَالَ: الْعَارِية مُؤَدَّاة والمنحة مَرْدُودَة» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي «تلخيصه» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة بِهِ، وَابْن لَهِيعَة حَالَته مَعْلُومَة سلفت. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِإِسْنَاد آخر عَن ابْن إِسْحَاق عَن ابْن الْمُبَارك، عَن عبد الله بن يزِيد بن جَابر، عَن سعيد بن أبي سعيد، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَلا إِن الْعَارِية مُؤَدَّاة، والمنحة مَرْدُودَة، وَالدّين مقضي، والزعيم غَارِم» .
فَائِدَة: الزعيم: الْكَفِيل. الْغَارِم: الضَّامِن. والمنحة: النَّاقة أَو الشَّاة يُعْطِيهَا صَاحبهَا غَيره لينْتَفع بهَا ثمَّ يُعِيدهَا.
تَنْبِيه: رُبمَا يَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ فِي هَذَا الحَدِيث «عَن أبي قَتَادَة» بدل «أبي أُمَامَة» وَلَا شكّ أَنه من تَحْرِيف النساخ.(6/710)
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أبي سعد الْخُدْرِيّ رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي جَنَازَة، فَلَمَّا وضعت قَالَ (: هَل عَلَى صَاحبكُم من دين؟ قَالُوا: نعم؛ دِرْهَمَانِ. قَالَ: صلوا عَلَى صَاحبكُم. قَالَ عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ: هما عليّ يَا رَسُول الله وَأَنا لَهما ضَامِن. فَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَصَلى عَلَيْهِ، ثمَّ أقبل عَلَى عليّ وَقَالَ: جَزَاك الله عَن الْإِسْلَام خيرا، وَفك رهانك كَمَا فَككت رهان أَخِيك» .
هَذَا الحَدِيث ذكره كَذَلِك تبعا للمختصر، وَقد أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من هَذَا الْوَجْه - أَعنِي: من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ من طرق إِلَيْهِ - إِلَّا أَن فِيهِ أَن الدَّين كَانَ دينارين، خلاف مَا ذكره تبعا للمختصر. وَفِي بَعْضهَا: «لَيْسَ من عبد يقْضِي عَن أَخِيه دينا إِلَّا فك الله رهانه يَوْم الْقِيَامَة. فَقَامَ رجل من الْأَنْصَار فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لعليّ هَذَا خَاصَّة؟ فَقَالَ: لعامة الْمُسلمين» وَفِي بعض رواياته: «إِنَّه لَيْسَ من ميت يَمُوت وَعَلِيهِ دين إِلَّا وَهُوَ مُرْتَهن بِدِينِهِ، وَمن فك رهان ميت فك الله رهانه يَوْم الْقِيَامَة. فَقَالَ بَعضهم: هَذَا لعليّ خَاصَّة أم للْمُسلمين عَامَّة؟ فَقَالَ: بل للْمُسلمين عَامَّة» وَفِي إِسْنَاده ضعفاء:
أَوَّلهمْ: عَطاء بن عجلَان الْعَطَّار أَبُو مُحَمَّد الْحَنَفِيّ الْبَصْرِيّ وَقد وهّوه، قَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى وَغَيره: كَذَّاب.(6/711)
ثانيهم: عَطِيَّة بن سعد أَبُو الْحسن الْكُوفِي وَقد ضَعَّفُوهُ.
ثالثهم: عبيد الله بن الْوَلِيد الْوَصَّافِي الْكُوفِي من ولد وصاف بن عَامر الْعجلِيّ، وَقد ضَعَّفُوهُ، قَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: مَتْرُوك (قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا الحَدِيث يَدُور عَلَى عبيد الله الْوَصَّافِي، وَهُوَ ضَعِيف) جدًّا. قَالَ: وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن عَلّي بِإِسْنَاد ضَعِيف، فِيهِ عَطاء بن عجلَان؛ وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ: وَالرِّوَايَات فِي (تحمل) أبي قَتَادَة دين الْمَيِّت أصح. وَسَيَأْتِي بعْدهَا بِطرقِهِ.
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُتِي بِجنَازَة ليُصَلِّي عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَل عَلَى صَاحبكُم من دين؟ فَقَالُوا: نعم دِينَارَانِ. فَقَالَ أَبُو قَتَادَة: هما عليَّ يَا رَسُول الله. قَالَ: فَصَلى عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذْ أُتِي بِجنَازَة فَقَالُوا: صل عَلَيْهَا، فَقَالَ: عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: هَل ترك شَيْئا؟ قَالُوا: لَا. فَصَلى عَلَيْهِ. ثمَّ أُتِي بِجنَازَة أُخْرَى فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، صل عَلَيْهَا. قَالَ: هَل عَلَيْهِ دين؟ قيل: نعم. قَالَ: هَل ترك شَيْئا؟ قَالُوا: ثَلَاثَة(6/712)
دَنَانِير. فَصَلى عَلَيْهَا، ثمَّ أُتِي بثالثة فَقَالُوا: صل عَلَيْهَا. قَالَ: هَل ترك شَيْئا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: هَل عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا: ثَلَاثَة دَنَانِير. قَالَ: صلوا عَلَى صَاحبكُم. قَالَ: أَبُو قَتَادَة: صل عَلَيْهِ يَا رَسُول الله وعليَّ دينه. فَصَلى عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْجِنَازَة الأولَى بعد قَوْله «ثَلَاثَة دَنَانِير قَالَ: (ثَلَاث) كيات» .
وَأخرجه أَحْمد و (أَبُو) دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث جَابر، وَفِيه أَن الدَّين كَانَ (دينارين) وَفِي رِوَايَة أَحْمد: «فَلَمَّا فتح الله - عَزَّ وجَلَّ - عَلَى رَسُوله، قَالَ: أَنا أولَى بِكُل مُؤمن من نَفسه؛ من ترك دينا فعليَّ، وَمن ترك مَالا فلورثته» وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي قَتَادَة بِدُونِ تعْيين قدر الدَّين. وَأخرجه أَحْمد وَابْن مَاجَه من حَدِيثه أَيْضا(6/713)
بِتَعْيِين مِقْدَاره، وَهُوَ تِسْعَة عشر أَو ثَمَانِيَة عشر درهما وَفِيه: «أَن الْمَيِّت رجل من الْأَنْصَار» . وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «سَبْعَة عشر» بدل «تِسْعَة عشر» ولعلها تصحيفًا. وَفِي رِوَايَتَيْنِ لَهُ من هَذَا الْوَجْه «أَن الدَّين كَانَ دينارين» .
وأخرجها أَحْمد أَيْضا، وَأخرج رِوَايَة ثَالِثَة وَهِي الْجَزْم بِكَوْنِهِ «ثَمَانِيَة عشر درهما» وَفِي (ثِقَات ابْن حبَان) عبد الْملك بن رَاشد قَالَ: سَمِعت أَبَا أُمَامَة يَقُول: «توفّي رجل عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأتي بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ليُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَل ترك عَلَيْهِ دينا؟ قَالُوا: نعم، ترك دينارين. فَقَالَ: صلوا عَلَى صَاحبكُم. فَقَالَ رجل من الْقَوْم: أَنا أقضيها عَنهُ يَا رَسُول الله. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: قَضَاء غير بَقَاء؟ فَقَالَ الرجل: نعم. فَصَلى عَلَيْهِ» . رَوَى عَنهُ بَقِيَّة بن الْوَلِيد، وَقَالَ بَقِيَّة: «غير بَقَاء (غير) مطل» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَجَاء فِي رِوَايَة أَن عليًّا لما قَضَى (عَنهُ) دينه (قَالَ) : «الْآن برَّدت عَلَيْهِ جلده» .
قلت: هَذَا غَرِيب، وَالْمَعْرُوف أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ(6/714)
لأبي قَتَادَة. كَذَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث جَابر رَضي اللهُ عَنهُ، وَقَالَ الْحَاكِم: إِنَّه حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ «قَبره» بدل «جلده» . وَالْمُصَنّف تبع الْغَزالِيّ؛ فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك فِي الْوَصَايَا من «وسيطه» وَنبهَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» عَلَى أَنه من أَوْهَامه وَأَن صَوَابه «قَالَ لأبي قَتَادَة» كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَفِي رِوَايَة للدارقطني وَالْحَاكِم فِي حَدِيث جَابر هَذَا «فَجعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول لأبي قَتَادَة: هما عَلَيْك وَفِي مَالك، وَالْمَيِّت مِنْهُمَا بَرِيء. فَقَالَ: نعم» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَنه لما ضمن أَبُو قَتَادَة الدينارين عَن الْمَيِّت قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: هما عَلَيْك حق الْغَرِيم وَبرئ الْمَيِّت. قَالَ: نعم. فَصَلى عَلَيْهِ» .
قلت: هَذِه الرِّوَايَة أخرجهَا الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل قَالَ: قَالَ جَابر: «توفّي رجل فغسلناه وكفناه، ثمَّ أَتَيْنَا بِهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ليُصَلِّي عَلَيْهِ، فتخطى خطا ثمَّ قَالَ: هَل عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: فَانْصَرف، فتحملها أَبُو قَتَادَة، فأتيناه فَقَالَ أَبُو قَتَادَة: الديناران عليَّ. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: حق الْغَرِيم وَبرئ مِنْهُمَا الْمَيِّت. قَالَ: نعم. فَصَلى عَلَيْهِ ... » ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث، وَفِي آخِره: «الْآن برَّدت عَلَيْهِ جلده - حِين ذكر أَنه قضاهما» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد أخبر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ فِي هَذِه الراوية أَنه بِالْقضَاءِ برد عَلَيْهِ جلده.(6/715)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقَوله: «حق الْغَرِيم ... » إِلَى آخِره إِن كَانَ حفظه ابْن عقيل؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا عني - وَالله أعلم - للْغَرِيم مطالبتك بهما وَحدك إِن شَاءَ، كَمَا لَو كَانَ لَهُ عَلَيْك حق من وَجه آخر، وَالْمَيِّت مِنْهُ بَرِيء كَانَ لَهُ مطالبتك بِهِ وَحدك إِن شَاءَ.
فَائِدَة: قَوْله: «برَّدت عَلَيْهِ جلده» هُوَ بتَشْديد الرَّاء، قَالَ النَّوَوِيّ فِي الْجَنَائِز من «خلاصته فِي الْأَحْكَام» : وَإِنَّمَا ضبطتها لِأَن بعض المصنفين غلط فِي ضَبطهَا. قَالَ الرَّافِعِيّ: ثمَّ نقل الْعلمَاء أَن هَذَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام لم يكن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي عَلَى من لم (يخلف) وَفَاء (من) المديونين؛ لِأَن صلَاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ شَفَاعَة مُوجبَة للمغفرة، وَلم يكن حِينَئِذٍ فِي المَال سَعَة، فَلَمَّا فتح الله - عَزَّ وجَلَّ - الْفتُوح قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «أَنا أولَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم» وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَاضحا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
الحَدِيث الرَّابِع
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَنقل عَنهُ « (أَنه قَالَ فِي خطبَته: من خلف مَالا أَو حقًّا فلورثته، وَمن خلَّف كلا أَو دين فكلَّه إليَّ وَدينه عليَّ. قيل: يَا رَسُول الله، وَعَلَى كل إِمَام بعْدك؟ قَالَ: وَعَلَى كل إِمَام بعدِي» .
هَذَا تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك الإِمَام وَالْقَاضِي حُسَيْن، وصدره ثَابت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُؤْتَى(6/716)
بِالرجلِ الْمُتَوفَّى وَعَلِيهِ الدَّين فَيسْأَل: هَل ترك لدينِهِ قَضَاء؟ فَإِن حدث أَنه ترك وَفَاء صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَالَ للْمُسلمين: صلوا عَلَى صَاحبكُم. قَالَ: فَلَمَّا فتح الله عَلَى رَسُوله كَانَ يُصَلِّي وَلَا يسْأَل عَن الدَّين، وَكَانَ يَقُول: أَنا أولَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم؛ فَمن توفّي من الْمُؤمنِينَ فَترك دينا أَو كلا أَو ضيَاعًا فعليَّ وإليَّ، وَمن ترك مَالا فلورثته» وثابت أَيْضا من حَدِيث جَابر كَمَا أسلفته لَك فِي الحَدِيث الثَّالِث قَرِيبا، وَأما عَجزه وَهُوَ قَوْله: «يَا رَسُول الله ... » إِلَى آخِره فتعبت عَلَيْهِ دهرًا إِلَى أَن وَجدتهَا فِي حَدِيث آخر فِي «المعجم الْكَبِير» للطبراني رَوَاهُ من حَدِيث أبي [الصَّباح] عبد الغفور بن سعيد الْأنْصَارِيّ، عَن أبي هَاشم الرماني، عَن زَاذَان، عَن سُلَيْمَان قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نفدي سَبَايَا الْمُسلمين ونعطي سائلهم. ثمَّ قَالَ: من ترك مَالا فلورثته، وَمن (ترك) دينا فعليَّ وَعَلَى الْوُلَاة من بعدِي من بَيت مَال الْمُسلمين» .
و (عبد الغفور) هَذَا تَرَكُوهُ وَنسب إِلَى الْوَضع.
فَائِدَة: «الكَلّ» فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة - بِفَتْح الْكَاف وَتَشْديد اللَّام -: الْعِيَال والضياع أَيْضا، وَهُوَ بِفَتْح الضَّاد أَيْضا، وَرُوِيَ بِكَسْرِهَا، جمع ضائع، كَمَا يُقَال: جَائِع وجياع. قَالَ الْخطابِيّ: وَالْمَحْفُوظ الأول. وَقَالَ ابْن بري: من رَوَاهُ بِالْفَتْح فَمَعْنَاه من ترك ضائعة، فَأَقَامَ الْمصدر مقَام اسْم الْفَاعِل، كَمَا يُقَال: مَاء غور؛ أَي: غائر، وَأما من كسر فَظَاهر.(6/717)
كتاب الشّركَة(6/719)
[1] كتاب الشّركَة
ذكر فِيهِ ثَلَاثَة أَحَادِيث.
أَحدهَا
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَقُول الله - تَعَالَى -: أَنا ثَالِث الشَّرِيكَيْنِ مَا لم يخن أَحدهمَا صَاحبه؛ فَإِذا خانه خرجتُ من بَينهمَا» .
هَذَا الحَدِيث جيد الْإِسْنَاد.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث مُحَمَّد بن (الزبْرِقَان عَن) أبي حَيَّان يَحْيَى بن سعيد بن حَيَّان التَّيْمِيّ، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِن الله - تَعَالَى - يَقُول ... » فَذكره، وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَخَالف ابْن الْقطَّان فأعله بوالد [أبي] حَيَّان وَقَالَ: لَا يعرف لَهُ حَال، وَلَا يعرف رَوَى عَنهُ غير ابْنه. وَتَابعه عَلَى ذَلِكَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» فَقَالَ: لَا يكَاد يعرف.(6/721)
قلت: قد عرفه ابْن حبَان فَذكره فِي «ثقاته» وَذكر أَنه رَوَى عَنهُ مَعَ وَلَده الْحَارِث بن (سُوَيْد) .
قلت: وَرَوَى عَنهُ القَاضِي شُرَيْح أَيْضا؛ فَزَالَ مَا (ادعياه) . نعم أعله الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» بِالْإِرْسَال حَيْثُ رَوَاهُ جرير عَن أبي حَيَّان عَن أَبِيه مُرْسلا، وَقَالَ: إِنَّه الصَّوَاب. وَأخرج هَذَا الْمُرْسل فِي «سنَنه» أَيْضا بِلَفْظ: «يَد الله عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لم يخن أَحدهمَا صَاحبه؛ فَإِذا خَان أَحدهمَا صَاحبه رَفعهَا عَنْهُمَا» . وَأخرج قبل هَذَا الْمُتَّصِل كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: قَالَ (لوين) : لم يسْندهُ غير أبي همام وَحده. قلت: هُوَ مُحَمَّد (بن الزبْرِقَان) السالف، وَهُوَ ثِقَة، فَيَأْتِي فِيهِ مَا فِي تعَارض الْمُرْسل مَعَ الْمُتَّصِل، وَله شَاهد من حَدِيث حَكِيم بن حزَام، أخرجه الْأَصْبَهَانِيّ (فِي) «ترغيبه وترهيبه» من حَدِيث أبي الْخَلِيل عَنهُ مَرْفُوعا: «البيعان بِالْخِيَارِ، وَيَد الله عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لم يخن أَحدهمَا صَاحبه؛ فَإِن صدقا وَبينا وَجَبت (الْبركَة) بَينهمَا، وَإِن كتما وكذبا محقت الْبركَة من بيعهمَا» .
فَائِدَة: مَعْنَى «أَنا ثَالِث الشَّرِيكَيْنِ» : أَنا مَعَهُمَا بِالْحِفْظِ وَالرِّعَايَة؛(6/722)
فأمدها بالمعونة فِي أموالهما وَأنزل الْبركَة فِي تجارتهما، فَإِذا وَقعت بَينهمَا الْخِيَانَة رفعت الْبركَة (والإعانة عَنْهُمَا) فَهُوَ مَعْنَى خرجت من بَينهمَا» وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ آخر الحَدِيث: يَعْنِي أَن الْبركَة تنْزع من بَينهمَا. وَزَاد رُزين فِي آخِره: «وَجَاء الشَّيْطَان» وَهُوَ كِنَايَة أَيْضا فِي انتزاع الْبركَة من مَالهمَا.
الحَدِيث الثَّانِي
«أَن السَّائِب بن يزِيد كَانَ شريك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل المبعث وافتخر بشركته بعد المبعث» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن السَّائِب بن أبي السَّائِب «أَنه كَانَ يُشَارك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل الْإِسْلَام فِي التِّجَارَة، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْفَتْح جَاءَهُ فَقَالَ: مرْحَبًا بأخي وشريكي، كَانَ لَا يُدَارِي وَلَا يُمَارِي» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» أَيْضا عَن مُجَاهِد، عَن قَائِد السَّائِب، عَن السَّائِب بن أبي السَّائِب قَالَ: «أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَجعلُوا يثنون عليَّ ويذكروني، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَنا أعلمكُم بِهِ. فَقلت: صدقت (بِأبي وَأمي) كنت شَرِيكي فَنعم الشَّرِيك؛ كنت لَا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي» . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» أَيْضا عَن السَّائِب «أَنه قَالَ للنَّبِي (: كنت شَرِيكي فِي الْجَاهِلِيَّة؛ فَكنت خير شريك (كنت لَا تداريني و(6/723)
لَا تماريني) » وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «الْيَوْم وَاللَّيْلَة» أَيْضا، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» أَيْضا عَن مُجَاهِد، عَن السَّائِب بن أبي السَّائِب «أَنه كَانَ شريك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي أول الْإِسْلَام فِي التِّجَارَة، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْفَتْح قَالَ: مرْحَبًا بأخي وشريكي لَا يُدَارِي وَلَا يُمَارِي» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِسَنَد أبي دَاوُد وَالْحَاكِم وَلَفْظهمَا.
فَائِدَة: قد عرفت أَن هَذَا الحَدِيث (من) رِوَايَة السَّائِب بن أبي السَّائِب، وَاسم أبي السَّائِب صَيْفِي بن عَابِد، لَا السَّائِب بن يزِيد، ذَاك آخر ولد فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة. قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» عَن أَبِيه: رُوِيَ «أَن قيس بن السَّائِب كَانَ شريك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَن عبد الله أَيْضا كَانَ شَرِيكه» قَالَ: وَعبد الله لَيْسَ بالقديم، وَكَانَ عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[حَدثا] وَالشَّرِكَة بِأَبِيهِ (أشبه) وَقَالَ أَبُو عمر فِي «الِاسْتِيعَاب» : اخْتلف فِيمَن كَانَ شَرِيكه؛ فَمنهمْ من يَقُول: السَّائِب بن أبي السَّائِب، وَمِنْهُم من يَقُول: لأبي السَّائِب، وَمِنْهُم من يَقُول لقيس بن السَّائِب، وَقيل: لعبد الله بن السَّائِب، وَهَذَا اضْطِرَاب لَا يثبت بِهِ شَيْء وَلَا تقوم بِهِ حجَّة، والسائب بن (أبي) السَّائِب من الْمُؤَلّفَة، وَمِمَّنْ حسن إِسْلَامه مِنْهُم.(6/724)
فَائِدَة ثَانِيَة: يدارئ مَهْمُوز وَمَعْنَاهُ (يشاغب) وَيُخَالف صَاحبه، قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» وَقَالَ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» : الرِّوَايَة يُدَارِي بِغَيْر همزَة (ليزواج) يُمَارِي. وَعبارَة ابْن الْأَثِير: المماراة المجادلة والملاحاة. قَالَ: وَوَقع فِي رِوَايَة رزين «كنت لَا تشاري» . وَقَالَ: وَهِي الملاحاة. قَالَ: والمداراة المدافعة. وَهَذِه الرِّوَايَة أخرجهَا أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة قيس بن السَّائِب قَالَ: وَهُوَ شريك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْجَاهِلِيَّة. وأخرجها أَيْضا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَذَلِك، وَهَذَا لَفظه: «وَكَانَ (شَرِيكا فِي الْجَاهِلِيَّة لخير شريك لَا يُمَارِي وَلَا يشاري» .
الحَدِيث الثَّالِث
يَنْبَغِي أَن يعد أثرا، وَهُوَ «أَن الْبَراء بن عَازِب وَزيد بن أَرقم كَانَا شَرِيكَيْنِ» .
وَهَذَا صَحِيح رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن يَحْيَى بن أبي بكير، ثَنَا إِبْرَاهِيم بن نَافِع قَالَ: سَمِعت عَمْرو بن دِينَار يذكر عَن [أبي](6/725)
الْمنْهَال «أَن زيد بن أَرقم والبراء بن عَازِب كَانَا شَرِيكَيْنِ، فاشتريا فضَّة بِنَقْد ونسيئة، فَبلغ ذَلِكَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَمرهمَا أَن مَا كَانَ بِنَقْد فأجيزوه، وَمَا كَانَ بنسيئة فَردُّوهُ» .
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَلَيْسَ هُوَ بمرسل كَمَا يَبْدُو لَك من ظَاهره، لَا جرم أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن عَمْرو بن عَلّي، أبنا أَبُو عَاصِم، عَن عُثْمَان - يَعْنِي: ابْن الْأسود - قَالَ: أَخْبرنِي سُلَيْمَان بن أبي [مُسلم] قَالَ: سَأَلت [أَبَا] الْمنْهَال عَن الصّرْف يدا بيدٍ [فَقَالَ: اشْتريت أَنا وَشريك لي شَيْئا يدا بيد] ونسيئة، فجاءنا الْبَراء بن عَازِب فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: (فعلت) أَنا وشريكي زيد بن أَرقم وَسَأَلنَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (عَن ذَلِكَ) قَالَ: مَا كَانَ يدا بيدٍ فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَة فَردُّوهُ» .
وَهَذَا الحَدِيث أحسن مَا يسْتَدلّ بِهِ أَيْضا عَلَى الرَّاجِح عِنْد الْمُتَأَخِّرين فِي تَفْرِيق الصَّفْقَة.(6/726)
كتاب الْوكَالَة(6/727)
كتاب الْوكَالَة
ذكر فِيهِ عشرَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه وكل السعاة لأخذ الصَّدقَات» .
هُوَ كَمَا قَالَ ثَبت، وَهَذَا قد أسلفناه وَاضحا فِي كتاب الزَّكَاة فَليُرَاجع مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وكل عُرْوَة الْبَارِقي ليَشْتَرِي لَهُ أضْحِية» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي كتاب البيع فَرَاجعه من ثمَّ، وكرره الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وكل عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي فِي قبُول نِكَاح أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الْفُقَهَاء كلهم (هَكَذَا) وَذكره كَذَلِك الْمُحدثين: الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» فِي أَوَائِل كتاب النِّكَاح فِي أثْنَاء(6/729)
مَسْأَلَة النِّكَاح لَا تقف عَلَى الْإِجَازَة، وَأَنه قَالَ: إِن قيل: كَانَ صِحَة نِكَاح أم حَبِيبَة مَوْقُوفا عَلَى قبُول النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قُلْنَا: بل كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث عَمْرو بن أُميَّة وَكيلا لقبُول العقد، ثمَّ اسْتشْهد عَلَى ذَلِكَ بِرِوَايَة أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلّي بن الْحُسَيْن « (أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث عَمْرو إِلَى النَّجَاشِيّ فَزَوجهُ أم حَبِيبَة» ) . وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» فِي النِّكَاح أَيْضا: «إِنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ وكل عَمْرو بن أُميَّة ليزوجه أم حَبِيبَة» . روينَا عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلّي أَنه حَكَاهُ. و (اسْتشْهد فِي السّنَن) «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بعث عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي (إِلَى) النَّجَاشِيّ فَزَوجهُ أم حَبِيبَة» وَهُوَ مُحْتَمل لِأَن يكون هُوَ الْوَكِيل فِي الْقبُول أَو النَّجَاشِيّ، وَقد قيل: إِن النَّجَاشِيّ عقد عَلَيْهَا عَنْهَا وَعَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، لِأَنَّهُ كَانَ أَمِير الْموضع وسلطانه وَهُوَ ظَاهر مَا فِي «سنَن أبي دَاوُد» وَالنَّسَائِيّ وَقيل: إِن الَّذِي زَوجهَا عُثْمَان بن عَفَّان بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة ابْن ابْن عَم أَبِيهَا. وَقيل: خَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة وَهُوَ ابْن ابْن عَم أَبِيهَا؛ لِأَنَّهَا أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان بن حَرْب بن أُميَّة، وَالْعَاص هُوَ ابْن أُميَّة وَكَانَ أَبوهَا كَافِرًا إِذْ ذَاك لَا ولَايَة لَهُ مَعَ غيبته وَهُوَ (الْمَذْكُور فِي السِّيرَة وَغَيرهَا، و «الْأُم» للشَّافِعِيّ أَيْضا. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون النَّجَاشِيّ هُوَ) الْخَاطِب عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - والعاقد هُوَ عُثْمَان بن عَفَّان، وَأصْدقهَا النَّجَاشِيّ أَرْبَعمِائَة(6/730)
دِينَار - (وَقيل: مِائَتي دِينَار، وَقيل: أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم. وَرَأَيْت فِي «الصِّحَاح» لِابْنِ السكن أَرْبَعمِائَة دِرْهَم) - وَهَذَا لَفظه: عَن أم حَبِيبَة قَالَت: «تزَوجنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنا بِأَرْض الْحَبَشَة، فَزَوجهُ إِيَّاهَا النَّجَاشِيّ ومهرها من عِنْده أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، وَلم يُعْطهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْئا، وَبعث بهَا مَعَ شُرَحْبِيل بن حَسَنَة» كَذَا هُوَ فِيهِ «أَرْبَعمِائَة دِرْهَم» و (صَوَابه: أَرْبَعَة) آلَاف. كَذَا هُوَ فِي «مُسْند أَحْمد» من هَذَا الْوَجْه. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَن أَبَا سُفْيَان طلب من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاثًا؛ مِنْهَا أَن يُزَوجهُ أم حَبِيبَة» هَذَا من الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة بالإشكال الْمَعْرُوفَة بالإعضال، وَوجه الْإِشْكَال: أَن أَبَا سُفْيَان إِنَّمَا أسلم يَوْم الْفَتْح، وَالْفَتْح سنة ثَمَان، وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ قد تزَوجهَا (قبل ذَلِكَ) بِزَمن طَوِيل. قَالَ خَليفَة بن خياط: (وَالْمَشْهُور عَلَى) أَنه تزَوجهَا سنة سِتّ، وَدخل بهَا سنة سبع. وَقيل: تزَوجهَا سنة سبع، وَقيل: سنة خمس، وَقد أوضحت الْجَواب عَن هَذَا الْإِشْكَال فِي «شرح الْعُمْدَة» فِي كتاب النِّكَاح فَليُرَاجع مِنْهُ.
الحَدِيث الرَّابِع
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ وكل أَبَا رَافع فِي قبُول نِكَاح مَيْمُونَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ عَن ربيعَة(6/731)
(بن أبي) عبد الرَّحْمَن، عَن سُلَيْمَان بن يسَار «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث أَبَا رَافع مَوْلَاهُ ورجلا من الْأَنْصَار، فزوجاه مَيْمُونَة بنت الْحَارِث وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ قبل أَن يخرج» وَهَذَا مُرْسل، وَرَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث حَمَّاد بن زيد، عَن مطر، عَن ربيعَة، عَن سُلَيْمَان، عَن أبي رَافع «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تزوج مَيْمُونَة حَلَالا، وَبَنَى بهَا حَلَالا وَكنت أَنا الرَّسُول بَينهمَا» و (حسنه) التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: وَلَا نعلم أحدا أسْندهُ غير حَمَّاد (عَن) مطر. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رَوَاهُ مطر الْوراق، عَن ربيعَة، عَن سُلَيْمَان، عَن أبي رَافع قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي غلط من مطر؛ لِأَن سُلَيْمَان بن يسَار ولد سنة أَربع وَثَلَاثِينَ، وَقيل: سنة سبع وَعشْرين، وَمَات أَبُو رَافع بِالْمَدِينَةِ إِثْر قتل عُثْمَان، وَكَانَ قَتله فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ، فَغير مُمكن سَمَاعه وممكن أَن يسمع من مَيْمُونَة؛ لِأَنَّهَا توفيت سنة سِتّ وَسِتِّينَ بسرف و (هِيَ) مولاته ومولاة إخْوَته، أعتقتهم وولاؤهم لَهَا، ويستحيل أَن يخْفَى عَلَيْهِ أمرهَا.
قلت: وَأما ابْن الْقطَّان فَقَالَ: أَنا أَظن أَن الحَدِيث الْمَذْكُور مُتَّصِل(6/732)
بِاعْتِبَار أَن يكون الصَّحِيح فِي مولد سُلَيْمَان قَول من قَالَ: سنة سبع وَعشْرين؛ فَيكون سنة نَحْو ثَمَانِيَة أَعْوَام يَوْم مَاتَ أَبُو رَافع، وَقد يَصح (سَماع) من هَذِه سنه.
وَقد ذكر ابْن أبي خَيْثَمَة حَدِيث نزُول الأبطح، وَفِيه: عَن صَالح بن كيسَان أَنه سمع (سُلَيْمَان) بن يسَار يَقُول: أَخْبرنِي أَبُو رَافع ... فَذكر الحَدِيث، فَفِي هَذَا ذكر سَمَاعه مِنْهُ.
قلت: (وَرُوِيَ من غير حَدِيث أبي رَافع) قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدَّثَني إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن مُوسَى (عَن) الْمفضل بن أبي عبد الله، عَن عَلّي بن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ: «لما أَرَادَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْخُرُوج إِلَى مَكَّة بعث أَوْس بن خولي وَأَبا رَافع إِلَى الْعَبَّاس فَزَوجهُ مَيْمُونَة» .
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: كَانَت مَيْمُونَة عِنْد أبي رهم، وَهِي الَّتِي وهبت نَفسهَا للنَّبِي (وَكَانَ خرج مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقعدَة، فَلَمَّا بلغ مَوضِع كَذَا بعث جَعْفَر بن أبي طَالب فَخَطب مَيْمُونَة، فَجعلت أمرهَا إِلَى الْعَبَّاس، فَزَوجهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: وَرِوَايَة أبي رَافع السالفة أَنه تزَوجهَا حَلَالا تعارضه رِوَايَة ابْن عَبَّاس أَنه تزَوجهَا محرما. وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى ذَلِكَ فِي كتاب النِّكَاح حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ - إِن شَاءَ الله ذَلِكَ.(6/733)
الحَدِيث الْخَامِس
عَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «أردْت الْخُرُوج إِلَى خَيْبَر فَذَكرته لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِذا لقِيت وَكيلِي فَخذ مِنْهُ خَمْسَة عشر وسْقا؛ فَإِن ابْتَغَى مِنْك آيَة فضع يدك (عَلَى) ترقوته» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي بَاب الْوكَالَة فِي آخر كتاب الْقَضَاء من «سنَنه» من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن أبي نعيم وهب بن كيسَان، عَن جَابر أَنه سَمعه يحدث قَالَ: «أردْت الْخُرُوج إِلَى خَيْبَر فَأتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسلمت عَلَيْهِ، وَقلت لَهُ: إِنِّي أردْت الْخُرُوج إِلَى خَيْبَر. فَقَالَ: إِذا أتيت وَكيلِي فَخذ (مِنْهُ)
» إِلَى آخر مَا ذكره الرَّافِعِيّ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا بِزِيَادَة: «فَلَمَّا وليت دَعَاني فَقَالَ: خُذ مِنْهُ ثَلَاثِينَ وسْقا، فوَاللَّه مَا [لآل مُحَمَّد بِخَيْبَر] تَمْرَة غَيرهَا، فَإِن ابْتَغَى ... » إِلَى آخِره.
فَائِدَة: الترقوة: الْعظم الَّذِي بَين ثغرة النَّحْر والمنكبين.
تَنْبِيه: هَذِه الْأَحَادِيث ذكرهَا الرَّافِعِيّ لإِثْبَات جَوَاز الْوكَالَة، وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة شهيرة فِيهِ مِنْهَا (مَا) ذكره بعد (فِي) استنابته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ فِي ذبح الْهَدْي، وَمِنْهَا قَوْله: «اذْهَبُوا بِهِ فارجموه»(6/734)
وَمِنْهَا قَوْله: «واغد يَا أنيس ... » إِلَى آخِره، وَمِنْهَا قَول أبي هُرَيْرَة: «وكلني النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حفظ زَكَاة رَمَضَان» وَغير ذَلِكَ من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الشهيرة.
الحَدِيث (السَّادِس)
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أناب فِي ذبح الْهَدَايَا والضحايا» .
أما فِي الْهَدَايَا فَصَحِيح ثَابت، كَمَا أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عَلّي «أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أقوم عَلَى بدنه ... » الحَدِيث كَمَا سَيَأْتِي فِي الضَّحَايَا، وناب فِيهِ أَيْضا عَن غَيره كَمَا مر فِي الحَدِيث الْحَادِي عشر من بَاب بَيَان وُجُوه الْإِحْرَام، وَأما فِي الضَّحَايَا فَلَا يحضرني.
الحَدِيث (السَّابِع)
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي قصَّة مَاعِز: اذْهَبُوا بِهِ فارجموه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «أَتَى رجل من أسلم إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي زَنَيْت! فَأَعْرض عَنهُ فَتنَحَّى تِلْقَاء وَجهه، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي زَنَيْت. فَأَعْرض عَنهُ، حَتَّى ثنى ذَلِكَ أَربع مَرَّات، فَلَمَّا شهد عَلَى نَفسه أَربع شَهَادَات دَعَاهُ، فَقَالَ: أبك(6/735)
جُنُون؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَل أحصنت؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اذْهَبُوا بِهِ فارجموه» قَالَ ابْن شهَاب: فَأَخْبرنِي من سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: «فرجمناه بالمصلى، فَلَمَّا أذلقته الْحِجَارَة هرب، حَتَّى أدركناه بِالْحرَّةِ فرجمناه» وَهَذَا الرجل هُوَ مَاعِز بن مَالك، كَمَا جَاءَ فِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره.
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «واغد يَا أنيس عَلَى امْرَأَة هَذَا؛ فَإِن اعْترفت فارجمها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، وَقد ذكره الرَّافِعِيّ فِي اللّعان وَالْحَد، وسنذكره هُنَاكَ بِكَمَالِهِ - إِن شَاءَ الله - فَإِنَّهُ أليق بِهِ.
الحَدِيث التَّاسِع
قَالَ الرَّافِعِيّ: عقد الْإِمَارَة يقبل التَّعْلِيق عَلَى مَا قَالَه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ «فَإِن أُصِيب زيد فجعفر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عبد الله بن عمر قَالَ: «أمَّرَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي غَزْوَة مُؤْتَة زيد بن حَارِثَة(6/736)
فَقَالَ: إِن قتل زيد فجعفر، وَإِن قتل جَعْفَر فعبد الله بن رَوَاحَة. قَالَ ابْن عمر: فَكنت مَعَهم فِي تِلْكَ الْغَزْوَة، والتمسنا (جَعْفَر) فوجدناه فِي الْقَتْلَى، وَوجدنَا فِيمَا أقبل من جسده بضعًا وَتِسْعين مَا بَين طعنة ورمية» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَن عبد الله بن عمر وقف عَلَى جَعْفَر يَوْمئِذٍ وَهُوَ قَتِيل فعددت بِهِ خمسين بَين طعنة وضربة لَيْسَ مِنْهَا شَيْء فِي دبره» .
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» : «فَوَجَدنَا بِمَا أقبل من جِسْمه بضعًا وَتِسْعين مَا بَين طعنة ورمية» . وَرَوَاهُ أَحْمد وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي قَتَادَة مطولا. وَرَوَاهُ ابْن إِسْحَاق مُرْسلا، فَقَالَ: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير، عَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَعثه إِلَى مُؤْتَة فِي جُمَادَى الأولَى سنة ثَمَان، وَاسْتعْمل عَلَيْهِم زيد بن حَارِثَة وَقَالَ: (إِن أُصِيب) زيد فجعفر بن أبي طَالب عَلَى النَّاس؛ فَإِن أُصِيب جَعْفَر فعبد الله بن رَوَاحَة عَلَى النَّاس. فتجهز النَّاس وتهيئوا لِلْخُرُوجِ وهم ثَلَاثَة آلَاف ... » وَذكر الحَدِيث.
فَائِدَة: مُؤْتَة - بِضَم أَوله وَإِسْكَان ثَانِيه -: مَوضِع من أَرض الشَّام من عمل البلقاء، قَالَه الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» وَهُوَ قريب من الكرك، وَفِيه مشْهد عَظِيم فِي مَوضِع الْوَقْعَة، فِيهِ قُبُور الْأُمَرَاء الْمَذْكُورين.(6/737)
الحَدِيث الْعَاشِر
رُوِيَ مَرْفُوعا وموقوفًا: «لَا نِكَاح إِلَّا بأَرْبعَة: بخاطب، وَوَلَّى، وشاهدين» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق (أبي) الخصيب بن نَافِع بن ميسرَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة - رفعته -: «لابد فِي النِّكَاح من أَرْبَعَة: الْوَلِيّ، وَالزَّوْج، والشاهدين» ثمَّ قَالَ: أَبُو الخصيب هَذَا مَجْهُول. وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ فِي آخر بَاب الْأَوْلِيَاء وأحكامهم فِي (ربع) النِّكَاح؛ فَإِنَّهُ أليق - إِن شَاءَ الله وَقدره.(6/738)
كتاب الْإِقْرَار(6/739)
كتاب الْإِقْرَار
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حديثين:
أَحدهمَا
عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «قُولُوا الْحق وَلَو عَلَى أَنفسكُم» .
وَهَذَا الحَدِيث تبع الرَّافِعِيّ فِي إِيرَاده الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» وَالْغَزالِيّ (تبع) فِيهِ إِمَامه فِي «نهايته» وَهُوَ حَدِيث مَرْوِيّ من طَرِيق جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده عَن عَلّي بن أبي طَالب قَالَ: «ضممت إليَّ سلَاح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَوجدت فِي قَائِم سيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رقْعَة فِيهَا: صل من قَطعك، وَأحسن إِلَى من أَسَاءَ إِلَيْك، وَقل الْحق وَلَو عَلَى نَفسك» .
عزاهُ صَاحب الْمطلب إِلَى جُزْء أبي عَلّي الْحسن بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن شَاذان الْبَزَّار، عَن أبي عَمْرو عُثْمَان بن أَحْمد بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن السماك، ثَنَا جَعْفَر بن مُحَمَّد ... فَذكره ثمَّ قَالَ: حَدِيث مُنْقَطع؛ لِأَن زين العابدين هُوَ عَلّي بن الْحُسَيْن جد جَعْفَر بن مُحَمَّد لم يدْرك عليًّا جده، وَقد أخرج هَذِه التَّرْجَمَة مَعَ انقطاعها ابْن مَاجَه، وَلَيْسَ فِي الْإِسْنَاد كَمَا قيل عِلّة (تخرجه عَن أَن) يحْتَج الْفُقَهَاء بِهِ إِلَّا(6/741)
الِانْقِطَاع، قَالَ: لكنه انجبر بِالْآيَةِ.
قلت: أما انْقِطَاعه فَلَا شكّ فِيهِ، قَالَ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ: لم يدْرك عَلّي بن الْحُسَيْن جده عليًّا. وَأما قَوْله: وَلَيْسَ فِي الْإِسْنَاد كَمَا قيل ... إِلَى آخِره، فَهُوَ غلط من هَذَا الْقَائِل؛ فحسين بن زيد الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده هُوَ الْحُسَيْن بن زيد بن عَلّي بن الْحُسَيْن الْعلوِي. قَالَ ابْن الْقطَّان: لَا نَعْرِف حَاله. وَغلط هَذَا أَيْضا فحالته قد عرفت.
قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: هُوَ ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: تعرف وتنكر. وَقَالَ ابْن عدي: وجدت فِي حَدِيثه بعض النكرَة، وَأَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. وَقد أسلفته لَك فِي بَاب كَيْفيَّة الصَّلَاة، وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر هُوَ الْحزَامِي الْحَافِظ أخرج لَهُ البُخَارِيّ، وَقَالَ السَّاجِي: عِنْده مَنَاكِير. وَفِي «صَحِيح أبي حَاتِم بن حبَان» عَن (الْحسن) بن سُفْيَان، ثَنَا إِبْرَاهِيم بن هِشَام بن يَحْيَى الغساني، ثَنَا أبي، عَن جدي، عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ، عَن أبي ذَر قَالَ: «دخلت الْمَسْجِد فَإِذا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَالس وَحده فَجَلَست إِلَيْهِ فَقلت ... » وَذكر حَدِيثا مطولا، وَفِيه: «يَا رَسُول الله، زِدْنِي. قَالَ: قل الْحق وَإِن كَانَ مرًّا» وَإِبْرَاهِيم هَذَا، قَالَ أَبُو حَاتِم(6/742)
الرَّازِيّ: إِنَّه لم يطْلب الْعلم وَإنَّهُ كَذَّاب. وَقَالَ عَلّي بن الْجُنَيْد: صدق أَبُو حَاتِم؛ يَنْبَغِي أَن لَا يحدث عَنهُ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة - عَلَى مَا نَقله ابْن الْجَوْزِيّ -: كَذَّاب. وَأما ابْن حبَان فَذكره فِي ثقاته، وَأخرج هَذَا الحَدِيث فِي «صَحِيحه» من طَرِيق آخر بِإِسْنَاد جيد، فَقَالَ: ثَنَا الْحسن بن إِسْحَاق الْأَصْبَهَانِيّ، ثَنَا إِسْمَاعِيل بن يزِيد الْقطَّان، ثَنَا أَبُو دَاوُد، عَن الْأسود بن (شَيبَان) عَن مُحَمَّد بن وَاسع، عَن عبد الله بن الصَّامِت، عَن أبي ذَر قَالَ: «أَوْصَانِي خليلي (بخصال من الْخَيْر: أَوْصَانِي بِأَن لَا أنظر (إِلَى) من هُوَ فَوقِي ... » إِلَى أَن قَالَ: «وأوصاني أَن أَقُول الْحق وَإِن كَانَ مرًّا» .
وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَفظه: «أَمرنِي بِسبع ... » وَذكر مِنْهَا: «وَأَمرَنِي أَن أَقُول الْحق وَإِن كَانَ مرًّا» وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، عَن (بديل) بن ميسرَة، عَن عبد الله بن الصَّامِت، عَن أبي ذَر، وَلَفظه «أَن أَقُول الْحق وَإِن كَانَ مرًّا» .(6/743)
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اغْدُ يَا أنيس عَلَى امْرَأَة هَذَا؛ فَإِن اعْترفت فارجمها» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الْبَاب قبله.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار «أَن عليًّا قطع عبدا بِإِقْرَارِهِ» وَهَذَا لَا يحضرني من خرجه عَنهُ.
نعم رَوَى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن نَافِع «أَن ابْن عمر قطع عبدا سرق وَكَانَ آبق» وَقَالَ الشَّافِعِي كَمَا نَقله عَنهُ فِي «الْمعرفَة» : «وَقد أمرت عَائِشَة بِعَبْد أقرّ بِالسَّرقَةِ (فَقطع» وَكَذَا أسْندهُ فِي السّرقَة من حَدِيث مَالك عَن عبد الله بن أبي بكر، عَن عمْرَة عَنْهَا) .(6/744)
كتاب الْعَارِية(6/745)
كتاب الْعَارِية
ذكر فِيهِ ثَلَاثَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْعَارِية مَضْمُونَة والزعيم غَارِم» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب الضَّمَان من رِوَايَة أبي أُمَامَة وَغَيره، لَكِن بِلَفْظ «مُؤَدَّاة» بدل «مَضْمُونَة» وَلَا يحضرني من خرجه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
نعم هُوَ فِي الحَدِيث الْآتِي عَلَى الإثر بعده، وَالْغَزالِيّ فِي «وسيطه» (جمع) بَين اللَّفْظَيْنِ تبعا لإمامه، وتبعا الشَّافِعِي؛ فَإِنَّهُ أورد فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إِسْنَاد فَقَالَ: «اسْتعَار عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ من صَفْوَان سِلَاحا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: عَارِية مَضْمُونَة مُؤَدَّاة» وَكَذَا ذكره الرّبيع عَن الشَّافِعِي كَذَلِك، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: إِنَّه مَرْوِيّ عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ.
قلت: وَلَا يحضرني كَذَلِك فِي رِوَايَة، وَإِنَّمَا فِيهَا رِوَايَة «مُؤَدَّاة» وَفِي أُخْرَى «مَضْمُونَة» كَمَا ستعلمه فِي الحَدِيث الْآتِي عَلَى الإثر.(6/747)
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتعَار أدرعًا من صَفْوَان يَوْم (حنين) فَقَالَ: أغصبًا يَا مُحَمَّد؟ فَقَالَ: بل عَارِية (مَضْمُونَة) » .
هَذَا الحَدِيث مَوْجُود فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ وَله طرق:
إِحْدَاهَا: من حَدِيث صَفْوَان بن أُميَّة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتعَار مِنْهُ أدرعًا يَوْم (حنين) . فَقلت: أغصب يَا مُحَمَّد؟ فَقَالَ: لَا؛ بل عَارِية مَضْمُونَة» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث شريك، عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع، عَن أُميَّة بن صَفْوَان، عَن أَبِيه بِهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا فِي «سنَنه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَذكر لَهُ شَاهدا من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَسَيَأْتِي، زَاد أَحْمد وَالنَّسَائِيّ: «فَضَاعَ بَعْضهَا، فَعرض عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يضمنهَا لَهُ، فَقَالَ: أَنا الْيَوْم يَا رَسُول الله فِي الْإِسْلَام (أَرغب) » قَالَ الْبَيْهَقِيّ: رَوَاهُ قيس بن الرّبيع عَن عبد الْعَزِيز(6/748)
[عَن] ابْن أبي مليكَة [عَن أُميَّة] بن صَفْوَان عَن أَبِيه.
قلت: ورده ابْن حزم فَإِنَّهُ ذكره فِي «محلاه» من طَرِيق النَّسَائِيّ وَقَالَ: لَا يَصح (قَالَ:) وَشريك مُدَلّس للمنكرات، وَقد رَوَى البلايا وَالْكذب الَّذِي لَا شكّ فِيهِ عَن الثِّقَات.
وَتَبعهُ ابْن الْقطَّان فَقَالَ: إِنَّه من رِوَايَة شريك عَن عبد الْعَزِيز، وَلم يقل: «ثَنَا» وَهُوَ مُدَلّس. وَتوقف الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» فِي تَصْحِيحه من وَجه آخر، وَهُوَ معرفَة حَال أُميَّة بن صَفْوَان، فَقَالَ - بعد أَن عزاهُ إِلَى «الْمُسْتَدْرك» -: لَعَلَّه (علم) حَال أُميَّة.
قلت: وحالته مَعْلُومَة، أخرج لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» قَالَ الْحَافِظ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ: هَذَا الحَدِيث مَحْفُوظ عَن صَفْوَان بن أُميَّة، وَيروَى عَن أُميَّة بن صَفْوَان أَيْضا عَن أَبِيه. قَالَ: وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو زَكَرِيَّا من حَدِيث أُميَّة الْقرشِي.
قلت: وَرُوِيَ مُرْسلا من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن (أَبِيه «أَن)(6/749)
صَفْوَان بن أُميَّة أعَار رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سِلَاحا هِيَ ثَمَانُون درعًا، فَقَالَ لَهُ: أعارية مَضْمُونَة أم غصبا؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: بل عَارِية مَضْمُونَة» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أنس بن عِيَاض اللَّيْثِيّ عَن جَعْفَر بِهِ، ثمَّ قَالَ: وَبَعض هَذِه الْأَخْبَار وَإِن كَانَ مُرْسلا؛ فَإِنَّهُ يقوى بشواهد مَعَ مَا تقدم من الْمَوْصُول.
قلت: وَرَوَاهُ الْحَارِث بن أبي أُسَامَة، عَن يَحْيَى بن أبي بكير، ثَنَا نَافِع، عَن صَفْوَان بن أُميَّة «أَنه اسْتعَار مِنْهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (سِلَاحا) (قَالَ: مَضْمُونَة؟) فَقَالَ: مَضْمُونَة» رده ابْن حزم بِأَن قَالَ: الْحَارِث مَتْرُوك - وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ - وَيَحْيَى هَذَا لم يدْرك نَافِعًا، وَأَعْلَى من عِنْده شُعْبَة، وَلَا نعلم لنافع سَمَاعا من صَفْوَان أصلا، وَالَّذِي لَا شكّ فِيهِ أَن صَفْوَان مَاتَ أَيَّام عُثْمَان قبل الْفِتْنَة.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث جرير، عَن [عبد الْعَزِيز بن] رفيع، عَن أنَاس من آل عبد الله بن صَفْوَان أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا صَفْوَان، هَل عنْدك من سلَاح؟ قَالَ: عَارِية أم غصبا؟ قَالَ: لَا؛ بل عَارِية. فأعاره مَا بَين الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعين درعًا، وغزا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حنينًا، فَلَمَّا هزم الْمُشْركين جُمعت دروع صَفْوَان، ففقد مِنْهَا أدراعًا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنَّا قد فَقدنَا من أدرعك أدراعًا، فَهَل نغرمها لَك؟ قَالَ: لَا يَا رَسُول الله؛ لِأَن فِي قلبِي الْيَوْم مَا لم يكن يَوْمئِذٍ» .(6/750)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» كَذَلِك ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث أبي الْأَحْوَص، عَن ابْن رفيع، عَن عَطاء، عَن نَاس من أهل صَفْوَان ... فَذكره بِمَعْنَاهُ.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتعَار من صَفْوَان بن أُميَّة أدرعًا و (سِلَاحا) فِي غَزْوَة حنين، قَالَ: يَا رَسُول الله، أعارية مُؤَدَّاة؟ قَالَ: عَارِية مُؤَدَّاة» رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» شَاهدا لحَدِيث صَفْوَان السالف أَولا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
الطَّرِيق الرَّابِع: من حَدِيث جَابر بن عبد الله رَضي اللهُ عَنهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَار إِلَى حنين ... » فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: «ثمَّ بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى صَفْوَان بن أُميَّة فَسَأَلَهُ أدراعًا عِنْده مائَة درع وَمَا يصلحها من عدتهَا، فَقَالَ: أغصبًا يَا مُحَمَّد؟ فَقَالَ: بل عَارِية مَضْمُونَة حَتَّى نؤديها [إِلَيْك] » .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَقَبله شَيْخه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي أول مَنَاقِب سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
الطَّرِيق الْخَامِس: من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن صَفْوَان بن أُميَّة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (اسْتعَار من صَفْوَان بن أُميَّة دروعًا فَهَلَك بَعْضهَا، فَقَالَ(6/751)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) : إِن شِئْت غرمناها لَك» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث إِسْرَائِيل عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن ابْن أبي مليكَة عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ. وَعبد الرَّحْمَن هَذَا ذكره ابْن حبَان فِي طبقَة التَّابِعين، وَذكره غَيره فِي الصَّحَابَة، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ لَهُ رِوَايَة. فَهَذِهِ طرق هَذَا الحَدِيث، وَبَعضهَا يقوى بِبَعْض، وَلما ذكر عبد الْحق (فِي «أَحْكَامه» ) الطَّرِيق الأول من جِهَة النَّسَائِيّ قَالَ: حَدِيث يعْلى أصح مِنْهُ. وَحَدِيث يعْلى ذكره قبله من عِنْد أبي دَاوُد قَالَ: قَالَ (لي) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا أتتك رُسُلِي فادفع إِلَيْهِم ثَلَاثِينَ درعًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا. فَقلت: يَا رَسُول الله، أعارية مَضْمُونَة أم عَارِية مُؤَدَّاة؟ (قَالَ: بل مُؤَدَّاة) » قَالَ ابْن الْقطَّان (لماذا رجح عَلَيْهِ؟ ثمَّ بَينه بتدليس شريك كَمَا أسلفناه) .
قلت: وَصحح حَدِيث يعْلى هَذَا (أَبُو حَاتِم بن) حبَان فِي «صَحِيحه» . وَقَالَ ابْن حزم: إِنَّه حَدِيث حسن لَيْسَ فِي شَيْء مِمَّا رُوِيَ فِي الْعَارِية خبر يَصح (غَيره) وَأما مَا سواهُ فَلَيْسَ يُسَاوِي الِاشْتِغَال بِهِ.(6/752)
فَائِدَة: قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ لِصَفْوَان فِيمَا مَضَى: «هَل نغرمها لَك» فِيهِ دلَالَة عَلَى أَنه لَا يجب عَلَى الْمُسْتَعِير البدار إِلَى مَا ضمنه بالعارية. قَالَ صَاحب «الْمطلب» : وَمِنْه يُؤْخَذ أَن الدَّين الْحَال إِذا لم يكن بِسَبَب مَعْصِيّة لَا يجب أَدَاؤُهُ قبل الطّلب. قَالَ: وَيحْتَمل أَنه قَالَ لَهُ ذَلِكَ لإِظْهَار حَاله للصحابة وَإِلَّا فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ عرف أَنه لَا يطْلب ذَلِكَ، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: «عَارِية مُؤَدَّاة» .
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَلَى الْيَد مَا أخذت حَتَّى تُؤَدِّيه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة ت، ود، وق، وس، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث الْحسن عَن سمُرة مَرْفُوعا (بِهِ) سَوَاء إِلَّا أَن أَحْمد وَالْحَاكِم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه قَالُوا: «حَتَّى تُؤَدِّيه» كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ. البَاقِينَ (حَتَّى تُؤدِّي» زادوا خلا أَحْمد وَابْن مَاجَه: «قَالَ قَتَادَة: - (يَعْنِي رَاوِيه) - عَن الْحسن: ثمَّ نسي الْحسن (وَقَالَ: هُوَ أمينك لَا ضَمَان عَلَيْهِ. يَعْنِي الْعَارِية»(6/753)
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن قَالَ الْمُنْذِرِيّ: هَذَا يدل عَلَى أَنه يصحح سَماع الْحسن من سَمُرَة. وَنقل صَاحب «الْإِلْمَام» عَن ت تَصْحِيحه أَيْضا، وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الشهَاب» : إِسْنَاده مُتَّصِل صَحِيح. قَالَ: وَالْعلَّة فِي عدم إِخْرَاجه فِي الصَّحِيح مَا يذكر أَن الْحسن لم يسمع من سَمُرَة إِلَّا حَدِيث الْعَقِيقَة. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط خَ. وَاعْترض عَلَيْهِ فِي «الْإِلْمَام» فَقَالَ: لَيْسَ كَمَا قَالَ من كَونه عَلَى شَرط خَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى شَرط ت كَمَا نقل.
قلت: بل هُوَ عَلَى شَرط خَ؛ لِأَن الْحَاكِم رَوَى عَن خَ احْتج بِهَذِهِ التَّرْجَمَة، وَنقل ابْن عبد الْبر عَن التِّرْمِذِيّ عَنهُ أَنه كَانَ يرَى أَنه سمع مِنْهُ، كَمَا قدمْنَاهُ فِي آخر صفة الصَّلَاة فَإِذا كَانَ يرَى سَمَاعه مِنْهُ مُطلقًا فَأَي مَانع من أَن يكون عَلَى شَرطه، نعم لم يخرج عَنهُ فِي «صَحِيحه» غير حَدِيث الْعَقِيقَة، ونسيان الْحسن لَا يضر الحَدِيث، وَأما أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَإِنَّهُ رد هَذَا الحَدِيث لعدم سَماع الْحسن من سَمُرَة فَقَالَ فِي «محلاه» بعد أَن رَوَاهُ: الْحسن لم يسمع من سَمُرَة. وَهَذَا ظَاهر فِي أَنه لم يسمع مِنْهُ الْإِسْنَاد مُطلقًا، وَقد قَالَ هُوَ قبل ذَلِكَ: إِن الْحسن لم يسمع مِنْهُ غير حَدِيث الْعَقِيقَة. نعم قد يحمل كَلَامه عَلَى الحَدِيث الْمَذْكُور عَلَى مَا تقرر من رِوَايَة فِيهِ، لَكِن قد قَالَ هُوَ قبل إِيرَاده لهَذَا الحَدِيث بطرق:(6/754)
كَانَ شُرَيْح يضمن الْعَارِية، وضمنها الْحسن ثمَّ رَجَعَ عَن ذَلِكَ. فرجوع الْحسن ثَبت بِهَذَا الطَّرِيق، وَهَذَا الطَّرِيق عِنْده لَيْسَ بطرِيق يعْتَمد عَلَيْهِ فَكيف ثَبت عَلَى الْحسن الرُّجُوع بطرِيق لَيْسَ يعْتَمد عَلَيْهِ عِنْده إِلَّا أَن يكون أطلقهُ عَلَى طَرِيق آخر عَنهُ مُفردا؟ وَقد يُجَاب عَن ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا أعله لأجل الْحسن عَن سَمُرَة، وهومن قَول الْحسن وَحده.
تَنْبِيه: وَقع فِي «الْمُنْتَقَى» للمجد ابْن تَيْمِية أَن النَّسَائِيّ لم يرد هَذَا الحَدِيث. وَهُوَ فِي «سنَنه الْكُبْرَى» دون «الصُّغْرَى» ، وَلِهَذَا لم يعزه ابْن عَسَاكِر من «أَطْرَافه» إِلَيْهِ، وَكَذَا ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» نعم عزاهُ إِلَيْهِ الْمزي فِي «أَطْرَافه» ) .(6/755)
كتاب الْغَصْب(6/757)
كتاب الْغَصْب
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ عشرَة أَحَادِيث
أَحدهَا
عَن أبي [بكرَة] رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي خطبَته يَوْم النَّحْر: إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا فِي شهركم هَذَا فِي بلدكم هَذَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه مطولا أَخْرجَاهُ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي (بكرَة) عَن أَبِيه قَالَ: «لما كَانَ ذَلِكَ الْيَوْم ركب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَاقَته ووقف فَقَالَ: أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا؟ فسكتنا حَتَّى رَأينَا أَنه سيسميه (سُوَى اسْمه) قَالَ: أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر؟ قُلْنَا: بلَى. ثمَّ [قَالَ: أَتَدْرُونَ أَي شهر هَذَا؟ فسكتنا حَتَّى رَأينَا أَنه سيسميه سُوَى اسْمه، قَالَ: أَلَيْسَ ذَا الْحجَّة؟ قَالُوا: بلَى يَا رَسُول(6/759)
الله] قَالَ: أَتَدْرُونَ أَي بلد هَذَا؟ فسكتنا حَتَّى رَأينَا أَنه سيسميه سُوَى اسْمه قَالَ: أَلَيْسَ الْبَلدة؟ فَقُلْنَا: بلَى. قَالَ: فَإِن أَمْوَالكُم وَأَعْرَاضكُمْ ودماءكم حرَام بَيْنكُم مثل يومكم فِي مثل شهركم فِي مثل بلدكم، أَلا ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب - مرَّتَيْنِ - رب مبلغ هُوَ أوعى من سامع. ثمَّ مَال عَلَى نَاقَته إِلَى غنيمات، فَجعل يقسمها بَين الرجلَيْن الشَّاة، وَالثَّلَاثَة (الشَّاة) » .
أخرجه كَذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي هَذَا الْبَاب وَعَزاهُ إِلَيْهِمَا.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أبي طَلْحَة رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: عِنْدِي خمور أَيْتَام؟ قَالَ: أرقها. قَالَ: أَلا أخللها؟ قَالَ: لَا» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي كتاب الرَّهْن؛ فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن سَمُرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَلَى الْيَد مَا أخذت حَتَّى تُؤَدِّيه» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الْبَاب قبله وَاضحا.(6/760)
الحَدِيث الرَّابِع
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من غصب شبْرًا من أَرض طوقه من سبع أراضين يَوْم الْقِيَامَة» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده بِلَفْظ «من غصب» الْغَزالِيّ، فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك فِي «وسيطه» وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه أَعنِي من حَدِيث أبي هُرَيْرَة لَكِن بِلَفْظ «لَا يَأْخُذ أحد شبْرًا من الأَرْض بِغَيْر (حق) إِلَّا طوقه الله - تَعَالَى - إِلَى سبع أَرضين» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «من اقتطع شبْرًا من الأَرْض بِغَيْر حَقه طوقه (يَوْم الْقِيَامَة) من سبع أَرضين» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من أَخذ شبْرًا من الأَرْض بِغَيْر حَقه طوقه من سبع أَرضين» .
وَأخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عَائِشَة بِلَفْظ: «من ظلم قيد شبر من الأَرْض طوقه (الله) من سبع أَرضين» .
وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ «سرق» بدل «ظلم» .
وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث سعيد بن زيد بِلَفْظ «اقتطع»(6/761)
وَالْبُخَارِيّ «من ظلم» وَالطَّبَرَانِيّ «من سرق» و «من انْتقصَ» .
وَأخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عمر بِلَفْظ «من أَخذ» وَله خَارج الصَّحِيح طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث يعْلى بن مرّة الثَّقَفِيّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «من أَخذ أَرضًا بِغَيْر حَقّهَا كلف أَن يحمل ترابها إِلَى الْمَحْشَر» رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة كَذَلِك، وَرَوَاهُ أَبُو يعْلى فِي «مُعْجَمه» بِلَفْظ: «من سرق شبْرًا من الأَرْض، أَو غله، جَاءَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة إِلَى أَسْفَل (الْأَرْضين) » .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِأَلْفَاظ، وَرَوَاهُ عَلّي بن عبد الْعَزِيز فِي (منتخبه) كَمَا أَفَادَهُ ابْن الْقطَّان (بِلَفْظ) «من أَخذ من الأَرْض شَيْئا ظلما جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة يحمل ترابها إِلَى الْمَحْشَر» وَأعله من طَرِيقه بأيمن بن ثَابت وَقَالَ: لَا نَعْرِف حَاله.
قلت: لَكِن أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من جِهَته بِلَفْظ: «أَيّمَا رجل ظلم شبْرًا من الأَرْض كلفه الله أَن يحفره حَتَّى يبلغ سبع(6/762)
أَرضين، ثمَّ يطوقه يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يفصل بَين النَّاس» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث الْمسور بن مخرمَة رَفعه: «من أَخذ شبْرًا من الأَرْض ظلما طوقه الله يَوْم الْقِيَامَة من سبع أَرضين» رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الْمَتْن مَحْفُوظ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من غير هَذَا الطَّرِيق. يُشِير إِلَى الطّرق السالفة.
ثَالِثهَا: من حَدِيث شَدَّاد بن أَوْس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من [غل] من الأَرْض شبْرًا طوقه يَوْم الْقِيَامَة إِلَى سبع أَرضين» .
ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» وَقَالَ: سَأَلت أَبَا زرْعَة عَنهُ فَقَالَ: هُوَ خطأ؛ إِنَّمَا هُوَ عَن سعيد بن زيد مَرْفُوعا.
قلت: وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من طَرِيق شَدَّاد بِلَفْظ: «من ظلم» .
رَابِعهَا: من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَخذ من الأَرْض شبْرًا بِغَيْر حَقه طوقه يَوْم الْقِيَامَة من سبع أَرضين، وَلم يقبل مِنْهُ صرف وَلَا عدل، وَمن ادَّعَى (إِلَى) غير أَبِيه أَو إِلَى غير موَالِيه فقد كفر» . رَوَاهُ (الْبَزَّار) فِي مُسْنده وَقَالَ: كفر يَعْنِي النِّعْمَة. قَالَ: وَهَذَا(6/763)
الحَدِيث لَا نعلمهُ يرْوَى عَن سعد بِهَذَا اللَّفْظ وبتمام هَذَا (الْكَلَام) إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد.
خَامِسهَا: من حَدِيث الحكم (بن) الْحَارِث السّلمِيّ رَفعه: «من أَخذ من طَرِيق الْمُسلمين شبْرًا جَاءَ بِهِ يحملهُ من سبع أَرضين» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث عَطِيَّة (الرعاء عَنهُ) .
سادسها: (من) حَدِيث (أبي) شُرَيْح الْخُزَاعِيّ رَفعه «من أَخذ شبْرًا من الأَرْض ظلما طوقه يَوْم الْقِيَامَة من سبع أَرضين» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الحميد بن سُلَيْمَان، ثَنَا أَبُو [حَازِم] عَن المَقْبُري عَنهُ مَرْفُوعا بِهِ. وَعبد الحميد هَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد: غير ثِقَة.(6/764)
سابعها: من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَفعه: «ذِرَاع من الأَرْض ينتقصه من حق أَخِيه فَلَيْسَتْ حَصَاة من الأَرْض أَخذهَا إِلَّا (طوقها) يَوْم الْقِيَامَة إِلَى قَعْر الأَرْض وَلَا يعلم قعرها إِلَّا الَّذِي خلقهَا» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظَة: «من انْتقصَ ذِرَاعا من أَرض» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: «من أَخذ» وَزِيَادَة: «من أَخذ شبْرًا من مَكَّة بِغَيْر حَقه فَكَأَنَّمَا أَخذه من تَحت قدم الرَّحْمَن» وَمن حَدِيث أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ بِلَفْظ «سرق» .
رَوَاهُ ابْن سعد من هَذَا الْوَجْه بِنَحْوِهِ، إِذا عرفت هَذِه الطّرق وتأملتها حكمت عَلَى رِوَايَة الرَّافِعِيّ تبعا للغزالي: «من غصب» بالغرابة، وَإِن كَانَ لفظ أَحْمد « (أَخذ) وظلم» وَنَحْوهمَا مِمَّا تقدم شاملات للغصب بِالْعُمُومِ، نعم فِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» من حَدِيث عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن عَلْقَمَة بن وَائِل، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من غصب رجلا أَرضًا (ظلما) لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان» (وروينا من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُوسَى، أبنا عبد الله بن عمر القواريري، ثَنَا قزعة،(6/765)
عَن يَحْيَى بن جُرجة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن مَحْمُود بن لبيد، عَن شَدَّاد بن أَوْس يرفعهُ: «من غصب شبْرًا من الأَرْض طوقه الله من سبع أَرضين» وَيَحْيَى هَذَا رَوَى عَنهُ ابْن جريج مَجْهُول، كَذَا فِي «الْمُغنِي» للذهبي، وَفِي «الْمِيزَان» : يَحْيَى بن جُرجة لَا يعرف، حدث عَن الزُّهْرِيّ بِحَدِيث مَعْرُوف. وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. ثمَّ قَالَ الذَّهَبِيّ: مَا حدث عَنهُ غير ابْن جريج.
قلت: يروي عَنهُ قزعة كَمَا ترَاهُ هُنَا) .
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ لعرق ظَالِم حق» .
هَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» تَعْلِيقا فَقَالَ: «وَقَالَ عمر: من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ» وَيروَى عَن عَمْرو بن عَوْف، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ: «فِي غير حق مُسلم» وَقَالَ: «لَيْسَ لعرق ظَالِم (فِيهِ) حق» . وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد صَحِيح رِجَاله رجال الصَّحِيح من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن سعيد بن زيد - أحد الْعشْرَة رَضي اللهُ عَنهم - عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق» .
(وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد صَحِيح) وَرَوَاهُ(6/766)
النَّسَائِيّ أَيْضا كَذَلِك، وَكَذَا التِّرْمِذِيّ ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. وَنقل الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر «الاقتراح» أَنه صَححهُ أَيْضا، وَلم أره، قَالَ: وَهُوَ عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ قد احتجا بِجَمِيعِ رُوَاته. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرَوَاهُ بَعضهم، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا.
قلت: وَكَذَا أخرجه مَالك وَالشَّافِعِيّ وَكَذَا النَّسَائِيّ أَيْضا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَهُوَ أصح. وَقَالَ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» : هَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ جمَاعَة عَن هِشَام عَن أَبِيه مُرْسلا، وَلَا نَحْفَظ أحدا قَالَ: عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن سعيد بن زيد إِلَّا عبد الْوَهَّاب عَن أَيُّوب - يَعْنِي: عَن هِشَام.
قلت: وَله طرق أُخْرَى:
إِحْدَاهَا: من حَدِيث عَائِشَة، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن زَمعَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْعباد عباد الله، والبلاد بِلَاد الله؛ فَمن أَحْيَا من موَات الأَرْض (شَيْئا) فَهُوَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي إحْيَاء الْموَات من جِهَته.(6/767)
ثَانِيهَا: من حَدِيث كثير بن عبد الله، عَن أَبِيه، عَن جده، وَسَيَأْتِي فِي إحْيَاء الْموَات.
ثَالِثهَا: من حَدِيث سَمُرَة، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سعيد بن أبي (عرُوبَة) ، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن سَمُرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من أحَاط عَلَى شَيْء فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق» وَقد أسلفنا لَك مَا فِي سَماع الْحسن من سَمُرَة، وَقد رُوِيَ مُرْسلا من حَدِيث يَحْيَى بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ثمَّ الْبَيْهَقِيّ مطولا بعضه، وَرُوِيَ أَيْضا مُرْسلا من حَدِيث إِسْحَاق بن يَحْيَى عَن قَتَادَة قَالَ: «إِن من قَضَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَنه لَيْسَ لعرق ظَالِم حق» إِسْحَاق لم يدْرك عبَادَة، وَإِسْحَاق مُنكر الحَدِيث، وَلَا يقْدَح هَذَا فِيمَا سلف من طرقه.
(فَائِدَة) : قَوْله «لعرق ظَالِم حق» يرْوَى بتنوين «عرق» وإضافته قَالَ (الْخطابِيّ: من النَّاس) من يرويهِ عَلَى إِضَافَة الْعرق إِلَى الظَّالِم وَهُوَ الْفَارِس (الَّذِي يغْرس فِي غير حق، وَمِنْهُم) من يَجْعَل الظَّالِم من نعت الْعرق يُرِيد الْغِرَاس وَجعله ظلما (لِأَنَّهُ نبت فِي غير) حَقه. وَقَالَ صَاحب «الْمطَالع» : «لعرق ظَالِم» أَي لعرق ذِي ظلم عَلَى النَّعْت، وَمن(6/768)
أَضَافَهُ إِلَى الظَّالِم (حق) وَأحسن مَا قيل فِيهِ: إِنَّه كل مَا احتفر أَو غرس بِغَيْر حق كَمَا قَالَ مَالك، وَلم يذكر الْأَزْهَرِي فِي «تهذيبه» و «زاهره» وَصَاحبه ابْن فَارس فِي «الْمُجْمل» إِلَّا تَنْوِين «عرق» عَلَى النَّعْت. قَالَ الْأَزْهَرِي: لِأَن الْفَارِس ظَالِم وَإِذا كَانَ ظَالِما فعرق مَا غرس ظَالِم. و (أصل) الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، والعرق أَرْبَعَة: الْبناء وَالْغِرَاس والبئر وَالنّهر.
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كسر عظم الْمَيِّت ككسر (عظم الْحَيّ) » .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» من حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها بِإِسْنَاد صَحِيح و (سعد) بن سعيد الْأنْصَارِيّ الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده من فرسَان مُسلم كَمَا قدمْنَاهُ فِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين من بَاب مَوَاقِيت الصَّلَاة، لَا جرم قَالَ ابْن الْقطَّان: إِنَّه حَدِيث حسن، وَقد تَابعه أَخُوهُ يَحْيَى بن سعيد، وَهُوَ من الثِّقَات الْأَثْبَات. أخرجه من جِهَته الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَأَبُو حَاتِم(6/769)
بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَهُوَ يرد قَول ابْن حزم فِي «محلاه» : إِن هَذَا الحَدِيث لَا يسند إِلَّا من طَرِيق (سعد) بن سعيد أخي يَحْيَى بن سعيد وهم ثَلَاثَة، يَحْيَى بن سعيد إِمَام ثِقَة، وَعبد ربه بن سعيد لَا بَأْس بِهِ، و (سعد) بن سعيد وَهُوَ ضَعِيف جدًّا لَا يحْتَج بِهِ، لَا خلاف فِي ذَلِكَ فَبَطل التَّعَلُّق بِهَذَا الحَدِيث. هَذَا كَلَامه وَقَوله فِي سعد بن سعيد: «إِنَّه ضَعِيف جدًّا» لَيْسَ كَمَا ذكر فقد أخرج لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» محتجًّا بِهِ وَوَثَّقَهُ ابْن معِين، وَذكره ابْن (حبَان) فِي «ثقاته» وَقد ذكرنَا أَن يَحْيَى بن سعيد تَابعه، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث زُهَيْر بن مُحَمَّد، عَن إِسْمَاعِيل بن أبي حَكِيم، عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء.
وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» أَنه بلغه عَن عَائِشَة ... فَذكره عَنْهَا مَوْقُوفا. وَرَوَاهُ عَنهُ الشَّافِعِي (ثمَّ قَالَ: يَعْنِي فِي الْإِثْم.
قلت:) وَقد جَاءَ مُصَرحًا بِهَذَا فِي حَدِيث أم سَلمَة وَهُوَ شَاهد (لحَدِيث عَائِشَة: أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كسر عظم الْمَيِّت ككسر عظم الْحَيّ(6/770)
فِي الْإِثْم» رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد حسن، وَكَذَا هُوَ فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» من طَرِيق سعد بن سعيد: «من كسر عظم ميت فَهُوَ كَمثل كَسره حيًّا فِي الْإِثْم» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كسر عظم الْمُسلم مَيتا مثل كَسره حيًّا - يَعْنِي: فِي الْإِثْم» .
تَنْبِيه: وَقع فِي «الْإِلْمَام» عزو حَدِيث عَائِشَة هَذَا إِلَى «صَحِيح مُسلم» وَلَعَلَّه من النَّاسِخ، وَقد ذكره فِي «اقتراحه» فِي الْقسم الرَّابِع فِي أَحَادِيث احْتج برواتها الشَّيْخَانِ وَلم (يخرجاها) .
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن ذبح الْحَيَوَان إِلَّا (لمأكله) » .
هَذَا الحَدِيث أقرب مَا رَأَيْت فِيهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» من حَدِيث عَمْرو بن الْحَارِث، عَن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن، عَن الْقَاسِم مولَى عبد الرَّحْمَن قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تحرقن نَخْلَة. .» إِلَى أَن قَالَ: «وَلَا تقتل بَهِيمَة لَيست لَك بهَا حَاجَة» وَالقَاسِم هَذَا هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن الشَّامي مولَى عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة، وَهُوَ من التَّابِعين، رَوَى يَحْيَى بن الْحَارِث عَنهُ قَالَ:(6/771)
لقِيت مائَة من الصَّحَابَة. وَهُوَ ثِقَة كَمَا قَالَه ابْن معِين وَغَيره، وَمِنْهُم من يضعف رِوَايَته، قَالَ ابْن الْقطَّان: وَعبد الْحق يصحح حَدِيثه كَمَا فعل التِّرْمِذِيّ. قَالَ: وَعَمْرو بن (الْحَارِث) حَاله لَا يعرف، وَلَا يَصح من أَجله (هَذَا) .
قلت: غَرِيب مِنْهُ جهالته حَالَة عَمْرو بن الْحَارِث بن يَعْقُوب بن عبد الله مولَى قيس بن سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ أبي أُميَّة الْمصْرِيّ الْفَقِيه الْمُقْرِئ، أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، رَوَى عَن: الزُّهْرِيّ وَعَمْرو بن شُعَيْب وَخلق، وَعنهُ: اللَّيْث وَمَالك وَابْن وهب وَخلق، وَأخرج لَهُ الشَّيْخَانِ وَبَاقِي السِّتَّة فِي كتبهمْ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ الْأَئِمَّة ووثقوه. قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَيْسَ فِي المصريين أصح حَدِيثا من اللَّيْث، وَعَمْرو بن الْحَارِث يُقَارِبه.
الحَدِيث الثَّامِن
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا مهر لبغي» .
هَذَا (الحَدِيث) غَرِيب كَذَلِك، لَا جرم قَالَ الرَّافِعِيّ: الْمَشْهُور فِي لفظ الْخَبَر «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن مهر الْبَغي» لَا كَمَا أوردهُ فِي الْكتاب - يَعْنِي: «الْوَجِيز» - وَكَذَا قَالَ فِي «تذنيبه» أَنه لَا ذكر لَهُ فِي كتب الحَدِيث،(6/772)
وَالْمَشْهُور مَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن أبي مَسْعُود مَرْفُوعا: «نهَى عَن ثمن الْكَلْب وَمهر الْبَغي» .
فَائِدَة: الْبَغي - بِسُكُون الْغَيْن وَتَخْفِيف الْيَاء -: الزِّنَا، وبتشديدها وَكسر الْغَيْن: الزَّانِيَة، وَقد رُوِيَ الحَدِيث بهما، وَاحْتج بِرِوَايَة التَّخْفِيف: أَبُو حنيفَة وَمَالك؛ فَقَالَا: لَا مهر إِذا أكره حرَّة أَو أمة عَلَى الزِّنَا. وَنحن نحتج بِرِوَايَة التَّشْدِيد.
الحَدِيث التَّاسِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن مهر الْبَغي» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَمَا سلف من حَدِيث أبي مَسْعُود البدري - نزلها وَلم يشهدها فِي قَول الْأَكْثَرين خلافًا لمُحَمد بن شهَاب وَابْن إِسْحَاق و (ابْن إِسْمَاعِيل) البُخَارِيّ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنه شهد الْعقبَة مَعَ السّبْعين (وَكَانَ أَصْغَرهم - وَمهر الْبَغي: مَا يُعْطَى عَلَى الزِّنَا وَهُوَ حرَام) بِالْإِجْمَاع.
الحَدِيث الْعَاشِر
«النَّهْي عَن (عسب) الْفَحْل» .(6/773)
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب الْبيُوع الْمنْهِي عَنْهَا؛ فَليُرَاجع من ثمَّ، وَذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا فِي الْبَاب أَن قَول الْغَزالِيّ: لَا يجب فِي غير الْفرس وَالْبَقَرَة يعلم بِالْحَاء وَالْألف. قَالَ: وَالْقَصْد بِمَا ذكر التَّعَرُّض لَهُ لمذهبهما، وَأَن مَا ذَهَبا إِلَيْهِ لَا أثر فِيهِ عَن الصَّحَابَة. وتأوله عندنَا أَن الْأَرْش فِي الْوَاقِعَة كَانَ قدر الرّبع.
