(الحَدِيث الْحَادِي عشر)
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلَا رجال ركع، وصبيان رضع، وبهائم رتع لصب عَلَيْكُم (الْعَذَاب) صبًّا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو يعلي الْموصِلِي فِي «مُسْنده» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِلَفْظ: «مهلا عَن الله مهلا، فَإِنَّهُ لَوْلَا شباب خشع، وبهائم رتع (وشيوخ ركع) ، وَأَطْفَال رضع لصب عَلَيْكُم الْعَذَاب صبًّا» . وَفِي إِسْنَاده إِبْرَاهِيم بن خثيم بن عرَاك بن مَالك وَهُوَ ضَعِيف، قَالَ يَحْيَى: لَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ (النَّسَائِيّ) : مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: (عِنْده) أَحَادِيث مُنكرَة. وَقَالَ الْجوزجَاني: كَانَ غير مقنع، اخْتَلَط بِأخرَة. وَقَالَ أَبُو الْفَتْح (الْأَزْدِيّ) : كَذَّاب لَا يكْتب حَدِيثه. وَأما خثيم وَالِده: فَقَالَ الْأَزْدِيّ فِي حَقه: مُنكر الحَدِيث. قلت: لكنه من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» فَجَاز القنطرة، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» هُنَا: إِبْرَاهِيم(5/158)
بن خثيم غير قوي. وَقَالَ فِي بَاب الْكفَالَة بِالْبدنِ: ضَعِيف. قَالَ هُنَا: وَله شَاهد آخر بِإِسْنَاد غير قوي، فَذكره بِإِسْنَادِهِ عَن مَالك بن عُبَيْدَة بن مسافع الديلِي، عَن أَبِيه أَنه حَدثهُ عَن جده أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلَا عباد لله ركع، وصبية رضع، وبهائم رتع لصب عَلَيْكُم الْعَذَاب صبًّا، ثمَّ لترضن رضًّا» . (قَالَ) أَبُو حَاتِم الرزاي: مَالك بن عُبَيْدَة مَجْهُول. وَقَالَ عُثْمَان الدَّارمِيّ: قلت لِابْنِ معِين: أتعرف مَالك بن عُبَيْدَة؟ فَقَالَ: لَا أعرفهُ. وَذكر هَذَا الحَدِيث أَبُو نعيم فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة مسافع الديلِي، ثمَّ قَالَ فِي آخِره: قَالَ أَحْمد بن عمر: وَإِسْنَاده حسن. قلت: وَأما ابْن حبَان فَذكره فِي «ثقاته» لكنه قَالَ: فِيهِ مَالك بن أبي عُبَيْدَة. وَذكر أَبُو نعيم فِي «الْمعرفَة» أَيْضا لهَذَا الحَدِيث طَرِيقا آخر من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، ثَنَا قُتَيْبَة بن سعيد، ثَنَا اللَّيْث بن سعد، عَن مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن أبي الزَّاهِرِيَّة أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا من يَوْم إِلَّا وينادي مُنَاد: مهلا أَيهَا النَّاس مهلا؛ فَإِن لله سطوات وبسطات، وَلكم (قُرُوح) داميات، وَلَوْلَا رجال خشع، وصبيان رضع، ودواب رتع، لصب عَلَيْكُم الْعَذَاب صبًّا، ثمَّ رضضتم بِهِ(5/159)
رضًّا» ثمَّ قَالَ: أَبُو الزَّاهِرِيَّة رَوَى عَن أبي الدَّرْدَاء وَحُذَيْفَة إرْسَالًا، وَأكْثر حَدِيثه عَن جُبَير بن نفير وَكثير بن مرّة.
فَائِدَة: قَوْله: «شُيُوخ ركع» فِيهِ قَولَانِ حَكَاهُمَا القَاضِي حُسَيْن فِي «تَعْلِيقه» : أَحدهمَا: أَنه جمع رَاكِع، أَي: الْمُصَلِّي. وَالثَّانِي: أَنه أَرَادَ بِهِ الشُّيُوخ (الَّذين) انحنت ظُهُورهمْ من الشيخوخة.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي الْعِيد» . وَفِي رِوَايَة: «صنع فِي الاسْتِسْقَاء كَمَا صنع فِي الْعِيد» .
هَذَا (الحَدِيث) تقدم بَيَانه أول الْبَاب مَبْسُوطا.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وروُي «أَنه صلَّى صَلَاة الاسْتِسْقَاء وَقت صَلَاة الْعِيد» .
وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد سلف فِي الحَدِيث الْخَامِس من طَرِيق عَائِشَة، وَهُوَ ظَاهر حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور أَيْضا، كَمَا سلف بِلَفْظِهِ.
(الحَدِيث الثَّالِث عشر)
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج إِلَى الاسْتِسْقَاء، فَصَلى رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ خطب» .(5/160)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن ماجة فِي «سُنَنهمَا» ، وَأَبُو عوَانَة فِي «مستخرجه عَلَى مُسلم» بِلَفْظ « (أَن) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج يَوْمًا يَسْتَسْقِي، فَصَلى بِنَا رَكْعَتَيْنِ بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة، ثمَّ خطب ودعا الله - عَزَّ وَجَلَّ - وحول وَجهه نَحْو الْقبْلَة رَافعا يَدَيْهِ، ثمَّ قلب رِدَاءَهُ فَجعل الْأَيْمن عَلَى الْأَيْسَر، والأيسرَ عَلَى الْأَيْمن» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : رُوَاة هَذَا الحَدِيث كلهم ثِقَات. وَقَالَ فِي «سنَنه» : تفرد بِهِ النُّعْمَان بن رَاشد عَن الزُّهْرِيّ. قلت: وَهُوَ من فرسَان مُسلم وتعاليق البُخَارِيّ، وَقَالَ: صَدُوق، فِي حَدِيثه وهم كثير. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَضَعفه يَحْيَى الْقطَّان وَابْن معِين. وَقَالَ أَحْمد: مُضْطَرب الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: كثير الْغَلَط. وَاعْلَم أَنه يُوجد فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس بدل أبي (هُرَيْرَة) ، وَقد أسلفناه أول الْبَاب.
(الحَدِيث الرَّابِع عشر)
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا استسقى قَالَ: اللَّهُمَّ اسقنا غيثًا مغيثًا هَنِيئًا مريئًا مريعًا غدقًا مجللاً سحًّا طبقًا دَائِما، اللَّهُمَّ(5/161)
اسقنا الْغَيْث وَلَا تجعلنا من القانطين، اللَّهُمَّ إِن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك مَا لَا نشكو إِلَّا إِلَيْك، اللَّهُمَّ أنبت لنا الزَّرْع، وأدر لنا الضَّرع، واسقنا من بَرَكَات (السَّمَاء وَأنْبت لنا من بَرَكَات) الأَرْض، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجهد والجوع والعري، واكشف عَنَّا من الْبلَاء مَا (لَا) يكشفه غَيْرك، اللَّهُمَّ إِنَّا نستغفرك إِنَّك كنت غفارًا، فَأرْسل السَّمَاء علينا مدرارًا» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي «الْأُم» و «الْمُخْتَصر» وَلم يُوصل بِهِ إِسْنَاده، بل قَالَ: وروُي عَن سَالم، عَن أَبِيه مَرْفُوعا «أَنه كَانَ إِذا استسقى قَالَ: اللَّهُمَّ اسقنا ... » فَذكره، وَزَاد بعد «مُجللا» : «عامًّا طبقًا سَحًّا دَائِما» وَبعد «الْبِلَاد» : «والبهائم والخلق» وَالْبَاقِي مثله سَوَاء، وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» فَقَالَ: أَنا أَبُو سعيد، نَا أَبُو الْعَبَّاس، أَنا الرّبيع، أَنا الشَّافِعِي قَالَ: ورُوي عَن سَالم ... فَذكره. ثمَّ قَالَ: وَقد روينَا بعض هَذِه الْأَلْفَاظ وَبَعض مَعَانِيهَا فِي حَدِيث أنس بن مَالك فِي الاسْتِسْقَاء، وَفِي حَدِيث جَابر وَكَعب بن مرّة، وَعبد الله بن جَراد وَغَيرهم.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، أما حَدِيث أنس فلفظه: «اللَّهُمَّ أغثنا» ، وَفِي لفظ: «اسقنا» . وأمَّا حَدِيث جَابر فلفظه: «اللَّهُمَّ اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا مريعًا، غير ناقع وَلَا ضارّ، عَاجلا غير آجل. قَالَ: فأطبقت عَلَيْهِم السَّمَاء» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، و (الْحَاكِم) فِي «مُسْتَدْركه» عَنهُ قَالَ: «أَتَت(5/162)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بواك فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسقنا ... » فَذكره، كَذَا وَقع «بواكٍ» ، وَوَقع فِي نسخةٍ من أبي دَاوُد: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُواكئ» بِالْيَاءِ المضمومة وَآخره مَهْمُوز، قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: متحاملاً عَلَى يَدَيْهِ إِذا رفعهما ومدهما فِي الدُّعَاء. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» : وَقع فِي جَمِيع نسخ أبي دَاوُد ومعظم كتب الحَدِيث: «بواكٍ» بِالْبَاء الموحَّدة، وَوَقع فِي «معالم السّنَن» للخطابي: «رأَيتُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُواكئ» بِالْيَاءِ المضمومة وَآخره مَهْمُوز ثمَّ فسره، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ الْخطابِيّ لم تأت بِهِ الرِّوَايَة وَلَا انحصر الصَّوَاب فِيهِ، بل لَيْسَ هُوَ وَاضح الْمَعْنى. هَذَا آخر كَلَامه، وَقد علمت أَن مَا ذكره الْخطابِيّ ثَابت فِي بعض نسخ أبي دَاوُد، فَلَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ إِذن، وَقد اقْتصر عَلَى هَذِه الرِّوَايَة ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» وَلم يذكر غَيرهَا، وَرَوَى أَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ: «أَتَت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هوَازن، فَقَالَ: قُولُوا ... » الحَدِيث، وَذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» وَقَالَ: إِن رِوَايَته عَن يزِيد الْفَقِير عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا أشبه بِالصَّوَابِ.
وَأما حَدِيث كَعْب بن مرّة فلفظه: «اللَّهُمَّ اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا مريعًا غدقًا طبقًا عَاجلا غير رائثٍ، نَافِعًا غير ضار» . رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من طَرِيقين عَن كَعْب بن مرّة أَو مرّة بن كَعْب قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَدْعُو عَلَى مُضر، فَأَتَيْته، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِن الله قد أَعْطَاك واستجاب لَك، وَإِن قَوْمك قد هَلَكُوا فَادع الله لَهُم.(5/163)
فَقَالَ: اللَّهُمَّ ... » فَذكره، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، إِسْنَاده عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن مرّة بن كَعْب. من غير شكٍ، فَذكره بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: وَمرَّة بن كَعْب صَحَابِيّ مَشْهُور. وَذكر هَذَا الحَدِيث ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» من حَدِيث أنس، وَقَالَ: سَأَلت أبي عَنهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ عَن كَعْب بن مرّة مَرْفُوعا.
وَأما حَدِيث عبد الله بن جَراد فلفظه: «اللَّهُمَّ اسقنا غَيثًا مغيثًا مريئًا، تُوسع بِهِ لِعِبَادِك، تغزر بِهِ الضرعَ، وتُحيي بِهِ الزَّرْع» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يعْلى عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا استسقى قَالَ: اللَّهُمَّ ... » فَذكره. وَفِي لفظ: «هَنِيئًا مريئًا» وَقَول الْبَيْهَقِيّ و (غَيره) أَرَادَ بِهِ أَحَادِيث أخر (مِنْهَا) حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: «جَاءَ رجل أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لقد جئْتُك من عنْدِ قوم مَا يتزود لَهُم راعٍ وَلَا يخْطر لَهُم فَحل، فَصَعدَ الْمِنْبَر، فَحَمدَ الله، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا مريعًا غدقًا طبقًا عَاجلا غير رائث. ثمَّ نزل فَمَا يَأْتِيهِ أحد من وَجه من الْوُجُوه إِلَّا قَالُوا: قد (أحيينا)) .(5/164)
حَدِيث حسن، رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَأَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» ، وَقد أَنبأَنَا بِهِ الذَّهَبِيّ (وَغَيره) ، أَنا أَحْمد بن هبة (الله) ، عَن الْقَاسِم بن أبي سعد، أَنا هبة الرَّحْمَن بن عبد الْوَاحِد، أَنا عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن. وَأَنا أَحْمد، عَن أبي المظفر بن السَّمْعَانِيّ، أَنا عبد الله بن مُحَمَّد، أَنا عُثْمَان بن مُحَمَّد المحمى قَالَا: ثَنَا أَبُو نعيم الإسفرايني، أَنا أَبُو عوَانَة الْحَافِظ، نَا أَبُو الْأَحْوَص قَاضِي عكبراء وَمُحَمّد بن يَحْيَى قَالَا: ثَنَا الْحسن بن الرّبيع، نَا ابْن إِدْرِيس، نَا حُصَيْن، عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن ابْن عَبَّاس ... الحَدِيث. وَلم يرو ابْن مَاجَه عَن أبي الْأَحْوَص سواهُ.
وَمِنْهَا حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا استسقى قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الْمَيِّت» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُتَّصِلا، وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» مُرْسلا، قَالَ ابْن (أبي) حَاتِم: والمرسل أصح. قلت: وَفِي إِسْنَاده مَعَ ذَلِك عَلّي بن قادم الْخُزَاعِيّ وَهُوَ صُوَيْلِح، ضعفه(5/165)
ابْن معِين، وَقَالَ (أَبُو) أَحْمد: نقمت عَلَيْهِ أَحَادِيث رَوَاهَا عَن الثَّوْريّ غير مَحْفُوظَة - وَحَدِيثه هَذَا عَنهُ، فاعلمه - وَقَالَ ابْن سعد: مُنكر الحَدِيث. قلت: والراوي عَنهُ هُوَ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن مَنْصُور، قَالَ ابْن عدي: حدث بِمَا لَا يُتَابع عَلَيْهِ، وَكَانَ مُوسَى بن هَارُون يرضاه. وَقَالَ الدارقطني وَغَيره: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَمِنْهَا حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنِي الزُّهْرِيّ، عَن عَائِشَة بنت سعد أَن أَبَاهَا حدَّثها «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نزل وَاديا دهشًا لَا مَاء فِيهِ، وَسَبقه الْمُشْركُونَ إِلَى (العلات) فنزلوا عَلَيْهَا وَأصَاب الْعَطش (الْمُسلمين) (فشكوا) إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَنجم النِّفَاق، فَقَالَ بعض الْمُنَافِقين: لَو كَانَ نبيًّا كَمَا زعم لاستسقى كَمَا استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ. فَبلغ ذَلِك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: أَو قالوها؟ ! عَسى ربكُم أَن يسقيكم. ثمَّ بسط يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ (جللنا) سحابًا كثيفًا قصيفًا دلوقًا (مخلوفًا) (ضحوكاً) زبرجًا، تمطرنا مِنْهُ رذاذًا قطقطًا سجلا بعاقًا، يَا ذَا الْجلَال(5/166)
وَالْإِكْرَام. فَمَا ردّ يَدَيْهِ من دُعَائِهِ حَتَّى أظلتنا السَّحَاب الَّتِي وصف، يَتلون فِي كل صفة وصف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من صِفَات السَّحَاب، ثمَّ أمطرنا كالضروب الَّتِي سَأَلَهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأنعم السَّيْل الْوَادي، فَشرب النَّاس من الْوَادي فارتووا» . رَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» كَذَلِك وَقَالَ: وَهُوَ مِمَّا لم يُخرجهُ مُسلم، أَي: وَهُوَ عَلَى شَرطه.
وَمِنْهَا حَدِيث عَامر بن خَارِجَة بن سعد، عَن جده سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن قوما شكوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قحط الْمَطَر، فَقَالَ: اجثوا عَلَى الركبِ، وَقُولُوا: يَا رب يَا رب. قَالَ: فَفَعَلُوا؛ فسقوا حَتَّى أَحبُّوا أَن يكْشف عَنْهُم» . رَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» ، لَكِن قَالَ (خَ) : عَامر بن خَارِجَة فِي إِسْنَاده نظر.
وَمِنْهَا: حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا استسقى قَالَ: أنزل عَلَى أَرْضنَا زينتها وسكنها» رَوَاهُ أَبُو عوَانَة أَيْضا من حَدِيث سُوَيْد أبي حَاتِم، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن بِهِ.
وَمِنْهَا حَدِيث جَعْفَر بن عَمْرو بن حُرَيْث، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نستسقي، فَصلي بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قلب رِدَاءَهُ،(5/167)
وَرفع يَدَيْهِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ) (صاحت) جبالنا، واغبرت أَرْضنَا، وهامت داوبنا، معطي الْخيرَات من أماكنها، ومنزل الرَّحْمَة من معادنها، ومجري البركات عَلَى أَهلهَا بالغيث المغيث، أَنْت المستغفر الْغفار فنستغفرك (للجامات) من (ذنوبنا) ، ونتوب إِلَيْك من (عَام) خطايانا، اللَّهُمَّ فَأرْسل السَّمَاء علينا مدرارًا واصًلا بالغيث، واكفًا من تَحت عرشك حَيْثُ تنفعنا وتعود علينا غيثًا عامًّا طبقًا غدقًا مجللا خصيبًا رايعًا، مُمْرِعَ النَّبَات» . رَوَاهُ أَبُو عوَانَة أَيْضا فِي «صَحِيحه» .
فَائِدَة فِي بَيَان ضبط مَا قد يشكل من الْأَلْفَاظ الْوَاقِعَة فِي هَذِه الْأَحَادِيث:
الْغَيْث: هُوَ الْمَطَر.
المُغيث - بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن -: المنقذ من الشدَّة، قَالَ الْأَزْهَرِي: هُوَ الذى يغيث الْخلق فيرويهم ويشبعهم.
والهنيء - مَهْمُوز -: الَّذِي لَا ضَرَر فِيهِ وَلَا وباء.
والمَرِيء - مَهْمُوز (أَيْضا) -: وَهُوَ الْمَحْمُود الْعَاقِبَة، المسمن للحيوان المُنْمِي لَهُ.(5/168)
مَرِيعًا - بِفَتْح الْمِيم وَكسر الرَّاء، وَبعدهَا مثناة تَحت سَاكِنة -: وَهُوَ من المراعة، وَهُوَ الخصب، وَرُوِيَ بِضَم الْمِيم وإبدال الْمُثَنَّاة تَحت بَاء مُوَحدَة (مَكْسُورَة، وَرُوِيَ بِالْمُثَنَّاةِ فَوق، وهما بِمَعْنى الأول. والغدق - بِفَتْح الدَّال -) : الْكثير المَاء وَالْخَيْر. قَالَه الْأَزْهَرِي.
مجللا - بِكَسْر اللَّام الأولَى - أَي: يُجَلل الْبِلَاد والعباد نَفعه ويتغشاهم خَيره. قَالَه الْأَزْهَرِي. وَأَيْضًا (مَأْخُوذ من تجليل الْفرس، أَو السَّاتِر للْأَرْض بالنبات) .
والسيح: الشَّديد (الْوَاقِع عَلَى الأَرْض) .
طبقًا: بِفَتْح الطَّاء وَالْبَاء، قَالَ الْأَزْهَرِي: هُوَ الَّذِي يطبق البلادَ مطرُه، فَيصير كالطبق عَلَيْهَا، وَفِيه مُبَالغَة، وَوَقع فِي رِوَايَة الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب: «عامًّا طبقًا» كَمَا أسلفناه، قَالُوا: بَدَأَ بالعامِّ ثمَّ أتبعه بالطبق؛ لِأَنَّهُ صفة زِيَادَة فِي العامِّ، فقد يكون عامًّا وَهُوَ طلٌّ يسيرٌ.
والقنوط: الْيَأْس. واللأواء - بِالْهَمْز وَالْمدّ -: شدَّة المجاعة. قَالَه الْأَزْهَرِي.
والجهد - بِفَتْح الْجِيم، وَقيل: يجوز ضمهَا -: قلَّة الْخَيْر، والهُزال، وَسُوء الْحَال. والضنك: الضّيق.
وَقَوله: «مَا لَا نشكو إِلَّا إِلَيْك» هُوَ بالنُّون.
وبركات السَّمَاء: كَثْرَة مطرها مَعَ الرّيع والنماء. وبركات الأَرْض: مَا يخرج مِنْهَا من زرع ومرعى.
(والعري: بِضَم الْعين وَرَاء سَاكِنة، وَيجوز كسر الرَّاء، وَتَشْديد الْيَاء) .(5/169)
وَالسَّمَاء هُنَا: (هِيَ) السَّحَاب، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي «تَفْسِيره» : يجوز أَن يكون المُرَاد بهَا هُنَا: الْمَطَر أَو السَّحَاب، وَيجوز أَن يكون المُرَاد بهَا: (المظلة) ؛ لِأَن الْمَطَر ينزل مِنْهَا إِلَى السَّحَاب.
والمدرار: الْكثير (الدّرّ، و) الْقطر. قَالَه الْأَزْهَرِي. وَهُوَ من أثبت الْمُبَالغَة.
وَمَعْنى: «لَا يخْطر لَهُم فحْل» : لَا يُحَرك ذَنَبَهُ هزالًا لشدَّة الْقَحْط.
وَمَعْنى «غير رائث» : غير بطيء وَلَا متأخِّر.
وَمَعْنى «أحيينا» : أَصَابَنَا الحيا، وَهُوَ بِالْقصرِ: الْمَطَر؛ لإحيائه الأَرْض، وَقيل: الحيا: الخصب، وَمَا يَحْتَاجهُ النَّاس.
الحَدِيث (الْخَامِس) عشر
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استسقى، فَأَشَارَ بِظهْر كفيه إِلَى السَّمَاء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَنقل الرَّافِعِيّ وَغَيره عَن الْعلمَاء أَن هَكَذَا السّنة لمن دَعَا لدفع الْبلَاء أَن يَجْعَل ظهر كفيه إِلَى السَّمَاء، فَإِذا سَأَلَ الله شَيْئا جعل بطن كفيه إِلَى السَّمَاء.(5/170)
وَفِي «مُسْند أَحْمد» : نَا ابْن إِسْحَاق، نَا ابْن لَهِيعَة، عَن حبَان بن وَاسع، عَن خَلاد بن السَّائِب، عَن أَبِيه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا سَأَلَ جعل بَاطِن (كفيه) إِلَيْهِ، وَإِذا استعاذ جعل ظاهرهما إِلَيْهِ» . وَقد سلف فِي الصَّلَاة (من) حَدِيث ابْن عَبَّاس: «سلوا الله ببطون أكفكم، وَلَا تسألوه بظهورها» وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف كَمَا أسلفناه هُنَاكَ، فَلَا يُعَارض هَذَا.
وَقد فَسَّر الْمُفَسِّرُونَ الرهب فِي قَوْله تَعَالَى: {يدعوننا رغبًا ورهبًا} بِالثَّانِي؛ وَالْأول هُوَ: الرغب، قَالَ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» : وَكَأَنَّهُ فِي حَال الرغب يسْأَل كالمستطعم، وَفِي حَال الرهب يستعيذ ويستجير، وَإِن أَتَى بِلَفْظ السُّؤَال فَهُوَ كالمستدفع عَن نَفسه.
الحَدِيث السَّادِس عشر
ثَبت تَحْويل الرِّدَاء عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هُوَ كَمَا قَالَ، (وجدت) ذَلِك فِي حَدِيث عبد الله بن زيد بن عَاصِم، وَقد سلف أول الْبَاب. وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد فِيهِ: «حول(5/171)
رِدَاءَهُ، وقلب ظهرا لبطن، وحول النَّاس مَعَه» وَقد ورد ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث:
أَحدهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف قَرِيبا عَلَى مَا فِيهِ.
ثَانِيهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف فِي الْبَاب، وَهُوَ الحَدِيث الثَّانِي مِنْهُ.
ثَالِثهَا: حَدِيث جَابر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استسقى وحول رِدَاءَهُ لِيَتَحَوَّل القحطُ» رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.
الحَدِيث السَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَمَّ بالتنكيس، لَكِن كَانَ عَلَيْهِ خميصة فثقل عَلَيْهِ، قَلَبَهَا من الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا بأسانيد صَحِيحَة من حَدِيث عبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «استسقى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعَلِيهِ خميصة سَوْدَاء، فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ بأسفلها فَيَجْعَلهُ أَعْلَاهَا، فَلَمَّا ثقلت عَلَيْهِ قَلبهَا عَلَى عَاتِقه» . وَرَوَاهُ أَيْضا الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَأَبُو عوَانَة فِي(5/172)
«مستخرجه عَلَى مُسلم» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَقد اتفقَا عَلَى إِخْرَاج حَدِيث عباد بن تَمِيم. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : رِجَاله رجال «الصَّحِيح» ، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَقَالَ فِي آخِره: «فَثقلَتْ عَلَيْهِ فَقَلَبَهَا، الْأَيْمن عَلَى الْأَيْسَر والأيسر عَلَى الْأَيْمن» .
فَائِدَة: الخميصة: كسَاء أسود لَهُ عَلَمَان فِي طرفه، قَالَ (أَبُو عُبَيْدَة) : هُوَ كسَاء مربَّع لَهُ عَلَمَان. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: كسَاء من صوف أوْ خَزٍّ مُعْلمة سُود، كَانَت من لِبَاس النَّاس. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: كسَاء رَقِيق أَحْمَر، أَو أَحْمَر وأسود.
الحَدِيث (الثَّامِن عشر)
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يحب الفأل» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا عَدْوّى، وَلَا طِيَرَة، ويعجبني الفأل الْكَلِمَة الْحَسَنَة والكلمة(5/173)
الطّيبَة» . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «قيل: وَمَا الفألُ؟ قَالَ: الْكَلِمَة الطّيبَة» . وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَا طيرة، وَخَيرهَا الفأل. قيل: يَا رَسُول الله، وَمَا الفألُ؟ قَالَ: الْكَلِمَة الصَّالِحَة يسْمعهَا أحدكُم» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «لَا عَدْوّى، وَلَا هَامة، وَلَا طيرة، وَأحب الفأل الصَّالح» . (هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب) .
وأمَّا آثاره:
ذكر فِيهِ «أَن عمر بن الْخطاب استسقى بِالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن عمر بن الْخطاب كَانَ إِذا قحطوا استسقى بِالْعَبَّاسِ بن عبد الْمطلب، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نتوسَّل إِلَيْك بنبينا (فتسقينا، وَإِنَّا نتوسل إِلَيْك بعم نَبينَا فاسقنا، فيسقون» . وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» فِي تَرْجَمَة الْعَبَّاس، من حَدِيث دَاوُد بن عَطاء الْمدنِي - وَهُوَ مَتْرُوك - عَن زيد بن أسلم، عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: «استسقى عمر بن الْخطاب عَام الرَّمَادَة بِالْعَبَّاسِ(5/174)
بن عبد الْمطلب، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا عَم نبيك (نتوجه إِلَيْك بِهِ؛ فاسقنا. فَمَا برحوا حَتَّى سقاهم الله - عَزَّ وَجَلَّ - قَالَ: فَخَطب عمر النَّاس فَقَالَ: أَيهَا النَّاس، إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يرَى للْعَبَّاس مَا يرَى الْوَلَد لوالده، يعظمه ويفخمه ويبر قسمه، فاقتدوا أَيهَا النَّاس برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي عَمه الْعَبَّاس، واتخذوه وَسِيلَة إِلَى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فِيمَا نزل بكم» .
وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» أَيْضا من حَدِيث ثُمَامَة عَن أنس قَالَ: (كَانُوا إِذا قحطوا عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استسقوا برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَاسْتَسْقَى لَهُم، فيُسقَون، فلمَّا كَانَ بعد وَفَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي إِمَارَة عمر قحطوا، فَخرج عمر بِالْعَبَّاسِ يَسْتَسْقِي بِهِ؛ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذا قحطنا عَلَى عهد نبيك استسقينا بِهِ فسُقينا، وَإِنَّا نتوسل (إِلَيْك) الْيَوْم بعم نبيك فاسقنا. قَالَ: فسُقوا» . وَفِي «أمالي» المُصَنّف - أَعنِي: الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ - «أَن عمر استسقى بِالْعَبَّاسِ عَام الرَّمَادَة؛ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن هَؤُلَاءِ عِبَادك وَبَنُو إمائك، أتوك راغبين متوسلين إِلَيْك بعم نبيك، اللَّهُمَّ إِنَّا نستسقيك بعم نبيك، ونستشفع إِلَيْك بشيبته. فسُقوا» . وَفِي ذَلِك يَقُول بعض بني هَاشم فِي أبياتٍ لَهُ:
وَأَهله عَشِيَّة يَسْتَسْقِي بشيبته عمر
بِعَمِّي سَقَى الله الحجازَ
فَائِدَة: الرَّمَادَة - برَاء ودال مهملتين وبالميم -: الْهَلَاك. قَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ أَعْوَام (جَدب) تَتَابَعَت عَلَى النَّاس، سمي بذلك(5/175)
لهلاك النَّاس وَالْأَمْوَال فِيهِ، يُقَال: رَمَدَ - بِالْفَتْح - يَرمد - بِالْكَسْرِ وَالضَّم - رمْدًا - بِالسُّكُونِ - ورمادة: إِذا هلك.
ثمَّ ذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا «أَن مُعَاوِيَة استسقى بِيَزِيد بن الْأسود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره تبعا لصَاحب «الْمُهَذّب» ، فَإِنَّهُ قَالَ: «إِن مُعَاوِيَة استسقى بِيَزِيد بن الْأسود فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نستسقي بخيرنا وأفضلنا، اللَّهُمَّ إِنَّا نستسقي بِيَزِيد بن الْأسود، يَا يزِيد، ارْفَعْ يَديك إِلَى الله - تَعَالَى - فَرفع يَدَيْهِ، وَرفع النَّاس أَيْديهم، فثارت سَحَابَة من الْمغرب، كَأَنَّهَا ترس، وهَبَّ لَهَا ريح، فَسُقُوا حَتَّى كَاد الناسُ أَن لَا يبلغُوا مَنَازِلهمْ» . وبيَّض لَهُ الْمُنْذِرِيّ فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الْمُهَذّب» ، وأسنده ابْن عَسَاكِر فِي «تَخْرِيجه لأحاديثه» من حَدِيث أبي زرْعَة، عَن الحكم بن نَافِع، عَن صَفْوَان بن عَمْرو، عَن سليم بن عَامر «أَن النَّاس قحطوا بِدِمَشْق، فَخرج مُعَاوِيَة يَسْتَسْقِي بِيَزِيد بن الْأسود» قَالَ أَبُو زرْعَة: وثنا أَبُو مسْهر، نَا سعيد بن عبد الْعَزِيز «أَن الضَّحَّاك بن قيس خرج يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ فَقَالَ ليزِيد بن الْأسود: قُم يَا بكَّاءُ» . وَلم يعزه النوويُّ فِي «شَرحه» وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّه أثر مَشْهُور.
خَاتِمَة: ذكر الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَن الاسْتِسْقَاء أَنْوَاع، أدناها: الدُّعَاء المجرَّد من غير صَلَاة وَلَا خلف صَلَاة، إمَّا فُرَادَى أَو مُجْتَمعين (لذَلِك) . وأوسطها: الدُّعَاء خلف الصَّلَاة وَفِي خطْبَة الْجُمُعَة، وَنَحْو ذَلِك. وأفضلها: الاسْتِسْقَاء بِرَكْعَتَيْنِ وخطبتين، كَمَا سنصفه، وَالْأَخْبَار وَردت بِجَمِيعِ ذَلِك.(5/176)
هَذَا آخر كَلَامه، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد ورد مفرَّقًا فِي الْبَاب، فتدبره تَجدهُ كَذَلِك، وَحَاصِل مَا استسقى بِهِ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام عدَّة أَنْوَاع:
أَحدهَا: يَوْم الْجُمُعَة عَلَى المنبرِ فِي أثْنَاء خطبَته، كَمَا سلف (من) حَدِيث أنس.
ثَانِيهَا: خرج إِلَى الْمُصَلى وَصَلى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا سلف من حَدِيث عبد الله بن زيد وَغَيره.
ثَالِثهَا: استسقى عَلَى الْمِنْبَر بِالدُّعَاءِ الْمُجَرّد، كَمَا سلف من حَدِيث ابْن عَبَّاس.
رَابِعهَا: استسقى وَهُوَ جَالس فِي الْمَسْجِد، كَمَا سلف من حَدِيث كَعْب بن مرّة.
خَامِسهَا: فِي بعض أَسْفَاره، كَمَا سلف من رِوَايَة سعد، (وَالِد عَائِشَة) وَغير ذَلِك كَمَا سلف فِي الْبَاب، فتدبره.(5/177)
كتاب الْجَنَائِز(5/179)
كتاب الْجَنَائِز
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا.
أمَّا الْأَحَادِيث فمائة حَدِيث و (نَيف) .
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَكْثرُوا من ذكر هاذم اللَّذَّات، الْمَوْت» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، (رَوَاهُ) أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو اللَّيْثِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بأسانيد صَحِيحَة عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: «فَمَا ذكره عبد قطّ وَهُوَ فِي ضيق إِلَّا وَسعه عَلَيْهِ، وَلَا ذكره فِي سَعَة إِلَّا ضيَّقه عَلَيْهِ» . وَفِي لفظ: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يكثر أَن يَقُول: أَكْثرُوا من ذكر هاذم اللَّذَّات» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. ذكره فِي الزّهْد من «جَامعه» ، وَقَالَ الْحَاكِم فِي أَوَاخِر «مُسْتَدْركه»(5/181)
فِي أثْنَاء كتاب الرقَاق: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَقَالَ الْحَافِظ ابْن طَاهِر فِي «تَخْرِيجه أَحَادِيث الشهَاب» : هَذَا حَدِيث غَرِيب صَحِيح؛ لِأَن مُسلما أخرج لمُحَمد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة حَدِيثا. وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ فِي مَوضِع، وَالَّذين رووا عَنهُ هَذَا الحَدِيث ثِقَات، قَالَ: فَيكون عَلَى شَرط مُسلم، إِلَّا أَن يكون لَهُ عِلّة خفيت. قلت: ولعلها مَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» أَنه رُوِيَ عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَعَن أبي سَلمَة مَرْفُوعا مُرْسلا، وَأَنه الصَّحِيح. وَأبْعد ابْن الْجَوْزِيّ فَذكر هَذَا الحَدِيث فِي «علله» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يثبت؛ فَإِن مَدَاره عَلَى مُحَمَّد بن عَمْرو اللَّيْثِيّ، قَالَ يَحْيَى بن معِين: مَا زَالَ النَّاس يَتَّقُونَ حَدِيثه. هَذَا كَلَامه وَلَا يُتابع عَلَيْهِ، بل هُوَ حَدِيث حسن كَمَا قَالَه التِّرْمِذِيّ، وصحيح كَمَا قَالَه ابْن حبَان وَالْحَاكِم وَابْن طَاهِر وهم أعلم مِنْهُ وَأجل، وَمُحَمّد بن عَمْرو هَذَا من فرسَان «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَقد وَثَّقَهُ يَحْيَى مرّة أُخْرَى كَمَا نَقله عَنهُ فِي «ضُعَفَائِهِ» ، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» (وليَّنهَ) ، ذكره من حَدِيث أنس: «أَكْثرُوا ذكر هاذم اللَّذَّات - يَعْنِي: الْمَوْت» . وَأعله (بِأَنَّهُ حَدثهُ) بذلك، قَالَ ابْن أبي(5/182)
حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: هُوَ حَدِيث بَاطِل، لَا أصل لَهُ. عَلَى أَن (ابْن) السكن أخرجه فِي «صحاحه» ، وَهَذَا لَفظه عَن أنس قَالَ: «مر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَجْلِس من الْأَنْصَار وهم يَضْحَكُونَ، فَقَالَ: أَكْثرُوا من ذكر هاذم اللَّذَّات» . (و) ذكره من حَدِيث خَالِد بن جميل (عَن) يَحْيَى بن سعيد (عَن سعيد) بن الْمسيب، عَن عمر. ذكره ابْن طَاهِر فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الشهَاب» (وَقَالَ: من قبل خَالِد فِيهِ) ، وَفِيهِمْ جَهَالَة، وَسَعِيد بن الْمسيب لم يلق عمر، وَلَا تصح رِوَايَته عَنهُ. وَذكره الْبَغَوِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه، مُرْسلا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
فَائِدَة: هاذم اللَّذَّات: بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة لَيْسَ إِلَّا، والهذم: الْقطع، قَالَ الْجَوْهَرِي: الهاذم - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة -: الْقَاطِع (كَمَا قَالَه الفاكهي فِي (شَرحه) ، وَكَذَا ذكره السُّهيْلي فِي «رَوْضِهِ» فِي غَزْوَة أحد عِنْد قتل وَحشِي لِحَمْزَة أَن الرِّوَايَة فِيهِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة. وَأما بِالْمُهْمَلَةِ فَمَعْنَاه: المزيل للشَّيْء من أَصله، وَلَيْسَ مرَادا هُنَا.(5/183)
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا نَام أحدكُم فليتوسد يَمِينه» .
هَذَا الحَدِيث أسْندهُ ابْن عَسَاكِر فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الْمُهَذّب» من حَدِيث يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان، عَن عبيد بن عمر، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أَوَى أحدكُم إِلَى فرَاشه فلينزع (دَاخِلَة) (إزَاره) فلينفض فرَاشه، ثمَّ ليتوسد يَمِينه ... » وَذكر الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ، أخرجه الْجَمَاعَة.
قلت: الْجَمَاعَة أَخْرجُوهُ بِدُونِ مَوضِع الْحَاجة مِنْهُ، وَهِي «ثمَّ ليتوسد يَمِينه» . وَرَوَاهُ ابْن عدي فِي «كَامِله» فِي تَرْجَمَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْبَاهِلِيّ، من حَدِيث الْبَراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «إِذا أَخذ أحدكُم مضجعه فليتوسد يَمِينه، وَليقل: بِسم الله، اللَّهُمَّ إِنِّي أسلمت نَفسِي إِلَيْك ... » الحَدِيث. قَالَ ابْن عدي: وَمُحَمّد هَذَا لَا يُتَابع فِي حَدِيثه، وَهُوَ عِنْدِي لَا بَأْس بِهِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب «الدَّعْوَات» من حَدِيث فطر بن خَليفَة، عَن (سعد) بن عُبَيْدَة قَالَ: سَمِعت الْبَراء يَقُول: قَالَ(5/184)
لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا أويت إِلَى فراشك طَاهِرا فتوسد يَمِينك، ثمَّ قل: اللَّهُمَّ (إِنِّي) أسلمت نَفسِي إِلَيْك ... » الحَدِيث. وَحَدِيث الْبَراء ثَابت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِلَفْظ: (قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِذا أتيت مضجعك فَتَوَضَّأ وضوءك للصَّلَاة، ثمَّ اضْطجع عَلَى شقك الْأَيْمن، وَقل: اللَّهُمَّ أسلمت نَفسِي إِلَيْك ... » إِلَى آخِره. وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» عَن الْبَراء: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أَوَى إِلَى فرَاشه نَام عَلَى شقَّه الْأَيْمن، ثمَّ (يَقُول) : اللَّهُمَّ أسلمت نَفسِي (إِلَيْك)
» الحَدِيث. وَفِي «عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة» للنسائي و «جَامع التِّرْمِذِيّ» عَن الْبَراء أَيْضا قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتوسد يَمِينه عِنْد الْمَنَام، ثمَّ يَقُول: رب قني عذابك يَوْم تبْعَث عِبَادك» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. غَرِيب من هَذَا الْوَجْه. وَفِي «عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة» للنسائي أَيْضا و «شمائل التِّرْمِذِيّ» و «مُسْند الإِمَام أَحْمد» عَن عبد الله بن يزِيد الْأنْصَارِيّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا نَام وضع يَده(5/185)
الْيُمْنَى تَحت خَدّه ... » الحَدِيث. وَفِي (الْأَوَّلين) و «ابْن مَاجَه» من حَدِيث أبي عُبَيْدَة عَن ابْن مَسْعُود «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا أَخذ مضجعه وضع يَمِينه تَحت خدِّه» . وَفِيه انْقِطَاع؛ لِأَن أَبَا عُبَيْدَة لم يدْرك أَبَاهُ. وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث حَفْصَة أم الْمُؤمنِينَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يرقد وضع يَده الْيُمْنَى تَحت خدِّه ... » الحَدِيث. وَفِي «مُسْند أَحْمد» : « (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يرقد وضع يَده الْيُمْنَى تَحت خَدّه ... » الحَدِيث) وفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث حُذَيْفَة مثله، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَفِي «دَلَائِل النُّبُوَّة» للبيهقي من حَدِيث أبي قَتَادَة «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا عرس وَعَلِيهِ ليل توسد يَمِينه، وَإِذا عرس قرب الصُّبْح وضع رَأسه عَلَى كَفه الْيُمْنَى وَأقَام ساعده» .
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لقنوا مَوْتَاكُم قَول: لَا إِلَه إِلَّا الله» .(5/186)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» كَذَلِك من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَرَوَاهُ بِدُونِ لَفْظَة «قَول» مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد، وهما من أَفْرَاده، وَغلط ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» فَجعل الثَّانِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَغلط الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «شَرحه للتّنْبِيه» فَادَّعَى أَنه من الْمُتَّفق عَلَيْهِ، فاجتنب كل ذَلِك. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ مُسلم وَزِيَادَة: «فَإِنَّهُ من كَانَ آخر كَلَامه: لَا إِلَه إِلَّا الله. عِنْد الْمَوْت دخل الْجنَّة يَوْمًا من الدَّهْر، وَإِن أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ» . وَله طرق أخر:
أَحدهَا: من حَدِيث عَائِشَة، رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ الرَّافِعِيّ، وَفِي (لفظ) : «هلْكاكم» بدل «مَوْتَاكُم» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث عبد الله بن جَعْفَر، رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «لقنوا مَوْتَاكُم: لَا إِلَه إِلَّا الله، الْحَلِيم الْكَرِيم، سُبْحَانَ الله رب الْعَرْش الْعَظِيم، الْحَمد لله رب الْعَالمين. [قَالُوا: يَا] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - 498) : كَيفَ الْأَحْيَاء؟ قَالَ: أَجود وأجود» .(5/187)
ثَالِثهَا، وَرَابِعهَا، وخامسها: من حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس، وَابْن مَسْعُود، وَعَطَاء بن السَّائِب عَن أَبِيه عَن جده، رواهن الطَّبَرَانِيّ، وَسَيَأْتِي الثَّالِث قَرِيبا.
سادسها: من حَدِيث ابْن عمر، (رَوَاهُ) المستغفري فِي «دعواته» بِلَفْظ: «لقنوا مَوْتَاكُم أَن يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله. فَإِنَّهُ لَيْسَ مُؤمن يَقُولهَا عِنْد الْمَوْت إِلَّا لقن» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من لقن: لَا إِلَه إِلَّا الله. عِنْد الْمَوْت دخل الْجنَّة» .
وَرُوِيَ فِي هَذَا الْكتاب حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف بِلَفْظ: «لقنوا مَوْتَاكُم: لَا إِلَه إِلَّا الله. فَإِنَّهَا خَفِيفَة عَلَى اللِّسَان، ثَقيلَة فِي الْمِيزَان، وَلَو جعلت كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله فِي كفة، وَجعلت السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ فِي كفة لرجحت بِهن لَا إِلَه إِلَّا الله» وَفِي لفظ لَهُ: «لقنوا مَوْتَاكُم: لَا إِلَه إِلَّا الله. وَلَا تملوهم» .
سابعها: من حَدِيث عُرْوَة بن مَسْعُود، رَوَاهُ الْعقيلِيّ وَقَالَ: فِي الْبَاب أَحَادِيث صِحَاح عَن غير وَاحِد من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الحَدِيث الرَّابِع
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (من كَانَ) آخر كَلَامه: لَا إِلَه إِلَّا الله. دخل الْجنَّة» .(5/188)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد كَذَلِك لَكِن بِلَفْظ: «وَجَبت لَهُ الْجنَّة» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم بِلَفْظ المُصَنّف، وَأعله ابْن الْقطَّان بِأَن قَالَ: فِيهِ صَالح بن أبي (عريب) ، وَلَا يعرف حَاله، وَلَا رَوَى عَنهُ غير عبد الحميد، وَقد غلط فِي كل مِنْهُمَا، أما الأول: فقد ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» فقد عرفت حَاله، وَأما الثَّانِي: فقد رَوَى عَنهُ حَيْوَة بن شُرَيْح، وَاللَّيْث بن سعد، وَابْن لَهِيعَة، وَغَيرهم. كَمَا ذكره ابْن يُونُس والمزي، لَا جرم لما أخرجه الْحَاكِم من طَرِيقه قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قلت: وَقد (جرت فِيهِ) حِكَايَة غَرِيبَة، وَقد أَنبأَنَا بهَا الْمسند أَحْمد بن كشتغدي، أَنبأَنَا أَبُو الْفرج عبد اللَّطِيف الْحَرَّانِي، أبنا ابْن الْجَوْزِيّ، أبنا أَبُو مَنْصُور الْقَزاز، أبنا أَبُو بكر الْخَطِيب، أبنا أَبُو عَلّي عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن فضَالة، أَنا أَبُو بكر (بن) مُحَمَّد بن عبد الله بن شَاذان، قَالَ: سَمِعت أَبَا جَعْفَر التسترِي يَقُول: حَضَرنَا أَبَا زرْعَة وَهُوَ فِي السِّيَاق وَعِنْده أَبُو حَاتِم وَمُحَمّد بن مُسلم وَالْمُنْذر بن شَاذان وَجَمَاعَة من الْعلمَاء، فَذكرُوا حَدِيث التَّلْقِين وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: «لقنوا مَوْتَاكُم: لَا إِلَه إِلَّا الله» . فاستحيوا من أبي زرْعَة وهابوا أَن(5/189)
يلقنوه؛ فَقَالُوا: تَعَالَوْا نذْكر الحَدِيث. فَقَالَ مُحَمَّد بن مُسلم: نَا الضَّحَّاك بن مخلد، عَن عبد الحميد بن جَعْفَر، عَن صَالح. وَلم يُجَاوز، وَقَالَ الْمُنْذر: نَا بنْدَار، نَا أَبُو عَاصِم، عَن عبد الحميد، عَن صَالح، وَلم يُجَاوز، وَالْبَاقُونَ سكتوا؛ فَقَالَ أَبُو زرْعَة وَهُوَ فِي السَّوق: نَا بنْدَار، نَا أَبُو عَاصِم، نَا عبد الحميد بن جَعْفَر، عَن صَالح بن أبي عريب، عَن كثير بن مرّة، عَن معَاذ بن جبل قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من كَانَ آخر كَلَامه: لَا إِلَه إِلَّا الله. دخل الْجنَّة» وَتُوفِّي. و (نَا) ابْن كشتغدي أَيْضا قَالَ: أَنا الشَّيْخ محيي الدَّين يَحْيَى بن شرف النَّوَوِيّ كِتَابَة من دمشق، أَنا الْحَافِظ أَبُو الْبَقَاء، أَنبأَنَا الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد، نَا أَبُو طَاهِر السلَفِي، أَنا أَبُو عَلّي البرداني، قَالَ: سَمِعت (إِبْرَاهِيم بن هناد النَّسَفِيّ يَقُول: سَمِعت) أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْقطَّان يَقُول: سَمِعت أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُسلم بن (وارة) الرَّازِيّ يَقُول: حضرت مَعَ أبي حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرَّازِيّ عِنْد أبي زرْعَة الرَّازِيّ وَهُوَ فِي النَّزع، فَقلت لأبي حَاتِم: تعال حَتَّى نلقنه الشَّهَادَة. فَقَالَ أَبُو حَاتِم: إِنِّي لأستحيي من أبي زرْعَة أَن ألقنه الشَّهَادَة، وَلَكِن تعال حَتَّى نتذاكر الحَدِيث فَلَعَلَّهُ إِذا(5/190)
سَمعه يَقُول. فَبَدَأت فَقلت: ثَنَا أَبُو عَاصِم النَّبِيل، نَا عبد الحميد بن جَعْفَر فارتج عليَّ الحَدِيث حَتَّى كَأَنِّي مَا سمعته وَلَا قرأته، فَبَدَأَ أَبُو حَاتِم فَقَالَ: نَا مُحَمَّد بن بشار، نَا أَبُو عَاصِم النَّبِيل، عَن عبد الحميد بن جَعْفَر، فارتج عَلَيْهِ كَأَنَّهُ مَا قَرَأَهُ، فَبَدَأَ أَبُو زرْعَة فَقَالَ: نَا مُحَمَّد بن بشار، نَا أَبُو عَاصِم النَّبِيل، نَا عبد الحميد بن جَعْفَر، عَن صَالح بن أبي عريب، عَن كثير بن مرّة، عَن معَاذ بن جبل قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من كَانَ آخر كَلَامه: لَا إِلَه إِلَّا الله» وَخرجت روحه مَعَ الْهَاء قبل أَن يَقُول: «دخل الْجنَّة» . وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. وأنبأنا الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه: أَنا الْخلال، أَنا الْهَمدَانِي، أَنا السلَفِي، أَنا ابْن مَالك، أَنا أَبُو يعْلى الْحَافِظ، سَمِعت مُحَمَّد بن عَلّي الفرضي (يَقُول) : سَمِعت الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن مَيْمُون، سَمِعت عمر بن إِسْحَاق الْحَافِظ، سَمِعت (ابْن وارة) يَقُول: حضرت أَنا وَأَبُو حَاتِم عِنْد وَفَاة أبي زرْعَة ... إِلَى آخِره بأخصر من الأول.
تَنْبِيه: غلط ابْن معن فِي «تنقيبه» عَلَى «الْمُهَذّب» ، فعزا حَدِيث معَاذ هَذَا إِلَى البُخَارِيّ وَمُسلم، وَهَذَا عَجِيب؛ فَذَاك حَدِيث آخر لَفظه فِي «مُسلم» : «مَا من عبد يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله إِلَّا حرّمه الله عَلَى النَّار» . وَلَفظه فِي «البُخَارِيّ» : «مَا من أحدٍ يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صِدْقًا من قلبه إِلَّا حرمه الله عَلَى(5/191)
النَّار» . وَفِي أَفْرَاد «مُسلم» من حَدِيث عُثْمَان بن عَفَّان رَفعه: «من مَاتَ وَهُوَ يعلم أَن لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة» . وَفِي «أَفْرَاده» (نَحوه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَعبادَة، وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة نَحوه، وَقد سلف فِي الحَدِيث قبله (برمتِهِ) وَفِي «مُسْند أَحْمد» و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» وَاللَّفْظ لَهُ من رِوَايَة يَحْيَى بن طَلْحَة بن عبيد الله، عَن [أَبِيه] «أَن عمر رَأَى طَلْحَة كئيبًا، فَقَالَ لَهُ: مَا لَك، لَعَلَّك ساءتك [إِمَارَة] ابْن عمك؟ قَالَ: لَا. وَأَثْنَى عَلَى أبي بكر، وَلَكِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: كلمة لَا يَقُولهَا عبد عِنْد مَوته إِلَّا فرج الله عَنهُ كربته وأشرق لَونه. فَمَا مَنَعَنِي أَن (أسأله) عَنْهَا إِلَّا الْقُدْرَة عَلَيْهَا، حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ عمر: إِنِّي لأعرفها. قَالَ طَلْحَة: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ لَهُ عمر: هَل تعلم كلمة هِيَ أعظم من كلمة أَمر بهَا (عَمه) لَا إِلَه إِلَّا الله؟ فَقَالَ(5/192)
طَلْحَة: هِيَ وَالله (هِيَ) » . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ من حَدِيث عَطاء بن السَّائِب، عَن أَبِيه، عَن جده - وَهُوَ مَالك الثَّقَفِيّ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من لُقِّن عِنْد الْمَوْت شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة» . ذكره فِي تَرْجَمَة مَالك وَقَالَ: هُوَ أَبُو السَّائِب الثَّقَفِيّ جد عَطاء. وَفِي «تَلْخِيص الْمُتَشَابه» لِلْحَافِظِ أبي بكر الْخَطِيب عَن حُذَيْفَة: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي مَرضه الَّذِي قبض فِيهِ: «من ختم لَهُ بِلَا إِلَه إِلَّا الله محتسبًا عَلَى الله - عَزَّ وَجَلَّ - دخل الْجنَّة» . وَفِيه أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود رَفعه: «من كَانَ آخر كَلَامه لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة» . وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» عَن جَابر رَفعه: «من ختم لَهُ عِنْد مَوته بِلَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رِوَايَته عَن جَابر عَن معَاذ مَرْفُوعا هُوَ الصَّوَاب، وفيهَا أَيْضا: عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «و (من) قَالَ عِنْد الْمَوْت: لَا إِلَه إِلَّا الله. وَجَبت لَهُ الْجنَّة» . ثمَّ قَالَ: إرْسَاله هُوَ الصَّوَاب.
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اقْرَءُوا [[ [يس]] ] عَلَى مَوْتَاكُم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَئِمَّة أَحْمد فِي «مُسْنده» و (لَفظه: «يس قلب الْقُرْآن، لَا يقْرؤهَا رجل يُرِيد الله وَالدَّار الْآخِرَة إِلَّا غفر لَهُ، واقرءوها(5/193)
عَلَى مَوْتَاكُم» ) ، وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمَا» وَالنَّسَائِيّ فِي «عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن أبي عُثْمَان - وَلَيْسَ بالنهدي - عَن أَبِيه، عَن معقل بن يسَار مَرْفُوعا، إِلَّا النَّسَائِيّ وَابْن حبَان فَإِنَّهُمَا قَالَا: عَن أبي عُثْمَان، عَن معقل، فأسقطا أَبَاهُ، وأعل هَذَا الحَدِيث بِالْوَقْفِ وبالجهالة وبالاضطراب، قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث أوقفهُ يَحْيَى بن سعيد وَغَيره عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، وَالْقَوْل فِيهِ قَول ابْن الْمُبَارك؛ إِذْ الزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة. ذكر ذَلِك فِي بَاب فَضَائِل الْقُرْآن من «مُسْتَدْركه» فِي ذكر فَضَائِل سور مُتَفَرِّقَة، وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَن أَبَا عُثْمَان هَذَا لَا (نعرفه) وَلَا من رَوَى عَنهُ غير سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، وَإِذا لم يكن هُوَ مَعْرُوفا فأبوه أبعد من أَن يعرف. وَكَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ: أَبُو عُثْمَان وَأَبوهُ ليسَا بمشهورين. وَخَالف فِي كَلَامه عَلَى «تَخْرِيج أَحَادِيث الْمُهَذّب» فَقَالَ: إِنَّه حَدِيث حسن رَوَاهُ (د س ق) وَمِنْهُم من قَالَ: عَن أبي عُثْمَان عَن أَبِيه. وَمِنْهُم من قَالَ: عَن (أبي) عُثْمَان عَن معقل، من غير ذكر أَبِيه. قلت: وَمِنْهُم من قَالَ: عَن(5/194)
رجل عَن معقل، وَعَن رجل عَن أَبِيه (عَن معقل) ذكرهمَا النَّسَائِيّ فِي «الْيَوْم وَاللَّيْلَة» ، وَالثَّانِي: الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «الْخُلَاصَة» و «شرح الْمُهَذّب» : رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَفِيه مَجْهُولَانِ، وَلم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد. قلت: أَبُو عُثْمَان ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَعَن ابْن الْعَرَبِيّ عَن الدَّارَقُطْنِيّ: إِنَّه حَدِيث ضَعِيف الْإِسْنَاد مَجْهُول الْمَتْن، وَلَا يَصح فِي الْبَاب حَدِيث.
(فَوَائِد) :
الأولَى: لهَذَا الحَدِيث طَرِيق آخر، ذكر الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة سمحج الجني، وَيُقَال: سمهج بِالْهَاءِ، من حَدِيث عبد الله بن الْحُسَيْن المصِّيصِي قَالَ: «دخلت طرسوس فَقيل: هَا هُنَا امْرَأَة قد رَأَتْ الْجِنّ الَّذِي وفدوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فأتيتها، فأخبرتني بذلك، وَأَن سمحج سَمَّاهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: عبد الله، وَأَنه سَمعه يَقُول: مَا من مَرِيض تقْرَأ عِنْده [[ [يس]] ] إِلَّا مَاتَ رَيَّان وَحشر يَوْم الْقِيَامَة رَيَّان» . قَالَ الْحَافِظ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي آخر «النَّوَادِر» .(5/195)
الثَّانِيَة: قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : قَوْله: « (اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُم يس» ) أَرَادَ بِهِ من حَضرته الْمنية؛ (لِأَن الْمَيِّت يقْرَأ عَلَيْهِ) ، (قَالَ: وَكَذَلِكَ: «لقنوا) مَوْتَاكُم لَا إِلَه إِلَّا الله» وَهَذَا الَّذِي قَالَه فِي الأول قَالَه جماعات (وَهُوَ) (مُتَعَيّن) ، وَيكون ذَلِك من بَاب تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا يصير إِلَيْهِ. وَأما مَا قَالَه فِي الثَّانِي: فَلَا نسلم لَهُ، وَقد اعْتَرَضَهُ فِي ذَلِك الْمُحب الطَّبَرِيّ فَقَالَ فِي «أَحْكَامه» : مَا قَالَه فِي التَّلْقِين فَمُسلم. وَأما فِي قِرَاءَة [[ [يس]] ] فَذَلِك نَافِع للمحتضر وللميت.
(الثَّالِثَة) : معقل رَاوِي الحَدِيث - هُوَ بِفَتْح أَوله وَإِسْكَان ثَانِيه وَكسر ثالثه - ابْن يسَار - بِفَتْح أَوله - وَمَعْقِل فِي الصَّحَابَة جمَاعَة: هَذَا، وَابْن سِنَان الْأَشْجَعِيّ، وَابْن خَالِد - وَيُقَال: خويلد - وَغَيرهم.
الحَدِيث السَّادِس
عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول قبل مَوته: «لَا يموتن أحدكُم إِلَّا وَهُوَ يحسن الظَّن بِاللَّه - عَزَّ وَجَلَّ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ كَذَلِك وَبِزِيَادَة: «أَنه(5/196)
سَمعه من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل مَوته بِثَلَاث» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «يحسن بِاللَّه الظَّن» . وَفِي «ثِقَات أبي حَاتِم بن حبَان» بِإِسْنَادِهِ إِلَى (خلف) بن تَمِيم (أَنه) سَأَلَ عَلّي بن (بكار) المصِّيصِي عَن مَعْنَى هَذَا الحَدِيث، قَالَ: أَن لَا (يَجْمَعُكَ) والفجار فِي دَار وَاحِدَة. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فيظن رَحْمَة الله ويرجوها، ويتدبر الْآيَات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي كرم الله - تَعَالَى - وعفوه وَرَحمته، وَمَا وعد بِهِ أهل التَّوْحِيد وَمَا ييسره لَهُم من الرَّحْمَة يَوْم (الْقِيَامَة) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الحَدِيث الصَّحِيح: «أَنا عِنْد ظن عَبدِي (بِي) » .
وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي مَعْنَى الحَدِيث، وَهُوَ الَّذِي قَالَه جُمْهُور الْعلمَاء، وشذ الْخطابِيّ فَذكر مَعَه تَأْوِيلا آخر؛ أَن مَعْنَاهُ: أَحْسنُوا أَعمالكُم حَتَّى يحسن ظنكم بربكم، فَمن أحسن عمله حسن ظَنّه، وَمن سَاءَ عمله سَاءَ ظَنّه. وَهُوَ تَأْوِيل بعيد.
(فَائِدَة: لهَذَا الحَدِيث طَرِيق آخر من طَرِيق أنس، ذكر فِيهِ زِيَادَة(5/197)
حَسَنَة فِي آخِره فِي تَرْجَمَة أبي نواس الشَّاعِر الْمَشْهُور، واسْمه: الْحسن بن هَانِئ، وَهُوَ من مشاهير حَدِيثه، مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن كثير الصُّوفِي عَنهُ، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يموتن أحدكُم إِلَّا وَهُوَ يحسن الظَّن بِاللَّه؛ فَإِن حسن الظَّن بِاللَّه ثمن الْجنَّة» ) .
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أغمض أَبَا سَلمَة لما مَاتَ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ - لَا كَمَا وهم فِيهِ من وهم - من رِوَايَة أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «دخل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى أبي سَلمَة وَقد شقّ بَصَره؛ فأغمضه، ثمَّ قَالَ: إِن الرّوح إِذا قبض تبعه الْبَصَر، فَضَجَّ نَاس من أَهله فَقَالَ: لَا تدعوا عَلَى أَنفسكُم إِلَّا بِخَير، فَإِن الْمَلَائِكَة يُؤمنُونَ عَلَى مَا تَقولُونَ. ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لأبي سَلمَة، وارفع دَرَجَته فِي المهديين، واخلفه فِي عقبه فِي الغابرين، واغفر لنا وَله يَا رب الْعَالمين، وأفسح لَهُ فِي قَبره، وَنور لَهُ فِيهِ» .
مَعْنَى «تبعه الْبَصَر» : ذهب أَو شخص نَاظرا إِلَيْهَا، وَجْهَان حَكَاهُمَا الْمُحب فِي «أَحْكَامه» وَقَالَ: عَلَى الثَّانِي دلّت ظواهر وَردت فِيهِ. و «الغابر» : الْبَاقِي، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور وَالْأَكْثَر، وَقيل: يُطلق عَلَى الْمَاضِي، فَيكون من الأضداد.(5/198)
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (لما توفّي) سجي بِبرد حبرَة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَفِي رِوَايَة: «بثَوْبٍ حبرَة» . وَمَعْنى «سُجي» : غُطي، والحِبَرة - بِكَسْر الْحَاء وَفتح الْبَاء -: نوع من البرود، وَالْجمع حبر وحبرات كعنبة وعنب وعنبات، وَيُقَال: بُرد حبرَة: بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْوَصْف، وبدونه عَلَى الْإِضَافَة، وَهُوَ ثوب يمانٍ يكون من قطن أَو كتَّان مخطط محبر، أَي: مزين، والتحبير: التزيين والتحسين. قَالَ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» : (وَهِي) من أشرف ثِيَابهمْ، وَلَو كَانَ عِنْدهم (شَيْء) أشرف مِنْهَا سجي بِهِ.
فَائِدَة: أجمع الْعلمَاء عَلَى أَن سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - توفّي فِي شهر ربيع الأول، وَكَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ، وَاخْتلفُوا فِي أَي يَوْم كَانَ من الشَّهْر، فَقيل: فِي أَوله، وَقيل: فِي ثَانِيه، وَقيل: فِي ثَانِي عشره، وَقيل: فِي عاشره، قَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «مرج الْبَحْرين» وَسَبقه إِلَيْهِ السُّهيْلي: وَلَا يَصح كل ذَلِك؛ لإِجْمَاع الْمُسلمين عَلَى أَن وَقْفَة عَرَفَة فِي حجَّة الْوَدَاع يَوْم الْجُمُعَة، فَدخل ذُو الْحجَّة يَوْم الْخَمِيس، فَكَانَ (أول)(5/199)
الْمحرم إِمَّا الْجُمُعَة وَإِمَّا السبت، فَإِن كَانَ يَوْم الْجُمُعَة فقد دخل صفر إِمَّا السبت وَإِمَّا الْأَحَد، وَإِن كَانَ السبت فقد كَانَ (أول) ربيع الْأَحَد أَو الِاثْنَيْنِ، وكيفما (كَانَ) الْحساب فَلم يكن الثَّانِي (عشر) من ربيع الأول يَوْم الِاثْنَيْنِ بِوَجْه.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن غسل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تولاه عَلّي وَالْفضل بن الْعَبَّاس، وَأُسَامَة بن زيد يناول المَاء، وَالْعَبَّاس وَاقِف ثَمَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث عَلّي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَنه قَالَ: «غسلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَذَهَبت أنظر مَا يكون من الْمَيِّت، فَلم أر شَيْئا، وَكَانَ طيبا (حيًّا وَمَيتًا، وَولي دَفنه وإجْنانهُ أَرْبَعَة: عَلّي وَالْعَبَّاس وَالْفضل وَصَالح مولَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ولحد لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لحدًا، وَنصب عَلَيْهِ اللَّبن نصبا» . قَالَ الْحَاكِم: هَذ حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَا مِنْهُ غير ذكر اللَّحْد.
قَالَ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» : وَرَوَى كيسَان عَن يزِيد بن بِلَال، عَن عَلّي قَالَ: «أَوْصَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يغسلهُ إِلَّا عَلّي؛ فَإِن أحدا لَا يرَى عَوْرَته إِلَّا طمست عَيناهُ. قَالَ عَلّي: كَانَ أُسَامَة يناولني المَاء وَهُوَ(5/200)
مغمض عَيْنَيْهِ» . ثمَّ قَالَ الْعقيلِيّ: قد رُوِيَ فِي غسل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِإِسْنَاد أَجود من هَذَا «أَنه غسله عَلّي وَالْعَبَّاس وَالْفضل وغيرُهم» وَلَيْسَ فِيهِ أَن أحدا مِنْهُم غمض عَيْنَيْهِ. قَالَ: وَأَخْبرنِي عبد الله بن أَحْمد قَالَ: سَأَلت أبي عَن كيسَان (أبي) عمر، فَقَالَ: شيخ ضَعِيف.
قَالَ ابْن دحْيَة فِي كتاب «التَّنْوِير» : لم يخْتَلف فِي أَن الَّذين غسلوه: عَلّي وَالْفضل، وَاخْتلف فِي الْعَبَّاس وَأُسَامَة وَقثم وشقران؛ فَقيل: نعم، وَقيل: لَا، بل غسله عَلّي وَالْفضل يصب المَاء، وَقيل: أَدخل من الْأَنْصَار أَوْس بن خوَليّ، بِفَتْح الْوَاو فِيمَا ذكره الزَّمَخْشَرِيّ، وَقَبله أَبُو أَحْمد العسكري بِزِيَادَة تَشْدِيد الْيَاء، وَكَانَ الْفضل وَالْعَبَّاس (يغسلانه) وَأُسَامَة وَقثم يصبَّانِ المَاء، وَقيل: إِن الْعَبَّاس لم يحضر استحياء.
الحَدِيث الْعَاشِر
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام غسل فِي قَمِيص» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ إمامنا عَن مَالك، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غسل فِي قَمِيص» . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي مُعَاوِيَة، عَن أبي بردة، عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد، عَن ابْن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه قَالَ: «لما) أخذُوا فِي غسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ناداهم مُنَاد من الدَّاخِل:(5/201)
لَا تنزعوا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَمِيصه» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَابْن بُرَيْدَة هَذَا هُوَ سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة (قد) سمي فِي طَرِيق آخر. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» (من طَرِيقين عَن بُرَيْدَة وَقَالَ فِي كل مِنْهُمَا: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ) وَلم يخرجَاهُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق شَيْخه الْحَاكِم وَصرح فِيهِ بِأَن أَبَا بردة هُوَ بريد بن عبد الله بن أبي بردة، أحد الثِّقَات الْمخْرج لَهُم فِي «الصَّحِيحَيْنِ» . لَكِن قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِن أَبَا بردة هَذَا هُوَ عَمْرو بن يزِيد، وَأَنه تفرد بِهِ عَن عَلْقَمَة، فَإِن كَانَ كَذَلِك فعمرو هَذَا ضَعَّفُوهُ. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق، حَدثنِي حُسَيْن بن عبد الله، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس: «أَنه أسْند رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى صَدره وَعَلِيهِ قَمِيصه، وَكَانَ الْعَبَّاس وَالْفضل وَقثم يقلّبونه مَعَ عليٍّ، وَكَانَ أُسَامَة بن زيد وَصَالح مَوْلَاهُ يصبَّانِ المَاء، وَكَانَ يغسل بِالْمَاءِ والسدر، ثمَّ كفنوه، وَحضر غسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَوْس بن خوَلي وَلم يَلِ من (غسله) شَيْئا» . وحسين هَذَا قد تكلم فِيهِ غير وَاحِد كَمَا ستعلمه.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث عَائِشَة قَالَت: «لمّا أَرَادوا غسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالُوا: مَا نَدْرِي، أنجرده من ثِيَابه كَمَا نجرد مَوتَانا أم نغسّله وَعَلِيهِ ثِيَابه. فَلَمَّا اخْتلفُوا ألْقَى الله - تَعَالَى - عَلَيْهِم النّوم حَتَّى مَا(5/202)
مِنْهُم رجل إِلَّا وذقنه فِي صَدره، ثمَّ كَلمهمْ مُكَلم من نَاحيَة الْبَيْت - لَا يَدْرُونَ من هُوَ - أَن غسلوا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعَلِيهِ ثِيَابه. فَقَامُوا فغسلوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَعَلِيهِ قَمِيص، يصبون المَاء فَوق الْقَمِيص ويدلكونه بالقميص دون أَيْديهم، وَكَانَت عَائِشَة تَقول: لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا غسله إِلَّا نساؤه» . وَفِي إِسْنَاده ابْن إِسْحَاق، وَقد صرح بِالتَّحْدِيثِ فَزَالَتْ تُهْمَة تدليسه، وَقد أخرجه الْحَاكِم كَذَلِك وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. ذكره فِي آخر وَفَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِنَحْوِهِ، وَفِيه العنعنة عَلَى عَادَته فِي قبُول حَدِيثه بهَا، وَفِي إِحْدَى روايتيه: «وَكَانَ الَّذِي أجلسه فِي حجره عَلّي بن أبي طَالب، أسْندهُ إِلَى صَدره، قَالَت: فَمَا رَأَى (من) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا يرَى من الْمَيِّت» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُفْيَان، عَن عبد الْملك بن جريج قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بن عَلّي أَبَا جَعْفَر قَالَ: «غسل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاثًا بالسدر، وَغسل وَعَلِيهِ قَمِيص، وَغسل من بِئْر يُقَال لَهَا: (الْغَرْس) بقباء، كَانَت لسعد بن خَيْثَمَة، وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يشرب مِنْهَا، وَولي سُفْلَتَهُ عَلّي، وَالْفضل محتضنه، وَالْعَبَّاس يصب المَاء، فَجعل الْفضل يَقُول: أرحني قطعت (وتيني) ، إِنِّي لأجد شَيْئا يترطل عليَّ» .(5/203)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن عَلّي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تبرز فخذك، وَلَا تنظر إِلَى فَخذ حيٍّ وَلَا ميت» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي شُرُوط الصَّلَاة؛ فَليُرَاجع مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للواتي غسلن ابْنَته: «ابدأن (بميامنها) ومواضع الْوضُوء مِنْهَا» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أم عَطِيَّة الْأَنْصَارِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - بِلَفْظ: «ابدأن بميامنها ومواضع الْوضُوء مِنْهَا. وَهَذِه الْبِنْت هِيَ زَيْنَب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها» كَذَا جَاءَت مُسَمَّاة فِي رِوَايَة لمُسلم. وَوَقع فِي «سنَن أبي دَاوُد» أَنَّهَا أم كُلْثُوم، فِي حَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ، وَفِيه نظر أَيْضا، نبه عَلَيْهِ الْمُنْذِرِيّ؛ فَإِن أم كُلْثُوم توفيت وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ببدر. وَأم عَطِيَّة اسْمهَا نسيبة - بِضَم النُّون وَفتحهَا.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «افعلوا بميتكم مَا تَفْعَلُونَ بعروسكم» .(5/204)
هَذَا الحَدِيث غَرِيب، لَا أعلم من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، وَذكره الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» بِلَفْظ آخر: «افعلوا بموتاكم مَا تَفْعَلُونَ بأحيائكم» وَلَا يحضرني من خرج الآخر، وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : بحثت عَنهُ فَلم أَجِدهُ ثَابتا. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو شامة الْمَقْدِسِي فِي كتاب «السِّوَاك» : (وَمَا) يتَعَلَّق بِهِ هَذَا الحَدِيث مَذْكُور فِي كثير من كتب الْفِقْه، وَهُوَ غير مَعْرُوف.
قلت: بل فِي «الْبَيْهَقِيّ» تَعْلِيقا أَنه رُوِيَ عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أَنَّهَا قَالَت: «علام تنصون ميتكم؟» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَي: تسرحون شعره. قَالَ: وَكَأَنَّهَا كرهت ذَلِك إِذا سرحه بِمشْط ضيق الْأَسْنَان.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر غاسلات ابْنَته أَن يبدأن بميامنها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا سلف قَرِيبا.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لغاسلات ابْنَته: اغسلها ثَلَاثًا اَوْ خمْسا أَو سبعا» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته أَيْضا من حَدِيث أم عَطِيَّة الْأَنْصَارِيَّة قَالَت: «دخل علينا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَنحن نغسل ابْنَته، فَقَالَ:(5/205)
اغسلنها ثَلَاثًا أَو خمْسا أَو أَكثر من ذَلِك، بِمَاء وَسدر، (واجعلن) فِي الْآخِرَة كافورًا (أَو شَيْئا من كافور) فَإِذا فرغتن فآذنني. فَلَمَّا فَرغْنَا آذناه، فَألْقَى إِلَيْنَا حقوه فَقَالَ: أشعرنها (إِيَّاه) (قَالَت: ومشطناها ثَلَاثَة قُرُون» وَفِي رِوَايَة لَهَا: «اغسلنها وترا ثَلَاثًا أَو خمْسا أَو سبعا أَو أَكثر من ذَلِك إِن رأيتن ذَلِك» وَفِي رِوَايَة: «فضفرنا شعرهَا) ثَلَاثَة أَثلَاث: قرنيها وناصيتها» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «وألقيناها خلفهَا» ، وَفِي رِوَايَة للشَّافِعِيّ بِإِسْنَاد عَلَى شَرطهمَا: «ومشطناها ثَلَاثَة قُرُون» . وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي «صَحِيحه» : «و (اجعلن) لَهَا ثَلَاثَة قُرُون» . وَهَذِه الرِّوَايَة وَالَّتِي قبلهَا ترد قَول القَاضِي عِيَاض وَمن (مَعَه) أَن ذَلِك من فعل أم عَطِيَّة، وَترْجم عَلَيْهِ ابْن حبَان ذكر الْبَيَان بِأَن أم عَطِيَّة إِنَّمَا مشطت قرنها بِأَمْر الْمُصْطَفَى (لَا من تِلْقَاء نَفسهَا.
فَائِدَة: مَعْنَى «إِن رأيتن ذَلِك» : إِن احتجتن للزِّيَادَة.
والحقو - بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا - الْإِزَار. قَالَه الْخطابِيّ. قَالَ الْهَرَوِيّ: الأَصْل فِي الحقو: معقد الْإِزَار، ثمَّ قيل للإزار: حقو؛ لِأَنَّهُ يشد عَلَى الحقو.(5/206)
ومعني «أشعرنها إِيَّاه» : اجعلنه مِمَّا يَلِي جَسدهَا.
(الحَدِيث السَّادِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأم عَطِيَّة - وَكَانَت من غاسلات ابْنَته -: واجعلن فِي الْأَخِيرَة كافورًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سقناه أَيْضا بِلَفْظِهِ) .
الحَدِيث (السَّابِع) عشر
(رُوِيَ) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعَائِشَة: «لَو مت قبلي لغسلتك وكفنتك» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد، والدارمي، وَابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «رَجَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من البقيع، وَأَنا أجد صداعًا فِي رَأْسِي وَأَقُول: وارأساه! فَقَالَ: بل أَنا يَا عَائِشَة وارأساه. ثمَّ قَالَ: مَا ضرك لَو مت قبلي فَقُمْت عَلَيْك فغسلتك وكفنتك، وَصليت عَلَيْك ودفنتك. قلت: لكَأَنِّي بك وَالله لَو فعلت ذَلِك، لقد رجعت إِلَى بَيْتِي فأعرست فِيهِ بِبَعْض نِسَائِك. فَتَبَسَّمَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ بَدَأَ فِي وَجَعه الَّذِي مَاتَ فِيهِ» . وَفِي سَنَده عنعنة(5/207)
ابْن إِسْحَاق، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب تَحْرِيم قَتْل مَا لَهُ روح: الْحفاظ يتوقون مَا ينْفَرد بِهِ.
قلت: وَأما ابْن حبَان فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» بعنعنته عَلَى عَادَته فِي الِاحْتِجَاج بِهِ مُطلقًا، وَذكره فِي «ثقاته» ، وَلم ينْفَرد بِهِ ابْن إِسْحَاق، بل تَابعه عَلَيْهِ صَالح بن كيسَان، كَمَا أخرجه الإِمَام أَحْمد وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه الْكُبْرَى» فِي رِوَايَة حَمْزَة فِي بَاب: بَدْء علته عَلَيْهِ السَّلَام، قبل الْأَيْمَان وَالنُّذُور، وَلَفظه فِيهَا: «فهيأتك، ودفنتك ... » الحَدِيث. وَصَالح هَذَا هُوَ الإِمَام الثِّقَة من غير ريب، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : لم يقل: «غسلتك» إِلَّا ابْن إِسْحَاق، ثمَّ أجَاب عَمَّن طعن فِيهِ. وَرَوَاهُ البُخَارِيّ بِلَفْظ: «قلت: وارأساه. فَقَالَ: ذَلِك لَو كَانَ وَأَنا حَيّ؛ فأستغفر لَك وأدعو لَك» .(5/208)
تَنْبِيهَانِ:
أَحدهمَا: وَقع فِي «الرَّافِعِيّ» و «الْمُهَذّب» : «لغسلتك» بِاللَّامِ، وَالَّذِي فِي كتب الحَدِيث بِالْفَاءِ.
ثَانِيهمَا: «البقيع» بِالْبَاء (الْمُوَحدَة) فِي أَوله، وَهُوَ بَقِيع الْغَرْقَد: مدفن أهل الْمَدِينَة. و «مت» : بِضَم الْمِيم وَكسرهَا.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
«أَن رجلا كَانَ مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فوقصته نَاقَته وَهُوَ محرم فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اغسلوه بِمَاء وَسدر، وكفنوه فِي ثوبيه، وَلَا تمسوه بِطيب، وَلَا تخمروا رَأسه، فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيًا» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «بَيْنَمَا رجل وَاقِف مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِعَرَفَة، إِذْ وَقع من رَاحِلَته، فأقصعته - أَو قَالَ: فأوقصته - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اغسلوه بِمَاء وَسدر، وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تحنطوه، وَلَا تخمروا رَأسه؛ فَإِن الله يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة ملبيًا» . وَفِي لفظ لَهما: «ملبدًا» وَفِي لفظ لَهما: «وَلَا تمسُّوه طيبا» وَفِي لفظ لَهما: «وكفنوه فِي ثوبيه» وَفِي(5/209)
لفظ لمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان: «وَلَا تخمروا وَجهه وَلَا رَأسه» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ذكر الْوَجْه وهم من بعض رُوَاته فِي الْإِسْنَاد، والمتن [جَمِيعًا و] الصَّحِيح: «لَا تغطوا رَأسه» . كَذَا أخرجه البُخَارِيّ، وَذكر الْوَجْه فِيهِ غَرِيب. وللنسائي: «اغسلوا الْمحرم فِي ثوبيه اللَّذين أحرم فيهمَا، واغسلوه (فيهمَا) بِمَاء وَسدر، وكفنوه فِي ثوبيه، وَلَا تمسوه بِطيب، وَلَا تخمروا رَأسه؛ فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيًا» .
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خير ثيابكم الْبيَاض، فاكسوها أحياءكم، وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم» .
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي كتاب الْجُمُعَة وَاضحا.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب سحُولِيَّة من كُرْسُف بيض، لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة» .(5/210)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، زَاد مُسلم: «أما الْحلَّة فَإِنَّمَا يشْتَبه عَلَى النَّاس فِيهَا، إِنَّمَا اشْتريت لَهُ ليكفن فِيهَا، فَتركت وكفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض سحُولِيَّة، فَأَخذهَا عبد الله بن أبي بكر فَقَالَ: لأحبسنها حَتَّى أكفن فِيهَا نَفسِي ثمَّ قَالَ: وَالله لَو رضيها الله - عَزَّ وَجَلَّ - لنَبيه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لكفنه فِيهَا فَبَاعَهَا وَتصدق بِثمنِهَا» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أدرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حلَّة يَمَانِية كَانَت لعبد الله بن أبي بكر، ثمَّ نزعت عَنهُ وكفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب سحُولِيَّة يَمَانِية لَيْسَ فِيهَا عِمَامَة وَلَا قَمِيص» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَفِي رِوَايَة لَيست بمحفوظة فِي هَذَا الحَدِيث: «وَنصب عَلَيْهِ اللَّبن» . وَاعْلَم أَنه ورد فِي كفن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رِوَايَات مُخْتَلفَة وَهَذِه أَصَحهَا:
فَمِنْهَا: عَن عَائِشَة: «كفن عَلَيْهِ السَّلَام فِي ثَلَاثَة أَثوَاب، أَحدهَا برد أَحْمَر» . وَهُوَ مُخَالف لما فِي «الصَّحِيح» كَمَا سقناه آنِفا، مَعَ أَن فِي سَنَده عبد الله بن بشر (بن نَبهَان) الرقي، وَقد اخْتلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ، قَالَ الدَّارمِيّ: لَيْسَ بِذَاكَ. وَوَثَّقَهُ ابْن معِين، وَذكره ابْن حبَان فِي «الضُّعَفَاء» و «الثِّقَات» ، وَقَالَ ابْن عدي: أَحَادِيثه عِنْدِي مُسْتَقِيمَة. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا بَأْس بِهِ.(5/211)
وَمِنْهَا: عَن أبي هُرَيْرَة: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما كفن (زر) عَلَيْهِ (قَمِيصه) » . وَهُوَ حَدِيث مُنكر؛ رَوَاهُ أَحْمد بن عبيد بن نَاصح، عَن الْأَصْمَعِي، عَن مُحَمَّد بن عون عَنهُ بِهِ، وَأحمد هَذَا لَيْسَ بِحجَّة، والأصمعي فِيهِ مقَال، قَالَ (أَبُو) دَاوُد: صَدُوق. وَقَالَ ابْن معِين: لم يكن مِمَّن يكذب. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: ضَعِيف. وسَاق لَهُ هَذَا الحَدِيث.
وَمِنْهَا: عَن ابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كفن فِي قطيفة حَمْرَاء» . وَهُوَ بَاطِل، رَوَاهُ ابْن عدي، وَكَأن الرَّاوِي تصحف عَلَيْهِ «دُفن» ب «كُفِّن» ، وَفِي سَنَده مُحَمَّد بن مُصعب القرقساني، وَهُوَ مُخْتَلف فِي ضعفه، وقبِلَهُ الإِمَام أَحْمد.
وَمِنْهَا: عَن (أبي) إِسْحَاق قَالَ: « (سَأَلت) آل مُحَمَّد وَفِيهِمْ ابْن نَوْفَل: فِي أَي شَيْء كفن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ فَقَالُوا: فِي حلَّة حَمْرَاء، لَيْسَ فِيهَا قَمِيص، وَجعل تَحت لحده سحق قطيفة كَانَت لَهُم» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن مُحَمَّد بن عبد الله (الْحَضْرَمِيّ) ،(5/212)
نَا أَبُو كريب، نَا يَحْيَى بن آدم، عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة، عَن أبي إِسْحَاق بِهِ، وَهَذَا إِسْنَاد جيد. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث عبيد الله بن مُوسَى، ثَنَا إِسْرَائِيل، عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: «أتيت (حَلقَة) بني عبد الْمطلب فَسَأَلت أَشْيَاخهم: فِي كم كفن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالُوا: فِي ثَوْبَيْنِ أحمرين، لَيْسَ فيهمَا قَمِيص» . وَهَذَا الْإِسْنَاد جيد أَيْضا، لَكِن عبيد الله بن مُوسَى الْعَبْسِي كرهه بعض الْحفاظ لفرْط تشيعه، وَإِسْرَائِيل وَثَّقَهُ أَحْمد وَالنَّاس، لَكِن ضعفه ابْن الْمَدِينِيّ، وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: فِي حَدِيثه لين.
وَمِنْهَا: عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «كفن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي ثَلَاثَة أَثوَاب نجرانية: الْحلَّة، وقميصه الَّذِي مَاتَ فِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه كَذَلِك، وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ: «كفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب: فِي قَمِيصه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وحلة نجرانية. الْحلَّة ثَوْبَان» . وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف؛ لأجل يزِيد بن (أبي) زِيَاد الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده فَإِنَّهُ تفرد بِهِ، وَلَا يحْتَج بِهِ لضَعْفه، لَا سِيمَا وَقد خَالف رِوَايَة الثِّقَات فِيهَا وَحَدِيث عَائِشَة الَّتِي نفت(5/213)
الْقَمِيص عَنهُ، وَلَو صَحَّ فتأويله مَا سلف عَن عَائِشَة أَنَّهَا (اشترت) الْحلَّة (لَهُ) فَلم يُكفن فِيهَا، قَالَ ابْن أبي صفرَة: قَول عَائِشَة: «لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة» يدل عَلَى أَن الْقَمِيص الَّذِي غسل فِيهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نزع عَنهُ حِين كفن؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قيل: «لَا تنزعوا الْقَمِيص» - أَي: فِي حَدِيث بُرَيْدَة السالف فِي الحَدِيث الْعَاشِر - (ليستره) وَلَا يكْشف جسده، فَلَمَّا ستر بالكفن استغني عَن الْقَمِيص، وَلَو لم ينْزع الْقَمِيص حِين كفن لخرج عَن حد الْوتر الَّذِي أَمر بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام، إشعارًا للتوحيد، وَكَانَت تكون أَرْبَعَة بِالثَّوْبِ المبلول، ويستبشع أَن يُكفن عَلَى قَمِيص مبلول. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَلِأَن فِيهِ إفسادًا للأكفان. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا الحَدِيث لَا يَصح لأمور: مِنْهَا: ضعف يزِيد. وَمِنْهَا: أَن عَائِشَة أعلم بذلك.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا قد أخْبرت عَن سَبَب اشْتِبَاه ذَلِك - كَمَا تقدم - قَالَ الْحَاكِم: وَكَيف يجوز أَن يَصح مثل هَذَا الحَدِيث وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار عَن عليٍّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَجَابِر وَعبد الله بن مُغفل وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم فِي تكفين النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة.
وَمِنْهَا: عَن ابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كفن فِي ثَوْبَيْنِ أبيضين، وَفِي برد أَحْمَر» . رَوَاهُ أَحْمد عَن الْحجَّاج، حَدثنِي الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ، وَالْحجاج هُوَ ابْن أَرْطَاة، وَقد سلف حَاله، وَالْحكم لم يسمع من مقسم إِلَّا أَرْبَعَة أَحَادِيث.(5/214)
وَمِنْهَا: عَن الْفضل بن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كفن فِي ثَوْبَيْنِ سَحُولِيَّيْنِ» . رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث يَعْقُوب بن عَطاء، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس، (عَن الْفضل بن عَبَّاس) وَيَعْقُوب هَذَا ضَعَّفُوهُ.
وَمِنْهَا: عَن أبي هُرَيْرَة: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كفن فِي ثوب نجراني و (ريطتين) » . رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» .
وَمِنْهَا: عَن عليٍّ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كفن فِي سَبْعَة أَثوَاب» . رَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ابْن عقيل، عَن مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة، عَن عليٍّ بِهِ، ثمَّ قَالَ: لَا نعلم أحدا تَابع ابْن عقيل عَلَى رِوَايَته هَذِه، وَلَا (نعلم أحدا) رَوَاهُ عَن ابْن عقيل بِهَذَا الْإِسْنَاد إِلَّا حَمَّاد، وَأعله ابْن طَاهِر فِي «تَذكرته» بِابْن عقيل، وَهُوَ حَدِيث مُنكر، وَإِن أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» وَلما أخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة وَصَححهُ، قَالَ: قد رُوِيَ فِي كفن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رِوَايَات مُخْتَلفَة، وَحَدِيث عَائِشَة أصح الْأَحَادِيث الَّتِي رويت فِي كَفنه (.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
«أَن مُصعب بن عُمَيْر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قتل يَوْم أحد، فَلم يخلف إِلَّا نمرة، فَكَانَ(5/215)
إِذا غطي بهَا رَأسه بَدَت رِجْلَاهُ، وَإِذا غطي بهَا رِجْلَاهُ بدا رَأسه، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: غطوا بهَا رَأسه وَاجْعَلُوا عَلَى رجلَيْهِ من الْإِذْخر» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث خباب بن الْأَرَت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «هاجرنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نلتمس وَجه الله - عَزَّ وَجَلَّ - فَوَقع أجرنا عَلَى الله؛ فمنا من مَاتَ لم يَأْكُل من أجره شَيْئا، مِنْهُم مُصعب بن عُمَيْر قتل يَوْم أحد، فَلم نجد مَا نكفنه بِهِ إِلَّا بردة، إِذا غطينا بهَا رَأسه خرجت رِجْلَاهُ، وَإِذا غطينا بهَا رجلَيْهِ خرج رَأسه، فَأمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نغطي رَأسه ونجعل عَلَى رجلَيْهِ من الْإِذْخر» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «فَلم يُوجد لَهُ شَيْء يُكفن فِيهِ إِلَّا نمرة ... » وَالْبَاقِي مثله.
فَائِدَة: الْإِذْخر - بِكَسْر الْهمزَة وَالْخَاء -: نبت طيب الرَّائِحَة. والنَّمِرة - بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم -: ضرب من الأكسية، وَقيل: شملة مخططة من صوف، وَقيل: فِيهَا أَمْثَال الْأَهِلّة.
وَمصْعَب بن عُمَيْر من فضلاء الصَّحَابَة والسابقين إِلَى الْإِسْلَام. وَيَوْم أحد كَانَ فِي شَوَّال سنة ثَلَاث، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «الرَّوْضَة» : وَكَانَت يَوْم السبت (سَابِع شَوَّال. وَخَالف فِي «التَّهْذِيب» و «شرح الْمُهَذّب» فَقَالَ: كَانَت يَوْم السبت) لإحدى عشرَة خلت مِنْهُ،(5/216)
وسنتعرض لذَلِك فِي كتاب السّير؛ حَيْثُ تعرض الرَّافِعِيّ لَهُ - (إِن شَاءَ الله) .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تغَالوا فِي الْكَفَن؛ فَإِنَّهُ يسلب سلبًا سَرِيعا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من رِوَايَة الشّعبِيّ عَن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِهِ سَوَاء، وَلم يُضعفهُ، وَسَمَاع (الشّعبِيّ من عليٍّ مُخْتَلف فِيهِ، وَفِيه مَعَ ذَلِك عَمْرو بن هَاشم الْجَنبي وَثَّقَهُ) ابْن معِين وَغَيره، وَضَعفه مُسلم، ووهاه ابْن حبَان، وَقَالَ خَ: فِيهِ نظر عَن أبي إِسْحَاق. وَقَالَ أَحْمد: هُوَ صَدُوق، لكنه لم يكن صَاحب حَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لين الحَدِيث، يكْتب حَدِيثه. وَأما ابْن الْقطَّان وَالْمُنْذِرِي وَالنَّوَوِيّ فَإِنَّهُم قَالُوا: إِنَّه حَدِيث حسن. وَجزم عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِأَن الشّعبِيّ رَأَى عليًّا، وَتعقبه ابْن الْقطَّان فَقَالَ: فِيهِ نظر، وَقد قيل للدارقطني: سمع الشّعبِيّ من عليٍّ؟ قَالَ: سمع مِنْهُ حرفا، مَا سمع مِنْهُ غير هَذَا. ثمَّ بسط الْكَلَام فِي ذَلِك، وَقَالَ فِي آخِره: إِن سَمَاعه مِنْهُ مُخْتَلف فِيهِ. وَجزم(5/217)
الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب بِسَمَاعِهِ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو أَحْمد الْكَرَابِيسِي: (رَآهُ) .
فَائِدَة: تغَالوا: بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَرَأَيْت بِخَط بَعضهم أَنه بإهمالها أَيْضا. وَقَوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: « (فَإِنَّهُ) يسلب سلبًا سَرِيعا» أَي: ينْزع عَنهُ، فيبدل مِنْهُ، إِمَّا خيرا (مِنْهُ) إِن كَانَ من أهل الْخَيْر، (وَإِمَّا) شرًّا إِن كَانَ من أهل الشَّرّ، أَو لِأَنَّهَا تتمزق من الْمهل والصديد. قَالَه صَاحب «المستعذب عَلَى الْمُهَذّب» .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
«أَن أم عَطِيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها لما غسلت أم كُلْثُوم بنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَالِسا عَلَى الْبَاب؛ فناولها إزارًا وَدِرْعًا وخمارًا وثوبين» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَهُوَ فِي «مُسْنده» عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن ابْن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنِي نوح بن حَكِيم الثَّقَفِيّ، وَكَانَ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ(5/218)
عَن رجل من بني عُرْوَة بن مَسْعُود (يُقَال) لَهُ: دَاوُد - قد وَلدته أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان زوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن لَيْلَى بنت قانف - بنُون ثمَّ فَاء - الثقفية الصحابية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كنت فِيمَن غسل أم كُلْثُوم بنت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (وَكَانَ) أول مَا أَعْطَانَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الحقا، ثمَّ الدرْع، ثمَّ الْخمار، ثمَّ الملحفة، ثمَّ أدرجت بعد فِي الثَّوْب الآخر، وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَالس عِنْد الْبَاب مَعَه كفنها، يناولنا ثوبا ثوبا» . لم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد، فَهُوَ صَالح للاحتجاج بِهِ عِنْده، وَأما ابْن الْقطَّان: فَإِنَّهُ أعله بِأَن قَالَ: ابْن إِسْحَاق (لَا) يُقَال لما يرويهِ: حسن إِذا لم يكن لما يرويهِ عِلّة غَيره، فَأَما هَذَا فَإِن نوح بن حَكِيم؛ رجل مَجْهُول الْحَال، وَلم تثبت عَدَالَته بِكَوْنِهِ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ، فَمَا كل قَارِئ مرضِي، وَأما هَذَا الرجل الثَّقَفِيّ الَّذِي يُقَال لَهُ «دَاوُد» (فنحدس فِيهِ حدس) لَا يقطع النزاع، وَلَا يدْخلهُ فِي بَاب من يقبل حَدِيثه، وَذَلِكَ أَن هُنَاكَ دَاوُد بن أبي عَاصِم بن عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، وَهُوَ رجل مَعْرُوف، يروي عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وجماعات، وهومكي ثِقَة. قَالَه أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ، وَلَا نجزم القَوْل بِأَنَّهُ هُوَ، وَمُوجب التَّوَقُّف فِي (ذَلِك هُوَ أَنه) الَّذِي وصف فِي الْإِسْنَاد بِأَنَّهُ(5/219)
قد وَلدته أم حَبِيبَة، وَأم حَبِيبَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها إِنَّمَا كَانَت لَهَا بنت وَاحِدَة قدمت بهَا من أَرض الْحَبَشَة، كَانَت ولدتها من زَوجهَا عبيد الله بن جحش، وَاسم هَذِه الْبِنْت حَبِيبَة، فَلَو كَانَ زوج حَبِيبَة هَذِه هُوَ عَاصِم بن عُرْوَة بن مَسْعُود أمكن أَن يُقَال: إِن «دَاوُد» الْمَذْكُور ابْنه مِنْهَا، فَهُوَ حفيد لأم حَبِيبَة، وَهَذَا لَا نقل بِهِ، وَلَا (تحقق) لَهُ، بل الْمَنْقُول خِلَافه، وَهُوَ أَن زوج حَبِيبَة هَذِه دَاوُد بن عُرْوَة بن مَسْعُود، كَذَا قَالَ أَبُو عَلّي بن السكن وَغَيره، فداود الَّذِي لأم حَبِيبَة عَلَيْهِ ولادَة لَيْسَ دَاوُد بن أبي عَاصِم بن عُرْوَة بن مَسْعُود، إِذْ لَيْسَ أَبُو عَاصِم زوجا لحبيبة، وَلَا هُوَ بِدَاوُد بن عُرْوَة بن مَسْعُود، (الَّذِي هُوَ) زوج حَبِيبَة؛ فَإِنَّهُ لَا ولادَة لأم حَبِيبَة عَلَيْهِ؛ فَالله أعلم من هُوَ، فَالْحَدِيث من أَجله ضَعِيف، هَذَا آخر كَلَامه.
ونوح الَّذِي ادَّعَى جهالته ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَجعل دَاوُد الْمَذْكُور هُوَ ابْن أبي عَاصِم الثِّقَة، وَتَبعهُ الْمزي، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث إِسْنَاده حسن، إِلَّا رجلا وَاحِدًا لَا أتحقق حَاله، وَقد سكت عَنهُ أَبُو دَاوُد فَلم يُضعفهُ، وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ نوح بن (حَكِيم) ، وَقد علمت حَاله، وَجزم فِي «خلاصته» بِأَن إِسْنَاده(5/220)
حسن، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصر السّنَن» : هَذَا حَدِيث غَرِيب. ثمَّ قَالَ: فِيهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَفِيه مقَال، وَأكْثر مَا عابوا عَلَيْهِ التَّدْلِيس، وَقد صرح فِي هَذَا الحَدِيث بِالتَّحْدِيثِ، (فيحتج) بِهِ وَيكون حسنا. وَقَالَ ابْن عَسَاكِر أَيْضا فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الْمُهَذّب» : هَذَا حَدِيث غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
فَائِدَة: الحقا: بِكَسْر الْحَاء، وَتَخْفِيف الْقَاف، مَقْصُور، كَذَا وَقع فِي الرِّوَايَة، قَالَ الشَّيْخ زكي (الدَّين) : ولعلها تكون لُغَة فِي الحِقْو. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : (الحقا) : يُقَال لَهُ: الحقْو، بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا، وَهُوَ الْإِزَار والمئزر.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حمل جَنَازَة سعد بن معَاذ بَين العمودين» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَن بعض أَصْحَابه، فَقَالَ كَمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَن الرّبيع عَنهُ: قَالَ قَائِل: لَا يحمل بَين العمودين هَذَا عندنَا مستنكر، فَلم يرض أَن جهل مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن (يَنْقُلهُ) ، حَتَّى عَابَ قَول من قَالَ بِفعل هَذَا، قَالَ(5/221)
الشَّافِعِي: وَقد رَوَاهُ بعض أَصْحَابنَا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه حمل فِي جَنَازَة سعد بن معَاذ بَين العمودين» . وروينا عَن بعض أَصْحَابه (أَنهم فعلوا ذَلِك، وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: وروينا ثبتًا عَن بعض أَصْحَابه) دون مَا رُوِيَ فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَنا إِبْرَاهِيم بن سعد، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «رَأَيْت سعد بن أبي وَقاص فِي جَنَازَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَائِما بَين العمودين المقدمين، وَاضِعا السرير عَلَى كَاهِله» . وَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط (الصَّحِيحَيْنِ) . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَنقل حمل الْجِنَازَة أَيْضا عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد عَرفته من فعل سعد، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي من فعل عُثْمَان، وَأبي هُرَيْرَة، وَابْن الزبير، وَقد ذكرته بأسانيده إِلَيْهِم فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب، فَرَاجعه مِنْهُ، وَرَوَاهُ أَيْضا من فعل [ابْن] عمر، فَقَالَ: أبنا بعض أَصْحَابنَا عَن ابْن جريج، عَن يُوسُف بن مَاهك «أَنه رَأَى ابْن عمر فِي جَنَازَة رَافع - يَعْنِي ابْن خديج - قَائِما بَين قائمتي السرير» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث هِشَام بن عمار، ثَنَا معن، ثَنَا هَارُون مولَى قُرَيْش قَالَ: «رَأَيْت الْمطلب بَين عمودي سَرِير جَابر بن عبد الله» . قَالَ يَعْقُوب: كَانَ عندنَا خَارِجَة، فَقَالَ هِشَام: جَابر. وَرَوَى أَيْضا بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن مَاهك قَالَ: «شهِدت جَنَازَة رَافع بن خديج، وفيهَا ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، فَانْطَلق ابْن عمر حَتَّى أَخذ بِمقدم السرير بَين القائمتين، فَوَضعه عَلَى كَاهِله، ثمَّ مَشَى بهَا» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي(5/222)
«الْمعرفَة» : وَرَوَى الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم حَدِيث ابْن عمر عَن حَمَّاد بن مدرك، عَن ابْن جريج. وَيذكر عَن يَحْيَى بن عبد الله «أَن أُسيد بن حضير مَاتَ، ويكنى أَبَا يَحْيَى، وَحمله عمر بَين عمودي السرير حَتَّى وَضعه» .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
عَن ابْن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «إِذا تبع أحدكُم الْجِنَازَة فليأخذ بجوانب (السرير) الْأَرْبَعَة ثمَّ ليتطوع بعد أَو ليذر؛ فَإِنَّهُ من السّنة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي «مُسْنده» ، وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من رِوَايَة أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود، عَن أَبِيه قَالَ: «من اتبع جَنَازَة فليحمل بجوانب السرير كلهَا؛ فَإِنَّهُ من السّنة، ثمَّ إِن شَاءَ فليتطوع، وَإِن شَاءَ فَليدع» . وَهَذَا لفظ ابْن مَاجَه، وَلَفظ (الْأَوَّلين) مَا سلف، وَلم يُضعفهُ الْبَيْهَقِيّ، وَهُوَ مُنْقَطع؛ لِأَن أَبَا عُبَيْدَة لم يدْرك أَبَاهُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْدِي، قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث اخْتلف فِي إِسْنَاده؛ فَقيل: عَن(5/223)
عبيد بن نسطاس، عَن أبي عُبَيْدَة، رَوَاهُ كَذَلِك مَنْصُور، وحدَّث بِهِ عَنهُ جمَاعَة. وَخَالفهُم أَبُو حنيفَة رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فَرَوَاهُ عَن مَنْصُور وَوهم فِي إِسْنَاده، جعله عَن سَالم بن أبي الْجَعْد، عَن عبيد بن نسطاس، عَن ابْن مَسْعُود، وَأسْقط أَبَا عُبَيْدَة، وَالصَّحِيح: عَن مَنْصُور عَن عبيد بِهِ. وَقيل: عَن مَنْصُور، عَن قيس بن السكن، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن أَبِيه. وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن عبد الرَّحْمَن بن عبيد بن نسطاس، عَن أَبِيه، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن أَبِيه. قلت: وَفِي «مُصَنف بن أبي شيبَة» : (ثَنَا يَحْيَى بن سعيد، عَن ثَوْر، عَن عَامر بن جشيب وَغَيره من أهل الشَّام) قَالُوا: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: «من تَمام أجر الْجِنَازَة أَن يشيعها من أَهلهَا، وَأَن يحمل بأركانها الْأَرْبَعَة، وَأَن يحثو فِي الْقَبْر» وَهَذَا إِسْنَاد جيد. وَقد جَاءَ فِي فضل من حمل السرير عَلَى هَذِه الْحَالة حَدِيث ثَوْبَان الْمَرْفُوع: «من اتبع جَنَازَة فَأخذ بجوانب السرير الْأَرْبَع غفر لَهُ أَرْبَعُونَ ذَنبا كلهَا من الْكَبَائِر» . وَحَدِيث أنس الْمَرْفُوع: «من حمل قَوَائِم السرير الْأَرْبَع إِيمَانًا واحتسابًا (حط) الله - عَزَّ وَجَلَّ - عَنهُ أَرْبَعِينَ كَبِيرَة» . وَلَا يصحان، فِي الأول سوار بن مُصعب الْهَمدَانِي الْمَتْرُوك، وَفِي الثَّانِي: عَلّي بن أبي سارة الشَّيْبَانِيّ؛ وَهُوَ مَتْرُوك أَيْضا؛ لَا جرم ذكرهمَا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» .(5/224)
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَبا بكر وَعمر يَمْشُونَ أَمَام الْجِنَازَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة الزُّهْرِيّ، عَن سَالم عَن أَبِيه بِهِ. وَفِي رِوَايَة للشَّافِعِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ زِيَادَة: «وَعُثْمَان» . وَرُوِيَ مُرْسلا عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَأهل الحَدِيث يرَوْنَ أَنه أصح. قَالَه ابْن الْمُبَارك، وَقَالَ النَّسَائِيّ: الصَّوَاب مُرْسل، وَوَصله خطأ. وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة: يَا أَبَا مُحَمَّد، خالفك النَّاس فِي هَذَا الحَدِيث. فَقَالَ سُفْيَان: استيقن الزُّهْرِيّ، حَدثنِي مرَارًا لست أحصيه، سَمِعت من فِيهِ يُعِيدهُ ويبديه(5/225)
عَن سَالم، عَن أَبِيه. وَلما رَوَى الطَّبَرَانِيّ: عَن ابْن الإِمَام أَحْمد، عَن أَبِيه، عَن حجاج بن مُحَمَّد، عَن ابْن جريج، عَن زِيَاد بن سعد، عَن الزُّهْرِيّ، حَدثنِي سَالم، عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يمشي بَين يَدي الْجِنَازَة» . وَبِه «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَبُو بكر وَعمر يَمْشُونَ أمامها» (قَالَ عبد الله) قَالَ أبي - يَعْنِي: أَحْمد -: هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ عَن الزُّهْرِيّ مُرْسل، وَحَدِيث سَالم فِعْلُ ابْن عمر، وَحَدِيث ابْن عُيَيْنَة كَأَنَّهُ وهم. (وَاخْتَارَ الْبَيْهَقِيّ تَرْجِيح الْوَصْل؛ لِأَن الَّذِي وَصله سُفْيَان وَهُوَ ثِقَة حَافظ إِمَام، وَقد أَتَى بِزِيَادَة عَلَى من أرسل، فَوَجَبَ تَقْدِيم قَوْله، وتابع ابْن عُيَيْنَة عَلَى رَفعه ابنُ جريج وَزِيَاد بن سعد وَمَنْصُور وَبكر وَغير وَاحِد) وَاخْتَارَ ذَلِك ابْن حبَان قبله، فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» كَمَا تقدم، ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن سُفْيَان لم يسمع هَذَا الْخَبَر من الزُّهْرِيّ. ثمَّ أخرجه من حَدِيث الْحميدِي، نَا سُفْيَان، نَا الزُّهْرِيّ - غير مرّة أشهد لَك عَلَيْهِ - قَالَ: أَخْبرنِي سَالم، عَن أَبِيه قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَبا بكر وَعمر يَمْشُونَ أَمَام الْجِنَازَة» فَقيل لِسُفْيَان: فِيهِ «وَعُثْمَان» ؟ قَالَ: لَا أحفظه. قيل لَهُ: فَإِن بعض النَّاس لَا يَقُوله إِلَّا عَن سَالم. فَقَالَ: حدّثنَاهُ الزُّهْرِيّ أشهد لَك عَلَيْهِ. وَقيل لَهُ: كَانَ ابْن جريج يَقُوله كَمَا تَقوله وَيزِيد فِيهِ «عُثْمَان» قَالَ سُفْيَان: لم أسمعهُ ذكر «عُثْمَان» .(5/226)
ثمَّ قَالَ ابْن حبَان: ذكر الْخَبَر المدحض (قَول) من زعم أَن هَذَا الْخَبَر أَخطَأ فِيهِ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، ثمَّ أخرجه من حَدِيث شُعَيْب بن أبي حَمْزَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم: «أَن عبد الله بن عمر كَانَ يمشي بَين يَديهَا، وَأَبا بكر وَعمر وَعُثْمَان» . قَالَ الزُّهْرِيّ: وَكَذَلِكَ السّنة. وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» اخْتِلَافا كثيرا فِي هَذَا الحَدِيث. وَمن ذَلِك: رِوَايَة شُعَيْب بن حَمْزَة وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ، ثمَّ قَالَ: وَالصَّحِيح عَن الزُّهْرِيّ قَول من قَالَ: عَن سَالم، عَن أَبِيه: «أَنه كَانَ يمشي، وَقد مَشَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَبُو بكر وعمرُ» . قَالَ: وَرُوِيَ عَن شريك، عَن خَالِد بن ذُؤَيْب، عَن الزُّهْرِيّ: «رَأَيْت ابْن عمر (يمشي) أَمَام الْجِنَازَة» . قَالَ: وَالزهْرِيّ وَإِن كَانَ لَقِي ابْن عمر فَإِن هَذَا القَوْل وهم؛ لِأَن الْحفاظ رَوَوْهُ عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم «أَنه رَأَى ابْن عمر ... » وَهُوَ الصَّوَاب. وَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث أنس كَحَدِيث ابْن عمر، قَالَ البُخَارِيّ: وَهِي خطأ، ومرسلا أصح. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ آثارًا كَثِيرَة عَن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم فِي الْمَشْي أمامها، ثمَّ ذكر بَابا فِي الْمَشْي خلفهَا، أَحَادِيث كلهَا ضَعِيفَة، ثمَّ قَالَ: الْآثَار فِي الْمَشْي أمامها أَكثر و (أصح) .(5/227)
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
عَن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «قَامَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْجِنَازَة حَتَّى تُوضَع، وَقَامَ النَّاس مَعَه، ثمَّ قعد بعد ذَلِك وَأمرهمْ بالقعود» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِمَعْنَاهُ، وَهَذَا لَفظه: «قَامَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَعْنِي فِي الْجِنَازَة - ثمَّ قعد» . وَفِي لفظ لَهُ: «قَامَ فقمنا، ثمَّ قعد فَقَعَدْنَا» وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم (بن حبَان) فِي «صَحِيحه» بلفظين: أَحدهمَا: «قَامَ عَلَى الْجَنَائِز حَتَّى تُوضع، (ثمَّ قعد» . وَثَانِيهمَا: «كَانَ يَأْمُرنَا بِالْقيامِ فِي الْجَنَائِز، ثمَّ جلس بعد ذَلِك وأمرنا بِالْجُلُوسِ» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طرق، فِي بَعْضهَا كَرِوَايَة مُسلم، وَفِي بَعْضهَا كَمَا فِي «الرَّافِعِيّ» بِحُرُوفِهِ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَامَ مَعَ الْجِنَازَة حَتَّى تُوضَع) ، وَقَامَ النَّاس مَعَه، ثمَّ قعد، وَأمرهمْ بالقعود» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَن عليًّا رَأَى نَاسا قيَاما ينتظرون الْجِنَازَة أَن تُوضَع، فَأَشَارَ إِلَيْهِم بدرة مَعَه أَو سَوط أَن اجلسوا؛ فَإِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد جلس بَعْدَمَا كَانَ يقوم» وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» وَابْن مَاجَه(5/228)
وَالتِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي سَبَب الْقعُود قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقوم فِي الْجِنَازَة حَتَّى تُوضَع فِي اللَّحْد، فَمر حبر من الْيَهُود فَقَالَ: هَكَذَا نَفْعل. فَجَلَسَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ: اجلسوا؛ خالفوهم» . وَإسْنَاد هَذَا ضَعِيف؛ فِيهِ بشر بن رَافع - وَلَيْسَ بِحجَّة - عَن ابْن جُنَادَة، وَفِيه نظر كَمَا قَالَ البُخَارِيّ، وَقَالَ أَيْضا: هَذَا حَدِيث مُنكر، لم يُتَابع عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا أَدْرِي البلية من سُلَيْمَان بن جُنَادَة أَو من بشر. وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يحفظ ذكر الحبر إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد عَن عليٍّ قَالَ: «لم يقم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا مرّة، ثمَّ لم يعد» وإسنادها أَيْضا ضَعِيف، (و) قَالَ الشَّافِعِي (رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدِيث) عَلّي - (يَعْنِي) الَّذِي رَوَاهُ مُسلم - أصح شَيْء فِي هَذَا الْبَاب، وَهُوَ نَاسخ لحَدِيث عَامر بن ربيعَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَغَيرهمَا من الْأَحَادِيث الثَّابِتَة فِي «الصَّحِيحَيْنِ» «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر بِالْقيامِ لمن مرت بِهِ جَنَازَة حَتَّى تخلفه أَو تُوضَع، وَأمر من مَعهَا أَن لَا يقْعد عِنْد الْقَبْر حَتَّى تُوضَع» حَتَّى قَالَ سليم الرَّازِيّ والمحاملي وَغَيرهمَا من أَصْحَابنَا: يكره الْقيام لَهَا إِذا لم يُرد الْمَشْي مَعهَا. وَخَالف صَاحب «التَّتِمَّة» فِي ذَلِك وَقَالَ: يسْتَحبّ ذَلِك، وَهُوَ قوي، وَبِه صحت الْأَحَادِيث بِالْأَمر بِالْقيامِ، وَلم يثبت فِي الْقعُود إِلَّا حَدِيث عليٍّ السالف، وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي النّسخ،(5/229)
بل لَيْسَ فِيهِ نسخ؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل الْقعُود لبَيَان الْجَوَاز، وَهَذَا اخْتَارَهُ من الْمُتَأَخِّرين النَّوَوِيّ، وَمن الْحَنَابِلَة ابْن عقيل. ثمَّ ذكر من حَدِيث عليٍّ وَعبادَة مَا يشْهد لذَلِك، (وَلذَلِك) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «إِعْلَامه» : حَدِيث (عَلّي) مُحْتَمل النّسخ، إِلَّا أَن قَوْله فِي حَدِيث سَخْبَرَة: «مَا فعل ذَلِك إِلَّا مرّة فَلَمَّا نهي انْتَهَى» صَرِيح فِي النّسخ. قلت: لَكِن فِي سَنَده لَيْث بن (أبي) سليم، وحالته وَكَلَام النَّاس فِيهِ مَعْلُوم سلف.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الْمَشْي بالجنازة، فَقَالَ: دون الخبب، فَإِن يَك خيرا عجلتموه إِلَيْهِ، وَإِن يَك شرًّا فبعدًا لأهل النَّار، الْجِنَازَة متبوعة، وَلَا تتبع، لَيْسَ (مَعهَا) من (يقدمهَا) » .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن عبد الله التَّمِيمِي عَن أبي ماجدة عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: «سَأَلنَا نَبينَا (عَن الْمَشْي مَعَ الْجِنَازَة، فَقَالَ: مَا دون الخبب، إِن يكن خيرا يُعجَّل إِلَيْهِ، وَإِن يكن غير ذَلِك فبعدًا لأهل النَّار، والجنازة متبوعة وَلَا تتبع، لَيْسَ مَعهَا من يقدمهَا» . هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «سَأَلنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْمَشْي خلف الْجِنَازَة، قَالَ: مَا دون الخبب، فَإِن كَانَ خيرا(5/230)
عجلتموه، وَإِن كَانَ شرًّا فَلَا يُبعد إِلَّا أهل النَّار ... » وَالْبَاقِي بِمثلِهِ. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه مُخْتَصرا بِلَفْظ: «الْجِنَازَة متبوعة» . وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث يَحْيَى الجابر أَو الْحَارِث التَّيْمِيّ عَن أبي ماجدة، وَهُوَ حَدِيث واه لأجل (يَحْيَى الجابر) و (أبي ماجدة) ، أما يَحْيَى فضعفوه، مِنْهُم أَحْمد وَيَحْيَى وَالْبُخَارِيّ، قَالَ أَحْمد: لَيْسَ بشيءِ؛ إِنَّمَا يحدث عَن أبي ماجدة، وَذَلِكَ غير مَعْرُوف. وَأما أَبُو ماجد وَيُقَال لَهُ: أَبُو ماجدة أَيْضا، واسْمه عَابِد بن نَضْلَة كَمَا قَالَه أَبُو حَاتِم، وَهُوَ حَنَفِيّ، وَيُقَال: عجلي؛ فمجهول مُنكر الحَدِيث، (قَالَ التِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَجْهُول. زَاد الدَّارَقُطْنِيّ: وَهُوَ مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن عدي: مُنكر الحَدِيث) رَوَى عَنهُ يَحْيَى الجابر إِن كَانَ حفظ عَنهُ، سَمِعت ابْن حَمَّاد يَقُوله عَن النَّسَائِيّ. وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد بعد أَن رَوَى هَذَا الحَدِيث فِي «كناه» : أرَى [أَبُو] ماجدة هَذَا غير أبي ماجدة الْحَنَفِيّ الَّذِي حَدِيثه لَيْسَ بالقائم، وَهَذَا قَول آخر فِي الْفرق بَينهمَا، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَسمعت البُخَارِيّ يضعِّفه، قَالَ مُحَمَّد: قَالَ ابْن عُيَيْنَة: قيل ليحيى: مَنْ أَبُو ماجدة؟ قَالَ: طَائِر طَار فحدثنا. وَفِي رِوَايَة عَن يَحْيَى: إِنَّه مُنكر الحَدِيث. قلت: وَفِي «تَارِيخ البُخَارِيّ» هَذِه الْحِكَايَة أَيْضا،(5/231)
لكنه قَالَ: «طَارِئ طَرَأَ علينا فحدثنا» بدل مَا ذكره التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يعرف حَاله. وَخَالف ابْن حبَان فَذكره فِي «الثِّقَات» من التَّابِعين، وَقَالَ: اسْمه عَلّي بن ماجدة، أَظُنهُ أَنا هُوَ. وَأخرج الْحَاكِم حَدِيثا لأبي ماجدة فِي الْحُدُود (من) «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف؛ يَحْيَى الجابر ضَعِيف، وَأَبُو ماجدة وَقيل: (أَبُو ماجد) مَجْهُول، وَفِيمَا مَضَى كِفَايَة. يُرِيد الحَدِيث الصَّحِيح الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (أَسْرعُوا بالجنازة، فَإِن تَكُ صَالِحَة فَخير تقدمونها عَلَيْهِ، وَإِن تَكُ سُوَى ذَلِك فشر تضعونه عَن رِقَابكُمْ» . وَسقط للْبُخَارِيّ: «عَلَيْهِ» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «قربتموها إِلَى الْخَيْر» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا اسْتهلّ السقط صلي عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من حَدِيث جَابر والمغيرة بن شُعْبَة، أما حَدِيث(5/232)
جَابر فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ، عَن أبي الزبير، (عَنهُ) مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة: «ووُرِّثَ» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث قد اضْطربَ النَّاس فِيهِ، فَرَوَاهُ بَعضهم عَن أبي الزبير عَن جَابر مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ أَشْعَث (بن) سوار وَغير وَاحِد، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَوْقُوفا، وَكَأن الْمَوْقُوف أصح. وَقَالَ النَّسَائِيّ: الْمَوْقُوف أولَى بِالصَّوَابِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : اخْتلف فِي رفع الحَدِيث عَلَى عَطاء، فرفعه عَنهُ ابْن الصَّباح، وَوَقفه مُحَمَّد بن إِسْحَاق؛ رَوَاهُ عَن عَطاء عَن جَابر قَوْله. وروُي عَن أبي الزبير عَن جَابر، أسْندهُ يَحْيَى بن أبي أنيسَة عَنهُ، وَوَقفه إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن أبي الزبير، عَن جَابر قَوْله، وروُي عَن شريك، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا، وَلَا يَصح ذَلِك، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: عِلّة هَذَا الحَدِيث أَن أَبَا الزبير عنعن فِيهِ عَن جَابر، وَلَيْسَ(5/233)
هُوَ من رِوَايَة اللَّيْث عَنهُ، وَفِيه مَعَ ذَلِك إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ وَهُوَ ضَعِيف جدًّا. ورده ابْن حزم بِأبي الزبير أَيْضا وَقَالَ: إِنَّه مُدَلّس. وَلم يذكر أَنه سَمعه من جَابر، وَذكره الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» هُنَا مَرْفُوعا مستشهدًا بِهِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. قلت: وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي كتاب الْفَرَائِض بِدُونِ إِسْمَاعِيل، (رَوَوْهُ فِي حَدِيث) سُفْيَان عَن، أبي الزبير، عَن جَابر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا اسْتهلّ الصَّبِي وُرِّث وَصلي عَلَيْهِ» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: (وَلم) أَجِدهُ من حَدِيث الثَّوْريّ، عَن أبي الزبير، عَن جَابر (مَوْقُوفا، فَكنت أحكمُ بِهِ. ثمَّ رَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث الْمُغيرَة بن مُسلم، عَن أبي الزبير، عَن جَابر) مَرْفُوعا: «إِذا اسْتهلّ الصَّبِي ورث، صلي عَلَيْهِ» . ثمَّ قَالَ: لَا أعلم أحدا رَفعه عَن أبي الزبير غير الْمُغيرَة، وَقد (أوقفهُ) ابْن جريج وَغَيره، وَقد(5/234)
كتبناه من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ عَن (جَابر) (مَرْفُوعا) فَذكره كَمَا سلف، وَاعْترض صَاحب «الْإِلْمَام» عَلَى الْحَاكِم فَقَالَ: أَبُو الزبير لَيْسَ من شَأْن البُخَارِيّ فِي الْأُصُول. وَأما حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة فَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي هَذَا الْبَاب، وَأحمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «الرَّاكِب يسير خلف الْجِنَازَة، والماشي عَن يَمِينهَا وشمالها قَرِيبا مِنْهَا، والسقط يصلَّى عَلَيْهِ ويدعى لوَالِديهِ بالعافية وَالرَّحْمَة» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَأقرهُ عَلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي آخر كِتَابه «الاقتراح» قَالَ الْحَاكِم: وَشَاهده حَدِيث جَابر - يَعْنِي السالف - قَالَ: والشيخان لم يحْتَجَّا بِإِسْمَاعِيل بن مُسلم، يَعْنِي الْمَذْكُور فِي حَدِيث جَابر. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من قَول الْمُغيرَة، ثمَّ قَالَ: لم يرفعهُ سُفْيَان. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : رُوِيَ (مَرْفُوعا، وَأَنا) لَا أحفظ رَفعه (وَرَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة(5/235)
أَيْضا إِلَّا أَنهم قَالُوا «الطِّفْل» بدل «السقط» كَذَا هُوَ) فِي إِحْدَى روايتي أَحْمد وَالْحَاكِم، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح.
تَنْبِيه: ذكر الشَّيْخ فِي «الْمُهَذّب» هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، وَلم أر من خرجه من هَذَا الْوَجْه، وَقد بيض لَهُ الْمُنْذِرِيّ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» لَهُ: إِنَّه غَرِيب.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
ورد فِي الْخَبَر: «أَن الْوَلَد إِذا بَقِي فِي بطن أمه أَرْبَعَة أشهر نفخ فِيهِ الرّوح» .
هَذَا (الحَدِيث صَحِيح) ، خبر عَظِيم الْموقع، وَهُوَ أحد أَرْكَان الْإِسْلَام، أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من رِوَايَة (عبد الله) بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: حَدثنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ الصَّادِق المصدوق: «إِن أحدكُم يجمع خلقه فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ يكون علقَة مثل ذَلِك، ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذَلِك، ثمَّ يُرْسل الْملك فينفخ فِيهِ الرّوح، وَيُؤمر بِأَرْبَع كَلِمَات: بِكَتْب رزقه، وأجله، [وَعَمله] وشقي أَو سعيد، فوالذي لَا(5/236)
إِلَه غَيره إِن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة، حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب فَيعْمل بِعَمَل أهل النَّار فيدخلها، وَإِن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب فَيعْمل بِعَمَل أهل الْجنَّة فيدخلها» .
الحَدِيث (الْحَادِي) بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِغسْل أَبِيه أبي طَالب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهم من حَدِيث أبي إِسْحَاق، عَن نَاجِية بن كَعْب الْكُوفِي، عَن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لما مَاتَ أَبُو طَالب أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقلت: إِن عمك الضال قد مَاتَ. فَقَالَ: انْطلق فواره، وَلَا تُحدِثن حَدثا حَتَّى تَأتِينِي. فَانْطَلَقت فواريته، فَأمرنِي فاغتسلت فَدَعَا لي) زَاد الْبَزَّار بدعوات، مَا يسرني أَن لي بهَا حمر النعم وسودها» ) وَلأبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: «قَالَ لي قولا مَا أحب أَن لي بِهِ الدُّنْيَا» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «دَلَائِل النُّبُوَّة» : «مَا يسرني أَن لي بِهن مَا عَلَى الأَرْض من شَيْء» وَرَوَاهُ أَحْمد عَن وَكِيع عَن سُفْيَان،(5/237)
وَأَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن يَحْيَى بن سعيد (عَن سُفْيَان) وَالنَّسَائِيّ عَن عبيد الله بن سعيد ثَنَا يَحْيَى عَن سُفْيَان قَالَ: حَدثنِي أَبُو إِسْحَاق، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن ابْن مثنى عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق، وَهَذِه أَسَانِيد جَيِّدَة.
وَنَاجِيَة قَالَ أَبُو حَاتِم فِيهِ: شيخ. قَالَ الذَّهَبِيّ: وَلَا أَدْرِي لماذا توقف فِيهِ ابْن حبَان. وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: رَوَاهُ شُعْبَة وَالثَّوْري وَإِسْرَائِيل وَشريك وَزُهَيْر وَقيس وورقاء وَإِبْرَاهِيم بن طهْمَان، عَن أبي إِسْحَاق عَن نَاجِية (عَن عَلّي) وَخَالفهُم الْحُسَيْن بن وَاقد و [أَبُو] حَمْزَة السكرِي فروياه عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث عَن عَلّي، ووهما فِي ذكر (الحَدِيث) ، وَذكر فِيهِ من الِاخْتِلَاف غير هَذَا، ثمَّ قَالَ: وَالْمَحْفُوظ قَول الثَّوْريّ وَشعْبَة وَمن تابعهما عَن أبي إِسْحَاق عَن نَاجِية عَن عَلّي، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ فرات الْقَزاز عَن نَاجِية أَيْضا، وَرَوَى (نَحوه) عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى عَن عَلّي وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن(5/238)
نَاجِية عَن عَلّي، ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضا الثَّوْريّ وَشعْبَة وَشريك عَن أبي إِسْحَاق (وَرَوَاهُ) الْأَعْمَش عَنهُ عَن رجل عَن عَلّي ثمَّ قَالَ: وَنَاجِيَة هَذَا لم تثبت عَدَالَته عِنْد صَاحِبي الصَّحِيح، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه غسله. قَالَ: وَلَا نعلم أحدا رَوَى عَن نَاجِية غير أبي إِسْحَاق.
قلت: وَرَوَى عَنهُ أَبُو حسان الْأَعْرَج وَيُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي. ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ من وَجه آخر ضَعِيف هَكَذَا. ثمَّ سَاقه وَبَين ضعفه، ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث أُسَامَة وَقَالَ: مُنكر لَا أصل لَهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد. قَالَ: وَرُوِيَ عَن عَلّي من أوجه أخر هَكَذَا، وَإِسْنَاده ضَعِيف، وَيروَى عَن عَلّي من قَوْله وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ (ثمَّ) رَوَاهُ من حَدِيث أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث عَن عَلّي، ثمَّ قَالَ: هَذَا غلط وَالْمَشْهُور عَن أبي إِسْحَاق عَن نَاجِية عَن عَلّي. قَالَ: وَرُوِيَ فِي ذَلِك عَن الْحَارِث عَن عَلّي من قَوْله. وَحَاصِل كَلَام الْبَيْهَقِيّ تَضْعِيفه وَقَالَ (الإِمَام) الرَّافِعِيّ فِي كتاب «الأمالي الشارحة لمفردات الْفَاتِحَة» : إِنَّه حَدِيث ثَابت مَشْهُور، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَصَاحب السّنَن. هَذَا لَفظه (فَالله أعلم) .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بإلقاء قَتْلَى بدر فِي القليب عَلَى هيئاتهم» .(5/239)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ترك قَتْلَى بدر ثَلَاثًا ثمَّ أَتَاهُم فَقَامَ عَلَيْهِم فناداهم فَقَالَ: يَا أَبَا جهل بن هِشَام، يَا أُميَّة بن خلف، يَا عتبَة بن ربيعَة، يَا شيبَة بن ربيعَة، أَلَيْسَ قد وجدْتُم مَا وعد ربكُم حقًّا؟ فَإِنِّي قد وجدت مَا وَعَدَني رَبِّي حقًّا. فَسمع عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَول النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ يسمعُونَ أَو أنَّى يجيبون وَقد جيفوا؟ ! قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم، وَلَكِن لَا يقدرُونَ أَن يجيبوا. ثمَّ أَمر بهم فسحبوا فَألْقوا فِي قليب بدر» وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث قَتَادَة قَالَ: ذكر لنا [أنس بن مَالك] عَن أبي طَلْحَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر يَوْم بدر بأَرْبعَة وَعشْرين رجلا من صَنَادِيد قُرَيْش فقذفوا فِي طوى من أطواء بدر خَبِيث مخبث، وَكَانَ إِذا ظهر عَلَى قوم أَقَامَ بالعرصة ثَلَاث لَيَال، فَلَمَّا كَانَ ببدر الْيَوْم الثَّالِث أَمر براحلته فَشد عَلَيْهَا رَحلهَا، ثمَّ مَشَى وَاتبعهُ أَصْحَابه، حَتَّى قَامَ عَلَى (سَقَى) الركي فَجعل يناديهم بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِم ... » الحَدِيث بِنَحْوِ الَّذِي (قبله) وَفِي آخِره «قَالَ قَتَادَة: أحياهم الله حَتَّى أسمعهم قَوْله توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة وندمًا» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَيْضا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ(5/240)
«أَنه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر بمواراتهم» وَهَذَا لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ من كتب السّير وَغَيرهَا، وَلَا يُؤْخَذ ذَلِك من إلقائهم فِي القليب لأَنهم إِنَّمَا ألقوا فِيهِ تحقيرًا لَهُم وَلِئَلَّا يتَأَذَّى النَّاس (برائحتهم) وَلَيْسَ هُوَ دفنًا كَمَا نبه عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه لمُسلم» فَإِن الْحَرْبِيّ لَا يجب دَفنه قَالَ أَصْحَابنَا: بل يتْرك فِي الصَّحرَاء إِلَّا أَن يتَضَرَّر مِنْهُ. نعم فِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» وَقَالَ: عَلَى شَرط مُسلم من حَدِيث [عمر] بن يعلي بن مرّة عَن أَبِيه قَالَ: «سَافَرت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غير مرّة فَمَا رَأَيْته مر بجيفة إِنْسَان إِلَّا أَمر بدفنه، لَا يسْأَل أمسلم هُوَ أم كَافِر» .
فَائِدَة: القليب هِيَ الْبِئْر مَا كَانَت، ذكره ابْن سَيّده، قَالَ: وَقيل: هِيَ قبل أَن يطوى، وَقيل: هِيَ العاذبة الْقَدِيمَة الَّتِي لَا يعلم لَهَا رب وَلَا حافر تكون بالبراري. تذكر وتؤنث، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: القليب مَا كَانَ (فِيهِ) عين وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا القليب حفره رجل من بني الْبَار اسْمه «بدر» من قُرَيْش بن مخلد بن النَّضر وَكَانَ مَاء لَهُم) .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يجمع بَين الرجلَيْن من قَتْلَى أحد فِي ثوب وَاحِد ثمَّ يَقُول: أَيهمْ أَكثر أخذا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذا (أُشير)(5/241)
لَهُ إِلَى أَحدهمَا قدَّمه فِي اللحدَ. وَقَالَ: (أَنا شَهِيد) عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْم الْقِيَامَة. وَأمر بدفنهم فِي دِمَائِهِمْ، وَلم يغسلوا، وَلم يصل عَلَيْهِم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ، وَمِنْه (نقلته، والرافعي أورد مُخْتَصرا بِلَفْظ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يصل) عَلَى قَتْلَى أحد» . وَرَوَاهُ أَيْضا التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَأَبُو حَاتِم بن حبَان وَفِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان: «وَلم يصلَّ عَلَيْهِم» وَهُوَ بِفَتْح اللَّام، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَا أعلم أحدا تَابع اللَّيْث بن سعد من ثِقَات أَصْحَاب الزُّهْرِيّ عَلَى هَذَا الْإِسْنَاد، وَاخْتلف عَلَى الزُّهْرِيّ فِيهِ. هَذَا آخر كَلَامه، وَلم يُؤثر عِنْد البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ تفرد اللَّيْث بِهَذَا الْإِسْنَاد؛ فَإِنَّهُ من الأساطين، وَأَخْرَجَاهُ فِي كِتَابَيْهِمَا وصححاه، وَسَأَلَ التِّرْمِذِيّ البُخَارِيّ عَنهُ، فَقَالَ: حَدِيث حسن، وَحَدِيث أُسَامَة بن زيد - يَعْنِي بِهِ حَدِيث أنس الْآتِي - هُوَ غير مَحْفُوظ؛ غلط فِيهِ أُسَامَة.(5/242)
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم (يصلِّ) عَلَى قَتْلَى أحد، وَلم يغسلهم» .
هَذَا الحَدِيث حسن، رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي مَنَاقِب حَمْزَة: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَكَذَا قَالَ الشَّيْخ تقيُّ الدَّين فِي آخر «اقتراحه» أَيْضا، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر عَلَى حَمْزَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد مُثِّل بِهِ، فَقَالَ: لَوْلَا أَن تَجِد صفيةُ فِي نَفسهَا لتركته حَتَّى تَأْكُله الْعَافِيَة، حَتَّى (يحْشر) من بطونها. ثمَّ دَعَا بنمرة فَكَفنهُ فِيهَا، وَكَانَت إِذا مدت عَلَى رَأسه بَدَت رِجْلَاهُ، وَإِذا مدت عَلَى رجلَيْهِ بدا رَأسه. قَالَ: فكثرت الْقَتْلَى، وَقل الثِّيَاب، فَكَانَ الرجل وَالرجلَانِ وَالثَّلَاث يكفنون فِي الثَّوْب الْوَاحِد، ثمَّ يدفنون فِي قبر وَاحِد، وَيقدم أَكْثَرهم قُرْآنًا إِلَى الْقبْلَة، فدفنهم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يصلِّ عَلَيْهِم» . وَذكره الْحَاكِم مطولا ومختصرًا بِلَفْظ: «أَن شُهَدَاء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، وَلم يصل عَلَيْهِم» . فَإِن قلت: فقد جَاءَ عَن(5/243)
(عدَّة) من الصَّحَابَة مَا ظَاهره أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى عَلَيْهِم؛ فَفِي «مَرَاسِيل أبي دَاوُد» عَن أنس قَالَ: «مر عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى حَمْزَة وَقد مثِّل بِهِ، وَلم يصل عَلَى أحد من الشُّهَدَاء غَيره» . وَأخرجه الْحَاكِم، وَقَالَ صَاحب «الاقتراح» : إِنَّه عَلَى شَرط مُسلم. وفيهَا أَيْضا عَن أبي مَالك الْغِفَارِيّ التَّابِعِيّ: «أَمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِحَمْزَة فَوضع، وَجِيء بِتِسْعَة فَصَلى عَلَيْهِم سبع صلوَات، حَتَّى صَلَّى عَلَى سبعين رجلا، وَفِيهِمْ حَمْزَة فِي كل صلاةٍ صلاهَا» . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : رَوَى أَبُو مَالك قَالَ: «صَلَّى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى قَتْلَى أحد عشرَة عشرَة، فِي كل عشرَة حَمْزَة، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سبعين صَلَاة» . ثمَّ قَالَ: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «الْمَرَاسِيل» بِمَعْنَاهُ. وَفِي «سنَن النَّسَائِيّ» عَن شَدَّاد بن الْهَاد التَّابِعِيّ «أَن رجلا من الْأَعْرَاب جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فآمَنَ بِهِ واتَّبَعَه ... » وَذكر الحَدِيث، وَفِيه «أَنه اسْتشْهد، فَصَلى عَلَيْهِ (رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) » . وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» فِي كتاب الْجِهَاد: عَن جَابر «أَن حَمْزَة جِيءَ بِهِ، فَصَلى عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ يجاء(5/244)
بِالشُّهَدَاءِ (فتوضع إِلَى) جَانب حَمْزَة، فَيصَلي عَلَيْهِم، ثمَّ ترفع وَيتْرك حَمْزَة، حَتَّى صَلَّى عَلَى الشُّهَدَاء» . ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث عقبَة بن عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج فَصَلى عَلَى قَتْلَى أحد صلَاته عَلَى الْمَيِّت» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «صَلَّى عَلَيْهِم بعد ثَمَان سِنِين، كَالْمُودعِ للأحياء والأموات» . وَهَذِه الْأَحَادِيث تعَارض حَدِيث جَابر وَأنس السالفين، لَكِن حَدِيث أنس قَالَ فِيهِ الْبَيْهَقِيّ عَن الدَّارَقُطْنِيّ: هَذِه اللَّفْظَة - وَهِي قَوْله: «وَلم يصل عَلَى (أحد) من الشُّهَدَاء غَيره» - لَيست مَحْفُوظَة. وَعَن التِّرْمِذِيّ فِي كتاب «الْعِلَل» : سَأَلت البُخَارِيّ فَقَالَ: هُوَ غير مَحْفُوظ، غلط فِيهِ أُسَامَة بن زيد. وَقد أسلفنا هَذَا فِيمَا مَضَى، وَفِي «التَّحْقِيق» لِابْنِ الْجَوْزِيّ عَن الدَّارَقُطْنِيّ: لم يقلها غير عُثْمَان بن عمر، وَلَيْسَت مَحْفُوظَة. ثمَّ قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ مُعْتَرضًا عَلَيْهِ: [عُثْمَان] هَذَا مخرج عَنهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة، وَحَدِيث أبي مَالك مُرْسل؛ لِأَن(5/245)
أَبَا مَالك واسْمه غَزوَان من التَّابِعين، (و) فِي إِسْنَاده حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن الْكُوفِي، أعله ابْن الْجَوْزِيّ، وَنقل (عَنهُ) فِي «تَحْقِيقه» عَن يزِيد بن هَارُون أَنه كَانَ قد نسي. وَعَن (النَّسَائِيّ) أَنه تغير لكنه من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» . وَحَدِيث شَدَّاد بن الْهَاد مُرْسل أَيْضا؛ لِأَن شَدَّاد بن الْهَاد تَابِعِيّ، والْحَدِيث ضَعِيف أَيْضا، وَعَلَى تَقْدِير صِحَّته أَيْضا يحمل عَلَى أَنه لم يمت فِي المعركة. قَالَه الْبَيْهَقِيّ. وَحَدِيث جَابر فِيهِ أَبُو حَمَّاد الْفضل بن صَدَقَة، وَهُوَ مَتْرُوك كَمَا قَالَ النَّسَائِيّ، قَالَ ابْن دحْيَة فِي كتاب «التَّنْوِير» : وَحَدِيث ابْن عَبَّاس ذكره مُسلم فِي مُقَدّمَة «صَحِيحه» عَن (شُعْبَة) عَن الْحسن، عَن الحكم (عَن) مقسم، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى عَلَى قَتْلَى أحد، ودفنهم» . قَالَ (شُعْبَة) : كذب الْحسن بن عمَارَة؛ إِنَّمَا قلتُ للْحكم: أصلى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى قَتْلَى أحد؟ قَالَ: لم يصل عَلَيْهِم.
قلت: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ (فِي (المعجم) الْكَبِير» من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَالْحكم(5/246)
بن عتيبة، عَن مقسم وَمُجاهد، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كبر عَلَى حَمْزَة تسعا، ثمَّ جمع عَلَيْهِ الشُّهَدَاء، كلما أُتِي بِشَهِيد وضع إِلَى جنبه، فَصَلى عَلَيْهِ وَعَلَى الشُّهَدَاء (اثْنَيْنِ) وَسبعين صَلَاة» . قَالَ: وَحَدِيث أنس: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا صَلَّى عَلَى جَنَازَة كبر عَلَيْهَا أَرْبعا، وَأَنه كبر عَلَى حَمْزَة سبعين تَكْبِيرَة» لَا يَصح، فِيهِ سعيد بن ميسرَة، قَالَ خَ: عِنْده مَنَاكِير. وَقَالَ الْحَاكِم: رَوَى عَن أنس أَشْيَاء مَوْضُوعَة. وَكذبه يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان، وَأَخْطَأ ابْن حبَان فِي قَوْله: «رَوَى عَنهُ يَحْيَى الْقطَّان» (فَإِنَّهُ) الْتبس عَلَيْهِ بالعطار (بالراء) ، قَالَ: وَكَيف يروي عَنهُ وَقد كذَّبه؟ ! قَالَ ابْن دحْيَة: وَكَذَا حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: «أُتِي بهم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم أحد، فَجعل يُصَلِّي عَلَى عشرَة عشرَة وَحَمْزَة، يرفعون وَهُوَ كَمَا هُوَ مَوْضُوع» ، فَإِن فِيهِ يزِيد بن أبي زِيَاد، قَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث. قلت: تبع فِيهِ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» ؛ فَإِنَّهُ نقل ذَلِك عَن البُخَارِيّ، وَنقل عَن النَّسَائِيّ أَنه قَالَ فِيهِ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَوهم فِي ذَلِك؛ فَإِنَّمَا قَالَا ذَلِك فِي يزِيد بن زِيَاد، وَيُقَال: يزِيد بن أبي زِيَاد الشَّامي، (وَأما رَاوِي) هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ الْكُوفِي، وَلَا يُقَال فِيهِ: (ابْن) زِيَاد، وَقد أخرج لَهُ م مَقْرُونا، ووثق، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا أعلم أحدا ترك حَدِيثه. وَقد جعل ابْن الْجَوْزِيّ هذَيْن الرجلَيْن فِي «الضُّعَفَاء» وَاحِدًا، وَهُوَ وهم أَيْضا،(5/247)
قَالَ ابْن دحْيَة: وَكَذَا حَدِيث أبي مَالك السالف لَا يَصح بِسَبَب حُصَيْن لشدَّة ضعفه، وتخليط عقله. وَقد تقدم مَا فِي هَذَا، وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث عَطاء بن السَّائِب، عَن الشّعبِيّ، عَن ابْن مَسْعُود «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام وضع حَمْزَة فَصَلى عَلَيْهِ، وَجِيء بِرَجُل من الْأَنْصَار، فَوضع إِلَى جنبه فَصَلى عَلَيْهِ، فَرفع الْأنْصَارِيّ، وَترك حَمْزَة حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ يَوْمئِذٍ سبعين صَلَاة» . وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» و «الْخُلَاصَة» أَيْضا (اتِّفَاق) الْحفاظ عَلَى ضعف هَذِه الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة - وَلم يذكر حَدِيث ابْن مَسْعُود السالف - إِلَّا حَدِيث عقبَة، وَأَنه لم يَصح فِي إِثْبَات الصَّلَاة عَلَى الشَّهِيد وغسله شَيْء، قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره: وَأقرب مَا فِيهِ هَذَانِ المرسلان. يَعْنِي: حَدِيث أبي مَالك وَشَدَّاد بن الْهَاد. وَأجَاب الْحفاظ عَن حَدِيث عقبَة بِأَن المُرَاد بِالصَّلَاةِ الدُّعَاء، وَقَوله: «صلَاته عَلَى الْمَيِّت» أَي: دَعَا لَهُم كدعاء صَلَاة الْمَيِّت. وَهَذَا التَّأْوِيل مُتَعَيّن، وَلَيْسَ المُرَاد صَلَاة الْجِنَازَة الْمَعْرُوفَة بِالْإِجْمَاع؛ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا فعله بعد مَوْتهمْ (بثمان سِنِين) ، وَلَو كَانَ صَلَاة الْجِنَازَة لما (أَخّرهَا ثَمَان سِنِين) وَلِأَن عندنَا لَا يصلى عَلَى الشَّهِيد، وَعند الْمُخَالف لَا يصلى (عَلَى) الْقَبْر بعد ثَلَاثَة أَيَّام، فَوَجَبَ تَأْوِيله، وَلِأَن الْمُخَالف لَا يقبل خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبَلْوَى، وَهَذَا مِنْهَا، فَإِن قيل: حَدِيث جَابر وَأنس (السالفين) فِي الِاحْتِجَاج بهما وَقْفَة؛ لِأَنَّهَا نفي، وَشَهَادَة النَّفْي مَرْدُودَة(5/248)
مَعَ مَا عارضها من هَذِه الرِّوَايَات الَّتِي فِيهَا الْإِثْبَات. فَالْجَوَاب مَا قَالَه أَصْحَابنَا: أَن شَهَادَة النَّفْي إِنَّمَا ترد إِذا لم يحط بهَا علم الشَّاهِد وَلم تكن محصورة، أما مَا أحَاط بِهِ علمه وَكَانَ محصورًا فَيقبل بالِاتِّفَاقِ. وَهَذِه قصَّة مَعْرُوفَة أحَاط بهَا جَابر وَأنس علما، وَأما رِوَايَة الْإِثْبَات فضعيفة، فوجودها كَالْعدمِ، إِلَّا حَدِيث عقبَة، وَقد سلف الْجَواب عَنهُ، وَاشْتَدَّ إِنْكَار الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْأُم» وتشنيعه عَلَى من يَقُول: يصلَّى عَلَى الشَّهِيد، محتجًّا بِرِوَايَة الشّعبِيّ وَغَيره «أَن حَمْزَة صُلِّي عَلَيْهِ سَبْعُونَ صَلَاة، وَكَانَ يُؤْتَى بِتِسْعَة من الْقَتْلَى وَحَمْزَة عاشرهم، ثمَّ يرفعون وَحَمْزَة مَكَانَهُ، ثمَّ يُؤْتَى بِتِسْعَة أُخْرَى، فَيصَلي عَلَيْهِم وَعَلَى حَمْزَة، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سبعين صَلَاة» . قَالَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ: شُهَدَاء أحد اثْنَان وَسَبْعُونَ شَهِيدا، فَإِذا صلي عَلَيْهِم عشرَة عشرَة، فالصلوات لَا تكون أَكثر من سبع صلوَات أَو ثَمَان، عَلَى أَنه صلي عَلَى كل تِسْعَة مَعَ حَمْزَة صَلَاة، فَهَذِهِ تسع، فَمن أَيْن جَاءَت سَبْعُونَ صَلَاة؟ ! وَإِن عني بِهِ أَنه كبر سبعين تَكْبِيرَة فَنحْن وهم نقُول: التَّكْبِير أَربع، فَهِيَ إِذا كَانَت تسع صلوَات تكون سِتًّا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَة. قَالَ الشَّافِعِي: يَنْبَغِي لمن رَوَى هَذَا الحَدِيث أَن يستحيي عَلَى نَفسه، وَقد كَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يُعَارض بِهِ الْأَحَادِيث، فقد جَاءَت من وُجُوه متواترة أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يصل عَلَيْهِم. وَنقل هَذَا النَّص كُله الْبَيْهَقِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كتاب «الْمعرفَة» وَقَالَ فِي «خلافياته» : لَا يَصح عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه صَلَّى عَلَى أحد من شُهَدَاء أحد، (لَا) عَلَى حَمْزَة وَلَا عَلَى غَيره. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: من الأساليب مَا ذكر من صَلَاة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى(5/249)
قَتْلَى أحد؛ فخطأ، لم يُصَحِّحهُ الْأَئِمَّة؛ لأَنهم رووا «أَنه كَانَ يُؤتى بِعشْرَة عشرَة وَحَمْزَة أحدهم، (فَصَلى) عَلَى حَمْزَة سبعين صَلَاة» . وَهَذَا غلط ظَاهر؛ فَإِن شُهَدَاء أحد سَبْعُونَ، وَإِنَّمَا يخص حَمْزَة بسبعين صَلَاة لَو كَانُوا سَبْعمِائة. وَقَالَ ابْن حزم: قَوْلهم إِنَّه صَلَّى عَلَى حَمْزَة سبعين صَلَاة، أَو كبر سبعين تَكْبِيرَة. بَاطِل بِلَا شكّ.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رجم الغامدية، وَصَلى عَلَيْهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
فَائِدَة: تَعَارَضَت الرِّوَايَات فِي صلَاته عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى مَاعِز، فَفِي «البخاريّ» من رِوَايَة جَابر «أَنه صَلَّى عَلَيْهِ» ذكره فِي أول كتاب الْمُحَاربين فِي بَاب الرَّجْم بالمصلى، وَفِي «أبي دَاوُد» وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ بأسانيد صَحِيحَة «أَنه لم يصل عَلَيْهِ» وَلَا يخْفَى أَن الْمُثبت مقدم عَلَى النَّافِي؛ لِأَن مَعَه زِيَادَة علم.(5/250)
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
«أَن حَنْظَلَة (بن) الراهب قتل يَوْم أحد وَهُوَ جنب، فَلم يغسلهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ: رَأَيْت الْمَلَائِكَة تغسله» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنِي يَحْيَى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن حَنْظَلَة لما قَتله شَدَّاد بن الْأسود، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: إِن صَاحبكُم حَنْظَلَة تغسله الْمَلَائِكَة؛ فَسَلُوا صاحبته. فَقَالَت: خرج وَهُوَ جنب لما سمع (الهائعة) . فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: لذَلِك غسلته الْمَلَائِكَة» . وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي تَرْجَمَة حَنْظَلَة من «مُسْتَدْركه» فِي كتاب الْفَضَائِل مِنْهُ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من هَذِه الطَّرِيق، وَقَالَ: مُرْسل، وَهُوَ فِيمَا بَين أهل الْمَغَازِي مَعْرُوف.
قلت: وَهُوَ مُرْسل صَحَابِيّ؛ لِأَن ابْن الزبير لم يدْرك أُحُدًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ ابْن سنتَيْن، وَالْجُمْهُور عَلَى الِاحْتِجَاج بمرسل الصَّحَابِيّ، إِلَّا من شَذَّ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (أَيْضا) من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «إِن صَاحبكُم لتغسله الْمَلَائِكَة - (يَعْنِي:(5/251)
حَنْظَلَة) فاسألوا أَهله مَا شَأْنه؟ فَسُئِلت صاحبته فَقَالَت: خرج وَهُوَ جنب حِين سمع الهائعة. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: لذَلِك غسلته الْمَلَائِكَة» وَهَذَا مُرْسل أَيْضا، وَرُوِيَ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيثه، بِلَفْظ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «إِن الْمَلَائِكَة غسلت حَمْزَة وحَنْظَلَة، وَكَانَا جنبان» ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده أَبُو شيبَة، وَهُوَ ضَعِيف. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي تَرْجَمَة حَمْزَة: «أَنه قتل وَهُوَ جنب، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: غسلته الْمَلَائِكَة» وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. قلت: فِيهِ مُعلى بن عبد الرَّحْمَن أحد الهلكى. وَفِي رِوَايَة لِابْنِ سعد فِي حَدِيث حَنْظَلَة قَالَ: «لما قتل حَنْظَلَة بن أبي عَامر قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنِّي رَأَيْت الْمَلَائِكَة تغسل حَنْظَلَة بن أبي عَامر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض بِمَاء المزن فِي صحاف الْفضة. قَالَ أَبُو (أسيد) السَّاعِدِيّ: فذهبنا، فَنَظَرْنَا إِلَيْهِ، فَإِذا رَأسه يقطر مَاء، فَرَجَعت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَخْبَرته، فَأرْسل إِلَى امْرَأَته فَسَأَلَهَا؛ فَأَخْبَرته أَنه خرج وَهُوَ جنب» . فولده يُقَال لَهُم: بَنو غسيل الْمَلَائِكَة.
تَنْبِيه: وَقع للنووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «شرح الْمُهَذّب» نوع اضْطِرَاب فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ أَولا: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد جيد. ثمَّ قَالَ بعده بورقتين: قد قدمنَا أَنه حَدِيث ضَعِيف. وَشرع يُجيب عَنهُ عَلَى تَقْدِير ثُبُوته، فيتنبه لذَلِك.(5/252)
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بقتلى أحد أَن ينْزع عَنْهُم الْحَدِيد و (الْجُلُود) ، وَأَن يدفنوا بدمائهم وثيابهم» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمَا» بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث عَلّي بن عَاصِم، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَعلي هَذَا ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ أَحْمد: مَا لَهُ تكْتب أَحَادِيثه، أَخطَأ يتْرك خَطؤُهُ وَيكْتب صَوَابه، قد أَخطَأ غَيره. وَقَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة: قيل ليحيى بن معِين: إِن أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول فِيهِ: ثِقَة. قَالَ: لَا وَالله مَا كَانَ عِنْده قطّ ثِقَة، وَلَا حدث عَنهُ بِحرف قطّ، فَكيف صَار عِنْده الْيَوْم ثِقَة؟ ! وَقَالَ يزِيد بن هَارُون: مَا زلنا نعرفه بِالْكَذِبِ. وَقَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة: مَا عتبت عَلَيْهِ إِلَّا أَنه كَانَ (يخلط) فيلج ويستصغر أَصْحَابه. وَقَالَ يزِيد بن زُرَيْع: أفادني عَن خَالِد الْحذاء وَهِشَام بن حسان أَحَادِيث، فأنكراها وَمَا عرفاها. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: إِنَّه تكلم بِكَلَام سوء وَلم يفسره.
قلت: وَثمّ للْحَدِيث عِلّة أُخْرَى، وَهِي عَطاء بن السَّائِب الْمُخْتَلط بِأخرَة، وَقد أسلفنا مَا فِيهِ للحفاظ فِي بَاب الْأَحْدَاث، فِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين مِنْهُ (فَتنبه لَهُ) .(5/253)
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله لَا يرد دَعْوَة ذِي الشيبة الْمُسلم» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده الْغَزالِيّ؛ فَإِنَّهُ أوردهُ فِي «وسيطه» ، وَهُوَ تبع إِمَامه فِي «نهايته» ، وَلَا يحضرني من خرجه، نعم رَوَى النَّسَائِيّ فِي كِتَابه «عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة» حَدِيثا قَرِيبا مِنْهُ عَن زَكَرِيَّا بن يَحْيَى، عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، عَن وَكِيع، عَن طَلْحَة بن يَحْيَى، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة، عَن عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَاد اللَّيْثِيّ، عَن طَلْحَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ أحد أفضل عِنْد الله من مُؤمن يعمر فِي الْإِسْلَام» . وَفِي «صَحِيح أبي حَاتِم» وَالْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «الْبركَة مَعَ أكابركم» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ ابْن حبَان: لم يحدث ابْن الْمُبَارك هَذَا الحَدِيث بخراسان، وَإِنَّمَا حدث بدرب الرّوم؛ فَسمع مِنْهُ أهل الشَّام، وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث فِي كتب ابْن الْمُبَارك مَرْفُوعا. وَذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر كتاب «الاقتراح» من الطَّرِيق الْمَذْكُور مَرْفُوعا بِلَفْظ «الْخَيْر» بدل «الْبركَة» ، ثمَّ قَالَ: هُوَ صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي(5/254)
«الْمَقْصد الْأَسْنَى» : إِنَّه حَدِيث حسن. وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) : «إِن من إجلال الله إكرام ذِي الشيبة الْمُسلم» وَفِيه طول، لم (يُضعفهُ) أَبُو دَاوُد، وَكَذَا عبد الْحق، وَأعله ابْن الْقطَّان بِأبي كنَانَة أحد رُوَاته وَقَالَ: لَا يعرف. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» عَن أنس مَرْفُوعا: «من إجلال الله إكرام ذِي الشيبة الْمُسلم» . ثمَّ نقل عَن ابْن حبَان أَنه لَا أصل لَهُ، (ومنام يَحْيَى بن أَكْثَم فِي «تَارِيخ بَغْدَاد» ، وَفِيه من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن جِبْرِيل عَن الله: «مَا شَاب عبد فِي الْإِسْلَام شيبَة إِلَّا [استحييت] لَهُ أَن(5/255)
أعذبه فِي النَّار، وَإِن الله صدق الْكل» ) .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى عَلَى امْرَأَة مَاتَت فِي نفَاسهَا، فَقَامَ وَسطهَا» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ وَأَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة» بِهَذَا اللَّفْظ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «صَلَّى عَلَى أم كَعْب مَاتَت وَهِي نفسَاء» .
فَائِدَة: وَسطهَا: بِفَتْح السِّين وسكونها، قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي «شرح مُسلم» : ضبطناه والجياني أَيْضا بِالسُّكُونِ، وَأما ابْن دِينَار فَقَالَ: وَسَط الدَّار ووسْطها مَعًا. كَذَا نَقله عَن ابْن دِينَار، وَنَقله فِي «الشهَاب» عَن ابْن دَريد.
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَامَ عَلَى جَنَازَة رجل فَقَامَ عِنْد رَأسه، ثمَّ أُتِي بِجنَازَة امْرَأَة فَصَلى عَلَيْهَا، وَقَامَ عِنْد عجيزتها، فَقيل لَهُ: هَل كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقوم عِنْد رَأس الرجل وعجيزة الْمَرْأَة؟ فَقَالَ: نعم» .(5/256)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وحسَّنه، وَلَفظ أبي دَاوُد «أَن أنسا قَامَ عِنْد رَأس رجل وَكبر أَربع تَكْبِيرَات لم يطلّ وَلم يسْرع، ثمَّ ذهب (يقْعد) فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَة، المراة الْأَنْصَارِيَّة. فقربوها وَعَلَيْهَا نعش أَخْضَر، فَقَامَ عِنْد عجيزتها، فَصَلى عَلَيْهَا نَحْو صلَاته عَلَى الرجل، ثمَّ جلس، فَقَالَ الْعَلَاء بن زِيَاد: يَا أَبَا (حَمْزَة) هَكَذَا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَة كصلاتك، يكبر أَرْبعا وَيقوم عِنْد رَأس الرجل وعجيزة الْمَرْأَة؟ قَالَ: نعم» . وَلَفظ التِّرْمِذِيّ عَن أبي غَالب نَافِع، وَقيل: رَافع، قَالَ: «صليتُ مَعَ أنس بن مَالك عَلَى جَنَازَة رجل، فَقَامَ حِيَال رَأسه، ثمَّ جَاءُوا بِجنَازَة امْرَأَة (من) قُرَيْش، فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَة، صلِّ عَلَيْهَا. (فَقَامَ) حِيَال وسط السرير، فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء بن زِيَاد: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ عَلَى الْجِنَازَة مقامك مِنْهَا، وَمن الرجل [مَقامك] مِنْهُ؟ قَالَ: نعم. فَلَمَّا فرغ قَالَ: احْفَظُوا» . وَلَفظ ابْن مَاجَه نَحوه، وَكَذَا أَحْمد، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرَأَيْت أَبَا عَلّي الطَّبَرِيّ حَكَى عَن أنس فِي هَذَا الرجل «أَنه وقف عِنْد صَدره» .(5/257)
قلت: هَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة، لَا أعلم من خرجها. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : إِن هَذَا غلط صَرِيح. قَالَ: وَالصَّوَاب الْمَوْجُود فِي كتب الحَدِيث «أَنه وقف عِنْد رَأسه» .
فَائِدَة: وَقع فِي هَذَا الحَدِيث فِي «سنَن أبي دَاوُد» أَن هَذِه الْمَرْأَة كَانَت أنصارية، وَوَقع فِي التِّرْمِذِيّ أَنَّهَا قرشية، كَمَا أسلفنا ذَلِك، وذكرهما الْبَيْهَقِيّ، وَيجمع بَينهمَا بِأَنَّهَا لَعَلَّهَا كَانَت من إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَلها حلف من الْأُخْرَى، أَو زَوجهَا من الْأُخْرَى، وَقد ذكره كَذَلِك النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» احْتِمَالا، وَكَذَا قَالَ فِي «الْخُلَاصَة» : لَعَلَّ كَانَ نَسَبهَا من قُرَيْش وبالحلف من الْأَنْصَار، أَو عَكسه. قَالَ: وَالْقَائِل «احْفَظُوا» هُوَ الْعَلَاء بن زِيَاد.
فَائِدَة: عَجِيزة الْمَرْأَة: بِفَتْح الْعين وَكسر الْجِيم (أليتاها) .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين
(عَن جَابر) «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كبر عَلَى الْمَيِّت أَرْبعا، وَقَرَأَ بِأم الْقُرْآن بعد التَّكْبِيرَة الأولَى» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ هَكَذَا الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن جَابر مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء، وَإِبْرَاهِيم هَذَا سلف بَيَانه فِي كتاب الطَّهَارَة، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل سلف فِي الْوضُوء. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه مستشهدًا بِهِ(5/258)
بِلَفْظ: «كَانَ يكبر عَلَى جنائزنا أَرْبعا، (وَيقْرَأ) بِفَاتِحَة الْكتاب فِي التَّكْبِيرَة الأولَى» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَرَأَ عَلَى الْجِنَازَة بِفَاتِحَة الْكتاب» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث إِسْنَاده لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي، وَإِبْرَاهِيم بن عُثْمَان - يَعْنِي الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - مُنكر الحَدِيث.
قلت: وَهُوَ أَبُو شيبَة الوَاسِطِيّ، جد بني شيبَة أبي بكر وَعُثْمَان، وَقد أَجمعُوا عَلَى ضعفه، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : إِنَّه حَدِيث لَا يثبت بِسَبَب إِبْرَاهِيم هَذَا؛ فَإِن شُعْبَة كذبه. وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث حَمَّاد بن جَعْفَر الْعَبْدي، حَدثنِي شهر بن حَوْشَب، حَدَّثتنِي أم شريك الْأَنْصَارِيَّة (قَالَت) : «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نَقْرَأ عَلَى الْجِنَازَة بِفَاتِحَة الْكتاب» وَشهر هَذَا سلف أَقْوَال أهل الْفَنّ فِيهِ فِي بَاب النَّجَاسَات، وَحَمَّاد وَثَّقَهُ ابْن معِين وَابْن حبَان، وَقَالَ ابْن عدي: مُنكر الحَدِيث، لم أجد لَهُ غير حديثين (أَحدهمَا) هَذَا. وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَن من الْأَركان(5/259)
التَّكْبِيرَات الْأَرْبَع، ويغني عَنهُ فِي الدّلَالَة أَحَادِيث صَحِيحَة، مِنْهَا حَدِيث أنس السالف قَرِيبا، وَمِنْهَا أَحَادِيث ثَابِتَة فِي «الصَّحِيحَيْنِ» (أَحدهَا) : عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى عَلَى قبر وَكبر أَرْبعا» . ثَانِيهَا: عَن أبي هُرَيْرَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نَعَى النَّجَاشِيّ فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخرج بهم إِلَى الْمُصَلى، فَصف بهم وَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا» . ثَالِثهَا: عَن جَابر: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيّ، فَكبر أَرْبعا» .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين
ثَبت «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كبر عَلَى الْجِنَازَة أَكثر من أَربع» .
هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي «صَحِيح مُسلم» عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى قَالَ: «كَانَ زيد يكبر عَلَى جنائزنا أَرْبعا، وَأَنه كبر عَلَى جَنَازَة خمْسا فَسَأَلته، فَقَالَ: كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يكبرها) » . وَزيد هَذَا هُوَ ابْن أَرقم، كَمَا جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي بعض الطّرق. وَرَوَى أَحْمد عَن عبد الصَّمد، ثَنَا(5/260)
عبد الْعَزِيز بن مُسلم، ثَنَا يَحْيَى بن عبد الله الجابر، عَن عِيسَى مولَى لِحُذَيْفَة «أَنه صَلَّى عَلَى جَنَازَة فكبَّر خمْسا، وَقَالَ: فعلت كَمَا فعل حُذَيْفَة. وَقَالَ حُذَيْفَة: فعلت كَمَا فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» يَحْيَى هَذَا ضعفه النَّسَائِيّ، وَرَوَى ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب «الْإِعْلَام بناسخ الحَدِيث ومنسوخه» من حَدِيث الزبير بن الْعَوام «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كبَّر عَلَى (حَمْزَة) سبع تَكْبِيرَات» . وَمن حَدِيث ابْن مَسْعُود قَالَ: «حفظنا التَّكْبِير عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قد كبَّر أَرْبعا وخمسًا وَسبعا، فَمَا كبَّر إمامكم فكبروا» . وَقد جَاءَت الزِّيَادَة أَيْضا عَلَى الْأَرْبَع عَن بعض الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم فَعَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه كبر عَلَى سهل بن حنيف سِتا، وَكَانَ شهد بَدْرًا» . رَوَاهُ البرقاني فِي «صَحِيحه» وَأَصله فِي «البُخَارِيّ» لكنه قَالَ: «يكبِّر عَلَيْهِ» وَلم يذكر عددا. وَعنهُ أَيْضا «أَنه كَانَ يكبر عَلَى أهل بدر سِتا، وَعَلَى سَائِر الصَّحَابَة خمْسا، وَعَلَى سَائِر النَّاس أَرْبعا» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» وَعنهُ أَيْضا: «أَنه صَلَّى عَلَى أبي قَتَادَة فَكبر عَلَيْهِ سبعا» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَى، وَهُوَ غلط؛ لِأَن أَبَا قَتَادَة بَقِي بعد عَلّي مُدَّة طَوِيلَة. وَأما ابْن عبد الْبر فَإِنَّهُ قَالَ فِي «تمهيده» : إِنَّه رُوِيَ من وُجُوه. وَنقل الكلاباذي عَن ابْن سعد عَن الْهَيْثَم بن عدي قَالَ: توفّي أَبُو قَتَادَة(5/261)
بِالْكُوفَةِ وَعلي بهَا، وَهُوَ صَلَّى عَلَيْهِ. وَفِيه النّظر الْمَذْكُور؛ لِأَن عليًّا توفّي سنة أَرْبَعِينَ، كَمَا ذكره الكلاباذي فِي تَرْجَمته، وَأَبُو قَتَادَة توفّي سنة أَربع وَخمسين، كَمَا ذكره أَيْضا فِي تَرْجَمته، وَعَن الحكم بن عتيبة أَنه قَالَ: «كَانُوا يكبرُونَ عَلَى أهل بدر خمْسا، وستًا، وَسبعا» . رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور فِي «سنَنه» .
تَنْبِيه: فِي «علل ابْن أبي حَاتِم» حَدِيث غَرِيب عَن مُحَمَّد بن مسلمة قَالَ: «السّنة عَلَى الْجِنَازَة أَن يكبر الإِمَام، ثمَّ يقْرَأ أم الْقُرْآن فِي نَفسه، ثمَّ يَدْعُو ويخلص الدُّعَاء للْمَيت، ثمَّ يكبر ثَلَاثًا، ثمَّ يسلم وينصرف، وَيفْعل من وَرَاءه ذَلِك» . كَذَا وجدته: «يكبر ثَلَاثًا» . قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ، فَقَالَ: هُوَ خطأ؛ إِنَّمَا هُوَ حبيب بن مسلمة. قَالَ الرَّافِعِيّ: والأربع أولَى لاستقرار الْأَمر عَلَيْهَا واتفاق الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
قلت: أما اسْتِقْرَار الْأَمر عَلَيْهَا، فَفِي «النَّاسِخ والمنسوخ» لِابْنِ شاهين، وَرَوَاهُ (ابْن) الْجَوْزِيّ فِي «ناسخه» أَيْضا عَنهُ عَن (مُحَمَّد بن عَلّي بن نيزك) الطوسي، نَا كثير بن شهَاب الْقزْوِينِي، نَا(5/262)
عبد الله بن الْجراح، نَا زَافِر بن سُلَيْمَان، عَن أبي (الْعَلَاء) ، عَن مَيْمُون بن مهْرَان، عَن عبد الله بن عمر قَالَ: «آخر مَا كبر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى (الْجَنَائِز) أَرْبعا» . قَالَ: وثنا أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْآدَمِيّ، نَا أَحْمد بن الْوَلَد الفحام، نَا خُنَيْس بن بكر بن خُنَيْس، ثَنَا الْفُرَات (ابْن) سُلَيْمَان الْجَزرِي، عَن مَيْمُون، عَن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ: «آخر مَا كبر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْجَنَائِز أَرْبعا (وَهَذَا الْأَخير رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «آخر مَا كبر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْجَنَائِز أَرْبعا) وَكبر عمر عَلَى أبي بكر (أَرْبعا) ، وَكبر (عبد الله بن عمر عَلَى) عمر أَرْبعا، وَكبر الْحسن(5/263)
بن عَلّي عَلَى عَلّي أَرْبعا، وَكبر الْحُسَيْن بن عَلّي عَلَى الْحسن أَرْبعا، وَكَبرت الْمَلَائِكَة عَلَى آدم صَلَّى الله عَلَيْهِ أَرْبعا» . قَالَ الْحَاكِم: لست مِمَّن يخْفَى عَلَيْهِ أَن فرات بن السَّائِب لَيْسَ من شَرط الْكتاب، وَإِنَّمَا أخرجته شَاهدا لحَدِيث أنس قَالَ: «كَبرت الْمَلَائِكَة عَلَى آدم أَرْبعا، وَكبر أَبُو بكر عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَرْبعا، وَكبر عمر عَلَى أبي بكر أَرْبعا، وَكبر صُهَيْب عَلَى عمر أَرْبعا، وَكبر الْحسن بن عَلّي عَلَى عَلّي أَرْبعا، وَكبر الْحُسَيْن عَلَى الْحسن أَرْبعا» . قَالَ: وَهَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: ولمبارك بن فضَالة - يَعْنِي الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - من الزّهْد وَالْعلم بِحَيْثُ لَا يجرح مثله، إِلَّا أَن الشَّيْخَيْنِ لم يخرجَاهُ لسوء حفظه. وينجبر بِالشَّاهِدِ السَّابِق، وستعرف كَلَام الْبَيْهَقِيّ فِيهِ قَرِيبا أَيْضا.
وَقَالَ الْخلال فِي «علله» : أَخْبرنِي حَرْب قَالَ: سُئِلَ أَحْمد عَن أبي الْمليح، عَن مَيْمُون، عَن ابْن عَبَّاس «أَن آخر جَنَازَة صَلَّى عَلَيْهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كبر أَرْبعا» . قَالَ أَحْمد: هَذَا كذب، إِنَّمَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن زِيَاد الطَّحَّان، وَكَانَ يضع الحَدِيث. وَقَالَ الْأَثْرَم: رَوَاهُ مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة النَّيْسَابُورِي، عَن أبي الْمليح، عَن مَيْمُون، عَن ابْن عَبَّاس «أَن الْمَلَائِكَة صلت عَلَى آدم، فكبرت عَلَيْهِ أَرْبعا» . قَالَ أَبُو عبد الله: (رَأَيْت لمُحَمد) (هَذَا أَحَادِيث مَوْضُوعَة. فَذكر مِنْهَا) هَذَا الحَدِيث، واستعظمه أَبُو عبد الله وَقَالَ: أَبُو الْمليح كَانَ أصح حَدِيثا وَأَتْقَى لله من أَن يروي مثل هَذَا.
وَأما اتِّفَاق الصَّحَابَة عَلَى ذَلِك فقد قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : بَاب(5/264)
مَا يسْتَدلّ بِهِ عَلَى أَن أَكثر الصَّحَابَة اجْتَمعُوا عَلَى أَربع وَرَأَى بَعضهم الزِّيَادَة مَنْسُوخَة. ثمَّ سَاق بِسَنَدِهِ إِلَى عَمْرو بن مرّة قَالَ: سَمِعت سعيد بن الْمسيب يحدث عَن عمر قَالَ: كل ذَلِك قد كَانَ، أَرْبعا وخمسًا، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى (أَربع، التَّكْبِير عَلَى الْجِنَازَة) . رَوَاهُ من حَدِيث (أبي الْجَعْد) ، أَنا شُعْبَة، عَن عَمْرو بن مرّة، وَأعله ابْن حزم (بِأبي الْجَعْد) وَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقد احْتج بِهِ البُخَارِيّ، ووثق. ثمَّ سَاق بِسَنَدِهِ إِلَى أبي وَائِل قَالَ: «كَانُوا يكبرُونَ عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خمْسا وَسبعا وستًا، أَو قَالَ: أَرْبعا، فَجمع عمر بن الْخطاب أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخْبر كل رجل بِمَا رَأَى، فَجَمعهُمْ (عمر) عَلَى أَربع تَكْبِيرَات، (كأطول) الصَّلَاة» . وَفِي رِوَايَة (عَن [وَكِيع عَن سُفْيَان] «أَرْبعا» مَكَان (سِتا) قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يروي) وَكِيع، عَن مسعر، عَن عبد الْملك بن إِيَاس الشَّيْبَانِيّ، عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: «اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله(5/265)
(فِي بَيت (أبي) مَسْعُود الْأنْصَارِيّ، فَأَجْمعُوا أَن التَّكْبِير عَلَى الْجِنَازَة أَربع» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَحَدِيث ابْن عَبَّاس «آخر جَنَازَة صَلَّى عَلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كبر أَرْبعا» تفرد بِهِ النَّضر بن عبد الرَّحْمَن الخزاز عَن عِكْرِمَة، وَهُوَ ضَعِيف، وَرُوِيَ هَذَا اللَّفْظ من وُجُوه أخر كلهَا ضَعِيفَة، إِلَّا أَن اجْتِمَاع أَكثر الصَّحَابَة عَلَى الْأَرْبَع كالدليل عَلَى ذَلِك، ثمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ إِلَى عَلّي: «أَنه كبر أَرْبعا» وَكَذَلِكَ زيد بن ثَابت ثمَّ بِسَنَدِهِ إِلَى الشّعبِيّ قَالَ: «صَلَّى ابْن عمر عَلَى زيد بن عمر وَأمه أم كُلْثُوم بنت عَلّي، فَجعل [الرجل] مِمَّا يَلِي الإِمَام وَالْمَرْأَة من خَلفه، فَصَلى [عَلَيْهِمَا] أَرْبعا، و (خَلفه) ابْن الْحَنَفِيَّة وَالْحُسَيْن بن عَلّي وَابْن عَبَّاس» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَمِمَّنْ روينَا عَنهُ من الصَّحَابَة أَنه كبر أَرْبعا: عبد الله بن مَسْعُود، والبراء، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَعقبَة بن عَامر. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «الْإِعْلَام» : اعْلَم أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخْتَلف تكبيره عَلَى الْجِنَازَة، إِلَّا أَن الْأَغْلَب وَالْأَشْهر (أَنه) كَانَ أَربع تَكْبِيرَات، فروَى عَنهُ عمر بن الْخطاب، وسعيدُ بن زيد، وَعبد الله بن عمر، وَجَابِر، وَأنس بن مَالك، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَزيد بن أَرقم، وَعَمْرو بن عَوْف، وَيزِيد(5/266)
بن ثَابت أَخُو زيد، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس: «أَنه كَانَ يكبِّر أَرْبعا» وَقد كَانَ أَبُو بكر، وَعمر، (و) عُثْمَان، وَعلي، وَابْن مَسْعُود، وَغَيرهم من كبار الصَّحَابَة يكبرُونَ أَرْبعا.
الحَدِيث (الثَّالِث) بعد الْأَرْبَعين
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَرَأَ فِيهَا - يَعْنِي فِي صَلَاة الْجِنَازَة - بِأم الْقُرْآن» .
هَذَا الحَدِيث تقدم قَرِيبا الْكَلَام عَلَيْهِ، ويغني فِي الدّلَالَة عَنهُ - فَإِن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهِ عَلَى وجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي صَلَاة الْجِنَازَة - مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه صَلَّى عَلَى جَنَازَة فَقَرَأَ بِفَاتِحَة الْكتاب، وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّة» . قَوْله: (سنة) هُوَ كَقَوْل الصَّحَابِيّ: «من السّنة كَذَا» وَهُوَ مَرْفُوع عَلَى الْأَصَح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ والمحدثين، وَنقل الْبَيْهَقِيّ الِاتِّفَاق عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة للبيهقي بِإِسْنَاد البُخَارِيّ: «وَقَالَ: إِنَّهَا من السّنة» . وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي: «إِنَّهَا من السّنة، أَو من تَمام السّنة» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَفِي رِوَايَة للشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «يجْهر بِالْقِرَاءَةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا جهرت لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سنة» إسنادها حسن. وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : «فجهر(5/267)
بِالْحَمْد لله، وَقَالَ: إِنَّمَا جهرت لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سنة» يَعْنِي: لِتَعْلَمُوا أَن الْقِرَاءَة مَأْمُور بهَا. وَفِي رِوَايَة لَهُ وَلابْن حبَان: «فَقَالَ: إِنَّه حق وَسنة» . قَالَ الْحَاكِم: إِسْنَاده صَحِيح، وَفِي رِوَايَة للنسائي وَالْبَيْهَقِيّ: «فَقَرَأَ بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ذكر السُّورَة غير مَحْفُوظ. وَرَوَى هَذِه الرِّوَايَة أَيْضا أَبُو يعْلى فِي «مُسْنده» ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: إسنادها صَحِيح.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْأَرْبَعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف بَيَانه مَرَّات.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْأَرْبَعين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا صَلَاة لمن لم يصل عَلّي» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب كَيْفيَّة الصَّلَاة، ويُغني عَنهُ فِي الدّلَالَة مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وتلميذه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف أَنه أخبرهُ رجل من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَن السّنة فِي الصَّلَاة عَلَى الْجِنَازَة أَن يكبر الإِمَام، ثمَّ يُصَلِّي عَلَى(5/268)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ويخلص الدُّعَاء فِي التَّكْبِيرَات الثَّلَاث، ثمَّ يسلم تَسْلِيمًا خفِيا، وَالسّنة أَن يفعل (مَنْ) وَرَاءه مثل مَا فعل إِمَامه» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ، وَلَيْسَ فِي التسليمة الْوَاحِدَة عَلَى الْجِنَازَة أصح مِنْهُ، ثمَّ ذكر لَهُ شَاهدا.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْأَرْبَعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا صليتم عَلَى الْمَيِّت فأخلصوا لَهُ الدُّعَاء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَلم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد، وَفِيه ابْن إِسْحَاق، وعنعنته، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» : فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، فَلَعَلَّهُ يكون ثَبت عِنْد أبي دَاوُد سَمَاعه مِنْهُ.
قلت: قد ثَبت بِحَمْد الله، وَصَححهُ ابْن حبَان أَيْضا؛ فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» أَولا بالعنعنة، ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن ابْن إِسْحَاق لم يسمع هَذَا الْخَبَر من مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم. ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ إِلَى مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم ...(5/269)
فَذكره، وَكَذَا أخرجه الْحَاكِم أَبُو أَحْمد أَيْضا.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْأَرْبَعين
عَن عَوْف بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «صَلَّى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى جَنَازَة، فَحفِظت من دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ وارحمه، وعافه واعف عَنهُ، وَأكْرم نزله ووسع مدخله، واغسله بِالْمَاءِ والثلج وَالْبرد، ونقه من الْخَطَايَا كَمَا نقيت الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس، وأبدله دَارا خيرا من دَاره، وَأهلا خيرا من أَهله، وزوجًا خيرا من زوجه، وَأدْخلهُ الْجنَّة، وأعذه من عَذَاب الْقَبْر وَمن عَذَاب النَّار. حَتَّى تمنيت أَن أكون ذَلِك الْمَيِّت؛ لدعاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (عَلَى ذَلِك) الْمَيِّت» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم بِهَذِهِ الْحُرُوف، وَمِنْه نقلته، وَفِيه زِيَادَة عَلَى مَا فِي الْكتاب، فَإِنَّهُ أسقط مِنْهُ: «وَأدْخلهُ الْجنَّة» وَهِي ثَابِتَة فِي «صَحِيح مُسلم» كَمَا سُقْنَاهَا، وَزَاد مُسلم أَيْضا فِي رِوَايَة لَهُ: «وقِهِ فتْنَة الْقَبْر، وَعَذَاب (الْقَبْر) » . والرافعي ذكر هَذِه الزِّيَادَة، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مُخْتَصرا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى عَلَى ميت، ففهمت من صلَاته عَلَيْهِ السَّلَام: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ وارحمه، واغسله بالبرد، واغسله كَمَا يغسل الثَّوْب» .(5/270)
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْأَرْبَعين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «صَلَّى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى جَنَازَة، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لحينا وميتنا، وصغيرنا وَكَبِيرنَا، ذكرنَا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللَّهُمَّ من أحييته منا فأحيه عَلَى الْإِسْلَام، وَمن توفيته منا فتوفه عَلَى الْإِيمَان» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن ماجة من هَذَا الْوَجْه، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور هُوَ لفظ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وَلَفظ أَحْمد: «كَانَ إِذا صَلَّى عَلَى جَنَازَة قَالَ ... » فَذكره، وَلَفظ أبي دَاوُد كالأولين إِلَّا أَنه قَالَ: «من أحييته منا فأحيه عَلَى الْإِيمَان، وَمن (توفيته) منا فتوفه عَلَى الْإِسْلَام» عكس رِوَايَة الْجُمْهُور، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» زَاد أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي آخِره: «اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمنَا أجره وَلَا تضلنا بعده» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد ذكره كَذَلِك الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر «اقتراحه» . قَالَ الْحَاكِم: وَله شَاهد صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم(5/271)
.. فَذكره بِإِسْنَادِهِ من رِوَايَة أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: «سَأَلت عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ: كَيفَ كَانَت صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْمَيِّت؟ قَالَت: كَانَ يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لحينا وميتنا ... » الحَدِيث كَمَا سلف.
قلت: وَشَاهد ثَان من حَدِيث أبي إِبْرَاهِيم الأشْهَلِي عَن أَبِيه مَرْفُوعا، رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي «عمل يَوْم وَلَيْلَة» وَلَفْظهمْ مثل رِوَايَة أبي هُرَيْرَة إِلَى قَوْله: و «أنثانا» .
وَشَاهد ثَالِث من حَدِيث أبي قَتَادَة رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا كَمَا رَوَاهُ الْجُمْهُور عَن أبي هُرَيْرَة. وَشَاهد رَابِع من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَمِعت البُخَارِيّ يَقُول: أصح الرِّوَايَات فِي هَذَا حَدِيث أبي إِبْرَاهِيم الأشْهَلِي عَن أَبِيه قَالَ: وَسَأَلته عَن اسْم أبي إِبْرَاهِيم فَلم يعرفهُ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: قَالَ أبي: (أَبُو) إِبْرَاهِيم وَأَبوهُ مَجْهُولَانِ. قَالَ: و (قد) توهم بعض النَّاس أَنه عبد الله بن أبي قَتَادَة، وَهُوَ غلط، فَإِن أَبَا قَتَادَة من بني سَلمَة،(5/272)
وَأَبُو إِبْرَاهِيم رجل من بني عبد الْأَشْهَل. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ البُخَارِيّ: أصح حَدِيث فِي الْبَاب حَدِيث عَوْف بن مَالك ... وَذكره مُخْتَصرا كَمَا تقدم، وَحَكَى الْبَيْهَقِيّ عَن التِّرْمِذِيّ (عَن البُخَارِيّ) أَنه قَالَ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَعَائِشَة وَأبي قَتَادَة فِي هَذَا الْبَاب غير مَحْفُوظ، وَأَصَح شَيْء فِيهِ حَدِيث عَوْف بن مَالك. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» فِي (الْبَاب) عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعَائِشَة وَأبي قَتَادَة وَجَابِر وعَوْف بن مَالك. قَالَ: وَحَدِيث وَالِد أبي إِبْرَاهِيم الأشْهَلِي حَدِيث حسن صَحِيح. (قَالَ: وَرُوِيَ أَيْضا من رِوَايَة أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا) . قَالَ: وَرَوَى عِكْرِمَة بن عمار عَن يَحْيَى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ: وَهَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ، وَعِكْرِمَة (مِمَّن يهم فِي الحَدِيث) وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث يَحْيَى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة السَّابِق، فَقَالَ: هَذَا خطأ، الْحفاظ لَا يَقُولُونَ «أَبُو هُرَيْرَة» إِنَّمَا يَقُولُونَ «أَبُو سَلمَة أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: لَا يَقُول «أَبُو هُرَيْرَة» وَلَا يوصله(5/273)
عَن أبي هُرَيْرَة إِلَّا غير متقن وَالصَّحِيح أَنه مُرْسل.
فصل: وَأما الدُّعَاء الَّذِي ذكره الشَّافِعِي وَهُوَ: «اللَّهُمَّ إِن هَذَا عَبدك وَابْن عَبدك ... » إِلَى آخِره فَلم أره مجموعًا فِي حَدِيث وَاحِد، وَإِنَّمَا التقطه من عدَّة أَحَادِيث، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الشَّافِعِي أَخذ مَعَاني مَا جمع من الدُّعَاء.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْأَرْبَعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا أدركتم فصلوا وَمَا فاتكم فاقضوا» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي صَلَاة الْجَمَاعَة فَرَاجعه مِنْهُ ثمَّ.
الحَدِيث (الْخَمْسُونَ)
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَة جمَاعَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مَشْهُور متكرر فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، مِنْهَا صلَاته عَلَى النَّجَاشِيّ، كَمَا ستعلمه قَرِيبا، وَمِنْهَا صلَاته عَلَى من لَا دين عَلَيْهِ، كَمَا ستعرفه فِي مَوْضِعه، وَغير ذَلِك.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْخمسين
«أَن الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم - صلوا عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فُرَادَى» .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق:
إِحْدَاهَا: (من) رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «لما صُلِي(5/274)
عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَدخل الرِّجَال فصلوا عَلَيْهِ بِغَيْر إِمَام أَرْسَالًا حَتَّى فرغوا، ثمَّ أَدخل النِّسَاء فصلين عَلَيْهِ، ثمَّ أَدخل الصّبيان فصلوا عَلَيْهِ، ثمَّ أَدخل العبيد فصلوا عَلَيْهِ أَرْسَالًا، لم يؤمهم عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أحد» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ كَذَلِك فِي «سنَنه» بِنَحْوِهِ من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، حَدثنِي الْحُسَيْن بن عبد الله بن عبيد الله، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ، وحسين هَذَا تَركه النَّسَائِيّ، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه وَلَفظه: «فَلَمَّا فرغوا من جهازه يَوْم الثُّلَاثَاء وضع عَلَى سَرِيره فِي بَيته، ثمَّ دخل النَّاس عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَرْسَالًا يصلونَ، (حَتَّى إِذا فرغوا (دخل) النِّسَاء) حَتَّى إِذا فرغوا أدخلُوا الصّبيان، وَلم يؤم النَّاس عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أحد ... » ثمَّ سَاق بَقِيَّة الحَدِيث.
(الطَّرِيق الثَّانِي) : من رِوَايَة أبي عسيب «أَنه شهد الصَّلَاة عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالُوا: كَيفَ نصلي (عَلَيْهِ) ؟ قَالَ: ادخُلُوا أَرْسَالًا. قَالَ: فَكَانُوا يدْخلُونَ من هَذَا الْبَاب فيصلون عَلَيْهِ، ثمَّ يخرجُون من الْبَاب الآخر. قَالَ: فَلَمَّا وضع فِي لحده قَالَ الْمُغيرَة: قد بَقِي من رجلَيْهِ شَيْء أصلحوه. قَالُوا: فَادْخُلْ فأصلحه. فَدخل وَأدْخل يَده فمس قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: أهيلوا عليَّ التُّرَاب. (فأهالوا) عَلَيْهِ حَتَّى بلغ أَنْصَاف سَاقيه، ثمَّ خرج،(5/275)
فَكَانَ يَقُول: أَنا أحدثكُم عهدا برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن بهز، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أبي عمرَان الْجونِي، عَن أبي عسيب بِهِ.
(الطَّرِيق الثَّالِث) : من رِوَايَة جَابر بن عبد الله وَابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الْمُنعم بن إِدْرِيس، عَن أَبِيه، عَن وهب بن مُنَبّه عَنْهُمَا، فِي حَدِيث طَوِيل، وَفِيه: «فَقَالَ عَلّي: يَا رَسُول الله، إِذا أَنْت قبضت فَمن يغسلك، وفيم نكفنك، وَمن يُصَلِّي عَلَيْك، وَمن (يدْخلك) الْقَبْر؟ فَقَالَ: يَا عَلّي، أما الْغسْل فاغسلني أَنْت، وَالْفضل بن الْعَبَّاس يصب عَلَيْك المَاء، وَجِبْرِيل ثالثكما، فَإِذا أَنْتُم فَرَغْتُمْ من غسْلي فكفنوني فِي ثَلَاثَة أَثوَاب جدد، وَجِبْرِيل يأتيني بحنوط من الْجنَّة، فَإِذا أَنْتُم وضعتموني عَلَى السرير فضعوني فِي الْمَسْجِد واخرجوا عني، فَإِن أول من يُصَلِّي عليَّ الرب - عَزَّ وَجَلَّ - من فَوق عَرْشه، ثمَّ جِبْرِيل، ثمَّ مِيكَائِيل، ثمَّ إسْرَافيل، ثمَّ الْمَلَائِكَة زمرًا زمرًا، ثمَّ ادخُلُوا (فَقومُوا) صُفُوفا، لَا يتَقَدَّم عَلّي أحد» . وَهُوَ حَدِيث طَوِيل فِي (ثَلَاث) أوراق، فِيهِ قصَّة عكاشة، لكنه ضَعِيف، ثمَّ عبد الْمُنعم مَتْرُوك، قَالَ أَحْمد: يكذب عَلَى وهب وَعَلَى غَيره، مَتْرُوك. ووالده ضعفه ابْن عدي، قَالَ ابْن دحْيَة فِي «تنويره» : حَكَى الْبَزَّار والطبري أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «أول (من)(5/276)
يُصَلِّي (عَلّي) رب الْعِزَّة ... » فِي حَدِيث طَوِيل، كرهت أَن أذكرهُ؛ لِأَن الْبَزَّار قَالَ فِي «علله» : إِنَّه مَوْضُوع. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم الْأَزْدِيّ: فِي حَدِيث مَعْلُول «أَنهم صلوا بِصَلَاة جِبْرِيل، وَكَبرُوا بتكبيره» . وَالصَّحِيح مَا تقدم أَنهم صلوا (أفذاذًا) وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بتوقيف، وَقد رُوِيَ أَنه أَوْصَى بِهِ، ذكره الْبَزَّار والطبري وَغَيرهمَا، حَكَاهُ عَنْهُم ابْن دحْيَة فِي الْكتاب الْمَذْكُور، وَرَوَى الصَّلَاة عَلَيْهِ (أفذاذًا) مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» بلاغًا، وَابْن عبد الْبر فِي آخر «تمهيده» ، وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث نُبَيْط بن شُرَيْط بن أنس الْأَشْجَعِيّ الصَّحَابِيّ، قَالَ ابْن عبد الْبر: وَصَلَاة النَّاس عَلَيْهِ (أفذاذًا) (الْمُجْتَمع) عَلَيْهِ عِنْد أهل [السّير] وَجَمَاعَة أهل النَّقْل لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. قَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «مرج الْبَحْرين» : وَأَنا متعجب من قَوْله عَلَى اتساع (علمه) ؛ فَإِن الْخلاف فِيهِ مَنْصُوص (هَل) كَانَت الصَّلَاة عَلَيْهِ كصلاتنا عَلَى أمواتنا أم لَا، فَقيل: دُعَاء(5/277)
فَقَط. وَقيل: صلوا الصَّلَاة (الْمَعْهُودَة) . حَكَى ابْن الْقصار الْقَوْلَيْنِ عَن أَصْحَاب مَالك، وَاخْتلف بعدُ هَل صلوا عَلَيْهِ أفذاذًا أم جمَاعَة، وَاخْتلف بعد فِيمَن أم بهم، فَقيل: أَبُو بكر. ذكره ابْن الْقصار، وَذَلِكَ بَاطِل بِيَقِين لضعف رُوَاته وانقطاعه، وَالصَّحِيح (أَن (الْمُسلمين) صلوا عَلَيْهِ (أفذاذًا) لَا يؤمهم أحد، كلما جَاءَت طَائِفَة صلت عَلَيْهِ» وَهُوَ حَدِيث مَحْفُوظ.
قلت: وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» فِي آخر وَفَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من حَدِيث سَلام بن سُلَيْمَان الْمَدَائِنِي، ثَنَا سَلام بن (سُلَيْمَان) الطَّوِيل، عَن عبد الْملك بن عبد الرَّحْمَن، عَن الْحسن العرني، عَن الْأَشْعَث بن طليق، عَن مرّة بن شرَاحِيل، عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: «لما ثقل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قُلْنَا: من يُصَلِّي عَلَيْك يَا رَسُول الله؟ فَبَكَى وبكينا، فَقَالَ: مهلا، غفر الله لكم، وجزاكم عَن نَبِيكُم (خيرا) ، إِذا غسلتموني وكفنتموني وحنطتموني فضعوني عَلَى شَفير قَبْرِي، ثمَّ اخْرُجُوا عني سَاعَة، فَإِن أول من يُصَلِّي عَلّي خليلي وحبيبي جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، ثمَّ إسْرَافيل، ثمَّ ملك الْمَوْت مَعَ جنود الْمَلَائِكَة، ثمَّ ليبدأ بِالصَّلَاةِ رجال أهل بَيْتِي، ثمَّ نِسَاؤُهُم، ثمَّ ادخُلُوا أَفْوَاجًا وفرادى، وَلَا تؤذوني بباكية وَلَا برنة وَلَا بصيحة، وَمن كَانَ غَائِبا من أَصْحَابِي فأبلغوه مني السَّلَام،(5/278)
فَإِنِّي أشهدكم أَنِّي قد [سلمت] عَلَى من دخل فِي الْإِسْلَام، وَمن (تابعني) عَلَى ديني هَذَا مُنْذُ الْيَوْم إِلَى الْقِيَامَة» . ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: عبد الْملك مَجْهُول، لَا نعرفه بعدالة وَلَا جرح، وَالْبَاقُونَ كلهم ثِقَات.
قلت: عبد الْملك كذبه الفلاس، وَسَلام بن سُلَيْمَان الْمَدَائِنِي قَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَسَلام بن سُلَيْمَان الطَّوِيل تَرَكُوهُ، والعرني لَيْسَ بِشَيْء كَمَا قَالَه الْأَزْدِيّ، فَأَيْنَ الثِّقَة فِي هَؤُلَاءِ؟ ! .
فَائِدَة: فِي (السِّرّ) فِي كَونهم صلوا عَلَيْهِ أفذاذا، قَالَ الشَّافِعِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَذَلِكَ لعظم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، بِأبي هُوَ وَأمي، وتنافسهم فِي أَن لَا يتَوَلَّى الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ وَاحِد. قَالَ ابْن دحْيَة: وَكَانَ المصلون عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ ألفا. كَذَا قَالَ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْخمسين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صلوا) عَلَى من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي صَلَاة الْجَمَاعَة وَاضحا، والرافعي ذكره دَلِيلا للقائل بِسُقُوط الْفَرْضِيَّة عِنْد صَلَاة ثَلَاثَة، فَقَالَ: وَاحْتج لَهُ ... فَذكر(5/279)
الحَدِيث، خَاطب بِهِ الْجمع وَأقله ثَلَاثَة، وَلَو احْتج لهَذَا الْقَائِل بالأحاديث الصَّحِيحَة، كَقَوْلِه لأَصْحَاب الْمَيِّت (الَّذِي عَلَيْهِ) الدَّين: «صلوا عَلَى صَاحبكُم» وَغَيره من الْأَحَادِيث لأفاد هَذَا الْغَرَض.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْخمسين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أخبر بِمَوْت النَّجَاشِيّ فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَخرج بهم إِلَى الْمُصَلى، فَصف بهم، وَكبر أَرْبعا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَله طرق:
أَحدهَا: من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَعَى النَّجَاشِيّ فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخرج (بهم) إِلَى الْمُصَلى، فَصف بهم، وَكبر أَربع تَكْبِيرَات» مُتَّفق عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة لَهما: «فَقَالُوا: اسْتَغْفرُوا لأخيكم» .
ثَانِيهَا: من رِوَايَة جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيّ، فَكبر أَرْبعا» . مُتَّفق عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «فَكنت فِي الصَّفّ(5/280)
الثَّانِي أَو الثَّالِث» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «فصففنا صفّين» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «صَلَّى عَلَى أَصْحَمَة النَّجَاشِيّ» .
ثَالِثهَا: من رِوَايَة عمرَان بن الْحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن أَخا لكم قد مَاتَ فَقومُوا فصلوا عَلَيْهِ. يَعْنِي: النَّجَاشِيّ» رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ، وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «إِن أَخَاكُم» .
وَمن الْأَحَادِيث الضعيفة: رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث كثير بن عبد الله الْمُزنِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كبر عَلَى النَّجَاشِيّ خمْسا» . وَقد ذكرت فِي «شرحي للعمدة» فَوَائِد تتَعَلَّق (بِلَفْظ) «النَّجَاشِيّ» واسْمه وَغير ذَلِك؛ فَرَاجعهَا مِنْهُ؛ فَإِنَّهَا لَا تُوجد مَجْمُوعَة كَذَلِك فِي غَيره. وَذكر الرَّافِعِيّ أَنه كَانَ بَين النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالنَّجَاشِي مسيرَة شهر، وَكَانَت وَفَاته فِي رَجَب سنة تسع من الْهِجْرَة.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْخمسين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بِقَبْر دفن لَيْلًا، فَقَالَ: مَتى دفن هَذَا؟ قَالُوا: البارحة. قَالَ: أَفلا آذنتموني؟ قَالُوا: دفناه فِي ظلمَة اللَّيْل؛ وكرهنا أَن نوقظك. فَقَامَ فصفنا خَلفه قَالَ ابْن عَبَّاس: وَأَنا فيهم، فَصَلى عَلَيْهِ» .(5/281)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، (رَوَاهُ) البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَلَفظ البُخَارِيّ: «مَاتَ إِنْسَان كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعودهُ، فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فدفنوه لَيْلًا، فَلَمَّا أصبح أَخْبرُوهُ، فَقَالَ: مَا منعكم أَن تعلموني؟ قَالُوا: كَانَ اللَّيْل فكرهنا - وَكَانَت ظلمَة - أَن نشق عَلَيْك. فَأَتَى قَبره فَصَلى عَلَيْهِ» وَفِي لفظ آخر: «فصففنا خَلفه. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَأَنا فيهم» . وَلَفظ مُسلم مُخْتَصرا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى عَلَى قبر بَعْدَمَا دفن، وَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا» .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْخمسين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى عَلَى قبر الْبَراء بن معْرور بعد شهر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي مُحَمَّد بن معبد بن أبي قَتَادَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى عَلَى قبر الْبَراء بن معْرور بعد مَوته بِسنة» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا وجدته فِي كتابي، وَالصَّوَاب: «بعد شهر» قَالَ: وَهَذَا مُرْسل. قَالَ: قد رُوِيَ عَن يَحْيَى بن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه مَوْصُولا دون التَّأْقِيت. ثمَّ رَوَى من حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى عَلَى قبر بعد شهر» ثمَّ نقل عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ: (تفرد) بِهِ بشر بن آدم،(5/282)
وَخَالفهُ غَيره أَن نقل: «بَعْدَمَا دفن» ، وَقيل: «بعد لَيْلَتَيْنِ» وَقيل: «بِثَلَاث» .
(فَائِدَة: معْرور: بِعَين وَرَاء مهملات، يُقَال: عيره بشر، أَي: لعِلَّة، فَهُوَ معرو، وَمِنْه: قَوْله تَعَالَى: (فتصيبكم مِنْهُم معرة بِغَيْر علم» قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلم تنقل الزِّيَادَة عَلَيْهِ.
قلت: بلَى، وَقد سلف أَنه رُوِيَ: «بعد سنة» ، وَإِن كَانَ الصَّوَاب خِلَافه، وَفِي التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سعيد بن الْمسيب «أَن أم سعد مَاتَت وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَائِب، فَلَمَّا قدم صَلَّى عَلَيْهَا وَقد مَضَى لذَلِك شهر» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا وَلَفظه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى عَلَيْهَا بعد مَوتهَا بِشَهْر» ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مُرْسل صَحِيح.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْخمسين
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي تَوْجِيه عدم الصَّلَاة عَلَى قبر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لِأَنَّهُ رُوِيَ (فِي الْخَبَر) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَنا أكْرم عَلَى رَبِّي من أَن يتركني فِي قَبْرِي بعد ثَلَاث» .
هَذَا الحَدِيث تبع الرَّافِعِيّ فِي إِيرَاده الإِمَام؛ فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك فِي «نهايته» ، ثمَّ قَالَ بعد: وَرُوِيَ «أَكثر من يَوْمَيْنِ» وَلَا أعلم من خرجه بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ، وَذكره بعض من (أدركناه) مِمَّن صنف فِي حَيَاة الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - فِي قُبُورهم فَلم يعزه، وَفِي كتاب «حَيَاة(5/283)
الْأَنْبِيَاء فِي قُبُورهم بعد مَوْتهمْ» لِلْحَافِظِ أبي بكر الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي الرّبيع الزهْرَانِي، نَا إِسْمَاعِيل بن طَلْحَة بن يزِيد، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، [عَن ثَابت] عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْأَنْبِيَاء لَا يتركون فِي قُبُورهم بعد أَرْبَعِينَ لَيْلَة، وَلَكنهُمْ يصلونَ بَين يَدي الله - تَعَالَى - حَتَّى ينْفخ فِي الصُّور» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِن صَحَّ بِهَذَا اللَّفْظ فَالْمُرَاد بِهِ - وَالله أعلم -: لَا يتركون لَا يصلونَ إِلَّا هَذَا الْمِقْدَار، ثمَّ يكونُونَ مصلين فِيمَا بَين يَدي الله تَعَالَى. كَمَا أَنا ... وسَاق بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث الْحسن بن قُتَيْبَة الْمَدَائِنِي، ثمَّ حَدثنَا [المستلم] بن سعيد الثَّقَفِيّ، عَن الْحجَّاج بن الْأسود، عَن ثَابت الْبنانِيّ، عَن أنس أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْأَنْبِيَاء أَحيَاء فِي قُبُورهم يصلونَ» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا يعد فِي أَفْرَاد الْحسن بن قُتَيْبَة الْمَدَائِنِي.
قلت: ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. وَأما ابْن السكن فَذكر الحَدِيث من وَجْهَيْن فِي «سنَنه الصِّحَاح» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ من حَدِيث يَحْيَى بن أبي بكير، عَن(5/284)
[المستلم] بن سعيد بِهِ، قَالَ (أَعنِي الْبَيْهَقِيّ فِي غير هَذَا الْكتاب: وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح. وَهُوَ كَمَا قَالَ) ؛ لِأَن رِجَاله كلهم ثِقَات، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ من وَجه آخر عَن أنس مَوْقُوفا: «الْأَنْبِيَاء أَحيَاء فِي قُبُورهم يصلونَ» . ثمَّ أسْندهُ من حَدِيث مُؤَمل، نَا (عبيد الله) بن أبي حميد الْهُذلِيّ، عَن أبي الْمليح، عَن أنس بِهِ. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ رفع أَجْسَادهم مَعَ أَرْوَاحهم؛ فقد رَوَى سُفْيَان الثَّوْريّ فِي جَامعه فَقَالَ: قَالَ شيخ (لنا) عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «مَا (مكث) نَبِي فِي قَبره أَكثر من أَرْبَعِينَ ليلةٍ حَتَّى يُرْفع» .
قلت: وَهَذَا مَشْهُور عَن ابْن الْمسيب، وَقد اشْتهر أَن جِدَار قبر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (انْهَدم) أَيَّام خلَافَة الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان وَولَايَة عمر بن عبد الْعَزِيز عَلَى الْمَدِينَة، بَدَت لَهُم قدم فخافوا أَن تكون قدم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وهالهم أمرهَا وجزعوا، حَتَّى رَوَى لَهُم سعيد بن الْمسيب «أَن جثث الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم لَا (تقيم) أَكثر من أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي الأَرْض، ثمَّ ترفع» . وَجَاء سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب فَعرف أَنَّهَا قدم جده عمر. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فعلَى هَذَا(5/285)
يصيرون كَسَائِر الْأَحْيَاء، تكون حَيْثُ ينزلهم الله - تَعَالَى - لما روينَا فِي حَدِيث الْمِعْرَاج وَغَيره: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَائِما يُصَلِّي فِي قَبره، ثمَّ رَآهُ مَعَ سَائِر الْأَنْبِيَاء فِي بَيت الْمُقَدّس، ثمَّ رَآهُمْ فِي السَّمَاوَات» وَالله - تَعَالَى - فعال لما يُرِيد.
قلت: وَفِي «الموضوعات» لأبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ من حَدِيث أنس (رَفعه) : «مَا من نَبِي يَمُوت فيقيم فِي قَبره إِلَّا أَرْبَعِينَ صباحًا، حَتَّى يرد الله إِلَيْهِ روحه» . ثمَّ قَالَ: قَالَ ابْن حبَان: هَذَا حَدِيث بَاطِل مَوْضُوع. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ولحياة الْأَنْبِيَاء فِي قُبُورهم بعد مَوْتهمْ شَوَاهِد من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. ثمَّ ذكر حَدِيث أنس الثَّابِت فِي «صَحِيح مُسلم» : «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ لَيْلَة أسرِي بِهِ مر عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبره» . وَفِي لفظ: «مَرَرْت عَلَى مُوسَى وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي قَبره» . وَفِي لفظ: «أتيت عَلَى مُوسَى لَيْلَة أسرِي بِي عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر» . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة الثَّابِت فِيهِ أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لقد رَأَيْتنِي فِي الْحجر وَأَنا أخبر قُريْشًا (عَن) مسراي، فسألوني(5/286)
عَن أَشْيَاء من بَيت الْمُقَدّس لم أثبتها، فكربت كربًا لم أكرب مثله قطّ، فرفعه الله لي أنظر إِلَيْهِ؛ فَمَا سَأَلُونِي (عَن) شَيْء إِلَّا أنبأتهم بِهِ، وَلَقَد رَأَيْتنِي فِي جمَاعَة من الْأَنْبِيَاء، فَإِذا مُوسَى قَائِم يُصَلِّي، وَإِذا رجل ضرب جعد كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة، وَإِذا عِيسَى ابْن مَرْيَم قَائِم يُصَلِّي، أقرب النَّاس مِنْهُ شبها عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، وَإِذا إِبْرَاهِيم قَائِم يُصَلِّي، أشبه النَّاس بِهِ صَاحبكُم - يَعْنِي: نَفسه - فحانت الصَّلَاة، فأممتهم، فَلَمَّا فرغت من الصَّلَاة قَالَ قَائِل: يَا مُحَمَّد، هَذَا مالكٌ صَاحب النَّار يسلم عَلَيْك، فَالْتَفت إِلَيْهِ فبدأني بِالسَّلَامِ» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي حَدِيث ابْن الْمسيب «أَنه لَقِيَهُمْ فِي مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس» . وَفِي حَدِيث أبي (ذَر) وَمَالك بن صعصعة فِي قصَّة الْمِعْرَاج «أَنه لَقِيَهُمْ فِي جمَاعَة من الْأَنْبِيَاء فِي السَّمَوَات، [وكلمهم وكلموه] ) . وكل ذَلِك صَحِيح، لَا يُخَالف بعضه بَعْضًا، فقد يرَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَائِما يُصَلِّي فِي قَبره، ثمَّ يُسرى بمُوسَى وَغَيره إِلَى بَيت الْمُقَدّس كَمَا أسرِي بنبينا، فَرَآهُمْ فِيهِ، ثمَّ يعرج بهم إِلَى السَّمَوَات كَمَا عرج بنبينا (فَرَآهُمْ) فِيهَا،، كَمَا أخبر (بحلولهم) فِي(5/287)
أَوْقَات، (بمواضع) مختلفات، جَائِز فِي الْعقل، كَمَا ورد بِهِ الْخَبَر الصَّادِق، وَفِي كل ذَلِك دلَالَة عَلَى حياتهم. قَالَ: وَمِمَّا يدل عَلَى ذَلِك حَدِيث أَوْس بن أَوْس قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أفضل أيامكم يَوْم الْجُمُعَة؛ فِيهِ خُلق آدم، وَفِيه قبض، وَفِيه النفخة، وَفِيه الصعقة، فَأَكْثرُوا عَلّي من الصَّلَاة فِيهِ، فَإِن صَلَاتكُمْ معروضة عَلّي قَالُوا: وَكَيف تعرض صَلَاتنَا عَلَيْك وَقد أرمت - يَقُولُونَ: بليت -؟ قَالَ: فَإِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - حرم عَلَى الأَرْض أَن تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» قَالَ: وَله شَوَاهِد، مِنْهَا: حَدِيث أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «أَكْثرُوا الصَّلَاة عَلّي فِي يَوْم الْجُمُعَة، فَإِنَّهُ لَيْسَ يُصَلِّي عَلّي أحد يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا عرضت عَلّي صلَاته» . وَحَدِيث أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: «أَكْثرُوا الصَّلَاة عليَّ يَوْم الْجُمُعَة، فَإِنَّهُ مشهود، تشهده الْمَلَائِكَة، وَإِن أحدا لن يُصَلِّي عَلّي إِلَّا عرضت عَلّي صلَاته حَتَّى يفرغ مِنْهَا. قَالَ: قلت: بعد الْمَوْت؟ قَالَ: إِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - حرم عَلَى الأَرْض أكل أجساد الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم السَّلَام - فَإِن نَبِي الله حَيّ يرْزق» . رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث زيد بن (أَيمن) ، عَن عبَادَة بن نسي، عَن أبي الدَّرْدَاء، وَإِسْنَاده حسن،(5/288)
إِلَّا أَنه غير مُتَّصِل، قَالَ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» : زيد عَن (عبَادَة) مُرْسل. وَحَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: «أَكْثرُوا عَلَى من الصَّلَاة فِي كل يَوْم (جُمُعَة) ؛ فَإِن صَلَاة أمتِي تعرض عَلّي فِي كل يَوْم (جُمُعَة) ، من كَانَ أَكْثَرهم عَلّي صَلَاة كَانَ أقربهم مني منزلَة يَوْم الْقِيَامَة» . وَحَدِيث أنس بن مَالك مَرْفُوعا: «إِن أقربكم مني يَوْم الْقِيَامَة فِي كل موطن أَكْثَرَكُم صَلَاة عَلّي فِي (الدُّنْيَا) ، من صَلَّى عَلّي فِي لَيْلَة الْجُمُعَة وَيَوْم الْجُمُعَة قَضَى الله لَهُ مائَة حَاجَة؛ سبعين من حوائج (الدُّنْيَا) ، وَثَلَاثِينَ من حوائج (الْآخِرَة) ، ثمَّ يُوكل الله بذلك ملكا يدْخلهُ فِي قَبْرِي كَمَا تدخل عَلَيْكُم الْهَدَايَا، يُخْبِرنِي من صَلَّى عَلّي باسمه وَنسبه إِلَى (عشيرته) ، فأثبته عِنْدِي فِي صحيفَة بَيْضَاء» . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبورًا وَلَا تجْعَلُوا قَبْرِي عيدًا، وصلوا عَلّي فَإِن صَلَاتكُمْ تبلغني حَيْثُ كُنْتُم» وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا مَرْفُوعا «مَا من أحد يسلم عَلّي إِلَّا رد الله إِلَيّ روحي حَتَّى أرد عَلَيْهِ السَّلَام» .(5/289)
قلت: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد جيد، وَالْمرَاد بِالروحِ هُنَا النُّطْق مجَازًا، فَتنبه لَهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي هَذَا الْمَعْنى حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود مَرْفُوعا: «إِن لله - تَعَالَى - مَلَائِكَة سياحين فِي الأَرْض، يبلغوني عَن أمتِي السَّلَام» . وحَدِيث ابْن عَبَّاس «لَيْسَ أحد من أمة مُحَمَّد (يُصَلِّي عَلَيْهِ صَلَاة إِلَّا وَهِي تبلغه، (يَقُول) : فلَان يُصَلِّي عَلَيْك كَذَا وَكَذَا صَلَاة» . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من صَلَّى عَلّي عِنْد قَبْرِي سمعته، وَمن صلي عَلّي نَائِيا (بلغته) » . فِي إِسْنَاد هَذَا نظر، و (مَضَى) مَا يؤكده، ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى سُلَيْمَان بن (عُثْمَان) قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي النّوم، فَقلت: يَا رَسُول الله، هَؤُلَاءِ الَّذين يأتونك فيسلمون عَلَيْك؛ أتفقه سلامهم؟ قَالَ: نعم، وأرد عَلَيْهِم» . قَالَ: وَمِمَّا يدل عَلَى حياتهم مَا (رَوَاهُ) البُخَارِيّ فِي(5/290)
«الصَّحِيح» (عَن) أبي هُرَيْرَة «فِي الرجلَيْن اللَّذين اسْتَبَّا، حِين قَالَ الْمُسلم: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالمين. واليهودي الَّذِي قَالَ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالمين. وصكه الْمُسلم، قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تخيروني عَلَى مُوسَى؛ فَإِن النَّاس يصعقون، فَأَكُون أول من يفِيق، فَإِذا مُوسَى باطش بِجَانِب الْعَرْش، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّن صُعق [فأفاق] من قبلي، أم كَانَ مِمَّن اسْتثْنى الله - عَزَّ وَجَلَّ -» . وَحَدِيث الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تفضلوا بَين (أَنْبيَاء) الله - تَعَالَى - فَإِنَّهُ ينْفخ فِي الصُّور فيصعق من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله، ثمَّ ينْفخ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُون أول من بعث، فَإِذا مُوسَى آخذ بالعرش، لَا أَدْرِي أحوسب (بصعقته) يَوْم الطّور، أم بعث قبلي» . فَهَذَا إِنَّمَا يَصح عَلَى (أَن الله - تَعَالَى، جلّ ثَنَاؤُهُ - رد) إِلَى الْأَنْبِيَاء أَرْوَاحهم، وهم أَحيَاء عِنْد رَبهم كالشهداء، فَإِذا نفخ فِي الصُّور النفخة الأولَى صعقوا فِيمَن صعق، وَلَا يكون ذَلِك موتا فِي جَمِيع مَعَانِيه إِلَّا فِي ذهَاب (الِاسْتِثْنَاء) ، فَإِن كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَن اسْتثْنى الله - تَعَالَى - بقوله: (إِلَّا من شَاءَ الله) فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يذهب اسْتِثْنَاؤُهُ فِي تِلْكَ الْحَالة(5/291)
وَيُحَاسب بصعقة يَوْم الطّور. وَيُقَال: إِن الشُّهَدَاء مِمَّن اسْتثْنى الله - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: (إِلَّا مَنْ شَاءَ الله) وروينا فِيهِ خَبرا مَرْفُوعا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي كِتَابه «دَلَائِل النُّبُوَّة» : الْأَنْبِيَاء أَحيَاء عِنْد رَبهم كالشهداء. وَقَالَ فِي كتاب «الِاعْتِقَاد» : والأنبياء بَعْدَمَا قبضوا ردَّتْ إِلَيْهِم أَرْوَاحهم، فهم أَحيَاء عِنْد رَبهم كالشهداء.
قلت: وَقد أطلنا فِي هَذَا الْموضع لكَونه من الْمَوَاضِع المهمة، فَلَا تسأم من طوله، ثمَّ رَأَيْت بعد ذَلِك أمرا غَرِيبا فِي كَلَام الْغَزالِيّ فِي كتاب «كشف عُلُوم الْآخِرَة» فَإِنَّهُ ذكر الحَدِيث الَّذِي أوردهُ الرَّافِعِيّ بِلَفْظ: قَالَ (: «إِنِّي أكْرم عِنْد الله من أَن يدعني فِي الأَرْض أَكثر من ثَلَاث» . ثمَّ قَالَ: وَكَأن الثَّلَاث عشرات، لِأَن الْحُسَيْن قتل عَلَى رَأس السِّتين، فَغَضب عَلَى أهل الأَرْض، وعرج بِهِ إِلَى أهل السَّمَاء. هَذَا لَفظه، وَهُوَ عَجِيب غَرِيب؛ ذكرته ليعرف.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْخمسين
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي تَوْجِيه عدم الصَّلَاة عَلَى قَبره أَيْضا: لما رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لعن الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى؛ اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أَخْرجَاهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من(5/292)
حَدِيث ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وَفِيهِمَا أَنه قَالَ ذَلِك عِنْد وَفَاته. وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جُنْدُب بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل أَن يَمُوت بِخمْس وَهُوَ يَقُول: «أَلا (فَلَا) تَتَّخِذُوا الْقُبُور مَسَاجِد، إِنِّي أنهاكم عَن ذَلِك» . وَرَوَى مُسلم أَيْضا عَن أبي مرْثَد الغنوي، واسْمه كناز - بالنُّون الْمُشَدّدَة وَالزَّاي - بن الْحصين أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تجلسوا عَلَى الْقُبُور، وَلَا تصلوا إِلَيْهَا» .
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْخمسين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يدْفن أَصْحَابه فِي الْمَقَابِر» .
هَذَا (الحَدِيث) صَحِيح متواتر، وَمن تدبر الْأَحَادِيث وجد ذَلِك، وَمِنْهَا الحَدِيث الصَّحِيح: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى الْمقْبرَة فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين ... » الحَدِيث بِطُولِهِ.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْخمسين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دفن فِي حجرَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها» .
هَذَا (الحَدِيث) أَيْضا صَحِيح متواتر مَعْرُوف، فَهُوَ (فِي)(5/293)
«صَحِيح البُخَارِيّ» عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فِي حَدِيثهَا فِي الْوَفَاة (قَالَت) : «فَلَمَّا كَانَ [يومي] قَبضه الله بَين سحرِي وَنَحْرِي، وَدفن فِي بَيْتِي» وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» عَن عَائِشَة قَالَت: «لما قبض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اخْتلفُوا فِي دَفنه، فَقَالَ أَبُو بكر: سَمِعت من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْئا مَا نَسِيته، قَالَ: مَا قبض الله نبيًّا إِلَّا فِي الْموضع الَّذِي يحب أَن يدْفن فِيهِ. ادفنوه فِي مَوضِع فرَاشه» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث غَرِيب، وَفِيه عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الْمليكِي (يضعف) ، وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من غير هَذَا الْوَجْه، قد رَوَاهُ ابْن عَبَّاس عَن أبي بكر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، حَدثنِي حُسَيْن بن عبد الله، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ فِي حَدِيث طَوِيل: «لقد اخْتلف الْمُسلمُونَ فِي الْموضع الَّذِي يحْفر لَهُ، فَقَالَ (قَائِلُونَ) : يدْفن فِي مَسْجده. وَقَالَ قَائِلُونَ: يدْفن مَعَ أَصْحَابه. فَقَالَ أَبُو بكر: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: مَا قبض نَبِي إِلَّا دفن حَيْثُ يقبض. قَالَ: فَرفعُوا فرَاش رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (الَّذِي توفّي عَلَيْهِ، ثمَّ دفن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) وسط اللَّيْل من لَيْلَة الْأَرْبَعَاء» . وحسين هَذَا تَركه النَّسَائِيّ، وَرَوَاهُ مَالك(5/294)
بِنَحْوِهِ بلاغًا، وَفِي «مُسْند أَحْمد» عَن عبد الرَّزَّاق، أَخْبرنِي ابْن جريج، أَخْبرنِي أبي أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (لم يدروا أَيْن يقبرون النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى قَالَ أَبُو بكر: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) [يَقُول] : لم يقبر نَبِي إِلَّا حَيْثُ يَمُوت. فأخروا (رَأسه) ، وحفروا لَهُ تَحت فرَاشه» .
الحَدِيث السِّتُّونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «احفروا، وأوسعوا، وأعمقوا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة من حَدِيث هِشَام بن عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُم يَوْم أحد ذَلِك، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لَهُم، خلا ابْن ماجة فَإِنَّهُ قَالَ: «أَحْسنُوا» بدل «أعمقوا» ، وخلا أَحْمد فَإِنَّهُ قَالَ: «احفروا، وأوسعوا» . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد(5/295)
قَالَ: «جَاءَت الْأَنْصَار إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم أحد فَقَالُوا: أَصَابَنَا قرح وَجهد فَكيف (تَأْمُرنَا) ؟ فَقَالَ: احفروا، وأوسعوا، وأعمقوا، وَاجْعَلُوا الرجلَيْن وَالثَّلَاثَة فِي الْقَبْر. قيل: فَأَيهمْ نقدم؟ قَالَ: أَكْثَرهم قُرْآنًا» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد فِي كتاب الْبيُوع من «سنَنه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي هَذَا الْبَاب من «سنَنه» من حَدِيث عَاصِم بن كُلَيْب عَن أَبِيه - وَهُوَ تَابِعِيّ - عَن رجل من الْأَنْصَار قَالَ: «خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي جَنَازَة، فَرَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْقَبْر يُوصي الْحَافِر: أوسع من قبل رجلَيْهِ، أوسع من قبل رَأسه» .
إِسْنَاده صَحِيح، وَعَاصِم من رجال مُسلم، وَهُوَ ثِقَة، كَمَا شهد لَهُ بذلك ابْن معِين وَغَيره، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لَا يحْتَج بِهِ إِذا انْفَرد. قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي الحَدِيث الأول: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، (رَوَاهُ) سُفْيَان الثَّوْريّ وَغَيره عَن أَيُّوب، عَن حميد بن هِلَال، عَن هِشَام بن (عَامر) . يُرِيد بذلك أَنه لَيْسَ بَين حميد وَهِشَام وَاسِطَة، وَقد أخرجه كَذَلِك النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد فِي «سُنَنهمَا» ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، عَن حميد، عَن أبي الدهماء قرفة بن بهيس - تَابِعِيّ انْفَرد بِهِ مُسلم - عَن هِشَام. قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي: أَي هذَيْن الْحَدِيثين أصح؟(5/296)
فَقَالَ: حَدِيث حميد عَن هِشَام. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة، عَن حميد، عَن هِشَام (بِهِ) .
فَائِدَة: هِشَام بن عَامر هَذَا أَنْصَارِي، كَانَ اسْمه شهابًا، فَغَيره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِهِشَام، وَاسْتشْهدَ أَبوهُ يَوْم أحد، وَهُوَ من الصَّحَابَة (الَّذين) انْفَرد مُسلم بِإِخْرَاج حَدِيثهمْ، أخرج لَهُ حَدِيثا وَاحِدًا فِي ذكر الدَّجَّال، وَلم يخرج لَهُ أَصْحَاب «السّنَن» سُوَى هَذَا الحَدِيث الَّذِي أوردناه عَنهُ، سكن الْبَصْرَة وَمَات بهَا، وَلما أخرج ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» حَدِيث هِشَام هَذَا بِزِيَادَة ذكر الدَّجَّال فِي آخِره قَالَ: انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ مُسلم. وَمرَاده بِذكر الدَّجَّال) لَا بِالْحَدِيثِ بِكَمَالِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مُسلم أصلا، فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث الْحَادِي بعد السِّتين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) قَالَ: «اللَّحْد لنا، والشق لغيرنا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَأَصْحَاب «السّنَن» الْأَرْبَعَة بِهَذَا(5/297)
اللَّفْظ، وَإِسْنَاده ضَعِيف، فَإِن فِي إِسْنَاده عبد الْأَعْلَى بن عَامر، ومدار الحَدِيث عَلَيْهِ، وَهُوَ غير مُحْتَج بحَديثه، كَانَ ابْن مهْدي لَا يحدث عَنهُ، وَوصف اضطرابه، وَقَالَ أَحْمد وَأَبُو زرْعَة: ضَعِيف الحَدِيث. زَاد أَبُو زرْعَة: رُبمَا رفع الحَدِيث وَرُبمَا وَقفه. قَالَ يَحْيَى: تعرف وتنكر. وَقَالَ مرّة: ثِقَة. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم، وَقَالَ ابْن عدي: حدث بأَشْيَاء لَا يُتَابع عَلَيْهَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: أرَى هَذَا الحَدِيث لَا يَصح من أَجله.
قلت: وَأغْرب ابْن السكن فَذكره فِي «سنَنه الصِّحَاح» وَقد رُوِيَ من غير حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا، رَوَى ابْن مَاجَه وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» فِي حَدِيث جرير بن عبد الله البَجلِيّ، وَلَا يَصح أَيْضا؛ فَإِن فِي إِسْنَاده عُثْمَان بن عُمَيْر البَجلِيّ الْكُوفِي الرَّاوِي عَن زَاذَان، عَن جرير، وكنيته أَبُو الْيَقظَان، وَلَا يحْتَج بحَديثه، قَالَ أَحْمد: ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ (يَحْيَى) : حَدِيثه لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن حبَان: اخْتَلَط حَتَّى لَا يدْرِي مَا يَقُول، لَا يجوز الِاحْتِجَاج (بِهِ) .(5/298)
وَأغْرب ابْن السكن فَذكره فِي «سنَنه الصِّحَاح» ، وَذكر ابْن عدي أَنه لَا يُتَابِعه عَلَيْهِ أحد. وَلَيْسَ كَمَا ذكر؛ فقد تَابعه عَلَيْهِ عَمْرو بن مرّة؛ فَرَوَاهُ الْحجَّاج بن أَرْطَاة عَنهُ، عَن زَاذَان، عَن جرير، كَذَا أخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ، وَعَمْرو بن مرّة هُوَ الْجملِي حجَّة أخرجُوا لَهُ، ووثق، ورماه أَبُو حَاتِم بالإرجاء، وَتَابعه أَيْضا سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا عَن الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن الثَّوْريّ، عَن سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن زَاذَان، عَن جرير. وَتَابعه أَيْضا ثَابت، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن أسود بن عَامر، ثَنَا عبد الحميد، عَن ثَابت، عَن زَاذَان، عَن جرير بِنَحْوِهِ. وَتَابعه أَيْضا أَبُو جناب، رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا من حَدِيثه عَن زَاذَان عَنهُ. وَفِي رِوَايَة للْإِمَام أَحْمد (ضعفه بِسَبَب) أبي الْيَقظَان السالف: «اللَّحْد لنا، والشق لغيرنا لأهل الْكتاب» .
فَوَائِد:
الأولَى: لما رَوَى التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن جرير، وَعَائِشَة، وَابْن عمر، وَجَابِر. قَالَ ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» : وَفِيه أَيْضا عَن بُرَيْدَة بن الْحصيب وَابْن مَسْعُود.
الثَّانِيَة: يعضد هَذَا الحَدِيث فِي تَقْدِيم اللَّحْد عَلَى الشق أَنه الَّذِي(5/299)
اخْتَارَهُ الله - تَعَالَى - لنَبيه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، كَمَا ستعلمه، وَفِي «صَحِيح مُسلم» عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «الحدوا لي لحدًا، وانصبوا عَلّي اللَّبن نصبا، كَمَا صنع برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
الثَّالِثَة: الشق: بِفَتْح الشين (واللحد: بِفَتْح اللَّام وَضمّهَا لُغَتَانِ) ، قَالَ الْجَوْهَرِي: الضريح، الشق فِي وسط الْقَبْر، واللحد فِي الْجَانِب.
الحَدِيث (الثَّانِي) بعد السِّتين
رُوِيَ «أَنه كَانَ بِالْمَدِينَةِ رجلَانِ، أَحدهمَا يلْحد والأخر يشق، فَبعث الصَّحَابَة فِي طلبهما، وَقَالُوا: أَيهمَا جَاءَ أَولا عمل عمله لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فجَاء الَّذِي يلْحد، فلحد لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لما توفّي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ بِالْمَدِينَةِ رجل يلْحد وَآخر يضرح، فَقَالُوا: نستخير رَبنَا ونبعث إِلَيْهِمَا، فَأَيّهمَا سبق تَرَكْنَاهُ. فَأرْسل إِلَيْهِمَا، فَسبق صَاحب اللَّحْد؛ فلحد لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات، إِلَّا مبارك بن فضَالة؛ فَإِن النَّسَائِيّ ضعفه، وَقَالَ عَفَّان: ثِقَة من النساك [وَكَانَ وَكَانَ] . وَقَالَ أَبُو زرْعَة: إِذا قَالَ: (ثَنَا) فَهُوَ ثِقَة.(5/300)
قلت: قد صرح بِالتَّحْدِيثِ فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: ثَنَا حميد.
ثَانِيهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: «لما أَرَادوا أَن يحفروا لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعثوا إِلَى أبي عُبَيْدَة بن الْجراح، وَكَانَ يضرح كضريح أهل مَكَّة، وبعثوا إِلَى أبي طَلْحَة، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يحْفر لأهل الْمَدِينَة وَكَانَ يلْحد، فبعثوا إِلَيْهِمَا رسولين، وَقَالَ: اللَّهُمَّ خر لِرَسُولِك. فوجدوا أَبَا طَلْحَة، فجيء بِهِ - وَلم يُوجد أَبُو عُبَيْدَة - فلحد لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث، وَهُوَ قِطْعَة من الحَدِيث السالف فِي دَفنه فِي الْحُجْرَة الشَّرِيفَة، وَقد أسلفنا أَن فِي سَنَده حُسَيْن بن عبد الله، وَأَن النَّسَائِيّ تَركه، وَقَالَ يَحْيَى مرّة: لَا بَأْس بِهِ، يكْتب حَدِيثه. وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ: «ثمَّ دَعَا الْعَبَّاس رجلَيْنِ، فَقَالَ: (ليذْهب أَحَدكُمَا إِلَى أبي عُبَيْدَة بن الْجراح - وَكَانَ يُصَرح لأهل مَكَّة -) وليذهب الآخر إِلَى أبي طَلْحَة - وَكَانَ يلْحد لأهل الْمَدِينَة - قَالَ: ثمَّ قَالَ الْعَبَّاس لَهما حِين سرحهما: اللَّهُمَّ خر لِرَسُولِك. فذهبا، فَلم يجد صَاحب أبي عُبَيْدَة أَبَا عُبَيْدَة، وَوجد صَاحب أبي طَلْحَة أَبَا طَلْحَة، فجَاء فلحد لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
ثَالِثهَا: من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة عَن عَائِشَة، رَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَعبد الرَّحْمَن يضعف من قبل حفظه، (وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك) . وَقَالَ البُخَارِيّ: ضَعِيف ذَاهِب(5/301)
الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: ينْفَرد عَن الثِّقَات بِمَا لَا يشبه حَدِيث الْأَثْبَات، فَلَا أَدْرِي كثر الْوَهم مِنْهُ أَو من ابْنه مُحَمَّد، وَابْنه فَاحش الْخَطَأ وَأكْثر رواياته تَدور عَلَى ابْنه؛ فَوَجَبَ تَركه لاشتباه أمره.