قلت: وَهَذَا الْأَثر صرح بِهِ القَاضِي حُسَيْن فِي «تَعْلِيقه» حَيْثُ قَالَ: احْتج بِمَا رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب «أَنه يضمن فِي (إِحْدَى) عَيْني الدَّابَّة بِربع قيمتهَا» ثمَّ أجَاب بِمَا ذكره الرَّافِعِيّ، وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث سعيد بن مَنْصُور (حَدَّثَنَا) إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة، قَالَ: (قَالَ) عمر بن الْخطاب: «فِي عين الدَّابَّة ربع قيمتهَا» ثمَّ قَالَ: هَذَا مُنْقَطع. قَالَ: وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عمر «أَنه كتب بِهِ إِلَى شُرَيْح» وَهُوَ أَيْضا مُنْقَطع، وَرَوَاهُ جَابر الْجعْفِيّ - وَهُوَ ضَعِيف - عَن الشّعبِيّ، عَن شُرَيْح «أَن عمر كتب إِلَيْهِ بذلك» وَرَوَاهُ مجَالد عَن الشّعبِيّ قَالَ: «كتب عمر إِلَى شُرَيْح» وَهُوَ مُنْقَطع.
قلت: وَرَوَاهُ ابْن عَيَّاش، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْتَشِر، عَن عُرْوَة الْبَارِقي قَالَ: «كَانَت لي أَفْرَاس فِيهَا فَحل شِرَاؤُهُ عشرُون ألف دِرْهَم ففقأ عينه دهقان، فَأتيت عمر فَكتب إِلَى سعد بن أبي(6/774)
وَقاص: أَن خير الدهْقَان بَين أَن يُعْطِيهِ (عشْرين) ألف دِرْهَم وَيَأْخُذ الْفرس، وَبَين (أَن) يَأْخُذ (ربع) الثّمن. فَقَالَ الدهْقَان: مَا (ينْتَفع) بالفرس بعد ربع الثّمن» .
وَعبد الْملك هَذَا من رجال (الصَّحِيحَيْنِ) وَإِن تكلم فِيهِ، وَسَمَاع مُحَمَّد بن عُرْوَة مُمكن، وَقد سمع من ابْن عمر وَعَائِشَة، وَهَذِه الطَّرِيق أفادها الْحَافِظ شرف الدَّين الدمياطي فِي «كتاب الْخَيل» ثمَّ رَوَاهُ مَرْفُوعا من حَدِيث أبي نصر يُوسُف بن عمر بن مُحَمَّد بن يُوسُف فِي «السّنَن الْمُخْتَصر» عَن الْبَغَوِيّ، عَن سِنَان بن أُميَّة بن يعْلى، عَن أبي الزِّنَاد، عَن (عَمْرو بن وهيب) ، عَن زيد بن ثَابت «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي عين الْفرس بِربع ثمنه» .
قلت: وَهَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث أبي أُميَّة بِهِ سَوَاء.(6/775)
كتاب الشُّفْعَة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ سَبْعَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا شُفْعَة إِلَّا فِي ربع أَو حَائِط» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب بِهَذَا اللَّفْظ، وَفِي الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي حنيفَة، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا شُفْعَة إِلَّا فِي دَار أَو عقار» ثمَّ ضعفه.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن جَابر بن عبد الله رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «إِنَّمَا جعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الشُّفْعَة (فِيمَا) لم يقسم، فَإِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطّرق فَلَا شُفْعَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ كَذَلِك فِي الشّركَة من «صَحِيحه» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «قَضَى(7/7)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالشُّفْعَة. .» إِلَى آخِره، وَكَذَا أخرجه فِي هَذَا الْبَاب وَفِي رِوَايَة لَهُ فِي الْبيُوع «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالشُّفْعَة فِي كل مَا لم يقسم» وَفِي رِوَايَة لَهُ فِيهِ: «جعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الشُّفْعَة فِي (كل) مَال لم يقسم. .» إِلَى آخِره.
فَائِدَة: قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث قَالَ: عِنْدِي أَن الْمَرْفُوع مِنْهُ إِلَى قَوْله «لم يقسم» وَالثَّانِي يشبه أَن يكون من قَول جَابر؛ لِأَن الأول كَلَام تَامّ وَالثَّانِي كَلَام مُسْتَقل، فَلَو كَانَ الثَّانِي مَرْفُوعا لقَالَ: «وَقَالَ: (وَإِذا) وَقعت الْحُدُود ... » إِلَى آخِره، قَالَ: بذلك استدللنا عَلَى أَن الْكَلَام الْأَخير من قَول جَابر. وَفِيمَا ذكره نظر لَا يخْفَى.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بِالشُّفْعَة فِي كل [شركَة لم تقسم] ربعَة أَو حَائِط لَا يحل لَهُ أَن يَبِيعهُ حَتَّى يُؤذن شَرِيكه، فَإِن شَاءَ أَخذ وَإِن شَاءَ ترك، وَإِن بَاعه وَلم يُؤذنهُ فَهُوَ أَحَق بِهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث جَابر رَضي اللهُ عَنهُ كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «أَن يَبِيع» بدل «أَن يَبِيعهُ» وَقَالَ: «فَإِن بَاعَ» بدل «فَإِن بَاعه» قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «الشُّفْعَة فِي كل (شرك) ربع أَو حَائِط» .(7/8)
قلت: هَذِه الرِّوَايَة صَحِيحَة أخرجهَا مُسلم فِي «صَحِيحه» أَيْضا من هَذَا الْوَجْه وَهَذَا لَفظه «الشُّفْعَة فِي كل شرك فِي أَرض (أَو ربع) أَو حَائِط لَا يصلح أَن يَبِيع حَتَّى يعرض (عَلَى) شَرِيكه [فَيَأْخُذ] أَو يدع فَإِن أَبَى (فشريكه) أَحَق بِهِ حَتَّى يُؤذنهُ» . وأعل ابْن حزم الحَدِيث بِأَن قَالَ: إِن قَالَ قَائِل قد جَاءَ (هَذَا) فِي الْخَبَر من طَرِيق أبي الزبير عَن جَابر، وَفِيه: «لَا يحل لَهُ أَن يَبِيع» . قُلْنَا: لم يذكر فِيهِ أَبُو الزبير سَمَاعا من جَابر، وَهُوَ قد اعْترف عَلَى نَفسه بِأَن (مَا) لم يذكر فِيهِ سَمَاعا فَإِنَّهُ حَدثهُ بِهِ من لم يسمه عَن جَابر. ثمَّ أوردهُ بِنَحْوِ لفظ مُسلم، وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم عَن جَابر من ثَلَاث طرق:
أَحدهَا: من طَرِيق ابْن جريج، عَن أبي الزبير، عَن جَابر كَمَا سَاقه ابْن حزم، وَهُوَ مَا ذكره الرَّافِعِيّ أَولا.
ثَانِيهَا: من رِوَايَة زُهَيْر أبي خَيْثَمَة عَن أبي الزبير، عَن جَابر بِلَفْظ: «من كَانَ لَهُ شريك فِي ربعَة أَو نخل فَلَيْسَ لَهُ أَن يَبِيع حَتَّى يُؤذن شَرِيكه؛ فَإِن رَضِي أَخذ، وَإِن كره ترك» وَفِي هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ لم يُصَرح بِسَمَاع أبي الزبير عَن جَابر.(7/9)
ثَالِثهَا: عَن ابْن جريج أَن أَبَا الزبير أخبرهُ أَنه سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الشُّفْعَة فِي كل (شرك فِي) أَرض ... » إِلَى آخِره كَمَا قدمْنَاهُ.
فَائِدَة: الشّرك الِاسْم من الِاشْتِرَاك فِي الْملك، وَالرّبع والربعة - بِفَتْح الرَّاء وَإِسْكَان (الْبَاء) - وَالرّبع: الدَّار والمسكن وَيُطلق عَلَى الأَرْض، وَأَصله الْمنزل الَّذِي كَانُوا يربعون (بِهِ) أَي يسكنونه و (يُقِيمُونَ) فِيهِ. والربعة تأنث الرّبع، وَقيل: هُوَ وَاحِدَة، وَالْجمع الَّذِي هُوَ اسْم الْجِنْس: ربع. والحائط: النّخل يحوط عَلَيْهِ بجدار أَو غَيره. ويؤذنه: يُعلمهُ.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم؛ فَإِذا وَقعت الْحُدُود فَلَا شُفْعَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مَالك، عَن ابْن شهَاب، عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: ... فَذكره بِهِ سَوَاء، قَالَ الشَّافِعِي: وَأَنا الثِّقَة، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن جَابر بن عبد الله، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثله أَو مثل(7/10)
مَعْنَاهُ لَا يُخَالِفهُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» من حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن معمر بِهِ بِلَفْظ: «الشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم؛ فَإِذا وَقعت الْحُدُود وَعرف النَّاس حُقُوقهم فَلَا شُفْعَة» ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث الشَّافِعِي، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الجني، عَن معمر بِهِ بِلَفْظ: «إِذا حُدت الْحُدُود فَلَا شُفْعَة» قَالَ: وَقد تَابع معمرًا عَلَى [وصل] الحَدِيث صَالح بن أبي (الْأَخْضَر) وَعبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق. وَرَوَاهُ عِكْرِمَة بن عمار، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن جَابر. وَأما حَدِيث مَالك؛ فقد رَوَاهُ عَنهُ عبد الْملك بن الْمَاجشون وَأَبُو عَاصِم وَيَحْيَى بن أبي قتيلة، عَن مَالك مَوْصُولا بِذكر أبي هُرَيْرَة فِيهِ. وَرَوَاهُ ابْن جريج وَابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ فَقَالَا: عَن سعيد (أَو) أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة، وَكَانَ ابْن شهَاب لَا يشك فِي رِوَايَته عَن أبي سَلمَة عَن جَابر مَوْصُولا، وَلَا فِي رِوَايَته عَن ابْن الْمسيب عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا، وَإِنَّمَا كَانَ يشك فِي رِوَايَته (عَنْهُمَا) عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد قَامَت الْحجَّة بروايته عَن أبي سَلمَة عَن جَابر، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو الزبير عَن جَابر، وَقَالَ الْمُزنِيّ بعد حَدِيث مَالك: وَوَصله من غير حَدِيث مَالك: أَيُّوب وَأَبُو الزبير عَن جَابر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثل مَعْنَى حَدِيث مَالك، وَإِنَّمَا وَصله الشَّافِعِي من حَدِيث معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر، وَمن حَدِيث ابْن جريج عَن أبي الزبير(7/11)
عَن جَابر؛ فَذكر أَيُّوب خطأ وَقع فِي كتاب الْمُزنِيّ. ثمَّ رَوَاهُ عَن الشَّافِعِي عَن (سعيد) بن سَالم عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن جَابر مَرْفُوعا ... فَذكره بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ترك حقًّا فلورثته» .
هَذَا الحَدِيث سلف وَاضحا فِي بَاب الضَّمَان، لَكِن بِلَفْظ: «من ترك مَالا» بدل «من ترك حقًّا» .
الحَدِيث السَّادِس
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الشُّفْعَة كَحَلِّ العقال» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: إِنَّهَا تفوت إِذا لم يبتدر إِلَيْهَا كالبعير الشرود يحل عَنهُ العقال.
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا لِلْقَوْلِ الصَّحِيح أَن الشُّفْعَة عَلَى الْفَوْر، وَهُوَ حَدِيث (ضَعِيف) رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن مُحَمَّد بن بشار بنْدَار، عَن مُحَمَّد بن الْحَارِث (عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْبَيْلَمَانِي، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِهِ، وَأخرجه الْبَزَّار عَن(7/12)
مُحَمَّد بن الْمثنى، ثَنَا مُحَمَّد بن الْحَارِث بِهِ) بِلَفْظ: «لَا شُفْعَة لغَائِب وَلَا لصغير وَالشُّفْعَة كحل العقال» .
وَرَوَاهُ عَلّي بن عبد الْعَزِيز فِي «منتخبه» - عَلَى مَا عزاهُ إِلَيْهِ ابْن الْقطَّان وَعبد الْحق - عَن عَفَّان بن مُسلم (ثَنَا) مُحَمَّد بن الْحَارِث بِهِ بِلَفْظ: «لَا شُفْعَة لغَائِب وَلَا لصغير، وَلَا لِشَرِيك عَلَى شَرِيكه إِذا سبقه بِالشِّرَاءِ، وَالشُّفْعَة كحل العقال» وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، اشْتَمَل عَلَى ثَلَاثَة ضعفاء:
أحدهم: مُحَمَّد بن الْحَارِث وَهُوَ مَتْرُوك، قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَترك أَبُو زرْعَة حَدِيثه، وَلم يقرَّاه عَلَيْهِ فِي الشُّفْعَة - يَعْنِي: هَذَا الحَدِيث - وَقَالَ عَمْرو بن عليّ: أَحَادِيثه مُنكرَة مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة حَدِيثه لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَخَالف ابْن حبَان فَذكره فِي «ثقاته» وَالْبَزَّار فَقَالَ: هُوَ رجل لَيْسَ بِهِ بَأْس. قَالَ: وَإِنَّمَا تَأتي نكرَة هَذِه الْأَحَادِيث من ابْن الْبَيْلَمَانِي.
ثانيهم: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْبَيْلَمَانِي وَهُوَ مُنكر الحَدِيث، كَمَا قَالَه خَ وَغَيره، وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن حبَان: حدث عَن أَبِيه بنسخة شَبِيها بِمِائَتي حَدِيث كلهَا مَوْضُوعَة؛ لَا يجوز الِاحْتِجَاج(7/13)
بِهِ إِلَّا عَلَى جِهَة التَّعَجُّب. وَقَالَ ابْن عدي: كل مَا يرويهِ ابْن الْبَيْلَمَانِي فالبلاء مِنْهُ.
ثالثهم: عبد الرَّحْمَن وَالِده وَهُوَ لين خير من وَلَده، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم: هُوَ لين. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف لَا تقوم بِهِ حجَّة إِذا وصل الحَدِيث (فَكيف) بِمَا يُرْسِلهُ؟ وَقَالَ ابْن الْقطَّان: لم تثبت عَدَالَته وَهُوَ ظَاهر الضعْف. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» فِي التَّابِعين ثمَّ قَالَ: لَا (يجوز أَن يعْتد بِشَيْء من حَدِيثه إِذا كَانَ من رِوَايَة ابْنه) لِأَن ابْنه يضع عَلَى أَبِيه الْعَجَائِب.
قلت: وَقد شهد غير وَاحِد من الْحفاظ لهَذَا الحَدِيث بالضعف، قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان: هَذَا الْخَبَر لَا أصل لَهُ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سُئِلَ أَبُو زرْعَة عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: هَذَا (حَدِيث) مُنكر، وَلم يقْرَأ علينا فِي كتاب الشُّفْعَة وضربنا عَلَيْهِ. وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ السالف، أَعنِي: لفظ ابْن عبد الْعَزِيز فِي بَاب عقده لبَيَان أَلْفَاظ مُنكرَة يذكرهَا بعض الْفُقَهَاء فِي مسَائِل الشُّفْعَة. وَقَالَ: مُحَمَّد بن الْحَارِث مَتْرُوك، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن ضَعِيف، ضعفهما يَحْيَى بن معِين وَغَيره من أَئِمَّة أهل الحَدِيث. وَقَالَ فِي «خلافياته» : هَذَا حَدِيث لَيْسَ بِثَابِت، وَابْن الْبَيْلَمَانِي ضَعِيف. وَقَالَ: عبد الْحق: (هَذَا حَدِيث(7/14)
ضَعِيف الْإِسْنَاد، فِيهِ) الْبَيْلَمَانِي وَغَيره. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: مُحَمَّد بن الْحَارِث (ضَعِيف جدًّا) أَسْوَأ حَالا من ابْن الْبَيْلَمَانِي وَأَبِيهِ.
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الشُّفْعَة لمن واثبها» وَيروَى: «الشُّفْعَة كنشطة العقال، إِن قيدت ثبتَتْ وَإِلَّا فاللوم عَلَى من تَركهَا» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ أَيْضا دَلِيلا لِلْقَوْلِ الصَّحِيح أَن الشُّفْعَة عَلَى الْفَوْر، وَتبع فِي إِيرَاده صَاحب «الشَّامِل» وَالْقَاضِي أَبَا الطّيب، وَذكره الْمَاوَرْدِيّ أَيْضا فَقَالَ: وَرُوِيَ عَنهُ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الشُّفْعَة لمن واثبها» يَعْنِي: لمن بادرها، وَرُوِيَ: «الشُّفْعَة كنشطة العقال؛ فَإِن أَخذهَا فَهِيَ لَهُ وَإِن تَركهَا رَجَعَ بالملامة عَلَى نَفسه» وَعَزاهُ عبد الْحق إِلَى رِوَايَة أبي مُحَمَّد - يَعْنِي: ابْن حزم - أَنه ذكره من رِوَايَة ابْن عمر مَرْفُوعا: «الشُّفْعَة كحل العقال؛ فَإِن قيدها مَكَانَهُ ثَبت حَقه وَإِلَّا فاللوم عَلَيْهِ» قَالَ عبد الْحق: وَهُوَ أَيْضا من حَدِيث الْبَيْلَمَانِي. ذكره عَنهُ بعد أَن عزاهُ إِلَى (منتخب) عَلّي بن عبد الْعَزِيز وَالْبَزَّار كَمَا أسلفناه، فَقَالَ: وَذكره أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ فِيهِ: «الشُّفْعَة كحل العقال؛ فَإِن قيدها مَكَانَهُ ثَبت حَقه وَإِلَّا فاللوم عَلَيْهِ» .(7/15)
وَاعْترض ابْن الْقطَّان بِأَن قَالَ - بعد أَن سَاقه من طَرِيق الْبَزَّار السالف من هَذَا الطَّرِيق بِهَذَا الْإِسْنَاد - سَاقه ابْن حزم فِي «محلاه» بِهَذَا اللَّفْظ وَزَاد فِيهِ: «من مثل بمملوكه فَهُوَ حر، وَهُوَ مولَى الله وَرَسُوله، وَالنَّاس عَلَى شروطهم مَا وَافق الْحق» وَلم يذكر الزِّيَادَة الَّتِي أوردهَا عبد الْحق عَنهُ الَّتِي هِيَ «فَإِن قيدها مَكَانَهُ ... » إِلَى آخِره، وَلَعَلَّه رَآهَا لَهُ فِي غير «الْمُحَلَّى» وَهَذَا الَّذِي زَاده ابْن حزم فِي «محلاه» من أَمر العَبْد والشروط لم يذكرهُ الْبَزَّار فِي حَدِيث الشُّفْعَة، وَإِنَّمَا أورد أَمر العَبْد (بِالْإِسْنَادِ) الْمَذْكُور حَدِيثا، وَكَذَلِكَ أَمر الشَّرْط، وَمَعَهُ: «المنحة مَرْدُودَة» حَدِيثا، وأظن [أَن] ابْن حزم لما كَانَ ذَلِكَ كُله بِإِسْنَاد وَاحِد لفَّقَه تشنيعًا عَلَى الْخُصُوم الآخذين بعض مَا رُوِيَ بِهَذَا الْإِسْنَاد والتاركين (لبعضه) وَإِلَّا فَالْحَدِيث إِنَّمَا هُوَ كَمَا أَخْبَرتك.
فَائِدَة: قَوْله: «لمن واثبها» قد قدمنَا عَن الْمَاوَرْدِيّ أَن مَعْنَاهُ: بَادر إِلَيْهَا. وَعبارَة المطرزي فِي «المعرب» قَوْله: «لمن واثبها» أَي: طلبَهَا عَلَى وَجه المسارعة والمبادرة، مفاعلة من الْوُثُوب عَلَى الِاسْتِعَارَة، واللوم فِي الْخَبَر العذل، بذال مُعْجمَة، يُقَال: لمته لومًا؛ أَي: عذلته، واللائمة الْمَلَامَة، وَإِنَّمَا مثل بِحل العقال؛ لِأَنَّهُ ينْحل سَرِيعا، وَكَأَنَّهُ يَقُول: زمن اسْتِحْقَاق طلب الشُّفْعَة زمن حل العقال. وَقد سلف عَن الرَّافِعِيّ تَفْسِيره، وَتبع فِيهِ الإِمَام قَوْله: «كنشطة من عقال» (كنى بِهِ أَيْضا عَن السرعة، وَمِنْه(7/16)
حَدِيث الرّقية: «كَأَنَّمَا أنشط من عقال» ) قَالَ ابْن فَارس: نشطت الْحَبل إِذا عقدت، وأنشطت إِذا حلت. وَضَبطه ابْن [معن] فِي «تنقيبه» بِفَتْح النُّون والشين الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة. وَكَذَا ضَبطه بِفَتْح الشين.
خَاتِمَة: ذكر الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الْبَاب «أَن السّنة السَّلَام قبل الْكَلَام» وَهَذَا حَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث جَابر أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «السَّلَام قبل الْكَلَام» لكنه حَدِيث ضَعِيف، لَا جرم قَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّه حَدِيث مُنكر لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَسمعت مُحَمَّدًا - يَعْنِي: البُخَارِيّ - يَقُول: عَنْبَسَة بن عبد الرَّحْمَن - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - ضَعِيف فِي الحَدِيث ذَاهِب، وَمُحَمّد بن زَاذَان - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِيهِ أَيْضا - مُنكر الحَدِيث. وَذكره الْبَغَوِيّ فِي «مصابيحه» فِي الْحساب عَلَى اصْطِلَاحه. وَقَالَ بعض حفاظ بَغْدَاد فِي كَلَامه عَلَيْهِ: إِنَّه حَدِيث مَوْضُوع. قَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : فَأحْسن مِنْهُ حَدِيث ابْن (عمر) مَرْفُوعا: «السَّلَام قبل السُّؤَال، من بَدَأَكُمْ بالسؤال قبل السَّلَام فَلَا تجيبوه» وَعَزاهُ إِلَى ابْن عدي. وَابْن عدي رَوَاهُ من طَرِيق حَفْص بن عمر الْأَيْلِي. قَالَ أَبُو حَاتِم: كَانَ شَيخا كذابا.(7/17)
كتاب الْقَرَاض(7/19)
كتاب الْقَرَاض
ذكر فِيهِ حَدِيث عُرْوَة الْبَارِقي وَقد سلف فِي أَوَائِل البيع، وَذكر فِيهِ أَيْضا آثارًا.
أَحدهَا: مَا ذكره الشَّافِعِي فِي «اخْتِلَاف الْعِرَاقِيّين» أَن أَبَا حنيفَة رَوَى عَن حميد بن عبد الله بن عبيد الْأنْصَارِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن عمر بن الْخطاب رَضي اللهُ عَنهُ أعطي مَال يَتِيم مُضَارَبَة، فَكَانَ (يعْمل) بِهِ فِي الْعرَاق» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَن الْحَاكِم، عَن الْأَصَم، عَن الرّبيع عَنهُ أَنه حَكَاهُ فِي «اخْتِلَاف الْعِرَاقِيّين» عَن بعض أهل الْعرَاق عَن حميد ... فَذكره، وَزَاد بعد قَوْله «وَكَانَ يعْمل بِهِ فِي الْعرَاق» : لَا نَدْرِي كَيفَ قاطعه عَلَى الرِّبْح. و «اخْتِلَاف الْعِرَاقِيّين» بِفَتْح الْيَاء الأولَى وَكسر النُّون عَلَى لفظ التَّثْنِيَة، وَالْمرَاد بهما: ابْن أبي لَيْلَى وَأبي حنيفَة، وَكَذَا ضَبطه النَّوَوِيّ فِي «تَهْذِيب اللُّغَات» وَهُوَ كتاب صنفه الشَّافِعِي من جملَة كتاب «الْأُم» وَيذكر فِيهِ الْمسَائِل الَّتِي اخْتلف فِيهَا أَبُو حنيفَة وَابْن أبي لَيْلَى، فَتَارَة يخْتَار أَحدهمَا و (يزيف) الآخر، وَتارَة (يزيفهما) مَعًا(7/21)
ويختار غَيرهمَا.
فَائِدَة: قَالَ ابْن دَاوُد: الَّذِي أعطَاهُ عمر هَذَا المَال هُوَ عبيد الْأنْصَارِيّ، بَعثه ليتجر فِيهِ بِالْبَحْرَيْنِ يكون الرِّبْح بَينهمَا نِصْفَيْنِ. هَذَا كَلَامه وَالَّذِي أسلفناه عَن رِوَايَة الشَّافِعِي أَنه رَاوِي الْقِصَّة فَلْينْظر ذَلِكَ.
فَائِدَة أُخْرَى: رَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يفعل كَفعل وَالِده. أخرجه من حَدِيث هِشَام عَن أَيُّوب عَنهُ «أَنه كَانَ يكون عِنْده مَال الْيَتِيم فيزكيه وَيُعْطِيه مُضَارَبَة ويستقرض مِنْهُ» .
الْأَثر الثَّانِي: «أَن عبد الله وَعبيد الله ابْني عمر بن الْخطاب رَضي اللهُ عَنهُ لقيا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ بِالْبَصْرَةِ منصرفهما من غَزْوَة نهاوند، فتسلفا مِنْهُ مَالا وابتاعا بِهِ مَتَاعا، وقدما الْمَدِينَة فباعاه وربحا فِيهِ، فَأَرَادَ عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَخذ رَأس المَال وَالرِّبْح كُله، فَقَالَا: لَو تلف كَانَ ضَمَانه علينا، فَكيف لَا يكون ربحه لنا؟ ! فَقَالَ رجل لأمير الْمُؤمنِينَ: لَو جعلته قراضا. فَقَالَ: قد جعلته. وَأخذ مِنْهُمَا نصف الرِّبْح» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ فِي «الْأُم» عَنهُ، عَن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه أَنه قَالَ: «خرج عبد الله وَعبيد الله ابْنا عمر بن الْخطاب (فِي) جَيش إِلَى الْعرَاق، فَلَمَّا قفلا مرَّا عَلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، فَرَحَّبَ بهما وَسَهل، وَهُوَ أَمِير الْبَصْرَة، فَقَالَ: لَو أقدر لَكمَا عَلَى أَمر (أنفعكما بِهِ) لفَعَلت. ثمَّ قَالَ: بلَى؛ هَا هُنَا مَال من مَال الله،(7/22)
أُرِيد أَن أبْعث بِهِ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فأسلفكماه، فتبتاعان بِهِ مَتَاعا من مَتَاع الْعرَاق، فتبيعانه بِالْمَدِينَةِ فتؤديان رَأس المَال إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَيكون لَكمَا الرِّبْح. فَقَالَا: وَدِدْنَا (ذَلِكَ فَفعل) فَكتب إِلَى عمر أَن يَأْخُذ مِنْهُمَا المَال، فَلَمَّا قدما الْمَدِينَة باعا وربحا، فَلَمَّا دفعا ذَلِكَ إِلَى عمر قَالَ: أكل الْجَيْش أسلفه كَمَا أسلفكما؟ قَالَا: لَا. قَالَ (عمر بن الْخطاب: ابْنا) أَمِير الْمُؤمنِينَ فأسلفكما، أديا المَال وَربحه. فَأَما عبد الله (فَسكت) وَأما عبيد الله فَقَالَ: (مَا) يَنْبَغِي لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا، لَو نقص (هَذَا) المَال أَو هلك لضمناه. فَقَالَ عمر: أدياه. فَسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فَقَالَ رجل من جلساء عمر: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو جعلته قراضا. فَقَالَ عمر: قد جعلته قراضا. فَأخذ عمر رَأس المَال وَنصف ربحه، وَأخذ عبد الله وَعبيد الله ابْنا عمر بن الْخطاب نصف المَال» . وَفِي رِوَايَة الشَّافِعِي عَن مَالك: «فَلَمَّا قفلا مرَّا عَلَى عَامل لعمر» وَذكره فِي «الْمُخْتَصر» مُخْتَصرا فَقَالَ: رُوِيَ عَن عمر «أَنه صيَّر ربح ابنيه فِي المَال الَّذِي تسلفاه بالعراق وربحا فِيهِ بِالْمَدِينَةِ فَجعله قراضا، عِنْدَمَا قَالَ لَهُ رجل من أَصْحَابه: لَو جعلته قراضا. فَفعل» .
فَوَائِد:
الأولَى: قَالَ الرَّافِعِيّ: هَذَا الرجل قيل: إِنَّه عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.(7/23)
قلت: تبع فِيهِ الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» فَإِنَّهُ صرح بِهِ فِي رِوَايَته، وَتبع فِيهِ الإِمَام؛ فَإِنَّهُ ذكره كَذَلِك فِي «نهايته» وَتبع فِيهِ القَاضِي حُسَيْن فَإِنَّهُ ذكره كَذَلِك، وَكَذَا ذكره ابْن دَاوُد فِي «شرح الْمُخْتَصر» وَحَكَاهُ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْمُهَذّب» عَن بَعضهم.
الثَّانِيَة: مَعْنَى «رحب بهما وَسَهل» قَالَ: مرْحَبًا وسهلاً (وَمَعْنى «لقيتما رحبًا من الأرَض» أَي: سَعَة وسهلاً) أَي: غير حزن. وَقَوله «من مَال الله» يُرِيد الْفَيْء، وَكَانَ هَذَا المَال مائَة ألف دِرْهَم، كَمَا قَالَه ابْن دَاوُد فِي «شرح الْمُخْتَصر» وَابْن [معن] فِي «تنقيبه» . وَقَوله: «ابْنا أَمِير الْمُؤمنِينَ فأسلفكما» يَعْنِي فعل ذَلِكَ تقربًا إليَّ. وَقَوله: «لَو جعلته قراضا» وَقع فِي رِوَايَة القَاضِي حُسَيْن وَالْغَزالِيّ فِي «وسيطه» : «لَو جعلته قراضا عَلَى النّصْف» وَذكر القَاضِي بعض قَوْله «لضمناه» : قَالَ لَهُ عمر: بلَى.
الثَّالِثَة: «نهاوند» الْمَذْكُورَة فِي رِوَايَة الرَّافِعِيّ، وَكَذَا إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ فِي «وسيطه» بِضَم النُّون كَمَا قَالَه السَّمْعَانِيّ قَالَ: وَهِي مَدِينَة من بِلَاد الْجَبَل، قيل: إِن نوحًا (بناها، وَكَانَ اسْمهَا: نوح أوند، فأبدلوا الْحَاء هَاء.
الرَّابِعَة: قَالَ الرَّافِعِيّ: أظهر مَا ذكره الْأَصْحَاب فِي مَحل هَذِه الْقِصَّة، وَبِه قَالَ ابْن سُريج: إِن مَا جَرَى كَانَ قرضا صَحِيحا وَكَانَ الرِّبْح(7/24)
وَرَأس المَال لَهما، لَكِن عمر رَضي اللهُ عَنهُ (استنزلهما) عَن بعض الرِّبْح خيفة أَن يكون قصد أبي مُوسَى (إرفاقهما لَا رِعَايَة مصلحَة بَيت المَال، وَلذَلِك قَالَ فِي بعض الرِّوَايَات: «أَو أسلف كل الْجَيْش) كَمَا أسلفكما» . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : تَأَول الْمُزنِيّ هَذِه الْقِصَّة بِأَنَّهُ سَأَلَهُمَا لبره الْوَاجِب عَلَيْهِمَا أَن يجعلا كُله للْمُسلمين فَلم يجيباه، فَلَمَّا طلب النّصْف أجاباه عَن طيب أَنفسهمَا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَيحْتَمل أَن عمر عاملهما بذلك كَمَا شاطر عماله أَمْوَالهم. وَحَكَى ابْن دَاوُد عَن بعض أَصْحَابنَا أَن مَعْنَى قَول عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: «لَو جعلته قراضا» أَي: لَو جعلت حكمه حكم الْقَرَاض.
الْأَثر الثَّالِث: عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب عَن أَبِيه «أَن عُثْمَان بن عَفَّان أعطَاهُ مَالا مقارضة» .
هَذَا الْأَثر حَكَاهُ الشَّافِعِي فِي «اخْتِلَاف الْعِرَاقِيّين» عَن عبد الله بن عَلّي، عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب، عَن أَبِيه «أَن عُثْمَان أعْطى مَالا مقارضة - يَعْنِي مُضَارَبَة» . وَذكره عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» وَذكره الشَّافِعِي فِي «الْأُم» فِي «اخْتِلَاف الْعِرَاقِيّين» فَقَالَ: وَرَوَى أَبُو حنيفَة رَضي اللهُ عَنهُ عَن عبد الله ... فَذكره بِهِ سَوَاء.
وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَنه عمل فِي مَال لعُثْمَان بن عَفَّان(7/25)
عَلَى أَن الرِّبْح (عَلَيْهِمَا) » وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق [ابْن بكير] عَن مَالك (كَذَلِك، وَمن طَرِيق ابْن وهب، عَن) مَالك، أَخْبرنِي الْعَلَاء (بن) عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب، عَن أَبِيه أَنه قَالَ: «جِئْت عُثْمَان بن عَفَّان فَقلت لَهُ (قد قدمت سلْعَة فَهَل لَك أَن تُعْطِينِي مَالا فأشتري بذلك فَقَالَ: أتراك فَاعِلا؟ قلت: نعم، وَلَكِنِّي رجل مكَاتب فأشتريها عَلَى أَن الرِّبْح بيني وَبَيْنك. قَالَ: نعم) فَأَعْطَانِي مَالا عَلَى ذَلِكَ» .
الْأَثر الرَّابِع وَالْخَامِس وَالسَّادِس وَالسَّابِع وَالثَّامِن: عَن عَلّي وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَحَكِيم بن حزَام رَضي اللهُ عَنهم «تَجْوِيز الْمُضَاربَة» .
أما أثر عَلّي فَغَرِيب لَا يحضرني من خرجه عَنهُ، وَأما أثر ابْن مَسْعُود فَذكره «الشَّافِعِي» فِي «اخْتِلَاف الْعِرَاقِيّين» فَقَالَ: وَرَوَى أَبُو حنيفَة عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم «أَن عبد الله بن مَسْعُود أعْطى زيد بن خليدة مَالا مقارضة» وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَن الشَّافِعِي فِي «اخْتِلَاف الْعِرَاقِيّين» بلاغًا، وَأما أثر ابْن عَبَّاس فَغَرِيب عَنهُ، نعم رَوَى عَن أَبِيه «أَنه كَانَ إِذا دفع مَالا مُضَارَبَة اشْترط عَلَى صَاحبه أَن لَا يسْلك بِهِ بحرًا وَلَا(7/26)
ينزل بِهِ وَاديا، وَلَا يَشْتَرِي بِهِ ذَات كبد رطبَة؛ فَإِن فعل ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِن، فَرفع شَرطه إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَجَازَهُ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَقَالَ: تفرد بِهِ أَبُو الْجَارُود زِيَاد بن الْمُنْذر، وَهُوَ كُوفِي ضَعِيف، كذبه يَحْيَى بن معِين - أَي: وَقَالَ: إِنَّه عَدو الله لَا يُسَاوِي فلسًا - وَضَعفه الْبَاقُونَ.
(وَأما أثر جَابر، فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن أبي الزبير، عَن جَابر بن عبد الله «أَنه سَأَلَهُ عَن الرجل يُعْطي الرجل المَال قراضا فَيشْتَرط لَهُ كَمَا أعطَاهُ نَحْو يَوْم يَأْخُذهُ قَالَ: لَا بَأْس بذلك) (وَأما أثر حَكِيم) بن حزَام فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة وحيوة بن شُرَيْح، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْأَسدي، عَن عُرْوَة بن الزبير، عَنهُ «أَنه كَانَ يدْفع المَال (مُضَارَبَة) مقارضة إِلَى أجل وَيشْتَرط عَلَيْهِ أَن لَا يمر بِهِ بطن وادٍ وَلَا يبْتَاع بِهِ حَيَوَانا وَلَا يحملهُ فِي بَحر فَإِن فعل شَيْئا من ذَلِكَ فقد ضمن ذَلِكَ المَال. قَالَ: فَإِذا تعدى أمره ضمنه من فعل ذَلِكَ. وَذكر الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب أَن السّنة الظَّاهِرَة وَردت فِي الْمُسَاقَاة وَهُوَ كَمَا قَالَ، كَمَا ستعلمه فِي الْبَاب الْآتِي عَلَى الإثر.(7/27)
كتاب الْمُسَاقَاة والمزارعة وَالْمُخَابَرَة(7/29)
كتاب الْمُسَاقَاة والمزارعة و (المخابرة)
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ سَبْعَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَامل أهل خَيْبَر بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا من تمر أَو زرع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك، وَلَهُمَا غير ذَلِكَ من الْأَلْفَاظ.
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَامل أهل خَيْبَر بالشطر مِمَّا يخرج من النّخل وَالشَّجر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن ابْن صاعد، ثَنَا يُوسُف الْقطَّان وَشُعَيْب بن أَيُّوب قَالَا: ثَنَا ابْن نمير، عَن عبد الله، عَن(7/31)
نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَامل أهل خَيْبَر بِشَطْر مَا يخرج من النّخل وَالزَّرْع» وَقَالَ يُوسُف: «من النّخل وَالشَّجر» وَقَالَ: ابْن صاعد وهم فِي ذكر الشّجر وَلم يقلهُ (غَيره) .
الحَدِيث الثَّالِث
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كُنَّا نخابر وَلَا نرَى بذلك بَأْسا حَتَّى أخبرنَا رَافع بن خديج أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَنْهَا (فتركناها) لقَوْل رَافع بن خديج» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» عَن سُفْيَان قَالَ: سَمِعت عَمْرو بن دِينَار يَقُول: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: «كُنَّا نخابر ... » فَذكره كَمَا أوردهُ الرَّافِعِيّ سَوَاء. وَرَوَاهُ الرّبيع، عَن الشَّافِعِي، ثَنَا سُفْيَان ... فَذكره إِلَّا أَنه قَالَ: «حَتَّى زعم» بدل «أخبرنَا» وَقَالَ: «من (أجل) ذَلِكَ» بدل «لقَوْل رَافع بن خديج» .
وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره، عَن سُفْيَان وَغَيره، عَن عَمْرو قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: «كُنَّا لَا نرَى بالْخبر بَأْسا حَتَّى كَانَ عَام أول زعم رَافع بن خديج أَن نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَنهُ» (و) فِي لفظ «فتركناه من أَجله» .(7/32)
الحَدِيث الرَّابِع وَالْخَامِس
عَن جَابر وَغَيره «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن المخابرة» .
أما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَكَذَا د، س، وت وَقَالَ: حسن. وَأما حَدِيث غَيره فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث زيد بن ثَابت رَضي اللهُ عَنهُ وَأخرج من حَدِيث جَابر - رَفعه -: «من لم يذر المخابرة فليؤذن بِحَرب من الله وَرَسُوله» .
الحَدِيث السَّادِس
عَن ثَابت بن الضَّحَّاك «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الْمُزَارعَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث عبد الله بن السَّائِب قَالَ: «دَخَلنَا عَلَى عبد الله بن معقل فَسَأَلْنَاهُ عَن (الْمُزَارعَة) فَقَالَ: (زعم) ثَابت بن الضَّحَّاك أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(7/33)
نهَى عَن الْمُزَارعَة وَأمر بالمؤاجرة، وَقَالَ: لَا بَأْس (بهَا)) .
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ساقى أهل خَيْبَر عَلَى نصف التَّمْر وَالزَّرْع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر قَالَ: «لما افتتحت خَيْبَر سَأَلت الْيَهُود رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يقرهم فِيهَا عَلَى أَن يعملوا عَلَى نصف مَا يخرج مِنْهَا من التَّمْر وَالزَّرْع، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أقركم (فِيهَا) عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» .
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرص عَلَى أهل خَيْبَر» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب (زَكَاة) المعشرات؛ فَرَاجعه من ثمَّ.(7/34)
كتاب الْإِجَارَة(7/35)
كتاب الْإِجَارَة
ذكر فِيهِ خَمْسَة أَحَادِيث:
أَحدهَا
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أعْطوا الْأَجِير أجره قبل أَن يجِف عرقه» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق (كلهَا ضَعِيفَة) :
أَحدهَا: من حَدِيث ابْن عمر رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه، (عَنهُ) مَرْفُوعا بِهِ. وَعبد الرَّحْمَن هَذَا ضَعَّفُوهُ كَمَا تقدم فِي أَوَائِل الْكتاب.
ثَانِيهَا: من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» وَقَالَ: لم يروه عَن أبي الزبير إِلَّا شَرْقي بن قطامي تفرد بِهِ مُحَمَّد بن زِيَاد [الْكَلْبِيّ] .
قلت: شَرْقي ضعفه زَكَرِيَّا السَّاجِي، وَمُحَمّد بن زِيَاد قَالَ(7/37)
ابْن معِين: لَا شَيْء.
ثَالِثهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَعَلِيهِ اقْتصر صَاحب «الْمُهَذّب» وَذكرت فِي تخريجي لأحاديثه أَن الْبَيْهَقِيّ رَوَاهُ من ثَلَاث طرق وَالْكل ضَعِيفَة، وَإِن كَانَ هُوَ لم يضعف إِلَّا وَاحِدًا مِنْهَا، وذكرته ثمَّ من طَرِيقين آخَرين عَن أبي هُرَيْرَة وَكِلَاهُمَا ضَعِيف فراجع ذَلِكَ مِنْهُ. وَذكر هَذَا الحَدِيث الْبَغَوِيّ فِي «مصابيحه» فِي قسم الْجِنَازَة عَلَى (اصْطِلَاحه فِي ذَلِكَ ثمَّ ادَّعَى إرْسَاله.
تَنْبِيه) : اجْتنب مَا وَقع فِي كَلَام بعض العصريين عَلَى أَحَادِيث الْهِدَايَة وَالْخُلَاصَة من عزوه هَذَا الحَدِيث إِلَى البُخَارِيّ تقليدًا لمن قبله من العصريين فاحذر ذَلِكَ.
الحَدِيث الثَّانِي
(رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «من اسْتَأْجر أَجِيرا) فليعلمه أجره» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الله بن الْمُبَارك، عَن أبي حنيفَة، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم، عَن الْأسود، عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يساوم الرجل عَلَى سوم أَخِيه، وَلَا يخْطب عَلَى خطْبَة أَخِيه، وَلَا تناجشوا، وَلَا تبايعوا بإلقاء الْحجر، وَمن اسْتَأْجر أَجِيرا فليعلمه أجره» ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا رَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن حَمَّاد بِهِ،(7/38)
وَقيل من وَجه آخر ضَعِيف عَن [ابْن مَسْعُود] وَرَوَاهُ عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن حَمَّاد (عَن) إِبْرَاهِيم (عَن) أبي سعيد الْخُدْرِيّ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن اسْتِئْجَار الْأَجِير - يَعْنِي: حَتَّى يبين لَهُ أجره» .
(وَهُوَ) مُرْسل بَين إِبْرَاهِيم وَأبي سعيد، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ معمر عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان مُرْسلا.
الحَدِيث الثَّالِث
«نَهْيه (عَن قفيز الطَّحَّان» .
هَذَا النَّهْي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث وَكِيع وَعبيد الله بن مُوسَى قَالَا: ثَنَا سُفْيَان، عَن هِشَام أبي كُلَيْب، عَن (ابْن أبي نعم) عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «نُهي عَن (عسب) الْفَحْل (زَاد عبيد الله: وَعَن قفيز الطَّحَّان» وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب النَّهْي عَن عسب الْفَحْل) بعد أَن رَوَاهُ هَكَذَا من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ. وَرَوَاهُ ابْن الْمُبَارك عَن سُفْيَان، كَمَا رَوَاهُ عبيد الله وَقَالَ: «نهَى» وَكَذَلِكَ قَالَه إِسْحَاق الْحَنْظَلِي(7/39)
عَن وَكِيع «نهَى عَن (عسب) الْفَحْل» .
وَرَوَاهُ عَطاء بن السَّائِب عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي نعم قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره (وَذكره) عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» عَن الدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ عَن أبي سعيد «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن (عسب) الْفَحْل وقفيز الطَّحَّان» وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة فِي «مطلبه» فِي عزوه إِلَى الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلِك ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ ... فَذكره بِلَفْظ (الدَّارَقُطْنِيّ) الَّذِي نَقَلْنَاهُ أَولا من «سنَنه» وَالْبَيْهَقِيّ نَفسه سَاقه من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ، وَقد تعقب ابْن الْقطَّان عبد الْحق فَقَالَ: كَذَا ذكره عبد الْحق وَقد بحثت عَنهُ فَلم أَجِدهُ؛ إِنَّمَا هُوَ فِي كتاب الدَّارَقُطْنِيّ هَكَذَا «نُهي» مَبْنِيّ لما لم يسم فَاعله، وَلَعَلَّ قَائِلا يَقُول: [لَعَلَّه] اعْتقد فِيمَا يَقُوله الصَّحَابِيّ [من] هَذَا مَرْفُوعا. فَنَقُول لَهُ: إِنَّمَا عَلَيْهِ أَن ينْقل لنا رِوَايَته لَا رَأْيه، فَلَعَلَّ من بلغه يرَى غير مَا يرَاهُ من ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يقبل مِنْهُ نُقوله لَا قَوْله.
قلت: وَبعد هَذَا كُله فَالْحَدِيث مَعْلُول؛ فَإِن شيخ سُفْيَان وَهُوَ هِشَام الْمَذْكُور لَا نعرفه، لَا جرم قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : هَذَا خبر مُنكر،(7/40)
وَرِجَاله لَا تعرف. وَأما بعض شُيُوخنَا فَقَالَ بعد أَن ذكره كَمَا ذكره عبد الْحق بِسَنَد جيد: لَيْسَ فِيهِ مَا ينظر فِيهِ إِلَّا عنعنة الثَّوْريّ عَن هِشَام أبي كُلَيْب، وَهِشَام ثِقَة وَمثل هَذَا لَا يقصر عَن رُتْبَة الْحسن إِن لم يصل إِلَى رُتْبَة الصَّحِيح. قَالَ: وَأَرْجُو أَنه صَحِيح - إِن شَاءَ الله - هَذَا لَفظه وَلَا أَدْرِي من أَيْن وَقع لَهُ تَوْثِيق هِشَام؟ ! فَإِن ثَبت فَالْأَمْر كَمَا قَالَه.
فَائِدَة: (هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا عَلَى أَنه إِذا اسْتَأْجر الطَّحَّان بالنخالة أَو بِصَاع من الدَّقِيق أَنه يفْسد، وَقَالَ الْمجد فِي «أَحْكَامه» ) . فسر الْقَوْم «قفيز الطَّحَّان» بطحن الطَّعَام بِجُزْء مِنْهُ مطحونًا لما فِيهِ من اسْتِحْقَاق طحن قدر الْأُجْرَة لكل [وَاحِد] مِنْهَا عَلَى الآخر، وَذَلِكَ متناقض، قَالَ: وَقيل: لَا بَأْس بذلك مَعَ الْعلم بِقَدرِهِ، وَإِنَّمَا الْمنْهِي عَنهُ طحن الصُّبْرَة لَا يعلم كيلها بقفيز مِنْهَا وَإِن شَرط حبًّا؛ لِأَن مَا عداهُ مَجْهُول فَهُوَ كبيعها إِلَّا قَفِيزا مِنْهَا.
قلت: وَفِي «الغريبين» للهروي أَن ابْن الْمُبَارك قَالَ: إِن صورته أَن تَقول: اطحن بِكَذَا وَزِيَادَة قفيز من نَفْس الطَّحْن. قَالَ صَاحب «الْمطلب» : وَكَيف كَانَ، فَهَل ذَلِكَ لأجل أَنه لَا يعرف كَيْفيَّة الدَّقِيق بعد الطَّحْن هَل هُوَ ناعم أَو خشن؟ وَالْغَرَض يخْتَلف بِهِ، أَو لأجل أَنه جعل الْأُجْرَة مَا يحصل بِعَمَل الآخر؛ فَهِيَ غير مَقْدُور عَلَيْهَا فِي الْحَال، أَو لأجل أَنه تَأْجِيل فِي الْأَعْيَان أَنه حصر الْأُجْرَة فِي الْقَمْح المطحون وَجعل اسْتِحْقَاقه بعد الطَّحْن، وَذَلِكَ تَأْجِيل لَهُ بِأَجل مَجْهُول، فِيهِ احتمالات. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون النَّهْي لأجل كل مِنْهَا؛ فَإِن أصُول الشَّرْع تَقْتَضِيه.(7/41)
الحَدِيث الرَّابِع
عَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ (أَنه بَاعَ فِي بعض الْأَسْفَار بَعِيرًا من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى أَن يكون لَهُ ظَهره إِلَى الْمَدِينَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وكرره البُخَارِيّ فِي عدَّة أَبْوَاب وَقد ذكرته بِطرقِهِ فِي «شرح الْعُمْدَة» فَرَاجعه مِنْهُ فَإِنَّهُ يُسَاوِي رحْلَة.
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي قصَّة الَّتِي عرضت نَفسهَا عَلَيْهِ لبَعض الْقَوْم: أُرِيد أَن أزَوجك هَذِه إِن رضيت. فَقَالَ: مَا رضيت لي يَا رَسُول الله فقد رضيت. فَقَالَ للرجل: هَل عنْدك شَيْء؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَا تحفظ من الْقُرْآن؟ قَالَ: سُورَة الْبَقَرَة وَالَّتِي تَلِيهَا. قَالَ: (قُم) فعلمها (عشْرين) آيَة وَهِي امْرَأَتك» .
هَذَا الحَدِيث أَصله فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِغَيْر هَذِه السِّيَاقَة، كَمَا ستعلمه - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - فِي النِّكَاح، وَرَوَاهُ بنحوها أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث عِسل - بِكَسْر الْعين وَإِسْكَان السِّين (الْمُهْمَلَتَيْنِ) - عَن(7/42)
عَطاء بن أبي (رَبَاح) ، عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو هَذِه الْقِصَّة - يَعْنِي: قصَّة سُؤال الرجل للنَّبِي (أَن يُزَوجهُ الواهبة نَفسهَا - قَالَ أَبُو دَاوُد: لم يذكر الْإِزَار و (الْخَاتم) فَقَالَ: «مَا تحفظ من الْقُرْآن؟ قَالَ: سُورَة الْبَقَرَة أَو الَّتِي تَلِيهَا. قَالَ: (قُم) فعلمها عشْرين آيَة وَهِي امْرَأَتك» وَرَوَاهُ بهَا النَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه وَهَذَا لَفظه: «جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعرضت نَفسهَا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا: اجلسي. فَجَلَست سَاعَة ثمَّ قَامَت، قَالَ: اجلسي بَارك الله فِيك؛ أما نَحن فَلَا حَاجَة لنا فِيك، وَلَكِن تملكيني أَمرك؟ قَالَت: نعم. فَنظر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي وُجُوه الْقَوْم فَدَعَا رجلا مِنْهُم، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيد أَن أزَوجك هَذَا إِن رضيت. قَالَت: مَا رضيت لي يَا رَسُول الله فقد رضيت. ثمَّ قَالَ للرجل: هَل عنْدك من شَيْء؟ قَالَ: لَا وَالله يَا رَسُول الله. قَالَ: قُم إِلَى النِّسَاء. فَقَامَ إلَيْهِنَّ فَلم يجد (عِنْدهن) شَيْئا، قَالَ: وَمَا تحفظ من الْقُرْآن؟ قَالَ: سُورَة الْبَقَرَة - أَو الَّتِي تَلِيهَا - قَالَ: قُم فعلمها عشْرين آيَة وَهِي امْرَأَتك» كَذَا وَقع فِيهِ أَن الْمَشْرُوط رِضَاهَا - أَي: الْمَرْأَة لَا الرجل - كَمَا وَقع فِي الرَّافِعِيّ، وَعسل هَذَا هُوَ ابْن سُفْيَان بن (يربوعي) بَصرِي، كنيته: أَبُو (قُرَّة) وَقد ضَعَّفُوهُ، قَالَ(7/43)
أَبُو حَاتِم: مُنكر الحَدِيث. وَيشْتَبه بعَسَل - بِفَتْح الْعين وَالسِّين - بن ذكْوَان الأخباري. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار ثَلَاثَة:
أَحدهَا: عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه أجر نَفسه من يَهُودِيّ يَسْتَقِي لَهُ كل دلو بتمرة» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث حَنش، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «أصَاب نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خصَاصَة، فَبلغ ذَلِكَ عليًّا - عَلَيْهِ السَّلَام - فَخرج يلْتَمس عملا يُصِيب فِيهِ شَيْئا [ليقيت بِهِ] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَتَى بستانًا لرجل من الْيَهُود فاستقى لَهُ سَبْعَة عشر دلوًا كل دلو بتمرة، [فخيره] الْيَهُودِيّ من تمره [سبع عشرَة] عَجْوَة فجَاء بهَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وحنش هَذَا ضَعَّفُوهُ إِلَّا الْحَاكِم؛ فَإِنَّهُ وَثَّقَهُ، وَسَماهُ مُسلم: حُسَيْنًا، قَالَ: وَيُقَال: حسن. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بالسند الْمَذْكُور وباللفظ أَيْضا، وَزَاد فِي آخِره: «فَقَالَ: من أَيْن هَذَا يَا أَبَا (الْحُسَيْن) ؟ فَقَالَ: بَلغنِي مَا بك من الْخَصَاصَة يَا نَبِي الله، فَخرجت التمس عملا لأصيب لَك طَعَاما. قَالَ: فحملك عَلَى هَذَا حب الله وَرَسُوله؟ قَالَ (عَلّي) : نعم يَا نَبِي الله. فَقَالَ نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: وَالله مَا من عبد يحب الله وَرَسُوله إِلَّا(7/44)
الْفقر أسْرع (إِلَيْهِ) من جرية السَّيْل عَلَى وَجهه، من أحب الله وَرَسُوله فليعد تحفافا - وَإِنَّمَا يَعْنِي: الصَّبْر» .
وَله طَرِيق ثَان من حَدِيث عَلّي رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِنَحْوِ من لفظ ابْن مَاجَه: «وَجعل الْأُجْرَة» لكنه من رِوَايَة مُجَاهِد عَنهُ، وَهُوَ مُنْقَطع. قَالَ أَبُو زرْعَة: مُجَاهِد عَن عَلّي مُرْسل. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: إِنَّه أدْركهُ لَا يذكر رُؤْيَة وَلَا سَمَاعا. وَقَالَ الدوري: قيل ليحيى بن معِين: رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: «خرج علينا عَلّي» . قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْء. وَله طَرِيق ثَالِث من حَدِيث أبي حَيَّة (عَن) عَلّي قَالَ: «كنت أدلو الدَّلْو بتمرة وأشرط أَنَّهَا جلدَة» . رَوَاهُ ابْن مَاجَه، عَن مُحَمَّد (بن بشار) ، ثَنَا عبد الرَّحْمَن، ثَنَا سُفْيَان، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي حَيَّة ... فَذكره، وَهَذَا إِسْنَاد جيد، لَا جرم ذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» والجلدة: الْيَابِسَة [الجيدة] قَالَه الْجَوْهَرِي.
الْأَثر الثَّانِي وَالثَّالِث: عَن عمر وَعلي «تضمين الْأَجِير الْمُشْتَرك» .
وَهَذَا يرْوَى عَنْهُمَا بِضعْف، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : قَالَ الشَّافِعِي: قد رُوي من وَجه لَا يثبت أهلُ الحَدِيث مثله «أَن عَلّي بن أبي طَالب ضمن الغسَال والصباغ، وَقَالَ: لَا يصلح للنَّاس إِلَّا ذَلِكَ» أَخْبرنِي(7/45)
إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه أَن عليًّا قَالَ ذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِي: وَرُوِيَ (عَن عمر) تضمين بعض الصُنَّاع من وَجه أَضْعَف من هَذَا، وَلم يعلم وَاحِدًا مِنْهُمَا يثبت، قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن عَلّي من وَجه آخر: أَنه كَانَ لَا يضمن أحدا من الأُجراء) من وَجه لَا يثبت مثله، قَالَ: وثابتٌ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح أَنه قَالَ: «لَا ضَمَان عَلَى صانع، وَلَا عَلَى أجِير» ثمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد [عَن أَبِيه] عَن عَلّي: «أَنه كَانَ يضمن الصباغَ والصانعَ، وَقَالَ: لَا يصلح للنَّاس إِلَّا ذَاك» . وَعَن خلاس: «أَن عليًّا كَانَ يضمن الْأَجِير» .
ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: حَدِيث جَعْفَر [عَن أَبِيه] عَن عَلّي مُرْسلا، وَأهل الْعلم يضعفون أَحَادِيث خلاس عَن عَلّي، وَقد رَوَى جَابر الْجعْفِيّ - وَهُوَ ضَعِيف - عَن الشّعبِيّ قَالَ: «كَانَ عَلّي يضمن الْأَجِير» .(7/46)
كتاب الجُعَالة(7/47)
كتاب الجُعَالة
قَالَ الرَّافِعِيّ: استأنسوا لَهُ بقوله تَعَالَى: (وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير وَأَنا بِهِ زعيم) ويحتج لَهُ (أَيْضا) بِحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» فِي أَخذ الْجعل عَلَى الرّقية، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «قد أصبْتُم، فَقَسِّمُوا واضربوا لي (مَعكُمْ) بسهمٍ» وَضحك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
وَقد ذكره الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» وبسطتُ الْكَلَام عَلَيْهِ فِي تخريجي لأحاديثه؛ فَرَاجعه مِنْهُ، انْتَهَى.(7/49)
كتاب إحْيَاء الْموَات(7/51)
كتاب إحْيَاء الْموَات
ذكر فِيهِ أَحَادِيث و (أثرين)
- أمَّا الْأَحَادِيث فخمسة (وَعِشْرُونَ) حَدِيثا:
أَحدهَا
عَن سعيد بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سلف فِي الْغَصْب وَاضحا.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عَن النبى (قَالَ: «من عمَّر أَرضًا لَيست لأحد فَهُوَ أَحَق بهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَزَاد: «قَالَ عُرْوَة بن الزبير: قَضَى بِهِ عمر فِي خِلَافَته» . ذكره فِي بَاب: من أَحْيَا أَرضًا مواتًا.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، إِلَّا أَنه قَالَ: «من أَحْيَا» بدل:(7/53)
«من عمر» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود، عَن عُرْوَة (عَنْهَا) مَرْفُوعا بِلَفْظ البُخَارِيّ.
فَائِدَة: قَوْله: «عَمَّر» هُوَ فعْل ثلاثي، أَوله عين، وَفِي بعض النّسخ: «أعمر» رباعيًا بِهَمْزَة قبل الْعين، وَلَيْسَ بِصَحِيح، وَلَا يُطَابق التَّبْوِيب.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أحَاط حَائِطا عَلَى أَرض فَهِيَ لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَنهُ، ثَنَا مُحَمَّد بن بشر، ثَنَا سعيد، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن سَمُرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِهِ سَوَاء.
وَكَذَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَذكره ابْن السكن فى «سنَنه الصِّحَاح» وَقد أسلفنا لَك مَا فِي سَماع الْحسن من سَمُرَة، وَله شَاهد من حَدِيث جَابر بن عبد الله أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أحَاط حَائِطا عَلَى أَرض فَهِيَ لَهُ» .
رَوَاهُ عبد بن حميد فِي «مُسْنده» عَن مُحَمَّد بن بشر الْعَبْدي، عَن(7/54)
سعيد بن أبي (عرُوبَة) ، (ثَنَا قَتَادَة) عَن (سُلَيْمَان) الْيَشْكُرِي، عَن جَابر مَرْفُوعا بِهِ.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عادي الأَرْض لله وَرَسُوله، ثمَّ هِيَ لكم مني» وَرُوِيَ: «مَوَتَانِ الأَرْض لله وَرَسُوله، ثمَّ هِيَ لكم مني أَيهَا الْمُسلمُونَ» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: يعنىِ: الْموَات.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأول الشَّافِعِي عَن سُفْيَان، عَن ابْن طَاوس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَحْيَا مواتًا من الأَرْض فَهُوَ لَهُ، وعادىِ الأَرْض لله وَرَسُوله، ثمَّ هِيَ لكم مني» .
وَكَذَا فِي الْمسند لَهُ أَيْضا، وَكَذَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث قبيصَة، عَن سُفْيَان، عَن ابْن طَاوس، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَحْيَا شَيْئا من موتان الأَرْض فَلهُ رقبَتهَا، وعادي الأَرْض لله وَلِرَسُولِهِ، ثمَّ لكم من بعدِي» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ هِشَام بن (حُجَيْر) عَن طَاوس(7/55)
فَقَالَ: «ثمَّ هِيَ لكم مني» ثمَّ أخرجه من حَدِيث: مُحَمَّد بن فُضَيْل، عَن لَيْث، عَن طَاوس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «عادي الأَرْض لله وَلِرَسُولِهِ، ثمَّ لكم من بعد، فَمن أَحْيَا شَيْئا من موَات الأَرْض فَهُوَ أَحَق بِهِ» وَلَيْث هَذَا هُوَ ابْن (أبي) سُليم، وَقد علمتَ حَاله فِيمَا مَضَى. وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث: كريب، ثَنَا مُعَاوِيَة، حَدثنَا سُفْيَان، عَن ابْن طَاوس، عَن أَبِيه، عَن (ابْن) عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَوَتان الأَرْض لله وَلِرَسُولِهِ، فَمَنْ أحْيَا (مِنْهَا) شَيْئا فَهُوَ لَهُ» .
ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ مُعَاوِيَة بن هِشَام مَرْفُوعا مُتَّصِلا.
قلت: (وَهُوَ) صَدُوق ثِقَة، من رجال مُسلم، وَغلط ابْن الْجَوْزِيّ فَذكره فِي «ضُعَفَائِهِ» وَقَالَ: رَوَى مَا لَيْسَ من سَمَاعه؛ فَتَرَكُوهُ. لَا جرم، لمَّا ذكره الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي» قَالَ: إِنَّه ثِقَة، غلط من تكلم فِيهِ. فَأَشَارَ بذلك إِلَى مقَالَة ابْن الْجَوْزِيّ هَذِه فِيهِ. وَقَول الرَّافِعِيّ فِي هَذِه الرِّوَايَة: «ثمَّ هِيَ لكم مني أَيهَا الْمُسلمُونَ» تبع فِي إيرادها كَذَلِك الْبَغَوِيّ وَالْإِمَام.
فَائِدَة: قَوْله: «عاديّ الأَرْض» هُوَ بتَشْديد الْيَاء، يُرِيد: ديار عَاد(7/56)
وَثَمُود وَمن بعدهمْ، وَعبارَة ابْن دَاوُد فِي «شرح الْمُخْتَصر» : أَنه الَّذِي كَانَت عِمَارَته قبل بعثة الْأَنْبِيَاء بالشرائع، وَالْيَاء فِي «عاديّ الأَرْض» مشدَّدة. وَقَوله: «موتان الأَرْض» قَالَ الرَّافِعِيّ: هُوَ بِفَتْح الْمِيم وَالْوَاو (و) قَالَ الْخطابِيّ: وَفِيه لُغَة أُخْرَى وَهُوَ: بِفَتْح الْمِيم وَإِسْكَان الْوَاو، وأمَّا «المُوْتان» : بِالضَّمِّ وَإِسْكَان الْوَاو فَهُوَ: الْمَوْت الذريع. وَمَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن الْخطابِيّ رَأَيْته فِي كِتَابه «إصْلَاح الْأَلْفَاظ الَّتِي صحَّفها الروَاة فِي الحَدِيث» وَقَالَ ابْن بري: الصَّحِيح فِي الرِّوَايَة «مَوَتان» بِالْفَتْح فيهمَا، وَهِي: الأَرْض الَّتِي لم تُحيى بعد، وَأما «موْتان» بِسُكُون الْوَاو فَهُوَ: الوجع، يُقَال: رجل موتان الْفُؤَاد، وَامْرَأَة موتانة الْفُؤَاد.
فَائِدَة فقهية: قَالَ الجُوري من أَصْحَابنَا: موَات الأَرْض صَار ملكا للنَّبِي (بقوله: «عادي الأَرْض لله وَلِرَسُولِهِ» فرَدَّها عَلَى أُمَّتِه بقوله: «ثمَّ هِيَ لكم» .
الحَدِيث الْخَامِس
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَلهُ (بهَا) أجرٌ، وَمَا أكله العوافي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث (عبيد الله) بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ، عَن جَابر بِهِ سَوَاء، إِلَّا أَنه قَالَ: «وَمَا(7/57)
أكلت الْعَافِيَة» بدل: «وَمَا أكله العوافي» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من هَذَا الْوَجْه، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِأَلْفَاظ؛ أَحدهَا من هَذَا الْوَجْه، وَهَذَا اللَّفْظ، أَعنِي «الْعَافِيَة» بدل «العوافي» ، وَقَالَ: «فَهُوَ لَهُ صَدَقَة» .
ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن (عبيد الله) هَذَا مَجْهُول لَا يعرف وَلَا يعلم لَهُ سَماع من جَابر. ثمَّ سَاقه من حَدِيث هِشَام، حَدثنِي (عبيد الله) بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع بن خديج، سَمِعت جَابر بن عبد الله يَقُول: «من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَلهُ أجر، وَمَا أكلت الْعَافِيَة فَلهُ بهَا أجر» .
ثمَّ قَالَ: ذكْرُ الْخَبَر الدَّال عَلَى أَن الذمِّي إِذا أَحْيَا أَرضًا ميتَة لم تكن لَهُ. سَاقه من حَدِيث هشيم، عَن وهب بن كيسَان، عَن جَابر رَفعه «من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، (وَله أجر) وَمَا أكلتِ العوافي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَة» .
وَهَذِه الطَّرِيقَة رَوَاهَا التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» إِلَى قَوْله: «فَهِيَ لَهُ» ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. ثمَّ قَالَ ابْن حبَان: قد سمع هِشَام بن عُرْوَة هَذَا الْخَبَر من وهبِ بن كيسَان، و (عبيد الله) بن عبد الرَّحْمَن، عَن جَابر، وهما طَرِيقَانِ محفوظان. وَقَالَ: وَفِي هَذَا الْخَبَر دَلِيل عَلَى أَن(7/58)
الذِّمِّيّ إِذا أَحْيَا أَرضًا لم تكن لَهُ؛ فَإِن الصَّدَقَة لَا تكون إِلَّا للْمُسلمِ. ونازعه فِي ذَلِك الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» فَقَالَ: فِيمَا ذكره نظر؛ إِذْ الْكَافِر يتَصَدَّق ويجازى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَبِه ورد الحَدِيث.
فَائِدَة: العوافي: الطير والوحش والضباع، مَأْخُوذ من قَول: عَفَوْت فلَانا أعفوه. إِذا أَتَيْته تطلب معروفه، وَفِي «الْحَاوِي» للماوردي: والعوافي جمع عَافِيَة، وَهُوَ طَالب الْفضل.
قلت: وَهُوَ مَا جزم بِهِ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» حَيْثُ قَالَ عقب الْخَبَر الْمَذْكُور: طلاب الرزق يُسمَّون الْعَافِيَة. وَذكر الْبَيْهَقِيّ حَدِيثا فِي أثْنَاء أَبْوَاب الزَّكَاة فِيهِ ذكر العوافي، ثمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا العوافي؟ (قَالُوا) : الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: الطير والسِّبَاع» . وَأخرجه الْحَاكِم كَذَلِك فِي التَّفْسِير من «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. ذكره من حَدِيث عَوْف بن مَالك، وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَقَالَ الدَّارمِيّ - بعد أَن أخرجه فِي «مُسْنده» -: الْعَافِيَة: الطير وَغير ذَلِك.
الحَدِيث السَّادِس
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلَيْسَ للذمِّي تَمْلِيكًا (بِالْإِحْيَاءِ) وَلَا يَأْذَن لَهُ(7/59)
الإِمَام فِيهِ، وَلَو أذن لَهُ الإِمَام فأحياها.
لم يُمَلَّك، وَفِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «ثمَّ هِيَ لكم مني أَيهَا الْمُسلمُونَ» مَا يَقْتَضِي التَّخْصِيص بهم.
هَذَا الحَدِيث تقدَّم بَيَانه، إِلَّا قَوْله: «أَيهَا الْمُسلمُونَ» فَإِنِّي لم أرها فِي رِوَايَة كَذَلِك، وَقد أسلفنا أَن الرَّافِعِيّ تبع فِي إيرادِها الْبَغَوِيّ وَالْإِمَام.
الحَدِيث السَّابِع
رُوي أَنه عَليه السَّلَام قَالَ: « (عادي) الأَرْض لله وَلِرَسُولِهِ، ثمَّ هِيَ لكم مني» .
هَذَا الحَدِيث تقدَّم بَيَانه فِي الحَدِيث الرَّابِع من أَحَادِيث الْبَاب.
الحَدِيث الثَّامِن
روُي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فِي غير حق مُسلم فَهِيَ لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث أُمِّ الْجنُوب بنت نُميلة بالنُّون عَلَى الْمَشْهُور، وبخط ابْن طَاهِر: تُمَيْلة، بِالْمُثَنَّاةِ، وضبطها بَعضهم بِالْمُثَلثَةِ عَن أمهَا سويدة بنت جَابر، عَن أُمِّها (عقيلة)(7/60)
- بِفَتْح الْعين - بنت أسمر بن مُضرس، عَن أَبِيهَا مَرْفُوعا: «من سبق إِلَى مَا لم يسْبقهُ إِلَيْهِ مُسلم فَهُوَ لَهُ. قَالَ: فَخرج النَّاس يتعادون يتخاطون» وَهُوَ حَدِيث غَرِيب. قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ: لَا أعلم بِهَذَا الْإِسْنَاد حَدِيثا غَيره. وَأخرجه الضياء فِي «الْأَحَادِيث المختارة» .
قلت: «وأُمُّ جنوب» رَوَت عَن أُمها وأبيها أَيْضا، كَمَا أَفَادَهُ الصّريفيني، قَالَ: وَفِي الأَصْل «نجيلة» بدل «نميلَة» وَرَوَى حَدِيثهَا ابْن مَنْدَه فَقَالَ: عَن أُمِّ جميل بنت نميلَة، رَوَى عَنْهَا عبد الحميد بن عبد الْوَاحِد الغنوي، و (أمهَا) سويدة لَا أعلمها رَوَت عَن غير أُمِّها عقيلة، وَلَا رَوَى عَنْهَا غير ابْنَتهَا أم جنوب، وَكَذَا (أمهَا) عقيلة لَا أعلم روتْ عَن غير أَبِيهَا وَلَا رَوَى عَنْهَا غير ابْنَتهَا سويدة (وَقَالَ) الصريفيني: ذكرهَا خَ.
و «أسمر» هَذَا، قَالَ أَبُو عُمر: يُقَال: إِنَّه أَخُو عُرْوَة بن مُضرس.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث كثير بن عبد الله، عَن أَبِيه، عَن جده: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَحْيَا مواتًا من الأَرْض فِي غير حق (لمُسلم) فَهُوَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق» .
و «كثير» هَذَا ضعَّفوه بِمرَّة، كَمَا سبق فِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ ثمَّ كتاب الصُّلْح، وَذكره ابْن السكن فِي (صحاحه» بِلَفْظ «يُروى» وَهِي صِيغَة(7/61)
تمريض، وَوهم ابْن الطلاع حَيْثُ عَزَاه فِي «أَحْكَامه» إِلَى البخاريِّ.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن عبد الله بن (مُغفل) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من احتفر بِئْرا فَلهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعا حولهَا لعطن مَاشِيَته» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الْوَهَّاب (بن) عَطاء وَغَيره، عَن إِسْمَاعِيل الْمَكِّيّ، عَن الْحسن، عَن عبد الله بن مُغفل أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من حفر بِئْرا فَلهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعا عطنًا لماشيته» . . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من هَذَا الْوَجْه بألفاظٍ:
أَحدهَا: «حَرِيم الْبِئْر أَرْبَعُونَ ذِرَاعا عطنًا لماشيته» .
ثَانِيهَا: «من احتفر بِئْرا فَلهُ مَا حواليها أَرْبَعُونَ ذِرَاعا (عطنًا) لإبله وماشيته» .
ثَالِثهَا: «من احتفر بِئْرا فَلهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعا حولهَا عطنًا لماشيته» .
رَابِعهَا: «من احتفر بِئْرا فَلَيْسَ لأحد أَن يحْفر حولهَا أَرْبَعِينَ ذِرَاعا، عطنًا لماشيته» .(7/62)
وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف (إِسْمَاعِيل الْمَكِّيّ ضَعَّفُوهُ، أما) عبد الْوَهَّاب بن عَطاء؛ فَهُوَ من رجال مُسلم، حَدِيثه حسن، ضعفه أَحْمد، وأمَّا ابْن الْجَوْزِيّ فَنقل (فِيهِ) فِي «تَحْقِيقه» عَن الرَّازِيّ أَنه كَانَ يكذب، وَعَن الْعقيلِيّ وَالنَّسَائِيّ أَنه مَتْرُوك الحَدِيث. وَهَذَا قَالُوهُ فِي «عبد الْوَهَّاب بن الضَّحَّاك» لَا فِي هَذَا؛ فَتنبه لَهُ، وَقد مَشَى فِي «ضُعَفَائِهِ» عَلَى الصَّوَاب، فَنقل ذَلِك فِي تَرْجَمَة ابْن الضَّحَّاك لَا هَذَا.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «حَرِيم الْبِئْر الْبَدِيِّ خَمْسَة وَعِشْرُونَ ذِرَاعا، وحريم الْبِئْر العادية خَمْسُونَ ذِرَاعا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء، ثمَّ قَالَ: الصَّحِيح أَنه مُرْسل عَن ابْن الْمسيب، وَمن أسْندهُ فقد وهم. وَقَالَ فِي «علله» : إِن الْمُرْسل أشبه. قلت: وَفِي الْمسند (مُحَمَّد بن يُوسُف) الْمُقْرِئ شَيْخُ شيخِ الدَّارَقُطْنِيّ وَقد نسبه هُوَ - أَعنِي: الدَّارَقُطْنِيّ - إِلَى الْوَضع فِي الحَدِيث والقراءات.(7/63)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يُونُس، عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: أَخْبرنِي سعيد بن الْمسيب «أَن حَرِيم الْبِئْر الْبَدِيِّ خَمْسَة وَعِشْرُونَ ذِرَاعا نَوَاحِيهَا كلهَا، وحريم العادية خَمْسُونَ ذِرَاعا من نَوَاحِيهَا كلهَا، وحريم بِئْر الزَّرْع ثَلَاثمِائَة ذِرَاع من نَوَاحِيهَا كلهَا» قَالَ: وَقَالَ الزُّهْرِيّ: وَسمعت النَّاس يَقُولُونَ: حَرِيم الْعُيُون خَمْسمِائَة ذِرَاع. وَكَذَلِكَ معمر عَن الزُّهْرِيّ. وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «حَرِيم الْبِئْر العادية خَمْسُونَ ذِرَاعا (وحريم بِئْر الْبَدِيِّ خَمْسَة وَعِشْرُونَ ذِرَاعا. قَالَ سعيد بن الْمسيب من قبل نَفسه) : وحريم قليب الزَّرْع ثَلَاثمِائَة ذِرَاع» .
وَهَذَا ذكره أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» وَمن جِهَته أخرجه الْبَيْهَقِيّ ثمَّ قَالَ: ورُوي من حَدِيث معمر وَإِبْرَاهِيم بن أبي عبلة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا وموصولاً، وَهُوَ ضَعِيف. وَرَوَاهُ أوَّلَ الْبَاب من حَدِيث يَحْيَى بن آدم، عَن هشيم، عَن عَوْف الْأَعرَابِي، عَن رجل، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «حَرِيم الْبِئْر أَرْبَعُونَ ذِرَاعا من جوانبها كلهَا لأعطان الْإِبِل وَالْغنم، وَابْن السَّبِيل أول شَارِب، وَلَا يمْنَع فضل مَاء ليمنع بِهِ فضل الْكلأ» قَالَ: وَرَوَاهُ ابْن الْمُبَارك عَن عَوْف قَالَ: بَلغنِي عَن أبي هُرَيْرَة؛ فَذكره من قَوْله. ثمَّ رَوَاهُ آخر الْبَاب من حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «حَرِيم الْبِئْر خَمْسُونَ ذِرَاعا، وحريم الْعين مِائَتَا ذِرَاع» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فى «مُسْتَدْركه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَوْصُولا(7/64)
ومرسلاً، وَلَفظه فِي الأول: «حَرِيم (قليب) الْبِئْر العادية خَمْسُونَ ذِرَاعا، وحريم (قليب) (الْبِئْر) البادي خَمْسَة وَعِشْرُونَ ذِرَاعا) وَلَفظه فِي الثَّانِي كَلَفْظِ الدَّارَقُطْنِيّ، إِلَّا أَنه قَالَ بدل «الْبَدِيِّ» : «المحدثة» .
ذكرهمَا جَمِيعًا فِي كتاب الْأَحْكَام من «مُسْتَدْركه» عَن شَيْخه ابْن خُزَيْمَة بِإِسْنَادِهِ، وَسكت عَلَيْهَا.
فَائِدَة: الْبَدِيِّ: بِفَتْح الْبَاء، وَكسر الدَّال، وَتَشْديد الْيَاء، كَذَا رَأَيْته بِخَط ابْن الْجَوْزِيّ مضبوطًا فِي «غَرِيبه» ورأيته فِي «الصِّحَاح» بِالْهَمْز، ضبط الْكَاتِب، وَفِي «الرَّافِعِيّ» عَنهُ: أَن البدية الَّتِي أحدثت فِي الْإِسْلَام وَلم تكن عَادِية. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي «صحاحه» فِي فصل «بَدَأَ» : والبديء والبدي: الْبِئْر الَّتِي حُفرت فِي الْإِسْلَام وَلَيْسَت بعادية. ثمَّ ذكر الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هِيَ الَّتِي ابْتَدَأتهَا أَنْت فحفرتها. وَقَالَ أَبُو عبيد: وَهِي الَّتِي حُفرت فِي الْإِسْلَام، والعادية: الْقَدِيمَة.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: لَا يمْنَع من أَحْيَا مَا وَرَاء الْحَرِيم، قَرُبَ أم بَعُدَ؛ لِأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أقطع عبد الله بن مَسْعُود الدُّور، وَهِي بَين ظهراني عمَارَة الْأَنْصَار من الْمنَازل» (والدُّور) يُقَال: إِنَّه اسْم مَوضِع، وَيُقَال: الْمَعْنى أَنه أقطعه تِلْكَ الْبقْعَة ليتخذها دورًا.
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده الإِمَام الشَّافِعِي؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي(7/65)
«الْمُخْتَصر» : «وَقد أقطع رَسُول (الدُّور، فَقَالَ حَيّ من بني زهرَة - وَيُقَال لَهُم: بَنو عبد بن زهرَة -: نكِّب عَنَّا ابْن أم عبد. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَلِمَ ابتعثني الله إِذا؟ ! إِن الله لَا يقدِّس أمة لَا يوخذ للضَّعيف فيهم حَقه» .
قَالَ الشَّافِعِي: وَفِي ذَلِك دلَالَة عَلَى أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أقطع الْمَدِينَة بَين ظهراني عمَارَة الْأَنْصَار من الْمنَازل والنخيل.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «مَعْرفَته» من حَدِيث الرّبيع عَنهُ، ثَنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن يَحْيَى بن جعدة قَالَ: «لما قدم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَدِينَة أقطع الناسَ الدّور، فَقَالَ حَيّ من بني زهرَة - يُقَال لَهُم: بَنو عبد (بن زهرَة) -: نكب عَنَّا ابْن أم عبد. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَلم ابتعثني (الله) إِذا؟ ! إِن الله لَا يقدس أُمَّة لَا يُؤْخَذ للضعيف فيهم حَقه» .