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: «كَانَ بِالْمَدِينَةِ رجلَانِ، أَحدهمَا يشق، والأخر يلْحد، فجَاء الَّذِي يلْحد، فلحد لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، من طَرِيق [يَحْيَى بن] عُرْوَة بن الزبير، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة، عَن هِشَام، عَن أَبِيه مُرْسلا، وَهُوَ الْمَحْفُوظ، قَالَ: كَذَلِك رَوَاهُ مَالك وَابْن عُيَيْنَة.
وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث عَائِشَة هَذَا، فَقَالَ: الصَّحِيح عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، بِإِسْقَاط عَائِشَة. - قلت: الَّذِي رَوَاهُ (بإثباتها) هُوَ أَبُو الْوَلِيد عَن حَمَّاد بن سَلمَة - فالخطأ من أَيهمَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. وَفِي كتاب «أَسمَاء رُوَاة مَالك» للخطيب الْحَافِظ من حَدِيث ابْن عمر: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لحد لَهُ» . ثمَّ قَالَ: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تفرد بِهِ إِسْمَاعِيل بن يَحْيَى، وَهُوَ ضَعِيف، مَتْرُوك الحَدِيث.(5/302)
الحَدِيث (الثَّالِث) بعد السِّتين
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سل من قبل رَأسه [سلًّا] » .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب عَن (ابْن عمر) ، لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، ومشهور عَن ابْن عَبَّاس، وَلَعَلَّ هَذَا من سبق الْقَلَم. رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» فَقَالَ: أَنا الثِّقَة، عَن عمر بن عَطاء، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ (بِدُونِ قَوْله «سلا) ً» ، وَهُوَ (بِهَذَا عَن) مُسلم بن خَالِد الزنْجِي وَغَيره، عَن ابْن جريج، عَن عمرَان بن مُوسَى «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سل من قبل رَأسه» . قَالَ: وأنبأنا بعض أَصْحَابنَا عَن أبي الزِّنَاد وَرَبِيعَة وَأبي النَّضر - لَا اخْتِلَاف بَينهم فِي ذَلِك - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سل من قبل رَأسه، وَأَبُو بكر وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما» . قَالَ (الْبَيْهَقِيّ بعد أَن أخرج هَذِه الثَّلَاثَة بِسَنَدِهِ إِلَى الرّبيع إِلَى الشَّافِعِي: وَهَذَا هُوَ) الْمَشْهُور فِيمَا بَين أهل الْحجاز.
قلت: وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الِاحْتِجَاج بقول الرَّاوِي: أَنا الثِّقَة. وَاخْتَارَ بعض الْمُحَقِّقين من أَصْحَابنَا الِاحْتِجَاج بِهِ إِن كَانَ الْقَائِل مِمَّن يُوَافقهُ فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل، فعلَى هَذَا يَصح احتجاج أَصْحَابنَا بِهَذَا(5/303)
الحَدِيث، وَالظَّاهِر أَن الثِّقَة فِي كَلَام الشَّافِعِي هُنَا هُوَ مُسلم بن خَالِد الزنْجِي، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: إِذا قَالَ الشَّافِعِي: (أَخْبرنِي الثِّقَة عَن ابْن أبي ذِئْب) فَهُوَ ابْن أبي فديك، وَإِذا قَالَ: (أَخْبرنِي الثِّقَة عَن اللَّيْث بن سعد) فَهُوَ يَحْيَى بن حسان، وَإِذا قَالَ: «أَخْبرنِي) الثِّقَة عَن الْوَلِيد بن كثير) فَهُوَ عَمْرو بن أبي سَلمَة، وَإِذا قَالَ: (أَخْبرنِي الثِّقَة عَن ابْن جريج) فَهُوَ مُسلم بن خَالِد الزنْجِي، وَإِذا قَالَ: (أَخْبرنِي الثِّقَة عَن صَالح مولَى التوءمة) فَهُوَ إِبْرَاهِيم بن يَحْيَى، وَقَالَ الرّبيع بن سُلَيْمَان فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ عبد المحسن بن غَانِم فِي كِتَابه «الْوَاضِح النفيس فِي فَضَائِل مُحَمَّد بن إِدْرِيس» : إِذا قَالَ الشَّافِعِي: (أَخْبرنِي الثِّقَة) فَإِنَّهُ يُرِيد يَحْيَى بن حسان، وَإِذا قَالَ: (أَنا الثِّقَة عَن ابْن أبي ذِئْب) فَهُوَ الزنْجِي، أَو (عَن الْأَوْزَاعِيّ) (فَإِنَّهُ) عَمْرو بن أبي سَلمَة، وَرُبمَا كَانَ أَيُّوب بن سُوَيْد، أَو (عَن أَيُّوب) فَهُوَ ابْن علية، أَو (عَن يَحْيَى بن سعيد) فَهُوَ الدَّرَاورْدِي، أَو (عَن ابْن شهَاب) فَهُوَ مَالك بن أنس، وَرُبمَا كَانَ إِبْرَاهِيم بن سعد، أَو (عَن الْوَلِيد بن كثير) ، أَو (هِشَام بن عُرْوَة) ، أَو (عبيد الله بن عمر) فَإِنَّهُ حَمَّاد بن أُسَامَة، أَو (عَن سُفْيَان الثَّوْريّ) ، أَو (يُونُس بن يزِيد) ، أَو (أُسَامَة بن زيد) فَهُوَ أَيُّوب بن سُوَيْد. قَالَ الرّبيع: وَإِنَّمَا يكني عَن ذكرهم للاختصار؛ لِأَن الْمُحدث قد يسأم الرِّوَايَة عَن شيخ وَاحِد، وَلَا سِيمَا إِذا كثرت عَنهُ، فَيَقُول: وَحَدِيث، وَنَحْو ذَلِك. قَالَ الرّبيع: (وَإِذا قَالَ الشَّافِعِي: (أَخْبرنِي من لَا أتهم فِيهِ) يُرِيد: (ابْن) إِبْرَاهِيم بن أبي(5/304)
يَحْيَى، وَإِذا قَالَ: بعض أَصْحَابنَا) . فَهُوَ يُرِيد أهل الْحجاز، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: فَهُوَ يُرِيد أَصْحَاب مَالك.
فَائِدَة: [اخْتلفت] الرِّوَايَات فِي كَيْفيَّة إِدْخَال النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَبره، فروَى الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَنهم سلوه سلًّا من عِنْد رجل الْقَبْر» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس، وَبُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «أَنهم أدخلوه (فِي قَبره من جِهَة الْقبْلَة» . وَهِي رِوَايَات ضَعِيفَة، بَين الْبَيْهَقِيّ ضعفها، وَأما التِّرْمِذِيّ فَإِنَّهُ حسن حَدِيث ابْن عَبَّاس، وأنكروا ذَلِك عَلَيْهِ؛ لِأَن مدَار رِوَايَته فِيهِ وَرِوَايَة غَيره عَلَى الْحجَّاج بن أَرْطَاة، وَهُوَ ضَعِيف، وَنقل النَّوَوِيّ اتِّفَاق الْمُحدثين عَلَى ذَلِك، وَهَذَا الْجَواب إِنَّمَا يحْتَاج إِلَيْهِ لَو تصور إِدْخَاله عَلَيْهِ السَّلَام من جِهَة الْقبْلَة، وَقد قَالَ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» وَالْأَصْحَاب: إِن هَذَا غير مُمكن. وَأَطْنَبَ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» وَغَيره فِي الشناعة عَلَى من يَقُول ذَلِك، وَنسبه إِلَى الْجَهَالَة ومكابرة (الْحسن) وإنكار الْعَنَان، فَقَالَ: أَنا الثِّقَات من أَصْحَابنَا أَن قبر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى يَمِين الدَّاخِل من الْبَيْت، لاصق بالجدار، والجدار الَّذِي (اللَّحْد تَحْتَهُ قبْلَة) ، واللحد تَحت الْجِدَار فَكيف يدْخل(5/305)
مُعْتَرضًا، واللحد لاصق بالجدار، لَا يقف عَلَيْهِ شَيْء (وَلَا) يُمكن إِلَّا أَن يسل سلاًّ، أَو يدْخل من غير الْقبْلَة. قَالَ: وَأُمُور الْمَوْتَى وإدخالهم الْقَبْر من الْأُمُور الْمَشْهُورَة عندنَا لِكَثْرَة الْمَوْت، وَحُضُور الْأَئِمَّة وَأهل (الثِّقَة) ، وَهُوَ [من] الْأُمُور الْعَامَّة الَّتِي يُسْتَغْنَى فِيهَا عَن الحَدِيث، وَيكون الحَدِيث فِيهَا كالتكلف؛ لاشتراك النَّاس فِي مَعْرفَتهَا وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - والمهاجرون وَالْأَنْصَار بَين أظهرنَا، ينْقل إِلَيْنَا الْعَامَّة عَن الْعَامَّة، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِك أَن الْمَيِّت يسلُّ سلاًّ، ثمَّ جَاءَنَا آتٍ من غير بلدنا يعلمنَا [كَيفَ ندخل] الْمَيِّت، ثمَّ لم (يرض) حَتَّى رُوِيَ عَن حَمَّاد (عَن) إِبْرَاهِيم «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَدخل مُعْتَرضًا» . هَذَا آخر كَلَام الشَّافِعِي، وَرِوَايَة إِبْرَاهِيم مُرْسلَة ضَعِيفَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الَّذِي ذكره الشَّافِعِي أشهر فِي أَرض الْحجاز بِأخذ الْخلف عَن السّلف، فَهُوَ أولَى بالاتباع. قَالَ: وَقد رُوِيَ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي قَالَ: «أَوْصَى الْحَارِث (أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ عبيد الله بن يزِيد الخطمي، فَصَلى عَلَيْهِ، ثمَّ أدخلهُ الْقَبْر من قبل (رجْلي)) الْقَبْر، وَقَالَ: هَذَا من السّنة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد قَالَ (هَذَا من السّنة) فَصَارَ كالمسند. قَالَ: وَقد روينَا هَذَا القَوْل عَن ابْن عمر، وَأنس بن مَالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.(5/306)
الحَدِيث الرَّابِع بعد السِّتين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دَفنه عَلّي وَالْعَبَّاس وَأُسَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، عَن عَامر - هُوَ الشّعبِيّ - قَالَ: «غسل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلّي وَالْفضل وَأُسَامَة بن زيد، وهم أدخلوه قَبره» . قَالَ: وحَدثني مرحب - أَو ابْن (أبي مرحب - «أَنهم أدخلُوا مَعَهم عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، فَلَمَّا فرغ عَلّي قَالَ: إِنَّمَا يَلِي) الرجل أَهله» . وَعَن الشّعبِيّ عَن أبي مرحب «أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف نزل فِي قبر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ: كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِم أَرْبَعَة» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «ولي دفن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَرْبَعَة: عَلّي وَالْعَبَّاس وَالْفضل وَصَالح مولَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَمَا سلف فِي أَوَائِل الْبَاب، وَصَححهُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ الَّذين نزلُوا فِي قبر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: عَلَى وَالْفضل وَقثم وشقران مولَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَقد قَالَ أَوْس بن خوليّ لعَلي: يَا عَلّي، أنْشدك الله وحظنا من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَقَالَ لَهُ: انْزِلْ. فَنزل مَعَ الْقَوْم، فَكَانُوا خَمْسَة» وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وشقران هُوَ صَالح مولَى رَسُول(5/307)
الله (، ولقبه شقران. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «دخل قبر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: الْعَبَّاس وَعلي وَالْفضل، وَسوى لحده رجل من الْأَنْصَار، وَهُوَ الَّذِي سُوَى لحود الْأَنْصَار يَوْم بدر» .
تَنْبِيه: يجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات بِأَن كل وَاحِد رَوَى مَا رَأَى، أَو من نقص أَرَادَ بِهِ أول الْأَمر، وَمن زَاد أَرَادَ بِهِ آخِره، وَالله أعلم.
فَائِدَة: اخْتلف الْعلمَاء مَتى دفن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» : يَوْم الثُّلَاثَاء. وَقَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء: لَيْلَة الْأَرْبَعَاء.
الحَدِيث الْخَامِس بعد السِّتين
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما دفن سعد بن معَاذ ستر قَبره بِثَوْب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن عقبَة (عَن عَلّي بن بذيمة الْجَزرِي، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «جلل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبر سعد بِثَوْبِهِ» ثمَّ قَالَ: لَا أحفظه إِلَّا من حَدِيث يَحْيَى بن عقبَة) بن أبي الْعيزَار، وَهُوَ ضَعِيف. قلت: بِمرَّة، نسبه يَحْيَى إِلَى الْكَذِب، وَالْبُخَارِيّ إِلَى نَكَارَة الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، كَانَ يفتعل الحَدِيث. وَقد رويت هَذِه السّنة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي «أَنه حضر جَنَازَة الْحَارِث الأعورِ، (فَأمر) عبدُ الله بن يزِيد أَن(5/308)
يبسطوا عَلَيْهِ ثوبا» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده صَحِيح، وَإِن كَانَ مَوْقُوفا. قلت: وَقد رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَلَى خلاف هَذَا، فروَى من حَدِيث عمر بن مُحَمَّد، نَا أبي، نَا زُهَيْر، عَن أبي إِسْحَاق «أَن عبد الله بن يزِيد صَلَّى عَلَى الْحَارِث الْأَعْوَر، ثمَّ تقدم إِلَى الْقَبْر، فَدَعَا بالسرير، فَوضع (عِنْد) رجل الْقَبْر، ثمَّ أَمر بِهِ، فَسُلَّ سلاًّ، ثمَّ لم يدعهم يمدون ثوبا عَلَى الْقَبْر وَقَالَ: هَكَذَا السّنة» .
(الحَدِيث السَّادِس بعد السِّتين)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيسْتَحب لمن يدْخلهُ الْقَبْر أَن يَقُول: «باسم الله، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ (أَحْمد و) أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمَا» ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ، وَالنَّسَائِيّ فِي «عمل يَوْم وَلَيْلَة» ، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي(5/309)
«الْمُسْتَدْرك» من الْوَجْه الْمَذْكُور، وَلَفظ ابْن حبَان فِي إِحْدَى روايتيه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا وضع الْمَيِّت فِي الْقَبْر قَالَ: باسم الله وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَلَفظه فِي الْأُخْرَى: «باسم الله، وَعَلَى سنة رَسُول الله» . هَذَا لفظ أبي دَاوُد أَيْضا. وَلَفظ ابْن مَاجَه: «كَانَ إِذا أَدخل الْمَيِّت الْقَبْر قَالَ: بِسم الله، وَفِي سَبِيل الله، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله» . وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «كَانَ إِذا دخل الْمَيِّت الْقَبْر ... » وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِذا وضع الْمَيِّت فِي لحده قَالَ: بِسم الله وَبِاللَّهِ، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَعَلَى سنة» بدل «مِلَّة» (وَلَفظ الْحَاكِم: «إِذا وضعتم مَوْتَاكُم فِي (قبوركم) فَقولُوا: بِسم الله، وَعَلَى (سنة) رَسُول الله» ) . وَلَفظ النَّسَائِيّ: «إِذا وضعتم مَوْتَاكُم فِي الْقَبْر فَقولُوا: بِسم الله، وَعَلَى سنة رَسُول الله» . وَلَفظ أَحْمد: «إِذا وضعتم مَوْتَاكُم فِي الْقَبْر فَقولُوا: بِسم الله، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه. قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من غير هَذَا الْوَجْه أَيْضا عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ أَبُو الصّديق النَّاجِي عَن ابْن عمر (مَرْفُوعا، وَقد رُوِيَ عَن أبي الصّديق النَّاجِي عَن ابْن عمر) مَوْقُوفا أَيْضا.
قلت: أخرج أَحْمد الْمَرْفُوع كَمَا سلف، وَقَالَ النَّسَائِيّ: وَقفه شُعْبَة.(5/310)
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِنَّه الصَّوَاب. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِرَفْعِهِ همام بن يَحْيَى، وَوَقفه عَلَى ابْن عمر شُعْبَة وَهِشَام، لَكِن همام ثِقَة حَافظ فَتكون زِيَادَته مَقْبُولَة. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي (الْإِلْمَام) : هما أحفظ من همام، والشيخان قد احتجا بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» : هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَهَمَّام بن يَحْيَى ثَبت مَأْمُون إِذا أسْند مثل هَذَا الحَدِيث لَا يُعلل بِأحد إِذا أوقفهُ، وَقد أوقفهُ شُعْبَة. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عمر «أَنه كَانَ إِذا وضع الْمَيِّت فِي قَبره قَالَ: باسم الله، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله» . ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن جَابر البياضي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «الْمَيِّت إِذا وضع فِي قَبره فَلْيقل الَّذين يضعونه حِين يوضع فِي اللَّحْد: بِسم الله وَبِاللَّهِ، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله» . قَالَ الْحَاكِم: وَهَذَا مَشْهُور فِي الصَّحَابَة، شَاهد لحَدِيث همام عَن قَتَادَة مُسْندًا. وَرَوَى ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «حضرت ابْن عمر فِي جَنَازَة فَلَمَّا وَضعهَا فِي اللَّحْد قَالَ: بِسم الله، وَفِي سَبِيل الله، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله. فَلَمَّا أَخذ فِي تَسْوِيَة اللَّبن قَالَ: اللَّهُمَّ أجرهَا من الشَّيْطَان. (و) من عَذَاب الْقَبْر، اللَّهُمَّ جَاف الأَرْض عَن جانبيها، وَصعد روحها، ولقها مِنْك رضواناً. قلتُ: يَا ابْن عمر، أَشَيْء سمعته من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أم قلته بِرَأْيِك؟ قَالَ: إِنِّي إِذا لقادر عَلَى القَوْل؛(5/311)
(بل) شَيْء سمعته (من) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة حَمَّاد بن عبد الرَّحْمَن الْكَلْبِيّ، قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: هُوَ مَجْهُول، مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر.
تَنْبِيه: وَقع هَذَا الحَدِيث فِي «الْهِدَايَة» و «الْخُلَاصَة» عَلَى مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى غير وَجهه، أما صَاحب «الْهِدَايَة» فَإِنَّهُ قَالَ الَّذِي يَضَعهُ: (يَقُول) باسم الله، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله. وَكَذَا قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام حِين وضع أَبَا دُجَانَة فِي الْقَبْر وَهَذَا عَجِيب، فَإِن أَبَا دُجَانَة توفّي بعده عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم الْيَمَامَة فِي خلَافَة (أبي) بكر. وَأما صَاحب «الْخُلَاصَة» فَإِنَّهُ قَالَ: (يَقُول) الَّذِي يَضَعهُ: باسم الله، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ويوجهه إِلَى الْقبْلَة، لقَوْل عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بذلك) لما حضر دفن رجل مطلبي. وَهَذَا غَرِيب عَن عَلّي؛ لَا أعرفهُ بعد الْبَحْث عَنهُ.
فَائِدَة: رَوَى أَحْمد فِي «الْمسند» ، وَالْحَاكِم فِي التَّفْسِير من «مُسْتَدْركه» ، وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبيد الله بن زحر، عَن [عَلّي(5/312)
بن يزِيد الْأَلْهَانِي] ، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة قَالَ: «لما وضعت أم كُلْثُوم بنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْقَبْر قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى) ، فَلَمَّا بني لحدها قَالَ: سدوا خلال اللَّبِن. ثمَّ قَالَ: لَيْسَ هَذَا لشَيْء، وَلكنه تطييب لنَفس الْحَيّ» . زَاد الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ: «بِسم الله، وَفِي سَبِيل الله، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده ضَعِيف. قلت بِمرَّة: لِأَن الثَّلَاث الأول ضعفاء لكنه من بَاب الْفَضَائِل.
الحَدِيث السَّابِع بعد السِّتين
قَالَ الرَّافِعِيّ: «إِذا دخل الْمَيِّت الْقَبْر أضجع فِي اللَّحْد عَلَى جنبه الْأَيْمن، مُسْتَقْبل الْقبْلَة، كَذَلِك فعل برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَله» .
هَذَا هُوَ الظَّاهِر من أفعالهم، وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَخذ من قِبَلِ الْقبْلَة، واستقبل بِهِ اسْتِقْبَالًا» وَفِي إِسْنَاده عَطِيَّة الْعَوْفِيّ وَهُوَ ضَعِيف بإجماعهم، قَالَ ابْن حبَان: سمع من أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَحَادِيث، فَلَمَّا مَاتَ جعل (يُجَالس) الْكَلْبِيّ، فَإِذا قَالَ الْكَلْبِيّ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. حفظ ذَلِك(5/313)
وَرَوَاهُ عَنهُ، وكناه أَبَا سعيد، فيظن أَنه أَرَادَ الْخُدْرِيّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْكَلْبِيّ، لَا يحل كتْب حَدِيثه إِلَّا عَلَى (سَبِيل) التَّعَجُّب. وَفِي «تَارِيخ الْعقيلِيّ» من حَدِيث بُرَيْدَة قَالَ: «أَخذ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من قبل الْقبْلَة، وألحد لَهُ، وأنصب لَهُ اللَّبن نصبا» . وَفِي إِسْنَاده (عَمْرو) بن يزِيد التَّمِيمِي، وَقد ضَعَّفُوهُ، قَالَ الرَّازِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه. قَالَ: فَأَما اللَّحْد للنَّبِي (فَروِيَ، وَسَائِر الْكَلَام لَيْسَ بِمَعْرُوف إِلَّا فِي هَذِه الرِّوَايَة أَو مَا يشبهها.
الحَدِيث الثَّامِن بعد السِّتين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنه جعل فِي قبر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قطيفة حَمْرَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ كَذَلِك، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «وضع» بدل «جعل» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن مَنْصُور بن زَاذَان عَن الْحسن قَالَ: «جعل فِي لحد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قطيفة حَمْرَاء، أَصَابَهَا يَوْم خَيْبَر، لِأَن الْمَدِينَة أَرض(5/314)
سبخَة» . وَفِي الْجُزْء الأول من الصَّحِيح تَخْرِيج الدَّارَقُطْنِيّ عَن وَكِيع قَالَ: «وَكَانَ هَذَا لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَاصَّة» . وَفِي «الِاسْتِيعَاب» أَن تِلْكَ القطيفة أخرجت قبل أَن يهال التُّرَاب. لَكِن فِي «الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَنَّهَا دفنت مَعَه» وَفِي إسنادها حُسَيْن بن عبد الله السالف.
فَائِدَة: الْجَاعِل لهَذِهِ القطيفة هُوَ شقران مولَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فعل هَذَا بِرَأْيهِ، وَلم يُوَافقهُ أحد من الصَّحَابَة، وَلَا علمُوا بِفِعْلِهِ، وَفِي «التِّرْمِذِيّ» إِشَارَة إِلَى هَذَا، فَإِن فِيهِ: قَالَ ابْن أبي رَافع: سَمِعت شقران يَقُول: «أَنا وَالله طرحت القطيفة تَحت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَقيل: إِنَّمَا فعلهَا شقران لِأَنَّهُ قَالَ: «كرهت أَن يلبسهَا أحد بعده عَلَيْهِ السَّلَام» وَفِي «التِّرْمِذِيّ» و «الْبَيْهَقِيّ» وَغَيرهمَا: عَن ابْن عَبَّاس «أَنه كره أَن يَجْعَل تَحت الْمَيِّت ثوب فِي قَبره» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد السِّتين
عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «اصنعوا بِي كَمَا صَنَعْتُم برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، انصبوا عَلّي اللَّبِن، وأهيلوا عَلّي التُّرَاب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي كَذَلِك بلاغًا، فَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَنهُ: «بَلغنِي أَنه قيل لسعد بن أبي وَقاص: أَلا نتخِذ لَك(5/315)
شَيْئا (كَأَنَّهُ) الصندوق من الْخشب؟ فَقَالَ: بل اصنعوا بِي كَمَا صَنَعْتُم برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ انصبوا عَلّي اللَّبِن، وأهيلوا عَلّي التُّرَاب» (وَهُوَ فِي «صَحِيح مُسلم» بِدُونِ قَول: «وأهيلوا عَلّي التُّرَاب» ) ، وَقد سبق بِلَفْظِهِ قَرِيبا فِي الحَدِيث الْحَادِي بعد السِّتين.
فَائِدَة: مَعْنَى نَصْب اللَّبِن أَن لَا تكون مائلة؛ تسْقط فِي اللَّحْد عَلَى الْمَيِّت. وأهيلوا: (صبوا) ، وَهِي لُغَة قَليلَة فِي هلتُ، فَهُوَ مُهَال ومهيل. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: (كثيبًا مهيلا) أَي (مصبوبًا) سَائِلًا.
الحَدِيث السبعون
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حثى عَلَى الْمَيِّت ثَلَاث حثياتٍ بيدَيْهِ جَمِيعًا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عَلّي بن حَفْص الْمَدَائِنِي، عَن الْقَاسِم بن عبد الله الْعمريّ، عَن عَاصِم بن عبيد الله، عَن (عبد الله) بن عَامر بن ربيعَة، عَن أَبِيه قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين دفن عُثْمَان بن مَظْعُون صَلَّى عَلَيْهِ، وَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا، وحثى عَلَى قَبره بِيَدِهِ ثَلَاث حثيات من التُّرَاب، وَهُوَ قَائِم عِنْد رَأسه» . وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف، الْقَاسِم بن عبد الله واه، قَالَ أَحْمد: كَانَ(5/316)
يكذب وَيَضَع الحَدِيث، ترك النَّاس حَدِيثه. وَأما عَاصِم بن عبيد الله بن عَاصِم بن عمر فضعفه مَالك وَغَيره، وَأما عَلّي بن حَفْص فقد أخرج لَهُ م، وَوَثَّقَهُ د وس، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بِهِ. وأجمل الْبَيْهَقِيّ القَوْل فِي تَضْعِيفه فَقَالَ لما رَوَاهُ: إِسْنَاده ضَعِيف، إِلَّا أَن لَهُ شَاهدا من جِهَة جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا. قلت: رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن جَعْفَر بِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَيروَى عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا. قلت: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن أَحْمد بن منيع، عَن حَمَّاد بن خَالِد، عَن هِشَام بن سعد، عَن [زِيَاد] ، عَن أبي الْمُنْذر: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حثى فِي قبر ثَلَاثًا» . وَذكر هَذَا ابْن أبي حَاتِم فِي «مراسيله» ، وَقَالَ: قَالَ أبي: أَبُو الْمُنْذر وَالَّذِي قبله مَجْهُولَانِ. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة -(5/317)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حثى من قبل رَأس الْمَيِّت ثَلَاثًا» . إِسْنَاده لَا بَأْس بِهِ، وَخَالف أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فَقَالَ: إِنَّه حَدِيث بَاطِل، وَفِيه زِيَادَة لَطِيفَة وَهِي: «من قبل رَأسه» . فَيكون الحثي من قبل الرَّأْس مستحبًّا.
الحَدِيث الْحَادِي بعد السّبْعين
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه ألحد لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لحدًا، وَنصب عَلَيْهِ اللَّبن نصبا، وَرفع قَبره عَن الأَرْض قدر شبر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُلحد لَهُ لحدًا، وَنصب عَلَيْهِ اللَّبن نصبا ... » وَذكر الحَدِيث، قَالَ: «وَرفع قَبره (عَن) الأَرْض نَحوا من شبر» . ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا وجدته. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رُشَّ عَلَى قَبره المَاء، وَوضع عَلَيْهِ (حَصْبَاء) من (حَصْبَاء) الْعَرَصَة، وَرفع قَبره قدر شبر» ثمَّ قَالَ: هَذَا مُرْسل. وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيّ بِإِسْنَاد لَهُ عَن جَابر، وَسَيَأْتِي قَرِيبا، وَأخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» كَمَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ أَولا، وَهَذَا لَفظه: عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جَابر بن عبد الله «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(5/318)
ألحد لَهُ، وَنصب عَلَيْهِ اللَّبِن (نصبا) ، وَرفع قَبره نَحوا من شبر» .
الحَدِيث الثَّانِي بعد السّبْعين
عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: «دخلت عَلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فَقلت: يَا أُمَّاهُ، اكشفي لي عَن قبر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وصاحبيه. فَكشفت لي عَن ثَلَاثَة قُبُور، لَا مشرفة وَلَا لاطئة، مبطوحة ببطحاء الْعَرَصَة الْحَمْرَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، زَاد الْحَاكِم فِي رِوَايَته: «فَرَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مقدما، وَأَبا بكر رَأسه بَين كَتِفي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَعمر رَأسه عِنْد رجل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
فَائِدَة: قَوْله: «لَا مشرفة) أَي: لَا مُرْتَفعَة ارتفاعًا كَبِيرا، و «لَا لاطئة» أَي: لَا لاصقة بِالْأَرْضِ، وَهُوَ بِهَمْزَة آخِره.
فَائِدَة: إِن قلت: كَيفَ يجمع بَين حَدِيث سُفْيَان التمار - الَّذِي انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ البُخَارِيّ، بل لم يرو البُخَارِيّ لِسُفْيَان هَذَا غَيره، وَوهم ابْن الْجَوْزِيّ فَعَزاهُ إِلَى مُسلم - «أَنه رَأَى قبر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسنمًا» . زَاد ابْن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» : «وقبر أبي بكر، وقبر عمر» وَفِي «مَرَاسِيل أبي دَاوُد» عَن صَالح بن أبي صَالح قَالَ: «رَأَيْت قبر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شبْرًا أَو نَحوا من شبر» .(5/319)
قلت: جمع بَينهمَا الْبَيْهَقِيّ وَغَيره - رَحْمَة الله عَلَيْهِم -: بِأَن الْقَبْر كَانَ أَولا مسطحًا كَمَا قَالَ الْقَاسِم، ثمَّ لما سقط الْجِدَار فِي زمن الْوَلِيد بن عبد الْملك - وَقيل فِي زمن عمر بن عبد الْعَزِيز - أصلح - فَجعل مسنمًا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَحَدِيث الْقَاسِم أصح وَأولَى أَن يكون مَحْفُوظًا.
الحَدِيث الثَّالِث بعد السّبْعين
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يجصص الْقَبْر، و (أَن) يُبْنَى عَلَيْهِ، وَأَن يكْتب عَلَيْهِ، وَأَن يُوطأ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ بِهَذِهِ الْجُمْلَة التِّرْمِذِيّ، وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» ، و (أَبُو حَاتِم) ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» . وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تجصص الْقُبُور، وَأَن يكْتب عَلَيْهَا، وَأَن يُبْنَى عَلَيْهَا، وَأَن تُوطأ» . وَلَفظ الْحَاكِم: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُبْنَى عَلَى الْقَبْر، أَو يجصص، أَو يقْعد عَلَيْهِ، وَنَهَى أَن يكْتب عَلَيْهِ» . وَلَفظ ابْن حبَان «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن تجصيص الْقُبُور، وَالْكِتَابَة عَلَيْهَا، وَالْبناء عَلَيْهَا، وَالْجُلُوس عَلَيْهَا» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «نهَى أَن تقصص الْقُبُور» . وَكَانَ يسمون الجص الْقِصَّة، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي الزبير سمع(5/320)
(جَابر) «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن تقصيص الْقُبُور، وَأَن يُبْنَى عَلَيْهَا، أَو يجلس عَلَيْهَا» . وَرَوَاهُ مُخْتَصرا بِذكر الْبناء لَيْسَ إِلَّا، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَقد رُوِيَ من غير وَجه عَن جَابر. قَالَ: وَقد رخص بعض أهل الْعلم فِي تطيين الْقُبُور، مِنْهُم: الْحسن الْبَصْرِيّ، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا بَأْس أَن يطين الْقَبْر. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَقد خرج بِإِسْنَادِهِ غير «الْكِتَابَة» فَإِنَّهَا لَفْظَة صَحِيحَة غَرِيبَة، وَقد رويت من وَجه آخر ... فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَى جَابر، قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن تجصيص الْقُبُور، وَالْكِتَابَة فِيهَا، وَالْبناء عَلَيْهَا، وَالْجُلُوس عَلَيْهَا» . قَالَ الْحَاكِم: وَهَذِه الْأَسَانِيد صَحِيحَة، وَلَيْسَ الْعَمَل عَلَيْهَا؛ فَإِن أَئِمَّة الْمُسلمين من الشرق إِلَى الغرب مَكْتُوب عَلَى قُبُورهم، وَهُوَ عمل أَخذ بِهِ الْخلف عَن السّلف. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي «سنَنه» ، وَلَفظه: عَن جَابر قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يْقعد عَلَى الْقَبْر وَأَن يُقصص ويبنى عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَو يُزَاد عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَو يكْتب عَلَيْهِ» وَفِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث - أَعنِي حَدِيث(5/321)
أبي دَاوُد - عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن جَابر وَهَذِه الطَّرِيق مُنْقَطِعَة؛ فَإِن سُلَيْمَان هَذَا لم يسمع من جَابر شَيْئا، كَمَا نبه الْمُنْذِرِيّ عَلَيْهِ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» وَلذَلِك أضْرب مُسلم عَن ذكرهَا، وَالصَّوَاب: عَن أبي الزبير عَن جَابر، كَمَا هُوَ رِوَايَة البَاقِينَ، وَلَفظ رِوَايَة ابْن مَاجَه عَن جَابر «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن تقصيص الْقُبُور، وَأَن يكْتب عَلَى الْقَبْر شَيْء، وَأَن يُبْنَى عَلَى الْقَبْر شَيْء» وَلَفظ رِوَايَة مُسلم عَنهُ «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يجصص الْقَبْر، وَأَن يُبْنَى عَلَيْهِ، وَأَن يقْعد عَلَيْهِ» .
فَائِدَة: التجصيص: بناؤها بالجص وَهُوَ النورة الْبَيْضَاء، والتقصيص: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ التجصيص وَذَلِكَ أَن الجصة يُقَال لَهَا: الْقِصَّة، والجصاص وَالْقصاص وَاحِد، وَالْقعُود: الْجُلُوس قَالَ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) والهروي: المُرَاد بِهِ (الْحَدث) وَالصَّوَاب الأول، ويوضحه رِوَايَة مُسلم «لَا تجلسوا عَلَى الْقُبُور ... » وَرِوَايَة أُخْرَى لَهُ «لِأَن يجلس أحدكُم عَلَى جَمْرَة فتحرق ثِيَابه فتخلص إِلَى(5/322)
جلده خير لَهُ من أَن يجلس عَلَى قبر» وَقيل: المُرَاد بِهِ الْجُلُوس للإحداد وملازمة الْحزن. حَكَاهُ ابْن الْأَثِير فِي (نهايته) وَحَكَى مَعَه قولا آخر أَن المُرَاد بِالْجُلُوسِ أَيْضا للْحَدَث، وَوَقع فِي أَكثر نسخ (الْمُهَذّب) : (وَأَن يعْقد عَلَيْهِ) بِتَقْدِيم الْعين عَلَى الْقَاف، وَهُوَ تَصْحِيف، وَفَسرهُ صَاحب (المستعذب) فَقَالَ: أَي يُبْنَى عَلَيْهِ عقد كَمَا يفعل فِي أَبْوَاب بعض الْمَسَاجِد وَبَين الأساطين والقباب ومحراب الْقبَّة.
الحَدِيث الرَّابِع بعد السّبْعين
رُوِيَ عَن فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه رش قبر ابْنه إِبْرَاهِيم وَوضع عَلَيْهِ (الْحَصْبَاء) » .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رش عَلَى قبر ابْنه إِبْرَاهِيم وَوضع عَلَيْهِ حَصْبَاء» والحصباء لَا تثبت (إِلَّا عَلَى قبر مسطح، وَهَذَا مَعَ إرْسَاله فِيهِ إِبْرَاهِيم هَذَا، وَقدمنَا أَنه ثِقَة) عَلَى رَأْي إمامنا ورأي جمَاعَة (ضَعِيف) عِنْد الْجُمْهُور وَرُوِيَ الرش عَلَى قبر ابْنه إِبْرَاهِيم من طرق (أُخْرَى ذكرتها) فِي تَخْرِيج أَحَادِيث الْمُهَذّب.(5/323)
الحَدِيث الْخَامِس بعد السّبْعين
عَن بِلَال رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنه رش عَلَى قبر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَاء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» لَكِن من رِوَايَة جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «رش عَلَى قبر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - المَاء رشًّا، وَكَانَ الَّذِي رش عَلَى قَبره بِلَال بن رَبَاح، بَدَأَ من قبل رَأسه من شقَّه الْأَيْمن حَتَّى انْتَهَى إِلَى رجلَيْهِ» وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف فَإِن فِي إِسْنَاده الْوَاقِدِيّ، وَقد ضعفه الْجُمْهُور وَنسبه إِلَى الْوَضع الرَّازِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ عَلَى بن الْمَدِينِيّ: رَوَى ثَلَاثِينَ ألف حَدِيث لَا تعرف. وَقَالَ ابْن عدي: أَحَادِيثه غير مَحْفُوظَة وَالْبَلَاء مِنْهُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رُش عَلَى قَبره المَاء، وَوضع عَلَيْهِ حَصْبَاء من حَصْبَاء الْعَرَصَة، وَرفع قَبره قدر شبر» هَذَا مُرْسل، وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ مُرْسلا من حَدِيث جَعْفَر الْمَذْكُور عَن أَبِيه أَن الرش عَلَى الْقَبْر كَانَ عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الحَدِيث السَّادِس بعد السّبْعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وضع صَخْرَة عَلَى قبر عُثْمَان بن مَظْعُون وَقَالَ: أعلم بهَا قبر أخي، وأدفن إِلَيْهِ من مَاتَ من أَهلِي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث كثير بن زيد(5/324)
الْمدنِي عَن الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب التَّابِعِيّ قَالَ: «لما مَاتَ عُثْمَان بن مَظْعُون أخرج بجنازته فَدفن، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجلا أَن يَأْتِي بِحجر فَلم يسْتَطع حمله، فَقَامَ إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وحسر عَن ذِرَاعَيْهِ - (قَالَ كثير) : قَالَ الْمطلب: قَالَ الَّذِي (يُخْبِرنِي) : كَأَنِّي أنظر إِلَى بَيَاض ذراعي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين حسر عَنْهُمَا - ثمَّ حملهَا فوضعها عِنْد رَأسه وَقَالَ: أتعلم بهَا قبر أخي وأدفن إِلَيْهِ من مَاتَ من أَهلِي» إِسْنَاده حسن مُتَّصِل؛ لِأَن الْمطلب بَين فِي كَلَامه أَنه أخبرهُ (بِهِ) صَحَابِيّ حضر الْقِصَّة، وَالصَّحَابَة كلهم عدُول لَا تضر الْجَهَالَة بأعيانهم، وَكثير هَذَا وَإِن ضعفه النَّسَائِيّ فقد وَثَّقَهُ يَحْيَى (بن معِين) وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: صَالح وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» مُخْتَصرا من رِوَايَة أنس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَعْلَمَ قبر عُثْمَان بن مَظْعُون بصخرة» وَفِي إِسْنَاده كثير هَذَا، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أَبَا زرْعَة عَن حَدِيث رَوَاهُ الدَّرَاورْدِي عَن كثير بن زيد، عَن زَيْنَب ابْنة نبيط، عَن أنس ... فَذكره كَلَفْظِ ابْن مَاجَه، فَقَالَ: هَذَا خطأ يُخَالف الدَّرَاورْدِي فِيهِ، يرويهِ حَاتِم وَغَيره عَن كثير بن زيد، عَن الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب، وَهُوَ الصَّحِيح. يُشِير أَبُو زرْعَة إِلَى رِوَايَة أبي(5/325)
دَاوُد، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة عُثْمَان بن مَظْعُون، بِإِسْنَاد لَيْسَ فِيهِ كثير بن زيد، لَكِن فِيهِ بدله الْوَاقِدِيّ، وحالته مَعْرُوفَة سلفت قَرِيبا، وَأَبُو بكر بن عبد الله بن أبي سُبْرَة الْمَدِينِيّ وَهُوَ تَالِف، ذكره من حَدِيث عبيد الله بن رَافع عَن أَبِيه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يرتاد) لأَصْحَابه مَقْبرَة يدفنون فِيهَا، فَكَانَ قد طلب نواحي الْمَدِينَة وأطرافها؛ ثمَّ قَالَ: أمرت بِهَذَا الْموضع - يَعْنِي: البقيع - وَكَانَ أَكثر نَبَاته الْغَرْقَد، وَكَانَ أول من قبر هُنَاكَ عُثْمَان بن مَظْعُون، فَوضع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حجرا عِنْد رَأسه. و (قَالَ) : هَذَا قبر فرطنا. وَكَانَ إِذا مَاتَ المُهَاجر بعده قيل: يَا رَسُول الله، أَيْن ندفنه؟ فَيَقُول: عِنْد فرطنا عُثْمَان بن مَظْعُون» .
فَائِدَة: عُثْمَان بن مَظْعُون - بالظاء (الْمُعْجَمَة) وَالْعين الْمُهْملَة - من السَّابِقين إِلَى الْإِسْلَام، وَأول من توفّي من الْمُهَاجِرين بِالْمَدِينَةِ، وَأول من دفن بِالبَقِيعِ مِنْهُم، وَأول من دفن (من) الْأَنْصَار كُلْثُوم بن الْهدم. قَالَه رزين.
فَائِدَة ثَانِيَة: رَوَى الْبَزَّار «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر برش المَاء عَلَى قبر عُثْمَان بن مَظْعُون» . أَيْضا رَوَاهُ من حَدِيث الْعمريّ، عَن عَاصِم بن عبيد الله، عَن عبد الله بن عَامر بن ربيعَة، عَن أَبِيه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ عَلَى قبر(5/326)
عُثْمَان بن مَظْعُون بَعْدَمَا دَفنه، وَأمر (فرش عَلَيْهِ المَاء) » . قَالَ ابْن الْقطَّان: والعمري هَذَا هُوَ الْقَاسِم بن (عبد الله) ، وَهُوَ ضَعِيف جدًّا، قَالَ أَحْمد: هُوَ مدنيّ كَذَّاب، وضَّاع للْحَدِيث، ترك النَّاس حَدِيثه.
الحَدِيث السَّابِع بعد السّبْعين
رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سطح قبر ابْنه إِبْرَاهِيم» .
هَذَا الحَدِيث تقدم قَرِيبا مُرْسلا من رِوَايَة الشَّافِعِي قبل هَذَا بحديثين.
الحَدِيث الثَّامِن بعد السّبْعين
عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: «رَأَيْت قبر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وقبر أبي بكر مسطحة» .
هَذَا الحَدِيث سلف قَرِيبا بِخَمْسَة أَحَادِيث.
الحَدِيث التَّاسِع بعد السّبْعين
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقوم إِذا بَدَت جَنَازَة، فأُخبر أَن الْيَهُود تفعل ذَلِك، فَترك الْقيام بعد ذَلِك مُخَالفَة لَهُم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت بِإِسْنَاد ضَعِيف، كَمَا سلف فِي الْبَاب فِي(5/327)
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين مِنْهُ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَبشر بن رَافع - يَعْنِي الَّذِي فِي إِسْنَاده - لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث. وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدِيث مُنكر. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : لَا يَصح.
الحَدِيث الثَّمَانُونَ
أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من صَلَّى عَلَى الْجِنَازَة وَرجع فَلهُ قِيرَاط، وَمن صَلَّى عَلَيْهَا وَلم يرجع حَتَّى دفن فَلهُ قيراطان، أصغرُهما - وَيروَى: أَحدهمَا - مثل أحد» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من شهد الْجِنَازَة حَتَّى يصلى عَلَيْهَا فَلهُ قِيرَاط، وَمن شَهِدَهَا حَتَّى تدفن فَلهُ قيراطان، (قيل) وَمَا القيراطان؟ قَالَ: مثل الجبلين العظيمين» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم مُنْفَردا بهَا (أصغرهما مثل أحد» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «قَالَ أَبُو حَازِم: قلتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَة، وَمَا القيراط؟ قَالَ: مثْل أحد» . وَفِي رِوَايَة لَهُ مَرْفُوعا: «كل قِيرَاط مثل أحد» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «من تبع جَنَازَة مُسلم إِيمَانًا واحتسابًا،(5/328)
وَكَانَ مَعَه حَتَّى يصلى عَلَيْهَا ويفرغ من دَفنهَا فَإِنَّهُ يرجع من الْأجر بقيراطين، كل قِيرَاط مثل أُحُد، وَمن صَلَّى عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ قبل أَن تدفن فَإِنَّهُ يرجع بقيراط» . تفرد البُخَارِيّ بقوله: «إِيمَانًا واحتسابًا» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «من صَلَّى عَلَى جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، وَمن اتبعها حَتَّى تُوضَع فِي الْقَبْر فقيراطان» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «حَتَّى تُوضَع فِي اللَّحْد» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «حَتَّى يفرغ من دَفنهَا» . وتتأول رِوَايَة: «حَتَّى تُوضَع فِي الْقَبْر» أَي: ويفرغ مِنْهَا. (وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث ثَوْبَان «من صَلَّى عَلَى جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، وَمن شهد دَفنهَا فَلهُ قيراطان، القيراط مثل أحد» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «سُئِلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن القيراط فَقَالَ: مثل أحد» ) . وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» : عَن ابْن عمر حِين بلغه حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (بعث إِلَى عَائِشَة، فَسَأَلَهَا، فصدقته، فَقَالَ ابْن عمر: لقد فرطنا فِي قراريط كَثِيرَة» . وَلَفظ التِّرْمِذِيّ قريب من لفظ الرَّافِعِيّ، فَإِن لَفظه: «من صَلَّى عَلَى جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، وَمن تبعها حَتَّى يُقْضَى دَفنهَا فَلهُ قيراطان، أَحدهمَا - أَو أصغرهما - مثل أحد» . ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَفِي(5/329)
رِوَايَة للْحَاكِم فِي كتاب الْفَضَائِل من «الْمُسْتَدْرك» ، فِي فَضَائِل أبي هُرَيْرَة، عَن ابْن عمر «أَنه مر بِأبي هُرَيْرَة وَهُوَ يحدث عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من تبع جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، فَإِن شهد دَفنهَا فَلهُ قيراطان، القيراط أعظم من أحد. فَقَالَ ابْن عمر: يَا أَبَا هُرَيْرَة، انْظُر (مَا تحدث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَة حَتَّى انْطلق) إِلَى عَائِشَة؛ فَقَالَ لَهَا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، أنْشدك الله هَل سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: من تبع جَنَازَة فَصَلى عَلَيْهَا فَلهُ قِيرَاط، وَإِن شهد دَفنهَا فَلهُ قيراطان؟ فَقَالَت: اللَّهُمَّ نعم. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: إِنَّه لم يكن يشغلنا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غرس وَلَا صفق بالأسواق، إِنَّمَا كنت أطلب كلمة من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعلمنيها، أَو أَكلَة يطعمنيها. فَقَالَ ابْن عمر: يَا أَبَا هُرَيْرَة، كنت ألزمنا لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَعْلَمنَا بحَديثه» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِنَّه إِسْنَاد صَحِيح ذكره فِي «مدخله إِلَى السّنَن» ، فِي بَاب: مَا يسْتَدلّ بِهِ عَلَى حفظ أبي هُرَيْرَة.
الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا فرغ من دفن الْمَيِّت وقف عَلَيْهِ، وَقَالَ: اسْتَغْفرُوا لأخيكم، واسألوا لَهُ التثبيت؛ فَإِنَّهُ الْآن يسْأَل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث هِشَام بن يُوسُف عَن عبد الله بن بحير، عَن هَانِئ مولَى عُثْمَان، عَن عُثْمَان(5/330)
قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا فرغ من دفن الْمَيِّت وقف عَلَيْهِ فَقَالَ: اسْتَغْفرُوا لأخيكم وسلوا لَهُ التثبيت؛ فَإِنَّهُ الْآن يسْأَل» . وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَهَذَا لَفظه: عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «مر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِجنَازَة عِنْد قبر وَصَاحبه يدْفن، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اسْتَغْفرُوا لأخيكم، وسلوا الله لَهُ التثبيت؛ فَإِنَّهُ الْآن يسْأَل» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: إِنَّه حَدِيث حسن. وَقَالَ الْبَزَّار بعد أَن أخرجه بِلَفْظ: «وسلوا لَهُ التثبيت» لَا يرْوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَلَا نعلم لَهُ عَن عُثْمَان إِسْنَادًا إِلَّا هَذَا الْإِسْنَاد، وَكَذَا ذكره فِي حَدِيث: «كَانَ عُثْمَان إِذا وقف عَلَى قبر بَكَى ... » الحَدِيث. وذكرهما الدَّارَقُطْنِيّ.
والْحَدِيث الآخر: «مَا رَأَيْت شَيْئا إِلَّا والقبر أفظع مِنْهُ» . وَقَالَ: تفرد بهَا - وَهِي حَدِيث وَاحِد - عبد الله بن بحير، عَن هَانِئ، وَلم يروه عَنهُ غير هِشَام بن يُوسُف القَاضِي. قلت: وَعبد الله بن بحير هَذَا هُوَ ابْن ريسان الْمرَادِي الصَّنْعَانِيّ، رَوَى عَن جمَاعَة، وَعنهُ جمَاعَة، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، كَذَا هُوَ فِي أصل «التذهيب» للذهبي، ثمَّ قَالَ: من زياداته، قَالَ ابْن حبَان: عبد الله بن بحير الصَّنْعَانِيّ أَبُو وَائِل الْقَاص وَلَيْسَ هُوَ(5/331)
بِعَبْد الله بن بحير بن ريسان، ذَاك ثِقَة، وَأَبُو وَائِل واهٍ. ثمَّ قَالَ: لم يفرق بَينهمَا أحد (قبل) ابْن حبَان، وهما وَاحِد. إِذا علمت ذَلِك، فقد قَالَ هُوَ فِي كِتَابه «الْمُغنِي فِي الضُّعَفَاء» : عبد الله بن بحير الصَّنْعَانِيّ مُنكر الحَدِيث، ثمَّ أعلم لَهُ د ت ق، كَمَا أعلمهُ فِي «تذهيبه» ، فَكيف ينْقل فِي «تذهيبه» أَن ابْن معِين وَغَيره وَثَّقَهُ، و (يَقُول) فِي «الْمُغنِي» : (واه، مُنكر الحَدِيث بِمرَّة) . وَأغْرب من هَذَا مَا اتّفق لَهُ فِي «مُخْتَصر الْمُسْتَدْرك» ؛ فَإِنَّهُ ذكر حَدِيث عُثْمَان «أَنه كَانَ إِذا وقف عَلَى قبر بَكَى حَتَّى يبل لحيته ... » الحَدِيث. قَالَ: فِيهِ عبد الله بن بحير، وَلَيْسَ بالعمدة، [وهانئ] رَوَى عَنهُ جمَاعَة، وَلَا ذكر لَهُ فِي الْكتب السِّتَّة. هَذَا لَفظه، وَهُوَ عَجِيب إِن أَرَادَ بقوله: «وَلَا ذكر لَهُ» عبدَ الله بن بحير دون الحَدِيث فَهُوَ من رجال د. ت. ق، وَذكر هُوَ فِي (تذهيبه) أَن أَرْبَعَة أنفس رووا عَنهُ وَإِن أَرَادَ بقوله: «وَلَا ذكر لَهُ فِي الْكتب السِّتَّة» الحديثَ. فَهُوَ وهم، فَحَدِيثه هَذَا أخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه.(5/332)
فَائِدَة: رُوِيَ «التثبت» و «التثبيت» ، بِإِثْبَات الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت قبل الْمُثَنَّاة فَوق آخرا وحذفها، وهما صَحِيحَانِ. و (التثبيت) : الْأَمْن من الْفَزع، والثبات عِنْد مسائلة الْملكَيْنِ، يُقَال: «ثَبت فِي الْقِتَال» إِذا لم يفزع وَلم يفر، وَرجل ثَبت: إِذا كَانَ لَا يزل لِسَانه.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّمَانِينَ
قَالَ الرَّافِعِيّ: «وَيسْتَحب أَن يلقن الْمَيِّت بعد الدّفن، فَيُقَال: يَا عبد الله، (يَا) ابْن أمة الله، اذكر مَا خرجت عَلَيْهِ من الدُّنْيَا، شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَأَن الْجنَّة حق، وَالنَّار حق، وَأَن الْبَعْث حق، وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا، وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور، وَأَنَّك رضيت بِاللَّه ربًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دينا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبيا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، وَبِالْكَعْبَةِ قبْلَة، وَبِالْمُؤْمِنِينَ إخْوَانًا» . ورد بِهِ الْخَبَر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه الْكَبِير» عَن أبي عقيل أنس بن [سلم] ، ثَنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْعَلَاء الْحِمصِي، نَا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، نَا عبد الله بن مُحَمَّد الْقرشِي، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن سعيد بن عبد الله (الأودي) قَالَ: «شهِدت أَبَا أُمَامَة وَهُوَ فِي النزع، فَقَالَ: إِذا أَنا مت فَاصْنَعُوا بِي كَمَا أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نصْنَع(5/333)
بموتانا؛ أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِذا مَاتَ أحد من إخْوَانكُمْ فسويتم التُّرَاب عَلَى قَبره فَليقمْ أحدكُم عَلَى رَأس قَبره، ثمَّ ليقل: يَا فلَان بن (فلَان) ، (فَإِنَّهُ يسمعهُ وَلَا يُجيب) ، ثمَّ يَقُول: يَا فلَان بن فُلَانَة، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَاعِدا، (ثمَّ يَقُول: يَا فلَان بن فُلَانَة) ؛ (فَإِنَّهُ يَقُول) : أرشدنا يَرْحَمك الله. وَلَكِن لَا تشعرون، فَلْيقل: اذكر مَا خرجت عَلَيْهِ من الدُّنْيَا شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، وَأَنَّك رضيت بِاللَّه ربًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دينا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبيا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا. فَإِن مُنْكرا ونكيرًا يَأْخُذ كل وَاحِد مِنْهُمَا بيد صَاحبه وَيَقُول: انْطلق بِنَا، مَا (يقعدنا) عِنْد من قد لقن حجَّته. فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، فَإِن لم يعرف أمه؟ قَالَ: ينْسب إِلَى أمه حَوَّاء؛ يَا فلَان بن حَوَّاء» . إِسْنَاده لَا أعلم بِهِ بَأْسا، وَذكره الْحَافِظ أَبُو مَنْصُور فِي «جَامع الدُّعَاء الصَّحِيح» ، وَزَاد بعد قَوْله: «قد لقن حجَّته» : «وَيكون الله (حجَّته) دونهمَا» . قَالَ: وَقد أرخص الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي تلقين الْمَيِّت، وَأَعْجَبهُ ذَلِك، وَقَالَ:(5/334)
(أهل) الشَّام يَفْعَلُونَهُ. قَالَ أَبُو مَنْصُور: وَهُوَ من العزمات والتذكير بِاللَّه، و (السماح) بذلك مأثور عَن السّلف، وَقَالَ الْحَافِظ زَكى الدَّين فِي الْجُزْء الَّذِي خرجه فِي التَّلْقِين بعد أَن سَاقه: وَفِيه بعد الشَّهَادَتَيْنِ «وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا، وَأَن الله (يبْعَث) من فِي الْقُبُور» . قَالَ أَبُو نعيم الْحداد: هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث حَمَّاد بن زيد، مَا كتبته إِلَّا من حَدِيث سعيد (الْأَزْدِيّ) ، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سعيد (الْأَزْدِيّ) عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ رَوَى عَنهُ ... سَمِعت أبي يَقُول ذَلِك. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: هَكَذَا قَالَ: (الْأَزْدِيّ) وَوَقع فِي روايتنا «الأودي» ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَجْهُول، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي فِي الضُّعَفَاء» : سعيد (الْأَزْدِيّ) لم أر لَهُ ذكر فِي الضُّعَفَاء وَلَا غَيرهم. قلت: لَكِن حَدِيثه هَذَا لَهُ شَوَاهِد يعتضد بهَا - والغريب أَن الشَّيْخ زَكى الدَّين لم يذكر فِي مُصَنفه الْمَذْكُور مِنْهَا غير حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ وَحده - مِنْهَا حَدِيث: «واسألوا لَهُ (التثبيت) » وَقد سلف.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «إِذا دفنتموني فسنوا عَلّي التُّرَاب سنّا، ثمَّ أقِيمُوا حول قَبْرِي قدر مَا ينْحَر جزور وَيقسم لَحمهَا؛ حَتَّى أستأنس بكم، وَأعلم مَاذَا أراجع رسل رَبِّي» . رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» فِي كتاب الْإِيمَان، وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل.(5/335)
«سنوا» : رُوِيَ بِالْمُعْجَمَةِ وبالمهملة، وَكِلَاهُمَا مُتَقَارب الْمَعْنى صَحِيح.
وَالْجَزُور - بِفَتْح الْجِيم - من الْإِبِل، والجزرة من غَيرهَا. ذكره عِيَاض، وَفِي كتاب «الْعين» : الجزرة من الضَّأْن والمعز خَاصَّة.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث مُحَمَّد بن حمْرَان، عَن عَطِيَّة الرعاء، عَن الحكم بن الْحَارِث السّلمِيّ «أَنه غزا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاث غزوات، قَالَ: قَالَ لنا: إِذا دفنتموني ورششتم عَلَى قَبْرِي المَاء فَقومُوا عَلَى قَبْرِي، واستقبلوا الْقبْلَة، وَادعوا لي» .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» قَالَ: سَأَلت (أبي عَن حَدِيث) ثُمَامَة بن النَّضر بن أنس (قَالَ: (كَانَ أنس) إِذا شهد جَنَازَة الْأَخ من إخوانه وقف عَلَى قَبره بعد أَن يدْفن، فَيَقُول: جَاف الأَرْض عَن (جَنْبَيْهِ) » . فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ عَن ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا، من حَدِيث مُبشر بن إِسْمَاعِيل، ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن الْعَلَاء بن اللَّجْلَاج، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ أبي: «يَا بني، إِذا أَنا مت فألحدني، فَإِذا وَضَعتنِي فِي لحدي فَقل: باسم الله، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله. ثمَّ سنّ عليّ التُّرَاب سنًّا، ثمَّ اقْرَأ(5/336)
عِنْد رَأْسِي بِفَاتِحَة الْبَقَرَة وخاتمتها، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول ذَلِك» . (وَعبد الرَّحْمَن هَذَا هُوَ مُبشر بن إِسْمَاعِيل الْحلَبِي) ، لَكِن ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي الْكتاب الْمَذْكُور من حَدِيث (إِبْرَاهِيم بن بكر بن عبد الرَّحْمَن) ، عَن إِدْرِيس الأودي، عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «حضرت ابْن عمر فِي جَنَازَة، فَلَمَّا وَضعهَا فِي اللَّحْد قَالَ: باسم الله، وَفِي سَبِيل الله، وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله، فَلَمَّا أَخذ فِي اللَّبِن عَلَى اللَّحْد قَالَ: اللَّهُمَّ أجرهَا من الشَّيْطَان، وَمن عَذَاب الْقَبْر. فَلَمَّا سُوَى اللَّبن عَلَيْهَا قَامَ إِلَى جَانب الْقَبْر، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ جَاف الأَرْض عَن جنبيها، وَصعد روحها، ولقها مِنْك رضواناً. فَقلت: أشيئًا سمعته من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أم شَيْئا قلته من رَأْيك؟ قَالَ: إِنِّي إِذا لقادر عَلَى القَوْل، بل سَمِعت من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَإِدْرِيس هَذَا مَجْهُول. قَالَه أَبُو حَاتِم،(5/337)
وَقد أسلفنا لهَذَا طَرِيقا آخر من رِوَايَة ابْن مَاجَه فِي الْجُزْء الَّذِي قبله، وَهُوَ الحَدِيث السَّادِس بعد السِّتين من أَحَادِيث هَذَا الْبَاب.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور فِي «سنَنه» عَن رَاشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، وَحكم بن عُمَيْر، قَالُوا: «إِذا سوي عَلَى الْمَيِّت قَبره وَانْصَرف النَّاس عَنهُ؛ كَانُوا يستحبون أَن يُقَال للْمَيت عِنْد قَبره: يَا فلَان، قل: لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله - ثَلَاث مَرَّات - قل: رَبِّي الله، وديني الْإِسْلَام، ونبيي مُحَمَّد (. (ثمَّ ينْصَرف)) . فَهَذِهِ شَوَاهِد لحَدِيث أبي أُمَامَة الْمَذْكُور، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: هَذَا الحَدِيث إِسْنَاده لَيْسَ بالقائم، وَلكنه (يعتضد) بشواهد وبعمل أهل الشَّام بِهِ قَدِيما. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث وَإِن كَانَ ضَعِيفا فيستأنس بِهِ، وَقد اتّفق عُلَمَاء الْمُحدثين وَغَيرهم عَلَى الْمُسَامحَة فِي أَحَادِيث الْفَضَائِل وَالتَّرْغِيب والترهيب، لَا سِيمَا وَقد اعتضد بشواهد، وَلم يزل أهل الشَّام عَلَى الْعَمَل بِهَذَا فِي زمن من يُقْتَدَى بِهِ وَإِلَى الْآن.
قلت: لَكِن قَالَ الْأَثْرَم: قلت لأبي عبد الله - يَعْنِي: ابْن حَنْبَل -:(5/338)
فَهَذَا الَّذِي تصنعونه إِذا دفن الْمَيِّت! يقف الرجل وَيَقُول: يَا فلَان ابْن فُلَانَة، اذكر مَا فَارَقت عَلَيْهِ؛ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. فَقَالَ: مَا رَأَيْت أحدا فعل هَذَا إِلَّا أهل الشَّام حِين مَاتَ أَبُو الْمُغيرَة، (جَاءَ إِنْسَان فَقَالَ ذَلِك وَكَانَ أَبُو الْمُغيرَة) يرْوَى مَتنه عَن أبي بكر بن أبي مَرْيَم، عَن أَشْيَاخهم أَنهم كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَكَانَ ابْن عَيَّاش يروي بِهِ. يُشِير بذلك إِلَى حَدِيث أبي أُمَامَة السالف.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّمَانِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يدْفن فِي كل قبر إِلَّا وَاحِدًا» .
هَذَا صَحِيح مَعْرُوف فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأمر بذلك. قلت: لَا يحضرني نَص فِي ذَلِك، بل هُوَ الظَّاهِر من فعله بِأَصْحَابِهِ.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّمَانِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للْأَنْصَار يَوْم أحد: «احفروا، وأوسعوا، وأعمقوا، وَاجْعَلُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة فِي الْقَبْر الْوَاحِد، وَقدمُوا أَكْثَرهم قُرْآنًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي الْجُزْء قبله، وَهُوَ الحَدِيث السِّتُّونَ مِنْهُ.(5/339)
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّمَانِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لِأَن يجلس أحدكُم عَلَى جَمْرَة، فتحرق ثِيَابه، فتخلص إِلَى جلده: خير لَهُ من أَن يجلس عَلَى قبر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بِهَذَا اللَّفْظ، وَقد تقدم فِي الحَدِيث الثَّالِث بعد السّبْعين النَّهْي عَن الْقعُود عَلَيْهِ أَيْضا.
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّمَانِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها، فَإِنَّهَا تذكركم الْآخِرَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَله طرق كَثِيرَة.
أَحدهَا: من طَرِيق: (بُرَيْدَة) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «قد (كنت) نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فقد أذن لمُحَمد فِي زِيَارَة قبر أمه، فزوروها فَإِنَّهَا تذكركم الْآخِرَة» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ.
وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بلفظين: أَحدهمَا: «إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَن ثَلَاث: عَن زِيَارَة الْقُبُور، وَعَن لُحُوم(5/340)
الْأَضَاحِي أَن (تبقوها) فَوق ثَلَاثَة أَيَّام، وَعَن الظروف إِلَّا مَا كَانَ سقاءٍ، فقد رخص لمحمدٍ فِي (زِيَارَة قبر) أمه» .
الثَّانِي: « (إِنِّي اسْتَأْذَنت) فِي الاسْتِغْفَار (لأمي) فَلم يَأْذَن لي، فَدَمَعَتْ عَيْني رَحْمَة لَهَا من النَّار، وَإِنِّي كنت نَهَيْتُكُمْ عَن ثَلَاث: عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها، ولتزدكم زيارتها خيرا ... » وَذكر بَاقِي الحَدِيث. وَرَوَاهُ الْحَاكِم (بِلَفْظ) : «إِنِّي كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزورها، ولتردكم زيارتها خيرا» . ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَرَوَاهُ أَيْضا فِي مَنَاقِب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام زار قبر أمه فِي ألف مقنع، فَمَا رُئي باكيًا أَكثر من ذَلِك الْيَوْم» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ، إِنَّمَا أخرج مُسلم وَحده حَدِيث محَارب بن دثار، عَن ابْن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه: «اسْتَأْذَنت رَبِّي فِي الاسْتِغْفَار، فَلم يُؤذن لي» .
قلت: لم يخرج مُسلم هَذَا اللَّفْظ من حَدِيث بُرَيْدَة هَذَا؛ إِنَّمَا أخرجه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة كَمَا ستعلمه بعد هَذَا، وَلَفظه فِي حَدِيث بُرَيْدَة: «نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها ... » الحَدِيث، وَأغْرب من(5/341)
هَذَا قَوْله فِي الْجَنَائِز من «مُسْتَدْركه» لما أخرج حَدِيث بُرَيْدَة: «كنت نَهَيْتُكُمْ) كَمَا سقناه: إنّ هَذَا الحَدِيث مخرج فِي الْكِتَابَيْنِ «الصَّحِيحَيْنِ» لِلشَّيْخَيْنِ. وَقد عرفت أَنه من أَفْرَاده، كَمَا قَالَه مرّة أُخْرَى.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زار قبر أمه، فَبَكَى؛ وأبكى من حوله، فَقَالَ: (اسْتَأْذَنت رَبِّي فِي أَن أسْتَغْفر لَهَا، فَلم يُؤذن لي، واستأذنته فِي أَن أَزور قبرها، فَأذن لي، فزوروا الْقُبُور؛ فَإِنَّهَا تذكركم الْمَوْت» . رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ، وَلم يَقع فِي رِوَايَة عبد الغافر الْفَارِسِي، وَوَقع لغيره من الروَاة عَن الجلودي، وَعَزاهُ إِلَى «مُسلم» : الْبَيْهَقِيّ، وَعبد الْحق، وَالْمُنْذِرِي، وَغَيرهم، وَأما الْحَاكِم فاستدركه وَقَالَ: إِنَّه عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه مُخْتَصرا بِلَفْظ: «زوروا الْقُبُور؛ فَإِنَّهَا تذكركم الْآخِرَة» .
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها، فَإِنَّهَا تزهد فِي الدُّنْيَا وتذكر فِي الْآخِرَة» . رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَفِيه أَيُّوب بن هَانِئ ضعفه ابْن معِين، وَقواهُ أَبُو(5/342)
حَاتِم، وَاقْتصر الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي» (عَلَى) مقَالَة ابْن معِين. وَقَالَ فِي «الكاشف» : إِنَّه صَدُوق. وَلم يذكر غير ذَلِك، وَرَوَاهُ أَحْمد بِنَحْوِهِ.
الطَّرِيق الرَّابِع: من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها، فَإِنَّهَا عِبْرَة» . رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي كَذَلِك، لَكِن قَالَ بدل: «فَإِنَّهَا عِبْرَة» : «وَلَا تَقولُوا هجرًا» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فَإِن زرتموها فَلَا تَقولُوا هجرًا» .
الطَّرِيق الْخَامِس: من حَدِيث أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «نهيت عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها؛ فَإِنَّهَا تذكركم الْمَوْت» . رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَفِيه يَحْيَى الجابر، وَقد ضعَّفوه كَمَا سلف فِي الْبَاب فِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين مِنْهُ. ثمَّ رَوَاهُ الْحَاكِم من طَرِيق آخر جيد، عَن أنس بِلَفْظ: «نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها، فَإِنَّهَا ترق الْقلب، وتدمع الْعين، وتذكركم الْآخِرَة، وَلَا تَقولُوا هجرًا» . وَرَوَاهُ أَحْمد بِنَحْوِهِ.
الطَّرِيق السَّادِس: من حَدِيث أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -:(5/343)
«زر الْقُبُور، تذكر بهَا الْآخِرَة» . رَوَاهُ الْحَاكِم هُنَا، و (فِي) بَاب الرقَاق من «مُسْتَدْركه» ، وَقَالَ هُنَا: رُوَاته عَن آخِرهم ثِقَات.
قلت: لَكِن فِي سَنَده يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَهُوَ واه، وَيَحْيَى بن سعيد عَن أبي مُسلم الْخَولَانِيّ، وَيَحْيَى لم يدْرك أَبَا مُسلم، فَهُوَ مُنْقَطع، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «اختصاره للمستدرك» : أَبُو مُسلم هَذَا رجل مَجْهُول، وَالْخَبَر مُنكر.
الطَّرِيق السَّابِع: من حَدِيث عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ نهَى عَن زِيَارَة الْقُبُور، ثمَّ قَالَ: إِنِّي كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زيارتها؛ فزوروها؛ فَإِنَّهَا تذكركم الْآخِرَة» . رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَلّي بن يزِيد، عَن ربيعَة بن النَّابِغَة، عَن أَبِيه، عَن عَلّي بِهِ. قَالَ البُخَارِيّ: ربيعَة بن النَّابِغَة، عَن أَبِيه عَن عَلّي لَا يَصح حَدِيثه.(5/344)
قَالَ الْحَاكِم: قد استقصيت (عَلَى) الْحَث عَلَى زِيَارَة الْقُبُور تحريًا للمشاركة فِي التَّرْغِيب، وليعلم الشحيح (بِدِينِهِ) أَنَّهَا سنة مسنونة.
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّمَانِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعن زاورات الْقُبُور» .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث عمر بن أبي سَلمَة، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعن زوارات الْقُبُور» . رَوَاهُ أَحْمد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. قلت: وَعمر هَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق، وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: لَا يحْتَج بِهِ. وَوَثَّقَهُ غَيرهمَا، وَصَححهُ ابْن حبَان، وَلَفظه: «لعن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زائرات الْقُبُور» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد رَأَى بعض أهل الْعلم أَن هَذَا قبل أَن يرخص النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي زِيَارَة الْقُبُور، فَلَمَّا(5/345)
رخص دخل فِي رخصته [الرِّجَال و] النساءُ، (قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: وَإِنَّمَا كره زِيَارَة الْقُبُور للنِّسَاء) لقلَّة صبرهن وَكَثْرَة جزعهن.
قلت: وَهَذَا الْجَواب مَبْنِيّ عَلَى أَن النِّسَاء دخلن فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور» وَالْمُخْتَار عِنْد أَصْحَابنَا عدم دخولهن فِي ضمير الرِّجَال، وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «إِعْلَامه» جوز جعل هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخا بِحَدِيث: «كنت نَهَيْتُكُمْ» ، وَهُوَ مَبْنِيّ عَلَى الأول.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث حسان بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعن زوارات الْقُبُور» رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن مَاجَه، وَالْحَاكِم، وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن حسان بن ثَابت، وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث (أبي صَالح عَن) ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «لعن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زوارات الْقُبُور، والمتخذات عَلَيْهَا الْمَسَاجِد والسرج» . رَوَاهُ أَحْمد، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة،(5/346)
وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه، وَاخْتلف كَلَام الْحفاظ فِي أبي صَالح هَذَا: هَل هُوَ باذام مولَى أم هَانِئ الضَّعِيف، أَو ذكْوَان السمان الرواي عَن أبي هُرَيْرَة، الثِّقَة المحتج بِهِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أم غَيرهمَا، فَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» : أَبُو صَالح هَذَا اسْمه (ميزَان) ، بَصرِي ثِقَة، لَيْسَ بِصَاحِب الْكَلْبِيّ، ذَاك اسْمه باذام. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر فِي «صَحِيحه» فِي حَدِيث أبي صَالح عَن عَمْرو بن الْعَاصِ رَفعه فِي النَّهْي عَن الدُّخُول عَلَى المغيبات: أَبُو صَالح هَذَا اسْمه (ميزَان) ، من اهل الْبَصْرَة، (ثِقَة) سمع ابْن عَبَّاس، وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَرَوَى عَنهُ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، وَمُحَمّد بن جحادة، مَا رَوَى عَنهُ غير هذَيْن.
قلت: بل رَوَى عَنهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، وَابْن أَخِيه عمار بن مُحَمَّد، وَمَالك بن مغول. قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِصَاحِب الْكَلْبِيّ، ذَاك واهي ضَعِيف. وَخَالف فِي ذَلِك جماعات، مِنْهُم الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه» ، فَإِنَّهُ قَالَ بعد أَن رَوَاهُ: أَبُو صَالح هَذَا لَيْسَ بالسمان المحتج بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ(5/347)
(باذان) ، وَلم يحْتَج بِهِ الشَّيْخَانِ، لكنه حَدِيث متداول فِيمَا بَين الْأَئِمَّة، قَالَ: وَقد وجدت لَهُ مُتَابعًا من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ فِي متن الحَدِيث، فخرجته. ثمَّ ذكر حَدِيث (حسان) السالف. وَمِنْهُم ابْن عَسَاكِر؛ فَإِنَّهُ ذكره فِي «أَطْرَافه» فِي تَرْجَمته، ثمَّ رَوَاهُ عَلَى بن مُسلم الطوسي، عَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، عَن شُعْبَة، عَن مُحَمَّد بن جحادة، سَمِعت أَبَا صَالح مولَى أم هَانِئ. وَمِنْهُم عبد الْحق؛ فَإِنَّهُ لما ذكره عقبه (بِأَن قَالَ: هَذَا يرويهِ أَبُو صَالح صَاحب الْكَلْبِيّ، وَهُوَ عِنْدهم ضَعِيف جدا،) وَأنكر هَذِه الْعبارَة عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان، وَقَالَ: إِنَّمَا يُقَال مثلهَا فِي الْوَاقِدِيّ وَنَحْوه من المتروكين الْمجمع عَلَيْهِم، وَأما أَبُو صَالح هَذَا فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَد، وَلَا من هَذَا النمط، وَلَا أَقُول إِنَّه ثِقَة، لكني أَقُول: إِنَّه لَيْسَ كَمَا توهمه هَذِه الْعبارَة، بل قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: سَمِعت يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان يَقُول: لم أر أحدا من أَصْحَابنَا تَركه، وَمَا سَمِعت أحدا من النَّاس يَقُول فِيهِ شَيْئا وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: إِذا رَوَى عَنهُ غير الْكَلْبِيّ لَا بَأْس بِهِ. وَقد أسلفنا تَرْجَمَة أبي صَالح مستوفاة فِي بَاب الإحداث، فَرَاجعهَا من ثمَّ. وَمِنْهُم الْحَافِظ زكي الدَّين الْمُنْذِرِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي «مُخْتَصره لسنن أبي دَاوُد» عقب قَول التِّرْمِذِيّ: «إِنَّه حَدِيث حسن» :(5/348)
فِيهِ نظر، فَإِن فِي إِسْنَاده أَبُو صَالح، وَهُوَ باذام، وَيُقَال: باذان، مكي، مولَى أم هَانِئ بنت أبي طَالب، وَهُوَ صَاحب الْكَلْبِيّ، وَقد قيل: إِنَّه لم يسمع من ابْن عَبَّاس شَيْئا، وَقد تكلم فِيهِ جمَاعَة من الْأَئِمَّة، وَقَالَ ابْن عدي: لم أر أحدا من الْمُتَقَدِّمين رضيه. وَقد نقل عَن يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان وَغَيره تَحْسِين أمره، فَلَعَلَّهُ يُرِيد: رضيه حجَّة، أَو قَالَ: هُوَ ثِقَة. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي «موافقاته» . وَمِنْهُم النَّوَوِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي «خلاصته» : هَذَا الحَدِيث حسنه التِّرْمِذِيّ، وَسكت عَنهُ أَبُو دَاوُد فَلم يُضعفهُ، وَأَبُو صَالح هَذَا هُوَ باذام، وَاخْتلفُوا فِيهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يحْتَج بِهِ. وَمِنْهُم ابْن دحْيَة فِي كتاب «مرج الْبَحْرين» ، فَإِنَّهُ قَالَ عقيب تَحْسِين التِّرْمِذِيّ لَهُ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح من هَذَا الْوَجْه، وَلَا من غَيره؛ لأجل أبي صَالح باذان أَو باذام. قَالَ الْأَزْدِيّ: كَذَّاب وَذكره الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «أَطْرَافه» فِي تَرْجَمَة أبي صَالح باذام، ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو مَنْصُور الْحسن (بن السكين الْبَلَدِي عَن يعلي بن عباد الْبَصْرِيّ عَن شُعْبَة وَالْحسن) بن أبي جَعْفَر، وَالْحسن بن دِينَار، وَأبي الرّبيع السمان، وَمُحَمّد بن طَلْحَة بن مصرف، كلهم عَن مُحَمَّد بن جحادة، عَن أبي صَالح السمان، عَن ابْن عَبَّاس.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّمَانِينَ
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالسّنة أَن يَقُول الزائر: «سَلام عَلَيْكُم دَار قوم(5/349)
مُؤمنين، وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمنَا أجرهم، وَلَا تفتنا بعدهمْ» .
هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج إِلَى الْمقْبرَة، فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين، وَإِنَّا أَن شَاءَ الله بكم لاحقون» . وَفِيه أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كلما كَانَت لَيْلَتهَا مِنْهُ يخرج من آخر اللَّيْل إِلَى البقيع، فَيَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين، وأتاكم مَا توعدون، غَدا (مؤجلون) ، وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون، اللَّهُمَّ اغْفِر لأهل بَقِيع الْغَرْقَد» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام علمهَا هَذَا عِنْد زِيَارَة البقيع: السَّلَام عَلَى أهل الديار من الْمُسلمين وَالْمُؤمنِينَ، وَيرْحَم الله الْمُسْتَقْدِمِينَ منا (والمستأخرين) ، وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون» . وَفِيه أَيْضا من حَدِيث بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يعلمهُمْ) إِذا خَرجُوا إِلَى الْمَقَابِر فَكَانَ قَائِلهمْ يَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم أهل الديار من الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين، وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون، أسأَل الله لنا وَلكم الْعَافِيَة» . زَاد النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه: «أَنْتُم لنا فرط، وَنحن لكم تبع» .(5/350)
وَفِي «السّنَن» الثَّلَاثَة «سنَن أبي دَاوُد» وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج إِلَى الْمقْبرَة، فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين، وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون» . وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «مر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِقبُول الْمَدِينَة، فَأقبل عَلَيْهِم بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم يَا أهل الْقُبُور، يغْفر الله لنا وَلكم، أَنْتُم سلفنا، وَنحن بالأثر» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. وَفِي كتاب ابْن السّني عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَى البقيع؛ فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين، أَنْتُم لنا فرط، وَإِن بكم لاحقون، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمنَا أجرهم، وَلَا تضلنا بعدهمْ» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّمَانِينَ
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من عزى مصابًا فَلهُ مثل أجره» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ، وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث عَلّي بن عَاصِم (حَدثنَا) وَالله مُحَمَّد بن سوقة، عَن إِبْرَاهِيم، عَن الْأسود، عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور،(5/351)
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث غَرِيب، لَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيث عَلّي بن عَاصِم قَالَ: وَرُوِيَ أَيْضا مَوْقُوفا. قَالَ: وَيُقَال: أَكثر مَا ابْتُلِيَ بِهِ عَلّي بن عَاصِم بِهَذَا الحَدِيث، نقموا عَلَيْهِ.
قلت: وَقَالَ يَحْيَى بن زَكَرِيَّا: عَلّي بن عَاصِم من أهل الحَدِيث لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث، عابوا عَلَيْهِ فِي حَدِيث مُحَمَّد بن سوقة، عَن إِبْرَاهِيم، عَن الْأسود، عَن عبد الله: «من عزى مصابًا» وَقيل لوكيع: إِن عَلّي بن عَاصِم غلط فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود. فَقَالَ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: حَدِيث مُحَمَّد بن سوقة، فَقَالَ وَكِيع: أَنا إِسْرَائِيل، عَن مُحَمَّد بن سوقة، عَن إِبْرَاهِيم، عَن الْأسود، عَن عبد الله بن مَسْعُود ... فَذكره. قَالَ ابْن عدي: (والضعف) عَلَى حَدِيثه بَين. وَقَالَ يَحْيَى بن جَعْفَر: كَانَ يجلس عِنْد عَلّي بن عَاصِم ثَلَاثُونَ ألفا، وَكَانَ يجلس عَلَى سطح، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَة مستملين. وَقَالَ أَبُو عَلّي المفلوج: رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيمَا يرَى النَّائِم، وَأَبُو بكر عَن يَمِينه، و (عمر) عَن شِمَاله، وَعُثْمَان أَمَامه، وَعلي خَلفه، فَقَالَ عَلَيْهِ (الصَّلَاة و) السَّلَام: أَيْن عَلّي بن عَاصِم؟ أَيْن عَلّي بن عَاصِم؟ فجيء بِهِ، (فَقبل) بَين عَيْنَيْهِ، ثمَّ قَالَ: أَحييت سنتي. قَالُوا: يَا رَسُول الله، إِنَّهُم يَقُولُونَ: غلط فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود: «من عزى مصابا فَلهُ مثل أجره» . فَقَالَ (لنا: حدثت ابْن مَسْعُود،(5/352)
وَابْن مَسْعُود حدث الْأسود بن يزِيد، وَالْأسود (بن يزِيد) حدث إِبْرَاهِيم، وَإِبْرَاهِيم حدث مُحَمَّد بن سوقة، وَعلي بن عَاصِم صَدُوق؛ صدق عَلّي بن عَاصِم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ عَلّي بن عَاصِم، وَهُوَ أحد مَا أنكر عَلَيْهِ، قَالَ: وَيروَى أَيْضا عَن غَيره.
قلت: إِذا رُوِيَ عَن غَيره فَلم ينْفَرد بِهِ، وَقد رَوَاهُ جماعات غَيره:
أحدهم: إِسْرَائِيل، كَمَا سلف، وَقد سَاقه كَمَا أسلفناه عَنهُ صَاحب «الْكَمَال» .
وثانيهم: الثَّوْريّ، رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيثه عَن مُحَمَّد بن سوقة: «من عزى مصابًا كَانَ لَهُ مثل أجره» .
(ثالثهم: شُعْبَة رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيثه عَن مُحَمَّد بن سوقة: «من عزى مصابًا لَهُ مثل أجره» . ذكرهَا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» وَقَالَ: هما طَرِيقَانِ لَا يصحان، تفرد بِالْأولِ حَمَّاد بن الْوَلِيد عَن الثَّوْريّ، قَالَ ابْن حبَان: كَانَ يسرق الحَدِيث، وَيلْزق بالثقات مَا لَيْسَ من حَدِيثهمْ، لَا يحْتَج بِهِ بِحَال. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَتفرد بِالثَّانِي نصر بن حَمَّاد عَن شُعْبَة، قَالَ يَحْيَى: كَذَّاب وَقَالَ مُسلم: ذَاهِب الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة. وَذكر أَيْضا فِي «مَوْضُوعَاته» طَرِيق عَلّي بن عَاصِم السالفة، وَقَالَ: إِنَّهَا لَا تصح. قَالَ: وَقد تفرد بِهِ عَن(5/353)
مُحَمَّد بن سوقة، وَقد كذبه شُعْبَة وَيزِيد بن هَارُون وَيَحْيَى بن معِين.
وَقَالَ فِي (تَحْقِيقه) : هَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ حَمَّاد بن الْوَلِيد عَن الثَّوْريّ، وَهُوَ ضَعِيف جدا. قَالَ: وَقد رُوِيَ من طرق (لَا تثبت) . وَقَالَ ابْن عدي: قد رَوَى هَذَا الحَدِيث مَعَ عَلّي بن عَاصِم عَن ابْن سوقة: مُحَمَّد بن الْفضل بن عَطِيَّة، وَعبد الرَّحْمَن بن مَالك بن مغول.
قلت: وَهَذِه مُتَابعَة رَابِعَة وخامسة. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن: الثَّوْريّ، وَإِسْرَائِيل، وَقيس، وَغَيرهم عَن ابْن سوقة.
قلت: وَقيس مُتَابعَة سادسة. قَالَ: وَمِنْهُم من يزِيد فِي الْإِسْنَاد (عَلْقَمَة) ، وَأنكر النَّاس عَلَى عَلّي بن عَاصِم حَدِيث (ابْن) سوقة هَذَا، قَالَ: والضعف عَلَى حَدِيث عَلّي بَين. وَقَالَ الْخَطِيب: قد رَوَى حَدِيث(5/354)
ابْن سوقة عبد الحكم بن مَنْصُور مِثْلَمَا رَوَاهُ عَلّي بن عَاصِم.
قلت: وَهَذِه مُتَابعَة سابعة. قَالَ: وَرُوِيَ كَذَلِك عَن: سُفْيَان الثَّوْريّ، وَشعْبَة، وَإِسْرَائِيل، وَمُحَمّد بن الْفضل بن عَطِيَّة، وَعبد الرَّحْمَن بن مَالك بن مغول، والْحَارث بن عمرَان الْجَعْفَرِي كلهم عَن ابْن سوقة.
قلت: والْحَارث مُتَابعَة ثامنة. قَالَ: وَلَيْسَ شَيْء مِنْهَا ثَابتا.
قلت: وَله شَاهد من حَدِيث مُحَمَّد بن عبيد الله، عَن أبي الزبير، عَن جَابر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من عزى مصابًا فَلهُ مثل أجره» . لكنه (شَاهد) واه، ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» ، وَقَالَ: مُحَمَّد هَذَا هُوَ الْعَرْزَمِي، قَالَ يَحْيَى: لَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث.
الحَدِيث التِّسْعُونَ
رُوِيَ «أَنه لما جَاءَ نعي جَعْفَر الصَّادِق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اصنعوا لآل جَعْفَر طَعَام؛ فقد جَاءَهُم أَمر يشغلهم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَأحمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ،(5/355)
وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ، من رِوَايَة جَعْفَر بن خَالِد - هُوَ ابْن سارة - عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن جَعْفَر قَالَ: «لما جَاءَ نعي جَعْفَر قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اصنعوا لآل جَعْفَر طَعَاما؛ فَإِنَّهُ قد جَاءَهُم مَا يشغلهم» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث (حسن) . وَقَالَ بعد ذَلِك: وجعفر بن خَالِد هُوَ ابْن سارة، وَهُوَ ثِقَة، رَوَى عَنهُ (ابْن) جريج. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: إِنَّمَا لم يُصَحِّحهُ التِّرْمِذِيّ لِأَن خَالِد بن سارة لَا يعرف حَاله، وَرَوَى عَنهُ ابْنه، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح قَالَه البخاريُّ، وَأَهْمَلَهُ ابْن أبي حَاتِم كَسَائِر من يجهل أَحْوَالهم. قَالَ: وَلَا أعلم لَهُ إِلَّا حديثين، أَحدهمَا هَذَا، والأخر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حمل غلامين من بني عبد الْمطلب عَلَى دَابَّة» . رَوَاهُ أَيْضا جَعْفَر، عَن أَبِيه، عَن (عبد الله) بن جَعْفَر كَذَلِك.
قلت: لَكِن خَالِد هَذَا وَثَّقَهُ ابْن حبَان، فَإِنَّهُ ذكره فِي «ثقاته» ، فَزَالَتْ عَنهُ إِذن جَهَالَة الْعين وَالْحَال، وَلما أخرجه الْحَاكِم فِي(5/356)
«مُسْتَدْركه» من طَرِيقه قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وخَالِد بن جَعْفَر بن سارة المَخْزُومِي من أكَابِر مَشَايِخ قُرَيْش، وَهُوَ كَمَا قَالَ شُعْبَة: اكتُبوا عَن الْأَشْرَاف؛ فَإِنَّهُم لَا يكذبُون. قَالَ: وَقد رُوِيَ غير هَذَا الحَدِيث مُفَسرًا. ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد الله بن جَعْفَر قَالَ: «مسح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِي - قَالَ: أَظُنهُ قَالَ: ثَلَاثًا - كلما مسح قَالَ: اللَّهُمَّ أخلف جعفرًا فِي وَلَده» . قَالَ الْحَاكِم: قد أَتَى جَعْفَر بن خَالِد بشيئين عزيزين، أَحدهمَا مسح رَأس الْيَتِيم، وَالْآخر تفقد أهل الْمُصِيبَة بِمَا يتقوتون ليلتهم، وفقنا الله لاستعماله بمنه. وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» وَقَالَ: «جَاءَهُم أَمر (أشغلهم) » . قلت: وَله شَاهد أَيْضا من حَدِيث أَسمَاء بنت عُمَيْس، رَوَاهُ أَحْمد، وَالطَّبَرَانِيّ، وَابْن مَاجَه عَنْهَا: «لما أُصِيب جَعْفَر رَجَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى أَهله فَقَالَ: إِن أهل جَعْفَر قد شغلوا بشأن ميتهم، فَاصْنَعُوا (لَهُم) طَعَاما» .
فَائِدَة: النعي: بِكَسْر الْعين مُشَدّدَة (الْيَاء) وبإسكانها مُخَفّفَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: النعي: خبر الْمَوْت، يُقَال: نعاه لَهُ نَعْيًا ونُعيانًا - بِالضَّمِّ - وَكَذَلِكَ النعي عَلَى فعل، يُقَال: جَاءَ نعي فلَان، والنعي أَيْضا الناعي، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِخَبَر الْمَوْت، وَقَالَ صَاحب «الْمطَالع» : نعي (أبي سُفْيَان بِإِسْكَان) الْعين وبكسرها وَتَشْديد الْيَاء وَقَالَ الْخطابِيّ فِي كِتَابه(5/357)
«تصاحيف الروَاة» : النعيّ: بتَشْديد الْيَاء الِاسْم، فَأَما النعْيُ: فَهُوَ مصدر نَعيتُ الْمَيِّت (أَنعَاةُ) ، قَالَ ابْن بري: النعْي قد يَأْتِي بِمَعْنى النعيّ، فَيُقَال: قد أَتَى نَعْيُه أَي: نَعِيُّه، والنعي: الَّذِي يَأْتِي بِخَبَر الْمَيِّت، والنعي أَيْضا: الْمَيِّت نَفسه.
فَائِدَة ثَانِيَة: يشغلهم: بِفَتْح الْيَاء، وحُكى ضمُّها، وَهُوَ شَاذ، وَوَقع فِي «الْمُهَذّب» : «يشغلهم عَنهُ» ، وَالَّذِي رَأَيْته فِي كتب الحَدِيث: «يشغلهم» بِحَذْف «عَنهُ» .
فَائِدَة ثَالِثَة: كَانَ قتل جَعْفَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي جماد سنة ثَمَان من الْهِجْرَة فِي غَزْوَة مُؤْتَة، وَهُوَ مَوضِع مَعْرُوف بِالشَّام عِنْد الكرك، رَوَى البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن ابْن عمر قَالَ: «كنت فِي غَزْوَة مُؤْتَة، فالتمسنا جعفرًا فوجدناه فِي الْقَتْلَى، وَوجدنَا فِي جسده بضعًا و (تسعين) من طعنة ورمية» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فعددت بِهِ خمسين بَين طعنة (وضربة) لَيْسَ فِيهَا شَيْء فِي دبره» .
الحَدِيث الْحَادِي بعد التسعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فَإِذا وَجَبت فَلَا تبكين باكية» .(5/358)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي «مسنديهما» ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث جَابر بن عتِيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَاءَ يعود عبد الله بن ثَابت، فَوَجَدَهُ قد غلب، فصاح بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يجبهُ، فَاسْتَرْجع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ: فلنا عَلَيْك يَا أَبَا الرّبيع. فصاح النسْوَة وبكين، فَجعل ابْن عتِيك يسكتهن؛ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: دَعْهُنَّ، فَإِذا وَجَبت فَلَا تبكين باكية، قَالُوا: يَا رَسُول الله، وَمَا الْوُجُوب؟ قَالَ: الْمَوْت» . وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، رُوَاته مدنيون قرشيون. وللنسائي فِي بعض الرِّوَايَات من غير حَدِيث مَالك عَن (جبر) : «أَنه دخل مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » الحَدِيث. قَالَ ابْن عَسَاكِر: وَحَدِيث مَالك أشهر، وَمَعْنى «وَجَبت» : خرجت روحه.
الحَدِيث الثَّانِي بعد التسعين
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جعل ابْنه إِبْرَاهِيم فِي حجره وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ، فذرفت عَيناهُ (، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّهَا رَحْمَة، وَإِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء، ثمَّ قَالَ: «) الْعين تَدْمَع، وَالْقلب يحزن، وَلَا نقُول إِلَّا مَا يُرْضِي رَبنَا» .(5/359)
هَذَا الحَدِيث أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «دخلت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى أبي سيف الْقَيْن وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَأخذ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِبْرَاهِيم فَقبله وشمَّه، ثمَّ دَخَلنَا عَلَيْهِ بعد ذَلِك وَإِبْرَاهِيم يجود بِنَفسِهِ، فَجعلت عينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: وَأَنت يَا رَسُول الله؟ ! فَقَالَ: يَا ابْن عَوْف، إِنَّهَا رَحْمَة، ثمَّ أتبعهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ: إِن الْعين تَدْمَع، وَالْقلب يحزن، وَلَا نقُول إِلَّا مَا يُرْضِي رَبنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِك يَا إِبْرَاهِيم لَمَحْزُونُونَ» .
الْقَيْن: الحدّاد، والظِّئْر: بِكَسْر الظَّاء الْمُعْجَمَة بعْدهَا همزَة زوج الْمُرضعَة. وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث أبي عوَانَة، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن عَطاء، عَن جَابر قَالَ: «خرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِعَبْد الرَّحْمَن بن عَوْف إِلَى النّخل، فَإِذا ابْنه إِبْرَاهِيم يجود بِنَفسِهِ؛ فَوَضعه فِي حجره، فَفَاضَتْ عَيناهُ، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: اتبكي وَأَنت تنْهَى النَّاس؟ ! فَقَالَ: إِنِّي لم أَنه عَن الْبكاء، إِنَّمَا نهيت عَن النوح، صَوْتَيْنِ (أَحْمَقَيْنِ) فاجرين: صَوت عِنْد (نعْمَة) لَهو وَلعب وَمَزَامِير شَيْطَان، وَصَوت عِنْد (معصيه) خَمْش وُجُوه، وشق جُيُوب، ورنَّة، وَهَذَا هُوَ رَحْمَة، وَمن لَا يرحم لَا يرحم، يَا إِبْرَاهِيم، لَوْلَا أَنه أَمر حق، ووعد صدق، وَأَن آخِرنَا سيلحق بأولنا؛ لحزنا عَلَيْك حزنا هُوَ أَشد من هَذَا، وَإِنَّا بك لمحزنون،(5/360)
تبْكي الْعين، (ويحزن) الْقلب، وَلَا نقُول مَا يسْخط (الرب) » . وَخرج التِّرْمِذِيّ بعضه وَحسنه، وَقد عرفت أَنه من رِوَايَة ابْن أبي لَيْلَى، وَهُوَ ضَعِيف وَفِي (الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أُسَامَة بن زيد «أَن بِنْتا لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أرْسلت إِلَيْهِ أَن ابْنا لَهَا فِي الْمَوْت، فَقَالَ للرسول: ارْجع إِلَيْهَا واقرأ عَلَيْهَا قل: إِن لله مَا أَخذ، وَله مَا أعْطى، وكل شَيْء عِنْده إِلَى أجل. فَأرْسلت تقسم عَلَيْهِ، فَأَتَاهَا، فَوضع الصَّبِي فِي حجره وَنَفسه تتقعقع؛ فَفَاضَتْ عَيناهُ، فَقَالَ لَهُ سعد: (مَا هَذَا) ؟ ! قَالَ: إِنَّهَا رَحْمَة يَضَعهَا الله فِي قُلُوب من يَشَاء، وَإِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء» .
فَائِدَة: مَعْنَى «يجود بِنَفسِهِ» : يُخرجهَا، وَالَّذِي يجود بِمَالِه فيخرجه، ومصدره عَلَى وزن فعول. و «ذرفت» - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة - أَي: سَالَتْ، (يُقَال) : ذرف يذرف ذرفًا، كضرب يضْرب ضربا.
«وَغسل إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: الْفضل بن الْعَبَّاس، وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَالْعَبَّاس، وَجعل عَلَى سَرِير، وَنزل فِي قَبره الْفضل وَأُسَامَة بن زيد» . كَذَا سَاقه أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» بِسَنَدِهِ، فِي تَرْجَمَة سِيرِين الْقبْطِيَّة أُخْت مَارِيَة.(5/361)
الحَدِيث الثَّالِث بعد التسعين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لعن الله النائحة والمستمعة» .
هَذَا الحَدِيث هَكَذَا هُوَ فِي بعض نسخ «الرَّافِعِيّ» وَفِي بَعْضهَا: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعن النائحة والمستمعة» وَهُوَ مَرْوِيّ بِهَذَا اللَّفْظ من طرق ضَعِيفَة:
أَحدهَا: من حَدِيث مُحَمَّد بن الْحسن بن عَطِيَّة، عَن أَبِيه، عَن جده عَطِيَّة وَهُوَ الْعَوْفِيّ، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لعن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - النائحة والمستمعة» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» أَيْضا، وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة ضعفاء: مُحَمَّد بن الْحسن، ووالده، وجده، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: حَدِيث مُنكر، وَمُحَمّد بن الْحسن بن عَطِيَّة وَأَبوهُ وجده ضعفاء الحَدِيث.
ثَانِيهَا: من حَدِيث ابْن عمر، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث مُحَمَّد بن الْحسن بن عَطِيَّة، عَن عَطِيَّة، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا كَمَا تقدم، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عَطاء بن أبي رَبَاح،(5/362)
عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَفِي إِسْنَاده (بَقِيَّة) بن الْوَلِيد، وَقد علمت حَاله فِي أَوَائِل الْكتاب.
ثَالِثهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، رَوَاهُ ابْن عدي، وَعبد الْحق، وَابْن طَاهِر من حَدِيث (عَمْرو) بن يزِيد الْمَدَائِنِي، عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة، وَالْمعْنَى لَهُ، قَالَ ابْن طَاهِر: (عَمْرو) هَذَا قَالَ ابْن عدي فِيهِ: إِنَّه مُنكر الحَدِيث، وَالْحسن لم يسمع من أبي هُرَيْرَة شَيْئا، والْحَدِيث غير مَحْفُوظ.
وَاعْلَم ان الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى تَحْرِيم النوح، ويغني عَنهُ حَدِيث أم عَطِيَّة الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» قَالَت: «نَهَانَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن النِّيَاحَة» .
الحَدِيث الرَّابِع بعد التسعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ منا من ضرب الخدود، وشق الْجُيُوب» .(5/363)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَذَلِك، وَزَادا فِي آخِره: «ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم فِي كتاب الْإِيمَان: «أَو شقّ الْجُيُوب، أَو دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة» .
الحَدِيث الْخَامِس بعد التسعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه الشَّيْخَانِ أَيْضا من حَدِيث عمر بن الْخطاب وَابْنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وَأنْكرت ذَلِك عَائِشَة وَقَالَت: «رحم الله عمر، وَالله مَا حدث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن الله ليعذب الْمُؤمن ببكاء أَهله عَلَيْهِ، وَلكنه قَالَ: إِن الله ليزِيد الْكَافِر عذَابا ببكاء أَهله عَلَيْهِ. وَقَالَت: حسيكم الْقُرْآن: (وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى) . وَله طرق (فيهمَا) .
الحَدِيث السَّادِس بعد التسعين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة: (إِن الله - تَعَالَى - يزِيد الْكَافِر عذَابا ببكاء أَهله عَلَيْهِ» .
هُوَ كَمَا قَالَ، فقد أسلفناه أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.(5/364)
(الحَدِيث السَّابِع بعد التسعين
رَوَى عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) أَنَّهَا قَالَت: «رحم الله (ابْن عمر) ، مَا كذب، وَلكنه نسي أَو أَخطَأ، إِنَّمَا مر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى يَهُودِيَّة وهم يَبْكُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: إِنَّهُم يَبْكُونَ، وَإِنَّهَا لتعذب فِي قبرها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضا فِي «صَحِيحهمَا» ، ورويا أَيْضا إنكارها عَلَى (عمر) ذَلِك أَيْضا، كَمَا سلف.
الحَدِيث الثَّامِن بعد التسعين إِلَى الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة
وَكَانَ من (حَقه) أَن نذْكر فِي أثْنَاء الْبَاب، (فَإِنَّهُ) موضعهَا. قَالَ الرَّافِعِيّ: ورد لفظ (الشَّهَادَة) عَلَى: المبطون، والغريق، والغريب، وَالْمَيِّت عشقًا، و (الْميتَة) طلقًا.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، فالمبطون والغريق: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا تَعدونَ الشَّهِيد فِيكُم؟ قَالُوا: يَا رَسُول الله،(5/365)
من قتل فِي سَبِيل الله فَهُوَ شَهِيد. (قَالَ: إِن شُهَدَاء أمتِي إِذا لقَلِيل! قَالُوا: فَمن هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: من قتل فِي سَبِيل الله فَهُوَ شَهِيد) ، (وَمن مَاتَ فِي سَبِيل الله فَهُوَ شَهِيد) . وَمن مَاتَ فِي الطَّاعُون فَهُوَ شَهِيد، وَمن مَاتَ فِي سَبِيل الله فَهُوَ شَهِيد، وَمن مَاتَ بالبطن فَهُوَ شَهِيد، والغريق شَهِيد» . رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» . وَفِي رِوَايَة مَالك وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: الشُّهَدَاء خَمْسَة المطعون، والمبطون، (والغريق) ، (وَصَاحب الْهدم) ، والشهيد فِي سَبِيل الله» . وَفِي «النَّسَائِيّ» من حَدِيث عقبَة بن عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خمس من قبض فِي شَيْء مِنْهُنَّ فَهُوَ شَهِيد: الْمَقْتُول فِي سَبِيل الله شَهِيد، والغريق فِي سَبِيل الله شَهِيد، وَالنُّفَسَاء فِي سَبِيل الله شهيده» . وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث أم حرَام أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «المائد فِي الْبَحْر الَّذِي يُصِيبهُ الْقَيْء لَهُ أجر شَهِيد، و (الغريق) لَهُ أجر شهيدين» . وَأما الْغَرِيب: فمروي من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن أبي روَّاد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «موت الْغَرِيب شَهَادَة» .(5/366)
رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن جميل بن الْحسن، عَن أبي الْمُنْذر الْهُذيْل بن الحكم، عَن عبد الْعَزِيز بِهِ، وَهَذَا سَنَد ضَعِيف؛ جميل كَذَّاب فَاسق كَمَا قَالَ عَبْدَانِ، وَقَالَ ابْن عدي: لَا أعلم لَهُ حَدِيثا مُنْكرا. وهذيل بن الحكم مُنكر الحَدِيث كَمَا قَالَ البُخَارِيّ، وَعبد الْعَزِيز صَالح الحَدِيث، وَضَعفه عَلّي بن الْجُنَيْد وَابْن حبَان.
قلت: (وَله إِسْنَاد آخر) .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن بكر الشَّيْبَانِيّ عَن عمر بن ذَر (عَن) عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «موت الْغَرِيب شَهَادَة» . وَإِبْرَاهِيم هَذَا تَرَكُوهُ كَمَا قَالَ الْأَزْدِيّ، وَقَالَ ابْن عدي: يسرق الحَدِيث. وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِنَّه تفرد بِهِ. وَنقل فِي «ضُعَفَائِهِ» عَن الدَّارَقُطْنِيّ: (أَنه) قَالَ فِيهِ: مَتْرُوك. وَرَوَاهُ(5/367)
الْعقيلِيّ من هَذَا الْوَجْه وَقَالَ: رَوَاهُ طَاوس مُرْسلا، وَهُوَ أولَى. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من طَرِيق آخر عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا مَرْفُوعا: «موت الْغَرِيب شَهَادَة، إِذا احْتضرَ فَرَمَى ببصره عَن يَمِينه وَعَن يسَاره، فَلم ير إِلَّا غَرِيبا، وَذكر أَهله وَولده، فتنفس؛ فَلهُ بِكُل نَفْس تنَفَسَه يمح الله عَنهُ ألفي ألف سَيِّئَة وَيكْتب لَهُ ألفي ألف حَسَنَة» . فِي إِسْنَاده: عَمْرو بن الْحصين الْعقيلِيّ، وَقد تَرَكُوهُ. وَله طَرِيق آخر من حَدِيث أبي رَجَاء الْخُرَاسَانِي، عَن هِشَام بن حسان، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه بِمثل حَدِيث ابْن عَبَّاس سَوَاء، رَوَاهُ الْعقيلِيّ ثمَّ قَالَ: أَبُو رَجَاء مُنكر الحَدِيث. قَالَ: وَفِي هَذَا رِوَايَة من غير هَذَا الْوَجْه شَبيهَة بِهَذِهِ فِي الضعْف. وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من حَدِيث ابي هُرَيْرَة وَمن حَدِيث ابْن عَبَّاس، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هُوَ حَدِيث مُنكر. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عبد الله بن نَافِع، قَالَ النَّسَائِيّ: هُوَ مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ عبد الْحق فِي «احكامه الصغري» و «الْوُسْطَى» : ذكر(5/368)
الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا مَرْفُوعا فِي «علله» فِي حَدِيث ابْن عمر وَصَححهُ، وَاعْتَرضهُ ابْن الْقطَّان فَقَالَ: لم يُصَحِّحهُ الدَّارَقُطْنِيّ، إِنَّمَا ذكر الِاخْتِلَاف الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ عَلَى الْهُذيْل بن الحكم، فصحح عَنهُ قَول من قَالَ: عَن عبد الْعَزِيز، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. وَبَقِي: هَل هُوَ صَحِيح من الْهُذيْل إِلَى رَسُول الله؟ لم يتَعَرَّض لذَلِك الدَّارَقُطْنِيّ، وَلَا حكم لَهُ بِصِحَّة وَلَا ضعف، وَكَيف يُصَحِّحهُ الدَّارَقُطْنِيّ اَوْ غَيره وَفِيه أَبُو الْمُنْذر الْهُذيْل بن الحكم وَهُوَ مُنكر الحَدِيث؟ ! [كَمَا] قَالَ البُخَارِيّ.
قلت: وَهُوَ (كَمَا قَالَ ابْن عدي: هَذَا الحَدِيث يُعرف بالهذيل، وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن بكر - يَعْنِي: فِي الرِّوَايَة - يسرق الحَدِيث) ، قَالَ البُخَارِيّ: رَوَى الْهُذيْل، عَن عبد الْعَزِيز، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس: «موت الْغَرِيب شَهَادَة» . وَهُوَ مُنكر، قَالَ: ورأيته فِي مَوضِع (مَرْفُوعا) .
قلت: وَله طَرِيق آخر من حَدِيث عبد الْملك بن هَارُون بن عنترة، عَن أَبِيه، عَن جده عنترة الشَّيْبَانِيّ مَرْفُوعا: « (التردي شَهَادَة) ، والسل شَهَادَة، والحريق شَهِيد، والغريب شَهِيد» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي «معرفَة الصَّحَابَة» ، وَعبد الْملك (ووالده) ضعيفان،(5/369)
وجده لم يذكرهُ فِي الصَّحَابَة إِلَّا الطَّبَرَانِيّ، وَسَيَأْتِي قَرِيبا من حَدِيث عَلّي بن [الْأَقْمَر] ، عَن أَبِيه أَيْضا. وَأما الْمَيِّت عشقًا: فَهُوَ مَرْوِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من طرق عَنهُ:
إِحْدَاهَا: من حَدِيث أَحْمد بن مَحْمُود الْأَنْبَارِي، نَا سُوَيْد بن سعيد، نَا عَلّي بن مسْهر، عَن أبي يَحْيَى القَتَّات، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من عشق وكتم وعف فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيد» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا، نَا سُوَيْد بن سعيد بِهِ: «من عشق فعف وكتم ثمَّ مَاتَ مَاتَ شَهِيدا» .
ثَالِثهَا: من حَدِيث يَعْقُوب بن عِيسَى، عَن ابْن (أبي) نجيح، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «من عشق فعف فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيد» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، أما الطريقان الْأَوَّلَانِ: فمدارهما عَلَى سُوَيْد بن سعيد، قَالَ ابْن حبَان: من رَوَى مثل هَذَا عَن عَلّي بن مسْهر تجب مجانبة رِوَايَته. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: لَو كَانَ لي فرس ورمح لَكُنْت أغزو سُوَيْد بن سعيد. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كَانَ سُوَيْد لما كبر يقْرَأ عَلَيْهِ حَدِيث فِيهِ بعض النكارة فيجيزه. وَقَالَ: وَهَذَا الحَدِيث البلية فِيهِ مِمَّن رَوَى عَن سُوَيْد، وَهُوَ مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا، وَكَانَ يضع الحَدِيث. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لم ينْفَرد مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا بِهِ، فقد رَوَاهُ جماعات مِنْهُم أَحْمد بن مَحْمُود الْأَنْبَارِي وَصدقَة بن مُوسَى، وَالقَاسِم بن أَحْمد، وَإِبْرَاهِيم بن جَعْفَر(5/370)
الْفَقِيه، وَأَبُو الْعَبَّاس بن مَسْرُوق، وَالْحسن بن عَلّي الْأُشْنَانِي، وَدَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ. وَأما الطَّرِيق الثَّالِث: فَقَالَ أَحْمد: يَعْقُوب بن عِيسَى لَيْسَ بِشَيْء.
قلت: ومتابعة دَاوُد ذكرهَا نفطويه، قَالَ: (دخلت) عَلّي مُحَمَّد بن دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقلت لَهُ: كَيفَ أجدك؟ قَالَ: حب من تعلم أورثني مَا ترَى. فَقلت: مَا مَنعك عَن الِاسْتِمْتَاع بِهِ مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: الِاسْتِمْتَاع عَلَى وَجْهَيْن: أَحدهمَا: النّظر الْمُبَاح. وَالثَّانِي: اللَّذَّة المحظورة، فَأَما النّظر الْمُبَاح فأورثني مَا ترَى، وَأما اللَّذَّة المحظورة: فَإِنَّهُ مَنَعَنِي (مِنْهَا) مَا [أحَدثك] أَنِّي أَنا سُوَيْد بن سعيد، أَنا عَلّي بن مسْهر، عَن أبي يَحْيَى القَتَّات، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «من عشق فكتم وعف وصبر غفر الله لَهُ، وَأدْخلهُ الْجنَّة» . وَأعله الْجَمَاعَة بِسُوَيْدِ، وَإِن كَانَ من رجال (صَحِيح مُسلم) وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل: قَالَ أبي: اكْتُبْ عَنهُ حَدِيث ضمام. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: (صَدُوق) كَانَ حَافِظًا، وَكَانَ أَحْمد ينتقي لِوَلَدَيْهِ عَلَيْهِ صَالح وَعبد الله، فَكَانَا يَخْتَلِفَانِ إِلَيْهِ، وَقَالَ: (سَلمَة ثِقَة) ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: صَدُوق، وَأكْثر مَا عيب عَلَيْهِ التَّدْلِيس والعمى، وَقد صرح بِالتَّحْدِيثِ، وَرَوَى الأكابر عَنهُ قبل ضرارته فانتفيا. وَقَالَ ابْن عدي فِي «كَامِله» عقب(5/371)
إِخْرَاجه هَذَا الحَدِيث: إِنَّه أحد مَا أنكر عَلَى سُوَيْد. وَكَذَا ذكره الْبَيْهَقِيّ وَابْن طَاهِر وَغَيرهمَا، قَالَ الْحَاكِم فِي «تَارِيخ نيسابور» : أَنا أتعجب من هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ لم يحدث بِهِ غير سُوَيْد، وَهُوَ وَدَاوُد وَابْنه مُحَمَّد ثِقَات. وَهَذَا الْعجب عَجِيب، فسويد لم ينْفَرد بِهِ، فقد رَوَاهُ الزبير بن بكار، عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز الْمَاجشون، عَن عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم، عَن ابْن أبي نجيح، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «من عشق فعف فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيد» وَهَذِه مُتَابعَة حَسَنَة. وَأما (الْميتَة) طلقًا: فَفِي «سنَن أبي دَاوُد» و «صحيحي ابْن حبَان وَالْحَاكِم» من حَدِيث جَابر بن (عتِيك) قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الشَّهَادَة سبع سُوَى الْقَتْل فِي سَبِيل الله: المطعون شَهِيد، والغريق شَهِيد، وَصَاحب ذَات الْجنب شَهِيد، و (المبطون) شَهِيد، وَصَاحب الْحَرِيق شَهِيد، وَالَّذِي يَمُوت تَحت الْهدم شَهِيد، وَالْمَرْأَة تَمُوت بِجمع شهيدة» . قَالَ الْحَاكِم:(5/372)
صَحِيح الْإِسْنَاد، رُوَاته قرشيون مدنيون. وَفِي رِوَايَة لأبي نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي هَذَا الحَدِيث: «وسادن بَيت الْمُقَدّس» وَجمع - بِضَم الْجِيم وَكسرهَا -: الْمَرْأَة تَمُوت وَفِي بَطنهَا الْوَلَد، وَقيل: هِيَ الْبكر قَالَه ابْن الْأَثِير فِي «أَسد الغابة» . وللبزار عَن عبَادَة بن الصَّامِت عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَذكر الشُّهَدَاء، ثمَّ قَالَ: «وَالنُّفَسَاء شَهَادَة» ثمَّ قَالَ: لَا نعلمهُ يرْوَى عَن عبَادَة إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ ابْن الْقطَّان: فِيهِ الْأسود بن ثَعْلَبَة، وَهُوَ مَجْهُول الْحَال.
قلت: ستعلم مَا فِي هَذِه الْمقَالة - إِن شَاءَ الله - فِي كتاب النَّفَقَات.
قَالَ: وَفِيه الْمُغيرَة بن زِيَاد، وَفِيه مقَال، وَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي مُوسَى الْحَافِظ: عَن عَلّي بن الْأَقْمَر عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «المطعون شَهِيد، وَالنُّفَسَاء شهيدة، والغريب شَهِيد، وَمن مَاتَ يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّد رَسُول الله فَهُوَ شَهِيد» . قلت: وَهُوَ من بلايا عبد الْعَظِيم بن حبيب، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِثِقَة.
تَنْبِيه: قد عرفت أَنه ورد إِطْلَاق لفظ الشَّهَادَة عَلَى غير مَا ذكره(5/373)
الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضا، فَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى، عَن أَبِيه عَن جدِّه أبي لَيْلَى مَرْفُوعا: «من أكله السَّبع فَهُوَ شَهِيد، وَمن أدْركهُ الْمَوْت وَهُوَ يكد عَلَى عِيَاله من حَلَال فَهُوَ شَهِيد» . فَقَالَ: حَدِيث مُنكر. وَفِي حَدِيث آخر من طَرِيق ابْن عَبَّاس رَفعه: «اللديغ شَهِيد، والشريق شَهِيد، وَالَّذِي يفترسه السَّبع شَهِيد، والخار عَن دَابَّته شَهِيد» . علقه عَمْرو بن عَطِيَّة الوادعي، ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ. (هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِفضل الله ومنِّه.
وأمَّا آثاره فخمسة عشر أثرا) :
الأول: «أَن عليَّا غسل فَاطِمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن إِبْرَاهِيم، (عَن) عمَارَة، عَن أم مُحَمَّد بنت مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي طَالب، عَن جدَّتهَا أَسمَاء بنت عُمَيْس «أَن فَاطِمَة بنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أوصت أَن تغسلها إِذا مَاتَت هِيَ وَعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فغسلتها هِيَ وَعلي» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث عبد الله بن نَافِع الْمدنِي، عَن مُحَمَّد بن مُوسَى، عَن عون بن مُحَمَّد، عَن [أمه] ، عَن أَسمَاء بنت عُمَيْس «أَن فَاطِمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أوصت أَن يغسلهَا زَوجهَا عَلّي وَأَسْمَاء، فغسلاها» . وَإِبْرَاهِيم(5/374)
الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد الأول هُوَ ابْن أبي يَحْيَى، وَقد ضعفه الْأَكْثَرُونَ، كَمَا سلف فِي الطَّهَارَة. وَعبد الله بن نَافِع الْمَذْكُور فِي الثَّانِي من فرسَان مُسلم، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين. وَقَالَ البُخَارِيّ: فِي حفظه شَيْء. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث قُتَيْبَة بن سعيد (ثَنَا مُحَمَّد بن مُوسَى المَخْزُومِي) نَا عون بن مُحَمَّد بن عَلّي بن أبي طَالب، عَن أمه أم جَعْفَر بنت مُحَمَّد بن جَعْفَر - أَظُنهُ: وَعَن عمَارَة بن المُهَاجر عَن أم جَعْفَر - «أَن فَاطِمَة بنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَت: يَا أَسمَاء، إِذا أَنا مت فاغسليني أَنْت وَعلي بن أبي طَالب. فغسلها عَلّي وَأَسْمَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما» . (وَرَوَاهُ أَيْضا) من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، عَن مُحَمَّد بن مُوسَى، عَن عون بن مُحَمَّد بن عَلّي، عَن عمَارَة بن المُهَاجر، عَن أم جَعْفَر بنت مُحَمَّد بن عَلّي، (عَن بنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) . وَهَذَا وَالَّذِي قبله متابع للأولين. وَعَن الْبَيْهَقِيّ أَنه قَالَ: هَذَا (الْأَثر) عَجِيب؛ فَإِن أَسمَاء كَانَت فِي ذَلِك الْوَقْت عِنْد أبي بكر، وَقد ثَبت أَنه لم يعلم بوفاة فَاطِمَة، لما فِي «الصَّحِيح» «أَن عليا دَفنهَا لَيْلًا، وَلم يعلم أَبَا بكر» . فَكيف يُمكن أَن تغسلها زَوجته وَلَا يعلم؟ ! وورع أَسمَاء يمْنَعهَا أَن تفعل ذَلِك وَلَا تستأذن(5/375)
زَوجهَا، إِلَّا أَن يُقَال: إِنَّه يحْتَمل أَن يكون علم واحب أَن لَا يرد غَرَض عَلّي فِي كِتْمَانه مِنْهُ، لَكِن الْأَشْبَه أَنه يحمل عَلَى أَن أَسمَاء ستعلمه، وَأَنه علم أَنه علم وَنَوَى حُضُوره، وَالْأولَى لمن يثبت هَذَا أَن يُقَال: يحْتَمل - وَالله أعلم - أَن أَبَا بكر علم، وَأَن عليا علم بِعِلْمِهِ بذلك، وَظن أَنه (يحضر) من غير استدعاء مِنْهُ لَهُ، وَظن أَبُو بكر أَنه سيدعوه، أَو أَنه لَا يُؤثر حُضُوره. هَذَا آخر كَلَامه.
وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ محتجًا بِهِ عَلَى أبي حنيفَة فِي قَوْله: لَا يجوز للرجل أَن يغسل زَوجته. ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ هبة الله الطَّبَرِيّ عَن أَسمَاء «أَن عليا غسل فَاطِمَة، قَالَت أَسمَاء: (وأعنته) أَنا عَلَيْهَا» . وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من الصَّحَابَة، فَصَارَ كالإجماع، ثمَّ قَالَ: فَإِن قيل: هَذَا الحَدِيث أنكرهُ أَحْمد، ثمَّ فِي إِسْنَاده عبد الله بن نَافِع، قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك. ثمَّ أجَاب بِأَن يَحْيَى قَالَ فِي رِوَايَة: يكْتب حَدِيثه. ثمَّ نقل عَن بعض المتفقهة أَنه لَو صَحَّ هَذَا فَإِنَّمَا غسلهَا؛ لِأَنَّهَا زَوجته فِي الْآخِرَة، فَمَا انْقَطَعت عَنهُ الزَّوْجِيَّة، ثمَّ أجَاب بِأَنَّهَا لَو بقيت لما تزوج بنت أُخْتهَا أُمَامَة بنت زَيْنَب بعد مَوتهَا، وَقد مَاتَ عَن أَربع حرائر. قلت: وَأما حَدِيث: «أَنَّهَا اغْتَسَلت وَمَاتَتْ، فاكتفوا بغسلها ذَلِك» فَفِيهِ مقَال، بَينته وَاضحا فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب، فَليُرَاجع مِنْهُ.(5/376)
الْأَثر الثَّانِي: «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَوْصَى أَن يُكفن فِي ثَوْبه الخَلِق، فنفذت وَصيته» . وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن أَبَا بكر الصّديق قَالَ لَهَا: فِي كم كفنتم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَت: فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض، لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة. قَالَ: فِي أَي يَوْم توفّي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قلت: (فِي) يَوْم الِاثْنَيْنِ. قَالَ: أَرْجُو فِيمَا بيني وَبَين اللَّيْل. فَنظر إِلَى ثوب عَلَيْهِ كَانَ يمرض فِيهِ، بِهِ ردع من زعفران، فَقَالَ: اغسلوا ثوبي هَذَا وزيدوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ، فكفنوني فِيهَا. قلت: إِن هَذَا خَلِق قَالَ: إِن الْحَيّ أولَى بالجديد من الْمَيِّت، إِنَّمَا هُوَ للمهلة. فَلم يتوف حَتَّى أَمْسَى من لَيْلَة الثُّلَاثَاء، وَدفن قبل أَن يصبح» . وَرَوَاهُ أَبُو (حَاتِم) بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَنْهَا، قَالَت: «كنت عِنْد أبي بكر حِين حَضرته الْوَفَاة فتمثلت بِهَذَا الْبَيْت:
يُوشك ان يكون مدفوقًا
من لَا يزالُ دمعُةُ [مقنعا]
فَقَالَ: يَا بنية، لَا تقولي هَكَذَا، (وَلَكِن قولى) (وَجَاءَت سكرة الْمَوْت بالحقِّ ذَلِك مَا كنت مِنْهُ تحيد) ثمَّ قَالَ: فِي كم كفن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ فَقلت: فِي ثَلَاثَة أَثوَاب. فَقَالَ: كَفِّنُوني فِي ثوبيَّ هذَيْن واشتروا(5/377)
(إِلَيْهِمَا) ثوبا جَدِيدا؛ فَإِن الْحَيّ أحْوج إِلَى الْجَدِيد من الْمَيِّت، وَإِنَّمَا هِيَ للمهنة أَو للمهلة» ، (وَرَوَاهُ الإِمَام [أَحْمد] فِي (مُسْنده) وَقَالَ فِيهِ «وَكَانَ عَلَيْهِ ثوب من مشق» بدل «زعفران» .
فَائِدَة: الردع بالحروف المهملات: « (الْأَثر» . والمهلة) مثلث الْمِيم. صديد الْمَيِّت، و (الْمشق: بِكَسْر الْمِيم) ، وَهِي (المغرّة) . قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» .
الْأَثر الثَّالِث: «أَن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم صلوا عَلَى يَد الرَّحْمَن بن عتاب بن أسيد، أَلْقَاهَا طَائِر بِمَكَّة فِي وقْعَة الْجمل، وَعرفُوا أَنَّهَا يَده بِخَاتمِهِ» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره الشَّافِعِي بِنَحْوِهِ بلاغًا فَقَالَ فِيمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ عَنهُ -: وبلغنا «أَن طائرًا ألْقَى يدا بِمَكَّة فِي وقْعَة الْجمل، فعرفوها بالخاتم، فغسلوها وصلوا عَلَيْهَا» . وَذكره الزبير بن بكار فِي «الْأَنْسَاب» وَقَالَ: «كَانَ الطَّائِر نسرًا» .
قلت: وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: «كَانَ (عقَابا) » وَتقدم أَنه أَلْقَاهَا بِمَكَّة، وَقَالَ غَيره: أَلْقَاهَا بِالْيَمَامَةِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ وَغَيره: أَلْقَاهَا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَت وقْعَة الْجمل فِي جمادي الأولَى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ، وَبعدهَا صفّين سنة سبع وَثَلَاثِينَ، وَكِلَاهُمَا فِي خلَافَة عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وَذكر(5/378)
ابْن الْأَثِير فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة يعْلى بن أُميَّة أَن اسْم الْجمل الَّذِي كَانَت عَلَيْهِ عَائِشَة يَوْم الْجمل: عَسْكَر وعتاب: بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة ثمَّ بمثناة فَوق. وأَسيد: بِفَتْح الْهمزَة. وَعبد الرَّحْمَن عده أَبُو مُوسَى فِي الصَّحَابَة، وَأَبوهُ صَحَابِيّ أَيْضا.
الْأَثر الرَّابِع: «أَن عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لم يغسل من قتل مَعَه» . هَذَا مَشْهُور عَنهُ.
الْأَثر الْخَامِس: «ان عمار بن يَاسر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَوْصَى بِأَن لَا يغسل» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) و (الْمعرفَة) من حَدِيث قيس بن أبي حَازِم أَن عمّارًا قَالَ: «ادفنوني فِي ثِيَابِي؛ فَإِنِّي مخاصم» . وَذكره ابْن السكن أَيْضا فِي «صحاحه» .
فَائِدَة: فِي الْبَيْهَقِيّ عَن عَلّي «أَنه صَلَّى عَلَى عمار» .
الْأَثر السَّادِس: «أَن أَسمَاء غسلت ابْنهَا ابْن الزبير، وَلم يُنكر عَلَيْهَا أحد» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ فِي «سنَنه» من حَدِيث أَيُّوب عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: «دخلت عَلَى أَسمَاء بنت أبي بكر بعد قتل عبد الله بن الزبير، قَالَ: وَجَاء كتاب عبد الْملك: أَن يدْفع إِلَى أَهله، فَأتيت بِهِ أَسمَاء فغسلتْه وكفنتْه وحنطتْه ودفَنتْه - قَالَ أَيُّوب: وَأَحْسبهُ قَالَ: فَمَا عاشت بعد ذَلِك إِلَّا ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ مَاتَت» . زَاد غَيره فِيهِ: «وصلت عَلَيْهِ» . وَفِي(5/379)
«الِاسْتِيعَاب» عَن أبي عَامر الخزاز، عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: «كنت [أول] من بشر أَسمَاء بنزول ابْنهَا عبد الله بن الزبير من الْخَشَبَة، فدعَتْ بمركن وشب يمَان، وأمرتني بِغسْلِهِ، فَكُنَّا لَا نتناول عضوا إِلَّا جَاءَ مَعنا، فَكُنَّا نغسل الْعُضْو ثمَّ نضعه فِي أَكْفَانه، حَتَّى فَرغْنَا مِنْهُ، ثمَّ قَامَت فصلت عَلَيْهِ، وَكَانَت تَقول قبل: اللَّهُمَّ لَا تمتني حَتَّى تقر عَيْني بجثته. فَمَا أَتَت عَلَيْهَا جُمُعَة حَتَّى مَاتَت» .
تَنْبِيه: فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» للْحَاكِم، من حَدِيث صاعد بن مُسلم عَن الشّعبِيّ قَالَ: «بعث عبد الْملك بِرَأْس ابْن الزبير إِلَى حَازِم بخراسان، فَكَفنهُ، وَصَلى عَلَيْهِ. قَالَ الشّعبِيّ: أَخطَأ، لَا يُصَلِّي عَلَى الرَّأْس» .
قلت: خبر مُنكر، وصاعد واه.
الْأَثر السَّابِع: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه غُسِّل وصُلِّي عَلَيْهِ، وَقد قتل ظلما بالمحدد» .
هَذَا الْأَثر مَشْهُور عَنهُ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ: مَالك فِي «الْمُوَطَّأ) عَن ابْن عمر «أَن عمر بن الْخطاب غُسِّل وكُفِّن وصُلِّي عَلَيْهِ، وَكَانَ شَهِيدا» . وَفِي رِوَايَة للشَّافِعِيّ: «وحُنِّط» وَذكر الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه» فِي أَبْوَاب الْقصاص: «أَنه عَاشَ ثَلَاثًا بَعْدَمَا طعن» .(5/380)
الْأَثر الثَّامِن: «أَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه غُسل وصُلي عَلَيْهِ، وَقد قتل ظلما بالمحدد» .
هَذَا الْأَثر مَشْهُور عَنهُ دون (غسله) . رَوَى أَبُو نعيم فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» بِسَنَدِهِ إِلَى عبد الْملك بن الْمَاجشون قَالَ: سَمِعت مَالِكًا يَقُول: «وَقتل عُثْمَان، فَأَقَامَ مطروحًا عَلَى كناسَة بني فلَان ثَلَاثًا، فَأَتَاهُ اثْنَا عشر رجلا، مِنْهُم: جدي مَالك بن أبي عَامر، وَحُوَيْطِب بن عبد الْعُزَّى، وَحَكِيم بن حزَام، وَعبد الله بن الزبير، وَعَائِشَة بنت عُثْمَان، مَعَهم مِصْبَاح فِي حُقٍّ، فَحَمَلُوهُ عَلَى بَاب وَإِن رَأسه يَقُول عَلَى الْبَاب طق طق، حَتَّى أَتَوا بِهِ البقيع، فَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ، فَصَلى عَلَيْهِ حَكِيم بن حزَام أَو حويطب بن عبد الْعُزَّى - شكّ عبد الرَّحْمَن أحد رُوَاته - ثمَّ أَرَادوا دَفنه، فَقَامَ رجل من بني مَازِن فَقَالَ: وَالله لَئِن دفنتموه مَعَ الْمُسلمين لأخبرن النَّاس، فَحَمَلُوهُ حَتَّى أَتَوا بِهِ حش كَوْكَب، وَلما دلوه فِي قَبره صاحت عَائِشَة بنت عُثْمَان، فَقَالَ لَهَا ابْن الزبير: اسكتي؛ فوَاللَّه إِن عدت لَأَضرِبَن الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك. فَلَمَّا دفنوه وسووا عَلَيْهِ التُّرَاب قَالَ لَهَا ابْن الزبير: صيحى مَا بدا لَك أَن تصيحي» قَالَ مَالك: «وَكَانَ عُثْمَان بن عَفَّان قبل ذَلِك يمر بحش كَوْكَب، فَيَقُول ليدفن هُنَا رجل صَالح» ثمَّ رَوَى الْحَافِظ أَبُو نعيم إِلَى إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن فروخ عَن أَبِيه قَالَ: «شهِدت عُثْمَان دفن فِي ثِيَابه بدمائه» . زَاد الْبَغَوِيّ فِي «مُعْجَمه» فِي رِوَايَته: «وَلم يغسل» . وَسَنَده كل رِجَاله ثِقَات، إِلَّا إِبْرَاهِيم بن عبد الله، فَإِن أَبَا حَاتِم لم (يعقبه) بِجرح وَلَا تَعْدِيل. وَرَوَى أَبُو نعيم أَيْضا(5/381)
بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن قَتَادَة قَالَ: «صَلَّى الزبير عَلَى عُثْمَان وَدَفنه، وَكَانَ قد أَوْصَى إِلَيْهِ» . ثمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ إِلَى الْوَاقِدِيّ: ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، نَا السَّائِب بن يزِيد الْكِنْدِيّ قَالَ: «خرجت نائلة بنت الفرافصة وَقد شقَّتْ جيبها قبلا ودُبُرًا وَهِي تصيح، وَمَعَهَا سراج، وأمير الْمُؤمنِينَ واه، فَقَالَ جُبَير بن مطعم: اطفئي السراج. وانتهوا إِلَى البقيع، فَصَلى عَلَيْهِ جُبَير وَخَلفه حَكِيم بن حزَام وأبوجهم بن حُذَيْفَة ونيار بن مكرم الْأَسْلَمِيّ، ونائلة وأُمُّ الْبَنِينَ بنت عُيَيْنَة امرأتاه، وَنزل فِي حفرته نيار وأبوجهم وجعفر، وَكَانَ حَكِيم ونائلة وَأم الْبَنِينَ يدلونه عَلَى الرِّجَال، حَتَّى لحد وَبني عَلَيْهِ وغيبوا قَبره، وَتَفَرَّقُوا» . وَرَوَى أَيْضا بِسَنَدِهِ إِلَى يَحْيَى بن سعيد الْأمَوِي، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه قَالَ (لما قتل عُثْمَان جَاءَ أبوجهم بن حُذَيْفَة ليُصَلِّي عَلَيْهِ، فمنعوه من الصَّلَاة، فَقَالَ: لَئِن منعتموني من الصَّلَاة عَلَيْهِ لقد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَمَلَائِكَته» . وَرَوَى بِسَنَدِهِ أَيْضا عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه قَالَ: «مكث عُثْمَان فِي حش كَوْكَب مطروحًا ثَلَاثَة، لَا يصلى عَلَيْهِ، حَتَّى هتف بهم هَاتِف: ادفنوه وَلَا يُصلى عَلَيْهِ؛ فَإِن الله قد صَلَّى عَلَيْهِ» . قَالَ ابْن عبد الحكم: خرج من مصر سِتّمائَة رجل عَلَيْهِم أَربع قواد، كل رجل مِنْهُم عَلَى خمسين وَمِائَة، فَأَقْبَلُوا إِلَى عُثْمَان فحصروه أَرْبَعِينَ لَيْلَة، ثمَّ دخلُوا فَضَربهُ سودان بن حمْرَان الماردي بهراوة من شبة، فدق جنَاحه فَخر مَيتا، وَقَامَ غُلَام(5/382)
لعُثْمَان أسود فَضرب سودان فَنقرَ دماغه، وَقتل المصريون الْغُلَام الْأسود، فأغلق النَّاس عَلَى عُثْمَان وسودان وَالْأسود، فأرادوا الصَّلَاة عَلَى عُثْمَان؛ فَأَبَى المصريون ذَلِك، وَقَالُوا: لَا يصلى عَلَيْهِ وَلَا يدْفن مَعَ الْمُسلمين. فَقَالَ حَكِيم بن حزَام: ادفنوه، فَإِن الله قد صَلَّى عَلَيْهِ» .
فَائِدَة: حش كَوْكَب الَّذِي تقدم ذكره أَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه دفن فِيهِ، الْجَارِي عَلَى (ألسنتنا) فِيهِ فتح الْحَاء، وَإِنَّمَا هُوَ بضَمهَا، كَذَا ضَبطه الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» فِيمَا رَأَيْته من كِتَابه، فَقَالَ: حش كَوْكَب - بِضَم الْحَاء وَتَشْديد الشين -: مَوضِع بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ الْموضع الَّذِي دفن فِيهِ عُثْمَان. والحُش: الْبُسْتَان. وكوكب: الَّذِي أضيف إِلَيْهِ رجل من الْأَنْصَار، وَقيل: من الْيمن، وَلما ظهر مُعَاوِيَة هدم حَائِطه وأفضى بِهِ إِلَى البقيع، وَكَانَ عُثْمَان يمر بِهَذَا الحش وَيَقُول: يدْفن هُنَا رجل صَالح. كَمَا سلف، وَقَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة: «كَانَ عُثْمَان قد اشْتَرَى حش كَوْكَب، وَكَانَ أول من دفن فِيهِ و (غيب) قَبره» . وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كتاب «مرج الْبَحْرين» . الحش: هُوَ الْبُسْتَان - مثلث الْحَاء - اشْتَرَاهُ عُثْمَان، وزاده فِي البقيع، وَكَانَ أول من قُبر فِيهِ.
الْأَثر التَّاسِع: «أَن حُسَيْنًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قدم سعيد بن الْعَاصِ أَمِير الْمَدِينَة فَصَلى عَلَى الْحسن» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُفْيَان، عَن سَالم بن أبي حَفْصَة قَالَ: سَمِعت أَبَا حَازِم يَقُول: «إِنِّي لشاهد يَوْم مَاتَ الْحسن(5/383)
بن عَلّي، فَرَأَيْت الْحُسَيْن بن عَلّي يَقُول لسَعِيد بن الْعَاصِ ويطعن فِي عُنُقه: تقدم، فلولا أَنَّهَا سنة مَا قُدمت. وَكَانَ بَينهم شَيْء، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: اتنفسون عَلَى ابْن نَبِيكُم بتربة تدفنونه فِيهَا، وَقد سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: من أحبهما فقد أَحبَّنِي، وَمن أبغضهما فقد أبغضني» . وَسَالم هَذَا ضعفه النَّسَائِيّ وَعَمْرو بن عَلّي وَابْن حبَان، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث قبيصَة، عَن سُفْيَان، عَن أبي الجحاف، عَن إِسْمَاعِيل بن رَجَاء الزبيدِيّ، قَالَ: اخبرني من شهد الْحُسَيْن بن عَلّي حِين مَاتَ الْحسن وَهُوَ يَقُول لسَعِيد بن الْعَاصِ: «اقدم، (فلولا) أَنَّهَا سنة مَا قدمت» .
الْأَثر الْعَاشِر: «أَن سعيد بن الْعَاصِ صَلَّى عَلَى زيد بن عمر بن الْخطاب وَأمه أم كُلْثُوم بنت عَلّي، فَوضع الْغُلَام بَين يَدَيْهِ وَالْمَرْأَة خَلفه، وَفِي الْقَوْم نَحْو من ثَمَانِينَ نفسا من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فصوبوه، قَالُوا: هَذِه السّنة» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح، من حَدِيث عمار بن عمار التَّابِعِيّ - مولَى لبني هَاشم، الثِّقَة بِالْإِجْمَاع - «أَنه شهد جَنَازَة أم كُلْثُوم وَابْنهَا، فَجعل الْغُلَام مِمَّا يَلِي الإِمَام، فأنكرت ذَلِك، وَفِي الْقَوْم ابْن عَبَّاس، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَأَبُو قَتَادَة، وَأَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم فَقَالُوا: هَذِه السّنة» . وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «وَكَانَ فِي الْقَوْم الْحسن،(5/384)
وَالْحُسَيْن، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَابْن عمر، وَنَحْو من ثَمَانِينَ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) . وَفِي رِوَايَة لَهُ: « (أَن الإِمَام) كَانَ ابْن عمر، وَخَلفه ابْن الْحَنَفِيَّة، وَالْحُسَيْن، وَابْن عَبَّاس» وَفِي رِوَايَة: «عبد الله بن جَعْفَر» .
فَائِدَة: أم كُلْثُوم هَذِه هِيَ بنت عَلّي بن أبي طَالب، زوج عمر بن الْخطاب، وَابْنهَا هُوَ زيد - الْأَكْبَر - بن عمر بن الْخطاب، كَمَا سَيَأْتِي بعد هَذَا، وَكَانَ مَاتَ هُوَ وَأم كُلْثُوم بنت عَلّي فِي وَقت وَاحِد، وَلم يدر أَيهمَا مَاتَ أَولا، فَلم يُورث أَحدهمَا من الآخر.
الْأَثر الْحَادِي عشر: «أَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه صَلَّى عَلَى (تسع) جنائز، فَجعل الرِّجَال يلونه، وَالنِّسَاء يلين الْقبْلَة» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن، من رِوَايَة نَافِع عَنهُ «أَنه صَلَّى عَلَى (تسع) جنائز جَمِيعًا رجال وَنسَاء، فَجعل الرِّجَال مِمَّا يَلِي الإِمَام، وَجعل الْمسَاء مِمَّا يَلِي الْقبْلَة، وَصفهم صفا وَاحِدًا، وَوضعت جَنَازَة أم كُلْثُوم بنت عَلّي امْرَأَة عمر بن الْخطاب وَابْن لَهَا يُقَال: زيد بن عمر بن الْخطاب، وَالْإِمَام يَوْمئِذٍ سعيد بن الْعَاصِ، وَفِي النَّاس يَوْمئِذٍ ابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأَبُو سعيد، وَأَبُو قَتَادَة، فَوضع الْغُلَام مِمَّا يَلِي الإِمَام، فَقلت: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا:(5/385)
السّنة» . وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ: «فأنكرت ذَلِك؛ فَنَظَرت إِلَى ابْن عَبَّاس، وَأبي هُرَيْرَة، وَأبي سعيد، وَأبي قَتَادَة؛ فقلتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: السّنة» وَرَوَاهُ كَذَلِك ابْن الْجَارُود فِي «المنتقي» .
الْأَثر الثَّانِي عشر: «عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي جَمِيع تَكْبِيرَات الْجِنَازَة» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، أَنا مُحَمَّد بن عمر، عَن عبد الله، بن عمر بن حَفْص، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ كلما كبر عَلَى الْجِنَازَة» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (فِي (سنَنه) من حَدِيث) عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي كل تَكْبِيرَة من تَكْبِير الْجِنَازَة، وَإِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ - يَعْنِي فِي الْمَكْتُوبَة» .
الْأَثر الثَّالِث عشر: عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَنه كَانَ يفعل كَذَلِك) .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، فَقَالَ: انا من سمع سَلمَة بن وردان يذكر عَن أنس بن مَالك «أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ كلما كبر عَلَى الْجِنَازَة» . وَذكر الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «وَيذكر عَن أنس ... » إِلَى آخِره.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَعَن عُرْوَة وَابْن الْمسيب مثله.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، قَالَ الشَّافِعِي: بَلغنِي عَن سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة بن الزبير مثل ذَلِك، وَعَلَى ذَلِك أدركنا اهل الْعلم ببلدنا. نَقله(5/386)
الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَنهُ، قَالَ فِي «السّنَن» : ورويناه عَن قيس بن ابي حَازِم، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وَالْحسن، وَمُحَمّد بن سِيرِين.
قلت: وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَة رفع يَدَيْهِ فِي أول تَكْبِيرَة» . زَاد ابْن عَبَّاس: «ثمَّ لَا يعود» . وَزَاد أَبُو هُرَيْرَة: «ثمَّ وضع يَده الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، فضعيفان، وَفِي الْكتاب الْمُسَمَّى «بالمغني عَن الْحِفْظ وَالْكتاب بقَوْلهمْ لم يَصح شَيْء فِي هَذَا الْبَاب) . لِابْنِ بدر الْموصِلِي، بَاب رفع الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَات الْجَنَائِز: لَا يَصح فِيهِ شَيْء عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلَا أَنه لم يرفع.
الْأَثر الرَّابِع عشر: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «أعمقوا إِلَى قدر قامة وَبسطه» .
هَذَا الْأَثر ذكره ابْن الْمُنْذر فِي «الاشراف» بِغَيْر إِسْنَاد، فَقَالَ: وروينا عَن عمر بن الْخطاب «أَنه أَوْصَى أَن يعمق قدر قامة وَبسطه» .
الْأَثر الْخَامِس عشر: رُوِيَ عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه أَمر الذِّمِّيَّة إِذا مَاتَت وَفِي بَطنهَا جَنِين مُسلم ميت أَن تدفن فِي مَقَابِر الْمُسلمين» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث سُفْيَان عَن عَمْرو(5/387)
«أَن امْرَأَة نَصْرَانِيَّة مَاتَت وَفِي بَطنهَا ولد مُسلم؛ فَأمر عمر أَن تدفن مَعَ الْمُسلمين من أجل وَلَدهَا» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن جريج عَن عَمْرو بن دِينَار، ان شَيخا من أهل الشَّام أخبرهُ «أَن عمر بن الْخطاب دفن امْرَأَة من اهل الْكتاب فِي بَطنهَا ولد مُسلم، فِي مَقْبرَة الْمُسلمين» .
انْتَهَى الْكَلَام عَلَى آثَار الْبَاب أَيْضا بِحَمْد الله ومنّه (وَكَرمه) .
وَذكر الرَّافِعِيّ فِي أَوَائِل الْبَاب عَن بعض التَّابِعين اسْتِحْبَاب قِرَاءَة سُورَة (الرَّعْد) عِنْد الْمَيِّت أَيْضا، وَهَذَا التَّابِعِيّ هُوَ جَابر بن زيد أَبُو الشعْثَاء قَالَ: «فَإِنَّهَا تهون عَلَيْهِ خُرُوج الرّوح» . ذكره صَاحب «الْبَيَان» عَنهُ، وأسنده الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس جَعْفَر بن مُحَمَّد المستغفري فِي كتاب «فَضَائِل الْقُرْآن» فَقَالَ: أَنا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن، نَا حَمَّاد بن أَحْمد، نَا هناد بن السّري، نَا وَكِيع، عَن حسان بن إِبْرَاهِيم، عَن أُميَّة الْأَزْدِيّ، عَن جَابر بن زيد قَالَ: «كَانَ يسْتَحبّ أَن يقْرَأ عِنْد الْمَيِّت سُورَة (الرَّعْد) ، قَالَ: وَيُقَال: إِن ذَلِك يُخَفف أَيْضا» . وَقد كنت ذكرت هُنَا خَاتِمَة تتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد، ثمَّ ذكرتها فِي أثْنَاء تعليقي عَلَى حَدِيث: «هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ، الْحل ميتَته» فَرَاجعهَا مِنْهُ.(5/388)
بَاب تَارِك الصَّلَاة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَلَاثَة أَحَادِيث
(أَحدهَا)
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خمس صلوَات كتبهن الله عَلَيْكُم فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، فَمن جَاءَ بِهن فَلم يضيع مِنْهُنَّ شَيْئا كَانَ لَهُ عِنْد الله عهد أَن يدْخلهُ الْجنَّة، وَمن لم يَأْتِ بِهن فَلَيْسَ لَهُ عِنْد الله عهد، إِن شَاءَ عذبه وَإِن شَاءَ أدخلهُ الْجنَّة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حبَان، عَن بن محيريز «أَن رجلا من بني كنَانَة يُدعَى المخدجي سمع رجلا بِالشَّام يكنى أَبَا مُحَمَّد يَقُول: إِن الْوتر وَاجِب. قَالَ المخدجي: فَرُحتُ إِلَى عبَادَة بن الصَّامِت، فعرضت لَهُ وَهُوَ رائح إِلَى الْمَسْجِد. فَأَخْبَرته بِالَّذِي، قَالَ أَبُو مُحَمَّد. قَالَ عبَادَة: كذب أَبُو مُحَمَّد؛ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: خمس صلوَات كتبهن الله عَلَى الْعباد، فَمن جَاءَ بِهن، لَا يُضيع مِنْهُنَّ شَيْئا، اسْتِخْفَافًا بحقهن؛ كَانَ لَهُ عهد عِنْد الله (أَن يدْخلهُ الْجنَّة. وَمن لم يَأْتِ بِهن فَلَيْسَ لَهُ عِنْد الله عهد إِن) شَاءَ عذبه، وَإِن شَاءَ أدخلهُ الْجنَّة» .(5/389)
وَرَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن أَيْضا، رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث مَالك أَيْضا، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث شُعْبَة، عَن عبد ربه بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حبَان، عَن ابْن محيريز، عَن المخدجي، عَن عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «خمس صلوَات افترضهن الله عَلَى عباده، فَمن جَاءَ بِهن لم ينتقص مِنْهُنَّ شَيْئا اسْتِخْفَافًا بحقهن فَإِن الله جَاعل لَهُ يَوْم الْقِيَامَة عهدا أَن يدْخلهُ الْجنَّة، وَمن جَاءَ بِهن قد نقص مِنْهُنَّ شَيْئا اسْتِخْفَافًا بحقهن؛ لم يكن لَهُ عِنْد الله عهد، إِن شَاءَ عذبه، وَإِن شَاءَ غفر لَهُ» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» فَقَالَ: نَا يزِيد، أَنا يَحْيَى بن سعيد. فَذكره كَرِوَايَة مَالك، إِلَّا أَنه قَالَ فِي آخِره: «وَإِن شَاءَ غفر لَهُ» .
قَالَ ابْن عبد الْبر: وَعبد الله بن محيريز من جلة التَّابِعين، وَهُوَ مَعْدُود فِي الشاميين، قَالَ: والمخدجى مَجْهُول لَا يعرف بِغَيْر هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ مَالك: المخدجي لقب وَلَيْسَ ينْسب فِي شي من قبائل الْعَرَب، وَقيل: إِن المخدجي اسْمه رفيع، وَذكر ذَلِك عَن يَحْيَى بن معِين.
وَأما أَبُو مُحَمَّد فَيُقَال: إِنَّه مَسْعُود بن أَوْس الْأنْصَارِيّ، وَيُقَال: سعيد بن أَوْس، وَيُقَال: إِنَّه بَدْرِي.
وَاعْترض الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» عَلَى ابْن عبد الْبر فِيمَا قَالَه، فَقَالَ: هَكَذَا ذكر أَبُو عمر أَن المخدجي مَجْهُول، وَقد كَانَ،(5/390)
(قدم) قبل ذَلِك أَنه لم يخْتَلف عَن مَالك فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، وَأَنه حَدِيث صَحِيح ثَابت، فَتَأمل تَصْحِيح أبي عمر مَعَ حكمه بِأَن المخدجي مَجْهُول.
قلت: والمخدجي ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، فَقَالَ: أَبُو رفيع المخدجي من بني كنَانَة، يروي عَن عبَادَة بن الصَّامِت، رُوِيَ عَنهُ: ابْن محيريز، ثمَّ سَاق لَهُ الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأخرجه فِي «صَحِيحه» من طَرِيقين إِلَيْهِ، وَلَفظه: «من جَاءَ بالصلوات الْخمس قد كملهن لم ينقص من حقهن شَيْئا كَانَ لَهُ عِنْد الله عهد أَن لَا يعذبه، وَمن جَاءَ بِهن وَقد أنقص من حقهن فَلَيْسَ لَهُ عِنْد الله عهد، إِن شَاءَ رَحمَه، وَإِن شَاءَ عذبه» .
ثمَّ قَالَ: وَأَبُو مُحَمَّد هَذَا اسْمه مَسْعُود بن زيد بن سبيع الْأنْصَارِيّ، من بني دِينَار بن النجار، لَهُ صُحْبَة، سكن الشَّام. قَالَ: وَقَول عبَادَة: كذب أَبُو مُحَمَّد يُرِيد بِهِ أَخطَأ، وَهَذِه لَفْظَة مستعملة لأهل الْحجاز، إِذا أَخطَأ أحدهم يُقَال لَهُ: كذب، وَالله - تَعَالَى جلّ وَعلا - نزه أقدار الصَّحَابَة عَن إلزاق الْقدح بهم، حَيْثُ قَالَ: (يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه نورهم ... ) ، فَمن (أخبر) الله - جلّ وَعز - أَن لَا يخزيه فِي الْقِيَامَة(5/391)
فبالحري أَن لَا يُجَرح، وَكَذَا قَالَ: أَرَادَ بقوله: «كذب» أَخطَأ فِي الْفَتْوَى؛ لِأَن الْكَذِب إِنَّمَا يكون فِي الْإِخْبَار، وَلم يخبر عَن غَيره.
قلت: وَلِحَدِيث عبَادَة هَذَا طرق أُخْرَى، تركناها خوف الطول، ومتابع من حَدِيث أبي قَتَادَة رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَكَعب بن عجْرَة رَوَاهُ أَحْمد.
تَنْبِيه: تحصلنا فِي اسْم المخدجي عَلَى قَوْلَيْنِ، وَفِي اسْم أبي مُحَمَّد عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضا، وَفِي اسْم وَالِده عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضا، وَلما ذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» عَن الْخطابِيّ أَنه قَالَ: أَبُو مُحَمَّد صَحَابِيّ، اسْمه مَسْعُود بن زيد بن سبيع، اعْتَرَضَهُ فَقَالَ: كَذَا قَالَ، وَلَا نعرفه فِي الصَّحَابَة.
قلت: عرفه أَبُو عمر، وَابْن حبَان، وَغَيرهمَا، كَمَا أسلفناه.
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ترك الصَّلَاة فقد بَرِئت مِنْهُ الذِّمَّة» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
أَحدهَا: عَن أم الدَّرْدَاء، عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «أَوْصَانِي خليلي (: أَن لَا تشرك بِاللَّه شَيْئا، وَإِن قطعت وَحرقت، وَأَن لَا تتْرك صَلَاة مَكْتُوبَة مُتَعَمدا، فَمن تَركهَا مُتَعَمدا فقد بَرِئت مِنْهُ الذِّمَّة، وَلَا تشرب الْخمر؛ فَإِنَّهَا مِفْتَاح كل شَرّ» .(5/392)
رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث رَاشد الْحمانِي، عَن شهر بن حَوْشَب، عَن أم الدَّرْدَاء، عَن أبي الدَّرْدَاء.
وَرَاشِد قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم: صَالح الحَدِيث وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ: رُبمَا أَخطَأ. وَشهر تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب: النَّجَاسَات، وَأَن التِّرْمِذِيّ صحّح حَدِيثا من جِهَته. وَأم الدَّرْدَاء: هجيمة، من بَنَات التَّابِعين وصالحيهم، ذكرهَا ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَصحح التِّرْمِذِيّ حَدِيثهَا.
(الطَّرِيق الثَّانِي) : من حَدِيث جُبَير بن نفير قَالَ: «دخلت عَلَى أُمَيْمَة مولاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقلت: حدثيني بِشَيْء سمعتيه من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَت: كنت يَوْمًا أفرغ عَلَى يَدَيْهِ وَهُوَ يتَوَضَّأ، إِذْ دخل عَلَيْهِ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أُرِيد الرُّجُوع إِلَى أَهلِي؛ فأوصني بِوَصِيَّة أحفظها. فَقَالَ: لَا تشرك بِاللَّه شَيْئا، وَإِن قطعت وَحرقت بالنَّار، وَلَا تعصين والديك، وَإِن أمراك أَن تخلي من أهلك ودنياك فتخل، وَلَا تتْرك صَلَاة مُتَعَمدا، فَمن تَركهَا مُتَعَمدا بَرِئت مِنْهُ ذمَّة الله - عَزَّ وَجَلَّ - وَذمَّة رَسُوله، وَلَا تشربن الْخمر؛ فَإِنَّهُ رَأس كل خَطِيئَة» .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي كتاب الْفَضَائِل مِنْهُ؛ فِي تَرْجَمَة(5/393)
أُمَيْمَة مولاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَهُوَ حَدِيث فِيهِ (طول) ، وَفِي إِسْنَاده يزِيد بن سِنَان بن أبي فَرْوَة الرهاوي وَقد تَرَكُوهُ، وَهَذَا السَّائِل للْوَصِيَّة إِن كَانَ أَبَا الدَّرْدَاء فَهُوَ الطَّرِيق الأول.
(الطَّرِيق الثَّالِث) : من حَدِيث أم أَيمن أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ترك الصَّلَاة مُتَعَمدا بَرِئت مِنْهُ ذمَّة الله» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مَكْحُول عَنْهَا، ثمَّ قَالَ: فِيهِ إرْسَال؛ مَكْحُول لم يُدْرِكهَا.
وَرَوَاهُ أَحْمد من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «وَلَا (تتْرك) الصَّلَاة مُتَعَمدا؛ فَإِن من ترك الصَّلَاة مُتَعَمدا فقد بَرِئت مِنْهُ ذمَّة الله (وَرَسُوله) » .
(الطَّرِيق الرَّابِع) : من حَدِيث معَاذ بن جبل مَرْفُوعا: «من ترك الصَّلَاة مُتَعَمدا فقد بَرِئت ذمَّة (الله) » .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَفِي إِسْنَاده «بَقِيَّة» : حَالَته مَعْلُومَة، عَن أبي بكر بن أبي مَرْيَم.(5/394)
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بدونهما.
(الطَّرِيق الْخَامِس) : من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أوصانا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِسبع خلال، فَقَالَ: لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا وَإِن قطعْتُمْ وحرقتم أَو صلبتم، وَلَا تتركوا الصَّلَاة متعمدين، فَمن تَركهَا مُتَعَمدا فقد خرج من الْملَّة، وَلَا تركبوا الْمعْصِيَة؛ فَإِنَّهَا سخط الله - تَعَالَى - وَلَا تقربُوا الْخمر؛ فَإِنَّهَا رَأس الْخَطَايَا كلهَا، وَلَا تَفِرُّوا من الْمَوْت أَو الْقَتْل وَإِن كُنْتُم فِيهِ وَلَا تَعْصِي والديك، وَإِن أمراك أَن تخرج من الدُّنْيَا كلهَا فَاخْرُج، وَلَا تضع عصاك عَن أهلك، وأنصفهم من أهلك» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا، وَفِي إِسْنَاده من لَا يحضرني حَاله.
الحَدِيث الثَّالِث
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ترك صَلَاة مُتَعَمدا فقد كفر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث رَاشد بن نجيح الْحمانِي، عَن(5/395)
شهر بن حَوْشَب، عَن أم الدَّرْدَاء، عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أَوْصَانِي خليلي (أَن لَا تشرك بِاللَّه شَيْئا وَإِن حرقت، وَلَا أترك صَلَاة مُتَعَمدا، فَمن تَركهَا (مُتَعَمدا) فقد كفر» الحَدِيث.
قَالَ الْبَزَّار: هَذَا حَدِيث لَا نعلمهُ يرْوَى عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِهَذَا اللَّفْظ (إِلَّا من) هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد. قَالَ: وَرَاشِد: لَيْسَ بِهِ بَأْس؛ قد حدث عَنهُ غير وَاحِد، وَشهر قد رَوَى عَنهُ النَّاس، وَتَكَلَّمُوا فِيهِ، وَاحْتَملُوا حَدِيثه.
قلت: وَقد سلف الْكَلَام عَلَى هَذَا الْإِسْنَاد فِي الحَدِيث قبله، وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق آخر سُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ؛ فَقَالَ فِي «علله» يرويهِ أَبُو النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم، عَن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ، عَن الرّبيع بن أنس، عَن أنس مَرْفُوعا: «من ترك الصَّلَاة مُتَعَمدا فقد كفر جهارًا» .
وَخَالفهُ ابْن الْجَعْد فَرَوَاهُ عَن أبي جَعْفَر، عَن الرّبيع مُرْسلا، وَهُوَ أشبه بِالصَّوَابِ.
قلت: وَله طَرِيق ثَالِث مُنكر، ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» فِي تَرْجَمَة أَحْمد بن مُوسَى الْبَصْرِيّ، قَالَ: لم أر فِي حَدِيثه شَيْئا (تنكره) الْقُلُوب إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا، فَروِيَ عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تَارِك الصَّلَاة كَافِر» .(5/396)
وَاعْلَم أَن الإِمَام فِي «نهايته» وَالْغَزالِيّ فِي «وسيطه» و «بسيطه» ، وتبعهما الرَّافِعِيّ، جعلا هَذَا الحَدِيث مُسْتَندا للصحيح من الْمَذْهَب: أَنه يقتل بترك صَلَاة وَاحِدَة نظرا إِلَى كَون الصَّلَاة مُنكرَة، فَاعْترضَ ابنُ الصّلاح وَقَالَ: هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ لَا نعرفه، وَقد (عَرفته أَنْت) فِي «مُسْند الْبَزَّار» و «علل الدَّارَقُطْنِيّ» ، وَللَّه الْحَمد، وَوَقع فِي كَلَام النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» : أَنه حَدِيث مُنكر، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ؛ قَالَ ابْن الصّلاح: وَلَكِن مُعْتَمد الْمَذْهَب مَا ثَبت من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «بَين العَبْد وَبَين الْكفْر ترك الصَّلَاة» . أخرجه مُسلم.
وَأخرج التِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث بُرَيْدَة بن الْحصيب قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (الْعَهْد الَّذِي بَيْننَا وَبينهمْ الصَّلَاة فَمن تَركهَا فقد كفر) قَالَ (التِّرْمِذِيّ) : هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلَا نَعْرِف لَهُ(5/397)
عِلّة. قَالَ: وَله شَاهد عَلَى شَرطهمَا فَذكره، وَفِي التِّرْمِذِيّ فِي كتاب الْإِيمَان بِإِسْنَاد صَحِيح رِجَاله رجال الصَّحِيح، عَن [عبد الله بن شَقِيق العقيلى]- التَّابِعِيّ الْمُتَّفق عَلَى جلالته - قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يرَوْنَ من الْأَعْمَال شَيْئا تَركه كفرا غير الصَّلَاة» وَذكره الْحَاكِم عَن شَقِيق، عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ سَوَاء ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قبل، وَذكر الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب حَدِيث الْوَادي وَحَدِيث الغابة، وَقد سلفا فِيمَا مَضَى.(5/398)
كتاب الزَّكَاة(5/399)
كتاب الزَّكَاة
بَاب زَكَاة النّعم
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا؛ أما الْأَحَادِيث فعشرة
الحَدِيث الأول
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَانع الزَّكَاة فِي النَّار» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ؛ تبعا للغزالي فِي «وسيطه» ، وَقَالَ ابْن الصّلاح: (بحثتُ) عَنهُ فَلم أجد لَهُ أصلا.
قلت: قد وجدته بِحَمْد الله وَمِنْه فِي الطَّبَرَانِيّ؛ قَالَ فِي «أَصْغَر معاجمه» : (ثَنَا مُحَمَّد) بن أَحْمد بن أبي يُوسُف الْخلال الْمصْرِيّ، ثَنَا بَحر بن (نصر) الْخَولَانِيّ، ثَنَا أَشهب بن عبد الْعَزِيز، (نَا) اللَّيْث بن سعد، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن (سَعْد) بن سِنَان، عَن أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَانع الزَّكَاة يَوْم الْقِيَامَة فِي النَّار» .(5/401)
وَذكره أَبُو طَاهِر السلَفِي الْحَافِظ فِيمَا خرَّجه لأبي عبد الله الرَّازِيّ، وَقد سلف إسنادنا إِلَيْهِ فِي الْكَلَام عَلَى السِّوَاك، عَن أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن (سعيد) بن عبد الله الْحَافِظ، نَا أَبُو الْعَبَّاس مُنِير بن أَحْمد بن الْحسن الْبَصْرِيّ، نَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن وردان الْمعَافِرِي، نَا بَحر بن نصر.
فَذكره كَمَا سلف، وَزَاد مَعَ اللَّيْث، ابْن لَهِيعَة مُتَابعَة. وَذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» من هَذَا الْوَجْه؛ فَقَالَ: قرأتُ عَلَى أبي الْحُسَيْن الْحَافِظ عَن أبي الطَّاهِر الشفيقي - بشين مُعْجمَة، ثمَّ، فَاء ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ قَاف، ثمَّ يَاء - نِسْبَة إِلَى مَسْجِد شفيق (الْملك) تَحت القلعة، أَنا أَبُو عبد الله الرَّازِيّ.
فَذكره كَمَا أسلفناه ثمَّ قَالَ: وَسعد بن سِنَان (مُخْتَلف فِي اسْمه وَفِي ثوثيقه، وَهُوَ كَمَا ذكر، فَإِنَّهُ قيل اسْمه سعد بن سِنَان) وَقيل عَكسه؛ هَكَذَا ذكره البُخَارِيّ فِي «الْأَدَب» ، وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَالْأول ذكره أَبُو دَاوُد، وَغَيره، قَالَ ابْن حبَان: وَأَرْجُو أَن يكون الثَّانِي هُوَ الصَّحِيح (و) صَححهُ البُخَارِيّ.(5/402)
وَأما الْخلف فِي توثيقه؛ فَقَالَ أَحْمد: رُوِيَ خَمْسَة عشر حَدِيثا مُنكرَة كلهَا مَا عرفت مِنْهَا وَاحِدًا، وَقَالَ مرّة: لم أكتب أَحَادِيثه؛ لأَنهم اضْطَرَبُوا فِيهِ وَفِي حَدِيثه، وَنقل ابْن الْقطَّان أَن أَحْمد (وَثَّقَهُ) ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف، وَقَالَ الْجوزجَاني: أَحَادِيثه واهية، وَقَالَ ابْن معِين فِي رِوَايَة أَحْمد بن زُهَيْر: ثِقَة. وَأخرج لَهُ التِّرْمِذِيّ حَدِيث: «المعتدي فِي الصَّدَقَة كمانعها» ثمَّ قَالَ: حسن؛ فَيكون هَذَا الحَدِيث حسنا عَلَى شَرطه، وَمَعَ أنّ لَهُ شَوَاهِد فِي الصَّحِيح تقويه؛ مِنْهَا:
قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا من صَاحب ذهب وَلَا فضَّة لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حقّها إِلَّا إِذا (كَانَت) يَوْم الْقِيَامَة صفحت لَهُ صَفَائِح من نَار، فأحمى عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم، فيكوى بهَا (جنبه وجبينه) وظهره» مُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «بني الْإِسْلَام عَلَى خمس» وعدَّ مِنْهَا: «إيتَاء الزَّكَاة» .(5/403)
مُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عمر، وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث الثَّابِتَة.
الحَدِيث الثانى
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسلم فِي عَبده وَلَا فرسه صَدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَأما حَدِيث أبي يُوسُف، عَن غورك بن الحصرم، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جَابر مَرْفُوعا «فِي الْخَيل السَّائِمَة فِي كل فرسٍ دِينَار» فَهُوَ حَدِيث ضَعِيف بِاتِّفَاق الْحفاظ.
(قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ) : تفرد بِهِ غورك عَن جَعْفَر، وَهُوَ ضَعِيف جدًّا، وَمن دونه ضعفاء.
وَقَالَ ابْن (الْقطَّان) : أَبُو يُوسُف هُوَ القَاضِي، وَهُوَ مَحْمُول عَلَيْهِ عِنْدهم.(5/404)
الحَدِيث الثَّالِث
رُوِيَ الشَّافِعِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِسْنَادِهِ إِلَى أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «هَذِه الصَّدَقَة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذِه فَرِيضَة (الصَّدَقَة) الَّتِي فَرضهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (عَلَى الْمُسلمين) الَّتِي أَمر الله بهَا، فَمن سئلها عَلَى وَجههَا من الْمُؤمنِينَ (فليعطها) ، وَمن سئلها فَوق حَقه، فَلَا يُعْطهَا: فِي أَربع وَعشْرين من الْإِبِل، فَمَا دونهَا (من) الْغنم، فِي كل خمس شَاة، فَإِذا بلغت خمْسا وَعشْرين، إِلَى خمس وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا ابْنة مَخَاض أُنْثَى، فَإِن لم يكن فِيهَا ابْنة مَخَاض، فَابْن لبون ذكر، فَإِذا بلغت سِتا وَثَلَاثِينَ إِلَى خمس وَأَرْبَعين فَفِيهَا ابْنة لبون أُنْثَى، فَإِذا بلغت ستًّا وَأَرْبَعين إِلَى سِتِّينَ، فَفِيهَا حقة طروقة (الْجمل) ، فَإِذا بلغت وَاحِدًا وَسِتِّينَ إِلَى خمس وَسبعين، فَفِيهَا جَذَعَة، فَإِذا بلغت ستًّا وَسبعين إِلَى تسعين، فَفِيهَا (ابنتا) لبون، فَإِذا بلغت إِحْدَى وَتِسْعين إِلَى عشْرين وَمِائَة، فَفِيهَا حقتان طروقتا الْجمل، فَإِذا زَادَت عَلَى عشْرين وَمِائَة، فَفِي كل أَرْبَعِينَ بنت (لبون) ، وَفِي كل خمسين حقةٍ) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَهُوَ عُمْدَة الْبَاب، وَعَلِيهِ وَعَلَى حَدِيث ابْن عمر الآتى (مدَار) نصب زَكَاة الْمَاشِيَة.(5/405)
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي كَمَا ذكرنَا بأطول من هَذَا عَن الْقَاسِم بن عبد الله بن عمر، عَن الْمثنى بن أنس، أَو ابْن فلَان بن أنس، (عَن أنس) : «هَذِه الصَّدَقَة ... » فَذكره كَمَا سقناه، وَزِيَادَة «وَإِن بَين أَسْنَان الْإِبِل فِي فَرِيضَة الصَّدَقَة، من بلغت عِنْده من الْإِبِل صَدَقَة الْجَذعَة، وَلَيْسَت عِنْده الجزعة، وَعِنْده حقة، فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ الحقة، وَيجْعَل مَعهَا شَاتين إِن استيسرتا عَلَيْهِ، أَو عشْرين درهما، وَإِذا بلغت عَلَيْهِ حقة، وَلَيْسَت عِنْده حقة، وَعِنْده جَذَعَة، فَإِنَّهَا (تقبل مِنْهُ الْجَذعَة، وَيُعْطِيه الْمُصدق عشْرين درهما، أَو شَاتين» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ) فِي «الْمعرفَة» : كَذَا رَوَى هَذَا الحَدِيث (عبد الله بن عمر الْعمريّ عَن الْمثنى بن أنس وَهُوَ الْمثنى بن) عبد الله بن أنس، (نسب إِلَى جده، وَالشَّافِعِيّ (ذكر) هَذِه (الرِّوَايَة) بِرِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس) ، عَن أنس، وَجعل اعْتِمَاده عَلَيْهَا وَعَلَى مَا بعْدهَا من (حَدِيث ابْن) عمر، قَالَ: أَخْبرنِي عددٌ ثِقَات كلهم، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثُمَامَة (بن عبد الله) بن أنس، عَن أنس (بن) مَالك، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، مثل مَعْنَى هَذَا لَا يُخَالِفهُ، إِلَّا أَنِّي لم أحفظ فِيهِ «إِلَّا يُعْطَى شَاتين، أَو عشْرين درهما» لَا(5/406)
أحفظ: « (إِن) اسْتَيْسَرَ عَلَيْهِ» . قَالَ: وأحسب فِي حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أنس، أَنه قَالَ: «دفع إليَّ أَبُو بكر الصّديق كتاب الصَّدَقَة عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» ، وَذكر هَذَا الْمَعْنى كَمَا وصفتُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: حَدِيث حَمَّاد، عَن ثُمَامَة، عَن أنس؛ حَدِيث صَحِيح مَوْصُول، وَقد قصر بِهِ بعض الروَاة، فَرَوَاهُ عَن حَمَّاد، قَالَ: «أخذت من ثُمَامَة كتابا زعم أَن أَبَا بكر [كتبه] لأنس» ، فَتعلق بِهِ بعض من ادّعى الْمعرفَة بالآثار؛ و (قَالَ) : هَذَا مُنْقَطع وَأَنْتُم لَا تثبتون الْمُنْقَطع، وَإِنَّمَا وَصله عبد الله بن الْمثنى، عَن ثُمَامَة، عَن أنس، وَأَنْتُم لَا تَجْعَلُونَ عبد الله بن الْمثنى حجَّة.
وَلم يعلم أَن [يُونُس بن مُحَمَّد] الْمُؤَدب قد رَوَاهُ عَن حَمَّاد، قَالَ: أخذت هَذَا الْكتاب من ثُمَامَة عَن أنس، «أَن أَبَا بكر كتب لَهُ ... » .
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُرَيج بن النُّعْمَان، عَن حَمَّاد. وَقد أوردهُ ابْن الْمُنْذر فِي كِتَابه محتجًّا بِهِ.
وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه - وَهُوَ إِمَام - عَن النَّضر بن شُمَيْل - وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ فِي الْعَدَالَة والإتقان والتقدم عَلَى أَصْحَاب حَمَّاد - قَالَ: ثَنَا حَمَّاد ابْن سَلمَة، قَالَ: أَخذ هَذَا الْكتاب من ثُمَامَة (يحدثه) عَن أنس، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.(5/407)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده صَحِيح، وَكلهمْ ثِقَات.
قلت: وَبِهَذَا يظْهر (رد) مَا نقل عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ فِي كتاب «التتبع عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» : إِن ثُمَامَة لم يسمعهُ من أنس، وَلَا سَمعه عبد الله بن الْمثنى من ثُمَامَة. وَمَا فِي «الْأَطْرَاف» للمقدسي: (قيل لِابْنِ) معِين: حَدِيث ثُمَامَة عَن أنس فِي الصَّدقَات؟ قَالَ: لَا يَصح، وَلَيْسَ بِشَيْء، وَلَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث الصَّدقَات.
فَإِن قلت: قد تكلم جمَاعَة فِي عبد الله بن الْمثنى، فَقَالَ الساجى: ضَعِيف مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ (د) : لَا أخرج حَدِيثه، وَقَالَ أَبُو سَلمَة: كَانَ ضَعِيفا.
قلت: قد أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَلَى وَجه الِاحْتِجَاج بِهِ، وَقَالَ أبوحاتم: صَالح الحَدِيث، وَوَثَّقَهُ غَيره.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَلَا نعلم من حَملَة الحَدِيث وحفاظهم من استقصى فِي انتقاد (الروَاة) مَا استقصى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، مَعَ إِمَامَته، وتقدمه فِي معرفَة الرِّجَال، وَعلل الْأَحَادِيث، ثمَّ (إِنَّه) اعْتمد فِي هَذَا الْبَاب عَلَى هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ حَدِيث عبد الله بن الْمثنى، عَن(5/408)
ثُمَامَة، عَن أنس، وَأخرجه فِي «صَحِيحه» وَذَلِكَ لِكَثْرَة الشواهد لحديثه هَذَا بِالصِّحَّةِ.
قلت: وَقد ذكره البُخَارِيّ مفرقًا فِي كتاب الزَّكَاة، فِي عشرَة مَوَاضِع (مِنْهُ) ، فأجمعه لَك هُنَا ليحال مَا يَقع بعد عَلَيْهِ، فَأَقُول: رَوَاهُ عَن مُحَمَّد [بن عبد الله] بن الْمثنى الْأنْصَارِيّ، حَدثنِي أبي، قَالَ: (حَدثنِي) ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس، أَن أنسا حَدثهُ «أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كتب لَهُ هَذَا الْكتاب لما وَجهه إِلَى الْبَحْرين:
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة، الَّتِي فرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْمُسلمين، وَالَّتِي أَمر الله رَسُوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بهَا) ، فَمن سئلها (عَلَى وَجههَا من الْمُسلمين) ؛ فليعطها، وَمن سُئِلَ فَوْقهَا؛ فَلَا يُعْط، فِي أَربع وَعشْرين من الْإِبِل فَمَا دونهَا (من الْغنم) فِي كل خمس شَاة، فَإِذا بلغت خمْسا وَعشْرين إِلَى خمس وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا بنت مَخَاض أُنْثَى، فَإِذا بلغت سِتا وَثَلَاثِينَ إِلَى خمس وَأَرْبَعين فَفِيهَا بنت لبون أُنْثَى، فَإِذا بلغت سِتا وَأَرْبَعين إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حقَّةُُ طروقةُ الْجمل، فَإِذا بلغت وَاحِدَة وَسِتِّينَ إِلَى خمس وَسبعين، فَفِيهَا جَذَعَة، فَإِذا بلغت، - يعْنى - سِتا وَسبعين إِلَى(5/409)
تسعين، فَفِيهَا بِنْتا لبون، فَإِذا بلغت إِحْدَى وَتِسْعين إِلَى عشْرين وَمِائَة، فَفِيهَا حقَّتان (طروقتا) الْجمل، فَإِذا زَادَت عَلَى عشْرين وَمِائَة، فَفِي كل أَرْبَعِينَ بنت (لبون) ، وَفِي كل خمسين حقة، وَمن لم يكن (مَعَه) إِلَّا أَربع من الْإِبِل، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَة، إِلَّا أَن يَشَاء رَبهَا، فَإِذا بلغت خمْسا من الْإِبِل فَفِيهَا شَاة، وَفِي صَدَقَة الْغنم فِي سائمتها، إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ إِلَى عشْرين وَمِائَة شَاة، فَإِذا زَادَت (عَلَى) عشْرين و (مائَة إِلَى مِائَتَيْنِ) فَفِيهَا شَاتَان، فَإِذا زَادَت عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثمِائَة، فَفِيهَا ثَلَاث شِيَاه، فَإِذا زَادَت عَلَى ثَلَاثمِائَة، فَفِي كل مائَة شَاة، فَإِذا كَانَت سَائِمَة الرجل نَاقِصَة من أَرْبَعِينَ شَاة وَاحِدَة فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَة، إِلَّا أَن يَشَاء رَبهَا وَفِي الرقة ربع الْعشْر، فَإِن لم تكن إِلَّا تسعين وَمِائَة، فَلَيْسَ فِيهَا (شي) إِلَّا أَن يَشَاء رَبهَا» .
وَفِي هَذَا الْكتاب: «وَمن بلغت صدقته بنت الْمَخَاض وَلَيْسَت عِنْده، وَعِنْده بنت لبون، فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ، وَيُعْطِيه الْمُصدق عشْرين درهما أَو شَاتين، فَإِن لم يكن (عِنْده) بنت مَخَاض عَلَى وَجههَا، وَعِنْده ابْن لبون، فَإِنَّهُ يقبل مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَه شَيْء، وَمن بلغت عِنْده من الْإِبِل(5/410)
صَدَقَة الْجَذعَة، وَلَيْسَت عِنْده جَذَعَة وَعِنْده حقة، فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ الحقة، وَيجْعَل مَعهَا شَاتين، إِن استيسرتا لَهُ، أَو عشْرين درهما، وَمن بلغت (عِنْده) صَدَقَة الحقة، وَلَيْسَت عِنْده (الحقة، وَعِنْده الْجَذعَة، فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ الْجَذعَة، وَيُعْطِيه الْمُصدق عشْرين درهما، أَو شَاتين، وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة الحقة، وَلَيْسَت عِنْده) إِلَّا بنت لبون، فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ بنت لبون، وَيُعْطَى شَاتين أَو عشْرين درهما، وَمن بلغت صدقته بنت لبون، وَعِنْده حقة، فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ الحقة، وَيُعْطِيه الْمُصدق عشْرين درهما أَو شَاتين، وَمن بلغت صدقته بنت لبون، وَلَيْسَت عِنْده، وَعِنْده بنت مَخَاض، فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ بنت مَخَاض، وَيُعْطَى مَعهَا عشْرين درهما أَو شَاتين وَلَا يخرج فِي الصَّدَقَة هرمة، وَلَا ذَات عوار، وَلَا تَيْس، إِلَّا مَا شَاءَ الْمُصدق، (وَلَا يجمع) بَين متفرق، وَلَا يفرق بَين مجتمعٍ خشيَة الصَّدَقَة، وَمَا كَانَ من خليطين، فَإِنَّهُمَا يتراجعان بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ» هَذَا كُله لفظ البُخَارِيّ، مفرقًا، وَقد رَوَاهُ بِطُولِهِ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» .
قَالَ الشَّافِعِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا حَدِيث ثَابت وَبِه نَأْخُذ. وَقَالَ(5/411)
الْحَاكِم: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ.
فَائِدَة: فِي الْإِشَارَة إِلَى ضبط أَلْفَاظ وَقعت فِي هَذَا الحَدِيث، وطرف من فَوَائده، وَقد تعرض الرَّافِعِيّ لطرف لطيف مِنْهَا؛ فَذكر الْبَسْمَلَة فِي أَوله يُسْتَدلُّ بِهِ عَلَى ابتدائها فِي (أول) الْكتب كَمَا نبه عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيّ، قَالَ: بِخِلَاف مَا كَانَت عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة من قَوْلهم (بِاسْمِك) اللَّهُمَّ، (قَالَ) ودلَّ أَيْضا (عَلَى) أَن الِابْتِدَاء بِالْحَمْد لله لَيْسَ بِوَاجِب وَلَا شَرط، وأنّ مَعْنَى الحَدِيث: «كل أمرٍ ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِحَمْد الله فَهُوَ أَجْزم» أَي: لم يبْدَأ فِيهِ بِحَمْد الله أَو مَعْنَاهُ وَنَحْوه من ذكر الله تَعَالَى.
وَقَوله: «هَذِه فَرِيضَة» بَدَأَ بِإِشَارَة التَّأْنِيث؛ لِأَنَّهُ عطف عَلَيْهِ مؤنثًا، قَالَ الْمَاوَرْدِيّ أَيْضا: وَقَوله «فَرِيضَة» أَي: نُسْخَة فَرِيضَة الصَّدَقَة، فَحذف لَفْظَة «نُسْخَة» وهومن حذف (الْمُضَاف) وَإِقَامَة الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه.
وَقَوله: «هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة» ، هُوَ تَرْجَمَة الْكتاب فِي عنوانه، كَمَا يكْتب هَذَا مُخْتَصر كَذَا، وَكتاب كَذَا (قَالَه) الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب وَقَوله: «فَرِيضَة الصَّدَقَة» فِيهِ دلَالَة عَلَى أَن اسْم الصَّدَقَة يُطلق عَلَى الزَّكَاة، خلافًا لأبي حنيفَة.(5/412)
وَقَوله: «وَالَّتِي أَمر بهَا رَسُوله» يَعْنِي قَوْله: (خُذ من أَمْوَالهم) الْآيَة. وَمَعْنى «فرض» : قدر، وَقيل: سنّ، وَقيل: أوجب، والرافعي ذكر الأول والأخير فِي الْكتاب، فعلَى الثَّالِث مَعْنَاهُ: إِن الله أوجبهَا ثمَّ بلغَهَا إِلَيْنَا رَسُوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَسَمَّى أمره وتبليغه فرضا، وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ: (شرعها) بِأَمْر الله تَعَالَى. وَعَلَى الأول: (بيَّنها) ؛ كَقَوْلِه تَعَالَى: (قد فرض الله لكم تحَّلة أَيْمَانكُم) ، أَو يكون مَعْنَاهُ من قَوْلهم: فرض القَاضِي النَّفَقَة (أَي) قدرهَا.
وَقَوله: «عَلَى الْمُسلمين» فِيهِ دلَالَة لمن يَقُول: إِن الْكَافِر لَيْسَ مُخَاطبا بِالزَّكَاةِ وَسَائِر الْفُرُوع، وَمن قَالَ إِنَّه مُخَاطب بهَا - وَهُوَ الصَّحِيح - قَالَ: مَعْنَى «فرض عَلَى الْمُسلمين» أَن تُؤْخَذ مِنْهُم فِي الدُّنْيَا، وَالْكَافِر لَا تُؤْخَذ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِن يعذب عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: «وَالَّتِي أَمر الله تَعَالَى رَسُوله» ، هَكَذَا هُوَ فِي (رِوَايَة) البُخَارِيّ، وَغَيره، من كتب الحَدِيث الْمَشْهُورَة. وَفِي رِوَايَة الشَّافِعِي الْمَذْكُورَة فِي الْكتاب، وَأبي دَاوُد فِي «سنَنه» : «الَّتِي» بِغَيْر وَاو، وَكِلَاهُمَا صَحِيح. فَأَما رِوَايَة الْجُمْهُور؛ فعطف عَلَى قَوْله «الَّتِي فرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» ، يَعْنِي أَن فَرِيضَة الصَّدَقَة اجْتمع فِيهَا تَقْدِير رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) وَأمر الله تَعَالَى.(5/413)
وَأما عَلَى الرِّوَايَة الثَّانِيَة؛ فَتكون الْجُمْلَة الثَّانِيَة بَدَلا من الأولَى وَقَوله: «فَمن سُئلها عَلَى وَجههَا؛ فليعطها، وَمن سُئل فَوْقهَا (فَلَا) هُوَ بِضَم السِّين فيهمَا عَلَى مَا لم يسم فَاعله، وبكسر الطَّاء، كَذَا هُوَ مَوْجُود فِي البُخَارِيّ وَغَيره من كتب الحَدِيث الْمُعْتَمدَة.
وَوَقع فِي «الْمُهَذّب» : «فَمن سَأَلَهَا» بِفَتْح السِّين فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وبفتح الطَّاء.
وَمَعْنى «من سَأَلَهَا عَلَى وَجههَا» أَي (عَلَى) حسب مَا شرعت.
وَقَوله: «فَلَا يُعْطه» اخْتلف أَصْحَابنَا فِي الضَّمِير فِي «لَا يُعْطه» عَلَى وَجْهَيْن، أصَحهمَا: أَن مَعْنَاهُ لَا يُعْطي الزَّائِد، بل يُعْطي الْوَاجِب عَلَى وَجهه، وَنَقله الرَّافِعِيّ عَن اتِّفَاق الشَّارِحين.
وَثَانِيهمَا: أَن مَعْنَاهُ لَا يُعْط فرض الزَّكَاة وَلَا شَيْء مِنْهُ، لهَذَا السَّاعِي، بل يخرج الْوَاجِب بِنَفسِهِ، أَو يَدْفَعهُ إِلَى ساعٍ آخر؛ لِأَن السَّاعِي (بِطَلَبِهِ) الزَّائِد عَلَى الْوَاجِب يكون مُتَعَدِّيا فَاسِقًا، وَشرط الساعى أَن يكون أَمينا.
وَقَوله: «فِي أَربع وَعشْرين من الْإِبِل، فَمَا دونهَا الْغنم» هَذِه جملَة من مُبْتَدأ وَخبر، (فالغنم مُبْتَدأ) ، «وَفِي أَربع وَعشْرين» خبر مقدم. قَالَ بَعضهم: الْحِكْمَة هُنَا فِي تَقْدِيمه عَلَى الْمُبْتَدَأ: أَن الْمَقْصُود بَيَان النّصاب، وَالزَّكَاة إِنَّمَا تجب بعد وجود النّصاب، فَكَانَ تَقْدِيمه أحسن،(5/414)
ثمَّ ذكر الْوَاجِب، وَكَذَا اسْتعْمل هَذَا الْمَعْنى فِي كل النصب؛ حَيْثُ قَالَ: «فِيهَا ابْنة مَخَاض» ، «فِيهَا (بنت) لبون» ، «فِيهَا حقة» إِلَى آخِره.
وَقَوله: «فِي أَربع وَعشْرين، فَمَا دونهَا الْغنم» (مُجمل، ثمَّ فسّره بِأَن فِي كل خمس شَاة.
وَقَوله: «فِي أَربع وَعشْرين، فَمَا دونهَا» ) وَقَوله: «إِلَى خمس وَثَلَاثِينَ، إِلَى خمس وَأَرْبَعين، إِلَى سِتِّينَ» كل ذَلِك دَلِيل عَلَى أَن الأوقاص لَيست بِعَفْو، وَأَن الْفَرْض يتَعَلَّق بِالْجَمِيعِ، وَالْمَشْهُور عندنَا خِلَافه.
وَالْإِبِل: بِكَسْر الْبَاء، وَيجوز إسكانها، وَهِي مُؤَنّثَة، وَكَذَلِكَ الْبَقر، وَالْغنم.
وطروقة: بِمَعْنى مطروقة، (كحلوبة وركوبة بِمَعْنى) محلوبة ومركوبة، وَهِي طروقة الْجمل كَمَا سلف. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «طروقة الْفَحْل» قلت: هُوَ لفظ أبي دَاوُد.
والرقة بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْقَاف (كل) الْفضة، كَمَا سيأتى وَاضحا، فِي بَاب زَكَاة الْمَعْدن - إِن شَاءَ الله.
وَقَوله: «بنت مَخَاض أُنْثَى» وَكَذَا «ابْن لبون» قيل: إِنَّه احْتِرَاز من الْخُنْثَى، وَالأَصَح أَنه تَأْكِيد لشدَّة الاعتناء؛ كَقَوْلِهِم: رَأَيْت بعيني، وَسمعت بأذني.(5/415)
والعوار: بِفَتْح الْعين أفْصح من ضمهَا وَأشهر، وَهُوَ الْعَيْب.
وَقَوله: «وَلَا يخرج فِي الصَّدَقَة هرمة، وَلَا ذَات عوار، وَلَا تَيْس إِلَّا مَا شَاءَ الْمُصدق» وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: «إِلَّا أَن يَشَاء الْمُصدق» . فَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ؛ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: «المصّدق» هُنَا بتَشْديد الصَّاد، وَهُوَ ربّ المَال، وَالِاسْتِثْنَاء عَائِد إِلَى «التيس» خَاصَّة، وَمَعْنَاهُ: لَا يخرج هرمة، وَلَا ذَات عيب أبدا، وَلَا يُؤْخَذ التيس إِلَّا برضى الْمَالِك، قَالُوا: ولابد من هَذَا التَّأْوِيل؛ لِأَن الهرمة وذَات الْعَيْب لَا يجوز للْمَالِك إخراجهما، وَلَا لِلْعَامِلِ الرضَى بهَا، وَأما التيس فالمنع من أَخذه لحق الْمَالِك، وَهُوَ كَونه فَحل الْغنم، الْمعد لضرابها، فَإِذا تبرع بِهِ الْمَالِك جَازَ، وَصورته إِذا كَانَت الْغنم كلهَا ذُكُورا (بِأَن) مَاتَت الْإِنَاث وَبقيت الذُّكُور فَيجب فِيهَا ذكر، وَيُؤْخَذ من وَسطهَا، وَلَا يجوز أَخذ تَيْس الْغنم إِلَّا برضى الْمَالِك.
والتأويل الثَّانِي أَن الْمُصدق بِفَتْح الصَّاد المخففة: السّاعي، وَهُوَ الظَّاهِر؛ وَيعود الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْجَمِيع، وَهُوَ أَيْضا الْمَعْرُوف (من مَذْهَب الشَّافِعِي) أَن الِاسْتِثْنَاء إِذا تعقب جُملاً عَاد إِلَى جَمِيعهَا، قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار، وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْبُوَيْطِيّ.
وَقَالَ الْخطابِيّ فِي كِتَابه «تصاحيف الروَاة» : أَخْبرنِي الْحسن(5/416)
بن صَالح، عَن ابْن الْمُنْذر قَالَ: كَانَ أَبُو عبيد يُنكر قَوْله: «إِلَّا أَن يَشَاء الْمُصدق» يَقُول: هَكَذَا يَقُوله المحدثون، وَأَنا أرَاهُ «الْمُصدق» يَعْنِي رب الْمَاشِيَة، وَقَوله فِي أول الْكتاب: «لمَّا وَجهه إِلَى الْبَحْرين» هُوَ اسْم لبلاد مَعْرُوفَة، وإقليم مَشْهُور، مُشْتَمل عَلَى مدن، قاعدتها هجر، قَالُوا: وَهَكَذَا ينْطق بِهِ «الْبَحْرين» بِلَفْظ التَّثْنِيَة، وينسب إِلَيْهِ بحراني.
وذكرالرافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن «الْوَجِيز» ثمَّ أنكرها، فَقَالَ: قَوْله «فَإِذا زَادَت عَلَى عشْرين وَمِائَة وَاحِدَة، فَفِيهَا ثَلَاث بَنَات لبون، ثمَّ فِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون» لَا يُوجد هَكَذَا فِي حَدِيث أبي بكر (وَهُوَ كَمَا قَالَ وَالَّذِي فِيهِ كَمَا أسلفه وَرَأَيْت فِي نُسْخَة من الْوَجِيز عزو هَذِه إِلَى أبي بكر) بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، وَلم أرها فِي كِتَابه أَيْضا.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ فِي بعض الرِّوَايَات أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فَإِذا زَادَت وَاحِدَة عَلَى الْمِائَة وَالْعِشْرين، فَفِيهَا ثَلَاث بَنَات لبون» .
هَذِه الرِّوَايَة مَذْكُورَة فِي حَدِيث ابْن عمر رضى الله عَنهُ، وَقد أسلفنا أَن مدَار نصب الزَّكَاة عَلَيْهِ، وَعَلَى حَدِيث أنس، وَقد فَرغْنَا بِحَمْد الله ومنِّه من الْكَلَام عَلَى حَدِيث (أنس) ، فلنذكر طرق حَدِيث ابْن عمر، فَنَقُول: هُوَ حَدِيث لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا فِي أَحدهمَا، نعم رَوَاهُ الْأَئِمَّة(5/417)
أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ.
أما أَحْمد فَإِنَّهُ (أخرجه) عَن مُحَمَّد بن يزِيد الوَاسِطِيّ، عَن سُفْيَان بن حُسَيْن، عَن الزُّهْرِيّ، بِنَحْوِ من سِيَاقَة التِّرْمِذِيّ الْآتِيَة، كَمَا ستقف عَلَيْهَا.
وَأما أَبُو دَاوُد فَأخْرجهُ من حَدِيث عباد بن العوَّام، نَا سُفْيَان بن حُسَيْن، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه قَالَ: «كتب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كتاب الصَّدَقَة، فَلم يُخرجهُ إِلَى عماله حَتَّى قبض، فقرنه بِسَيْفِهِ، فَعمل بِهِ أَبُو بكر حَتَّى قبض، ثمَّ عمل بِهِ عمر حَتَّى قبض، فَكَانَ فِيهِ: فِي خمس من الْإِبِل شَاة، وَفِي عشر شَاتَان، وَفِي خمس عشرَة ثَلَاث شِيَاه، وَفِي عشْرين أَربع شِيَاه، وَفِي خمس وَعشْرين بنت مَخَاض، إِلَى خمس وَثَلَاثِينَ، فَإِذا زَادَت وَاحِدَة، فَفِيهَا ابْنة لبون، إِلَى خمس وَأَرْبَعين، فَإِذا زَادَت وَاحِدَة، فَفِيهَا حقة إِلَى سِتِّينَ، فَإِذا زَادَت وَاحِدَة (فجذعة إِلَى خمس وَسبعين، فَإِذا زَادَت وَاحِدَة) فَفِيهَا ابنتا لبون إِلَى تسعين، فَإِذا زَادَت وَاحِدَة، فَفِيهَا حقتان، إِلَى عشْرين وَمِائَة، (فَإِن) كَانَت الْإِبِل(5/418)
أَكثر من ذَلِك، فَفِي كل خمسين حقة، وَفِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون وَفِي الْغنم فِي كل أَرْبَعِينَ شَاة، إِلَى عشْرين وَمِائَة، (فَإِن) زَادَت وَاحِدَة، فشاتان، إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذا زَادَت عَلَى الْمِائَتَيْنِ، فَفِيهَا ثَلَاث، إِلَى ثَلَاثمِائَة، فَإِن كَانَت الْغنم أَكثر من ذَلِك، فَفِي كل مائَة شَاة، شَاة، لَيْسَ فِيهَا شَيْء، إِلَى أَن تبلغ الْمِائَة، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع، وَلَا يجمع بَين متفرق، مَخَافَة الصَّدَقَة وَمَا كَانَ من خليطين فَإِنَّهُمَا يسترجعان بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة هرمة وَلَا ذَات عيب» قَالَ. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: إِذا جَاءَ الْمُصدق قسم الشَّاء أَثلَاثًا، (ثلث) شرار، وَثلث خِيَار، وَثلث وسط يَأْخُذ الْمُصدق من الْوسط، وَلم يذكر الزُّهْرِيّ الْبَقر.
ثمَّ أخرجه من حَدِيث عُثْمَان بن أبي شيبَة، نَا مُحَمَّد بن يزِيد الوَاسِطِيّ، ثَنَا سُفْيَان بن حُسَيْن، بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ «فَإِن لم يكن ابْنة مَخَاض فَابْن لبون» وَلم يذكر كَلَام الزُّهْرِيّ.
ثمَّ أخرجه عَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء، نَا ابْن الْمُبَارك، عَن يُونُس بن يزِيد، عَن ابْن شهَاب قَالَ: هَذِه نُسْخَة كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، الَّذِي كتب فِي الصَّدَقَة، وَهِي عِنْد آل عمر بن الْخطاب قَالَ ابْن شهَاب: أَقْرَأَنيهَا سَالم بن عبد الله بن عمر، فوعيتها عَلَى وَجههَا، وَهِي الَّتِي(5/419)
انتسخ عمر بن عبد الْعَزِيز من عبد الله بن عبد الله بن عمر، وَسَالم ابْن عبد الله بن عمر، فَذكر الحَدِيث قَالَ: «فَإِذا كَانَت إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة، فَفِيهَا ثَلَاث بَنَات لبون، حَتَّى تبلغ تسعا وَعشْرين وَمِائَة، فَإِذا كَانَت ثَلَاثِينَ وَمِائَة، فَفِيهَا بِنْتا لبون وحقة، حَتَّى تبلغ تسعا وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، فَإِذا كَانَت أَرْبَعِينَ وَمِائَة، فَفِيهَا حقتان، وَبنت لبون، حَتَّى تبلغ تسعا وَأَرْبَعين وَمِائَة، فَإِذا كَانَت خمسين وَمِائَة، فَفِيهَا ثَلَاث حقاق حَتَّى تبلغ تسعا وَخمسين وَمِائَة، فَإِذا كَانَت سِتِّينَ وَمِائَة، فَفِيهَا أَربع بَنَات لبون، حَتَّى تبلغ تسعا وَسِتِّينَ وَمِائَة، فَإِذا كَانَت (سبعين) وَمِائَة، فَفِيهَا ثَلَاث بَنَات لبون (و) حقة، حَتَّى تبلغ تسعا وَسبعين وَمِائَة، فَإِذا كَانَت ثَمَانِينَ وَمِائَة، فَفِيهَا حقتان وابنتا لبون، حَتَّى تبلغ تسعا وَثَمَانِينَ وَمِائَة، فَإِذا كَانَت تسعين وَمِائَة، فَفِيهَا ثَلَاث حقاق وَبنت لبون، حَتَّى تبلغ تسعا وَتِسْعين وَمِائَة، فَإِذا كَانَت مِائَتَيْنِ، فَفِيهَا أَربع حقاق، أَو خمس بَنَات لبون، أَي السنين وجدت أخذت، وَفِي سَائِمَة الْغنم» فَذكر نَحْو حَدِيث سُفْيَان بن حُسَيْن، وَفِيه: «وَلَا يُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة هرمة، وَلَا ذَات عوار من الْغنم، وَلَا تَيْس (الْغنم) ، إِلَّا أَن يَشَاء الْمُصدق» .
وَأما التِّرْمِذِيّ؛ فَإِنَّهُ أخرجه من حَدِيث عباد بن الْعَوام، عَن سُفْيَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه؛ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كتب كتاب الصَّدَقَة، فَلم يُخرجهُ إِلَى عماله، حَتَّى قبض، فقرنه بِسَيْفِهِ، فَلَمَّا قبض عمل بِهِ أَبُو بكر حَتَّى قبض، ثمَّ عمل بِهِ عمر حَتَّى قبض وَكَانَ فِيهِ: فِي(5/420)
خمس من الْإِبِل شَاة، وَفِي (عشر) شَاتَان، وَفِي خمس عشرَة ثَلَاث شِيَاه، وَفِي عشْرين أَربع شِيَاه، وَفِي خمس وَعشْرين بنت مَخَاض إِلَى خمس وَثَلَاثِينَ، فَإِذا زَادَت فَفِيهَا بنت لبون إِلَى خمس وَأَرْبَعين، فَإِذا زَادَت فَفِيهَا حقة إِلَى سِتِّينَ، فَإِذا زَادَت فجذعة إِلَى خمس و (سبعين) ، فَإِذا زَادَت فَفِيهَا (ابنتا) لبون، إِلَى تسعين، (فَإِذا) زَادَت وَاحِدَة فَفِيهَا حقتان إِلَى عشْرين وَمِائَة، فَإِذا زَادَت عَلَى عشْرين وَمِائَة، فَفِي كل خمسين حقة، وَفِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون وَفِي الشَّاء فِي كل أَرْبَعِينَ شَاة شَاة، إِلَى عشْرين وَمِائَة، فَإِذا زَادَت فشاتان، إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذا زَادَت فَثَلَاث شِيَاه، إِلَى ثَلَاثمِائَة شَاة، فَإِذا زَادَت عَلَى ثَلَاثمِائَة، فَفِي كل مائَة شَاة شَاة، ثمَّ لَيْسَ فِيهَا شَيْء حَتَّى تبلغ (مائَة) وَلَا يجمع بَين متفرق، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع مَخَافَة الصَّدَقَة، وَمَا كَانَ من خليطين فَإِنَّهُمَا يتراجعان بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يُؤْخَذ من الصَّدَقَة هرمة، وَلَا ذَات عيب» .
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: إِذا جَاءَ الْمُصدق قسم الشياه أَثلَاثًا؛ ثلث خِيَار (وَثلث أوساط) وَثلث شرار، وَأخذ الْمُصدق من الثُّلُث [الْوسط] .
وَأما الدَّارَقُطْنِيّ؛ فَإِنَّهُ أخرجه بِكَمَالِهِ، من حَدِيث عبد الله(5/421)
بن الْمُبَارك، عَن يُونُس، عَن ابْن شهَاب، قَالَ: هَذِه نُسْخَة كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، الَّتِي كتب فِي الصَّدَقَة، هُوَ عِنْد آل عمر بن الْخطاب.
قَالَ ابْن شهَاب: أَقْرَأَنيهَا سَالم بن عبد الله بن عمر، (فوعيتها عَلَى وَجههَا، وَهِي الَّتِي انتسخ عمر بن عبد الْعَزِيز من عبد الله بن [عبد الله] بن عمر) وَسَالم بن عبد الله (بن عمر) حِين أَمر عَلَى الْمَدِينَة، فَأمر عماله بِالْعَمَلِ بهَا (وَكتب بهَا إِلَى ابْن عبد الْملك، فَأمر الْوَلِيد عماله بِالْعَمَلِ بهَا) ثمَّ لم يزل الْخُلَفَاء يأمرون بذلك بعده، ثمَّ أَمر بهَا (هِشَام) بن هَانِئ فنسخها إِلَى كل عَامل من الْمُسلمين، وَأمرهمْ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا، وَلَا يتعدونها، وَهَذَا الْكتاب كتاب تَفْسِيرهَا لَا يُؤْخَذ فِي شَيْء من الْإِبِل الصَّدَقَة حَتَّى يبلغ خمس ذود، فَإِذا بلغت خمْسا فَفِيهَا شَاة، حَتَّى تبلغ عشرا، فَإِذا بلغت عشرا فَفِيهَا شَاتَان، حَتَّى (تبلغ) خمس عشرَة، (فَإِذا بلغت خمس عشرَة) فَفِيهَا ثَلَاث شِيَاه، حَتَّى تبلغ عشْرين (فَإِذا بلغت عشْرين) فَفِيهَا أَربع شِيَاه، حَتَّى تبلغ خمْسا وَعشْرين ... » ثمَّ ذكر بَاقِيه بِنَحْوِ سِيَاقَة (أبي دَاوُد إِلَى قَوْله) : «أَي السنين وجدت مِنْهَا أخذت» ، وَزَاد: «ثمَّ كل شَيْء من الْإِبِل عَلَى ذَلِك(5/422)
يُؤْخَذ عَلَى نَحْو مَا كتبنَا (فِي) هَذَا الْكتاب. وَلَا يُؤْخَذ من الْغنم صَدَقَة حَتَّى تبلغ أَرْبَعِينَ شَاة ... » فَذكره كَمَا سلف «إِلَى ثَلَاثمِائَة» ، وَزَاد: «حَتَّى تبلغ أَرْبَعمِائَة شَاة، فَإِذا بلغت أَرْبَعمِائَة شَاة، فَفِيهَا أَربع شِيَاه، حَتَّى تبلغ خَمْسمِائَة شَاة، فَإِذا بلغت خَمْسمِائَة شَاة، فَفِيهَا خمس شِيَاه، حَتَّى تبلغ سِتّمائَة شَاة، فَإِذا بلغت سِتّمائَة (شَاة) فَفِيهَا (سِتّ شِيَاه، حَتَّى تبلغ سَبْعمِائة شَاة، فَإِذا بلغت سَبْعمِائة شَاة فَفِيهَا) سبع شِيَاه، حَتَّى تبلغ ثَمَانمِائَة شَاة، فَإِذا بلغت ثَمَانمِائَة شَاة، فَفِيهَا ثَمَان شِيَاه، حَتَّى تبلغ تِسْعمائَة شَاة، فَإِذا بلغت تِسْعمائَة شَاة، فَفِيهَا تسع شِيَاه، حَتَّى تبلغ ألف شَاة، فَإِذا بلغت ألف شَاة، فَفِيهَا عشر شِيَاه، ثمَّ فِي كل مَا زَادَت مائَة شَاة (شَاة) » .
وَأما الْحَاكِم؛ فَإِنَّهُ أخرجه من حَدِيث عباد بن الْعَوام، عَن سُفْيَان، كَمَا أخرجه التِّرْمِذِيّ إِسْنَادًا ومتنًا.
وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَإِذا زَادَت عَلَى أَرْبَعمِائَة فَفِيهَا أَربع شِيَاه، فَفِي كل مائَة شَاة» .
وأخرجها أَيْضا الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن أخرجه: هَذَا حَدِيث حسن، وَقَالَ فِي(5/423)
«علله» : سَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ فَقَالَ: أَرْجُو أَن يكون مَحْفُوظًا، وسُفْيَان بن الْحُسَيْن صَدُوق.
وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا الحَدِيث أحْسن شَيْء رُوِيَ فِي أَحَادِيث الصَّدقَات.
قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : قد رَوَى يُونُس وَغير وَاحِد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم هَذَا الحَدِيث فَلم يرفعوه، وَإِنَّمَا رَفعه سُفْيَان بن حُسَيْن قلت: لَا يضرّهُ؛ فَإِن سُفْيَان وَثَّقَهُ ابْن معِين وَابْن سعد وَالنَّسَائِيّ، وَأخرج لَهُ مُسلم فِي مُقَدّمَة صَحِيحه، وَالْبُخَارِيّ تَعْلِيقا لَكِن (ضعف) فِي الزُّهْرِيّ، وَقد ارْتَفع ذَلِك هُنَا فَإِنَّهُ توبع قَالَ ابْن عدي فِيمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ عَنهُ: وَافق سُفْيَان بن حُسَيْن عَلَى هَذِه الرِّوَايَة عَن سَالم عَن أَبِيه سُلَيْمَان بن كثير.
قلت: وَبِهَذَا يظْهر الرَّد عَلَى مَا نقل عَن ابْن معِين حَيْثُ ضعف هَذَا الحَدِيث وَقَالَ: لم يُتَابع سُفْيَان أحد عَلَيْهِ، وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث كَبِير فِي الْبَاب شَاهد لحَدِيث أنس الْمُتَقَدّم إِلَّا أَن الشَّيْخَيْنِ لم يخرجَا لِسُفْيَان بن حُسَيْن الوَاسِطِيّ فِي الْكِتَابَيْنِ، وسُفْيَان بن حُسَيْن أحد أَئِمَّة، الحَدِيث وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَدخل(5/424)
خرسان مَعَ يزِيد بن الْمُهلب، وَدخل نيسابور سمع مِنْهُ جمَاعَة من مَشَايِخنَا مثل مُبشر بن عبد الله بن رزين وأخيه عمر بن عبد الله وَغَيرهمَا قَالَ: ويصححه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ حَدِيث عبد الله بن الْمُبَارك، عَن يُونُس بن يزِيد عَن، الزُّهْرِيّ، وَإِن كَانَ فِيهِ أدنَى إرْسَال فَإِنَّهُ شَاهد صَحِيح لحَدِيث سُفْيَان بن حُسَيْن، ثمَّ سَاقه كَمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ سَوَاء، ثمَّ قَالَ: وَمِمَّا يشْهد لهَذَا الحَدِيث بِالصِّحَّةِ حَدِيث عَمْرو بن حزم - وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى بِطُولِهِ فِي الدِّيات - ثمَّ قَالَ: قد بذلت مَا أَدَّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِي إِخْرَاج هَذِه الْأَحَادِيث المفسرة (الملخصة) فِي الذكوات وَلَا يَسْتَغْنِي هَذَا الْكتاب عَن شرحها، واستدللت عَلَى صِحَّتهَا (بِالْأَسَانِيدِ) الصَّحِيحَة عَن الْخُلَفَاء وَالتَّابِعِينَ بقبولها واستعمالها بِمَا فِيهِ غنية لمن تأملها، وَكَانَ إمامنا شُعْبَة يَقُول فِي حَدِيث عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ فِي الْوضُوء: لِأَن يَصح (فِي) مثل هَذَا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ أحب إِلَيّ من نَفسِي وَأَهلي وَمَالِي، وَذَاكَ حَدِيث فِي صَلَاة التَّطَوُّع، فَكيف بِهَذِهِ السّنَن الَّتِي هِيَ قَوَاعِد الْإِسْلَام وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق. وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ رِوَايَة فِي هَذَا الحَدِيث «أَن فِي خَمْسَة وَعشْرين شَاة خمس شِيَاه» لَكِنَّهَا ضَعِيفَة ثمَّ قَالَ: رَوَاهَا سُلَيْمَان بن أَرقم وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث.(5/425)
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى رجل ذكر» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا.
الحَدِيث السَّادِس
عَن معَاذ بن جبل رضى الله عَنهُ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن فَأمرنِي أَن آخذ من كل أَرْبَعِينَ بقرة مُسِنَّة وَمن كل ثَلَاثِينَ تبيعًا» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ عَن معَاذ من وُجُوه أَحدهَا: من رِوَايَة أبي وَائِل عَنهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَلَفظ أبي دَاوُد «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما وَجهه إِلَى الْيمن أمره أَن يَأْخُذ من الْبَقر من (كل) ثَلَاثِينَ تبيعًا (أَو تبيعة) ، وَمن كل أَرْبَعِينَ مُسِنَّة، وَمن كل حالم - يَعْنِي محتلم - دِينَارا أَو عدله من (المعافر - ثِيَاب) تكون بِالْيمن -» وَلَفظ أَحْمد نَحوه، وَلَفظ النَّسَائِيّ: «أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين بَعَثَنِي إِلَى الْيمن أَن لَا آخذ من الْبَقر شَيْئا حَتَّى(5/426)
تبلغ ثَلَاثِينَ (فَإِذا بلغت ثَلَاثِينَ فَفِيهَا عجل تَابع جَذَعَة حَتَّى تبلغ أَرْبَعِينَ) فَإِذا بلغت أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بقرة مُسِنَّة» وَهَذِه الطَّرِيقَة مُنْقَطِعَة فَإِن أَبَا وَائِل إِنَّمَا أَخذه عَن مَسْرُوق عَن معَاذ كَمَا ستعلمه بعد.
الْوَجْه الثَّانِي: من رِوَايَة شَقِيق، عَن مَسْرُوق وَالْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم - وَهُوَ النَّخعِيّ - كِلَاهُمَا عَنهُ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ والدارمي وَلَفظ النَّسَائِيّ: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن وَأَمرَنِي أَن آخذ من كل أَرْبَعِينَ بقرة ثنية، وَمن كل ثَلَاثِينَ تبيعًا، وَمن كل حالم دِينَار أَو عدله معافر» وَلَفظ الدَّارمِيّ: «من كل أَرْبَعِينَ بقرة مُسِنَّة، وَمن كل ثَلَاثِينَ تبيعًا أَو تبيعة» قَالَ صَاحب «الإِمَام» : وَهَذِه الطَّرِيقَة - يَعْنِي طَريقَة إِبْرَاهِيم عَن - معَاذ لَا شكّ فِي انقطاعها.
الْوَجْه الثَّالِث: من رِوَايَة طَاوس عَنهُ رَوَاهُ مَالك وَلَفظه «أَن معَاذًا أَخذ من ثَلَاثِينَ بقرة تبيعًا، وَمن أَرْبَعِينَ بقرة مُسِنَّة، وَأَتَى بِمَا دون ذَلِك فأبي أَن يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا وَقَالَ: لم أسمع من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[فِيهِ] شَيْئا حَتَّى أَلْقَاهُ [فأسأله] فَتوفي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل أَن يقدم معَاذ بن جبل قَالَ ابْن عبد الْبر: حَدِيث طَاوس عِنْدهم عَن معَاذ غير مُتَّصِل وَيَقُولُونَ أَن طاوسًا لم يسمع من معَاذ شَيْئا وَقد رَوَاهُ قوم عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس عَن معَاذ، إِلَّا أَن الَّذين أَرْسلُوهُ أثبت من الَّذين أسندوه. وَقَالَ عبد(5/427)
الْحق: هَذَا هُوَ الصَّحِيح أَن معَاذًا قدم بَعْدَمَا توفّي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. (قلت: يُشِير إِلَى رِوَايَة الْبَزَّار أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) قَالَ لَهُ: «لَيْسَ فِيهَا شَيْء» ، قَالَ عبد الْحق: وَطَاوُس لم يلق معَاذًا. إِلَّا أَن الشَّافِعِي قَالَ: إِنَّه عَالم بِأَمْر معَاذ، وَإِن كَانَ لم يلقه عَلَى كَثْرَة من لقِيه مِمَّن أدْرك معَاذًا من أهل الْيمن. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: طَاوس وَإِن لم يلق معَاذًا إِلَّا أَنه يماني وسيرة معَاذ بَينهم مَشْهُورَة.
الْوَجْه الرَّابِع: من رِوَايَة يَحْيَى بن الحكم أَن معَاذًا قَالَ: «بَعَثَنِي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أصدق أهل الْيمن فَأمرنِي أَن آخذ من الْبَقر من كل ثَلَاثِينَ تبيعًا وَمن كل أَرْبَعِينَ مُسِنَّة ... » . الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، (عَن) مُعَاوِيَة (بن) عَمْرو، [عَن عبد الله بن وهب] ، عَن (حَيْوَة) ، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن سَلمَة بن (أُسَامَة) ، عَن يَحْيَى بِهِ.(5/428)
الْوَجْه الْخَامِس: من رِوَايَة مَسْرُوق عَنهُ رَوَاهَا الدَّارمِيّ وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَلَفظ الدَّارمِيّ: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن فَأمرنِي أَن آخذ من الْبَقر (من كل ثَلَاثِينَ) تبيعًا حوليًا، وَمن (كل) أَرْبَعِينَ بقرة مُسِنَّة» وَلَفظ التِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن فَأمرنِي أَن آخذ من كل ثَلَاثِينَ بقرة تبيعًا أَو تبيعة، وَمن كل أَرْبَعِينَ مُسِنَّة، وَمن كل حالم دِينَارا أَو عدله معافر» وَلَفظ أبي دَاوُد مثله وَقَالَ: «من كل حَال - يَعْنِي محتلمًا - دِينَارا أَو عدله (معافر) » المعافر ثِيَاب تكون بِالْيمن، وَلَفظ النَّسَائِيّ «أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين بَعَثَنِي إِلَى الْيمن أَن لَا آخذ من الْبَقر شَيْئا حَتَّى تبلغ ثَلَاثِينَ، فَإِذا بلغت ثَلَاثِينَ فَفِيهَا عجل تَابع جذع (أَو(5/429)
جَذَعَة) حَتَّى تبلغ أَرْبَعِينَ، فَإِذا بلغت أَرْبَعِينَ بقرة فَفِيهَا مُسِنَّة» . وَلَفظ ابْن مَاجَه «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن، وَأَمرَنِي أَن آخذ من الْبَقر من كل أَرْبَعِينَ مُسِنَّة، وَمن كل ثَلَاثِينَ (تبيع) أَو تبيعة» وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ كَلَفْظِ التِّرْمِذِيّ وَفِي لفظ (لَهُ) «من كل ثَلَاثِينَ بقرة (تبيع) ، وَمن كل أَرْبَعِينَ مُسِنَّة، وَمن كل حالم دِينَارا أَو عدله معافر» وَلَفظ الْحَاكِم عَن معَاذ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَعثه إِلَى الْيمن وَأمره أَن يَأْخُذ من الْبَقر من كل ثَلَاثِينَ بقرة تبيعًا، وَمن كل أَرْبَعِينَ بقرة مُسِنَّة، وَمن كل حالم دِينَارا أَو عدله معافر» وَفِي لفظ للبيهقي «وَأَمرَنِي أَن آخذ من كل أَرْبَعِينَ بقرة (ثنية) ، وَمن كل ثَلَاثِينَ تبيعًا أَو تبيعة» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن قَالَ: وَرُوِيَ مُرْسلا وَهُوَ أصح. وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : أَن الْمُرْسل أصح. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث (صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : إِن كَانَ) مَسْرُوق سمع من معَاذ فَالْأَمْر كَمَا قَالَ الْحَاكِم. وَقَالَ (أَبُو مُحَمَّد) ابْن حزم فِي «الْمُحَلَّى» لما ذكر حَدِيث أبي وَائِل وَإِبْرَاهِيم: كِلَاهُمَا(5/430)
عَن مَسْرُوق عَن معَاذ «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن، وَأَمرَنِي أَن آخذ من كل ثَلَاثِينَ من الْبَقر تبيعًا وَمن كل أَرْبَعِينَ (بقرة) مُسِنَّة - وَقَالَ بَعضهم: ثنية» وَذكر أَن مسروقًالم يلق معَاذًا، إِن قيل إِن مسروقًا وَإِن كَانَ لم يلق معَاذًا فقد كَانَ بِالْيمن رجلا أَيَّام (كَون) معَاذ هُنَالك وَشَاهد أَحْكَامه فَهَذَا عِنْده عَن معَاذ ينْقل الكافة قُلْنَا: لوأن مسروقًا ذكر أَن الكافة أخْبرته بذلك عَن معَاذ لقامت بِهِ الْحجَّة بذلك، فمسروق هُوَ الثِّقَة الإِمَام غير الْمُتَّهم لكنه لم يقل قطّ هَذَا، وَلَا يحل أَن يُقَول مَسْرُوق مَا لم يقل فيكذب عَلَيْهِ، وَلَكِن لما أمكن فِي ظَاهر الْأَمر أَن يكون عِنْد مَسْرُوق هَذَا الْخَبَر عَن تَوَاتر (أَو) عَن ثِقَة أَو عَن من لَا تجوز الرِّوَايَة عَنهُ، لم يجز الْقطع فِي دين (الله) وَلَا عَلَى رَسُوله بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ أكذب الحَدِيث، وَنحن نقطع أَن هَذَا الْخَبَر لَو كَانَ عِنْد مَسْرُوق عَن ثِقَة لما كتمه، وَلَو كَانَ صَحِيحا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا طمسه الله تَعَالَى (المتكفل) بِحِفْظ الذّكر الْمنزل عَلَى نبيه عَلَيْهِ السَّلَام المتم لدينِهِ هَذَا الطمس، حَتَّى لَا يَأْتِي إِلَّا من طَرِيق واهية هَذَا لَفظه بِحُرُوفِهِ. وَنقل عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» (عَن أبي عمر) أَنه قَالَ: مَسْرُوق لم يلق معَاذًا، وغلطه ابْن الْقطَّان فِي ذَلِك وَقَالَ: لم يقل أَبُو عمر هَذَا قطّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «تمهيده» : إِن إِسْنَاده(5/431)
مُتَّصِل صَحِيح ثَابت، وَقَالَ فِي «استذكاره» : أَن الحَدِيث (عَن مَسْرُوق) عَن معَاذ ثَابت مُتَّصِل، قَالَ: وَالَّذِي قَالَ أَنه مُنْقَطع هُوَ ابْن حزم، فَقَالَ (فِي) أول الْمَسْأَلَة: إِنَّه حَدِيث مُنْقَطع وَأَن مسروقًا لم يلق معَاذًا واستدركه فِي آخر الْمَسْأَلَة فَقَالَ: وجدنَا حَدِيث مَسْرُوق إِنَّمَا ذكر فِيهِ فعل معَاذ بِالْيمن فِي زَكَاة الْبَقر، ومسروق بِلَا شكّ عندنَا أدْرك معَاذًا بسنه وعقله، [وَأدْركَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ رجل] ، وَشَاهد أَحْكَامه يَقِينا، وَأَفْتَى فِي أَيَّام عُمر وَهُوَ رجل، وَكَانَ بِالْيمن أَيَّام معَاذ يُشَاهد أَحْكَامه هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ همداني النّسَب يماني الدَّار، فصح أَن مسروقًا وَإِن لم يسمعهُ من معَاذ فَإِنَّهُ عِنْده بِنَقْل الكافة من أهل بَلَده كَذَلِك عَن معَاذ فِي أَخذه لذَلِك عَن عهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الكافة هَذَا آخر كَلَام ابْن حزم عَلَى مَا نَقله ابْن الْقطَّان عَنهُ قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلم أقل بعد أَن مسروقًا سمع من معَاذ وَإِنَّمَا أَقُول إِنَّه يجب عَلَى أصولهم أَن يحكم بحَديثه عَن معَاذ، بِحكم حَدِيث المتعاصرين الَّذين لم يعلم انْتِفَاء اللِّقَاء بَينهمَا، فَإِن الحكم فِيهِ أَن يحكم لَهُ بالاتصال عِنْد الْجُمْهُور. وَشرط البُخَارِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ أَن يعلم اجْتِمَاعهمَا، (وَلَو) مرّة وَاحِدَة (فهما) - أَعنِي البُخَارِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ - إِذا لم يعلمَا لِقَاء أَحدهمَا(5/432)
للْآخر لَا يَقُولَانِ فِي حَدِيث أَحدهمَا عَن الآخر مُنْقَطع؛ إِنَّمَا يَقُولَانِ (لم يثبت) سَماع فلَان من فلَان، فَإِذن لَيْسَ فِي حَدِيث المتعاصرين إِلَّا رأيان، أَحدهمَا: أَنه مَحْمُول عَلَى الِاتِّصَال، وَالْآخر: أَن يُقَال: لم يعلم اتِّصَال مَا بَينهمَا، وَأما الثَّالِث: وَهُوَ أَنه مُنْقَطع فَلَا. هَذَا آخر كَلَام ابْن الْقطَّان.
وَقد أخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه كَمَا مَضَى، وَمن شَرطه الِاتِّصَال.
وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ فَقَالَ: (إِن من (رَوَاهُ) عَن أبي وَائِل) ، (عَن مَسْرُوق) ، عَن معَاذ.
وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: صَلَّى مَسْرُوق خلف أبي بكر و (لَقِي) عمر وعليًّا وَسَمَّى جمَاعَة من الصَّحَابَة.
وَكَانَت وَفَاة معَاذ سنة ثَمَانِي عشرَة، فِي طاعون عمواس، فالسن واللقاء مُحْتَمل لإدراك مَسْرُوق معَاذًا، وَالِاخْتِلَاف السائر فِيهِ لَا يضرّهُ.
تَنْبِيهَات: أَحدهَا: رَوَى معمر، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي وَائِل، عَن مَسْرُوق، عَن معَاذ. الحَدِيث، وَفِيه: «وَمن كل حالم أَو حالمة دِينَار» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: معمر إِذا رَوَى عَن غير الزُّهْرِيّ يغلط كثيرا، يُشِير(5/433)
بذلك إِلَى غلطه فِي زِيَادَة قَوْله: «أَو حالمة» .
ثَانِيهَا: قَالَ عبد الْحق: لَيْسَ فِي (زَكَاة) الْبَقر حَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته.
قلت: أَي فِي النصب، لَا فِي الأَصْل؛ فَإِن فِي الصَّحِيح من حَدِيث أبي ذَر: «مَا من صَاحب إبل وَلَا بقر وَلَا غنم لَا يُؤَدِّي زَكَاتهَا ... » الحَدِيث.
وَقَالَ (ابْن حزم) : صَحَّ الْإِجْمَاع الْمُتَيَقن الْمَقْطُوع بِهِ الَّذِي لَا اخْتِلَاف فِيهِ أَن فِي كل خمسين بقرة بقرة، فَوَجَبَ الْأَخْذ بِهَذَا، وَمَا دون ذَلِك فمختلف فِيهِ، وَلَا نَص فِي إِيجَابه.
وَاعْتَرضهُ صَاحب «الإِمَام» بِحَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فِي كل ثَلَاثِينَ (باقورة تبيع جذع أَو جَذَعَة، وَفِي كل أَرْبَعِينَ) باقورة بقرة» . قَالَ: وَهِي مُتَّصِلَة ظَاهرا فَإِذا صحت عَن الزُّهْرِيّ (فَيعْمل) بهَا.
قلت: حَتَّى يَصح عَنهُ، وستعلم مقالات الْحفاظ فِيهِ فِي الدِّيات - إِن(5/434)
شَاءَ الله تَعَالَى - فَإِن الرَّافِعِيّ تعرض لَهُ هُنَاكَ.
قلت: وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَزَّار أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس مثل حَدِيث معَاذ، لَكِن فِي إِسْنَاده بَقِيَّة عَن المَسْعُودِيّ، مُدَلّس ومختلط.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «الاستذكار» فِي بَاب صَدَقَة الْمَاشِيَة: لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن السّنة فِي زَكَاة الْبَقر عَلَى مَا (فِي) حَدِيث معَاذ هَذَا، وَأَنه النّصاب الْمجمع عَلَيْهِ فِيهَا.
ثَالِثهَا: الْبَقر اسْم جنس، يَقع عَلَى الذّكر وَالْأُنْثَى، واحدتها بقرة وباقورة، وَهُوَ مُشْتَقّ من بقرت الشَّيْء إِذا شققته؛ لِأَنَّهَا تشق الأَرْض بالحراثة.
وَقد تَكَلَّمت عَلَى لفظ الْعدْل والمعافر فِي تخريجي لأحاديث «الْمُهَذّب» فَرَاجعه مِنْهُ.
رَابِعهَا: قَالَ الرَّافِعِيّ عَن «نِهَايَة الإِمَام» : إِنَّه ورد فِي الْأَخْبَار الْجذع مَكَان التبيع.
قلت: وَقد (سلف) : «عجل تبيع جذع أَو جَذَعَة» وَفِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس (السالفة) «لما بعث النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - معَاذًا إِلَى الْيمن أمره أَن يَأْخُذ من كل ثَلَاثِينَ من الْبَقر تبيعًا أَو تبيعة جذعًا أَو جَذَعَة، وَمن كل أَرْبَعِينَ(5/435)
(بقرة) بقرة مُسِنَّة» .
الحَدِيث السَّابع
عَن أنس بن مَالك «أَن أَبَا بكر كتب لَهُ فَرِيضَة الصَّدَقَة، الَّتِي أَمر الله - تَعَالَى - رَسُوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَفِي صَدَقَة الْغنم فِي سائمتها ... » الحَدِيث.
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه قَرِيبا بِطُولِهِ.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن سُوَيْد بن غَفلَة؛ قَالَ: سَمِعت مُصدق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالجذع من الضَّأْن، والثنية من الْمعز» وَفِي رِوَايَة: أَن مُصدق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا حَقنا فِي الْجَذعَة من الضَّأْن والثنية من الْمعز» . وَفِي رِوَايَة: «أمرنَا بأخذها» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا لنا عَلَى مَالك، فِي عدم إِجْزَاء الْجَذعَة من الْمعز، وَاشْتِرَاط الثَّنية، (وَعَلَى) أبي حنيفَة (فِي) إِيجَاب الثَّنية فِي النصابين، وَهُوَ حَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ بِدُونِ ذكر الْجَذعَة والثنية، وَهُوَ مَوضِع الْحَاجة مِنْهُ.(5/436)
وَلَفظ أَحْمد: عَن هِلَال بن خباب، عَن ميسرَة أبي صَالح، عَن سُوَيْد بن غَفلَة؛ قَالَ: «أَتَانَا مُصدق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَجَلَست إِلَى جنبه، فَسَمعته يَقُول: إِن فِي عهدي أَن لَا آخذ من راضع لبن (شَيْئا) [وَلَا يجمع بَين متفرق وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع] وَأَتَاهُ رجل بِنَاقَة (كوماء) ، فَقَالَ: (خُذ هَذِه) ، فأبي أَن (يقبلهَا) » .
وَلَفظ أبي دَاوُد: «فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، أَن لَا تَأْخُذ من راضع لبن، (فَعمد) رجل مِنْهُم إِلَى نَاقَة (كوماء) وَهِي عَظِيمَة السَّنام، فَأَبَى أَن يقبلهَا ... » الحَدِيث بِطُولِهِ.
وَلَفظ النَّسَائِيّ: «إِن فِي عهدي أَن لَا نَأْخُذ راضع لبن، (فَأَتَاهُ) رجل بِنَاقَة (كوماء) ، فَقَالَ: خُذْهَا، فأباها» .
وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ كَلَفْظِ أَحْمد، بِزِيَادَة: «وَلَا يجمع بَين متفرق، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع» .
وَهَذِه فِي أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ كَرِوَايَة أبي دَاوُد، وكرواية النَّسَائِيّ.
ومداره عَلَى هِلَال بن خَبَّاب، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَتَشْديد الْبَاء(5/437)
الْمُوَحدَة، وَثَّقَهُ المزكيان أَحْمد وَيَحْيَى. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: ثِقَة صَدُوق، وَكَانَ يُقَال تغيّر قبل مَوته من كبر السن. قَالَ يَحْيَى الْقطَّان: أَتَيْته وَقد تغير قبل مَوته. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» (وَقَالَ: يُخطئ) ، وَذكره فِي «ضُعَفَائِهِ» فَقَالَ: اخْتَلَط فِي آخر عمره، وَكَانَ يحدث عَلَى الشَّيْء بالتوهم لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا انْفَرد، وَضَعفه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» (كَذَلِك) ، وَلَكِن حسنه الْمُنْذِرِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي «خلاصته» و «مَجْمُوعه» .