وَهَذَا مُرْسل، قَالَ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم: يَحْيَى بن جعدة لم يلق ابْن مَسْعُود وَإِنَّمَا يُرْسل عَنهُ، وَقد وَصله الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» فَقَالَ: ثَنَا أَبُو خَليفَة الْفضل بن الْحباب، ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن سَلام الجُمَحِي، ثَنَا سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن يَحْيَى بن جعدة، [بن هُبَيْرَة] عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: «لمَّا قدم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَدِينَة أقطع(7/66)
الدَّور، وأقطع ابْن مَسْعُود فِيمَن أقطع، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: يَا رَسُول الله، نَكِّبه عَنَّا. قَالَ: فَلِمَ بَعَثَنِي الله إِذا؟ ! إِن الله لَا يقدس أُمَّة (لَا يُعْطون) الضَّعِيف مِنْهُم حَقه» .
و «هُبَيْرَة» : حَالَته جَيِّدَة كَمَا قررتها فى أَوَائِل كتَابنَا هَذَا فِي بَاب: بَيَان النَّجَاسَات وَالْمَاء النَّجس، لَا كَمَا زعم من يُضعفهُ.
فَائِدَة: وَقع فِي «مُخْتَصر الْمُزنِيّ» : «فجَاء حيٌّ من بني عذرة» كَمَا أسلفناه بدل «بني عبد» وَهُوَ غلط؛ لِأَن «عبد بن زهرَة» لَا يَكُونُوا من «بني عذرة» .
وَإِنَّمَا هم من قُرَيْش، وهم رَهْط عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. قَالَه الإِمَام فِي «نهايته» وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن: «بَنو عذرة» من الْأَنْصَار. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَإِنَّمَا هم من الْيمن، منسوبون إِلَى عذرة بن زيد اللات، و «عبد بن زهرَة» هُوَ عبد بن الْحَارِث بن زهرَة، وَابْن مَسْعُود من قُرَيْش، وَالظَّاهِر أَن قُريْشًا (لَا تكره) مجاورته، وَلَكِن ذَلِك الْحَيّ لمَّا كَانُوا من الْيمن وهم قريبون من الْأَنْصَار، سكنوا بَينهم؛ فكرهوا مجاورة ابْن مَسْعُود، قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: كَانَت الْمَدِينَة نصفهَا عَامر وَنِصْفهَا خراب، فأقطع الْأَنْصَار الخراب، وأقطع ابْن مَسْعُود بَين ظهرانيهم، وَأَرَادُوا إبعاده بقَوْلهمْ: «نكِّب» هُوَ بِكَسْر الْكَاف، وَقَالَ بَعضهم: مَعْنَى «نكِّب» : عدِّل، تَقْدِيره: عدل هُنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بإقطاعه.(7/67)
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أقطع الدُّور» .
هَذَا الحَدِيث سلف كَمَا نرَاهُ. وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث فطر بن خَليفَة، ثَنَا أبي، عَن عَمْرو بن حُرَيْث قَالَ: «انْطلق بِي أبي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنا غُلَام شَاب، فَدَعَا لي بِالْبركَةِ وَمسح برأسي، وَخط لي دَارا بِالْمَدِينَةِ بقوسٍ وَقَالَ: أزيدك؟ (أزيدك؟)) .
وَأعله ابْن الْقطَّان بِأَن قَالَ: فطر ثِقَة، وَأَبوهُ لَا يعرف حالُه. قلت: بلَى وُثِّق. وَقَالَ: وَلَا من رَوَى عَنهُ (غير) ابْنه. قَالَ: وَأَيْضًا فَإِن عَمْرو بن حُرَيْث لم تدْرك سنه هَذَا الْمَعْنى؛ فَإِنَّهُ [إِمَّا أَنه] كَانَ يَوْم بدر حَمْلاً، و [إِمَّا] قُبض النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ ابْن عشر سِنِين أَو اثْنَي عشر، عَلَى اخْتِلَاف فِيهِ. وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» فَقَالَ: إِنَّه خبر مُنكر. كَذَلِك، وَفِي «الْحَاوِي» للماوردي: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ أقطع الْعَبَّاس بن مرداس منزله، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ» .(7/68)
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن عَلْقَمَة بن وَائِل، عَن أَبِيه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أقطعه أَرضًا بحضرموت» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَزَاد: «وَبعث مَعَه مُعَاوِيَة ليقطعها إِيَّاه» .
وَفِي رِوَايَة للبيهقي بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح أَيْضا، بعد قَوْله: «أقطعه أَرضًا» قَالَ: «فَأرْسل معي مُعَاوِيَة أَن أعْطهَا إِيَّاه - أَو قَالَ: أعلمها إِيَّاه - قَالَ: فَقَالَ (لي) مُعَاوِيَة: أردفني خَلفك. فَقلت: لَا تكن من أرداف الْمُلُوك. قَالَ: فَقَالَ: أَعْطِنِي نعليك. فَقلت: انتعل ظلّ النَّاقة. قَالَ: ولمَّا اسْتخْلف مُعَاوِيَة أَتَيْته، فأقعدني مَعَه عَلَى السرير، فذكَّرني الحَدِيث) .
قَالَ سماك: قَالَ وَائِل: «وددت أَنِّي كنت حملتُه بَين يَدي» .
وَرَوَاهَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» كَذَلِك: «وَأرْسل (مَعَه) مُعَاوِيَة أَن أعْطهَا إِيَّاه» .(7/69)
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» : «قَالَ لَهُ: يَا وَائِل، إِن الرمضاء قد أَصَابَت بَاطِن قدمي؛ فأردفني خَلفك. قلت: مَا أَضِنُّ عَنْك بِهَذِهِ النَّاقة، وَلَكِن لستَ من أرداف الْمُلُوك، وأكره أَن أُعيَّر بك. قَالَ: فألق إليَّ حذاءك أتوقى بِهِ من حر الشَّمْس. (قَالَ) : مَا أضنُّ عَنْك بِهَاتَيْنِ الجِلْدتين، وَلَكِن لستَ مِمَّن يلبس لِبَاس الْمُلُوك، وأكره أَن أعيَّر بك» وَفِي آخِره: «فلمَّا قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَة؛ أَمر أنْ يتَلَقَّى، وأَذِنَ لَهُ، فأجْلَسَهُ مَعَه عَلَى سَرِيره، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: أَسَرِيري هَذَا أفضل أم ظهر نَاقَتك؟ قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، كنتُ حَدِيث عهدٍ بجاهلية وكُفر، وَكَانَت تِلْكَ سيرة الْجَاهِلِيَّة، وَقد أَتَانَا اللهُ الْيَوْم الْإِسْلَام» .
فَائِدَة: حَضْرَمَوت - بِفَتْح الْحَاء، وَإِسْكَان الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَفتح الْمِيم -: اسْم لبلدٍ بِالْيمن. قَالَه أهلُ اللُّغَة، كَمَا نَقله عَنْهُم النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» قَالَ: وَهُوَ أَيْضا اسْم لقبيلةٍ.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» : حَضرمَوْت أحد مخاليف الْيمن فِي أقصاها. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: اسْم بَلْدَة وقبيلة أَيْضا. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَهَذَا مُخَالف مَنْ قَالَ فِيهِ: مخلاف؛ فَإِن المخلاف كالرستاق والكَوْرة، اسْم لعدّة بِلَاد، وأمَّا الْقَبِيلَة: فَهِيَ حمير، وحضرموت بن قيس (قَالَ) وَيُشبه أَن تكون الْقَبِيلَة نزلت هَذَا الْموضع؛ فَسُمِّي الْموضع بهَا، وَله نَظَائِر.(7/70)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أقطع الزبير حضر فرسه، فَأَجْرَى فرسه حَتَّى قَامَ، ثمَّ رَمَى بِسَوْطِهِ، فَقَالَ: أَعْطوهُ من حَيْثُ بلغ (السَّوْط) » .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الله بن عُمر الْعمريّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عُمر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أقطع الزبير حُضْر فرسه؛ فَأَجْرَى الْفرس حَتَّى قَامَ، ثمَّ رَمَى سَوْطه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أعْطُوهُ حَيْثُ بلغ السَّوْط» .
وَعبد الله هَذَا فِيهِ لين، وَله شَاهد من حَدِيث هِشَام (عَن أَبِيه) عَن أَسمَاء قَالَت «كنتُ أنقل النَّوَى من أَرض الزبير الَّتِي أقطعه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى رَأْسِي، وَهِي عَلَى ثُلثي فَرسَخ» .
أَخْرجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» قَالَ البُخَارِيّ: وَقَالَ أَبُو ضَمرَة عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أقطع الزبير أَرضًا من أَمْوَال بني النَّضِير» وَفِي «مُسْند أَحْمد» و «المعجم الْكَبِير» للطبراني تَسْمِيَة الأَرْض السالفة فِي حَدِيث ابْن عمر «ثُوَيْر» وادَّعى صَاحب «التنقيب» أَن هَذَا الَّذِي أقطعه كَانَ أَرضًا بِخَيْبَر بهَا شجر ونخيل.(7/71)
فَائِدَة: «حُضْر فرسه» بحاء مُهْملَة مَضْمُومَة، ثمَّ ضاد مُعْجمَة سَاكِنة، ثمَّ رَاء مُهْملَة، وَهُوَ: العَدْوُ، أَقَامَ الْمصدر مقَام الِاسْم، وَمَعْنَاهُ: مَوضِع حضر فرسِهِ.
وَقَوله: «قَامَ» أَي: وقف، أَي: من العِيّ، وَلم يَبْقَ بِهِ حراك. وَرَمَى سَوْطه ليُزاد فِي الإقطاع، وَقَالَ الْبَارِقي: إِنَّمَا رَمَاه ليَكُون عَلامَة عَلَى الْموضع الذى انْتَهَى إِلَيْهِ فرسه. قَالَ: وَقيل: أَنه رَمَى سَوطه بعد الْفرس ليقطعه زِيَادَة عَلَى حَضْر فرسِهِ وَيجْعَل منتهاه حَيْثُ وَقع (السَّوْط) .
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حمى النقيع لإبل الصَّدَقَة، ونَعَم الْجِزْيَة، وخيل الْمُجَاهدين فِي سَبِيل الله» .
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي أَوَاخِر بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام وَاضحا.
الحَدِيث السَّادِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا حِمى إِلَّا لله وَلِرَسُولِهِ» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي الْبَاب الْمشَار إِلَيْهِ، فَرَاجعه من ثَمَّ.
وَأخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَابْن السكن فِي «صحاحه» أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء.(7/72)
الحَدِيث السَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا قَامَ أحدكُم (من) مَجْلِسه فِي الْمَسْجِد فَهُوَ أَحَق بِهِ إِذا عَاد إِلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» وَهُوَ تبع فِيهِ إِمَامه؛ فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك فِي «نهايته» وَقَالَ: إِنَّه صَحَّ عَنهُ. وَكَذَا وَقع فِي أصل «الرَّوْضَة» أَنه حَدِيث صَحِيح كَمَا قَالَه الإِمَام، والْحَدِيث ثَابت بِدُونِ لفظ «الْمَسْجِد» فِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا قَامَ أحدكُم من مَجْلِسه ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَق بِهِ» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من قَامَ من مَجْلِسه ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَق بِهِ» .
وَوَقع فِي «الْمطلب» لِابْنِ الرّفْعَة عزوه إِلَى البُخَارِيّ أَيْضا، وَلَعَلَّه من طغيان الْقَلَم، وَقد شهد الْحميدِي وَعبد الْحق فِي جَمعهمَا لأحاديث الصَّحِيحَيْنِ بِأَنَّهُ من أَفْرَاد مُسلم، وَأَن البُخَارِيّ لم يخرِّجه.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من سبق إِلَى مَا لم يسْبق إِلَيْهِ (مُسلم) فَهُوَ لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ بعد، وَقد سلف بَيَانه فِي الْبَاب، فِي الحَدِيث الثَّامِن مِنْهُ.(7/73)
الحَدِيث التَّاسِع عشر
«أَن أَبيض بن حمال الْمَازِني استقطع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ملح مأرب، فَأَرَادَ أَن يقطعهُ - ويُرْوى: فأقطعه - فَقيل: إِنَّه كَالْمَاءِ الْعد. قَالَ: فَلَا إِذن» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إسنادٍ فَقَالَ: «سَأَلَ الأَبيضُ بْنُ حمال النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يقطعهُ ملح مأرب؛ فأقطعه إِيَّاه وأزاده ... » فَذكره بِمثلِهِ.
وأسنده فِي «الْأُم» فَقَالَ: أَنا ابْن عُيَيْنَة، عَن معمر، عَن رجل من أهل مأرب، عَن أَبِيه: «أَن الْأَبْيَض بن حمال سَأَلَ النبىَّ (، فَأَرَادَ أَن يقطعهُ أَو قَالَ: أقطعه إِيَّاه ... » فَذكره بِمثلِهِ أَيْضا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَرَوَاهُ يَحْيَى بن آدم، عَن سُفْيَان، عَن معمر، عَن رجل من أهل الْيمن، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَرَوَاهُ ابْن الْمُبَارك عَن معمر، عَن يَحْيَى بن قيس المأربي، عَن رجل، عَن أَبيض بن حمال، وَرَوَاهُ جمَاعَة: نعيم بن حَمَّاد وقتيبةُ بن سعيد وغيرُهما، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن قيس المأربي، عَن أَبِيه، عَن سمي بن قيس، عَن [شمير] عَن أَبيض بن حمال قَالَ: «قدمت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاستقطعت الْملح الَّذِي بمأرب، فَقَطعه لي، فَلَمَّا وليت قَالَ لَهُ رجل: أَتَدْرِي يَا رَسُول الله مَا قطعت لَهُ؟ ! إِنَّمَا قطعت لَهُ المَاء الْعد فَرجع عَنهُ» .(7/74)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن قُتَيْبَة وَغَيره،، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِن بِزِيَادَة ثُمَامَة بن شرَاحِيل [بَين] يَحْيَى وسُمي بن قيس، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» كَذَلِك، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ طرقِ إِلَى أَبيض، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه مطوَّلاً، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب - وَفِي بعض نسخِه: حسن - وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَغَيرهم، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَخَالف ابْن الْقطَّان فَقَالَ: إِنَّه حَدِيث ضَعِيف، فَكل مَنْ دُون أَبيض مَجْهُول. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ وَقد أوضحت ذَلِك فِي «تخريجي لأحاديث الْوَسِيط» فَرَاجعه مِنْهُ تَجِد فِيهِ مَا يشفي العليل من ذكر طرقه، وَالْجَوَاب عَمَّن طعن فِيهِ وَضبط أَلْفَاظه وَغير ذَلِك.
فَائِدَة: «أَبيض» : بِفَتْح الْألف، ثمَّ بَاء مُوَحدَة سَاكِنة، ثمَّ مثناة تَحت مَفْتُوحَة، ثمَّ ضاد مُعْجمَة، لَهُ (وفادة) .
و «حَمَّال» بِفَتْح (الْحَاء) الْمُهْملَة، وَتَشْديد الْمِيم، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف، واجتنب مَا سواهُ.(7/75)
ومأرب: بتَخْفِيف ثَانِيه وَقد يُسكَّن، نَاحيَة بِالْيمن.
والعِدّ - بِكَسْر الْعين وَتَشْديد الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ -: الدَّائِم الَّذِي لَا انْقِطَاع لمادَّته، وجَمْعُه: أعداد. قَالَ الْأَزْهَرِي: هُوَ الدَّائِم الَّذِي لَا يَنْقَطِع، وَلَا يحْتَاج إِلَى عمل. وَقَالَ الخليلي: العِدّ مجمع الماءَ.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«النَّاس شُرَكَاء فى ثَلَاثَة: فِي المَاء، والكلأ، وَالنَّار» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرافعيُّ فِي الْبَاب، وَهُوَ مَرْوِيّ من طرق، يحضرنا مِنْهَا ثَمَانِيَة:
أَحدهَا: من طَرِيق أبي هُرَيْرَة، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاث لَا يُمنَعن: المَاء، والكلأ، وَالنَّار» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن (يزِيد) - هُوَ الْقَارئ صَاحب نَافِع - ثَنَا سُفْيَان، عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، قَالَ الضياءُ فِي «أَحْكَامه» : إسنادٌ جيد.
ثَانِيهَا: (من) طَرِيق ابْن عَبَّاس (قَالَ) : قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي ثَلَاث: المَاء، والكلأ، وَالنَّار، وثمنه حرَام» قَالَ أَبُو سعيد: يَعْنِي: المَاء الْجَارِي.(7/76)
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن عبد الله بن سعيد، ثَنَا (عبد الله بن خرَاش بن حَوْشَب الشَّيْبَانِيّ، عَن الْعَوام بن حَوْشَب، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس) مَرْفُوعا بِهِ. و (هَذَا طَرِيق ضَعِيف) عبد الله هَذَا هُوَ أَخُو شهَاب تَرَكُوهُ، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
قلت: هُوَ مَعْرُوف بالرواية عَن الْعَوام هَذَا، لَهُ عَنهُ أَحَادِيث مَنَاكِير، قَالَ ابْن عدي: (عَامَّة) مَا يرويهِ غير مَحْفُوظ. وَأغْرب ابْن السكن فَأخْرج هَذَا الحَدِيث فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» .
ثَالِثهَا: طَرِيق أبي خِدَاش (حبَان) بن زيد - بِفَتْح الْخَاء وَكسرهَا، حَكَاهُمَا الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» - أَنه سمع رجلا من الْمُهَاجِرين من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «غزوتُ مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاثًا أسمعهُ يَقُول: الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي ثَلَاث: المَاء، والكلأ، وَالنَّار» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَسكت عَلَيْهِ، وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» أَيْضا، قَالَ عبد الْحق: لَا أعلم رَوَى عَن أبي خِدَاش إِلَّا حريز بن عُثْمَان، وَقد قيل: إِنَّه رجل مَجْهُول.
قلت: وَفِي مَرَاسِيل (ابْن) أبي حَاتِم: سألتُ أبي عَن حديثٍ(7/77)
رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ، عَن رجل من أهل الشَّام، عَن أبي عُثْمَان، عَن أبي خِدَاش قَالَ: «غزوتُ مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فسمعتُه يَقُول: النَّاس شُرَكَاء فِي ثَلَاث: المَاء، والكلأ، وَالنَّار» فسمعتُ أبي يَقُول: هَذَا الرجل من أهل الشَّام، وَهُوَ عِنْدِي (بَقِيَّة) وَأَبُو عُثْمَان هُوَ عِنْدِي حريز بن عُثْمَان، وَأَبُو خِدَاش: لم يدْرك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِنَّمَا يَحْكِي عَن رجلٍ من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَذكره ابْن أبي حَاتِم (فِي علله) أَيْضا كَذَلِك، وَزَاد فِي آخِره: وَإِنَّمَا لم يسمه أَبُو إِسْحَاق لِأَنَّهُ كَانَ حيًّا إِلَى ذَلِك الْوَقْت. وَذكر هَذَا الحديثَ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة أبي خِدَاش، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فى «تَجْرِيد الصَّحَابَة» : لَا تصح لَهُ صُحْبَة.
رَابِعهَا: طَرِيق عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالتْ: «يَا رَسُول الله، مَا الشَّيْء الَّذِي لَا يحل مَنعه؟ قَالَ: المَاء وَالْملح وَالنَّار. قَالَت: قلتُ: يَا رَسُول الله، هَذَا المَاء قد عَرفْنَاهُ، فَمَا بَال الْملح وَالنَّار؟ قَالَ: يَا حميراء، من أعْطى نَارا فِكأنما تصدَّق بِجَمِيعِ مَا أنضجت تِلْكَ النَّار، وَمن أعْطى ملحًا فَكَأَنَّمَا تصدق (مَا طيبت تِلْكَ) الْملح، وَمن سَقَى مُسلما شربة من مَاء حَيْثُ لَا يُوجد المَاء فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهَا» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَفِي إِسْنَاده عَلّي بن زيد بن جدعَان، وَقد عرفت حالَهُ فِيمَا مَضَى (وقرنه مُسلم) بثابتٍ البُناني.(7/78)
خَامِسهَا: طَرِيق سيار بن مَنْظُور - رجل من بني فَزَارَة - عَن أَبِيه، عَن امْرَأَة يُقَال لَهَا: بهيسة، عَن (أَبِيهَا) قَالَت: «اسْتَأْذن أبي عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَدخل بَينه وَبَين قَمِيصه، فَجعل يُقَبِّله ويلتزمه، ثمَّ قَالَ: يَا رَسُول الله، مَا الشَّيْء الَّذِي لَا يحل مَنعه؟ قَالَ: المَاء. قَالَ: يَا نبىَّ الله، مَا الشَّيْء الَّذِي لَا يحل مَنعه؟ قَالَ: الْملح. قَالَ: يَا نَبِي الله، مَا الشَّيْء الَّذِي لَا يحل مَنعه؟ قَالَ: أَن تفعل [الْخَيْر] خيرٌ لَك» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة والبيوع من «سنَنه» وَالنَّسَائِيّ فِي (الزِّينَة) وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَفِي آخِره: قَالَ: «فَانْتَهَى قَوْله إِلَى المَاء وَالْملح، فَكَانَ ذَلِك الرجل لَا يمْنَع شَيْئا وَإِن قل» .
أعله عبدُ الْحق ببهيسة فَقَالَ: إِنَّهَا مَجْهُولَة. وصدَّقه ابْن الْقطَّان فِي ذَلِك، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُمَا؛ فَإِنَّهَا صحابية، كَمَا شهد لَهَا بذلك أَبُو نُعيم وَابْن مَنْدَه وَابْن حبَان، فَلَا يضر عدمُ معرفتنا لَهَا (ثمَّ قَالَ عبد الْحق: وَكَذَلِكَ الَّذِي قبلهَا. قَالَ ابْن الْقطَّان: صدق، وَبَقِي عَلَيْهِ أَن يبين(7/79)
[أَن] منظورًا لَا يعرف حَاله، وَكَذَا أَيْضا أَبوهَا. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ) ومنظورًا أَيْضا وَثَّقَهُ ابْن حبَان، ووالدها مذكورٌ فِي كتب الصَّحَابَة.
سادسها: طَرِيق عبد الله بن سرجس قَالَ: «أتيتُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فقلتُ: مَا الَّذِي لَا يحل مَنعه؟ قَالَ: الْملح. قلت: وماذا؟ قَالَ: المَاء وَالنَّار» .
فِي إِسْنَاده الْمثنى بن (بكر) قَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتابع عَلَى حَدِيثه. وَيَحْيَى بن سعيد الْعَطَّار: قَالَ ابْن عدي: هُوَ بَيِّن الضعْف. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات.
سابعها: طَرِيق أنس بن مَالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «خصلتان لَا يحل منعهما: المَاء وَالنَّار» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» من حَدِيث بديل بن ميسرَة الْعقيلِيّ عَنهُ، ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن بديل إِلَّا الْحسن بن أبي جَعْفَر، تفرد بِهِ عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سألتُ أبي عَنهُ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر بِهَذَا الْإِسْنَاد.
ثامنها: طَرِيق ابْن عمر رَفعه: «الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي المَاء وَالْملح والكلأ وَالنَّار» .
رَوَاهُ الْخَطِيب فِي كتاب «أَسمَاء مَنْ رَوَى عَن مَالك» من حَدِيث عبد الحكم بن ميسرَة، ثَنَا مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عُمر مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء.(7/80)
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من طَرِيق (آخر) إِلَى ابْن عُمر، وَرَوَاهُ من حَدِيث يَحْيَى الْحمانِي عَن قيس بن الرّبيع، عَن زيد بن جُبَير، عَن ابْن عُمر مَرْفُوعا: «الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي (ثَلَاث) فِي النَّار وَالْمَاء والكلأ، وثمنه حرَام» .
وَيَحْيَى هَذَا صَاحب الْمسند، وَهُوَ حَافظ، وَتكلم فِيهِ أَيْضا، وَقيس هَذَا صَدُوق (لَا) يُحتج بِهِ.
فَائِدَة: المُرَاد بِالْمَاءِ: مَاء السَّمَاء وَمَاء الْعُيُون الَّتِي لَا مَالك لَهَا. قَالَه الْأَزْهَرِي، وَالْمرَاد بالكلأ: مرَاعِي الأَرْض الَّتِي لَا يملكهَا أحد، قَالَه أَيْضا، أمَّا الْكلأ النَّابِت فِي الْأَمْلَاك فَهِيَ لملاكها، و «الْكلأ» بِالْهَمْز العُشْب يَابسا كَانَ أَو رطبا؛ فَإِن يبس فَهُوَ حشيش، فَإِن كَانَ رطبا فَهُوَ الخلا - مَقْصُور - وَلَا يُمَدُّ الخلا وَلَا الْكلأ، وَالْمرَاد بالنَّار: الشّجر الَّذِي يحتطبه النَّاس فينتفعون بِهِ. قَالَه الْأَزْهَرِي أَيْضا، وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن: المُرَاد بالنَّار إِذا أضرمت فِي حطب غير مَمْلُوك، أمَّا [الَّتِي] أضرمت فِي حطب (مَمْلُوك فلمالك الْحَطب) صنع غَيره من تِلْكَ النَّار.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
عَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله (عَنهُ) -: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي شرب النخيل أَن للأعلى أَن يسْقِي قبل الْأَسْفَل، ثمَّ يُرْسل إِلَى الْأَسْفَل،(7/81)
وَلَا يحبس المَاء فِي أرضه» . وَفِي رِوَايَة «أَنه يَجْعَل المَاء فِيهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» . وَفِي أُخْرَى: «يُرْسل المَاء حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الْأَرَاضِي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة، عَن إِسْحَاق [بن يَحْيَى] بن الْوَلِيد، عَن عبَادَة بن الصَّامِت: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي شرب النّخل من السَّيْل أَن الْأَعْلَى فالأعلى يشرب قبل الْأَسْفَل، ويُترك المَاء إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يُرسل المَاء إِلَى الْأَسْفَل الَّذِي يَلِيهِ، وَكَذَلِكَ (حَتَّى) تَنْقَضِي الحوائط أَو يفنى المَاء» .
كَذَا وجدته فِي «سنَن ابْن مَاجَه» : إِسْحَاق بن [يَحْيَى] بن الْوَلِيد. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : إِن فِيهَا إِسْحَاق بن يَحْيَى بن الْوَلِيد (بن) عبَادَة بن الصَّامِت عَن عبَادَة وَلم يُدْرِكهُ.
قلت: (وَكَذَا) وَقع فى «سنَن الْبَيْهَقِيّ» : إِسْحَاق بن يَحْيَى بن الْوَلِيد (بن) عبَادَة بن الصَّامِت (عَن عبَادَة) قَالَ: «إِن من قَضَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَضَى فِي شرب النّخل من السَّيْل، أَن الْأَعْلَى(7/82)
فالأعلى يشرب قبل الْأَسْفَل، وَيتْرك فِيهِ (المَاء) إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يُرْسل المَاء إِلَى الْأَسْفَل الَّذِي يَلِيهِ، وَكَذَلِكَ [حَتَّى] تَنْقَضِي الحوائط» .
ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْحَاق بن يَحْيَى عَن عبَادَة مُرْسل. وَتوقف ابْن عَسَاكِر فِي ذَلِك، فَقَالَ: أَظُنهُ لم يُدْرِكهُ. وَجزم بِعَدَمِ إِدْرَاكه الْمزي ثمَّ الذَّهَبِيّ، وَرَوَى عَنهُ مُوسَى بن عقبَة فَقَط، وَعَن التِّرْمِذِيّ أَنه جزم بِعَدَمِ إِدْرَاكه أَيْضا، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» : إِسْحَاق بن يَحْيَى ابْن أخي عبَادَة بن الصَّامِت، عَن عبَادَة، قَالَ ابْن عدي: عامَّة أَحَادِيثه غير مَحْفُوظَة. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : إِسْحَاق بن يَحْيَى عَن (عمهم) عبَادَة. كَذَا قَالَ، وَقَالَ فِي «الْمُغنِي» : عَن عَمه عبَادَة، مُنكر الحَدِيث.
وَأخرج هَذَا الحَدِيث أَيْضا عبد الله بن أَحْمد فِي «مُسْند أَبِيه» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» مُتَّصِلا ومنقطعًا، أَخْرجَاهُ من حَدِيث إِسْحَاق بن يَحْيَى قَالَ: «إِن من قَضَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره.
وَأما ابْن حزم فادّعى جَهَالَة إِسْحَاق هَذَا فِي كتاب الْبيُوع فِي (ذكر) حَدِيث «لَا ضَرَر وَلَا ضرار» وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ؛ فقد علمت(7/83)
حَاله، وَعزا إِلَى ابْن حبَان أَنه ذكره فِي «ثقاته» فَهُوَ من الْمُخْتَلف فيهم إِذا.
تَنْبِيه: رِوَايَة الرَّافِعِيّ السالفة: «حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الْأَرَاضِي» هُوَ بِمَعْنى مَا ذَكرْنَاهُ، وَإِن لم يُعثر عَلَى هَذَا اللَّفْظ.
فَائِدَة: الشّرْب بِالْكَسْرِ: (النَّصِيب) .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي السَّيْل أَن يُمسك حَتَّى يبلغ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يُرسل الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِهَذَا اللَّفْظ، وَزَاد بعد قَوْله «فِي السَّيْل» : «المهزور» وَقَالَ: «حَتَّى يبلغ الْكَعْبَيْنِ» وَقَالَ «عَلَى (الْأَسْفَل)) بدل «إِلَى الْأَسْفَل» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَضَى فِي سيل مهزور أَن يُمسك حَتَّى يبلغ الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يُرْسل المَاء» .
وهما من رِوَايَة الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث المَخْزُومِي الْمدنِي، عَن أَبِيه، عَن عَمْرو. الْمُغيرَة قَالَ أَبُو حَاتِم فِي حقِّه: مدنِي لَا بَأْس بِهِ. ووالده عبد الرَّحْمَن قَالَ أَحْمد: مَتْرُوك. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ(7/84)
بِالْقَوِيّ. وَنقل ابْن الْقطَّان عَن ابْن معِين أَنه صالحٌ، قَالَ ابْن الْقطَّان: وَقد يلتبس هَذَا بالمغيرة بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام المَخْزُومِي، شيخ مَالك، وَكَذَلِكَ أَبوهُ بِأَبِيهِ وأنسابهما، وكنية هَذَا الثَّانِي: أَبُو مُحَمَّد، وكنية الأول: أَبُو الْحَارِث، وكنية الْمُغيرَة - شيخ مَالك -: أَبُو هَاشم، وَالْأول لَا أعرف لَهُ كنية.
قلت: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق ثَعْلَبَة بن أبي مَالك، وَعَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أمَّا حَدِيث عَائِشَة؛ فَأخْرجهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَضَى فِي سيل مهزور ومذنب أَن الْأَعْلَى يُرْسل إِلَى الْأَسْفَل، وَيحبس قدر (كعبين) » .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: اخْتلف عَن مَالك فِي وَقفه عَلَى عَائِشَة وَرَفعه، وَالْمَحْفُوظ عَنهُ الأول.
وَأما حَدِيث ثَعْلَبَة؛ فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ قَالَ: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سيل مهزورٍ، الْأَعْلَى فَوق الْأَسْفَل، يسْقِي الْأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يُرْسل إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ» فِي إِسْنَاده زَكَرِيَّا بن مَنْظُور، ليَّنَه أَحْمد مرّة، وَاخْتلف قَول يَحْيَى فِيهِ؛ فوثقه مرّة وَضَعفه أُخْرَى، وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وثعلبة هَذَا، إِمَام بني قُرَيْظَة، وُلد فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَله رُؤْيَة، وَطَالَ عمره، رَوَى عَنهُ ابْنه أَبُو مَالك، وصفوانُ بن سليم، لَهُ حديثان مرسلان، ووالده أدْرك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأسلم، واسْمه: عبد الله.(7/85)
قلت: وَرَوَاهُ بَعضهم عَن مَالك بن أبي ثَعْلَبَة، وَهُوَ غلط؛ فَإِنَّهُ تَابِعِيّ، فَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ: مَالك بن أبي ثَعْلَبَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي سيل مهزور، أَن المَاء يُحبس إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يُرسِل الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَل» .
وَرَوَى عَنهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، قَالَ جَعْفَر: وردّه يَحْيَى بن يُونُس. قَالَ: وَهَذَا حَدِيث مُرْسل، وَمَالك بن ثَعْلَبَة لَا صُحْبَة لَهُ بِيَقِين؛ لِأَن ابْن إِسْحَاق لم يلق أحدا من الصَّحَابَة، إِنَّمَا رِوَايَته عَن التَّابِعين فَمن دونهم. وَذكره عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» من طَرِيق عبد الرَّزَّاق، عَن أبي حَازِم الْقرظِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى فِي سيل مهزور أَن يُحبس فِي كل حَائِط حَتَّى يبلغ الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يُرْسل، وَغَيره من السُّيُول كَذَلِك» .
وَلم يذكر فِي (أَحْكَامه) غَيره، وَهُوَ ضَعِيف لَا يَصح، كَمَا قَالَ ابْن الْقطَّان بِجَهَالَة أبي حَازِم، قَالَ: وَأَبوهُ وجدُّه أَحْرَى بذلك.
وَرَوَاهُ ابْن زبالة بلفظين:
أَحدهمَا: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سيل مهزور الْأَعْلَى قبل الْأَسْفَل، يسْقِي الْأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يُرْسل إِلَى (من) أَسْفَل مِنْهُ» .
الثَّانِي: «فَإِذا استضعف أَصله أمسك الأول» .
(وَرَوَى يَحْيَى بن أَدَم فِي «كتاب الْخراج» من حَدِيث جَعْفَر(7/86)
بن مُحَمَّد عَن أَبِيه قَالَ: «قَضَى رَسُول (فِي سيل مهزور أَن لأهل النّخل إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَلأَهل الزَّرْع إِلَى الشراكين، ثمَّ يرسلوا المَاء إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ» ) .
فَائِدَة: مهزور - بِتَقْدِيم الزَّاي عَلَى الرَّاء -: وادٍ بَين بني قُرَيْظَة والحجاز، وبتقديم الرَّاء عَلَى الزَّاي: مَوضِع سوق بِالْمَدِينَةِ تصدَّق بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْمُسلمين.
ومذنب: اسْم مَوضِع بِالْمَدِينَةِ. قَالَه ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» وَعبارَة الْحَازِمِي فِي «أَسمَاء الْأَمَاكِن» : «مهزور» الْوَاقِع فِي هَذَا الحَدِيث بِتَقْدِيم الزَّاي عَلَى الرَّاء، وادٍ بِالْمَدِينَةِ. وَكَذَا قَالَ البكريُّ فِي «مُعْجَمه» ثمَّ قَالَ: وَقيل: «مهزور» مَوضِع سوق الْمَدِينَة. وَعبارَة ابْن إِسْحَاق: هُوَ مَوضِع بِقرب الْمَدِينَة. وَوَقع فِي رِوَايَة «أبي دَاوُد» : «السَّيْل المهزور» وَالْمَشْهُور: «فِي سيل مهزور» ، كَمَا وَقع فِي رِوَايَة ثَعْلَبَة وَعَائِشَة.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للزبير حِين خاصمه الْأنْصَارِيّ فِي شراج الْحرَّة الَّتِي يسقون بهَا النّخل: اسْقِ يَا زبير، ثمَّ أرسل المَاء إِلَى جَارك. فَغَضب الْأنْصَارِيّ وَقَالَ أَن كَانَ ابْن عَمَّتك؟ فَتَلَوَّنَ وَجه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ قَالَ للزبير: اسْقِ يَا زبير، واحبس المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر، ثمَّ أرْسلهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عبد الله(7/87)
بن الزبير: «أَن رجلا من الْأَنْصَار خَاصم الزبير عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي شراج الْحرَّة الَّتِي يسقون بهَا النّخل، فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: سرِّح المَاء يمر. فَأَبَى عَلَيْهِ؛ فاختصما عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - للزبير: اسْقِ يَا زبير، ثمَّ أرسل المَاء إِلَى جَارك. فَغَضب الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَن كَانَ ابْن عَمَّتك؟ فَتَلَوَّنَ وَجه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ قَالَ: يَا زبير: اسْقِ، ثمَّ احْبِسْ المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر. فَقَالَ الزبير: وَالله؛ إِنِّي لأحسبُ هَذِه الْآيَة أُنزلت فِي ذَلِك (فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ» .
وَفِي بعض طُرق البُخَارِيّ: «وَالله إِن هَذِه الْآيَة أنزلت فِي ذَلِك: (فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ) » . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «اسْقِ يَا زبير - فَأمره بِالْمَعْرُوفِ - ثمَّ أرسل إِلَى جَارك» وَقَالَ فِيهِ بعد «الْجدر» : «واستوعى لَهُ حقَّه» .
قَالَ البُخَارِيّ: فاستوعى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ للزبير حقَّه فِي صَرِيح الحكم حِين أحفظه الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَمْر (لَهُ) فِيهِ سَعَة.
وَقَالَ ابْن شهَاب: فقدَّرت الْأَنْصَار وَالنَّاس قَول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «اسْقِ، ثمَّ احْبسِ المَاء إِلَى الْجدر» وَكَانَ ذَلِك إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
ذكره فِي كتاب الشّرْب.(7/88)
فَائِدَة: الشراج: بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء، جمع «شَرَجة» بِفَتْح الشين وَالرَّاء، وَهِي: مسيل المَاء، وَقَالَ أَبُو عبيد: الشرج نهر صَغِير، والحرة: أَرض يركبهَا حِجَارَة سود، وَذَلِكَ لشدَّة حرهَا ووهج الشَّمْس فِيهَا.
وَقَوله: «أَن كَانَ ابْن عَمَّتك» بِفَتْح الْهمزَة من «أَن» وَمَعْنَاهُ: من أجل أَنه ابْن عَمَّتك؛ لِأَن أُمَّ الزبير صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب عمَّة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
والجدر - بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا، وبالدال الْمُهْملَة -: الْحَائِط، وَقيل: أصل الْجِدَار، وَقيل: أصل الشّجر، وَقيل: المُسَنَّاةُ، وَقيل: جُدور المشارب، الَّتِي يجْتَمع فِيهَا المَاء فِي أصُول النّخل، قَالَ الْخطابِيّ: هَكَذَا الرِّوَايَة: «الْجدر» والمتقنون من أهل الرِّوَايَة يَقُولُونَهُ - يَعْنِي: بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة - وَهُوَ مبلغ تَمام الشّرْب، وَمِنْه جدر الْحساب. وَقَوله تَعَالَى: (فِيمَا شجر بَينهم) أَي: فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ. وَقَوله: «استوعى» أَي: اسْتَوْفَى واستكمل. وَأبْعد من قَالَ: أمره ثَانِيًا أَن يَسْتَوْفِي أَكثر من حَقه (عُقُوبَة للْأَنْصَارِيِّ. حَكَاهُ ابْن الصّباغ، وَالْأَشْبَه أَنه أمره أَن يَسْتَوْفِي حَقه ويستقضي فِيهِ تغلظًا عَلَى الْأنْصَارِيّ بعد أَن سهل عَلَيْهِ) .
فَائِدَة أُخْرَى: اخْتلف فِي اسْم الْأنْصَارِيّ الْمَذْكُور عَلَى أَقْوَال، أَحدهَا: أَنه حَاطِب بن أبي بلتعة، ثَانِيهَا: ثَعْلَبَة بن حَاطِب، ثَالِثهَا: حميد، حكاهن ابْنُ باطيش، وَحَكَى الأول وَالثَّانِي ابْن (معن) فِي(7/89)
«تنقيبه» وَضعف النَّوَوِيّ الأول فِي «تهذيبه» وَقَالَ: إِنَّه لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أنصاريًّا، وَقد ثَبت فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» أَن هَذَا الْأنْصَارِيّ كَانَ بدريًّا (وَحَكَى ابْن بشكوال فِي «غوامضه» قولا أَنه ثَابت بن قيس مَعَ حَاطِب السالف، وغريب أَنه ذُو الْخوَيْصِرَة) .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من منع فضل المَاء ليمنع بِهِ الْكلأ، مَنعه الله فضل رَحمته يَوْم الْقِيَامَة» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَأوردهُ الشَّافِعِي كَذَلِك فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إِسْنَاد وَلَا ذكر راو، وأسنده فِي «الْأُم» فَقَالَ: أَنا مَالك عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِهِ، لكنه قَالَ: «فضول المَاء» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» ذكر أَن الْمُزنِيّ رَوَاهُ عَن الشَّافِعِي بالسند الْمَذْكُور، وَلَكِن بِلَفْظ: «لَا يمْنَع فضل المَاء ليمنع بِهِ الْكلأ» .
قَالَ: أَخْرجَاهُ من حَدِيث مَالك، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَفِي لفظٍ آخر لَهما: «لَا تمنعوا فضل المَاء، لتمنعوا بِهِ الْكلأ» .
وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: «فضل الْكلأ» وَلابْن حبَان «لَا تمنعوا فضل المَاء، وَلَا تمنعوا الْكلأ فيهزل المَال ويجوع الْعِيَال» .(7/90)
ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ - يَعْنِي: «لَا يمْنَع فضل المَاء ليمنع بِهِ فضل الْكلأ» - وَكَذَا رَوَاهُ الزَّعْفَرَانِي فِي الْقَدِيم عَن الشَّافِعِي عَن مَالك: «لَا يمْنَع فضل المَاء (ليمنع بِهِ الْكلأ» وَأَخْطَأ فِيهِ الْكَاتِب فِي كتاب إحْيَاء الْموَات فَقَالَ: «من فضول المَاء ... » ) إِلَى آخِره.
قَالَ: وَهَذَا (الحَدِيث) مِمَّا لم يقْرَأ عَلَى الشَّافِعِي، وَلَو قرئَ عَلَيْهِ لغيره - إِن شَاءَ الله - ثمَّ حمله الرّبيع عَن الْكتاب عَلَى الْوَهم، وَهَذَا اللَّفْظ لَيْسَ فِي حَدِيث مَالك؛ إِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا، وَرُوِيَ من وَجه آخر ضَعِيف عَن أبي هُرَيْرَة، وَمن وَجه آخر عَن الْحسن عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا، ويُشبه أَن يكون الشَّافِعِي ذكره بِبَعْض هَذِه الْأَسَانِيد، فَأدْخل الكتَّاب حَدِيثا فِي حَدِيث، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر - واللَّهُ أعلم - وَمَعْنَاهُ مَوْجُود فِي حَدِيث صَحِيح عَن أبي هُرَيْرَة ... فَذكر حَدِيث «الصَّحِيحَيْنِ» عَنهُ مَرْفُوعا: «ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله ... » الحَدِيث بطُوله.
قلت: حَدِيث عَمرو بن شُعَيْب، أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا لَيْث، عَن عَمرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من منع فضل مَائه أَو فضل كلئه، مَنعه الله - عزَّ وَجل - فَضله يَوْم الْقِيَامَة» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» من حَدِيث الْأَعْمَش عَن(7/91)
عَمْرو بِهِ، ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن الْأَعْمَش إِلَّا جرير، وَلَا عَن جرير إِلَّا مُحَمَّد بن الْحسن، تفرد بِهِ عبيدُ الله بن جرير، وَلَا رَوَى [عَن] الْأَعْمَش حَدِيثا غير هَذَا عَن عَمرو بن شُعَيْب، وَلَا (كتبناه) عَن أَحْمد بن عبيد الله بن حريز بن جبلة.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث بشر بن عون، عَن بكار بن تَمِيم، عَن مَكْحُول، عَن وَاثِلَة مَرْفُوعا: «لَا تمنعوا عباد الله فضل المَاء، وَلَا كلأ وَلَا (نَارا) فَإِن الله جعلهَا مَتَاعا للمقوين وَقُوَّة للمستضعفين» .
و «بشر» هَذَا لَهُ نُسْخَة بَاطِلَة، عَن بكار بن تَمِيم، عَن مَكْحُول، وبكار لَا يُعرف، وَفِي سَماع مَكْحُول من وَاثِلَة خلاف.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن بيع فضل المَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ «مُسلم» بِهَذَا اللَّفْظ من هَذَا الْوَجْه، وَرَوَاهُ أَيْضا كَذَلِك أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة؛ لَكِن من حَدِيث إِيَاس(7/92)
بن عبد، وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ، وَذكره صَاحب «الاقتراح» وَقَالَ: إِنَّه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
هَذَا آخِرُ الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب - بِفضل الله وقوَّته.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار: «أنَّ عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (اسْتعْمل عَلَى الْحمى) مولَى يُقَال لَهُ: هُنَي، وَقَالَ: يَا هُنَي، اضمم جناحك للْمُسلمين، وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم؛ فَإِنَّهَا مجابة، وَأدْخل ربَّ الصُّرَيْمة والغُنَيْمة، وَإِيَّاك ونَعَم ابْن عَوْف (ونَعَم ابْن عَفَّان [فَإِنَّهُمَا] إِن تهْلك ماشيتهما يرجعان إِلَى نخل) وَزرع، وَإِن (رَبَّ) الغُنَيْمة والصُّرَيْمة (إِن تهْلك مَاشِيَته) يأتيني بعياله فَيَقُول: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. لَا أَبَا لَك، لَا أَبَا لَك، فالماء والكلأ أيسرُ عليَّ من الذَّهَب وَالْوَرق، وَايْم الله، لَوْلَا المَال الَّذِي أجمل عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله مَا حميت عَلَى الْمُسلمين من بِلَادهمْ شبْرًا» .
هَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث مَالك، عَن زيد بن أسلم، عَن أسلم مولَى عمر «أَن عمر اسْتعْمل مولَى لَهُ يُدعَى هُنَيًّا عَلَى الْحمى ... » فَذكره كَذَلِك، إِلَّا أَنه قَالَ بعد «وَايْم الله» : «إِنَّهُم لَيرَوْنَ أَنِّي قد ظلمتهم؛ إِنَّهَا لبلادهم؛ قَاتلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَأَسْلمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَام، وَالَّذِي نَفسِي بيدهِ لَوْلَا المَال الَّذِي أحمل(7/93)
عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله مَا حميت عَلَيْهِم من بِلَادهمْ شبْرًا» .
وَقَالَ فِي أوَّلِهِ «يأتيني بِبَيِّنَة» بدل: «عِيَاله» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد (عَن) زيد بن أسلم، عَن أَبِيه: «أَن عُمر اسْتعْمل مولَى لَهُ - يُقَال لَهُ: هُنَي - عَلَى الْحمى، فَقَالَ لَهُ: يَا هُنَي، ضُم جناحك للنَّاس، وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم؛ فَإِن دَعْوَة الْمَظْلُوم مستجابة» .
وَالْبَاقِي (كَرِوَايَة) الرافعيِّ، إِلَّا أَنه قَالَ: «وَإِن ربَّ الْغَنِيمَة يأتيني بعياله» بدل مَا ذكره الرافعيُّ، وَقَالَ: «يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ» مرَّتَيْنِ، وَقَالَ: «أَهْون عليَّ من الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم» بدل مَا ذكره الرافعيُّ، وَقَالَ: «وَايْم الله؛ لعَلي ذَلِك أَنهم لَيرَوْنَ أَنى قد ظلمتهم إِنَّهَا لبلادهم، وَلَوْلَا المَال ... » إِلَى آخِره كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ.
فَائِدَة: هُنَيّ بِضَم الْهَاء وَفتح النُّون وَتَشْديد الْيَاء، كَذَا ضَبطه ابْن مَاكُولَا وَغَيره، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : ورأيتُ (بِخَط من لَا تَحْقِيق لَهُ) : أَنه يُقَال أَيْضا بِالْهَمْز، قَالَ: وَهَذَا خطأ ظَاهر. وَمَعْنى «اضْمُمْ» : أَلِنْ. و «الصريمة» تَصْغِير الصرمة، وَهِي الْقطعَة من الْإِبِل نَحْو الثَّلَاثِينَ. و «الْغَنِيمَة» : تَصْغِير الْغنم، مَا بَين الْأَرْبَعين إِلَى الْمِائَة من الشَّاة.(7/94)
وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَى مَا فِي هَذِه الْأَلْفَاظ فِي «تخريجي لأحاديث المهذَّب» ، فَرَاجعه مِنْهُ.
وَذكر الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب أَيْضا: أَن الْجُلُوس للْبيع وَالشِّرَاء والحرفة مَمْنُوع مِنْهُ فِي الْمَسْجِد، إِذْ حُرْمَة الْمَسْجِد تأبى اتخاذَه حانوتًا، وَقد رُوي عَن عُثْمَان: «أَنه رَأَى خَيَّاطًا فِي الْمَسْجِد [يخيط] فَأخْرجهُ» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث عَلّي بن أبي طَالب قَالَ: «صليت الْعَصْر مَعَ عُثْمَان أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَرَأَى خيَّاطًا فِي نَاحيَة الْمَسْجِد، فَأمر بِإِخْرَاجِهِ، فَقيل لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّه يكنس الْمَسْجِد ويغلق الْأَبْوَاب ويرش أَحْيَانًا. فَقَالَ عُثْمَان: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ» .
ذكره فِي تَرْجَمَة مُحَمَّد بن مُجيب الْكُوفِي، قَالَ يَحْيَى: هُوَ كذَّاب، عَدو الله. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ذَاهِب الحَدِيث. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: مَجْهُول. وذَكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» وَنقل مقَالَة يَحْيَى فِي مُحَمَّد بن مُجيب، وَقَالَ ابْن عدي ثمَّ عبد الْحق: إِنَّه حَدِيث ضَعِيف.
قلت: و «مُحَمَّد بن مُجيب» هَذَا قد يشْتَبه بِمُحَمد بن محبب البصريِّ الدلاَّل، وَذَلِكَ ثِقَة، وَقد غلط ابْن الْجَوْزِيّ فِي إِيرَاده فِي(7/95)
الضُّعَفَاء، كَمَا نبَّه عَلَيْهِ فِي «الْمِيزَان» وَلَهُم ثَالِث اسْمه: مُحَمَّد بن محبب المصِّيصِي، ذكره ابْن أبي حَاتِم وبيَّض لَهُ، وَهُوَ مَجْهُول.(7/96)
كتاب الْوَقْف(7/97)
كتاب الْوَقْف
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا أما الْأَحَادِيث فسبعة
أَحدهَا
«أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ملك مائَة سهم من خَيْبَر اشْتَرَاهَا، فلمَّا استجمعها قَالَ: (يَا) رَسُول الله، أصبتُ مَالا لم أصب مثله قطّ، وَقد أردْت أَن أَتَقَرَّب بِهِ إِلَى الله - تَعَالَى - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: حَبِّس الأَصْل، وسَبِّل الثَّمَرَة» . ويُرْوى: «فَجَعلهَا عمر صَدَقَة لَا تبَاع، وَلَا تورث، وَلَا توهب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان، عَن عبد الله بن عمر بن حَفْص، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: «أَن عمر ملك مائَة (سهم) من خَيْبَر اشْتَرَاهَا، فَأَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت مَالا لم أصب مثله قطّ، وَقد أردْت أَن أَتَقَرَّب بِهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فَقَالَ: حَبِّس الأَصْل، وسَبِّل الثَّمَرَة» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة) من جِهَته، ثمَّ رَوَى مِنْ جِهَته أَيْضا عَن عُمر بن حبيب القَاضِي، عَن ابْن عون، عَن نَافِع، عَن ابْن عُمر: «أَن عمر قَالَ: يَا(7/99)
رَسُول الله، إِنِّي أصبت من خَيْبَر مَالا لم أصب مَالا (قطّ) أعجب إليَّ أَو أعظم (عِنْدِي) مِنْهُ. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن شِئْت حبست أَصله، وسَبَّلت ثمره. فَتصدق بِهِ عمر» (ثمَّ حَكَى صدقته بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: عَن رجل عَن ابْن عون قَالَ: «فَتصدق بهَا عمر) أَنه لَا يُباع أَصْلهَا، وَلَا يُوهب، وَلَا يُورث، وَيصدق بهَا فِي الْفُقَرَاء، وَفِي القُربى، (وَفِي الرّقاب) وَفِي سَبِيل الله، وَابْن السَّبِيل والضيف، لَا جنَاح عَلَى من وَليهَا أَن يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَو يُطعم صديقا غير مُتَمَوّل فِيهِ» قَالَ ابْن عون: فَحدثت بِهِ ابْن سِيرِين فَقَالَ: «غير متأثل مَالا» .
وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عون، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «أصَاب عمر أَرضًا بِخَيْبَر، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستأمره فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبتُ أَرضًا بِخَيْبَر لم أصب مَالا قَطّ هُوَ أنفس عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرنِي بِهِ؟ فَقَالَ: إِن شِئْت حبست أَصْلهَا وتصدقت بهَا. قَالَ: فَتصدق بهَا عمر (غير) أَنه لَا يُباع أَصْلهَا، وَلَا يُبتاع وَلَا يُورث وَلَا يُوهب، فِي الْفُقَرَاء، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرّقاب، وَفِي سَبِيل الله، وَابْن السَّبِيل، والضيف، لَا جنَاح عَلَى من وَليهَا أَن يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَو يُطعم صديقا غير مُتَمَوّل فِيهِ» .
وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: «غير متأثل مَالا» قَالَ (ابْن) عون:(7/100)
وأنبأني من قَرَأَ هَذَا الْكتاب أَن فِيهِ: «غير متأثلٍ مَالا» .
هَذَا كُله سِيَاق مُسلم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أصبت أَرضًا لم أصب مَالا أحب إِلَيّ وَلَا أنفس عِنْدِي مِنْهَا» وللبخاري: «فَتصدق بِهِ عمر، أَنه لَا يُبَاع أَصْلهَا، وَلَا يُوهب وَلَا يُورث، فِي الْفُقَرَاء والقربى ... » إِلَى آخِره. وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: تصدق بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاع وَلَا يُوهب وَلَا يُورث، وَلَكِن ينْفق ثمره. فَتصدق بِهِ عمر ... » الحَدِيث، وَفِي هَذِه الرِّوَايَة: «أَن المَال يُقَال لَهُ: ثمغ، وَكَانَ نخلا» . وللنسائي: «حبس أَصْلهَا، وسبل ثَمَرَتهَا» وَله: «كَانَ لي مائَة رَأس، فاشتريت بهَا مائَة سهم بِخَيْبَر من أَهلهَا، وَإِنِّي قد أردْت أَن أَتَقَرَّب بهَا لله - عَزَّ وَجَلَّ ... » وَذكر الحَدِيث.
وَذكر الرَّافِعِيّ بعد هَذَا: أَن هَذِه الْمِائَة سهم كَانَت مشاعة. وَلم أر فِي الحَدِيث تعرُّضًا لذَلِك، وَالْبَيْهَقِيّ ترْجم عَلَيْهِ بَاب وقف الْمشَاع.
الحَدِيث الثانى
عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاثَة: صَدَقَة جَارِيَة، وَعلم ينْتَفع بِهِ، وَولد صَالح يَدْعُو لَهُ» .(7/101)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا مَاتَ (الْإِنْسَان) انْقَطع عَنهُ عمله إِلَّا من ثَلَاث: إِلَّا من صَدَقَة جَارِيَة، أَو علم ينْتَفع بِهِ، أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ» وللنسائي وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث زيد بن أسلم، عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «خير مَا يخلف الرجل من بعده ثَلَاث: ولد صَالح يَدْعُو لَهُ، وَصدقَة تجْرِي يبلغهُ أجرهَا، وَعمل يعْمل بِهِ من بعده» وَلابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا - بِإِسْنَاد حسن أَكثر رِجَاله رجال الصَّحِيح - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن مِمَّا يلْحق الْمُؤمن من عمله (وحسناته) بعد مَوته، علما ينشره [وَولدا صَالحا] يتْركهُ، ومصحفًا وَرثهُ، أَو مَسْجِدا بناه، أَو بَيْتا لِابْنِ السَّبِيل بناه، أَو نَهرا أجراه، أَو صَدَقَة أخرجهَا (من) مَاله فِي صِحَّته وحياته تلْحقهُ بعد مَوته» .
وَرَوَاهُ الْبَزَّار بِلَفْظ: «سَبْعَة يجْرِي عَلَى العَبْد أجرهن بعد مَوته فِي بره: من علمَّ علما، أَو أكرَى نَهرا، أَو حفر بِئْرا، أَو غرس نخلا، أَو بنى مَسْجِدا، أَو ورث مُصحفا، أَو ترك ولدا يسْتَغْفر لَهُ» .(7/102)
مَعْنَى «أكرَى نَهرا» : حفره، وَذكره فِي «الصحَّاح» بِحَذْف الْألف، وَقَالَ ابْن دُرَيْد فِي فعلت وأفعلت: إِنَّه بإثباتها: الْإِجَارَة، وبحذفها: الْحفر.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وأمَّا خَالِد فَإِنَّهُ قد احْتبسَ أدراعه وأعتده فِي سَبِيل الله» .
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عمر عَلَى الصَّدَقَة، فَقيل: منع ابْن جميل وخَالِد بن الْوَلِيد وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا ينقم ابْن جميل إِلَّا أَنه كَانَ فَقِيرا فأغناه الله، وَأما خَالِد فَإِنَّكُم تظْلمُونَ خَالِدا؛ فَإِنَّهُ قد احْتبسَ أدراعه وأعتاده فِي سَبِيل الله، وَأما الْعَبَّاس فَهِيَ عليَّ وَمثلهَا مَعهَا. ثمَّ قَالَ: يَا عمر (أما) شَعرت أَن عَم الرجل صنو أَبِيه؟ !» .
وَرِوَايَة البُخَارِيّ: «أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (بِصَدقَة) فَقيل: منع ابْن جميل ... » وَذكر الحَدِيث وَقَالَ: «أدراعه وأعتده فِي سَبِيل الله» وَفِيه(7/103)
« (وَأما الْعَبَّاس بن) عبد الْمطلب عَمُّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَهِيَ (عَلَيْهِ) صَدَقَة وَمثلهَا مَعهَا» .
فَائِدَة: أعتده: رُوي بِالْبَاء الْمُوَحدَة وبالمثناة فَوق، كَمَا أوضحته فِي «شرح الْعُمْدَة» بِزِيَادَة فَوَائِد
الحَدِيث الرَّابِع
عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه وقَّف بِئْر رومة، وَقَالَ: دلوي فِيهَا كدِلاءِ الْمُسلمين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، ذكره البُخَارِيّ فِي موضِعين من «صَحِيحه» بِغَيْر إسنادٍ:
أَحدهمَا: فِي بَاب من رَأَى صَدَقَة المَاء جَائِزَة، وَلَفظه فِيهِ: قَالَ عُثْمَان: قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من يَشْتَرِي بِئْر رومة، فَيكون دلوه فِيهَا كدلاء الْمُسلمين؟ فاشتراها عُثْمَان» .
ثَانِيهمَا: فِي أثْنَاء الْوَقْف، وَلَفظه فِيهِ: عَن عبد الرَّحْمَن: «أَن عُثْمَان حِين حوصر أشرف عَلَيْهِم فَقَالَ: أنْشدكُمْ الله وَلَا أنْشد إِلَّا أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (ألستم) تعلمُونَ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: من حفر بِئْر رومة فَلهُ الْجنَّة. فحفرتها» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَنهُ:(7/104)
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَدِمَ الْمَدِينَة وَلَيْسَ بهَا مَاء يُستعذب غير بِئْر رومة، فَقَالَ: من يَشْتَرِي بِئْر رومة، فَيجْعَل فِيهَا دلوه مَعَ دلاء الْمُسلمين، بِخَير لَهُ بهَا فِي الْجنَّة؟ فاشتريتها من صلب مَالِي» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن.
فَائِدَة: بِئْر رومة - بِضَم الرَّاء الثَّانِيَة - كَانَت ركية بِالْمَدِينَةِ ليهودي يُقَال لَهُ: رومة. قَالَ الْبكْرِيّ فِي «أماكنه» وَقَالَ صَاحب «المستعذب» : ليهودي يَبِيع للْمُسلمين ماءها، يُقَال: إِنَّه أسلم. حَكَاهُ ابْن مَنْدَه، قَالَ: وَهُوَ رُومة الْغِفَارِيّ، فاشتراها عُثْمَان، وَفِي مِقْدَار مَا اشْتَرَاهَا بِهِ أَرْبَعَة أَقْوَال:
(أَحدهَا) : أَنه عشرُون ألفا؛ أسْندهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه» وَقَالَهُ الْبكْرِيّ فِي «أماكنه» وأسنده أَيْضا أَبُو نعيم، وَأَنه اشْتَرَى النّصْف الأول بِاثْنَيْ عشر ألف دِرْهَم، وَالْآخر بسبعمائة.
ثَانِيهَا: أَنه خَمْسَة وَثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم. قَالَه الْحَازِمِي فِي «مؤتلفه» قَالَ: «وَكَانَ يَبِيع مِنْهَا الْقرْيَة بِالْمدِّ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: بعنيها بِعَين فِي الْجنَّة. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لَيْسَ لعيالى غَيرهَا؛ لَا أَسْتَطِيع ذَلِك. فَبلغ ذَلِك عُثْمَان فاشتراها بذلك» وَأخرجه كَذَلِك الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» سَوَاء، ثمَّ قَالَ فِي آخِره: «ثمَّ أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَتجْعَلُ لي مثل الَّذِي جعلت لَهُ، عينا فِي الْجنَّة إِن اشتريتُها؟ قَالَ: نعم. قَالَ: قد اشْتَرَيْتهَا وجعلتها للْمُسلمين» .
ثَالِثهَا: أَنه اشْتَرَى النّصْف الأول بِمِائَة بكرَة، وَالْبَاقِي بِشَيْء يسير.(7/105)
أسْندهُ ابْن النجار فِي كِتَابه «الدرة الثمينة فِي أَخْبَار الْمَدِينَة» من حَدِيث الزبير بن بكار، عَن مُحَمَّد بن الْحسن، عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة، عَن إِسْحَاق بن عِيسَى، عَن مُوسَى بن طَلْحَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «نعم الحفيرة حفيرة المري - يَعْنِي: رُومة - فلمّا سمع بذلك عثمانُ ابْتَاعَ نصفهَا بِمِائَة بكرَة، وتصدَّق بهَا، فَجعل النَّاس يستقون مِنْهَا، فلمّا رَأَى صَاحبهَا أَن قد امْتنع مِنْهُ مَا كَانَ يُصِيب عَلَيْهَا، بَاعَ من عُثْمَان النّصْف الْبَاقِي بِشَيْء يسير، فَتصدق بهَا كلهَا» .
رَابِعهَا: أَنه اشْتَرَاهُ بأربعمائة دِينَار. قَالَه ابْن سعد، حَكَاهُ صاحبُ «التنقيب» .
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سبق بَيَانه فِي التَّيَمُّم، فَرَاجعه من ثمَّ.
الحَدِيث السَّادِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعمر: حَبِّس الأَصْل، وسَبِّل الثَّمَرَة» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه أوَّلَ الْبَاب.
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْحسن بن عَلّي: إِن ابْني هَذَا سيد» .(7/106)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» فِي أثْنَاء حديثٍ طويلٍ يتَضَمَّن الصُّلْح بَين (الْحسن بن) عليّ وَمُعَاوِيَة، من حَدِيث أَبَى بكرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْمِنْبَر، وَالْحسن بن عَلّي إِلَى جنبه، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاس مرّة وَعَلِيهِ أُخْرَى، وَيَقُول: إِن ابْني هَذَا سيدٌ، وَلَعَلَّ الله أَن يُصلح بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين» .
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وأمّا آثاره فَأَرْبَعَة:
(أَحدهَا) : قَالَ الرَّافِعِيّ: اشْتهر اتِّفَاق الصَّحَابَة عَلَى الْوَقْف قولا وفعلاً. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد علمت هُنَا وقف عمر، ووقف عُثْمَان، وستعلم وقف فَاطِمَة، وَفِي «الْبَيْهَقِيّ» عَن عَلّي: «أَنه وقف أَرضًا بينبع» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَحبس ابْن عمر دَاره، وَكَذَا زيد بن ثَابت. ثمَّ رَوَى عَن الصّديق وَالزبير وَسعد وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَحَكِيم بن حزَام وَأنس، أَنهم أَوْقَفُوا.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن أبي طَلْحَة: «أَنه أوقف بيرحاء» .
قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: وَلَقَد بَلغنِي أَن أَكثر من ثَمَانِينَ رجلا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الْأَنْصَار تصدَّقوا صدقَات مُحرمَات موقوفات.
ثَانِيهَا: قَالَ الرَّافِعِيّ: الأَصْل أَن شُرُوط الْوَاقِف مرعية، مَا لم(7/107)
يكن فِيهَا مَا يُنافي الْوَقْف ويناقضه، وَعَلِيهِ جرت أوقاف الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «وقف عمر وَشرط: أَن لَا جنَاح عَلَى من وَليهَا أَن يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَأَن تَلِيهَا حَفْصَة فِي حَيَاتهَا، فَإِذا مَاتَت فذو الرَّأْي من أَهلهَا» .
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بإسنادٍ صَحِيح، من حَدِيث يَحْيَى بن سعيد عَن صَدَقَة مطولا، وَلَفظه: «تليه حَفْصَة مَا عاشت، ثمَّ يَلِيهِ [ذُو] الرَّأْي من أَهلهَا، أنْ لَا يُبَاع وَلَا يُشْتَرَى، يُنْفِقهُ حَيْثُ رَأَى (من) السَّائِل والمحروم وَذَوي القربي، وَلَا حرج عَلَى من وليه إِن أَكَل أَو آكل، أَو اشْتَرَى رَقِيقا مِنْهُ» .
ثَالِثهَا: « (أَن) فَاطِمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وقفت لِنسَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ولفقراء بني هَاشم وَبني الْمطلب» .
وَهَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِي بِنَحْوِهِ عَن عمِّه مُحَمَّد بن عَلّي بن شَافِع، أبنا عبد الله بن الْحسن، عَن غير وَاحِد من أهل بَيته وَأَحْسبهُ قَالَ زيد بن عَلّي «أَن فَاطِمَة بنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَصَدَّقت بمالها عَلَى بني هَاشم وَبني الْمطلب، وَأَن عليًّا تصدق عَلَيْهِم، وَأدْخل مَعَهم غَيرهم» .
رَابِعهَا: «أَن زيد بن أَرقم قَالَ: الْعَشِيرَة: العترة» .
هَذَا، وَذكر الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الْبَاب: أَن الْوَقْف عَلَى الْمَسَاكِين،(7/108)
و (فِي) سَبِيل الله، وَالْعُلَمَاء و [المتعلمين] والمساجد والمدارس والقناطر صحيحٌ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا النَّحْو جرت أوقاف الصَّحَابَة.(7/109)
كتاب الهبات(7/111)
كتاب الهبات
ذكر فِيهِ من الْأَحَادِيث ثَلَاثَة عشر حَدِيثا
أَحدهَا
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تهادوا؛ فَإِن الْهَدِيَّة تُذهب الضغائن» .
هَذَا الحَدِيث أوردهُ (صَاحب «المصابيح» وَقَالَ: إِنَّه صَحَّ عَن عَائِشَة ... فَذكره مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء، وَذكره) ابْنُ الْجَوْزِيّ فِي «علله» من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد النُّور الْكُوفِي، عَن أبي يُوسُف الْأَعْشَى، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، إِلَّا أَنه قَالَ: «تُخرج الضغائن من الْقُلُوب» . ثمَّ قَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. وَأعله بِأَحْمَد بن الْحسن الْمُقْرِئ الْمَعْرُوف ب «دبيس» الرَّاوِي عَن مُحَمَّد بن عبد النُّور، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الشهَاب» : حَدِيث «تهادوا؛ فَإِن الْهَدِيَّة تُذهب بالضغائن» رَوَاهُ مُحَمَّد بن عبد النُّور، عَن أبي (يُوسُف) الْأَعْشَى، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، وَتفرد بِهِ مُحَمَّد بن [عبد النُّور] عَن أبي يُوسُف يَعْقُوب بن خَليفَة الْمُقْرِئ، والْحَدِيث عِنْد غَيره عَن أبي حَفْص الْأَعْشَى عَمرو(7/113)
بن خلف، و (هوبة) أليق، وَابْن عبد النُّور وَهِمَ فِيهِ، والْحَدِيث عَن هِشَام لَا أصل لَهُ.
قلت: وَرُوِيَ من طرق أُخْرَى:
إِحْدَاهَا: من حَدِيث أنسٍ - رَفعه -: «يَا معشر من حضر، تهادوا؛ فَإِن الْهَدِيَّة قلت أَو كَثُرت تُذهب السخيمة، وتُورث الْمَوَدَّة» .
رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» ثمَّ قَالَ: عَائِذ بن شُرَيْح الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده، قَلِيل الحَدِيث، وَمِمَّنْ يُخطئ (عَلَى قلته) حَتَّى خرج عَن حدّ الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا انْفَرد. وَأورد لَهُ هَذَا الحَدِيث فِي جملَة مَا يُنْكر عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الشهَاب» : هَذَا الحَدِيث يُعْرف بعائذ بن شُرَيْح عَن أنس، وَرَوَاهُ عَنهُ جمَاعَة من الثِّقَات والضعفاء. ثمَّ نقل كَلَام ابْن حبَان فِي «عَائِذ» قَالَ: وَرَوَاهُ كوثر بن حَكِيم عَن مَكْحُول أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسل.
الطَّرِيق الثانى: طَرِيق مَكْحُول هَذِه، وَقد ظهر لَك، (وهنها) .
الطَّرِيق الثَّالِث: طَرِيق ابْن عمر رَفعه: «تهادوا؛ فَإِن الْهَدِيَّة تُذهب الغِلَّ» . رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» فِي تَرْجَمَة مُحَمَّد بن أبي الزُّعيزعة الْأَذْرَعِيّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، رَفعه: «تصافحوا؛ فَإِن التصافح يُذهب السخيمة، وتهادوا ... » الحَدِيث.
قَالَ: وَمُحَمّد هَذَا كَانَ مِمَّن يروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير، حَتَّى إِذا(7/114)
سَمعهَا مَنِ الحَدِيث صناعته (عَلِمَ) أَنَّهَا مَقْلُوبَة، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. ثمَّ ذكر بعده مُحَمَّد بن أبي الزعيزعة آخَرَ لَيْسَ فِي طبقَة هَذَا، ووهاه، وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» عَن ابْن حبَان أَنه قَالَ فِي الأول: إِنَّه دجَّال من (الدجالين) يروي الموضوعات. وَالَّذِي رأيتُه فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» مَا أسلفته، وَسَأَلَ ابْن أبي حَاتِم أَبَاهُ عَن هَذَا الحَدِيث؛ فَقَالَ: حَدِيث مُنكر. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لأجل الْأَذْرَعِيّ هَذَا، وَقد (قَالَ) البُخَارِيّ فِي حَقه: إِنَّه مُنكر الحَدِيث جدًّا، لَا يُكتب حَدِيثه.
الطَّرِيق الرَّابِع: طَرِيق أبي هُرَيْرَة، رَفعه: «تهادوا؛ فَإِن الْهَدِيَّة تُذهب وَحْرَ الصُّدُور» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» من حَدِيث نجيح أبي معشر السِّندي، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِهِ، ثمَّ قَالَ: (هَذَا) حَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه. وَقد تكلم بعض أهل (الْعلم) فِي أبي معشر من قبل حفظه. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: نجيح هَذَا ضَعِيف، وَمِنْهُم من يوثقه،(7/115)
فَالْحَدِيث من أَجله حسن. وَقَالَ عبد الْحق فِي حَدِيث «لَا تَقولُوا رَمَضَان» من ضعفه أَكثر مِمَّن وَثَّقَهُ، وَمَعَ ضعفه يُكتب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي الْكتاب السالف: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ اللَّيْث بن سعد، عَن رجل، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ غير ثَابت، وَالرجل الَّذِي (كفَّ) عَنهُ اللَّيْث هُوَ: أَبُو معشر السندي، وَهُوَ ضَعِيف.
الطَّرِيق الْخَامِس: طَرِيق زعبل - بالزاي (وَالْبَاء بعد الْعين) يرفعهُ: «تزاوروا وتهادوا؛ فَإِن الزِّيَارَة تنْبت الود، والهدية (تُذهب) السخيمة» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» من حَدِيث مُسلم بن إِبْرَاهِيم، عَن الْحَارِث [بن عبيد أَبُو قدامَة] عَنهُ، والْحَارث هَذَا لَيْسَ بالقويّ، وَهُوَ يروي عَن التَّابِعين، وَلَا أعلم ذكر هَذَا فِي الصَّحَابَة (عَن) غير أبي مُوسَى، وَالظَّاهِر أَنه تَابِعِيّ.
الطَّرِيق السَّادِس: طَرِيق عصمَة بن مَالك الخطمي مَرْفُوعا: «الْهَدِيَّة تذْهب بِالسَّمْعِ وَالْبَصَر» .
ذكره صاحبُ «الشهَاب» وَقَالَ ابْن طَاهِر: فِي إِسْنَاده ضعيفان. فَهَذِهِ طرق الحَدِيث، وأقواها رَابِعهَا، وَالْبَاقِي شَاهد لَهُ.(7/116)
الحَدِيث الثَّانِي
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تهادوا تحَابوا» .
هَذَا الحَدِيث يرْوَى من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث ابْن عمر، رَوَاهُ يَحْيَى بن عبد الله بن بكر، عَن (ضمام) بن إِسْمَاعِيل، عَن أبي قبيل الْمعَافِرِي عَنهُ.
وَرَوَاهُ سُوَيْد بن سعيد الحدثاني وَعبد الْوَاحِد بن يَحْيَى وَمُحَمّد بن بكير الْحَضْرَمِيّ، عَن ضمام، عَن مُوسَى بن وردان، قَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الشهَاب» : قد أخرج مُسلم بِهَذَا الْإِسْنَاد قَوْله: «أَنا النذير الْعُرْيَان» يَعْنِي: مُحَمَّد بن بكير (عَن) ضمام عَن مُوسَى، قَالَ: وَقَول الْجَمَاعَة أولَى، وَإِن كَانَ مُحَمَّد بن بكير ثِقَة؛ فَيحْتَمل أَن يكون عِنْد ضمام فِيهِ طَرِيقين عَن أبي قبيل وَأبي مُوسَى. قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق آخر عَن ابْن عمر وفيهَا ضعف. قَالَ: وَأَصَح مَا ورد فِي هَذَا الْبَاب هَذَا الحَدِيث، مَعَ الِاخْتِلَاف عَلَيْهِ، وَقد صَحَّ: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ كَانَ يقبل الْهَدِيَّة، ويُثيب عَلَيْهَا» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث أم حَكِيم بنت وداع الْخُزَاعِيَّة المهاجرة رفعته: «تهادوا تزدادوا حُبًّا» .(7/117)
ذكره صَاحب «الشهَاب» وَقَالَ ابْن طَاهِر: إِسْنَاده غَرِيب، وَلَيْسَ بحُجَّة.
ثَالِثهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَفعه: «تهادوا تحَابوا» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب «الْأَدَب» خَارج الصَّحِيح، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْعَبَّاس بن مُحَمَّد الدوري، ثَنَا مُحَمَّد بن بكير الْحَضْرَمِيّ، ثَنَا ضمام بن إِسْمَاعِيل الْمصْرِيّ، عَن مُوسَى بن وردان، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: ثَنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ، قَالَ: سمعتُ أَبَا زَكَرِيَّا (الْعَنْبَري) يَقُول: سمعتُ أَبَا عبد الله النوشنجي يَقُول فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «تهادوا تحابُّوا» : بِالتَّشْدِيدِ من الْمحبَّة، وَإِذا قَالَ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ من الْمُحَابَاة.
رَابِعهَا: من حَدِيث عَائِشَة، رفعته: «تهادوا تزدادوا حُبَّا» .
ذكره صاحبُ «الشهَاب» فِي «مُسْنده» قَالَ ابْن طَاهِر: وَإِسْنَاده غَرِيب، وَمَتنه مُنكر جدًّا، وَفِيه مُحَمَّد بن سُلَيْمَان لَا أعرفهُ.
خَامِسهَا: من حَدِيث عَطاء الْخُرَاسَانِي، رَفعه: «تصافحوا يَذهب الغل، وتهادوا تحابُّوا وَتذهب الشحناء» .
رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» كَمَا عزاهُ إِلَيْهِ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» وَعَطَاء هَذَا يُرْسل عَن الصَّحَابَة (ويعنعن) .(7/118)
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَو دُعيت إِلَى كرَاع لَأَجَبْت، وَلَو أُهدي إليَّ ذِرَاع لقبلت» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح (أخرجه) البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة كَذَلِك فِي كتاب الْأَنْكِحَة مِنْهُ، وَأوردهُ فى هَذَا الْبَاب بِلَفْظ: «لَو دعيت إِلَى ذِرَاع أَو كرَاع لَأَجَبْت، وَلَو أُهدي إليَّ ذِرَاع أَو كرَاع لقبلت» .
فَائِدَة: الكراع: من حدِّ الرسغ، والذراع: من حدِّ اللَّحْم، وَقيل: إِن الكراع هُنَا اسْم مَوضِع، وَذكره الغزالى فِي «الْإِحْيَاء» بِلَفْظ: «كرَاع الغميم» . وَلم أر من خرجه كَذَلِك، وَيَردهُ رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن أنس مَرْفُوعا: «لَو أُهدي إليَّ كرَاع لقبلت، وَلَو (دُعيت) عَلَيْهِ لَأَجَبْت» . ثمَّ صحَّحه.
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تُحَقِّرَنَّ جارةٌ لجارتها وَلَو فِرْسِن شَاة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) من(7/119)
حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَزَادا فِي أَوله: «يَا نسَاء المسلمات، لَا تحقرن ... » إِلَى آخِره، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ بِزِيَادَة فِيهِ، وَهَذَا لَفظه: «تهادوا؛ فَإِن الْهَدِيَّة تذْهب وحر الصَّدْر، وَلَا تحقرن جارةٌ (لجارتها) وَلَو شقّ فِرْسِن شَاة» .
فَائِدَة: فِرْسِن الشَّاة: ظلفها، وَهُوَ فِي الأَصْل اسْم لِخُفِّ الْبَعِير، فاستُعِير للشاة، قَالَ ابْن السراج: ونونه زَائِدَة. و «وحْر الصَّدْر» : غشه ووساوسه وعلته. وَقيل: إِنَّه أَشد الْغَضَب، وَقيل: الحقد.
الحَدِيث الْخَامِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ تُحمل إِلَيْهِ الْهَدَايَا؛ فيقبلها من غير لفظٍ» .
هُوَ كَمَا قَالَ، فَمن (يتبع) الْأَحَادِيث والسِّير وجده.
وَفِي (صَحِيح البُخَارِيّ) من حَدِيث عَائِشَة قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يقبل الْهَدِيَّة ويثيب عَلَيْهَا» وَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم) إِذا أُتي بِطَعَام سَأَلَ: أهدية (أم) صَدَقَة؟ فَإِن قيل: صَدَقَة؛ قَالَ لأَصْحَابه: كلوا [وَلم(7/120)
يَأْكُل] وَإِن قيل: هَدِيَّة؛ ضرب بِيَدِهِ فَأكل مَعَهم» .
وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» فِي كتاب السّير، و «مُسْند أَحْمد» و «الْبَزَّار» من حَدِيث عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «إِن كسْرَى أهْدَى إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَدِيَّة فَقبل مِنْهُ، وَإِن الْمُلُوك أهدوا إِلَيْهِ فَقبل مِنْهُم» .
وَفِي «مُسْند أَحْمد» زِيَادَة: «وَإِن قَيْصر أهْدَى فَقبل مِنْهُ» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب. وَقَالَ الْبَزَّار: لَا نعلمهُ رُوي عَن عَلّي بِهَذَا اللَّفْظ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد.
وَفِي «النَّسَائِيّ» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَلْقَمَة الثَّقَفِيّ قَالَ: «قدم وَفد ثَقِيف عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَعَهُمْ هَدِيَّة، فَقَالَ: أهدية أم صَدَقَة؟ فَإِن كَانَت هَدِيَّة؛ فَإِنَّمَا يُبتغى (بهَا) وَجه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَضَاء الْحَاجة، وَإِن كَانَت صَدَقَة؛ فَإِنَّمَا يبتغى بهَا وَجه الله - عَزَّ وَجَلَّ - قَالُوا: لَا؛ بل هَدِيَّة. فقبلها مِنْهُم، وَقعد مَعَهم يُسائلهم و [يسألونه] حَتَّى صَلَّى الظّهْر وَالْعصر» .
وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة منتشرة.
قَالَ الرَّافِعِيّ: واشتهر وُقُوع الْكسْوَة وَالدَّوَاب فِي هَدَايَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَن أم وَلَده «مَارِيَة» كَانَت من الْهَدَايَا.(7/121)
وَهُوَ كَمَا قَالَ، أما الْكسْوَة؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن أكيدر دومة أهْدَى لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جُبَّة من سندس، وَكَانَ ينْهَى عَن الْحَرِير، فتعجَّبَ الناسُ مِنْهَا، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْس محمدٍ بِيَدِهِ، إنَّ مناديل سعد بن معَاذ فِي الْجنَّة أحسن من هَذَا» .
وَفِيهِمَا من حَدِيث عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن أكيدر دومة أهْدَى إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثوب حَرِير؛ فَأعْطَاهُ عليًّا، قَالَ: شققه خُمُرًا بَين الفواطم» .
وَفِي «مُسْند أَحْمد» و «جَامع التِّرْمِذِيّ» و «سنَن النَّسَائِيّ» عَن أنسٍ قَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَيْشًا إِلَى أكيدر دومة؛ فَأرْسل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بجبة من ديباج، منسوج فِيهَا الذَّهَب، فلبسها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَر - أَو جلس - فَلم يتَكَلَّم، ثمَّ نزل، فَجعل النَّاس يلمسون الْجُبَّة وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أتعجبون مِنْهَا؟ قَالُوا: مَا رَأينَا ثوبا قطّ أحسن مِنْهُ. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لمناديل سعد بن معَاذ فى الْجنَّة أحسن مِمَّا ترَوْنَ» وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث عَلّي بن زيد بن جدعَان عَن أنسٍ: «أَن ملك الرّوم أهْدَى إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(7/122)
مستقة (من) سندس فلبسها، فَكَأَنِّي أنظر إِلَى يَدَيْهِ (تذبذبان ثمَّ بعث) بهَا إِلَى جَعْفَر؛ فلبسها ثمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنِّي لم أعطكها لتلبسها. قَالَ: فَمَا أصنع بهَا؟ قَالَ: أرسل بهَا إِلَى أَخِيك النَّجَاشِيّ» .
والمستقة: بِضَم التَّاء وَفتحهَا؛ الفروة الطَّوِيلَة الْكَبِيرَة، وَجَمعهَا مساتق.
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث أنس: «أَن ملك ذِي يزن أهْدَى إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حلَّة، أَخذهَا بِثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا فقبلها» .
وأمَّا الدَّوَابّ؛ فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» من حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ قَالَ: «غزونا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَبُوك، وَأهْدَى [ملك أَيْلَة] للنَّبِي (بغلة بَيْضَاء؛ فَكَسَاهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بُردًا، وَكتب لَهُ ببحرهم، وَجَاء رسولُ (ابْن الْعلمَاء) صَاحب أَيْلَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِكِتَاب، وَأهْدَى إِلَيْهِ بغلة بَيْضَاء، فَكتب إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأهْدَى إِلَيْهِ بُردًا» .
وَفِي كتاب «الْهَدَايَا» لإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ من حَدِيث عليّ قَالَ: «أهْدَى يوحنا بن روزية إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بغلته الْبَيْضَاء» .
وَرَوَى الْحَرْبِيّ أَيْضا وَأَبُو بكر أَحْمد بن عَمرو بن أبي عَاصِم من حَدِيث عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه: «أَن أَمِير القبط أهْدَى إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جاريتين وَبغلة؛ فَكَانَ يركب البغلة بِالْمَدِينَةِ، وَأخذ إِحْدَى الجاريتين(7/123)
لنَفسِهِ، ووهب الْأُخْرَى لحسان» .
وَفِي «صَحِيح مُسلم» «أَن فَرْوَة الجذامي أهْدَى إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بغلة بَيْضَاء، ركبهَا يَوْم حنين» .
وأمَّا «مَارِيَة» فَهِيَ إِحْدَى الجاريتين السالفتين.
وَقد أُهدي لَهُ (غيرُ ذَلِك؛ فَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث عَلّي بن زيد بن جدعَان، عَن أنس قَالَ: «أهْدَى الأكيدر لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَرَّة من (مَنٍّ) فلمَّا انْصَرف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الصَّلَاة مر عَلَى الْقَوْم، فَجعل يُعْطي كل رجل مِنْهُم قِطْعَة، فَأعْطَى جَابِرا قِطْعَة، ثمَّ إِنَّه رَجَعَ إِلَيْهِ فَأعْطَاهُ قِطْعَة أُخْرَى، فَقَالَ: إِنَّك أَعْطَيْتنِي مرّة. قَالَ: هَذَا (لبنات) عبد الله» .
وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَن حَدِيث رَوَاهُ عَمرو بن حكام، عَن (شُعْبَة) عَن عَلّي بن زيد بن جدعَان، عَن أبي المتَوَكل النَّاجِي، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «أهْدَى ملك الرّوم إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَدَايَا، فَكَانَ فِيمَا أهْدَى إِلَيْهِ جَرَّة فِيهَا زنجبيل» فَقَالَا: لَا نعرفه من حَدِيث (شُعْبَة) رَوَاهُ سُفْيَان بن حُسَيْن، عَن عَلّي بن زيد، عَن أنس. قلت: فَهَذَا صَحِيح؟ قَالَا: لَا، هَذَا أشبه، وأمَّا حَدِيث عَمرو بن حكام [فَإِنَّهُ مُنكر، لَا نعلم أَنه رَوَاهُ أحد سُوَى عَمْرو بن حكام. قَالَ:(7/124)
فَمَا حَال عَمْرو بن حكام؟ قَالَا] : فَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. قَالَ أَبُو زرْعَة: كَانَ (قدم الرّيّ فَكتب) عَنهُ أخي أَبُو بكر. قَالَ الذَّهَبِيّ: وَهُوَ مُنكر من وُجُوه:
أَحدهَا: أَنه لَا يُعلم أَن ملك الرّوم أهْدَى إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْئا.
قلت: بلَى؛ قد أهْدَى لَهُ كَمَا سلف عَن «سنَن أبي دَاوُد» .
ثَانِيهَا: أَن هَدِيَّة الزنجبيل من الرّوم إِلَى الْحجاز شَيْء يُنكره الْعقل، فَهُوَ نَظِير هَدِيَّة التَّمْر من الرّوم إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة.
وَاعْلَم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قبل هَدَايَا الْكفَّار كَمَا أسلفناه، وَقد ورد أَنه امْتنع من قبُولهَا؛ رَوَى كَعْب بن مَالك قَالَ: «جَاءَ مُلاعب الأسِنَّة إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بهدية، فَعرض عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ الإسلامَ فَأَبَى أَن يُسلِم، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أَنا لَا أقبل هَدِيَّة مُشْرك» رَوَاهُ ابْن شاهين بِإِسْنَادِهِ.
وَفِي حَدِيث عِيَاض بن حمَار: «أَنه أهْدَى إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَدِيَّة وَهُوَ مُشْرك، فردَّها وَقَالَ: أَنا لَا أقبل (زبد) الْمُشْركين» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ عَلَى شَرط البُخَارِيّ كَمَا قَالَه صاحبُ «الاقتراح» وَذكر الأثرمُ فِي الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن أَحَادِيث الْقبُول أثبت، وَحَدِيث عِيَاض فِيهِ إرْسَال.
ثَانِيهَا: أَن حَدِيث عِيَاض كَانَ فِي أوَّل الْإِسْلَام، وَحَدِيث أكيدر(7/125)
دومة فِي آخر الْأَمر قبل موت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِيَسِير، فَيكون هَذَا من النَّاسِخ والمنسوخ، وَبِهَذَا أجَاب عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» فَقَالَ: حَدِيث عِيَاض كَانَ قبل غَزْوَة تَبُوك. ثمَّ سَاق حَدِيث أبي حميد السالف.
ثَالِثهَا: أَن يكون قبُول الْهَدِيَّة لأهل الْكتاب دون أهل الشّرك، وعياض لم يكن من أهل الْكتاب.
يَبْقَى: «أَنه قبل من كسْرَى» . وَجَوَابه: من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن فِي إِسْنَاده «ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة» وَلَيْسَ بِثِقَة عِنْدهم. ثَانِيهمَا: أَن يكون الْقبُول مَنْسُوخا فِي حق من لَا كتاب لَهُ.
فَائِدَة مهمة: رَوَى الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل، ثَنَا سعيد بن مُحَمَّد، ثَنَا أَبُو تُمَيْلة يَحْيَى بن وَاضح، نَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق، حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أبي بكر، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن مولَى آل طَلْحَة، عَن [ابْن] الحوتكية، عَن عمار بن يَاسر قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يَأْكُل من هَدِيَّة حَتَّى يَأْمر صَاحبه أَن يَأْكُل مِنْهَا للشاة الَّتِي أُهديت لَهُ» .
وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر فِي «تَارِيخ دمشق» عَن أبي نصر الْقشيرِي، أبنا الْبَيْهَقِيّ، أبنا الْحَاكِم، أبنا عَلّي الحبيبي، أَنا خَالِد بن أَحْمد، حَدثنِي أبي، حَدثنِي سعيد بن (سلم) بن قُتَيْبَة، حَدثنِي(7/126)
[أبي، نَا] يَحْيَى بن الْحُسَيْن بن الْمُنْذر، عَن أَبِيه أبي ساسان، سَمِعت عمار بن يَاسر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَقُول: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يَأْكُل الْهَدِيَّة حَتَّى يَأْكُل مِنْهَا من أهداها إِلَيْهِ، بَعْدَمَا أَهْدَت (إِلَيْهِ) الْمَرْأَة الشَّاة المسمومة بِخَيْبَر» .
الحَدِيث السَّادِس
عَن جَابر بن عبد الله، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا رجل أعمر عمرى لَهُ ولعقبه فَإِنَّهَا للَّذي أُعطيها، لَا ترجع إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّهُ أعْطى عَطاء وَقعت فِيهِ الْمَوَارِيث» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك سَوَاء. وَفِي رِوَايَة لمَالِك: «لَا ترجع إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا أبدا» .
و «أُعمر» بِضَم أَوله، عَلَى مَا لم يُسم فَاعله، أَجود من الْفَتْح.
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْعُمْرَى ميراثُ [لأَهْلهَا] » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فى «صَحِيحه» من طَرِيقين:
أَحدهمَا: من طَرِيق جَابر سَوَاء. ثَانِيهمَا: من طَرِيق أبي هُرَيْرَة(7/127)
بِلَفْظ: «الْعُمْرَى جَائِزَة» وبلفظ: «الْعُمْرَى مِيرَاث لأَهْلهَا. أَو قَالَ: جَائِزَة» .
والأوَّل من أَفْرَاد مُسلم؛ بل لم يُخرِّج البُخَارِيّ (عَن جَابر) فِي الْعُمْرَى غير حَدِيث: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالعمرى أَنَّهَا لمن وهبت لَهُ» وَالثَّانِي أخرجه البُخَارِيّ بِاللَّفْظِ الأول فَقَط.
وَأخرجه أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَة لأَهْلهَا أَو قَالَ: مِيرَاث لأَهْلهَا» .
وَأخرجه أَحْمد بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث جَابر.
وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث زيد بن ثَابت بلفظين:
أَحدهمَا: «الْعُمْرَى سَبِيلهَا سَبِيل الْمِيرَاث» .
ثَانِيهمَا: «قَضَى بالعمرى للْوَارِث» وبلفظٍ ثَالِث: «من أُعمر أَرضًا فَهِيَ لوَرثَته» .(7/128)
الحَدِيث الثَّامِن
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تعمروا وَلَا ترقبوا؛ فَمن أعمر شَيْئا أَو أرقبه فسبيله الْمِيرَاث» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إسنادٍ من هَذَا الْوَجْه مَرْفُوعا كَذَلِك، إِلَّا أَنه قَالَ: «فَهُوَ سَبِيل الْمِيرَاث» بدل «فسبيله الْمِيرَاث» وَتبع فِي إِيرَاده كَذَلِك الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» .
وَرَوَاهُ الرّبيع عَنهُ: أبنا ابْن عُيَيْنَة، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن جَابر مَرْفُوعا بِلَفْظ «الْمُخْتَصر» سَوَاء، وَهَذَا إِسْنَاد ثَابت.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» كَذَلِك سَوَاء، إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: « [فَهُوَ لوَرثَته] » بدل «فسبيله الْمِيرَاث» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدِّين فِي آخر «الاقتراح» : وَهُوَ عَلَى شَرط (الصَّحِيحَيْنِ) .
الحَدِيث التَّاسِع
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أجازها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يَقُول: هِيَ لَك ولعقبك من بعْدك. فَأَما إِذا قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْت؛ فَإِنَّهَا(7/129)
ترجع إِلَى صَاحبهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك سَوَاء، دون قَوْله: «من بعْدك» .
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن النُّعْمَان بن بشير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: إِنِّي نحلت ابْني هَذَا غُلَاما كَانَ لي. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أكُلُّ ولدك نحلت مثل هَذَا؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: أيَسُرُّك أَن يَكُونُوا إِلَيْك فِي الْبر سَوَاء؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَلَا إِذا» . ويُروى: «قَالَ: فارتجعه» ويُروى أَنه قَالَ: «اتَّقوا اللهٌ، واعدلوا فِي أَوْلَادكُم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» عَن مَالك، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، وَعَن مُحَمَّد بن النُّعْمَان بن بشير، حدّثنَاهُ عَن النُّعْمَان بن بشير «أَن أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره إِلَى قَوْله: «قَالَ: لَا. قَالَ: فأرجعه» قَالَ الشَّافِعِي: وَقد سَمِعت فِي هَذَا الحَدِيث أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَلَيْسَ يَسُرك أَن (يَكُونُوا) فِي الْبر إِلَيْك سَوَاء؟ فَقَالَ: بلَى. قَالَ: فأرجعه» وَرَوَاهُ الرّبيع، عَن الشَّافِعِي، عَن مَالك كَذَلِك إِلَى قَوْله: «فأرجِعه» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : كَذَا رَوَاهُ أَبُو عبد الله - يَعْنِي: الْحَاكِم، شَيْخه - وَرِوَايَة أبي زَكَرِيَّا وَأبي بكر سُفْيَان أَو مَالك - شكّ أَبُو الْعَبَّاس، يَعْنِي: الْأَصَم - قَالَ: وَقد أبنا أَبُو عبد الله(7/130)
فِي مَوضِع آخر: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاس، أبنا الرّبيع، أَنا الشَّافِعِي، أَنا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن ابْن شهابٍ ... فَذكره. وَقد رَوَاهُ الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي عَن كل مِنْهُمَا، ثمَّ سَاق بِسَنَدِهِ إِلَى الْمُزنِيّ، ثَنَا الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن النُّعْمَان بن بشير، عَن أَبِيه: «أَنه نحل ابْنا لَهُ عبدا» وَالصَّوَاب: «أَن أَبَاهُ نحل ابْنا لَهُ عبدا؛ فجَاء بِهِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يشهده، فَقَالَ: (كل) ولدك نحلت مثل هَذَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فاردده» .
قَالَ: وبإسناده ثَنَا الشَّافِعِي، عَن مَالك ... فَذكره كَمَا أسلفناه عَن «الْمُخْتَصر» وَأخرجه البُخَارِيّ، وَمُسلم من حَدِيث مَالك، وَمُسلم من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة، وَقَول الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» : وَقد سمعتُ فِي هَذَا الحَدِيث ... إِلَى آخِره، وَهُوَ فِي رِوَايَة دَاوُد بن أبي هِنْد وَغَيره عَن عَامر الشّعبِيّ، عَن النُّعْمَان بن بشير، قَالَه الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» (ثمَّ) قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي: وَحَدِيث النُّعْمَان حَدِيث ثَابت، وَبِه نَأْخُذ.
قلت: وَله أَلْفَاظ فِي «صَحِيح مُسلم» مِنْهَا: «فأرجعه» وَمِنْهَا: «فَرده» وَمِنْهَا: «فَرجع أبي فَرد تِلْكَ الصَّدَقَة» وَمِنْهَا: «فَلَا تشهدني(7/131)
إِذا؛ فَإِنِّي لَا أشهد عَلَى جور» وَمِنْهَا: «فَأشْهد عَلَى هَذَا غَيْرِي» وَمِنْهَا: «فَلَيْسَ يصلح هَذَا، وَإِنِّي لَا أشهد إِلَّا عَلَى حق» ذكر مُسلم هَذِه من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر.
وللبخاري: « (فَاتَّقُوا) الله، واعدلوا بَين أَوْلَادكُم! قَالَ: فَرجع فَرد عطيته» وَله: «فأرجعه» .
قَالَ عبد الْحق: وَلم يذكر البُخَارِيّ من هَذِه الْأَلْفَاظ إِلَّا قَوْله: «فَلَا تشهدني عَلَى جور» وَهُوَ عِنْده عَلَى الشَّك، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ أَبُو حريز عَن الشّعبِيّ: «لَا أشهد عَلَى جور» . لَيْسَ عِنْدِي إِلَّا هَذَا.
تَنْبِيه: وَقع فِي «بسيط الْغَزالِيّ» و «وسيطه» أَن الْوَاهِب هُوَ النُّعْمَان بن بشير، تبعا للرواية السالفة، وَالصَّوَاب خِلَافه، لكنه لم ينْفَرد بِهِ، وَقد أوضحت ذَلِك فِي «تخريجي لأحاديثه» فَتنبه لَهُ.
فَائِدَة: المنحول كَانَ عبدا، كَمَا أسلفناه.
فَائِدَة أُخْرَى: رد الْخطابِيّ خبر النُّعْمَان هَذَا بِخَبَر جَابر السالف، وَقَالَ: إِنَّه أولَى مِنْهُ؛ لِأَن جَابِرا أحفظ لَهُ وأضبط؛ لِأَن النُّعْمَان كَانَ صَغِيرا، وَفِي حَدِيث جَابر: أَنه شاوره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قبل الْهِبَة. فدلَّ عَلَى مَا هُوَ الأولَى بِهِ.(7/132)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ: «سووا بَين أَوْلَادكُم فِي الْعَطِيَّة) فَلَو كنت مفضلاً أحدا لفضلت الْبَنَات» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن (سعيد) بن يُوسُف، عَن يَحْيَى بن أبي (كثير) عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... فَذكره بِهِ سَوَاء، إِلَّا أَنه (قَالَ) : «النِّسَاء» بدل «الْبَنَات» وَإِسْمَاعِيل هَذَا حجَّة إِذا رَوَى عَن الشاميين، وَشَيْخه سعيد بن يُوسُف شَامي، نعم الشَّأْن فِي شَيْخه؛ فَإِن أَحْمد وَغَيره تكلمُوا فِيهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بالمشهور، وَحَدِيثه لَيْسَ بالمنكر. وَقَالَ ابْن عدي: لَا أعلم يروي عَنهُ غير إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وَهُوَ قَلِيل الحَدِيث، ورواياته ثابتات الْأَسَانِيد لَا بَأْس بهَا، وَلَا أعرف لَهُ شَيْئا أنكر مِمَّا ذكرت من حَدِيث عِكْرِمَة - يَعْنِي: هَذَا - وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَلما ذكره(7/133)
ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» ذكر فِيهِ قَول يَحْيَى: ضَعِيف الحَدِيث. وَقَول النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَاقْتصر عَلَى ذَلِك، وَقَالَ فِي «تَحْقِيقه» لما (سَاق) الحَدِيث (بِالْإِسْنَادِ) السالف: إِسْمَاعِيل وَسَعِيد ضعيفان. وَقد عرفت أَن الضعْف فِي هَذَا الحَدِيث لَا من جِهَة إِسْمَاعِيل؛ بل من جِهَة سعيد، وَلَيْسَ ضعفه مُتفقًا عَلَيْهِ، كَمَا علمت أَيْضا. وَوَقع فِي «الضُّعَفَاء» لَهُ: أَن (سعيدًا) هَذَا يروي عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش. وَالْمَعْرُوف فِي تَرْجَمته أَن إِسْمَاعِيل يروي عَنهُ، فَتنبه لَهُ. وَزَاد القَاضِي حُسَيْن فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث زِيَادَة غَرِيبَة، لم أر من خرجها، وَهِي: «سووا بَين أَوْلَادكُم فِي الْعَطِيَّة، حَتَّى القُبَل» .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل لواهب أَن يرجع فِيمَا وهب، إِلَّا الْوَالِد؛ فَإِنَّهُ يرجع فِيمَا وهب لوَلَده» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأَيْضًا فقد رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل لرجل يُعطي عَطِيَّة أَو يَهب هبة فَيرجع فِيهَا إِلَّا الْوَالِد فِيمَا يُعطي وَلَده وَمثل الَّذِي يُعطي الْعَطِيَّة ثمَّ يرجع فِيهَا كَمثل الْكَلْب يَأْكُل؛ فَإِذا شبع (قاء) ثمَّ عَاد (فِيهِ» .(7/134)
هَكَذَا سَاقه) الرَّافِعِيّ (مساقة حديثين، وهما حَدِيث) وَاحِد، أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَو اتَّصل حَدِيث طَاوس: «لَا يحل للْوَاهِب أَن يرجع فِيمَا وهب، إِلَّا وَالِد فِيمَا وهب لوَلَده» لَقلت بِهِ، وَرَوَاهُ (عَن) مُسلم بن خَالِد، عَن ابْن جريج، عَن الْحسن بن مُسلم، عَن طَاوس أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يحل لواهب أَن يرجع فِيمَا وهب، إِلَّا الْوَالِد من وَلَده» ثمَّ قَالَ بعده بِقَلِيل: وَلَو اتَّصل حَدِيث طَاوس ... فَذكر مَعْنَى مَا تقدم عَن «الْمُخْتَصر» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَهَذَا الحَدِيث إِنَّمَا يُروى مَوْصُولا من جِهَة عَمْرو بن شُعَيْب، وَعَمْرو (ثِقَة) ثمَّ أسْندهُ من حَدِيث أبي دَاوُد، ثَنَا يزِيد بن زُرَيْع، ثَنَا حُسَيْن الْمعلم، عَن عَمرو بن شُعَيْب، عَن طَاوس، عَن ابْن عُمر وَابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يحل لرجل أَن يُعطي عَطِيَّة أَو يهب هبة فَيرجع فِيهَا (إِلَّا) الْوَالِد فِيمَا يُعطي وَلَده، وَمثل الَّذِي يُعطي الْعَطِيَّة ثمَّ يرجع فِيهَا كَمثل الْكَلْب يَأْكُل حَتَّى إِذا شبع قاء ثمَّ عَاد [فِي] قيئه» .
قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث (يُؤكده) مُرْسل الْحسن بن مُسلم (بن يناق) - يَعْنِي: السالف - والْحَدِيث الْمَوْصُول عَن النُّعْمَان(7/135)
بن بشير، وَحَدِيثه فِي الْمَنْع من رُجُوع غَيره يؤكده حَدِيث ابْن عَبَّاس الثَّابِت فِي «الصَّحِيح» : «الْعَائِد فِي هِبته كالعائد فِي قيئه» . وَفِي رِوَايَة: «كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه» . قَالَ همام: قَالَ قَتَادَة: وَلَا نعلم الْقَيْء إِلَّا حَرَامًا. وَرَوَاهُ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج كَمَا سلف، بِلَفْظ: «لَا يحل لأحد يهب لأحد هبة ثمَّ يعود فِيهَا إِلَّا الْوَالِد» - وَهَذَا متابعٌ لمُسلم بن خَالِد - ثمَّ قَالَ: هَذَا مُرْسل، وَقد روُي مَوْصُولا. ثمَّ سَاقه من حَدِيث إِسْحَاق بن يُوسُف الْأَزْرَق، عَن حُسَيْن الْمعلم، عَن عَمرو بن شُعَيْب، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عُمر قَالَا: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يُعْطي عَطِيَّة فَيرجع فِيهَا، إِلَّا الْوَالِد فِيمَا يُعْطِيهِ وَلَده، وَمثل الَّذِي يُعْطي الْعَطِيَّة ثمَّ يرجع فِيهَا كَالْكَلْبِ يَأْكُل حَتَّى إِذا شبع قاء، ثمَّ عَاد فَرجع فِي قيئه» ثمَّ سَاقه من حَدِيث يزِيد بن زُرَيْع، عَن حُسَيْن كَمَا سلف عَن أبي دَاوُد، ثمَّ سَاقه من حَدِيث عبد الْوَارِث، عَن (عَامر) الْأَحول (عَن عَمرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يرجع فِي هِبته إِلَّا الْوَالِد، والعائد فِي هِبته كالعائد فِي قيئه» . ثمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان وَسَعِيد بن أبي عرُوبَة، عَن (عَامر) الْأَحول، وَكَذَلِكَ يُرْوى عَن سعيد(7/136)
بن بشير، عَن مطر وعامر الْأَحول) عَن عَمرو، عَن أَبِيه، عَن جده: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يرجع الرجل فِي هِبته، إِلَّا الْوَالِد من وَلَده، والعائد فِي هِبته كالعائد فِي قيئه» .
وَيحْتَمل أَن يكون عَمرو بن شُعَيْب رَوَاهُ من الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، فحسين الْمعلم حُجَّة، و (عَامر) الْأَحول ثِقَة، وَرُوِيَ عَن مطر وعامر نَحْو رِوَايَة (عَامر) وَحده. وَقَالَ فِي «خلافياته» لما أخرجه من حَدِيث إِسْحَاق الْأَزْرَق عَن حُسَيْن: تَابعه يزِيد بن زُرَيْع وَيزِيد بن هَارُون عَن حُسَيْن، وحسين من الثِّقَات، وَكَذَلِكَ سَائِر رُوَاته. ثمَّ سَاقه من حَدِيث عبد الْوَارِث عَن عَامر، ثمَّ ذكر مُتَابعَة إِبْرَاهِيم وَسَعِيد ومطر (لعامر) ، ثمَّ قَالَ: وَكَأن عَمْرو بن شُعَيْب سمع الحَدِيث من الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
قلت: وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث حُسَيْن، كَمَا سلف، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» من حَدِيث ابْن [أبي] عدي، عَن حُسَيْن الْمعلم، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن طَاوس، عَن (ابْن) عُمر وَابْن عَبَّاس، رَفَعَاهُ: «لَا يحل لأحدٍ أَن يُعْطِي عَطِيَّة فَيرجع فِيهَا، إِلَّا الْوَالِد فِيمَا يُعْطي وَلَده» .(7/137)
وَأخرجه (النَّسَائِيّ) أَيْضا من هَذَا الْوَجْه، كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد، وَأخرجه ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه أَيْضا، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث عَمرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا: «لَا يرجع [أحد] فِي هِبته إِلَّا الْوَالِد من وَلَده» . وَقد سُئِل الدَّارَقُطْنِيّ عَن حَدِيث عَمرو هَذَا (و) حَدِيث ابْن عُمر وَابْن عَبَّاس؛ فَقَالَ: لَعَلَّ الإسنادين محفوظان. وَقد سلف هَذَا عَن الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد، ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد - قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عَمرو بن شُعَيْب عَن طَاوس - وَلَا أعلم خلافًا فِي عَدَالَة عَمرو بن شُعَيْب، إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي سَماع أَبِيه من جده. ثمَّ رَوَى بإسنادٍ إِلَى الإِمَام أَحْمد [أَن مُحَمَّد] بن عَلّي بن حمدَان الْوراق قَالَ (لَهُ) : عَمرو بن شُعَيْب سمع من أَبِيه شَيْئا؟ فَقَالَ: هُوَ عَمرو(7/138)
بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمرو (وَقد صَحَّ سَماع) عَمرو بن شُعَيْب من أَبِيه شُعَيْب، وصَحَّ سَماع شُعَيْب من جده عبد الله بن عَمرو. قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : عَمرو بن شُعَيْب فِي نَفسه (ثِقَة يحْتَج بِخَبَرِهِ) إِذا رَوَى عَن غير أَبِيه.
قلت: هَذِه طَرِيقَته، وَقد أسلفنا فِي بَاب الْوضُوء صِحَة الِاحْتِجَاج (بِهِ) إِذا رَوَى عَن أَبِيه عَن جده.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
«أَن أعرابيًّا وهب للنَّبِي (نَاقَة؛ فأثابه عَلَيْهَا وَقَالَ: أرضيت؟ قَالَ: لَا. فزاده وَقَالَ: رضيت؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لقد هممتُ أَن لَا أتهب إِلَّا من قرشي أَو أَنْصَارِي أَو ثقفي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَن أعرابيًّا وهب للنَّبِي (هبة، فأثابه عَلَيْهَا، قَالَ: رضيت؟ قَالَ: لَا. فزاده، قَالَ: رضيت؟ قَالَ: لَا. فزاده، قَالَ: رضيت؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لقد هَمَمْت ... » وَذكر بَاقِي الحَدِيث.(7/139)
كَذَا أَخْرجَاهُ بِذكر عدم الرِّضَا مرَّتين، وَوَقع فِي الرَّافِعِيّ مرّة كَمَا أسلفناه عَنهُ.
وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق ثَان من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُخْتَصرا عَن مُحَمَّد بن عَمرو الرَّازِيّ، ثَنَا سَلمَة - يَعْنِي: ابْن الْفضل - ثَنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «وَايْم الله، لَا أقبل بعد يومي هَذَا من أحد هَدِيَّة، إِلَّا أَن يكون مُهَاجرا، أَو قرشيًّا، أَو أنصاريًّا، أَو دوسيًّا، أَو ثقفيًّا» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مطولا عَن أَحْمد بن منيع، ثَنَا (يزِيد) بن هَارُون، ثَنَا أَيُّوب، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة: «أَن أعرابيًّا أهْدَى إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بكرَة، فَعوضهُ مِنْهَا سِتّ بكرات، فسخط، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَحَمدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن فلَانا أهْدَى إليَّ بكرَة، فعوضته مِنْهَا سِتّ بكرات، ويظل ساخطًا؟ ! (وَلَقَد) هَمَمْت أَن لَا أقبل هَدِيَّة إِلَّا من قرشيّ أَو أنصاريّ، أَو ثقفيّ، أَو دوسيّ» .
ثمَّ رَوَاهُ مطولا أَيْضا عَن البُخَارِيّ، عَن أَحْمد بن خَالِد الْوَهْبِي، عَن ابْن إِسْحَاق، عَن سعيد بن أبي سعيد، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة: «أهْدَى رجل من بني فَزَارَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَاقَة من إبِله الَّتِي كَانُوا أَصَابُوا بِالْغَابَةِ، فَعوضهُ مِنْهَا بعض الْعِوَض، فتسخطه؛ فسمعتُ رَسُول(7/140)
الله (يَقُول عَلَى الْمِنْبَر: إِن [رجَالًا] من الْعَرَب يُهدي أحدهم الْهَدِيَّة، فأعوضه مِنْهَا بِقدر مَا عِنْدِي، ثمَّ يتسخطه فَيظل [يتسخط] عَلّي، وَايْم الله؛ لَا أقبل بعد مقَامي هَذَا من رجل من الْعَرَب هَدِيَّة، إِلَّا من قرشي، أَو أَنْصَارِي، أَو ثقفي، أَو دوسي» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن [وَهُوَ] أصح من حَدِيث يزِيد بن هَارُون. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا مُخْتَصرا عَن خشيش بن أَصْرَم، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر [عَن ابْن عجلَان] عَن سعيد، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة: أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لقد هَمَمْت أَن لَا أقبل هَدِيَّة ... » إِلَى آخِره، كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَن أبي الْحُسَيْن الْقَنْطَرِي، ثَنَا أَبُو قلَابَة، وَعَن عَمرو بن نجيد، ثَنَا أَبُو مُسلم، ثَنَا أَبُو عَاصِم، عَن (ابْن) عجلَان، عَن المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة: «أَن رجلا أهْدَى إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لقحة، فأثابه مِنْهَا بست بكرات؛ فسخطها الرجل، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من يعذرني من فلَان أهْدَى (إليَّ) لقحة، فَكَأَنِّي أنظر إِلَيْهَا فِي وَجه بعض أَهلِي، فأثبته مِنْهَا بست بكرات فسخطها، لقد هَمَمْت أَن لَا أقبل هَدِيَّة، إِلَّا أَن تكون (من) قرشي، أَو أَنْصَارِي، أَو ثقفي، أَو دوسي» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي(7/141)
«مُسْنده» من حَدِيث أبي معشر، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة، كَمَا أخرجه التِّرْمِذِيّ بِزِيَادَة: «أُهدي إليَّ نَاقَة، وَهِي نَاقَتي، أعرفهَا كَمَا أعرف بعض أَهلِي، ذهبت مني يَوْم زغابات، فعوضته ... .» الحَدِيث.
وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا؛ فَقَالَ: يروي طَاوس عَن أبي هُرَيْرَة مُتَّصِلا مَرْفُوعا، وَعَن طَاوس مُرْسلا وَهُوَ الْأَصَح. وَهَذَا طَرِيق آخر لهَذَا الحَدِيث غير مَا أسلفناه، وَلما ذكر عبد الْحق [طريقي] التِّرْمِذِيّ وَأبي دَاوُد السالفين بِتَغَيُّر قَالَ: إسنادهما لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَاعْتَرضهُ ابْن الْقطَّان وَقَالَ: هَذَا (قَول) تبع فِيهِ التِّرْمِذِيّ، وَكم حديثٍ قد احْتج بِهِ من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق، وَأحمد بن خَالِد الْوَهْبِي أفرط ابْن حزم القَوْل فِيهِ، وَنسبه إِلَى الْجَهَالَة، وَهُوَ ثِقَة، وَقد ردَّ عَلَيْهِ عبدُ الْحق ذَلِك فِي حَدِيث زيد بن ثَابت: «نهَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ أَن تبَاع السّلع حَيْثُ تبْتَاع حَتَّى يحوزها التُّجَّار» (فَحق) الحَدِيث أَنه حسنٌ من طَرِيقَته، والمقبري سمع من أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَمن أبي هُرَيْرَة، كَمَا سمع أَبوهُ، وَقَول التِّرْمِذِيّ: «إِنَّه أصح من حَدِيث يزِيد بن هَارُون» هُوَ بِاعْتِبَار ثُبُوت وَالِد سعيد بَينه وَبَين أبي هُرَيْرَة، وَلَا يفهم (مِنْهُ) تَضْعِيف الحَدِيث.(7/142)
قلت: وَطَرِيق النَّسَائِيّ وَالْحَاكِم خَالِيَة من «ابْن إِسْحَاق» ومِنَ «الْوَهْبِي» هَذَا، فَلَا شكّ فِي صِحَّتهَا، وَللَّه الْحَمد.
ثمَّ للْحَدِيث طَرِيق ثَالِث أخرجه الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» من حَدِيث بكار بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أَيمن بن نابل الْمَكِّيّ، عَن أَبِيه: «أَن رجلا كالأعرابي أهْدَى إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ناقتين؛ فَعوضهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يرض عوضه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لقد هممتُ أَن لَا أتهب هبة إِلَّا من قرشي، أَو أَنْصَارِي، أَو ثقفي» قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى: رَوَاهُ جمَاعَة عَن بكار.
قلت: وبكار هَذَا ذَاهِب الحَدِيث؛ كَمَا قَالَه أَبُو زرْعَة، وأيمن بن نابل بِالْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ.
فَائِدَة: إِنَّمَا اسْتثْنى هَؤُلَاءِ؛ لأَنهم أكْرم الْعَرَب، وَقيل: لِأَنَّهُ (لَيْسَ) فيهم غلظ الْبَادِيَة؛ لأَنهم حَاضِرَة.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله ومنّه، وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثرين:
أَحدهمَا: «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه نحل عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (جادَّ) عشْرين وسْقا، فَلَمَّا مرض قَالَ: وددت أَنَّك حُزْتِيهِ أَو قبضتيه، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال الْوَارِث» .
هَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن ابْن شهَاب، عَن(7/143)
عُرْوَة، عَن عَائِشَة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت) : «نَحَلَنِي أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (جادَّ) عشْرين وسْقا من مَال الغابة، فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة قَالَ: وَالله يَا بنية مَا من النَّاس أحبُّ إليَّ غِنىً مِنْك بعدِي، وَلَا أعز عليَّ فقرا بعدِي مِنْك، وَإِنِّي كنتُ نَحَلْتُكِ جادّ عشْرين وسْقا، وَلَو كنت (جددتيه واحتزتيه) لَكَانَ لَك، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال الْوَارِث، وَإِنَّمَا هما أَخَوَاك وَأُخْتَاك؛ فَاقْتَسمُوهُ عَلَى كتاب الله. قَالَت: فَقلت: يَا أَبَت، لَو كَانَ كَذَا وَكَذَا لتركته؛ إِنَّمَا هِيَ أَسمَاء؛ فَمن الْأُخْرَى؟ ! قَالَ: ذُو بطن ابْنة خَارِجَة. أَرَاهَا جَارِيَة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم (أبنا) ابْن وهب، عَن مَالك بن أنس وَيُونُس بن يزِيد وَغَيرهمَا من أهل الْعلم، أَن ابْن شهَاب أخْبرهُم عَن عُرْوَة بن الزبير، عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «إِن أَبَا بكر الصّديق نحلهَا جدَاد عشْرين وسْقا من مَال بِالْغَابَةِ، فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة قَالَ: وَالله يَا بنية، مَا من النَّاس أحد أحب إليَّ غِنىً بعدِي مِنْك، وَلَا أعز عليَّ فقرا بعدِي مِنْك، وَإِنِّي كنت نحلتكِ من مَالِي جدَاد عشْرين وسْقا، فَلَو كنت جددتيه واحتزتيه كَانَ (لَك) ذَلِك، وَإِنَّمَا(7/144)
(هُوَ) مَال الْوَارِث، وَإِنَّمَا هما أَخَوَاك وَأُخْتَاك، فَاقْتَسمُوهُ عَلَى كتاب الله - تَعَالَى - فَقَالَت: يَا أبه، وَالله لَو كَانَ كَذَا وَكَذَا لتركته، إِنَّمَا (هِيَ) أَسمَاء؛ فَمن الْأُخْرَى؟ قَالَ: ذُو بطن بنت خَارِجَة. أَرَاهَا جَارِيَة» .
قَالَ ابْن عبد الحكم: وأبنا ابْن وهب أَخْبرنِي (عبد الله بن عمر، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة بذلك. وأبنا ابْن وهب) قَالَ: سَمِعت حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان يحدث أَنه سمع الْقَاسِم بن مُحَمَّد يحدث بذلك أَيْضا (إِلَّا) أَنه قَالَ: (أَرضًا يُقَال) لَهَا: تمرد، وَكَانَت عِنْده لم يقبضهَا.
وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَى أَلْفَاظ هَذَا الْأَثر فِي «تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب» فَرَاجعه مِنْهُ تَجِد نفائس.
الْأَثر الثَّانِي: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «من وهب هبة يَرْجُو ثَوَابهَا فَهُوَ رد عَلَى صَاحبهَا مَا لم يُثَبْ [مِنْهَا] » .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن دَاوُد بن الْحصين عَن أبي غطفان بن طريف المري أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: «من وهب (هبة) لصلة رحم أَو عَلَى وَجه صَدَقَة؛ فَإِنَّهُ لَا يرجع فِيهَا، وَمن وهب(7/145)
هبة يرَى أَنه إِنَّمَا أَرَادَ بهَا الثَّوَاب فَهُوَ عَلَى هِبته، يرجع فِيهَا مَا لم يرض بهَا» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن وهب، عَن حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان الجُمَحِي، عَن سَالم بن عبد الله (عَن أَبِيه) عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «من وهب هبة لوجه الله فَذَلِك لَهُ، وَمن وهب هبة يُرِيد ثَوَابهَا؛ فَإِنَّهُ يرجع فِيهَا إِن لم يرض (بهَا) » . قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ. قَالَ: وَرَوَاهُ عبيد الله بن مُوسَى عَن حَنْظَلَة، عَن سَالم، عَن [ابْن] عُمر مَرْفُوعا: «من وهب هبة فَهُوَ أَحَق بهَا مَا لم يثب مِنْهَا» وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَلّي بن سهل بن الْمُغيرَة عَن عبد الله، وَهُوَ وهم، إِنَّمَا الْمَحْفُوظ الأول. قَالَ: وَقد قيل: عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن مجمع، عَن عَمرو بن دِينَار، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «الْوَاهِب أَحَق بَهته مَا لم يثب (مِنْهَا) » .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا الْمَتْن بِهَذَا الْإِسْنَاد أليق، وَإِبْرَاهِيم ضَعِيف عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، وعَمرو بن دِينَار عَن أبي هُرَيْرَة مُنْقَطع، وَالْمَحْفُوظ عَن عَمرو بن دِينَار عَن سَالم عَن أَبِيه عَن عُمر قَالَ: «من وهب هبة فَلم يثب فَهُوَ أَحَق بهبته إِلَّا لذِي(7/146)
(محرم) » قَالَ البُخَارِيّ: هَذَا أصح. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ (عَن) الْحسن عَن سَمُرَة مَرْفُوعا: «إِذا كَانَت الْهِبَة لذِي رحم محرم لم يرجع» وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ الْحَاكِم لما أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» : إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فرواته كلهم ثِقَات، وَعبد الله بن جَعْفَر الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده هُوَ الرقي، وَهُوَ من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَأَخْطَأ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» حَيْثُ قَالَ: ضَعَّفُوهُ. فَإِن الَّذِي ضَعَّفوه هُوَ الْمَدِينِيّ والدُ عَلّي، وَهُوَ مُتَقَدم عَلَى هَذَا، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا (مثل) حَدِيث عمر السالف، وَرُوَاته ثِقَات، وَلَكِن جعله وهما عَلَى مَا نَقله عبدُ الْحق وَغَيره عَنهُ (وَأَن الصَّوَاب عَن ابْن عمر) عَن عُمر قَوْله، وَخَالف ابْن حزم فصححه مَرْفُوعا، وَكَذَا الْحَاكِم لما أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» مَرْفُوعا قَالَ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ إِلَّا أَن يكون الْحمل (فِيهِ) عَلَى شَيخنَا إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن خَالِد الْهَاشِمِي. وَلما رَوَاهُ(7/147)
الْبَيْهَقِيّ عَن شَيْخه الْحَاكِم بِسَنَدِهِ قَالَ: إِنَّه وهم، وَإِن الْمَحْفُوظ مَا سلف. وَلما ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» من هَذِه الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة: ابْن عمر، وَأبي هُرَيْرَة، وَسمرَة، قَالَ: كلهَا ضِعَاف لَيْسَ فِيهَا مَا يَصح.
قلت: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بإسنادٍ واهٍ.(7/148)
كتاب اللّقطَة(7/149)
كتاب اللُّقطة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث ثَلَاثَة عشر حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
عَن زيد بن خَالِد الجُهَني رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلَهُ عَن اللّقطَة، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: اعرف عفاصها ووكاءها، ثمَّ عرِّفها سنة؛ فَإِن جَاءَ صَاحبهَا، وَإِلَّا فشأنك بهَا. قَالَ: فضَالة الْغنم؟ قَالَ: هِيَ لَك أَو لأخيك أَو للذئب. قَالَ: فضَالة الْإِبِل؟ قَالَ: مَا لَك وَلها؟ ! دعها، مَعهَا حذاؤها وسقاؤها، تَرِدُ المَاء وتأكل الشّجر حَتَّى يلقاها ربُّها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّافِعِي عَن مَالك، عَن ربيعَة بن (أبي) عبد الرَّحْمَن، عَن يزِيد مولَى المنبعث، عَن زيد بِهِ، وَهُوَ كَذَلِك فِي «موطئِهِ» .
وَأخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث مَالك بِهِ، وَفِي لفظ لَهما: «أَنه(7/151)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَن لقطَة الذَّهَب أَو الْوَرق، فَقَالَ: اعرف وكاءها وعفاصها، ثمَّ عرِّفها سنة؛ فَإِن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وَدِيعَة عنْدك، فَإِن جَاءَ طالبها يَوْمًا من الدَّهْر فأدِّها إِلَيْهِ. وَسَأَلَهُ عَن ضَالَّة الْإِبِل، فَقَالَ: مَا لَك وَلها؟ ! دعها (فَإِن) مَعهَا حذاءها وسقاءها، ترد المَاء وتأكل الشّجر حَتَّى يلقاها رَبهَا. وَسَأَلَهُ عَن الشَّاة، فَقَالَ: خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَك، أَو لأخيك، أَو للذئب» .
وَلَهُمَا أَلْفَاظ أُخر أَيْضا.
فَائِدَة: العفاص - بِكَسْر الْعين وبالفاء -: الْوِعَاء الَّذِي فِيهِ النَّفَقَة سَوَاء أَكَانَ من جلد أَو خرقَة أم من غَيرهمَا، قَالَ الْأَزْهَرِي: وَلِهَذَا تسَمَّى الْجلْدَة الَّتِي تلبس رَأس القارورة عفاصًا؛ لِأَنَّهُ كالوعاء لَهَا، وَلَيْسَ بالصمام، إِنَّمَا الصمام الَّذِي يُسَدُّ بِهِ فَم القارورة من خشب كَانَ أَو من خرقةٍ مَجْمُوعَة. وَعَن الْخطابِيّ: أَن أصل العفاص من الْجلْدَة الَّتِي تلبس رَأس القارورة، وأُطلق عَلَى الْوِعَاء عَلَى طَرِيق التوسُّع، وَالْجُمْهُور عَلَى الأول. و «الوكاء» - ممدودٌ، وَوهم من قصره -: الْخَيط الَّذِي يُشَدُّ بِهِ رَأس الْكيس والجراب والقربة وَنَحْو ذَلِك. و «شَأْنك» : مَنْصُوب بإضمار فعل، وَيجوز رَفعه عَلَى الِابْتِدَاء، وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره مُبَاح أَو جَائِز. و «الْحذاء» : الْخُف. و «السقاء» : الْجوف؛ لِأَنَّهَا تَأْخُذ مَاء كثيرا فِي جوفها، فتبقي عَلَيْهِ أَكثر مَا تبقي سَائِر الْحَيَوَانَات، قَالَه الْأَزْهَرِي، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: أَرَادَ أعناقها الَّتِي تتوصل بهَا [إِلَى المَاء] فَلَا تحْتَاج إِلَى (تقريب) الرَّاعِي ومعونته.(7/152)
(تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي الْبَاب أَحَادِيث أخر نأتي بِبَعْضِهَا فِي الْأَثْنَاء. هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد قَالَ التِّرْمِذِيّ: فِي الْبَاب عَن أبي بن كَعْب وَعبد الله بن عَمْرو والجارود بن الْمُعَلَّى وَجَرِير بن عبد الله) .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن عِيَاض بن حمَار رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من الْتقط لقطَة فليشهد عَلَيْهَا ذَا عدل، أَو ذَوي (عدل) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة: «ثمَّ لَا يكتم وَلَا (يُغَيِّب) فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فَهُوَ أَحَق بهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَال الله يُؤتيه من يَشَاء» .
وَزَاد الْبَيْهَقِيّ بعد قَوْله «ثمَّ لَا يكتم» : «وليعرِّفه» وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «فليشهد ذَوي عدلٍ، وليحفظ عفاصها ووكاءها؛ فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فَلَا يكتم، وَهُوَ أَحَق بهَا، وَإِن لم يجِئ صاحبُها فَإِنَّهُ مَال(7/153)
الله يؤتيه من يَشَاء» وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَلم يسق مَتنه، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه الْكَبِير» من طرق إِلَى عِيَاض، فِي بَعْضهَا ذكر الْإِشْهَاد، وَفِي بَعْضهَا «شَاهِدين ذَوي عدل» من غير شكّ. قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : (أضمر) فِي الْخَبَر: «إِن لم يجِئ صَاحبهَا، (وَإِلَّا) فَهُوَ مَال الله يؤتيه من يَشَاء» . قلت: هَذَا لَا شكّ فِيهِ، وَقد صرح بِهِ الطَّبَرَانِيّ فِي بعض رواياته فِي «أكبر معاجمه» فَقَالَ: «إِن لم تَجِد صَاحبهَا فَهُوَ مَال الله يؤتيه من يَشَاء» .
فَائِدَة: حمَار هَذَا هُوَ عَلَى لفظ الْحمار (الْمَعْرُوف) وَضَبطه، ووالده ابْن أبي حمَار، وَقيل: ابْن عرْفجَة، وعياض صَحَابِيّ مجاشعي بَصرِي، كَانَ صديقا لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَدِيما، وَله غير هَذَا الحَدِيث، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة عِيَاض بن حمَار غَيره، وَفِي أَفْرَاد الصَّحَابَة أَيْضا حمَار لقب الَّذِي كَانَ يُهْدي لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - العكة من السّمن وَالْعَسَل (ويضحكه) .
فَائِدَة ثَانِيَة: رَوَى مَالك بن عُمير عَن أَبِيه نَحوا من هَذَا الحَدِيث، وَلَفظه: أنَّهُ سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن اللّقطَة؛ فَقَالَ: عرِّفها؛ فَإِن وجدت من يعرفهَا فادفعها إِلَيْهِ، وَإِلَّا فاستمتع بهَا، وَأشْهد بهَا عَلَيْك، فَإِن جَاءَ(7/154)
صَاحبهَا فادفعها إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَال الله - تَعَالَى - يؤتيه من يَشَاء» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي «معرفَة الصَّحَابَة» .
الحَدِيث الثَّالِث
رُوي فِي بعض الْأَخْبَار: «من الْتقط لقطَة يسيرَة فليعرفها ثَلَاثَة أَيَّام» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عمر بن عبد الله بن يعْلى، عَن جدَّته حُكيمة - بِضَم الْحَاء - عَن يعْلى بن مُرة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من الْتقط لقطَة يسيرَة، حبلاً أَو درهما أَو شبه ذَلِك [فليعرفه] ثَلَاثَة أَيَّام؛ فَإِن كَانَ فَوق ذَلِك فليعرِّفْه سِتَّة أَيَّام» هَذَا لفظ الْبَيْهَقِيّ، وَلَفظ أَحْمد «من الْتقط لقطَة يسيرَة درهما أَو حبلاً أَو شبه ذَلِك فليعرفه ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن كَانَ فَوق ذَلِك فليعرفه (سَبْعَة) أَيَّام» وَلَفظ الطَّبَرَانِيّ: «من الْتقط لقطَة يسيرَة (ثوب أَو شبهه) فليعرفه ثَلَاثَة أَيَّام، وَمن الْتقط أَكثر من ذَلِك سِتَّة أَيَّام؛ فَإِن جَاءَ صَاحبهَا، وَإِلَّا فليتصدق بهَا، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فليخبره» .
رَوَاهُ أَحْمد عَن يزِيد بن هَارُون، ثَنَا إِسْرَائِيل [بن] يُونُس، عَن(7/155)
(عمر) وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبيد الله بن مُوسَى، عَن إِسْرَائِيل، وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يزِيد بن هَارُون، عَن إِسْرَائِيل كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ عمر هَذَا، وَقد ضعفه يَحْيَى بن معِين، ورماه جرير بن عبد الحميد وغيرُه بِشرب الْخمر. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِنَّه مَتْرُوك. وَجزم بضعفه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، وَقَالَ عبد الْحق: إِنَّه مُنكر الحَدِيث ضعيفه، ذكره ابْن أبي حَاتِم بعد أَن رَوَاهُ عَن حُكيمة عَن أَبِيهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من الْتقط لقطَة يسيرَة درهما أَو حبلاً (أَو شبه) ذَلِك فليعرفه ثَلَاثَة أَيَّام» وَقَالَ: يُقَال: هِيَ حُكيمة بنت غيلَان الثقفية.
قلت: تروي عَن زَوجهَا «يعْلى» فَقَط، وَفِي «مُسْند أَحْمد» رِوَايَتهَا هَذَا الحَدِيث عَن أَبِيهَا يعْلى، وَهُوَ فِي «الطَّبَرَانِيّ» و «الْبَيْهَقِيّ» رِوَايَته عَنْهَا عَن يعْلى، من غير تعْيين أَنه والدها، فَلْيتَأَمَّل ذَلِك. وَأما ابْن الْقطَّان: فَقَالَ فِي كِتَابه «الْوَهم وَالْإِيهَام» : حكيمة وأبوها مَجْهُولَانِ. وَهُوَ عجيبٌ مِنْهُ، وَتبع فِي ذَلِك ابْن حزم؛ فَإِنَّهُ لما ذكر هَذَا الحديثَ فِي «محلاه» قَالَ: لَا شَيْء، إِسْرَائِيل ضَعِيف، وَعمر بن عبد الله مَجْهُول، وحُكيمة عَن أَبِيهَا أنكر وَأنكر، ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض. هَذَا لَفظه، وَقَوله فِي إِسْرَائِيل عَجِيب؛ فقد احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّاس، وَرَوَاهُ عَنهُ يزِيد بن هَارُون وَعبيد الله بن مُوسَى، كَمَا سلف وَقَوله فِي عُمر أعجب مِنْهُ؛ فقد رَوَى عَنهُ جماعات، نعم هُوَ ضَعِيف، وَقَوله فِي حكيمة قد عرفت مَا فِيهَا، وَقَوله فِي يعْلى أغرب وَأغْرب، فقد أسلفنا من عِنْد أَحْمد(7/156)
وَالطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ أَنه (يعْلى) بن مُرَّة، وَهُوَ صَحَابِيّ مَشْهُور، وَقد أخرج هَذَا الحَدِيث أَحْمد فِي «مُسْنده» كَمَا أسلفناه، وَتَبعهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامعه» .
وَكَأن الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ لمَّا استشعر ضعف هَذَا الحَدِيث قَالَ: إِنَّه رُوي فِي بعض الْأَخْبَار. وَتبع فِي ذَلِك الإِمَام؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «نهايته» : إِن بعض المصنِّفين - وعنى بِهِ الفوراني فِي «الْإِبَانَة» - (اسْتدلَّ) بِهَذَا الحَدِيث، (ثمَّ قَالَ) : وَهَذَا إِن صَحَّ مُعْتَمد ظَاهر.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «مَا كَانَت الْأَيْدِي تقطع فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الشَّيْء التافه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة من حَدِيثهَا أَنَّهَا قَالَت: لم تكن تُقْطع يَد السَّارِق عَلَى عهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي أدنَى من ثمن الْمِجَن ترس أَو حجفة، و (كَانَ) كل وَاحِد مِنْهُمَا ذُو ثمن، وَإِن يَد السَّارِق لم تكن تقطع فِي زمن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الشَّيْء التافه» وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» إِلَى قَوْله: « (ذُو) ثمن» وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ الثَّانِي من كَلَام عُرْوَة، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا اللَّفْظ من قَول عُرْوَة، فقد [رَوَاهُ عَبدة](7/157)
بن سُلَيْمَان، وميز كَلَام عُرْوَة من كَلَام عَائِشَة، فَجعل الْقطعَة الْأَخِيرَة من كَلَامه، والقطعة الأولَى من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
تَنْبِيه: وَقع فِي كَلَام ابْن معِين أَن حَدِيث عَائِشَة هَذَا رَوَاهُ مُسلم، وَمرَاده أَصله لَا كُله، وَوَقع فِي «الْمُفْهم» للقرطبي عزو حَدِيث: «لم يكن (يَد) السَّارِق تقطع فِي الشَّيْء التافه» إِلَى البُخَارِيّ، وَلَيْسَ هُوَ فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَصله كَمَا أعلمتك، فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث الْخَامِس
«أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وجد دِينَارا، فَسَأَلَ (رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: هَذَا رزقك؛ فاشتر بِهِ دَقِيقًا وَلَحْمًا. فَأكل مِنْهُ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وعليٌّ وَفَاطِمَة، ثمَّ جَاءَ صاحبُ الدِّينَار يُنشد الدِّينَار، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا عَلّي، أَدِّ الدِّينَار» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث عبيد الله بن مقسم، عَن رجل، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وجد دِينَارا، فَأَتَى بِهِ فَاطِمَة [فَسَأَلت] عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ (رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) : هُوَ رزق (الله) فَأكل مِنْهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأكل عَلّي وفاطمةُ، فلمَّا كَانَ بعد ذَلِك أَتَتْهُ امْرَأَة تُنشد الدِّينَار، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا عَلّي، أدِّ الدِّينَار» .
وَرجل هَذَا مَجْهُول، لَا يعرف من هُوَ.(7/158)
ثَانِيهَا: من حَدِيث بِلَال بن يَحْيَى الْعَبْسِي عَن عَلّي: «أَنه الْتقط دِينَارا فَاشْتَرَى بِهِ دَقِيقًا، فَعرفهُ صَاحب الدَّقِيق؛ فردَّ عَلَيْهِ الدِّينَار، فَأَخذه عَلّي (فَقطع) مِنْهُ قيراطين، فَاشْتَرَى بِهِ لَحْمًا» .
وبلال هَذَا رَوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا، وَعَن عمر بن الْخطاب، وَهُوَ مَشْهُور بالرواية عَن حُذَيْفَة، وَقيل عَنهُ بَلغنِي عَن حُذَيْفَة، وَفِي سَمَاعه مِنْ عَلّي نظر. قَالَه كُله الْمُنْذِرِيّ.
ثَالِثهَا: من حَدِيث مُوسَى بن يَعْقُوب (الزمعِي) عَن أبي حَازِم، عَن سهل بن سعد: «أَن عَلّي بن أبي طَالب دخل عَلَى فَاطِمَة، وَحسن وحسين يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: مَا يبكيهما؟ ! قَالَت: الْجُوع! فَخرج عَلّي فَوجدَ دِينَارا بِالسوقِ، فجَاء إِلَى فَاطِمَة فَأَخْبرهَا، فَقَالَت: اذْهَبْ إِلَى فلَان الْيَهُودِيّ فَخذ لنا دَقِيقًا. فجَاء إِلَى الْيَهُودِيّ فَاشْتَرَى بِهِ دَقِيقًا، فَقَالَ الْيَهُودِيّ: أَنْت ختن هَذَا الَّذِي يزْعم أَنه رَسُول الله؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَخذ دينارك وَلَك الدَّقِيق. فَخرج عَلّي حَتَّى جَاءَ بِهِ فَاطِمَة فَأَخْبرهَا، فَقَالَت: اذْهَبْ إِلَى فلَان الجَزَّار فَخذ لنا مِنْهُ بدرهم لَحْمًا. فَذهب فرهن الدِّينَار بدرهم لحم، فجَاء بِهِ، فعجنت (ونصبت) وخبزت، وَأرْسلت إِلَى أَبِيهَا فَجَاءَهُمْ (فَقَالَ) : يَا رَسُول الله، أذكرُ لَك، فَإِن رَأَيْته حَلَالا أكلنَا(7/159)
وأكلت مَعنا، من شَأْنه كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: كُلُوا بِسم الله. فَأَكَلُوا مِنْهُ، فَبينا هم مكانهم إِذا غلامٌ ينشد الله وَالْإِسْلَام الدِّينَار، فَأمر بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، [فدعي لَهُ] فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: سقط مِني فِي السُّوق. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا عَلّي، اذْهَبْ إِلَى الجزار فَقل لَهُ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول لَك: أرسل إليَّ بالدينار ودرهمك عليَّ. فَأرْسل بِهِ، فَدفعهُ إِلَيْهِ» . ومُوسَى هَذَا وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بِهِ وبرواياته عِنْدِي. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَذكره من هَذَا الطَّرِيق صاحبُ «الْإِلْمَام» .
وَله طَرِيق رَابِع: أخرجه عبد الرَّزَّاق عَن أبي بكر بن أبي سُبْرَة، عَن شريك بن عبد الله، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: «أَن عليًّا جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِدِينَار وجده فِي السُّوق، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: عرِّفه ثَلَاثًا. فَفعل فَلم يجد أحدا يعرفهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كُله ... » وَذكر الحَدِيث، وَفِي آخِره: «فَجعل أجل الدِّينَار وَشبهه ثَلَاثَة أَيَّام» .
وَهَذَا إِسْنَاد واه، أَبُو بكر بن أبي سُبْرَة وضَّاع، كَمَا قَالَه أَحْمد وَغَيره، وَشريك هُوَ ابْن عبد الله بن أبي نمر، وَقد تُكلم فِيهِ، لكنه من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» من هَذَا الْوَجْه، فَقَالَ: أَنا الدَّرَاورْدِي، عَن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عَن عَطاء بن يسَار، عَن عَلّي: «أَنه وجد دِينَارا عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمره أَن يعرِّفه فَلم(7/160)
يُعرف، فَأمره أَن يَأْكُلهُ، ثمَّ جَاءَ صَاحبه، فَأمره أَن يغرمه» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : كَذَا فِي رِوَايَة الشَّافِعِي التَّعْرِيف، وَقد رُوي فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَسَهل بن سعد مَا دلّ عَلَى أَنه فِي الْوَقْت اشْتَرَى بِهِ طَعَاما، ثمَّ فِي حَدِيث أبي سعيد «أَن امْرَأَة أَتَت تُنشد الدِّينَار» وَفِي حَدِيث سهل: «إِذا غُلَام ينشده، فَأمره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بِأَدَائِهِ» قَالَ: وَالْأَحَادِيث فِي اشْتِرَاط المُدَّة أَكثر وَأَصَح إِسْنَادًا من هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَعَلَّه إِنَّمَا أنفقهُ قبل مُضي مُدَّة التَّعْرِيف للضَّرُورَة، وَفِي حَدِيثهمَا مَا دلّ [عَلَيْهِ] وَقَالَ فِي «سنَنه» : ظَاهر حَدِيث عَلّي هَذَا يدل عَلَى أَنه أنفقهُ قبل التَّعْرِيف فِي الْوَقْت (قَالَ:) وَقد روينَا عَن عَطاء بن يسَار، عَن عَلّي فِي هَذِه الْقِصَّة: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ أمره أَن (يعرِّفه) فَلم يعْتَرف؛ فَأمره أَن يَأْكُلهُ» قَالَ: وَظَاهر تِلْكَ الرِّوَايَة أَنه شَرط التَّعْرِيف فِي الْوَقْت، وأباح أكله قبل مُضِي السَّنة، وَالْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِي اشْتِرَاط التَّعْرِيف سنة فِي جَوَاز الْأكل أصح وَأكْثر، فَهِيَ أولَى. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون إِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ إِنْفَاقه قبل مُضِي سنة لوُقُوع الِاضْطِرَار [إِلَيْهِ] والقصة تدل عَلَيْهِ. قَالَ: وَيحْتَمل أَنه لم يشْتَرط مُضِي سَنَة فِي قَلِيل اللّقطَة. قَالَ: وَفِي متن هَذَا الحَدِيث اخْتِلَاف، وَفِي (إِسْنَاده) ضعف.
قلت: وَالِاحْتِمَال الأول جزم بِهِ القَاضِي أَبُو الطّيب، فَقَالَ: لَعَلَّ(7/161)
عليًّا لم يُعَرِّفه لاضطراره إِلَيْهِ، والمضطر يجوز لَهُ الِانْتِفَاع من مَال الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه. وَقَالَ غَيرهمَا: (لَعَلَّ تَأْوِيله) أَن التَّعْرِيف لَيْسَ لَهُ صِيغَة (يتعبد) بهَا، فمراجعة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى (مَلأ من) النَّاس إعلانٌ بِهِ، وَهَذَا (يُؤَكد) الِاكْتِفَاء بالتعريف مَرَّةً وَاحِدَة، قَالَ (هَذَا) الْقَائِل: وَإِنَّمَا (أول) لِأَنَّهُ لم يضر أحدا إِلَى إِسْقَاط أصل التَّعْرِيف.
الحَدِيث السَّادِس
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من وجد طَعَاما فليأكله وَلَا يُعَرِّفه» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده الْغَزالِيّ وَلم يذكر فِيهِ: «وَلَا يعرِّفه» وَلَفظه: «من الْتقط طَعَاما فليأكله» وَهُوَ غَرِيب، لم أَقف عَلَيْهِ فِي كتاب حديثٍ.
وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب و «التذنيب» : (هَذَا الحَدِيث) بِهَذَا اللَّفْظ لَا ذكر لَهُ فِي الْكتب - يَعْنِي: بِلَفْظ الْغَزالِيّ - نعم قد يُوجد فِي كتب الْفِقْه: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ فِيمَن وجد طَعَاما أكله وَلم يعرفهُ» قَالَ: وَالْأَكْثَرُونَ لم ينقلوا فِي الطَّعَام حَدِيثا، وَأخذُوا حكم مَا يفْسد من الطَّعَام من قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ فِي ضَالَّة (الْغنم) : «هِيَ لَك، أَو(7/162)
لأخيك ... » الحَدِيث، عَلَى عكس مَا فعل الْغَزالِيّ فِي الْكتاب؛ حَيْثُ جعل الحَدِيث فِي الطَّعَام أصلا، ثمَّ قَالَ: وَفِي مَعْنَاهُ: الشَّاة. وَكَذَا قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي «مطلبه» : هَذَا الحَدِيث لم أره فِيمَا وقفتُ عَلَيْهِ من كتب أَصْحَابنَا - يَعْنِي: الْفُقَهَاء.
الحَدِيث السَّابِع
قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ فِي حَدِيث زيد بن خَالِد: «فَإِن جَاءَ صاحبُها وَإِلَّا فشأنك بهَا» وَلم يفرِّق بَين الْغَنِيّ وَالْفَقِير.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف بَيَانه أول الْبَاب.
الحَدِيث الثَّامِن
رُوي «أَن أبي بن كَعْب وَجَدَ صُرة فِيهَا دَنَانِير، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخْبرهُ، فَقَالَ: عرفهَا حولا؛ فَإِن (جَاءَ) صَاحبهَا (فعَرَفَ) عَددهَا ووكاءَها فادفعها إِلَيْهِ، وَإِلَّا فاستمتع بهَا - وَكَانَ أُبي [عِنْده] من المياسير» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث سُوَيْد بن غَفلَة قَالَ: «خرجت أَنا وَزيد بن صوحان وسلمان(7/163)
بن ربيعَة [غازين] فَوجدت سَوْطًا فَأَخَذته، فَقَالَا لي: دَعه. فَقلت: لَا، وَلَكِنِّي أُعرّفه (فَإِن جَاءَ) صَاحبه، وَإِلَّا استمتعتُ بِهِ [قَالَ: فأبيت عَلَيْهِمَا] ، فلمَّا رَجعْنَا من غزاتنا قُضي لي [أَنِّي] حججْت، فَأتيت الْمَدِينَة، فلقيتُ أُبي بن كَعْب فَأَخْبَرته بشأن (السَّوْط) وبقولهما، فَقَالَ: إِنِّي وجدت صرة فِيهَا مائَة دِينَار عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[فَأتيت بهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] فَقَالَ: عرِّفها حولا. قَالَ: فعرَّفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ أتَيته، فَقَالَ: عرِّفها حولا [فعرفتها] فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ أتيتُه فَقَالَ: عرِّفها (حولا) فعرَّفتها، فَلم أجد من يعرفهَا فَقَالَ: (احفظ عَددهَا ووعاءها ووكاءها؛ فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وَإِلَّا فاستمتع بهَا. قَالَ: فاستمتعتُ بهَا. فَلَقِيته بعد ذَلِك بِمَكَّة، فَقَالَ: لَا أَدْرِي بِثَلَاثَة أَحْوَال أَو حَول وَاحِد» وَفِي رِوَايَة لَهما: «قَالَ شُعْبَة: فسمعتُه - يَعْنِي: سَلمَة بن كهيل - بعد عشر سِنِين (يَقُول: عرفهَا) عَاما وَاحِدًا» وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «عَاميْنِ أَو ثَلَاثَة» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِن جَاءَ أحد يُخْبِرك بعددها(7/164)
ووعائها ووكائها فأعِطها إِيَّاه» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَإِلَّا [فَهِيَ] كسبيل مَالِك» .
وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي: «لَا أَدَعهُ تَأْكُله السبَاع» يَعْنِي: السَّوْط.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَأَن سَلمَة بن كهيل [كَانَ] يشك فِيهِ، ثمَّ تذكره فَثَبت عَلَى (عَام) واحدٍ.
قَالَ: وَالْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِي اشْتِرَاط التَّعْرِيف سنة فِي جَوَاز (الْأكل) أصح وَأكْثر فَهِيَ أولَى، وَنقل القَاضِي أَبُو الطّيب بن الصّباغ عَن ابْن الْمُنْذر أَن الْمُسلمين أَجمعُوا عَلَى أَنه لَا يجب تَعْرِيفهَا ثَلَاثَة أحوالٍ، وَإِنَّمَا يجب حولا (وَاحِدًا) قَالَ: فَدَلَّ إِجْمَاعهم عَلَى أَن تِلْكَ الرِّوَايَة فِي الثَّلَاث غير صَحِيحَة. وَهَذَا غَرِيب مِنْهُ؛ فَهِيَ ثَابِتَة فِي «الصَّحِيحَيْنِ» كَمَا أسلفتها.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله؛ مَا نجد فِي السَّبِيل (العامر) من اللّقطَة؟ قَالَ: عرِّفها حولا؛ فَإِن جَاءَ صَاحبهَا، وَإِلَّا فَهِيَ لَك» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» من(7/165)
حَدِيث عَمرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئل عَن اللّقطَة، فَقَالَ: مَا كَانَ مِنْهَا (فِي) طَرِيق الميتاء والقرية الجامعة فعرِّفها سنة؛ فَإِن جَاءَ طالبها فادفعها إِلَيْهِ، وَإِن لم يَأْتِ فَهِيَ لَك، وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي الخراب - يَعْنِي: (فَفِيهَا) وَفِي الرِّكَاز الخُمس» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من هَذَا الْوَجْه، بِلَفْظ: «سَمِعت رجلا من مزينة يسْأَل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، اللّقطَة فِي السَّبِيل العامر؟ فَقَالَ: عرِّفها حولا، فَإِن وُجِدَ باغيها فأدِّها إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَهِيَ لَك» .
وَفِي إِسْنَاد أبي دواد وَأحمد عنعنة ابْن إِسْحَاق.
فَائِدَة: الميتاء: المسلوكة قَدِيما، سُميت بذلك لإتيان النَّاس لَهَا، قَالَه الْمَاوَرْدِيّ، قَالَ: ويُروى: «فِي طَرِيق مأتي» سُمِّي بذلك لإتيان النَّاس إِلَيْهَا. وَعبارَة ابْن الْأَثِير: الميتاء المطروق الَّذِي يَأْتِيهِ الناسُ كثيرا.
الحَدِيث الْعَاشِر
قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فشأنك بهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا تقدم أول الْبَاب من طَرِيق زيد بن خَالِد.(7/166)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن هَذَا الْبَلَد حرَّمه الله يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، لَا يُعضد شوكه، وَلَا يُنفر صَيْده، وَلَا تُلتقط لُقطته، إِلَّا من عرَّفها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عَبَّاس مطولا كَمَا سبق فِي مُحرمَات الْإِحْرَام. قَالَ الرَّافِعِيّ: ويُروى: «لَا تحل لقطته إِلَّا لِمُنْشِد» .
قلت: هَذِه الرِّوَايَة (صَحِيحَة) خرجها البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور.
فَائِدَة: فِي «المنشد» قَولَانِ:
أَحدهمَا: قَول أبي عبيد أَنه صَاحبهَا الطَّالِب، والناشد هُوَ الْوَاجِد، أَي لَا يحل أَن يُعْطِيهَا أحدا إِلَّا مَالِكهَا.
وَالثَّانِي: قَول الشَّافِعِي: إِن المنشد الْوَاجِد، والناشد الْمَالِك، أَي وَلَا تحل إِلَّا لمعرف يعرفهَا وَلَا يتملكُها.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «فَإِن جَاءَ (باغيها) فَعرف عفاصها (ووكاءها) فادفعها إِلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث حَمَّاد، ثَنَا سَلمَة(7/167)
بن كهيل، عَن سُوَيْد بن غَفلَة ... فَذكر الحَدِيث عَن أُبي بن كَعْب عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي اللّقطَة قَالَ فِي التَّعْرِيف: «عرفهَا عَاميْنِ أَو [ثَلَاثَة] ) وَقَالَ: «اعرف عَددهَا ووكاءها ووعاءها واستنفع بهَا؛ فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فَعرف عَددهَا ووكاءها (فادفعها) إِلَيْهِ» .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَيْسَ [يَقُول هَذِه الْكَلِمَة] إِلَّا حَمَّاد [يَعْنِي] : (فَعرف عَددهَا» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد أخرجه مُسلم من حَدِيث بهز عَن حَمَّاد بن سَلمَة، وَهَذِه اللَّفْظَة قد أَتَى بمعناها سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن سَلمَة بن كهيل، عَن سُوَيْد بن غَفلَة، عَن أُبي بن كَعْب عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي اللّقطَة، فَقَالَ: «اعرف) عَددهَا ووكاءها ووعاءها؛ فَإِن جَاءَ أحد أخْبرك بعددها ووكائها فادفعها إِلَيْهِ، وَإِلَّا فاستمتع بهَا» أخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن نمير، عَن الثَّوْريّ، ثمَّ ذكر حَدِيث زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ الَّذِي أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن يَحْيَى بن سعيد وَرَبِيعَة، عَن يزِيد مولَى المنبعث عَنهُ، وَلَفظه: «فَإِن جَاءَ باغيها(7/168)
فَعرف عفاصها (ووكاءها) وعددها: فادفعها إِلَيْهِ» ثمَّ أخرج الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث حَمَّاد، عَن عبيد الله بن عُمر، عَن عَمرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن (عَمْرو) (مَوْقُوفا) وَمَرْفُوعًا، وَفِيه: «فَإِن جَاءَ صاحبُها فَعرف عَددهَا وعفاصها فادفعها إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَهِيَ لَك» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: و (هَذِه) الزِّيَادَة الَّتِي زَادهَا حَمَّاد بن سَلمَة فِي حَدِيث سَلمَة بن كهيل وَيَحْيَى بن سعيد وَرَبِيعَة وَعبيد الله: «إِن جَاءَ صَاحبهَا فَعرف عفاصها ووكاءها فادفعها إِلَيْهِ) لَيست بمحفوظة، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد رَوَيْنَاهُ عَن الثَّوْريّ، عَن سَلمَة بن كهيل. ثمَّ قَالَ: وَيُشبه أَن تكون غير مَحْفُوظَة، كَمَا قَالَه أَبُو دَاوُد.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
رُوي: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر عليًّا أَن يغرم الدِّينَار الَّذِي وجده؛ لما جَاءَ صَاحبه» .
هَذَا الحَدِيث سلف (بَيَانه) فِي الْبَاب وَاضحا.
وَذكر الرَّافِعِيّ أثْنَاء الْبَاب أَن الجحش وصغار مَا لَا يُؤْكَل حكمهَا فى الْإِمْسَاك وَالْبيع حكم الْمَأْكُول، وَهل يجوز تملُّكه فِي الْحَال؟ فِيهِ وَجْهَان:(7/169)
أَحدهمَا: نعم، كَمَا يجوز أكل الْمَأْكُول. وأصحهما: لَا، حَتَّى يعرِّفها سنة كَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا جَازَ أكل الشَّاة للْحَدِيث. هَذَا لَفظه؛ وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يَقْتَضِي أكلهَا فِي الْحَال.
وَذكر الرافعيُّ فِي الْبَاب من الْآثَار: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَت لَهُ حَظِيرَة يحفظ فِيهَا الضَّوال» .
وَهُوَ (حسنٌ أَو) صحيحٌ، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن ابْن شهَاب، أَنه سَمعه يَقُول: «كَانَ ضوال الْإِبِل فِي زمَان عُمر بن الْخطاب إبِلا مؤبلة تتناتج، لَا يمسُّها أحدٌ، حَتَّى إِذا كَانَ زمَان عُثْمَان بن عَفَّان أَمر (بتعريفها) ثمَّ تبَاع؛ فَإِذا جَاءَ صَاحبهَا أُعطي ثمنهَا» مَعْنَى «موثلة» : مُهْملَة.
وَذكر فِيهِ أَيْضا من الْآثَار، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا قَالَت: «لَا بَأْس بِمَا دون الدِّرْهَم أَن يستنفع بِهِ» وَهُوَ غَرِيب، لَا يحضرني من خَرَّجه عَنْهَا.(7/170)
كتاب اللَّقِيط(7/171)
كتاب اللَّقِيط
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَة آثارٍ:
أَحدهَا: عَن (سِنِين أبي) جميلَة: «أَنه وجد مَنْبُوذًا، فجَاء بِهِ إِلَى عمر بن الْخطاب، فَقَالَ: مَا حملك عَلَى أَخذ هَذِه النَّسمة؟ فَقَالَ: وجدتُها ضائعة فأخذتها. فَقَالَ عريفه: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّه رجل صَالح. فَقَالَ: كَذَلِك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: اذْهَبْ فَهُوَ حر، وَلَك وَلَاؤُه، وعلينا نَفَقَته» .
هَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» تَعْلِيقا فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو جميلَة: (وجدت مَنْبُوذًا، فَلَمَّا رَآنِي عمر قَالَ: عَسى الغوبر أبؤسًا. كَأَنَّهُ يتهمني، قَالَ عريفي: إِنَّه رجل صَالح. قَالَ: كَذَلِك، اذْهَبْ وعلينا نَفَقَته) .
وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن ابْن شهَاب، عَن أبي جميلَة رجل من بني سليم: «أَنه وجد مَنْبُوذًا فِي زمَان عمر بن الْخطاب، فجَاء بِهِ إِلَى عمر بن الْخطاب، فَقَالَ: مَا حملك عَلَى أَخذ هَذِه النَّسمَة؟ قَالَ: وَجدتهَا ضائعة فأخذتها. فَقَالَ لَهُ عريفي: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّه رجل صَالح. فَقَالَ: أَكَذَلِك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: اذْهَبْ ... » فَذكره إِلَى آخِره.(7/173)
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك، كَذَلِك قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة وَقَالَ غَيره - يَعْنِي الشَّافِعِي - عَن مَالك: «وَنَفَقَته علينا من بَيت المَال» .
قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: «وَلَك وَلَاؤُه» أَي (أجرته) وَالْقِيَام بحفظه، فأمَّا الْوَلَاء الْمَعْرُوف فَإِنَّمَا هُوَ للْمُعْتق؛ لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق» . قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَأَبُو جميلَة رجل مَجْهُول. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد قَالَه الشَّافِعِي أَيْضا فِي كتاب الْوَلَاء، فَإِن ثَبت كَانَ مَعْنَاهُ مَا قُلْنَاهُ.
قلت: أَبُو جميلَة (هَذَا عده) ابْن حبَان وَابْن مَنْدَه وَغَيرهمَا فِي الصَّحَابَة، وَأخرج لَهُ (البُخَارِيّ) فِي الْمَغَازِي من «صَحِيحه» : أَنه أدْرك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وحَجَّ مَعَه عَام الْفَتْح، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: حج مَعَه حجَّة الْوَدَاع. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: رَوَى عَنهُ الزُّهْرِيّ وَزيد بن أسلم.
قلت: وَرَوَى أَيْضا عَن أبي بكر، وعُمرَ أَيْضا.