وَلم يتفرد هِلَال بِهِ، فقد رَوَاهُ ابْن مَاجَه، من حَدِيث شريك، عَن عُثْمَان الثَّقَفِيّ، عَن أبي لَيْلَى الْكِنْدِيّ، عَن سُوَيْد.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي «سنَنَيْهِمَا» ، وَلَفْظهمْ: عَن سُوَيْد؛ قَالَ: « (أَتَى) مُصدق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَأخذت بِيَدِهِ، وَأخذ بيَدي، فَقَرَأت فِي عَهده: أَن لَا يجمع بَين متفرق، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع، خشيَة الصَّدَقَة. قَالَ: فَأَتَاهُ رجل بِنَاقَة عَظِيمَة ململمة فَأَبَى أَن يَأْخُذهَا ... » الحَدِيث.(5/438)
وَأخرجه أَبُو دَاوُد كَذَلِك فِي رِوَايَة لَهُ.
وَنقل ابْن عبد الْبر عَن ابْن معِين أَنه سُئل عَن أبي لَيْلَى الْكِنْدِيّ، فَقَالَ: كَانَ ضَعِيفا.
والململمة: المستديرة؛ قَالَه (الْهَرَوِيّ)
قلت: وَسَيَأْتِي ذكر الْجَذعَة والثنية فِي آخر الْبَاب، عَن عمر رضى الله عَنهُ مَوْقُوفا ثمَّ رَأَيْت بعد ذَلِك ذكرهمَا مَرْفُوعا فِي حَدِيث آخر؛ قَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» : نَا مُوسَى بن هَارُون، نَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الْحزَامِي، نَا عبد الله بن مُوسَى التَّيْمِيّ، عَن أُسَامَة بن زيد، عَن أبي [مرَارَة] الْجُهَنِيّ، عَن ابْن سعر) الدؤَلِي، عَن أَبِيه؛ قَالَ: «كنت فِي نَاحيَة [مَكَّة] فجَاء رجل فَسلم، وَأَنا بَين ظهراني غنمي، فَقلت: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا (رَسُول) رَسُول الله. فَقلت: مرْحَبًا برَسُول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأهلا، فَمَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أُرِيد (صَدَقَة) غنمك. قَالَ: فَجِئْته بِشَاة ماخض حِين ولدت، فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا قَالَ: لَيْسَ حَقنا فِي هَذِه. قَالَ: فَفِيمَ(5/439)
حَقك؟ قَالَ: فِي الثَّنية والجذعة اللجبة» (واللجبة الشَّاة قل لَبنهَا وَكثر عَلَى الضِّدّ، وخاص بالمعز، وَالْجمع لجاب ولجبات) .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : نَا (الْحسن) بن عَلّي، نَا وَكِيع، عَن زَكَرِيَّا (بن إِسْحَاق) الْمَكِّيّ عَن عَمْرو بن أبي سُفْيَان الجُمَحِي، عَن مُسلم بن (ثفنة) الْيَشْكُرِي؛ قَالَ: «اسْتعْمل ابْن عَلْقَمَة أبي عَلَى عرافة قومه، فَأمره أَن يُصدقهُمْ قَالَ: فَبَعَثَنِي أبي فِي طَائِفَة مِنْهُم، فَأتيت شَيخا كَبِيرا، يُقَال لَهُ (سعر) ، فَقلت: إِن أبي بَعَثَنِي إِلَيْك، يَعْنِي لأصدقك، قَالَ: ابْن أخي ... » فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: «قلت: فَأَي (شَيْء) تأخذان؟ قَالَا: عنَاقًا جَذَعَة أَو ثنية» .
وَقَالَ أَحْمد نَا روح، نَا زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق، قَالَ: حَدثنِي عَمْرو بن أبي سُفْيَان، عَن مُسلم بن شُعْبَة، عَن سعر، فَذكره كَذَلِك.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا، وَقَالَ: لَا أعلم أحدا تَابع وكيعًا فِي قَوْله(5/440)
ابْن ثفنة. وَقَالَ أَحْمد: أَخطَأ فِيهِ وَكِيع، حَدثنَا روح فَقَالَ: مُسلم بن شُعْبَة. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وهم وَكِيع فِي ذَلِك، وَالصَّوَاب مُسلم بن شُعْبَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِنَّه الصَّوَاب (أَيْضا) ، قَالَه يَحْيَى بن معِين، وَغَيره من الْحفاظ.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي خمس من الْإِبِل شَاة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، كَمَا تقدم بِطُولِهِ (فِي) أول الْبَاب، وَقد فرق الرَّافِعِيّ مِنْهُ قطعا، وَهُوَ محَال عَلَى مَا ذكرنَا أَولا (وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق) .
الحَدِيث الْعَاشِر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إياك وكرائم أَمْوَالهم» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما؛ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لِمعَاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما بَعثه إِلَى الْيمن: إِنَّك ستأتي قوما أهل كتاب، فَإِذا جئتهم فادعهم إِلَى أَن يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَإِن هم أطاعوا لَك (بذلك) فَأخْبرهُم(5/441)
(أَن الله قد فرض عَلَيْهِم خمس صلوَات فِي كل يَوْم وَلَيْلَة، فَإِن هم أطاعوا لَك بذلك فَأخْبرهُم) أَن الله قد فرض عَلَيْهِم صَدَقَة؛ تؤاخذ من أغنيائهم، فَترد (عَلَى) فقرائهم، فَإِن هم أطاعوا لَك بذلك، فإياك وكرائم أَمْوَالهم، وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَينه وَبَين الله حجاب» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «إِنَّك تقدم عَلَى قوم أهل كتاب، فَلْيَكُن أول مَا تدعوهم إِلَيْهِ عبَادَة الله، فَإِذا عرفُوا الله فَأخْبرهُم أَن الله قد فرض عَلَيْهِم خمس صلوَات» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن ابْن عَبَّاس، عَن معَاذ بن جبل، قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ فَقَالَ: إِنَّك تَأتي قوما من أهل الْكتاب، فادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ... » . وَذكر الحَدِيث بِنَحْوِهِ.
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «زَكَاة تُؤْخَذ من أَمْوَالهم، فَترد عَلَى فقرائهم» . كرائم المَال: خِيَاره.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب وَأما آثاره؛ فاثنان:
الأول: «أَن أَبَا بكر الصّديق رضى الله عَنهُ قَاتل مانعي الزَّكَاة» وَهَذَا أثر صحيحٌ، اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ؛(5/442)
قَالَ: «لما توفّي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، واستخلف أَبُو بكر، وَكفر من كفر من الْعَرَب؛ قَالَ عمر: كَيفَ تقَاتل النَّاس وَقد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله، فَمن قَالَهَا فقد عصم مني مَاله وَنَفسه إِلَّا بِحقِّهِ، وحسابه عَلَى الله؟ فَقَالَ أَبُو بكر: (وَالله) لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وَالله لَو مَنَعُونِي عقَالًا كَانُوا يؤدونه إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لقاتلتهم عَلَى مَنعه قَالَ عمر: فوَاللَّه مَا هُوَ (إِلَّا) أَن رَأَيْت الله عَزَّ وَجَلَّ قد شرح صدر أبي بكر لِلْقِتَالِ (فَعرفت) أَنه الْحق» .
وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: «عنَاقًا» بدل «عقَالًا» .
فَائِدَة: العقال قيل: هُوَ صَدَقَة (عَام) ، وَقيل: الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير، وَقيل: إِنَّمَا أَرَادَ الشَّيْء التافه الحقير، فَضرب العقال مثلا لَهُ، حَكَاهُ صَاحب «المستعذب عَلَى الْمُهَذّب» .
والعناق: الْأُنْثَى من ولد الْمعز، وَهِي الَّتِي رعت وقويت، وَهِي فَوق الجفرة وَهِي الَّتِي لَهَا أَرْبَعَة، وَدون العنز، وَهِي الَّتِي تمّ لَهَا حول؛ وَكَانَ قتال الصّديق أهل الرِّدَّة فِي أول خِلَافَته، سنة إِحْدَى عشرَة من الْهِجْرَة.
الْأَثر الثَّانِي: «أَن عمر رضى الله عَنهُ قَالَ لساعيه سُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِيّ: اعْتد عَلَيْهِم بالسخلة الَّتِي يروح بهَا الرَّاعِي عَلَى يَده وَلَا تأخذها، وَلَا تَأْخُذ الأكولة، والرُّبَا، والماخض، وفحل الْغنم، وَخذ الْجَذعَة والثنية، فَذَلِك عدل بَين غذَاء المَال وخياره» .(5/443)
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم عَنهُ، عَن ثَوْر بن زيد [الديلِي] ، عَن ابْن لعبد الله بن سُفْيَان الثَّقَفِيّ، عَن جده سُفْيَان بن عبد الله «أَن عمر بن الْخطاب بَعثه مُصدقا، فَكَانَ يعد عَلَى النَّاس السخل، (فَقَالُوا) : تعد علينا السخل وَلَا تَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا؟ فَلَمَّا قدم عَلَى عمر بن الْخطاب ذكر ذَلِك لَهُ فَقَالَ عمر: نعم؛ تعد عَلَيْهِم السخلة يحملهَا الرَّاعِي وَلَا يَأْخُذهَا (الْمُصدق) وَلَا يَأْخُذ الأكولة، وَلَا الرُّبى وَلَا الماخض، وَلَا فَحل الْغنم، وَيَأْخُذ الْجَذعَة والثنية، وَذَلِكَ عدل بَين أدنَى المَال وخياره» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن سُفْيَان، نَا بشر بن عَاصِم، عَن أَبِيه، «أَن عمر اسْتعْمل (أَبَاهُ) سُفْيَان بن عبد الله عَلَى الطَّائِف ومخالفيها، فَخرج مُصدقا فاعتد عَلَيْهِم بالغذاء وَلم يَأْخُذهُ مِنْهُم، فَقَالُوا (لَهُ) : إِن كنت تَعْتَد علينا بالغذاء (فَخذ مِنْهُ) فَأمْسك حَتَّى لَقِي عمر، فَقَالَ لَهُ:(5/444)
(اعْلَم أَنهم) يَزْعمُونَ أَنا نظلمهم، نعتد عَلَيْهِم بالغذاء وَلَا نَأْخُذهُ مِنْهُم، فَقَالَ لَهُ عمر: اعْتد عَلَيْهِم بالغذاء حَتَّى بالسخلة يروح بهَا الرَّاعِي عَلَى يَده، وَقل لَهُم: لَا آخذ مِنْكُم الربى، وَلَا الماخض، وَلَا ذَات الدّرّ، وَلَا الشَّاة الأكولة، وَلَا فَحل الْغنم، وَخذ العناق الْجَذعَة، والثنية، فَذَلِك عدل بَين غذَاء المَال وخياره» .
قلت: وَله طَرِيق ثَالِث من حَدِيث أَيُّوب، عَن عِكْرِمَة بن خَالِد، عَن سُفْيَان.
قَالَ ابْن حزم: لم يرو هَذَا عَن عمر من طَرِيق مُتَّصِلَة، إِلَّا من طَرِيقين؛ إِحْدَاهمَا: من طَرِيق بشر بن عَاصِم بن سُفْيَان، عَن أَبِيه، وَكِلَاهُمَا غير مَعْرُوف، أَو من طَرِيق ابْن لعبد الله، لم يسم. وَالثَّانيَِة: من طَرِيق عِكْرِمَة بن خَالِد، وَهُوَ ضَعِيف.
وَوَقع فِي «الْكِفَايَة» أَن اسْم هَذَا السَّاعِي سعد بن رستم، وَهُوَ غَرِيب، وَالصَّوَاب سُفْيَان كَمَا سلف، وَهُوَ مَا ذكره (صَاحب) الْحَاوِي أَيْضا.
فَائِدَة: الأكولة: بِفَتْح الْهمزَة، الشَّاة الْمعدة للْأَكْل المسمنة، فِي قَول أبي عبيد.
وَقَالَ شمر: أكولة غنم الرجل الْخصي والهرمة: العاقر.(5/445)
«والرُبّا» : بِضَم الرَّاء وَتَشْديد الْبَاء، وَجَمعهَا أَرْبَاب، والمصدر ربَاب بِكَسْرِهَا.
قَالَ الْجَوْهَرِي: قَالَ الْأمَوِي: هِيَ ربى من وِلَادَتهَا إِلَى شَهْرَيْن، قَالَ أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ: الرُبى من الْمعز، وَقَالَ غَيره: من الْمعز والضأن، وَرُبمَا جَاءَت فِي الْإِبِل. والماخض: الْحَامِل. والغِذا بالغين الْمَكْسُورَة الْمُعْجَمَة ثمَّ ذال مُعْجمَة أَيْضا وَالْمدّ - جمع غذي بتَشْديد الْيَاء السخال: الصغار، (قَالَه) الرَّافِعِيّ: وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه الشَّيْء الرَّدِيء والسخلة تقع عَلَى الذّكر وَالْأُنْثَى من أَوْلَاد الْمعز سَاعَة مَا تضعه الشَّاة، ضأنًا كَانَت أَو معزًا، وَالْجمع سخال وسخل.
وَذَات الدّرّ: مَعْنَاهُ ذَات اللَّبن.
وَقَوله: اعْتد، هُوَ بِفَتْح الدَّال عَلَى الْأَمر، خطاب من عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لساعيه سُفْيَان الْمَذْكُور، وَهُوَ سُفْيَان بن عبد الله بن أبي ربيعَة الثَّقَفِيّ الطَّائِفِي، كَانَ عَامل عمر عَلَى الطَّائِف، وَهُوَ صحأبي.(5/446)
بَاب صَدَقَة الخلطاء
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَلَاثَة أَحَادِيث.
الأول وَالثَّانِي
حَدِيث أنس وَابْن عمر، وَغَيرهمَا، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يجمع بَين مفترق، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع، خشيَة الصَّدَقَة، وَمَا كَانَ من خليطين ... » . الحَدِيث.
هَذَانِ الحديثان سلفا فِي الْبَاب قبله بطولهما.
وَقَوله: وَغَيرهمَا، أَرَادَ بِهِ حَدِيث (عَمْرو) بن حزم؛ أخرجه ابْن حبَان وَالْحَاكِم، كَمَا سَيَأْتِي فِي (الْجِنَايَات) - إِن شَاءَ الله - وَلَفظه: «وَلَا يجمع بَين مفترق، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع، خشيَة الصَّدَقَة، وَمَا أَخذ من الخليطين، فانهما يتراجعان (بَينهمَا) بِالسَّوِيَّةِ» .
الحَدِيث الثَّالِث
عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَا يجمع بَين مفترق، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع، خشيَة الصَّدَقَة، والخليطان مَا اجْتمعَا فِي الْحَوْض والفحل والراعي» .(5/447)
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، من حَدِيث الْوَلِيد، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن السَّائِب (بن يزِيد) ؛ قَالَ: «صَحِبت سعد بن أبي وَقاص؛ فَذكر كلَاما، وَقَالَ (أَلا) إِنِّي سمعته ذَات يَوْم يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا يفرق بَين مُجْتَمع، وَلَا يجمع بَين مفترق، والخليطان مَا (اجْتمع) عَلَى الْحَوْض والراعي والفحل» .
وَرَوَاهُ كَذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ؛ وَقَالَ: أجمع أَصْحَاب الحَدِيث عَلَى ضعف ابْن لَهِيعَة وَترك الِاحْتِجَاج بِمَا ينْفَرد بِهِ وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث بَاطِل عِنْدِي، وَلَا أعلم أحدا رَوَاهُ (غير) ابْن لَهِيعَة. قَالَ: وَيروَى هَذَا من كَلَام سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَقد أوضح ضعفه الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه «الْفَصْل للوصل المدرج فِي النَّقْل» فأجاد فِيهِ وشفى فَذكره بِإِسْنَادِهِ كَذَلِك إِلَّا(5/448)
أَنه عَن السَّائِب «صَحِبت سَعْدا زَمَانا فَلم اسْمَعْهُ يحدث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا ... » فَذكره، (ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق آخر عَن السَّائِب: «صَحِبت سَعْدا عشْرين سنة مَا سمعته يَقُول قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا فِي حَدِيث وَاحِد ... » فَذكره) . ثمَّ قَالَ: لم يسمع ابْن لَهِيعَة هَذَا الحَدِيث من يَحْيَى بن سعيد إِنَّمَا كَانَ يرويهِ عَن كِتَابه إِلَيْهِ ذكره أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام، عَن أبي الْأسود، عَن ابْن لَهِيعَة قَالَ: كتب إِلَيّ (يَحْيَى) بن سعيد أَنه سمع السَّائِب بن يزِيد يحدث عَن سعد عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الخليطان مَا اجْتمعَا عَلَى الْفَحْل والمرعى والحوض» قَالَ أَبُو الْأسود: وكل شَيْء حدث بِهِ ابْن لَهِيعَة عَن يَحْيَى بن سعيد فَإِنَّمَا هُوَ كتاب كتب (إِلَيْهِ) قَالَ الْخَطِيب: وَمَتنه لَا يثبت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام يَحْيَى بن سعيد (قَالَ ابْن (أبي) مَرْيَم: لم يسمع ابْن لَهِيعَة من يَحْيَى بن سعيد) شَيْئا وَلَكِن كتب إِلَيْهِ يَحْيَى وَكَانَ فِيمَا كتب إِلَيْهِ يَحْيَى هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث السَّائِب صَحِبت ابْن أبي وَقاص كَذَا وَكَذَا سنة فَلم أسمعهُ يحدث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا حَدِيثا (وَاحِدًا) وعقبه عَلَى إثره «لَا يفرق بَين مُجْتَمع وَلَا يجمع بَين متفرق فِي الصَّدَقَة» (فَظن ابْن لَهِيعَة أَنه من حَدِيث سعد يَعْنِي بقوله: «إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا لايفرق بَين مُجْتَمع وَلَا يجمع بَين متفرق) (فِي الصَّدَقَة) » ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا كلَاما مُبْتَدأ من الْمسَائِل الَّتِي كتب بهَا إِلَيْهِ. قَالَ يَحْيَى بن معِين: الحَدِيث الَّذِي حدث بِهِ(5/449)
ابْن لَهِيعَة، عَن يَحْيَى (بن) سعيد، عَن السَّائِب «صَحِبت طَلْحَة بن عبيد الله وسعدًا فَلم أسمعهم يحدثُونَ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالُوا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا يجمع (بَين) متفرق» بَاطِل إِنَّمَا هُوَ من قَول يَحْيَى بن سعيد «لَا يفرق بَين مُجْتَمع وَلَا يجمع بَين متفرق» هَكَذَا حدث بِهِ اللَّيْث بن (سعد) وَغَيره قَالَ الْخَطِيب: وَقد رَوَى سُلَيْمَان بن بِلَال وَحَمَّاد بن زيد، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن السَّائِب بن يزِيد، عَن سعد هَذَا الحَدِيث، فَلم يذكرَا فصل الْجمع و (لَا) التَّفْرِيق، وَلَا ذكرا الخليطين، وَرَوَى اللَّيْث بن سعد عَن (يَحْيَى بن سعيد فِي) الخليطين مثل رِوَايَة (ابْن) لَهِيعَة غير أَن اللَّيْث جعله من قَول يَحْيَى بن سعيد ثمَّ ذكره بِإِسْنَادِهِ كَذَلِك قَالَ أَبُو عبيد: لم يسْندهُ اللَّيْث.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة «الرَّعْي» بدل «الرَّاعِي» قلت: رَوَاهَا كَذَلِك الْخَطِيب فِي الْكتاب الْمَذْكُور، وَلَفظه: «الْمرْعَى» بدل «الرَّعْي» .
قَالَ النَّوَوِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَابْن الصّلاح (قبله) فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : رَوَى «الرَّعْي» بِلَفْظ الْمصدر، والراعي عَلَى اسْم الْفَاعِل.
وَذكر الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثا فِي الْبَاب قبله، كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر(5/450)
فِيهِ، وَهُوَ النَّهْي عَن الْمَرِيضَة والمعيبة، ذكره فِي الْكَلَام عَلَى رداءة النَّوْع، وَهُوَ كَمَا قَالَ. قَالَ أَبُو دَاوُد: (قَرَأت) فِي كتاب عبد الله بن سَالم بحمص، عِنْد آل عَمْرو بن الْحَارِث الْحِمصِي، عَن الزبيدِيّ، قَالَ: وَأَخْبرنِي يَحْيَى بن جَابر، عَن جُبَير بن نفير، عَن عبد الله بن مُعَاوِيَة الغاضري، من غاضرة قيس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ثَلَاث من فعلهن فقد طعم طعم الْإِيمَان، من عبد الله وَحده وَأَنه لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأعْطَى زَكَاة مَاله، طيبَة بهَا نَفسه، رافدة عَلَيْهِ كل عَام، وَلم يُعْط الهرمة وَلَا (الدرنة) وَلَا الْمَرِيضَة وَلَا الشَّرْط اللئيمة وَلَكِن (من) وسط أَمْوَالكُم، فَإِن الله لم يسألكم خَيره، وَلم يَأْمُركُمْ بشره» .
وجوده الطَّبَرَانِيّ بِزِيَادَة عبد الرَّحْمَن بن جُبَير بن نفير، عَن أَبِيه وأسقطه أَبُو دَاوُد، وَفِي آخِره: «وزكى عَن نَفسه، فَقَالَ رجل: مَا تَزْكِيَة الْمَرْء (عَن) نَفسه يَا رَسُول الله؟ قَالَ: يعلم أَن الله مَعَه حَيْثُ مَا كَانَ» (قَوْله: رافدة هِيَ فاعلة) من الرفد رفدته أرفده إِذا أعنته: أَي تعينه نَفسه عَلَى أَدَائِهَا قَالَه ابْن الْأَثِير، قَالَ: وَمِنْه حَدِيث عبَادَة: «أَلا ترَوْنَ أَنِّي لَا أقوم إِلَّا رافدًا» أَي إِلَّا أَن أعَان عَلَى الْقيام، وَيروَى بِفَتْح الرَّاء، وَهُوَ الْمصدر.(5/451)
والغاضر: بالغين وَالضَّاد المعجمتين، وَهِي مُشْتَقّ من الغضارة (وَهِي النضارة) وَالشّرط: بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمُهْملَة مَعًا أَي: رذال المَال وَالنَّاس وَالْخَيْل، يُقَال: الْغنم أَشْرَاط المَال.(5/452)
بَاب لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا
أما الْأَحَادِيث فثمانية:
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» .
هَذَا الحَدِيث مريٌّ من طرق (أحْسنهَا) من حَدِيث عَلّي رضى الله عَنهُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، من حَدِيث الْحَارِث الْأَعْوَر وَعَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، والْحَارث ضعفه الْجُمْهُور وَوَثَّقَهُ بَعضهم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب فرض التَّشَهُّد: هُوَ غير مُحْتَج بِهِ، وَكَانَ ابْن الْمُبَارك يُضعفهُ.(5/453)
وَعَاصِم وَثَّقَهُ ابْن الْمَدِينِيّ وَابْن معِين وَالنَّسَائِيّ فَقَالَ فِي تَمْيِيزه: لَا بَأْس بِهِ، وَالْحَاكِم يصحح حَدِيثه، وَأما ابْن عدي وَابْن حبَان فضعفاه، وَاعْتمد عَلَيْهِ صَاحب «الإِمَام» لأجل عَاصِم.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» : رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد حسن (أَو صَحِيح) وَخَالف فِي «شَرحه للمهذب» فَقَالَ: إِنَّه حَدِيث ضَعِيف. قَالَ: وَلذَلِك احْتج صَاحب «الْمُهَذّب» فِي الْمَسْأَلَة بالآثار المنتشرة عَن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم دونه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الِاعْتِمَاد فِي اشْتِرَاط الْحول عَلَى الْآثَار الصَّحِيحَة فِيهِ، عَن أبي بكر وَعُثْمَان وَابْن عمر (وَغَيرهم.
قلت: وَالصَّوَاب الأول وَيَكْفِي رِوَايَة غَيره - يَعْنِي الْحَارِث الْأَعْوَر) وَقد نحى الْقُرْطُبِيّ فِي «مفهمه» إِلَى تَصْحِيحه أَيْضا فَقَالَ: يعْتَمد عَلَى رِوَايَة الثِّقَة - يَعْنِي عَاصِم بن ضَمرَة.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث ثَابت عَنهُ؛ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ فِي مَال زَكَاة حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» .(5/454)
إِسْنَاده ضَعِيف؛ لِأَن فِيهِ حسان بن سياه الْبَصْرِيّ؛ (رَاوِيه) عَن ثَابت، ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن حبَان، وَكَذَا ابْن عدي وَقَالَ: حدث (عَن) ثَابت وَعَاصِم بن بَهْدَلَة (وَالْحسن) بن ذكْوَان وَغَيرهم بِمَا لَا يتابعونه عَلَيْهِ. وَلما أورد هَذَا الحَدِيث قَالَ: لَا أعلم يرويهِ عَن ثَابت غير [حسان بن سياه] .
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث عَائِشَة رضى الله عَنْهَا، رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» بِلَفْظ: «لَيْسَ فِي المَال زَكَاة حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» .
إِسْنَاده ضَعِيف؛ لِأَن فِيهِ حَارِثَة بن أبي الرِّجَال، (وَهُوَ ضَعِيف) . قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا يحْتَج بِخَبَرِهِ. قَالَ: وَرَوَاهُ (الثَّوْريّ) عَن حَارِثَة مَوْقُوفا عَلَى عَائِشَة.(5/455)
وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابع حَارِثَة عَلَى هَذَا الحَدِيث إِلَّا من هُوَ دونه أَو مثله. قَالَ: وَله غير حَدِيث لَا يُتَابع عَلَيْهِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : رُوِيَ هَذَا الحَدِيث مَوْقُوفا عَلَى عَائِشَة وَمَرْفُوعًا، وَيُشبه أَن يكون هَذَا من عمل حَارِثَة.
الطَّرِيق الرَّابِع: من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث بَقِيَّة، عَن إِسْمَاعِيل، عَن عبيد الله (بن عمر) ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «لَا زَكَاة فِي مَال امْرِئ حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن عَيَّاش، وَهُوَ ضَعِيف فِي رِوَايَته عَن غير الشاميين، وَعبيد الله هَذَا مدنِي.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة ابْن نمير، عَن عبيد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «لَيْسَ فِي مَال زَكَاة حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» ثمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيح مَوْقُوف. قَالَ: رَوَاهُ بَقِيَّة، عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن عبيد الله بن عمر مَرْفُوعا، وَلَيْسَ بِصَحِيح.
وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ مُعْتَمر وَغَيره مَوْقُوفا. وَقَالَ فِي «علله» : إِنَّه الصَّحِيح وَإنَّهُ لَا يَصح رَفعه.
قلت: والاعتماد فِي (هَذِه) الْمَسْأَلَة عَلَى الحَدِيث الأول وأقوال الصَّحَابَة، وَإِن كَانَ الْبَيْهَقِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتمد فِيهَا عَلَى الْآثَار كَمَا سلف.(5/456)
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ فِي مَال المستفيد زَكَاة حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» ، من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من اسْتَفَادَ مَالا فَلَا زَكَاة عَلَيْهِ حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» .
هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ، وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ كَلَفْظِ الرَّافِعِيّ السالف.
وَعبد الرَّحْمَن هَذَا ضَعِيف، (كَمَا أسلفته فِي بَاب «النَّجَاسَات» قَالَ التِّرْمِذِيّ: عبد الرَّحْمَن هَذَا ضَعِيف) فِي الحَدِيث، ضعفه أَحْمد وَعلي وَغَيرهمَا من أهل الحَدِيث، وَهُوَ كثير الْغَلَط. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن غير وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَن لَا زَكَاة فِي المَال الْمُسْتَفَاد حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» ، ثمَّ رَوَى بِإِسْنَاد عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَنه(5/457)
قَالَ: «من اسْتَفَادَ مَالا فَلَا زَكَاة فِيهِ (حَتَّى) يحول عَلَيْهِ الْحول (عِنْد ربه) » .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا أصح من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، قَالَ: وَرَوَاهُ أَيُّوب، وَعبيد الله بن عمر، وَغير وَاحِد، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَوْقُوفا.
وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِن الصَّحِيح (وَقفه) ، وَإِن عبد الرَّحْمَن ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ. وَكَذَا قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : إِنَّه لَا يَصح رَفعه، وَإِن عبد الرَّحْمَن ضعفه الْكل.
قلت: وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم (الحنيني) ، عَن مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَالصَّحِيح عَن مَالك مَوْقُوف.
قلت: والحنيني ضَعَّفُوهُ.
وَرُوِيَ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن عَلّي وَالصديق وَعَائِشَة مَوْقُوفا عَلَيْهِم، مثل مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر رضى الله عَنْهُم.(5/458)
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ بِمَعْنَاهُ، وَلَفظه: «وَفِي صَدَقَة الْغنم فِي سائمتها إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ إِلَى عشْرين وَمِائَة شَاة ... » الحَدِيث بِطُولِهِ كَمَا سلف فِي الْبَاب قبله من حَدِيث أنس رضى الله عَنهُ.
وَقد ذكره الرَّافِعِيّ إِثْر هَذَا من هَذِه الطَّرِيق.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «فِي سَائِمَة الْغنم إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاة» .
وَفِي حَدِيث عَمْرو بن حزم: «فِي كل أَرْبَعِينَ شَاة سَائِمَة شَاة» .
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَغَيره، وَسَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي الدِّيات - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : هَذَا الحَدِيث - يَعْنِي بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره المُصَنّف - مَوْجُود مَعْنَاهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ، وأحسب أَن قَول (الْفُقَهَاء) والأصوليين: «فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة» اخْتِصَار مِنْهُم للمفصل فِي لفظ الحَدِيث من مقادير الزَّكَاة الْمُخْتَلفَة باخْتلَاف النُصب.(5/459)
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ فِي الْبَقر العوامل صَدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طرق
إِحْدَاهَا: من حَدِيث سوار، عَن لَيْث، عَن مُجَاهِد وَطَاوُس، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا كَذَلِك سَوَاء، وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، سوار هُوَ ابْن مُصعب مَتْرُوك كَمَا قَالَه أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ، (وَلَيْث قد علمت حَاله فِي الْوضُوء قَالَ (أَحْمد) : هُوَ) مُضْطَرب الحَدِيث لَكِن قد حدث عَنهُ النَّاس.
وأجمل الْبَيْهَقِيّ القَوْل فِي تَضْعِيفه، فَقَالَ: إِسْنَاده ضَعِيف.
ثَانِيهَا: من حَدِيث غَالب الْقطَّان، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، مَرْفُوعا، إِلَّا أَنه قَالَ: «الْإِبِل» بدل «الْبَقر» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كَذَا قَالَ: غَالب الْقطَّان، وَهُوَ عِنْدِي غَالب بن عبيد الله.
قلت: (ليته) الْقطَّان (فَإِنَّهُ) ثِقَة، وجرحه ابْن حبَان بِلَا(5/460)
حجَّة، أما غَالب بن عبيد الله فَهُوَ (الْجَزرِي) تَرَكُوهُ. قَالَ أَبُو حَاتِم: مَتْرُوك الحَدِيث مُنكر.
ثَالِثهَا: من حَدِيث الصَّقْر بن حبيب، عَن أبي رَجَاء العطاردي، يحدث عَن ابْن عَبَّاس، عَن عَلّي؛ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ فِي العوامل صَدَقَة، وَلَا فِي الْجَبْهَة صَدَقَة» . قَالَ الصَّقْر: الْجَبْهَة الْخَيل وَالْبِغَال وَالْعَبِيد وَقَالَ أَبُو عبيد: الْجَبْهَة الْخَيل.
قلت: والصقر هَذَا ضَعِيف، وَابْن حبَان يُسَمِّيه الصَّعق، وَالدَّارَقُطْنِيّ يُسَمِّيه الصَّقْر.
قَالَ ابْن حبَان: لَيْسَ من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَإِنَّمَا يعرف بِإِسْنَاد مُنْقَطع (فقلبه) الصَّعق (عَلَى) أبي رَجَاء و (هُوَ) يَأْتِي بالمقلوبات عَن الْأَثْبَات.
رَابِعهَا: من حَدِيث جَابر، رَفعه: «لَيْسَ فِي المثيرة صَدَقَة» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِي (إِسْنَاده) ضعف.(5/461)
خَامِسهَا - وَهُوَ أمثلها، بل هُوَ عِنْدِي صَحِيح -: من رِوَايَة مُحَمَّد بن عبيد الله بن المنادى، نَا أَبُو بدر - هُوَ شُجَاع بن الْوَلِيد - نَا زُهَيْر، نَا أَبُو إِسْحَاق، عَن الْحَارِث وَعَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَيْسَ فِي الْبَقر العوامل شَيْء» .
وَفِي حَدِيث الْحَارِث: «لَيْسَ عَلَى الْبَقر العوامل شَيْء» .
وَقد أسلفنا الْكَلَام عَلَى هَذَا الْإِسْنَاد فِي الحَدِيث الأول وَابْن الْقطَّان لما ذكره من حَدِيث الصَّقْر (قَالَ: الصَّقْر) هَذَا مَجْهُول.
قلت: لَا، بل ضَعِيف كَمَا مر.
قَالَ: وَأحمد بن الْحَارِث الْبَصْرِيّ - بِالْبَاء - الَّذِي يرويهِ عَنهُ مثله.
قلت: بل مَتْرُوك كَمَا قَالَه أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَهُوَ الغساني، مَعْرُوف.
قَالَ: وَلِهَذَا الحَدِيث إِسْنَاد أَجود من هَذَا، بل هُوَ صَحِيح، إِلَّا أَنه (لَيْسَ (فِيهِ) ذكر الْجَبْهَة، ثمَّ سَاقه من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ، كَمَا أسلفناه، ثمَّ قَالَ: لم أعن) إِلَّا رِوَايَة عَاصِم لَا رِوَايَة الْحَارِث. قَالَ: وكل من فِي هَذَا الْإِسْنَاد ثِقَة مَعْرُوف، وَابْن الْمُنَادِي أحد الْأَثْبَات.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : ابْن الْقطَّان لَيْسَ يُعلل الحَدِيث بالاختلاف فِي رَفعه وَوَقفه، فَلذَلِك قَالَ بِالصِّحَّةِ، وَقد رَوَاهُ ابْن أبي(5/462)
شيبَة مَوْقُوفا، وَبَنَى ابْن الْقطَّان تَصْحِيحه عَلَى تَوْثِيق عَاصِم بن ضَمرَة والاحتجاج بِهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : وَأشهر مَا رُوِيَ فِي ذَلِك مُسْندًا وموقوفًا حَدِيث أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي مَرْفُوعا، ثمَّ رَوَاهُ عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عَلّي مَرْفُوعا، باللفظين السَّالفين، ثمَّ قَالَ: رَفعه أَبُو الْبَدْر شُجَاع بن الْوَلِيد، عَن زُهَيْر (من) غير شكّ، وَرَوَاهُ النُّفَيْلِي، عَن زُهَيْر بِالشَّكِّ، فَقَالَ: قَالَ زُهَيْر: أَحْسبهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَرَوَاهُ غَيره عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم، عَن عَلّي (مَوْقُوفا) عَلَيْهِ: «لَيْسَ عَلَى العوامل من الْبَقر الحراثة شَيْء» وَفِي لفظ (لَهُ) : «لَيْسَ فِي الْإِبِل العوامل، وَلَا فِي الْبَقر العوامل صَدَقَة» ثمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي الزبير، عَن جَابر أَنه قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مثير الأَرْض زَكَاة» . قَالَ: وَرُوِيَ عَن جَابر مَرْفُوعا، وَفِي إِسْنَاده ضعف، وَقد أسلفنا هَذَا عَنهُ، وَالصَّوَاب مَوْقُوف، ثمَّ (رُوِيَ) بِإِسْنَادِهِ عَن جَابر قَالَ: «لَا يُؤْخَذ من الْبَقر الَّتِي يحرث عَلَيْهَا من الزَّكَاة شَيْء» . قَالَ: وَإِسْنَاده صَحِيح. قَالَ: وَهُوَ قَول مُجَاهِد، وَسَعِيد بن جُبَير، وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. قَالَ: وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: لَيْسَ فِي الْبَقر العوامل صَدَقَة إِذا كَانَت فِي مصر.(5/463)
الحَدِيث الْخَامِس
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فدين الله أَحَق بِالْقضَاءِ» .
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) ، أخرجه الشَّيْخَانِ، من حَدِيث ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا؛ «أَن امْرَأَة أَتَت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: إِن أُمِّي (مَاتَت) وَعَلَيْهَا صَوْم شهر؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَو كَانَ عَلَيْهَا دين أَكنت تقضينه؟ قَالَت: نعم. قَالَ: فدين الله أَحَق بِالْقضَاءِ» . وَفِي رِوَايَة: «فدين الله أَحَق بِأَن يُقْضَى» .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: من حَدِيث ابْن عَبَّاس (أَيْضا) «أَن امْرَأَة من جُهَيْنَة (جَاءَت) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: إِن أُمِّي نذرت أَن تحج فَلم تحج حَتَّى مَاتَت، أفأحج عَنْهَا؟ قَالَ: نعم، حجي عَنْهَا، أَرَأَيْت لَو كَانَ عَلَى أمك دين أَكنت قاضيته؟ اقضوا الله فَالله أَحَق بِالْوَفَاءِ» .
هَذَا لَفظه فِي كتاب الْحَج، فِي بَاب: الْحَج (وَالنُّذُور) عَن الْمَيِّت وَالرجل يحجّ عَن الْمَرْأَة.
وَفِي النَّسَائِيّ: «أَمَرَتِ امْرَأَة سِنَان بن سَلمَة الْجُهَنِيّ أَن يَسْأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .(5/464)
وَرَوَاهُ - أَعنِي - البُخَارِيّ أَيْضا، فِي بَاب: من مَاتَ وَعَلِيهِ نذر، فِي أَبْوَاب الأَيمَان وَالنُّذُور، عَن ابْن عَبَّاس «جَاءَ رجل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ لَهُ: إِن أُخْتِي نذرت أَن تحج، وَإِنَّهَا مَاتَت، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَو كَانَ عَلَيْهَا دين أَكنت قاضيه؟ قَالَ: نعم قَالَ: فَاقْض الله؛ فَهُوَ أَحَق بِالْقضَاءِ» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: عَن ابْن عباسٍ؛ قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: إِن أُخْتِي مَاتَت وَلم تحج، أفأحج عَنْهَا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: أَرَأَيْت لَو كَانَ عَلَيْهَا دين (تقضيه) فَالله أَحَق (بِالْقضَاءِ) » .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ: «إِن أبي قد مَاتَ وَلم يحجّ، أفأحج عَنهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَو كَانَ عَلَى أَبِيك دين أَكنت قاضيه؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فدين الله أَحَق» .
الحَدِيث السَّادِس
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ولي يَتِيما فليتجر لَهُ وَلَا يتْركهُ حَتَّى تَأْكُله الصَّدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ(5/465)
وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده؛ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خطب النَّاس فَقَالَ: «أَلا من ولي يَتِيما لَهُ مَال فليتجر فِيهِ، وَلَا يتْركهُ حَتَّى تَأْكُله الصَّدَقَة» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا رُوِيَ من هَذَا الْوَجْه، وَفِي إِسْنَاده مقَال؛ لِأَن الْمثنى بن الصبَّاح يضعَّف فِي الحَدِيث. قَالَ: وَرَوَى بَعضهم هَذَا الحَدِيث، عَن عَمْرو بن شُعَيْب؛ أَن عمر بن الْخطاب (قَالَ) : ... فَذكره. قَالَ: وَعَمْرو بن شُعَيْب هُوَ (ابْن) مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي، وَشُعَيْب قد سمع من جده عبد الله بن عَمْرو، (وَقد تكلم يَحْيَى بن سعيد فِي حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، وَقَالَ: هُوَ عندنَا واهٍ، وَمن ضعّفه فَإِنَّمَا ضعفه من قبل أَنه يحدث من صحيفَة جده عبد الله بن عَمْرو) ، وَأما (أَكثر) أهل الحَدِيث فيحتجون بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب ويثبتونه، مِنْهُم: أَحْمد وَإِسْحَاق وَغَيرهمَا. هَذَا آخر كَلَامه، وَقد أسلفنا فِي بَاب الْوضُوء (أَقْوَال) أَئِمَّة هَذَا الْفَنّ فِيهِ مَبْسُوطا، وَذكرنَا هُنَاكَ أَن الْجُمْهُور احْتَجُّوا بِهِ، وَأَنه سمع من جده (عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي) ، وَذكرنَا (هُنَاكَ) عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ: لَا يَصح حَدِيثه وَيسلم من الْإِرْسَال إِلَّا أَن يَقُول فِيهِ عَن جده (عبد الله(5/466)
بن عَمْرو) ، وَهَذَا الحَدِيث قد سَمّى فِيهِ جده عبد الله بن عَمْرو، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلِك، لَكِن الطَّرِيق إِلَيْهِ كَمَا قد علمت فِيهِ الْمثنى بن الصَّباح وَهُوَ مَتْرُوك (كَمَا) ، قَالَ النَّسَائِيّ: وَله عَن عَمْرو طَرِيقَانِ آخرَانِ. رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا، إِحْدَاهمَا من حَدِيث منْدَل، (عَن أبي إِسْحَاق) الشَّيْبَانِيّ، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «احْفَظُوا الْيَتَامَى فِي أَمْوَالهم لَا تأكلها الزَّكَاة» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: منْدَل هَذَا لَيْسَ بِقَوي.
ثَانِيهمَا: من حَدِيث مُحَمَّد بن عبيد الله الْعَرْزَمِي، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، مَرْفُوعا: «فِي مَال الْيَتِيم الزَّكَاة» . وَمُحَمّد هَذَا تَرَكُوهُ، قَالَ ابْن حبَان: كَانَ صَدُوقًا إِلَّا أَن كتبه ذهبت وَكَانَ يحدث من حفظه فَيهِم.
وَله طَرِيق ثَالِث: قَالَ عبد الْحق: (رَوَاهُ) عبد الله بن عَلّي بن مهْرَان، عَن (عَمْرو بن شُعَيْب، وَهُوَ ضَعِيف أَو مَجْهُول) .(5/467)
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب هَذَا يرويهِ حُسَيْن الْمعلم، عَن مَكْحُول، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن (عمر) ، وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن عمر، وَلم يذكر ابْن الْمسيب.
وَخَالفهُ حَمَّاد بن زيد، فَرَوَاهُ عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن مَكْحُول، عَن (عمر) وَلم يذكر فِيهِ عَمْرو بن شُعَيْب وَلَا ابْن الْمسيب، وَرَوَاهُ الْمثنى بن الصَّباح، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده. قَالَ: وَحَدِيث عمر أصح.
(وَقَالَ) مهنا: سَأَلت الإِمَام أَحْمد عَن حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اتَّجرُوا (بأموال) الْيَتَامَى لَا تأكلها الزَّكَاة» فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيح، هَذَا يرويهِ الْمثنى بن الصَّباح عَن عَمْرو.
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ابْتَغوا فِي أَمْوَال الْيَتَامَى لَا تأكلها الزَّكَاة» .
(مَعْنَاهُ: اطْلُبُوا الرِّبْح بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِالتِّجَارَة) .(5/468)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن عبد الْمجِيد، عَن ابْن جريج، عَن يُوسُف بن ماهَكَ أنّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ابْتَغوا فِي مَال الْيَتِيم - أَو فِي مَال الْيَتَامَى - لَا تذهبها - أَو (لَا) تستهلكها - الصَّدَقَة» .
وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي «الْأَمْوَال» عَن حجاج، عَن ابْن جريج بِهِ: «ابْتَغوا فِي أَمْوَال الْيَتَامَى لَا تذهبها الزَّكَاة» . قلت لحجاج: عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: نعم. وَهَذَا مُرْسل؛ لِأَن يُوسُف تَابِعِيّ، وَمَعَ إرْسَاله فعبد الْمجِيد هَذَا فِيهِ مقَال، أخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا بِهِشَام بن سُلَيْمَان الْمَكِّيّ، وَالْأَرْبَعَة، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي حَقه: ثِقَة دَاعِيَة إِلَى الإرجاء. وَقَالَ البُخَارِيّ: كَانَ الحميدى يتَكَلَّم فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِقَوي، يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يعْتَبر بِهِ وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ أَحْمد: ثِقَة، وَكَانَ فِيهِ غلوّ فِي الإرجاء. (وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ الإرجاء) وَقَالَ ابْن حبَان: يقلب الْأَخْبَار، ويروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير فَاسْتحقَّ التّرْك.
وأكّد الشَّافِعِي (هَذَا) الْمُرْسل بِعُمُوم الحَدِيث الصَّحِيح فِي إِيجَاب الزَّكَاة مُطلقًا، وَبِمَا رُوِيَ عَن الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فِي ذَلِك،(5/469)
مِنْهُم عمر بن الْخطاب، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، من حَدِيث (ابْن) الْمسيب عَنهُ أَنه قَالَ: «ابْتَغوا بأموال الْيَتَامَى لَا تأكلها الصَّدَقَة» . ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَله شَوَاهِد عَن عمر.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : كَأَنَّهُ أَرَادَ ثِقَة رُوَاته، وَفِيه من النّظر مَا قيل فِي سَماع سعيد (من) عمر أَو عدم سَمَاعه.
قلت: وَسَعِيد ولد لثلاث سِنِين مضين من خلَافَة عمر، قَالَه مَالك وَأنكر سَمَاعه مِنْهُ، وَقَالَ ابْن معِين: رَآهُ وَكَانَ صَغِيرا، وَلم يثبت لَهُ سَماع مِنْهُ.
قلت: وَمَعَ ذَلِك فَاخْتلف فِيهِ، فَقيل: عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن عمر. وَقيل: عَن (عَمْرو) بن دِينَار، عَن مَكْحُول. ذكرهمَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» كَمَا سلف فِي الحَدِيث قبله. ثمَّ رَوَاهُ (الْبَيْهَقِيّ) من طَرِيقين آخَرين عَنهُ، وَقَالَ: كِلَاهُمَا مَحْفُوظ.
وَمِنْهُم: ابْنه رضى الله عَنهُ، ذكره الْبَيْهَقِيّ وَابْن عبد الْبر بِإِسْنَاد صَحِيح «أَنه كَانَ يُزكي مَال الْيَتِيم» .
وَقَالَ الشَّافِعِي: أَنا سُفْيَان، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَنهُ، فَذكره.(5/470)
وَمِنْهُم: جَابر رضى الله عَنهُ ذكره ابْن عبد الْبر بِإِسْنَادِهِ، وَالْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: وَرُوِيَ (ذَلِك) ، عَن الْحسن بن عَلّي وَجَابِر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَمِنْهُم: عَائِشَة رضى الله عَنْهَا رَوَى مَالك عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه قَالَ: «كَانَت عَائِشَة تليني وأخًا لي (يَتِيم) فِي حجرها، وَكَانَت تخرج من أَمْوَالنَا الزَّكَاة» .
وَمِنْهُم: عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رُوِيَ عَنهُ من طرق ذكرهَا ابْن عبد الْبر وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ.
وَقَالَ الْمروزِي: قَالَ أَبُو عبد الله - يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل -: خَمْسَة من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (كَانُوا) يزكون مَال الْيَتِيم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فَأَما (مَا) رُوِيَ عَن مُعَمَّر - أَي بِضَم أَوله وَفتح ثَانِيه وَتَشْديد ثالثه - ابْن سُلَيْمَان، عَن عبد الله بن (بشر) - أى بالشين الْمُعْجَمَة - عَن لَيْث بن أبي سليم، عَن مُجَاهِد، عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: «من ولي مَال يَتِيم فليحص عَلَيْهِ السنين، فَإِذا دفع إِلَيْهِ مَاله(5/471)
(أخبرهُ) بِمَا عَلَيْهِ من الزَّكَاة، فَإِن شَاءَ زَكى، وَإِن شَاءَ لم يزك» فقد ضعفه الشَّافِعِي من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه مُنْقَطع لِأَن مُجَاهدًا لم يدْرك ابْن مَسْعُود. وَالثَّانِي: (أَن لَيْث بن) أبي سليم ضَعِيف، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ضعف أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ ليثًا. قَالَ: وَقد رُوِيَ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، إِلَّا أَنه انْفَرد بِهِ ابْن لَهِيعَة وَهُوَ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ.
الحَدِيث الثَّامِن
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا زَكَاة فِي مَال الْمكَاتب حَتَّى يعْتق» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، عَن عبد الْبَاقِي بن قَانِع وَعبد الصَّمد بن عَلّي، (نَا الْفضل بن الْعَبَّاس) الصَّواف، نَا يَحْيَى بن غيلَان، نَا (عبد الله) بن بزيع، عَن ابْن جريج، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
وَهَذَا حَدِيث مَعْلُول من أوجه: أَحدهَا: عبد الْبَاقِي بن قَانِع شيخ الدَّارَقُطْنِيّ، فَإِن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ فِي حَقه: إِنَّه كَانَ يُخطئ كثيرا ويصر عَلَى الْخَطَأ.
ثَانِيهَا: عبد الله بن بزيع الْأنْصَارِيّ قَاضِي تستر؛ قَالَ ابْن عدي:(5/472)
لَيْسَ هُوَ عِنْدِي مِمَّن يحْتَج بِهِ، قَالَ: وَأَحَادِيثه (أَو عامتها) لَيست مَحْفُوظَة. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لين الحَدِيث لَيْسَ بمتروك.
ثَالِثهَا: يَحْيَى بن غيلَان، وَهُوَ مَجْهُول الْحَال، نبه عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان فِي «علله» قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يروي عَن مَالك، ذَاك ثِقَة.
رَابِعهَا: تَدْلِيس أبي الزبير، وَقد عنعن عَنهُ فِي هَذَا الحَدِيث.
وأجمل الْبَيْهَقِيّ القَوْل فِي تَضْعِيفه، فَقَالَ فِي «سنَنه» : هَذَا الحَدِيث رَفعه ضَعِيف، وَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف عَلَى جَابر. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن جَابر قَالَ: «لَيْسَ فِي مَال الْمكَاتب وَلَا العَبْد زَكَاة حَتَّى يعْتق» (ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن الْعمريّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «لَيْسَ فِي مَال الْمكَاتب وَلَا العَبْد زَكَاة) » قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وبالأول قَالَ (مَسْرُوق) وَسَعِيد بن الْمسيب وَسَعِيد ابْن جُبَير وَعَطَاء وَمَكْحُول.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فاثنان:
أَحدهمَا: أثر عمر، وَقد تقدم فِي آخر الْبَاب الَّذِي قبل هَذَا.
وَثَانِيهمَا: أثر عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «اعْتد عَلَيْهِم بالصغار والكبار» . وَهُوَ غَرِيب، لَا يحضرني من خرجه، وَذكره صَاحب «الْمُهَذّب» بِلَفْظ:(5/473)
«عد الصغار مَعَ الْكِبَار» . وَلم يعزه النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» وَلَا الْمُنْذِرِيّ فِي تَخْرِيجه، وَأوردهُ الْمَاوَرْدِيّ فِي «حاويه» مَرْفُوعا؛ فَقَالَ: رَوَى مُحَمَّد بن إِسْحَاق (عَن) ابْن حزم، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ لساعيه: «عد عَلَيْهِم صغارها وكبارها، وَلَا تَأْخُذ هرمة وَلَا ذَات عوار» . كَذَا رَأَيْته (فِيهِ) .
قلت: وَقد سلف فِي الحَدِيث الثَّانِي من أَحَادِيث الْبَاب عَن (عليّ) أَنه قَالَ: «من اسْتَفَادَ مَالا فَلَا زَكَاة فِيهِ حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» . وَهُوَ يُخَالف مَا ذكره الرَّافِعِيّ وَغَيره عَن عَلّي. قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» وَقَوله: «عد الصغار» هُوَ بِفَتْح الدَّال وَكسرهَا وَضمّهَا، وَكَذَا مَا أشبهه مِمَّا هُوَ مضعف مضموم الأول كشد وَشبهه، وَهُوَ كَمَا قَالَ.(5/474)
بَاب: أَدَاء الزَّكَاة وتعجيلها
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثاراً. أما الْأَحَادِيث فأحد عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالْخُلَفَاء بعده كَانُوا يبعثون السعاة لأخذ الزَّكَاة» .
هَذَا صَحِيح مَشْهُور عَنْهُم؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث عمر بن الْخطاب عَلَى الصَّدَقَة» .
وَفِيهِمَا أَيْضا: عَن أبي حميد عبد الرَّحْمَن السَّاعِدِيّ قَالَ: «اسْتعْمل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجلا من الأزد عَلَى صدقَات بني سليم يُدعَى ابْن اللتبية فَلَمَّا جَاءَ حَاسبه» .
وَفِيهِمَا أَيْضا: عَن عمر رضى الله عَنهُ أَنه اسْتعْمل (ابْن) السَّعْدِيّ، واسْمه عَمْرو بن وقدان (الْمَالِكِي) عَلَى الصَّدَقَة» .(5/475)
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث أَبَا مسعودٍ الْأنْصَارِيّ ساعيًا» وَفِيه: «إِن زيادًا أَو بعض الْأُمَرَاء أرسل عمرَان بن حُصَيْن ساعيًا» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم، وَقَالَ: «إِن زيادًا - أَو ابْن زِيَاد - بعث عمرَان بن الْحصين ساعيًا، فجَاء وَلم يرجع مَعَه دَرَاهِم، فَقَالَ لَهُ: أَيْن المَال؟ قَالَ: وللمال أرسلتني؟ أخذناها كَمَا [كُنَّا] نأخذها عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ووضعناها فِي الْموضع الَّذِي كُنَّا نضعها عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . (ثمَّ) قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث أبي عَمْرو بن حَفْص بن الْمُغيرَة لما قَالَ عمر: «إِنِّي أعْتَذر إِلَيْكُم من خَالِد بن الْوَلِيد، وَإِنِّي أَمرته أَن يحبس هَذَا المَال عَلَى ضعفة الْمُهَاجِرين، فَأعْطَاهُ ذَا الْبَأْس، و (ذَا) الشّرف، وَذَا اللِّسَان، فنزعته وأمَّرت أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح. قَالَ: وَالله لقد نزعت عَاملا اسْتَعْملهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » الحَدِيث.
وَفِيه أَيْضا: من حَدِيث عَائِشَة «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بعث أَبَا جهم بن حُذَيْفَة (مُصدقا) فلاجَّه رجل بِصَدَقَتِهِ فَضَربهُ [أَبُو جهم] فَشَجَّهُ» . الحَدِيث.(5/476)
وَفِيه أَيْضا: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث عقبَة بن عَامر ساعيًا، قَالَ: فاستأذنته أَن آكل من الصَّدَقَة فَأذن لي» .
فِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة.
وَفِيه أَيْضا: من حَدِيث (قُرَّة) بن دعموص النميري قَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الضَّحَّاك بن قيس ساعيًا» .
وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث قيس بن سعد (بن) عبَادَة ساعيًا» . ثمَّ قَالَ: إِنَّه عَلَى شَرط مُسلم. وَفِيه نظر؛ فَإِن رَاوِيه عَن قيس بن (سعد) هُوَ عَاصِم بن عمر، وَهُوَ لم يدْرك قيسا، نبه عَلَيْهِ الذَّهَبِيّ فِي مُخْتَصره لَهُ.
وَفِيه أَيْضا فِي كتاب الْفَضَائِل، فِي تَرْجَمَة (عبَادَة) بن الصَّامِت: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بَعثه عَلَى (أهل) الصَّدقَات» . ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَتعقبه الذَّهَبِيّ فَقَالَ: (إِنَّه) مُنْقَطع؛ لِأَنَّهُ عَن ابْن طَاوس، عَن أَبِيه، عَنهُ.
قَالَ أَبُو نعيم فِي «الْمعرفَة» : «وَبعث النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْوَلِيد بن عقبَة بن (أبي) معيط إِلَى بني المصطلق ساعيًا» .(5/477)
وَرَوَى الشَّافِعِي: «أَن أَبَا بكر وَعمر كَانَا يبعثان عَلَى الصَّدَقَة» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ.
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ»
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته كَمَا سلف أول الْوضُوء.
الحَدِيث الثَّالِث
يرْوَى أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ فِي المَال حق سُوَى الزَّكَاة» .
هَذَا الحَدِيث قَالَ فِيهِ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : أَصْحَابنَا يَرْوُونَهُ فِي تعاليقهم، لست أحفظ لَهُ إِسْنَادًا.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا حَدِيث ضَعِيف جدًّا لَا يعرف. قلت: قد أخرجه ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، من حَدِيث شريك، عَن أبي حَمْزَة - بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمُعْجَمَة - عَن الشّعبِيّ، عَن فَاطِمَة بنت قيس أَنَّهَا سَمِعت تَعْنِي - النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَيْسَ فِي المَال حق سُوَى الزَّكَاة» .
وَكَذَا عزاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» إِلَيْهِ، وَقَالَ: هَكَذَا هُوَ فِي النُّسْخَة الَّتِي فِيهَا روايتنا بِهَذَا اللَّفْظ، وَقد (أدرجه تَحت) تَرْجَمَة: مَا أُدي زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، قَالَ: وَهُوَ دَلِيل عَلَى أَن لفظ الحَدِيث كَذَلِك.(5/478)
قلت: وَكَذَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» سَوَاء، وَيَنْبَغِي أَن يعلم أَن هَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد رُوِيَ بِهِ حَدِيث (فِي ضد) هَذَا الْمَعْنى وَهَذَا لَفظه: «إِن فِي المَال حقًّا سُوَى الزَّكَاة» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ، وَأَبُو حَمْزَة مَيْمُون الْأَعْوَر يضعف. قَالَ: وَرَوَاهُ بَيَان وَإِسْمَاعِيل بن سَالم عَن الشّعبِيّ قَوْله، وَهَذَا أصح.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : يرويهِ رجلَانِ ضعيفان.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ عقب مقَالَته السالفة: وَرُوِيَ فِي مَعْنَاهُ أَحَادِيث (مِنْهَا) حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس «أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَو قَالَت: سُئل - عَن هَذِه الْآيَة: (فِي أَمْوَالهم حق مَعْلُوم) قَالَ: «إِن فِي المَال حقًّا سُوَى الزَّكَاة» وتلا هَذِه الْآيَة: (لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا وُجُوهكُم (إِلَى قَوْله تَعَالَى: (وَآتَى الزَّكَاة (.
ثمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيث يعرف بِأبي حَمْزَة مَيْمُون الْأَعْوَر كُوفِي، وَقد جرحه أَحْمد وَيَحْيَى فَمن بعدهمَا من حفاظ الحَدِيث.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، عَن هشيم، عَن عذافر، عَن الْحسن، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا: «من أَدَّى(5/479)
زَكَاة مَاله فقد أدّى الْحق الَّذِي عَلَيْهِ، وَمن زَاد فَهُوَ أفضل» .
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَفعه: «إِذا أدّيت الزَّكَاة فقد قضيت مَا عَلَيْك، وَمن جمع مَالا حَرَامًا ثمَّ تصدق بِهِ، لم يكن لَهُ فِيهِ أجر، وَكَانَ (إصره) عَلَيْهِ» .
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ هَذَا، وَقَالَ: غَرِيب.
وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر، (رَفعه) : «إِذا أدّيت زَكَاة مَالك فقد أذهبت عَنْك شَره» . قَالَ: رُوِيَ مَرْفُوعا وموقوفًا، وَالْمَوْقُوف أصح، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. قَالَ: وَشَاهده حَدِيث أبي هُرَيْرَة. قَالَ: وَهُوَ شَاهد صَحِيح.
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي كل أَرْبَعِينَ من الْإِبِل السَّائِمَة بنت لبون، (من أَعْطَاهَا) مُؤْتَجِرًا فَلهُ أجرهَا، وَمن منعهَا فإِنَّا آخِذُوهَا وَشطر مَاله، عَزمَة من عَزمَات رَبنَا، لَيْسَ لآل مُحَمَّد مِنْهَا شَيْء» .(5/480)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، من حَدِيث بهز - بالزاي - ابْن (حَكِيم) - بِفَتْح أَوله - بن مُعَاوِيَة بن حيدة - بِفَتْح الْحَاء (الْمُهْملَة) ثمَّ مثناة تَحت سَاكِنة - عَن أَبِيه، عَن جده، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لَهُم، إِلَّا أَن أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ قَالُوا: «شطر (إبِله» بدل) «مَاله» وَإِلَّا أَحْمد وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ فَقَالُوا: «لَا يحل لآل مُحَمَّد مِنْهَا شَيْء» بدل «لَيْسَ» .
وَإسْنَاد هَذَا الحَدِيث صَحِيح إِلَى بهز، وَاخْتلف الْحفاظ فِي الِاحْتِجَاج بِحَدِيث بهز، فَقَالَ يَحْيَى بن معِين: هُوَ ثِقَة. وَسُئِلَ أَيْضا عَن أَبِيه عَن جده؟ فَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح إِذا كَانَ دونه ثِقَة.
قلت: وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عَنهُ أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَيَحْيَى بن سعيد، ومعتمر، وَعبد الْوَارِث. وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: ثِقَة. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد السجسْتانِي: هُوَ عِنْدِي حجَّة. وَقَالَ مرّة أُخْرَى: أَحَادِيثه صِحَاح وَحسن التِّرْمِذِيّ حَدِيثه «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة(5/481)
وَالسَّلَام حبس رجلا فِي تُهْمَة فخلى سَبيله» وَقَالَ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» : هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد عَلَى مَا قدمنَا ذكره من تَصْحِيح هَذِه الصَّحِيفَة وَلم يخرجَاهُ. وَأَشَارَ الْحَاكِم بذلك إِلَى مقَالَته فِي أول كتاب الْإِيمَان: لَا أعلم خلافًا بَين أَكثر أَئِمَّة أهل النَّقْل فِي عَدَالَة بهز بن حَكِيم وَأَنه يجمع حَدِيثه. قَالَ: وَقد ذكره البُخَارِيّ فِي الْجَامِع الصَّحِيح.
قلت: وَإِن كَانَ (قَالَ) فِي حَقه: خَارِجَة مُخْتَلفُونَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «الضُّعَفَاء» : بهز كَانَ يُخطئ كثيرا. (فَأَما أَحْمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فَإِنَّهُمَا يحتجان بِهِ ويرويان عَنهُ) ، وَتَركه جمَاعَة من أَصْحَابنَا وأئمتنا، وَلَوْلَا هَذَا الحَدِيث لَأَدْخَلْنَاهُ فِي الثِّقَات، وَهُوَ مِمَّن أستخير الله فِيهِ.
وَاعْترض الذَّهَبِيّ عَلَيْهِ فِي هَذِه الْعبارَة، فَقَالَ فِي «الْمِيزَان» : مَا تَركه عَالم قطّ، وَإِنَّمَا (اخْتلفُوا) فِي الِاحْتِجَاج بِهِ.
قلت: سَيَأْتِي (أَي) عَن بَعضهم عدم الِاحْتِجَاج بِهِ (كَمَا) قَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ فِي رواياته، وَلم أر أحدا تخلف عَنهُ فِي الرِّوَايَة من الثِّقَات، وَلم أر لَهُ حَدِيثا مُنْكرا، وَأَرْجُو أَنه إِذا حدث عَنهُ ثِقَة فَلَا بَأْس بحَديثه، وَرَوَى عَنهُ ثِقَات النَّاس وَجَمَاعَة من الْأَئِمَّة.(5/482)
وعدهم، وَقَالَ صَالح جزرة: بهز عَن أَبِيه عَن جده إِسْنَاد أَعْرَابِي. وَقَالَ أَحْمد بن بشير: أَتَيْته فَوَجَدته يلْعَب بالشطرنج. وَنقل الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» عَن الْحَاكِم أَنه (قَالَ) : هُوَ ثِقَة، إِنَّمَا أسقط من الصَّحِيح؛ لِأَن رِوَايَته عَن أَبِيه عَن جده شَاذَّة لَا متابع لَهُ عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: هُوَ شيخ يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَالح وَلكنه لَيْسَ بالمشهور. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَيْسَ بِحجَّة. وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : هَذَا خبر لَا يَصح؛ لِأَن بهز بن حَكِيم غير مَشْهُور بِالْعَدَالَةِ ووالده كَذَلِك. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر (مِنْهُ) : بهز لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَحَكِيم ضَعِيف.
وَاعْترض ابْن الْقطَّان عَلَى أبي حَاتِم فِي قَوْله: «لَا يحْتَج بِهِ» ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَن لَا يقبل مِنْهُ إِلَّا بِحجَّة، وبهز ثِقَة عِنْد من علمه. وَقد وَثَّقَهُ غير من ذكر؛ كَابْن الْجَارُود وَالنَّسَائِيّ، وَصحح التِّرْمِذِيّ رِوَايَته عَن أَبِيه عَن جده وَقَالَ (أَبُو) جَعْفَر السبتي: إِسْنَاد بهز عَن أَبِيه عَن جده صَحِيح. قَالَ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن: سَأَلت ابْن معِين: هَل رَوَى شُعْبَة عَن بهز؟ قَالَ: نعم رَوَى عَنهُ حَدِيث « (أَتَرْعَوْنَ) عَن ذكر الْفَاجِر» وَقد كَانَ شُعْبَة متوقفًا عَنهُ، فَلَمَّا رَوَى هَذَا الحَدِيث كتبه وأبرأه مِمَّا اتهمه بِهِ. قلت: فكم لَهُ عَن أَبِيه عَن جده؟ قَالَ: أَحَادِيث. قلت لأبي عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل: مَا(5/483)
تَقول فِي بهز؟ قَالَ: سَأَلت غندرًا عَنهُ فَقَالَ: ثِقَة كَانَ شُعْبَة مَسّه، ثمَّ تبين مَعْنَاهُ فَكتب عَنهُ. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَ من خِيَار النَّاس. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلَيْسَ بضار لَهُ حِكَايَة الشطرنج الْمُتَقَدّمَة فَإِن استباحته مَسْأَلَة فقهية (مشتبهة) .
قلت: وَمن أغرب الْعبارَات (فِيهِ) قَول ابْن الطلاع فِي أَوَائِل «أَحْكَامه» : بهز بن حَكِيم مَجْهُول عِنْد بعض أهل الْعلم، وَأدْخلهُ البُخَارِيّ فِي كتاب الْوضُوء فَدلَّ عَلَى أَنه مَعْرُوف. وَلَا أعلم أحدا أطلق هَذِه الْعبارَة عَلَيْهِ، وَأما طعن (ابْن) حزم فِي وَالِده فَفِيهِ وَقْفَة، فقد قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة. وعلق عَنهُ البُخَارِيّ وَعَن وَالِده فِي الصَّحِيح، وَرَوَى لَهما فِي الْأَدَب خَارجه.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : قَالَ الشَّافِعِي: وَلَا يثبت أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ أَن تُؤْخَذ الصَّدَقَة وَشطر إبل (الغال) لصدقته، وَلَو ثَبت قُلْنَا بِهِ.
وَهَذَا تَصْرِيح من الإِمَام الشَّافِعِي بِأَن أهل الحَدِيث ضعفوا هَذَا الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث قد أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، فَأَما البُخَارِيّ وَمُسلم فَإِنَّهُمَا لم [يخرجَاهُ جَريا عَلَى عَادَتهمَا فِي أَن(5/484)
الصَّحَابِيّ أَو التَّابِعِيّ إِذا لم يكن لَهُ إِلَّا راو وَاحِد لم] يخرّجا حَدِيثه فِي الصَّحِيح، وَمُعَاوِيَة بن حيدة [الْقشيرِي] لم يثبت عِنْدهمَا رِوَايَة ثِقَة عَنهُ، غير ابْنه، فَلم يخرجَا حَدِيثه فِي الصَّحِيح.
وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك الْمُنْذِرِيّ، فَقَالَ فِي «حَوَاشِي السّنَن» : بهز ثِقَة، وجده مُعَاوِيَة بن حيدة (الْقشيرِي) صحبته مَشْهُورَة، وَمُعَاوِيَة بن حيدة لم تثبت عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم رِوَايَة ثِقَة عَنهُ، غير ابْنه.
وَهَذَا الْكَلَام معترض عَلَيْهِ من وَجْهَيْن؛ أَحدهمَا: أَن دَعْوَى عَادَتهمَا فِي أَن الصحأبي أَو التَّابِعِيّ إِذا لم يكن لَهُ إِلَّا راو واحدٍ لم يخرجَا حَدِيثه فِي الصَّحِيح لم يثبت، وَقد أبطل ذَلِك الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ بن سعيد الْمصْرِيّ فِي كِتَابه الَّذِي يبين فِيهِ أَوْهَام «الْمدْخل» للْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ فِي هَذِه الْمقَالة [مَعَ] الْحَاكِم، وَذكر ابْن الصّلاح فِي كِتَابه «عُلُوم الحَدِيث» جمَاعَة خرج لَهُم فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُم إِلَّا راو وَاحِد، لَكِن (نقضته) عَلَيْهِ فِي اختصاري لَهُ، فراجع ذَلِك مِنْهُ فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات.
وَمِمَّنْ أبطل مقَالَة الْحَاكِم ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» فَإِنَّهُ قَالَ: هَذِه مجازفة مِنْهُ وَظن، وَهُوَ ظن غلط. ثمَّ ذكر الْأَمْثِلَة الَّتِي(5/485)
نقلناها عَن ابْن الصّلاح والِاعْتِرَاض عَلَيْهِ.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن قَوْله لم تثبت (عِنْدهمَا) رِوَايَة (ثِقَة) عَنهُ، غير ابْنه، لَيْسَ عَلَى جِهَة النَّقْل عَنْهُمَا بذلك، وَكَأَنَّهُ من بَاب الظَّن.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَلَا يتعيَّن أَن يكون تَركهمَا لتخريجه هَذِه الْعلَّة الَّتِي ذكرهَا، فَيجوز أَن يكون ذَلِك لِأَنَّهُمَا لم يريَا بَهْزًا من شَرطهمَا.
تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: بهز بالزاي كَمَا سلف، وبإسكان الْهَاء وَفتح الْبَاء.
وَقَوله: «مُؤْتَجِرًا» أَي طَالبا لِلْأجرِ. وَقَوله: «عَزمَة» هُوَ بِإِسْكَان الزَّاي، وَهُوَ مَرْفُوع؛ لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: ذَلِك عَزمَة. وَقَوله: « (من) عَزمَات» هُوَ بِفَتْح الزَّاي؛ أَي حقّ لابد مِنْهُ. وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «عَزِيمَة» بِكَسْر الزَّاي، ثمَّ يَاء (مثناة تَحت) ، وَالْمَشْهُور «عَزمَة» . وَقَوله: «وَمن منعهَا» هَكَذَا هُوَ بِالْوَاو «وَمن» مَعْطُوف عَلَى أول الحَدِيث وَهُوَ «من أَعْطَاهَا» .(5/486)
الثَّانِي: هَذَا الحَدِيث جعله الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب، وَمِنْهُم الْبَيْهَقِيّ فِي كتبه مَنْسُوخا؛ ذكره فِي «سنَنه» و «خلافياته» و «مَعْرفَته» ، وَأَنه كَانَ حِين كَانَت الْعقُوبَة بِالْمَالِ، قَالَ فِي «سنَنه» : وَقد كَانَ تضعف الغرامة عَلَى من سرق فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، ثمَّ صَار مَنْسُوخا. وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي عَلَى نسخه بِحَدِيث الْبَراء بن عَازِب فِيمَا أفسدت نَاقَته، فَلم ينْقل عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي تِلْكَ الْقِصَّة أَنه أَضْعَف الغرامة، بل نقل فِيهَا حكمه بِالضَّمَانِ فَقَط، فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا من ذَلِك.
وضعَّفَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» القَوْل بذلك فَقَالَ: أجَاب الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» - قلت: و «السّنَن» و «الخلافيات» - عَن حَدِيث بهز بِأَنَّهُ مَنْسُوخ. قَالَ: و (هَذَا) الْجَواب ضَعِيف من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَا ادعوهُ من كَون الْعقُوبَة كَانَت بالأموال فِي أول الْإِسْلَام لَيْسَ بِثَابِت وَلَا مَعْرُوف.
وَالثَّانِي: أَن النّسخ إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ إِذا علم التَّارِيخ، وَلَيْسَ هُنَا علم بذلك.
قَالَ: وَالْجَوَاب الصَّحِيح تَضْعِيف الحَدِيث كَمَا قَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ - رَحمهَا الله تَعَالَى - هَذَا آخر كَلَامه. وَالظَّاهِر حسن الحَدِيث، (فَلهَذَا) احْتج بِهِ (الْأَكْثَرُونَ) كَمَا سلف، وَقد قَالَ هُوَ فِي كِتَابه «تَهْذِيب الْأَسْمَاء» : إِن يَحْيَى بن معِين وَالْجُمْهُور وثقوه(5/487)
وَاحْتَجُّوا بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد. كَمَا سلف، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: حَدِيث حسن.
وَذكر هَذَا الحَدِيث الإِمَام أَحْمد فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا وَجهه. وَسُئِلَ عَن إِسْنَاده؟ فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي صَالح الْإِسْنَاد.
وَنقل ابْن الْأَثِير فِي كِتَابه «جَامع الْأُصُول» وَكَذَلِكَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «جَامع المسانيد» ، عَن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ الْحَافِظ؛ أَنه قَالَ: غلط الرَّاوِي فِي لفظ رِوَايَة هَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا هُوَ «شطر مَاله» يَعْنِي أَنه يَجْعَل (مَاله) شطرين فَيتَخَيَّر عَلَيْهِ الْمُصدق، (وَيَأْخُذ) الصَّدَقَة من خير الشطرين؛ عُقُوبَة لمَنعه الزَّكَاة، فَأَما مَا لَا يلْزمه فَلَا.
قَالَ ابْن الْأَثِير: وَنقل عَن الشَّافِعِي أَنه رَجَعَ إِلَى هَذَا الحَدِيث فِي الْقَدِيم، وَخَالفهُ فِي الْجَدِيد وَجعله مَنْسُوخا؛ فَإِن ذَلِك كَانَ حَيْثُ كَانَت الْعقُوبَة بِالْمَالِ ثمَّ نسخ.
قَالَ: وَهَذَا القَوْل من الشَّافِعِي يرد مَا ذهب إِلَيْهِ الْحَرْبِيّ (من تغليط) الرَّاوِي، فَإِن الشَّافِعِي جعله (حجَّة) لقَوْله الْقَدِيم.
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا جلب وَلَا جنب» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق: إِحْدَاهَا: من حَدِيث ابْن إِسْحَاق،(5/488)
عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا جلب وَلَا جنب، وَلَا تُؤْخَذ صَدَقَاتهمْ إِلَّا فِي دُورهمْ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة من «سنَنه» كَذَلِك (ثمَّ) رُوِيَ (عَن) مُحَمَّد بن إِسْحَاق (أَن) مَعْنَى «لَا جلب» أَن تصدق الْمَاشِيَة فِي موَاضعهَا، وَلَا تجلب إِلَى الْمُصدق، و «لَا جنب» (لَا) يكون الْمُصدق بأقصى مَوَاضِع أَصْحَاب الصَّدَقَة فتجنب إِلَيْهِ، وَلَكِن تُؤْخَذ فِي مَوْضِعه.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، من حَدِيث ابْن إِسْحَاق أَيْضا، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده عبد الله بن عَمْرو قَالَ: «لما دخل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام الْفَتْح قَامَ خَطِيبًا فِي النَّاس ... » فَذكر حَدِيثا، وَفِيه: «لَا جلب وَلَا جنب» (وَفِيه) : «وَلَا تُؤْخَذ صَدَقَاتهمْ إِلَّا فِي دَارهم» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث الْحسن الْبَصْرِيّ، عَن عمرَان بن الْحصين، مَرْفُوعا بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي(5/489)
(النِّكَاح) ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح بِزِيَادَة: «وَلَا شغار فِي الإِسْلام، و (من) انتهب نهبة فَلَيْسَ منا» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَرَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا. قلت: وَسَمَاع الْحسن من عمرَان مُخْتَلف فِيهِ، ذكر (عَلّي) بن الْمَدِينِيّ وَأَبُو حَاتِم الرازى وَغَيرهمَا من الْأَئِمَّة أَنه لم يسمع مِنْهُ. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلم يثبت مَا رُوِيَ (من قَوْله) : «أَخذ عمرَان بيدى» قَالَ: وَقد أنكر أَحْمد بن حَنْبَل عَلَى مبارك بن فضَالة قَوْله فِي غير حَدِيث: (عَن) الْحسن، ثَنَا عمرَان. وَأَصْحَاب الْحسن غَيره لَا يَقُولُونَ ذَلِك، وَكَانَ كثير التَّدْلِيس. وَقَالَ الْحَاكِم فِي أَوَاخِر كِتَابه: الَّذِي عِنْدِي أَنه سمع مِنْهُ، ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ مَا يدل عَلَيْهِ.(5/490)
قَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : زَاد يَحْيَى بن خلف: «فِي الرِّهَان» . (يَعْنِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «لَا جلب وَلَا جنب فِي الرِّهَان» .
وأعلَّ ابْن الْقطَّان هَذِه الرِّوَايَة بِعَنْبَسَةَ بن سعيد الْقطَّان الْمَذْكُور فِي إسنادها، وَقَالَ: إِنَّهَا لَا تصح قَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ ضَعِيف الحَدِيث يَأْتِي بالطامات. وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي: كَانَ مختلطًا لَا يرْوَى عَنهُ.
ثَالِثهَا: من حَدِيث أنس رضى الله عَنهُ مَرْفُوعا: «لَا جلب وَلَا جنب وَلَا شغار فِي الْإِسْلَام» .
رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار فِي «مسنديهما» ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «علله» ، وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه» (ثمَّ) قَالَ: إِنَّه خطأ فَاحش وَالصَّوَاب حَدِيث بشر. يَعْنِي حَدِيث عمرَان؛ ذكره فِي النِّكَاح، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَنهُ فَقَالَ: لَا أعرفهُ إِلَّا من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، وَلَا أعلم أحدا رَوَاهُ عَن ثَابت غير معمر، وَرُبمَا قَالَ عبد الرَّزَّاق فِي هَذَا الحَدِيث [عَن(5/491)
معمر] عَن ثَابت وَأَبَان (عَن) أنس.
وَقَالَ الْبَزَّار: لَا نعلم رَوَاهُ عَن ثَابت عَن أنس (إِلَّا معمر.
قلت: وَقد أخرجه النَّسَائِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن كثير عَن الْفَزارِيّ عَن حميد عَن أنس) كَمَا سقناه. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ؟ فَقَالَ: مُنكر جدًّا. وَأما ابْن حبَان فَإِنَّهُ صَححهُ من حَدِيث ثَابت عَن أنس؛ فَقَالَ فِي «صَحِيحه» : حَدثنَا ابْن خُزَيْمَة، نَا مُحَمَّد بن يَحْيَى، نَا عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن ثَابت، عَن أنس، رَفعه: « (لَا إسعاد فِي الْإِسْلَام) ، وَلَا شغار فِي الْإِسْلَام، وَلَا عقر فِي الْإِسْلَام، وَلَا جلب وَلَا جنب، وَمن انتهب فَلَيْسَ منَّا» .
رَابِعهَا: من حَدِيث ابْن عمر رضى الله عَنهُ مَرْفُوعا: «لَا جلب وَلَا جنب وَلَا شغار فِي الْإِسْلَام» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن قراد (أبي) نوح، أَنا عبد الله(5/492)
بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر
(فَذكره) .
فَائِدَة: فسَّر الرافعيُّ هُنَا «الجلب وَالْجنب» بِأَن قَالَ: أَي لَا يكلفوا بِأَن يجلبوها إِلَى الْبَلَد، وَلَيْسَ لَهُم أَن يجنبوها السَّاعِي فيشقوا عَلَيْهِ. وَقد أسلفنا تَفْسِير ابْن إِسْحَاق أَيْضا.
وَقَالَ مَالك: «الجلب» أَن يتَخَلَّف الْفرس فِي السباق فيحرك وَرَاءه الشَّيْء يستحث بِهِ فَيَسْبق، و «الْجنب» أَن يجنب مَعَ الْفرس الَّذِي يسابق بِهِ فرسا آخر، حَتَّى إِذا دنى تحول (رَاكب الْفرس عَلَى) المجنوب، فَأخذ (السَّبق) ، وَبِهَذَا التَّفْسِير فسّره الرَّافِعِيّ فِي بَاب السَّبق وَالرَّمْي، وَجزم بِهِ (ابْن) الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» .
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: لَهُ تفسيران؛ أَحدهمَا فِي الزَّكَاة وَالثَّانِي فِي السَّبق، فذكرهما بِمَعْنى قَول مَالك وَابْن إِسْحَاق.
وَفِي كتاب «الْجِهَاد» للْقَاضِي أبي بكر أَحْمد بن (عَمْرو) بن أبي عَاصِم النَّبِيل، عِنْد ذكر حَدِيث أنس السالف: «لَا جلب وَلَا جنب» الجلب: الرجل يجلب الْفرس خلف الآخر وَهُوَ يعدو، وَالْجنب: الْفرس. . بِجنب الآخر وَهُوَ يَعْدو.(5/493)
الحَدِيث السَّادس
عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أَتَاهُ قوم بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: اللَّهُمَّ صلِّ عَلَيْهِم، فَأَتَاهُ أبي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ) صلِّ عَلَى آل أبي أَوْفَى» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته كَذَلِك، وَوَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ فِي الأول: «اللَّهُمَّ صلِّ عَلَى آل أبي أوفي» أَيْضا، وَقد أصلح (فِي بعض النّسخ كَمَا) ذَكرْنَاهُ أَولا.
وَأوردهُ القَاضِي حُسَيْن، وَالْمَاوَرْدِيّ بِلَفْظ: «جِئْت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بصدقات [قومِي] فَقلت: يَا رَسُول الله، ادْع لي. فَقَالَ: اللَّهُمَّ صلِّ عَلَى آل أبي أوفي» .
فَائِدَة: اسْم أبي أوفي عَلْقَمَة بن خَالِد، وَعبد الله ووالده صحابيان، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْكُوفَةِ، مَاتَ بعد الثَّمَانِينَ. وَمَعْنى الصَّلَاة هُنَا الرَّحْمَة، وَآل أبي أوفي قيل: المُرَاد نَفسه، وَمثله: «من مَزَامِير آل دَاوُد» .(5/494)
الحَدِيث السَّابِع
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن الْعَبَّاس سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي تَعْجِيل صدقته قبل أَن تحل فرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِك» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ، من حَدِيث حجاج بن دِينَار، عَن الحكم بن عتيبة، عَن حُجَيَّة - بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة، وَفتح الْجِيم، وَتَشْديد الْمُثَنَّاة تَحت وَفتحهَا، ثمَّ هَاء - عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور. وحجاج هَذَا هُوَ الوَاسِطِيّ، وَثَّقَهُ ابْن الْمُبَارك وَيَعْقُوب بن شيبَة وَالْعجلِي، وَقَالَ يَحْيَى بن معِين وَغَيره: هُوَ صَدُوق. وَخَالف أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فَقَالَ: يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ. وَالدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وحُجَيَّة هُوَ ابْن عدي، قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: (لَا) يحْتَج بحَديثه، شَبيه الْمَجْهُول، شَبيه بشريح بن النُّعْمَان وهبيرة بن يريم. وَقَالَ(5/495)
فِي بابهما حَقّهمَا: شبيهان بالمجهولين لَا يحْتَج بحديثهما. وَقَالَ ابْن حزم (فِي محلاه) فِي حَقه: هُوَ غير مَعْرُوف بِالْعَدَالَةِ. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: مَا علمت أحدا رَوَى عَنهُ غير سَلمَة بن كهيل.
قلت: قد رَوَى عَنهُ الحكم بن عتيبة كَمَا تقدم، وَأَبُو إِسْحَاق السبيعى. وَقَالَ عبد الْحق: لَا يحْتَج بِهِ. وَأنكر ابْن الْقطَّان عَلَى عبد الْحق هَذِه الْعبارَة وَقَالَ: حُجَيَّة رجل مَشْهُور رُوِيَ عَنهُ جماعات، وعددهم كَمَا أسلفت قَالَ: رَوَوْا عَنهُ عدَّة أَحَادِيث، وَهُوَ فِيهَا مُسْتَقِيم لم يعْهَد مِنْهُ خطأ وَلَا اخْتِلَاط وَلَا نَكَارَة وَقَالَ فِيهِ الْكُوفِي: إِنَّه تَابِعِيّ ثِقَة. قَالَ: والعالم حجَّة عَلَى الْجَاهِل. وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» فَقَالَ بعد مقَالَة أبي حَاتِم فِيهِ: رَوَى (عَنهُ) (جمَاعَة) وعددهم، وَهُوَ صَدُوق - إِن شَاءَ الله - وَقد قَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة.
قلت: وَلما أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من هَذَا الْوَجْه قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.
وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن حَدِيث حُجَيَّة هَذَا فَقَالَ فِي «علله» : يرويهِ الحكم بن عتيبة، وَاخْتلف عَنهُ، فَرَوَاهُ حجاج بن دِينَار، وَاخْتلف عَن(5/496)
حجاج، فَقَالَ: إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا عَنهُ عَن الحكم عَن حُجَيّة عَن عَلّي، (وَقَالَ إِسْرَائِيل: عَن حجاج عَن الحكم عَن (حجر) عَن عَلّي) . وَقَالَ مُحَمَّد بن عبيد الله الْعَرْزَمِي: عَن الحكم عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس. وَكلهمْ وهم وَالصَّوَاب مَا رَوَاهُ مَنْصُور عَن الحكم عَن الْحسن بن مُسلم بن ينَّاق مُرْسلا، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: وَطَرِيقَة الحكم عَن (حجر) ذكرهَا التِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحجَّاج بن دِينَار عَنهُ عَن عَلّي «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ لعمر: إنَّا أَخذنَا من الْعَبَّاس صَدَقَة (الْعَام) عَام الأول» وَالْحكم هَذَا وَقع فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ غير مَنْسُوب، وَنسبه التِّرْمِذِيّ فِي رِوَايَته فَقَالَ: (ابْن) جحل وَهُوَ (ثِقَة) كَمَا قَالَ ابْن معِين فِي رِوَايَة.
قَالَ (ابْن) الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : هَذَا الحَدِيث أَقْوَى من الأول. قلت: لَكِن حجر الْعَدوي هَذَا لَا أعرفهُ أصلا، وَهُوَ مِمَّا انْفَرد التِّرْمِذِيّ بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ.(5/497)
قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : حجر (عَن) عليّ لَا يعرف. وَقَالَ فِي «الكاشف» : حجر عَن عَلّي وَعنهُ رجل وَلم يَصح. وَالتِّرْمِذِيّ خَالف فِي هَذَا فَقَالَ: لَا أعرف حَدِيث تَعْجِيل الزَّكَاة (إِلَّا) من حَدِيث إِسْرَائِيل، عَن حجاج بن دِينَار، إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. قَالَ: وَحَدِيث إِسْمَاعِيل - يَعْنِي الأول - عِنْدِي أصح من حَدِيث إِسْرَائِيل عَن الْحجَّاج بن دِينَار [وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث] عَن الحكم بن عتيبة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[مُرْسلا] .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : رَوَى هَذَا الحَدِيث أَيْضا هشيم، عَن مَنْصُور بن زَاذَان، عَن الحكم، عَن الْحسن بن مُسلم، التَّابِعِيّ - يَعْنِي فَيكون مُرْسلا - قَالَ: وَهَذَا أصح. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، كَمَا أسلفناه عَنهُ: إِنَّه الصَّوَاب.
وَنقل الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن الرّبيع، عَن الشَّافِعِي قَالَ: وَيروَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلَا أَدْرِي أيثبت أم لَا؟ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تسلف صَدَقَة مَال الْعَبَّاس، قبل أَن تحل» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: عَنى بِهِ حَدِيث حجية بن عدي عَن عَلّي السالف،(5/498)
ثمَّ ذكر (مثل) مَا أسلفناه عَن الدَّارَقُطْنِيّ، وَهَذِه لَفظه: وَهَذَا حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ عَلَى الحكم بن عتيبة، فَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا، عَن حجاج، عَن الحكم هَكَذَا، وَخَالفهُ إِسْرَائِيل، عَن حجاج فَقَالَ: عَن الحكم عَن حجر الْعَدوي عَن عَلّي. وَخَالفهُ فِي لَفظه فَقَالَ: «قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعمر: إِنَّا قد أَخذنَا من الْعَبَّاس زَكَاة الْعَام عَام الأول» . وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن (عبيد الله) ، هُوَ الْعَرْزَمِي، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس فِي قصَّة عمر، وَرَوَاهُ الْحسن بن عمَارَة عَن الحكم، عَن مُوسَى بن طَلْحَة عَن طَلْحَة، وَرَوَاهُ هشيم، عَن مَنْصُور (بن) زَاذَان، عَن الحكم، عَن الْحسن بن مُسلم، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا، إِلَّا أَنه قَالَ لعمر فِي هَذِه (الْقِصَّة: «إنّا) كُنَّا تعجلنا صَدَقَة مَال الْعَبَّاس لِعَامِنَا هَذَا عَام أول» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا هُوَ الْأَصَح من هَذِه الرِّوَايَات، قَالَ: وَاعْتمد الشَّافِعِي فِي هَذَا الْبَاب عَلَى مَا ثَبت (عَن) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي «الْيَمين» : «فليكفّر عَن يَمِينه، وليأتِ الَّذِي هُوَ خير» ، (ثمَّ) عَلَى مَا ثَبت عَن (بعض) أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي ذَلِك، مِنْهُم عبد الله بن عمر بن الْخطاب: «رُبمَا كفر (عَن) يَمِينه قبل أَن يَحْنَث وَرُبمَا كفّر بَعْدَمَا يَحْنَث» .(5/499)
الحَدِيث الثَّامِن
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (تسلفت) من الْعَبَّاس صَدَقَة عَاميْنِ) .
هَذَا الحَدِيث مرويٌّ من طرق؛ إِحْدَاهَا: من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن عَم الرجل صنو أَبِيه، وَإِن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تعجل صَدَقَة الْعَبَّاس عَاميْنِ فِي عَام» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، من حَدِيث ابْن ذكْوَان، عَن مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة، عَن عبد الله (بِهِ) .
وَمُحَمّد بن ذكْوَان هَذَا قَالَ البُخَارِيّ فِي حَقه: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ضَعِيف كثير الْخَطَأ. وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَابْن حبَان فِي «ثقاته» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث مُوسَى بن طَلْحَة، عَن طَلْحَة أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا عمر، أما علمت أَن عَم الرجل صنو أَبِيه، إنَّا كُنَّا احتجنا إِلَى مَال فتعجلنا من الْعَبَّاس صَدَقَة مَاله لِسنتَيْنِ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، من حَدِيث وليد بن حَمَّاد، عَن(5/500)
الْحسن بن زِيَاد، عَن الْحسن بن عمَارَة، عَن الحكم، (عَن) مُوسَى بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، الْحسن (بن) زِيَاد كَذَّاب، قَالَه غير واحدٍ، وَالْحسن بن عمَارَة أحد الهلكى. قَالَ السَّاجِي: أَجمعُوا عَلَى ترك حَدِيثه. وَأغْرب الْبَزَّار فَقَالَ فِي «مُسْنده» فِي هَذَا الحَدِيث: سكت أهل الْعلم عَن حَدِيثه.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: اخْتلفُوا فِي هَذَا الحَدِيث عَلَى الحكم فِي إِسْنَاده، وَالصَّحِيح عَن الْحسن بن مُسلم مُرْسل.
ثَالِثهَا: من حَدِيث الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس؛ قَالَ: بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عمر ساعيًا، قَالَ: فَأَتَى الْعَبَّاس يطْلب صَدَقَة مَاله، قَالَ: فَأَغْلَظ لَهُ الْعَبَّاس (القَوْل) ، فَخرج إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخْبرهُ، (فَقَالَ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن الْعَبَّاس قد أسلفنا زَكَاة مَاله الْعَام وَالْعَام الْمقبل» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا كَذَلِك، وَإِسْنَاده أَيْضا ضَعِيف، فِيهِ مُحَمَّد بن عبيد الله الْعَرْزَمِي وَقد تَرَكُوهُ.
رَابِعهَا: من حَدِيث الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث عمر عَلَى الصَّدَقَة، فَرجع (وَهُوَ) يشكو الْعَبَّاس، فَقَالَ: إِنَّه(5/501)
مَنَعَنِي صدقته. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: يَا عمر، أما علمت أَن عمّ الرجل صِنْو أَبِيه، إِن الْعَبَّاس أسلفنا صَدَقَة عَاميْنِ فِي عَام» .
وَإِسْنَاده أَيْضا ضَعِيف؛ لأجل منْدَل بن عَلّي رَاوِيه عَن الحكم، وَقد ضعفه أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ.
خَامِسهَا: من حَدِيث أبي البخْترِي، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّا كُنَّا احتجنا فأسلفنا الْعَبَّاس صَدَقَة عَاميْنِ» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، ثمَّ قَالَ: فِيهِ إرْسَال بَين أبي البخترى وَعلي.
قلت: لِأَنَّهُ لم يُدْرِكهُ كَمَا نصَّ عَلَيْهِ شُعْبَة وَأحمد وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهم. وَاحْتج الْبَيْهَقِيّ للتعجيل بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «وَأما الْعَبَّاس فَهِيَ عليَّ وَمثلهَا مَعهَا ... »(5/502)
الحَدِيث بِطُولِهِ.
(قَالَ) الْبَيْهَقِيّ: حملُوا هَذَا الحَدِيث عَلَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أخر عَنهُ الصَّدَقَة (عَاميْنِ) من حَاجَة (بِالْعَبَّاسِ) إِلَيْهَا، وَالَّذِي رَوَاهُ وَرْقَاء عَلَى أَنه تسلف مِنْهُ صَدَقَة عَاميْنِ. قَالَ: وَفِي كل ذَلِك دَلِيل عَلَى جَوَاز تَعْجِيل الصَّدَقَة. أما حَدِيث شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الَّذِي قَالَ فِيهِ: «فَهِيَ (عَلّي) صَدَقَة وَمثلهَا مَعهَا» فَإِنَّهُ يبعد من أَن يكون مَحْفُوظًا، (لِأَن) الْعَبَّاس كَانَ (رجلا) من (صلبية) بني هَاشم تحرم عَلَيْهِ الصَّدَقَة، فَكيف يَجْعَل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا عَلَيْهِ من صَدَقَة عَاميْنِ صَدَقَة عَلَيْهِ؟ قَالَ: وَرَوَاهُ مُوسَى بن عقبَة، عَن أبي الزِّنَاد؛ فَقَالَ فِي الحَدِيث: «فَهِيَ لَهُ وَمثلهَا مَعهَا» وَقد يُقَال: «لَهُ» بِمَعْنى «عَلَيْهِ» ، فروايته مَحْمُولَة عَلَى سَائِر الرِّوَايَات، وَقد يكون المُرَاد بقوله «فَهِيَ عَلَيْهِ» : أَي عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَيكون مُوَافقا لرِوَايَة وَرْقَاء، وَرِوَايَة وَرْقَاء أولَى بِالصِّحَّةِ؛ لموافقتها الرِّوَايَات الصَّحِيحَة بالاستسلاف والتعجيل. قَالَ: وَقد رَوَى الشَّافِعِي عَن مَالك عَن نَافِع «أَن عبد الله بن عمر كَانَ يبْعَث زَكَاة الْفطر إِلَى الذى(5/503)
تجمع عِنْده قبل الْفطر بيومين أَو ثَلَاثَة» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَذهب أَكثر أهل الْعلم إِلَى جَوَاز تَعْجِيل الزَّكَاة.
قلت: فَحصل الِاسْتِدْلَال إِذن من مَجْمُوع مَا ذَكرْنَاهُ عَلَى جَوَاز التَّعْجِيل، وَالشَّافِعِيّ يحْتَج بالمرسل إِذا اعتضد بِأحد أُمُور مِنْهَا: أَن يسند من جِهَة أُخْرَى أَو يُرْسل، أَو يَقُول بِهِ بعض الصَّحَابَة أَو أَكثر الْعلمَاء.
وَقد (وجدنَا) هَذِه الْأُمُور؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مَعْنَاهُ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة كَمَا سلف، وَرُوِيَ مُرْسلا وَمُسْندًا كَمَا سلف فِي الحَدِيث (الَّذِي) قبله أَيْضا، وَقَالَ بِهِ بعض الصَّحَابَة كَمَا سلف عَن ابْن عمر، وَقَالَ بِهِ أَكثر الْعلمَاء كَمَا أسلفناه عَن (التِّرْمِذِيّ) ، فَللَّه الْحَمد.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (فِي) خمس من الْإِبِل شَاة، وَلَا شَيْء فِي زيادتها حَتَّى تبلغ عشرا» .
هَذَا الحَدِيث تقدم (بَيَانه) فِي بَاب زَكَاة النعم من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.(5/504)
الحَدِيث الْعَاشِر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي حَدِيث أنس: «فِي خمس من الْإِبِل شَاة، فَإِذا بلغت خمْسا وَعشْرين إِلَى خمس وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بنت مَخَاض» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه بِطُولِهِ فِي الْبَاب الْمَذْكُور أَيْضا.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاة شَاة» .
هَذَا الحَدِيث هُوَ بعض من حَدِيث ابْن عمر، وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره مطولا كَمَا أسلفناه أَيْضا فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
وَأما آثَار الْبَاب فخمسة:
أَولهَا: عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ أَنه قَالَ فِي الْمحرم: «هَذَا شهر زَكَاتكُمْ، فَمن كَانَ عَلَيْهِ دين فليقض دينه، ثمَّ ليزك مَاله» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن ابْن شهَاب، عَن السَّائِب بن يزِيد؛ أَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يَقُول: «هَذَا شهر زَكَاتكُمْ، فَمن كَانَ عَلَيْهِ دين فليؤد دينه حَتَّى (تخلص) أَمْوَالكُم، فتؤدون مِنْهَا الزَّكَاة» .
وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» بِلَفْظ: «فَمن كَانَ عَلَيْهِ دين(5/505)
فليقضه، وأدوا زَكَاة أَمْوَالكُم» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، عَن الشَّافِعِي كَمَا سلف، وَمن طَرِيق آخر بِإِسْنَاد صَحِيح أَيْضا، عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: أَخْبرنِي السَّائِب بن يزِيد «أَنه سمع عُثْمَان بن عَفَّان خَطِيبًا عَلَى مِنْبَر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: هَذَا شهر زَكَاتكُمْ - وَلم يسم (لي) السَّائِب الشَّهْر، وَلم أسأله عَنهُ، قَالَ: فَقَالَ عُثْمَان: - فَمن كَانَ مِنْكُم عَلَيْهِ دين فليقض دينه حَتَّى تخلص أَمْوَالكُم فتؤدوا مِنْهَا الزَّكَاة» .
ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب (الدَّين هَل يمْنَع) الصَّدَقَة، من كتاب الزَّكَاة، قَالَ: وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «الصَّحِيح» ، عَن أبي الْيَمَان، عَن شُعَيْب، عَن الزُّهْرِيّ، وَكَذَا عزاهُ إِلَى البُخَارِيّ من هَذَا الْوَجْه: الْمُنْذِرِيّ فِي تَخْرِيجه لأحاديث «الْمُهَذّب» ، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي (الإِمَام) ، وَأنكر النَّوَوِيّ فِي «شَرحه للمهذب» عَلَى الْبَيْهَقِيّ هَذَا الْعزو، وَقَالَ: البُخَارِيّ لم يذكرهُ فِي «صَحِيحه» هَكَذَا، وَإِنَّمَا ذكر عَن السَّائِب بن يزِيد؛ أَنه سمع عُثْمَان بن عَفَّان عَلَى مِنْبَر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، لم يزدْ عَلَى هَذَا، ذكره فِي كتاب الِاعْتِصَام فِي ذكر الْمِنْبَر، وَكَذَا ذكره الْحميدِي فِي «جمعه» عَن البُخَارِيّ، كَمَا ذكرنَا. قَالَ: ومقصود البُخَارِيّ بِهِ إِثْبَات الْمِنْبَر. قَالَ: وَكَأن الْبَيْهَقِيّ أَرَادَ: رَوَى البُخَارِيّ أَصله لَا كُله.(5/506)
قلت: لَكِن الْبَيْهَقِيّ نَفسه فِي «خلافياته» سرده بِلَفْظِهِ السالف عَن «سنَنه» فَقَالَ: وَعند البُخَارِيّ فِي «الصَّحِيح» ، عَن السَّائِب بن يزِيد؛ أَنه سمع عُثْمَان ... فَذكره سَوَاء. فلعلَّ الْبَيْهَقِيّ ظفر بِهِ كَذَلِك فِي نُسْخَة من نسخ البُخَارِيّ.
الْأَثر الثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع: «أَن سعد بن أبي وَقاص، وَأَبا هُرَيْرَة، وَأَبا سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، سئلوا عَن الصّرْف إِلَى الْوُلَاة الجائرين فَأمروا بِهِ» .
هَذِه الْآثَار مَشْهُورَة عَنْهُم، رَوَاهَا سعيد بن مَنْصُور فِي «سنَنه» عَن سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، قَالَ: «اجْتمع (عِنْدِي) نَفَقَة فِيهَا صدقتى - يَعْنِي بلغت نِصَاب الزَّكَاة - فَسَأَلت (سعد) بن وَقاص وَابْن عمر وَأَبا هُرَيْرَة وَأَبا سعيد الْخُدْرِيّ؛ أَن أقسمها أَو أدفعها إِلَى السُّلْطَان (فأمروني جَمِيعًا أَن أدفعها إِلَى السُّلْطَان) مَا اخْتلف عليَّ (مِنْهُم) أحد» .
وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «فَقلت لَهُم: هَذَا السُّلْطَان يفعل مَا ترَوْنَ، فأدفع إِلَيْهِ زكاتي؟ فَقَالُوا كلهم: نعم» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَنْهُم وَعَن غَيرهم.
الْأَثر الْخَامِس: «أَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما كَانَ يبْعَث صَدَقَة الْفطر إِلَى الَّذِي تجمع عِنْده قبل الْفطر بيومين» .(5/507)
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ كَمَا سلف، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» ، وَلَفظ (الشَّافِعِي وَمَالك فِي الْمُوَطَّأ) : «بيومين أَو ثَلَاثَة» وَلَفظ البَاقِينَ: «بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ» .
وَفِي البُخَارِيّ: «أَن ابْن عمر كَانَ يُعْطِيهَا الَّذين يقبلونها، وَكَانُوا يُعْطون قبل الْفطر بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ» .(5/508)
بَاب زَكَاة المعشرات
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَادِيث واثارًا، أما الْأَحَادِيث فثمانية عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن معَاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِيمَا سقت السَّمَاء والبعل والسيل الْعشْر، وَفِيمَا سقِِي بالنضح نصف الْعشْر» يكون ذَلِك فِي التَّمْر وَالْحِنْطَة والحبوب، فَأَما القثاء والبطيخ وَالرُّمَّان والقصب والخضروات فعفو، عَفى عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ، كَمَا (سقناه) الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من حَدِيث (ابْن) نَافِع، قَالَ: حَدثنِي إِسْحَاق بن يَحْيَى بن طَلْحَة، عَن عَمه مُوسَى (بن طَلْحَة) ، عَن معَاذ بِهِ.
والرافعي لم يذكرهُ كَذَلِك، وَإِنَّمَا قَالَ: تجب الزَّكَاة فِي الأقوات، وعدَّد جملَة مِنْهَا، ثمَّ قَالَ: إِنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ أَخذ الزَّكَاة فِي كثير مِنْهَا، وَألْحق الْبَاقِي بِهِ لشُمُوله مَعْنَى الاقتيات فَذكرت لَك الحَدِيث برمتِهِ.
وَابْن نَافِع هَذَا هُوَ عبد الله بن نَافِع (الصَّائِغ) ، وَهُوَ ثِقَة من(5/509)
فرسَان مُسلم وَلينه جماعات، وَإِسْحَاق بن يَحْيَى بن طَلْحَة مَتْرُوك، كَمَا قَالَه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ.
ثمَّ فِيهِ انْقِطَاع أَيْضا؛ لِأَن مُوسَى بن طلحةلم يُدْرِكهُ كَمَا ستعلمه بَعْدُ وَأما الْحَاكِم فَإِنَّهُ أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» (بِالْإِسْنَادِ) الْمَذْكُور (ثمَّ) قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، وَفِيه النّظر الْمَذْكُور. نعم ذكر شَاهدا من حَدِيث أبي مُوسَى ومعاذ، وَسَيَأْتِي، ثمَّ قَالَ: هَذَا شَاهد صَحِيح.
وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث الْحسن بن عمَارَة - أحد الهلكى - عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبيد، عَن عِيسَى بن طَلْحَة، عَن معَاذ «أَنه كتب إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسْأَله عَن الخضروات، (وَعَن) الْبُقُول؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْء» . (ثمَّ) قَالَ: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح، وَلَيْسَ يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي هَذَا الْبَاب شَيْء - يعْنى فِي الخضروات - وَالْحسن بن عمَارَة ضَعِيف عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، ضعفه شُعْبَة وَغَيره، وَتَركه ابْن الْمُبَارك، وَإِنَّمَا يرْوَى عَن مُوسَى بن طَلْحَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا.(5/510)
وَقَالَ ابْن حزم: ذكرُوا آثاًرا فِي إِيجَاب الزَّكَاة فِي (الزَّبِيب) لَيْسَ مِنْهَا شَيْء يَصح، مِنْهَا حَدِيث مُوسَى بن طَلْحَة «عندنَا كتاب معَاذ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه إِنَّمَا أَخذ الصَّدَقَة من التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْحِنْطَة وَالشعِير» ثمَّ (قَالَ) هَذَا مُنْقَطع؛ لِأَن مُوسَى بن طَلْحَة لم يدْرك معَاذًا (يَعقله) .
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الصَّدَقَة فِي أَرْبَعَة: فِي التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْحِنْطَة وَالشعِير، وَلَيْسَ فِيمَا سواهَا صَدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» من حَدِيث (أبي) بُرْدَة، عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، ومعاذ بن جبل، رضى الله عَنْهُمَا، حِين بعثهما رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن، يعلمَانِ النَّاس أَمر دينهم: «لَا تَأْخُذُوا الصَّدَقَة (إِلَّا) من هَذِه الْأَرْبَعَة: الشّعير، وَالْحِنْطَة، وَالتَّمْر، وَالزَّبِيب» .
قَالَ الْحَاكِم: إِسْنَاده صَحِيح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : رُوَاته ثِقَات، وَهُوَ مُتَّصِل.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، من هَذَا الْوَجْه من حَدِيث مُوسَى(5/511)
بن طَلْحَة، عَن عمر بن الْخطاب؛ قَالَ: «إِنَّمَا سنّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الزَّكَاة فِي هَذِه الْأَرْبَعَة: فِي الْحِنْطَة، وَالشعِير، وَالزَّبِيب، وَالتَّمْر» .
وَمن حَدِيث الْعَرْزَمِي - وَهُوَ واه - عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، قَالَ: «سُئِلَ عبد الله بن عَمْرو عَن الْجَوْهَر والدر والفصوص والخرز، وَعَن نَبَات الأَرْض؛ البقل والقثاء وَالْخيَار، فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْحجر زَكَاة، وَلَيْسَ فِي الْبُقُول زَكَاة، إِنَّمَا سنّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْحِنْطَة وَالشعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب» .
(وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه مُخْتَصرا؛ وَهَذَا لَفظه: عَن جده عبد الله بن (عَمْرو) قَالَ: «إِنَّمَا سنّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الزَّكَاة فِي هَذِه الْخَمْسَة: فِي الْحِنْطَة وَالشعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب) والذرة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُوسَى بن طَلْحَة؛ قَالَ: «عندنَا كتاب معَاذ بن جبل عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ أَنه إِنَّمَا أَخذ الصَّدَقَة من الْحِنْطَة وَالشعِير وَالزَّبِيب وَالتَّمْر» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» أَيْضا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث قد احْتج بِجَمِيعِ (رُوَاته) . قَالَ: (و) مُوسَى بن طَلْحَة تَابِعِيّ كَبِير (لَا) يُنكر لَهُ (أَنه) يدْرك أَيَّام معَاذ. وَاعْترض عَلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي(5/512)
«الْإِلْمَام» ؛ فَقَالَ بعد أَن نقل عَن الْحَاكِم أَنه قَالَ فِيهِ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَزعم أَن مُوسَى بن طَلْحَة تَابِعِيّ كَبِير لَا يُنكر أَن يدْرك أَيَّام (معَاذ) : وَفِيمَا قَالَ نظر كَبِير؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ من حَدِيث مُوسَى أَنه قَالَ: «عندنَا كتاب معَاذ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه إِنَّمَا أَخذ الصَّدَقَة من الْحِنْطَة وَالشعِير وَالزَّبِيب وَالتَّمْر» وَهَذَا يشْعر أَنه كتاب، وَذكر أَبُو زرْعَة أَن مُوسَى عَن عمر مُرْسل؛ فَإِن كَانَ لم يدْرك (عمر فَلم يدْرك) معَاذًا. وَقَالَ فِي «الإِمَام» : فِي قَول الْحَاكِم نظر - أَعنِي فِي الِاتِّصَال مَا بَين مُوسَى ومعاذ - وَقد ذكرُوا فِي وَفَاة مُوسَى (أَنَّهَا) كَانَت فِي سنة ثَلَاث وَمِائَة وَقيل: أَربع.
قلت: وَأما ابْن عبد الْبر فَقَالَ فِي «استذكاره» : لم يلق معَاذًا وَلَا أدْركهُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعد تَخْرِيجه: رَوَى هَذَا الحَدِيث عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي، عَن سُفْيَان، وَزَاد فِيهِ: قَالَ: «بعث الْحجَّاج بمُوسَى بن الْمُغيرَة عَلَى الْخضر والسواد، فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ من الْخضر الرطاب والبقول، فَقَالَ مُوسَى بن طَلْحَة: عندنَا كتاب معَاذ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه أمره أَن يَأْخُذ من الْحِنْطَة وَالشعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب. قَالَ: فَكتب إِلَى الْحجَّاج فِي ذَلِك، فَقَالَ: صدق» وَفِي رِوَايَة لَهُ: إِن مُوسَى بن طَلْحَة أعلم من مُوسَى بن الْمُغيرَة. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد؛(5/513)
قَالَ: «لم تكن الصَّدَقَة فِي عهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا فِي خَمْسَة (أَشْيَاء) : الْحِنْطَة، وَالشعِير، وَالتَّمْر، وَالزَّبِيب، والذرة» . ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن قَالَ: «لم يفْرض النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا فِي عشرَة أَشْيَاء: الْإِبِل، وَالْبَقر، وَالْغنم، وَالذَّهَب، وَالْفِضَّة، وَالْحِنْطَة، وَالشعِير، وَالتَّمْر، وَالزَّبِيب» قَالَ ابْن عُيَيْنَة: أرَاهُ قَالَ - والذرة» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن الْحسن؛ قَالَ: «لم يَجْعَل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الصَّدَقَة إِلَّا فِي عشرَة ... » فَذَكرهنَّ، وَذكر (فِيهِنَّ) «السُلت» وَلم يذكر: «الذّرة» . وَفِيه (عَمْرو) بن عبيد، رَأس الاعتزال، الْمَتْرُوك. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن الشّعبِيّ؛ قَالَ: «كتب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى أهل الْيمن: إِنَّمَا الصَّدَقَة فِي الْحِنْطَة وَالشعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب» . ثمَّ رَوَى أَيْضا حَدِيث معَاذ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث الأول، ثمَّ قَالَ: هَذِه الْأَحَادِيث كلهَا مَرَاسِيل، إِلَّا (أَنَّهَا) من طرق مُخْتَلفَة فيؤكّد بَعْضهَا بَعْضًا، وَمَعَهَا حَدِيث أبي مُوسَى، وَمَعَهَا قَول بعض الصَّحَابَة؛ كَقَوْل عمر: «لَيْسَ فِي الخضروات صَدَقَة» ، (وَقَول عَلّي: لَيْسَ فِي الخضروات [والبقول] صَدَقَة» ) وَقَول عَائِشَة فِيمَا ذكرت أَن السّنة جرت بِهِ: «وَلَيْسَ فِيمَا أنبتت الأَرْض(5/514)
من الخضروات زَكَاة» ، وَقَول عَطاء: «لَا صَدَقَة إِلَّا فِي نخل (أَو) عِنَب أَو حب، وَلَيْسَ فِي شَيْء من (الْخضر) بعد [و] الْفَوَاكِه كلهَا صَدَقَة» .
الحَدِيث الثَّالِث
قَالَ الرَّافِعِيّ: هَذَا الْخَبَر - يَعْنِي الْمَذْكُور قبله - يَنْفِي الزَّكَاة فِي غير الْأَرْبَعَة، لَكِن ثَبت أَخذ الصَّدَقَة من الذّرة وَغَيرهَا بِأَمْر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
أما أَخذ الذّرة فقد سلف فِي الحَدِيث قبله، من حَدِيث الْحسن وَمُجاهد، وهما مرسلان، وَمَعَ ذَلِك فَفِي إِسْنَاد حَدِيث الْحسن: عَمْرو بن عبيد، الْمَتْرُوك، كَمَا سلف. وَفِي إِسْنَاد حَدِيث مُجَاهِد: خصيف الْجَزرِي، وَهُوَ مُخْتَلف (فِيهِ) ، وَسلف أَيْضا (فِي) حَدِيث عبد الله بن (عَمْرو) وَهُوَ ضَعِيف كَمَا سلف فِي الحَدِيث قبله.
وَأما غير الذّرة، مَا عدا الْأَرْبَعَة، فقد سلف فِي الحَدِيث قبله أَيْضا: «السُلت» ، وَهُوَ مُرْسل.
إِذا علمت ذَلِك فَفِي قَول الرَّافِعِيّ إِذن: ثَبت أَخذ الصَّدَقَة من الذّرة وَغَيرهَا بِأَمْر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فِيهِ نظر.(5/515)
الحَدِيث الرَّابِع
عَن معَاذ (بن جبل) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه [لم يَأْخُذ] زَكَاة الْعَسَل، وَقَالَ: لم يَأْمُرنِي فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِشَيْء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، من حَدِيث طَاوس عَن معَاذ أَنه أُتِي بوقص الْبَقر (وَالْعَسَل) ، فَقَالَ معَاذ: كِلَاهُمَا لم يَأْمُرنِي فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِشَيْء» .
قلت: وَهَذَا مُرْسل؛ طَاوس لم يدْرك معَاذًا كَمَا سلف فِي الحَدِيث السَّادِس من بَاب زَكَاة النعم.
الحَدِيث الْخَامِس
ورد فِي الْخَبَر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «فِي أَخذ الزَّكَاة من الْعَسَل» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد ورد فِي عدَّة أَخْبَار؛ (أَحدهَا) : خبر ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الْعَسَل فِي كل عشرَة أزق زق» .(5/516)
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ، من حَدِيث عَمْرو بن أبي سَلمَة التنيسِي، عَن صَدَقَة بن عبد الله، عَن مُوسَى بن يسَار، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر (بِهِ) كَذَلِك. وَالْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: «أزقاق» بدل «أزق» . وَصدقَة هَذَا هُوَ السمين، وَهُوَ ضَعِيف، وَقد سلف حَاله فِي كتاب الطَّهَارَة فِي أثر عمر فِي المشمس.
وَعَمْرو هَذَا من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَإِن ضعفه ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم.
وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد (بن) يُوسُف، عَن عَمْرو بن أبي سَلمَة، عَن زُهَيْر بن مُحَمَّد، عَن مُوسَى بن يسَار؛ قَالَ ابْن حبَان: إِسْمَاعِيل هَذَا يقلب الْأَسَانِيد، وَيسْرق الحَدِيث لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. قَالَ يَحْيَى بن معِين: وَعَمْرو بن أبي سَلمَة وَزُهَيْر ضعيفان. وعلَّل ابْن الْجَوْزِيّ هَذِه الطَّرِيقَة بِهَذَا، وَقَالَ فِي «علله» : إِنَّهَا لَا تصح لأجل ذَلِك. وَزُهَيْر هَذَا من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَفِيه لين.
قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» بعد أَن أخرجه: هَذَا حَدِيث فِي إِسْنَاده مقَال، وَلَا يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي هَذَا (الْبَاب) كَبِير شَيْء، وَصدقَة لَيْسَ بحافظ، وَقد خُولِفَ فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن نَافِع. وَقَالَ فِي(5/517)
«علله» : سَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ؟ فَقَالَ: (هُوَ) عَن نَافِع، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسل.
وَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا حَدِيث مُنكر. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ هَكَذَا صَدَقَة، وَهُوَ ضَعِيف، قد ضعفه أَحْمد وَيَحْيَى وَغَيرهمَا.
ثَانِيهَا: خبر عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: «جَاءَ هِلَال - أحد بني مُتعَانَ - إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعشور (نحلٍ) لَهُ، قَالَ: وَسَأَلَهُ أَن يحمي وَاديا يُقَال لَهُ سَلبَهْ، فحمى لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَلِك الْوَادي، فَلَمَّا تولى عمر بن الْخطاب كتب سُفْيَان بن وهب إِلَى عمر بن الْخطاب (يسْأَله) عَن ذَلِك، فَكتب عمر: إِن أَدَّى إِلَيْك مَا كَانَ (يُؤَدِّي) إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من عشور (نحله) فَاحم لَهُ سَلبَه، وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَاب غيث يَأْكُلهُ من يَشَاء» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وسَلبه بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَاللَّام (مَعًا) ، كَمَا قَيده الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» .(5/518)
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «إِن شَبابَة - بطن من فهم - ... » فَذكر نَحوه، وَقَالَ: «فِي (كل) عشر قرب قربَة» وَقَالَ سُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِيّ: «وَكَانَ يحمى لَهُم واديين» زَاد: «فأدوا إِلَيْهِ مَا كَانُوا يؤدون إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَحمى لَهُم (وَادِيهمْ)) .
وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عبد الله بن عَمْرو.
وَهَذِه التَّرْجَمَة، وَهِي عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده احْتج بهَا الْأَكْثَرُونَ، كَمَا أسلفناه فِي بَاب الْوضُوء، لَا جرم أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين لما ذكره فِي «إلمامه» قَالَ: إِن ابْن مَاجَه رَوَاهُ من حَدِيث نعيم بن حَمَّاد، وَهُوَ حَافظ أخرج لَهُ البُخَارِيّ - وَقد (مُس) - عَن ابْن الْمُبَارك - وَهُوَ إِمَام - عَن أُسَامَة بن زيد، وَأخرج لَهُ مُسلم، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده عبد الله بن عَمْرو «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَخذ من الْعَسَل الْعشْر» . قَالَ: وَمن يحْتَج بنسخة عَمْرو يحْتَج بِهِ.
قلت: لَا جرم حسنه ابْن عبد الْبر فِي «استذكاره» ، وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» وَقد سُئِلَ عَن حَدِيث عبد الله بن عَمْرو عَن عمر، قصَّة بني(5/519)
شَبابَة الحَدِيث؛ فَقَالَ: هُوَ حَدِيث يرويهِ عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث وَعبد الله بن لَهِيعَة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، مُسْندًا عَن عمر، وَرَوَاهُ يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب مُرْسلا عَن عمر.
ثَالِثهَا: خبر سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن أبي سيارة (المتعي) ؛ قَالَ: «قلت يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِن لي نحلاً قَالَ: أدّ العشور. قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله) احم لي جبلها فحمى (لي) جبلها» .
رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل فِي «مُسْنده» ، وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي سيارة (المتَعي) وَهُوَ حَدِيث مُنْقَطع؛ لِأَن سُلَيْمَان بن مُوسَى لم يدْرك(5/520)
أَبَا سيارة (المتَعي) ، وَمَعَ ذَلِك فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هُوَ أصح مَا رُوِيَ فِي وجوب الْعشْر فِيهِ مَعَ انْقِطَاعه. قَالَ: وَقَالَ أَبُو عِيسَى: سَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ؟ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُرْسل وَسليمَان بن مُوسَى لم يدْرك أحدا من (أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) ، وَلَيْسَ فِي زَكَاة الْعَسَل شَيْء يَصح.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا حَدِيث مُنْقَطع، وَلَا يعرف أَبُو سيارة بِغَيْر هَذَا، وَلَا تقوم لأحد بِمثلِهِ حجَّة.
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ فِي «الْكَمَال» : أَبُو سيارة [المتعي الْقَيْسِي] ، قيل: اسْمه عميرَة بن الأعلم، وَقيل: إِنَّه شَامي، وَحَدِيثه فِي الشاميين، رَوَى عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَدِيثا فِي الْعَسَل، وَلَيْسَ لَهُ سواهُ.
وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» فِي تَرْجَمَة: من عرف بكنيته دون اسْمه.
رَابِعهَا: خبر أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ قَالَ: «كتب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى أهل الْيمن: أَن يُؤْخَذ من (الْعَسَل الْعشْر)) .(5/521)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، من حَدِيث عبد الله بن مُحَرر، [عَن الزُّهْرِيّ] ، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة. وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة.
وَعبد الله هَذَا تَرَكُوهُ، قَالَ ابْن حزم: (هُوَ) أسقط من كل سَاقِط مُتَّفق عَلَى (إطراحه) .
خَامِسهَا: خبر (سعد) بن أبي ذُبَاب قَالَ: «قدمت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأسْلمت، (ثمَّ) قلت: يَا رَسُول الله اجْعَل لقومي مَا أَسْلمُوا عَلَيْهِ من أَمْوَالهم فَفعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فاستعملني عَلَيْهِم، ثمَّ استعملني أَبُو بكر، ثمَّ عمر. قَالَ: وَكَانَ سعد من أهل السراة، قَالَ: فكلمت قومِي فِي الْعَسَل، فَقلت لَهُم: زكوه فَإِنَّهُ لَا خير فِي ثَمَرَة لَا تزكَّى. (فَقَالُوا:) كم؟ فَقلت: الْعشْر. فَأخذت مِنْهُم الْعشْر، فَأتيت عمر بن الْخطاب فَأَخْبَرته بِمَا كَانَ، قَالَ: فَقَبضهُ عمر فَبَاعَهُ ثمَّ جعل (ثمنه) فِي صدقَات الْمُسلمين» .(5/522)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَقَالَ: قَالَ البُخَارِيّ: عبد الله (وَالِد) مُنِير عَن سعد بن أبي ذُبَاب لَا يَصح حَدِيثه. (وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ:) مُنِير هَذَا لَا نعرفه إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث.
وَقَالَ الْأَزْدِيّ: مُنِير لَا يحْتَج بِخَبَرِهِ هُوَ ضَعِيف. قَالَ الشَّافِعِي: وَسعد بن أبي ذُبَاب يَحْكِي مَا يدل عَلَى (أَن) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يَأْمُرهُ بِأخذ الصَّدَقَة من الْعَسَل، وَأَنه شَيْء رَآهُ فتطوع لَهُ أَهله.
فَهَذِهِ أَحَادِيث إِيجَاب زَكَاة الْعَسَل مطعون فِي كلهَا وأجودها: (ثَانِيهَا)
وَقد صرح جماعات من الْحفاظ بِأَنَّهُ لَا يَصح شَيْء فِي إِيجَاب زَكَاته، قَالَ الزَّعْفَرَانِي: قَالَ الشَّافِعِي: الحَدِيث فِي أَن فِي الْعَسَل الْعشْر ضَعِيف، وَفِي أَن لَا يُؤْخَذ مِنْهُ الْعشْر ضَعِيف، إِلَّا عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، أَنا مَالك، عَن عبد الله بن أبي بكر قَالَ: « (جَاءَنِي) كتاب من عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى أبي و (هُوَ) بمنى: أَلا تَأْخُذ من الْخَيل وَلَا من الْعَسَل صَدَقَة» .(5/523)
قَالَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ: واختياري أَن لَا يُؤْخَذ مِنْهُ؛ لِأَن السّنَن والْآثَار ثَابِتَة فِيمَا يُؤْخَذ مِنْهُ، وَلَيْسَت فِيهِ ثَابِتَة، فَكَأَنَّهُ عَفْو.
وَقَالَ البُخَارِيّ: لَا يَصح فِي زَكَاة الْعَسَل شَيْء، وَقد أسلفنا ذَلِك عَن التِّرْمِذِيّ أَيْضا. وَكَذَا قَالَ ابْن الْمُنْذر: لَيْسَ فِي وجوب صَدَقَة الْعَسَل حَدِيث (يثبت) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلَا إِجْمَاع، فَلَا زَكَاة فِيهِ، وروينا ذَلِك عَن ابْن عمر، وَعمر بن عبد الْعَزِيز.
الحَدِيث السَّادِس
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق من التَّمْر صَدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث (كَرَّرَه) الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَهُوَ حَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، وَاللَّفْظ (للْبُخَارِيّ، وَلَفظ) مُسلم: «لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق من تمر وَلَا حب صَدَقَة» ، وَأخرجه بِاللَّفْظِ الأول مُسلم من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
الحَدِيث السَّابِع وَالثَّامِن
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الوسق سِتُّونَ صَاعا» . رَوَاهُ جَابر وَغَيره.(5/524)
أما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» . وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن عبيد الله الْعَرْزَمِي، الْمَتْرُوك.
وَأما حَدِيث غير جَابر؛ فَرَوَاهُ الْأَئِمَّة أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ، من (طَرِيق) أبي البخْترِي الطَّائِي الْكُوفِي واسْمه سعيد بن فَيْرُوز - عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الوسق سِتُّونَ صَاعا» .
وَهَذَا مُنْقَطع [أَبُو] البخْترِي لم يسمع من أبي سعيد؛ قَالَه أَبُو دَاوُد. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لم يُدْرِكهُ.
قلت: وَله طَرِيق آخر مُتَّصِل؛ أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، من حَدِيث يَحْيَى بن سعيد(5/525)
الْأنْصَارِيّ، عَن عَمْرو بن يَحْيَى، عَن أَبِيه، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس أوسق صَدَقَة، والوسق سِتُّونَ صَاعا» .
وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع عَلَى أَن الوسق سِتُّونَ (صَاعا) .
فَائِدَة: الْأَشْهر الْأَفْصَح فتح وَاو الوسق، وَفِي لُغَة أُخْرَى كسرهَا.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أَنَّهَا قَالَت: «جرت السّنة أَنه لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق من التَّمْر صَدَقَة) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من هَذَا الْوَجْه، (من حَدِيث) إِبْرَاهِيم، عَن الْأسود عَنْهَا قَالَت: «جرت السّنة من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة (أوساق) زَكَاة، والوسق سِتُّونَ صَاعا، فَذَلِك ثَلَاثمِائَة صَاع، من الْحِنْطَة وَالشعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب، وَلَيْسَ فِيمَا أنبتت الأَرْض من الْخضر زَكَاة» .
وَفِيه صَالح بن مُوسَى وَقد ضَعَّفُوهُ.
وَأما أَبُو عوَانَة فَأخْرجهُ فِي «صَحِيحه» من جِهَته.(5/526)
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (بِلَفْظ آخر) عَنْهَا: «جرت السّنة من نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيمَا أخرجت الأَرْض من الْحِنْطَة وَالشعِير وَالزَّبِيب وَالتَّمْر إِذا بلغ خَمْسَة أوسق، الوسق سِتُّونَ صَاعا، فَذَلِك ثَلَاثمِائَة صَاع» .
أخرجه مطولا ثمَّ قَالَ: لم يروه بِهَذَا الْإِسْنَاد (غير صَالح) الطلحي وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما؛ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِيمَا سقت السَّمَاء والعيون أَو كَانَ عثريًا الْعشْر، وَفِيمَا سقِِي بالنضح نصف الْعشْر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «مَا كَانَ بعًلا أَو سقِِي بنهر أَو عثري يُؤْخَذ من كل عشرَة وَاحِد» (ثمَّ) قَالَ: فِيهِ (دحض) لقَوْل من زعم أَن(5/527)
هَذَا الْخَبَر تفرد بِهِ يُونُس عَن الزُّهْرِيّ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِلَفْظ: «فِيمَا سقت السَّمَاء والأنهار والعيون أَو كَانَ بعًلا (الْعشْر) وَمَا سقِِي بالسواني أَو النَّضْح نصف الْعشْر» .
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أَبَا زرْعَة عَنهُ؟ فَقَالَ: الصَّحِيح وَقفه عَلَى ابْن عمر.
قلت: وَرُوِيَ أَيْضا [من غير] حَدِيث ابْن عمر، رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر؛ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِيمَا سقت الْأَنْهَار والغيم العشور، وَفِيمَا سقِِي بالسانية نصف (الْعشْر)) .
وَرَوَاهُ الترمذى وَابْن مَاجَه، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث معَاذ بِلَفْظ: «وَمَا سقِِي بالدوالي نصف الْعشْر» .(5/528)
قَالَ ابْن عبد الْبر: (وَأَحَادِيث) ابْن عمر وَجَابِر ومعاذ (صَحِيحَة ثَابِتَة) قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ قَول الْعَامَّة لَا أعلم فِيهِ خلافًا. وَأَشَارَ الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر (إِلَى) أَنه مجمع عَلَيْهِ.
فَائِدَة: العثري، بِعَين مُهْملَة ثمَّ (ثاء) مُثَلّثَة مفتوحتين، ثمَّ يَاء (مثناة تَحت) مُشَدّدَة، وَيُقَال: بِإِسْكَان الثَّاء، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور فتحهَا. وَنقل الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب عَن ابْن (المرابط) أَنه حَكَى سُكُون الْعين، وَكَأن مُرَاده (عين) الْكَلِمَة فيوافق (حِكَايَة) من حَكَى إسكان الثَّاء.
قَالَ القلعي: والعثري هُوَ مَا سقت السَّمَاء لَا خلاف بَين أهل اللُّغَة فِيهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَه لَيْسَ كَمَا قَالَ، وَلَيْسَ نَقله عَن جَمِيع أهل اللُّغَة صَحِيحا، وَإِنَّمَا هُوَ قَول قَائِل مِنْهُم، وَذكر ابْن فَارس فِي «الْمُجْمل» فِيهِ قَوْلَيْنِ لأهل اللُّغَة قَالَ: العثري مَا سقِِي من النّخل سيحًا، والسيح المَاء الْجَارِي. قَالَ: وَيُقَال: هُوَ العِذْيُ، والعذي الزَّرْع الَّذِي لَا يسْقِيه إِلَّا مَاء(5/529)
الْمَطَر. وَلم يذكر الْجَوْهَرِي فِي «صحاحه» إِلَّا هَذَا القَوْل، وَالأَصَح مَا قَالَه الْأَزْهَرِي وَغَيره من أهل اللُّغَة: (أَن) العثري مَخْصُوص بِمَا سقِِي من مَاء السَّيْل، فَيجْعَل عاثور، وَهُوَ شبه ساقية تحفر وَيجْرِي (فِيهَا) المَاء إِلَى أُصُوله، وَسمي عاثورًا؛ لِأَنَّهُ يتعثر بِهِ الْمَار الَّذِي لَا يشْعر بِهِ.
والنضح: السَّقْي من مَاء بِئْر أَو نهر بسانية وَنَحْوهَا؛ قَالَه أهل اللُّغَة. والسانية والناضح اسْم للبعير (وَالْبَقر) الَّذِي يستقى عَلَيْهِ من الْبِئْر وَالنّهر، وَالْأُنْثَى ناضحة؛ وَجمع الناضحْ: نَواضِح.
والبعل: (هُوَ) مَا شرب بعروقه وَلم يتعنَّ فِي سقيه؛ قَالَه أَبُو دَاوُد. قَالَ: وَقَالَ وَكِيع هُوَ مَا ينْبت من مَاء السَّمَاء.
والدوالي: الدواليب. قَالَ الْجَوْهَرِي: (هُوَ) الدولاب فَارسي مُعرب.
الحَدِيث الحادى عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَمَا سقِِي بنضح أَو غرب فَفِيهِ نصف الْعشْر» .(5/530)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، من حَدِيث الْحَارِث الْأَعْوَر، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل، وَلَفظه: «وَمَا سقِِي بالغرب فَفِيهِ نصف الْعشْر» . والْحَارث مُخْتَلف فِيهِ، مِنْهُم من وَثَّقَهُ، وَبَعْضهمْ كذبه.
وَرَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد فِي «مُسْند أَبِيه» : حَدثنِي عُثْمَان بن أبي شيبَة، نَا جرير، عَن مُحَمَّد بن سَالم، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر، وَمَا سقِِي بالغرب والدالية فَفِيهِ نصف الْعشْر» .
قَالَ عبد الله: فَحدثت أبي بِحَدِيث عُثْمَان، عَن جرير؛ فَأنكرهُ (أبي) جدًّا، وَكَانَ أبي لَا يحدثنا عَن مُحَمَّد بن سَالم؛ لضَعْفه عِنْده لنكارة حَدِيثه.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَاصِم، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ أَنه قَالَ: «مَا (سقت) السَّمَاء فَمن كل عشرَة وَاحِد، وَمَا سقِِي بالغرب فَمن كل عشْرين وَاحِد» .
وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» عَن أبي مُطِيع الْبَلْخِي، عَن أبي حنيفَة، عَن أبان بن أبي عَيَّاش، عَن رجل، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر، وَفِيمَا سقِِي بنضح أَو غرب نصف الْعشْر، فِي قَلِيله وَكَثِيره» .(5/531)
قَالَ: وَهَذَا إِسْنَاد لَا يُسَاوِي شَيْئا، أما أَبُو مُطِيع فَقَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَحْمد: لَا يَنْبَغِي أَن يروي عَنهُ شَيْئا. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: تركُوا حَدِيثه. وَأما أبان فَكَانَ (شُعْبَة) يَقُول: لِأَن أزني أحب إليَّ من أَن أحدث عَنهُ.
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث عَاصِم عَن عَلّي مَرْفُوعا، السالف عَن رِوَايَة عبد الله بن أَحْمد: «فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر، وَمَا سقِِي بالغرب والدالية نصف الْعشْر» فَقَالَ: يرويهِ أَبُو إِسْحَاق، وَاخْتلف عَنهُ، فرفعه (ابْن) سَالم (الْعَبْسِي) أَبُو سهل، وَهُوَ ضَعِيف، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم، عَن عَلّي، مَرْفُوعا. وَوَقفه الثَّوْريّ، عَن (أبي) إِسْحَاق. قَالَ: وَالصَّحِيح مَوْقُوف، قَالَ: وَأنكر أَحْمد بن حَنْبَل حَدِيث مُحَمَّد بن سَالم، وَقَالَ: أرَاهُ مَوْضُوعا.
قلت: وَأَشَارَ الْبَزَّار إِلَى أَن مُحَمَّد بن سَالم (لم) يتفرد بِرَفْعِهِ، ثمَّ ذكر بعده طَريقَة الْوَقْف (عَلَى) عليٍّ وَلَفظه فِي الْمَرْفُوع: «فِيمَا سقت(5/532)
السَّمَاء (أَو) كَانَ (فتحا) فَفِيهِ الْعشْر، وَمَا سقِِي بالغرب فَفِيهِ نصف الْعشْر» .
وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، مَرْفُوعا: «وَعَلَى مَا سَقَى الغرب نصف الْعشْر» .
فَائِدَة: الغرْب بِسُكُون الرَّاء الدَّلْو الْعَظِيمَة الَّتِي تتَّخذ من جلد ثَوْر، فَإِذا فتحت الرَّاء فَهُوَ المَاء السَّائِل من الْبِئْر والحوض؛ قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ وَابْن الْأَثِير، وَحَكَى المطرزي عَن ابْن الْأَعرَابِي أَنه يُقَال للدلو الْكَبِيرَة الغرب، وَقَالَ ابْن سَيّده عَن يَعْقُوب: الغرب: الدَّلْو الْعَظِيمَة من مسك ثَوْر يسنو بهَا الْبَعِير. وَقَالَ عَن غَيره: هُوَ (ذكر) ، وَالْجمع غرُوب. وَقَالَ (عَن) صَاحب «الْعين» : الغرب الراوية.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) : «خُذ الْإِبِل من الْإِبِل» الْخَبَر.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي «سنَنَيْهِمَا» ، من حَدِيث شريك بن أبي نمر، عَن عَطاء بن يسَار، عَن معَاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن(5/533)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَعثه إِلَى الْيمن فَقَالَ: خُذ الْحبّ من الْحبّ، وَالشَّاة من الْغنم، وَالْبَعِير من الْإِبِل، وَالْبَقر من الْبَقر» هَذَا (لفظ) أبي دَاوُد، وَلَفظ ابْن مَاجَه: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ (بَعثه) إِلَى الْيمن، وَقَالَ لَهُ: خُذ ... » . فَذكره بِمثلِهِ إِلَّا أَنه قَالَ: «الشَّاء وَالْبَقر» (بِدُونِ تَاء) .
واستدركه الْحَاكِم عَلَى الشَّيْخَيْنِ، فَذكره فِي «مُسْتَدْركه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: (هَذَا) إِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ إِن صَحَّ سَماع عَطاء (عَن) معَاذ، فَإِنِّي لَا أتقنه.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا الحَدِيث (رُوَاته) ثِقَات. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : عَطاء بن يسَار لم يدْرك معَاذ بن جبل.
قلت: لِأَن عَطاء ولد سنة تسع عشرَة، ومعاذ توفّي فِي طاعون عمواس سنة ثَمَان عشرَة، وَقيل: سنة سبع عشرَة. وَأما ابْن الْقطَّان فأعلَّهُ بِشريك بن أبي نمر، وَهُوَ من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَكَفَى بهما أُسْوَة.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقت وجوب الصَّدَقَة فِي النّخل وَالْكَرم: الزهو،(5/534)
وَهُوَ بَدو الصّلاح؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ حِينَئِذٍ بعث الخارص للخرص.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد ذكره بعد من حَدِيث عَائِشَة، وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ، وَبَعثه الخارص للخرص مرويٌّ من طرق: أَحدهَا: من حَدِيث ابْن عمر أَنه «عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بعث عبد الله بن رَوَاحَة إِلَى خَيْبَر يخرص عَلَيْهِم ثمَّ خَيرهمْ أَن يَأْخُذُوا أَو يردوا، فَقَالُوا: هَذَا الْحق؛ بِهَذَا قَامَت السَّمَاوَات وَالْأَرْض» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، عَن وَكِيع، نَا الْعمريّ، عَن نَافِع عَنهُ بِهِ.
ثَانِيهَا: من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، عَن أبي الزبير، عَن جَابر؛ قَالَ: « (أَفَاء) الله خَيْبَر عَلَى رَسُوله فأقرهم، وَجعلهَا بَينه وَبينهمْ، فَبعث عبد الله بن رَوَاحَة فخرصها عَلَيْهِم، ثمَّ قَالَ: يَا معشر يهود أَنْتُم أبْغض الْخلق إليَّ؛ قتلتم أَنْبيَاء الله، وكذبتم عَلَى الله، وَلَيْسَ يحملني (بغضي) إيَّاكُمْ أَن أحيف عَلَيْكُم، قد خرصت عشْرين ألف وسق من تمر، فَإِن شِئْتُم فلكم، وَإِن (أَبَيْتُم) فلي. قَالُوا: بِهَذَا قَامَت السَّمَاوَات وَالْأَرْض، قد أخذناها. قَالَ: فاخرجوا (عَنْهَا) » .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، كَذَلِك، وَأَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ. قَالَ(5/535)
الْمُنْذِرِيّ: وَرِجَال إِسْنَاده كلهم ثِقَات.
ثَالِثهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بِمثلِهِ. رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث جَعْفَر بن برْقَان، عَن مَيْمُون بن مهْرَان، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس (بِهِ) .
رَابِعهَا: من حَدِيث سهل بن أبي حثْمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (بَعثه) خارصًا، فجَاء رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أَبَا حثْمَة قد زَاد عليَّ فِي الْخرص. فَدَعَاهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن ابْن عمك زعم أَنَّك زِدْت عَلَيْهِ فِي الْخرص فَقلت: يَا رَسُول الله، لقد تركت لَهُ قدر خرفة أَهله وَمَا يطعم الْمَسَاكِين. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قد زادك ابْن عمك وأنصف» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك.
خَامِسهَا: من حَدِيث عَتاب (بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة ثمَّ مثناة فَوق) بن أَسيد - بِفَتْح الْهمزَة - أَمِير مَكَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يبْعَث عَلَى النَّاس من يخرص [عَلَيْهِم] كرومهم وثمارهم» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن الزبير بن بكار، عَن عبد الله بن نَافِع الصَّائِغ -(5/536)
وَهُوَ من رجال مُسلم، وَفِيه لين - عَن مُحَمَّد بن صَالح - هُوَ التمار، قَالَ أَحْمد: ثِقَة ثِقَة. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: شيخ لَيْسَ بِالْقَوِيّ - عَن ابْن شهَاب، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عتاب بِهِ.
وَرَوَاهُ كَذَلِك التِّرْمِذِيّ إِسْنَادًا ومتنًا، (ثمَّ) قَالَ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَن حَدِيث عَائِشَة - يَعْنِي الْآتِي - فَقَالَ: حَدِيث عتاب أثبت وَأَصَح.
وَذكر أَبُو دَاوُد إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث دون مَتنه محيًلا لَهُ عَلَى مَا قبله. قَالَ عبد الْحق: وَهُوَ حَدِيث مُنْقَطع وَلَا يتَّصل من وجهٍ صَحِيح.
قلت: (لِأَن) (سعيد) بن الْمسيب لم يسمع من عتاب بن أسيد - كَمَا ستعلمه فِي الحَدِيث الْآتِي بعد، إِن شَاءَ الله - وَأما ابْن حبَان فَذكره فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه، وَمن شَرطه الِاتِّصَال.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي زَكَاة الْكَرم: (إِنَّهَا تخرص كَمَا يخرص لنخل، ثمَّ تُؤَدَّى زَكَاته زبيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاة النّخل تَمرا) .(5/537)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث سعيد بن الْمسيب، عَن عتاب بن أسيد رَضي الله عَنهُ.
(أما أَبُو دَاوُد فَرَوَاهُ من حَدِيث بشر بن مَنْصُور، عَن عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عتاب بن أسيد) قَالَ: (أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يخرص الْعِنَب كَمَا يخرص النّخل، وَتُؤْخَذ زَكَاته زبيبًا، كَمَا تُؤْخَذ (صَدَقَة) النّخل تَمرا) .
وَأما التِّرْمِذِيّ فَرَوَاهُ بِإِسْنَاد الحَدِيث الَّذِي قبله - وَقد تقدم - ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب.
وَأما النَّسَائِيّ فَإِنَّهُ رَوَاهُ من حَدِيث يزِيد بن زُرَيْع وَغَيره، عَن عبد الرَّحْمَن - كَمَا سلف - بِلَفْظ: (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر عتاب بن أسيد (أَن) يخرص الْعِنَب ... ) الحَدِيث كَمَا سلف - وَعبد الرَّحْمَن هَذَا ثِقَة صَالح الحَدِيث، كَمَا قَالَه يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد عَن أَبِيه: لَيْسَ بِهِ بَأْس. (فَقَالَ لَهُ: يَحْيَى بن سعيد يَقُول: سَأَلت عَنهُ بِالْمَدِينَةِ فَلم يحمدوه) فَسكت عَنهُ. وَرَوَى أَبُو طَالب عَنهُ قَالَ: سَأَلت الإِمَام أَحْمد عَن عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق الْمَدِينِيّ فَقَالَ: رَوَى عَن أبي الزِّنَاد أَحَادِيث(5/538)
مُنكرَة، وَكَانَ يَحْيَى لَا يُعجبهُ. قلت: كَيفَ هُوَ؟ قَالَ: صَالح الحَدِيث. وَذكره ابْن حَيَّان فِي ثِقَات أَتبَاع الأتباع.
وَتَابعه عبد الرَّحْمَن بن عبد الْعَزِيز (الأُمامي) بِضَم الْهمزَة، نِسْبَة إِلَى أبي أُمَامَة، فَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيقه، وَعبد الرَّحْمَن (هَذَا) من رجال مُسلم وَفِيه شَيْء.
قلت: وَمَعَ ذَلِك فَفِيهِ انْقِطَاع بَين سعيد بن الْمسيب وعتاب بن أسيد. قَالَ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : سعيد لم يسمع من عتاب شَيْئا. وَقَالَ عبد الْبَاقِي بن قَانِع: لم يُدْرِكهُ. وَقَالَ عبد الْحق: هَذَا إِسْنَاد مُنْقَطع. وَكَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي (مُخْتَصر السّنَن) و «الموافقات» : إِنَّه مُنْقَطع. قَالَ: وانقطاعه ظَاهر جدًّا؛ لِأَن عتاب بن أسيد مَاتَ فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ الصّديق، ومولد سعيد بن الْمسيب فِي خلَافَة عمر، وَقيل: كَانَ مولده سنة عشر.(5/539)
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي (الإِمَام) : هَذَا حَدِيث إِسْنَاده لَيْسَ بِمُتَّصِل؛ فَإِن سعيد بن الْمسيب لم يدْرك عتاب بن أسيد؛ لِأَن الْمَشْهُور فِي مولد سعيد أَنه (سنة) خمس عشرَة من الْهِجْرَة بعد وَفَاة عتاب بِسنتَيْنِ. وَقد قيل: إِن مولده بعد سنة عشْرين. وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : هَذَا الحَدِيث مُرْسل؛ لِأَن عتابًا توفّي سنة ثَلَاث عشرَة، وَسَعِيد بن الْمسيب ولد بعد ذَلِك بِسنتَيْنِ، وَقيل: بِأَرْبَع.
قلت: وَمِمَّا يُؤَكد إرْسَال هَذَا (الحَدِيث) وانقطاعه أَن الدَّارَقُطْنِيّ أخرجه من حَدِيث الْوَاقِدِيّ بِزِيَادَة الْمسور بن مخرمَة (بَين) سعيد وعتاب. وَقد اخْتلف أَصْحَابنَا فِي مَرَاسِيل سعيد بن الْمسيب، فَقيل: إِنَّهَا حجَّة مُطلقًا. وَالأَصَح أَنَّهَا حجَّة إِذا اعتضدت بِأحد أُمُور: إِمَّا أَن يسند أَو يُرْسل من جِهَة أُخْرَى، أَو يَقُول بِهِ بعض الصَّحَابَة، أَو أَكثر الْعلمَاء، وَقد وجد ذَلِك هُنَا؛ فقد أجمع الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بعدهمْ عَلَى وجوب الزَّكَاة فِي التَّمْر وَالزَّبِيب.
وَخَالف ابْن حبَان فَذكر الحَدِيث فِي (صَحِيحه) من طَرِيق ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَلَفظه: (الْكَرم يخرص كَمَا يخرص النّخل ثمَّ (تُؤْخَذ) زَكَاته زبيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاة النّخل تَمرا) . وَمن شَرطه الِاتِّصَال،(5/540)
كَمَا ذكره فِي خطْبَة (صَحِيحه) .
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عَلّي سعيد بن عُثْمَان بن السكن: لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من وَجه غير هَذَا، وَهَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر عتابًا) وَلم (يقل) : عَن عتاب. ويحكى أَن أَبَا حَاتِم وَأَبا زرْعَة سئلا عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَا: هُوَ خطأ. قَالَ أَبُو حَاتِم: وَالصَّحِيح عَن سعيد أَنه مُرْسل.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم: رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وَعبد الله بن نَافِع، وَكِلَاهُمَا فِي غَايَة الضعْف. (وَمن طَرِيق مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي، وَهُوَ فِي غَايَة الضعْف) وَمن طَرِيق عبد الْملك بن حبيب الأندلسي، عَن أَسد بن مُوسَى - وَهُوَ مُنكر الحَدِيث - عَن نصر بن طريف، وَهُوَ (أَبُو جُزْء) ، وَهُوَ سَاقِط الْبَتَّةَ، كلهم يذكر عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عتاب (أَنه أَمر بخرص الْعِنَب) وَسَعِيد لم يُولد إِلَّا بعد موت عتَّاب بِسنتَيْنِ، وعتاب لم يوله النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إلاَّ مَكَّة، وَلَا زرع بهَا، وَلَا عِنَب.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ فِي آخر هَذَا الحَدِيث: (ثمَّ ينجلي بَينه وَبَين أَهله) . قلت: وَهَذِه الراوية غَرِيبَة لَا أعلم من خرجها بعد الْبَحْث عَنْهَا.(5/541)
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرص حديقة امْرَأَة بِنَفسِهِ» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «غزونا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَزْوَة تَبُوك، فَلَمَّا (جَاءَ) وَادي الْقرى إِذا امْرَأَة فِي حديقة لَهَا فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (لأَصْحَابه) : اخرصوا. وخرص النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عشرَة أوسق، فَقَالَ لَهَا: أحصي مَا يخرج مِنْهَا ... » ثمَّ ذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: «فَلَمَّا أَتَى وَادي الْقرى قَالَ للْمَرْأَة: كم (جَاءَ) حديقتك؟ قَالَت: عشرَة أوسق خرص رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
الحَدِيث السَّادِس عشر
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يبْعَث عبد الله بن رَوَاحَة خارصًا (أول) مَا تطيب الثَّمَرَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، من حَدِيث حجاج، عَن ابْن جريج قَالَ: أخْبرت عَن ابْن شهَاب، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَنَّهَا قَالَت وَهِي تذكر شَأْن خَيْبَر: كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يبْعَث عبد الله(5/542)
بن رَوَاحَة إِلَى يهود فيخرص النّخل حِين يطيب قبل أَن يُؤْكَل مِنْهُ» .
وَفِي هَذَا جَهَالَة الْمخبر لِابْنِ جريج عَن ابْن شهَاب. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، أَنا ابْن جريج، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا قَالَت وَهِي تذكر شَأْن خَيْبَر: وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يبْعَث عبد الله بن رَوَاحَة إِلَى الْيَهُود فيخرص النّخل حِين تطيب [أول] الثَّمَرَة قبل أَن يُؤْكَل مِنْهَا، ثمَّ يُخَيّر يهود، يأخذونها بذلك الْخرص (أَو يدفعونها إِلَيْهِم بذلك الْخرص) وَإِنَّمَا كَانَ أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالخرص لكَي تحصى الزَّكَاة قبل أَن (تُؤْكَل) الثِّمَار وتفرق» .
(ثمَّ) ذكر إِسْنَاد أبي دَاوُد وَلم يذكر مَتنه، وَهِي تَقْتَضِي إِثْبَات وَاسِطَة بَين ابْن جريج وَالزهْرِيّ.
قَالَ ابْن عبد الْبر فِي «استذكاره» : وَقَوله: «وَإِنَّمَا كَانَ أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » إِلَى آخِره، يُقَال: إِنَّه من قَول ابْن شهَاب، وَقيل: من قَول عُرْوَة، وَقيل: من قَول عَائِشَة.
الحَدِيث السَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث عبد الله بن رَوَاحَة خارصًا» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا، سَابِقًا ولاحقًا، مُسْتَوفى وَاضحا.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ أَنه بعث مَعَه غَيره، فَيجوز أَن يكون ذَلِك(5/543)
فِي وَقْتَيْنِ، وَيجوز أَن يكون الْمَبْعُوث مَعَه معينا أَو كَاتبا.
قلت: بَعثه (مَعَه) غَيره غَرِيب، وَإِن كَانَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام خُرَّاص غَيره؛ إِذْ فِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» من حَدِيث جَابر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يبْعَث رجلا من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: فَرْوَة بن عَمْرو، فيخرص ثَمَرَة أهل الْمَدِينَة» .
وَفِي إِسْنَاده حرَام بن عُثْمَان، وَالرِّوَايَة عَنهُ حرَام، وَفِيه أَيْضا من حَدِيث رَافع بن خديج «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يبْعَث فَرْوَة بن عَمْرو يخرص النّخل، فَإِذا دخل الْحَائِط حسب مَا فِيهِ من الأقناء، ثمَّ ضرب بَعْضهَا عَلَى بعض عَلَى مَا يرَى فِيهَا وَلَا يُخطئ» وَفِي إِسْنَاده إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي فَرْوَة، وَهُوَ مَتْرُوك، وَفِيه أَيْضا عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق حَدثنِي عبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم قَالَ: «إِنَّمَا خرص عبد الله بن رَوَاحَة عَلَى أهل خَيْبَر عَاما وَاحِدًا، ثمَّ إِن (جَبَّار) بن صَخْر كَانَ يَبْعَثهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعد ابْن رَوَاحَة فيخرص عَلَيْهِم» . وَرَوَى ابْن مَنْدَه (من) حَدِيث مُحَمَّد بن [مغيث] الجرشِي - وَلَا أعرفهُ - عَن الصَّلْت بن زبيد بن الصَّلْت الْمدنِي، عَن أَبِيه، عَن جده «أَنه(5/544)
عَلَيْهِ السَّلَام اسْتَعْملهُ عَلَى الْخرص، فَقَالَ: أثبت لنا النّصْف وأبق لَهُم النّصْف؛ فَإِنَّهُم يسرقون وَلَا يصل إِلَيْهِم» . وَقد أسلفنا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث سهل بن أبي حثْمَة خارصًا» أَيْضا، وَفِي «شرح التَّعْجِيز» لمصنفه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَهُ خراص معينون: حويصة ومحيصة وفروة وَغَيرهم.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا خرصتم فاتركوا لَهُم الثُّلُث، فَإِن لم تتركوا لَهُم الثُّلُث فاتركوا (لَهُم) الرّبع» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، من حَدِيث سهل بن أبي حثْمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «إِذا خرصتم فَخُذُوا ودعوا الثُّلُث، فَإِن لم تدعوا الثُّلُث فدعوا الرّبع» . وَلَفظ أَحْمد كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «فَإِن لم تدعوا فدعوا الرّبع» .(5/545)
وَلَفظ أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان: «جَاءَ سهل بن أبي حثْمَة إِلَى مَجْلِسنَا، فَقَالَ: أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا خرصتم فَخُذُوا ودعوا الثُّلُث، فَإِن لم تدعوا (أَو تَجدوا) الثُّلُث فدعوا الرّبع» . وللنسائي أَيْضا وَالْحَاكِم: «فَإِن لم تَأْخُذُوا أَو تدعوا - شكّ (شُعْبَة) - فدعوا الرّبع» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث الْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم فِي الْخرص، وَبِه يَقُول أَحْمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: وَله شَاهد بِإِسْنَاد مُتَّفق عَلَى صِحَّته؛ أَن عمر بن الْخطاب أَمر بِهِ. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى سهل بن أبي حثْمَة «أَن عمر بن الْخطاب بَعثه عَلَى خرص التَّمْر، وَقَالَ: إِذا أتيت أَرضًا فاخرصها ودع لَهُم قدر مَا يَأْكُلُون» .
وَأما ابْن الْقطَّان فَقَالَ: فِي إِسْنَاده عبد الرَّحْمَن بن مَسْعُود بن (نيار) ، قَالَ الْبَزَّار: لم يروه عَن سهل إِلَّا هُوَ، وَهُوَ مَعْرُوف. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا غير كَاف فِيمَا يَنْبَغِي من عَدَالَته فكم من مَعْرُوف غير ثِقَة، وَالرجل لَا يعرف لَهُ حَال وَلَا يعرف بِغَيْر هَذَا، وَلم يزدْ ذاكروه عَلَى مَا أخذُوا من هَذَا الْإِسْنَاد من رِوَايَته عَن سهل وَرِوَايَة خبيب بن عبد الرَّحْمَن عَنهُ، وَلم يتَعَرَّض التِّرْمِذِيّ لهَذَا الحَدِيث بقولٍ، لَا تَصْحِيح وَلَا(5/546)
تَحْسِين، وَلَا تسقيم ذَلِك. قَالَ: وَسَهل لَا يبعد أَن يكون سمع هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ لَيْسَ من يضْبط، وَلَعَلَّه سمع ذَلِك آخر حَيَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُوله لِأَبِيهِ، فَإِنَّهُ كَانَ خارص رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَو لغيره، وَقد جَاءَ فِي الدَّارَقُطْنِيّ أَنه بَعثه خارصًا لَكِن بسندٍ فِيهِ مَجَاهِيل، أَو أَنه تَصْحِيف وَصَوَابه (أَنه) بعث أَبَاهُ.
قلت: عبد الرَّحْمَن هَذَا وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان، فَإِنَّهُ ذكره فِي «ثقاته» ، وَأخرج الحَدِيث فِي «صَحِيحه» من جِهَته، وَكَذَلِكَ الْحَاكِم صحّح إِسْنَاده، فقد عرف حَاله كَمَا قَالَه الْبَزَّار، وَللَّه الْحَمد.
وَقَول النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث صَحِيح، إِلَّا عبد الرَّحْمَن بن مَسْعُود بن نيار الرَّاوِي عَن سهل بن أبي حثْمَة، فَلم يتكلموا فِيهِ بِجرح وَلَا تَعْدِيل، وَلَا هُوَ مَشْهُور، وَلم (يُضعفهُ) أَبُو دَاوُد. فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ من كَونه ثِقَة.
وَقَول صَاحب «الْإِلْمَام» بعد أَن نقل تَصْحِيحه عَن الْحَاكِم: فِيمَا قَالَ نظر. مُرَاده بِهِ مَا ذَكرْنَاهُ عَن ابْن الْقطَّان، فَإِنَّهُ نَقله عَنهُ فِي كتاب «الإِمَام» وَأقرهُ عَلَيْهِ، وَقد عرفت مَا فِيهِ.
فَائِدَة: قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : لهَذَا الحَدِيث مَعْنيانِ:(5/547)
أَحدهمَا: أَن يتْرك الثُّلُث أَو الرّبع من الْعشْر. وَثَانِيهمَا: أَن يتْرك ذَلِك من نَفْس التَّمْر قبل أَن يعشر إِذا كَانَ ذَلِك حَائِطا كَبِيرا يحْتَملهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِي: مَعْنَاهُ يدع ثلث الزَّكَاة أَو ربعهَا ليفرقها هُوَ بِنَفسِهِ عَلَى أَقَاربه وجيرانه. وَقَالَ فِي «الْأُم» : (مَعْنَاهُ) يدع لَهُ ولأهله قدر مَا يَأْكُلُون وَلَا يخرصه. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنه إِذا احْتَاجَ وَأَهله إِلَى الْجَمِيع أَنه يتْرك الْجَمِيع. وَقد حَكَاهُ كَذَلِك الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» .
(هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه) .
وَأما آثاره فسبعة: الأول: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَغَيره: «فِي الزَّيْتُون الْعشْر» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، وَقَالَ: إِسْنَاده مُنْقَطع، وَرَاوِيه لَيْسَ بِقَوي. رَوَاهُ من جِهَة الْوَلِيد - يَعْنِي: ابْن مُسلم - أَخْبرنِي عُثْمَان بن عَطاء، عَن أَبِيه عَطاء الْخُرَاسَانِي «أَن عمر بن الْخطاب لما قدم الْجَابِيَة رفع إِلَيْهِ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنهم اخْتلفُوا فِي عشر الزَّيْتُون، فَقَالَ عمر: فِيهِ الْعشْر إِذا بلغ خَمْسَة أوسق حبه، عصره وَأخذ عشر زيته» .
وَمُرَاد الْبَيْهَقِيّ بالانقطاع بَين عَطاء الْخُرَاسَانِي (وَعمر) ، وَقَوله: (وَرَاوِيه) لَيْسَ بِالْقَوِيّ، يُرِيد: عُثْمَان بن عَطاء؛ فَإِنَّهُم ضَعَّفُوهُ، وَقد نبه عَلَى ذَلِك صَاحب «الإِمَام» ، وَعبارَته فِي «الْمعرفَة» - أَعنِي الْبَيْهَقِيّ -:(5/548)
وَرَاوِيه (ضَعِيف) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأَصَح مَا رُوِيَ فِي الزَّيْتُون قَول ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ: مَضَت السّنة فِي زَكَاة الزَّيْتُون أَن تُؤْخَذ مِمَّن عصر زيتونه حِين يعصره، فِيمَا سقت السَّمَاء [والأنهار] أَو كَانَ بعلاً الْعشْر، وَمَا سقِِي برشاء الناضح نصف الْعشْر.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَهَذَا مَوْقُوف لَا نعلم اشتهاره فَلَا يحْتَج بِهِ عَلَى الصَّحِيح.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَحَدِيث معَاذ بن جبل وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَعلَى وَأولَى أَن يُؤْخَذ بِهِ. يَعْنِي: روايتهما «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهما لما بعثهما إِلَى الْيمن: لَا تأخذا الصَّدَقَة إِلَّا من هَذِه الْأَرْبَعَة: الْحِنْطَة، وَالشعِير، وَالتَّمْر، وَالزَّبِيب» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : الْبَيْهَقِيّ لَا يَقُول بِمُقْتَضَاهُ فِي الِاقْتِصَار عَلَى هَذِه (الْأَجْنَاس) الْأَرْبَعَة. وَقَول الرَّافِعِيّ عَن ابْن عمر وَغَيره: «إِن فِي الزَّيْتُون الْعشْر» لَعَلَّه أَشَارَ بقوله: «وَغَيره» إِلَى قَول ابْن شهَاب: إِن فِيهِ الْعشْر. (رَوَاهُ) الْبَيْهَقِيّ، أَو إِلَى قَوْله: «مَضَت السّنة ... » إِلَى آخِره. وَذكره صَاحب «الْمُهَذّب» من قَول ابْن عَبَّاس(5/549)
أَيْضا، وَلَا يحضرني من خرجه. (وَقَالَ) النَّوَوِيّ: إِنَّه ضَعِيف.
الْأَثر الثَّانِي: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَنقل فِي الْقَدِيم أَنه يجب فِيهِ الزَّكَاة إِن صَحَّ حَدِيث أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنه كتب إِلَى بني خفاش أَن أَدّوا زَكَاة الذّرة والورس» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي بِنَحْوِهِ وَضَعفه؛ فَقَالَ: أَخْبرنِي هِشَام بن يُوسُف «أَن أهل خُفَّاش أخرجُوا كتابا من أبي بكر الصّديق فِي قِطْعَة أَدِيم إِلَيْهِم، يَأْمُرهُم بِأَن يؤدوا عشر الورس» .
قَالَ الشَّافِعِي: وَلَا أَدْرِي أثابت هَذَا، وَهُوَ يعْمل بِهِ بِالْيمن، فَإِن كَانَ ثَابتا عشر قَلِيله وَكَثِيره.
قَالَ (الْبَيْهَقِيّ) : لم يثبت فِي هَذَا إِسْنَاد تقوم (بِمثلِهِ) حجَّة، وَالْأَصْل أَن لَا وجوب، فَلَا يُؤْخَذ من غير مَا ورد بِهِ خبر صَحِيح، أَو كَانَ فِي غير (مَعْنَى) مَا ورد بِهِ خبر صَحِيح. وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» (اتِّفَاق) الْحفاظ عَلَى ضعف هَذَا الْأَثر، وَأَن الْأَصْحَاب فِي كتب (الْمَذْهَب) أطبقوا عَلَى تَضْعِيفه.(5/550)
فَائِدَة: خُفَّاش بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْفَاء الْمُشَدّدَة، وَغلط من ضَبطه بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْفَاء.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : الصَّوَاب الأول، وَهَذَا غلط، والورس (شجر) مَعْرُوف يصْبغ بِهِ.
الْأَثر الثَّالِث: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لَيْسَ فِي الْعَسَل زَكَاة» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث حُسَيْن بن زيد، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن عَلّي بِهِ. وحسين هَذَا فِي حَدِيثه بعض (النكرَة) ، كَمَا قَالَه ابْن عدي.
الْأَثر الرَّابِع: عَن (ابْن) عمر، مثله.
وَهَذَا الْأَثر أسلفناه فِي آخر الحَدِيث الْخَامِس عَن حِكَايَة (ابْن) الْمُنْذر، وَقد أسلفناه مَرْفُوعا من حَدِيثه وضعفناه.
الْأَثر الْخَامِس: «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يَأْخُذ الزَّكَاة مِنْهُ» .
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه عَنهُ.(5/551)
الْأَثر السَّادِس: «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَيْضا كَانَ يَأْخُذ الزَّكَاة من القرطم» .
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه عَنهُ أَيْضا.
الْأَثر السَّابِع: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه فتح سَواد الْعرَاق، وَوَقفه عَلَى الْمُسلمين وَضرب عَلَيْهِ خراجًا» .
وَهَذَا الْأَثر سَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي بَابه - إِن شَاءَ الله - فَإِنَّهُ أليق بِهِ.(5/552)
بَاب زَكَاة الذَّهَب وَالْفِضَّة
ذكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فاثنى عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن أبي سعيد الخدرى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دون خمس (أَوَاقٍ) من الْوَرق صَدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ، أخرجه (الشَّيْخَانِ) بِهَذَا اللَّفْظ من هَذَا الْوَجْه، وَانْفَرَدَ مُسلم بِإِخْرَاجِهِ من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَقد كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، فَذكره فِي كَلَامه عَلَى النّصاب، فَقَالَ: لنا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «لَيْسَ فِيمَا دون خمس (أَوَاقٍ) من الْوَرق صَدَقَة» وَسَائِر الْأَخْبَار.
فَائِدَة: الْأُوقِيَّة الحجازية أَرْبَعُونَ درهما. وَفِي الْوَرق أَربع لُغَات: فتح الْوَاو وَكسر الرَّاء (وإسكانها، وبكسر الْوَاو) وَإِسْكَان الرَّاء، ثَلَاث لُغَات مشهورات. وَحَكَى الصغاني فِي (كِتَابه) «الشوارد من اللُّغَات» فَفتح الْوَاو وَالرَّاء، قَالَ: وَقَرَأَ أَبُو (عَمْرو) : (فَابْعَثُوا أحدكُم(5/553)
بورقكم) وَالْوَرق الدَّرَاهِم المضروبة وَكَذَلِكَ الرقة، وَقيل: الْوَرق: المسكوك خَاصَّة، والرقة: الْفضة كَيْفَمَا كَانَت، وَقيل: الْوَرق والرقة سَوَاء يقعان عَلَى مسكوك وَغير مسكوك، وَقيل: لَا يُقَال لما (لم) يضْرب من الدَّرَاهِم ورق، وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ فضَّة؛ حكاهن الْمُنْذِرِيّ فِي حَوَاشِيه، وَفِي «تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ» فِي أثْنَاء سُورَة الْفَاتِحَة: الْوَرق بِكَسْر الرَّاء الدَّرَاهِم، وَبِفَتْحِهَا المَال.
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا بلغ مَال أحدكُم خمس أَوَاقٍ مِائَتي دِرْهَم فَفِيهِ خَمْسَة دَرَاهِم» .
هَذَا الحَدِيث ذكره صَاحب «الْمُهَذّب» من رِوَايَة ابْن عمر، وَلم يعزه الْمُنْذِرِيّ فِي تَخْرِيجه إِلَى أحد، وَاسْتَغْرَبَهُ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» وَقَالَ: (يُغني) عَنهُ الْإِجْمَاع، فالمسلمون مجمعون عَلَى مَعْنَاهُ. وَقَالَ(5/554)
ابْن (معن) فِي «تنقيبه» : (رَاوِيه) أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَاهُ، وَقد سلف فِي الحَدِيث الأول. ورأيته أَنا فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» من حَدِيث يزِيد بن سِنَان، عَن زيد بن أبي أنيسَة، عَن أبي الزبير، عَن جابرٍ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَا زَكَاة فِي شَيْء من الْفضة حَتَّى تبلغ خمس (أَوَاقٍ) ، وَالْأُوقِية أَرْبَعُونَ درهما» . وَيزِيد هَذَا مَتْرُوك.
وفيهَا أَيْضا من حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى، عَن عبد الْكَرِيم، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ فِي أقل من خمس ذود شَيْء [وَلَا فِي أقل من أَرْبَعِينَ من الْغنم شَيْء، وَلَا فِي أقل من ثَلَاثِينَ من الْبَقر شَيْء] وَلَا فِي أقل من عشْرين مِثْقَالا [من الذَّهَب] شَيْء، وَلَا فِي أقل من مِائَتي دِرْهَم شَيْء [وَلَا فِي أقل من خَمْسَة أوسق شَيْء، وَالْعشر فِي التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْحِنْطَة وَالشعِير، وَمَا سقِِي سيحًا فَفِيهِ الْعشْر، وَمَا سقِِي بالغرب فَفِيهِ نصف الْعشْر] »(5/555)
وَابْن أبي لَيْلَى سيئ الْحِفْظ، وَعبد الْكَرِيم ضَعَّفُوهُ.
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث أبي عوَانَة، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم (بن ضَمرَة) ، عَن عَلّي قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «قد عَفَوْت عَن الْخَيل وَالرَّقِيق، (فهاتوا صَدَقَة الرقة، من كل أَرْبَعِينَ درهما (درهما) ، وَلَيْسَ فِي تسعين وَمِائَة شَيْء، فَإِذا بلغت مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم» .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» كَذَلِك، وَكَذَا أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالْبَزَّار أَيْضا، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ: «قد عَفَوْت عَن الْخَيل وَالرَّقِيق) ، فأدوا زَكَاة أَمْوَالكُم، فِي كل مِائَتَيْنِ خَمْسَة» ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «قد عَفَوْت عَن الْخَيل وَالرَّقِيق، وَلَيْسَ فِيمَا دون مِائَتَيْنِ زَكَاة» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي إِسْحَاق، عَن الْحَارِث (عَن) عَلّي بِلَفْظ: « (قد) عَفَوْت لكم عَن صَدَقَة الْخَيل(5/556)
وَالرَّقِيق، وَلَكِن هاتوا (ربع) العشور من كل أَرْبَعِينَ [درهما] دِرْهَم» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن (رَوَاهُ) : رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن عُيَيْنَة وَغير وَاحِد عَن (أبي) إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عَلّي قَالَ: وَسَأَلت مُحَمَّدًا - يَعْنِي: البُخَارِيّ - عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيح عَن أبي إِسْحَاق، يحْتَمل أَن يكون عَنْهُمَا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الصَّوَاب وَقفه عَلَى عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَقَالَ الْبَزَّار: لَا يرويهِ غير عَاصِم عَن عَلّي.
قلت: قد رَوَاهُ الْحَارِث عَنهُ، وَلَا يعرف مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيث عليٍّ.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «هاتوا ربع الْعشْر من الْوَرق، وَلَا شَيْء (فِيهِ) حَتَّى يبلغ (مِائَتي) دِرْهَم وَمَا زَاد فبحسابه» . وَرُوِيَ مثله فِي الذَّهَب.(5/557)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَن عبد الله بن مُحَمَّد النُّفَيْلِي، نَا زُهَيْر، قَالَ: نَا أَبُو إِسْحَاق، عَن عَاصِم بن ضَمرَة وَعَن الْحَارِث الْأَعْوَر، عَن عَلّي - قَالَ زُهَيْر: أَحْسبهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «هاتوا ربع (العشور) ، من كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم، وَلَيْسَ عَلَيْكُم شَيْء حَتَّى تتمّ مِائَتي دِرْهَم، فَإِذا كَانَت عِنْده مِائَتي دِرْهَم فَفِيهَا خَمْسَة (دَرَاهِم) ، فَإِن زَاد فعلَى حِسَاب ذَلِك» ثمَّ ذكر صَدَقَة الْغنم وَغَيرهَا.
ثمَّ رَوَى عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد، أَنا ابْن وهب، أَخْبرنِي جرير بن (حَازِم) ، وَسَمَّى آخر، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم بن ضَمرَة والْحَارث الْأَعْوَر، عَن عَلّي (عَن) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِبَعْض أول الحَدِيث، قَالَ: «فَإِذا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَم، وَحَال عَلَيْهَا الْحول، فَفِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم، وَلَيْسَ عَلَيْك شَيْء - يَعْنِي فِي الذَّهَب - حَتَّى يكون لَك عشرُون دِينَارا، فَإِذا كَانَت لَك عشرُون دِينَارا، وَحَال عَلَيْهَا الْحول، فَفِيهَا نصف دِينَار، فَمَا زَاد (فبحساب) ذَلِك» .
قَالَ: لَا أَدْرِي أعليٌّ يَقُول: [فبحساب] ذَلِك، أَو رَفعه إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.(5/558)
ثمَّ قَالَ: رَوَى هَذَا الحَدِيث الْأَعْمَش، عَن أبي إِسْحَاق، كَمَا قَالَ أَبُو عوَانَة، وَرَوَاهُ شَيبَان [أَبُو مُعَاوِيَة] وَإِبْرَاهِيم بن طهْمَان، عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، (عَن عَلّي) ، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَرَوَى حَدِيث النُّفَيْلِي: شُعْبَة وسُفْيَان وَغَيرهمَا، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم، عَن عليٍّ لم يرفعوه.
وَقَالَ (أَبُو مُحَمَّد) بن حزم فِي «محلاه» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن وهب، عَن جرير بن حَازِم، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم بن ضَمرَة والْحَارث الْأَعْوَر، قرن فِيهِ أَبُو إِسْحَاق (بَين) عَاصِم والْحَارث، والْحَارث كَذَّاب، وَكثير من الشُّيُوخ يجوز عَلَيْهِ مثل هَذَا، وَهُوَ أَن الْحَارِث أسْندهُ وَعَاصِم لم يسْندهُ، فجمعهما جرير، وَأدْخل حَدِيث أَحدهمَا فِي الآخر، وَقد رَوَاهُ شُعْبَة وسُفْيَان وَمعمر، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم، عَن عليٍّ، مَوْقُوفا عَلَى عليٍّ، وَكَذَلِكَ كل ثِقَة رَوَاهُ عَن عَاصِم إِنَّمَا وَقفه عَلَى عليٍّ، وَقد بيَّنَّا أَنه حَدِيث هَالك، فَلَو أَن جَرِيرًا أسْندهُ عَن عَاصِم وَحده لأخذنا بِهِ، وَلَكِن لما (لم) يسْندهُ إِلَّا عَن الْحَارِث مَعَه لم يَصح لنا إِسْنَاده من طَرِيق عَاصِم. هَذَا آخر كَلَامه.
وَلما نَقله عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» عَنهُ نقل عَن غَيره أَن هَذَا لَا(5/559)
يلْزم؛ لِأَن جَرِيرًا ثِقَة، وَقد أسْندهُ عَنْهُمَا، وَقد أسْندهُ (أَيْضا) أَبُو عوَانَة، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم، عَن عليٍّ مَرْفُوعا فِي زَكَاة الْوَرق؛ ذكر حَدِيثه التِّرْمِذِيّ، وَأَبُو عوَانَة ثِقَة.
قلت: وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن سَلمَة بن صَالح وَأَيوب بن جَابر رَفَعَاهُ عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم، عَن عَلّي فهذان قد رَفَعَاهُ أَيْضا، ثمَّ إِن ابْن حزم نَاقض كَلَامه فِي آخر الْمَسْأَلَة فَقَالَ: ثمَّ استدركنا فَرَأَيْنَا أَن حَدِيث جرير بن حَازِم مُسْند صَحِيح، لَا يجوز خِلَافه، وَأَن الاعتلال فِيهِ بِأَن عَاصِم بن ضَمرَة أَو أَبَا إِسْحَاق أَو جَرِيرًا خلط إِسْنَاد الْحَارِث بإرسال عَاصِم، وَهُوَ الظَّن الَّذِي لَا يجوز، وَمَا علينا من مُشَاركَة الْحَارِث لعاصم، وَجَرِير ثِقَة، وَالْأَخْذ بِمَا أسْندهُ لَازم. هَذَا لَفظه وَلَا يلتئم مَعَ الأول.
وَأما قَوْله: « (فبحساب) ذَلِك» فقد أسْندهُ زيد بن حبَان (الرقي) - وَأَصله كُوفِي - عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم، عَن عليٍّ مَرْفُوعا. وَزيد هَذَا وَثَّقَهُ (يَحْيَى) ، وَقَالَ أَحْمد: تركُوا حَدِيثه. وَقَالَ ابْن عدي: لَا أرَى بروايته بَأْسا.(5/560)
قَالَ ابْن حزم: وَرَوَى [الْمنْهَال بن الْجراح]- وَهُوَ كَذَّاب - عَن حبيب (بن) نجيح - وَهُوَ مَجْهُول - عَن عبَادَة بن نسي، عَن معَاذ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أمره حِين وَجهه إِلَى الْيمن: أَن لَا يَأْخُذ من الكسور شَيْئا إِذا بلغ الْوَرق مِائَتي دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم، وَلَا يَأْخُذ (مِمَّا) زَاد حَتَّى يبلغ أَرْبَعِينَ درهما) .
ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، قَالَ: وَلم يسمع (عبَادَة) من معَاذ. قَالَ: وَرُوِيَ من طَرِيق الْحسن بن عمَارَة - وَهُوَ مَتْرُوك - عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم، عَن عَلّي مَرْفُوعا، فِي صَدَقَة الْوَرق: «لَا زَكَاة فِيمَا زَاد عَلَى المائتي دِرْهَم حَتَّى تبلغ أَرْبَعِينَ درهما» . قَالَ: وَرُوِيَ مثله من طَرِيق أبي أويس، عَن عبد الله وَمُحَمّد ابْني أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيهِمَا، عَن جدهما. قَالَ: وَهَذِه صحيفَة مُنْقَطِعَة.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لم يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي زَكَاة الذَّهَب شَيْء من جِهَة نقل الْآحَاد الْعُدُول الثِّقَات. وَكَلَامه هَذَا يحمل عَلَى تَقْدِير نصابه، لَا عَلَى أصل إِيجَاب الزَّكَاة فِيهِ، كَمَا نبه عَلَيْهِ صَاحب «الإِمَام» .(5/561)
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ: غَالب مَا (كَانُوا) يتعاملون بِهِ من أَنْوَاع الدَّرَاهِم فِي عصر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (والصدر الأول بعده نَوْعَانِ: بغليَّة وَهُوَ ثَمَانِيَة دوانق، وطبريَّة) وَهُوَ أَرْبَعَة، فَأخذُوا وَاحِدًا من هَذِه وواحدًا من هَذِه وقسموها نِصْفَيْنِ، وَجعلُوا كل وَاحِد درهما، يُقَال: فعل ذَلِك فِي زمَان بني أُميَّة. وَنسبه الْمَاوَرْدِيّ إِلَى فعل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَهَذَا لم أره عَن عمر فِي كتاب حَدِيثي فليبحث عَنهُ.
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْمِيزَان ميزَان أهل مَكَّة، والمكيال مكيال (أهل) الْمَدِينَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع، وَالنَّسَائِيّ هُنَا، من حَدِيث سُفْيَان عَن حَنْظَلَة، عَن طَاوس، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا (بِهِ وَاللَّفْظ لأبي دَاوُد، وَلَفظ النَّسَائِيّ: «عَلَى مكيال» «وَعَلَى ميزَان» ، وَرِجَاله رجال الصَّحِيح (من) سُفْيَان إِلَى آخِره، لَا جرم قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : إِسْنَاده عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ صَاحب «الإِمَام» : رِجَاله رجال الصَّحِيح. وَفِي رِوَايَة لَهما: «وزن الْمَدِينَة(5/562)
ومكيال مَكَّة» . قَالَ أَبُو دَاوُد: (وَرَوَاهُ) بَعضهم من رِوَايَة ابْن عَبَّاس فَأَخْطَأَ.
قلت: وَمن هَذَا الطَّرِيق أخرجهَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَلَفظه: «الْوَزْن وزن مَكَّة، والمكيال مكيال [أهل] الْمَدِينَة» . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنْهُمَا فَقَالَ: أَخطَأ أَبُو نعيم فِي حَدِيث ابْن عمر، وَالصَّحِيح حَدِيث ابْن عَبَّاس. وَهَذَا مُخَالف لما ذكره أَبُو دَاوُد، وَلَكِن وَافقه الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ فِي «علله» : الصَّحِيح حَدِيث ابْن عمر. قَالَ: وَرَوَاهُ الْفرْيَابِيّ عَن الثَّوْريّ، وَخَالفهُ فِي الْمَتْن، فَقَالَ: «الْمِكْيَال (مكيال) أهل مَكَّة، وَالْوَزْن وزن أهل الْمَدِينَة» وَالصَّحِيح اللَّفْظ الآخر. وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا: إِن الصَّوَاب الآخر. وَرَوَاهُ مَالك بن دِينَار عَن عَطاء، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَالصَّوَاب مَا تقدم.
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَى الحَدِيث أَن الْوَزْن الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ حق الزَّكَاة وزن أهل مَكَّة، و (هِيَ) دَار الْإِسْلَام. قَالَ ابْن حزم: وبحثت غَايَة الْبَحْث (عَن) كل من (وثقت) بتمييزه، فَكل اتّفق لي(5/563)
عَلَى أَن دِينَار الذَّهَب بِمَكَّة وَزنه اثْنَان وَثَمَانُونَ حَبَّة، وَثَلَاثَة أعشار حَبَّة بالحب من الشّعير الْمُطلق، وَالدِّرْهَم سَبْعَة أعشار المثقال، فوزن الدِّرْهَم الْمَكِّيّ سَبْعَة وَخَمْسُونَ حَبَّة وَسِتَّة أعشار حَبَّة وَعشر عشر حَبَّة، فالرطل مائَة دِرْهَم وَاحِدَة وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ درهما (بالدرهم) الْمَذْكُور.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَابه وَاضحا.
الحَدِيث السَّادِس
«أنّ امْرَأتَيْنِ أتتا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَفِي أَيْدِيهِمَا (سواران) من ذهب؛ فَقَالَ لَهما: أتؤديان زَكَاته؟ قَالَتَا: لَا فَقَالَ لَهما رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أتحبان أَن يسوركما الله بسوارين من نَار؟ قَالَتَا: لَا. قَالَ: فأديا زَكَاته» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، عَن قُتَيْبَة، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن امْرَأتَيْنِ ... » فَذكره بِمثلِهِ سَوَاء، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث قد رَوَاهُ الْمثنى بن الصَّباح، عَن عَمْرو بن شُعَيْب نَحْو هَذَا، والمثنى وَابْن لَهِيعَة يُضعفَانِ فِي الحَدِيث، قَالَ: وَلَا يَصح (فِي هَذَا الْبَاب) عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْء - أَي فِي زَكَاة الْحلِيّ - وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك صَاحب الْمُغنِي من الْحفاظ والكبار فَقَالَ: بَاب زَكَاة الْحلِيّ لَا(5/564)
يَصح فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَبِير شَيْء.
وَهَذَا من التِّرْمِذِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا ذكره لِأَنَّهُ لم يَقع (لَهُ) الحَدِيث إِلَّا من طَرِيق الْمثنى بن الصَّباح وَابْن لَهِيعَة عَن عَمْرو، وَإِلَّا فَلهُ طَريقَة أُخْرَى صَحِيحَة رَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث حُسَيْن الْمعلم، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن (حميد بن مسْعدَة وَأبي كَامِل الجحدري، عَن خَالِد بن الْحَارِث) عَن حُسَيْن. وَالنَّسَائِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، عَن خَالِد، (عَن) حُسَيْن، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن امْرَأَة أَتَت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَمَعَهَا ابْنة لَهَا، وَفِي يَد ابْنَتهَا مسكتان غليظتان من ذهب، فَقَالَ لَهَا: أتعطين زَكَاة هَذَا؟ قَالَت: لَا. قَالَ: أَيَسُرُّك أَن يسورك الله (بهما) يَوْم الْقِيَامَة بسوارين من نَار؟ قَالَ: فخلعتهما فألقتهما إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (وَقَالَت) : هما لله وَلِرَسُولِهِ» . اللَّفْظ لأبي دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ بِنَحْوِهِ.
والمسكتان: - بِفَتْح الْمِيم وَالسِّين - تَثْنِيَة مَسَكة، وَهِي السوار. وحسين الْمعلم وَمن قبله ثِقَات احْتج بهم فِي الصَّحِيح، خلا شيخ(5/565)
النَّسَائِيّ فَإِنَّهُ لم يخرج لَهُ فِيهِ، وَهُوَ صَدُوق، فَهُوَ حَدِيث صَحِيح، وَلَا (يقبل) تَضْعِيف ابْن الْجَوْزِيّ لَهُ بقوله: حُسَيْن بن ذكْوَان أخرج لَهُ فِي الصِّحَاح لَكِن قَالَ يَحْيَى ابْن معِين: فِيهِ اضْطِرَاب. وَقَالَ الْعقيلِيّ: ضَعِيف. هَذَا كَلَامه، فالعقيلي ضعفه بِلَا حجَّة ذكر لَهُ حَدِيثا وَاحِدًا غَيره يُرْسِلهُ فَكَانَ مَاذَا؟
وَقَول ابْن الْجَوْزِيّ: قَالَ (يَحْيَى بن معِين) : فِيهِ اضْطِرَاب؛ مِمَّا وهم فِيهِ، وَصَوَابه: قَالَ يَحْيَى بن سعيد. كَمَا نَقله غَيره، وَقد قَالَه يَحْيَى بن سعيد مرّة.
وَلَا يقبل أَيْضا تَضْعِيف ابْن حزم لَهُ فِي «مُحلاَّه» حَيْثُ قَالَ: احْتج من رَأَى إِيجَاب الزَّكَاة فِي الْحلِيّ بآثار واهية، وَهُوَ خبر رَوَيْنَاهُ من حَدِيث خَالِد بن الْحَارِث عَن حُسَيْن الْمعلم ... فَذكره، وَقَوله هُوَ (الواهي) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الْخَبَر تفرد بِهِ (عَمْرو) . قلت: لَا يضرّهُ؛(5/566)
لِأَنَّهُ ثِقَة، وَقد نقل هُوَ فِي كتاب الطَّلَاق قبل النِّكَاح عَن ابْن رَاهَوَيْه (أَنه) إِذا كَانَ الرَّاوِي عَنهُ ثِقَة فَهُوَ كأيوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَذكر عَن جمَاعَة من الْحفاظ أَنهم يحتجون بحَديثه فَلَا يضر حينئذٍ تفرده بِالْحَدِيثِ.
وَأما الإِمَام الشَّافِعِي فَقَالَ فِي الْقَدِيم: قَالَ بعض النَّاس: فِي الْحلِيّ زَكَاة، وَرَوَى (فِيهِ) شَيْئا ضَعِيفا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَأَن الشَّافِعِي أَرَادَ حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق حُسَيْن الْمعلم، عَن عَمْرو كَمَا سلف، وَمن طَرِيق الْحجَّاج بن أَرْطَاة وَضَعفه، (ثمَّ) قَالَ: حُسَيْن أوثق من الْحجَّاج، غير أَن الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ (كالمتوقف) فِي رِوَايَة عَمْرو ابْن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، إِذا لم يَنْضَم إِلَيْهَا مَا يؤكدها؛ لِأَنَّهُ قيل: إِن رِوَايَته عَن أَبِيه عَن جده صحيفَة كتبهَا عبد الله بن عَمْرو.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد ذكرنَا فِي كتاب الْحَج مَا يدل عَلَى صِحَة سَماع عَمْرو (من) أَبِيه، وَسَمَاع أَبِيه (من) جده عبد الله بن عَمْرو.(5/567)
قَالَ: وَقد انْضَمَّ إِلَى حَدِيثه هَذَا حَدِيث أم سَلمَة وَحَدِيث عَائِشَة فِي مثل ذَلِك. قلت: وَكَذَا حَدِيث أَسمَاء.
قَالَ أَحْمد فِي «مُسْنده» : نَا عَلّي بن عَاصِم، عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم، عَن شهر بن حَوْشَب، عَن أَسمَاء بنت يزِيد قَالَت: «دخلت أَنا وخالتي عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وعلينا) أسورة من ذهب، فَقَالَ لنا: أتعطيان زَكَاته؟ فَقُلْنَا: لَا. قَالَ: أما تخافان أَن يسوركما الله بأسورة من نَار؟ أديا زَكَاته» . وعليٌّ ضَعَّفُوهُ، وَعبد الله من رجال مُسلم، وَهُوَ ثِقَة، وَلينه ابْن معِين مرّة، وَشهر تَرَكُوهُ، وَقَول الْبَيْهَقِيّ: «حُسَيْن الْمعلم أوثق من الْحجَّاج» فِيهِ وَقْفَة؛ فحسين أخرج لَهُ فِي الصِّحَاح مستقلاًّ، وحجاج أخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا وَتَكَلَّمُوا فِيهِ كثيرا. وَقَول الْبَيْهَقِيّ: «إِن الشَّافِعِي كالمتوقف فِي عَمْرو بن شُعَيْب» قد نقل عَنهُ غَيره أَنه صرَّح بذلك، فَقَالَ: لَا أحتج بحَديثه حَتَّى أعلم عَن أَي جديه يروي، فَإِن رَوَاهُ عَن جده مُحَمَّد بن عبد الله فَهُوَ مُرْسل لَا أحتج بِهِ، وَإِن رَوَاهُ عَن جد أَبِيه، فجد أَبِيه عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي، فَهُوَ صَحِيح، يجب الْعَمَل بِهِ. كَذَا نَقله عَنهُ ابْن (معن) فِي «تنقيبه» والقلعي أَيْضا. وَرَوَى النَّسَائِيّ هَذَا الحَدِيث مرّة من حَدِيث مُعْتَمر بن سُلَيْمَان مُرْسلا، ثمَّ قَالَ: خَالِد أثبت عندنَا من مُعْتَمر، (وَحَدِيث مُعْتَمر أولَى بِالصَّوَابِ) .(5/568)
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا زَكَاة فِي الْحلِيّ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» من حَدِيث عَافِيَة بن أَيُّوب، عَن اللَّيْث، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: لَا أصل لَهُ. وَقَالَ: وفقهاؤنا يَرْوُونَهُ مَرْفُوعا وَلَا أصل لَهُ. (قَالَ) : وَإِنَّمَا (يرْوَى) عَن جَابر من قَوْله غير مَرْفُوع. قَالَ: وعافية بن أَيُّوب مَجْهُول، فَمن احْتج بِهِ كَانَ مغررًا بِدِينِهِ، دَاخِلا فِيمَا نعيب بِهِ الْمُخَالفين من الِاحْتِجَاج بِرِوَايَة الْكَذَّابين، وَالله يعصمنا من أَمْثَاله. وَقَالَ فِي «خلافياته» : لَا أصل لَهُ مَرْفُوعا (وَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف عَلَى جَابر.
وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَرَوَاهُ فِي «تَحْقِيقه» مَرْفُوعا) ثمَّ قَالَ: إِن قيل: (إِن) عَافِيَة ضَعِيف. قُلْنَا: مَا عرفنَا أحدا طعن فِيهِ. ثمَّ قَالَ: فَإِن قيل: فقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث (مَوْقُوفا) عَلَى جَابر. قُلْنَا: الرَّاوِي (قد) يسند الشَّيْء تَارَة، ويفتي بِهِ أُخْرَى.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» : فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عَافِيَة بن أَيُّوب، وَلم يبلغنِي عَنهُ مَا يُوجب تَضْعِيفه.
وَاعْترض عَلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين، فَقَالَ فِي «الإِمَام» : يحْتَاج المحتج(5/569)
بِهِ أَن يبلغهُ (فِيهِ) مَا يُوجب تعديله.
قلت: قد عدل وَللَّه الْحَمد، ذكره ابْن أبي حَاتِم، وَقَالَ: رَوَى عَن أُسَامَة بن زيد بن أسلم، رَوَى عَنهُ عبد الْعَزِيز بن عمرَان. ثمَّ نقل عَن أبي زرْعَة أَنه قَالَ: هُوَ أَبُو عُبَيْدَة مصري، لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَفِي «الْإِكْمَال» لِابْنِ مَاكُولَا: عَافِيَة بن أَيُّوب بن عبد الرَّحْمَن بن مُسلم مولَى دوس أَبُو عُبَيْدَة، يروي عَن حَيْوَة بن شُرَيْح، وَمُعَاوِيَة بن صَالح، وَالْمُحَرر بن بِلَال بن أبي هُرَيْرَة، وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز، وَاللَّيْث بن سعد، وَمَالك بن أنس، وَغَيرهم، آخر من حدث عَنهُ (بِمصْر) بَحر بن نصر.
قلت: فقد زَالَت عَنهُ الْجَهَالَة العينية والحالية إِذا، والحافظ شمس الدَّين الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» تبع الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ: عَافِيَة بن أَيُّوب رَوَى عَن اللَّيْث بن سعد، تكلم فِيهِ، مَا هُوَ بِحجَّة، وَفِيه جَهَالَة. هَذَا لَفظه.
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الذَّهَب وَالْحَرِير: هَذَانِ حرَام عَلَى ذُكُور أمتِي حلٌّ لإناثها» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب الْآنِية وَاضحا فَرَاجعه من ثَم.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن رجلا قطع أَنفه يَوْم الْكلاب، فَاتخذ أنفًا من فضَّة، فَأَنْتن عَلَيْهِ،(5/570)
فَأمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يتَّخذ (أنفًا) من ذهبٍ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَئِمَّة أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن طرفَة «أَن جده عرْفجَة - بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، ثمَّ رَاء سَاكِنة، ثمَّ فَاء، ثمَّ جِيم، ثمَّ هَاء - بن (أسعد) أُصِيب أَنفه يَوْم الْكلاب فِي الْجَاهِلِيَّة، فَاتخذ أنفًا من ورق ... » الحَدِيث.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن، إِنَّمَا نعرفه من حَدِيث أبي الْأَشْهب عَن عبد الرَّحْمَن بن طرفَة، وَقد رَوَى (سَلم) بن (زَرير) - أَي بِفَتْح الزَّاي - عَن عبد الرَّحْمَن بن طرفَة، نَحْو حَدِيث أبي الْأَشْهب، وزرير أصح. وَقَالَ ابْن مهْدي: سلم بن (وَزِير) وَهُوَ وهم، وَقد رَوَى غير وَاحِد من أهل الْعلم أَنهم شدوا أسنانهم بِالذَّهَب، وَفِي هَذَا الحَدِيث حجَّة لَهُم.
قلت: (سلم) هَذَا ثِقَة من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَإِن ضعفه(5/571)
ابْن معِين. وَأَبُو الْأَشْهب جَعْفَر بن الْحَارِث ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ (البُخَارِيّ) : مُنكر الحَدِيث. وَأما ابْن حبَان فَذكره فِي «ثقاته» ، وَقَالَ: إِنَّه ثِقَة. قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ بِأبي الْأَشْهب (العطاردي) ، ذَلِك بَصرِي وَهَذَا واسطي. قَالَ: وهما جَمِيعًا ثقتان. وَأخرج هَذَا الحَدِيث فِي «صَحِيحه» من جِهَته، وَخَالف ابْن الْقطَّان فضعفه، وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة أبي الْأَشْهب، وَاخْتلف عَنهُ؛ فالأكثر يَقُول: عَنهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن طرفَة (بن) عرْفجَة عَن جده، وَابْن عليَّة(5/572)
يَقُول: عَنهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن طرفَة (عَن أَبِيه عَن) عرْفجَة. فعلَى طَريقَة الْمُحدثين يَنْبَغِي أَن تكون رِوَايَة الْأَكْثَرين مُنْقَطِعَة؛ فَإِنَّهَا معنعنة، وَقد زَاد فِيهَا ابْن علية وَاحِدًا، وَلَا يدْرَأ هَذَا قَوْلهم: إِن عبد الرَّحْمَن بن طرفَة سمع من جده. وَقَول يزِيد بن زُرَيْع: إِنَّه سمع من جده. فَإِن هَذَا الحَدِيث لم يقل فِيهِ: إِنَّه سَمعه مِنْهُ، وَقد أَدخل بَينهمَا فِيهِ (الْأَب) ، وأنى هَذَا؟ فَإِن عبد الرَّحْمَن بن طرفَة الْمَذْكُور لَا يعرف بِغَيْر هَذَا الحَدِيث، وَلَا يعرف (رَوَى) عَنهُ غير أبي الْأَشْهب، فَإِن احْتِيجَ فِيهِ إِلَى أَبِيه طرفَة - عَلَى مَا قَالَ ابْن علية عَن أبي الْأَشْهب - كَانَ الْحَال أَشد؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْرُوف الْحَال وَلَا مَذْكُور فِي رُوَاة الْأَخْبَار.
فَائِدَتَانِ: (الأولَى) : رَوَى ابْن حبَان فِي «ضُعَفَائِهِ» فِي تَرْجَمَة أبان (بن) سُفْيَان وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة عبد الله بن (عبد الله) بن أبيّ «أَنه أُصِيب ثنيته - (أَعنِي) عبد الله هَذَا - يَوْم أحد، فَأمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يتَّخذ ثنية من ذهب» .
قَالَ ابْن حبَان: وَأَبَان هَذَا يروي عَن الثِّقَات أَشْيَاء مَوْضُوعَة. قَالَ:(5/573)
وَهَذَا الْخَبَر مَوْضُوع، وَكَيف يَأْمر المصطفي (باتخاذ ثنية من ذهب و (قد) قَالَ: «إِن الذَّهَب وَالْحَرِير محرمان عَلَى ذُكُور أمتِي، و (حل) لإناثهم» ؟ لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهَذَا الشَّيْخ و (لَا) الرِّوَايَة عَنهُ إِلَّا عَلَى سَبِيل الِاعْتِبَار.
قلت: وَحكمه عَلَى الْوَضع بِمُجَرَّد هَذَا غير جيد، وَقد أخرج هُوَ فِي «صَحِيحه» حَدِيث اتِّخَاذ الْأنف من ذهب، وَأي فرق بَينهمَا؛ وَخص ذَلِك من النَّهْي كَمَا خص لبس الْحَرِير للحكة وَغَيرهَا، نعم أبان هَذَا مُتَّهم، وَفِي إِسْنَاد الْحَاكِم: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْكذَّاب.
الثَّانِيَة: الكُلاَب - (بِضَم) الْكَاف وَفتح اللَّام المخففة -: اسْم لماءٍ من مياه الْعَرَب، كَانَت عِنْده وقْعَة فسمّي ذَلِك الْيَوْم بِهِ. وَقيل: كَانَ عِنْده يَوْمَانِ مشهوران يُقَال فيهمَا: الْكلاب الأول وَالْكلاب الثَّانِي. حَكَاهُ ابْن الصّلاح ثمَّ النَّوَوِيّ.
وَقَالَ الْحَازِمِي بعد أَن ضَبطه كَمَا أسلفته: هُوَ مَاء بَين الْكُوفَة وَالْبَصْرَة، عَلَى سبع لَيَال من الْيَمَامَة، يذكر فِي أَيَّام الْعَرَب. قَالَ: وكُلاب أَيْضا اسْم وَاد بثهلان بِهِ نخل، وثهلان جبل لباهلة؛ ذكره فِي كِتَابه «الْمُخْتَلف والمؤتلف فِي أَسمَاء الْأَمَاكِن» .
وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي «مُعْجم مَا استعجم» : الكُلاب - بِضَم أَوله وبالباء الْمُوَحدَة - هُوَ قِدَةُ بِعَينهَا، وَبَين أدناه وأقصاه مسيرَة يَوْم،(5/574)
أَعْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْيمن، وأسفله مِمَّا يَلِي الْعرَاق.
وَقَالَ ابْن (معن) فِي «تنقيبه» : الْكلاب - بِضَم الْكَاف - اسْم لموضعين: أَحدهمَا: مَاء بَين الْكُوفَة وَالْبَصْرَة عَلَى سبع لَيَال من الْيَمَامَة، وَفِيه كَانَ الكُلاب الأول، وَأما الْمَكَان الثَّانِي، وَهُوَ الكُلاب الثَّانِي: فَهُوَ اسْم لماء بَين جبلة وشمام وَهُوَ جبل. قَالَ: وَقيل: الكُلاب اسْم مَوضِع من الْيَمَامَة بَين الْكُوفَة وَالْبَصْرَة، وَقعت فِيهِ وقعتان: إِحْدَاهمَا بَين مُلُوك كِنْدَة، وَالْأُخْرَى بَين الْحَارِث وَتَمِيم.
فَائِدَة ثَالِثَة: العرفج (شجرٌ) مَعْرُوف (وَبِه) سمي (عرْفجَة) هَذَا.
الحَدِيث الْعَاشِر
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اتخذ خَاتمًا من فضَّة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته؛ أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أنس وَابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.(5/575)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
ثَبت أَن قبيعة سيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَت من فضَّة.
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه مَبْسُوطا فِي الْأَوَانِي فَرَاجعه مِنْهُ وتأمَّل قَوْله: «ثَبت» هُنَاكَ.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
ورد فِي الْخَبَر ذمّ تحلية الْمُصحف بِالذَّهَب.
الَّذِي يحضرني الذَّم فِي تحليته مُطلقًا، وَذَلِكَ فِي عدَّة أَحَادِيث وآثار، أما الْأَحَادِيث فأولها: عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَفعه: «من اقتراب السَّاعَة اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ خصْلَة: إِذا رَأَيْتُمْ النَّاس أماتوا الصَّلَاة ... » إِلَى أَن قَالَ: «وحليت الْمَصَاحِف، وصورت الْمَسَاجِد ... » الحَدِيث بِطُولِهِ.
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي «الْحِلْية» فِي تَرْجَمَة عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر اللَّيْثِيّ، من حَدِيث فرج بن فضَالة عَنهُ، عَن حُذَيْفَة، (بِهِ) ثمَّ قَالَ: غَرِيب من حَدِيث عبد الله بن (عُمَيْر) عَن حُذَيْفَة، لم يروه عَنهُ - فِيمَا أعلم - إِلَّا فرج بن فضَالة. قلت: قد ضَعَّفُوهُ.(5/576)
ثَانِيهَا: عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «إِن من (أَشْرَاط) السَّاعَة (أَن) تحلى الْمَصَاحِف ... » الحَدِيث.
رَوَاهُ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فِي كِتَابه «ذكر شُمُول الدَّلَائِل عِنْد حُلُول الزلازل» من حَدِيث جرير، عَن عَطاء عَنهُ، وَقد أسلفنا الْكَلَام عَلَى هَذِه التَّرْجَمَة، وَهِي جرير عَن عَطاء، فِي بَاب الْأَحْدَاث، فِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين مِنْهُ.
ثَالِثهَا: عَن أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: «إِذا زخرفتم مَسَاجِدكُمْ وحليتم مصاحفكم فالدبار عَلَيْكُم» .
ذكره الْقُرْطُبِيّ فِي «تَفْسِيره» ، عَن الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي «نَوَادِر الْأُصُول» ، وَلم يبرز إِسْنَاده، وَسَيَأْتِي مَوْقُوفا.
وَأما الْآثَار فَمِنْهَا: عَن أُبَيِّ بن كَعْب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ أَنه قَالَ: «إِذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مَسَاجِدكُمْ فالدبار عَلَيْكُم» .
رَوَاهُ ابْن أبي دَاوُد فِي كتاب «الْمَصَاحِف» بسندٍ لَا بَأْس بِهِ، وَرُوِيَ مثله عَن أبي الدَّرْدَاء وَأبي هُرَيْرَة، وَفِي إِسْنَاد أبي الدَّرْدَاء مَجْهُول.
وَذكر هَذَا الْخَطِيب فِي «تلخيصه» (وَلَفظه: «فالدبار عَلَيْكُم» وَعَزاهُ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» فِي بَاب الْمَسَاجِد إِلَى الْبَغَوِيّ بِلَفْظ:(5/577)
«زخرفتم» بدل «زوقتم» ثمَّ قَالَ: الدبار - بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة -: أَي الْهَلَاك.
وَرَوَى ابْن أبي دَاوُد (أَيْضا) فِي الْكتاب الْمَذْكُور، بسندٍ جيد، عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يكره أَن يُحلَّى الْمُصحف، و (قَالَ) : تغرون بِهِ السَّارِق وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «أَنه رَأَى مُصحفا قد زُيِّنَ بِفِضَّة، فَقَالَ: تغرون السَّارق؟ زينته فِي جَوْفه» .
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِفضل الله وقوته.
وَأما آثاره فثمانية: أَولهَا: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا قَالَت: «لَا زَكَاة فِي اللُّؤْلُؤ» .
وَهَذَا (الْأَثر) لَا يحضرني من خرجه عَنْهَا، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن سعيد بن جُبَير، أَنه قَالَ: «لَيْسَ فِي حجر زَكَاة إِلَّا مَا كَانَ لتِجَارَة من جوهرٍ، وَلَا ياقوت وَلَا لُؤْلُؤ وَلَا غَيره إِلَّا الذَّهَب وَالْفِضَّة» . وَرَوَاهُ أَيْضا عَن الحكم، عَن عَلّي قَالَ: «لَيْسَ فِي جَوْهَر زَكَاة» . ثمَّ قَالَ: هَذَا مُنْقَطع وَمَوْقُوف. قَالَ: وروينا نَحْو هَذَا عَن عَطاء وَسليمَان بن يسَار وَعِكْرِمَة وَالزهْرِيّ وَالنَّخَعِيّ وَمَكْحُول.
فَائِدَة: اللُّؤْلُؤ (فِيهِ) أَربع لُغَات، قُرِئَ بهنَّ فِي السَّبع، بهمزتين، ودونهما، وبهمز (أَوله) دون ثَانِيه، وَعَكسه.(5/578)
قَالَ جُمْهُور أهل اللُّغَة: اللُّؤْلُؤ: الْكِبَار، والمرجان: الصغار، وَقيل عَكسه.
ثَانِيهَا: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «لَا شَيْء فِي العنبر» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَنهُ، تَعْلِيقا بِصِيغَة جزم، وَهَذَا لَفظه: قَالَ ابْن عَبَّاس: «لَيْسَ العنبر بركاز، إِنَّمَا هُوَ شَيْء دسره الْبَحْر» .
وأسنده الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَنهُ صَحِيحا، بِلَفْظ: «لَيْسَ فِي العنبر زَكَاة، إِنَّمَا هُوَ شَيْء دسره الْبَحْر» . وَفِي لَفْظَة لَهُ كَلَفْظِ البُخَارِيّ، وَفِي آخر لَهُ: «أَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ عَن العنبر؛ فَقَالَ: إِن كَانَ فِيهِ شَيْء فَفِيهِ الْخمس» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فَابْن عَبَّاس علق القَوْل فِيهِ فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَقطع بِأَن لَا زَكَاة فِيهِ فِي الرِّوَايَة الأولَى، وَالْقطع أولَى. ودسره (الْبَحْر) - بدال وسين مهملتين مفتوحتين - أَي: قذفه وَدفعه.
ثَالِثهَا، وَرَابِعهَا، وخامسها: عَن عمر، وَابْن عَبَّاس، وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «أَنهم أوجبوا الزَّكَاة فِي الْحلِيّ الْمُبَاح» .
أما أثر عمر فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مساور الْوراق، عَن شُعَيْب ابْن يسَار قَالَ: «كتب عمر إِلَى أبي مُوسَى أَن مُر مَن قِبلك من نسَاء (الْمُسلمين) أَن (يصدقن) من حليهن» ثمَّ قَالَ: هَذَا مرسلٌ(5/579)
(شُعَيْب) بن يسَار لم يدْرك عمر، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن مساور، عَن شُعَيْب «أَن عمر بن الْخطاب (كتب) أَن يزكَّى الْحلِيّ» . قَالَ البُخَارِيّ: هَذَا مُرْسل.
وَأما أثر ابْن عَبَّاس؛ فحكاه ابْن الْمُنْذر عَنهُ، عَلَى مَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ. قَالَ الشَّافِعِي: (وَيروَى) عَن ابْن عَبَّاس وَأنس بن مَالك، وَلَا أَدْرِي (أيثبت) عَنْهُمَا أَنه لَيْسَ فِي الْحلِيّ زَكَاة.
وَأما أثر (ابْن مَسْعُود) ؛ فحكاه ابْن الْمُنْذر، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، وأسنده الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث حجاج بن منهال، نَا حَمَّاد بن سَلمَة، [عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم] عَن ابْن مَسْعُود «أَن امْرَأَته (أَتَتْهُ) فَقَالَت: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، هَل من حليي زَكَاة؟ قَالَ: نعم. قَالَت: فَإِن بني أخي أَيْتَام أفأجعله فيهم؟ قَالَ: اجعليه فيهم» .
وأسنده الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، من حَدِيث سُفْيَان، (عَن) حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة «أَن امْرَأَة عبد الله - يَعْنِي ابْن مَسْعُود - سَأَلته عَن(5/580)
حُلِيٍّ لَهَا؟ فَقَالَ: إِذا بلغ مِائَتي دِرْهَم فَفِيهِ الزَّكَاة. قَالَت: أضعها فِي بني أَخ لي فِي حجري؟ قَالَ: نعم» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلَيْسَ بِشَيْء. (قلت) أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث قبيصَة، عَن سُفْيَان، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة، عَن عبد الله «أَن امْرَأَة أَتَت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: إِن لي حليًّا وَإِن زَوجي خَفِيف ذَات الْيَد، وَإِن لي بني أَخ، أفيجزئ (عني) أَن أجعَل زَكَاة الْحلِيّ فِيهِ؟ قَالَ: نعم» . ثمَّ قَالَ: هَذَا وهم، وَالصَّوَاب عَن إِبْرَاهِيم، عَن عبد الله، مُرْسل مَوْقُوف.
الْأَثر السَّادِس وَالسَّابِع وَالثَّامِن: عَن ابْن عمر وَجَابِر وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «أَنهم لم يوجبوا الزَّكَاة فِي الْحلِيّ الْمُبَاح» .
أما أثر ابْن عمر فَصَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يحلي بَنَاته وجواريه بِالذَّهَب فَلَا يخرج مِنْهُ الزَّكَاة» .
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَنهُ: «إِنَّه كَانَ يحلي بَنَاته بأربعمائة دِينَار وَلَا يخرج زَكَاته» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «لَيْسَ فِي (الْحلِيّ زَكَاة) » . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «زَكَاة الْحلِيّ عاريته» .
وَأما أثر جَابر فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (بِإِسْنَادِهِ) الصَّحِيح، عَن(5/581)
الشَّافِعِي، قَالَ: أَنا سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: «سَمِعت رجلا يسْأَل جَابر بن عبد الله عَن الْحلِيّ: أفيه زَكَاة؟ فَقَالَ جَابر: لَا. فَقَالَ: وَإِن كَانَ يبلغ ألف دِينَار؟ فَقَالَ جَابر: كثير» . وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من حَدِيث دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن جَابر «أَنه سُئِلَ عَن زَكَاة الْحلِيّ فَقَالَ: زَكَاته عاريته» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، من حَدِيث أبي حَمْزَة، عَن الشّعبِيّ، عَن جَابر: «لَيْسَ فِي الْحلِيّ زَكَاة» . ثمَّ قَالَ: أَبُو حَمْزَة هَذَا ضَعِيف الحَدِيث.
وَأما أثر عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فَصَحِيح؛ رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مَالك، وَهُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن [عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم] ، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا كَانَت تلِي بَنَات (أَخِيهَا) - يتامى فِي حجرها لَهُنَّ الْحلِيّ، فَلَا تخرج مِنْهُ الزَّكَاة» .
لَكِن فِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الْوَهَّاب، أَنا حُسَيْن الْمعلم، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «لَا بَأْس بِلبْس الْحلِيّ إِذا أعطي زَكَاته» .
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح.
قلت: وَرُوِيَ مثل مقالتهم عَن أنس بن مَالك وَأَسْمَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.(5/582)
أما أثر أنس فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (و) الْبَيْهَقِيّ؛ بِإِسْنَاد جيد، من حَدِيث عَلّي بن سليم (قَالَ) : «سَأَلت أنس بن مَالك عَن الْحلِيّ فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ زَكَاة» .
وَأما أثر أَسمَاء (فروياه) أَيْضا، بإسنادٍ جيد، عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر، عَن أَسمَاء بنت أبي بكر «أَنَّهَا كَانَت تحلي بناتها الذَّهَب وَلَا تزكيه، نَحْو من خمسين ألف» .
قَالَ الْأَثْرَم: سَمِعت أَبَا عبد الله يَقُول فِي زَكَاة الْحلِيّ عَن خَمْسَة من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يرَوْنَ فِيهِ زَكَاة، وهم أنس وَجَابِر وَابْن عمر وَعَائِشَة وَأَسْمَاء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَمن قَالَ: لَا زَكَاة فِي الْحلِيّ زعم أَن الْأَحَادِيث والْآثَار الْوَارِدَة فِي وجوب الزَّكَاة فِيهِ حِين كَانَ التحلي بِالذَّهَب حَرَامًا عَلَى النِّسَاء، فَلَمَّا أُبِيح لَهُنَّ سَقَطت زَكَاته. قَالَ: وَكَيف يَصح هَذَا القَوْل مَعَ حَدِيث عَائِشَة - إِن كَانَ ذكر الْوَرق فِيهِ مَحْفُوظًا - وَهُوَ مَا رَوَاهُ(5/583)
أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ عَنْهَا «أَنَّهَا دخلت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَرَأَى فِي يَدهَا صخابًا من ورق، فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا عَائِشَة؟ فَقَالَت: صنعتهن أتزين لَك بهنَّ يَا رَسُول الله. قَالَ:) أتؤدين زكاتهن؟ قَالَت: لَا، قَالَ: هُوَ حَسبك من النَّار» .
وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ مَجْهُول. (وَتَبعهُ ابْن الْجَوْزِيّ) ، وَخَالفهُ الْبَيْهَقِيّ وَابْن الْقطَّان (فَقَالَا) : هُوَ مَعْرُوف. وَهُوَ الصَّوَاب، فَهُوَ من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» .
وَأما ابْن حزم فَإِنَّهُ أعلَّه بِيَحْيَى بن أَيُّوب الغافقي، وَهُوَ من رجال مُسلم، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى فِي رِوَايَة، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، لَا جرم قَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : إِنَّه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: غير أَن رِوَايَة الْقَاسِم وَابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة(5/584)
فِي تَركهَا إِخْرَاج زَكَاة الْحلِيّ، مَعَ مَا ثَبت من مَذْهَبهمَا من إِخْرَاج [الزَّكَاة عَن] أَمْوَال الْيَتَامَى، فَوَقع رِيبَة فِي هَذِه الرِّوَايَة المرفوعة، فَهِيَ لَا تخَالف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيمَا ترويه إِلَّا فِيمَا عَلمته مَنْسُوخا.(5/585)
بَاب: زَكَاة التِّجَارَة
ذكر فِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَادِيث وأثرًا وَاحِدًا. أما الْأَحَادِيث فَثَلَاثَة:
الحَدِيث الأول
عَن أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الْإِبِل صدقتها، (وَفِي الْبَقر صدقتها، وَفِي الْغنم صدقتها) وَفِي الْبَز صدقته» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، من طرق (عَن أبي ذَر، إِحْدَاهَا) : من حَدِيث أبي عَاصِم، عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي، قَالَ: حَدثنِي عمرَان بن أبي أنس، عَن مَالك بن أَوْس بن الْحدثَان، عَنهُ مَرْفُوعا، كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء.
وَقَالَ عِنْد قَوْله: «وَفِي الْبَز صدقته» قَالَهَا بالزاي.
ثَانِيهَا: من حَدِيث (سعيد) بن سَلمَة، نَا مُوسَى، عَن عمرَان، عَن مَالك، عَنهُ مَرْفُوعا (بِهِ) سَوَاء، ثمَّ قَالَ: كتبته من الأَصْل الْعَتِيق، وَفِي الْبَز مُقَيّد.
ثَالِثهَا: من حَدِيث عبد الله بن مُعَاوِيَة، نَا مُحَمَّد بن بكر، عَن ابْن جريج، عَن عمرَان، عَن مَالك، عَنهُ مَرْفُوعا بِهِ، سَوَاء، إِلَّا أَنه قَالَ: لم يذكر الْبَقر.(5/586)
وَرَوَاهُ أَحْمد، عَن مُحَمَّد بن بكر، عَن ابْن جريج، عَن عمرَان، بلغه عَنهُ، عَن مَالك بن أَوْس (بِهِ) ، وَذكر الْبَقر.
والطريقان الْأَوَّلَانِ معللان بمُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي، وَقد ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ أَحْمد: لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ. وَالطَّرِيق الثَّالِث مُعَلل بِعَبْد الله بن مُعَاوِيَة، وَلَا أعلم حَاله، وَلَا أتحقق أَنه عبد الله بن مُعَاوِيَة بن عَاصِم الضَّعِيف، وَإِن كَانَ ابْن حبَان ذكره فِي «ثقاته» وَقَالَ: رُبمَا يُخَالف، يعْتَبر بحَديثه إِذا بيَّنَ السماع فِي رِوَايَته.
فَإِن سلم أَنه هُوَ فقد صرح (هُنَا) بِالتَّحْدِيثِ، فَقَالَ: نَا مُحَمَّد بن بكر. كَمَا سلف، وَجزم ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» بِأَنَّهُ المضعف، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: إسنادها حسن وَإِن (كَانَ) عبد الله فِيهِ أدنَى كَلَام.
قلت: وَلم ينْفَرد بِهِ، بل تَابعه عَلَيْهِ يَحْيَى بن مُوسَى كَمَا سَيَأْتِي، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ لَا يعرف إِلَّا بمُوسَى بن عُبَيْدَة وَهُوَ ضَعِيف، عَن عمرَان بن أبي أنس. قَالَ: فَأَما رِوَايَة ابْن جريج عَن عمرَان فَلَا تصح إِلَى ابْن جريج. قَالَ: وَعبد الله بن مُعَاوِيَة هَذَا لَا يعرف حَاله.
وَأقرهُ صَاحب «الإِمَام» عَلَى هَذِه الْمقَالة. قَالَ ابْن الْقطَّان: فَإِن قلت: قد رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن بكر غَيره، وَهُوَ يَحْيَى بن مُوسَى الْبَلْخِي(5/587)
الْمَعْرُوف بخت وَهُوَ ثِقَة. فَالْجَوَاب: أَن الْمُؤَاخَذَة إِنَّمَا هِيَ عَلَى رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ، عَلَى أَن لرِوَايَة ابْن جريج عَن عمرَان لَو صحت من رِوَايَة يَحْيَى بن مُوسَى شَأْنًا آخر وَهُوَ الِانْقِطَاع. قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي كتاب «الْعِلَل» : نَا يَحْيَى بن مُوسَى، نَا مُحَمَّد بن (بكر) ثَنَا ابْن جريج، عَن عمرَان، عَن مَالك، عَن أبي ذَر قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «فِي الْإِبِل صدقتها، وَفِي الْغنم صدقتها، وَفِي الْبَقر صدقتها، وَفِي الْبَز صدقته» ثمَّ قَالَ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذَا الحَدِيث؟ فَقَالَ: ابْن جريج لم يسمع من عمرَان بن أبي أنس، يَقُول: حدثت عَن عمرَان بن أَبَى أنس. انْتَهَى. (وَقد أسلفنا ذَلِك عَن رِوَايَة أَحْمد) .
قَالَ ابْن الْقطَّان: فَالْحَدِيث عَلَى هَذَا مُنْقَطع، وَابْن جريج لم يقل: «نَا عمرَان» وَهُوَ مُدَلّس.
قلت: قد أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث سعيد بن سَلمَة بن أبي الحسام، نَا عمرَان بن أبي أنس، عَن مَالك بن أَوْس، عَن أبي ذَر، مَرْفُوعا كَمَا سلف. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من هَذَا(5/588)
الْوَجْه أَيْضا، فَهَذِهِ الطَّرِيقَة سَالِمَة (من) الِانْقِطَاع. ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: تَابعه ابْن (جريج) عَن عمرَان، ثمَّ سَاقه كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: كلا الإسنادين صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَاعْترض الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» عَلَى ابْن الْقطَّان، فَقَالَ: مَا ذكره من جِهَة التِّرْمِذِيّ عَن يَحْيَى بن مُوسَى، يَقْتَضِي صِحَّته إِلَى ابْن جريج، لَا كَمَا ذكر أَولا، وَالتَّعْلِيل بالانقطاع غير التَّعْلِيل بِعَدَمِ الصِّحَّة إِلَى ابْن جريج. قَالَ: وَطَرِيق ابْن جريج أخرجهَا الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من (غير) جِهَة عبد الله بن مُعَاوِيَة، عَن مُحَمَّد بن بكر، فتزول الْعلَّة الَّتِي ذكرهَا ابْن الْقطَّان فِي كَون الحَدِيث لَا يَصح إِلَى ابْن جريج، ثمَّ سَاقه من حَدِيث الْحَاكِم، (من) طَرِيق ابْن جريج، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا وَإِن كَانَ يزِيل مَا اعْترض بِهِ من عدم الصِّحَّة إِلَى ابْن (جريج) ، فَلَا يزِيل مَا ذكر عَن البُخَارِيّ من أَن ابْن جريج لم يسمع من عمرَان، فَمن هَذَا الْوَجْه يسْتَدرك عَلَى «الْمُسْتَدْرك» ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ الْحَاكِم من جِهَة سعيد بن سَلمَة، ثَنَا عمرَان بن أبي أنس، فَهَذَا الْوَجْه(5/589)
خرج مِنْهُ ابْن جريج عَن عمرَان، وَقد وَقع فِيهِ التَّصْرِيح بِسَمَاع سعيد مِنْهُ، وَهُوَ من رجال مُسلم.
ثمَّ اعْترض عَلَى الْحَاكِم فِي قَوْله: «إِن الإسنادين عَلَى شَرطهمَا» بِأَن قَالَ: كِلَاهُمَا يرجع إِلَى عمرَان (بن) أبي أنس، وَهُوَ مَذْكُور فِيمَن انْفَرد (مُسلم بِهِ فَكيف يكون عَلَى شَرطهمَا؟ قلت: قد أسلفنا فِي أَوَائِل كتَابنَا هَذَا أَن مُرَاد) الْحَاكِم بقوله: «عَلَى شَرطهمَا» أَو «عَلَى شَرط أَحدهمَا» أَن رِجَاله ثِقَات احْتج الشَّيْخَانِ أَو أَحدهمَا بمثلهم (لَا أَنهم) أنفسهم، فَلَا إِيرَاد عَلَيْهِ إِذن.
ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك أَن ابْن الْجَوْزِيّ ذكر الطّرق الثَّلَاثَة الأول، من (عِنْد) الدَّارَقُطْنِيّ، عَلَى وَجه الِاحْتِجَاج بهَا، و (قَالَ) إِن الطَّرِيق الَّتِي فِيهَا عبد الله بن مُعَاوِيَة أصلح من اللَّتَيْنِ قبلهَا؛ لأجل مُوسَى بن عُبَيْدَة؛ فَإِنَّهُ أَشد ضعفا.
وَعِنْدِي أَن طَريقَة الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ من جِهَة سعيد بن سَلمَة أولَى مِنْهَا وَلم (يعْتَبر) بهَا ابْن الْجَوْزِيّ.
فَائِدَة: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «وَفِي الْبَز صدقته» هُوَ بِفَتْح الْبَاء وبالزاي، هَكَذَا رَوَاهُ، وَصرح بالزاي الدَّارَقُطْنِيّ كَمَا سلف، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» .
قَالَ أهل اللُّغَة: الْبَز: هِيَ الثِّيَاب الَّتِي هِيَ أَمْتعَة الْبَزَّاز. قَالَ النَّوَوِيّ(5/590)
فِي «تهذيبه» : وَهَذَا التَّقْيِيد وَإِن كَانَ ظَاهرا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا قيدته بِهِ لِأَن بَعضهم صحفه بِالْبرِّ بِالْبَاء وَالرَّاء.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : (ثمَّ) اعْلَم أَن (هُنَا) أَمر لَا بُد من التَّنْبِيه عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ أَن الأَصْل الَّذِي نقلت مِنْهُ (من) كتاب «الْمُسْتَدْرك» لَيْسَ (فِيهِ) الْبَز بالزاي الْمُعْجَمَة، وَفِيه ضم الْبَاء فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَيحْتَاج إِلَى كشف من أصل آخر مُعْتَبر، فَينْظر إِلَى الْمُوَافقَة والمخالفة، فَإِن اتّفق عَلَى (ضمة الْبَاء) فَلَا يكون دَلِيلا عَلَى مَسْأَلَة زَكَاة التِّجَارَة، فَليعلم ذَلِك، فَإِنَّمَا قصدنا الْخُرُوج عَن الْعهْدَة.
قلت: الْوَاقِع فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ السالفة وَالْبَيْهَقِيّ التَّقْيِيد بِأَنَّهُ بالزاي يزِيل هَذَا التَّوَقُّف. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَأْمُرنَا أَن نخرج الزَّكَاة مِمَّا نعده للْبيع» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث جَعْفَر بن سعد ابْن سَمُرَة بن جُنْدُب، قَالَ: حَدثنِي خبيب - يَعْنِي بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة - ابْن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه سُلَيْمَان بن سَمُرَة، عَن سَمُرَة بن جُنْدُب: «أما بعد، فَإِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَأْمُرنَا أَن نخرج الصَّدَقَة من الَّذِي يعد للْبيع» .(5/591)
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي (عمر) مَرْوَان ابْن جَعْفَر بن سعد بن سَمُرَة بن جُنْدُب قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن خبيب بن سُلَيْمَان بن سَمُرَة بن جُنْدُب، عَن [جَعْفَر بن] سعد بن سَمُرَة بن جُنْدُب، عَن خبيب بن سُلَيْمَان بن (سَمُرَة) بن جُنْدُب، عَن أَبِيه، عَن سَمُرَة بن جُنْدُب: «بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (من سَمُرَة بن جُنْدُب) إِلَى بنيه سَلام عَلَيْكُم، أما بعد، فَإِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَأْمُرنَا برقيق الرجل وَالْمَرْأَة الَّذِي هُوَ تلاد لَهُ وهم عملة لَا يُرِيد بيعهم، فَكَانَ يَأْمُرنَا أَن لَا نخرج عَنْهُم من الصَّدَقَة شَيْئا، وَكَانَ يَأْمُرنَا أَن نخرج من الرَّقِيق الَّذِي يعد للْبيع» .
وَإسْنَاد هَذَا الحَدِيث جيد، وَخَالف (أَبُو مُحَمَّد) بن حزم (فَقَالَ: سَاقِط) ؛ لِأَن جَمِيع رُوَاته مَا بَين سُلَيْمَان (بن مُوسَى) وَسمرَة مَجْهُولُونَ، لَا يعرف من هم. وَتَبعهُ ابْن الْقطَّان فَقَالَ: مَا من هَؤُلَاءِ من يعرف حَاله، وَقد جهد المحدثون فيهم جهدهمْ، وَهُوَ إِسْنَاد تروى بِهِ جملَة أَحَادِيث، ذكر الْبَزَّار مِنْهَا نَحْو الْمِائَة. وَلَيْسَ كَمَا قَالَا،(5/592)
فسليمان هَذَا الَّذِي (هَذَا) الحَدِيث عِنْده عَن جَعْفَر هُوَ الزُّهْرِيّ، رَوَى عَنهُ مَرْوَان (الطاطري) - وَقَالَ: ثِقَة - وَجَمَاعَة أُخر، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: حَدِيثه مُسْتَقِيم مَحَله الصدْق، صَالح الحَدِيث.
وجعفر بن سعد وخبيب (ووالده) سُلَيْمَان بن سَمُرَة ذكرهم ابْن حبَان فِي «ثقاته» فَقَالَ: جَعْفَر بن سعد بن سَمُرَة الْفَزارِيّ، يروي عَن خبيب ابْن سُلَيْمَان، رَوَى عَنهُ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن خبيب. وَقَالَ فِي تَرْجَمَة خبيب: خبيب بن سُلَيْمَان بن سَمُرَة بن جُنْدُب الْفَزارِيّ، يروي عَن أَبِيه، رَوَى عَنهُ جَعْفَر بن سعد أَبُو سُلَيْمَان. وَقَالَ فِي تَرْجَمَة وَالِده (سُلَيْمَان بن سَمُرَة بن جُنْدُب الْفَزارِيّ، يروي عَن أَبِيه، رَوَى عَنهُ عَلّي بن ربيعَة وخبيب بن) سُلَيْمَان ابْنه. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : جَعْفَر بن سعد عَن أَبِيه، وَعنهُ سُلَيْمَان بن مُوسَى وَغَيره، لَهُ هَذَا الحَدِيث وَغَيره عَن خبيب، ردّه ابْن حزم فَقَالَ: هما مَجْهُولَانِ. وخبيب هَذَا يجهل حَاله عَن أَبِيه. قلت: قد ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» . قَالَ: وَقَالَ عبد الْحق:(5/593)
خبيب ضَعِيف وَسكت عَنهُ فِي الْجِهَاد، وَقَالَ مرّة: إِنَّه لَيْسَ بالمشهور، وَلَا أعلم رَوَى عَنهُ إِلَّا جَعْفَر بن سعد، وَلَيْسَ جَعْفَر مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ.
قَالَ الذَّهَبِيّ: وَسليمَان هَذَا زهري من أهل الْكُوفَة لَيْسَ بالمشهور. وَقَالَ فِي تَرْجَمَة خبيب: إِنَّه - أَعنِي خبيبًا - لَا يعرف. قَالَ: وَبِكُل حَال هَذَا إِسْنَاد مظلم لَا ينْهض بِحكم.
قلت: لَا يسلم لَهُ ذَلِك، فقد قَالَ ابْن عبد الْبر: ذكره أَبُو دَاوُد وَغَيره بِالْإِسْنَادِ الْحسن، عَن سَمُرَة. وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ فِي «عمدته الْكُبْرَى» : إِسْنَاده مقارب، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : فِيهِ رجال لَا أعرف حَالهم، وَلَكِن لم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد فَهُوَ حسن أَو صَحِيح عَلَى قَاعِدَته.