فَائِدَة: «سُنَين» هَذَا: بسين مُهْملَة مَضْمُومَة، ثمَّ نون مَفْتُوحَة، وَوَقع فِي نُسَخ الرَّافِعِيّ بِالْفَاءِ بدلهَا، وَهُوَ من تَحْرِيف (النساخ) ثمَّ يَاء مُخَفّفَة، وحُكي تشديدها، ثمَّ نون. و «جَمِيلة» : بِفَتْح الْجِيم، وَكسر الْمِيم.(7/174)
فَائِدَة ثَانِيَة: اسْم هَذَا العريف: سِنَان، كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي «تَعْلِيقه» وَقد أوضحت (طَرِيق) هَذَا الْأَثر وفوائده فِي «تخريجي لأحاديث المهذَّب» فأغنى عَن ذكره هُنَا؛ فسارع إِلَيْهِ تَجِد مُهمات ونفائس، وَللَّه الْحَمد.
الْأَثر الثَّانِي: «أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه دَعَاهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل بُلُوغه إِلَى الْإِسْلَام؛ فَأَجَابَهُ» .
وَهَذَا الْأَثر مَشْهُور عَنهُ.
رَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث (أبي) عبد الله الشَّامي، عَن النجيب بن السّري قَالَ: قَالَ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فى حديثٍ ذكره: «سبقتهم إِلَى الْإِسْلَام قِدمًا غُلَاما، مَا بلغتُ أَوَان حُلُمِى» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا شَائِع فِيمَا بَين النَّاس من قَول عَلّي، إِلَّا أَنه لم يَقع إِلَيْنَا بإسنادٍ يُحتج بِمثلِهِ. قَالَ: وَاخْتلف أهل الْعلم فِي سِنِّه يَوْم أسلم، فَروِيَ عَن عُرْوَة: «أَنه أسلم وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين» وَعَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَمُجاهد: «أَنه كَانَ ابْن عشر» وَعَن شريك: «ابْن إِحْدَى عشرَة» وَعَن الْحسن وَغَيره: «ابْن خمس عشرَة أَو سِتّ عشرَة» وَعَن ابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ دفع الرَّايَة إِلَى عَلّي يَوْم بدر وَهُوَ ابْن عشْرين سنة» .
وَهَذَا أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ووقعة بدر كَانَت بَعْدَمَا قدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ الْمَدِينَة بِسنة وَنصف، وَاخْتلفُوا فِي مِقْدَار مقَامه بِمَكَّة بَعْدَمَا بُعث، فَقيل: عشرا،(7/175)
وَقيل: ثَلَاث عشرَة، وَقيل: خمس عشرَة، فَإِن كَانَت عشرا وَصَحَّ أَن عليًّا كَانَ ابْن عشْرين (سنة) يَوْم بدر: رَجَعَ سنه يَوْم أسلم إِلَى قريب مِمَّا قَالَه عُرْوَة بن الزبير، وَإِن كَانَت ثَلَاث عشرَة أَو خمس عشرَة (فَإلَى) أقل من ذَلِك. قَالَ: وَاخْتلفُوا فِي سنّ عَلّي يَوْم قُتل؛ فَقيل: خمس وسُتُّون، وَقيل: ثَلَاث و (سِتُّونَ) ، وَقيل أقل من ذَلِك، وأشهره: ثَلَاث وَسِتُّونَ عَلَى رَأس أَرْبَعِينَ من مهَاجر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَيرجع سِنُّه يَوْم أسلم عَلَى قَول من قَالَ: (مكث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَكَّة عشرا إِلَى ثَلَاث عشرَة. وَعَلَى قَول من قَالَ) ثَلَاث عشرَة؛ إِلَى عشر سِنِين. فَفِي أَكثر الرِّوَايَات كَانَ بلغ من السِّن حِين صَلَّى مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قدرا يحْتَمل أَن يكون احْتَلَمَ (فِيهِ) وَمَا رُوي من الشِّعر (فَيحْتَمل التَّأْوِيل) مَعَ ضعف إِسْنَاده، عَلَى أَن الحكم بِصِحَّة قَول الْبَالِغ دون الصَّبِي الْمُمَيز وَقع (شَرعه) بعد إِسْلَام عَلّي، فإسلامه كَانَ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ إِمَّا لِأَنَّهُ بَقِي حَتَّى وصف الْإِسْلَام بعد بُلُوغه، أَو لِأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خاطبه بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَام، وَغَيره من الصّبيان غير مُخاطَب، أَو لِأَن قَول الصَّبِي الْمُمَيز إِذْ ذَاك كَانَ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ قبل وُرُود الشَّرْع بِغَيْرِهِ، أَو كَانَ قد احْتَلَمَ فَصَارَ بَالغا.
هَذَا وَقد ذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وغيرُ وَاحِد فِي رِوَايَة قَتَادَة إِلَى أَن(7/176)
عليًّا أسلم وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة، أَو سِتّ عشرَة سنة، كَمَا مَضَى ذكره. وضعَّف ابْن الْجَوْزِيّ مقَالَة الْحسن هَذِه، قَالَ: فَإِن كَانَ لَهُ يَوْم المبعث ثَمَان سِنِين وعاش بعد المبعث ثَلَاثًا وَعشْرين سنة، وَبَقِي بعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَحْو الثَّلَاثِينَ، فَهَذِهِ مقاربة السِّتين، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيح فِي مِقْدَار عمره.
ثمَّ رَوَى عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه قَالَ: «قُتل عَلّي وَهُوَ ابْن ثَمَان وَخمسين» . قَالَ: وَمَتى قُلْنَا أَنه كَانَ (لَهُ) يَوْم إِسْلَامه خَمْسَة عشر صَار عمره ثَمَانِيَة وَسِتِّينَ، وَلم يقل بِهِ أحد.
الْأَثر الثَّالِث: عَن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه اسْتَشَارَ الصَّحَابَة فِي نَفَقَة اللَّقِيط، فَقَالُوا: فِي بَيت المَال» .
وَهَذَا الْأَثر تبع فِي إِيرَاده الْمَاوَرْدِيّ وَصَاحب «المهذَّب» وَلم أَقف عَلَى من خرجه، (وَأثر عمر السالف فِي قَوْله «وَنَفَقَته علينا من بَيت المَال» مُغنِي عَنهُ) وَاقْتَضَى كَلَام (ابْن الْمُنْذر) أَن ذَلِك قَول عَامَّة أهل الْعلم.
الْأَثر الرَّابِع: أَن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ «الْغُلَام) ألحقهُ الْقَافة بالمتنازعين مَعًا: أَيُنسب؟ !» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح.(7/177)
رَوَى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي، عَن أنس بن (عِيَاض) ، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن يَحْيَى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب: «أَن رجلَيْنِ تداعيا، فَدَعَا لَهُ عمرُ الْقَافة، فَقَالُوا: لقد اشْتَركَا فِيهِ. فَقَالَ عُمر: وَإِلَى أَيهمَا يُنْسَبُ؟» . وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن مَالك، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سُلَيْمَان بن يسَار، عَن عمر بِمثل مَعْنَاهُ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن مطرف بن مَازِن، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عُمر بن الْخطاب؛ بِمثل مَعْنَاهُ (و) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث يَحْيَى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب، عَن أَبِيه قَالَ: «أَتَى رجلَانِ إِلَى عُمر يختصمان فِي غُلَام من أَوْلَاد الْجَاهِلِيَّة، يَقُول هَذَا: هُوَ ابْني. وَيَقُول هَذَا: هُوَ ابْني. فَدَعَا عمر قائفًا من بني المصطلق، فَسَأَلَهُ عَن الْغُلَام، فَنظر إِلَيْهِ المصطلقي (وَنظر) ثمَّ قَالَ لعمر: قد اشْتَركَا فِيهِ جَمِيعًا. فَقَامَ عمر إِلَيْهِ بِالدرةِ فَضَربهُ بهَا، قَالَ ... » فَذكر الحَدِيث. قَالَ: «فَقَالَ عمرُ للغلام: اتبع أَيهمَا شِئْت. فَاتبع الْغُلَام أَحدهمَا. قَالَ عبد الرَّحْمَن: فَكَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ مُتبعا لأَحَدهمَا يذهب. وَقَالَ عمرُ: قاتلَ اللَّهُ أَخا بني المصطلق» . وَفِي رِوَايَة عَن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب: «أَن عمر قَضَى فِي رجلَيْنِ ادَّعيا رجلا، لَا يُدْرَى أَيهمَا أَبوهُ، فَقَالَ عمر: اتبع أَيهمَا شِئْت» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا إِسْنَاد صحيحٌ مَوْصُول. وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن سُلَيْمَان(7/178)
بن يسَار: «أَن عمر بن الْخطاب كَانَ (يُلحق) أَوْلَاد الْجَاهِلِيَّة بِمن ادَّعاهم فِي الْإِسْلَام، قَالَ سُلَيْمَان: فَأَتَى رجلَانِ كِلَاهُمَا يدَّعي ولد امْرَأَة، فَدَعَا عمر بن الْخطاب قائفًا فَنظر إِلَيْهِمَا، فَقَالَ الْقَائِف: لقد اشْتَركَا فِيهِ. فَضَربهُ عمر بالدِّرة، ثمَّ قَالَ للْمَرْأَة: أَخْبِرِينِي خبرك. فَقَالَت: كَانَ هَذَا - لأحد الرجلَيْن - يَأْتِيهَا وَهِي فِي إبل أَهلهَا، فَلَا يفارقها حَتَّى يظنّ أَن قد اسْتمرّ بهَا حمل، ثمَّ انْصَرف عَنْهَا، فأهريقت دَمًا، ثمَّ خلف عَلَيْهَا - تَعْنِي: هَذَا الآخر - فَلَا أَدْرِي من أَيهمَا هُوَ. فكبَّر الْقَائِف، فَقَالَ عمر بن الْخطاب للغلام: وَال أَيهمَا شِئْت» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذِه الرِّوَايَة شاهدة لما قبلهَا، وَالله أعلم.(7/179)
كتاب الْفَرَائِض(7/181)
كتاب الْفَرَائِض
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث أَرْبَعَة و [عشْرين] حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تعلَّمُوا الْفَرَائِض وعلمِّوها الناسَ؛ فَإِنِّي امْرُؤ مَقْبُوض، وَإِن الْعلم سَيُقْبَضُ وَتظهر الْفِتَن، حَتَّى يخْتَلف الِاثْنَان فِي الْفَرِيضَة وَلَا يجدان مَنْ يفصل بَينهمَا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل - فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ وَلَده عبد الله - من حَدِيث أبي الْأَحْوَص عَنهُ، بِلَفْظ: «تعلمُوا الْقُرْآن وعلِّموه، وتعلموا الْفَرَائِض وعلمِّوُها الناسَ؛ فَإِن الْعلم مَقْبُوض، والعِلْم مَرْفُوع، ويوشك أَن يخْتَلف اثْنَان فِي الْفَرِيضَة وَالْمَسْأَلَة فَلَا يجدان أحدا يخبرهما» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث شريك [عَن] عَوْف، عَن سُلَيْمَان [بن] جَابر،(7/183)
عَن ابْن مَسْعُود، رَفعه: «تعلمُوا الْفَرَائِض وعلِّموها الناسَ، وَإِن الْعلم (سَيُقْبض) حَتَّى يخْتَلف الِاثْنَان فِي الْفَرِيضَة فَلَا يجدان مَنْ يفصل بَينهمَا» .
ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث ابْن الْمُبَارك، عَن عَوْف، قَالَ: بَلغنِي عَن سُلَيْمَان بن جَابر قَالَ: قَالَ عبد الله بن مَسْعُود: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تعلَّموا الْفَرَائِض وعلِّموها الناسَ، وتعلَّموا الْعلم وعلِّموه النَّاس؛ فَإِنِّي مَقْبُوض، وَإِن الْعلم (سيُقْبَض) وَتظهر الْفِتَن، حَتَّى يخْتَلف الِاثْنَان فِي الْفَرِيضَة فَلَا يجدان إنْسَانا يفصلُ بَينهمَا» .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي أُسَامَة، عَن عَوْف، عَن رجل، عَن سُلَيْمَان بن جَابر الهجريّ، عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا بِمَعْنى حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث النَّضر بن شُميل، عَن عَوْف، عَن سُلَيْمَان بِهِ: «تعلمُوا الْفَرَائِض وعلِّموها النَّاس؛ فَإِنِّي امرؤٌ مقبوضٌ، وَإِن الْعلم سَيُقْبض وَتظهر الْفِتَن، حَتَّى يخْتَلف اثْنَان فِي الْفَرِيضَة فَلَا يجدان مَنْ يفصل بَينهمَا» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: وَله عِلّة عَن أبي بكر(7/184)
بن إِسْحَاق - يعْنى: ابْنَ خُزَيْمَة - عَن بشر بن مُوسَى، عَن [هَوْذَة] بن خَليفَة، عَن عَوْف، عَن رجلٍ، عَن سُلَيْمَان بِهِ سَوَاء، إِلَّا أَنه قَالَ: «فَلَا يجدان مَنْ يفصل بَينهمَا» ، وَلم يذكر: «وَتظهر الْفِتَن» .
قَالَ الْحَاكِم: وَإِذا اخْتلفَا فالحكْم للنضر بن شُمَيْل.
يَعْنِي: أَن النَّضر رَوَاهُ عَن عَوْف، عَن سُلَيْمَان، عَن عبد الله بن مَسْعُود، بِإِسْقَاط رجلٍ، قَالَ الْمزي فِي «أَطْرَافه» : رَوَاهُ عُثْمَان بن الْهَيْثَم الْمُؤَذّن، عَن عَوْف، عَن رجلٍ يُقَال لَهُ: سُلَيْمَان بن جَابر، وَحَدِيث أبي أُسَامَة وهْمٌ. وَسَبقه إِلَى ذَلِك ابْنُ عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» .
ولمَّا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عَمرو بن حُمران، عَن عَوْف، عَن سُلَيْمَان بن جَابر قَالَ: قَالَ عبد الله بن مَسْعُود: قَالَ لي(7/185)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (تعلَّموا الْقُرْآن وعلِّموه الناسَ، وتعلَّموا الْفَرَائِض وعلِّموها الناسَ، وتعلَّموا العِلْم وعلِّموه الناسَ؛ فَإِنِّي امرؤٌ مقبوضٌ، وَإِن الْعلم سَيُقْبض وَتظهر الْفِتَن، حَتَّى يخْتَلف الِاثْنَان فِي الْفَرِيضَة (فَلَا يجدان) مِنْ يفصل بَينهمَا)
قَالَ: تَابعه جماعةٌ، وَرَوَاهُ الْمثنى بن بكر، عَن سُلَيْمَان بن جَابر، عَن أبي الْأَحْوَص، عَن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِهَذَا.
وَقَالَ: الْفضل بن [دلهم] عَن عَوْف، عَن شهر، عَن أبي هُرَيْرَة.
قلت: وَهَذَا اخْتِلَاف آخر، وَسليمَان بن جَابر هَذَا مَجْهُول الْعين وَالْحَال، لَا جَرَم جزم ابْنُ الصّلاح فِي (مسلكه) بضَعْفِهِ.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تعلمُوا الْفَرَائِض؛ فَإِنَّهَا من دِينكم، وَإنَّهُ نصف العِلْم، وَإنَّهُ أوَّلُ مَا يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه مَرْفُوعا: «يَا أَبَا هُرَيْرَة، تعلمُوا الْفَرَائِض وعلمِّوه» .(7/186)
وَقَالَ ابْن مَاجَه: «وعلِّموهاِ فَإِنَّهُ نصف الْعلم [وَهُوَ يُنسى] وَهُوَ أوَّلُ شيءٍ يُنْزَع من أمتِي» .
لم يُضعفهُ الْحَاكِم، بل سكت عَنهُ، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف؛ لِأَن فِي إِسْنَاده حَفْص بن عُمر بن أبي العطاف الْمدنِي، وَهُوَ واهٍ، ثمَّ رُمي بِالْكَذِبِ، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَأعله بِهِ ابْنُ حبَان فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» وَقَالَ: حَفْص هَذَا يَأْتِي بأَشْيَاء (كلِّها) مَوْضُوعَة، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ بحالٍ. وأمَّا الْبَيْهَقِيّ فَإِنَّهُ أَلاَنَ القولَ فِيهِ؛ فَقَالَ فِي «سنَنه» : تفرد بِهِ حفصُ بن عُمر، وَلَيْسَ بالقويّ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث شهر بن حَوْشَب، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «تعلمُوا الْقُرْآن والفرائض وعلموها النَّاس؛ فَإِنِّي امرؤٌ مَقْبُوض» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث فِيهِ اضْطِرَاب، وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَسدي، وَقد ضعفه أحمدُ بْنُ حَنْبَل وغيرُه.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» وَقد سُئِلَ عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: يرويهِ عَوْف الأعرابيُّ، واخْتُلف عَنهُ؛ فَرَوَاهُ الْفضل(7/187)
بن [دلهم] عَن عَوْف عَن شهر عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَخَالفهُ ابْنُ بكر فَرَوَاهُ عَن عَوْف عَن سُلَيْمَان بن جَابر عَن أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله مَرْفُوعا [وَقَالَ أَبُو أُسَامَة: عَن عَوْف، عَن رجل، عَن سُلَيْمَان بن جَابر، عَن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] وَلم يذكر أَبَا الْأَحْوَص، والمرسل أصح.
وأجْمَلَ ابْنُ الصّلاح القَوْل فِي تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: رُوي من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَابْن مَسْعُود، وَأَسَانِيده ضَعِيفَة.
فَائِدَة: حمل الرافعيُّ وغيرُه قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «إِنَّهَا نصف الْعلم» عَلَى أَن للْإنْسَان حَالَة حياةٍ وموتٍ، وَفِي الْفَرَائِض مُعظم الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِحَال الْمَوْت. قَالَ ابْن الصّلاح: وَيكون لفظ «النّصْف» هُنَا عبارَة عَن القِسْم الْوَاحِد وَإِن لم يتساويا، كَقَوْلِه:
إِذا مِتُّ كَانَ النَّاس نِصْفَانِ شَامِتٌ
وَآخر مُثن بِالَّذِي كنتُ أصنَعُ
وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: إِنَّمَا قيل لَهَا: «نصف العِلم» لِأَنَّهُ يُبْتَلى بِهِ النَّاس كلهم. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ.
وَقيل: لِأَن العِلم يُسْتَفَادُ بالنَّص تَارَة وبالقياس أُخْرَى، والعِلم بِاعْتِبَار أَصله صنْفان أَو نصْفان، وَهَذَا الْعلم مُسْتَفَاد مِنَ النَّص؛ فَكَانَ صِنْفًا أَو نِصْفًا بِهَذَا الِاعْتِبَار، وَإِن [قيل] : فِي الْفَرَائِض مَا ثَبت بِغَيْر نصٍّ. قُلْنَا: حُكْمها ثَبت بِهِ؛ فَكَانَ بِهِ الِاعْتِبَار. حَكَاهُ ابْنُ الرّفْعَة فِي «مطلبه» .(7/188)
تَنْبِيه: حَدِيث عبد الله بن عَمْرو الْمَرْفُوع: «العلْم ثَلَاثَة، وَمَا سِوَى ذَلِك فَهُوَ فضل: آيةٌ مُحْكَمةٌ، أَو سُنَّةٌ قائمةٌ، أَو فَرِيضَة عادلةٌ» .
خَرَّجه د، ق، وَفِيه عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد الإفْرِيقِي وَفِيه ضَعْف، يدل عَلَى أَنَّهَا ثلث الْعلم، وَهُوَ يَنْتَظِم من جَعل «النّصْف» فِي الْخَبَر قبله بِمَعْنى القِسْم، حينئذٍ لَا يكون بَينهمَا تنَاقض، وَيجوز أَن يُقَال كَمَا قَالَه صَاحب «الْمطلب» إِنَّمَا جَعَل فِيهِ ثُلثا العِلْم يُستفاد بِالْكتاب والسُّنَّة وَالْقِيَاس، وَكلهَا ثَابِتَة بِالْكتاب، فَلذَلِك جعل ثُلُثًا.
قلت: قَوْله: «كلهَا» أَي: غالبها، وَإِلَّا فبعضها بالسُّنَّة.
قَالَ: وَيجوز أَن يُقَال: جُعِلتْ ثلثا؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِن الله لم [يَكِل] قسم مواريثكم» الْخَبَر يَقْتَضِي أَن العِلْم يُستفاد بالنَّص من جِهَة الله والنبيِّ المرسَل والملَكِ المقرب، والفرائض محصورة فِي كتاب الله، فكانتْ لهَذَا الِاعْتِبَار ثُلُثًا.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ» .
هَذَا الحَدِيث يُرْوى من حديثِ أنسٍ، وابْنِ عُمر، وَأبي سعيدٍ الخدريِّ، وغيرِهِمْ.
أما حَدِيث أنس، فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَالنَّسَائِيّ(7/189)
وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيثه مَرْفُوعا: «أرحمُ أُمَّتي بِأُمَّتي أَبُو بكر، وأشدُّها حَيَاء عُثْمَان، وأعلَمُهَا بالحلال وَالْحرَام معَاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله - تَعَالَى - أُبِيّ، وأعلَمُهَا بالفرائض زيد، وَلكُل أُمَّةٍ أمينٌ، وأمينُ هَذِه الأُمّة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: إِسْنَاده صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: «أَفْرَضُ أُمَّتي زيد» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَرَوَى البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» اللَّفْظَة الْأَخِيرَة مُقْتَصرا عَلَيْهَا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لِأَن ذَلِك لم يسمعهُ أَبُو قلَابَة من أنسٍٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُنْقَطع.
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا بِلَفْظ: «أَرْحَمُ أُمَّتي بأُمَّتي [أَبُو] بكر، وأشدُّهُم فِي أمْر الله عُمر، و [أَصْدَقُهُمْ] حَيَاء عُثْمَان، وأَفْرَضُهُم زيد بن ثَابت» وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ. وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا فِي «مُسْنده» كَذَلِك، إِلَّا أَنه قَالَ: «وأشدُّهَا فِي دِينِ الله عُمرُ» وَالْبَاقِي مثله، إِلَّا أَنه قَالَ فِيهِ: «وأصدَقُهَا» و «أقْرَؤها» و «أَعْلَمُهَا بالفرائض زيد» .
وأمّا حَدِيث ابْن عُمر، فَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة(7/190)
ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «إِن أَرْأف أُمَّتي بهَا أَبُو بكر ... » إِلَى أَن قَالَ: «وَإِن أَفْرَضُهَا زيد بن ثَابت» .
وأمّا حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فَرَوَاهُ أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ مَرْفُوعا: «أَفْرَضُ أُمتي زيد بن ثَابت، وأقضاهم عليٌّ ... » الحَدِيث.
وَرَوَاهُ ابْن الْأَنْبَارِي فِي كِتَابه «الرَّد عَلَى مَنْ خالفَ مصحف عُثْمَان» بِلَفْظ: «وأَفْرَضُهُمْ زيد» .
وَفِيه زيد العمِّي، وَلَيْسَ بالقويّ، وسلاَّم الطَّوِيل، وَقد تَرَكُوهُ.
وَله طَرِيق رَابِع وخامس ذكرتُهما فِي «تخريجي لأحاديث الْوَسِيط» مَعَ بَيَان وَهن تَضْعِيف ابْن حَزْمٍ لَهُ، فراجِعْهُ مِنْهُ تَجِد نفائِسَ.
فَائِدَة: اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «أَفْرَضُكُمْ زيد» عَلَى أقوالٍ خَمْسَة، ذكرهَا الماورديُّ فِي «حاويه» :
أَحدهَا: أَنه قَالَ ذَلِك حثًّا عَلَى (مناقشته) وَالرَّغْبَة فِي تعلمه كَرَغْبَتِهِ؛ لِأَن زيدا كَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى الْفَرَائِض.
ثَانِيهَا: أَنه قَالَ ذَلِك تَشْرِيفًا لَهُ، وإنْ شَاركهُ غيرُهُ فِيهِ، كَمَا قَالَ: « (أقضاُكُم) عليٌّ» . وَمَعْلُوم أَن أعرف الناسِ (بِالْقضَاءِ) هُوَ أَعْرَفُهُم بالفرائض؛ لِأَن ذَلِك من جُمْلة القضايا.
ثَالِثهَا: أَنه أَشَارَ بذلك إِلَى جماعةٍ من الصَّحَابَة كَانَ زيدٌ أفرضَهُمْ،(7/191)
وَيرد هَذِه الرِّوَايَة السالفة: «أفْرَضُ أُمَّتي زيد بن ثَابت» .
رَابِعهَا: أَنه أَرَادَ بذلك أَن زيدا كَانَ أَشَّدهم عناية وحرصًا (عَلَيْهِ) .
خَامِسهَا: أَنه قَالَ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ كَانَ أصحَّهُم حسابا وأسرعَهُمْ جَوابًا.
وَذكر غَيره جَوَابًا آخر: أنَّ «من» مقدَّرة فِيهِ.
الحَدِيث الرَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ورَّث بِنْتَ حَمْزَة مِنْ مولَى لَهَا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى - وَهُوَ ضعيفٌ - عَنِ الحكم، عَن عبد الله بن شَدَّاد، عَن بنت حَمْزَة وَهِي أختُ ابْنِ شَدَّاد لأُمِّه قَالَت: «مَاتَ مولَايَ وَترك (ابْنَته) ؛ فقسَّم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مالَهُ بيني وبَيْنَ ابْنَتِهِ، فَجعل لي النصفَ وَلها النّصْف» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن شَدَّاد: «أَن ابْنة حَمْزَة بن عبد الْمطلب أعتقتْ مَمْلُوكا [لَهَا] ، فَمَاتَ وَترك ابْنَتَهُ ومولاَتَهُ، فورثته ابْنتَهُ النّصْف وَابْنَة حَمْزَة النّصْف» . ثمَّ قَالَ: وَهَذَا أَولى بِالصَّوَابِ مِنَ الَّذِي قَبْله، وَابْن أبي لَيْلَى كثير الْخَطَأ.(7/192)
وَذكره كَذَلِك الحاكمُ فِي (ترجمتهما) من «مُسْتَدْركه» وصرَّح بِأَن اسْمهَا أُمامة. وَذكره أَيْضا أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث همام، عَن قَتَادَة، عَن سلْمَى ابْنة حَمْزَة: «أَن مَوْلَاهَا مَاتَ وَترك ابْنَتَهُ، فورَّث النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ابْنَتَهُ النّصْف ويعلى النّصْف - وَكَانَ ابْنَ سَلْمَى» .
وَذكره أَيْضا أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِنَّه أصح. وَقد رُوي أَن الْمولى كَانَ لِحَمْزَة، قَالَ ابْنُ الصّلاح: وَالْأول هُوَ الصَّحِيح. (و) رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث جَابر بن زيد، عَن (ابْن) عَبَّاس: «أَن مولَى لِحَمْزَة تُوفي وَترك ابْنَته وَابْنَة حَمْزَة، فَأعْطَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ابْنَتَهُ النّصْف، وابْنَةَ حَمْزَة النّصْف» . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النخعيِّ وَيَحْيَى بن آدم وَإِسْحَاق (بن) رَاهَوَيْه أَن الْمولى كَانَ لِحَمْزَة قَالَ الْمجد فِي «أَحْكَامه» : فإنْ صحَّتْ هَذِه الرِّوَايَة الأُوْلى لم تقدح فِي هَذِه الرِّوَايَة؛ لِأَن المُحْتَمَل تعدُّدُ الْوَاقِعَة، ومِنَ المحتَمل أَنه أضَاف مولَى الْوَالِد إِلَى الْوَلَد بِنَاء عَلَى القَوْل بانتقاله إِلَيْهِ أَو توريثه.
قلت: لَكِن فِي هَذِه الرِّوَايَة سُلَيْمَان (بن) دَاوُد، وَهُوَ (الشَّاذكُونِي) ضعَّفوه، وكذَّبه ابْن معِين وغيرُه، وَقَالَ أَبُو حَاتِم:(7/193)
مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ البُخَارِيّ: هُوَ عِنْدِي أَضْعَف من كلِّ ضَعِيف.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : [وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن] سَلمَة بن كهيل وَالشعْبِيّ عَن عبد الله بن شَدَّاد: «أَن ابْنة حَمْزَة أعْتَقَتْ مَمْلُوكا ... ) الحَدِيث.
قَالَ: ابْنُ شَدَّاد أَخُو بنت حَمْزَة من الرضَاعَة، والْحَدِيث مُنْقَطع.
قلت: بل هُوَ أَخُوهَا لأُمِّها كَمَا تقدَّم. وَقد قيل: عَن الشّعبِيّ عَن عبد الله بن شَدَّاد [عَن ابْنة حَمْزَة] وكل هَؤُلَاءِ الروَاة عَن عبد الله بن شَدَّاد أَجمعُوا عَلَى أَن ابْنة حَمْزَة هِيَ الْمُعتقَة. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النخعيّ: تُوفيِّ مولَى لِحَمْزَة بن عبد الْمطلب؛ فَأعْطَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ابْنة حَمْزَة النّصْف طُعْمَةً، وَقبض النصفَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا غلط، وَقد قَالَ شريك: تقحم [إِبْرَاهِيم] هَذَا القَوْل تقحمًا، إِلَّا أَن يكون سمع شَيْئا فَرَوَاهُ.
فَائِدَة: قد أسلفنا أَن ابْنة حَمْزَة اسْمهَا أُمامة، أَو سَلْمَى، وَحَكَى الْمزي فِي «أَطْرَافه» قولا آخر، أَن اسْمهَا: أَمَةُ اللَّهِ، قَالَ: وَقيل:(7/194)
(هِيَ) أُمُّ الْفضل. وَسَيَأْتِي زِيَادَة عَلَى ذَلِك فِي بَاب الْحَضَانَة، إِن شَاءَ الله وقدَّره.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَنا وارثُ مَنْ لَا وَارِث لَهُ، أعْقِلُ عَنهُ وأَرِثُهُ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من رِوَايَة رَاشد بن سعد، عَن أبي عَامر الْهَوْزَنِي، عَن الْمِقْدَام بن معدي كرب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ تَرَكَ كَلا فإليَّ - وَرُبمَا قَالَ: فَإلَى الله وَرَسُوله - ومَنْ ترك مَالا فلورثته، وَأَنا وارثُ مَنْ لَا وَارِث لَهُ، (وأعْقِلُ عَنهُ وأَرِثًُهُ، وَالْخَال وَارِث مَنْ لَا وَارِث لَهُ) يَعْقِلُ عَنهُ ويَرِثُهُ» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَأَنا أَوْلى بِكُلِّ مؤمنٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَمَنْ ترك دَيْنًا أَو ضَيْعَةً فإليَّ، ومَنْ ترك مَالا فلورثته، وَأَنا مولَى مَنْ لَا مولَى لَهُ، أَرِثُ مالَهُ وأَفُكُّ عَانَهُ، وَالْخَال مولَى مَنْ لَا مولَى لَهُ، يَرِثُ مَاله ويَفُكُّ عانَهُ» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ الزبيدِيّ عَن رَاشد بن سعد، عَن ابْن عائذٍ، عَن الْمِقْدَام، وَرَوَاهُ مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن رَاشد قَالَ: سَمِعت الْمِقْدَام. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مثل طَرِيق أبي دَاوُد الأُولى. وَرَوَاهُ أَيْضا عَن رَاشد(7/195)
بن سعد، عَن الْمِقْدَام نَحوه، وَلَيْسَ فِي [مَتنه] ذكْر «الْخَال» ، وَلَا فِي إِسْنَاده ذكْر أبي عَامر.
وَرَوَاهُ أَيْضا عَن رَاشد بن سعد عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ: وَهُوَ مُرْسل.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا عَن شُعْبَة، عَن بديل بن ميسرَة، عَن عليّ بن أبي طَلْحَة، عَن رَاشد، عَن أبي عَامر، عَن الْمِقْدَام بِلَفْظ أبي دَاوُد الأوَّل.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عليّ بن أبي طَلْحَة بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: إِنَّه حَدِيث حسن. حَكَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» وَقَالَ (ابْن) الْقطَّان: كلُّ رِجَاله مَا بهم بأسٌ.
قلت: وَعلي هَذَا وَثَّقَهُ الْكُوفِي، وَقَالَ أَحْمد: لَهُ أَشْيَاء مُنكرَات. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من طَرِيقين عَن رَاشد بن سعد، عَن أبي عَامر، عَن الْمِقْدَام. (وَعَن رَاشد أَن [ابْن عَائِذ] حدَّثه أَن الْمِقْدَام) حدَّثهم، ثمَّ قَالَ: سمع هَذَا الْخَبَر راشدُ عَن أبي(7/196)
عَامر [الْهَوْزَنِي عَن الْمِقْدَام، وسَمعه عَن عبد الرَّحْمَن بن عَائِذ] الأزديّ عَن الْمِقْدَام، قَالَ: فَالطَّرِيقَانِ جَمِيعًا محفوظان ومتناهما متباينان. وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : أَن شُعْبَة وَحَمَّاد وَإِبْرَاهِيم بن طهْمَان رَوَوْهُ عَن بديل عَن ابْن أبي طَلْحَة، عَن رَاشد، عَن أبي عَامر، عَن الْمِقْدَام، وَأَن مُعَاوِيَة بن صَالح خالفهم، فَلم [يذكر] «عامرَ» بَيْنَ «رَاشد» و «الْمِقْدَام» ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَالْأول أشبه بِالصَّوَابِ. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهُوَ عَلَى مَا قَالَ؛ فَإِن ابْن أبي طَلْحَة (ثِقَة) وَقد زَاد فِي الْإِسْنَاد مَنْ يتّصل بِهِ، فَلَا يَضُرُّه إرْسَال مَن قطعهُ وَإِن كَانَ ثِقَة، فَكيف إِذا كَانَ فِيهِ مقَال، فنرى هَذَا الحَدِيث صَحِيحا. ذكره عقب قَول عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : اخْتلف فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ المنذريُّ: فَروِيَ عَن رَاشد بن سعد [عَن أبي عَامر الْهَوْزَنِي] عَن الْمِقْدَام، ورُوي عَن رَاشد بن سعد عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (خلافياته» : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بالقويّ؛ رَوَاهُ رَاشد بن سعد، وَأَبُو عَامر عبد الله بن لُحيِّ الْهَوْزَنِي، وهما مِمَّن يَحْتَجُّ بِهِ الشَّيْخَانِ، وَهُوَ حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ.
وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وَهُوَ ضَعِيف، غير مُحْتَجٍّ بِهِ، وَقَالَ فِيهِ(7/197)
وَفِي شبه هَذَا الحديثِ: كَانَ يَحْيَى بن معِين يُبطلهُ وَيَقُول: لَيْسَ فِيهِ حَدِيث قويّ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد أَجمعُوا عَلَى أَن الْخَال الَّذِي لَا يكون ابْنَ عَمٍّ، أَو مولَى لَا يعقل بالخئولة، فخالفوا الحديثَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ فِي الْعقل، فَإِن كَانَ ثَابتا، فَيُشبه أَن يكون فِي وقتٍ كَانَ يُعقل بالخؤلة، ثمَّ صَار الْأَمر إِلَى غير ذَلِك، أَو أَرَادَ خالاً يعقل؛ بِأَن يكون ابْنَ عَمٍّ أَو مولَى، أَو اخْتَار وضع مَاله فِيهِ إِذا لم يكن لَهُ وَارِث سواهُ.
قلت: وَلِحَدِيث الْمِقْدَام هَذَا طَرِيق ثَان؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَقَالَ: حَسَنٌ. وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عُمر مَرْفُوعا: «الله ورسولُه مولَى من لَا مولَى لَهُ، وَالْخَال وَارِث مَنْ لَا وَارِث لَهُ» .
وَله طَرِيق ثَالِث، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عَمرو بن مُسلم عَن طَاوس عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «الْخَال وَارِث مَنْ لَا وَارِث لَهُ» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَقد أرْسلهُ بَعضهم. وَقَالَ عبد الْحق: اخْتلف فِيهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: عَمرو هَذَا لَيْسَ بالقويّ. وَقد(7/198)
اخْتلف عَلَى ابْن جريج فِيهِ، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِي الدِّين فِي «الْإِلْمَام» : عَمرو هَذَا أخرج لَهُ مُسلم وبعضُهم، وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط (الشَّيْخَيْنِ) وَلم يخرجَاهُ. كَذَا زعم، والبخاريُّ لم يُخَرِّج لِعَمرو هَذَا - وَقد أسلفنا غير مرَّة أَن مثل هَذَا لَا يرد عَلَى الْحَاكِم - وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن رفْعه وهْمٌ. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ، وَأَن الصَّوَاب وَقْفه. قَالَ: وَلم يُرو هَذَا الحديثُ من وَجه يَصح. وَقَالَ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» : أحسنُ إِسْنَاد فِيهِ حَدِيث أبي أُمَامَة بن سهل قَالَ: «كتب عُمرُ بن الْخطاب إِلَى أبي عُبَيْدَة بن الْجراح: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الله ورسولُه مولَى مَنْ لَا مولَى لَهُ، وَالْخَال وَارِث مَنْ لَا وَارِث لَهُ» .
قلت: وَهَذَا طَرِيق رَابِع، وَقد أخرجه ابْن السكن فِي «صحاحه» أَيْضا، وقبلهما أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» - وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» - ثمَّ قَالَ: حسن. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَإِنَّمَا لم يُصَحِّحهُ؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة حَكِيم بن حَكِيم عَن أبي أُمَامَة، وَحَكِيم لَا تُعرف عَدَالَته. (قلت) لَكِن ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَأخرج(7/199)
الحديثَ فِي «صَحِيحه» مِنْ جِهَة عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث الرَّاوِي عَن حَكِيم، قَالَ أَحْمد: إِنَّه مَتْرُوك. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بالقويّ. وَقَالَ ابْن نمير: لَا أَقْدُمُ عَلَى ترك حَدِيثه.
ثمَّ اعْلَم أَنه وَقع فِي «أَحْكَام عبد الْحق الْكُبْرَى» و «الْوُسْطَى» عَن حَكِيم بن [حَكِيم] قَالَ: «كتب عُمر ... » فَذكره، فَسقط مِنْهُ ذكْرُ أبي أُمَامَة، فَتنبه لَهُ.
الحَدِيث السَّادِس
روُي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «سألتُ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عَن مِيرَاث العَمَّة وَالْخَالَة، فسارَّني جبريلُ أَن لَا مِيرَاث لَهما» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة (مسْعدَة) بن الْيَسَع الْبَاهِلِيّ، عَن مُحَمَّد بن عَمرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن مِيرَاث العَمَّة وَالْخَالَة؛ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى يأتيني جِبْرِيل. ثمَّ قَالَ: أَيْن السَّائِل عَن مِيرَاث العَمَّة وَالْخَالَة؟ قَالَ: فَأَتَى الرجلُ، فَقَالَ: سارَّني جِبْرِيل أَنه لَا شَيْء لَهما» .
ثمَّ قَالَ: لم يسْندهُ غير مسْعدَة عَن ابْن عَمرو، وَهُوَ ضَعِيف،(7/200)
وَالصَّوَاب مُرْسل.
ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث الدَّرَاورْدِي، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَكِبَ إِلَى قبَاء يستخير فِي مِيرَاث العَمَّة وَالْخَالَة؛ فَأنْزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: أَن لَا مِيرَاث لَهما» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» هَكَذَا، و (الثَّانِي) من رِوَايَة زيد بن أسلم أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا أجد لَهما شَيْئا» .
وَكَذَا أخرجه عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة، وَرَوَى الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» حَدِيث عَطاء بن يسَار، لَكِن وَصله بذكْر أبي سعيد الخدريِّ بعد عَطاء، لَكِن فِي إِسْنَاده ضرار بن صرد أَبُو نعيم الطَّحَّان، وَهُوَ هالكٌ، لَكِن رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» مَوْصُولا، لَا يُدْرَى مَنْ هَذَا الرجل؟ وَلَا بَأْس بِإِسْنَادِهِ.
وَرَوَى الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» أَيْضا مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة، عَن شريك بن أبي (نمر) أَن الْحَارِث بن عَبْدٍ أخبرهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن مِيرَاث العمَّة وَالْخَالَة؛ فسكتَ؛ فَنزل جبريلُ - عَلَيْهِ السَّلَام -؛ فَقَالَ: حدَّثني جبريلُ أَن لَا مِيرَاث لَهما» .(7/201)
قلت: وَفِيه سُلَيْمَان الشَّاذكُونِي، وَقد عرفتَ حَاله قَرِيبا.
قَالَ الذَّهَبِيّ: وَهُوَ مُرْسل، أَي لِأَن الْحَارِث بْنَ عَبْدٍ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابنَا، بل لَا أعرف حالَه أَيْضا، وَالْحَاكِم - رَحِمَهُ اللَّهُ - استشهدَ بِهَذَا الحَدِيث، لحَدِيث عبد الله بن جَعْفَر عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر قَالَ: «أَقْبَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى حمارٍ، فَلَقِيَهُ رجلٌ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، رجلٌ ترك عمته وخالته، لَا وَارِث لَهُ غيرُهما؟ فَرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء، فَقَالَ: اللَّهُمَّ رجلٌ ترك عَمَّته وخالته لَا وَارِث لَهُ غَيرهمَا. ثمَّ قَالَ: (أَيْن) السَّائِل؟ قَالَ: (هاأنا ذَا) قَالَ: لَا مِيرَاث لَهما» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد؛ فَإِن عبد الله بن جَعْفَر المدينى وَإِن شهد عَلَيْهِ ابْنه بِسوء الْحِفْظ فَلَيْسَ مِمَّن يُتْرك حَدِيثه، وَقد صحَّ بِهَذِهِ الشواهد.
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ركب إِلَى قبَاء يستخير الله - تَعَالَى - فِي العَمَّة وَالْخَالَة، ثمَّ قَالَ: أُنْزِل عليَّ أَن لَا مِيرَاث لَهما» .
هَذَا الحَدِيث سلف فِي الحَدِيث قبله وَاضحا، وَأَنه رُوي مُتَّصِلاً ومُرْسَلاً.(7/202)
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ألحِقُوا الْفَرَائِض (بِأَهْلِهَا) فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى رجلٍ ذكَر» .
وَفِي رِوَايَة: «فلأوْلى عصبَة ذَكَرٍ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بِاللَّفْظِ الأول.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «اقْسِمُوا المَال بَين أهل الْفَرَائِض عَلَى كتاب الله، فَمَا تركتْ الفرائضُ فلأوْلى رجل ذَكَرٍ» .
وَأما اللَّفْظ الثَّانِي فغريبٌ، والرافعي تبع فِي إيرادها الْغَزالِيّ، وَهُوَ تَبِعَ إمَامَهُ، وَزَاد - أعْنِي: الرافعيَّ -: فادَّعى شهرتها، كَمَا ستعلمه قَرِيبا، فَلَا يحضرني مَنْ خَرَّجها عِوَضًا عَن شهرتها، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد شهرتها فِي كُتُبِ الْفُقَهَاء والفرضيين، لَا فِي كُتب أهْل الْفَنّ، وَأفَاد ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» أَن هَذِه اللَّفْظَة لَا تُحْفظ، وَقَالَ ابْن الصّلاح: فِيهَا نظر وبُعْد عَن الصِّحَّة من حَيْثُ الرِّوَايَة، (و) مِنْ حَيْثُ اللُّغَة؛ فَإِن «الْعصبَة» فِي اللُّغَة اسْم للجمْع، وإطلاقها عَلَى الواحدِ مِنْ كَلَام العامَّة، وأشباهها من الْخَاصَّة.(7/203)
الحَدِيث التَّاسِع
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الِاثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة» .
هَذَا الحَدِيث يرْوَى من (طرق) :
أَحدهَا: من طَرِيق أَبَى مُوسَى الأشعرىّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أخرجه ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» . والعقيلي فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَإِسْنَاده ضَعِيف - (وَإِن ذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» ) ؛ الرّبيع بن بدر بن عَمرو (عليلة) وَهُوَ واهٍ، وَأَبوهُ وجَدُّه مَجْهُولَانِ، قَالَه الذَّهَبِيّ، وَعَجِيب من الْحَاكِم فِي إِخْرَاجه لَهُ فِي «مُسْتَدْركه» لكنه سكت عَنهُ، فَلم يُصَحِّحهُ وَلم يُضعفهُ، ولمَّا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» قَالَ: فِي إِسْنَاده الرّبيع وَهُوَ ضَعِيف. وَقَالَ: ورُوي من وجْهٍ آخر بإسنادٍ ضعيفٌ، ثمَّ أخرجه من حَدِيث أنسٍ مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
الطَّرِيق الثَّانِي: من طَرِيق أنسٍ، وَقد فَرغْنَا مِنْهَا آنِفا، وَأعله عبدُ(7/204)
الْحق بِسَعِيد بن زَرْبِي، وابْنُ الْقطَّان بعبَّاد الدَّوْرَقِي وَقَالَ: لَا أعرفهُ فِي غير هَذَا.
الطَّرِيق الثَّالِث: من طَرِيق عَمرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جدِّه مَرْفُوعا، كَذَلِك رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَإِسْنَاده أَيْضا ضَعِيف، فِيهِ عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن (الوقاصي) الواهِي، قَالَ خَ: تَرَكُوهُ.
الطَّرِيق الرَّابِع: من طَرِيق الحكم بن عُمَيْر مَرْفُوعا كَذَلِك، رَوَاهُ ابْن عدي (من حَدِيث) بَقِيَّة عَن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان قَالَ: حَدثنِي ابْن أبي حبيب - يَعْنِي: عمَّه مُوسَى بن أبي حبيب - قَالَ: سمعتُ الحَكَم ... فَذكره، وَإِسْنَاده أَيْضا ضَعِيف كَمَا ترَى، وَأعله عبد الْحق بِعِيسَى الْمَذْكُور وَقَالَ: إِنَّه مُنكر الحَدِيث ضعيفه. وَاعْتَرضهُ ابْنُ الْقطَّان فَقَالَ: مُوسَى ضَعِيف، وَبَقِيَّة من قد علمتَ حَاله فِي رِوَايَة الْمُنْكَرَات، (فَمَا) يَنْبَغِي أَن يُحمل فِيهِ عَلَى عِيسَى، وَقد اكتنفه ضعيفان من أَسْفَل وَمن فَوق.
الطَّرِيق الْخَامِس: من طَرِيق أبي أُمَامَة: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأَى رجلا يُصَلِّي، فَقَالَ: أَلا رجلٌ يتصدَّق عَلَى هَذَا فَيصَلي مَعَه؟ فَقَامَ رجل(7/205)
يُصَلِّي مَعَه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هذانِ جمَاعَة» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث عبيد الله بن زحر، عَن عَلّي بن يزِيد، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة، وَهَذَا سَنَد واهٍ جدًّا.
الطَّرِيق السَّادِس: من طَرِيق أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «اثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جماعةٌ» .
رَوَاهُ ابْن الْمُغلس فِي كِتَابه «الموضح» عَن عليّ بن يُونُس بن السكن، ثَنَا إِبْرَاهِيم بن عَبْدِ الرَّزَّاق الضَّرِير، ثَنَا عَلّي بن يَحْيَى، ثَنَا عِيسَى بن يُونُس، عَن مُحَمَّد بن عَمرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ. وَهَذَا سَنَد فِيهِ مَنْ لَا (يعرف) ، قَالَ الشَّاشِي فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الْمُسْتَصْفَى» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح لجَهَالَة بعض رُوَاته.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب قَالَ: «جَاءَت الجَدَّةُ إِلَى أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه تسأله مِيرَاثهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ فِي كتاب الله شَيْء، وَمَا علمتُ لكِ فِي سُنَّة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْئا؛ فارجعي حَتَّى أسأَل النَّاس. فَسَأَلَ النَّاس؛ فَقَالَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة: شهدتُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَعْطَاهَا السُّدس. فَقَالَ: هَل مَعَك غَيْرك؟ (فَقَامَ) مُحَمَّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغيرَة، (فأنْفَذَ) لَهَا أَبُو بكر، ثمَّ جاءتِ (الْجدّة) الأخْرى إِلَى عُمر تسأله مِيرَاثهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ فِي كتاب الله شَيْء، وَمَا كَانَ الْقَضَاء الَّذِي قُضي(7/206)
بِهِ إِلَّا لغيركِ، وَمَا أَنا بزائد فِي الْفَرَائِض شَيْئا، وَلَكِن هُوَ ذَاك السُّدس، فَإِن اجتمعتما فَهُوَ بَيْنكُمَا، و (أيكما) خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَأَصْحَاب «السّنَن» الْأَرْبَعَة: د ت ق ن، من حديثٍ ابْن شهَاب، عَن عُثْمَان بن إِسْحَاق بن خَرشَة، عَن قبيصَة (بِهِ) .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح حسن.
وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَرَوَاهُ أَيْضا الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِدُونِ ذكْر الجدَّة الثَّانِيَة، وَكَذَا أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» ، ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وأمَّا عبد الْحق فأعله بالانقطاع فَقَالَ: هَذَا حَدِيث لَيْسَ بِمُتَّصِل السماعِ فِيمَا أعلم، وَهُوَ مَشْهُور. وبَيَّنَه ابْن الْقطَّان فَقَالَ: الَّذِي ظنَّه أَبُو مُحَمَّد مِنْ عَدَمِ الِاتِّصَال إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَين قبيصَة وَأبي بكر وعُمر، وَإنَّهُ ليقوي مَا تخوف، وَلَكِن قد أعرض عَن ذَلِك التِّرْمِذِيّ(7/207)
فصححه، وَهُوَ لَا يَقُول ذَلِك فِي الْمُنْقَطع، فَهُوَ عِنْده مُتَّصِل. وسبقهما إِلَى ذَلِك أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَإِنَّهُ قَالَ فِي «مُحَلاَّه» بعد أَن سَاقه من طَرِيق مَالك: لَا يَصح، حَدِيث قبيصَة مُنْقَطع؛ [لإنه] لم يدْرك أَبَا بكر، وَلَا سَمعه من الْمُغيرَة وَلَا مُحَمَّد. وتبعهم المنذريُّ فَقَالَ فِي «مُخْتَصر السّنَن» : فِي سَماع قبيصَة بن ذُؤَيْب من الصدِّيق نظرٌ؛ فَإِن مولده عَام الْفَتْح، وَقد قيل: إِنَّه وُلد فِي أوَّل سَنَةٍ من الْهِجْرَة، والأوَّل حَكَاهُ غيرُ واحدٍ، وَعَلَى الثَّانِي يرْتَفع الْإِشْكَال. وَجزم المزيُّ بِأَن رِوَايَته عَنْهُمَا مُرْسلَة، وَقَالَ شَيْخُنَا صلاحُ الدِّيْن العلائيُّ فِي «مراسيله» : الْأَصَح أَن مولده عَام الْفَتْح. فقوَّى الْإِشْكَال، وَجزم ابْنُ عبد الْبر؛ فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ حَدِيث مُرْسل عِنْد بعض أهل الْعلم؛ لِأَنَّهُ لم يُذْكر فِيهِ سماعٌ لقبيصة من أبي بكر، وَلَا شُهُود لتِلْك الْقِصَّة، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُتَّصِل؛ لِأَن قبيصَة بن ذُؤَيْب أدْرك الصدِّيق، وَله سنّ لَا يُنْكَرُ مَعهَا سَمَاعه من أبي بكر. وَقبيصَة وُلِدَ عَام الْفَتْح، وَعُثْمَان بن إِسْحَاق السالف لَا أعرف حَاله، وَلم يَرْوِ عَنهُ غير الزُّهْرِيّ فِيمَا أعلم، لَكِن تَصْحِيح التِّرْمِذِيّ وَغَيره لحديثه يُؤذِنُ بِمَعْرِِفَة حَاله، وَكَذَا إِخْرَاج مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) (لَهُ) وَعَلَى كل حالٍ فَهُوَ حُجَّة؛ لِأَنَّهُ إمَّا مُرْسل صحابيٍّ، أَو لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون سَمعه بعد ذَلِك من المغيرةَ أَو مُحَمَّد بن مسلمة، وَتَصْحِيح التِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم(7/208)
لَهُ (وقبلهم الإِمَام مَالك كَاف) ، وَقد قَالَ ابْن الْمُنْذر: (أجمع) أهلُ الْعلم عَلَى أَن للجدة السُّدس إِذا لم تكن أُمّ، وَهَذَا عاضدٌ لَهُ أَيْضا.
وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ فِي «علله» : أخْتُلِف فِي إِسْنَاده، فَرَوَاهُ مَالك من حَدِيث الزهريّ عَن عُثْمَان بن إِسْحَاق بن خَرشَة عَن قبيصَة، وَتَابعه أَبُو أويس، عَن الزُّهْرِيّ، وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة: عَن الزُّهْرِيّ عَن رجلٍ لم يُسَمِّه، عَن قبيصَة، وَرَوَاهُ جماعاتٌ عَن الزُّهْرِيّ عَن قبيصَة، لم يذكرُوا بَينهمَا أحدا، وَيُشبه أَن يكون الصَّوَاب مَا قَالَه مَالك، وَأَبُو أويس، وَأَن الزُّهْرِيّ لم يسمعهُ من قبيصَة، إِنَّمَا سَمعه من عُثْمَان عَنهُ.
فَوَائِد: الأولَى: فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: «جَاءَت الْجدّة» وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: «جاءتِ الجَدَّةُ أُمُّ الأُمِّ، أَو أُمُّ الْأَب إِلَى أبي بكر» وَفِي لفظٍ للنسائي: «أَن الجدَّةَ أُمَّ الأُمِّ أتتْ أَبَا بكر» ، وَابْن الْأَثِير لمَّا رَوَى هَذَا الحَدِيث عَن «الْمُوَطَّأ» قَالَ فِي أوَّله: «جَاءَت الجَدَّةُ أُمُّ الأُمِّ» وَفِي رِوَايَة: «أُمُّ الْأَب إِلَى أبي بكر» وَالْقَاضِي حُسَيْن قَالَ: إِن [الَّتِي] جاءتْ إِلَى الصدِّيق أُمُّ الأُمِّ، وَإِلَى عُمرَ أُمُّ الْأَب.
الثَّانِيَة: كَانَ يَكْفِي قَول الْمُغيرَة، لَكِن طلبَ الصديقُ أَن يكون مَعَه غَيره احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّهُ أمرٌ عظيمٌ فَإِذا وَقَعَ اشْتهر، كَمَا فعل عمرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَعَ(7/209)
أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي الاسْتِئْذَان.
الثَّالِثَة: قَوْله: «وأيُّكما خلتْ بِهِ» أَي انفردتْ، مَأْخُوذ من الْموضع (الْخَالِي) الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أحدٌ.
الرَّابِعَة: قَالَ ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» : حَدِيث إِعْطَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الجَدَّةَ السُّدس رَوَاهُ معقلُ بن يسَار، و [بُرَيْدَة] بْنُ الْحصيب، وعمرانُ بْنُ حُصَيْن أَيْضا.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن [بُرَيْدَة] رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جعل للجدة السُّدس إِذا لم تكن دونهَا ًأمّ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث عبيد الله بن (عبد الله الْعَتكِي) عَن عبد الله بن [بُرَيْدَة] عَن أَبِيه مَرْفُوعا كَذَلِك، وَعبيد الله هَذَا فِيهِ مقالٌ أسلفتُه فِي أَوَاخِر صَلَاة التَّطَوُّع، وَقَالَ(7/210)
الشَّيْخ تَقِيّ الدِّين فِي «الْإِلْمَام» عقب إِيرَاده الحَدِيث: عبيد الله وُثِّق. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صالحٌ. وَأنكر عَلَى البُخَارِيّ إِدْخَاله فِي كتاب «الضُّعَفَاء» وَقَالَ: يحول. وَاقْتصر عَلَى ذَلِك، وَلم يذكر ضعْفَهُ، وَقد أسلفنا هُنَاكَ عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ فِي حَقه: عِنْده مَنَاكِير. وَذكر ابْنُ السكن فِي «صحاحه» هَذَا الحديثَ، وَفِيه النّظر الْمَذْكُور، وَأوردهُ القاضى (أَبُو الطّيب) بلفظٍ عَن [بُرَيْدَة] : «أَنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ - أعْطى الجَدَّةَ أُمَّ الأُمِّ إِذا لم يكن دونهَا أُمّ السُّدس» . وَلم أره كَذَلِك.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعْطى السُّدس ثَلَاث جَدَّاتٍ: جَدَّتَيْن مِنْ قِبَلِ الْأَب، وَوَاحِدَة مِنْ قبل الأُمِّ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن يزِيد مُرْسلا.
وَرَوَاهُ هُوَ، وَأَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: «أطْعَمَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاث جدَّاتٍ سُدُسًا. قلت لإِبْرَاهِيم: مَا هُنَّ؟ (قَالَ) : جدتاك من قبل أَبِيك،(7/211)
وجَدَّة [من قبل] أُمك» .
وَرَوَاهُ (الدَّارَقُطْنِيّ) أَيْضا، وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا من رِوَايَة الحَسَن: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ ورَّث ثَلَاث جَدَّاتٍ»
وَهَذَا أَيْضا مُرْسل، قَالَ الْبَيْهَقِيّ (وَفِيه تَأْكِيد للمرسل الثَّانِي وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة. ثمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيّ) بِإِسْنَادِهِ عَن مُحَمَّد بن نصر قَالَ: جَاءَت الْأَخْبَار عَن الصَّحَابَة وَعَن جمَاعَة من التَّابِعين أَنهم ورَّثوا ثَلَاث جَدَّاتٍ، مَعَ الحَدِيث الْمُنْقَطع الَّذِي رُوي عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنه ورَّث ثَلَاث جَدَّاتٍ. وَلَا نعلم (عَن أحد) من الصَّحَابَة (خلاف) ذَلِك، إِلَّا مَا روينَا عَن سَعْد بن أبي وَقاص أَنه قَالَ لِابْنِ مَسْعُود: «أَنْتُم (الَّذين) تَفْرِضُون لثلاث جدَّاتٍ؟ ! ، كَأَنَّهُ يُنكر ذَلِك» (مِمَّا) لَا يثبت (أهل) الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ إِسْنَاده.(7/212)
الحَدِيث الثَّالِث عشر
«أَن امْرَأَة من الْأَنْصَار أتَتِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمَعَهَا ابنتان، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، هَاتَانِ ابنتا سَعْد بن الرّبيع، قُتِلَ أَبوهُمَا مَعَك يَوْم أُحُد، وَأخذ عَمُّهُمَا مَالَهُ، واللَّهِ لَا تُنْكَحَان وَلَا مَال لَهما، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يقْضِي الله - تَعَالَى - فِي ذَلِك. فَنزل قَوْله تَعَالَى: (فَإِن كُنَّ نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك) ، فَدَعَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَرْأَة وعَمَّهُمَا، فَقَالَ: أعْطِ البنتين الثُّلُثَيْنِ، والمرأةَ الثُّمُن، وخُذِ الْبَاقِي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن جَابر قَالَ: «جَاءَت امرأةُ سَعْدِ بْنِ الرّبيع بابنتيها من سَعْدِ ... » الحَدِيث بِطُولِهِ.
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَذكر ذَلِك فِي موضِعين من كتاب الْفَرَائِض، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث (حسن صَحِيح) ، لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل. وَنقل عبد الْحق: أَن(7/213)
التِّرْمِذِيّ صَححهُ، ورأيتُه فِي النّسخ الْمُعْتَمدَة مَضْرُوبا عَلَى ذَلِك.
تَنْبِيه: فِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «جاءتِ امرأةٌ بابنتين، فَقَالَت: يَا رَسُول الله: هَاتَانِ بِنْتا ثابتِ بْن قيس ... .» الحديثَ، وَهِي خطأ، قَالَ أَبُو دَاوُد: أَخطَأ فِيهِ [بشر] ؛ هما ابنتا سَعْدِ بن الرّبيع. ثمَّ رَوَاهُ كَرِوَايَة الْجَمَاعَة، ثمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ الْأَصَح. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ: قيل: إِن الرِّوَايَة غلط؛ لِأَن ثَابت بن قيس بَقِي بعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، حَتَّى شهد الْيَمَامَة فِي عهد أبي بكر.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
عَن هزيل - بالزاي - بن شُرَحْبِيل قَالَ: «سُئل أَبُو مُوسَى عَن بِنْتٍ وبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْت، فَقَالَ: للْبِنْت النّصْف، وَللْأُخْت النّصْف، وائت ابْنَ مَسْعُود، فسيتابعني. فَسَأَلَ ابْنَ مَسْعُود، وَأخْبر بقَوْل أبي مُوسَى، فَقَالَ: لقد ضللتُ إِذن وَمَا أَنا من المهتدين، لأقضِيَنَّ فِيهَا بِمَا قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: للابنة النّصْف، ولابنة الابْن السُّدس [تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ] وَمَا بَقِي فللأخت. فأتينا (أَبَا) مُوسَى فَأَخْبَرنَاهُ بقول ابْنِ مَسْعُود، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الحَبْر فِيكُم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» هَكَذَا، من(7/214)
حَدِيث أَبَى قيس عبد الرَّحْمَن بن ثروان، عَن هُزَيْل بِهِ.
وَعبد الرَّحْمَن هَذَا وَإِن تكلَّم فِيهِ أَحْمد فَقَالَ: يُخَالف فى أَحَادِيث. وَأَبُو حَاتِم فَقَالَ: لَيِّن. وَقد احْتج بِهِ خَ و (صحّح) لَهُ ت.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَقَالُوا: «جَاءَ رجل إِلَى أبي مُوسَى وسلمان بن ربيعَة؛ فَسَأَلَهُمَا عَن ابْنة وَابْنَة ابْن (و) أُخْت لأَب وأُمّ ... .» وَذكروا نَحوه.
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
فَائِدَة: هُزَيل: بِضَم الْهَاء، وَفتح الزَّاي الْمُعْجَمَة، وَقد صحَّفه الْفُقَهَاء ب «هُذَيْل» بِالذَّالِ؛ فاجتنبه؛ وَلِهَذَا قيَّده الرَّافِعِيّ فِي مَتْن الرِّوَايَة بالزاي كَمَا سلف، حَذَرًا مِنْ هَذَا، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : هُوَ بالزاي، بِاتِّفَاق كلِّ الْعلمَاء مِنْ كل الطوائف.
قلت: وَهُوَ كُوفِي تابعيّ، وَكَانَ أَعْمَى. و «شُرَحبيل» : بِفَتْح الرَّاء، وَعَن ابْن البرزي إسْكانُها، وَهُوَ غَرِيب، وشرحبيل عجمي لَا ينْصَرف، قَالَ القَاضِي حُسَيْن: والحبر: الْفَقِيه: وَيُقَال: بِفَتْح الْحَاء وكَسْرها. وَالْمرَاد ب «الْقَضَاء» : الفُتْيا لَا الْإِلْزَام؛ فَإِنَّهُ لم يكن حَاكما، وَكَذَا قيل.(7/215)
الحَدِيث الْخَامِس عشر
اشْتهر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «ألْحِقُوا الْفَرَائِض بأهْلها، فَمَا تركتْ الْفَرَائِض فَلأَوْلَى عصبَة ذَكَر» .
وَقد فسر الأولَى بالأقرب. هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ قَرِيبا، وَهُوَ الحَدِيث الثَّامِن من أَحَادِيث الْبَاب، وَمَا نسب الرافعيُّ فِي دَعْوَاهُ اشتهاره بِهَذِهِ اللَّفْظَة، وَهِي «عصبَة» فراجِعْهُ.
الحَدِيث السَّادِس عشر
عَن عليٍّ - كرَّم الله وَجهه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَعْيَان بني (الأُمِّ) يتوارثون دون بني العلات؛ يَرث الرجل (أَخَاهُ) لِأَبِيهِ وأُمِّه، دون أَخِيه لِأَبِيهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من رِوَايَة الْحَارِث عَن عليٍّ أَنه قَالَ: «إِنَّكُم تقرءون هَذِه الْآيَة: (من بعد وصيةٍ توصون بهَا أَو دَيْنٍ) فَإِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بالدَّيْن قبل الْوَصِيَّة، وَأَن أَعْيَان بني الْأُم يتوارثون دون بني العلات، (الرجل)(7/216)
يَرث أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأمه دون أَخِيه لِأَبِيهِ» .
هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ، وَفِي لفظ لَهُ؛ عَن الْحَارِث عَن عليٍّ قَالَ: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أَعْيَان بني الأُمّ يتوارثون دون بني العلات» .
وَلَفظ ابْن مَاجَه؛ عَن الْحَارِث عَن عَلّي قَالَ: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالدَّيْن قَبْل الْوَصِيَّة، وَأَنْتُم تقرءونها (من بعد وَصِيَّة يوصى بهَا أَو دَيْن) ، وَإِن أَعْيَان بني الأُمِّ يتوارثون دون بني العلات» .
وَفِي لفظ لَهُ: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أَعْيَان بني الأُمِّ يتوارثون (دون) بني العلات، يَرث الرجل أَخَاهُ لِأَبِيهِ وأُمِّه دون (أَخِيه) لِأَبِيهِ» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث عَن عليّ، قَالَ: وَقد تكلم بعض أهل الْعلم فِي الحَدِيث، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد عَامَّة أهل الْعلم.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ الأوَّل، ثمَّ قَالَ فِي آخِره: «وَالإِخْوَة من الْأَب والأُمّ أقربُ من الْإِخْوَة (من الْأَب) » . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث رَوَاهُ النَّاس عَن أبي إِسْحَاق والحارِثِ بْنِ عبد الله، ولأجْلِهِمَا لم يخرِّجه الشَّيْخَانِ. قَالَ: وَقد صَحَّ الْفَتْوَى بِهِ عَن زيد بن ثَابت. ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ.(7/217)
قلت: قَالَ: «قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالدَّيْن قبل الْوَصِيَّة، وَأَن الْإِخْوَة من الْأَب وَالأُم يتوارثون دون الْإِخْوَة من الْأَب» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو نُعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ عبد الله بن بدر، عَن ابْن عُمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -.
فَائِدَة: بَنو الْأَعْيَان: سموا بذلك لأَنهم من عين وَاحِدَة، أَي: من أَب وأُمِّ وَاحِدَة. قَالَه الماورديّ، وسُمُّوا بَنو العلات؛ لِأَن أُمَّ كلِّ واحدٍ لم تُعِل الآخر، أَي: لم تسقه لبَنَ رضاعها، والعَلَلُ: الشُّرْب الثَّانِي، والنَّهَل: الأول.
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: وَبَنُو الأخياف: الَّذين أُمُّهُمْ وَاحِدَة وآباؤهم مُخْتَلفُونَ، قَالَ الماورديّ: والأخياف: الأخلاط وَلذَلِك سمي الْخيف من منى؛ لِاجْتِمَاع أخلاط النَّاس فِيهِ، وَقيل: لاختلاط الألوان فِيهِ.
الحَدِيث السَّابِع عشر
رُوِيَ «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - برجلٍ فَقَالَ: إِنِّي اشتريتُه وأعتقته؛ فَمَا أمْر مِيرَاثه؟ قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن ترك عصبَة فالعصبة أَحَق، وَإِلَّا فَالْولَاء [لَك] » .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أَشْعَث بن سوار عَن الْحسن: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج إِلَى البقيع؛ فَرَأَى رجلا يُبَاع، فَسَوم(7/218)
بِهِ، ثمَّ تَركه، فَاشْتَرَاهُ رجلٌ فَأعْتقهُ، ثمَّ أَتَى بِهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي اشتريتُ هَذَا فَأعْتقهُ؛ فَمَا ترَى فِيهِ؟ قَالَ: أَخُوك ومولاك. قَالَ: مَا (ترَى) فِي صُحْبته؟ قَالَ: إِن شكرك فَهُوَ خيرٌ لَهُ وشرٌ لَك، وَإِن كفرك فَهُوَ خيرٌ لَك وشرٌ لَهُ. قَالَ: فَمَا ترَى فِي مَاله؟ قَالَ: إنْ مَاتَ وَلم يَدَعْ وَارِثا فَلَكَ مَاله» .
وَهَذَا مُرْسل كَمَا ترَى، وَأَشْعَث صالحُ الحَدِيث (وثَّقه) جمَاعَة، وَأخرج لَهُ م مُتَابعَة، وَلم يُعله البيهقيُّ بِغَيْر الْإِرْسَال، وَله متابع رَوَاهُ عبد الرزَّاق من حَدِيث عَمرو بن عبيد، عَن الْحسن: «أَن رجلا أَرَادَ أَن يَشْتَرِي عبدا ... .» فذكرَ الحديثَ، وَفِيه: أَن الرجل سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن مِيرَاثه، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «إِن لم يكن لَهُ عصبَة فَهُوَ لَك» وعَمرو هَذَا رَأس الاعتزال، وَقد تَرَكُوهُ.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا الْوَلَاء لِمنْ أعْتَقَ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سلف فِي بَاب الْبيُوع الْمنْهِي عَنْهَا.(7/219)
الحَدِيث التَّاسِع عشر
عَن أُسَامَة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يرثُ المسلمُ الكافرَ، وَلَا الكافرُ المسلمَ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) كَذَلِك، وَكَذَا بَاقِي الْكتب السِّتَّة د ت ق س ووَهِمَ ابْنُ تَيْمِية فِي «الْمُنْتَقَى» فادَّعَى، أَن مُسلما لم يروه، وَهُوَ عَجِيب؛ فَهُوَ فِيهِ فِي هَذَا الْبَاب، وَكَذَا ابْنُ الْأَثِير فِي «جَامعه لِلْأُصُولِ» ، فادّعى أَن النَّسَائِيّ لم يخرّجه، وَهُوَ عجيبٌ مِنْهُ، فَهُوَ فِيهِ فِي هَذَا الْبَاب، وَقد عزاهُ أَيْضا الْمزي فِي «أَطْرَافه» إِلَى الْكتب السِّتَّة كَمَا أسلفناه، والبيهقيُّ فِي «سنَنه» إِلَى خَ م وَكَذَا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» فليتنبه لذَلِك.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يتوارث أهلُ مِلَّتَيْن شَتَّى» .(7/220)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ كلِّه النسائيُّ من رِوَايَة يَعْقُوب بن عَطاء و (عَامر) الْأَحول وَغَيرهمَا، عَن عَمرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جَدِّه مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: يَعْقُوب وعامر ليسَا بالقويَّين فِي الحَدِيث.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، عَن حَمَّاد، عَن حبيب الْمعلم، عَن عَمرو، قَالَ: (عَن أَبِيه) عَن جدِّه عبد الله بن عَمرو، وَهَذَا إِسْنَاد جيد إِلَى عَمرو، لَا جرم قَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي كتاب الْفَرَائِض لَهُ: هَذَا الْإِسْنَاد لَا مطْعن فِيهِ عِنْد أحدٍ مِنْ أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ. لَكِن خَالف أَبُو عُمر نَفْسَه فِي هَذِه؛ فَضَعَّفه فِي «تمهيده» وَأما الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فَذكره فِي «الْإِلْمَام» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن سُفْيَان عَن يَعْقُوب بِهِ سَوَاء، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث: الْحسن بن صَالح، عَن مُحَمَّد بن سعيد، عَن عَمرو بن شُعَيْب قَالَ: أَخْبرنِي أبي، عَن جَدِّي « (أَن) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ يَوْم فتح مَكَّة، فَقَالَ: لَا يتوارث أهلُ مِلَّتَيْن» .(7/221)
(ثمَّ) قَالَ: مُحَمَّد بن سعيد الطَّائِفِي ثِقَة. وَوهم ابْن الْجَوْزِيّ فِي إعلاله هَذَا الحَدِيث، حَيْثُ قَالَ فِي «تَحْقِيقه» بعد كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ هَذَا: الْحسن بن صَالح مَجْرُوح، قَالَ ابْنُ حبَان: ينْفَرد عَن الثِّقَات بِمَا لَا يشبه حَدِيث الْأَثْبَات.
هَذَا كَلَامه، وَالْحسن بن صَالح هَذَا هُوَ ابْنُ حَيّ، وَهُوَ من الثِّقَات الْحفاظ المخرَّج لَهُم فِي الصَّحِيح وَلم يتَكَلَّم فِيهِ ابْن حبَان، وَكَلَامه هَذَا الَّذِي ذكره ابْن الْجَوْزِيّ إِنَّمَا هُوَ فِي آخر مجهولٍ مُخْتَلف فِي نسبه، يروي عَن ثَابت عَن النَّضر، وَيُقَال لَهُ: العجليّ، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «الضُّعَفَاء» وَحَكَى كلامَ ابْن حبَان فِيهِ، ثمَّ قَالَ: وَالْحسن بن صَالح عشرَة لَيْسَ فيهم مطعون فِيهِ غَيره.
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه بالسند الْمَذْكُور، لكنْ قَالَ: عَن الْحسن بن صَالح (عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى) عَن عُمر بن سعيد بدل مُحَمَّد بن سعيد.
وَوَقع فِي «أَطْرَاف ابْن عَسَاكِر» : عَمرو بن سعيد، وَهُوَ (وهم)(7/222)
كَمَا نبَّه عَلَيْهِ الْمزي، وفرَّق فِي «تهذيبه» بَين رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَن عمر وَبَين مُحَمَّد بن سعيد الطَّائِفِي، وَعَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه الطَّائِفِي كَمَا سلف، وَقَالَ الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن دَاوُد الظَّاهِرِيّ: هَذَا خبر ضَعِيف عندنَا.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيق آخر إِلَى عَمرو بن شُعَيْب؛ رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن رمح، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن خَالِد بن يزِيد، عَن الْمثنى بن الصَّباح، عَن عَمرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جدِّه مَرْفُوعا: «لَا يتوارث أهلُ مِلَّتَيْن» .
وَابْن لَهِيعَة قد علمت حَاله فِيمَا مَضَى، والمثنى ضَعَّفُوهُ.
قلت: وَله شَاهد من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا: «لَا يتوارث أهلُ مِلَّتَيْن» .
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» فِي جملَة حديثٍ طَوِيل.
وَمن حَدِيث جَابر مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن أبي الزبير عَنهُ بِهِ.
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث (غَرِيب) ، لَا نعرفه فِي حَدِيث جَابر إِلَّا من حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى.(7/223)
قلت: وَهُوَ صَدُوق سَاءَ حفْظه، وَفِيه عنعنة أبي الزبير أَيْضا.
وَمن حَدِيث أُسَامَة بن زيد مَرْفُوعا: «لَا يتوارث أهلُ مِلَّتَيْنِ» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ فى «سنَنه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. ووَهِمَ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» فَعَزَاهُ إِلَى مُسلم، وَهُوَ وهْمٌ لَا جرم، تعقبه ابْنُ الْقطَّان، وَقد عزاهُ فِي «أَحْكَامه الْكُبْرَى» إِلَى النَّسَائِيّ فَأصَاب.
قلت: فَالْحَدِيث قويّ إِذن بشواهده، وَإِن كَانَ فِي بَعْضهَا ضَعْف فينجبر الآخر لَا جرم، قَالَ ابْن الصّلاح: لَهُ مرتبَة الحَدِيث الْحسن.
قلت: وَذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» من حَدِيث عَمرو بن شُعَيْب أَيْضا، ولمَّا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «معرفَة السّنَن والْآثَار» من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ السالف قَالَ: مَنْ يَقُول بِأَحَادِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جَدِّه عبد الله بن عَمرو عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لزمَه أَن يَقُول بِهَذَا.
قلت: قد صرّح فِي هَذَا بِأَن المُرَاد ب «جَدِّه» هُوَ الصحابيُّ، كَمَا سلف عَن رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ؛ فارتفع الْخلاف السائر فِيهِ.
وَقَالَ بعد ذَلِك فِي بَاب [مِيرَاث] الْمُرْتَد: رِوَايَة مَنْ رَوَى فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ يَعْنِي حَدِيث سُفْيَان عَنهُ، عَن عليّ بن الْحُسَيْن، عَن عَمرو بن عُثْمَان، عَن أُسَامَة رَفَعَهُ: «لَا يرثُ الْمُسلم الكافرَ، وَلَا الكافرُ المسلمَ، لَا يتوارث أهلُ مِلَّتَيْنِ» .(7/224)
غير مَحْفُوظ، وَرِوَايَة الْحفاظ مثل حَدِيث ابْن عُيَيْنَة، وَإِنَّمَا يُرْوى هَذَا فِي حَدِيث عَمرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جدِّه، وَقد رُوِيَ فِي حَدِيث عَمْرو (اللفظان) جَمِيعًا فِي حَدِيث واحدٍ، فَمَن ادَّعى كَون قَوْله: «لَا يتوارث أهل ملتين» هُوَ الأَصْل، وَمَا رَوَيْنَاهُ مَنْقُولًا عَلَى الْمَعْنى فَلِسُوء مَعْرفَته بِالْأَسَانِيدِ، (أَو لميله) إِلَى الْهَوَى، (فرواة) مَا ذَكرْنَاهُ حفَّاظُ أثبات، وَقد اخْتلف أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ فِي رِوَايَات عَمرو بن شُعَيْب إِذا لم يَنْضَم إِلَيْهَا مَا يؤكده، وَانْفَرَدَ مَنْ رَوَاهُ فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ بروايته، وَرِوَايَة الحفَّاظ بِخِلَاف رِوَايَته، قَالَ: (وَأما) رِوَايَة هشيم عَن الزُّهْرِيّ فِي ذَلِك، فقد حكم الحفَّاظُ بِكَوْنِهَا غَلطا، وَبِأَن هشيمًا لم يسمعهُ من الزُّهْرِيّ، فروايته عَنهُ مُنْقَطِعَة. ثمَّ سَاقه من حَدِيث عليّ بن الْمَدِينِيّ، عَن هشيم بن بشير، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عَمرو بن عُثْمَان، عَن أُسَامَة رَفَعَه: «لَا يتوارث أهل ملتين» .
قَالَ عليٌّ: فذكرتُ ذَلِك لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة، [فَقَالَ] : لم يُحْفظ قَالَ عليٌّ: فَنَظَرْنَا (فَإِذا) هشيم. لم يسمع هَذَا الحَدِيث من الزُّهْرِيّ.
قلت: فَحِينَئِذٍ تَصْحِيح الْحَاكِم لَهُ كَمَا سلف غير جيد.
قَالَ الرافعيُّ: ورُوي فِي بعض الرِّوَايَات: «لَا يتوارث أهل(7/225)
ملتين، لَا يَرث المسلمَ الكافرُ» قَالَ: فَجعل الثَّانِي بَيَانا للْأولِ، فَدلَّ عَلَى أَن المُرَاد بالملتين: الْإِسْلَام وَالْكفْر.
قلت: الَّذِي رأيتُه فِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث عَمرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جدِّه مَرْفُوعا: «لَا يَرث المسلمُ الكافرَ، وَلَا الكافرُ المسلمَ، وَلَا يتوارثون أهل ملتين» .
وَفِي إسنادها الْخَلِيل بن مُرَّة الضَّبْعِىّ، وَهُوَ واهٍ، كَمَا سلف حَاله فِي بَاب الْوضُوء، فِي الْكَلَام عَلَى السِّوَاك، وَقد أسلفنا كلامَ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ أَيْضا. .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
عَن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ للْقَاتِل مِيرَاث» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، مِن رِوَايَة عَمرو بن شُعَيْب عَن عُمر مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث خطأ.
قلت: وَهُوَ مُنْقَطع؛ فَإِن عَمروَ بْنَ شُعَيْب لم يسمع مِنْ عُمر، ولمَّا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» مِنْ هَذَا الْوَجْه قَالَ: هَذَا مُرْسل.
وَقد رَوَاهُ مُحَمَّد بن رَاشد، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن عَمرو بْنِ شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جدِّه مَرْفُوعا.(7/226)
قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضا غيرُه عَن عَمرو بْنِ شُعَيْب.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يَرث القاتلُ شَيْئا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك، وَفِي إِسْنَاده (لَيْث) بن أبي سليم، وَقد ضعفه الْجُمْهُور، و (أَبُو حمة) لَا يُعْرف حَاله كَمَا قَالَ ابْن الْقطَّان.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق آخر إِلَى ابْنِ عباسٍ، وستعلمه عَلَى الإثر.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
قَالَ: ويُروى «مَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَإِنَّهُ لَا يَرِثهُ وَإِن لم يكن لَهُ وَارِث غَيره» .
هَذَا الحَدِيث يُرْوى من طَرِيق ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَهُوَ الطَّرِيق الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِ أَيْضا.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن(7/227)
رجل - قَالَ عبد الرَّزَّاق: وَهُوَ عَمرو بن برق - عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ فَذكره بِزِيَادَة: «وَإِن كَانَ وَالِده أَو وَلَده؛ فَإِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى لَيْسَ لقَاتل مِيرَاث» .
و «عَمرو» هَذَا هُوَ ابْن عبد الله الصَّنْعَانِيّ أَبُو الأسوار، وَيُقَال: عَمرو بنُ برق. قَالَ ابْن (معِين) : لَيْسَ بالقويّ.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْقَاتِل لَا يَرث» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، وَلَا يُعرف هَذَا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه، وَإِسْحَاق بن عبد الله بن أبي فَرْوَة - يَعْنِي الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - قد تَركه بعض أهل الْعلم، مِنْهُم أَحْمد بن حَنْبَل.
قلت: بل تَرَكُوهُ كَمَا قَالَ البُخَارِيّ، قَالَ يَحْيَى بن معِين: رِجَاله كلهم ثِقَات إِلَّا إِسْحَاق. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْحَاق لَا يُحْتج بِهِ، إِلَّا أَن لَهُ شَوَاهِد تقويه.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الزُّهْرِيّ: أَنه سمع إِسْحَاق بن أبي فَرْوَة(7/228)
يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ فَقَالَ الزُّهْرِيّ: إِنَّه ثَنَا ابْنُ أَبَى فَرْوَة بِأَحَادِيث لَيْسَ لَهَا خِطَم وَلَا أزمة.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه.
وَأما آثاره فكثيرة:
أَولهَا: عَن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «إِذا تَحَدَّثْتُم (فتحدِّثوا) فِي الْفَرَائِض، وَإِذا لَهَوْتُم فالهوا بِالرَّمْي» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا وَإِن كَانَ مَوْقُوفا فَهُوَ صَحِيح الْإِسْنَاد، قَالَ: وَله شَاهد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ؛ فَذكره
الْأَثر الثَّانِي: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه دخل عَلَى عُثْمَان بن عَفَّان؛ فَقَالَ لَهُ محتجًا عَلَيْهِ: كَيفَ تردُّ الأُمَّ إِلَى السُّدس بالأخوين وليسا بإخوة؟ فَقَالَ عُثْمَان: لَا أَسْتَطِيع ردَّ شيءٍ كَانَ قَبْلي (وَمَضَى) فِي الْبلدَانِ، وتوارث الناسُ (بِهِ) » .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح (رَوَاهُ الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح) الْإِسْنَاد.(7/229)
قلت: وَفِيه شُعْبَة مولَى ابْن عَبَّاس؛ قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بالقويّ.
الْأَثر الثَّالِث: رُوي عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: «جاءتٍ الجدَّتان إِلَى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فَأعْطَى أُمَّ الأُمِّ الْمِيرَاث دون أُمِّ الْأَب، فَقَالَ لَهُ بعض الْأَنْصَار: أعطيتَ الَّتِي لَو مَاتَت لم يَرِثهَا، ومنعتَ الَّتِي لَو ماتتْ ورثهَا، فَجعل أَبُو بكر السُّدس بَينهمَا» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد أَنه قَالَ: «أَتَت الجدَّتان إِلَى أبي بكر الصّديق، فَأَرَادَ أَن يَجْعَل السُّدس للَّتِي من قبل الأُمِّ، فَقَالَ لَهُ رجل من الْأَنْصَار: أَمَا إِنَّك تتْرك الَّتِي لَو مَاتَت وَهُوَ حَيّ كَانَ إِيَّاهَا يَرث. فَجعل أَبُو بكر السُّدس بَينهمَا» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: «جاءتِ الجدَّتان إِلَى أبي بكر، فَأعْطَى الميراثَ أُمَّ الأُمِّ دون أُمِّ الْأَب، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن سهل بن حَارِثَة - وَقد كَانَ شهد بَدْرًا، وَقَالَ مرّة: رجل من بني حَارِثَة -: يَا أَبَا بكر (يَا) خليفةَ رسولِ الله: أعطيتَ الَّتِي لَو أَنَّهَا مَاتَت لم يَرِثهَا؛ فَجعله بَينهمَا» .
رَوَاهُ أَيْضا من حَدِيثه عَن يَحْيَى، عَن الْقَاسِم: (أَن جدَّتَيْن أتتا إِلَى أَبَى بكر الصّديق أُمَّ الْأُم وأُمَّ الْأَب، فَأعْطَى الميراثَ أُمَّ الأُمِّ دون أُمِّ(7/230)
الْأَب، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن سهل أَخُو بنى حَارِثَة: يَا خَليفَة رَسُول الله: قد أعطيتَ الَّتِي لَو أَنَّهَا ماتَت لم يَرِثهَا، فَجعله أَبُو بكر بَينهمَا - يَعْنِي: السُّدس» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوي هَذَا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي إسنادٍ مُرْسل. وَهَذَا الْأَثر فِي طريقيه منقطعٌ؛ فَإِن الْقَاسِم لم يدْرك جدَّه؛ لِأَن أَبَاهُ مُحَمَّدًا وُلدَ فى حَجَّة الْوَدَاع، وَكَانَ عُمُرُهُ حِين تُوفِّي الصّديق نَحْو ثَلَاث سِنِين، وَذكر الْغلابِي أَن الْقَاسِم لم يدْرك أَبَاهُ أَيْضا.
الْأَثر الرَّابِع وَالْخَامِس: قَالَ الرافعيُّ: وَفِي أُمِّ (أَب) الْأَب، و (أُمّ) مَنْ فَوْقه من الأجداد وأمهاتهن قَولَانِ للشافعيِّ، وروايتان عَن زيد، أصَحهمَا: أَنَّهُنَّ وارثات.
قلت: رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي الزِّنَاد عَن خَارِجَة بن زيد بن ثَابت، عَن أَبِيه زيد بن ثَابت: «أَنه كَانَ يورِّث ثَلَاث جدَّاتٍ إِذا استوين، ثِنْتَانِ من قبل الْأَب، وَوَاحِدَة مِنْ قبل الْأُم» .
وَرَوَى من حَدِيث قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب، عَن زيد بن ثَابت: «أَنه كَانَ يورِّث ثَلَاث جَدَّاتٍ؛ ثِنْتَيْنِ مِنْ قِبَل الأُمِّ، وَوَاحِدَة مِنْ قِبَل الْأَب» . كَذَا قَالَ.(7/231)
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث حميد وَدَاوُد أَن زيد بن ثَابت قَالَ: «ترثُ جدَّاتٍ جدَّتَيْن مِنْ قِبَل الْأَب، وَوَاحِدَة مِنْ قِبَل الأُمِّ» .
وَمن حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى عَن الشعبى: «أَن زيد بن ثَابت وعليًّا كَانَا يورثان ثلاثَ جدَّاتٍ. ثِنْتَيْنِ مِنْ قِبَل الْأَب، وَوَاحِدَة من قِبَل الْأُم» .
الْأَثر السَّادِس: وَكَانَ مِنْ حَقه أَن يقدَّم؛ فَإِن الرَّافِعِيّ ذكره قبل، وَهُوَ مُجَمِّعُ آثارًا -:
«أَن عليَّ بن أبي طَالب وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس تكلمُوا فِي جَمِيع أصُول الْفَرَائِض، وَأَن أَبَا بكر وَعمر ومعاذ بن جبل تكلمُوا فِي معظمها، وَأَن عُثْمَان تكلم فِي مسَائِل مَعْدُودَة» .
وَهَذَا مَشْهُور فِي كُتُب الْفَرَائِض، نَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن عُلَمَاء الْفَرَائِض، وَلَا يَحْضُرُني فِي الْكتب الحديثية.
الْأَثر السَّابِع: «مَذْهَب ابْن عَبَّاس فِي زوجٍ وأبوين: أَن لَهَا الثُّلُث كَامِلا» .
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَنهُ فِي «سنَنه» من رِوَايَة عِكْرِمَة قَالَ: «أَرْسلنِي ابْنُ عَبَّاس إِلَى زَيْدِ بْنِ ثابتٍ أسأله عَن زوجٍ وأبوين، فَقَالَ زيدٌ: للزَّوْج النّصْف، وَللْأُمّ ثلث مَا بَقِي، وَللْأَب بَقِيَّة المَال. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: للْأُم الثُّلُث كَامِلا» .
وَفِي رِوَايَة: «وَللْأُمّ ثلث مَا بَقِي وَهُوَ السُّدُس، فَأرْسل إِلَيْهِ ابْن عَبَّاس: أَفِي كتاب الله تَجِد هَذَا؟ قَالَ: لَا وَلَكِن (أكره) أَن أُفَضِّل(7/232)
أُمًّا عَلَى أَب، قَالَ: وَكَانَ ابْن عَبَّاس يُعْطَى للأُمِّ الثُّلُث من جَمِيع المَال» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أبكتابِ الله أَمْ بِرَأْيِك؟ فَقَالَ: برأيي. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: وَأَنا أَقُول برأيي، للأُمِّ الثُّلُث كَامِلا» .
ثمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَن فُضَيْل، عَن إِبْرَاهِيم قَالَ «خَالف ابْنُ عَبَّاس فِيهَا النَّاس» وَفِي رِوَايَة عَن إِبْرَاهِيم خَالف ابْن عَبَّاس جَمِيع أهل (الصَّلَاة) فِي زوج وأبوين» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيجوز أَن يُحْتج فِيهَا بِاتِّفَاق الصَّحَابَة، قبل إِظْهَار ابْن عَبَّاس الْخلاف كَمَا احْتج عُثْمَان فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة.
أَي: وَهُوَ الْأَثر الثَّانِي.
الْأَثر الثَّامِن: المشركة: وَهِي: زوج، وأُمّ، وَأَخَوَانِ لأُمٍّ، وأخوِان لأَب وأُمّ، فَللزَّوْج النّصْف، وللأُم السُّدس، وللأخوين للْأُم الثُّلُث، والأخوان للْأَب وَالأُم يشاركانهما فِي الثُّلُث لَا يُسْقطان. قَالَ: وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي ذَلِك عَن زيد بن ثَابت.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد رَوَى الرِّوَايَتَيْنِ الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ، ثمَّ قَالَ: الرِّوَايَة الصَّحِيحَة عَن زيد بن ثَابت التَّشْرِيك، وَالْأُخْرَى تفرّد بهَا مُحَمَّد بن سَالم وَلَيْسَ بالقويّ.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وتُسَمَّى حِماريَّة؛ لِأَن عمر كَانَ لَا يُورث أَوْلَاد الْأَب وَالأُم، فَقَالُوا: هَبْ أنْ أَبَانَا كَانَ حمارا، ألَسْنا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَة؟ ؛ فَشَرَكَهُمْ.(7/233)
قلت: رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» ، قَالَ فِي سنَنه: أبنا أَبُو عبد الله - هُوَ: الْحَاكِم - ثَنَا أَبُو الْعَبَّاس [ثَنَا يَحْيَى] بن أبي طَالب، ثَنَا يزِيد بن هَارُون، أبنا أَبُو أُميَّة بن يعْلى الثَّقَفِيّ، عَن أبي الزِّنَاد، عَن (عَمْرو) بن (وهيب) ، عَن أَبِيه، عَن زيد بن ثَابت فِي المشركة قَالَ: «هَبُوا أَن أباهم كَانَ حمارا، مَا زادهم الأبُ إِلَّا قُرْبًَا. وأشرك بَينهم فِي الثُّلُث» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. (قَالَ) : وشرحْتُه بِحَدِيث الشّعبِيّ عَن عُمر وعليّ وَزيد فِي: أُمٍّ وَزوج وإخوة لأَب وَأم وإخوة لأم، أَن الْإِخْوَة من الْأَب وَالأُم شُرَكَاء للإخوة من الْأُم فِي ثلثهم، وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: «هم بَنو أُمٍّ كلهم، وَلم يزدهم الْأَب إِلَّا قُرْبًا؛ فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث» .
وَذكر الطَّحَاوِيّ: أَن عمر كَانَ [لَا] يُشْرك حَتَّى ابْتُلي بمسألةٍ، فَقَالَ لَهُ الْأَخ وَالْأُخْت من الْأَب [وَالأُم] : يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: هَبْ أَن أَبَانَا كَانَ حمارا، ألَسْنَا من أُمٍّ واحدةٍ. فَرجع.(7/234)
قلت: وَبَلغنِي عَن بعض المتفقهة فِي علم الْفَرَائِض والمقلدين فِي علم الحَدِيث: أَنه يُنكر عَلَى الإِمَام الرافعيِّ وَغَيره من الْفُقَهَاء تسميتهم هَذِه الْمَسْأَلَة بالحماريَّة، وَقَالَ: هَذِه تَسْمِيَة لم (يقلها) أحد، وَالْمَعْرُوف أَنهم قَالُوا إِن أَبَانَا كَانَ حَجَرًا. وَمِمَّا قَالَه هَذَا المغتر حَتَّى لَو عَكسه لَكَانَ أصوب؛ فَإِن مَا ادَّعَاهُ من هَذِه التَّسْمِيَة لَا يُعْرف؛ فَلَيْتَهُ سكت.
الْأَثر التَّاسِع: أَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَرَأَ: «وَإِن كَانَ لَهُ أَخ أَو أُخْت مِنْ أُمّ» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» لَكِن عَن سعد - أَظُنهُ: ابْن أبي وَقاص - أخرجه من حَدِيث الْقَاسِم [بن] عبد الله بن ربيعَة بن [قانف] :
أَن سَعْدا كَانَ يقْرؤهَا: «وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة أَو امْرَأَة وَله أَخ أَو أُخْت من أُمّ» .
وَقَالَ أَبُو الطّيب: رَوَاهُ عَن سعد بن أبي وَقاص أَبُو بكر بن الْمُنْذر، وَحَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيّ عَنهُ وَعَن أبيّ بن كَعْب.
الْأَثر الْعَاشِر: أَن الْأُخوة يسقطون بالجدِّ؛ لِأَن ابْن الابْن نَازل منزلَة الابْن فِي إِسْقَاط الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات وَغير ذَلِك، فَلْيَكُن أَب الْأَب نازلاً(7/235)
منزلَة الْأَب. يُرْوى هَذَا التَّوْجِيه عَن ابْن عَبَّاس، لَا يحضرني من خرَّجه، نعم ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب: مَنْ يورِّث الْإِخْوَة مَعَ الجدِّ، بِسَنَدِهِ إِلَى [عبد الرَّحْمَن] بن معقل قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ لَهُ: كَيفَ تَقول فِي الجدِّ؟ ، قَالَ: إِنَّه لَا جدَّ، أَي أَب لَك أكبر؟ فَسكت الرجلُ فَلم يجبهُ وَكَأَنَّهُ عيى عَن جَوَابه، فَقلت أَنا: آدم. قَالَ: أَفلا تسمع إِلَى قَول الله تَعَالَى: (يَا بني آدم) » .
وَفِي «سنَن سعيد بن مَنْصُور» : ثَنَا خَالِد بن عبد الله، عَن (لَيْث) بن أبي سليم، عَن عَطاء: «أَن أَبَا بكر وعُمر وَعُثْمَان وابْنَ عبَّاسٍ كَانُوا يجْعَلُونَ الجدَّ أَبَا» .
وَفِي «غَرِيب أبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام» : حدَّثني ابْن عُليَّة، عَن أَيُّوب، عَن ابْن أَبَى مليكَة، قَالَ ابْنُ عُليَّة: يشبه أَن يكون هَذَا كَلَام ابْن عَبَّاس، مَنْ شَاءَ باهلته أَن الله لم يذكر فِي كِتَابه جدًّا إِنَّمَا هُوَ أبٌ.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأجْمع الصَّحَابَة عَلَى أَن الْأَخ لَا يُسْقط الجدّ.
قلت: لَا إِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة؛ فقد حَكَى ابْن حزم قولاَ: أَن الْإِخْوَة تُقَدَّم عَلَى الجدِّ، ثمَّ حَكَى أقوالاً أُخَر فِيهِ.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَبَاب الجدِّ أكْثَرَ فِيهِ الصحابةُ.(7/236)
قلت: جدًّا؛ فَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن عُبَيْدَة قَالَ: «إِنِّي لأحْفَظُ عَن عُمر فِي الجَدِّ مائَة قَضِيَّة، كلهَا ينْقض بَعْضهَا بَعْضهَا» .
وَذكر البيهقيُّ جُملةً مِنْ ذَلِك فِي «سنَنه» ثمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ (عَن سعيد بن خَيْبَر، عَن رجل من مُرَاد أَنه سمع عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَقُول: من سره) «أَن يقتحم (جراثيم) جَهَنَّم؛ (فليقض) بَين الجِدِّ وَالإِخْوَة» .
الْأَثر الْحَادِي عشر: شبَّه عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الجدَّ بالبحر أَو النَّهر الْكَبِير، وَالْأَب كالخليج الْمَأْخُوذ مِنْهُ، وَالْمَيِّت وَأَخُوهُ كالساقيتين الممتدتين مِنَ الخليج، والساقية إِلَى الساقية أقرب مِنْهَا إِلَى الْبَحْر، أَلا ترَى أَنه إِذا (سدَّت) إِحْدَاهمَا أخذت الْأُخْرَى ماءها وَلم يرجع إِلَى الْبَحْر وشَبَّهَهُ زيدُ بن ثَابت بساق الشَّجَرَة وَأَصلهَا، وَالْأَب كغصنٍ مِنْهَا، وَالإِخْوَة كغصنين تفرعا من ذَلِك الْغُصْن، وأحدُ الغصنين إِلَى الآخر أقرب مِنْهُ إِلَى أصل الشَّجَرَة، أَلا ترَى أَنه إِذا قُطع أحدُهما امتص الآخر مَا كَانَ يمتصه الْمَقْطُوع وَلَا يرجع إِلَى السَّاق» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ البيهقيُّ فِي «سنَنه» من حَدِيث سُفْيَان، عَن عِيسَى الْمدنِي، عَن الشّعبِيّ قَالَ: «كَانَ مِنْ رَأْي أبي بكر وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن يُجعل الجدّ أَوْلى من الْأَخ، وَكَانَ عمر يكره الكلامَ فِيهِ، فلمَّا(7/237)
(صَار) عُمر جَدًّا قَالَ: هَذَا أمْر (قد وَقع) لابد للنَّاس من مَعْرفَته، فَأرْسل إِلَى زيد بن ثَابت يسْأَل، فَقَالَ: كَانَ مِنْ (رَأْيِي) ورأي أبي بكر: أَن يَجْعَل الجِد أوْلى مِنَ الْأَخ، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تجْعَل شَجَرَة نَبتَت، فانشعب مِنْهَا [غُصْن] ، فاشعب فِي الْغُصْن [غُصْن] ، فَمَا يَجْعَل للغصن الأوَّل أَوْلى من الْغُصْن الثَّانِي وَقد خرج الْغُصْن من الْغُصْن. قَالَ: فَأرْسل إِلَى عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ زيدٌ إِلَّا أَنه جعله (سيلاً) سَالَ فانشعب مِنْهُ شُعْبَة، ثمَّ انشعب مِنْهُ شعبتان. فَقَالَ: أَرَأَيْت لَو أنَّ هَذِه الشعبة الْوُسْطَى تيبس رَجَعَ اليبس إِلَى (الشعبتين) جَمِيعًا، فَقَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فَخَطب الناسَ ... .» إِلَى آخِره.
وَفِي (رِوَايَة) لَهُ: فَقَالَ زيد: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَا تجْعَل شَجَرَة نَبتَت فانشعب مِنْهَا غُصْن، فانشعب فِي الْغُصْن غصنان، فَمَا جعل الأوَّل أَوْلى من الثَّانِي، وَقد خرج الغصنان من (الْغُصْن) الأوَّل» . وَذكر عَن عليٍّ كَمَا تقدَّم.
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَن عمر بن الْخطاب (أَتَى) إِلَى زيد يسْأَله،(7/238)
فَسَأَلَهُ عَنهُ، فَامْتنعَ حَتَّى يعرف رَأْيه فِيهِ، ثمَّ أَتَاهُ أُخْرَى فَكتب إِلَيْهِ، وَضرب لَهُ مَثَلاً، إِنَّمَا مثله مَثَلُ شجرةٍ نَبتَت عَلَى سَاق وَاحِد؛ فَخرج فِيهَا غُصْن، ثمَّ خرج فِي الْغُصْن غُصْن آخر، (فالساق) يسْقِي الْغُصْن، فَإِن قطعتَ الْغُصْن الأوَّل رَجَعَ المَاء إِلَى الْغُصْن - يَعْنِي الثَّانِي - وَإِن قطعتَ الثَّانِي رَجَعَ المَاء إِلَى الأول. فأمضاه عُمر» .
وَفِي رِوَايَة: «أَنه (شبهه) بأصْل الشَّجَرَة، وَالْأَب بغُصْنٍ مِنْهَا، وَالإِخْوَة (بخوطين) ؛ تشعبا من الْغُصْن» .
و (فِي) «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» : «أَن عُمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لمَّا استشارهم فِي مِيرَاث الجدِّ وَالإِخْوَة، قَالَ زيد: وَكَانَ رَأْيِي أَن الْإِخْوَة أَولى [بِالْمِيرَاثِ] من الجِدِّ، وَكَانَ عُمرُ يرَى يومئذٍ أَن الجدَّ أولَى بميراث ابْن ابْنه من إخواته، قَالَ زيد: فجاوزتُ أَنا عمرُ، فَضربت لعمر فِي ذَلِك مَثَلاً، وَضرب عليُّ بْنُ أبي طَالب وعَبْدُ الله بن عَبَّاس لعُمَرَ فِي ذَلِك مثلا يَوْمئِذٍ السَّيْل يَضْرِبَانِهِ، (ويصرفانه) عَلَى نَحْو (تصريف) زيد» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ.
الْأَثر الثَّانِي عشر: الْمَسْأَلَة الْمَعْرُوفَة ب «الخرقاء» : وَهِي: أُمّ وجدّ(7/239)
وَأُخْت، فللأم الثُّلُث، وَالْبَاقِي يقسم بَين الجدّ وَالْأُخْت أَثلَاثًا. وسُمِّيَتْ بالخرقاء لتخرُّق أَقْوَال الصَّحَابَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وَكَثْرَة اخْتلَافهمْ فِيهَا، فَهَذَا مَذْهَب زيد، وَعند أبي بكر: للأُمّ الثُّلُث، وَالْبَاقِي للجدّ. وَعند عُمر: للْأُخْت النّصْف، وَللْأُمّ ثلث مَا يَبْقَى، وَالْبَاقِي للجدّ. وَعند عُثْمَان: لكل وَاحِد مِنْهُم الثُّلُث وَعند عليّ: للْأُخْت: النّصْف، وَللْأُمّ الثُّلُث، وللجد السُّدس. وَعند ابْن مَسْعُود: للْأُخْت النّصْف وَالْبَاقِي بَين الْجد وَالأُم بِالسَّوِيَّةِ. ويُرْوى عَنهُ مثل مَذْهَب عُمر.
هَذِه الْمَسْأَلَة ترْجم عَلَيْهَا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : بَاب الِاخْتِلَاف فِي مَسْأَلَة الخرقاء، ثمَّ ذكر بِسَنَدِهِ إِلَى الشّعبِيّ: «أَن الْحجَّاج سَأَلَهُ فِي: أُمّ وَأُخْت وجدّ، فَقَالَ: قد اخْتلف فِيهَا خمسةٌ من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: عبد الله بن عَبَّاس وَزيد، وَعُثْمَان، وعليّ، وَعبد الله بن مَسْعُود. قَالَ: فَمَا قَالَ فِيهَا ابْن عَبَّاس إِن كَانَ (لمقنبًا) وَفِي رِوَايَة (إِن كَانَ لمنقبًا) . قلت: جعل الجدَّ أَبَا، وَلم يُعْطِ الأختَ شَيْئا، وَأعْطَى الأُمَّ الثُّلُث. قَالَ: فَمَا قَالَ فِيهَا زيد؟ قلت: جَعَلها من تسعةٍ، أعْطى للْأُم ثَلَاثَة، والجدَّ أَرْبَعَة، وَالْأُخْت سَهْمَيْنِ.
قَالَ: فَمَا قَالَ فِيهَا (أَمِير الْمُؤمنِينَ - يَعْنِي عُثْمَان - قلت: جعلهَا أَثلَاثًا. قَالَ: فَمَا قَالَ فِيهَا) ابْن مَسْعُود؟ قلت: جعلهَا من سِتَّة أسْهم؛ فَأعْطَى الْأُخْت ثَلَاثَة، والجدَّ سَهْمَيْنِ، وَالأُم سَهْما. قَالَ: فَمَا قَالَ أَبُو تُرَاب - يَعْنِي: عليًّا -؟ قلت: جعلهَا من سِتَّة أسْهم؛ الْأُخْت ثَلَاثَة، وَالأُم(7/240)
سَهْمَيْنِ، والجدَّ سَهْما» .
قلت: وتابع الشعبيَّ إبراهيمُ، كَمَا سَاقه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، ثمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ عَن عُمر فى: أم، وَأُخْت، وجد، للْأُخْت النّصْف، وَللْأُمّ ثلث مَا يَبْقَى، وللجد مَا بَقِي» .
ثمَّ [رَوَى] بِسَنَدِهِ إِلَى إِبْرَاهِيم قَالَ: «كَانَ عُمر وعبدُ الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما لَا يفضلان أُمًّا عَلَى جدٍّ. هَذَا مَجْمُوع مَا ذكره البيهقيُّ فِي هَذَا الْبَاب، وَفِيه مُخَالفَة لِمَا ذكره الرافعيُّ فِي حَقِّ ابْن مَسْعُود، وَلما رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن رجلٍ عَن الثَّوْريّ عَن إِسْمَاعِيل بن رَجَاء، عَن إِبْرَاهِيم وسُفْيَان، عَمَّن سمع الشعبيَّ يَقُول - أَظُنهُ عَن عبد الله - «فِي جدٍّ وَأُخْت وَأم، للْأُخْت ثَلَاثَة أسْهم، وَللْأُمّ سهم، وللجد سَهْمَان» .
وَرَوَى ابْن حزم من حَدِيث وَكِيع، ثَنَا سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عُمر بن الْخطاب: «فِي: أختٍ، (وَأم) ، وجدٍ، قَالَ للْأُخْت النّصْف، وَللْأُمّ السُّدس، وَمَا بَقِي فللجد» .
وَرَوَى سعيد بن مَنْصُور فِي «سنَنه» : عَن [هشيم] عَن عُبَيْدَة، عَن الشّعبِيّ، قَالَ: «أرسل إليَّ الْحجَّاج فَقَالَ لي: مَا تَقول فِي فريضةٍ أُتِيْتُ بهَا: أم، وجدّ، وَأُخْت؟ قلت: مَا قَالَ فِيهَا الْأَمِير؟ فأخْبَرَني بقوله. فَقلت: هَذَا قضاءُ أبي تُرَاب - يَعْنِي: عليَّ بن أبي طَالب -، وَقَالَ: فِيهَا(7/241)
سبعةٌ من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ عُمر وَابْن مَسْعُود: للْأُخْت النّصْف، [وللجِدّ الثُّلُث، وَللْأُمّ السُّدس] . وَقَالَ عُثْمَان بن عَفَّان: للْأُم الثُّلُث، وَللْأُخْت الثُّلُث، وللجد الثُّلُث» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقد تُسَمَّى هَذِه الْمَسْأَلَة «مُثَلَّثَة عُثْمَان» لِمَا عَرَفْتَ مِنْ مذْهبه، ومسدسة؛ لِأَن فِيهَا سِتَّة مَذَاهِب عَن الصَّحَابَة، ومسبعة لِأَن عَن عُمرَ فِيهَا رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا تقدمتْ، وَالْأُخْرَى: «أَنه يفْرض للْأُم: السُّدس» وَالْمعْنَى وَاحِد، وَرُبمَا تسمى «مُخَمَّسة» ؛ لِأَن مِنْهُم مَنْ يَقُول: قَضَى فِيهَا عُثْمَان وعليٌّ وَزيد وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس. كَأَنَّهُ لَا تثبت الرِّوَايَة عَن غَيرهم.
قلت: الْقَائِل هُوَ الشّعبِيّ، كَمَا تقدَّم.
الْأَثر الثَّالِث عشر: الأكدرية: «وَهِي: زوج، وَأم، وجد، وَأُخْت من الْأَبَوَيْنِ أَو من الْأَب، للزَّوْج النّصْف، وَللْأُمّ الثُّلُث، وللجد السُّدس، ويُفْرض للْأُخْت النّصْف، وتعول من سِتَّة إِلَى تِسْعَة، ثمَّ يُضم نصيب الْأُخْت إِلَى نصيب الجدِّ، ويُجعل بَينهمَا أَثلَاثًا، وتَصِحُّ من سَبْعَة وَعشْرين» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأنكر قبيصةُ قضاءَ زَيْدٍ فِيهَا بِمَا اشْتهر عَنهُ. ثمَّ ذكر الرَّافِعِيّ أَرْبَعَة أقوالٍ لِمَ سُمِّيَتِْ أكدرية؟ رَابِعهَا: لتكدر أَقْوَال الصَّحَابَة وَكَثْرَة اخْتلَافهمْ فِيهَا، فَأَبُو بكر يُسْقط الأُخْتَ، وَعمر وَابْن مَسْعُود(7/242)
يَقُولَانِ: للْأُم السُّدس. وَالْبَاقِي كَمَا ذكرنَا، فتعول إِلَى ثَمَانِيَة، وعليٌّ يفْرض، وتُعَالُ كَمَا ذكرنَا، وَلَكِن تقرر نصيب الْأُخْت عَلَيْهَا.
وَهَذَا رَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعضه من طَرِيق الشّعبِيّ: فِي: أم، وَأُخْت، وَزوج، وجِدّ؛ فِي قَول عليٍّ: للْأُم الثُّلُث، وَللْأُخْت النّصْف، وَللزَّوْج النّصْف، وللجد السُّدس؛ من تِسْعَة. وَفِي قَول عبد الله: للْأُخْت النّصْف، وَللزَّوْج النّصْف، وَللْأُمّ الثُّلُث، وللجد السُّدس، من تِسْعَة أسْهم، ويُقَاسم الجدَ الْأُخْت بسدسه وَنِصْفهَا، فَيكون لَهُ ثُلُثَاهُ، وَلها ثلثه، تضرب التِّسْعَة فِي ثَلَاثَة؛ فَتكون سَبْعَة و (عشْرين) ، للْأُم سِتَّة، وَللزَّوْج تِسْعَة، وَيبقى اثْنَا عشر؛ للجدّ ثَمَانِيَة، وَللْأُخْت أَرْبَعَة.
الأكدريةُ أُمُّ الْفروج. هَذَا مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ بعد أَن بوَّب: الِاخْتِلَاف فِي مَسْأَلَة الأكدرية. ثمَّ ذكر فِي بَاب: كَيْفيَّة الْمُقَاسَمَة بَين الجِدّ وَالإِخْوَة (قَول زيد) كَمَا (رُوِيَ) الإِمَام الرَّافِعِيّ أَولا.
وَفِي «سنَن سعيد بن مَنْصُور» : ثَنَا هشيم، ثَنَا الْمُغيرَة، عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: قَالَ عليٌّ للزَّوْج ثَلَاثَة أسْهم، وَللْأُمّ سَهْمَان، وللجد سهم، وَللْأُخْت ثَلَاثَة أسْهم. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: للزَّوْج ثَلَاثَة أسْهم، وَللْأُمّ سهم؛ وللجد سهم، وَللْأُخْت ثَلَاثَة أسْهم.
وَقَالَ زيد بن ثَابت: للزَّوْج ثَلَاثَة، وَللْأُمّ سَهْمَان، وللجد سهم، وَللْأُخْت ثَلَاثَة أسْهم، تُضْرب جَمِيع السِّهَام فِي ثَلَاثَة، فَتكون سَبْعَة(7/243)
وَعشْرين، للزَّوْج من ذَلِك تِسْعَة، وَللْأُمّ سِتَّة، يَبْقَى اثْنَا عشر؛ للجدّ مِنْهَا ثَمَانِيَة، وَللْأُخْت أَرْبَعَة. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: للزَّوْج النّصْف، وَللْأُمّ الثُّلُث، وللجد مَا بَقِي، وَلَيْسَ للْأُخْت شَيْء» .
وَرَوَى ابْنُ حزم من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: حَدثُونِي عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، عَن الشّعبِيّ قَالَ: حدَّثَني (راوية) زَيْدِ بن ثَابت - يَعْنِي: قبيصَة بن (ذُؤَيْب) أَنه لم يقل فِي الأكدرية شَيْئا - يَعْنِي: زيد بن ثَابت -.
الْأَثر الرَّابِع عشر: «فِي المُبَعَّض: يُحْجَبُ بِقَدْر مَا فِيهِ من الرِّقِّ ... » إِلَى آخِره.
هَذَا غَرِيب عَنهُ. بل فِي «الْبَيْهَقِيّ» عَنهُ أَنه قَالَ: «المملوكون وَأهل الْكِتَابَة بِمَنْزِلَة الْأَمْوَات» .
الْأَثر الْخَامِس عشر: قَول زيد «فِي الجدّ وَالإِخْوَة؛ حَيْثُ كَانَ ثلث الْبَاقِي بعد الْفَرْض خيرا لَهُ فِي الْقِسْمَة» .
هَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة إِبْرَاهِيم عَنهُ «أَنه كَانَ يُشْرك الجدَّ إِلَى الثُّلُث مَعَ الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات، فَإِذا بلغ الثُّلُث أعطَاهُ الثُّلُث، وَكَانَ للإخوة وَالْأَخَوَات مَا بَقِي» ثمَّ سَاق ذَلِك إِلَى أَن قَالَ: «فَإِن لحقتِ(7/244)
(الْفَرَائِض) امْرَأَة (و) زوج (و) أُمّ؛ أعطي أهل الْفَرَائِض فرائضهم، وَمَا بَقِي قَاَمَ الْأُخوة وَالْأَخَوَات، فَإِن كَانَ ثلث مَا بَقِي خير لَهُ من الْمُقَاسَمَة أعطَاهُ ثلث مَا بَقِي (وَإِن كَانَت الْمُقَاسَمَة خيرا لَهُ من ثلث مَا بَقِي) قَاسم، وَإِن كَانَ سدس جَمِيع [المَال خيرا لَهُ من الْمُقَاسَمَة أعطَاهُ السُّدس، وَإِن كَانَت الْمُقَاسَمَة خيرا لَهُ من سدس جَمِيع المَال] قَاسم.
الْأَثر السَّادِس عشر: اتّفقت الصَّحَابَة عَلَى الْعَوْل فِي زمن عُمر حِين ماتَتِ امرأةٌ فِي عَهده عَنْ زوجٍ وأختين؛ فَكَانَت أول فَرِيضَة عائلة فِي الْإِسْلَام، فَجمع الصَّحَابَة وَقَالَ: فرض اللَّهُ للزَّوْج النّصْف، وللأختين الثُّلثَيْنِ؛ فَإِن بدأت بِالزَّوْجِ لم يَبْقَ للأختين حَقُّهُمَا، وَإِن بدأت بالأختين لم يبْق للزَّوْج حَقُّه؛ فأشيروا عليَّ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ ابْن عَبَّاس بالعول فَقَالَ: أرأيتَ لَو مَاتَ رجلٌ وَترك سِتَّة دَرَاهِم، ولرجلٍ عَلَيْهِ ثَلَاثَة وَللْآخر أَرْبَعَة، أَلَيْسَ يَجْعَل المَال سَبْعَة أَجزَاء؟ فَأخذ الصَّحَابَة بقوله - رَضِي الله عَنهُ - ثمَّ أظهر ابْن عَبَّاس الْخلاف فِيهِ بعد ذَلِك وَلم يَأْخُذ بقوله - رَضِي الله عَنهُ - إِلَّا قَلِيل» .
هَذَا لَا يَحْضُرُني هَكَذَا، وَإِنَّمَا فِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» بَاب الْعَوْل فِي الْفَرَائِض، ثمَّ ذكر بِسَنَدِهِ: أَن أول مَنْ أعال الْفَرَائِض زيدُ بْنُ ثَابت، وَكَانَ أَكثر مَا أعالها بِهِ الثُّلثَيْنِ» .(7/245)
وَعَن عليّ: «فِي: امرأةٍ وأبوين و (ابْنَيْنِ) ، صَار ثُمنها تسعا» .
وَعَن عبد الله وعليّ: «أَنَّهُمَا أعالا فِي الْفَرَائِض» .
وَعَن عبيد الله بن عبد الله بن (عتبَة) بن مَسْعُود قَالَ: «دخلتُ أَنا وزفرُ بن أَوْس بن الْحدثَان عَلَى ابْن عَبَّاس بَعْدَمَا ذهب بَصَره، فتذاكرنا فرائضَ الْمِيرَاث، فَقَالَ: ترَوْنَ الَّذِي أحصى رمل عالج عددا لم (يحص) فِي مالٍ نصفا وَنصفا وَثلثا، إِذا ذهب نصفٌ ونصفٌ؛ فَأَيْنَ مَوضِع الثُّلُث؟ ، فَقَالَ لَهُ زفر: يَا ابْن عَبَّاس: (من) أوَّل من أعال الفرائضَ؟ قَالَ: عمر بن الْخطاب قَالَ: ولِمَ؟ قَالَ: لمَّا تدافعتْ عَلَيْهِ وَركب بَعْضهَا بَعْضًا قَالَ: وَالله مَا أَدْرِي كَيفَ أصنع بكم؟ واللَّهِ مَا أَدْرِي أَيّكُم قدَّمَ اللَّهُ وَلَا أَيّكُم أخَّر. قَالَ: وَمَا أجد فِي هَذَا [المَال] شَيْئا (أحسن) مِنْ أَن (أقسم) عَلَيْكُم بِالْحِصَصِ. ثمَّ قَالَ ابْن عَبَّاس: وأيْمُ الله لَو قَدَّمَ مَنْ قدَّمَ اللَّهُ، وأخَّر مَنْ أخَّرَ اللَّهُ مَا عالتْ فريضةٌ. فَقَالَ لَهُ زفر:
وأيهم قَدَّم؟ وأيهم أخَّر؟ فَقَالَ: كل فَرِيضَة لَا تَزُول إِلَّا إِلَى فَرِيضَة، فَتلك الَّتِي قدَّم اللَّهُ، وَتلك فريضةٌ؛ الزَّوْج لَهُ النّصْف، فَإِن زَالَ فَلهُ الرُّبع لَا يُنْقص مِنْهُ، وَالْمَرْأَة لَهَا الرُّبْع، فَإِن زالتْ عَنهُ صَارَت إِلَى الثُّمْن لَا(7/246)
يُنْقَص مِنْهُ، وَالْأَخَوَات لَهُنَّ الثُّلُثَانِ، والواحدة لَهَا النّصْف، فَإِن دخلن عَلَيْهِنَّ الْبَنَات كَانَ لَهُنَّ مَا بَقِي فَهَؤُلَاءِ الَّذين أخَّر الله، فَلَو أعْطى مَنْ قدَّم الله فَرِيضَة كَامِلَة، ثمَّ قَسَّم مَا يَبْقَى بَين من أخَّر الله بِالْحِصَصِ مَا عالتْ فريضةٌ. فَقَالَ لَهُ زفر: مَا مَنعك أَن تُشِير بِهَذَا الرَّأْي عَلَى عُمر؟ فَقَالَ: هِبْتُهُ وَالله» . قَالَ ابْن إِسْحَاق: قَالَ لي الزُّهْرِيّ: وايمُ اللَّهِ: لَوْلَا أَنه تقدم إِمَام هدى كَانَ أمْره عَلَى الْوَرع مَا اخْتلف عَلَى ابْن عَبَّاس اثْنَان من أهل الْعلم.
وَذكر هَذَا الْحَاكِم بأخْصَرَ مِنْ هَذَا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ. قَالَ أَبُو عَمرو بن الْحَاجِب فِي كِتَابه فِي «الْأُصُول» : وَانْفَرَدَ ابْن عَبَّاس بإنكار الْعَوْل. قلت: لَا، فقد وَافقه عَطاء وابْنُ الْحَنَفِيَّة وَدَاوُد وأصحابُه، كَمَا نَقله عَنْهُم أَبُو مُحَمَّد بن حزم ثمَّ اخْتَارَهُ.
الْأَثر (السَّابِع) عشر: المِنْبَرِيَّة: سُئِلَ عَنْهَا عليُّ بن أبي طَالب - كرَّم الله وَجهه - وَهُوَ عَلَى المِنْبَر، وَهِي: زَوْجَة وبنتين وأبوين فَقَالَ عَلَى الارتجالِ: صَار ثُمْنها تُسْعًا، وَذَلِكَ لِأَن (ثلثه) من سَبْعَة وَعشْرين تُسع فِي الْحَقِيقَة.
وَهَذَا قد أخرجه أَبُو عبيد فِي «غَرِيبه» ثمَّ البيهقيُّ فِي «سنَنه» وَلم يذكرَا أَنه قَالَ ذَلِك عَلَى الْمِنْبَر، ولفظها كَمَا تقدَّم فِي الْأَثر قبله؛ فَإِن لفظ(7/247)
أبي عبيد كلفظه.
وَذكر الإِمَام الرَّافِعِيّ مسَائِل مُلَقَّبَات مَشْهُورَة فِي كُتُب الفرضيين، فَمِنْهَا:
مربعات ابْن مَسْعُود: وَهِي: بنت وَأُخْت وجد، قَالَ: للْبِنْت النّصْف، وَالْبَاقِي بَينهمَا مُنَاصَفَة. [وَزوج وَأم وجد، قَالَ: للزَّوْج النّصْف، وَالْبَاقِي بَينهمَا] . وَزَوْجَة وَأم [وجد] وَأَخ. جعلَ المَال بَينهم أَربَاعًا.
وَزَوْجَة وَأُخْت وجدّ؛ قَالَ: للزَّوْجَة الرّبع، وَللْأُخْت النّصْف، وَالْبَاقِي للجدِّ. فالصور كلهَا مِنْ أَرْبَعَة، والأخيرة (تسمى) مربعة [الْجَمَاعَة] ؛ لأَنهم كلهم جعلوها من أَرْبَعَة، وإنِ اخْتلفُوا فِي بعض الْأَنْصِبَاء.
ثمَّ ذكر بعد ذَلِك: (الثمنية و) التسعينية، والنصفية، والعمريتان، والمباهلة، والناقضة، والدينارية وَكلهَا مَشْهُورَة فِي كُتُبِ (الْفَرَائِض) فَلَا نطوّل بالْكلَام عَلَيْهَا، ونشرع فِيمَا هُوَ أهَمُّ مِنْ ذَلِك؛ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.(7/248)
كتاب الْوَصَايَا(7/249)
كتاب الْوَصَايَا
ذكر فِيهِ من الْأَحَادِيث ثَلَاثَة وَعشْرين حَدِيثا:
الحَدِيث الأوَّل
عَن أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَدِمَ الْمَدِينَة؛ فَسَأَلَ عَن الْبَراء بن معْرور، فَقيل لَهُ: هلك، وَأَوْصَى (لَك) بثُلث مَاله. فَقَبِلَهُ، ثمَّ ردَّه إِلَى ورثته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وتلميذُه البيهقيُّ فِي «سنَنه» عَنهُ، من حَدِيث نُعيم بن حَمَّاد، عَن الدَّرَاورْدِي، عَن يَحْيَى بن عبد الله بن أبي قَتَادَة، عَن أَبِيه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين قَدِم الْمَدِينَة سَأَلَ عَن الْبَراء بن معْرور، فَقَالُوا: تُوفِّي، وَأَوْصَى بِثُلثِهِ لَك يَا رَسُول الله، وَأَوْصَى أَن يُوَجَّه إِلَى الْقبْلَة لمَّا احْتضرَ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أصَاب الْفطْرَة، وَقد رددتُ ثلثه عَلَى وَلَده. ثمَّ ذهب فصلىَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ (وارحمه) وَأدْخلهُ جنتك» .
ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلَا أعلم فِي تَوْجِيه المحتضر إِلَى الْقبْلَة غير هَذَا الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة(7/251)
وَالسَّلَام قدم بعد سنة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا وجدْتُه فِي كتابي، (و) الصَّوَاب: شهر. وَفِي رِوَايَة للطبراني من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، ثَنَا مَعْبَدٌ أَو أَبُو مُحَمَّد بن معبد، عَن أبي قَتَادَة، عَن الْبَراء بن معْرور (أَنه أَوْصَى للنَّبِي (بِثُلث مَاله، يَضَعهُ حَيْثُ شَاءَ فردَّه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى وَلَده» .
فَائِدَة: أوّل مَنْ أَوْصَى بِالثُّلثِ البراءُ بن معْرور، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ أَوْصى أَن يُدْفَنَ إِلَى الْقبْلَة أَيْضا. وَفِي «الْبَيْهَقِيّ» فِي (الْجَنَائِز) فِي «سنَنه» عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن كَعْب بن مَالك فِي قصَّة ذكرهَا، قَالَ: فَكَانَ الْبَراء بن معْرور أوَّل مَنْ اسْتقْبل الْقبْلَة حيًّا وَمَيتًا) .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «جَاءَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعودُني مِنْ وجع اشْتَدَّ بِي، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي قد بلغ بِي من الوجع مَا ترَى، وَأَنا ذُو مالٍ وَلَا يَرِثنِي إِلَّا ابْنة لي؛ أفأتصدَّق بِثُلثي مَالِي؟ قَالَ: لَا. قلت فَالشَّطْر يَا رَسُول الله؟ قَالَ: لَا. قلت: فَالثُّلُث؟ قَالَ: الثُّلُث، وَالثلث كثير - أَو: كَبِير - إِنَّك إِن تذر وَرثتك أَغْنِيَاء خيرٌ أنْ تذرهم عَالَة يَتَكَفَّفُونَ الناسَ» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، (وَهُوَ) صحيحٌ، أخرجه(7/252)
الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك وَزِيَادَة: بعد «يعودنِي» : «فِي حَجَّة الْوَدَاع» وَزَادا فِي آخِره: «وَإنَّك لن تنْفق نَفَقَةً تبتغي بهَا وجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بهَا، حَتَّى مَا تجْعَل فِي فيِّ امْرَأَتك، قَالَ: فَقلت يَا رَسُول الله: أُخَلَّفُ بعد أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي بِهِ وجْه الله إِلَّا ازددتَ بِهِ دَرَجَة ورِفْعَةً، ولعلك إنْ تخلف حَتَّى ينْتَفع بك أقوامٌ ويُضَرُّ بك آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أمْضِ لِأَصْحَابِي هجرتهم وَلَا تردهم عَلَى أَعْقَابهم، لَكِن البائس سعدُ بن خَوْلَة يرثي لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَن مَاتَ بِمَكَّة» .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «فأُوصي بِثُلثي مَالِي؟ ، قَالَ: لَا» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ «يرحم الله ابْنَ عفراء» .
وَهُوَ وهْم، وَالْمَحْفُوظ «ابْنَ خَوْلَة» كَمَا ذكره البخاريُّ فِي مَوضِع آخر، وَلَعَلَّ الوهْم مِنْ سعد بن إِبْرَاهِيم، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَخَالف سفيانُ الجماعةَ، فَقَالَ: «عَام الْفَتْح» وَالصَّحِيح «فِي حَجَّة الْوَدَاع» . وَقد أوضحتُ الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث فِي «شرح الْعُمْدَة» و «تخريجي لأحاديث المهذَّب» ؛ فَسَارِعْ إِلَيْهِ.
تَنْبِيه: وَقع لي هَذَا الحَدِيث فِي «الْخُلَاصَة عَلَى مَذْهَب أبي حنيفَة» عَن معَاذ بدل سعد بن أبي وَقاص، وَهُوَ غلط؛ فاجْتَنِبْهُ. وَوَقع فِي رِوَايَة إِمَام الْحَرَمَيْنِ تَبَعًَا للْقَاضِي حُسَيْن بَعْدَ «وَلَا يَرِثنِي إِلَّا ابْنة وَهِي مِنِّي» . وَلم أرَ هَذِه الزيادةَ فِي كتاب حديثٍ.(7/253)
الحَدِيث الثَّالِث
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله أَعْطَاكُم ثلثَ أَمْوَالكُم آخر (أعماركم) زِيَادَة فِي أَعمالكُم» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَهُوَ يرْوَى من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِن الله تصدَّق عَلَيْكُم عِنْد وفاتكم بِثُلثِ أَمْوَالكُم؛ زِيَادَة لكم فِي أَعمالكُم» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا فِي «مُسْنده» (وَلَفظه «إِن الله - تبَارك وَتَعَالَى - أَعْطَاكُم عِنْد وفاتكم ثلث أَمْوَالكُم زِيَادَة فِي أَعمالكُم» وَفِي إِسْنَاده) طَلْحَة بن عَمرو الْمَكِّيّ (رَاوِيه) عَن عَطاء، عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد ضَعَّفُوهُ، قَالَ أَحْمد: لَا شَيْء، مَتْرُوك الحَدِيث. ولينَّه الْبَزَّار فَقَالَ: لم يكن بِالْحَافِظِ.
ثَانِيهَا: من حَدِيث معَاذ بن جبل مَرْفُوعا: «إِن الله تصدَّق عَلَيْكُم بثُلثِ أَمْوَالكُم عِنْد وفاتكم؛ زِيَادَة لكم فِي حسناتكم، ليجعل لكم زَكَاة فِي أَمْوَالكُم» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» والبيهقيُّ فِي «خلافياته» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش (عَن) عتبَة بن حميد، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة،(7/254)
عَن معَاذ بِهِ. و «الْقَاسِم» هَذَا هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن، وَفِيه ضَعْفٌ، و «إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش» ضَعِيف فِي رِوَايَته عَن غير الشاميين، وَهَذَا مِنْ رِوَايَته عَن غَيرهم فِإنه (عَن) «عتبَة بن حميد» (و) هُوَ بَصرِي، مَعَ أَن عتبَة ضعَّفه أحمدُ.
ثَالِثهَا: من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: «إِن الله تصدَّق عَلَيْكُم بِثلث أَمْوَالكُم عِنْد وفاتكم» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَفِي إِسْنَاده أَبُو بكر بن أبي مَرْيَم؛ وَفِيه ضعف، يخلط كثيرا، قَالَ ابْن حبَان: رَدِيء الْحِفْظ، لَا يُحْتج بِهِ إِذا انْفَرد.
رَابِعهَا: من حَدِيث الْحَارِث بن خَالِد بن عبيد الله السّلمِيّ، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْطَاكُم ثلث أَمْوَالكُم عِنْد وفاتكم؛ زِيَادَة فِي أَعمالكُم» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ، وَابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» ، لَهما من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن عقيل بن مدرك عَن الْحَارِث بِهِ.(7/255)
و «عقيل» هَذَا شاميٌّ؛ فإسناد هَذَا الحَدِيث إِذن جيد، لَكِن فِي «معرفَة الصَّحَابَة» لِابْنِ الْأَثِير: خَالِد بن عبيد الله - وَقيل: عبد الله - بن الْحجَّاج السّلمِيّ: مُخْتَلف فِي صحبته، رَوَى عَنهُ الْحَارِث: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: إِن الله أَعْطَاكُم عِنْد وفاتكم ثلث أَمْوَالكُم» . قَالَ أَبُو عمر: [إِسْنَاد] حَدِيثه هَذَا لَا تقوم بِهِ حُجَّة؛ لأَنهم مَجْهُولُونَ. وَتَبعهُ الذهبيُّ فِي «مُخْتَصره» فَقَالَ: خَالِد بن عبيد الله بن الْحجَّاج السّلمِيّ مُخْتَلف فِي صحبته، وَإسْنَاد حَدِيثه واهٍ.
خَامِسهَا: من حَدِيث أبي بكر الصدّيق، رِفعه: «إِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - قد تصدَّق عَلَيْكُم بِثلث أَمْوَالكُم (عِنْد) موتكم» .
رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» ثمَّ قَالَ: هَذَا بَاطِل، لَا يُتابع عَلَيْهِ، رَوَاهُ حَفْص بن عُمر بن مَيْمُون رَوَى عَن الْأَئِمَّة البواطيلَ، قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث قد رُوي عَن طَلْحَة بن عَمرو عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة بِهَذَا اللَّفْظ، وَطَلْحَة ضَعِيف. وَأَشَارَ إِلَى الطَّرِيق الأوَّل السالف.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن ابْن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا حق امْرِئ لَهُ مَال يُرِيد أَن يُوصي فِيهِ يبيت لَيْلَتَيْنِ إِلَّا ووصيته مَكْتُوبَة عِنْده» .(7/256)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «مَا حق امْرِئ مُسلم لَهُ شَيْء يُرِيد أَن يُوصي فِيهِ» .
وَفِي لفظ: «لَهُ شَيْء يُوصي فِيهِ، يبيت لَيْلَتَيْنِ» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «ثَلَاث ليالٍ، إِلَّا ووصيته مَكْتُوبَة عِنْده» .
وللبيهقي وَالْبَزَّار: «مَال» بدل «شَيْء» .
وَله - أَعنِي: الْبَيْهَقِيّ - «لَيْلَة أَو لَيْلَتَيْنِ» ، وَعَزاهُ إِلَى مُسلم.
وَللشَّافِعِيّ: «مَا حق امْرِئ يُوصي بِالْوَصِيَّةِ، وَله مَال يُوصي فِيهِ، يَأْتِي عَلَيْهِ ثلاثُ ليالٍ. .» الحديثَ.
وَلأَحْمَد: «مَا حق امْرِئ يبيت لَيْلَتَيْنِ، وَله مَا يُرِيد أَن يُوصي فِيهِ إِلَّا ووصيته مَكْتُوبَة عِنْده» .
وَادَّعَى ابْن دَاوُد - من أَصْحَابنَا - أَنه جَاءَ فِي رِوَايَة: «ووصيته مختومة عِنْده» . وَفِي أُخْرَى: «مَكْتُوبَة تَحت رَأسه» وَفِي «الْوَسِيط» : «عِنْد رَأسه» . وَكله غَرِيب.
تَنْبِيه: حمل بَعضهم هَذَا الحَدِيث عَلَى مَنْ عِنْده أمانات النَّاس، أَو عَلَيْهِ دُيُون لَهُم؛ فَتلْزمهُ الْوَصِيَّة بذلك، وَهُوَ حسنٌ، وَيحْتَمل غير ذَلِك، كَمَا ذكره الرافعيٌّ عَنِ الشَّافِعِي، وَقد ذكرتُه عَنهُ فِي «شرح الْعُمْدَة» فليراجعْ مِنْهُ.(7/257)
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «حقٌّ عَلَى كلِّ مسلمٍ أَن يغْتَسل فِي الْأُسْبُوع مَرَّةً» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا) من حَدِيث أَبَى هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «حقُّ للَّهِ عَلَى كلِّ مسلمٍ أَن يغْتَسل فِي (كل) سَبْعَة أَيَّام يَوْمًا، يغسل رَأسه وَجَسَده» .
وَأخرجه النَّسَائِيّ بإسنادٍ عَلَى شَرط «الصَّحِيح» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من (حَدِيث جَابر) أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «عَلَى كلِّ رجلٍ مسلمٍ فِي كل سَبْعَة أَيَّام (غسل) يومٍ وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة» .
الحَدِيث السَّادِس
عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «أفْضَلُ الصَّدَقَة أَن تصدَّق وَأَنت صحيحٌ شحيحٌ، تَأمل الغِنَى وتَخْشى الفقرَ، وَلَا تمهل حَتَّى إِذا بلغت الْحُلْقُوم قلت لفلانٍ كَذَا» .(7/258)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قيل لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَي الصَّدَقَة أفْضَلُ؟ قَالَ: أَن تصدَّق وَأَنت صَحِيح شحيحٌ، تَأمل الْغِنَى وتخشى الفقرَ، وَلَا (تَدَعْ) حَتَّى إِذا بلغتِ الْحُلْقُوم قلتَ: لفُلَان كَذَا، وَقد كانَ لفلانٍ» . وَفِي لفظ: «ولفلانٍ كَذَا» .
وَلمُسلم: «تَأمل الْبَقَاء» .
وللبخارى: «صحيحٌ حريصٌ» .
وَلأبي دَاوُد: «وَلَا تمهل» .
وَلابْن مَاجَه: «تَأمل الْعَيْش وَتخَاف الفقرَ، وَلَا تمهل حَتَّى إِذا بلغتْ نَفْسُك هَاهُنَا قلتَ: مَالِي لفلانٍ، وَمَالِي لفلانٍ. وَهُوَ لَهُم وَإِن كرهتَ» .
وللبخاري: «يَا رَسُول الله، أَي الصَّدَقَة أعظم أجرا؟ ... . .» فَذكره.
وَلمُسلم: «أما وَأَبِيك لَتُنَبَّأَنَّهُ ... .» فَذكره.(7/259)
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي كل كبدٍ حرى أجرٌ» .
هَذَا الحَدِيث ثَابت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة الرجل الَّذِي سَقَى الكلبَ مِنْ خُفِّه، لَكِن بِلَفْظ: «رطْبة» بدل «حرى» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «أَن بَغِيًّا سَقَتْهُ فِي مُوقها - يَعْنِي: خُفَّها -: فغفر لَهَا» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث سراقَة بن مَالك بألفاظٍ: «فِي الكبد الحارَّة أجرٌ» . و «فِي كل كَبْدٍ حرى سَقَيْتَهَا أجرٌ» . و «فِي كل ذاتِ كبدٍ حرى. أجرٌ» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وابْنُ حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث سراقَة بن جُعْشُم، وهُوَ هُوَ نِسْبَة إِلَى جده: «سألتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(7/260)
عَن ضَالَّة الْإِبِل تغشى حياضي قد (لطتها) لإبلي، فَهَل لي من أجْرٍ إنْ سقيْتُها؟ فَقَالَ: نعم، فِي كل ذَات كبدٍ حرى أجرٌ» .
هَذَا لفظ ابْن مَاجَه، وَلَفظ ابْن حبَان نَحْوه. وَرَوَاهُ من هَذَا الْوَجْه أحمدُ فى «مُسْنده» أَيْضا، فَقَالَ عَن سراقَة بن (مَالك بن) جُعْشُم، وَكَذَا الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمته.
وَله طَرِيق ثَالِث: من حَدِيث الْقَاسِم بن مَالك بن مخول السّلمِيّ: «قلت: يَا رَسُول الله، الضَّوَال تَرِدُ علينا؛ هَل لنا أجرٌ أَن نسقيها؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي كل كبدٍ حرى أجرٌ» .
رَوَاهُ أَبُو يعْلى الْموصِلِي، وَاقْتصر عَلَيْهِ صَاحب «الْإِلْمَام» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الْقَاسِم بن مخول عَن أَبِيه رَفعه: «فِي كل ذَات كبدٍ حرى أجرٌ» .
وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن [مسمول] فِيهِ خلف.
وَله طَرِيق رَابِع: من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: «أَن رجلا جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أنزعُ فِي حَوْضِي(7/261)
حَتَّى إِذا ملأتُه لإبلي وَرَدَ عليَّ البعَِيْرُ لغيري فسقيتُه؛ فَهَل لي (فِي) ذَلِك من أجر؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فِي كل ذَات كبدٍ حرى أجْرٌ» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن هَارُون بن مَعْرُوف، ثَنَا عبد الله بن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي أُسَامَة، أَن عَمْرو بن شُعَيْب حدَّثه عَن أَبِيه، عَن جده ... ... فَذكره.
وَذكره ابْنُ السكن فِي «صحاحه» من هَذَا الْوَجْه، وَكَذَا أَبُو نُعَيْم، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» .
الحَدِيث الثَّامِن
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ للْقَاتِل وَصِيَّة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من رِوَايَة بَقِيَّة بن الْوَلِيد، ثَنَا مُبشر بن عبيد، عَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن الحكم بن عتيبة، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن عليٍّ مَرْفُوعا بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَاد واهٍ بِاتِّفَاق الْحفاظ، «بَقِيَّة» عرفتَ حَاله فِيمَا مَضَى، وَقد رَوَاهُ عَن ضَعِيف وضَّاع وَهُوَ «مُبشر بن عبيد» (وحجاج ضَعِيف، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ مُبشر بن عبيد)(7/262)
وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى وضع الحَدِيث، وَإِنَّمَا ذكرت هَذَا الحديثَ لتعرف رواتُه. وَكَذَا قَالَ فِي «خلافياته» وَقَالَ أَبُو أَحْمد: هَذَا حَدِيث مُنكر؛ لَا يرويهِ عَن عاصمٍ غير حجاج، وَلَا (عَن) حجاج غير مُبشر.
قلت: وَكَأن هَذِه طَرِيق أُخْرَى، وَضَعفه أَيْضا عبد الْحق؛ قَالَ: هَذَا الحَدِيث إِسْنَاده ضَعِيف. وضَعَّفه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» أَيْضا لَكِن بالحجاج وَحده، وَلَيْسَ بِجَيِّد، فتضعيفهُ بمبشر - هَذَا الوضَّاع - أَوْلى، وَقَالَ ابْن الصّباغ - من أَصْحَابنَا -: هَذَا الحَدِيث لَا نعرفه عَن أهل الحَدِيث. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي «نهايته» : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ عَلَى الرُّتْبَة الْعَالِيَة فِي الصِّحَّة، فَالصَّحِيح: «لَا وَصِيَّة لوارثٍ» .
قلت: وَلَا عَلَى الرُّتْبَة المتوسطة، بل وَلَا فِي أصل الصَّحِيحَة، بل هُوَ واهٍ جدًّا، بل الظَّاهِر أَنه مَوْضُوع.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا وَصِيَّة لوَارث» . وَذكره الرَّافِعِيّ بعد بِلَفْظ آخر، وَهُوَ: «إِن الله قد أعْطى كل ذِي حقٍ حَقَّهُ، أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث» .
هَذَا الحَدِيث يُرْوَى من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول فِي خطبَته عَام حجَّة الْوَدَاع: «إِن الله قد أعْطى كلَّ ذِي حقٍّ حقٍّه،(7/263)
فَلَا وَصِيَّة لوَارث»
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن شُرَحْبِيل بن مُسلم، وَهُوَ حِمْصيّ من أهل الشَّام، وَقد أسلفنا ذَلِك فِي بَاب الضَّمَان وَغَيره.
ثَانِيهَا: من حَدِيث عَمرو بن خَارِجَة قَالَ: «خطب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى نَاقَته وَأَنا تَحت جِرَانهَا وَهِي تَقْصَعُ بجرتها وَإِن لُعَابهَا يسيل بَين كَتِفي، فَسَمعته يَقُول: إِن الله قد أعْطى كل ذِي حق حقَّه، فَلَا وَصِيَّة لوَارث» .
رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح.
قلت: و «شهر بن حَوْشَب» هَذَا تَرَكُوهُ - أَي: طعنوا فِيهِ - وَمن جملَة مَا أُنكر عَلَيْهِ مَا قَالَه فِي هَذَا الحَدِيث عَن عَمرو بن خَارِجَة: «أَنه كَانَ تَحت جران نَاقَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .(7/264)
والجران: بطن الْعُنُق مِمَّا يَلِي الأَرْض، وَأَيْنَ يصل عَمرو إِلَى ذَلِك؟ وَهَذَا مُجَرّد استبعاد، وَهُوَ مُمكن.
وَرَوَاهُ لَيْث بن أبي سليم، عَن مُجَاهِد، عَن عَمرو بن خَارِجَة هَذَا: «فَلَا تجوز وَصِيَّة لوَارث» .
قلت: وَرَوَاهُ همام وَالْحجاج بن أَرْطَاة وَعبد الرَّحْمَن بن عبد الله المَسْعُودِيّ وَالْحسن بن دِينَار وغيرُهم عَن قَتَادَة، فَلم يذكرُوا ابْنَ غُنْم.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن الْمُبَارك، عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، عَن قَتَادَة، عَن عَمرو، فأسقط شهْرًا وابْنَ غنم، لَكِن الظَّاهِر إرْسَاله؛ فَإِن أَحْمد بن جنبل قَالَ: مَا أعلم قتادةَ سمع مِنْ أحدٍ من الصَّحَابَة إِلَّا من أنس.
ثَالِثهَا: من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «إِنِّي لتحْت نَاقَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسيل عليَّ لُعَابهَا؛ فَسَمعته يَقُول: إِن الله أعْطى كلَّ ذِي حق حَقه، أَلا لَا وصيةَ لوَارث» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن هِشَام بن عمار، عَن مُحَمَّد بن شُعَيْب، عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر، عَن سعيد بن أبي سعيد، عَن أنس بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات، وَالظَّاهِر أَن سعيد بن أبي سعيد هُوَ «المَقْبُري» المُجْمع عَلَى ثقته، وَبِه صرَّح ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» وَكَذَا الْمزي.(7/265)
وَالْبَيْهَقِيّ رَوَاهُ من طَرِيق عمر [عَن] عبد الرَّحْمَن بن يزِيد، ثمَّ قَالَ: رَوَاهُ الْوَلِيد بن مزِيد، عَن ابْن جَابر، عَن سعيد بن أبي سعيد - شيخ بالسَّاحل - قَالَ: حدَّثني رجل من أهل الْمَدِينَة قَالَ: «إِنِّي لتَحْت نَاقَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوي من أوجه ضَعِيفَة، فَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى ضعف الطَّرِيق الْمَذْكُور، وَلَعَلَّه يرَى أَن سعيد بن أبي سعيد الشاميَّ لَا المَقْبُري. وَقد ذكر ابْن عَسَاكِر فِي «تَارِيخه» فِي تَرْجَمَة المَقْبُري: أَنه قَدِمَ الشامَ مرابطًا، وحدَّث ببيروت، وَسمع [مِنْهُ] بهَا عَبْدَ الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر.
وفرَّق الخطيبُ فِي كِتَابه «الْمُتَّفق والمفترق» بَين المقبريِّ المدنيِّ وَبَين الَّذِي حدَّث ببيروت وَلَيْسَ بجَيِّد، فعلَى مَا قَالَه ابْن عَسَاكِر عِلّة الحَدِيث جَهَالَة الرجل من أهل الْمَدِينَة، وَبِه صرَّح الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» وَالظَّاهِر أَنه من تَقْصِير بعض الروَاة، وَإِنَّمَا هُوَ أنس.
وَذكر الْخَطِيب فِي هَذَا الْكتاب أَن الشاميَّ يروي عَن أنس، وَخَالف ابْن الْجَوْزِيّ فَذكر فِي «تَحْقِيقه» مَا أسلفناه عَن البيهقيِّ، ثمَّ قَالَ: الساحليُّ مَجْهُول. وَقد علمتَ مَا فِيهِ.
ولمَّا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من طَرِيق الشَّافِعِي عَن ابْن عُيَيْنَة،(7/266)
عَن سُلَيْمَان الْأَحول، عَن مُجَاهِد أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا وَصِيَّة لوَارث» قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي: وَرَوَى بعض الشاميين حَدِيثا لَيْسَ مِمَّا يُثْبته أهلُ الحَدِيث، فَإِن بعض رِجَاله مَجْهُولُونَ، فَروينَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُنْقَطِعًا، واعتمدنا عَلَى حَدِيث الْمَغَازِي (عَامَّة) أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ عَام الْفَتْح: «لَا وَصِيَّة لوَارث» . وَإِجْمَاع (الْعلمَاء) عَلَى القَوْل بِهِ. ثمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي دَاوُد حديثَ أبي أُمَامَة السالف، ثمَّ ذكر عَن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: مَا رَوَى إِسْمَاعِيل عَن الشاميين صحيحٌ. قَالَ: وَكَذَا قَالَ البُخَارِيّ وَجَمَاعَة من الحُفَّاظ، وَهَذَا الحَدِيث إِنَّمَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيل عَن شاميّ.
قلت: ظهر بِهَذَا أَن هَذَا (هُوَ) الحَدِيث الَّذِي عناه الشافعيُّ بقوله: «وَرَوَى بعض الشاميين حَدِيثا ... » إِلَى آخِره، وَقد صرَّح الْبَيْهَقِيّ بذلك فِي كتاب «الْمعرفَة» وَلَيْسَ فِي رِجَاله مَجْهُول، وَابْن عَيَّاش مَعْرُوف، وَرَوَاهُ عَن شاميّ، رِوَايَته صَحِيحَة عَنْهُم كَمَا سلف؛ وَلِهَذَا حسَّنه التِّرْمِذِيّ كَمَا قدّمناه عَنهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُويَّ من وَجه آخر من حَدِيث الشاميين. ثمَّ رَوَى حديثَ عَمرو بن خَارِجَة من وَجْهَيْن (صَحِيح) - كَمَا تقدم عَن التِّرْمِذِيّ وَمن وَافقه - وضعيفٌ، ثمَّ قَالَ: والاعتماد عَلَى مَا ذكره الشَّافِعِي عَن أهل الْمَغَازِي مَعَ إِجْمَاع الْعَامَّة عَلَى القَوْل بِهِ.
قلت: قد تقرر لَك من ثَلَاثَة أوجه قوته، وَعبارَة الشَّافِعِي فِي(7/267)
«الْأُم» : ورأيتُ متظاهرًا عِنْد عَامَّة مَنْ لقيتُ مِنْ أهل الْعلم بالمغازي أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي خطبَته عَام الْفَتْح: «أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث» وَلم أر بَين النَّاس فِي ذَلِك اخْتِلَافا. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: فَوَجَدنَا أهل الْفتيا وَمن حفظنا عَنهُ من أهل الْعلم بالمغازي من قُرَيْش وَغَيرهم، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ يَوْم الْفَتْح: «لَا وَصِيَّة لوَارث وَلَا يُقْتل مُسلم بِكَافِر» ويأمرون بِهِ عَمَّن حفظوه عَنهُ مِمَّن لقوه من أهل الْعلم بالمغازي. فَكَأَن هَذَا قَول عَامَّة [عَن] عَامَّة، وَكَانَ أَقْوَى فِي بعض الْأَمريْنِ نقل وَاحِد، وَكَذَلِكَ وجدنَا عَلَيْهِ أهل الْعلم مُجْمِعِينَ.
قلت: وَله طرق أُخْرَى:
أَحدهَا: من رِوَايَة جَابر رَفعه: «وَلَا وَصِيَّة لوَارث» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْهَرَوِيّ، ثَنَا سُفْيَان، عَن عَمْرو، عَن جَابر بِهِ، ثمَّ قَالَ: الصَّوَاب مُرْسل (وَقَالَ عبد الله بن عَلّي الْمَدِينِيّ: سَمِعت أبي يَقُول: أَبُو مُوسَى الْهَرَوِيّ أَي وَهُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم) وَرَوَى عَن سُفْيَان عَن عَمرو عَن جَابر: «لَا وَصِيَّة لوَارث» (و) ثَنَا بِهِ سفيانْ، عَن عَمرو مُرْسلا.
ثَانِيهَا: من رِوَايَة عليّ بن أبي طَالب رَفعه: «الدَّين قَبْلَ الْوَصِيَّة، وَلَيْسَ لوَارث وَصِيَّة» .(7/268)
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن أبي أُنيسة الْجَزرِي، عَن أبي إِسْحَاق الْهَمدَانِي، عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عليٍّ بِهِ، وَيَحْيَى هَذَا مَتْرُوك، كَمَا قَالَه أَحْمد وغيرُه، وَعَاصِم فِيهِ مقَال.
ثَالِثهَا: من رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَفعه: «لَا وَصِيَّة لوَارث» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث يُوسُف بن سعيد، ثَنَا عبد الله بن ربيعَة (نَا) مُحَمَّد بن مُسلم (عَن) ابْن طَاوس، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَاد جيد، وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث يُوسُف هَذَا، ثَنَا حجاج - هُوَ الْأَعْوَر - ثَنَا ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «لَا تجوز الْوَصِيَّة لوَارث، إِلَّا أَن يَشَاء الْوَرَثَة» وَهَذَا مُنْقَطع كَمَا سَيَأْتِي. وبالجُمْلة فالضعف فِي بعض طرقه يجْبر مَا فِيهَا الصحيحةُ والحسنةُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تجوز الْوَصِيَّة لوَارث، إِلَّا أَن يَشَاء الْوَرَثَة» .(7/269)
وَيروَى: «لَا وَصِيَّة لوَارث، إِلَّا أَن يجيزها الْوَرَثَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأول الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث حجاج، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَنهُ.
وَرَوَاهُ هُوَ وَأَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» بِاللَّفْظِ الثَّانِي من حَدِيث عَطاء بن أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي عَنهُ مَرْفُوعا: «لَا وَصِيَّة لوَارث، إِلَّا أَن يَشَاء الْوَرَثَة» .
ثمَّ قَالَ أَبُو دَاوُد: عَطاء لم يدْرك ابْن عَبَّاس وَلم يره. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ لمَّا رَوَاهُ، وَبِهَذَا اللَّفْظ: عَطاء - هَذَا هُوَ الْخُرَاسَانِي - عَنهُ مَرْفُوعا: «لَا وَصِيَّة لوَارث، إِلَّا أَن يَشَاء الْوَرَثَة» .
قَالَه أَبُو دَاوُد وغيرُه، قَالَ: وَقد رُوي من وَجه آخر عَنهُ، وَرَوَاهُ عَن يُونُس بن رَاشد عَن عَطاء الْمَذْكُور، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «لَا تجوز (وَصِيَّة) . .» الحَدِيث.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا مِنْ هَذَا الْوَجْه، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي غير قويّ.
قلت: هُوَ ثِقَة يُرْسل (أخرج لَهُ) الْجَمَاعَة، وَيُونُس(7/270)
بن رَاشد وثَّقه أَبُو زُرْعة، ورماه خَ بالإرجاء، زَاد النَّسَائِيّ: وَكَانَ دَاعِيَة. وَقَالَ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» : عَطاء لم يدْرك ابْن عَبَّاس وَلم يره. قَالَ: وَوَصله يُونُس بن رَاشد؛ فَرَوَاهُ عَن عَطاء عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَالْمَشْهُور هُوَ الْمَقْطُوع. قَالَ ابْن الْقطَّان: لم يَعْزُ الْمَوْصُول وَلَا بَيَّن علته، وَفِيه يُونُس بن رَاشد قَاضِي (حرَّان) ثمَّ ذكر مِنْ حَاله مَا أسلفناه.
وَهَذَا الحَدِيث مَرْوي من غير طَرِيق ابْن عَبَّاس؛ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا من حَدِيث عَمرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جّدِّه مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الثَّانِي، وَفِي إِسْنَاده سهل بن عمار، كذَّبه الْحَاكِم، واحتجاج ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» بِهِ وَبِالَّذِي قبله، ورده بهما عَلَى خصومه لَيْسَ بِجَيِّدٍ مِنْهُ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن الْحسن، عَن (عَمرو) بن خَارِجَة رَفعه: «لَا وَصِيَّة لوَارث، إِلَّا أَن يُجِيز الْوَرَثَة» .
وَإِسْمَاعِيل هَذَا ثِقَة، وَلَيْسَ بالمكيّ الضَّعِيف.(7/271)
وَرَوَاهُ ابْن وهب، عَن عبد الله بن سمْعَان، وَعبد الْجَلِيل بن حميد (الْيحصبِي) ، وَيَحْيَى بن أَيُّوب، وعُمر بن قيس سندل، قَالَ عُمر بن قيس: عَن عَطاء بن أبي رَبَاح. وَقَالَ آخَرُونَ: ثَنَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي (حزم) وَاتفقَ عطاءُ وعبدُ الله أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي خطبَته: «لَا تجوز وَصِيَّة لوَارث، إِلَّا أَن يَشَاء الْوَرَثَة» . زَاد عَطاء فِي حَدِيثه: «وَإِن أَجَازُوا فَلَيْسَ لَهُم أَن يرجِعوا» . وَهَذَا مُرْسل (و) فِي إِسْنَاده جمَاعَة ضعفاء.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن عمرَان بن حُصَيْن: «أَن رجلا أعتق سِتَّة مملوكين لَهُ، لم يكن لَهُ مَال غَيرهم، فَدَعَاهُمْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وجَزَّأهم أَثلَاثًا، ثمَّ أَقرع بَينهم، وَأعْتق اثْنَيْنِ، وأرق أربّعة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَهُوَ مَعْدُود فِي أَفْرَاده، وَزَاد فِي آخِره: «وَقَالَ لَهُ قولا شَدِيدا» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَن رجلا من الْأَنْصَار أَوْصَى عِنْد مَوته؛ فَأعتق سِتَّة مملوكين» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «لَو شهدته قبل أَن يُدْفن لم (يُقْبر) فِي(7/272)
مَقَابِر الْمُسلمين» . وَفِي رِوَايَة للنسائي: «فَغَضب عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ ذَلِك، وَقَالَ: لقد هممتُ أَن لَا أُصَلِّي عَلَيْهِ. ثمَّ دَعَا مملوكيه، فجزَّأهم ثَلَاثَة أَجزَاء، ثمَّ أَقرع بَينهم ... » الحديثَ.
وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد: «أَن رجلا أعتق عِنْد مَوته سِتَّة مملوكين لَهُ، فجَاء وَرَثَة من الْأَعْرَاب فَأخْبرُوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَا صَنَعَ، قَالَ: أَوَ فَعَلَ ذَلِك؟ ! لَو علمنَا - إِن شَاءَ الله - مَا صلينَا عَلَيْهِ. فأقرع بَينهم ... » الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاة شاةٌ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا تقدَّم بَيَانه فِي كتاب الزَّكَاة. .
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ أعتق رَقَبَة مسلمة أعتق الله بكلِّ عضوٍ مِنْهَا عضوا مِنْ النَّار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِهَذَا اللَّفْظ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة و [زادا] فِي آخِره: «حتَّى فرجه بفرجه» . وَفِي رِوَايَة (لَهما) : «مَنْ أعتق رَقَبَة مُؤمنَة أعتق الله بِكُل إرب مِنْهُ إرْبًَا(7/273)
من النَّار» . وَفِي رِوَايَة لَهما: «أيُّما رجل أعْتق امْرَءًا مُسلما استنقذ الله بِكُل عضوٍ مِنْهُ عضوا مِنْهُ من النَّار» .
قَالَ سعيد بن مرْجَانَة (رَاوِيه) عَن أبي هُرَيْرَة: فانطلقتُ حِين سمعتُ الحديثَ من أبي هُرَيْرَة؛ فذكرتُه لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن؛ فَأعتق عَبْدًَا لَهُ قد أعطَاهُ بِهِ عبد الله بن جَعْفَر عشرَة آلَاف دِرْهَم أَو ألْفَ دِينَار.
وَأخرج الترمذيُّ نَحوه من رِوَايَة أبي أُمَامَة وَصَححهُ وَأخرج أَحْمد (ت) د س ق مِثْله من حَدِيث كَعْب بن مرَّة، أَو مُرَّة بن كَعْب (السّلمِيّ) .
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن أفْضَلِ الرِّقاب، فَقَالَ: أكْثَرُها ثمنا، وأنفسها عِنْد أَهلهَا» .(7/274)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أيُّ الْعَمَل أفضل؟ قَالَ: إيمانٌ بِاللَّه، وجهادٌ فِي سَبيله. قلت: فأيُّ الرّقاب أفضل؟ قَالَ: أغلاها ثمنا، وأنفسها عِنْد أَهلهَا. قلت: فَإِن لم أفعل؟ (قَالَ: تعين صانعًا أَو تصنع لأخرق. قلت: فَإِن لم أفعل) قَالَ: تَدَع النَّاس من الشرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَة تصدَّق بهَا عَلَى نَفسك» .
وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» من حَدِيث عَائِشَة كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء، واختلفتِ الرِّوَايَة فِيهِ عَن مَالك فبعضهم رَوَاهُ عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، (وَأَكْثَرهم رَوَاهُ) عَن هِشَام عَن أَبِيه مُرْسلا. وَمن هَذَا الْوَجْه أخرجه الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «حق الجِوار (أَرْبَعُونَ) دَارا، هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَأَشَارَ قُدَّامًا وخَلْفًَا ويمينًا وَشمَالًا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن إِبْرَاهِيم بن مَرْوَان الدِّمَشْقِي، وَهُوَ صدوقٌ، حَدثنِي أبي - وَهُوَ من رجال مُسلم - قَالَ: ثَنَا هِقْل بن زِيَاد، ثَنَا الْأَوْزَاعِيّ، عَن يُونُس، عَن ابْن شهَاب - وَمثلهمْ لَا(7/275)
يسْأَل عَنْهُم - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَرْبَعُونَ دَارا جَار. قَالَ: قلتُ لِابْنِ شهَاب: وَكَيف أَرْبَعُونَ دَارا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ عَن يَمِينه وَعَن يسَاره وَخَلفه وَبَين يَدَيْهِ» .
وَوَقع فِي «التَّحْقِيق» لِابْنِ الْجَوْزِيّ: بدل «إِبْرَاهِيم بن مَرْوَان» «أَزْهَر بن مَرْوَان» وَعَزاهُ إِلَى رِوَايَة أبي دَاوُد، وَهُوَ وهْم، فَالَّذِي فِيهِ إِنَّمَا هُوَ كَمَا أسلفناه، وَهُوَ إِبْرَاهِيم بن مَرْوَان الطاطري الصدوق.
ولمّا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي دَاوُد قَالَ: هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف - يَعْنِي إرْسَال هَذَا الحَدِيث - قَالَ: ورُوي من وَجْهَيْن عَن عَائِشَة، أَحدهمَا: عَن الصَّهْبَاء عَنْهَا «قَالَت: يَا رَسُول الله مَا (حق) - أَو مَا حَدُّ - الجِوَار؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ دَارا» .
وَثَانِيهمَا: عَن أُمِّ هَانِئ بنت أبي (صفرَة) عَنْهَا: أَنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ - قَالَ: «أَوْصَانِي جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - بالجار إِلَى أَرْبَعِينَ دَارا، عَشرة من (هَاهُنَا) وَعشرَة من (هَاهُنَا) وَعشرَة من هَاهُنَا، وَعشرَة من هَاهُنَا» .
قَالَ إِسْمَاعِيل بن سيف - أحد رُوَاته -: «عَن يَمِينه، وَعَن يسَاره، وقباله وَخَلفه» .(7/276)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وكلا الإسنادين ضَعِيف، وَالْمَعْرُوف مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» . يَعْنِي السالف.
قلت: ورُوي مَوْصُولا من وَجْهَيْن آخَرين:
أَحدهمَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، رَوَاهُ ابْنُ حبَان فِي «الضُّعَفَاء» من هَذَا الطَّرِيق، بِلَفْظ الرَّافِعِيّ السالف سَوَاء، ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده عبد السَّلَام بن أبي الْجنُوب. قَالَ: وَهُوَ مُنكر الحَدِيث، يروي عَن الثِّقَات مَا لَا يشبه حَدِيث الاثبات، لَا يُعجبنِي الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ لمُخَالفَة الْأَثْبَات فِي الرِّوَايَات.
ثَانِيهَا: من حَدِيث كَعْب بن مَالك، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (أكبر معاجمه» وَأَبُو بكر الرَّازِيّ، والسياق لَهُ عَنهُ: (قَالَ: «أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجل) فَقَالَ: إِنِّي نزلتُ مَحِلّة بني فلَان، وَإِن أَشَّدهم لي أَذَى أقربهم لي مِنْ جِوَاري، فَبعث النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبَا بكر وعُمَر وعليًّا أَن يَأْتُوا أَبْوَاب الْمَسْجِد، فيقوموا عَلَيْهِ فيصيحوا: أَلا إِن أَرْبَعِينَ دَارا جِوار، وَلَا يدْخل الجنةَ من خَافَ جِوارُهُ بوائقه. قيل لِلزهْرِيِّ: أَرْبَعِينَ دَارا؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ هَكَذَا، وَأَرْبَعين هَكَذَا» .
وَعَزاهُ بَعضهم إِلَى رِوَايَة مُحَمَّد بن أسلم الطوسي، وَفِيه: «أَلا إِن أَرْبَعِينَ دَارا جَار. قَالُوا: يَعْنِي أَرْبَعِينَ هَكَذَا يُمْنَةً، وَأَرْبَعين هَكَذَا يُسْرَةً، وَأَرْبَعين قُدَّامًا وَأَرْبَعين خلفا» .(7/277)
الحَدِيث السَّادِس عشر
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتي أَرْبَعِينَ حَدِيثا كُتِبَ فَقِيها» .
هَذَا الحَدِيث مَرْويّ من طرق عديدة بألفاظٍ متنوعة، وَاتفقَ الحفاظُ عَلَى ضعفها وَإِن تعدّدت.
وَقد ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» (من) ثَلَاثَة عشر طَرِيقا من حَدِيث: عليّ، وابْنِ مَسْعُود، وَابْن عُمر، وابْنِ عَبَّاس، وابْن عَمرو بن الْعَاصِ، وَأبي الدَّرْدَاء، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَأبي هُرَيْرَة، وَأبي أُمَامَة، ومعاذ؛ وَجَابِر بن سَمُرَة، وَأنس، وَبُرَيْدَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أَجْمَعِينَ - ثمَّ ضعفها جَمِيعًا، وَبرهن لذَلِك.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي جُزْء لَهُ مُنْفَرد: رُوي هَذَا الحَدِيث من طرق كَثِيرَة، وَذكره من هَذِه الطّرق كلهَا وَزِيَادَة: سلمَان الْفَارِسِي. قَالَ: وَلَيْسَ فِي جَمِيع طرقه مَا (يقوى) وَتقوم بِهِ الحُجَّة، وَلَا يَخْلوُ طَرِيق من طرقه أَن يكون فِيهَا مَجْهُول أَو مَعْرُوف مَشْهُور بالضعف، وَقد أوضحتُ ذَلِك فِي شرحي للأربعين النووية فلتراجعْ مِنْهُ.
قلت: وَورد فِي حديثٍ آخرٍ: «مَنْ حفظ عَلَى أُمَّتي حَدِيثا وَاحِدًا كَانَ لَهُ كأجْر أحدٍ وَسبعين نَبيا صدِّيقًا» .(7/278)
أَنبأَنَا بِهِ الْحَافِظ شمس الدِّين الذَّهَبِيّ، أَنا أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد بن [أَحْمد] بن عبد الْعَزِيز الجذامي الأسكندري، أَنا جدّي، أَنا أَبُو طَاهِر الْحَافِظ قَالَ: كتب إليَّ أَبُو الفتيان عُمرُ بن أبي الْحسن الْحَافِظ، أَنا أَحْمد بن البَجلِيّ الْحَافِظ، ثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن يَعْقُوب الزرقي - وزرق مِنْ قرَى مَرْو - ثَنَا أَبُو حَامِد أَحْمد بن عِيسَى بن مهْدي إملاءً، حَدثنَا مُحَمَّد بن رزام الْمروزِي، نَا مُحَمَّد بن أَيُّوب الْهنائِي، نَا [حميد] بن أبي حميد، عَن عبد الرَّحْمَن بن دلهم، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا. . فَذكره. قَالَ أَبُو الفتيان: كتبه عني الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب بصور.
قلت: مَوْضُوع، وَإِسْنَاده مظلم، وَالظَّاهِر أَن آفته من ابْن رزام الْكذَّاب.
الحَدِيث السَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «سعْد خَالِي، فليُرِني امرؤٌ خَاله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أقْبَل سعد، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَذَا خَالِي، فليُرني امرؤٌ خَاله» .(7/279)
ذكره فِي تَرْجَمته، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث مجَالد، وَكَانَ سعد بن أبي وَقاص من بني زهرَة وَكَانَت أُمُّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من بني زهرَة، فَلذَلِك قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «هَذَا خَالِي» . وأمَّا الْحَاكِم فأبدل «مجالدًا» ب «إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. زَاد أَبُو نُعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» لَهُ فِي رِوَايَته: قَالَ أَبُو [أُسَامَة] يَعْنِي يباهي بِهِ.
قلت: وَهَذَا قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى وَجه التَّوَسُّع إِذا كَانَت أُمُّ الرجل من غير قَبيلَة أَبِيه، كَانَت قَبيلَة أمه أَخْوَاله عَلَى وَجه الِاسْتِعَارَة وَالْمجَاز.
فَائِدَة: وَقع مِثْلُ هَذَا الحَدِيث فِي حَقِّ أبي طَلْحَة زيد بن (سهل) الْأنْصَارِيّ، فَأخْرج الحاكمُ فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمته عَن أنس: «أَنه - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: هَذَا خَالِي، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُم فليُخْرج خَاله - يَعْنِي: أَبَا طَلْحَة زوج أم سُلَيْم» .
قَالَ فِي «الْكَرم» : قَالَ: هَذَا.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سمَّى ولد الرجل كَسبه» .
هَذَا حَدِيث صَحِيح، كَمَا ستعلمه فِي كتاب النَّفَقَات - إِن شَاءَ الله ذَلِك وقَدَّره.(7/280)
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث: صَدَقَة جَارِيَة، أَو علم ينْتَفع بِهِ، أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَقد سلف (فِي كتاب الْوَقْف)
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«أَن رجلا قَالَ للنَّبِي (: إِن أبي مَاتَ وَترك مَالا وَلم يوصِ، فَهَل (يكفر) عَنهُ أَن أتصدَّق عَنهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِهَذَا اللَّفْظ، وَأخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه بِدُونِ: «وَترك مَالا» .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرَأَيْت أَبَا الْحسن الْعَبَّادِيّ أطلق القَوْل بِجَوَاز التَّضْحِيَة عَن الْغَيْر، وَرَوَى فِيهِ حَدِيثا.(7/281)
قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شريك، عَن أبي الْحَسْنَاء، عَن الحكم بن عتيبة، عَن حَنش بن الْحَارِث، قَالَ: «كَانَ عَلّي بن أبي طَالب يُضَحِّي بكبشٍ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وبكبش عَن نَفسه، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، تُضَحيِّ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ ! فَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمرنِي أَن أضحِّ عَنهُ أبدا، فَأَنا أُضَحِّي عَنهُ أبدا» .
وَرَوَاهُ أَحْمد مُخْتَصرا، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، (لَا نعرفه) إِلَّا من حَدِيث شريك. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ فِي كِتَابه «عُلُوم الحَدِيث» : هَذَا حَدِيث تفرَّد بِهِ أهل الْكُوفَة من أول الْإِسْنَاد إِلَى آخِره، لم يشركهم فِيهِ أحد. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرَّد بِهِ شريك بن عبد الله بِإِسْنَادِهِ، وَهُوَ وَإِن ثَبت يدل عَلَى جَوَاز الْأُضْحِية عَمَّن خرج من دَار الدُّنْيَا من الْمُسلمين. وضَعَّفه عبد الْحق بِأَن قَالَ: حَنش هَذَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
قلت: «وحنش» هَذَا هُوَ ابْن ربيعَة - وَيُقَال بن الْمُعْتَمِر - الْكِنَانِي الْكُوفِي، وثَّقه أَبُو دَاوُد، وضَعَّفه جماعاتٌ لَا حَنش الصَّنْعَانِيّ(7/282)
السبائي نزيل إفريقية الَّذِي خرّجه مُسلم، وَوَثَّقَهُ أَبُو زرْعَة، وَكَذَا نَص عَلَى مَا ذكرته الحافظُ جمال الدِّين الْمزي فِي «أَطْرَافه» حَيْثُ قَالَ: حَنش بن ربيعَة، وَيُقَال: ابْن الْمُعْتَمِر، عَن عليّ. ثمَّ عزى الحَدِيث الْمَذْكُور إِلَى سنَن د [ت] ، وَكَأن الْحَاكِم ظن أَن رَاوِي هَذ الحَدِيث الصنعانَّي الموثق؛ فَحكم بِصِحَّتِهِ، وَسَببه الِاشْتِبَاه؛ فَإِن كلا مِنْهُمَا يَروِيِ عَن عليِّ.
وَوَقع فِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» : حَنش بن الْحَارِث. وَلَا أَظُنهُ إِلَّا من النسَّاخ، وَأعله ابْن الْقطَّان بِأَمْر آخر خلاف هَذَا، فَقَالَ: أَبُو الْحَسْنَاء الرَّاوِي عَن الحكم اسْمه الْحسن، وَلَا يُعْرف لَهُ حَال. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد قَالَ فِي حَقِه ابْن خرَاش: لَا أعرفهُ. وَلم يرو عَنهُ أَيْضا سُوَى شريك النَّخعِيّ، فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لهندٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أَن هندًا قَالَت: يَا رَسُول الله، إِن أَبَا سُفْيَان(7/283)
رجل شحيح، وَلَيْسَ يُعْطيني مَا يَكْفِينِي وَوَلَدي، إِلَّا مَا أخذتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يعلم؟ فَقَالَ: خذي مَا يَكْفِيك ... » (الحَدِيث) .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن ابْن عُمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قَالَ: «أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي غَزْوَة مُؤْتَة زيد بن حَارِثَة، وَقَالَ: إِن قُتل زيد فجعفرُ، وَإِن قُتل جَعْفَر فعبد الله بن رَواحة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَقد سلف فِي الْوكَالَة أَيْضا.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب - بِفضل الله وقوته.
وَأما الْآثَار فعشرون أثرا:
أَحدهمَا: «أَن غُلَاما من غَسَّان حَضرته الْوَفَاة، وَله عَشْرُ سِنِين؛ فَأَوْصَى لِبنْتِ عَمٍّ لَهُ، وَله وَارِث، فَرفعت القصةُ إِلَى عمر فَأجَاز وَصيته» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَمن جِهَته أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» عَن عبد الله بن أبي بكر، عَن أَبِيه أَن عَمرو بن سليم الزرقي أخبرهُ: «أَنه (قَالَ) لعُمَر بْنِ الْخطاب: إِن هَا هُنَا غُلَاما يفاعًا لم يَحْتَلِم من غَسَّان، ووارثه بِالشَّام، وَهُوَ ذُو مَال، وَلَيْسَ لَهُ هَا هُنَا إِلَّا ابْنة عَمٍّ. فَقَالَ عمر بن الْخطاب: فليُوصِ لَهَا. فَأَوْصَى لَهَا بمالٍ(7/284)
يُقَال لَهُ: بِئْر جشم. قَالَ عَمروُ بْنُ سُليم: فبعتُ ذَلِك المَال بِثَلَاثِينَ ألفا، وَابْنَة عمِّه الَّتِي أَوْصَى لَهَا هِيَ أم عَمرو بن سليم» .
وَرَوَاهُ مَالك أَيْضا عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمرو بن حزم: «أَن غُلَاما من غَسَّان حَضرته الوفاةُ بِالْمَدِينَةِ (وورثته) بِالشَّام، فَذكر ذَلِك لعمر بن الْخطاب؛ فَقيل لَهُ: إِن غُلَاما يَمُوت؛ أفَيُوصي؟ فَقَالَ عمر: (نَعَمْ) ؛ فَلْيُوص. قَالَ أَبُو بكر: وَكَانَ الغلامُ ابْنَ اثْنَتَيْ عشرَة سَنَة، أَو عَشْر سِنِين، فَأَوْصَى (لَهَا) ببئر جشم، فَبَاعَهَا أهلُها بِثَلَاثِينَ ألفا» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالشَّافِعِيّ علَّق جَوَاز وَصيته وتدبيره بِثُبُوت الْخَبَر فِيهَا عَن عُمر، وَالْخَبَر مُنْقَطع؛ فَعَمْرُو بْنُ سليم الزرقي لم يدْرك عمر، إِلَّا أَنه ذكر فِي الْخَبَر انتسابه إِلَى صَاحب الْقِصَّة.
قلت: فِي «الثِّقَات» لِابْنِ حبَان: قيل: إِنَّه كَانَ يَوْم قُتِل عُمرُ بْنُ الْخطاب قد جَاوز الْحلم. وَقَالَ أَبُو نصر الكلاباذي عَن الْوَاقِدِيّ: إِنَّه كَانَ قد راهق الِاحْتِلَام يَوْم مَاتَ عمر. وَجزم ابْن الْحذاء بِأَنَّهُ رَوَى عَنهُ.
فَائِدَة: أم عَمرو صَاحِبَة الْقِصَّة صحابية، كَمَا نصَّ عَلَيْهِ أَبُو عُمر.
فَائِدَة ثَانِيَة: بِئْر جُشم - بِضَم أَوله وَفتح ثَانِيه، مَوضِع مَعْرُوف بحوائط الْمَدِينَة. . قَالَه البكريُّ فِي «مُعْجَمه» .(7/285)
الْأَثر الثَّانِي: عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه أجَاز وَصِيَّة غُلَام ابْن إِحْدَى عشرَة سَنَةَ» .
وَهَذَا الْأَثر غَرِيب عَنهُ، لَا يحضرني من خرَّجه.
الْأَثر الثَّالِث: «إِن صَفِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أوصت لأَخِيهَا بِثَلَاثِينَ ألفا، وَكَانَ يهوديًّا» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ بِنَحْوِهِ الْبَيْهَقِيّ بإسنادٍ جَيِّدٍ من حَدِيث سُفْيَان عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة: «أَن صَفِيَّة قَالَت لأخٍ لَهَا يَهُودِيّ: أسلم ترثني. فَسمع بذلك قومُهُ فَقَالُوا: أتبيعُ دينك (بالدُّنى) ؟ فَأَبَى أَن يسلم، فأوصت لَهُ بِالثُّلثِ» .
ثمَّ رَوَى من حَدِيث ابْن وهب، أَخْبرنِي ابْن لَهِيعَة، عَن بكير بن عبد الله أَن أُمَّ عَلْقَمَة مولاة عَائِشَة حدَّثَتْه «أَن صَفِيَّة أوصت لِابْنِ أَخ لَهَا يَهُودِيّ، وأوصت لعَائِشَة بِأَلف دِينَار، وَجعلت وصيتها (إِلَى ابْن) لعبد الله بن جَعْفَر، فلمَّا سمع ابْن أَخِيهَا أسلم لكَي يَرِثهَا، فَلم يَرِثهَا، وَالْتمس مَا أوصت لَهُ، فَوجدَ [ابْن] عَبْدَ الله قد أفْسدهُ، فَقَالَت عَائِشَة: (بؤسًا لَهُ) أَعْطوهُ الْألف (دِينَار) الَّتِي أوصت لي بهَا عَمَّتُهُ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وروينا عَن ابْن عمر: «أَن صفيةَ زَوْجَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أوصت (لِنَسِيبٍ) لَهَا يَهُودِيّ» .(7/286)
الْأَثر الرَّابِع: عَن عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «لِأَن أوصِي بالخمس أحب إليَّ من أَن أوصِي بِالربعِ، وَلِأَن أوصِي بِالربعِ أحب إليَّ من أَن أوصِي بِالثُّلثِ» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ بِنَحْوِهِ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لِأَن أوصِي بِالربعِ أحبُّ إليَّ من أَن أوصِي بِالثُّلثِ، فَمن أَوْصَى بِالثُّلثِ فَلم يتْرك» .
والْحَارث هَذَا كذَّبوه.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «الَّذِي يُوصي بالخُمْس أفضل من الَّذِي يُوصي بالرُّبع، وَالَّذِي يُوصي بِالربعِ أفضل من الَّذِي يُوصي بِالثُّلثِ» .
وَعَن [قَتَادَة] قَالَ: «ذكر لنا أَن أَبَا بكر أَوْصَى بِخُمْس مَاله، وَقَالَ: لَا أَرْضَى من مَالِي (إِلَّا) بِمَا رَضِي الله بِهِ من غَنَائِم الْمُسلمين. قَالَ قَتَادَة: وَكَانَ يُقَال الخُمْس مَعْرُوف، وَالرّبع جهد، وَالثلث يُجِيزهُ الْقُضَاة» .
الْأَثر الْخَامِس: عَن عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه قَضَى بالدَّين قبل التَّرِكَة» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث زَكَرِيَّا، عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عليّ قَالَ: «إِنَّكُم تقرءون: (من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو(7/287)
دين) وَإِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - قَضَى بالدَّين قبل الْوَصِيَّة، وَإِن أَعْيَان بني الأُمِّ يتوارثون دون بني العلاَّت» .
وَرَوَى أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث سُفْيَان، عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عليّ: «أَنه - عَلَيْهِ السَّلَام - قَضَى بالدَّين قَبْل الْوَصِيَّة، وَأَنْتُم تقرءون الْوَصِيَّة قبل الدَّين» . زَاد أَحْمد وَابْن مَاجَه: «وَإِن أَعْيَان بني الْأُم يتوارثون دون بني العلات» . وَذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» كَذَلِك أَيْضا، والْحَارث هَذَا قد علمت أَنهم كذَّبوه، وَقد ضعفه الشافعيُّ فَقَالَ فِيمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة الرّبيع عَنهُ: وَقد رُوي فِي تَقْدِيمه الدَّيْن قبل الْوَصِيَّة حديثٌ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يُثْبت أهلُ الحَدِيث مِثْله. قَالَ الشَّافِعِي: أَنا سُفْيَان، عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عَلّي: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بالدَّيْن قبل الْوَصِيَّة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: امْتنَاع أهل الحَدِيث عَن إِثْبَات هَذَا لتفرُّدِ الْحَارِث الْأَعْوَر بروايته عَن عَلّي، والْحَارث لَا يُحْتج بِخَبَرِهِ لطعن الحُفَّاظ فِيهِ. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن الْحَارِث عَن عليّ مِنْ قَوْله كَمَا سلف، ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن عَاصِم بن ضَمرَة عَن عليّ مَرْفُوعا: «الدَّيْن قبل الْوَصِيَّة، وَلَيْسَ لوَارث وَصِيَّة» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا أَتَى بِهِ يَحْيَى بن أبي أنيسَة عَن أبي إِسْحَاق عَن عَاصِم، وَيَحْيَى ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم: لَا خلاف فِي الْمَسْأَلَة، وَاسْتدلَّ بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ(7/288)
عَلَيْكُم حرَام» ثمَّ قرّر ذَلِك.
وَرَوَاهُ البخاريُّ فِي «صَحِيحه» تَعْلِيقا فَقَالَ: ويُذْكر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بالدَّيْن قَبْل الْوَصِيَّة» .
فَائِدَة: المُرَاد من قَول عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هَذَا، تَقْدِيم الْوَصِيَّة عَلَى الدَّيْن فِي الذّكر وَاللَّفْظ لَا فِي الحُكم؛ لِأَن كلمة «أَو» لَا تفِيد التَّرْتِيب الْبَتَّةَ، نبَّه عَلَى ذَلِك ابْنُ الْخَطِيب، وَقَالَ ابْنُ الْقشيرِي: (قَول عليِّ مبيِّن لِما فِي الْكتاب، وَهُوَ يدل عَلَى [أَن] تَبْيِين الْكتاب يُتَلَقَّى مِنَ السُّنَّة) .
يَعْنِي: (فلولاه) لكَانَتْ الْوَصِيَّة مقدَّمة عَلَى الدَّيْن، وَهَذَا يُنَازعُ (مَا) ذكره (ابْن) الخطيبُ.
الْأَثر السَّادِس: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَإِذا وُهِب فِي الصِّحَّة وأُقبِض فِي الْمَرَض كَانَ كالموهوب فِي الْمَرَض؛ لِأَن تَمام الْهِبَة بِالْقَبْضِ، وَحَدِيث أبي بكر وَعَائِشَة فِيهِ مَشْهُور.
هَذَا الْأَثر قد سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي كتاب الْهِبَة مَبْسُوطا.
الْأَثر السَّابِع: عَن معَاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه قَالَ فِي مرض مَوته: زَوِّجوني؛ حَتَّى لَا ألْقَى الله عزبًا» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي بلاغًا، فَقَالَ: وَبَلغنِي: «أَن معَاذ بن جبل قَالَ فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ: زَوِّجوني، لَا ألْقَى الله وَأَنا عزب» نَقله عَنهُ(7/289)
الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» من حَدِيث أبي بكر بن أبي شيبَة، ثَنَا مُحَمَّد بن بشر، عَن أبي رَجَاء، عَن الْحسن قَالَ: «قَالَ معَاذ فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ: زَوِّجوني؛ فَإِنِّي أكره أَن ألْقَى الله أعزب» .
واعلمْ: أَنه يَقع فِي بعض النّسخ «مُعَاوِيَة» بدل «معَاذ» ، وَهُوَ تَحْرِيف؛ فاجْتَنِبْهُ.
الْأَثر الثَّامِن: عَن (ابْن) عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «يُبْدَأ فِي الْوَصَايَا بِالْعِتْقِ» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث سُفْيَان الثوريّ، عَن الْأَشْعَث، عَن نَافِع، عَنهُ بِهِ سَوَاء.
والأشعث إِن كَانَ ابْن سوار فَهُوَ واهٍ.
الْأَثر التَّاسِع: عَن سعيد بن المسيَّب أَنه قَالَ: «مَضَت السّنة (أَن يبْدَأ بالعتاقة فِي الْوَصِيَّة» .
وَهَذَا صَحِيح رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَنهُ قَالَ: «مَضَت السّنة يبْدَأ بالعتاقة فِي الْوَصِيَّة» . وَاعْلَم أَن التَّابِعِيّ إِذا قَالَ: من السّنة) كَذَا. فَهُوَ كمرسله، إِذا كَانَ ذَلِك من الصَّحَابِيّ فِي حكم الْمَرْفُوع، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشافعيُّ وغيرُه.
الْأَثر الْعَاشِر: عَن ابْن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه حكم فِي الرجل يُوصي بِالْعِتْقِ وَغَيره بالتَّحاص» .(7/290)
وَهَذَا الْأَثر غَرِيب عَنهُ، نعم فِي «الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث لَيْث عَن مُجَاهِد عَن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «إِذا كَانَت وَصِيَّة (وعتاقة) تحاصوا» .
وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» : هَذَا مُنْقَطع.
الْأَثر الْحَادِي عشر: «أَن أُمَامَة بنت أبي الْعَاصِ (أصمتت) ، فَقيل لَهَا: لفلانٍ كَذَا؟ ولفلانٍ كَذَا؟ فَأَشَارَتْ أَن نعم، فَجعل ذَلِك وَصِيَّة» .
وَهَذَا غَرِيب عَنْهَا.
الْأَثر الثَّانِي عشر: عَن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «يُغَيِّرُ الرجلُ (مِنْ) وصيَّتِهِ مَا شَاءَ» .
هَذَا الْأَثر ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فَقَالَ: يُرْوى عَن عُمر ... فَذكره، وَقَالَ ابْن حزم: وروينا من طَرِيق الْحجَّاج بن منهال، أبنا همام بن يَحْيَى، عَن [قَتَادَة] عَن عَمرو بن شُعَيْب، عَن عبد الله بن أبي ربيعَة: «أَن عُمر بن الْخطاب قَالَ: يُحْدِثُ (الله) فِي وَصيته مَا شَاءَ، وملاك الْوَصِيَّة آخرهَا» .
الْأَثر الثَّالِث عشر: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مثله.(7/291)
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ بإسنادٍ صَحِيح من حَدِيث الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَنْهَا قَالَت: «ليكتب الرجل فِي وَصيته: إِن حدث بِي حَدث موتِي، قبل أَن أغيِّر وصيتي هَذِه» .
الْأَثر الرَّابِع عشر: عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه أَوْصَى، فَكتب: وصيتي إِلَى الله - تَعَالَى - وَإِلَى الزبير، وابْنِهِ عبد الله بن الزبير» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بإسنادٍ جَيِّدٍ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَزَاد «وإنهما فِي حِلِّ وبل فِيمَا ولياه وقضيا فِي تركتي، وَأَنه لَا تُزَوَّجُ امرأةٌ من بَنَاتِي إِلَّا [بإذنهما] لَا تحضن عَن ذَلِك زينبُ» . قَالَ أَبُو عبيد: قَوْله: «لَا تحضن» يَعْنِي لَا تُحجب عَنهُ وَلَا يُقطع دونهَا.
الْأَثر الْخَامِس عشر: «أَن عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَوْصَى إِلَى حَفْصَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها» .
هَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من رِوَايَة يَحْيَى بن سعيد عَنهُ.
الْأَثر السَّادِس عشر: «أَن فَاطِمَة أوصتْ إِلَى عَلّي، فَإِن حَدَثَ بِهِ حَادث فَإلَى ابنيها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -» .(7/292)
هَذَا الْأَثر غَرِيب، لَا يحضرني مَنْ خَرَّجه (عَنْهَا) .
الْأَثر السَّابِع عشر وَالثَّامِن عشر: عَن عُمر وعليّ أَنَّهُمَا قَالَا: «إتْمَام الْحَج وَالْعمْرَة أَن تُحرم بهما من دويرة أهلك» .
هَذَانِ الأثران سلف الْكَلَام عَلَيْهِمَا فِي كتاب الْحَج؛ فراجِعْهُ.
الْأَثر التَّاسِع عشر: قَالَ الرَّافِعِيّ وَلَو كَانَ لَهُ ابْن وَثَلَاث بَنَات وأبوان، وَأَوْصَى بِمثل نصيب الابْن فَالْمَسْأَلَة تصح من ثَلَاثِينَ لَو لم تَكُنْ وَصِيَّة، نصيبُ الابْن فِيهَا ثَمَانِيَة، فزيد ثَمَانِيَة عَلَى (الثَّلَاثِينَ) و (تعول) الْوَصِيَّة بِثمَانِيَة أسْهم من ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ سَهْما» .
ثمَّ قَالَ: وتُروى هَذِه الصُّورَة عَن عَلّي، وَهَذَا لَا يحضرني من خَرَّجه عَنهُ.
الْأَثر الْعشْرُونَ: «أَن عُمَرَ ضَعَّفَ الصَّدَقَة عَلَى نَصَارَى بني تَغْلُب» .
وَهَذَا رَوَاهُ الشافعيُّ، وَسَيَأْتِي فِي الْجِزْيَة حَيْثُ ذكره الرافعيُّ إِن شَاءَ الله.
وَهَذِه الْآثَار الْأَرْبَعَة كَانَ يَنْبَغِي ذكْرُها قَبْل الْأَثر الثَّانِي عشر، كَمَا ذكرهَا الرافعيُّ، وَلَكِن اتّفق ذِكْرُها (هَاهُنَا) سَهوا.
ولمَّا ذكر الرافعيُّ طَريقَة الدِّينَار وَالدِّرْهَم ذكر عَن الْأُسْتَاذ أبي(7/293)
مَنْصُور: أَنَّهَا رُبمَا سُمِّيَتِ العثمانية لِأَن عُثْمَان بن أبي ربيعَة الْبَاهِلِيّ كَانَ يستعملها.
ثمَّ قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي بعض التسبيحات سُبْحَانَ مَنْ يعلم جذر الْأَصَم. وَلَا يحضرني ذَلِك.
آخِرُهُ، وَالْحَمْد لله.(7/294)
كتاب الْوَدِيعَة(7/295)
كتاب الْوَدِيعَة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا.
أما الْأَحَادِيث فستة:
أَحدهَا
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أدِّ الْأَمَانَة إِلَى من ائتمنك، وَلَا تخن من خانك» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق: أحْسنهَا: طَرِيق أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا كَذَلِك، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب. وَحَكَى عبدُ الْحق عَنهُ تَصْحِيحه، وَتَبعهُ صَاحب «الْمطلب» وَقَالَ الْحَاكِم: فِي إِسْنَاده شريك وَقيس. قَالَ الدوريُّ: قلتُ (لطلق) بن غَنَّام، أكتب شَرِيكا وأدع قيسا؟ (قَالَ: أَنْت أبْصر. قَالَ الْحَاكِم) : وَحَدِيث شريك عَلَى شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَله شَاهد من حَدِيث أنس ... فَذكر بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي التياح عَنهُ مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَمِعت (أبي يَقُول)(7/297)
طلق بن غَنَّام رَوَى هَذَا الحَدِيث المنكرَ، وَلم يرو هَذَا الحَدِيث غيرُهُ. وَهَذَا يُخَالِفهُ قَول الْبَيْهَقِيّ فِي أَوَاخِر أَبْوَاب الشَّهَادَات من «سنَنه» : تفرد بِهَذَا الحديثِ شريكُ القَاضِي وقيسُ بن الرّبيع، وَقيس ضَعِيف، وَشريك لم يحْتَج بِهِ أَكثر أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا ذكره مُسلم بن الْحجَّاج فِي الشواهد.
قلت: قَالَ شَيْخُه الحاكمُ فِي كتاب الْجَنَائِز فِي «مُسْتَدْركه» : احْتج بِهِ مُسلم، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ. ولمَّا ذكره ابْن حزم فِي «محلاه» من طَرِيق بن غَنَّام عَن شريك وَقيس إِلَى أبي هُرَيْرَة، قَالَ: شريك وطلق وَقيس كلهم (ضَعِيف) .
قلت: طلق رَوَى عَنهُ البُخَارِيّ، وَقَالَ الْآجُرِيّ عَن أبي [دَاوُد] : صَالح. وَقَالَ ابْن عدي: فِي قيس عَامَّة رواياته مُسْتَقِيمَة، وَالْقَوْل فِيهِ مَا قَالَ شُعْبَة وَأَنه لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كتاب «الْوَهم» : قيس وَشريك مُخْتَلَف فيهمَا. قَالَ: وهُمْ ثَلَاثَة وُلُّوا الْقَضَاء، وساء حِفْظُهُمْ للاشتغال عَن الحَدِيث: محمدُ بْنُ عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى [وَشريك بن عبد الله] وقيسُ بْنُ الرّبيع. قَالَ: وَشريك مَعَ ذَلِك مَشْهُور بالتدليس، وَهُوَ لم يذكر السماع فِيهِ.(7/298)
ثَانِيهَا: طَرِيق أنس مَرْفُوعا كَذَلِك، رَوَاهُ الْحَاكِم كَمَا سلف، والدارقطنيُّ والبيهقيُّ، وَفِي إِسْنَاده أَيُّوب بن سُوَيْد (الرَّمْلِيّ) السينَانِي ضعفه أَحْمد وغيرُه، وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: ارْمِ بِهِ. وَذكره ابْن حبَان فِي ثقاته وَقَالَ: إِنَّه رَدِيء الْحِفْظ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» بعد أَن رَوَاهُ من هَذِه الطَّرِيق: لم يروه عَن أبي التياح إِلَّا عبدُ الله بن شَوْذَب، تفرد بِهِ أَيُّوب. قَالَ: وَلَا رُوي عَن أنس إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد.
ثَالِثهَا: طَرِيق أُبِيُّ بن كَعْب مَرْفُوعا كَذَلِك، ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من هَذَا الْوَجْه، وَأعله بِيُوسُف بن يَعْقُوب قَاضِي الْيمن، قَالَ أَبُو حَاتِم: مَجْهُول. وَمُحَمّد بن مَيْمُون الزَّعْفَرَانِي، قَالَ خَ س: مُنكر الحَدِيث.
ووَهَّاه ابْن حبَان، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. ووثَّقه يَحْيَى بْنُ معِين وَأَبُو دَاوُد.
رَابِعهَا: طَرِيق يُوسُف بن مَاهك الْمَكِّيّ قَالَ: «كنتُ أكتب لفلانٍ نَفَقَة أَيْتَام كَانَ وليهم، فغالطوه بِأَلف دِرْهَم؛ فأدَّاها إِلَيْهِم، فأدركتُ لَهُم (أَمْوَالهم) مثلهَا، قَالَ: قلت: اقبض الْألف الَّذِي ذَهَبُوا بِهِ مِنْك. قَالَ:(7/299)
لَا. حَدثنِي (أبي) أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: أدِّ الْأَمَانَة إِلَى مَنِ ائتمنك» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ: هُوَ فِي حكم الْمُنْقَطع، حَيْثُ لم يذكر يوسفُ بن مَاهك اسْمَ مَنْ حدَّثه، وَلَا اسْمَ مَنْ حدَّث عَنهُ (من حَدثهُ) .
قلت: لَا يُحتاج إِلَى اسْمِ مَنْ حدَّث عَنهُ (من حَدثهُ) فَإِنَّهُ صَحَابِيّ؛ فَلَا تضر جهالته، وَأخرجه ابْن السكن فِي «صحاحه» وَقَالَ: رُوي من أوجه ثَابِتَة.
خَامِسهَا: طَرِيق أبي أُمَامَة مَرْفُوعا كَذَلِك، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي [حَفْص] الدِّمَشْقِي، عَن مَكْحُول، عَن أبي أُمَامَة بِهِ، ثمَّ قَالَ: هُوَ ضَعِيف؛ لِأَن مَكْحُولًا لم يسمع من أبي أُمَامَة شَيْئا و [أَبُو حَفْص] الدِّمَشْقِي مَجْهُول.
سادسها: طَرِيق الْحسن عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هُوَ مُنْقَطع. وَنقل (أَعنِي الْبَيْهَقِيّ) قبل كتاب الْعتْق فِي(7/300)
«سنَنه» عَن الشَّافِعِي [أَنه] قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: إِنَّه لَيْسَ بثابتٍ عِنْد أهل الحَدِيث [مِنْكُم] قَالَ: وَلَو كَانَ ثَابتا لم يكن فِيهِ حُجَّة علينا؛ لِأَن السُّنَّة دلَّتْ وإجماعُ كثيرٍ من أهل الْعلم عَلَى أَن يَأْخُذ الرجلُ حَقَّه [لنَفسِهِ سرًّا] مِنَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فقد دلّ أَن ذَلِك لَيْسَ (بخيانة، الْخِيَانَة) أَن يَأْخُذ مَا لَا يحل أخْذه. ولمَّا ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من الطّرق الثَّلَاثَة الأولَى ضَعَّفَهَا وَقَالَ: إِن هَذَا الحَدِيث من جَمِيع طرقه لَا يَصح. نُقلَ عَن الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: حَدِيث بَاطِل، لَا أعرفهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِنْ وَجه صَحِيح.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن عَمرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوْدع ضَمَان» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» بِهَذَا اللَّفْظ وَزِيَادَة؛ وَهَذِه سياقته: (لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِير غير الْمغل ضَمَان، وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدع غير الْمغل ضَمَان، (وَالضَّمان الخائن)) .(7/301)
وَفِي إِسْنَاده عَمرو بن عبد الْجَبَّار و [عُبَيْدَة] بن حسان قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هما ضَعِيفان. قَالَ: وَإِنَّمَا يُروى هَذَا عَن شُرَيْح القَاضِي غير مَرْفُوع. وَقَالَ ابْن عدي: عَمْرو بن عبد الْجَبَّار رَوَى عَن عمِّه (عُبَيْدَة) بن حسان مَنَاكِير، وَله أَحَادِيث غير مَحْفُوظَة. وَقَالَ ابْن حبَان: (عُبَيْدَة) - بِضَم الْعين وَقيل: بِفَتْحِهَا - يَرْوي الموضوعات عَن الثِّقَات؛ لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ بِحَال. وَضَعفه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» وعبدُ الْحق بِمَا ضَعَّفْنَاه.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبد الله بن (شبيب) عَن إِسْحَاق بن مُحَمَّد، عَن يزِيد بْنِ عبد الْملك، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن (الحَجبي) عَن عَمرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جدِّه مَرْفُوعا: «لَا ضَمَان عَلَى مؤتمن» .
وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا فعبد الله بن شبيب واهٍ؛ وَيزِيد هُوَ(7/302)
(النَّوْفَلِي) وَقد أسلفت حَاله فِي بَاب (الْأَحْدَاث) وَلِهَذَا كلِّه قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا الحَدِيث إِسْنَاده ضَعِيف.
فَائِدَة: الْمَشْهُور فِي تَفْسِير الْمغل هُنَا أَنه الخائن، وَقيل: إِنَّه المستغل، وَهُوَ القابِضُ، وَمَعْنَاهُ: أَن الْعَارِية لَا تُضمن إِلَّا بِالْقَبْضِ، وادَّعوا أَن هَذَا حَقِيقَة الْمغل، وَالْمَعْرُوف مَا تقدم، وَقد جَاءَ تَفْسِيره فِي آخر الحَدِيث أَنه الخائن، وَهُوَ إِمَّا مِنْ عِنْد رَاوِيه، أَو مَرْفُوعا، فَهُوَ مقدَّم عَلَى (كل حالِهِ) .
الحَدِيث الثَّالِث
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ أودع وَدِيعَة فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث عَمرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي إِسْنَاده أَيُّوب بن سُوَيْد، وَهُوَ ضَعِيف كَمَا سلف، والمثنى بن الصَّباح ضعَّفه ابْن معِين، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ عابدًا، وَله أَحَادِيث، وَهُوَ ضَعِيف.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَة عَن عَمرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه،(7/303)
عَن جده مَرْفُوعا: «مَنِ استودع وَدِيعَة فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ» . وَابْن لَهِيعَة ضَعِيف، كَمَا سلف.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوي «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَت عِنْده ودائع، فلمَّا أَرَادَ الهجرةَ سَلَّمَهَا إِلَى أُمِّ (أَيمن) وَأمر عليًّا برَدِّها» .
أمَّا تَرْكُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ عليًّا بِمَكَّة رد الودائع إِلَى أَرْبَابهَا فَهُوَ مَشْهُور فِي السّير وَغَيرهَا، قَالَ ابْن إِسْحَاق فِيمَا رَوَيْنَاهُ عَنهُ وَحَكَاهُ عَنهُ أَيْضا الْبَيْهَقِيّ وَغَيره: حَدثنِي من لَا أتهم عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة فِي هِجْرَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَت: وَأمر - تَعْنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) عليًّا أَن يتَخَلَّف عَنهُ بِمَكَّة حَتَّى يؤدِّي عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الودائع الَّتِي كَانَت عِنْده للنَّاس، قَالَ: وَأَخْبرنِي مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير (عَن عُرْوَة بن الزبير) عَن عبد الرَّحْمَن بن عويم بن سَاعِدَة قَالَ: حَدثنِي رجالُ قَوْمِي من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... فَذكر الحديثَ فِي خُرُوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ فِيهِ: وَخرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) وَأقَام عَلّي بن أبي طَالب ثَلَاث ليالٍ وأيامها؛ حَتَّى أدَّى عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الودائع الَّتِي كَانَت عِنْده للنَّاس، حَتَّى إِذا فرغ مِنْهَا لحق برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .(7/304)
وَأما كَونه سلَّمها إِلَى أُمِّ (أَيمن) فَلَا يَحْضُرُني ذَلِك بعد البَحْثِ (عَنهُ) .
الحَدِيث الْخَامِس
قَالَ الرافعيُّ: وَفِي الحَدِيث «إِن الْمُسَافِر وَمَاله لعَلَى قَلْتٍ، إِلَّا مَنْ وَقَى الله» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب؛ لَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة وَلَا المسانيد، وَتبع ابْنُ الرّفْعَة الرافعيَّ فَذكره فِي «مطلبه» (كَذَلِك مَرْفُوعا، وَصَاحب «الْمُهَذّب» ذكره فِي بَاب الْحجر وَالْقَرْض بِلَفْظ: يرْوَى «أَن الْمُسَافِر) وَمَاله عَلَى قلتٍ» .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : لَيْسَ هَذَا خبر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ إِنَّمَا هُوَ من كَلَام بعض السّلف، قيل: إِنَّه عَن عليّ بن أبي طَالب. وَذكر ابْنُ السّكيت والجوهريُّ فِي «صحاحه» : أَنه عَن بعض الْأَعْرَاب قَالَ: والقلت: بِفَتْح (الْقَاف) وَاللَّام وَآخره تَاء مثناة فَوق، وَهُوَ الْهَلَاك، قَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول مِنْهُ: قَلِت - بِكَسْر اللَّام - والمَقلتة - بِفَتْح الْمِيم - المَهلكة.
قلت: وظفرتُ بِهِ فِي رحلتي الثَّانِيَة إِلَى الشَّام المحروس مَرْفُوعا(7/305)
إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ذَاكَرَني بِهِ بعضُ الحُفَّاظ، وَأَنه فِي «أَخْبَار أبي الْعَلَاء المعري» لِلْحَافِظِ أبي طَاهِر السلفيّ، فَأحْضرهُ لي، فرأيتهُ ساقة، فَقَالَ: ثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيم الْخَلِيل بن عبد الْجَبَّار بن عبد الله (القرائي) بقزوين - وَكَانَ ثِقَة - ثَنَا أَبُو (الْعَلَاء) أَحْمد بن عبد الله بن سُلَيْمَان التنوخي (المعري) بمعرة النُّعْمَان، ثَنَا أَبُو الْفَتْح [مُحَمَّد] بن (الْحسن) بن روح، حَدثنَا خَيْثَمَة بن سُلَيْمَان (الْقرشِي) ، نَا أَبُو عتبَة الْحِمصِي، نَا بشر بن زَاذَان، عَن أبي عَلْقَمَة، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَو علم الناسُ رحمةَ الله بالمسافر لأصبح النَّاس وهم عَلَى سفرٍ، إِن الْمُسَافِر ورحْلِهِ عَلَى قَلَتٍ، إِلَّا من وقَى الله تَعَالَى» .
قَالَ الْخَلِيل: (لم أسمع من أبي الْعَلَاء غير هَذَا الحَدِيث وَلم يرو لي أَنا عَنهُ حَدِيثا سُوَى الْخَلِيل) . والقلت: الْهَلَاك، يُقَال مِنْهُ: قلت قلتًا. قَالَ السلَفِي قبل ذَلِك: أَبُو إِبْرَاهِيم هَذَا رأيتُه بقزوين، وَرَوَى لي عَنهُ(7/306)
حَدِيثا وَاحِدًا مُسْندًا، يرويهِ عَن صاحبٍ لخيثمة بن سُلَيْمَان الْقرشِي الأطرابلسي، فَذكره، فاسْتَفِدْ ذَلِك؛ فَإِنَّهُ من المهم الَّذِي مَنَّ الله بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ.
الحَدِيث السَّادِس
قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «عَلَى الْيَد مَا أخذتْ حَتَّى تَرُدَّ» .
هَذَا الحَدِيث سبق بَيَانه فِي الْعَارِية وَاضحا؛ فراجِعْهُ.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وأمَّا آثاره فَأَرْبَعَة: عَن أبي بكر، وعليّ، وَابْن مَسْعُود، وَجَابِر: «إِنَّهَا - يَعْنِي: الْوَدِيعَة - أمانةٌ» .
أما أثر أبي بكر؛ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سعيد بن مَنْصُور، ثَنَا أَبُو شهَاب، عَن حجاج بن أَرْطَاة، عَن أبي الزبير، عَن جَابر: «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَضَى فِي وديعةٍ كَانَت فِي جِرَابٍ فضاعتْ مِنْ (حَولي) الجِرَاب أَن لَا ضَمَان فِيهَا» . وَالْحجاج ضَعِيف.
وَأما أثر عليّ وَابْن مَسْعُود؛ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن الْوَلِيد، ثَنَا سُفْيَان، عَن جَابر، عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن أَن عليًّا وابْنَ مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قَالَا: «لَيْسَ عَلَى مؤتمن ضَمَان» .
وَأما أثر جَابر فَغَرِيب؛ لَا يحضرني مَنْ خَرَّجَهُ.(7/307)
كتاب قَسْمِ الْفَيْء وَالْغنيمَة(7/309)
كتاب قَسْمِ الْفَيْء وَالْغنيمَة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا.
أما الْأَحَادِيث فتسعة وَعِشْرُونَ.
الحَدِيث الأول
أَن آيَة الْفَيْء - أَي وَهِي قَوْله تَعَالَى: (مَا أَفَاء الله عَلَى رَسُوله) - نزلتْ فِي بني النَّضِير؛ وَقد رُوي «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ صَالحهمْ عَلَى أَن يتْركُوا الْأَرَاضِي والدُّور، ويحملوا كلَّ صفراء وبيضاء، وَمَا تحمله الركائب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِنَحْوِهِ، من حَدِيث معمر عَن الزُّهْرِيّ «فِي قَوْله - عز وَجل - فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب) قَالَ: صالحَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أهل فدك وقرًى قد سمَّاها لَا أحْفَظها، وَهُوَ محاصِرٌ قَوْمًا آخَرين، فأرسلوا إِلَيْهِ بِالصُّلْحِ، قَالَ: (فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيلٍ وَلَا ركاب) يَقُول: (بِغَيْر) قتال. قَالَ الزُّهْرِيّ: وَكَانَت (بَنو) النَّضِير للنَّبِي (خَالِصا، لم يفتحوها عنْوَة وافتتحوها عَلَى صلح،(7/311)
فقسم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَين الْمُهَاجِرين، لم يُعط الْأَنْصَار مِنْهَا شَيْئا، إِلَّا رجلَيْنِ كَانَت بهما حَاجَة» .
وَأخرجه بِنَحْوِهِ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَرَوَى (مُوسَى) بن عقبَة عَن ابْن شهَاب، قَالَ: وَهَذَا حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي رجالٍ من أَصْحَابه إِلَى بني النَّضِير ... » وَذكر الْقِصَّة، إِلَى أَن قَالَ: «ففاجأهم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى أَن يجليهم، وَلَهُم أَن يحملوا مَا اسْتَقَلت من الْإِبِل الَّذِي كَانَ لَهُم، إِلَّا مَا كَانَ من حليةٍ أَو سلَاح، وطاروا كل مُطارٌ ... ثمَّ ذكر بَاقِي الْقِصَّة.
الحَدِيث الثَّانِي
قَالَ الرَّافِعِيّ: وأربعةُ أخماسِ الْفَيْء كَانَت لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حَيَاته، مَضْمُومَة إِلَى خُمْس الخُمْس، فجُمْلة مَا كَانَ لَهُ أحد وَعِشْرُونَ سَهْما مِنْ خمسةٍ وَعشْرين سَهْما، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يصرف الْأَخْمَاس الْأَرْبَعَة إِلَى الْمصَالح.
هُوَ كَمَا قَالَ: وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» فِي بَاب بَيَان مَصْرف أَرْبَعَة أَخْمَاس الْفَيْء فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنَّهَا كَانَت لَهُ خَاصةً دون الْمُسلمين، يَضَعهَا حَيْثُ أرَاهُ الله - عَزَّ وَجَلَّ - ثمَّ سَاق بِسَنَدِهِ الحديثَ الثَّانِي الَّذِي سَنذكرُهُ، والحديثَ السَّابِق فِي هَذَا الْبَاب.(7/312)
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ ينْفق من سَهْمه عَلَى نَفسه وَأَهله ومصالحه، وَمَا فضل جعله فِي السِّلَاح عدَّة فِي سَبِيل الله - عَزَّ وَجَلَّ - وَفِي سَائِر الْمصَالح» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَت أَمْوَال بني النَّضِير مِمَّا أَفَاء الله عَلَى رَسُوله، مِمَّا لم يوجف عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ بخيلٍ وَلَا ركاب، فَكَانَت للنَّبِي (خَاصَّة؛ فَكَانَ ينْفق عَلَى نَفسه وَأَهله نفقةَ سَنَةٍ» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «وَيحبس لأَهله قوت سَنَتِهِمْ، وَمَا بَقِي جعله فِي الكراع وَالسِّلَاح عدَّة فِي سَبِيل الله» .
وَقَوله: «وَفِي سَائِر الْمصَالح» لَا يحضرني (من) خرَّجه فِي الحَدِيث بعد الْبَحْث عَنهُ.
فَائِدَة: (الكراع اسْم لجَمِيع الْخَيل وَالسِّلَاح إِذا ذكر مَعَ السِّلَاح والكراع الْخَيل نَفسهَا. قَالَه اللَّيْث. فَائِدَة أُخْرَى) قَالَ الشافعيُّ: قَول عمر «وَكَانَت للنَّبِي خَاصَّة» . يُرِيد: مَا كَانَ يكون للموجفين، وَذَلِكَ أَرْبَعَة أخماسه.(7/313)
الحَدِيث الرَّابِع
قَالَ الرَّافِعِيّ بعد أَن قرر أَن سهم الرَّسُول - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هُوَ الخُمْس من الْفَيْء، وَأَن هَذَا السهْم كَانَ لَهُ يعْزل مِنْهُ نَفَقَة أَهله، وَمَا فضل جعله فِي الكراع كَمَا سلف: لم يكن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يملكهُ، وَلَا ينْتَقل مِنْهُ إِلَى غَيره إِرْثا، بل مَا يملكهُ الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم السَّلَام - لَا يورَّث عَنْهُم، كَمَا اشْتهر فِي الْخَبَر.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من طرق:
أَحدهَا: عَن أبي بكر الصدِّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا نُورَّث، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة» .
وَلابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : «إِنَّا لَا نُورَّث، مَا تركنَا صَدَقَة» . وللترمذي فِي (غير) «جَامعه» بإسنادٍ عَلَى شَرط مُسلم، عَن عُمر عَن أبي بكر، رَفعه: «إِنَّا معاشر الْأَنْبِيَاء لَا نورَّث، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة» . وَلأَحْمَد عَن أبي بكر، رَفعه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يورَّث، وَإِنَّمَا مِيرَاثه فِي فُقَرَاء الْمُسلمين وَالْمَسَاكِين» .
ثَانِيهَا: عَن عُمر: «أَنه قَالَ لعُثْمَان وعَبْدِ الرَّحْمَن بن عَوْف والزبير(7/314)
وَسعد وَعلي وَالْعَبَّاس: أُنْشِدُكُمْ بِاللَّه الَّذِي تقوم السَّمَوَات وَالْأَرْض بأَمْره؛ أتعلمون أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: لَا نورَّث، مَا تركنَا صَدَقَة؟ قَالُوا: نعم» .
وللنسائي فِي «سنَنه الْكُبْرَى» من حَدِيث سُفْيَان، عَن عَمرو بن دِينَار، عَن الزُّهْرِيّ، عَن مَالك بن أَوْس (بن الْحدثَان) قَالَ: «قَالَ عمر لعبد الرَّحْمَن وَسعد وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَالزبير: أنشِدُكم بِاللَّه الَّذِي قَامَت (لَهُ) السَّمَوَات وَالْأَرْض، سَمِعْتُمْ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء لَا نورَّث، مَا تركنَا (فَهُوَ) صَدَقَة؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نعَمْ» .
ثَالِثهَا: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أَن أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين تُوفِّي أردن أَن يَبْعَثْنَ عثمانَ إِلَى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فَقَالَت عَائِشَة: أَلَيْسَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا نورَّث، مَا تركنَا صَدَقَة» .
رَابِعهَا: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (لَا يقتسم ورثتي دِينَارا، مَا تركتُ بَعْدَ نَفَقَة نسَائِي وَمؤنَة عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَة» .
وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد: «وَلَا درهما» . وَلأَحْمَد، وَالتِّرْمِذِيّ،(7/315)
وصحَّحه عَن أبي هُرَيْرَة: «أَن فَاطِمَة قَالَت لأبي بكر: مَنْ يرثكَ إِذا مت؟ قَالَ: وَلَدي وَأَهلي. قَالَت: فَمَا لنا لَا نَرِثُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: سمعتُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا نورَّث، وَلَكِن أعول مَنْ كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعول، وَأنْفق عَلَى مَنْ كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينْفق عَلَيْهِ» .
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» : أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث فَاطِمَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - عَن أبي بكر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَن الْأَنْبِيَاء لَا يُورَّثون، مَا تَرَكُوهُ فَهُوَ صَدَقَة» قَالَ: هُوَ حَدِيث يرويهِ الْكَلْبِيّ، فَاخْتلف عَنهُ؛ فَقَالَ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش: عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح، عَن أُمِّ هَانِئ، عَن فَاطِمَة «أَنَّهَا دخلت عَلَى أبي بكر فَقَالَت: أرأيتَ لَو مت مَنْ كَانَ يَرِثُك؟» وَخَالفهُ سُفْيَان الثَّوْريّ والمغيرة فروياه: عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن أُمِّ هَانِئ «أَن أَبَا بكر قَالَ لفاطمة» .
فَائِدَة: قَوْله: «مَا تركنَا صَدَقَة» هُوَ فِي مَوضِع رفع بِالِابْتِدَاءِ، و «صَدَقَة» مرفوعٌ خبرٌ، خلافًا للإمامية فِي قَوْلهم: إِنَّمَا هُوَ «يَرث» بِالْمُثَنَّاةِ تَحت.
و «صَدَقَة» بِالْفَتْح، أَي: مَا تركنَا صَدَقَة؛ فَلَا نورَّث، و «مَا» فِي مَوضِع الْمَفْعُول، و «صَدَقَة» مَنْصُوب عَلَى الْحَال وَعَلَى التَّفْسِير، وَهَذَا مُخَالف لما فهم مِنْهُ أهل اللِّسَان، وَلما حمله عَلَيْهِ أئمةُ الصَّحَابَة من رِوَايَة هَذَا الحَدِيث، وَمَا وَقع فِي سَائِر الرِّوَايَات (فِي) قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «لَا نورّث، (مَا تركنَا) فَهُوَ صَدَقَة» .(7/316)
قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «مَا تركنَا صَدَقَة» ثَلَاثَة أقوالٍ للْعُلَمَاء:
أَحدهَا: أَنه بِمَنْزِلَة الصَّدَقَة، أَي: لَا يورَّث، إِنَّمَا هُوَ فِي مصَالح الْمُسلمين.
ثَانِيهَا: أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ تصدَّق بِهِ.
ثَالِثهَا: أَن تكون الرِّوَايَة: «لَا نورَّث، مَا تركنَا صَدَقَة» بِالنّصب، وَتَكون «مَا» بِمَعْنى «الَّذِي» ، وَتَكون فِي مَوضِع جَرٍّ أَيْضا. قَالَ: والمعاني فِي هَذَا مقاربة (لِأَن الْمَقْصُود) أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ لَا يورَّث.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن جُبَير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لمَّا قَسَّمَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَهْمَ ذَوي الْقُرْبَى بَين بني هَاشم و (بَين) بني الْمطلب، أتيتُ أَنا وَعُثْمَان بن عَفَّان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، (إِخْوَاننَا) بَنو هاشمٍ لَا ننكر فَضلهمْ لِمَكَانِك الَّذِي (وضعك) الله بِهِ مِنْهُم، فَمَا بَال إِخْوَاننَا من بني الْمطلب أَعطيتهم وَتَركنَا؛ وَإِنَّمَا قرابتنا وقرابتهم (وَاحِد) ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: إِنَّمَا بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب شَيْء وَاحِد. وشبَّك بَين أَصَابِعه» . ويُروْى أَنه قَالَ: «لم (يُفَارِقُونِي) فِي جاهليةٍ وَلَا إِسْلَام» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشافعيُّ كَذَلِك باخْتلَاف قريب؛(7/317)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْبرْقَانِي كَذَلِك أَيْضا، إِلَّا أَنهم قَالُوا فِي أوَّلِهِ: «لمَّا كَانَ يَوْم خَيْبَر وضع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سهم ذَوي الْقُرْبَى (فِي) بني هَاشم وَبني الْمطلب، وَترك بني نَوْفَل وَبني عبد شمس فانطلقتُ أَنا وَعُثْمَان ... » ثمَّ ذَكرُوهُ إِلَى آخِره. قَالَ البرقاني: وَهُوَ عَلَى شَرط مُسلم.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عُثْمَان بن عمر، ثَنَا يُونُس، عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن الْمسيب، عَن جُبَير بن مطعم: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يقسم لبني عَبْدِ شمس وَلَا لبني نَوْفَل مِنَ الخُمْس شَيْئا، كَمَا كَانَ يُقسم لبني هاشمٍ ولبني الْمطلب، وَأَن أَبَا بكر كَانَ يُقسم الْخمس نَحْو قسم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، غير أَنه لم يكن يُعْطي قرباء رَسُول الله كَمَا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعطيهم، وَكَانَ عمر يعطيهم، وَعُثْمَان من بعده» .
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن جُبَير أَيْضا قَالَ: «مشيتُ أَنا وعثمانُ بْنُ عَفَّان إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (فَقلت) : يَا رَسُول الله، أعطيتَ بني الْمطلب، وَتَرَكتنَا وَنحن وهم بمنزلةٍ وَاحِدَة؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنَّمَا بَنو الْمطلب وَبَنُو هَاشم شَيْء وَاحِد» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَقُلْنَا: أَعْطَيْت بني الْمطلب مِنْ خُمْس خَيْبَر وَتَرَكتنَا؟ قَالَ جُبَير: وَلم يقسم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لبني عَبْدِ شمسٍ، وَلَا لبني نَوْفَل شَيْئا» .(7/318)
وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: عبدُ شمس وَالْمطلب وهَاشِم إخْوَة لأُمٍّ، وأُمُّهُمْ عَاتِكَة بنت مُرَّة، وَكَانَ نَوْفَل أَخَاهُم لأبيهم.
قَالَ الشَّافِعِي فِي «الرسَالَة» : «فقسم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سهم ذَوي الْقُرْبَى فِي بني هَاشم، وَبني الْمطلب، وَلم يُعط الآخرين شَيْئا، وَإِن كَانَا أخويِّ هَاشم وَالْمطلب؛ لأجل الْفرق الَّذِي ذكره رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ: أَن بني هَاشم وَبني الْمطلب شَيْء وَاحِد، وَلم يفارقوهم فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام، وحلوا مَعَهم فِي الشّعب دون بني أُميَّة بن عبد شمس وَبني نَوْفَل.
وَقَالَ الرَّافِعِيّ: كَانَ عُثْمَان من بني عبد شمس، وَجبير من بني نَوْفَل، فَأَشَارَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَا ذكره إِلَى بَيَان الصَّحِيفَة القاطعة الَّتِي كتبْتَها قريشُ عَلَى أَن لَا يُجَالسوا بني هَاشم وَلَا يبايعوهم وَلَا يناكحوهم، وبقوا عَلَى ذَلِك سَنَةً، لم يدْخل فِي بيعتهم بَنو الْمطلب، بل خَرجُوا مَعَ بني هَاشم إِلَى بعض الشِّعَاب.
قلت: هَذَا مَشْهُور بَين أَرْبَاب الْمَغَازِي، وَمِمَّنْ ذكره ابْنُ إِسْحَاق فِي «السِّيرَة» وَحَكَاهُ عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «دَلَائِل النُّبُوَّة» بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ.
فَائِدَة: قَوْله فِي الحَدِيث: «شَيْء» : رُوي بالشين الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة، وبالسين الْمُهْملَة الْمَكْسُورَة ثُمَّ يَاء مشدَّدة بِلَا همز، قَالَ الْخطابِيّ: كَانَ يَحْيَى بن معِين يرويهِ بِالسِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء - وَهُوَ أَجود - أَي: سَوَاء، يُقَال: هَذَا سِيّ هَذَا. أَي مِثْلُه ونَظِيْرُه، قَالَ: وَالرِّوَايَة بالشين الْمُعْجَمَة، وَذكره الهرويُّ فِي «غَرِيبه» بِالسِّين الْمُهْملَة.(7/319)
الحَدِيث السَّادِس
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يُتْمَ بعد احْتِلَام» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن صَالح، ثَنَا يَحْيَى بن مُحَمَّد الْمدنِي، حَدثنِي عبد الله بن خَالِد بن سعيد بن أبي مَرْيَم، عَن أَبِيه، عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن (رُقَيْش) أَنه سمع شُيُوخًا من بني عَمرو بن عَوْف وَمن خَاله عبد الله بن أبي أَحْمد قَالَ: قَالَ عليُّ: حفظت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يتم بعد احْتِلَام، وَلَا صمَات يَوْم إِلَى اللَّيْل» .
أَحْمد هَذَا هُوَ المِصْريُّ الْحَافِظ الثِّقَة، لم يتَكَلَّم فِيهِ النَّسَائِيّ بحُجَّة، وَيَحْيَى الْمدنِي مُخْتَلف فِيهِ، وَقَالَ الْعقيلِيّ: فِي حَدِيثه (مَنَاكِير وأغاليط. وَعبد الله بن خَالِد ضعفه الْأَزْدِيّ وَقَالَ: لَا يكْتب حَدِيثه) ووالده ثِقَة كَمَا جزم بِهِ الذَّهَبِيّ فِي «الكاشف» ، وَذكره ابْن حبَان فِي(7/320)
«الثِّقَات» وَسَعِيد بن عبد الرَّحْمَن ثِقَة وَعبد الله بن أبي أَحْمد هُوَ ابْن جحش، تابعيُّ.
فَهَذَا إِسْنَاد يَقْرُب من الْحسن لَوْلَا عبد الله بن خَالِد، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي كِتَابه «رياض الصَّالِحين» : إِسْنَاده حسن. وَكَأَنَّهُ اعْتمد فِي ذَلِك عَلَى سكُوت أبي دَاوُد عَلَيْهِ، وَأما ابْن الْقطَّان فضعَّفه حَيْثُ قَالَ فِي «الْوَهم وَالْإِيهَام» : عبد الله بن خَالِد ووالده مَجْهُولَانِ، وَيَحْيَى بن مُحَمَّد الْمدنِي إِمَّا مَجْهُول، وَإِمَّا ضَعِيف إِن كَانَ ابْن هَانِئ، وَعبد الله بن أبي أَحْمد مَجْهُول أَيْضا.
قَالَ: وَلَيْسَ بوالد بكير بن عبد الله بن الْأَشَج كَمَا ظَنّه ابْنُ أبي حَاتِم، حِين جمع بَينهمَا، وَالْبُخَارِيّ قد فصل بَينهمَا. قَالَ: وَأيهمَا كَانَ فحالته مَجْهُولَة أَيْضا، هَذَا كَلَامه.
وكل هَؤُلَاءِ مَعْلُوم الْعين مَعْلُوم الْحَال كَمَا قَرّرته لَك، إِلَّا عبد الله بن أبي أَحْمد؛ فَإِنِّي لَا أعلم حَاله، وَأعله عبد الْحق، بِوَجْه آخر، فَقَالَ: الْمَحْفُوظ عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وَأعله الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» بِيَحْيَى بن مُحَمَّد الْمدنِي، وَقد قَالَ البُخَارِيّ: تُكُلِّم فِيهِ. وَقَالَ ابْن حبَان: يجب التنكب عَمَّا انْفَرد بِهِ من الرِّوَايَات. وَذكر هَذَا الحديثَ العقيليُّ(7/321)
وَقَالَ: لَا يُتابع عَلَيْهِ يَحْيَى.
قلت: ورُوي من طَرِيق آخر عَن عليٍّ، قَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» : ثَنَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الصُّوفِي، ثَنَا مُحَمَّد بن عبيد بن مَيْمُون التبَّان الْمَدِينِيّ، حَدثنِي أبي، عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن أبان بن تغلب، عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، عَن عَلْقَمَة بن قيس، عَن عليّ مَرْفُوعا: «لَا رضَاع بعد فصَال، وَلَا يُتم بعد حلم» .
ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن أبان إِلَّا مُوسَى بن عقبَة، وَلَا عَن مُوسَى إِلَّا مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَلَا عَن مُحَمَّد إِلَّا عبيد، تفرد بِهِ محمدُ بن سُلَيْمَان عَن مُحَمَّد بن عبيد. (وَرَوَاهُ) أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي «مُسْنده» .
قلت: وَلِحَدِيث عَلّي شَوَاهِد من حَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة:
أحدهم: جَابر بن عبد الله، رَفعه: «لَا يتم بعد حُلُم» .
وَهُوَ قِطْعَة من حديثٍ طَوِيل رَوَاهُ ابْن عدي فِي تَرْجَمَة حرَام بن عُثْمَان، وَالرِّوَايَة عَن حرَام (حرَام) .
ثانيهم: أنس، قَالَ الْمُنْذِرِيّ عقب كَلَامه السالف: وَقد رُوي هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة جَابر وَأنس، وَلَيْسَ فيهمَا شَيْء يثبت.
ثالثهم: حَنْظَلَة، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» مَرْفُوعا، وَذكره الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» من(7/322)
حَدِيث حَنْظَلَة بن حنيفَة عَن جدَّته مَرْفُوعا: «لَا يتم بعد احْتِلَام، وَلَا يتم عَلَى جَارِيَة، إِذا هِيَ حَاضَت» .
ثمَّ قَالَ: كَذَا أوردهُ ابْن شاهين، وَهُوَ وهم وتصحيف، وَلَعَلَّه أَرَادَ عَن جده فصحفه بجدته، واسْمه: حَنْظَلَة، ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ كَذَلِك.
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «نُصرت بِالرُّعْبِ مسيرَة شهر، وأُحلت لي الْغَنَائِم وَلم تحل لأحدٍ قَبْلي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أُعطيت خمْسا لم يُعطهنَّ أحدٌ من الْأَنْبِيَاء قَبْلي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مسيرَة شهرٍ، وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا، فأيُّما رجل من أُمَّتي أَدْرَكته الصَّلَاة فليصلّ، وأحلِّت لي الْغَنَائِم وَلم تحل لأحدٍ قبلي، وأُعطيت الشَّفَاعَة، وَكَانَ النَّبِي يُبعث إِلَى قومه [خَاصَّة] وبُعثت إِلَى النَّاس عَامَّة» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَكَانَت الْغَنَائِم فِي أول الْأَمر لَهُ خَاصَّة، يَفْعل بهَا مَا شَاءَ، وَفِي ذَلِك نزل قَوْله تَعَالَى: (يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لمَّا تنَازع فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ والأنصارُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - يَوْم بدر.(7/323)
قلت: رَوَى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» لكنه لم يصرِّح بالمهاجرين.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَعَلِيهِ يُحْمَل إِعْطَاؤُهُ من لم يَشهد الْوَقْعَة، ثمَّ نُسخ ذَلِك، فَجعل خُمسها مقسومًا بِخَمْسَة أسْهم، قَالَ الله - تَعَالَى -: (فَإِن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ) الْآيَة، وَجعل أَرْبَعَة أخماسها للغانمين؛ لحَدِيث: «الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة» .
وَهَذَا الحَدِيث سَيَأْتِي الْكَلَام (عَلَيْهِ) - إِن شَاءَ الله وقدَّره.
الحَدِيث الثَّامِن
رُوي «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عرَّف عَام (حنين) عَلَى كل عشرَة عريفًا، وَذَلِكَ (فِي استطابة) قُلُوبهم فِي سَبْي هوَازن» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِيمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَنهُ عَن الزُّهْرِيّ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام عرَّف عَام (حنين) عَلَى كلِّ عشرَة عريفًا» .
وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» من حَدِيث عُرْوَة بن الزبير أَن مَرْوَان بن الحكم والمسور بن مخرمَة أخبرا: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين أذن للنَّاس فِي عِتْقِ سَبي هوَازن؛ قَالَ: إِنِّي لَا أَدْرِي مَنْ أذن مِنْكُم مِمَّن لم يَأْذَن، فَارْجِعُوا حَتَّى يرفع إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمركُم. فَرجع النَّاس وكلَّمهم(7/324)
عُرَفَاؤُهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأخبروه أَن النَّاس قد طيبُوا وأذنوا» .
وَرَوَى الشَّافِعِي الْقِصَّة فِي «سير الْوَاقِدِيّ» من كتاب «الْأُم» بأطول من ذَلِك، وفيهَا: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام ترك حَقَّه وحَقَّ أهل بَيته، فَسمع بذلك الْمُهَاجِرُونَ، فتركوا لَهُم حَقهم (وَسمع بذلك الْأَنْصَار فتركوا لَهُم حَقهم) ، ثمَّ بَقِي قوم من الْمُهَاجِرين الآخرين، وَأَنه عرَّف عَلَى كل عشرَة وَاحِدًا ... » ثمَّ سَاق الحَدِيث.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «قدِّموا قُريْشًا» .
هَذَا الحَدِيث تقدَّم بَيَانه فِي بَاب صَلَاة الْجَمَاعَة وَاضحا.
الحَدِيث الْعَاشِر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ فِي حلف الفضول» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْحميدِي عَن سُفْيَان، عَن عبد الله، عَن مُحَمَّد، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر قَالَا: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لقد شهدتُ فِي دَار عبد الله بن جدعَان حلفا، لَو دعيت بِهِ فِي الْإِسْلَام لَأَجَبْت، تحالفوا أَن (يردوا) الفضول (عَلَى) أَهلهَا، وَأَن لَا يَعُد (ظَالِم) مَظْلُوما» .(7/325)
وَرَوَاهُ ابْن أبي أُسَامَة فِي «مُسْنده» أَيْضا، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث طَلْحَة بن عبد الله بن عَوْف.
(قَالَ) السُّهيْلي: وَهَذَا أَقْوَى وَأولَى مَا ورد فِي تَفْسِير حلف الفضول. قَالَ: وَقَول ابْن قُتَيْبَة فِيهِ حسنٌ، وَهُوَ كَانَ قد سبق قُريْشًا إِلَى مثل هَذَا الْحلف جرهم فِي الزَّمن الأوَّل فتحالف مِنْهُم ثَلَاثَة، هم ومَنْ تَبِعَهُمْ: الْفضل بن فضَالة، وَالْفضل بن ودَاعَة، وَالْفضل بن الْحَارِث - وَقيل: ابْن (رِفَاعَة) - فلمَّا أشبه فعل قُرَيْش الآخر فعل هَؤُلَاءِ الجرهميين سُمِّي حِلف الفضول، وَكَانَ ذَلِك فِي ذِي الْقعدَة قبل المبعث بِعشْرين سنة، ثمَّ ذكر السُّهيْلي سَبَب ذَلِك وأوضحه (كعادته) .
(قَالَ الرَّافِعِيّ: وَكَذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْحلف الأول وَكَانَ مَعَ المطيبين) .
قلت: فِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «شهدتُ حِلْفَ المطيبين مَعَ عمومتي، وَأَنا غُلَام، فَمَا أُحِبُّ أَن لي حُمْرَ النّعم وَأَنِّي (أنكثه) » .
وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَيْضا رَفَعَهُ: «شهِدت وَأَنا غُلَام حلف المطيبين، فَمَا أُحب أَن أنكثه وَأَن لي (بِهِ) حُمْرَ النعم» .(7/326)
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «شهدتُ مَعَ عمومتي» (وَرَوَى هَذَا الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ «شهِدت غُلَاما مَعَ عمومتي) حلف المطيبين، فَمَا (ترَى) أَن لي حُمْر النعم وَإِنِّي أنكثه» . ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» .
وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَفعه: (مَا شهِدت حلفا إِلَّا حلف قُرَيْش من حلف المطيبين، وَمَا أحب لي بِهِ حمر النعم، وَأَنِّي كنت نقضته» . والمطيبون: هَاشم و [أُميَّة] وزهرة، ومخزوم، وَرَوَى هَذَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «مَا شهدتُ مِنْ حلف قُرَيْش إِلَّا حلف المطيبين، وَمَا أحب أَن لي حمر النعم، وَإِنِّي كنت نقضته» .
قَالَ (ابْن حبَان) : والمطيبون: هَاشم و [أُميَّة] وزهرة، ومخزوم.(7/327)
قَالَ: وَلم يشْهد حلف المطيبين؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْل مولده، وَإِنَّمَا شهد حلف الفضول، وهُمْ (كالمطيبين) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا أَدْرِي هَذَا التَّفْسِير من قَول أبي هُرَيْرَة أَو من دونه. قَالَ: وَبَلغنِي أَنه قد قيل: حلف المطيبين؛ لأَنهم غمسوا أَيْديهم فِي طِيْبٍ. قَالَ الشَّافِعِي: وَقَالَ بَعضهم: حلفٌ من الفضول.
قَالَ مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي: قَالَ بعض أهل الْمعرفَة بالسير وَأَيَّام النَّاس: إِن قَوْله فِي الحَدِيث: «حلف المطيبين» غلط؛ إِنَّمَا هُوَ حلف الفضول، وَذَلِكَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يدْرك حلف المطيبين؛ لِأَن ذَلِك كَانَ قَدِيما قبل أَن يُولد بِزَمَان. وَكَذَا ذكر هَذَا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وابْنُ عدي فِي «كَامِله» ، وَفِي «المستعذب عَلَى المهذَّب» : حلف المطيبين والفضول حلفان كَانَا فِي الْجَاهِلِيَّة من قُرَيْش:
أما الأول: فَلِأَن عَاتِكَة بنت عبد الْمطلب عملت لَهُم طيبا فِي جِفْنَةٍ وتركتها فِي الحِجْر؛ فغمسوا أَيْديهم فِيهَا وتحالفوا، وَقيل: إِنَّهُم مسحوا بِهِ الْكَعْبَة توكيدًا عَلَى أنفسهم. ولأي أمرٍ تحالفوا؟ قيل: عَلَى مَنْع الظَّالِم ونصْر الْمَظْلُوم. وَقيل: كَانَ بَنُو عَبْدِ الدَّار أَرَادوا أخْذَ السِّقَايَة والرفادة من بني هَاشم، فتحالفوا عَلَى مَنعهم، وَنحر الْآخرُونَ جَزُورًا، وغمسوا أَيْديهم فِي الدَّم، وَقيل: سُمُّوا المطيبين لأَنهم تحالفوا عَلَى أَن ينفقوا ويطعموا الْوُفُود من طيب أَمْوَالهم. وَفِي حلف (الفضول) وَجْهَان:(7/328)
الأول: أَنه اجْتمع فِيهِ رجال أَسمَاؤُهُم الْفضل: ابْن الْحَارِث، وَابْن ودَاعَة، وَابْن فضَالة (كَمَا سلف) .
والفضول جَمْع فضل، قَالَ الْهَرَوِيّ: يُقَال: فضل وفضول، كَمَا يُقَال: سعد وسعود. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: هم قوم من جرهم تحالفوا يُقَال لَهُم: فِضال وفُضال وفضالة، فلمَّا تحالفت قُرَيْش عَلَى مثله سُمُّوا حلف الفضول. ولأي أمْرٍ تحالفوا؟ فَقيل: عَلَى أَن لَا يَجدوا بِمَكَّة مَظْلُوما من أَهلهَا، أَو من غَيرهَا إِلَّا قَامُوا مَعَه.
وَقيل: عَلَى أَنهم يُنْفقُونَ من فضول أَمْوَالهم، فسمُّوا بذلك حلف الفضول.
وَقيل: سُمُّوا بذلك لفاضلِ ذَلِك الطِيْب.
تَنْبِيه (خَاتِمَة) قَالَ الرَّافِعِيّ: وَكَانَ فِي قُرَيْش حِلفان قبل المبعث - وَالْحلف: الْعَهْد والبيعة - أَحدهمَا: أَنه وَقع نزاع بَين عبد منَاف وَبني عبد الدَّار، فِيمَا كَانَ إِلَى قُصي من الحجابة والسقاية والرفادة واللواء، فتبع عبد منَاف قبائل. . إِلَى آخِره. وَقد بَيَّنَّاها.
وَعبد منَاف وَعبد الدَّار ولدان لقُصيّ وَلَهُمَا أَخ ثَالِث اسْمه عبد الْعُزَّى، وَالْمرَاد بالحجابة: حجاب الْكَعْبَة، وَهِي ولَايَة فتحهَا وغلقها وَخدمتهَا، ويُعبَّر عَن ذَلِك (بالسِّدَانةِ) أَيْضا (وَهِي) بكَسْر السِّين الْمُهْملَة، وَالْمرَاد بالسقاية: الْقيام بتهيئة المَاء من زَمْزَم، وطرْح الزَّبِيب فِيهِ لسقي الْحجَّاج، والرِّفادة - بكَسْر الرَّاء - مَال كَانَت قُرَيْش تجمعه(7/329)
فِيمَا بَينهم عَلَى (قدر) طَاقَة كلٍّ مِنْهُم، فيشترون بِهِ الطَّعَام وَالزَّبِيب لإطعام الْحجَّاج وسقيهم، مَأْخُوذ من الرفد وَهُوَ الْإِعَانَة.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ نفل فِي بعض الْغَزَوَات دون بعض» .