وَقَالَ شَيخنَا فتح الدَّين الْيَعْمرِي: هَذَا إِسْنَاد لَا بَأْس بِهِ، وَأَقل مراتبه أَن يكون حسنا؛ فَإِن جَعْفَر بن سعد مَسْتُور الْحَال، وخبيب وَأَبوهُ (وثقهما) ابْن حبَان. قلت: وَكَذَا جَعْفَر أَيْضا كَمَا أسلفناه عَنهُ.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَابه وَاضحا.
(انتهي الْكَلَام عَلَى الْأَحَادِيث) .(5/594)
وَأما الْأَثر: مَا اعْتَمدهُ الشَّافِعِي عَن [أبي] عَمْرو بن حماس، أَن أَبَاهُ حماسًا قَالَ: «مَرَرْت عَلَى عمر بن الْخطاب وَعَلَى عنقِي أدمة أحملها، فَقَالَ: أَلا تُؤدِّي زكاتك يَا حماس؟ فَقلت: مَا لي غير هَذَا وَأهب فِي الْقرظ. قَالَ: ذَلِك مَال فضع. فَوَضَعتهَا بَين يَدَيْهِ، فحسبها، فَوجدت قد وَجب فِيهَا الزَّكَاة، فَأخذ مِنْهَا الزَّكَاة» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث حَمَّاد بن زيد، نَا يَحْيَى بن سعيد، عَن أبي عَمْرو بن حماس، أَو [عَن] عبد الله بن أبي سَلمَة، عَن أبي عَمْرو بن حماس، عَن أَبِيه أَنه قَالَ: «كنت أبيع (الْأدم والجعاب) ، فمرّ بِي عمر بن الْخطاب، فَقَالَ لي: أدِّ صَدَقَة مَالك. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّمَا هُوَ (فِي) الْأدم. قَالَ: قوّمه ثمَّ أخرج صدقته» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، نَا يَحْيَى (بن سعيد) عَن عبد الله بن أبي سَلمَة، عَن أبي عَمْرو بن حماس؛ أَن أَبَاهُ قَالَ: «مَرَرْت بعمر بن الْخطاب ... » فَذكره، وَقَالَ فِيهِ «فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا لي غير هَذِه الَّتِي عَلَى ظَهْري وأهبة فِي الْقرظ. فَقَالَ: (ذَاك) مَال (بدل مَا) ذكر وَالْبَاقِي بِمثلِهِ سَوَاء.(5/595)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ جَعْفَر بن (عون) ، عَن يَحْيَى مُخْتَصرا قَالَ: «كَانَ حماس يَبِيع الْأدم و (الجعاب) ، فَقَالَ لَهُ عمر: أدِّ زَكَاة مَالك. فَقَالَ: إِنَّمَا مَالِي (جعاب) وأدم فَقَالَ: قوِّمه وأدّ زَكَاته» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن سُفْيَان، نَا ابْن عجلَان، عَن أبي الزِّنَاد، عَن أبي (عَمْرو) بن حماس، عَن أَبِيه. مثل رِوَايَة سُفْيَان الأولَى.
وَفِي رِوَايَة لسَعِيد بن مَنْصُور عَن حماس - وَكَانَ يَبِيع الْأدم - قَالَ: «قَالَ لي عمر بن الْخطاب: يَا حماس، أدّ زَكَاة مَالك. فَقلت: مَا لي مَال، إِنَّمَا أبيع الْأدم. قَالَ: قوّمه وأدّ زَكَاة مَالك. فَفعلت.
وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق كَمَا حَكَاهُ أَبُو عمر عَنهُ، عَن الثَّوْريّ [عَن يَحْيَى بن سعيد] عَن أبي سَلمَة، عَن ابْن حماس، عَن أَبِيه. وجَهَّلَ ابنُ حزمٍ حماسًا وَابْنه، فَقَالَ: أَبُو عَمْرو ابْن حماس مَجْهُول (كأبيه) فَقَالَ: وروينا من طَرِيق عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل، نَا عَارِم(5/596)
بن الْفضل، قَالَ: سَمِعت أَبَا الْأسود - هُوَ حميد بن الْأسود - يَقُول: ذكرت لمَالِك بن أنس حَدِيث ابْن حماس فِي الْمَتَاع يزكَّى، عَن يَحْيَى بن سعيد. فَقَالَ مَالك: يَحْيَى قماش.
قَالَ ابْن حزم: مَعْنَاهُ أَنه يجمع القماش، وَهُوَ الكناسة، أَي يروي عَمَّن لَا قدر لَهُ وَلَا يسْتَحق.
فَائِدَة: حِمَاس بِكَسْر الْحَاء وَتَخْفِيف الْمِيم وَآخره سين مُهْملَة. (وَقَوله: «أدمة» اعْلَم أَن الْأَدِيم يجمع عَلَى أَدم، بِفَتْح الْهمزَة، وَعَلَى آدمة بِأَلف بعد الْهمزَة، كرغيف وأرغفة. وَأما الأَدمة بِفَتْح الْهمزَة وَالدَّال وبالتاء فَهُوَ بَاطِن الْجلد الَّذِي يَلِي اللَّحْم و [الْبشرَة] ظَاهرهَا، كَذَا قَالَه الْجَوْهَرِي، وحينئذٍ فَيتَعَيَّن عَلَى مَا نَقله أَن تكون اللَّفْظَة الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا هِيَ جمع الْأَدِيم؛ فَإِن الْمَفْتُوحَة لَا يظْهر ضمهَا هُنَا. والإهاب: الْجلد، وَجمعه أَهَب، بِفَتْح الْهمزَة وَالْهَاء، عَلَى غير الْقيَاس، كأديم وأدم. وَقد قَالُوا أَيْضا: أُهب بِالضَّمِّ. [قَالَه] الْجَوْهَرِي وَمُقْتَضَى كَلَامه أَن الأول هُوَ الْمَعْرُوف) .(5/597)
بَاب: زَكَاة الْمَعْدن والركاز
ذكر رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ ثَمَانِيَة أَحَادِيث:
الحَدِيث الأول
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أقطع بِلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ (الْمَعَادِن) الْقبلية وَأخذ مِنْهَا الزَّكَاة» .
(هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك) فِي «موطئِهِ» عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، عَن غير وَاحِد من عُلَمَائهمْ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أقطع لِبلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ معادن الْقبلية، وَهِي من نَاحيَة الْفَرْع» فَتلك الْمَعَادِن لَا يُؤْخَذ (مِنْهَا) إِلَّا الزَّكَاة إِلَى الْيَوْم.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي «سنَنه» كَذَلِك. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن الْحُسَيْن بن إِسْحَاق، عَن هَارُون بن عبد الله، عَن مُحَمَّد بن الْحسن، (عَن حميد) بن صَالح، عَن عمَارَة وبلال ابْني يَحْيَى بن بِلَال بن الْحَارِث، عَن أَبِيهِمَا، عَن جدهما بِلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أقطعه هَذِه الْقطعَة، وَكتب لَهُ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، هَذَا مَا أعْطى مُحَمَّد رَسُول الله بِلَال بن الْحَارِث، أعطَاهُ معادن الْقبلية غوريها وجلسيها وَذَات النصب وَحَيْثُ صلح للزَّرْع من قدس (إِن كَانَ(5/598)
للزَّرْع صَالحا) وَكتب مُعَاوِيَة» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة بِلَال بن الْحَارِث بِسَنَدِهِ إِلَى حميد، وَقَالَ: بدل «عمَارَة» : «الْحَارِث» وَذكر الْبَاقِي مَعَ اخْتِلَاف يسير.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك بِلَفْظِهِ السالف، ثمَّ قَالَ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُثبتهُ أهل الحَدِيث، وَلَو ثبتوه لم تكن [فِيهِ] رِوَايَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا إقطاعه، فَأَما الزَّكَاة فِي الْمَعَادِن دون الْخمس فَلَيْسَتْ مروية عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِي، فِي رِوَايَة مَالك. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي، عَن ربيعَة مَوْصُولا. فَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن نعيم بن حَمَّاد، عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، عَن الْحَارِث بن بِلَال بن الْحَارِث، (عَن أَبِيه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَخذ من الْمَعَادِن الْقبلية الصَّدَقَة، [وَإنَّهُ] أقطع بِلَال بن الْحَارِث) العقيق أجمع، فَلَمَّا كَانَ عمر بن الْخطاب قَالَ لِبلَال: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يقطعك إِلَّا لتعمل. قَالَ: فأقطع عمر بن الْخطاب للنَّاس العقيق» .
وَرَوَاهُ من (هَذَا) الْوَجْه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَلَى(5/599)
«الصَّحِيحَيْنِ» ، (ثمَّ) قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ، وَقد احْتج البخارى بنعيم بن حَمَّاد، وَمُسلم بالدراوردي.
قلت: نعيم والدراوردي لَهما مَا يُنكر، والْحَارث لَا أعرف حَاله، لَا جرم قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : لعلّ الْحَاكِم علم حَال الْحَارِث. وَرَوَاهُ أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة بِلَال، من وَجه آخر كَمَا سلف.
قَالَ (أَبُو عمر) بن عبد الْبر: هَكَذَا هُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» عِنْد جَمِيع الروَاة مُرْسلا، وَلم يخْتَلف فِيهِ عَن مَالك، وَذكر أَن الدَّرَاورْدِي رَوَاهُ عَن ربيعَة، عَن الْحَارِث بن بِلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ، عَن أَبِيه، وَقَالَ أَيْضا: وَإسْنَاد ربيعَة فِيهِ صَالح حسن.
وَقَالَ (أَبُو مُحَمَّد) بن حزم فِي «محلاه» : هَذَا لَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَنَّهُ مُرْسل. وَمنع ابْن الْجَوْزِيّ تَسْمِيَته بذلك، فَقَالَ فِي «تَحْقِيقه» بعد استدلاله بِهِ: إِن قيل قَوْله: «عَن غير وَاحِد» يَقْتَضِي الْإِرْسَال. قُلْنَا: ربيعَة قد لَقِي الصَّحَابَة، وَالْجهل بالصحابي لَا يضر، وَلَا يُقَال: هَذَا مُرْسل. قَالَ: ثمَّ قد رَوَاهُ الدَّرَاورْدِي، عَن ربيعَة، عَن الْحَارِث بن بِلَال، عَن بِلَال؛ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَخذ مِنْهُ زَكَاة الْمَعَادِن الْقبلية، (قَالَ) : قَالَ ربيعَة: وَهَذِه الْمَعَادِن تُؤْخَذ مِنْهَا الزَّكَاة إِلَى هَذَا الْوَقْت. قَالَ: وَرَوَاهُ ثَوْر، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، مثل حَدِيث بِلَال.(5/600)
قلت: وَله طَرِيق آخر أخرجه أَبُو دَاوُد، من حَدِيث كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أقطع بِلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ معادن الْقبلية جلسيها وغوريها، وَحَيْثُ يصلح الزَّرْع من قدس وَلم (يُعْطه) حق مُسلم، وَكتب لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، هَذَا مَا أعْطى مُحَمَّد رَسُول الله بِلَال بن الْحَارِث الْمُزنِيّ، أعطَاهُ معادن الْقبلية جلسها وغورها، وَحَيْثُ يصلح الزَّرْع من قدس، وَلم يُعْطه حق مُسلم» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: ونا غير وَاحِد، عَن حُسَيْن بن مُحَمَّد، نَا أَبُو أويس، قَالَ: وحَدثني ثَوْر بن يزِيد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثله. زَاد ابْن النَّضر: «وَكتب أبي بن كَعْب» . وَكثير هَذَا ضَعَّفُوهُ، وَأَبُو أويس عبد الله بن عبد الله أخرج لَهُ مُسلم، وَضَعفه غير وَاحِد.
قَالَ (ابْن) عبد الْبر فِي «تمهيده» : كثير مجمع عَلَى ضعفه لَا يحْتَج بِمثلِهِ، (وَهُوَ غَرِيب من حَدِيث ابْن عَبَّاس، لَيْسَ يرويهِ غير أبي أويس عَن ثَوْر) .(5/601)
قلت: وَأَبُو أويس قد علمت حَاله. قَالَ (الْحَافِظ جمال الدَّين) الْمزي: وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، عَن أَبِيه أبي أويس، وَعَن عَمه مُوسَى ابْن يسَار جَمِيعًا عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس. وَنقل عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» [عَن ابْن عبد الْبر] أَنه قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: إِنَّه مُنْقَطع. وَلم أر ذَلِك فِي «تمهيده» وَلَا «استذكاره» ، وَقد تعقبه ابْن الْقطَّان [فَقَالَ:] نعم هُوَ مُنْقَطع؛ من أجل أَن أَبَا دَاوُد قَالَ: نَا غير وَاحِد عَن حُسَيْن بن مُحَمَّد.
فَائِدَة فِي ضبط مَا وَقع من الْأَلْفَاظ الغريبة الَّتِي قد تصحف: الْفَرْع بِضَم الْفَاء وَبعدهَا رَاء سَاكِنة؛ كَذَا قيدها (الْحَافِظ أَبُو بكر) الْحَازِمِي فِي «المؤتلف» ، قَالَ: وَهُوَ قَرْيَة من نَاحيَة الربذَة عَن يسَار السقيا، بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة ثَمَانِيَة برد، وَقيل: أَربع لَيَال، بهَا مِنْبَر ونخل ومياه، وَهِي لقريش وَالْأَنْصَار وَمُزَيْنَة. وضبطها الْبكْرِيّ بِضَم الأول وَالثَّانِي وَالْعين الْمُهْملَة، وَقَالَ: حجازي من أَعمال الْمَدِينَة (الواسعة) والصفراء، وأعمالها من الْفَرْع ومضافة إِلَيْهِمَا. وَكَذَا ضَبطهَا الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصر السّنَن» ثمَّ قَالَ: وسكَّن الْفَاء بَعضهم. قَالَ: وَهُوَ مَوضِع(5/602)
بِأَعْلَى الْمَدِينَة، وَاسع، عَلَى طَرِيق مَكَّة، وَفِيه مَسَاجِد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ومنابره، وقرى كَثِيرَة. وَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» : هُوَ مَوضِع بَين نَخْلَة وَالْمَدينَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : هِيَ قَرْيَة ذَات نخل وَزرع ومياه جَامِعَة، بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، عَلَى نَحْو أَربع مراحل من الْمَدِينَة. قَالَ الْبكْرِيّ: وَالْفرع من أشرف ولايات الْمَدِينَة.
والقبلية: بِفَتْح الْقَاف، وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة أَيْضا وَكسر اللَّام بعْدهَا، كَذَا ضَبطه الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» ، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» وَالنَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» و «مَجْمُوعه» وَادَّعَى فِي «مَجْمُوعه» أَنه لَا خلاف فِي هَذَا الضَّبْط، قَالَ: وَقد تصحف، قَالَ: وَهُوَ مَوضِع (من) نَاحيَة الْفَرْع.
وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَاهُ من نفي الْخلاف؛ فقد نقل الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» عَن كتاب «الْأَمْكِنَة» أَن الْقبلية بِكَسْر الْقَاف (وَفتح الْبَاء ثمَّ قَالَ: وَالْمَحْفُوظ فِي الحَدِيث أَن الْقبلية مَنْسُوب إِلَى قبل بِفَتْح الْقَاف) وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي نَاحيَة من سَاحل الْبَحْر، بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة خَمْسَة أَيَّام.
وجَلْس: بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون اللَّام ثمَّ سين مُهْملَة، قَالَ الْأَصْمَعِي: كل مُرْتَفع جلْس. والغوْر: مَا (انخفض) من الأَرْض، يُرِيد أَنه أقطعه(5/603)
وِهَادَهَا ورُبَاها، هَذَا كَلَامه. وَيُقَال (لنجد) جَلْس، قَالَ أَبُو عبيد وَابْن قُتَيْبَة: الغَوْريُّ: مَا كَانَ من بِلَاد تهَامَة، والجلْس: مَا (كَانَ) من بِلَاد نجد.
وقُدْس: (بِضَم) الْقَاف وَسُكُون الدَّال، جبل مَعْرُوف من جبال تهَامَة، قَالَه الْبكْرِيّ. وَهُوَ جبل العَرْج. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قُدس مُؤَنّثَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: قدس جبل مَعْرُوف، وَقيل: هُوَ الْموضع (الْمُرْتَفع) الَّذِي يصلح للزِّرَاعَة. قَالَ: وَفِي كتاب «الْأَمْكِنَة» إِنَّه (قديس، وَقدس) جبلان، وَأما قَدَس بِفَتْح الْقَاف وَالدَّال فموضع بِالشَّام.
وَوَقع فِي أبي دَاوُد: (جِرسها) بِكَسْر الْجِيم ثمَّ رَاء مُهْملَة، وَالْمَحْفُوظ بِاللَّامِ وَفتح الْجِيم.
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا زَكَاة فِي حجر» .(5/604)
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن أبي (سعد) الْمَالِينِي، عَن ابْن عدي الْحَافِظ، عَن زيد بن عبد الله، عَن كثير بن عبيد، عَن بَقِيَّة، عَن عمر الكلَاعِي الدِّمَشْقِي، عَن عَمْرو (بن) شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا، بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ أَيْضا عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن الوقاصي، عَن عَمْرو بن (شُعَيْب) ، عَن أَبِيه، عَن جده (مَرْفُوعا) . قَالَ: وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن عبيد الله الْعَرْزَمِي، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده (مَرْفُوعا) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (ورواة) هَذَا الحَدِيث عَن عَمْرو كلهم ضَعِيف. وَهُوَ كَمَا قَالَ (فعمر هُوَ) ابْن أبي عمر الكلَاعِي (الدِّمَشْقِي) . قَالَ ابْن عدي: إِنَّه مَجْهُول، وَإِن أَحَادِيثه غير مَحْفُوظَة. وَعُثْمَان الوقاصي تَرَكُوهُ، والعرزمي واه.(5/605)
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الرقة ربع الْعشْر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ، من رِوَايَة أنس، وَقد سلف بِطُولِهِ أَوله الزَّكَاة.
والرِّقة: بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْقَاف هِيَ الْوَرق، وَهُوَ كل الْفضة، وَقيل: الدَّرَاهِم خَاصَّة، وَنقل صَاحب الْبَيَان عَن أَصْحَابنَا أَن الرقة الذَّهَب وَالْفِضَّة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه غلط فَاحش، قَالَ: وَلم أر لِأَصْحَابِنَا وَلَا لغَيرهم من أهل اللُّغَة أَن الرقة تطلق عَلَى الذَّهَب.
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فِي الرِّكَاز الْخمس، وَفِي الْمَعْدن الصَّدَقَة» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا عَلَى الْفرق بَين الرِّكَاز والمعدن، ورد بِهِ عَلَى من (جَعلهمَا) وَاحِدًا، وَهُوَ غَرِيب كَذَلِك، لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، أَعنِي بِذكر الْقطعَة الثَّانِيَة مَعَ (الأولَى) .
أما الأولَى فثابتة فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «العجماء جَبَّار، والبئر جَبَّار، والمعدن جَبَّار، وَفِي الرِّكَاز الْخمس» .(5/606)
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «الْإِعْلَام» : وَهَكَذَا رُوِيَ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا، قَالَ: وَأما حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا: «فِي الرِّكَاز الْعشْر» فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَل، وَالْأول أثبت مِنْهُ.
قلت: لم يجتمعا فِي الثُّبُوت الْبَتَّةَ، بل هَذَا واه، كَمَا بَينه ابْن حبَان فِي «ضُعَفَائِهِ» .
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَفِي الرِّكَاز (الْخمس) قيل: يَا رَسُول الله، وَمَا الرِّكَاز؟ قَالَ: هُوَ الذَّهَب وَالْفِضَّة المخلوقان فِي الأَرْض يَوْم خلق (الله) السَّمَاوَات وَالْأَرْض» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي يُوسُف، عَن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «فِي الرِّكَاز الْخمس. قيل: وَمَا الرِّكَاز يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الذَّهَب وَالْفِضَّة (الَّذِي) خلقه (الله) فِي الأَرْض يَوْم خلقت» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» أَيْضا و «الْمعرفَة» من حَدِيث حبَان - بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة - بن عَلّي (الْعَنزي) ، عَن عبد الله بن سعيد(5/607)
بن أبي سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «الرِّكَاز (الذَّهَب) الَّذِي ينْبت فِي الأَرْض» . وَعبد الله بن (سعيد) هَذَا هُوَ المَقْبُري، وَهُوَ واه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : تفرد بِهِ وَهُوَ ضَعِيف جدًّا.
وَقد جرحه أَحْمد وَيَحْيَى بن معِين وَجَمَاعَة من أَئِمَّة الحَدِيث. وَلما ذكره عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» من الطَّرِيق الأولَى بِلَفْظ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الرِّكَاز فَقَالَ: هُوَ الذَّهَب الَّذِي خلقه الله فِي الأَرْض يَوْم خلقت السَّمَاوَات وَالْأَرْض» قَالَ: عبد الله هَذَا مَتْرُوك الحَدِيث؛ قَالَه ابْن أبي حَاتِم. وَوَقع فِي «كِفَايَة» ابْن الرّفْعَة عقب ذكر الحَدِيث: (وَرَاوِيه) مَتْرُوك الحَدِيث. كَمَا نَقله عبد الْحق عَن أبي حَامِد الْقزْوِينِي، وَهَذَا وهم، وَصَوَابه عَن ابْن أبي حَاتِم، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِي - فِيمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ -: قد رَوَى أَبُو سَلمَة وَسَعِيد وَابْن سِيرِين وَمُحَمّد بن زِيَاد وَغَيرهم عَن أبي هُرَيْرَة (حَدِيثه) ، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فِي الرِّكَاز الْخمس» . لم يذكر أحد مِنْهُم شَيْئا من الَّذِي ذكره (المَقْبُري فِي حَدِيثه قَالَ: وَالَّذِي رَوَى فِي ذَلِك شيخ ضَعِيف، إِنَّمَا رَوَاهُ [عبد الله بن سعيد] المَقْبُري، وَعبد الله قد اتَّقَى النَّاس حَدِيثه،(5/608)
فَلَا يَجْعَل (خبر) رجل قد اتَّقَى النَّاس حَدِيثه (حجَّة) . هَذَا آخر كَلَام. الشَّافِعِي - رَحِمَهُ اللَّهُ.
وحبان الْعَنزي الْمَذْكُور فِي الطَّرِيقَة الْأَخِيرَة قَالَ يَحْيَى بن معِين فِي رِوَايَة: صَدُوق. و (قَالَ) فِي رِوَايَة: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء. وَقَالَ ابْن نمير: فِي حَدِيثه وَحَدِيث أَخِيه منْدَل بعض الْغَلَط. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لين. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لَا أكتب حَدِيثه، وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء، وَقَالَ النَّسَائِيّ والدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ البُخَارِيّ: لَيْسَ عِنْدهم بِالْقَوِيّ.
وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ فِي «علله» : هُوَ وهم [لِأَن هَذَا] لَيْسَ من حَدِيث الْأَعْمَش، و [لَا] من حَدِيث أبي صَالح، إِنَّمَا يرويهِ رجلٌ مَجْهُول، عَن آخر، عَن أبي هُرَيْرَة.
وَنقل عبد الْحق عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ: (إِنَّه) حَدِيث لَا يَصح.
وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» .(5/609)
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَيْكُم فِي الذَّهَب شَيْء حَتَّى يبلغ عشْرين مِثْقَالا» .
هَذَا (الحَدِيث) تقدم بَيَانه فِي بَاب زَكَاة الذَّهَب وَالْفِضَّة وَاضحا، وكرره الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب أَيْضا.
الحَدِيث السَّابع
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ أَن رَسُول (قَالَ: «فِي الرِّكَاز الْخمس» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، مُتَّفق عَلَيْهِ، كَمَا تقدم قَرِيبا، وَقد (ذكره) الرَّافِعِيّ بَعْدُ أَيْضا.
الحَدِيث الثَّامِن
«أَن رجلا وجد كنزًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن وجدته فِي قَرْيَة مسكونة أَو طَرِيق ميتاء فَعرفهُ، وَإِن وجدته فِي خربة جَاهِلِيَّة، أَو قَرْيَة غير مسكونة فَفِيهِ وَفِي الرِّكَاز الْخمس» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن دَاوُد (بن) شَابُور - بالشين الْمُعْجَمَة - وَيَعْقُوب بن عَطاء، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي كنزٍ وجده رجل فِي خربة جَاهِلِيَّة: إِن(5/610)
وجدته فِي قَرْيَة مسكونة أَو سَبِيل ميتاء فَعرفهُ، وَإِن وجدته فِي خربة جَاهِلِيَّة أَو (فِي) قَرْيَة غير مسكونة فَفِيهِ وَفِي الرِّكَاز الْخمس» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من هَذَا الْوَجْه، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد قبل ذَلِك بورقتين، من حَدِيث عَمْرو بن الْحَارِث وَهِشَام بن سعد، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رجلا من مزينة أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ ترَى فِي (حريسة) الْجَبَل وَالثَّمَر الْمُعَلق؟ - فَذكر حكمهمَا - قَالَ: فَكيف ترَى فِيمَا يُوجد فِي الطَّرِيق الميتاء (أَو) الْقرْيَة المسكونة؟ قَالَ: عرفه سنة، فَإِن جَاءَ باغيها فادفعها إِلَيْهِ، وَإِلَّا فشأنك (بهَا) ، فَإِن جَاءَ طَالبه يَوْمًا من الدَّهْر فأدها (إِلَيْهِ) ، وَمَا كَانَ فِي الطَّرِيق غير الميتاء وَفِي الْقرْيَة غير المسكونة فَفِيهِ وَفِي الرِّكَاز الْخمس» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، من حَدِيث ابْن عجلَان، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه(5/611)
سُئِلَ عَن الثَّمر الْمُعَلق والجرين ... » الحَدِيث. قَالَ: «وَسُئِلَ عَن اللّقطَة، فَقَالَ: مَا كَانَ مِنْهَا فِي طَرِيق الميتاء أَو الْقرْيَة الجامعة فعرفها سنة، فَإِن جَاءَ طالبها فادفعها إِلَيْهِ، وَإِن لم يَأْتِ فَهِيَ لَك، وَمَا كَانَ فِي الخراب فَفِيهَا وَفِي الرِّكَاز الْخمس» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، من حَدِيث عبيد الله بن الْأَخْنَس، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن اللّقطَة، فَقَالَ: مَا كَانَ فِي طَرِيق مأتي أَو (فِي) قَرْيَة عامرة فعرفها سنة، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وَإِلَّا فلك، وَمَا لم يكن فِي طَرِيق مأتي وَلَا (فِي) قَرْيَة عامرة فَفِيهِ وَفِي الرِّكَاز الْخمس» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ: «إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِي كنزٍ وجده رجل: إِن كنت وجدته فِي قَرْيَة مسكونة أَو فِي سَبِيل ميتاء فَعرفهُ، وَإِن كنت وجدته فِي خربة جَاهِلِيَّة، أَو فِي قَرْيَة غير مسكونة، أَو (فِي) غير سَبِيل ميتاء، فَفِيهِ وَفِي الرِّكَاز الْخمس» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أجَاب من قَالَ بِالْأولِ - أَي أَن الْمَعْدن لَيْسَ بركاز - عَن هَذَا بِأَن الْخَبَر ورد فِيمَا يُوجد من أَمْوَال الْجَاهِلِيَّة، ظَاهرا فَوق الأَرْض فِي الطَّرِيق غير الميتاء، وَفِي الْقرْيَة غير المسكونة، فَيكون فِيهِ وَفِي الرِّكَاز الْخمس، وَلَيْسَ ذَلِك من الْمَعْدن بسبيل. ثمَّ حَكَى عَن الشَّافِعِي مَا ملخصه: إِن كَانَ حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب [حجَّة](5/612)
فالمخالف احْتج مِنْهُ بِشَيْء وَاحِد، إِنَّمَا هُوَ توهم، (وَخَالفهُ فِي غير حكم، وَإِن (كَانَ) غير حجَّة، فالحجة بِغَيْر حجَّة جهل. ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَوْله: إِنَّمَا هُوَ توهم) أَشَارَ إِلَى مَا ذكرنَا أَنه لَيْسَ بوارد فِي الْمَعْدن، إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْنَى الرِّكَاز من أَمْوَال الْجَاهِلِيَّة.
فَائِدَة: الميتاء - بِكَسْر الْمِيم وبالمد -: الطَّرِيق المسلوك الَّذِي يَأْتِيهِ النَّاس. قَالَه الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» قَالَ: وَقيل: ميتاء الطَّرِيق وميداؤه: محجته.
(وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : هُوَ بِكَسْر الْمِيم وَبعدهَا همزَة وبالمد، وتسهل فَيُقَال بياء سَاكِنة، كَمَا فِي نَظَائِره، قَالَ صَاحب «الْمطَالع» : مَعْنَاهُ كثير السلوك، فَيُقَال من الْإِتْيَان) .
قَالَ (الْمُنْذِرِيّ) : وَقَوله: «وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي الخراب» يُرِيد بالخراب العادي الَّذِي لَا يعرف لَهُ مَالك، وسبيله سَبِيل الرِّكَاز، وَفِيه الْخمس، (فَالْمَال الْمَوْجُود فِيهِ) وسائره لواجده، فَأَما الخراب الَّذِي كَانَ (مرّة) عَامِرًا ملكا لمَالِكه ثمَّ خرب فَالْمَال الْمَوْجُود فِيهِ ملك لصَاحب الخراب، فَإِن لم يعرف صَاحبه فَهُوَ لقطَة.(5/613)
بَاب: زَكَاة الْفطر
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ عشرَة أَحَادِيث
الحَدِيث الأول
عَن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قَالَ: «فرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زَكَاة الْفطر من رَمَضَان عَلَى النَّاس صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير، عَلَى كل حر أَو عبدٍ، ذكرٍ أَو أُنْثَى، من الْمُسلمين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَله طرق عَن ابْن عمر.
أَولهَا: من طَرِيق عمر ابْن نَافِع، عَن أَبِيه عَنهُ، قَالَ: «فرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زَكَاة الْفطر صَاعا من تمر، أَو صَاعا من شعير، عَلَى العَبْد وَالْحر، وَالذكر وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِير وَالْكَبِير من الْمُسلمين، و (أَمر بهَا) أَن (تُؤَدَّى) قبل خُرُوج النَّاس إِلَى الصَّلَاة» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ من هَذَا الْوَجْه.
ثَانِيهَا: من طَرِيق الضَّحَّاك بن عُثْمَان، عَن نَافِع، عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فرض زَكَاة الْفطر من رَمَضَان، عَلَى كل نَفْس من الْمُسلمين، حر أَو عبد، (رجل) أَو امْرَأَة، صَغِير أَو كَبِير، صَاعا من (تمر) أَو صَاعا من شعير» .(5/614)
رَوَاهُ مُسلم من هَذَا الْوَجْه، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» (من هَذَا الْوَجْه) بِلَفْظ: « (فرض) زَكَاة الْفطر من رَمَضَان، عَلَى (كل) نَفْس من الْمُسلمين» وَالثَّانِي بِلَفْظ مُسلم، وَترْجم عَلَيْهِ: ذكر الْبَيَان بِأَن هَذِه اللَّفْظَة «من الْمُسلمين» لم يكن مَالك بالمتفرد بهَا.
ثَالِثهَا: من طَرِيق [عبيد الله] ، عَن نَافِع، عَنهُ: «فرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (صَدَقَة الْفطر) صَاعا من شعير، أَو صَاعا من تمر، عَلَى كل عبد أَو حر، صَغِير أَو كَبِير» .
رَوَاهُ مُسلم كَذَلِك، وَالْبُخَارِيّ وَلَفظه: «عَلَى الصَّغِير وَالْكَبِير، وَالْحر والمملوك» بدل: « (عَلَى) كل عبد ... » إِلَى آخِره. وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: «وَالذكر وَالْأُنْثَى» .
وَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن نَافِع، عَنهُ: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فرض زَكَاة الْفطر عَلَى النَّاس من رَمَضَان صَاعا من تمر، أَو صَاعا من(5/615)
شعير، عَلَى كل حر (أَو) عبد، ذكر أَو أُنْثَى من الْمُسلمين» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ خَارج «الْمُوَطَّأ» زِيَادَة: «عَلَى الصَّغِير وَالْكَبِير» ذكرهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي «غرائب مَالك» ، وَقَالَ: رَوَاهُ (عَنهُ فقيهان) أَحدهمَا: ابْن (قُتَيْبَة) ، وَالثَّانِي: إِسْحَاق بن عِيسَى الطباع.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، من حَدِيث قُتَيْبَة عَنهُ، وَسقط فِيهَا قَوْله: «من الْمُسلمين» .
وَاعْلَم أَن هَذِه اللَّفْظَة - أَعنِي (قَوْله) «من الْمُسلمين» - اشتهرت من رِوَايَة مَالك، حَتَّى قيل: إِنَّه تفرد بهَا.
قَالَ أَبُو قلَابَة عبد الْملك (بن) مُحَمَّد: لَيْسَ أحد يَقُول فِيهِ «من الْمُسلمين» غير مَالك.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد تَخْرِيج رِوَايَة مَالك: وَرَوَى غير وَاحِد عَن نَافِع، وَلم يذكرُوا فِيهِ «من الْمُسلمين» .
والتفرد الَّذِي قيل عَن مَالك فِي هَذِه اللَّفْظَة لَيْسَ بِصَحِيح، فقد قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» : رَوَاهُ سعيد بن عبد الرَّحْمَن الجُمَحِي، عَن عبيد الله ابْن عمر (بِهِ) ، وَقَالَ فِيهِ: «من الْمُسلمين» . قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَالك بن أنس، وَالضَّحَّاك بن عُثْمَان، وَعمر بن نَافِع، والمعلى(5/616)
بن إِسْمَاعِيل، و (عبيد الله) ابْن عمر الْعمريّ، وَكثير بن فرقد، وَيُونُس بن يزِيد، وَرُوِيَ عَن ابْن شَوْذَب عَن أَيُّوب عَن نَافِع كَذَلِك.
قلت: أما رِوَايَة مَالك وَالضَّحَّاك وَعمر بن نَافِع فقد سلفت. وَأما رِوَايَة الْمُعَلَّى فأخرجها الدَّارَقُطْنِيّ، بإسنادٍ صَحِيح، وَلَفظه: «أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِزَكَاة الْفطر صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير، عَن كل مُسلم، صَغِير أَو كَبِير، حر أَو عبد» .
وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» كَذَلِك.
وَأما رِوَايَة الْعمريّ فأخرجها الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا، بِإِسْنَاد جيد، وَلَفظه: « (فرض) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَدَقَة الْفطر، عَلَى كل مُسلم، صَاعا من تمر ... » الحَدِيث.
وَأخرجه ابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» بِزِيَادَة فِيهِ: «من الْمُسلمين» وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: «عَن الصَّغِير وَالْكَبِير» .
وَأما رِوَايَة كثير فأخرجها الدَّارَقُطْنِيّ، وَلَفظه: «زَكَاة الْفطر عَلَى كل حر وَعبد من الْمُسلمين صَاع من تمر، أَو صَاع من شعير» . (وأخرجها الْحَاكِم بِلَفْظ: «عَلَى كل مُسلم، حر وَعبد، ذكر وَأُنْثَى من(5/617)
الْمُسلمين، صَاع من تمر، أَو صَاع من شعير» ) ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَأما رِوَايَة يُونُس بن يزِيد فأخرجها الطَّحَاوِيّ فِي «بَيَان الْمُشكل» . بِلَفْظ: «عَلَى النَّاس زَكَاة الْفطر، من رَمَضَان، صَاع من تمر أَو صَاع من شعير، عَلَى كل إِنْسَان، ذكر أَو أُنْثَى، أَو حر أَو عبد من الْمُسلمين» .
قلت: وَأخرجه الْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر صَارِخًا بِبَطن مَكَّة يُنَادي أَن صَدَقَة الْفطر حق وَاجِب عَلَى كل مُسلم، صَغِير أَو كَبِير، ذكر أَو أُنْثَى، حر أَو مَمْلُوك، حَاضر أَو باد، صَاع من شعير أَو تمر» . ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ.
الحَدِيث الثانى
عَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فرض زَكَاة الْفطر طهرة للصَّائِم من اللَّغْو والرفث، وطعمة للْمَسَاكِين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، من حَدِيث مَرْوَان، عَن أبي يزِيد الْخَولَانِيّ، عَن سيار بن عبد الرَّحْمَن، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس(5/618)
قَالَ: «فرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زَكَاة (الْفطر)
» فذكروه بِزِيَادَة فِي آخِره: (من أدَّاها قبل الصَّلَاة فَهِيَ زَكَاة مَقْبُولَة) ، وَمن أدَّاها بعد الصَّلَاة فَهِيَ صَدَقَة من الصَّدقَات» .
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاده حسن. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَذَلِك، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَلم يخرجَاهُ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكَوْنِهِ عَلَى شَرطه أَنه من رِوَايَة عِكْرِمَة؛ فَإِنَّهُ احْتج بِهِ فِي غير مَا مَوضِع من (صَحِيحه) ، وَلم يخرج لسيار و (لَا) لأبي يزِيد، وَقد أَثْنَى مَرْوَان عَلَى أبي يزِيد وَوَصفه بِأَنَّهُ شيخ (صدق) ، وَقَالَ أَبُو زرْعَة فِي سيار: لَا بَأْس بِهِ.
وَاعْترض الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» عَلَى الْحَاكِم، وَقَالَ: فِيمَا زَعمه نظر؛ فَإِن يزِيد وسيارًا لم يخرج لَهما البُخَارِيّ. وَقد أسلفنا قَرِيبا أَن مُرَاد الْحَاكِم بقوله: «إِن الحَدِيث عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ أَو أَحدهمَا» أَن رِجَاله فِي الثِّقَة كهم لَا هم أنفسهم، وَقد صرَّح بذلك فِي خطبَته.
قلت: وَلِلْحَدِيثِ طَرِيق آخر، ذكره الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» من حَدِيث حَازِم الْبَصْرِيّ قَالَ: «فرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زَكَاة الْفطر طهُورا للصَّائِم من اللَّغْو والرفث، من أَدَّاهَا قبل(5/619)
الصَّلَاة كَانَت لَهُ زَكَاة، وَمن أَدَّاهَا بعد الصَّلَاة كَانَت لَهُ صَدَقَة» .
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فرض زَكَاة الْفطر، وَأمر بهَا أَن تُؤَدَّى قبل (خُرُوج) النَّاس إِلَى الصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أغنوهم عَن الطّلب فِي هَذَا الْيَوْم» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، فَذكره فِي آخِره أَيْضا، وَهُوَ حَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ، من رِوَايَة أبي معشر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «فرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زَكَاة الْفطر، وَقَالَ: أغنوهم فِي هَذَا الْيَوْم» . هَذَا لفظ الدَّارَقُطْنِيّ، رَوَاهُ من حَدِيث (وَكِيع) ، عَن أبي معشر (بِهِ) ، وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ: «أغنوهم عَن طواف هَذَا الْيَوْم» رَوَاهُ من حَدِيث أبي الرّبيع، عَن أبي معشر بِهِ، ثمَّ قَالَ: أَبُو معشر هَذَا نجيح السندي الْمَدِينِيّ، وَغَيره أوثق مِنْهُ.(5/620)
قلت: بل هُوَ واه، وَقد ضعفه فِي «سنَنه» فِي بَاب: انْتِظَار الْعَصْر بعد الْجُمُعَة، وَبَاب: الْحَج عَن المعضوب، وَقَالَ البُخَارِيّ فِي حَقه: مُنكر الحَدِيث.
وَرَوَاهُ ابْن عَسَاكِر فِي تَخْرِيجه لأحاديث (الْمُهَذّب) ، بِلَفْظ: (أغنوهم عَن السُّؤَال» ثمَّ قَالَ: حَدِيث غَرِيب جدًّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا اللَّفْظ، وَلَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيّ.
فَائِدَة: «أغنوهم» بِهَمْزَة قطع مَفْتُوحَة لَيْسَ إِلَّا؛ لِأَنَّهُ رباعي، فَالْأَمْر مِنْهُ بِالْفَتْح.
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أدُّوا صَدَقَة الْفطر عَمَّن تمونون» .
هَذَا الحَدِيث مرويٌّ من طرق: إِحْدَاهَا: من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِصَدقَة الْفطر، عَن الصَّغِير وَالْكَبِير، وَالْحر وَالْعَبْد، مِمَّن تمونون» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد الْهَمدَانِي، نَا الْقَاسِم بن عبد الله بن عَامر بن زُرَارَة، نَا [عُمَيْر] بن عمار الْهَمدَانِي، ثَنَا الْأَبْيَض ابْن الْأَغَر، قَالَ: حَدثنِي الضَّحَّاك بن عُثْمَان، عَن نَافِع، عَنهُ، (بِهِ) سَوَاء.(5/621)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من هَذِه الطَّرِيق، ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : [عُمَيْر] بن عمار لم أره فِي كتاب أبي حَاتِم، وَلم يخل الْإِسْنَاد من مس بِكَلَام، وَمِمَّنْ يحْتَاج إِلَى معرفَة حَاله قَالَ: والأبيض ذكره ابْن أبي حَاتِم وَلم يعرف بِحَالهِ.
قلت: (رَوَى) أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ - فِيمَا حَكَاهُ صَاحب «الْمِيزَان» - عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ فِي حَقه: إِنَّه لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ البُخَارِيّ: يكْتب حَدِيثه. وَعَن الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا أَنه قَالَ: رَفعه هَذَا الشَّيْخ (الْقَاسِم) وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَالصَّوَاب مَوْقُوف.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث عَلّي بن مُوسَى الرضي، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن آبَائِهِ عَلَيْهِم السَّلَام «أَن نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فرض زَكَاة الْفطر، عَلَى الصَّغِير وَالْكَبِير، وَالذكر وَالْأُنْثَى، مِمَّن تمونون» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد، نَا مُحَمَّد ابْن [الْمفضل] بن إِبْرَاهِيم الْأَشْعَرِيّ، نَا إِسْمَاعِيل بن همام، حَدثنِي عَلّي بن مُوسَى الرِّضَى فَذكره.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : لم يخل بعض رُوَاته من كَلَام،(5/622)
وَبَعْضهمْ يحْتَاج إِلَى معرفَة حَاله. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُرْسل؛ فَإِن جَدَّ عَلّي بن مُوسَى (الرضي) هُوَ جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد بن عَلّي بن الْحُسَيْن بن عَلّي بن أبي طَالب، وجعفر الصَّادِق لم يدْرك الصَّحَابَة، قَالَ ابْن حبَان فِي «ثقاته» : يحْتَج بحَديثه مَا كَانَ من غير رِوَايَة أَوْلَاده عَنهُ؛ لِأَن فِي حَدِيث وَلَده عَنهُ مَنَاكِير كَثِيرَة.
قلت: وَسَتَأْتِي رِوَايَة الشَّافِعِي، من رِوَايَة غير وَلَده (عَنهُ) .
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فرض زَكَاة الْفطر، عَلَى الْحر وَالْعَبْد، وَالذكر وَالْأُنْثَى، مِمَّن تمونون» .
رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن شَيْخه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن جَعْفَر بِهِ. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من جِهَته، وَإِبْرَاهِيم هَذَا قد عرفت حَاله فِي الطَّهَارَة، وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُرْسل.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ حَاتِم بن إِسْمَاعِيل، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «فرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى كل صَغِير أَو كَبِير (أَو حر) أَو عبد مِمَّن تمونون، صَاعا من شعير، أَو صَاعا من تمر، أَو صَاعا من زبيب، عَن كل إِنْسَان» ثمَّ قَالَ: وَهَذَا مُرْسل. وَهَذَا طَرِيق رَابِع.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : يَعْنِي بالمرسل الْمُنْقَطع، والانقطاع فِيمَا بَين مُحَمَّد بن عَلّي بن الْحُسَيْن، وجد أَبِيه عَلّي بن أبي طَالب.(5/623)
وَرَوَى (الثَّوْريّ) عَن عبد الْأَعْلَى، عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، عَن عليٍّ قَالَ: «من جرت عَلَيْهِ نَفَقَتك [فأطعم عَنهُ] نصف صَاع (من) بر، أَو صَاع من تمر» . وَهَذَا مَوْقُوف. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَعبد الْأَعْلَى غير قوي، إِلَّا أَنه إِذا انْضَمَّ إِلَى مَا قبله (يَعْنِي حَدِيث عَلّي بن مُوسَى الرضي السالف) قَوِيا فِيمَا اجْتمعَا فِيهِ.
تَنْبِيه: وَقع فِي «شرح التَّنْبِيه» للشَّيْخ نجم الدَّين البالسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصف هَذَا الحَدِيث بالثبوت، فَقَالَ فِي كتاب النَّفَقَات مِنْهُ: أما وجوب فطْرَة الْخَادِم فللحديث الثَّابِت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَدّوا الْفطْرَة عَمَّن تمونون» . هَذَا لَفظه، وَهُوَ وهم، فَمن أَيْن (لَهُ) الثُّبُوت (وَهَذِه) حَالَته؟ ! فاحذر ذَلِك.
الحَدِيث السَّادِس
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أَمر) بِصَدقَة الْفطر، عَن الصَّغِير وَالْكَبِير، وَالْحر وَالْعَبْد، مِمَّن تمونون» .
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي الحَدِيث قبله وَاضحا.
الحَدِيث السَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسلم فِي عَبده، وَلَا فرسه صَدَقَة، إِلَّا(5/624)
صَدَقَة الْفطر (عَنهُ) » .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، بِدُونِ الِاسْتِثْنَاء، كَمَا سلف فِي بَاب زَكَاة النعم، وَأما الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ لمسلمٍ خَاصَّة، بِلَفْظ: «لَيْسَ فِي العَبْد صَدَقَة إِلَّا صَدَقَة الْفطر» . وَأما لَفْظَة: «عَنهُ» فَلَا أعلم من خرجها فِيهِ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاء من رِوَايَة مخرمَة بن بكير، عَن أَبِيه، عَن عرَاك بن مَالك، عَن أبي هُرَيْرَة. ومخرمة لم يسمع من أَبِيه، كَمَا قَالَه غير وَاحِد من الْحفاظ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَاب اللّعان، إِن شَاءَ الله. وَقد تَابع مخرمَة عَلَى رِوَايَته: نَافِع (بن) يزِيد، عَن جَعْفَر بن ربيعَة، عَن عرَاك بن مَالك، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا صَدَقَة عَلَى الرجل فِي فرسه وَلَا عَبده إِلَّا زَكَاة الْفطر» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلِك، وَالْبَيْهَقِيّ كَذَلِك، بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، إِلَّا (لَفْظَة «عَنهُ» ) . وقاسم بن أصبغ بِلَفْظ: «لَا صَدَقَة فِي فرس الرجل وَلَا عَبده إِلَّا صَدَقَة الْفطر» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث يَحْيَى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة، عَن (عبيد الله) بن عمر، عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة(5/625)
(قَالَ) : قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَيْسَ فِي الْخَيل وَالرَّقِيق صَدَقَة، إِلَّا أَن فِي الرَّقِيق صَدَقَة الْفطر» .
وَذكره [ابْن الْقطَّان] من هَذِه الطّرق (الثَّلَاث) ، وَقَالَ: هَذِه كلهَا صِحَاح.
الحَدِيث الثَّامِن
قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ابدأ بِنَفْسِك ثمَّ بِمن تعول» .
هَذَا الحَدِيث يتَكَرَّر عَلَى أَلْسِنَة جماعات من أصاحبنا، كَالْإِمَامِ، وَالْغَزالِيّ، وَصَاحب «الْمُهَذّب» ، وَغَيرهم، وَلم أره كَذَلِك فِي حَدِيث وَاحِد؛ نعم فِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث جَابر، فِي قصَّة بيع الْمُدبر: «ابدأ بِنَفْسِك فَتصدق عَلَيْهَا، فَإِن فضل شَيْء فلأهلك» .
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أفضل الصَّدَقَة مَا كَانَ (عَن) ظهر غنى، وَالْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلَى، وابدأ بِمن تعول» . زَاد البُخَارِيّ: «تَقول الْمَرْأَة: إِمَّا أَن تطعمني، وَإِمَّا أَن تُطَلِّقنِي. وَيَقُول العَبْد: أَطْعمنِي واستعملني. وَيَقُول(5/626)
(الابْن) : أَطْعمنِي، إِلَى من تدعني؟» قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَة، هَذَا من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سمعته؟ قَالَ: لَا؛ هَذَا من كيس أبي هُرَيْرَة.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَفِيه: «وابدأ بِمن تعول. فَقيل: من أعول يَا رَسُول الله؟ قَالَ: (امْرَأَتك) [مِمَّن تعول] ، تَقول أَطْعمنِي: وَإِلَّا فارقني ... » الحَدِيث، وَسَيَأْتِي مطولا فِي النَّفَقَات إِن شَاءَ الله.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كُنَّا نخرج زَكَاة الْفطر إِذْ كَانَ فِينَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَاعا من طَعَام، أَو صَاعا من تمر، أَو صَاعا من شعير، أَو صَاعا من زبيب، أَو صَاعا من أقط، فَلَا أَزَال أخرجه كَمَا كنت أخرجه مَا عِشْت» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ عَنهُ بِأَلْفَاظ، فَفِي لفظٍ: «كُنَّا نخرج زَكَاة الْفطر صَاعا من طعامٍ، أَو صَاعا من شعير، أَو صَاعا من تمر، أَو صَاعا من أقط، أَو صَاعا من زبيب» . (وَفِي رِوَايَة) : «فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَة وَجَاءَت السمراء قَالَ: أرَى مدًّا من هَذَا يعدل مَدين» .(5/627)
وَفِي أُخْرَى: «كُنَّا نخرج فِي عهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم الْفطر صَاعا من طَعَام» .
وللبخاري: «قَالَ أَبُو سعيد: وَكَانَ طعامنا الشّعير وَالزَّبِيب والأقط وَالتَّمْر» وَفِي أُخْرَى: «كُنَّا نطعم الصَّدَقَة صَاعا من شعير» وَفِي أُخْرَى: «كُنَّا نخرج زَكَاة الْفطر وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِينَا، عَن كل صَغِير وكبير، حر ومملوك، من ثَلَاثَة أَصْنَاف، صَاعا من تمر، صَاعا من أقط، صَاعا من شعير، فَلم نزل نخرجهُ حَتَّى كَانَ مُعَاوِيَة، فَرَأَى أَن مَدين من بر تعدل صَاعا من تمر. قَالَ أَبُو سعيد: أما أَنا فَلَا أَزَال أخرجه كَذَلِك» . وَفِي أُخْرَى: «فَلَا أَزَال أخرجه كَمَا كنت أخرجه مَا عِشْت» . وَلم يذكر البُخَارِيّ الأقط فِيمَا كَانُوا يخرجونه فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَلَا) ذكر قَول أبي سعيد: «لَا أَزَال أخرجه» .
الحَدِيث الْعَاشِر
(حَدِيث) أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي الأقط.
هُوَ حَدِيث صَحِيح، وَقد فَرغْنَا مِنْهُ آنِفا.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَذكر عَن أبي إِسْحَاق أَن الشَّافِعِي (علق)(5/628)
القَوْل فِي جَوَاز إِخْرَاجه بِصِحَّة الحَدِيث، فَلَمَّا صَحَّ قَالَ بِهِ، وَقَالَ فِي «تذنيبه» عقيب هَذِه القولة بعد أَن أخرجه من رِوَايَة الشَّافِعِي عَن مَالك، والشيخين: لَيْسَ فِي صِحَة الحَدِيث تردد.
قلت: وَأما ابْن حزم فضعفه فِي «محلاه» ، وَقد بيّنت وهمه فِيهِ فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الْوَسِيط» فَرَاجعه مِنْهُ.
تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: قَالَ الرَّافِعِيّ: فَإِن جَوَّزنَا - يَعْنِي إِخْرَاج الأقط - فقد ذكر فِي الْكتاب أَن اللَّبن و (الْجُبْن) فِي مَعْنَاهُ. وَهَذَا أظهر الْوَجْهَيْنِ، وَفِيه وَجه أَن الْإِخْرَاج مِنْهُمَا لَا يُجزئ؛ لِأَن الْخَبَر لم يرد بهما.
قلت: أما (الْجُبْن) فَهُوَ كَمَا (ذكر) ، وَأما اللَّبن فقد ورد الْخَبَر بِهِ، لكنه ضَعِيف، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أَحْمد بن رشدين، عَن سعيد بن عفير، عَن الْفضل بن الْمُخْتَار، حَدثنِي (عبيد الله) بن موهب، عَن عصمَة بن مَالك، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «فِي صَدَقَة الْفطر: مدان من قَمح، أَو صَاع من شعير أَو تمر أَو زبيب، فَمن لم يكن عِنْده أقط وَعِنْده لبن فصاعين من لبن» .
وَالْفضل (هَذَا) قَالَ أَبُو حَاتِم (فِي حَقه) : مَجْهُول يحدث بالأباطيل.(5/629)
الثَّانِي: قَالَ الرَّافِعِيّ: لَا يُجزئ الدَّقِيق وَلَا السويق وَلَا الْخبز؛ لِأَن النَّص ورد بالحب، فَإِنَّهُ يصلح (لما لَا تصلح) لَهُ هَذِه الْأَشْيَاء، فَوَجَبَ اتِّبَاع مورد النَّص.
قلت: قد ورد النَّص فِي الدَّقِيق (والسويق) ، أما الدَّقِيق فمرويٌّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، أما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة، من حَدِيث نصر بن عَلّي، عَن عبد الْأَعْلَى، عَن هِشَام، (عَن) مُحَمَّد بن سِيرِين، عَنهُ قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نُؤَدِّي زَكَاة رَمَضَان، صَاعا من طَعَام، عَن الصَّغِير وَالْكَبِير، وَالْحر والمملوك، من أَدَّى سلتًا - وَأَحْسبهُ قَالَ: من أَدَّى دَقِيقًا - قبل مِنْهُ، وَمن أَدَّى سويقًا قبل مِنْهُ» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، من حَدِيث (الثَّقَفِيّ) ، عَن هِشَام، وَلَفظه: «أمرنَا أَن نعطي صَدَقَة رَمَضَان، عَن الصَّغِير وَالْكَبِير، وَالْحر والمملوك، صَاعا من طَعَام، من أَدَّى برًّا قبل مِنْهُ، وَمن أَدَّى شَعِيرًا قبل مِنْهُ، وَمن أَدَّى زبيبًا قبل مِنْهُ، وَمن أَدَّى سلتًا قَالَ: قبل مِنْهُ، وَأَحْسبهُ قَالَ: وَمن أَدَّى دَقِيقًا قبل مِنْهُ، وَمن أَدَّى سويقًا قبل مِنْهُ» .(5/630)
قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ نصر بن عَلّي فَذكره كَمَا سَاقه ابْن خُزَيْمَة، فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر.
ولعلَّ ابْن خُزَيْمَة اعْتبر عَدَالَة الروَاة، وهم كَذَلِك، وَلم يلْتَفت إِلَى غرابته، نعم هُوَ مُنْقَطع فِيمَا بَين مُحَمَّد بن سِيرِين وَابْن عَبَّاس.
قَالَ أَحْمد: لم يسمع مِنْهُ، كلهَا يَقُول: نبئت عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ خَالِد الْحذاء: كل شَيْء يَقُول: نبئت عَن ابْن عَبَّاس إِنَّمَا سَمعه من عِكْرِمَة أَيَّام الْمُخْتَار. قيل: وَذَلِكَ فِي حَيَاة ابْن عَبَّاس.
قلت: وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة مَوْقُوفا عَلَى ابْن عَبَّاس أَيْضا، رَوَاهُ من حَدِيث عبد الْوَهَّاب، نَا أَيُّوب، عَن مُحَمَّد، عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يَقُول: «صَدَقَة رَمَضَان صَاعا من طَعَام من جَاءَ ببرٍّ قُبِل مِنْهُ، وَمن جَاءَ بشعير قبل مِنْهُ، وَمن جَاءَ بِتَمْر قبل (مِنْهُ) ، وَمن جَاءَ بسلتٍ قبل مِنْهُ، وَمن جَاءَ بزبيب قبل مِنْهُ، وَأَحْسبهُ قَالَ: وَمن جَاءَ بسويق أَو دَقِيق قبل مِنْهُ» .
وَأما حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، من حَدِيث(5/631)
ابْن عجلَان، عَن عِيَاض، عَنهُ: «لَا أخرج أبدا إِلَّا صَاعا، إنَّا كُنَّا نخرج عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَاع تمر أَو شعير أَو أقط أَو زبيب» : زَاد (سُفْيَان) فِيهِ: «أَو صَاع من دَقِيق» . قَالَ حَامِد بن يَحْيَى: فأنكروا عَلَيْهِ فَتَركه سُفْيَان.
قَالَ أَبُو دَاوُد: فَهَذِهِ الزِّيَادَة وهم من ابْن عُيَيْنَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا أعلم أحدا قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث «دَقِيق» غير ابْن عُيَيْنَة، وَلَفظ النَّسَائِيّ فِيهِ: «أَو صَاعا من سلت» . قَالَ: ثمَّ شكّ سُفْيَان فَقَالَ: دَقِيق أَو سلت.
وَأما السويق فمرويٌّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس كَمَا عَلمته.
تَنْبِيه ثَالِث: رَوَى أَبُو دَاوُد مُعَلّقا، وَالدَّارَقُطْنِيّ مُتَّصِلا، (من) حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ: «أَو صَاعا من حِنْطَة» . قَالَ أَبُو دَاوُد: وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ. وَخَالف الْحَاكِم فَقَالَ: صَحِيح. وأخرجها ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» ، وَقَالَ: ذكر الْحِنْطَة غير مَحْفُوظ وَلَا أَدْرِي مِمَّن الْوَهم. وأخرجها ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِسَنَد ابْن خُزَيْمَة، ثمَّ قَالَ: فِيهِ بَيَان أَن قَول أبي سعيد فِي الحَدِيث (الآخر) : «صَاعا من طَعَام» أَرَادَ: صَاع حِنْطَة.(5/632)
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «نصف صَاع من بر» ثمَّ قَالَ: وَهُوَ وهم. وللحاكم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «كَانَ النَّاس يخرجُون [صَدَقَة الْفطر] عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَاعا من تمر، أَو صَاعا من شعير، أَو سلت، أَو زبيب» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَعبد الْعَزِيز ثِقَة عَابِد. وَخَالفهُ ابْن عبد الْبر فِي تَصْحِيحه.
وَلابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «صَدَقَة الْفطر صَاعا من شعير، أَو صَاعا من تمر، أَو صَاعا من سلت» .
خَاتِمَة: اسْتدلَّ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَن الصَّاع خَمْسَة أَرْطَال وَثلث فَقَط بِنَقْل أهل الْمَدِينَة خلفا عَن سلف، ثمَّ قَالَ: ولمالك مَعَ أبي يُوسُف - رحمهمَا الله - فِيهِ قصَّة مَشْهُورَة. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أخرجهَا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي أَحْمد (بن) مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب، قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: سَأَلَ أَبُو يُوسُف مَالِكًا عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن الصَّاع كم هُوَ رطلا؟ قَالَ: السّنة عندنَا أَن الصَّاع لَا يُرطَل. ففحمه.
قَالَ أَبُو أَحْمد: سَمِعت الْحُسَيْن بن الْوَلِيد يَقُول: (قَالَ أَبُو(5/633)
يُوسُف) : فَقدمت الْمَدِينَة فجمعنا (أَبنَاء) أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ودعوت بصاعاتهم، فَكل (حَدثنِي) عَن آبَائِهِم، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن هَذَا (صاعه فقدرتها) فَوَجَدتهَا مستوية، فَتركت قَول أبي حنيفَة وَرجعت إِلَى هَذَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْحُسَيْن بن الْوَلِيد قَالَ: قدم علينا أَبُو يُوسُف من الْحَج، فأتيناه، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيد أَن أفتح عَلَيْكُم بَابا من الْعلم همني ففحصت (عَنهُ) ، فَقدمت الْمَدِينَة، فَسَأَلت عَن الصَّاع فَقَالُوا: [صاعنا] هَذَا صَاع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قلت لَهُم: مَا حجتكم فِي ذَلِك؟ فَقَالُوا: نَأْتِيك بِالْحجَّةِ غَدا. فَلَمَّا أَصبَحت أَتَانِي نَحْو من خمسين شَيخا من أَبنَاء الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، مَعَ كل رجل مِنْهُم الصَّاع تَحت رِدَائه، كل رجل مِنْهُم يخبر عَن أَبِيه أَو أهل بَيته أَن هَذَا صَاع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَنَظَرت فَإِذا هِيَ سَوَاء، قَالَ: فَعَيَّرْته فَإِذا هُوَ خَمْسَة أَرْطَال وَثلث، ينقصان مَعَه يَسِيرا، فَرَأَيْت أمرا قويًّا فقد تركت قَول أبي حنيفَة فِي الصَّاع، وَأخذت بقول أهل الْمَدِينَة.
قَالَ الْحُسَيْن: فحججت من عَامي ذَلِك فَلَقِيت مَالك بن أنس فَسَأَلته عَن الصَّاع، فَقَالَ: صاعنا هَذَا صَاع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَقلت: كم رطلا (هُوَ) ؟ قَالَ: إِن الْمِكْيَال لَا يرطل، هُوَ هَذَا.(5/634)
قَالَ الْحُسَيْن: فَلَقِيت عبد الله بن زيد بن أسلم فَقَالَ: حَدثنِي أبي، عَن جدي، أَن هَذَا صَاع عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ فِي مَعْنَاهُ أَيْضا من حَدِيث إِسْحَاق بن سُلَيْمَان، ورد مَالك عَلَى أبي حنيفَة فِي قَوْله.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» : فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قيل لَهُ: إِن صاعنا أَصْغَر الصيعان، فَدَعَا لَهُم بِالْبركَةِ» .
بَيَان وَاضح أَن صَاع الْمَدِينَة أَصْغَر الصيعان، وَلم يخْتَلف أهل الْعلم من لدن الصَّحَابَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا فِي الصَّاع وَقدره، إِلَّا مَا قَالَه الحجازيون من أَنه خَمْسَة أَرْطَال وَثلث، والعراقيون من أَنه ثَمَانِيَة، (فَكَمَا) لم نجد بَين أهل الْعلم خلافًا فِي قدر الصَّاع إِلَّا مَا وَصفنَا، صَحَّ أَن صَاع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَمْسَة أَرْطَال وَثلث، إِذْ هُوَ أَصْغَر الصيعان، وَبَطل قَول من زعم أَن الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال من غير دَلِيل يثبت لَهُ عَلَى صِحَّته.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم: وجدنَا أهل الْمَدِينَة لَا يخْتَلف مِنْهُم اثْنَان فِي أَن مُدَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الَّذِي يُؤدى بِهِ الصَّدقَات لَيْسَ أَكثر من رَطْل وَنصف وَلَا أقل من رَطْل وَربع. وَقَالَ بَعضهم: رَطْل وَثلث، وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافا وَلكنه عَلَى حسب (رزانة) الْمكيل من التَّمْر وَالْبر وَالشعِير.(5/635)
وَصَاع ابْن أبي ذِئْب خَمْسَة أَرْطَال وَثلث، [قَالَ أَبُو دَاوُد:] وَهُوَ صَاع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.(5/636)
كتاب الصّيام(5/637)
(صفحة فارغة)(5/638)
كتاب الصّيام
ذكر فِيهِ أَحَادِيث وآثاراً. أما الْأَحَادِيث فأحد وَسِتُّونَ حَدِيثا؟
الحَدِيث الأول
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " بني الْإِسْلَام عَلَى خمس ... " (1) الحَدِيث.
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ (2) من حَدِيث ابْن
عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " بني الْإِسْلَام عَلَى خمس:
شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وإقام الصَّلَاة، وإيتاء
الزَّكَاة، وَحج الْبَيْت، وَصَوْم رَمَضَان ". وَفِي رِوَايَات (3) تَقْدِيم الْحَج عَلَى
الصَّوْم، وَفِي رِوَايَة (4) : " خَمْسَة " بدل " خمس ".
الحَدِيث الثَّانِي
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قَالَ للأعرابي الَّذِي سَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام ... ". فَذكر لَهُ شهر
رَمَضَان، وَقَالَ: " هَل عليَّ غَيره؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَن تطوع " (5) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته أَيْضا، أخرجه الشَّيْخَانِ (6) من
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 172) .
(2) «صَحِيح البُخَارِيّ» (1 / 64 رقم 8) ، «صَحِيح مُسلم» (1 / 45 رقم 16 / 22) .
(3) «صَحِيح مُسلم» (1 / 45 رقم 16 / 20، 21) .
(4) «صَحِيح مُسلم» (1 / 45 رقم 16 / 19) .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 172) .
(6) «صَحِيح البُخَارِيّ» (1 / 130 - 131 رقم 46) و «صَحِيح مُسلم» (1 / 40 - 41 رقم 11 / 8) .(5/639)
حَدِيث طَلْحَة بن عبيد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أهل
نجد ثَائِر الرَّأْس، نسْمع دوِي صَوته وَلَا نفقه مَا يَقُول، حَتَّى دنا من رَسُول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَإِذا هُوَ يسْأَل عَن الْإِسْلَام، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: خمس صلوَات فِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة. قَالَ: هَل عَلّي غَيْرهنَّ؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَن تطوع. فَقَالَ النَّبِي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وَصِيَام شهر رَمَضَان. قَالَ: هَل عليَّ غَيره؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَن تطوع.
وَذكر لَهُ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الزَّكَاة، قَالَ: هَل عَلّي غَيرهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَن
تطوع. فَأَدْبَرَ الرجل وَهُوَ يَقُول: وَالله لَا أَزِيد عَلَى هَذَا وَلَا أنقص. فَقَالَ
النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أَفْلح إِن صدق ". وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ (1) (ذكرهَا) (2) فِي أول
كتاب الصّيام: " أَخْبرنِي مَاذَا فرض الله عليَّ من الصَّلَاة؟ فَقَالَ (3) :
الصَّلَوَات الْخمس إِلَّا أَن تطوع شَيْئا. فَقَالَ: أَخْبرنِي (بِمَا) (4) فرض الله
عليَّ من الصّيام؟ فَقَالَ: شهر رَمَضَان إِلَّا أَن تطوع شَيْئا. [فَقَالَ: أَخْبرنِي
مَا فرض الله عليَّ من الزَّكَاة؟] (5) قَالَ: فَأخْبرهُ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشرائع
الْإِسْلَام، قَالَ: وَالَّذِي أكرمك بِالْحَقِّ لَا أتطوع شَيْئا وَلَا أنقص مِمَّا فرض
الله عليَّ شَيْئا. فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (أَفْلح إِن صدق. أَو دخل الْجنَّة إِن
صدق) (6) (وَهَذِه الزِّيَادَة وَهِي " لَا أتطوع شَيْئا " نفيسة لِأَن) (7) الرِّوَايَة
الأولَى لَيست ناصة عَلَى امْتِنَاعه من التَّطَوُّع، بل كَانَ يحْتَمل أَن يكون
مَعْنَاهُ لَا أَزِيد عَلَى هَذَا وَلَا أنقص أَي: أبلغ كَمَا سمعته من غير زِيَادَة وَلَا
نُقْصَان.
__________
(1) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 123 رقم 1891) .
(2) من «م» .
(3) زَاد فِي «م» : النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
(4) فِي «أ، م» : مَاذَا. والمثبت من «ل» و «صَحِيح البُخَارِيّ» .
(5) من «صَحِيح البُخَارِيّ» .
(6) سَقَطت من «أ» والمثبت من «م» ، «صَحِيح البُخَارِيّ» ، وَفِي «ل» : أَفْلح إِن صدق.
(7) فِي «أ، ل» : تَنْبِيه إِن. والمثبت من «م» .(5/640)
فَائِدَة: قَوْله: «ثَائِر» هُوَ مَرْفُوع صفة للرجل، وَقيل: يجوز نَصبه
عَلَى الْحَال. وَمَعْنى ثَائِر الرَّأْس: قَائِم شعره منتفشه. وَقَوله: «نسْمع»
و «نفقه» هَا هُنَا بنُون مَفْتُوحَة، وَرُوِيَ بياء مَضْمُومَة و (الدوي) (1) بِفَتْح
الدَّال عَلَى الْمَشْهُور، وَحَكَى (صَاحب) (2) «الْمطَالع» ضمهَا.
فَائِدَة ثَانِيَة: هَذَا السَّائِل اسْمه ضمام بن ثَعْلَبَة، كَذَا قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ
فِي «سباعياته» ، وَالْمُنْذِرِي فِي «حَوَاشِيه» ، وَابْن باطيش فِي «الْمُغنِي» وَابْن
معن فِي «تنقيبه» عَلَى «الْمُهَذّب» ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» (3) : فِيهِ
(نظر، ووفادة) (4) ضمام، وَحَدِيثه مَعْرُوف فِي «الصَّحِيحَيْنِ» [بِغَيْر هَذَا
اللَّفْظ] وَإِن كَانَ يُقَارِبه.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث مَعْنَاهُ ثَابت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَيْضا من حَدِيث
أبي هُرَيْرَة (6) وَأنس (7) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر رَمَضَان فَقَالَ: " لَا
تَصُومُوا حَتَّى تروا الْهلَال، وَلَا تفطروا حَتَّى تروه، فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا
الْعدة ثَلَاثِينَ " (8) .
__________
(1) فِي «أ، ل» : الَّذِي. والمثبت من «م» .
(2) فِي «م» : صابع. وَهُوَ خطأ: والمثبت من «أ، ل» .
(3) «تَهْذِيب الْأَسْمَاء واللغات» : (المجلد الثَّانِي / 1 / 309) .
(4) فِي «أ، ل» تطرد زِيَادَة، والمثبت من «م» و «تَهْذِيب الْأَسْمَاء واللغات» .
(5) من «تَهْذِيب الْأَسْمَاء واللغات» وَسقط من «أ، ل، م» .
(6) «صَحِيح البُخَارِيّ» (3 / 308 رقم 1397) و «صَحِيح مُسلم» (1 / 44 رقم 14) .
(7) «صَحِيح البُخَارِيّ» (1 / 179 رقم 63) و «صَحِيح مُسلم» (1 / 41 - 42 رقم 12) .
(8) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 173) .(5/641)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته أخرجه الشَّيْخَانِ فِي
«صَحِيحَيْهِمَا» (1) من هَذَا الْوَجْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إِذا رَأَيْتُمْ
الْهلَال فصوموا، وَإِذا رَأَيْتُمُوهُ فأفطروا، فَإِن غم عَلَيْكُم (فصوموا ثَلَاثِينَ
يَوْمًا) (2) . وَفِي لفظ آخر (3) : «صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم
عَلَيْكُم فأكملوا (الْعدة) (4) . [وَفِي لفظ آخر (5) : «فَإِن غمي عَلَيْكُم الشَّهْر
فعدوا ثَلَاثِينَ» ] (6) . وَفِي لفظ آخر (7) كَلَفْظِ الرَّافِعِيّ سَوَاء، إِلَّا أَنه قَالَ:
«فاقدروا لَهُ» بدل: «فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ» (وَفِي لفظ آخر (8) : «فَإِن غم
عَلَيْكُم الشَّهْر فعدوا ثَلَاثِينَ» للْبُخَارِيّ (9» (10) : «فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ»
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» غير ذَلِك من الْأَلْفَاظ.
فَائِدَة: قَوْله: «فاقدروا لَهُ» هُوَ بالوصل وَكسر الدَّال وَضمّهَا. قَالَه
صَاحب «الْمطَالع» ، وَقَالَ المطرزي: الضَّم خطأ. وَمَعْنَاهُ: قدرُوا لَهُ تَمام
__________
(1) فِي «أ، ل» : صَحِيحهمَا. والمثبت من «م» . والْحَدِيث فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 135 رقم 1900) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 760 رقم 1080 / 8) كِلَاهُمَا من حَدِيث ابْن عمر. وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة (2 / 762 رقم 1081 / 17) .
(2) فِي «الصَّحِيحَيْنِ» : فاقدروا لَهُ.
(3) «صَحِيح مُسلم» (2 / 762 رقم 1081 / 18) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
(4) فِي «صَحِيح مُسلم» : الْعدَد.
(5) «صَحِيح مُسلم» (2 / 762 رقم 1081 / 19) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
(6) من «م» .
(7) «صَحِيح مُسلم» (2 / 759 رقم 1080 / 3) من حَدِيث ابْن عمر.
(8) «صَحِيح مُسلم» (2 / 762 رقم 1081 / 19) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَفِيه «غمي» بدل «غم» .
(9) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 143 رقم 1907) من حَدِيث ابْن عمر.
(10) فِي «م» : وَفِي البُخَارِيّ. والمثبت من «أ، ل» .(5/642)
الْعدَد ثَلَاثِينَ يَوْمًا. قَالَه مَالك وَأَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَقيل: مَعْنَاهُ ضيقوا
لَهُ وقدروه تَحت السَّحَاب. قَالَه الإِمَام أَحْمد، وَأوجب صِيَام لَيْلَة الْغَيْم،
وَأغْرب الْحَافِظ أَبُو نعيم فَقَالَ فِي «مستخرجه» (1) عَلَى «صَحِيح مُسلم» :
قَوْله: «فاقدروا لَهُ» أَي (اقصدوا) (2) بِالنّظرِ و (الطّلب) (3) الْموضع الَّذِي
تقدرون أَنكُمْ تَرَوْنَهُ فِيهِ.
الحَدِيث الرَّابِع
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " صُومُوا لرُؤْيَته " (4) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ كَمَا فَرغْنَا مِنْهُ آنِفا.
الحَدِيث الْخَامِس
(رُوِيَ) (5) أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم
عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا إِلَّا أَن يشْهد شَاهِدَانِ» (6) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ كُله النَّسَائِيّ (7) ، عَن إِبْرَاهِيم بن
يَعْقُوب، ثَنَا سعيد بن شبيب أَبُو عُثْمَان - وَكَانَ شَيخا صَالحا بِطَرْسُوسَ -
نَا ابْن أبي زَائِدَة، عَن حُسين بن الْحَارِث الجدليِّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن
زيد بن الْخطاب «أَنه خطب النَّاس فِي الْيَوْم الَّذِي يشك (فِيهِ) (8) فَقَالَ:
__________
(1) «الْمُسْتَخْرج» (3 / 146) .
(2) فِي «ل» : أتعبدوا. والمثبت من «أ، م» و «الْمُسْتَخْرج» .
(3) فِي «م» : الْمطلب. والمثبت من «أ، ل» و (الْمُسْتَخْرج» .
(4) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 173» .
(5) من «أ، ل» .
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 173) .
(7) «سنَن النَّسَائِيّ» 4 / 438 رقم (2115) .
(8) سقط من «أ» والمثبت من «ل، م» و «سنَن النَّسَائِيّ» .(5/643)
أَلا إِنِّي جالستُ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وساءلتهم، وَإِنَّهُم حَدثُونِي أَن
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: صُومُوا لرُؤْيَته، وأفطروا لرُؤْيَته، وانسكوا لَهَا، فَإِن
غم عَلَيْكُم فأكملوا ثَلَاثِينَ (فَإِن) (1) شهد شَاهِدَانِ فصوموا وأفطروا ".
وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد (2) ، عَن يَحْيَى بن زَكَرِيَّا، عَن حجاج، عَن (حُسَيْن
بن) (3) الْحَارِث بِهِ إِلَّا أَنه قَالَ: «فَإِن شهد شَاهد، أَو شَاهِدَانِ
(مسلمان) (4) فصوموا وأفطروا» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» (5) من
حَدِيث حجاج بِهِ وَقَالَ: " (فَإِن) (6) شهد ذَوا عدل فصوموا وأفطروا
وانسكوا» . وحجاج هَذَا هُوَ ابْن أَرْطَاة، وَقد سلف حَاله فِي غير مَا مرّة،
وَقد تَابعه ابْن أبي زَائِدَة كَمَا سلف. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد (7) من حَدِيث أبي
مَالك الْأَشْجَعِيّ، عَن حُسَيْن (بن) (8) الْحَارِث بن حَاطِب أَمِير مَكَّة خطب
ثمَّ قَالَ: «عهد إِلَيْنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن ننسك للرؤية، فَإِن لم (نره) (9)
وَشهد شَاهدا عدل نسكنا بِشَهَادَتِهِمَا» [فَسَأَلت الْحُسَيْن بن الْحَارِث: من
أَمِير مَكَّة؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. ثمَّ لَقِيَنِي بعد فَقَالَ: هُوَ الْحَارِث بن حَاطِب
__________
(1) فِي «أ، م» : وَإِن. والمثبت من «ل» و «سنَن النَّسَائِيّ» .
(2) «الْمسند» (4 / 321) .
(3) سقط من «م» ، والمثبت من «أ، ل» و «الْمسند» .
(4) سقط من «أ، ل» والمثبت من «م» و «الْمسند» .
(5) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 167 - 168 رقم 3) .
(6) فِي «ل» : إِن. وَفِي «م» : وَإِن. والمثبت من «أ» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(7) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 139 - 140 رقم 2331) .
(8) فِي «أ، ل» أَن. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «م» وَسبق عَلَى الصَّوَاب.
(9) فِي «سنَن أبي دَاوُد» : تروه.(5/644)
أَخُو مُحَمَّد بن حَاطِب] (1) ثمَّ قَالَ الْأَمِير: إِن فِيكُم من هُوَ أعلم بِاللَّه
وَرَسُوله مني، وَشهد هَذَا من رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى [رجل، قَالَ
الْحُسَيْن: فَقلت لشيخ إِلَى جَنْبي: من هَذَا الَّذِي أَوْمَأ إِلَيْهِ؟ قَالَ: هَذَا عبد
الله] (2) بن عمر [وَصدق، كَانَ أعلم بِاللَّه مِنْهُ] (3) فَقَالَ: بذلك أمرنَا
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (4) أَيْضا من هَذَا الْوَجْه، ثمَّ قَالَ:
إِسْنَاد مُتَّصِل صَحِيح. وَأما ابْن حزم فأعله فِي «محلاه» (5) بِحُسَيْن بن
الْحَارِث، وَقَالَ: إِنَّه مَجْهُول. وَهُوَ وهم مِنْهُ، فقد رَوَى عَن جمَاعَة من
الصَّحَابَة، وَرَوَى (عَنهُ) (6) جمَاعَة (أَيْضا) (7) وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: إِنَّه
مَعْرُوف. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» (8) .
الحَدِيث السَّادِس
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن أَعْرَابِيًا جَاءَ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ:
إِنِّي رَأَيْت الْهلَال. فَقَالَ: أَتَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَتَشهد
أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله؟ قَالَ: نعم. قَالَ فَأذن فِي النَّاس يَا بِلَال أَن يَصُومُوا
غَدا» (9) .
__________
(1) من «سنَن أبي دَاوُد» .
(2) من «سنَن أبي دَاوُد» .
(3) من «سنَن أبي دَاوُد» .
(4) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 167 رقم 1) .
(5) «الْمُحَلَّى» (6 / 238) .
(6) من «م» وَسقط من «أ، ل» .
(7) سقط من «م» والمثبت من «أ، ل» .
(8) «الثِّقَات» (4 / 155) .
(9) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 173) .(5/645)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (1) ، وَالتِّرْمِذِيّ (2) ،
وَالنَّسَائِيّ (3) ، وَابْن مَاجَه (4) ، وَالدَّارَقُطْنِيّ (4) ، وَالْبَيْهَقِيّ (6) فِي «سُنَنهمْ»
وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (7) ، وَابْن خُزَيْمَة (8) ، وَابْن حبَان (9) فِي
«صَحِيحَيْهِمَا» بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث سماك، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن
عَبَّاس مَرْفُوعا بِهِ. قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ، وَقَالَ
أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ جمَاعَة [عَن سماك] (10) عَن عِكْرِمَة مُرْسلا، وَكَذَا قَالَ
التِّرْمِذِيّ أَنه رُوِيَ مُرْسلا عَن عِكْرِمَة عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير ذكر ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ النَّسَائِيّ: إِنَّه أولَى بِالصَّوَابِ. قَالَ: وَسماك يَتَلَقَّن، فَإِذا أنفرد بِأَصْل
لم يكن حجَّة. ورده ابْن حزم بسماك كعادته، وَقَالَ (11) : رِوَايَته لَا يحْتَج
بهَا. وَأما رده بِالْإِرْسَال فقد علم مَا فِي تعَارض (الْوَصْل) (12) والإرسال،
وَلَا شكّ أَن الْوَصْل زِيَادَة، وَهِي من الثِّقَة مَقْبُولَة، لَا جرم صححها ابْن
__________
(1) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 140 - 141 رقم 2333) .
(2) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 74 - 75 رقم 691) .
(3) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 437 - 438 رقم 2111، 2112) وَقَول النَّسَائِيّ فِي «التُّحْفَة» (5 / 137 - 138 رقم 1604) .
(4) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 529 رقم 1652) .
(5) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 158 - 159 رقم 8 - 12) .
(6) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 211، 212) .
(7) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 424) .
(8) «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» (3 / 208 رقم 1923، 1924) .
(9) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 229 - 230 رقم 3446) .
(10) من «سنَن أبي دَاوُد» .
(11) «الْمُحَلَّى» (6 / 237) .
(12) فِي «أ، ل» : الْوُصُول. والمثبت من «م» .(5/646)
حبَان وَالْحَاكِم، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد (1) ، وَالدَّارَقُطْنِيّ (2) عَن عِكْرِمَة
مُرْسلا " فَأمر بِلَالًا فَنَادَى (فِي النَّاس) (3) أَن يقومُوا وَأَن يَصُومُوا " قَالَ أَبُو
دَاوُد: لم يذكر (الْقيام) (4) أحد إِلَّا حَمَّاد بن سَلمَة.
تَنْبِيه: أورد صَاحب «الْهِدَايَة» (5) الْحَنَفِيّ هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ: " شهد
أَعْرَابِي بِرُؤْيَة الْهلَال فَقَالَ لله: من أكل فَلَا يَأْكُل بَقِيَّة يَوْمه، وَمن لم يَأْكُل
فليصم " وَأوردهُ صَاحب «الْخُلَاصَة» الْحَنَفِيّ أَيْضا بِلَفْظ: " شهد بعد
ارْتِفَاع الشَّمْس فصَام لله وَأمر النَّاس بالصيام " وَلم أره بِهَذِهِ السِّيَاقَة فِي
كتب الحَدِيث، وَالْمَوْجُود فِيهَا مَا قَدمته.
الحَدِيث السَّابِع
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: " ترَاءَى النَّاس الْهلَال فَأخْبرت
النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنِّي رَأَيْته، فصَام وَأمر النَّاس بالصيام» (6) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» (7) ، وَأَبُو دَاوُد (8) ،
وَالدَّارَقُطْنِيّ (9) ، وَالْبَيْهَقِيّ (10) فِي «سُنَنهمْ» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (11) ،
وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» (12) كَذَلِك قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث
__________
(1) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 141 رقم 2334) .
(2) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 159 رقم 14) .
(3) فِي «أ، ل» : بِالنَّاسِ. والمثبت من «م» ومصدري التَّخْرِيج.
(4) فِي «أ» : الْعَام. والمثبت من «م، ل» و «سنَن أبي دَاوُد» .
(5) «الْهِدَايَة» (1 / 118) .
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 173) .
(7) «سنَن الدَّارمِيّ» (2 / 9 رقم 1691) .
(8) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 141 رقم 2335) .
(9) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 156 رقم 1) .
(10) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 212) .
(11) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 423) .
(12) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 231 رقم 3447) .(5/647)
صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تفرد بِهِ مَرْوَان بن مُحَمَّد عَن
ابْن وهب، وَهُوَ ثِقَة.
قلت: لَا؛ فقد رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث هَارُون بن
سعيد الْأَيْلِي، عَن ابْن وهب وَصَححهُ كَمَا سلف. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا
الحَدِيث يعد فِي أَفْرَاد (مَرْوَان) (1) ثمَّ ذكر رِوَايَة الْحَاكِم هَذِه، وَقَالَ أَبُو
مُحَمَّد بن حزم (2) : هَذَا خبر صَحِيح. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: رجال إِسْنَاده احْتج
بهم مُسلم فِي «صَحِيحه» ، وَفِيه رجلَانِ احْتج بهما البُخَارِيّ أَيْضا،
وهما: عبد الله بن وهب، وَنَافِع. وَقَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» (3) : هَذَا
الْخَبَر مدحض لقَوْل من زعم أَن خبر ابْن عَبَّاس - يَعْنِي الَّذِي قبله - تفرد بِهِ
سماك بن حَرْب وَأَن رَفعه غير مَحْفُوظ فِيمَا زعم.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن كريب قَالَ: «رَأينَا الْهلَال بِالشَّام لَيْلَة الْجُمُعَة ثمَّ قدمت الْمَدِينَة
فَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَتى رَأَيْتُمْ الْهلَال؟ قلت: (لَيْلَة) (4) الْجُمُعَة. قَالَ: أَنْت
رَأَيْت؟ قلت: نعم، وَرَآهُ النَّاس وصاموا وَصَامَ مُعَاوِيَة. فَقَالَ: لَكنا رَأَيْنَاهُ
لَيْلَة السبت فَلَا نزال نَصُوم حَتَّى نكمل (الْعدَد) (5) أَو نرَاهُ. قلت: أَولا
تكتفي بِرُؤْيَة مُعَاوِيَة (6) ؟ قَالَ: لَا، هَكَذَا أمرنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» (7) .
__________
(1) فِي «أ» : م وَالنَّسَائِيّ. وَفِي «ل» : م وس. والمثبت من «م» و «السّنَن الْكُبْرَى» .
(2) «الْمُحَلَّى» (6 / 236) .
(3) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 231) .
(4) فِي «أ، م» : يَوْم. والمثبت من «ل» و «الشَّرْح الْكَبِير» .
(5) فِي «م» : الْعدة. والمثبت من «أ، ل» و «الشَّرْح الْكَبِير» .
(6) زَاد فِي «م» : وَأَصْحَابه.
(7) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 179) .(5/648)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم (1) مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث كريب «أَن
أم الْفضل بعثته إِلَى مُعَاوِيَة بِالشَّام (قَالَ: فَقدمت الشَّام) (2) فَقضيت
(حَاجَتهَا) (3) واستهل عَلّي رَمَضَان وَأَنا بِالشَّام، فَرَأَيْت الْهلَال (لَيْلَة) (4)
الْجُمُعَة، ثمَّ قدمت الْمَدِينَة فِي آخر الشَّهْر، فَسَأَلَنِي عبد الله بن عَبَّاس، ثمَّ
ذكر الْهلَال فَقَالَ: مَتى رَأَيْتُمْ الْهلَال؟ فَقلت: رَأَيْنَاهُ لَيْلَة الْجُمُعَة. فَقَالَ:
أَنْت رَأَيْت؟ قلت: نعم، وَرَآهُ النَّاس فصاموا وَصَامَ مُعَاوِيَة (فَقَالَ: لَكنا
رَأَيْنَاهُ لَيْلَة السبت، فَلَا نزال نَصُوم حَتَّى نكمل (ثَلَاثِينَ) (5) أَو نرَاهُ
فَقلت: (أَولا) (6) تكتفي بِرُؤْيَة مُعَاوِيَة) (7) وصيامه؟ فَقَالَ: لَا، هَكَذَا
أمرنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» شكّ (أحد رُوَاته) (8) فِي «نكتفي» أَو «تكتفي» . وَرَوَاهُ
أَحْمد (9) ، وَأَبُو دَاوُد (10) ، وَالتِّرْمِذِيّ (11) ، وَالنَّسَائِيّ (12) ،
وَالدَّارَقُطْنِيّ (13) وَكلهمْ قَالُوا: « [رَأَيْنَاهُ] (14) (لَيْلَة) (15) الْجُمُعَة» وَوَقع
__________
(1) «صَحِيح مُسلم» (2 / 765 رقم 1087) .
(2) من «م» و «صَحِيح مُسلم» .
(3) فِي «أ» : حَاجته. والمثبت من «م، ل» و «صَحِيح مُسلم» .
(4) فِي «أ، م» : يَوْم. والمثبت من «ل» و «صَحِيح مُسلم» .
(5) فِي «ل» : الْعدة. والمثبت من «أ، م» و «صَحِيح مُسلم» .
(6) فِي «ل» : أَلا. والمثبت من «أ، م» و «صَحِيح مُسلم» .
(7) سَقَطت من «أ» والمثبت من «ل، م» و «صَحِيح مُسلم» .
(8) فِي «صَحِيح مُسلم» : يَحْيَى بن يَحْيَى.
(9) «الْمسند» (1 / 306) .
(10) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 137 - 138 رقم 2326) .
(11) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 76 - 77 رقم 693) .
(12) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 436 - 437 رقم 2110) .
(13) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 171 رقم 21) .
(14) فِي «أ، ل» : رَأَيْت الْهلَال. وَفِي «م» : رَأينَا الْهلَال. والمثبت من مصَادر التَّخْرِيج.
(15) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» ومصادر التَّخْرِيج.(5/649)
فِي كتاب الْحميدِي: « (يَوْم) (1) الْجُمُعَة» . وَقَالَ النَّسَائِيّ: «أَولا نكتفي
بِرُؤْيَة مُعَاوِيَة (وَأَصْحَابه) (2» وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: «فَقلت: رَآهُ النَّاس وصاموا»
وَلم يقل عَن نَفسه أَنه رَآهُ.
فَائِدَة: كريب (هَذَا) (3) بِضَم الْكَاف، قَالَ القَاضِي حُسَيْن:
وَاخْتلف فِي قَوْله: «هَكَذَا أمرنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فَمنهمْ من قَالَ: أَرَادَ بِهِ
قَوْله «صُومُوا لرُؤْيَته. .» الْخَبَر. وَمِنْهُم من قَالَ: كَانَ يحفظ حَدِيثا أخص
مِنْهُ فِي هَذِه الْحَادِثَة. وَذكر هَذَا فِي «الْبَحْر» عَلَى سَبِيل (الْإِجْمَال) (4) . قَالَ
الرَّافِعِيّ (5) : وَيروَى «أَن ابْن عَبَّاس أَمر كريباً أَن يَقْتَدِي بِأَهْل الْمَدِينَة»
وَهَذَا غَرِيب.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن حَفْصَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من لم يُجمع الصّيام
قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ» وَيروَى: " من لم ينْو الصّيام (من اللَّيْل) (6) فَلَا
صِيَام لَهُ " (7) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد (8) من حَدِيث ابْن لَهِيعَة: نَا عبد الله بن
أبي بكر، عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم، عَن حَفْصَة مَرْفُوعا (بِهِ بِاللَّفْظِ
الأول هَكَذَا) (9) هُوَ فِي «الْمسند» من حَدِيث سَالم، عَن حَفْصَة، وَرَوَاهُ
__________
(1) فِي «أ، ل» ثمَّ. والمثبت من «م» .
(2) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «سنَن النَّسَائِيّ» .
(3) من «م» .
(4) فِي «م» : الِاحْتِمَال. والمثبت من «أ، ل» .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 180) .
(6) سقط من «م» . والمثبت من «أ، ل» و «الشَّرْح الْكَبِير» .
(7) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 184 - 185) .
(8) «الْمسند» (6 / 287) .
(9) فِي «أ، ل» : بِاللَّفْظِ كَذَا. والمثبت من «م» .(5/650)
أَبُو دَاوُد (1) من حَدِيث ابْن لَهِيعَة أَيْضا، وَيَحْيَى بن أَيُّوب عَن عبد الله بن
أبي بكر بن حزم، عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم بن عبد الله، عَن أَبِيه، عَن
حَفْصَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الأول أَيْضا، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (2) من حَدِيث يَحْيَى
ابْن أَيُّوب، عَن عبد الله بِهِ أَيْضا، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ (3) من حَدِيث يَحْيَى بِهِ
بِلَفْظ «يُبَيِّتِ» بدل «يُجْمِع» وَمن حَدِيث يَحْيَى بن أَيُّوب، وَذكر آخر أَن
عبد الله بن أبي بكر. . فَذكره بِلَفْظ (4) : " من لم يُجْمِع الصّيام قبل طُلُوع
الْفجْر فَلَا يَصُوم ". وَمن (5) حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن جريج، عَن ابْن
شهَاب بِهِ، بِلَفْظ: " من لم يبيت الصّيام من اللَّيْل فَلَا صِيَام لَهُ ". وَمن (6)
حَدِيث مُعْتَمر عَن عبيد الله، عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم، عَن أَبِيه، عَن
حَفْصَة أَنَّهَا كَانَت تَقول: " من لم يجمع الصَّوْم من اللَّيْل فَلَا يَصُوم ".
وَمن (7) حَدِيث ابْن وهب، عَن يُونُس، عَن ابْن شهَاب، عَن حَمْزَة بن عبد
الله بن عمر، عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَت حَفْصَة: " لَا صِيَام لمن (لم) (8) يُجْمِع
قبل الْفجْر، وَمن (9) حَدِيث سُفْيَان وَمعمر، عَن الزُّهْرِيّ (عَن حَمْزَة، عَن
__________
(1) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 190 رقم 2446) .
(2) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 108 رقم 370) .
(3) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 509 - 510 رقم 2330 - 2331) .
(4) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 510 رقم 2332) .
(5) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 510 رقم 2333) .
(6) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 510 - 511 رقم 2334) .
(7) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 511 رقم 2335) .
(8) سقط من «أ» والمثبت من «ل، م» و «سنَن النَّسَائِيّ» .
(9) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 511 رقم 2337) .(5/651)
أَبِيه عَنْهَا (مَوْقُوفا) (1) سَوَاء. وَمن (2) حَدِيث مَالك، عَن الزُّهْرِيّ) (3) عَن
عَائِشَة وَحَفْصَة مَوْقُوفا: " لَا يَصُوم إِلَّا من أجْمَعَ الصّيام قبل الْفجْر " وَرَوَاهُ
ابْن مَاجَه (4) من حَدِيث إِسْحَاق بن حَازِم، عَن عبد الله بن أبي بكر بن
عَمْرو بن حزم، عَن سَالم، عَن أَبِيه، عَن حَفْصَة مَرْفُوعا: " لَا صِيَام لمن
لم يَفْرِضْهُ من اللَّيْل ". وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (5) بِأَلْفَاظ مِنْهَا: " لَا صِيَام لمن لم
[يفرضه] (6) قبل الْفجْر» . وَمِنْهَا (7) : " لمن لم يفرضه من اللَّيْل " وَمِنْهَا (8) :
كَلَفْظِ أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ. وَهَذَا الحَدِيث كَمَا علمت رُوِيَ مَرْفُوعا
وموقوفاً، وَاخْتلف الْحفاظ فِي أَيهمَا أرجح، فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي
«علله» (9) : قَالَ أبي: لَا أَدْرِي أَيهمَا أصح، لَكِن الثَّانِي أشبه. وَقَالَ أَبُو
دَاوُد (10) : أوقفهُ (معمر والزبيدي وَابْن عُيَيْنَة وَيُونُس الْأَيْلِي عَلَى حَفْصَة.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: (11) : لَا يعرف مَرْفُوعا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. قَالَ (12) : وَقد
رُوِيَ عَن نَافِع عَن ابْن عمر من قَوْله وَهُوَ أصح. وَقَالَ النَّسَائِيّ (13) :
__________
(1) فِي «م» : مَرْفُوعا. خطأ، والمثبت من «أ، ل» .
(2) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 512 رقم 2340) .
(3) تَكَرَّرت فِي «أ، ل» .
(4) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 542 رقم 1700) .
(5) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 172 رقم 2) .
(6) فِي «أ، ل، م» يورضه. والمثبت من «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(7) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 172 رقم 2) .
(8) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 172 رقم 3) .
(9) «علل ابْن أبي حَاتِم» (1 / 225) .
(10) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 190) .
(11) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 108) .
(12) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 108) .
(13) لم أَجِدهُ فِي الصُّغْرَى وَلَا الْكُبْرَى وَلَا التُّحْفَة.(5/652)
الصَّوَاب فِي هَذَا أَنه مَوْقُوف) (1) وَلم يَصح رَفعه. وَقَالَ أَحْمد: مَا لَهُ
عِنْدِي ذَلِك الْإِسْنَاد إِلَّا أَنه عَن ابْن عمر وَحَفْصَة إسنادان جيدان. وَقَالَ
مَالك، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عَائِشَة، عَن حَفْصَة قَوْلهمَا: مُرْسل. وَقَالَ
الْحَاكِم فِي «أربعينه» الَّتِي خرجها فِي شعار أهل الحَدِيث. وَقد أخرجه
بِاللَّفْظِ الأول: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَالزِّيَادَة عِنْدهمَا
جَمِيعًا من الثِّقَة مَقْبُولَة. قَالَ: وَقد أخرجه ابْن خُزَيْمَة محتجًّا بِهِ فِي
«صَحِيحه» (2) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ (3) فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث قد اخْتلف عَلَى
الزُّهْرِيّ فِي إِسْنَاده، وَفِي رَفعه إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قَالَ: وَعبد الله بن أبي بكر
أَقَامَ إِسْنَاده وَرَفعه، وَهُوَ من الثِّقَات الْأَثْبَات. وَقَالَ فِي «خلافياته» : هَذَا
الحَدِيث رُوَاته ثِقَات. قَالَ: وَله شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح عَنْهَا مَرْفُوعا: «من
لم يبيت الصّيام من اللَّيْل فَلَا صِيَام لَهُ» . قَالَ: وَرُوَاته ثِقَات إِلَّا أَنه قد
رُوِيَ مَوْقُوفا عَلَى حَفْصَة. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ (4) : (رَفعه) (5) عبد الله بن أبي
بكر، عَن الزُّهْرِيّ، وَهُوَ من الثِّقَات الرفعاء. وَقَالَ الْخطابِيّ (6) : عبد الله
ابْن أبي بكر قد أسْندهُ، وزيادات الثِّقَة مَقْبُولَة. وَقَالَ عبد الْحق (7) : الَّذِي
أسْندهُ ثِقَة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» (8) : عبد الله من الثِّقَات
__________
(1) سقط من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(2) «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» (3 / 212 رقم 1933) .
(3) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 202) .
(4) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 172) .
(5) فِي «أ، ل» : وَقفه، والمثبت من «م» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(6) «معالم السّنَن» (3 / 333) .
(7) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 214) ؟
(8) «التَّحْقِيق» (2 / 66) .(5/653)
(الرفعاء) (1) وَالرَّفْع زِيَادَة وَهِي من الثِّقَة مَقْبُولَة. وَقَالَ ابْن حزم (2) : لَا
يضر إِسْنَاد ابْن جريج لَهُ - أَي الَّذِي رَفعه - أَن أوقفهُ معمر، وَمَالك،
وَعبد الله، وَيُونُس، وَابْن عُيَيْنَة، وَابْن جريج لَا يتَأَخَّر عَن أحد من هَؤُلَاءِ
فِي الثِّقَة وَالْحِفْظ، وَالزهْرِيّ وَاسع الرِّوَايَة، فَمرَّة يرويهِ عَن سَالم، عَن
أَبِيه، وَمرَّة عَن حَمْزَة عَن أَبِيه وَكِلَاهُمَا ثِقَة، وَابْن عمر كَذَلِك، مرّة
[يرويهِ] (3) مُسْندًا وَمرَّة رَوَى أَن حَفْصَة أفتت بِهِ، وَمرَّة أفتَى هُوَ بِهِ، وكل
هَذَا قُوَّة للْخَبَر.
قلت: وَرُوِيَ أَيْضا من وَجه آخر، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا. رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ (4) من حَدِيث أبي الزِّنْبَاع روح بن الْفرج، عَن عبد الله بن
عباد، عَن (الْمفضل) (5) بن فضَالة قَالَ حَدثنِي يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن
يَحْيَى بن سعيد، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من لم يبيت
الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ " ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ عبد الله بن عباد (عَن) (6)
الْمفضل بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَكلهمْ ثِقَات. وَنَقله الْبَيْهَقِيّ عَنهُ فِي «خلافياته»
و «سنَنه» (7) وَأقرهُ عَلَيْهِ.
و [عبد الله بن] (8) عباد هَذَا قَالَ ابْن حبَان (9) فِيهِ: رَوَى عَنهُ روح
__________
(1) لَيْسَ فِي «التَّحْقِيق» .
(2) «الْمُحَلَّى» (6 / 162) .
(3) من «الْمُحَلَّى» .
(4) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 171 - 172 رقم 1) .
(5) فِي «ل» : الْفضل. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «أ، م» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(6) فِي «أ، ل» : بن. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «م» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(7) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 213) .
(8) سَقَطت من «أ، ل، م» وَالصَّوَاب إِثْبَاتهَا.
(9) «الْمَجْرُوحين» (2 / 46) .(5/654)
نُسْخَة مَوْضُوعَة، وَذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: هَذَا مقلوب، إِنَّمَا هُوَ
عِنْد يَحْيَى بن أَيُّوب (عَن عبد الله بن أبي بكر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم،
عَن أَبِيه، عَن حَفْصَة [صَحِيح من غير هَذَا الْوَجْه] (1) فِيمَا يشبه هَذَا. وَقَالَ
الذَّهَبِيّ فِي «الضُّعَفَاء» (2) : عبد الله هَذَا واه. قلت: وَيَحْيَى بن أَيُّوب) (3)
من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَفِيه لين.
فَائِدَة: «يُجَمِّع» بِضَم أَوله وَفتح ثَانِيه، وَكسر ثالثه، مشدداً. وَرُوِيَ
بتَخْفِيف (الثَّالِث) (4) مَعَ فتح أَوله، وَهُوَ بِمَعْنى يبيت، وَرُوِيَ «يثبت» أَي
يجْزم، وَرُوِيَ «من لم يورضه من اللَّيْل» أَي: يهيئه.
الحَدِيث الْعَاشِر
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يدْخل عَلَى بعض أَزوَاجه فَيَقُول: هَل من غداء؟ فَإِن
(قَالُوا) (5) : لَا، قَالَ: إِنِّي إِذا صَائِم " (6) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» (7) من حَدِيث
عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " قَالَ لي رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذَات يَوْم: يَا عَائِشَة،
هَل عنْدكُمْ شَيْء؟ (قَالَت) (8) فَقلت: يَا رَسُول الله، مَا عندنَا شَيْء. قَالَ:
__________
(1) من «الْمَجْرُوحين» .
(2) «الْمُغنِي» (1 / 546 رقم 3228) وَقَالَ: ضَعِيف.
(3) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(4) فِي «ل» : الْمِيم. والمثبت من «أ، م» .
(5) فِي «الشَّرْح الْكَبِير» : قَالَت.
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 186) .
(7) «صَحِيح مُسلم» (2 / 808 - 809 رقم 1154 / 169) .
(8) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «صَحِيح مُسلم» .(5/655)
فَإِنِّي صَائِم (قَالَت) (1) : فَخرج رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (فأهديت لنا هَدِيَّة - أَو جَاءَنَا
زور - قَالَت: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) (2) قلت: يَا رَسُول الله، أهديت
لنا هَدِيَّة - أَو جَاءَنَا زور - وَقد خبأت لَك شَيْئا. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قلت:
حيس. قَالَ: هاتيه. فَجئْت بِهِ فَأكل، ثمَّ قَالَ: قد كنت أَصبَحت صَائِما ".
قَالَ طَلْحَة: فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث مُجَاهدًا فَقَالَ: (ذَاك) (3) بِمَنْزِلَة الرجل
يخرج الصَّدَقَة من مَاله، فَإِن شَاءَ أمضاها، وَإِن شَاءَ أمْسكهَا.
وَفِي رِوَايَة لَهُ (4) قَالَت: " دخل عليّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذَات يَوْم فَقَالَ: هَل
عنْدكُمْ من شَيْء؟ فَقُلْنَا: لَا. فَقَالَ: إِنِّي إِذا صَائِم. ثمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخر فَقُلْنَا:
يَا رَسُول الله، أهدي لنا حيس. قَالَ (أرينيه) (5) فَلَقَد أَصبَحت صَائِما
فَأكل ".
زَاد النَّسَائِيّ (6) ثمَّ قَالَ: " إِنَّمَا مثل صَوْم (المتطوع) (7) مثل الرجل
يخرج من مَاله الصَّدَقَة، فَإِن شَاءَ أمضاها، وَإِن شَاءَ حَبسهَا ". وَفِي رِوَايَة
لَهُ (8) : " يَا عَائِشَة، إِنَّمَا منزلَة من صَامَ فِي غير رَمَضَان [أَو غير قَضَاء
رَمَضَان] (9) أَو فِي التَّطَوُّع بِمَنْزِلَة رجل أخرج صَدَقَة (10) مَاله فجاد مِنْهَا بِمَا
__________
(1) فِي «أ، م» : قَالَ. والمثبت من «ل» و «صَحِيح مُسلم» .
(2) سقط من «م» . والمثبت من «أ، ل» و «صَحِيح مُسلم» .
(3) فِي «أ، م» : ذَلِك. والمثبت من «ل» و «صَحِيح مُسلم» .
(4) «صَحِيح مُسلم» (2 / 809 رقم 1154 / 170) .
(5) فِي «أ، ل» : أرنيه. والمثبت من «م» و «صَحِيح مُسلم» .
(6) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 506 - 507 رقم 2321) .
(7) فِي «م» : التَّطَوُّع. والمثبت من «أ، ل» و «صَحِيح مُسلم» .
(8) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 507 رقم 2322) .
(9) من «سنَن النَّسَائِيّ» .
(10) زَاد فِي «م» : من.(5/656)
شَاءَ فأمضاه، وبخل مِنْهَا بِمَا شَاءَ فأمسكه» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد (1) ، وَابْن حبَان (2) بِإِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط
الشَّيْخَيْنِ، قَالَت عَائِشَة: " فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، أهدي لنا حيس [فخبأناه
لَك] (3) فَقَالَ: أدْنيه. فَأصْبح صَائِما ثمَّ أفطر " وَفِي رِوَايَة (للدارقطني) (4)
عَنْهَا قَالَت: " كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأتينا فَيَقُول: هَل عنْدكُمْ من غداء؟ فَإِن قُلْنَا:
نعم. تغدى، وَإِن قُلْنَا: لَا. قَالَ: إِنِّي صَائِم. وَإنَّهُ أَتَانَا ذَات يَوْم وَقد أهدي
لنا حيس [فَقلت: يَا رَسُول الله، قد أهدي لنا حيس] (5) وَإِنَّا قد خبأنا لَك.
قَالَ: (أما) (6) إِنِّي أَصبَحت صَائِما. فَأكل ". ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا إِسْنَاد
صَحِيح، وَهَذِه الرِّوَايَة مُطَابقَة لما أوردهُ الرَّافِعِيّ لأجل (لَفْظَة الْغَدَاء) (7)
فِيهَا، وَهِي مَوضِع الشَّاهِد، فَإِن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بهَا عَلَى أَن النِّيَّة فِي
التَّطَوُّع تُجزئ قبل الزَّوَال (حَيْثُ قَالَ: أَلا ترَى أَنه طلب الْغَدَاء أَي -
وَهُوَ بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة والدَّال الْمُهْملَة -: مَا يُؤْكَل قبل الزَّوَال) (8) وَمَا
يُؤْكَل بعده يُسمى عشَاء.
فَائِدَة: الحيس - بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، ثمَّ مثناة تَحت سَاكِنة، ثمَّ
سين مُهْملَة - هُوَ: التَّمْر وَالسمن والأقط. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى: " إِنِّي
__________
(1) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 191 رقم 2447) .
(2) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 391 - 392 رقم 3628) .
(3) من «صَحِيح ابْن حبَان» وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» : فحبسناه لَك.
(4) فِي «أ، ل» : الدَّارَقُطْنِيّ. والمثبت من «م» والْحَدِيث فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 176 - 177 رقم 21) .
(5) سقط من «أ، ل» والمثبت من «م» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(6) سقط من «أ، ل» والمثبت من «م» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(7) فِي «م» : لفظ أتغذا. والمثبت من «أ، ل» .
(8) من «م» .(5/657)
إِذن صَائِم ". قلت: صَحِيحَة رَوَاهَا مُسلم كَمَا سبق، وَفِي «سنَن
الدَّارَقُطْنِيّ» (1) ، وَالْبَيْهَقِيّ (2) ، من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
دخل عَلَيْهَا ذَات يَوْم فَقَالَ: هَل عنْدك شَيْء؟ قلت: لَا. قَالَ: (فَإِنِّي) (3)
إِذا أَصوم. قَالَت: وَدخل عليَّ [يَوْمًا] (4) آخر، فَقَالَ: أعندك شَيْء؟ قلت:
نعم. قَالَ: إِذا (أفطر) (5) وَإِن كنت قد فرضت الصَّوْم " قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ
وَالْبَيْهَقِيّ: (إِسْنَاد حسن صَحِيح) (6) . وَخَالف أَبُو حَاتِم (7) فَقَالَ - فِيمَا
حَكَاهُ ابْنه عَنهُ - أَنه مُنكر. وَكَانَ سَببه أَن فِي إسنادها سُلَيْمَان (8) بن قرم
الضَّبِّيّ الرافضي، خرج لَهُ خَ تَعْلِيقا، وم مُتَابعَة، وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَغَيره،
ووهاه ابْن معِين وَابْن حبَان، وَفِي إسنادها أَيْضا سماك بن حَرْب (9) ، وَهُوَ
من رجال مُسلم، وَهُوَ صَالح الحَدِيث، وَكَانَ شُعْبَة يُضعفهُ. وَفِي رِوَايَة
الدَّارَقُطْنِيّ (10) ، وَالْبَيْهَقِيّ (11) : " قرِّبيه وأقضي يَوْمًا مَكَانَهُ " قَالَا: وَهَذِه
الزِّيَادَة غير مَحْفُوظَة.
__________
(1) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 175 - 176 رقم 18) .
(2) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 275) .
(3) لَيست فِي مصدري التَّخْرِيج.
(4) فِي «أ، ل، م» : يَوْم. والمثبت من مصدري التَّخْرِيج.
(5) فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» : أطْعم.
(6) فِي «أ، ل» : إِسْنَاده. والمثبت من «م» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» : إِسْنَاد
صَحِيح.
(7) «علل ابْن أبي حَاتِم» (1 / 243) .
(8) تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (12 / 51 - 54) .
(9) تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (12 / 115 - 121) .
(10) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 177 رقم 22) .
(11) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 275) .(5/658)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من ذرعه الْقَيْء وَهُوَ صَائِم فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَمن
استقاء فليقض " (1) .
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» ، وَأَصْحَاب السّنَن
الْأَرْبَعَة، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من
حَدِيث أبي هُرَيْرَة (بِإِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات) (2) وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لأبي
دَاوُد (3) ، وَابْن حبَان (4) ، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ (5) : " من ذرعه الْقَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ
قَضَاء، وَمن استقاء عمدا فليقض " وَلَفظ ابْن مَاجَه (6) : " من ذرعه الْقَيْء
فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَمن استقاء فَعَلَيهِ الْقَضَاء ". وَلَفظ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه
الْكُبْرَى» (7) : " إِذا ذرع الصَّائِم الْقَيْء فَلَا إفطار عَلَيْهِ، وَإِذا تقيأ فَعَلَيهِ
الْقَضَاء " ثمَّ قَالَ: وَقفه عَطاء بن أبي رَبَاح عَلَى أبي هُرَيْرَة: " من قاء وَهُوَ
صَائِم فليفطر ". وَلَفظ الدَّارمِيّ (8) : " إِذا ذرع الصَّائِم الْقَيْء وَهُوَ لَا يُريدهُ
فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَإِذا استقاء فَعَلَيهِ الْقَضَاء ". وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِأَلْفَاظ
(مِنْهَا) (9) : " من استقاء عمدا فَعَلَيهِ الْقَضَاء، وَمن ذرعه الْقَيْء فَلَا قَضَاء
عَلَيْهِ ". وَمِنْهَا (10) : " إِذا ذرع الصَّائِم الْقَيْء فَلَا فطر عَلَيْهِ وَلَا قَضَاء
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 191) .
(2) من «م» .
(3) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 156 - 157 رقم 2372) .
(4) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 284 - 285 رقم 3518) .
(5) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 98 رقم 720) .
(6) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 536 رقم 1676) .
(7) «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» (2 / 215 رقم 3130، 3131) .
(8) «سنَن الدَّارمِيّ» (2 / 24 - 25 رقم 1729) .
(9) من «م» والْحَدِيث فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 184 رقم 20) .
(10) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 184 - 185 رقم 21) .(5/659)
(عَلَيْهِ) (1) ، وَإِذا تقيأ فَعَلَيهِ الْقَضَاء " وَمِنْهَا (2) : " من ذرعه الْقَيْء فليتم
(عَلَى) (3) صَوْمه وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَمن قاء مُتَعَمدا فليقض " قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ
(عقب) (4) الرِّوَايَة الأولَى: رُوَاته كلهم ثِقَات. وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِث: (عبد
الله) (5) بن سعيد بن أبي سعيد قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَقه: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قلت: بل تَرَكُوهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» (6» : هَذَا حَدِيث حسن
غَرِيب لَا نعرفه من حَدِيث هِشَام، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا
إِلَّا من حَدِيث عِيسَى بن يُونُس (و) (7) قَالَ البُخَارِيّ: لَا أرَاهُ مَحْفُوظًا.
قَالَ التِّرْمِذِيّ (8) : وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من غير وَجه عَن أبي هُرَيْرَة
مَرْفُوعا، وَلَا يَصح إِسْنَاده. وَقَالَ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» (9) : قَالَ عِيسَى بن
يُونُس - يَعْنِي الرَّاوِي عَن هِشَام بن حسان -: زعم أهل الْبَصْرَة أَن هشاماً
أوهم فِيهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (10) : هَذَا (حَدِيث) (11) تفرد بِهِ هِشَام
ابْن حسان القردوسي، وَقد أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَبَعض الْحفاظ
لَا يرَاهُ مَحْفُوظًا، قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: لَيْسَ من
ذَا شَيْء. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ من وَجه آخر ضَعِيف عَن أبي هُرَيْرَة
مَرْفُوعا، وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة " أَنه قَالَ فِي الْقَيْء: لَا يفْطر " قَالَ: وَرُوِيَ
__________
(1) سقط من «م» . والمثبت من «أ، ل» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(2) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 185 رقم 22) .
(3) سقط من «م» . والمثبت من «أ، ل» .
(4) فِي «م» عقيب. والمثبت من «أ، ل» .
(5) فِي «م» : عبيد الله. وَهُوَ تَحْرِيف، والمثبت من «أ، ل» وَعبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (15 / 31 - 35) .
(6) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 99) .