هُوَ كَمَا قَالَ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ مَالك بن أنس: بَلغنِي «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نفل فِي بعض مغازيه، وَلم ينفل فِي مغازيه كلِّها» .
قَالَ: وَإِنَّمَا ذَلِك عَلَى وَجه الِاجْتِهَاد من الإِمَام فِي أوَّل الْمغنم وَآخره.
قلت: و «فِي» «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ ينفل بعض من يبْعَث من السَّرَايَا لأَنْفُسِهِمْ خَاصَّة سُوَى قَسم عامَّة الْجَيْش» .
وَفِيهِمَا أَيْضا من حَدِيثه: «التَّنْفِيل فِي السّريَّة الَّتِي بعثها قبل نجد» .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَفَّلَ فِي البدأة الرّبع، وَفِي الرّجْعَة الثُّلثُ» .(7/330)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن. وَصَححهُ ابْنُ حبَان، وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَيْهِ فِي «تخريجي لأحاديث الْوَسِيط» ، وذكرته ثمَّ من طَرِيقين آخَرين أَيْضا، وَذكرت اخْتِلَاف الْأَصْحَاب فِي المُرَاد بالبدأة وَالرَّجْعَة، فراجِعه من ثمَّ، تجدُ مَا يشفي العليل.
والرافعي نقل عَن بَعضهم أَنه فسر البدأة بالسَّرية الأولَى، وَالرَّجْعَة بِالثَّانِيَةِ، ثمَّ قَالَ: وَالْمَشْهُور أَن البدأة ابْتِدَاء السَّفَر. قَالَ الْخطابِيّ عَن ابْن الْمُنْذر: إِنَّمَا فرَّق عَلَيْهِ السَّلَام بَينهمَا لقُوَّة (الظُّهُور) عِنْد دُخُولهمْ، وَضَعفه عِنْد خُرُوجهمْ؛ لأَنهم وهم داخلون أنشط وأشهى [للسير] والإمعان فِي بِلَاد الْعَدو، وهُمْ عِنْد القفول أَضْعَف لضَعْف دوابهم وأبدانهم، وهم أشهى للرُّجُوع [إِلَى أوطانهم وأهاليهم لطول عَهدهم بهم وحبهم للرُّجُوع إِلَيْهِم] فزادَهُمْ فِي الرُّجُوع لذَلِك ثمَّ اعْترض عَلَى ابْن الْمُنْذر؛ فَقَالَ: كَلَامه (هَذَا لَيْسَ بالبَيِّن؛ لِأَن فَحْوَاه يُوهم أَن مَعْنَى الرّجْعَة هُوَ القفول إِلَى أوطانهم، وَلَيْسَ الْمَعْنى كَذَلِك؛ إِنَّمَا (الْبِدَايَة) هِيَ ابْتِدَاء السّفر لغزوٍ، فَإِذا نهضت سريةٌ من جملَة العَسْكر [فأوقعت بطَائفَة الْعَدو] نَفَلَهَا الرُّبْعَ، فَإِن قَفَلُوا من الْغُزَاة ثمَّ(7/331)
رجعُوا؛ فأوقعوا بالعَدُوِّ ثَانِيَة كَانَ لَهُم الثُّلُث من الْغَنِيمَة؛ لِأَن نهوضهم بعد القفول أشقُّ عَلَيْهِم وأخطر.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرافعيُّ فِيمَا مَضَى قَبْل الحَدِيث الثَّامِن، كَمَا أسلفته، وَهُوَ غريبٌ مَرْفُوعا؛ إِنَّمَا نعرفه مَوْقُوفا، كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ أَيْضا، وستعلمه آخر الْبَاب.
وأمَّا ابْن الرّفْعَة فَذكره فِي كِتَابيه مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ بَعضهم مَوْقُوفا، قيل: عَلَى أبي بكر، وَقيل: عَلَى أبي بكر وعُمر، وَقيل: عَلَى أبي بكر وَعُثْمَان. وَقَالَ فِي «مطلبه» : كَذَا ذكره الرافعيُّ - يَعْنِي: مَرْفُوعا - وغيرهُ يوقفه عَلَيْهِمَا. وَفِي هَذِه الْعبارَة نظر؛ فَإِن الرافعيَّ ذكره أَولا مَرْفُوعا ثمَّ مَوْقُوفا، كَمَا ستعلمه آخر الْبَاب.
وَفِي الْمَسْأَلَة حديثان صَحِيحَانِ دالان عَلَى أَنه لَا يُسهم إِلَّا لمن حضر الْوَقْعَة:
أَحدهمَا: حَدِيث أبي مُوسَى الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» : «أَنه لمَّا وافى هُوَ وَأَصْحَابه من الْحُدَيْبِيَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين افْتتح خَيْبَر فَأَسْهم لَهُم مَعَ من شَهِدَهَا، وَلم يُسهم لمن غَابَ عَنْهَا غَيرهم» .
ثَانِيهمَا: حَدِيث سعيد بن الْعَاصِ (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث أبان بن سعيد(7/332)
بن الْعَاصِ فِي سَرِيَّة قِبل نجد، فَقدم أبانُ وأصحابُه (عَلَى) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَعْدَمَا فتح خَيْبَر، فَأَبَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُسهم شَيْئا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بإسنادٍ صَحِيح، وغلَّطه البخاريُّ، قَالَ الذَّهَبِيّ: وَهُوَ مَحْفُوظ من طَرِيقه.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: إِذا قَالَ الإِمَام: من أَخذ شَيْئا فَهُوَ لَهُ. فعلَى قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه يَصح شَرطه؛ لما رُوي: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ ذَلِك يَوْم بدر» . وأصحهما: الْمَنْع. والْحَدِيث مِمَّا تكلمُوا فِي ثُبُوته، وَبِتَقْدِير ثُبُوته فَإِن غَنَائِم بدر كَانَت لَهُ خَاصَّة يَضَعهَا حَيْثُ شَاءَ.
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده وتضعيفه الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك ثمَّ قَالَ: والْحَدِيث غير صَحِيح، وَقد قيل: إِن غَنَائِم بَدْر كَانَت لَهُ خَاصَّة، يفعل فِيهَا مَا يَشَاء.
وتبعا فِي ذَلِك الشافعيُّ؛ فَإِنَّهُ ذكره وَأفهم أَنه لَا يَصح عِنْده، فَقَالَ - عَلَى مَا نَقله الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» -: قَالَ بعض أهل الْعلم: إِذا بعث الإِمَام سَرِيَّة أَو جَيْشًا؛ فَقَالَ لَهُم قبل اللِّقَاء: مْن غنم شَيْئا فَهُوَ لَهُ بعد الخُمْس. فَذَلِك لَهُم عَلَى مَا شَرط، لأَنهم عَلَى ذَلِك غزوا، وَبِه رَضوا، وذهبوا فِي هَذَا إِلَى أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ يَوْم بدر: «من أَخذ شَيْئا فَهُوَ لَهُ» .(7/333)
وَذَلِكَ قبل نزُول الخُمْس، وَالله أعلم، وَلم أعلم شَيْئا [يثبت] عندنَا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[بِهَذَا] . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد رُوِيَ عَن عبَادَة بن الصَّامِت «أَنه سُئِلَ عَن الْأَنْفَال، قَالَ: فِينَا نزلت أصحابُ بدر، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين التقَى النَّاس ببدرٍ نفل كلَّ امرئٍ مَا أصَاب، ثمَّ ذكر نزُول الْآيَة والقَسْمَ بَينهم» .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَفِيه نظر؛ فَإِنَّهُ من رِوَايَة مَكْحُول عَن أبي أُمَامَة عَن عبَادَة، وَمَكْحُول لم ير أَبَا أُمَامَة كَمَا قَالَ أَبُو حَاتِم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ورُوي عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ يَوْم بدر: «مَنْ قَتَلَ قَتِيْلاً فَلهُ كَذَا، ومَنْ أسر أَسِيرًا فَلهُ كَذَا وَكَذَا» ثمَّ ذَكَرَ تنازعهم، ونزول الْآيَة فِي الْأَنْفَال، وقِسْمَةَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْغَنِيمَة بَينهم.
قلت: حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الصَّحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح. فقد احْتج البُخَارِيّ بِعِكْرِمَةَ، ومسلمُ بداودِ بْنِ أبي هِنْد - يَعْنِي: المذكورَيْن فِي إِسْنَاده - وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدِّين فِي «الاقتراح» : أَنه عَلَى شَرط البُخَارِيّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وروينا فِي حَدِيث سعد بن أبي وَقاص فِي بعث عبد(7/334)
الله بن جحش، وَكَانَ الْفَيْء إِذْ ذَاك: من أَخذ شَيْئا فَهُوَ لَهُ. قد كَانَ ذَلِك قبل وقْعَة بدر، وَقد صَار الْأَمر بعد نزُول الْآيَة إِلَى مَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِي فِي قسْمَة أَرْبَعَة أَخْمَاس الْغَنِيمَة بَين من حضر الْقِتَال، وَأَرْبَعَة أَخْمَاس الخُمس عَلَى أَهله، وَأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ [يضع] سَهْمه حَيْثُ أرَاهُ الله، وَهُوَ خُمس الخُمس.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه سُئل عَن النِّسَاء هَل كُنَّ يشهدن الْحَرْب مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ وَهل كَانَ يُضرب لَهُنَّ سهم؟ فَقَالَ: كُنَّ يشهدن الْحَرْب، وَأما أنْ يُضْرب لَهُنَّ سهمٌ فَلَا» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه مطولا بِلَفْظ: ( [كتبت] تَسْألني - يَعْنِي: [نجدة] بن عَامر الحروري التَّابِعِيّ - هَل كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَغْزُو بِالنسَاء؟ وَقد كَانَ يَغْزُو بهنَّ؛ فيداوين الجَرْحَى، ويُحْذَيْنَ من الْغَنِيمَة، وأمَّا بِسَهْم فَلم يضْرب لَهُنَّ» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «لَيْسَ لَهما - يَعْنِي: العَبْد وَالْمَرْأَة - شَيْء إِلَّا أَن يُحْذيَا» .(7/335)
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «فَأَما أَن يضْرب لَهُنَّ بِسَهْم فَلَا، وَقد كَانَ يُرْضَخُ لَهُنَّ» .
مَعْنَى «يُحْذَيْن» : يُعْطَيْن. وادَّعى الرافعيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ لم يتْرك الرَّضْخَ قَط، وَلنَا بِهِ أُسْوَة حَسَنَة.
فَائِدَة: حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا دالٌّ عَلَى ضَعْف حَدِيث حشرج بن زِيَاد عَن جدَّته أُمِّ أَبِيه: «أَنَّهَا غزت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي ستَّة نسْوَة، قَالَ: فَأَسْهم لَهَا عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا أسْهم [للرِّجَال] » .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وحشرج مَجْهُول.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أعْطى سلب مرحب يَوْم خَيْبَر من قَتله» .
هَذَا الحَدِيث مَشْهُور، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» قَالَ: وَاخْتلفُوا فِي قَاتل مرحب، فَقيل: عَلّي بن أبي طَالب، وَقيل: مُحَمَّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ.
قلت: وبالأوَّل قَالَ جماعةٌ، وَرَوَاهُ الحاكمُ فِي «مُسْتَدْركه» بإسنادٍ لِلْوَاقِدِي مَا يجمع بَين الْقَوْلَيْنِ، قَالَ: «ضرب مُحَمَّد بن مسلمة ساقي(7/336)
مرحب؛ فقطعهما وَلم يُجهز عَلَيْهِ، فَمر بِهِ عليٌ فَضرب عُنُقه؛ فَأعْطَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سلبه مُحَمَّد بن مسلمة: سَيْفه وَدِرْعه ومِغْفره وبيضته، وَقد كَانَ عِنْد مُحَمَّد بْنِ مسلمة سَيْفه» .
وَرَوَى الْحَاكِم إِلَى الْوَاقِدِيّ أَيْضا، قَالَ: «وَقيل: إِن مُحَمَّد بن مسلمة ضَرَبَ ساقي مرحب، فقطعهما، فَقَالَ مرحبُ: أجْهزْ عليَّ يَا مُحَمَّد. فَقَالَ مُحَمَّد: ذُق الْمَوْت كَمَا ذاقه أخي مَحْمُود. فَمر بِهِ عليٌّ فَضرب عُنُقه وَأخذ سلبه؛ فاختصما إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ مُحَمَّد: يَا رَسُول الله، وَالله مَا قطعتُ رجلَيْهِ وَتركته إِلَّا ليذوق الْمَوْت، وَكنت قَادِرًا عَلَى أَن أُجهز عَلَيْهِ. فَقَالَ عليُّ: صدق، ضربتُ عُنُقه بعد أَن قطع رجلَيْهِ. فَأعْطَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سلبه مُحَمَّد بن مسلمة: سَيْفه وَدِرْعه ومِغفره وبيضته، وَكَانَ عِنْد مُحَمَّد بن مسلمة سَيْفه فِيهِ كِتَابَة لَا يدْرِي مَا هُوَ، حَتَّى قَرَأَهُ يهوديُّ مِنَ الْيَهُود؛ فَإِذا فِيهِ: هَذَا سيف مرحب، مَنْ يذقه يعطب» .
وَقيل: إِن قَاتله أَبُو دجَاجَة، رَوَاهُ الحاكمُ بِسَنَدِهِ إِلَى الْوَاقِدِيّ بإسنادٍ مُنْقَطع أَيْضا.
وَفِي «صَحِيح مُسلم» بِإِسْنَادِهِ عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع التَّصْرِيح بِأَن عليًّا هُوَ الَّذِي قَتله.
وَفِي «مُسْند أَحْمد» عَن عليّ قَالَ: (لمَّا قتلتُ مرْحَبًا جئتُ بِرَأْسِهِ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
قَالَ ابْن الْأَثِير: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أكثرُ أهل السّير والْحَدِيث. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «مُخْتَصر السِّيرَة» : إِنَّه الصَّحِيح. وَقَالَ بِالثَّانِي محمدُ(7/337)
بن إِسْحَاق والشافعيُّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «الْمُخْتَصر» : «نفل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم خَيْبَر مُحَمَّد بن مسلمة سلب مرحب» . هَذَا تَصْرِيح مِنْهُ بِأَنَّهُ قَاتله.
فَائِدَة: مَرحَب: بِفَتْح الْمِيم والحاء، مِنَ الرَّحَب، بِمَعْنى السعَة، وَهُوَ يَهُودِيّ قُتل كَافِرًا يَوْم خَيْبَر.
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم حُنَيْن، فرأيتُ رجلا من الْمُشْركين عَلَى رجلٍ من الْمُسلمين، فاستدرتُ لَهُ حَتَّى أَتَيْته مِنْ وَرَائه، فضربته عَلَى حَبْلِ عَاتِقه ضَرْبَة، فَأقْبَلَ عليَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وجدتُ مِنْهَا ريح الْمَوْت، ثمَّ أدْركهُ الموتُ، فأرسلني إِلَى أَن مَاتَ [فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من قتل قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَة فَلهُ سلبه. فَقُمْت فَاقْتَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّة، فَقَالَ رجل: صدق يَا رَسُول الله، وسلب ذَلِك الْقَتِيل عِنْدِي] . فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فأعْطِهِ إيَّاه. فأعْطَانِيْهِ، فابتعتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بني سَلمَة؛ فَإِنَّهُ لأوَّلُ مالٍ تأثلته فِي الْإِسْلَام» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» مِنْ هَذَا الْوَجْه، قَالَ: «خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام حنين، فلمَّا الْتَقَيْنَا كَانَ للْمُسلمين جَوْلَة، قَالَ: فرأيتُ رجلا من الْمُشْركين قد علا رجلا من الْمُسلمين، فابتدرتُ إِلَيْهِ حَتَّى أتيتَهُ مِنْ وَرَائه، فضربتُه عَلَى حَبْلِ عَاتِقه، فَأقبل عليَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وجدتُ مِنْهَا ريح الْمَوْت، ثمَّ أدْركهُ الموتُ(7/338)
فأرسلني، فلحقتُ عمرَ بْنَ الْخطاب، فَقلت: مَا بالُ النَّاس؟ فَقَالَ: أَمْرُ الله، ثمَّ إِن الناسَ رجعُوا، وَجلسَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: مَنْ قتل قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلهُ سلبه. فَقُمْتُ فقلتُ: مَنْ يشْهد لي؟ ثمَّ جلستُ ثمَّ قَالَ ذَلِك ثَلَاثَة، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَة؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّة، فَقَالَ رجل مِنْ الْقَوْم: صَدَقَ يَا رَسُول الله؛ سَلَبُ ذَلِك الْقَتِيل عِنْدي، فأرْضِهِ مِنْ حقِّه. فَقَالَ أَبُو بكر الصّديق: لَاها الله إِذن، لَا يعمدُ إِلَى أَسد من أَسد الله يُقَاتل عَن الله وَرَسُوله فيعطيك سلبه؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: صَدَقَ، فأعْطِهِ إِيَّاه [فَأَعْطَانِي: قَالَ] فَبِعْت الدرْع وابتعتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بني سَلمَة، فَإِنَّهُ لأوَّلُ مالٍ تأثلته فِي الْإِسْلَام» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «لمَّا كَانَ يَوْم حنين نظرتُ إِلَى رجلٍ من الْمُسلمين يُقَاتل رجلا من الْمُشْركين، [وَآخر] من الْمُشْركين [يختله] مِنْ وَرَائه ليَقْتُلهُ، فأسرعتُ إِلَى الَّذِي [يختله] فَرفع يَده ليضربني، فَضربت يَده فقطعتها، ثمَّ أَخَذَنِي فضمني ضمًّا شَدِيدا حَتَّى تخوفت، ثمَّ بزك [فتحلَّل] ، ودفعتُه ثمَّ قَتَلْتُه، وَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ وانهزمتُ مَعَهم؛ فَإِذا بعمر بن الْخطاب فِي النَّاس، فقلتُ لَهُ: مَا شَأْن النَّاس؟ قَالَ: أَمر(7/339)
[الله. ثمَّ تراجع] الناسَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » ثمَّ ذكر النَّاس بنَحْوِ مَا تقدم.
فَائِدَة: قَوْله: «كَانَ للْمُسلمين جَوْلَة» : أَي نُفُور وانكشاف. «حَبْل العاتق» بِسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: مَوضِع الرِّدَاء من العاتق. قَالَه الأصمعيُّ، يذكَّر ويؤنَّث. وَقَوله: «لَاها الله إِذا» : هَكَذَا رُوي، قَالَ الْخطابِيّ: وَالصَّوَاب: «لَاها الله ذَا» بِغَيْر ألف قبل الذَّال، وَمَعْنَاهُ فِي كَلَامهم: لَا وَالله يكون ذَا، يجْعَلُونَ الْهَاء مَكَان الْوَاو. وَوَقع فِي «مُسْند أَحْمد» نَحْو هَذَا القَوْل من عمر فِي حق أبي قَتَادَة من حَدِيث أنس، وَهُوَ وهم كَمَا قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» وَإِنَّمَا قَالَه أَبُو بكر.
والمَخرف - بِفَتْح الْمِيم، وَإِسْكَان الْخَاء الْمُعْجَمَة، وَفتح الرَّاء - حَائِط النّخل، وَقيل: المَخرف: نَخْلَة وَاحِدَة أَو نخلات يسيرَة إِلَى عشر، فَمَا فَوق ذَلِك فَهُوَ بُسْتَان أَو حديقة، مَأْخُوذ من الخَرف - بِفَتْح الْخَاء - وَهُوَ الْقطع؛ لِأَن الرطب و [الثَّمر] يقْطَعَانِ مِنْهُ، والمخرفية - بِزِيَادَة الْيَاء - اسْم للبستان أَيْضا، كَمَا قَالَه فِي «الصِّحَاح» والمِخْرَف - بِكَسْر الْمِيم - هِيَ مَا يجتنى فِيهِ الثِّمَار، وَمِنْه الخريف للفصل الْمَعْرُوف؛ لكَون الثِّمَار تُقْطع فِيهِ، وبالمد مَعْنَاهُ: عللته. وَالْحَبل: الْكر. و «الجدع» و «حنين» : (واديين) بِمَكَّة، والطائف وَرَاء عَرَفَات، بَينه وَبَين مَكَّة بضعَة عشر ميلًا، وَهُوَ مصروفٌ كَمَا نطق بِهِ الْقُرْآن الْعَزِيز. وَقَوله: «فِي(7/340)
بني سلِمة» : هُوَ بِكَسْر اللَّام. قَالَه ابْن الْأَعرَابِي، بني سَلمَة بِكَسْر اللَّام فِي الأزد، وَبِفَتْحِهَا فِي يُسيْر.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يُعط ابْن مَسْعُود سلب أبي جهل؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد أثخنه فتيَان من الْأَنْصَار، وهما: معَاذ ومعوَّذ ابْنا عَفْراء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» لكنهما قَالَا: «معَاذ بن عَمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء» بدل مَا ذكره الرافعيُّ.
أَخْرجَاهُ من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (مَنْ ينظر مَا صنع أَبُو جهل؟ فَانْطَلق ابْنُ مَسْعُود فَوَجَدَهُ قد ضربه ابْنا عفراء حَتَّى برد، قَالَ: فَأخذ بلحيته، فَقَالَ: آنت أَبُو جهل؟» . وللبخاري: «آنت أَبَا جهل؟ قَالَ: وَهل [فَوق] رجل قَتَلْتُمُوهُ - أَو قَالَ: قَتله قومُهُ» . وَفِي لفظ لَهما: «قَالَ أَبُو جهل: [فَلَو غيرُ أكَّار] يقتلني؟» .
وابنا عفراء هما معَاذ بن عَمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، كَمَا أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف(7/341)
قَالَ: «إِنِّي لواقفٌ فِي الصَّفّ يَوْم بدر، فنظرتُ عَن يَمِيني وَعَن شمَالي، فَإِذا أَنا بغلامين من الْأَنْصَار [حَدِيثَة] أسنانهما، فتمنيتُ أَن [أكون] بَين أضلع مِنْهُمَا، فغمزني أَحدهمَا فَقَالَ: أيْ عَمّ، تعرف أَبَا جهل؟ قلت: نعم، مَا حَاجَتك [إِلَيْهِ يَا] ابْن أخي؟ قَالَ: أخْبرت أَنه يسب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِن رَأَيْته لَا يُفَارق سوَادِي سوَاده حَتَّى يَمُوت الأعجل منا. قَالَ: فتعجبت لذَلِك، قَالَ: وغمزني الآخر فَقَالَ لي مثلهَا، فَلم أنشب أَن (نظرت إِلَى) أبي جهل يجول فِي النَّاس، فَقلت: أَلا تريان؛ هَذَا صاحبكما الَّذِي تسألاني عَنهُ. قَالَ: فابتدراه [بسيفيهما] فضرباه حَتَّى قتلاه، ثمَّ انصرفا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: أيكما قَتله؟ قَالَ كلُّ واحدٍ مِنْهُمَا: أَنا قتلته. فَقَالَ: هَل مسحتما [سيفيكما] ؟ قَالَا: لَا. فَنظر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى السيفين، فَقَالَ: (كلاكما) قَتله. وَقَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بسلبه لِمعَاذ بن عَمرو بن الجموح (ومعاذ بن عفراء) » .(7/342)
فَائِدَة: «أثخنه» فِي طَرِيق الرَّافِعِيّ بمثلثة، ثمَّ خاء مُعْجمَة، أَي أضعفه بالجراحة.
تَنْبِيهَات: (أَحدهَا) : قد علمتَ أَن فِي الحَدِيث «معَاذ بن عَمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء» خلاف مَا وَقع فِي «الرَّافِعِيّ» وعفراء أُمُّهما، كَمَا قَالَه ابْن الْأَثِير وغيرُه فِي «جَامعه» .
ثَانِيهَا: معَاذ ومعوذ ابْنا الْحَارِث بن رِفَاعَة، وَتَبعهُ ابْنُ الرّفْعَة فِي «الْكِفَايَة» وَقَالَ ابْن معِين فِي «سنَنه» : هُمَا: عَوْف ومسعود. وَقَالَ التغلبي: عَوْف ومعاذ. قَالَا: فالاتفاق عَلَى عَوْف وَالِاخْتِلَاف فِي الآخر.
قلت: وَأَيْنَ الِاتِّفَاق؟ وَقد علمت أَنه خلاف مَا وَقع فِي «الصَّحِيح» وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : هما عوذ ومعوذ، الأول بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَإِسْكَان الْوَاو وَبعدهَا ذال مُعْجمَة، ثمَّ نقل عَن ابْنِ عَبْدِ البَرِّ وغيرُه أَنهم فِي «عوذ» : «عَوْف» بِالْفَاءِ بدل الذَّال. هَذَا مَا ذكره فِي النَّوْع السَّابِع الْمَعْقُود لبَيَان المبهمات، وَذكر فِي الْأَسْمَاء فِي تَرْجَمَة معَاذ بن الْحَارِث أخي عوذ ومعوذ. أَن معَاذًا هُوَ الَّذِي شَارك فِي قتل أبي جهل، كَمَا ثَبت فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» عَن أنس.
فَائِدَة: تُوفي معاذُ بْنُ عفراء فِي زمن عليّ، عَام صِفِّيْن، كَمَا قَالَه الواقديُّ، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: قُتِل ببدر. وَهُوَ غلط بالِاتِّفَاقِ؛ إِنَّمَا قُتِلَ ببدر أَخَوَاهُ، قَالَ كثيرُ بن أَفْلح: أعتق معاذُ بن عفراء ألف نَسْمَة، سُوَى مَا ابْتَاعَ لَهُ. نَقله أَبُو نُعَيْم فِي «الْمعرفَة» .(7/343)
ثَالِثهَا: حَكَى ابْن الرّفْعَة خلافًا فِي «كِفَايَته» «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أعْطى سلب أبي جهل لَهما أَو لأَحَدهمَا» . وَهُوَ خلاف غَرِيب.
وَفِي «مُسْند الإِمَام أَحْمد» من حَدِيث أبي [عُبَيْدَة] عَن عبد الله بن مَسْعُود: «أَنه وجده - يَعْنِي: أَبَا جهل - يَوْم بدر وَقد ضُرِبَتْ رِجْله وَهُوَ صريع، وَهُوَ يَذُبُّ الناسَ عَنهُ بسيفٍ لَهُ، فأخذتُه فقتلتُه بِهِ، فَنَفَلَني سلبه» .
وَهَذَا مُنْقَطع، أَبُو (عُبَيْدَة) لم يسمع مِنْ أَبِيه.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سلف لَك قَرِيبا.
وَفِي «مُسْند أَحْمد» : حدَّثنا أَبُو مُعَاوِيَة، ثَنَا أَبُو مَالك الْأَشْجَعِيّ، عَن نعيم بن أبي هِنْد، عَن ابْن سَمُرَة بن جُنْدُب، عَن أَبِيه رَفعه: «من قتل (قَتِيلا) فَلهُ السَّلب» .
الحَدِيث الْعشْرُونَ
عَن عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ وخَالِد بن الْوَلِيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَضَى بالسلب للْقَاتِل، وَلم يُخمس السَّلب» .(7/344)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن صَفْوَان بن عَمرو، عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير بن نفير، عَن أَبِيه، عَن عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ وخَالِد ... فَذكره. وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل عَن الشاميين.
قلت: وَلم ينْفَرد بِهِ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، بل تَابعه عَلَيْهِ أَبُو الْمُغيرَة، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَتَابعه أَيْضا الْوَلِيد بن مُسلم، قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : أبنا عمر بن مُحَمَّد الْهَمدَانِي، ثَنَا عَمرو بن [عُثْمَان] ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، عَن صَفْوَان بن عَمرو، عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير بن نفير، عَن أَبِيه، عَن عَوْف بن مَالك: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يُخمس السَّلب» .
وَرَوَاهَا أَيْضا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جعل السَّلب للْقَاتِل، وَلم يُخمسه» وَعَزاهَا صَاحب «الْإِلْمَام» إِلَى رِوَايَة (الْحَافِظ) أبي بكر البرقاني أَن عَوْف بن مَالك قَالَ: «إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يكن يُخمس السَّلب» .
وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظ ثَابت فِي «صَحِيح مُسلم» من هَذَا الْوَجْه فِي قصَّة طَوِيلَة بِلَفْظ: «قَالَ عَوْف: فقلتُ: يَا خَالِد، أمَا علمت أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(7/345)
قَضَى بالسلب للْقَاتِل؟ قَالَ: بلَى، وَلَكِنِّي [استكثرته] » .
وَهِمَ المحبُّ الطَّبَرِيّ فَعَزاهُ إِلَى «البُخَارِيّ» أَيْضا، وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم.
الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّانِي وَالثَّالِث بعد العِشْرين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَتجوز قِسْمة الْغَنَائِم فِي دَار الْحَرْب من غير كَرَاهَة؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَسَّم غَنَائِم بدر بشِعْب مِنْ شعاب الصَّفْرَاء قريبٌ مِنْ بدر، وَقسم غَنَائِم بني المصطلق عَلَى مِيَاههمْ، وقسَّم غَنَائِم حُنَيْن بأوطاس وَهُوَ وَادي حُنَيْن، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تُقَسَّم الْغَنَائِم بدار الْحَرْب. هَذَا آخرُ كَلَامه.
أما قِسْمَتُه عَلَيْهِ السَّلَام غَنَائِم بدر بشعب من شعاب الصَّفْرَاء قريبٌ من بدر فمشهور، وَمِمَّنْ ذكره ابْن إِسْحَاق، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ فَقَالَ: «وَمَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فلمَّا خرج مِنْ مضيق يُقَال لَهُ: الصَّفْرَاء؛ خرج مِنْهُ عَلَى كثيب يُقَال لَهُ: سير، عَلَى مسيرَة لَيْلَة من بدر أَو أَكثر؛ فقسم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - النَّفْل بَين الْمُسلمين عَلَى ذَلِك الْكَثِيب» . قَالَ الشَّافِعِي: وَمن حول سَير وَأَهله مشركون.
فَائِدَة: بدر عَلَى أَربع مراحل من الْمَدِينَة، وَكَانَت يَوْم الْجُمُعَة كَمَا ثَبت فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» من حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَأبْعد من قَالَ: كَانَت يَوْم الِاثْنَيْنِ. حَكَاهُ ابْن عَسَاكِر أَنَّهَا كَانَت يَوْم السبت، وَهُوَ غَرِيب جدًّا.
«قِسْمَتُه عَلَيْهِ السَّلَام غَنَائِم بني المصطلق عَلَى مِيَاههمْ» فَذكره الشافعيُّ فِي(7/346)
«الْأُم» فَقَالَ: وَقسم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمْوَال بني المصطلق وَسَبْيهمْ فِي الْموضع الَّذِي غنمها فِيهِ قبل أَن يتَحَوَّل مِنْهُ، وَمَا حوله كُله بِلَاد شرك، وَقسم أَمْوَال أهل بدر بسير عَلَى أميالٍ من بدر وَمن حول سير وَأَهله مشركون.
قَالَ: وَأكْثر مَا قسم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وأمراءُ سراياه مَا غنموا بِبِلَاد (الْمغرب) وَذَلِكَ مَعْرُوف عِنْد أَهله، لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.
وَأما قسْمَة غَنَائِم حنين بأوطاس - وَهُوَ وَاد بهَا - فغريبٌ؛ وَإِنَّمَا قَسَّمَهَا بالجعرانة، كَمَا أخرجه البخاريُّ وغيرُه؛ (فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لمَّا نَصره الله بِحُنَيْن عَلَى هوَازن لم يصنع شَيْئا فِي أمْر الْغَنَائِم حَتَّى غزا الطائِفَ، ثمَّ عَاد ولمَّا يُفتح لَهُ، إِلَى أَن نزل بالجعرانة، فَأَتَاهُ هُنَاكَ وَفْدُ هوَازن مُسلمين داعيين، فخيَّرهم بَين عِيَالهمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَبَين أَمْوَالهم، فَاخْتَارُوا أَمْوَالهم، ثمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصْحَابه كلَّ ذَلِك عَلَيْهِم. .) الْقِصَّة بِطُولِهَا، وَكَانَ سَبْيُ هوَازن سِتَّة آلَاف إِنْسَان.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
«أَن السَّرَايَا كَانَت تخرج من الْمَدِينَة عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتَغْنم وَلَا يشاركهم المقيمون بهَا» .
هَذَا مَشْهُور مَعْرُوف، وَمِمَّنْ رَوَاهُ الربيعُ عَن الشَّافِعِي، كَمَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَنهُ.(7/347)
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
رُوي «أَن جَيش الْمُسلمين تفَرقُوا، فغنم بَعضهم بأوطاس وَبَعْضهمْ (بحنين) ؛ فشركوهم» .
هَذَا صَحِيح، قَالَ الشَّافِعِي - فِيمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» و «الْمعرفَة» -: مَضَت خيل الْمُسلمين فَغنِمت بأوطاس غَنَائِم كَثِيرَة، وَأكْثر الْعَسْكَر بحُنَيْن، [فشركوهم] وهم مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ثمَّ سَاق فِي السّنَن حَدِيث أبي مُوسَى الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» قَالَ: «لمَّا فرغ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من حنين بعث أَبَا عَامر عَلَى جَيش أَوْطَاس، فلقي دُرَيْد بن الصمَّة، فَقتل دُرَيْد، وَهزمَ الله أَصْحَابه ... » وَذكر الحَدِيث.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ضرب للْفرس بسهمين، وللفارس بسَهْمٍ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَقَالا: «للرَّاجِل» بدل «للفارس» .(7/348)
وَقد أوضحت طرقه والجوابَ عمَّا عارَضَه فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الْوَسِيط» .
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة: الْأجر، والمغنم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عُرْوَة بن الْجَعْد الْبَارِقي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر، وَأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وَأخرجه ت س من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، د وَأَبُو مُسلم الْكَجِّي فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث عتبَة بن [عَبدٍ] السّلمِيّ، د م من رِوَايَة جرير، وَأحمد من حَدِيث أَسمَاء بنت(7/349)
يزِيد وَجَابِر، وَالْبَزَّار من حَدِيث حُذَيْفَة، وَأحمد من حَدِيث سَلمَة بن نفَيْل، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث [نعيم بن زِيَاد أَنه سمع أَبَا] كَبْشَة بِزِيَادَة: «وَأَهْلهَا مُعَانون عَلَيْهَا، والمنْفِق عَلَيْهَا كالباسط يَده بِالصَّدَقَةِ» . وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه» من هَذِه الطَّرِيق، وَمن طَرِيق [سوَادَة] الْجرْمِي وَأبي أُمَامَة، وَأخرجه ابْن مَنْدَه فِي «الصَّحَابَة» ، و [ابْن سعد] فِي «الطَّبَقَات» من طَرِيق يزِيد بن عبد الله بن عريب الْمليكِي، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا.
فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَة عشر صحابِيًّا رووا هَذَا الْمَتْن عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ الإِمَام أَبُو الْفضل: وَهُوَ من كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام البليغ، وتحسينه الْأَلْفَاظ العذبة السهلة بَعْضهَا بِبَعْض.(7/350)
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
رُوي «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يُعطِ الزبير إِلَّا لفرس واحدٍ، وَقد حضر يَوْم خَيْبَر بأفراس» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم عَلَى مَا نَقله الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، عَن عبد الْوَهَّاب [الْخفاف عَن] الْعمريّ عَن أَخِيه: «أَن الزبير وَافى بأفراسٍ يَوْم خَيْبَر، فَلم يُسْهم لَهُ إِلَّا لفرسٍ واحدٍ» .
قَالَ الشَّافِعِي: وَحدث مَكْحُول عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَن الزبير حضر خَيْبَر بفرسين، فَأعْطَاهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَمْسَة أسْهم؛ سَهْما لَهُ، وَأَرْبَعَة أسْهم لفرسَيِه» - فَهُوَ حَدِيث مُنْقَطع لَا تقوم بِهِ حُجَّة - قَالَ الشَّافِعِي: وَلَو كَانَ كَمَا حدث مَكْحُول «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حضر خَيْبَر بفرسَيْن، وَأخذ خَمْسَة أسْهم» كَانَ وَلَده أعرف بحَديثه و [أحرص] عَلَى مَا فِيهِ زِيَادَة من غَيرهم.
قلت: وَفِي «مُسْند أَحْمد» و «سنَن النَّسَائِيّ» من حَدِيث يَحْيَى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عَن جده قَالَ: (ضرب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم(7/351)
خَيْبَر للزبير أَرْبَعَة أسْهم، [سَهْمًا] للزبير، و [سَهْمًا] لذِي [الْقُرْبَى لصفية بنت عبد الْمطلب أم الزبير وسهمين] للْفرس» .
تَنْبِيه: وَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ «حنين» بدل «خَيْبَر» وَهُوَ من تَحْرِيف النساخ؛ فاجتنبه.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقَالَ أَحْمد: يعْطى لفرسَيْن وَلَا يُزَاد؛ لحديثٍ ورد فِيهِ، وَرَوَاهُ راوون قولا للشَّافِعِيّ.
هَذَا الحَدِيث الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور فِي «سنَنه» عَلَى مَا ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» وغيرُه عَنهُ عَن ابْن عَيَّاش عَن الْأَوْزَاعِيّ: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُسْهم للخيل، وَكَانَ لَا يُسهم للرجل فَوْقَ فرسَيْن وَإِن كَانَ مَعَه عشرَة أَفْرَاس» .
وَهُوَ مُرْسل كَمَا ترَى؛ لكنه مُرْسل جَيِّد، فَإِنَّهُ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل عَن الشاميين، وَهُوَ حجَّة إِذن.
وَذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إِسْنَاد، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَنهُ، فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِي فِي رِوَايَة الرّبيع: وَلَيْسَ فِيمَا قلت من أَن لَا يُسهم إِلَّا لفرسٍ واحدٍ، وَلَا خِلَافه خبر يثبت مثله. قَالَ الْبَيْهَقِيّ:(7/352)
وَفِيه أَحَادِيث مُنْقَطِعَة، أشبههَا أَن يكون ثَابتا. ثمَّ سَاق حديثَ يَحْيَى بن عباد بن عبد الله بن الزبير «أَن الزبير ... » فَذكره كَمَا سبق، ثمَّ رَوَاهُ عَن جدّه كَمَا سبق، ثمَّ ذكر حديثَ مَكْحُول السَّابِق، وَكَذَا حَدِيث عبد الْوَهَّاب، ثمَّ قَالَ: ورُوي عَن عبد الله بن رَجَاء، عَن عبد الله بن عمر الْعمريّ [عَن الزبير أَنه غزا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بأفراس لَهُ فَلم يقسم إِلَّا لفرسين» والعمري] غير مُحْتَج بِهِ، ورُوي عَن الْحسن عَن بعض الصَّحَابَة قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يقسم إِلَّا لفرسين» . وَهَذَا مُنْقَطع.
قلت: ورُوي مَوْقُوفا عَلَى عمر أَيْضا، قَالَ سعيد بن مَنْصُور: ثَنَا فرج بن فضَالة، ثَنَا مُحَمَّد بن الْوَلِيد الزبيدِيّ، عَن الزُّهْرِيّ «أَن عمر بن الْخطاب كتب إِلَى أبي عُبَيْدَة بن الْجراح: أَن أَسْهِمْ للْفرس سَهْمَيْنِ، وللفرسين أَرْبَعَة أسْهم، ولصاحبها سَهْما؛ فَذَلِك خَمْسَة أسْهم، وَمَا كَانَ فَوق الفرسين فَهِيَ جنائب» .
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله ومنِّه.
وَأما [1] أثاره: فأحد عشر أثرا:
أَحدهَا: «أَن الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يَأْخُذ من سهم ذَوي الْقُرْبَى، وَكَانَ غنيًّا» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد تبع فِيهِ إِمَامه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَهَذَا نَصُّه: «فقد أعْطى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبَا الْفضل الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، وَهُوَ كَمَا وصُف فِي كَثْرَة المَال بقول عامَّة بني الْمطلب، ويتفضل عَلَى غَيرهم» .(7/353)
الأُثر الثَّانِي: يُرْوى «أَن الزبير كَانَ يَأْخُذ لأُمِّه» .
هَذَا الْأَثر تبع فِيهِ الماروديَّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: «إِن الزبير كَانَ يَأْخُذ سهم أُمِّه صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب عَمَّةِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . ولمَّا ذكر ابْن إِسْحَاق فِي «السِّيرَة» مقاسم خَيْبَر قَالَ: «ثمَّ قسم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الكتيبة بَيْنَ قرَابَته، وَبَين نِسَائِهِ، وَبَين رجالٍ من الْمُسلمين وَنسَاء، أَعْطَاهُم مِنْهَا، فقسم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لفاطمة ابْنَته مِائَتي وسق» وَذكر جمَاعَة، إِلَى أَن قَالَ: «ولأُمِّ الزبير أَرْبَعِينَ وسْقا» . فَذكرهَا فِيمَن ذكر.
الْأَثر الثَّالِث: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهما «أَن أهل الْفَيْء كَانُوا فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بمعزل عَن الصَّدَقَة، وَأهل الصَّدَقَة كَانُوا بمعزل عَن الْفَيْء» .
وَهَذَا رَوَاهُ الْمُزنِيّ عَن ابْن عَبَّاس، كَمَا ذكره الرافعيُّ سَوَاء، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ فِي «الْمعرفَة» ، ثمَّ قَالَ: وروينا عَن عُثْمَان بْنِ عَفَّان مَا دلَّ عَلَى ذَلِك.
قلت: وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث [بُرَيْدَة] قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي أَعْرَاب الْمُسلمين: «لَيْسَ لَهُم من الْفَيْء وَالْغنيمَة شَيْء، إِلَّا أَن يجاهدوا مَعَ الْمُسلمين» .(7/354)
الْأَثر الرَّابِع: عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «كَانَ النَّاس يُعطون النَّفْل من الخُمْس» .
وَهَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد أَنه سمع سعيد بن الْمسيب يَقُول ... فَذكره. وَهُوَ فِي «الأُمِّ» كَذَلِك، وَذكره فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إسنادٍ.
الْأَثر الْخَامِس: عَن عُمر فِي تدوين الدَّوَاوِين.
وَهُوَ مَشْهُور عَنهُ، فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي من وَجه آخر ذكره عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» فليراجَعْ مِنْهُ.
الْأَثر السَّادِس؛ إِلَى التَّاسِع: «أَن أَبَا بكر وعليًّا ذَهَبا إِلَى التَّسْوِيَة بَين النَّاس فِي الْقِسْمَة، وَأَن عُمر كَانَ يفضِّل [بَينهم] » وَعَن عُثْمَان مثْله.
وَهَذِه الْآثَار ذكرهَا الشَّافِعِي، خلا أثر عُثْمَان، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : روينَا عَن عُثْمَان مَا دلَّ عَلَى ذَلِك.
الْأَثر الْعَاشِر وَالْحَادِي عشر: قَالَ الرَّافِعِيّ: رُوي مَرْفُوعا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وموقوفًا عَلَى أبي بكر وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة» .
قلت: أما رَفعه فغريبٌ، كَمَا سلف فِي أثْنَاء الْبَاب. وَأما وقْفه عَلَيْهِمَا فَهُوَ الْمَعْرُوف، وَقد ذكره الشافعيُّ عَنْهُمَا، فَقَالَ: وَمَعْلُوم عِنْد(7/355)
غير واحدٍ مِمَّن لقِيت من أهل الْعلم [بالغزوات] أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: إِن الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة» .
قَالَ الشَّافِعِي حِكَايَة عَن أبي يُوسُف: عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن يزِيد بن [عبد الله] بن قسيط: «أَن أَبَا بكر الصدِّيق بعث عِكْرِمَة بن أبي جهل فِي خَمْسمِائَة من الْمُسلمين مدَدا لزياد بن لبيد [وللمهاجر بن أبي أُميَّة، فوافقهم الْجند قد افتتحوا النُّجَيْر بِالْيمن فَأَشْركهُمْ زِيَاد بن لبيد] وَهُوَ مِمَّن شهد بَدْرًا فِي الْغَنِيمَة» .
قَالَ الشَّافِعِي: «فَإِن زيادًا كتب فِيهِ إِلَى أبي بكر، فَكتب أَبُو بكر: إِنَّمَا الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة. وَلم يَرَ لعكرمة شَيْئا؛ لِأَنَّهُ لم يشْهد الْوَقْعَة، فَكلم زيادٌ أصحابَهُ، فطابوا أنفسًا بِأَن أشركوا عِكْرِمَة وَأَصْحَابه متطوعين عَلَيْهِم» . وَهَذَا قولُنا.
وَحكي فِي الْقَدِيم - عَلَى مَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَنهُ - حَدِيث حجاج، عَن [شُعْبَة] ، عَن قيس بن مُسلم، عَن طَارق بن شهَاب الأحمسي قَالَ: «أمدَّ أهلُ الْكُوفَة أهلَ الْبَصْرَة وَعَلَيْهِم عمار بن يَاسر؛ فَجَاءُوا وَقد غنموا، فَكتب عمرُ: أَن الْغَنِيمَة لمَنْ شهد الْوَقْعَة» . قَالَ الشَّافِعِي: وَأما مَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُف عَن المجالد، عَن(7/356)
عَامر وَزِيَاد بن علاقَة: «أَن عمر كتب إِلَى سعد بن أبي وَقاص: قد أمْدَدْتُك بقومٍ، فَمَنْ أَتَاك مِنْهُم قَبْلَ أَن تَفَقَّأ الْقَتْلَى فأشْرِكْهُ فِي الْغَنِيمَة» . فَهُوَ غير ثَابت عَن عمر، وَلَو ثَبت عَنهُ كُنَّا أسْرع إِلَى قبُوله مِنْهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا حَدِيث مُنْقَطع، وروايةُ [مجَالد] ، وَهُوَ ضَعِيف، وَحَدِيث طَارق إِسْنَاده صَحِيح لَا شكّ فِيهِ. قَالَ الشافعيِ: وَقد رُوي عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شيءٌ يَثْبُتُ فِي مَعْنَى مَا رُوِيَ عَن أبي بكرٍ وعُمر، لَا يَحْضُرُني حِفْظُهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَرَادَ - وَالله أعلم - حديثَ أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة أبان بن سعيد بن الْعَاصِ حِين قَدِمَ مَعَ أَصْحَابه عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِخَيْبَر بعد أَن فتحهَا، فَلم يقسم لَهُم.(7/357)
كتاب قسم الصَّدقَات(7/359)
كتاب قسم الصَّدقَات
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أحاديثَ وآثارًا أما الْأَحَادِيث: فَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا
الحَدِيث الأول
«أَن رجلَيْنِ أَتَيَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسألانه الصَّدَقَة؛ فَقَالَ: إِن شئتما أعطيتكما، فَلَا حَظَّ فِيهَا لَغَنِيّ، وَلَا لذِي مرّة سوي» وَهِي الْقُوَّة، وَيروَى: «وَلَا لذِي قُوَّة مكتسب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي الشافعيُّ وأحمدُ فِي «مسنديهما» ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» بإسنادٍ صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، من حَدِيث (عبيد الله) بن عدي بن الْخِيَار: «أَن رجلَيْنِ أخبراه: أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسألانه الصَّدَقَة، فَقَلَّبَ فيهمَا (النّظر) ، ورآهما جَلِدَيْنِ فَقَالَ: إِن شِئتُما أعطيتكما، ولاحظَّ فِيهَا لغنيّ وَلَا لقويّ مكتسب» .(7/361)
هَذَا لفظ أَحْمد، وَلَفظ البَاقِينَ عَن عبيد الله الْمَذْكُور قَالَ: «أَخْبرنِي رجلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ فِي حَجَّة الْوَدَاع، وَهُوَ يُقَسِّم الصَّدَقَة، فَسَأَلَاهُ مِنْهَا، فَرفع فيهمَا النّظر وخفضه ... » ثمَّ ذكرُوا الحديثَ كَمَا سلف.
وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي «بَيَان الْمُشكل» فَقَالَ: «رجلَانِ من قومِي» وَفِي روايةٍ: «جَلِدَيْن قَوِيَّيْن» وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «فصعَّد فِينَا النظرَ وصوَّب» وَفِي رِوَايَة: «الْبَصَر» بدل «النّظر» .
قَالَ أَحْمد: مَا [أجوده] من حديثٍ، وَقَالَ: هُوَ أحْسَنُهَا إِسْنَادًا. وَوَقع فِي «المهذَّب» : (بدل) «عدي» «عبد الله» وَهُوَ وهْم، كَمَا بَيَّنْتُه فِي «تخريجي لأحاديثه» . وَأما اللَّفْظ الأول، وَهُوَ: «وَلَا لذِي مرّة سويّ» . فَلم أره فِي هَذَا الحَدِيث، نعم هُوَ فِي أَحَادِيث أُخر:
أَحدهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَة لغنيّ وَلَا (لذِى) مرّة سوىّ» .
حَدِيث صَحِيح، كل رِجَاله ثِقَات، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» والنسائى، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمَا» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَرَوَاهُ جماعاتٌ عَن أبي هُرَيْرَة: أَبُو حَازِم وَأَبُو صَالح وَسَالم بن أبي الْجَعْد. وَقَالَ أَحْمد: سَالم لم يسمع من أبي هُرَيْرَة شَيْئا،(7/362)
وَطَرِيق أبي حَازِم وَأبي صَالح يقوِّيه. وَقد أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من طَرِيق أبي حَازِم، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ: وشاهدُه حديثُ عَبْدِ الله بن عَمْرو «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره لكنه قَالَ: «لذِي مرّة قوي» بدل «مرّة سوي» وَهَذَا هُوَ الحَدِيث الثَّانِي من الْأَحَادِيث الَّتِي أَشَرنَا إِلَيْهَا، وَهُوَ حَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا وموقوفًا: وَأخرجه التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا وَقَالَ: حسن. وَذكر عَن شُعْبَة أَنه لم يرفعهُ.
قلت: وَمَعَ ذَلِك فَفِي إِسْنَاده ريحَان بن يزِيد قَالَ ابْن معِين وَابْن حبَان: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: شيخ مَجْهُول.
ثَالِثهَا: وَهُوَ شَاهد لحَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا وَكَذَا مَا سأذكره بعد حَدِيث طَلْحَة بن عبيد الله رَفعه «لَا تحل الصَّدَقَة لغنى وَلَا لذِي مرّة سوي» سُئل عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَأجَاب فِي «علله» بِأَنَّهُ يرويهِ نَافِع عَن ابْن عمر عَنهُ، وَنَافِع عَن أسلم مولَى عمر، عَن طَلْحَة، قَالَ: وَالثَّانِي أشبه بِالصَّوَابِ.
رَابِعهَا: حَدِيث (حبشِي) بن جُنَادَة رَفعه «إِن الْمَسْأَلَة لَا تحل لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي إِلَّا لذِي فقر [مدقع] أَو غرم [مفظع] » رَوَاهُ(7/363)
التِّرْمِذِيّ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه.
قلت: وَفِيه مُجَاهِد هَذَا.
خَامِسهَا: حَدِيث جَابر قَالَ: «جَاءَت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَدَقَة [فَرَكبهُ] النَّاس فَقَالَ: إِنَّهَا لَا تصلح لَغَنِيّ، وَلَا لصحيح سوي، وَلَا (لعامل) قوي» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَفِي إِسْنَاده الْوَازِع بن نَافِع، وَقد ضَعَّفُوهُ.
سادسها: حَدِيث أبي زميل سماك، عَن رجل من بني هِلَال سَمِعت رَسُول الله يَقُول: «لَا تصلح الصَّدَقَة لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي» رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» .
فَائِدَة: الْمرة - بِكَسْر الْمِيم - الْقُوَّة، كَمَا سلف عَن الرَّافِعِيّ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) وَأَصلهَا من شدَّة فتل الْحَبل.
والسوي الصَّحِيح الْأَعْضَاء، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: «وَلَا لذِي مرّة سوي» أَي ذُو عقل وَشدَّة. وَقَالَ غَيره: هِيَ هَاهُنَا الْقُوَّة عَلَى الْكسْب وَالْعَمَل.
الحَدِيث الثَّانِي
« (أَنه) عَلَيْهِ السَّلَام أعْطى لمن سَأَلَ الصَّدَقَة وَهُوَ غير زمن» .(7/364)
هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أنس بن مَالك قَالَ: «كنت أَمْشِي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعَلِيهِ رِدَاء نجراني غليظ الْحَاشِيَة، فأدركه أَعْرَابِي فجبذ بردائه جبذة شَدِيدَة - نظرت إِلَى صفحة عنق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد أثرت بِهِ حَاشِيَة الرِّدَاء من شدَّة جبذته - ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، مُرْ لي من مَال الله الَّذِي عنْدك. فَالْتَفت إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَضَحِك، ثمَّ أَمر لَهُ بعطاء» وَفِي رِوَايَة «ثمَّ جبذه إِلَيْهِ جبذة رَجَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي نحر الْأَعرَابِي» وَفِي رِوَايَة «فجاذبه حَتَّى انْشَقَّ البرُد وَحَتَّى بقيت حَاشِيَته فِي عنق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تحل الصَّدَقَة إِلَّا لثَلَاثَة فَذكر رجلا أَصَابَته جَائِحَة فاجتاحت مَاله فَحلت لَهُ الصَّدَقَة حَتَّى يُصِيب سدادًا من عَيْش» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم كَمَا سلف بَيَانه وَاضحا فِي بَاب التَّفْلِيس لَكِن بِلَفْظ «الْمَسْأَلَة» فِي الثَّانِيَة.
الحَدِيث الرَّابِع وَالْخَامِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استعاذ من الْفقر وَقَالَ: اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا» .(7/365)
أما استعاذته عَلَيْهِ السَّلَام من الْفقر فثابت، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث عَائِشَة أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الكسل والهرم، [والمأثم] والمغرم، وَمن فتْنَة الْقَبْر وَعَذَاب الْقَبْر، وَمن فتْنَة النَّار وَعَذَاب (النَّار) وَمن شَرّ فتْنَة الْغِنَى، (وَمن شَرّ) فتْنَة الْفقر، وَأَعُوذ بك من شَرّ فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال» وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» وَالنَّسَائِيّ و «صَحِيح ابْن حبَان» وَالْحَاكِم - وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم - من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْفقر و [الْقلَّة] والذلة، وَأَعُوذ بك أَن أَظلم أَو أُظلم» وَفِي صحيحي ابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث أبي [بكرَة] «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول فِي دبر الصَّلَاة: أعوذ بك من [الْكفْر] والفقر وَعَذَاب الْقَبْر»(7/366)
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم - فقد احْتج بِإِسْنَادِهِ سَوَاء «سَتَكُون فتْنَة الْقَاعِد خير فِيهَا من الْقَائِم» وَلم يخرجَاهُ.
وَأما قَوْله «اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا» فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» فِي أَبْوَاب الزّهْد فِي بَاب مَا جَاءَ أَن فُقَرَاء الْمُهَاجِرين يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم من حَدِيث أنس أَن رَسُول (قَالَ: «اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا وأمتني مِسْكينا، واحشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين يَوْم الْقِيَامَة. قَالَت عَائِشَة: لِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: إِنَّهُم يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، يَا عَائِشَة لَا تَرُدِّي الْمِسْكِين وَلَو بشق تَمْرَة، يَا عَائِشَة أحبي الْمَسَاكِين وقربيهم فَإِن الله يقربك يَوْم الْقِيَامَة» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب.
قلت: وَضَعِيف أَيْضا قَالَ: فِي إِسْنَاده الْحَارِث بن النُّعْمَان اللَّيْثِيّ ابْن أُخْت سعيد بن جُبَير، قَالَ أَبُو حَاتِم فِيهِ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. قلت: لَكِن لَهُ شَاهد من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي أَبْوَاب الزّهْد من «سنَنه» فِي بَاب [مجالسة] الْفُقَرَاء قَالَ: « (أَحبُّوا) الْمَسَاكِين فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا وأمتني مِسْكينا واحشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين» وَإِسْنَاده أَيْضا ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة يزِيد بن سِنَان(7/367)
الرهاوي - وَقد ضَعَّفُوهُ - عَن [أبي] الْمُبَارك - وَهُوَ مَجْهُول، كَمَا قَالَه أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَالتِّرْمِذِيّ، لَكِن ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات - عَن عَطاء، عَن أبي سعيد عَنهُ. وغلا ابْن الْجَوْزِيّ فَذكر حَدِيث أبي سعيد هَذَا وَحَدِيث أنس السالف فِي «مَوْضُوعَاته» وَعلله بِمَا ذَكرْنَاهُ وَلم يذكر تَوْثِيق (أبي) الْمُبَارك، وَإِنَّمَا اقْتصر عَلَى من جَهله، وَالْحق أَن يذكر فِي الْأَحَادِيث الضعيفة، وَقد أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» - وَكَذَا أَعنِي حَدِيث أبي سعيد - بِدُونِ ذكر هذَيْن الرجلَيْن، وَحكم بِصِحَّتِهِ، قَالَ فِي أَوَائِل «مُسْتَدْركه» فِي أثْنَاء كتاب الرقَاق: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الْقَارئ، ثَنَا عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ، ثَنَا أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن الدِّمَشْقِي، ثَنَا خَالِد بن يزِيد بن أبي مَالك، عَن أَبِيه، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «أحيني مِسْكينا وتوفني (مِسْكينا) واحشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين، وَإِن أَشْقَى الأشقياء من اجْتمع عَلَيْهِ فقر الدُّنْيَا وَعَذَاب(7/368)
الْآخِرَة» ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.
قلت: لَكِن هَذَا مُخْتَلف فِيهِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى تَضْعِيفه، وَله (شَاهد) من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا واحشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُوسَى بن مُحَمَّد مولَى عُثْمَان بن عَفَّان، ثَنَا معقل بن زِيَاد [أبنا عبد الله بن زِيَاد] ثَنَا جناد بن أبي أُميَّة قَالَ: سَمِعت عبَادَة ... فَذكره، وَرَوَى حَدِيث أبي سعيد السالف بِسَنَد الْحَاكِم لَكِن بمتابع قَالَ: أبنا أَبُو (الْحُسَيْن) بن الْفضل الْقطَّان بِبَغْدَاد، أَنا أَبُو سهل بن زِيَاد بن الْقطَّان، ثَنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ، ثَنَا سُلَيْمَان بن شُرَحْبِيل، ثَنَا خَالِد بن يزِيد بن أبي مَالك، عَن أَبِيه، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: سَمِعت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ يَقُول: «يَا أَيهَا النَّاس، اتَّقوا الله، وَلَا تحملنكم (الْغيرَة) عَلَى أَن تَطْلُبُوا الرزق من غير حلّه، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: اللَّهُمَّ احشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين وَلَا تحشرني فِي زمرة الْأَغْنِيَاء، فَإِن أَشْقَى الأشقياء من اجْتمع عَلَيْهِ فقر الدُّنْيَا وَعَذَاب الْآخِرَة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ. قَالَ أَصْحَابنَا: فقد استعاذ عَلَيْهِ السَّلَام من الْفقر. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ فِي [حَدِيث شَيبَان عَن قَتَادَة، عَن أنس، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه استعاذ من المسكنة والفقر» فَلَا يجوز أَن يكون(7/369)
استعاذته من] الْحَال الَّتِي [شرفها] فِي أَخْبَار كَثِيرَة، وَلَا من الْحَال الَّتِي سَأَلَ أَن يَحْيَى و (يُثَاب) عَلَيْهَا، وَلَا يجوز أَن يكون مَسْأَلته مُخَالفَة لما مَاتَ عَلَيْهِ السَّلَام فقد مَاتَ مكفيًا بِمَا أَفَاء الله عَلَيْهِ. قَالَ: وَوجه هَذِه الْأَحَادِيث عِنْدِي وَالله أعلم، أَنه استعاذ من فتْنَة الْفقر والمسكنة اللَّذين يرجع مَعْنَاهُمَا إِلَى الْقلَّة كَمَا استعاذ من فتْنَة الْغِنَى. قَالَ: وَذَلِكَ بَين، ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ حَدِيث عَائِشَة السالف ثمَّ قَالَ: وَفِيه دلَالَة عَلَى أَنه إِنَّمَا استعاذ من فتْنَة الْفقر دون حَال الْفقر، وَمن فتْنَة الْغِنَى دون حَال الْغِنَى. قَالَ: وَأما قَوْله: «أحيني مِسْكينا وأمتني مِسْكينا» فَهُوَ إِن صَحَّ طَرِيقه فَفِيهِ نظر، فَالَّذِي يدل عَلَيْهِ حَاله عِنْد وَفَاته أَنه لم يسْأَل حَال المسكنة الَّتِي يرجع مَعْنَاهَا إِلَى الْقلَّة إِنَّمَا سَأَلَ المسكنة الَّتِي يرجع مَعْنَاهَا إِلَى الإخبات والتواضع فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ الله تَعَالَى أَن لَا يَجعله من الجبارين المتكبرين وَأَن لَا يحشره فِي زمرة الْأَغْنِيَاء (المسرفين) . قَالَ (القيبي) : والمسكنة حرف مَأْخُوذ من السّكُون، يُقَال: «تمسكن الرجل» إِذا لَان وتواضع وخشع، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام للْمُصَلِّي: «تبأس وتمسكن» يُرِيد تخشع وتواضع لله.(7/370)
الحَدِيث السَّادِس
قَالَ الرَّافِعِيّ مَا مَعْنَاهُ: أَن للمستدل أَن يسْتَدلّ عَلَى أَن الْفَقِير أحسن حَالا من الْمِسْكِين بِمَا نقل وَبِه افتخر.
هَذَا الحَدِيث لَا أعرفهُ مرويًّا فِي كتاب حَدِيث، وَقَالَ الصغاني: إِن حَقه أَنه حَدِيث مَوْضُوع. وَكَذَا قَالَ غَيره مِمَّن أَدْرَكته من الْعلمَاء أَنه كذب لَا يعرف فِي شَيْء من كتب الْمُسلمين الْمَعْرُوفَة.
الحَدِيث السَّابِع
«أَنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ - وَالْخُلَفَاء بعده بعثوا السعاة لأجل الصَّدقَات» .
هَذَا صَحِيح مستفيض عَنْهُم وَقد أوضحناه فِيمَا مَضَى من كتاب الزَّكَاة.
الحَدِيث الثَّامِن
الرَّافِعِيّ: وَفِي إِعْطَاء مؤلفة الْكتاب من غير الزَّكَاة قَولَانِ:
أَحدهمَا: يُعْطون من خمس الْخمس؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يعطيهم وَلنَا فِيهِ أُسْوَة حَسَنَة.
هُوَ كَمَا قَالَ فَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث رَافع بن خديج وَعبد الله بن زيد الْمَازِني «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعْطى الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم يَوْم حنين(7/371)
مائَة من الْإِبِل» وَسَيَأْتِي إِعْطَاؤُهُ صَفْوَان بن أُميَّة من غَنَائِم حنين وَكَانَ كَافِرًا إِذْ ذَاك، وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث سهل بن أبي [حثْمَة] «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أدّى [عبد الله] بن سهل ثَمَانِيَة من إبل الصَّدَقَة» وَالْأَظْهَر أَنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ - يؤلف بذلك قُلُوبهم لما أصيبوا بقتيلهم، وَأبْعد من تَأَوَّلَه بِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا من إبل الصَّدَقَة.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ - قَالَ لِمعَاذ: إِنَّك ستأتي قوما أهل كتاب فَإِذا جئتهم فادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَإِنِّي رَسُول الله، فَإِن هم أطاعوا لَك بذلك فأعلمهم بِأَن عَلَيْهِم صَدَقَة تُؤْخَذ من أغنياءهم فَترد فِي فقرائهم» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب وَهُوَ (حَدِيث) صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَقد سبق بِطُولِهِ فِي الزَّكَاة.
(الحَدِيث) الْعَاشِر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعْطى عُيَيْنَة بن حصن والأقرع بن حَابِس وَأَبا سُفْيَان(7/372)
بن حَرْب وَصَفوَان بن أُميَّة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث رَافع بن خديج قَالَ: «أعْطى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبَا سُفْيَان بن حَرْب وَصَفوَان بن أُميَّة وعيينة بن حصن والأقرع بن حَابِس وعلقمة بن [علاثة] كل إِنْسَان مِنْهُم مائَة، وَأعْطَى عَبَّاس بن مرداس دون ذَلِك، فَقَالَ عَبَّاس بن مرداس:
أَتجْعَلُ نَهبي ونَهب العُبَيْ
د بَين عُيَيْنَة والأقرع
فَمَا كَانَ بدر وَلَا حَابِس
يَفُوقَانِ مرداس فِي مجمع
وَمَا كنت (دون) امْرِئ مِنْهُمَا
وَمن تخْفض الْيَوْم لَا يرفع
قَالَ: فَأَتمَّ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مائَة» . هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد مُسلم، وَقد شهد لَهُ بذلك عبد الْحق أَيْضا، وَوهم صَاحب «التنقيب» فَادَّعَى أَن البُخَارِيّ رَوَاهُ، فاجتنبه، وَزَاد ابْن إِسْحَاق فِي «السِّيرَة» أبياتًا عَلَى ذَلِك فَقَالَ:
كَانَت نهابًا تلافيتهاِ
بِكَرِّي عَلَى الْمهْر فِي الأجرع
وإيقاظي الْقَوْم أَن يرقدوا
إِذا هجع النَّاس لم أهجع
فَأصْبح نَهْبي وَنهب العبيد
بَين عُيَيْنَة والأقرع
وَقد كنت فِي الْحَرْب ذَا تدرإ
فَلم أعْط شَيْئا وَلم أمنع
إِلَّا (أفائل) أعطيتهَا
(عديد) قَوَائِمهَا الْأَرْبَع(7/373)
فَمَا كَانَ حصن وَلَا حَابِس
... الْبَيْت
وَقَالَ فِي الثَّانِي «وَمن تضع» بدل «وَمن تخْفض» . فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوا عني لِسَانه» . فَأَعْطوهُ حَتَّى رَضِي وَكَانَ ذَلِك قطع لِسَانه الَّذِي أَمر بِهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ ابْن هِشَام: وحَدثني بعض أهل الْعلم «أَن عباسًا أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَنْت الْقَائِل:
فَأصْبح نَهْبي وَنهب العبيد
بَين الْأَقْرَع وعيينة
قَالَ أَبُو بكر الصّديق: بَين عُيَيْنَة والأقرع. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هما وَاحِد. فَقَالَ أَبُو بكر: أشهد أَنَّك كَمَا قَالَ الله تَعَالَى (وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) .
تَنْبِيه: قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: هَذَا خطأ، وَالصَّوَاب عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا كَذَا قَالَ.
فَائِدَة: العُبيد - بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة - اسْم فرس ابْن مرداس السّلمِيّ، وَكَانَ يُدعَى فِي الْإِسْلَام: فَارس العبيد، وَفِي الْجَاهِلِيَّة: فَارس فروه. وَذكر ابْن دَاوُد من أَصْحَابنَا أَن الشَّافِعِي (أَشَارَ) إِلَى تتميم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمِائَة لَهُ إِلَى قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: لأجل تألفه. ثَانِيهمَا: لِئَلَّا تنحط رتبته.(7/374)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعْطى عدي بن حَاتِم» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده صَاحب «الْمُهَذّب» وَلم يعزه النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» وَلَا الْمُنْذِرِيّ فِي «تَخْرِيجه لأحاديثه» نعم جزم بِهِ النَّوَوِيّ [فِي] «الأغاليط» المنسوبة إِلَيْهِ، وَهُوَ غَرِيب لم أَجِدهُ فِي كتاب حَدِيث، وَالْمَعْرُوف أَن الصّديق هُوَ الَّذِي أعطَاهُ كَمَا ستعلمه فِي الْكَلَام عَلَى الْآثَار، وَكَانَت وفادة عدي بن حَاتِم عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سنة تسع فِي شعْبَان وَقيل: سنة عشر، فَأسلم وَكَانَ نَصْرَانِيّا، وقصة إِسْلَامه مَذْكُورَة فِي كُتب الصَّحَابَة، وَأَنه لمَّا بُعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كرهه أَشد الْكَرَاهَة، وَلما مَاتَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَدِم عَلَى الصّديق فِي وَقت الرِّدَّة، فصدَّقه قومه، وَثَبت عَلَى الْإِسْلَام وَلم يرْتَد، وَثَبت قومه مَعَه ... . ذكره أَبُو حَاتِم السجسْتانِي فِي «المعمرين» قَالُوا: عَاشَ مائَة سنة وَثَمَانِينَ سنة. وَكَانَ أحد الخطاطة؛ إِذا ركب الْفرس كَادَت رِجْليه تخط الأَرْض، وَكَانَ يفت الْخبز للنمل وَيَقُول هِيَ جارات، ولهن حق.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أَنه أعْطى الزبْرِقَان بْنَ بدر» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده صَاحب «المهذَّب» أَيْضا، وَلم يَعْزه(7/375)
النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» وَلَا الْمُنْذِرِيّ فِي «تَخْرِيجه لأحاديثه» نَعَمْ جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي «الأغاليط عَلَى الْوَسِيط» (المنسوبة) إِلَيْهِ، وَهُوَ غَرِيب أَيْضا، وَالْمَعْرُوف مِنْ حَاله: كَانَ سيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّة عَظِيم القدْر فِي الْإِسْلَام، وَكَانَ من (السُّعَدَاء) الْمُحْسِنِينَ، ووفد عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي وَفد بني سهم، مِنْهُم: قيس بن عَاصِم الْمنْقري، فأسلموا، وأجارهم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وأحْسَنَ جوارهم، وَذَلِكَ سنة سَبْعٍ، وولاَّه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صدقَات قومه فِي عَوْف؛ فأدّاها فِي الرِّدَّة إِلَى أبي بكر، فأقره أَبُو بكر عَلَى الصَّدَقَة، وَكَذَلِكَ (عمر) .
فَائِدَة: الزبْرِقَان اسْمه: [الْحصين] وَقيل: الْقَمَر، وَفِي كنيته قَولَانِ: أَحدهمَا: أَبُو عَبَّاس، وَثَانِيهمَا: للبسه عِمَامَة مزوَّقة بالزعفران. . حَكَاهُ ابْن السّكيت والجوهريُّ وغيرَهما والزبرقان: بِكَسْر الزَّاي وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ ابْن البرزي فِي «غَرِيب المهذَّب» : (يفتحان) أَيْضا.
تَنْبِيه: أغرب ابْن [معن] فَقَالَ فِي «تنقيبه» فِي هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي قبله: أخرجهُمَا البُخَارِيّ، وَمُسلم. وَهَذَا من الْعجب العجاب؛ فَالَّذِي فِي «الصَّحِيحَيْنِ» حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي فضل بني [تَمِيم] ، فِيهِ:(7/376)
«وَجَاءَت صَدَقَاتهمْ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَذِه صدقَات قَومنَا» .
هَذَا مَا (فِيهِ) وَلَيْسَ فِيهِ أَن (أَعْطَاهُم) مِنْهَا.
وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث عديّ بن حَاتِم قَالَ: «أتيتُ عُمرَ فِي أناسٍ من قومِي، فَجعل يفْرض [للرجل] مِنْ طَيء فِي أَلفَيْنِ، ويُعرض عني، [قَالَ: فاستقبلته فَأَعْرض عني، ثمَّ أَتَيْته من حِيَال وَجهه فَأَعْرض عني، قَالَ:] فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أتعرفني؟ قَالَ: فَضَحِك حَتَّى اسْتَلْقَى لقفاه، قَالَ: نَعَمْ واللهِ إِنِّي لأعرفك، آمنتَ إِذْ كفرُوا، وأقبلتَ إِذْ أدبروا، ووافيتَ إِذْ غدروا - زَاد خَ: «وعرفتَ إِذا أَنْكَرُوا» [وَإِن] أول صَدَقَة بيضت وَجه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[ووجوه] أَصْحَابه صَدَقَة طَيء، جئتَ بهَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ثمَّ أَخذ يعْتَذر، قَالَ: إِنَّمَا فرضتُ لقوم أجحفت بهم الْفَاقَة وَهُمْ [سادة] عَشَائِرهمْ لما [ينوبهم] من الْحُقُوق» .
فصل: اعلمْ: أَن الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لمّا ذكر أَن مؤلفة الْمُسلمين عَلَى أصنافٍ، مِنْهُم: مَنْ نِيَّته ضَعِيفَة فِي الْإِسْلَام، ويُرْجى بإعطائه ثباته.(7/377)
وَمِنْهُم: مَنْ يُرْجى بإعطائه رَغْبَة نظرائه فِي الْإِسْلَام.
قَالَ: وَفِي هذَيْن الصِّنْفَيْنِ قَولَانِ: أَحدهمَا: يعطيان تأسيَّاً برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَإِنَّهُ أعْطى بِالْمَعْنَى الأوَّل: عيينةَ بْنَ حصن، والأقرع بن حَابِس، وَأَبا سُفْيَان بن حَرْب، وَصَفوَان بن أُميَّة، وبالمعنى الثَّانِي: عديَّ بن حَاتِم، والزبرقان بن بدر.
هَذَا كَلَامه، وَكَذَا ذكره فِي «الشَّرْح الصَّغِير» أَيْضا، وقلَّد فِي الأول القَاضِي حُسَيْن وَصَاحب «المهذَّب» وَفِي الثَّانِي: صَاحب «التَّتِمَّة» و (أعتدوهم) كَانَ من الْغَنِيمَة؛ لِأَن ذَلِك كَانَ فِي وقْعَة حُنين من أَمْوَال هوَازن، لَا من الزَّكَاة. فأمَّا عُيَيْنَة بن حصن فَلَا إِشْكَال فِي عدّه من الْمُؤَلّفَة، وَقد نَصَّ عَلَى ذَلِك غيرُ وَاحِد، وَكَانَ أَيْضا من الْأَعْرَاب الجفاة، قيل: إِنَّه دخل عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من غير إِذن؛ فَقَالَ لَهُ: أَيْن الْإِذْن؟ فَقَالَ: مَا استأذنتُ عَلَى أحدٍ من مُضر. أسلم بعد الْفَتْح، وَقيل: قبله، وَكَانَ مِمَّن أرتد، وَتبع طَلْحَة وَقَاتل مَعَه، وَأخذ أَسِيرًا، وحُمل إِلَى أبي بكر، فَكَانَ صبيان الْمَدِينَة يَقُولُونَ: [يَا عَدو الله أكفرت] بعد إيمانك؟ فَيَقُول: مَا آمَنت بِاللَّه طرفَة. فَأسلم، فَأَطْلقهُ أَبُو بكر. وَأما الْأَقْرَع بن حَابِس فَلَا شكّ فِي عدّه من الْمُؤَلّفَة أَيْضا، وَقد تقدم إِعْطَاؤُهُ يَوْم حنين عَن «صَحِيح مُسلم» وَكَانَ حضر مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فتح مَكَّة وحُنينًا، وَحضر الطَّائِف، فلمَّا قَدِم وفْدُ بني [تَمِيم] كَانَ مَعَهم، فلمَّا قدم(7/378)
الْمَدِينَة ذكر قصَّة طَوِيلَة فِي آخرهَا: أَنه أسلم، فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَام -: «لَا يَضرك مَا كَانَ قبلهَا» .
وَأما أَبُو سُفْيَان صَخْر بن حَرْب فَلَا إِشْكَال فِي عدّه مِنْهُم، وَقد أسلم عامَ الْفَتْح وحَسُنَ إِسْلَامه، وَأَعْطَاهُ من غَنَائِم حنين - وَقد شَهِدَهَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مائةَ بعير، كَمَا سلف، وَأَرْبَعين أُوقية، وَأعْطَى ابنيه يزِيد وَمُعَاوِيَة كلَّ واحدٍ مثله، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي «الأغاليط» الَّذِي لَهُ عَلَى «الْوَسِيط» : إِن إِعْطَاؤُهُ أَبَا سُفْيَان كَانَ لضعف نِيَّته فِي الْإِسْلَام كالأقرع وعيينة، وَاعْترض ابْن [معن] فى «تنقيبه عَلَى المهذَّب» فَقَالَ: جَعْله أَبَا سُفْيَان قسم من أسلم وَنِيَّته ضَعِيفَة، لَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَنَّهُ أعطَاهُ قبل أَن يسلم، ثمَّ أسلم بَعْد. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَأما صَفْوَان بن أُميَّة فَفِي عدِّه من مؤلفة الْمُسلمين (وَفِيه أَيْضا) فقد ثَبت فِي أَفْرَاد «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث ابْن شهَاب قَالَ: «غزا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَزْوَة الفتحِ فَتْحَ مَكَّة، ثمَّ خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بمَنْ مَعَه من الْمُسلمين، فَاقْتَتلُوا بحُنَين، فنصر الله دِيْنَه وَالْمُسْلِمين، وَأعْطَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْمئِذٍ صَفْوَان بن أُميَّة مائَة مَِنَ النعم، ثمَّ مائَة، ثمَّ مائَة» . قَالَ ابْن شهَاب: حَدثنِي سعيد بن الْمسيب: أَن صَفْوَان قَالَ: واللهِ لقد أَعْطَانِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَإنَّهُ لأبغض النَّاس إليَّ، فَمَا برح يعطيني حَتَّى إِنَّه لأحب النَّاس إليَّ.
وَالظَّاهِر أَنه كَانَ كَافِرًا وَالْحَالة هَذِه، بل صرَّح بذلك الرَّافِعِيّ نَفسه(7/379)
فِي كتاب «السّير» حَيْثُ قَالَ: شهد صَفْوَان حَرْبَ حنين مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ مُشْرك وَسَبقه بذلك الشَّافِعِي فَقَالَ فِي «الْمُخْتَصر» : وَأعْطَى صَفْوَان بن أُميَّة، وَلم يعلم، وَلكنه أَعَارَهُ أداته، فَقَالَ فِيهِ [عِنْد] الْهَزِيمَة أحسن [مِمَّا] قَالَ بعض من أسلم من أهل مَكَّة عَام الْفَتْح؛ وَذَلِكَ أَن الْهَزِيمَة كَانَت فِي أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم حنين أول النَّهَار، فَقَالَ لَهُ رجل: غلبت هوَازن، أَو قتل مُحَمَّد. فَقَالَ صَفْوَان: بفيك الْحجر، فواللهِ لرب من قُرَيْش أحب إليَّ من رب هوَازن. وَأسلم قومُه من قُرَيْش، وَكَأَنَّهُ لَا يشك فِي إِسْلَامه.
هَذَا لَفظه بِرُمَّتِهِ، وَهَذَا الرجل الْقَائِل عِنْد الْهَزِيمَة مَا تقدم هُوَ: أَبُو سُفْيَان كَمَا نبَّه الْمَاوَرْدِيّ وَابْن الصّباغ وَغَيرهمَا قَالُوا: وَكَانَ صَفْوَان داهية فِي الْإِسْلَام، واستعار مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام فأعاره مائَة درع، وَحضر مَعَه حُنينًا، فلمّا انجلت الْوَقْعَة أعطَاهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِنْهَا مائَة بعير، فألفَّه بهَا، فلمَّا رَآهَا وَقد امْتَلَأَ بهَا الْوَادي قَالَ: واللهِ هَذَا عَطاء مَنْ لَا يخَاف الْفقر. قَالَ: ثمَّ أسلم بعد ذَلِك. وَكَذَا نَصَّ الشَّافِعِي فِي «الأمُ» عَلَى أَنه أعطَاهُ قَبْل أَن يسلم.
وَكَذَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» أَيْضا، فَقَالَ: أعْطى صفوانَ قبل أَن يسلم) وَكَانَ (كَأَنَّهُ) لَا يشك فِي إِسْلَامه.(7/380)