(7) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «جَامع التِّرْمِذِيّ» .
(8) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 99» .
(9) «سنَن الدَّارمِيّ» (2 / 25) .
(10) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 219 - 220) .
(11) لَيست فِي «م» و «السّنَن الْكُبْرَى» .(5/660)
فِي ذَلِك عَن عَلّي. ثمَّ سَاقه من حَدِيث الْحَارِث عَنهُ، قَالَ: " إِذا تقيأ وَهُوَ
صَائِم فَعَلَيهِ الْقَضَاء (و) (1) إِذا ذرعه الْقَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاء ". قلت: وَقد
أسلفنا عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ: رُوَاته كلهم ثِقَات. وَتَابعه عَلَى ذَلِك عبد
الْحق فِي «أَحْكَامه» (2) ، وَصَاحب «الْإِلْمَام» (3) وَقد صَححهُ ابْن حبَان كَمَا
سلف، واستدركه الْحَاكِم (4) من حَدِيث حَفْص بن غياث، عَن هِشَام بِهِ
بِلَفْظ: " إِذا استقاء الصَّائِم أفطر، وَإِذا ذرعه الْقَيْء لم يفْطر " ثمَّ قَالَ: تَابعه
عِيسَى بن يُونُس، عَن هِشَام، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا:
" من ذرعه الْقَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء، وَمن استقاء فليقض " ثمَّ قَالَ: هَذَا
حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقد حسنه من الْمُتَأَخِّرين الْمُنْذِرِيّ
فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الْمُهَذّب» ، وَالنَّوَوِيّ فِي «شَرحه» (5) وَقَالَ: إِسْنَاده
إِسْنَاد الصَّحِيح، وَلم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد فَهُوَ عِنْده حجَّة إِمَّا صَحِيح أَو حسن.
وَله شَوَاهِد، مِنْهَا: حَدِيث ثَوْبَان وَأبي الدَّرْدَاء، كَمَا ستعلمه عَلَى الإثر.
قَالَ (6) : وَكَذَا نَص عَلَى حسنه غير وَاحِد من الْحفاظ. قلت: وَقَول
التِّرْمِذِيّ بعد تحسينه " لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث (عِيسَى) (7) بن يُونُس " غير
قَادِح فِيهِ، (فَإِنَّهُ (8) ثِقَة كَمَا شهد لَهُ بذلك ابْن معِين وَابْن الْمَدِينِيّ وَأَبُو
حَاتِم وَأَبُو زرْعَة، وَاحْتج بِهِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَهُوَ أحد الْحفاظ، وَكَذَا
قَول الْبَيْهَقِيّ " أَنه حَدِيث تفرد بِهِ هِشَام بن حسان (9) " غير قَادِح فِيهِ أَيْضا،
__________
(1) سقط من «أ، ل» والمثبت من «م» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(2) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 221) .
(3) «الْإِلْمَام» (ص 244) .
(4) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 426 - 427) .
(5) «الْمَجْمُوع» (6 / 323 - 324) .
(6) «الْمَجْمُوع» (6 / 325) .
(7) فِي «أ» : يُونُس. وَكتب فَوْقهَا «لَعَلَّه عِيسَى» . والمثبت من «م، ل» وَعِيسَى بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (23 / 62 - 76) .
(8) سقط من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(9) تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (30 / 181 - 193) .(5/661)
لِأَنَّهُ ثِقَة حَافظ، وَزِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة عِنْد الْجُمْهُور من أهل الحَدِيث وَالْفِقْه
وَالْأُصُول، قَالَ التِّرْمِذِيّ (1) : وَالْعَمَل عَلَى هَذَا الحَدِيث عِنْد أهل الْعلم
أَن الصَّائِم إِذا ذرعه الْقَيْء لَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَإِذا استقاء عمدا قَضَى.
قَالَ الرَّافِعِيّ (2) : وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر مَوْقُوفا. هُوَ كَمَا قَالَ؛
فقد رَوَاهُ مَالك (3) ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، أَنه قَالَ: «من استقاء وَهُوَ
صَائِم فَعَلَيهِ الْقَضَاء، وَمن ذرعه الْقَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاء " وَرَوَاهُ
الشَّافِعِي (4) من طَرِيقه أَيْضا.
فَائِدَة: ذرعه - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة -: غَلبه. واستقاء: طلب الْقَيْء.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاء فَأفْطر - أَي: استقاء - قَالَ
ثَوْبَان: صدق أَنا صببت لَهُ الْوضُوء " (5) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» (6) ، وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه) (7) ،
وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» (8) ، وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه الْكُبْرَى» (9) ، وَابْن
الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» (10) ، وَالدَّارَقُطْنِيّ (11) وَالْبَيْهَقِيّ (12) فِي «سُنَنهمَا» ،
__________
(1) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 99) .
(2) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 191) .
(3) «الْمُوَطَّأ» (1 / 252 رقم 47) .
(4) «الْأُم» (2 / 100) .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 191 - 192) .
(6) «الْمسند» (6 / 443) .
(7) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 157 - 158 رقم 2373) .
(8) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (1 / 142 - 146 رقم 87) .
(9) «السّنَن الْكُبْرَى» (2 / 214 - 215 رقم 3123 - 3127) .
(10) «الْمُنْتَقَى» (24 رقم 8) .
(11) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (1 / 158 - 159 رقم 36 - 39) .
(12) «السّنَن الْكُبْرَى» (1 / 144، 4 / 220) .(5/662)
وَالطَّبَرَانِيّ (1) ، وَابْن مَنْدَه، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (2) ، وَابْن حبَان فِي
«صَحِيحه» (3) من حَدِيث معدان بن أبي طَلْحَة، عَن أبي الدَّرْدَاء " أَن
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاء فَأفْطر، قَالَ معدان: فَلَقِيت ثَوْبَان مولَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
فِي مَسْجِد دمشق فَقلت لَهُ: إِن أَبَا الدَّرْدَاء أَخْبرنِي أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاء
فَأفْطر، فَقَالَ: صدق، أَنا صببت عَلَيْهِ وضوءه " قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (4)
فِي هَذَا الْبَاب: هَذَا حَدِيث مُخْتَلف فِي إِسْنَاده. قَالَ: فَإِن صَحَّ فَهُوَ
مَحْمُول عَلَى الْقَيْء عَامِدًا، وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ صَائِما تَطَوّعا. قَالَ: وَقد رُوِيَ
من وَجه آخر عَن ثَوْبَان. . فَذكره بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ فِي أَوَائِل «سنَنه» (5) : إِسْنَاد
هَذَا الحَدِيث مُضْطَرب، وَاخْتلفُوا فِيهِ اخْتِلَافا شَدِيدا. وَكَذَا قَالَ فِي
«خلافياته» أَن إِسْنَاده مُضْطَرب، وَأَن فِيهِ يعِيش بن الْوَلِيد، وَأَن بعض
الْعلمَاء تكلم فِيهِ، وَأَنه لَيْسَ لَهُ ذكر فِي الصَّحِيح قَالَ: وبمثل هَذَا لَا تقوم
الْحجَّة. هَذَا كَلَام الْبَيْهَقِيّ، وَخَالفهُ فِي ذَلِك جماعات، قَالَ الْحَاكِم:
هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه:
إِسْنَاده مُتَّصِل صَحِيح عَلَى رسم أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. قَالَ: وَتَركه الشَّيْخَانِ
لاختلافٍ فِي إِسْنَاده. وَصَححهُ ابْن حبَان كَمَا سلف وَسكت التِّرْمِذِيّ عَنهُ
فِي هَذَا الْبَاب (6) . وَقَالَ فِي كتاب الطَّهَارَة (7) : جَوَّد حُسَيْن الْمعلم هَذَا
__________
(1) «المعجم الْأَوْسَط» (4 / 99 رقم 3702) ، وَفِي «المعجم الْكَبِير» (2 / 100 رقم 1440) حَدِيث ثَوْبَان «رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاء فَأفْطر» .
(2) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 426) .
(3) «صَحِيح ابْن حبَان» (3 / 377 رقم 1097) .
(4) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 220) .
(5) «السّنَن الْكُبْرَى» (1 / 144) .
(6) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 99) .
(7) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (1 / 146) .(5/663)
الحَدِيث (و) (1) هُوَ أصح شَيْء فِي الْبَاب. وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح
الْمُهَذّب» (2) عَنهُ أَنه قَالَ فِيهِ: إِنَّه حسن صَحِيح. وَلم أره كَذَلِك فِيهِ،
وَالَّذِي رَأَيْته فِيهِ مَا سلف، وَنقل الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» عَن
الْأَثْرَم، أَنه قَالَ لِأَحْمَد: قد اضْطَرَبُوا فِي هَذَا الحَدِيث. فَقَالَ: حُسَيْن
الْمعلم يجوده. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: وَالِاخْتِلَاف الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ
أَن التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ من حَدِيث حُسَيْن الْمعلم، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن
عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، عَن يعِيش بن الْوَلِيد المَخْزُومِي، عَن
أَبِيه، عَن معدان، عَن أبي الدَّرْدَاء (3) ثمَّ قَالَ: قد جود حُسَيْن الْمعلم هَذَا
الحَدِيث. قَالَ: وَرَوَى معمر هَذَا الحَدِيث، عَن يَحْيَى بن أبي كثير فَأَخْطَأَ
فِيهِ فَقَالَ: عَن يعِيش بن الْوَلِيد، عَن خَالِد بن معدان (عَن أبي الدَّرْدَاء وَلم
يذكر فِيهِ الْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ: عَن خَالِد بن معدان، وَإِنَّمَا هُوَ معدان) (4) بن
أبي طَلْحَة. وَهَذَا مَعْنَى قَول ابْن حزم فِي «محلاه» (5) : هَذَا تَدْلِيس لم
يسمعهُ يَحْيَى (من) (6) يعِيش. وَرَوَاهُ ابْن الْجَارُود وَالدَّارَقُطْنِيّ كَرِوَايَة
التِّرْمِذِيّ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، وَفِي رِوَايَته عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن
الْأَوْزَاعِيّ أَن يعِيش بن الْوَلِيد حَدثهُ أَن أَبَاهُ حَدثهُ، قَالَ: حَدثنِي معدان بن
أبي طَلْحَة، عَن أبي الدَّرْدَاء. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد
__________
(1) سقط من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(2) «الْمَجْمُوع» (6 / 325) .
(3) زَاد فِي «أ» : وَلم يذكر فِيهِ الْأَوْزَاعِيّ. وَهِي خطأ.
(4) سقط من «م» والمثبت من «أ، ل» و «جَامع التِّرْمِذِيّ» (1 / 146) .
(5) «الْمُحَلَّى» (1 / 258) .
(6) فِي «أ» : بن. والمثبت من «ل، م» و «الْمُحَلَّى» .(5/664)
الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، عَن
خَالِد بن معدان، عَن أبي الدَّرْدَاء، قَالَ الشَّيْخ: وَقيل أَيْضا: عَن يَحْيَى،
عَن رجل، عَن يعِيش. وَقيل: عَن يَحْيَى، حدث الْوَلِيد (بن) (1) هِشَام،
عَن معدان (وَقيل:) (2) بِإِسْقَاط وَالِد يعِيش مَعَ التَّصْرِيح بِالتَّحْدِيثِ عَن
معدان، ذكره النَّسَائِيّ، وَقيل: عَن هِشَام الدستوَائي، عَن يَحْيَى بِإِسْقَاط
وَالِد يعِيش، ذكره النَّسَائِيّ أَيْضا. ثمَّ شرع الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين يُجيب عَن هَذَا
الِاخْتِلَاف فَقَالَ: أما رِوَايَة من رَوَى عَن يَحْيَى، عَن رجل، عَن يعِيش
فَغير ضارة؛ لِأَن هَذَا الرجل الْمُبْهم فِي هَذِه الرِّوَايَة قد تبين فِي غَيرهَا أَنه
الْأَوْزَاعِيّ، وَكَذَلِكَ (من) (3) قَالَ عَن يَحْيَى: حَدِيث الْوَلِيد بن هِشَام لَا
يضر أَيْضا؛ لِأَنَّهَا تتفق مَعَ الْأُخْرَى بِأَن يكون يَحْيَى ذكرهَا مُرْسلَة بترك من
حَدثهُ وَهُوَ الْأَوْزَاعِيّ عَن يعِيش، ثمَّ بَين مرّة أُخْرَى من حَدثهُ، وَكَذَلِكَ مَا
زعم فِي الِاخْتِلَاف فِي معدان بن طَلْحَة ومعدان بن أبي طَلْحَة لَا يضر؛
لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا قَول صَحِيح. قَالَ: وَفِي الحَدِيث عِلّة أُخْرَى، وَهِي أَن ابْن
حزم (4) قَالَ فِي يعِيش بن الْوَلِيد وَأَبِيهِ: إنَّهُمَا ليسَا (مشهورين) (5) .
وَالْجَوَاب (عَنْهَا) (6) أَن الْعجلِيّ (7) قَالَ فِي يعِيش: هُوَ شَامي ثِقَة. وَقد
صَححهُ ابْن مَنْدَه.
__________
(1) فِي «أ، ل» : عَن. خطأ، والمثبت من «م» .
(2) سَقَطت من «أ، ل» ، والمثبت من «م» .
(3) سَقَطت من «أ، ل» ، والمثبت من «م» .
(4) «الْمُحَلَّى» (1 / 258) .
(5) فِي «أ، ل» : بمشهورين والمثبت من «م» و «الْمُحَلَّى» .
(6) فِي «ل» : عَنْهُمَا. والمثبت من «أ، م» .
(7) «ثِقَات الْعجلِيّ» (485 رقم 1872) .(5/665)
قلت: وَابْن حبَان وَالْحَاكِم كَمَا سلف، وَقَالَ عبد الْحق فِي الرَّد
عَلَى «الْمُحَلَّى» : هَذَا الَّذِي قَالَه ابْن حزم خطأ بَين؛ فالوليد بن هِشَام قَالَ
فِيهِ ابْن أبي حَاتِم (1) : رَوَى عَن (أم) (2) الدَّرْدَاء، وَعبد الله بن محيريز،
ومعدان (بن) (3) طَلْحَة. وَرَوَى عَنهُ الْأَوْزَاعِيّ، وَابْنه يعِيش بن الْوَلِيد،
وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَمُحَمّد بن عمر الطَّائِي. سَمِعت أبي يَقُول ذَلِك، ذكره
أبي عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، عَن يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ: الْوَلِيد بن
[هِشَام] (4) ثِقَة. فَانْظُر قَوْله فِي هَذَا أَنه غير مَشْهُور، وَقد خرج عَنهُ مُسلم
فِي «صَحِيحه» وَلم يذكرهُ الْحَاكِم فِيمَن عيب عَلَيْهِ التَّخْرِيج عَنهُ (فقد) (5)
رَوَى عَنهُ الْأَئِمَّة وَوَثَّقَهُ إمامان: يَحْيَى بن معِين، وَمُسلم بن الْحجَّاج،
وَيَقُول فِيهِ: لَيْسَ بِمَشْهُور! وَأما ابْنه يعِيش فروَى عَنهُ يَحْيَى بن أبي كثير
وَالْأَوْزَاعِيّ (وَعِكْرِمَة وَإِسْمَاعِيل بن رَافع وَمن رَوَى عَنهُ الْأَوْزَاعِيّ) (6)
وَيَحْيَى بن أبي كثير كَيفَ يكون غير مَشْهُور؟ !
الحَدِيث الثَّالِث عشر
رُوِيَ " أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اكتحل فِي رَمَضَان وَهُوَ صَائِم " (7) .
__________
(1) «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» (9 / 20 رقم 84) .
(2) فِي «م» أبي. والمثبت من «أ، ل» و «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» .
(3) فِي «م» بن أبي. والمثبت من «أ، ل» و «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» .
(4) فِي «أ، ل، م» : مُسلم. خطأ، والمثبت من «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» .
(5) فِي «أ، ل» : عله. والمثبت من «م» .
(6) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(7) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 194) .(5/666)
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق:
(أَحدهَا) (1) من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " اكتحل النَّبِي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهُوَ صَائِم ". رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» (2) من رِوَايَة بَقِيَّة بن الْوَلِيد، نَا
الزبيدِيّ، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) (3)
مَرْفُوعا كَذَلِك. والزبيدي هَذَا هُوَ سعيد بن أبي سعيد كَمَا نَص عَلَيْهِ ابْن
عدي (4) فَإِنَّهُ ذكره فِي تَرْجَمته، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ (5) ، وَقَالا: إِنَّه مَجْهُول. لَكنا
أسلفنا فِي الحَدِيث الرَّابِع من بَاب بَيَان النَّجَاسَات أَن ابْن حبَان والخطيب
وثقاه، وَصرح بِأَنَّهُ سعيد بن أبي سعيد أَيْضا من الْمُتَأَخِّرين النَّوَوِيّ فِي
«شرح الْمُهَذّب» (6) فَقَالَ: رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد ضَعِيف من رِوَايَة بَقِيَّة،
عَن سعيد بن أبي سعيد الزبيدِيّ، عَن شيخ بَقِيَّة، عَن هِشَام بِهِ. ثمَّ ذكر
كَلَام الْبَيْهَقِيّ فِي سعيد ثمَّ قَالَ (7) : وَقد اتّفق الْحفاظ عَلَى أَن رِوَايَة بَقِيَّة
عَن المجهولين مَرْدُودَة، وَاخْتلفُوا فِي رِوَايَته عَن المعروفين، فَلَا يحْتَج
بحَديثه هَذَا بِلَا خلاف.
قلت: قد وَثَّقَهُ الْخَطِيب وَابْن حبَان فالجهالة زائلة عَنهُ إِذن،
وَخَالف الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي (8) فَقَالَ: الزبيدِيّ هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن
الْوَلِيد، وَهُوَ ثِقَة من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» . وَلم يذكر للْأولِ تَرْجَمَة فِي
كِتَابه، وَالْقلب إِلَى مَا قَالَه ابْن عدي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ، أَنه إِلَى الأول أميل،
وَالله - تَعَالَى - أعلم.
__________
(1) فِي «أ، ل» : إِحْدَاهَا. والمثبت من «م» .
(2) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 536 رقم 1678) .
(3) من «م» .
(4) «الْكَامِل» (4 / 463 - 464 رقم 830) .
(5) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 262) .
(6) «الْمَجْمُوع» (6 / 362) .
(7) «الْمَجْمُوع» (6 / 362) .
(8) «التَّهْذِيب» (26 / 586 - 591) .(5/667)
(الطَّرِيق الثَّانِي) (1) : من (طَرِيق) (2) مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي رَافع
مولَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن أَبِيه، عَن جده " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يكتحل
بالإثمد وَهُوَ صَائِم ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (3) وَإِسْنَاده ضَعِيف؛ بِسَبَب
مُحَمَّد بن [عبيد الله بن] (4) أبي رَافع هَذَا قَالَ عبد الرَّحْمَن (5) : سَأَلت أبي
عَنهُ (فَقَالَ) (6) : ضَعِيف الحَدِيث، مُنكر الحَدِيث جدّاً، ذَاهِب. وَقَالَ
(7) : مُنكر الحَدِيث. وألان الْبَيْهَقِيّ القَوْل فِيهِ، فَقَالَ فِي «سنَنه» : إِنَّه
لَيْسَ بِالْقَوِيّ. (و) (8) أما شَيْخه الْحَاكِم فَإِنَّهُ وَثَّقَهُ وَأخرج لَهُ فِي
«مُسْتَدْركه» (9) فِي مَنَاقِب الْحسن وَالْحُسَيْن.
(الطَّرِيق الثَّالِث) (10) : من حَدِيث نَافِع، عَن ابْن عمر، قَالَ: " خرج
علينا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَعَيناهُ مملوءتان من الْكحل من الإثمد، وَذَلِكَ فِي
رَمَضَان، كحلته أم سَلمَة، وَكَانَ ينْهَى عَن كل كحل لَهُ طعم ". ذكره ابْن
طَاهِر فِي «تَذكرته» (11) وَأعله بِسَعِيد بن زيد، وَقَالَ: هُوَ أَخُو حَمَّاد بن
زيد. وَذكره النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» (12) بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور إِلَى قَوْله:
«فِي رَمَضَان» وَزِيَادَة: «وَهُوَ صَائِم» وَلم يعزه لأحد، ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده
__________
(1) فِي «ل» : ثَانِيهَا. والمثبت من «أ، م» .
(2) فِي «م» حَدِيث. والمثبت من «أ، ل» .
(3) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 262) .
(4) سَقَطت من «أ، ل، م» والسياق يقتضيها.
(5) «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» (8 / 2) .
(6) فِي «أ، ل» : وَإِسْنَاده. والمثبت من «م» و «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» .
(7) «التَّارِيخ الْكَبِير» (1 / 171 رقم 512) .
(8) من «م» .
(9) «الْمُسْتَدْرك» (3 / 165) .
(10) فِي «ل» : ثَالِثهَا. والمثبت من «أ، م» .
(11) «تذكرة الْحفاظ» (ص 186) .
(12) «الْمَجْمُوع» (6 / 362) .(5/668)
من اخْتلف فِي توثيقه. وَفِي التِّرْمِذِيّ (1) من حَدِيث أنس مَرْفُوعا فِي الْإِذْن
فِيهِ لمن اشتكت عينه، ثمَّ قَالَ: لَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيّ، وَلَا يَصح عَن النَّبِي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي هَذَا الْبَاب شَيْء. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ (2) : رُوِيَ عَن أنس مَرْفُوعا بِإِسْنَاد
ضَعِيف بِمرَّة أَنه لم ير بِهِ بَأْسا. قلت: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» (3) من
فعل أنس بِإِسْنَاد جيد.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ احْتجم وَهُوَ صَائِم محرم فِي حجَّة الْوَدَاع " (4) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ (5) من حَدِيث أَيُّوب، عَن
عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ احْتجم وَهُوَ
محرم، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد (6) من هَذَا الْوَجْه بِدُونِ
(الْقطعَة) (7) الأولَى، وَكَذَا التِّرْمِذِيّ (8) وَلَفظه: " وَهُوَ محرم صَائِم " وَكَذَا
النَّسَائِيّ فِي «سنَنه الْكُبْرَى» بِلَفْظ البُخَارِيّ (9) وبلفظ أبي دَاوُد (10) ، وَفِي
السّنَن الْأَرْبَعَة (11) من حَدِيث يزِيد بن أبي (زِيَاد) (12) ، عَن مقسم عَن ابْن
__________
(1) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 105 رقم 726) .
(2) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 262) .
(3) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 156 رقم 2370) .
(4) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 195) .
(5) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 205 رقم 1938) .
(6) «سنَن أبي دَاوُد (3 / 154 رقم 2364) .
(7) فِي «م» : اللَّفْظَة. والمثبت من «أ، ل» .
(8) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 146 رقم 775) .
(9) «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» (2 / 233 رقم 3219) .
(10) «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» (2 / 233 رقم 3215 - 3218)
(11) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 155 رقم 2365) و «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 147 رقم 777) و «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» (2 / 234 رقم 3225) و «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 537 رقم 1682) .
(12) فِي «أ، ل» : الزِّنَاد. وَهُوَ تَحْرِيف، والمثبت من «م» ومصادر التَّخْرِيج.(5/669)
عَبَّاس " أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ احْتجم وَهُوَ صَائِم محرم " وَاللَّفْظ لَهُم
خلا التِّرْمِذِيّ، فَإِن لَفظه: " احْتجم فِيمَا بَين مَكَّة وَالْمَدينَة وَهُوَ محرم
صَائِم " وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه الْكُبْرَى» (1) من حَدِيث (شُعْبَة) (2) عَن
الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: " احْتجم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهُوَ
صَائِم ". وَحَكَى أَحْمد، عَن شُعْبَة أَنه قَالَ: لم يسمع الحكم حَدِيث مقسم
فِي الْحجامَة فِي الصّيام. وَقَالَ النَّسَائِيّ (3) : يزِيد بن أبي زِيَاد لَا يحْتَج
بحَديثه، وَالْحكم [لم] (4) يسمعهُ من مقسم. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ (5) أَيْضا من
حَدِيث خصيف، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: " احْتجم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
وَهُوَ صَائِم محرم ". وَرَوَاهُ (6) أَيْضا من حَدِيث حبيب بن الشَّهِيد، عَن
مَيْمُون بن مهْرَان، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ ثمَّ قَالَ: هَذَا مُنكر، وَلَا أعلم رَوَاهُ
عَن حبيب غير مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَلَعَلَّه (أَرَادَ) (7) أَنه عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام تزوج مَيْمُونَة. وَقَالَ مهنا: سَأَلت أَحْمد عَنهُ فَقَالَ: لَيْسَ
بِصَحِيح، قد أنكرهُ يَحْيَى بن سعيد (8) الْأنْصَارِيّ، إِنَّمَا كَانَت أَحَادِيث
(مَيْمُون) (9) ، عَن ابْن عَبَّاس خَمْسَة عشر حَدِيثا. وَقَالَ الْأَثْرَم: سَمِعت أَبَا
__________
(1) «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» (2 / 234 رقم 3224) .
(2) فِي «أ، ل» : شُعَيْب. وَهُوَ تَحْرِيف، والمثبت من «م» ، و «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» وَشعْبَة هُوَ ابْن الْحجَّاج تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (12 / 479 - 495) .
(3) «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» (2 / 135) .
(4) فِي «أ، ل، م» : فَلم. والمثبت من «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» .
(5) «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» (2 / 235 رقم 3228) .
(6) «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» (2 / 235 - 236 رقم 3231) .
(7) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» .
(8) زَاد فِي «م» : عَلَى. وَهِي مقحمة.
(9) فِي «م» مَيْمُونَة. خطأ، والمثبت من «أ، ل» .(5/670)
عبد الله ذكر هَذَا الحَدِيث وَضَعفه. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ (1) أَيْضا من حَدِيث
(قبيصَة) (2) ، عَن الثَّوْريّ، عَن حَمَّاد، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس
" أَنه لله احْتجم وَهُوَ صَائِم ". ثمَّ قَالَ: هَذَا خطأ لَا نعلم أَن أحدا رَوَاهُ عَن
سُفْيَان، غير قبيصَة، وَقبيصَة كثير الْخَطَأ، وَقد رَوَاهُ أَبُو هَاشم عَن حَمَّاد
مُرْسلا. وَقَالَ مهنا: سَأَلت أَحْمد عَنهُ فَقَالَ: هُوَ خطأ من قبل قبيصَة،
وَسَأَلت يَحْيَى، عَن قبيصَة بن عقبَة، فَقَالَ: صَدُوق، وَهَذَا الحَدِيث خطأ
من قبله، وَأَصْحَاب ابْن عَبَّاس لَا يذكرُونَ " صَائِما ". وَأما حَدِيث: " أفطر
الحاجم والمحجوم " فطرقه ابْن مَنْدَه عَن ثَمَانِيَة وَعشْرين من الصَّحَابَة.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد (3) ، وَالنَّسَائِيّ (4) ، وَابْن مَاجَه (5) من حَدِيث ثَوْبَان،
وَصَححهُ ابْن حبَان (6) وَالْحَاكِم (7) ، وَقَالَ: (8) عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ
أَحْمد: إِنَّه أصح مَا رُوِيَ فِي [هَذَا] (9) الْبَاب. وَصَححهُ ابْن حبَان (10) من
حَدِيث شَدَّاد، وَقَالَ الْحَاكِم: قَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي: إِن إِسْنَاده
صَحِيح تقوم بِهِ الْحجَّة. وصححاه أَيْضا الدَّارمِيّ (11) وَأحمد (12) ،
__________
(1) «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» (2 / 235 رقم 3229) .
(2) فِي «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» قُتَيْبَة. وَهُوَ تَحْرِيف، وَانْظُر «التُّحْفَة» (4 / 411 - 412 رقم 5500) .
(3) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 152 - 154 رقم 2359، 2362، 2363) .
(4) «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» (2 / 216 - 217 رقم 3134 - 3137) .
(5) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 537 رقم 1680) .
(6) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 301 رقم 3532) .
(7) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 427) .
(8) زَاد فِي «م» : إِنَّه.
(9) من «م» و «الْمُسْتَدْرك»
(10) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 302 - 304 رقم 3533، 3534) .
(11) «سنَن الدَّارمِيّ» (2 / 25 رقم 1730) .
(12) «الْمسند» (4 / 123، 124) .(5/671)
وَصَححهُ ابْن حبَان (1) وَالْحَاكِم (2) أَيْضا من حَدِيث رَافع بن خديج، قَالَ
الْحَاكِم: هُوَ عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لَا أعلم فِي الْبَاب
أصح مِنْهُ. وَأجَاب الشَّافِعِي والخطابي وَالْبَيْهَقِيّ وَسَائِر أَصْحَابنَا أَنَّهَا
مَنْسُوخَة بِحَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور أَولا وَمَا أشبهه من الْأَحَادِيث. بَيَانه
أَن الشَّافِعِي (3) ، وَالْحَاكِم (4) ، وَابْن حبَان (5) ، وَالْبَيْهَقِيّ (6) رووا بإسنادهم
الصَّحِيح عَن شَدَّاد بن أَوْس قَالَ: " كُنَّا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زمَان الْفَتْح فَرَأَى
رجلا يحتجم لثمان عشرَة خلت من رَمَضَان، فَقَالَ وَهُوَ آخذ بيَدي: أفطر
الحاجم والمحجوم " وَثَبت كَمَا سلف من حَدِيث ابْن عَبَّاس " أَنه لله
احْتجم وَهُوَ محرم صَائِم " قَالَ الشَّافِعِي (7) : وَابْن عَبَّاس إِنَّمَا صحب النَّبِي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ محرما فِي حجَّة الْوَدَاع سنة عشر من الْهِجْرَة، وَلم يَصْحَبهُ محرما قبل
ذَلِك، وَكَانَ الْفَتْح سنة ثَمَان بِلَا شكّ، فَحَدِيث ابْن عَبَّاس بعد حَدِيث
شَدَّاد بِسنتَيْنِ وَزِيَادَة. قَالَ: فَحَدِيث ابْن عَبَّاس نَاسخ (8) قَالَ الْبَيْهَقِيّ (9) :
وَيدل عَلَى النّسخ أَيْضا حَدِيث أنس قَالَ: " (أول) (10) مَا كرهت الْحجامَة
للصَّائِم؛ أَن جَعْفَر بن أبي طَالب احْتجم وَهُوَ صَائِم، فَمر بِهِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
فَقَالَ: أفطر هَذَانِ. ثمَّ رخص النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد للصَّائِم فِي الْحجامَة، وَكَانَ
(أنس) (11) يحتجم وَهُوَ صَائِم ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (12) ، وَقَالَ: رُوَاته كلهم
__________
(1) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 306 - 307 رقم 3535) .
(2) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 428) .
(3) «مُسْند الشَّافِعِي» (ص 179) .
(4) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 428) .
(5) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 302 رقم 3533) .
(6) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 265) .
(7) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 268) .
(8) زَاد فِي «أ، ل» : كَمَا.
(9) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 268) .
(10) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» و «السّنَن الْكُبْرَى» .
(11) فِي «أ، ل» : النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والمثبت من «م» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» و «السّنَن الْكُبْرَى» .
(12) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 182 رقم 7) .(5/672)
ثِقَات، وَلَا أعلم لَهُ عِلّة، وَحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: " رخص
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي الْقبْلَة للصَّائِم والحجامة ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (1) من
طَرِيقين، وَقَالَ: كل مِنْهُمَا إِسْنَاده كلهم ثِقَات. قَالَ الْبَيْهَقِيّ (2) : وغالب مَا
يسْتَعْمل الترخيص بعد النَّهْي. وَنقل الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (3) عَن ابْن
خُزَيْمَة أَنه قَالَ (4) : ثبتَتْ الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنه قَالَ: " أفطر
الحاجم والمحجوم " فَقَالَ (بعض) (5) من خَالَفنَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: إِن
الْحجامَة لَا تفطر الصَّائِم. وَاحْتج بِأَنَّهُ لله (6) احْتجم وَهُوَ صَائِم محرم (7) ،
وَهَذَا الْخَبَر غير دَال عَلَى أَن الْحجامَة لَا تفطر الصَّائِم؛ لِأَنَّهُ لله إِنَّمَا
احْتجم وَهُوَ صَائِم محرم فِي سفر لَا فِي حضر؛ لِأَنَّهُ لم يكن قطّ محرما
مُقيما بِبَلَدِهِ إِنَّمَا كَانَ محرما وَهُوَ مُسَافر، وَالْمُسَافر وَإِن كَانَ نَاوِيا للصَّوْم
وَقد مَضَى عَلَيْهِ بعض النَّهَار وَهُوَ (صَائِم) (8) لَهُ الْأكل وَالشرب، وَإِن كَانَ
الْأكل وَالشرب يفطرانه، لَا كَمَا توهم بعض الْعلمَاء أَن الْمُسَافِر إِذا دخل
فِي الصَّوْم لم يكن لَهُ أَن يفْطر إِلَى أَن يتم صَوْمه ذَلِك الْيَوْم الَّذِي دخل
فِيهِ، فَأَما إِذا كَانَ لَهُ أَن يَأْكُل وَيشْرب [وَقد دخل] (9) فِي الصَّوْم ونواه
وَمَضَى بعض النَّهَار وَهُوَ صَائِم جَازَ لَهُ أَن يحتجم وَهُوَ مُسَافر فِي بعض
نَهَار الصَّوْم، وَإِن كَانَت الْحجامَة (مفطرة) (10) . وَقد أجَاب بِهَذَا الْجَواب
__________
(1) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 182 - 183 رقم 10، 15) .
(2) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 268) .
(3) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 429) .
(4) «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» (3 / 227 - 228) .
(5) سَقَطت من «ل» . والمثبت من «أ، م» .
(6) زَاد فِي «م» : إِنَّمَا.
(7) زَاد فِي «م» : فِي سفر.
(8) فِي «الْمُسْتَدْرك» : مُبَاح.
(9) فِي «أ، ل، م» : وَيدخل. والمثبت من «الْمُسْتَدْرك» .
(10) فِي «م» : تفطر. وَفِي «الْمُسْتَدْرك» : تفطره.(5/673)
أَيْضا أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» (1) .
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا عَلَى أَن الْحجامَة غير
مفطرة، و (فِيهِ الحدس) (2) الَّذِي أسلفناه عَن ابْن خُزَيْمَة أَنه كَانَ مُسَافِرًا.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " ثَلَاث لَا يفطرن الصَّائِم: الْقَيْء، والحجامة،
والاحتلام " (3) .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (4) ، وَالْبَيْهَقِيّ (5) من حَدِيث
عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي
سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا كَذَلِك سَوَاء. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد (6) من حَدِيث زيد بن
أسلم، عَن رجل من أَصْحَابه، عَن رجل من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " لَا
يفْطر من (قاء) (7) وَلَا من احْتَلَمَ وَلَا من احْتجم ". وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (8) من
حَدِيث هِشَام بن (سعد) (9) ، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن
أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: " ثَلَاثَة لَا يفطرن الصَّائِم: الْقَيْء،
__________
(1) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 306 - 307) .
(2) كَذَا فِي «أ، ل، م» وَلَعَلَّ الصَّوَاب: فِي الحَدِيث.
(3) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 195) .
(4) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 97 رقم 719) .
(5) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 264) .
(6) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 155 رقم 2368) .
(7) فِي «م» : سَافر. والمثبت من «أ، ل» و «سنَن أبي دَاوُد» .
(8) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 183 رقم 16) .
(9) فِي «م» سعيد. وَهُوَ تَحْرِيف، والمثبت من «أ، ل» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» وَهِشَام بن سعد أَبُو عباد الْمدنِي من رجال «التَّهْذِيب» (30 / 204 - 209) .(5/674)
والحجامة، والاحتلام ". وَعبد الرَّحْمَن بن (زيد) (1) بن أسلم ضَعَّفُوهُ،
وَهِشَام بن (سعد) (2) من رجال مُسلم لكنه لين. وَأعله ابْن الْجَوْزِيّ بهما،
وَقَالَ فِي الأول (3) : أَجمعُوا عَلَى ضعفه. قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» (4) :
هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ، وَقد رَوَى (5) عبد الله بن زيد بن أسلم وَعبد
الْعَزِيز بن مُحَمَّد وَغير وَاحِد هَذَا الحَدِيث، عَن زيد بن أسلم مُرْسلا، وَلم
يذكرُوا فِيهِ: عَن أبي سعيد. وَعبد الرَّحْمَن يضعف فِي الحَدِيث، قَالَ:
وَسمعت أَبَا دَاوُد يَقُول: سَأَلت أَحْمد عَن عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ: أَخُوهُ عبد
الله لَا بَأْس بِهِ. وَسمعت مُحَمَّدًا يذكر عَن عَلّي بن عبد الله قَالَ: عبد الله
ابْن زيد بن أسلم ثِقَة، وَعبد الرَّحْمَن أَخُوهُ (ضَعَّفُوهُ) (6) . قَالَ مُحَمَّد - يَعْنِي
البُخَارِيّ -: وَلَا أروي عَنهُ شَيْئا. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» (7) :
سَأَلت أبي، وَأَبا زرْعَة عَن حَدِيث عبد الرَّحْمَن هَذَا، وَحَدِيث أُسَامَة،
عَن أَبِيه، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد (الْخُدْرِيّ) (8) أَيْضا، فَقَالَا:
هَذَا خطأ، رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن زيد بن أسلم، عَن رجل من
أَصْحَابه، عَن رجل من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهُوَ (9) الصَّحِيح. قَالَ:
__________
(1) فِي «م» : يزِيد. وَهُوَ تَحْرِيف، والمثبت من «أ، ل» وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم الْمدنِي تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (17 / 114 - 119) .
(2) فِي «م» سعيد وَهُوَ تَحْرِيف، والمثبت من «أ، ل» وَهِشَام بن سعد أَبُو عباد الْمدنِي من رجال «التَّهْذِيب» (30 / 204 - 209) .
(3) «الْعِلَل المتناهية» (2 / 542) .
(4) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 97 - 98) .
(5) زَاد فِي «أ، ل، م» عَن. وَهُوَ خطأ.
(6) فِي (جَامع التِّرْمِذِيّ» : ضَعِيف.
(7) «علل ابْن أبي حَاتِم» (2 / 239 - 240)
(8) من «م» و «علل ابْن أبي حَاتِم» .
(9) زَاد فِي «م» : فِي.(5/675)
وسألتهما مرّة عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ أبي: إِنَّه أشبه بِالصَّوَابِ. وَقَالَ أَبُو
زرْعَة: إِنَّه أصح. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه) (1) : عبد الرَّحْمَن ضَعِيف،
وَالْمَحْفُوظ عَن زيد بن أسلم ... فَذكر لفظ أبي دَاوُد وَإِسْنَاده، ثمَّ قَالَ: هُوَ
مَحْمُول - إِن صَحَّ - عَلَى من ذرعه الْقَيْء. وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ (2) عَن هَذَا
الحَدِيث فَقَالَ: يرويهِ زيد بن أسلم، وَاخْتلف عَنهُ؛ فَرَوَاهُ أَوْلَاد زيد بن
أسلم (3) : أُسَامَة وَعبد الله وَعبد الرَّحْمَن، عَن والدهم زيد، عَن عَطاء بن
يسَار، عَن أبي سعيد، وَحدث بِهِ كَامِل بن طَلْحَة (عَن مَالك) (4) ، عَن
زيد بن أسلم، عَن عَطاء، عَن أبي سعيد، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ، وَلَيْسَ هَذَا من
حَدِيث مَالك، وَحدث بِهِ شيخ يعرف بِمُحَمد بن أَحْمد بن أنس السَّامِي -
وَكَانَ ضَعِيفا - عَن أبي عَامر الْعَقدي، عَن هِشَام بن سعد، عَن زيد بن
أسلم بِهِ، وَلَا يَصح عَن هِشَام. (وَرَوَاهُ) (5) سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن زيد بن
أسلم، عَن رجل، عَن آخر، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَهُوَ الصَّحِيح. وَرَوَاهُ
الدَّرَاورْدِي، عَن زيد بن أسلم، (عَمَّن حَدثهُ أَن) (6) النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قَالَ:
وَرَوَاهُ يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، عَن زيد بن أسلم مُرْسلا عَن النَّبِي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَالصَّحِيح مَا قَالَه الثَّوْريّ.
قلت: وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة (7) ، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن زيد بن
__________
(1) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 220) .
(2) «علل الدَّارَقُطْنِيّ» (11 / 267 - 269) .
(3) زَاد فِي «م» : بن. وَهُوَ خطأ.
(4) لَيست فِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» .
(5) فِي «أ، ل» : وَرَوَى. والمثبت من «م» و «علل الدَّارَقُطْنِيّ» .
(6) فِي «أ، ل» : عَن حَدثهُ عَن. والمثبت من «م» و «علل الدَّارَقُطْنِيّ» .
(7) «مُصَنف ابْن أبي شيبَة» (2 / 467 رقم 5) .
(8) «الْكَامِل» (8 / 410 - 411) .(5/676)
أسلم، عَن عَطاء بن يسَار يرفعهُ: " ثَلَاث لَا يفطرن الصَّائِم ... " الحَدِيث.
وَرَوَاهُ ابْن عدي (1) من حَدِيث هِشَام بن (سعد) (2) السالف، عَن عَطاء بن
يسَار، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا. ثمَّ قَالَ: هَكَذَا يَقُول هِشَام، وَغَيره يرويهِ
عَن أبي سعيد، وَمِنْهُم من يُرْسِلهُ، وَقَالَ: «الرعاف» بدل «الْحجامَة»
وَهِشَام يكْتب حَدِيثه (لَا يحْتَج بِهِ) (3) .
الحَدِيث السَّادِس عشر
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يقبل وَهُوَ صَائِم " (4) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم (5) كَذَلِك من حَدِيث حَفْصَة رَضِي
الله عَنْهَا وَهُوَ من أَفْرَاده، واتفقا (6) عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث أم سَلمَة " أَنه
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ كَانَ يقبلهَا وَهُوَ صَائِم ".
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يقبل بعض نِسَائِهِ
وَهُوَ صَائِم، وَكَانَ أملككم لإربه " (7) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته عَنْهَا (8) : " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقبل
__________
(1) فِي «م» : سعيد. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «أ، ل» وَسبق التَّنْبِيه عَلَيْهِ.
(2) لَيست فِي «الْكَامِل» .
(3) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 201) .
(4) «صَحِيح مُسلم» (2 / 778 - 779 رقم 1107) .
(5) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 180 رقم 1929) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 779 رقم 1108) .
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 201) .
(7) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 180 رقم 1928) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 776 رقم 1106 / 62) .
(8) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 176 رقم 1927) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 777 رقم 1106 / 65) .(5/677)
إِحْدَى نِسَائِهِ وَهُوَ صَائِم. ثمَّ تضحك ". وَفِي لفظ (1) : " كَانَ يقبل وَهُوَ
صَائِم، ويباشر وَهُوَ صَائِم، وَلكنه أملككم لإربه " وَفِي لفظ: " كَانَ يقبل
فِي شهر الصَّوْم " وَفِي آخر (2) : " كَانَ يقبل فِي رَمَضَان وَهُوَ صَائِم " وَفِي
آخر لمُسلم (3) : " كَانَ يقبلني وَهُوَ صَائِم، وَأَيكُمْ يملك إربه (كَمَا) (4) كَانَ
يملك إربه " وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد (5) " كَانَ يقبلني وَهُوَ صَائِم ويمص
لساني " وَهِي معلولة - كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان (6) - بِأبي يَحْيَى مصدع
الْأَعْرَج المعرقب فِي التَّشَيُّع، (قَالَ السَّعْدِيّ:) (7) كَانَ زائغاً (جائراً) (8)
عَن الطَّرِيق. وَقَالَ عبد الْحق (9) : لَا تصح هَذِه الزِّيَادَة فِي مص اللِّسَان. ثمَّ
أعلها بِمَا نازعه ابْن الْقطَّان فِيهِ، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: بَلغنِي عَن أبي دَاوُد
أَنه قَالَ: هَذِه الرِّوَايَة لَيست صَحِيحَة. وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي
«صَحِيحه» (10) من حَدِيث أبي سَلمَة عَنْهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
(يقبل بعض نِسَائِهِ) (11) وَهُوَ صَائِم. قَالَ أَبُو سَلمَة: قلت لعَائِشَة: فِي
__________
(1) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 176 رقم 1927) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 777 رقم 1106 / 65) .
(2) «صَحِيح مُسلم» (2 / 778 رقم 1106 / 71) .
(3) «صَحِيح مُسلم» (2 / 177 رقم 1106 / 64) .
(4) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «صَحِيح مُسلم» .
(5) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 160 رقم 2378) .
(6) «الْوَهم وَالْإِيهَام» (3 / 111) .
(7) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «الْوَهم وَالْإِيهَام» .
(8) فِي «م» : حائداً. والمثبت من «أ، ل» و «الْوَهم وَالْإِيهَام» .
(9) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 218 - 219) .
(10) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 314 - 315 رقم 3545) .
(11) فِي «أ» : بعض نِسَائِهِ. وَفِي «ل» : يمص لساني. والمثبت من «م» و «صَحِيح ابْن حبَان» .(5/678)
الْفَرِيضَة والتطوع؟ قَالَت عَائِشَة: فِي كل ذَلِك فِي الْفَرِيضَة والتطوع " ثمَّ
سَاق بِإِسْنَادِهِ (1) عَن عَائِشَة قَالَت: " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لَا (يمس) (2) من
وَجْهي من شَيْء وَأَنا صَائِمَة ". قَالَ ابْن حبَان (3) : كَانَ الْمُصْطَفَى أملك
النَّاس لإربه، وَكَانَ يقبل نِسَاءَهُ إِذا كَانَ صَائِما، أَرَادَ بِهِ التَّعْلِيم أَن مثل
هَذَا الْفِعْل مِمَّن يملك إربه وَهُوَ صَائِم جَائِز، (وَكَانَ يتنكب) (4) اسْتِعْمَال
مثله إِذا كَانَت هِيَ صَائِمَة علما مِنْهُ بِمَا ركب (فِي) (5) النِّسَاء من الضعْف
عِنْد الْأَسْبَاب الَّتِي ترِدُ عَلَيْهِنَّ، فَكَانَ يُبقي عَلَيْهِنَّ بترك اسْتِعْمَال ذَلِك
الْفِعْل إِذا كن بِتِلْكَ الْحَالة من غير أَن يكون بَين هذَيْن (الْخَبَرَيْنِ) (6) تضادٌّ
أَو (تهاتر) (7) .
فَائِدَة: قَوْلهَا " لإربه " هُوَ بِكَسْر الْهمزَة مَعَ إسكان الرَّاء، وَرُوِيَ أَيْضا
بفتحهما جَمِيعًا، مَعْنَاهُ: لِحَاجَتِهِ.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ " (8) .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب شُرُوط الصَّلَاة، فَرَاجعه من ثمَّ.
__________
(1) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 315 رقم 3546) .
(2) فِي «صَحِيح ابْن حبَان» : يلمس.
(3) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 316) .
(4) فِي «أ، ل» : وَكَانَت تتنكب. والمثبت من «م» و «صَحِيح ابْن حبَان» .
(5) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «صَحِيح ابْن حبَان» .
(6) فِي «م» : الْحَدِيثين. والمثبت من «أ، ل» و «صَحِيح ابْن حبَان» .
(7) فِي «م» : تبَاين. والمثبت من «أ، ل» و «صَحِيح ابْن حبَان» .
(8) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 202) .(5/679)
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من نسي وَهُوَ صَائِم فَأكل أَو شرب فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا
أطْعمهُ الله وسقاه " (1) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته (2) أخرجه الشَّيْخَانِ (3) من حَدِيث
أبي هُرَيْرَة بِهَذَا اللَّفْظ، وَعند البُخَارِيّ: " فَأكل وَشرب " وللدارقطني (4) -
وَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح، وَرِجَاله كلهم ثِقَات: " إِذا أكل الصَّائِم نَاسِيا (أَو
شرب نَاسِيا) (5) فَإِنَّمَا هُوَ رزق سَاقه الله إِلَيْهِ وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ " وَرَوَاهُ ابْن
حبَان فِي «صَحِيحه» (6) بِهَذَا اللَّفْظ، وَفِي رِوَايَة لَهما (7) وللحاكم (8) : " من
أفطر فِي شهر رَمَضَان نَاسِيا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة " قَالَ الْحَاكِم:
صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ تفرد بِهِ ابْن مَرْزُوق وَهُوَ ثِقَة
(عَن الْأنْصَارِيّ: قلت) : (9) لم ينْفَرد بِهِ، بل تَابعه أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن
إِدْرِيس كَمَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ (10) .
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 203) .
(2) زَاد فِي «أ» : أخرجه البُخَارِيّ. وَهِي مقحمة.
(3) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 183 - 184 رقم 1933) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 809 رقم 1155) .
(4) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 178 رقم 27) .
(5) من «م» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(6) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 286 رقم 3519) .
(7) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 178 رقم 28) و «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 287 - 288 رقم 3521) .
(8) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 430) .
(9) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(10) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 229) .(5/680)
الحَدِيث الْعشْرُونَ
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهَى عَن صَوْم يَوْمَيْنِ: يَوْم
الْفطر، وَيَوْم الْأَضْحَى " (1) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ (2) من هَذَا الْوَجْه، واتفقا
عَلَى إِخْرَاجه أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ (3) وَعمر (4) وَابْنه (5) -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وَانْفَرَدَ بِهِ مُسلم (6) من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رخص للمتمتع إِذا لم يجد
الْهَدْي وَلم يصم الثَّلَاثَة فِي الْعشْر، أَن يَصُوم أَيَّام التَّشْرِيق " (7) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي " سنَنه " (8) من حَدِيث يَحْيَى بن
أبي أنيسَة عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة قَالَت: سَمِعت رَسُول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُول: " من لم يكن مَعَه هدي فليصم ثَلَاثَة أَيَّام قبل يَوْم النَّحْر، وَمن
لم يكن صَامَ تِلْكَ الْأَيَّام الثَّلَاثَة فليصم أَيَّام التَّشْرِيق أَيَّام منى ". وَيَحْيَى (9) .
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 210 - 211) .
(2) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 282 رقم 1993) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 799 رقم 1138) .
(3) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 283 رقم 1995) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 799 - 800 رقم 827) .
(4) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 280 - 281 رقم 1990) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 799 رقم 1137) .
(5) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 283 رقم 1994) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 800 رقم 1139) .
(6) «صَحِيح مُسلم» (2 / 800 رقم 1140) .
(7) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 211) .
(8) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 186 رقم 32) .
(9) تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (31 / 223 - 229) .(5/681)
هَذَا مَتْرُوك، كَمَا قَالَه أَحْمد وَغَيره، وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي: كَانَ صَدُوقًا
لكنه كَانَ يهم. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (ضَعِيف. وَرَوَاهُ (1) أَيْضا - أَعنِي
الدَّارَقُطْنِيّ -) (2) من حَدِيث عبد الْغفار بن الْقَاسِم، عَن الزُّهْرِيّ، حَدثنِي
عُرْوَة بن الزبير قَالَ: قَالَت عَائِشَة، وَابْن عمر (3) " لم يرخص رَسُول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأحد فِي صِيَام أَيَّام التَّشْرِيق إِلَّا لمتمتع أَو محصر " قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ:
أَخطَأ فِي إِسْنَاده عبد الْغفار (4) وَهُوَ ضَعِيف.
قلت: وَكذبه سماك بن حَرْب وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِثِقَة،
كَانَ يحدث ببلايا فِي عُثْمَان بن عَفَّان، وَعَامة أَحَادِيثه بَوَاطِيلُ. وَقَالَ ابْن
الْمَدِينِيّ: كَانَ يضع الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: هُوَ مَتْرُوك
الحَدِيث، كَانَ من رُؤَسَاء الشِّيعَة.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (5) من حَدِيث يَحْيَى بن سَلام، عَن شُعْبَة، عَن
[عبد الله] (6) بن عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن الزُّهْرِيّ، عَن
سَالم، عَن ابْن عمر قَالَ: " رخص رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للمتمتع إِذا لم يجد
الْهَدْي أَن يَصُوم أَيَّام التَّشْرِيق " ثمَّ قَالَ: يَحْيَى بن سَلام لَيْسَ بِالْقَوِيّ
وَقَالَ فِي «علله» (7) : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَسَالم عَن ابْن
عمر، قَالَا: " لم يرخص فِي صَوْم أَيَّام التَّشْرِيق إِلَّا لمن لم يجد الْهَدْي "
__________
(1) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 186 رقم 31) .
(2) سقط من «م» والمثبت من «أ، ل» .
(3) زَاد فِي «أ، ل» : قَالَا.
(4) تَرْجَمته فِي «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» (6 / 53 - 54 رقم 284) و «ميزَان الِاعْتِدَال» (2 / 640 - 641 رقم 5147) .
(5) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 186 رقم 29) .
(6) فِي «أ، ل، م» : عبيد الله. وَهُوَ تَحْرِيف، والمثبت من «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» وَعبد الله بن عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (15 / 412 - 415) .
(7) «علل الدَّارَقُطْنِيّ» (5 / ق 139 - أ) .(5/682)
فجعلاه كالمرفوع (وَرَوَاهُ) (1) قعنب بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِمَا ونحا بِهِ نَحْو الرّفْع،
[وَوهم فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ عبد الله بن عِيسَى] (2) وقعنب (ضَعِيف) (3) . وَرَوَاهُ
عبد الْغفار بن الْقَاسِم من حَدِيث عَائِشَة وَابْن عمر مَرْفُوعا، وَوهم فِيهِ،
وَرَوَاهُ يَحْيَى بن سَلام بِإِسْنَادِهِ إِلَى سَالم عَن أَبِيه مَرْفُوعا، وَيَحْيَى لَيْسَ
بِالْقَوِيّ، وَرَوَاهُ عُرْوَة عَنْهَا من فتواها.
قلت: وَمَا ذكره أَيْضا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» (4) من حَدِيث
عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَسَالم عَن ابْن عمر قَالَا: " لم يرخص فِي أَيَّام التَّشْرِيق
أَن يصمن إِلَّا (لمن (لم) (5) يجد الْهَدْي " وَفِي رِوَايَة لَهُ (6) عَن ابْن عمر
قَالَ: " الصّيام ") (7) لمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج إِلَى يَوْم عَرَفَة، فَإِن لم
يجد هَديا وَلم يصم صَامَ أَيَّام منى " وَلما رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» (8) من
طَرِيق البُخَارِيّ (9) بِلَفْظ: " لم يرخص فِي صَوْم هَذِه الْأَيَّام - أَيَّام التَّشْرِيق -
إِلَّا لمن (لم) (10) يجد الْهَدْي ". قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح. وَلما رَوَاهُ (11)
__________
(1) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(2) من «علل الدَّارَقُطْنِيّ» .
(3) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «علل الدَّارَقُطْنِيّ» .
(4) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 284 رقم 1997، 1998) .
(5) سَقَطت من «أ» والمثبت من «م، ل» و «صَحِيح البُخَارِيّ» .
(6) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 284 - 285 رقم 1999) .
(7) تَكَرَّرت فِي «م» .
(8) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 185 - 186 رقم 27) .
(9) أَي من طَرِيق شُعْبَة عَن عبد الله بن عِيسَى عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَعَن سَالم عَن ابْن عمر.
(10) سَقَطت من «أ» والمثبت من «م، ل» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(11) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 186 رقم 30) .(5/683)
من طَرِيق عُرْوَة عَنْهَا وَحدهَا: " لم يرخص فِي صَوْم أَيَّام التَّشْرِيق إِلَّا
لمتمتع لم يجد الْهَدْي ". قَالَ: إِسْنَاد صَحِيح.
قلت: وَهَذَا كُله فِي حكم الْمَرْفُوع؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة قَول الصَّحَابِيّ:
أمرنَا بِكَذَا، ونهينا عَن كَذَا، وَرخّص لنا فِي كَذَا. وكل هَذَا وَشبهه مَرْفُوع
بِمَنْزِلَة قَوْله: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ والحافظ أَبُو الْحسن
ابْن الْفضل الْمَقْدِسِي فِي كتاب الصَّوْم: هَذَا شَبيه بالمسند. وَقَالَ الشَّافِعِي
فِي رِوَايَة حَرْمَلَة: بَلغنِي أَن ابْن شهَاب يرويهِ مُرْسلا عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
تَنْبِيه: ذكر صَاحب «الشَّامِل» هَذَا الحَدِيث من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ
(السالفة) (1) (وَلم يعرج) (2) عَلَى رِوَايَة البُخَارِيّ (السالفة) (3) فينكر ذَلِك
عَلَيْهِ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " لَا تَصُومُوا فِي هَذِه الْأَيَّام فَإِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب
وبعال " (4) .
هَذَا الحَدِيث (صَحَّ) (5) من طرق بِدُونِ هَذِه اللَّفْظَة (الْأَخِيرَة) (6) :
الطَّرِيق الأول: من حَدِيث نُبَيْشَةَ - بِضَم النُّون، وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة
ثمَّ مثناة تَحت سَاكِنة، ثمَّ شين مُعْجمَة - الْهُذلِيّ الصَّحَابِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ
__________
(1) سَقَطت من «م» والمثبت من «أ، ل» .
(2) فِي «أ» : السالف، والمثبت من «ل، م» .
(3) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 211) .
(4) فِي «م» : صَحِيح. والمثبت من «أ، ل» .
(5) فِي «أ» : الآخر. والمثبت من «ل، م» .
(6) فِي «صَحِيح مُسلم» : وَذكر لله.(5/684)
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " أَيَّام التَّشْرِيق أَيَّام أكل وَشرب (وَذكر الله) (1) رَوَاهُ مُسلم
فِي «صَحِيحه» (2) مُنْفَردا بِهِ.
ثَانِيهَا: من حَدِيث كَعْب بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (بَعثه و) (3)
أَوْس بن الْحدثَان أَيَّام التَّشْرِيق (منادياً) (4) أَنه لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا مُؤمن
وَأَيَّام منى أَيَّام أكل وَشرب " رَوَاهُ مُسلم (5) مُنْفَردا بِهِ أَيْضا.
ثَالِثهَا: عَن ابْن شهَاب " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث عبد الله بن حذافة
أَيَّام منى يطوف، يَقُول: إِنَّمَا هِيَ أَيَّام أكل وَشرب وَذكر الله " رَوَاهُ مَالك
فِي «الْمُوَطَّأ» (6) ، وَعَزاهُ خلف الوَاسِطِيّ إِلَى مُسلم، وَقَالَ الْحميدِي: لم
أَجِدهُ فِيمَا عندنَا من كتاب مُسلم. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
رَابِعهَا: من حَدِيث عقبَة بن عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " يَوْم
عَرَفَة، وَيَوْم النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق، عيدنا أهل الْإِسْلَام، وَهِي أَيَّام أكل
وَشرب» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (7) ، وَالتِّرْمِذِيّ (8) ، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
وَالنَّسَائِيّ (9) ، وَابْن حبَان (10) ، وَالْحَاكِم (11) وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط
مُسلم.
__________
(1) فِي «صَحِيح مُسلم» : وَذكر لله.
(2) «صَحِيح مُسلم» (2 / 800 رقم 1141) .
(3) فِي «أ، ل» : بعث. والمثبت من «م» و «صَحِيح مُسلم» .
(4) فِي «صَحِيح مُسلم» : فَنَادَى.
(5) «صَحِيح مُسلم» (2 / 800 رقم 1142) .
(6) «الْمُوَطَّأ» (1 / 376 رقم 135) .
(7) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 174 - 175 رقم 2411) .
(8) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 143 رقم 773) .
(9) «سنَن النَّسَائِيّ» (5 / 278 رقم 3004) .
(10) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 368 رقم 3603) .
(11) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 434) .(5/685)
خَامِسهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " أَيَّام
منى أَيَّام أكل وَشرب ". رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» (1) ، وَفِي رِوَايَة
لَهُ (2) : «أَيَّام التَّشْرِيق أَيَّام طعم وَذكر» .
سادسها: من حَدِيث بشر بن سحيم مَرْفُوعا: " لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا
مُؤمن، وَأَيَّام منى أَيَّام أكل وَشرب " رَوَاهُ النَّسَائِيّ (3) .
سابعها: (4) وَأما هَذِه الزِّيَادَة الْأَخِيرَة، وَهِي: «وبعال» فرواها
الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيقين:
إِحْدَاهمَا (5) : من حَدِيث مَسْعُود بن الحكم الزرقي قَالَ: حَدثنِي
عبد الله بن حذافة السَّهْمِي قَالَ: " بَعَثَنِي رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلَى رَاحِلَته أَيَّام
منى أنادي: أَيهَا النَّاس، إِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب وبعال " رَوَاهَا فِي آخر
كتاب الصَّوْم، وَفِي سندها الْوَاقِدِيّ و (حَالَته) (6) مَشْهُورَة، ثمَّ قَالَ:
الْوَاقِدِيّ ضَعِيف.
ثَانِيهمَا (7) : من حَدِيث سعيد بن سَلام الْعَطَّار، نَا عبد الله بن بديل
الْخُزَاعِيّ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ:
" بعث رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بديل بن وَرْقَاء الْخُزَاعِيّ عَلَى جمل أَوْرَق يَصِيح فِي
فجاج منى: أَلا إِن الذَّكَاة فِي الْحلق واللبة، أَلا وَلَا تعجلوا الْأَنْفس أَن
__________
(1) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 366 - 367 رقم 3601) .
(2) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 367 - 368 رقم 3602) .
(3) «سنَن النَّسَائِيّ» (8 / 478 رقم 5009) .
(4) زَاد فِي «أ، ل» : سابعها.
(5) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 212 رقم 32) .
(6) فِي «أ، ل» : حَاله. والمثبت من «م» .
(7) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (4 / 283 رقم 45) .(5/686)
تزهق، وَأَيَّام منى أَيَّام أكل وَشرب وبعال» وَهَذِه الطَّرِيقَة أخرجهَا فِي
أَوَاخِر «سنَنه» بأوراق (1) . وَكَذَا الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب
«معرفَة الصَّحَابَة» وَهِي ضَعِيفَة جدًّا؛ سعيد بن سَلام (2) هَذَا وَضاع
مَتْرُوك، قَالَ أَحْمد وَابْن نمير: كَذَّاب. وَقَالَ خَ: يذكر بِوَضْع الحَدِيث.
وَأطلق التّرْك عَلَيْهِ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَخَالف (الْعجلِيّ) (3) فَقَالَ: لَا
بَأْس بِهِ. وَأما عبد الله بن بديل (4) فَفِيهِ خلف، غمزه الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ ابْن
عدي: لَهُ (أَحَادِيث) (5) مِمَّا يُنكر عَلَيْهِ [الزِّيَادَة] (6) فِي مَتنه أَو إِسْنَاده.
وَقَالَ ابْن معِين: (صَالح) (7) وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ولهذه اللَّفْظَة
طرق أُخْرَى:
(أَولهَا) (8) من طَرِيق عمر بن (خلدَة) (9) ، عَن [أمه] (10) " أَن النَّبِي
__________
(1) زَاد فِي «م» : لَطِيفَة.
(2) تَرْجَمته فِي «ميزَان الِاعْتِدَال» (2 / 141 رقم 3195) .
(3) فِي «أ، ل» : النَّخعِيّ. والمثبت من «م» و «ميزَان الِاعْتِدَال» .
(4) تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (14 / 325 - 326) .
(5) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «التَّهْذِيب» .
(6) سَقَطت من «أ، ل، م» والمثبت من «التَّهْذِيب» .
(7) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «التَّهْذِيب» .
(8) فِي «ل، م» : إِحْدَاهَا. والمثبت من «أ» .
(9) فِي «م» : خَالِد. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «أ، ل» و «معرفَة الصَّحَابَة» وَعمر بن خلدَة
الْأنْصَارِيّ أَبُو حَفْص تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (21 / 328 - 330) .
(10) فِي «أ، ل، م» : أَبِيه، وَهُوَ خطأ؛ فَالْحَدِيث رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «الْمعرفَة» ، وَابْن أبي
عَاصِم كَمَا فِي «الْإِصَابَة» (13 / 259) من طَرِيق الْمُنْذر بن الجهم، عَن عمر بن
خلدَة، عَن أمه بِهِ.(5/687)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث عليًّا يُنَادي بمنى: إِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب وبعال ". رَوَاهُ الحافظان
أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» (1) والخطيب فِي «تلخيصه» كَذَلِك،
وَالطَّبَرَانِيّ وَلَفظه «أَنه لله بعث منادياً يُنَادي: أَيهَا النَّاس، إِنَّهَا أَيَّام أكل
وَشرب وبعال " وَعبد بن حميد (2) عَن مُوسَى بن (عُبَيْدَة) (3) الربذي،
حَدثنِي مُنْذر بن (الجهم) (4) ، عَن عمر بن (خلدَة) (5) الْأنْصَارِيّ، عَن
(أمه) (6) وَلَفظه (كَلَفْظِ الْأَوَّلين) (7) ومُوسَى هَذَا ضَعَّفُوهُ.
ثَانِيهَا: من حَدِيث يُوسُف بن مَسْعُود بن الحكم الْأنْصَارِيّ الزرقي
أَن جدته حدثته «أَنَّهَا رَأَتْ وَهِي بمنى فِي زمَان رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رَاكِبًا يَصِيح
يَقُول: أَيهَا النَّاس، إِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب وَنسَاء وبعال وَذكر الله. قَالَت:
فَقلت: من هَذَا؟ فَقَالُوا: عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه " رَوَاهُ الْحَاكِم فِي
«مُسْتَدْركه» (8) بِدُونِ هَذِه اللَّفْظَة، وَهَذَا (سِيَاقه) (9) : " إِنَّهَا لَيست أَيَّام
صِيَام، إِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب وَذكر " رَوَاهُ من حَدِيث مَسْعُود بن الحكم
__________
(1) «معرفَة الصَّحَابَة» (6 / 3538 رقم 7997) .
(2) «مُسْند عبد بن حميد» (1 / 451 رقم 1562) .
(3) فِي «م» : عَبدة. وَهُوَ تَحْرِيف، والمثبت من «أ، ل» و «مُسْند عبد بن حميد» ومُوسَى بن
عُبَيْدَة الربذي تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (29 / 104 / 114) .
(4) فِي «ل» : جهيم. تَحْرِيف، والمثبت من «أ، ل» و «مُسْند عبد بن حميد» وترجمة مُنْذر بن الجهم فِي «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» (8 / 243 - 244 رقم 1103) .
(5) فِي «م» : خلد. والمثبت من «أ، ل» وَقد سبق التَّنْبِيه عَلَيْهِ.
(6) فِي «م» : أَبِيه. والمثبت من «أ، ل» و «مُسْند عبد بن حميد» .
(7) فِي «أ، ل» : الْأَوليين. والمثبت من «م» .
(8) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 434 - 435) .
(9) فِي «أ، ل» : سياقته. والمثبت من «م» .(5/688)
الزرقي، عَن (أمه) (1) ، وَذكر أَبُو نعيم (2) الِاخْتِلَاف فِي سَنَد حَدِيث ابْن
مَسْعُود الزرقي، وَقَالَ فِي رِوَايَته إِن الْمُنَادِي بِلَالًا.
ثَالِثهَا: من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن أبي (حَبِيبَة) (3) عَن دَاوُد
ابْن الْحصين، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما " أَن رَسُول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرسل أَيَّام منى صائحاً يَصِيح أَن لَا تَصُومُوا هَذَا الْأَيَّام فَإِنَّهَا أَيَّام أكل
وَشرب وبعال " والبعال: وقاع النِّسَاء. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر
معاجمه» (4) كَذَلِك. وَإِبْرَاهِيم (5) هَذَا مُخْتَلف فِيهِ، وَثَّقَهُ أَحْمد وَضَعفه
غَيره، وَدَاوُد (6) من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَهُوَ ثِقَة قدري، لينه أَبُو زرْعَة،
واستغرب الْمُنْذِرِيّ هَذِه اللَّفْظَة (فَقَالَ) (7) فِي «اختصاره للسنن» (8) : هَذِه
اللَّفْظَة غَرِيبَة.
فَائِدَتَانِ: الأولَى: البعال - بباء مُوَحدَة، ثمَّ عين مُهْملَة -: وقاع
النِّسَاء. كَمَا سلف فِي الحَدِيث السَّابِق فِي آخِره. وَفِي «النِّهَايَة» (9) :
البعال: النِّكَاح وملاعبة الرجل أَهله. وَكَذَا قَالَه أَبُو عبيد (10) وَغَيره، وَكَذَا
__________
(1) فِي «ل» : أَبِيه. والمثبت من «أ، م» و «الْمُسْتَدْرك» .
(2) «معرفَة الصَّحَابَة» (6 / 3568 رقم 8056، 8057) وَفِيه من حَدِيث مَسْعُود بن الحكم
الزرقي عَن أمه.
(3) فِي «أ، ل» : حبيب. والمثبت من «م» و «المعجم الْكَبِير» وَإِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن أبي حَبِيبَة الْأنْصَارِيّ الأشْهَلِي تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (2 / 42 - 44) .
(4) «المعجم الْكَبِير» (11 / 232 رقم 11587) .
(5) تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (2 / 42 - 44) .
(6) تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (8 / 379 - 382.
(7) من «م» .
(8) «مُخْتَصر سنَن أبي دَاوُد» (3 / 296) .
(9) «النِّهَايَة» (1 / 141) .
(10) «غَرِيب الحَدِيث» (1 / 113) .(5/689)
فِي «الصِّحَاح» (1) (البعال) (2) : ملاعبة الرجل أَهله. وَذكر الحَدِيث،
وَالْمَرْأَة تباعل زَوجهَا أَي تلاعبه (3) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه «فَضَائِل
الْأَوْقَات» لما ذكر حَدِيث جدة يُوسُف الزرقي: المُرَاد - وَالله أعلم -
بِالنسَاء والبعال: أَن إِبَاحَة مباشرتهن للْحَاج بعد التَّحَلُّل الثَّانِي، وَهُوَ
كَقَوْلِه تَعَالَى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) (4) يَعْنِي بِهِ الْإِبَاحَة بعد التَّحْرِيم.
(وَنقل ابْن حزم (5) عَن أهل اللُّغَة أَن البعل اسْم الزَّوْج وَالسَّيِّد، وَذكر ذَلِك
فِي حَدِيث النَّهْي عَن الصَّوْم إِلَّا بِإِذن بَعْلهَا إِذا كَانَ حَاضرا ") (6) .
الثَّانِيَة: ذكر أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ فِي تَرْجَمَة أبي الْغَنَائِم النَّرْسِي
الْحَافِظ من «ذيله» ، قَالَ: قَرَأت بِخَط الإِمَام وَالِدي: سَمِعت أَبَا الْغَنَائِم
مُحَمَّد بن عَلّي بن مَيْمُون النَّرْسِي يَقُول فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ:
" أَيَّام منى أَيَّام أكل وَشرب " قَالَ: هُوَ شَرب بِفَتْح الشين، وَاسْتشْهدَ بقوله
تَعَالَى: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهِيمِ) (7) قَالَ: وسمعته يَقُول فِي قَوْله عَلَيْهِ
السَّلَام: " وَمن يرع حول الْحمى يُوشك أَن (يحتش) (8) " قَالَ: هُوَ بالشين
الْمُعْجَمَة من قَوْلهم: (حَش) (9) إِذا رعى. وَهَذَا أَيْضا ضبط غَرِيب،
والضبط الأول حَكَاهُ أَبُو عبيد عَن الْكسَائي - أَعنِي فتح الشين - قَالَ: وَلم
أر من الْمُحدثين أحدا يقف عَلَى شُرب، وشَرب.
__________
(1) «الصِّحَاح» (4 / 1342) .
(2) من «م» و «الصِّحَاح» .
(3) زَاد فِي «أ» : الثَّانِيَة ذكر أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ فِي تَرْجَمَة. وَهِي مقحمة فِي هَذَا الْموضع، وَسَتَأْتِي عَلَى الصَّوَاب.
(4) الْمَائِدَة: 2.
(5) «الْمُحَلَّى» (7 / 30) .
(6) سقط من «م» ، والمثبت من «أ، ل» .
(7) الْوَاقِعَة: 55. وَقَرَأَ المدنيان وَعَاصِم وَحَمْزَة بِضَم الشين وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. النشر (2 / 286) .
(8) فِي «أ، ل» : يحْشر. والمثبت من «م» .
(9) فِي «أ، ل» : حشر. والمثبت من «م» .(5/690)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن عمار بن يَاسر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: " من صَامَ يَوْم الشَّك فقد عَصَى أَبَا
الْقَاسِم " (1) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (2) ، وَالتِّرْمِذِيّ (3) ،
وَالنَّسَائِيّ (4) ، وَابْن مَاجَه (5) وَالدَّارَقُطْنِيّ (6) ، وَالْبَيْهَقِيّ (7) فِي «سُنَنهمْ» ،
وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» (8) وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (9) من
حَدِيث صلَة بن زفر، قَالَ: " كُنَّا عِنْد عمار فِي الْيَوْم الَّذِي يشك فِيهِ من
شعْبَان أَو رَمَضَان، فأتيناه بشاةٍ مَصْلية، فَتنَحَّى بعض الْقَوْم، فَقَالَ: إِنِّي
صَائِم. فَقَالَ عمار: من صَامَ هَذَا الْيَوْم فقد عَصَى أَبَا الْقَاسِم " قَالَ
التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث (حسن غَرِيب صَحِيح) (10) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ:
إِسْنَاده حسن [صَحِيح] (11) ، وَرِجَاله كلهم ثِقَات. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا
حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَرَوَاهُ البُخَارِيّ (12) تَعْلِيقا بِلَفْظ: قَالَ
صلَة بن زفر، عَن عمار: " من صَامَ الْيَوْم الَّذِي يشك فِيهِ فقد عَصَى أَبَا
الْقَاسِم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ". وَذكر أَبُو الْقَاسِم الْجَوْهَرِي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " فقد
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 211) .
(2) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 138 رقم 2327) .
(3) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 70 رقم 686) .
(4) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 462 رقم 2187) .
(5) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 527 رقم 1645) .
(6) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 157 رقم 5) .
(7) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 208) .
(8) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 351 رقم 3585) .
(9) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 423 - 424) .
(10) فِي «م» : حسن غَرِيب. وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» و «التُّحْفَة» (7 / 476) : حسن صَحِيح. والمثبت من «أ، ل» .
(11) من «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(12) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 143) بقريب من اللَّفْظ الْمَذْكُور.(5/691)
عَصَى الله وَرَسُوله " أَنه مَوْقُوف، وَذكر ابْن عبد الْبر (1) أَن هَذَا مُسْند
عِنْدهم وَلَا يَخْتَلِفُونَ - يَعْنِي فِي ذَلِك - وَمن الأوهام القبيحة عزو صَاحب
«التنقيب» عَلَى «الْمُهَذّب» حَدِيث عمار هَذَا إِلَى مُسلم.
الحَدِيث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ، وَلَا
تستقبلوا (رَمَضَان) (2) بِصَوْم يَوْم من شعْبَان " (3) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» (4) عَن قُتَيْبَة بن
سعيد، ثَنَا ابْن أبي عدي، عَن (أبي يُونُس) (5) ، عَن سماك بن حَرْب،
قَالَ: " دخلت عَلَى عِكْرِمَة فِي يَوْم يَعْنِي قد أشكل من رَمَضَان هُوَ أَو من
شعْبَان وَهُوَ يَأْكُل خبْزًا وبقلاً ولبناً، فَقَالَ لي: هَلُمَّ. فَقلت: إِنِّي صَائِم. ثمَّ
قَالَ وَحلف بِاللَّه: لتفطرن. قلت: سُبْحَانَ الله - مرَّتَيْنِ - فَلَمَّا رَأَيْته يحلف
لَا يَسْتَثْنِي تقدّمت، فَقلت: هَات الْآن مَا عنْدك. قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس
يَقُول: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: صُومُوا لرُؤْيَته (وأفطروا لرُؤْيَته) (6) فَإِن حَال
بَيْنكُم وَبَينه سَحَابَة أَو ظلمَة فأكملوا الْعدة عدَّة شعْبَان، وَلَا تستقبلوا
الشَّهْر اسْتِقْبَالًا، وَلَا تصلوا رَمَضَان بِصَوْم يَوْم من شعْبَان ". وَرَوَاهُ أَبُو
حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» (7) ، عَن ابْن خُزَيْمَة، ثَنَا يَحْيَى بن مُحَمَّد بن
__________
(1) انْظُر «الِاسْتِيعَاب» (10 / 234) .
(2) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «الشَّرْح الْكَبِير» .
(3) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 212) .
(4) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 462 - 463 رقم 2188) .
(5) فِي «أ» : ابْن يُونُس. وَفِي «م» : أبي أَيُّوب. وهما خطأ، والمثبت من «م» و «سنَن النَّسَائِيّ» وَأَبُو يُونُس هُوَ حَاتِم بن أبي صَغِيرَة، تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (5 / 194 - 195) .
(6) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» ، و «سنَن النَّسَائِيّ» .
(7) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 356 - 357 رقم 3590) .(5/692)
السكن، نَا يَحْيَى بن (1) كثير، ثَنَا شُعْبَة، عَن سماك بن حَرْب قَالَ:
" دخلت عَلَى عِكْرِمَة فِي الْيَوْم الَّذِي يشك فِيهِ من رَمَضَان وَهُوَ يَأْكُل فَقَالَ:
أدن وكل. قلت: إِنِّي صَائِم. قَالَ: وَالله لَتَدْنونَّ [قلت] (2) : فَحَدثني. قَالَ:
حَدثنِي ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: لَا تستقبلوا الشَّهْر اسْتِقْبَالًا،
صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن حَال بَيْنكُم وَبَينه غبرة سَحَاب أَو قترة
فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ ". وَرَوَاهُ الْحَاكِم (3) من حَدِيث شُعْبَة، عَن سماك،
عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: " لَا تستقبلوا الشَّهْر اسْتِقْبَالًا ... "
الحَدِيث، إِلَّا أَن فِي (رِوَايَته) (4) : " وَبَين منظره سَحَابَة أَو قترة " بدل مَا
ذكره، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " لَا تستقبلوا الشَّهْر بِصَوْم
يَوْم أَو يَوْمَيْنِ إِلَّا أَن يُوَافق ذَلِك صياما كَانَ يَصُومهُ أحدكُم " (5) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (6) من هَذَا الْوَجْه، وَلَفظ
مُسلم: " لَا تقدمُوا رَمَضَان بِصَوْم يَوْم (أَو) (7) يَوْمَيْنِ إِلَّا رجل كَانَ يَصُوم
صوما فليصمه ". وَلَفظ البُخَارِيّ: " لَا يتقدمن أحدكُم رَمَضَان بِصَوْم يَوْم أَو
يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَن يكون رجلا كَانَ يَصُوم (صوما) (8) فليصم ذَلِك الْيَوْم "
__________
(1) زَاد فِي «م» : أبي. وَهُوَ خطأ، وَيَحْيَى بن كثير هُوَ ابْن دِرْهَم الْعَنْبَري، تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (31 / 499 - 500) .
(2) فِي «أ، ل، م» : قَالَ. وَكتب فَوْقهَا فِي «م) : كَذَا والمثبت من «صَحِيح ابْن حبَان» .
(3) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 425 - 426) .
(4) فِي «أ، ل) : رِوَايَة. والمثبت من «م» .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 212) .
(6) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 152 رقم 1914) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 762 رقم 1082) .
(7) فِي «صَحِيح مُسلم» : وَلَا.
(8) فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» : صَوْمه.(5/693)
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ (1) بِلَفْظ: " (أَلا لَا تتقدموا) (2) قبل الشَّهْر بصيام إِلَّا رجلا
كَانَ يَصُوم (صياما) (3) أَتَى ذَلِك الْيَوْم عَلَى صِيَامه ". وَفِي النَّسَائِيّ (4) أَيْضا
من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَفعه: " لَا تتقدموا الشَّهْر بصيام يَوْم أَو يَوْمَيْنِ إِلَّا أَن
يُوافق ذَلِك يَوْمًا كَانَ يَصُومهُ أحدكُم ". ثمَّ قَالَ: هَذِه الرِّوَايَة خطأ.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهَى عَن صِيَام سِتَّة أَيَّام أَحدهَا
الْيَوْم الَّذِي يشك فِيهِ " (5) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (6) من حَدِيث الْوَاقِدِيّ: نَا دَاوُد بن
خَالِد بن دِينَار وَمُحَمّد بن مُسلم، عَن المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ:
" نهَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن صَوْم سِتَّة أَيَّام: الْيَوْم الَّذِي يشك فِيهِ من
رَمَضَان، وَيَوْم الْفطر، وَيَوْم الْأَضْحَى، وَأَيَّام التَّشْرِيق " ثمَّ قَالَ: الْوَاقِدِيّ
غَيره أثبت مِنْهُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (7) من حَدِيث الثَّوْريّ، عَن أبي عباد، عَن
أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهَى عَن صِيَام قبل رَمَضَان بِيَوْم،
والأضحى، وَالْفطر، وَأَيَّام التَّشْرِيق ثَلَاثَة أَيَّام بعد يَوْم النَّحْر " ثمَّ قَالَ:
أَبُو عباد (هَذَا) (8) هُوَ عبد الله بن سعيد المَقْبُري غير قوي. وَقَالَ فِي كتاب
__________
(1) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 457 رقم 2171) .
(2) فِي «سنَن النَّسَائِيّ» : لَا تَقَدَّموا.
(3) فِي «م» : صوما.
(4) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 458 رقم 2173) .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 212) .
(6) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 157 رقم 6) .
(7) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 208) .
(8) من «ل، م» .(5/694)
الزَّكَاة (1) : ضَعِيف جدّاً (جَرَّحَهُ) (2) أَحْمد وَيَحْيَى بن معِين وَجَمَاعَة من
الْأَئِمَّة. وَقَالَ فِي أثْنَاء أَبْوَاب الْجُمُعَة (3) : مُنكر الحَدِيث، مَتْرُوك
الحَدِيث، قَالَه ابْن حَنْبَل. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» (4) : هَذَا مِمَّا يتفرد بِهِ أَبُو
عباد وَهُوَ غير مُحْتَج بِهِ. قَالَ (5) : وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيّ بِإِسْنَاد لَهُ وَهُوَ ضَعِيف.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ " (6) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف بَيَانه أول الْبَاب.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " لَا يزَال النَّاس بِخَير مَا عجلوا الْفطر " (7) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (8) بِهَذَا
اللَّفْظ من حَدِيث سهل بن سعد السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي
«صَحِيحه» (9) : " لَا تزَال أمتِي عَلَى سنتي مَا لم تنْتَظر بفطرها النُّجُوم ". قَالَ
الْخَطِيب فِي «المدرج» : وَفِي رِوَايَة زِيَادَة فِي آخِره: " وَلم يؤخروا تَأْخِير
أهل الْمشرق " ثمَّ قَالَ: قَالَ عَلّي بن عمر: قَالَ لنا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي
__________
(1) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 152) .
(2) فِي «ل» : أخرجه. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «أ، م» .
(3) «السّنَن الْكُبْرَى» (3 / 176) .
(4) «الْمعرفَة» (3 / 353) .
(5) «الْمعرفَة» (3 / 353) .
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 212) .
(7) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 214) .
(8) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 234 رقم 1957) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 771 رقم 1098) .
(9) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 277 - 278 رقم 3510) .(5/695)
هَذِه الزِّيَادَة وهم عِنْدِي من مطرف. قَالَ الْخَطِيب: الْأَمر كَمَا قَالَه.
قلت: وَأخرجه الْبَزَّار من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: " لَا يزَال
النَّاس بِخَير مَا عجلوا الْفطر، وَلم (يؤخروا) (1) تَأْخِير الْمُشْركين " وَفِي
سَنَده عبد الْعَزِيز بن عبد الله الْأَصَم (2) وَفِيه جَهَالَة.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث رُوِيَ أَيْضا من حَدِيث أبي ذَر: " لَا تزَال أمتِي
بِخَير ... " الحَدِيث. رَوَاهُ أَحْمد (3) ، وَمن حَدِيث أبي هُرَيْرَة (4) ، وَعَلِيهِ
اقْتصر صَاحب «الْمُهَذّب» وَقد أوضحته فِي تخريجي لأحاديثه.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من وجد التَّمْر فليفطر عَلَيْهِ، وَمن لم يجد التَّمْر
فليفطر عَلَى المَاء فَإِنَّهُ طهُور " (5) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» (6) وَأَبُو دَاوُد (7)
وَالتِّرْمِذِيّ (8) وَالنَّسَائِيّ (9) وَابْن مَاجَه (10) فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان
فِي «صَحِيحه» (11) وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (12) من حَدِيث حَفْصَة بنت
__________
(1) فِي «أ» : يُؤَخر. وَفِي «م» : يُؤَخِّرهُ. والمثبت من «ل» .
(2) تَرْجَمته فِي «الْمِيزَان» (2 / 630 رقم 5110) .
(3) «الْمسند» (5 / 147) .
(4) «الْمسند» (2 / 450) .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 214) .
(6) «الْمسند» (4 / 17) .
(7) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 148 رقم 2347) .
(8) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 46 - 48 رقم 658) .
(9) «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» (2 / 254 رقم 3320) .
(10) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 542 رقم 1699) .
(11) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 281 رقم 3514) .
(12) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 431 - 432) .(5/696)
سِيرِين، عَن الربَاب بنت صُلَيع، عَن عَمها سلمَان بن عَامر الضَّبِّيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " إِذا أفطر أحدكُم فليفطر عَلَى تمر فَإِنَّهُ بركَة،
فَإِن لم يجد تَمرا فالماء فَإِنَّهُ طهُور " هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ وَلَفظ أَحْمد وَأبي
دَاوُد وَالْحَاكِم: " إِذا كَانَ أحدكُم صَائِما فليفطر عَلَى التَّمْر، فَإِن لم يجد
التَّمْر فعلَى المَاء فَإِنَّهُ طهُور ". وَلَفظ النَّسَائِيّ كَلَفْظِ التِّرْمِذِيّ، ثمَّ قَالَ: وَلَا
أعلم أحدا قَالَ: " فَإِنَّهُ بركَة " غير سُفْيَان. وَلَفظ ابْن مَاجَه: " إِذا أفطر
أحدكُم فليفطر عَلَى تمر، فَإِن لم يجد فليفطر عَلَى المَاء فَإِنَّهُ طهُور ".
وَلَفظ ابْن حبَان: " من وجد تَمرا فليفطر عَلَيْهِ، وَمن لم يجد فليفطر عَلَى
المَاء فَإِنَّهُ طهُور " وَفِي رِوَايَة لَهُ (1) : " إِذا أفطر أحدكُم فليفطر عَلَى تمر فَإِن
لم يجد (فليحسو حسوات) (2) من مَاء " ذكر هَذِه (اللَّفْظَة) (3) من الطَّرِيق
(الأولَى) (4) ، وَالْأولَى (5) من حَدِيث حَفْصَة عَن سلمَان، كَذَا وجدته،
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن (صَحِيح) (6) . وَلَعَلَّه علم حَال الربَاب
بنت صليعٍ فَإِنَّهَا مستورة، وَقد ذكرهَا ابْن حبَان فِي «ثقاته» (7) . وَقَالَ
الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَلم يخرجَاهُ. قَالَ ابْن
أبي حَاتِم فِي «علله» (8) : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: صَحِيح من طريقيه. وَقَالَ
__________
(1) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 281 - 282 رقم 3515) .
(2) «صَحِيح ابْن حبَان» : فليحس حسوة.
(3) من «م» .
(4) فِي «م» : الأول. والمثبت من «أ، ل» ويقصد بِهِ طَرِيق حَفْصَة، عَن الربَاب، عَن سلمَان الضَّبِّيّ.
(5) أَي طَرِيق اللَّفْظ الأول لِابْنِ حبَان.
(6) لَيست فِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» . وَفِي التُّحْفَة (4 / 25) كَمَا هُوَ مُثبت.
(7) «الثِّقَات» (4 / 244 - 245) .
(8) «علل ابْن أبي حَاتِم» (1 / 237 رقم 687) .(5/697)
الْبَيْهَقِيّ (1) ، وَرَوَاهُ هِشَام الدستوَائي، عَن حَفْصَة بنت سِيرِين، عَن
الربَاب، عَن سلمَان فَلم يرفعهُ.
قلت: غَرِيب عَن الدستوَائي لم نره إِلَّا عِنْد الْبَيْهَقِيّ، وَهُوَ عِنْد ابْن
مَنْدَه فِي «معرفَة الصَّحَابَة» عَن هِشَام بن حسان، عَن حَفْصَة مَوْقُوفا، وَفِي
النَّسَائِيّ (2) كَذَلِك عَن هِشَام لكنه لم ينْسبهُ، وَهُوَ هُوَ. قَالَ الْحَاكِم (3) : وَله
شَاهد صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم ... فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَى أنس بن مَالك،
قَالَ: " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يفْطر عَلَى رطبات قبل أَن يُصَلِّي، فَإِن لم يكن
رطبات فعلَى تمرات، فَإِن لم يكن تمرات حسا حسوات من مَاء " وَفِي
رِوَايَة لَهُ: " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لَا يُصَلِّي الْمغرب حَتَّى يفْطر وَلَو كَانَ عَلَى
شربة من مَاء ". وَرَوَى حَدِيث أنس هَذَا أَحْمد (4) وَالتِّرْمِذِيّ (5) وَالنَّسَائِيّ (6)
وَالدَّارَقُطْنِيّ (7) بِاللَّفْظِ الأول. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّه حسن غَرِيب. وَقَالَ
النَّسَائِيّ: هُوَ خطأ، وَإِن الصَّوَاب حَدِيث سلمَان. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاد
صَحِيح. وَقَالَ الْبَزَّار: لَا أعلم من رَوَاهُ عَن ثَابت، عَن أنس إِلَّا جَعْفَر بن
سُلَيْمَان. وَذكره ابْن عدي (8) أَيْضا فِي أَفْرَاد جَعْفَر، عَن ثَابت. وَقَالَ ابْن
أبي حَاتِم فِي «علله» (9) : سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَنهُ فَقَالَا: لم يرفع إِلَّا من
حَدِيث عبد الرَّزَّاق، وَلَا نَدْرِي من أَيْن جَاءَ بِهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيّ (10)
__________
(1) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 238) .
(2) «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» (2 / 254 - 255 رقم 3321 - 3326) .
(3) الْمُسْتَدْرك» (1 / 432) .
(4) «الْمسند» (3 / 164) .
(5) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 79 رقم 696) .
(6) «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» (2 / 253 رقم 3317) .
(7) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 185 رقم 24) .
(8) «الْكَامِل» (2 / 386 - 387) .
(9) «علل ابْن أبي حَاتِم» (1 / 224 - 225 رقم 652) .
(10) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 77 - 78 رقم 694) .(5/698)
وَالْحَاكِم (1) من حَدِيث أنس أَيْضا أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من وجد
تَمرا ... " الحَدِيث، بِمثل لفظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث
صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
تَنْبِيه: حَدِيث مُوسَى الطَّوِيل، عَن أنس الْمَرْفُوع: " من أفطر عَلَى
تَمْرَة حَلَال زيد فِي صلَاته أَرْبَعمِائَة صَلَاة " مَوْضُوع، ذكره ابْن حبَان فِي
«ضُعَفَائِهِ» (2) . وَقَالَ: مُوسَى رَوَى عَن أنس أَشْيَاء مَوْضُوعَة كَانَ يَضَعهَا أَو
وضعت لَهُ، لَا يحل كتب حَدِيثه إِلَّا تَعَجبا. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي
«مَوْضُوعَاته» (3) وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح فَتنبه لَهُ.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " تسحرُوا فَإِن (فِي) (4) السّحُور بركَة " (5) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (6) من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
كَذَلِك، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» (7) و (أَبُو زرْعَة فِي «صَحِيحه» أَيْضا من
حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَابْن مَسْعُود، وَرَوَاهُ) (8) أَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» (9) .
__________
(1) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 431) .
(2) فِي «أ، ل» : مَوْضُوعَاته. والمثبت من «م» والْحَدِيث فِي «كتاب الضُّعَفَاء والمجروحين» (2 / 243) .
(3) «الموضوعات» (2 / 558) .
(4) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «الشَّرْح الْكَبِير» .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 214) .
(6) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 165 رقم 1923) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 770 رقم 1095) .
(7) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 448 رقم 2145) .
(8) من «م» . وَلَعَلَّ الصَّوَاب «أَبُو عوَانَة» بدل «أَبُو زرْعَة» فَإِن أَبَا عوَانَة رَوَى هَذَا الحَدِيث فِي «مُسْنده» (2 / 178 رقم 2745 - 2747) من حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَفِي (2 / 178، 179 رقم 2744، 2751 - 2753) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
(9) «مُسْند أبي عوَانَة» (2 / 179 رقم 2755) .(5/699)
أَيْضا من حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى، عَن أَخِيه، عَن أَبِيه، عَن أبي لَيْلَى، عَن
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِمثلِهِ.
فَائِدَة: فِي سنَن ابْن مَاجَه (1) و «مُسْتَدْرك» الْحَاكِم (2) عَن ابْن عَبَّاس
مَرْفُوعا: " اسْتَعِينُوا بِطَعَام السحر عَلَى صِيَام النَّهَار، وبقيلولة النَّهَار عَلَى
قيام اللَّيْل ". قَالَ الْحَاكِم: هَذَا من (عَزِيز) (3) الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب،
وَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» (4) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا:
" اسْتَعِينُوا بالقيلولة عَلَى (الْقيام) (5) ، وبالسحور عَلَى الصّيام ". ثمَّ قَالَ:
سَأَلت أبي عَنهُ، فَقَالَ: إِسْنَاده مَجْهُول.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ " أَنه كَانَ بَين تسحر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَعَ زيد بن ثَابت ودخوله فِي
(الصَّلَاة) (6) قدر مَا يقْرَأ الرجل خمسين آيَة " (7) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " (8) من
حَدِيث قَتَادَة، عَن أنس، عَن زيد بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " تسحرنا مَعَ رَسُول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمَّ قمنا إِلَى الصَّلَاة. قَالَ أنس: فَقلت: كم كَانَ قدر مَا بَينهمَا؟
قَالَ: خمسين آيَة " وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ (9) فِي بَاب وَقت الْفجْر: " خمسين
__________
(1) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 540 رقم 1693) .
(2) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 425) .
(3) فِي «الْمُسْتَدْرك» : غرر.
(4) «علل ابْن أبي حَاتِم» (1 / 241 رقم 701) .
(5) فِي «أ» : الصّيام. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «ل، م» و «الْعِلَل» .
(6) فِي «الشَّرْح الْكَبِير» : صَلَاة الصُّبْح.
(7) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 214) .
(8) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 164 رقم 1921) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 771 رقم 1097) .
(9) «صَحِيح البُخَارِيّ» (2 / 64 - 65 رقم 575) .(5/700)
أَو سِتِّينَ " (وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي (1) : " قدر قِرَاءَة خمسين آيَة " وَفِي رِوَايَة
للنسائي (2) : " قدر مَا يقْرَأ الرجل خمسين آيَة ") (3) . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ (4)
عَن أنس " أَن نَبِي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَزيد بن ثَابت تسحرا، فَلَمَّا فرغا من سحورهما
قَامَ نَبِي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلَى الصَّلَاة (فَصَلى) (5) . قَالَ: قُلْنَا لأنس: كم كَانَ بَين
فراغهما من سحورهما ودخولهما فِي الصَّلَاة؟ قَالَ: قدر مَا يقْرَأ الرجل
خمسين آيَة ".
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهَى عَن الْوِصَال
فَقيل: يَا رَسُول الله، إِنَّك تواصل! فَقَالَ: إِنِّي لست مثلكُمْ، إِنِّي أطْعم
وأسقى " (6) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (7) من هَذَا الْوَجْه " أَن رَسُول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهَى عَن الْوِصَال، قَالُوا: إِنَّك تواصل! قَالَ: إِنِّي لست كهيئتكم
إِنِّي أطْعم وأسقى " وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة (8) ، وَعَائِشَة (9) ،
__________
(1) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 84 - 85 رقم 703 - 704) .
(2) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 450 - 451 رقم 2154 - 2155) .
(3) تَكَرَّرت فِي «أ» .
(4) «صَحِيح البُخَارِيّ» (2 / 65 رقم 576) .
(5) فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» : فَصَليَا.
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 214) .
(7) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 238 رقم 1962) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 774 رقم 1102) .
(8) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 242 رقم 1965) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 774 رقم 1103) .
(9) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 238 رقم 1964) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 776 رقم 1105) .(5/701)
وَأنس (1) ، وَانْفَرَدَ بِهِ البُخَارِيّ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ (2) ، وَقد
ذكرتها فِي «تخريجي لأحاديث الْوَسِيط» فَرَاجعهَا مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
قَالَ الرَّافِعِيّ (3) : وكراهية الْوِصَال كَرَاهِيَة تَحْرِيم؛ لظَاهِر النَّهْي
ولمبالغة النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي منع من وَاصل.
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» (4) من حَدِيث أنس: «وَاصل
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي آخر شهر رَمَضَان، فواصل نَاس من الْمُسلمين، فَبَلغهُ
ذَلِك فَقَالَ: لَو مد لنا الشَّهْر لواصلنا وصالاً يدع (المتعمقون) (5) تعمقهم،
إِنَّكُم لَسْتُم مثلي - أَو قَالَ: إِنِّي لست مثلكُمْ - إِنِّي أظل يطعمني رَبِّي
ويسقيني ". و (فيهمَا) (6) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «أَنه لما نهَى عَن الْوِصَال،
فَلَمَّا أَبَوا أَن ينْتَهوا عَنهُ وَاصل بهم يَوْمًا ثمَّ يَوْمًا ثمَّ رَأَوْا الْهلَال
(فَقَالَ: (7) لَو تَأَخّر الْهلَال لزدتكم. كالمنكل لَهُم حِين أَبَوا أَن ينْتَهوا»
وَفِي بعض طرق البُخَارِيّ: «كالمنكر» بالراء (8) .
__________
(1) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 238 رقم 1961) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 775 رقم 1104) .
(2) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 238 رقم 1963) .
(3) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 214 - 215) .
(4) «صَحِيح البُخَارِيّ» (13 / 237 - 238 رقم 7241) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 776 رقم 1104 / 60) وَاللَّفْظ لَهُ.
(5) فِي «أ، ل» : المعمقون. والمثبت من «م» و «صَحِيح مُسلم» .
(6) فِي «أ، ل» : فِيهَا. والمثبت من «م» . والْحَدِيث فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 242 رقم 1965) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 774 رقم 1103 / 57) .
(7) سَقَطت من «أ» والمثبت من «م، ل» ومصدري التَّخْرِيج.
(8) قَالَ ابْن حجر فِي «الْفَتْح» (4 / 243) : وَوَقع فِيهَا عِنْد الْمُسْتَمْلِي: «كالمنكر» بالراء وَسُكُون النُّون - من الْإِنْكَار.(5/702)
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
" أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ أَجود النَّاس بِالْخَيرِ (1) ، وَكَانَ أَجود مَا يكون
فِي رَمَضَان» (2) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (3) من حَدِيث ابْن عَبَّاس
بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة فِي آخِره: " حِين يلقاه جِبْرِيل لله وَكَانَ جِبْرِيل لله
يلقاه كل لَيْلَة فِي رَمَضَان حَتَّى يَنْسَلِخ، يعرض عَلَيْهِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الْقُرْآن فَإِذا
لقِيه جِبْرِيل كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَجود بِالْخَيرِ من الرّيح الْمُرْسلَة ".
فَائِدَة: «أَجود» رُوِيَ (وَكَانَ أجودُ) (4) بِرَفْع الدَّال ونصبها، وَالرَّفْع
أَجود (5) وَقَالَ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» : قَالَ شَيخنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن
أبي الْفضل السّلمِيّ الْمُفَسّر الْمُحدث الْفَقِيه الأصولي النَّحْوِيّ: (هُوَ) (6)
بِالرَّفْع وَلَا يجوز نَصبه؛ لِأَن «مَا» مَصْدَرِيَّة مُضَافَة (إِلَى) (7) «أَجود» وَتَقْدِير
الْكَلَام: وَكَانَ جوده الْكثير فِي رَمَضَان. وَإِذا (قيل: وَكَانَ جوده) (8) فِي
رَمَضَان بِالنّصب عَلَى الْخَبَر لم يجز ذَلِك إِلَّا اتساعاً (وَهُوَ قَبِيح) (9) وَلَو
قَدرنَا «مَا» نكرَة مُضَافَة لدخل فِي ذَلِك من يتَصَوَّر مِنْهُ الْجُود وَمن لَا
يتَصَوَّر، وَذَلِكَ غير شَائِع فِي اللِّسَان. قَالَ (الْمُحب) (10) : وَيُمكن أَن
__________
(1) زَاد فِي «أ» : الْمُرْسلَة. وَفِي «ل» : كَالرِّيحِ الْمُرْسلَة.
(2) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 215) .
(3) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 139 رقم 1902) وَاللَّفْظ لَهُ، و «صَحِيح مُسلم» (4 / 1803 رقم 2308) .
(4) من «أ، ل» .
(5) زَاد فِي «أ، ل» : وَقَوله كَالرِّيحِ.
(6) فِي «م» : هَذَا. والمثبت من «أ، ل» .
(7) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(8) فِي «أ» : قيل وَكَانَ وجوده. وَفِي «م» : قيله فَكَانَ هُوَ وجوده. والمثبت من «ل» .
(9) من «أ، ل» .
(10) من «م» .(5/703)
يُقَال: يخص النكرَة باقتران الْجُود بهَا فَلَا يدْخل (فِيهَا) (1) إِلَّا من يتَصَوَّر
مِنْهُ الْجُود وَحِينَئِذٍ يجوز النصب. قَالَ أَبُو عبد الله: وَالرَّفْع من ثَلَاثَة
أوجه: أَحدهَا: أَن تكون بَدَلا من (الْمُضمر) (2) بدل اشْتِمَال (كَقَوْلِك) (3)
نَفَعَنِي زيد علمه (الغزير) (4) . وَالثَّانِي: أَن يكون مُبْتَدأ و «فِي رَمَضَان»
خَبره، وَالْجُمْلَة خبر اسْم كَانَ الْمُضمر. وَالثَّالِث: (أَن) (5) يكون (هُوَ) (6)
نَفسه اسْم كَانَ، وَالْخَبَر «فِي رَمَضَان» .
(وَقَوله: كَالرِّيحِ) (7) الْمُرْسلَة: يَعْنِي فِي الْإِسْرَاع والعموم، قد جَاءَ
فِي «مُسْند أَحْمد» (8) «وَهُوَ أَجود من الرّيح الْمُرْسلَة لَا يسْأَل عَن شَيْء
إِلَّا أعطَاهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الشَّهْر الَّذِي هلك بعده عرضه عَلَيْهِ عرضتين»
وَحَكَى صَاحب «الْمطلب» فِي آخر قسم الصَّدقَات فِي ذَلِك وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه أسْرع إِلَى الْخَيْر من الرّيح تهب. (وَثَانِيهمَا: أَنه أَعم بِالْخَيرِ
من) (9) غَيره؛ فخيره يعم الْبر والفاجر وكل أحدٍ، كَالرِّيحِ تهب عَلَى كل
صعُود وهبوط، وخبيث وَطيب، وَرطب ويابس.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
" أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يلقى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي كل لَيْلَة (من) (10)
__________
(1) من «م» .
(2) فِي «أ، ل» : الضَّمِير. والمثبت من «م» .
(3) فِي «أ، ل» : كَذَلِك. والمثبت من «م» .
(4) فِي «ل» : الْعَزِيز. وَفِي «م» : الْقَرِيب. والمثبت من «أ» .
(5) من «م» .
(6) من «م» .
(7) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(8) «الْمسند» (1 / 326) .
(9) تَكَرَّرت فِي «أ» .
(10) فِي «أ، ل» : فِي. والمثبت من «م» و «الشَّرْح الْكَبِير» .(5/704)
رَمَضَان (فيتدراسان) (1) الْقُرْآن " (2) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَهُوَ بعض من الحَدِيث الَّذِي قبله كَمَا
(ترَاهُ) (3) .
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يعْتَكف الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان ويواظب عَلَيْهِ " (4) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (5) من حَدِيث عَائِشَة رَضِي
الله عَنْهَا " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يعْتَكف الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان حَتَّى توفاه
الله - عَزَّ وَجَلَّ - ثمَّ اعْتكف أَزوَاجه من بعده ". وَأَخْرَجَاهُ (6) أَيْضا من حَدِيث ابْن
عمر: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعْتَكف فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان»
وَأَخْرَجَاهُ (7) من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ " أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اعْتكف
الْعشْر الْأَوْسَط مَعَه ".
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من لم يدع قَول الزُّور
__________
(1) فِي «أ، ل» : فيدارسان. والمثبت من «م» و «الشَّرْح الْكَبِير» .
(2) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 215) .
(3) فِي «أ، ل» : ستراه. والمثبت من «م» .
(4) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 215) .
(5) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 318 رقم 2026) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 831 رقم 1172 / 5) .
(6) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 318 رقم 2025) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 830 رقم 1172) .
(7) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 318 - 319 رقم 2027) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 824 - 827 رقم 1167) .(5/705)
وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَة فِي أَن يدع طَعَامه وَشَرَابه " (1) . هَذَا الحَدِيث
صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ (2) كَذَلِك مُنْفَردا بِهِ، وَزَاد بعد: " وَالْعَمَل بِهِ ":
" وَالْجهل ". خرجه هُنَا، وَفِي الْأَدَب من " صَحِيحه " (3) ، وَرَوَاهُ أَيْضا
أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة (4) . وَقَالَ ابْن تَيْمِية فِي «الْمُنْتَقَى» (5) : لم يروه
النَّسَائِيّ وَهُوَ غَرِيب. وَمِمَّنْ عزاهُ إِلَى النَّسَائِيّ ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» .
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " الصّيام جُنة، فَإِذا كَانَ
أحدكُم صَائِما فَلَا يرْفث وَلَا يجهل، فَإِن امْرُؤ شاتمه أَو قَاتله فَلْيقل إِنِّي
صَائِم " (6) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (7)
مُخْتَصرا بِلَفْظ: " إِذا أصبح أحدكُم يَوْمًا صَائِما فَلَا يرْفث، وَلَا يجهل، فَإِن
امْرُؤ شاتمه أَو قَاتله فَلْيقل: إِنِّي صَائِم " وَأَخْرَجَاهُ (8) أَيْضا فِي أثْنَاء حَدِيث
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 215) .
(2) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 139 رقم 1903) بِدُونِ الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة.
(3) «صَحِيح البُخَارِيّ» (10 / 488 رقم 6057) بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَة.
(4) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 150 رقم 2354) و «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 87 رقم 707) و «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» (2 / 138 - 239 رقم 3245 - 3248) و «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 539 رقم 1689) .
(5) «نيل الأوطار» (4 / 207) .
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 215) .
(7) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 125 رقم 1894) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 806 رقم 1151 / 160) وَاللَّفْظ لَهُ، وَفِيه " إِنِّي صَائِم " مرَّتَيْنِ.
(8) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 141 رقم 1904) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 807 رقم 1151 / 163) .(5/706)
طَوِيل قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " قَالَ الله: كل عمل ابْن آدم لَهُ إِلَّا الصّيام
فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ. وَالصِّيَام جنَّة، فَإِذا كَانَ يَوْم صَوْم أحدكُم فَلَا يرْفث
يَوْمئِذٍ وَلَا يصخب، فَإِن (سابه) (1) أحد أَو قَاتله فَلْيقل: إِنِّي امْرُؤ صَائِم،
إِنِّي صَائِم. وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لخلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله عَزَّ وَجَلَّ
- زَاد مُسلم: " يَوْم الْقِيَامَة " - من ريح الْمسك، وللصائم فرحتان يفرحهما
إِذا أفطر فَرح بفطره، وَإِذا لَقِي الله - تبَارك وَتَعَالَى - فَرح بصومه ".
فَائِدَة: قَوْله: " الصّيام جنَّة " أَي: ستر من النَّار ومانع. و " الرَّفَث ":
الْكَلَام الْقَبِيح. و " الصخب ": الصياح. و " لَا يجهل ": وَلَا يقل قَول أهل
الْجَهْل من رفث الْكَلَام وَشبهه. وَمَعْنى " شاتمه ": شَتمه (متعارضاً
بمشاتمته) (2) . وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: " فَلْيقل إِنِّي صَائِم ": هَل يَقُوله بِلِسَانِهِ أَو
بِقَلْبِه، أَو يجمع بَينهمَا، أَو يفرق بَين الْفَرْض والتطوع؟ عَلَى آراء، وَقد
ذكرتها فِي «شرح الْمِنْهَاج» وَغَيره، فَرَاجعهَا مِنْهُ إِن شِئْت. وَجزم بِالثَّانِي
ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» (3) مستدلاًّ بِمَا أخرجه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة
مَرْفُوعا: " لَا تسابَّ وَأَنت صَائِم وَإِن سَابَّك أحَدٌ فَقل: إِنِّي صَائِم، وَإِن
كنت قَائِما فاجلس ".
الحَدِيث التَّاسِع بعد (الثَّلَاثِينَ) (4)
عَن خباب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " إِذا صمتم فاستاكوا بِالْغَدَاةِ، وَلَا
__________
(1) فِي «ل، م» : شاتمه. والمثبت من «أ» ومصدري التَّخْرِيج.
(2) فِي «أ، ل» : متعرضاً لشاتمه. والمثبت من «م» .
(3) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 259 رقم 3483) .
(4) فِي «أ» : الْأَرْبَعُونَ. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «م» .(5/707)
تستاكوا بالْعَشي، فَإِنَّهُ لَيْسَ من صَائِم تيبس شفتاه بالْعَشي إِلَّا كَانَتَا نورا بَين
عَيْنَيْهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " (1) .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (2) ثمَّ الْبَيْهَقِيّ (3) كَذَلِك
وضعفاه بِسَبَب كيسَان [أبي] (4) عمر [الْقصار] (5) رَاوِيه عَن عَمْرو بن عبد
الرَّحْمَن، عَن خباب وَقَالا: إِنَّه لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ يَحْيَى: ضَعِيف
الحَدِيث. وَضَعفه أَيْضا السَّاجِي فِي «كِتَابه» وروياه (6) عَن عَلّي مَوْقُوفا
كَذَلِك وَفِي إِسْنَاده كيسَان الْمَذْكُور، عَن يزِيد بن بِلَال، عَن عَلّي. قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: وكيسان لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَمن بَينه وَبَين عَلّي غير مَعْرُوف - يَعْنِي
يزِيد بن بِلَال. وَقد وهاه الْأَزْدِيّ وَابْن حبَان (7) وَقَالا: إِنَّه مُنكر الحَدِيث.
قَالَ ابْن حبَان (8) : يروي عَن عَلّي مَا لَا يشبه حَدِيثه، لَا يجوز الِاحْتِجَاج
بِهِ إِذا انْفَرد، وَإِن اعْتبر بِهِ مُعْتَبر فِيمَا وَافق الثِّقَات من غير أَن يحْتَج بِهِ لم
أر بِهِ بَأْسا.
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يصبح جنبا من جماع أَهله ثمَّ يَصُوم " (9) .
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 215) .
(2) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 204 رقم 8) .
(3) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 274) .
(4) فِي «أ، ل» : بن. وَفِي «م» : إِلَى. والمثبت هُوَ الصَّوَاب، وكيسان أَبُو عمر الْقصار مولَى يزِيد بن بِلَال بن الْحَارِث الْفَزارِيّ تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (24 / 242 - 243) .
(5) فِي «أ، ل، م» : القصاب. انْظُر تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (3 / 27 رقم 2809) .
(6) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 204 رقم 7) و «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 274) .
(7) «الْمَجْرُوحين» (3 / 105) .
(8) «الْمَجْرُوحين» (3 / 105) .
(9) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 216) .(5/708)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (1) من حَدِيث عَائِشَة (وَأم
سَلمَة) (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يصبح جنبا من جماع غير
احْتِلَام ثمَّ يَصُوم فِي رَمَضَان " وَمن حَدِيث أم سَلمَة (3) أَيْضا قَالَ: (كَانَ
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصبح جنبا من جماع لَا حلم ثمَّ لَا يفْطر " زَاد مُسلم: (
" وَلَا يقْضِي " وَفِي رِوَايَة " (4) لِابْنِ حبَان (5) من حَدِيث عَائِشَة: " كَانَ يصبح
جنبا من طروقه ثمَّ يَصُوم ".
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ " (6) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (7) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
(وَهُوَ مذْهبه) (8) ثمَّ رَجَعَ عَن ذَلِك لما أخبر عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة " بِأَنَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَام (كَانَ) (9) يصبح جنبا من غير حلم ثمَّ يَصُوم ". وَقَالَ: سَمِعت
ذَلِك من الْفضل وَلم أسمعهُ من النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ (10) : روينَا
__________
(1) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 169 - 170 رقم 1925، 1926) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 780 - 781 رقم 1109 / 78) .
(2) من «أ، ل» .
(3) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 182 رقم 1932) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 780 - رقم 1109 / 77) .
(4) تَكَرَّرت فِي «أ، ل» .
(5) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 267 رقم 3493، 3494) .
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 216) .
(7) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 169 - 170 رقم 1925، 1926) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 779 - 780 رقم 1109 / 75) .
(8) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(9) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(10) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 215) .(5/709)
عَن ابْن الْمُنْذر أَنه قَالَ: أحسن مَا سَمِعت فِي هَذَا الحَدِيث أَنه مَنْسُوخ؛
لِأَن الْجِمَاع فِي أول الْإِسْلَام كَانَ محرما عَلَى الصَّائِم فِي اللَّيْل بعد النّوم
كالطعام وَالشرَاب، فَلَمَّا أَبَاحَ الله - تَعَالَى - الْجِمَاع إِلَى طُلُوع الْفجْر جَازَ
للْجنب إِذا أصبح قبل الِاغْتِسَال أَن يَصُوم، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُفْتِي بِمَا
سَمعه من الْفضل بن عَبَّاس، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلَى الْأَمر الأول، وَلم يعلم
النّسخ، فَلَمَّا سمع خبر عَائِشَة وَأم سَلمَة رَجَعَ إِلَيْهِ، وَأجَاب الرَّافِعِيّ (1) فِي
الْكتاب وَغَيره بِأَنَّهُ مَحْمُول عِنْد الْأَئِمَّة عَلَى مَا إِذا أصبح مجامعاً واستدامه
مَعَ علمه بِالْفَجْرِ. وَأجَاب ابْن الْجَوْزِيّ فِي «إِعْلَامه» بِحمْلِهِ عَلَى من أجنب
من الْجِمَاع بعد طُلُوع الْفجْر، وَفِيه بعد.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين
عَن معَاذ: " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا أفطر قَالَ: اللَّهُمَّ لَك صمت
وَعَلَى رزقك أفطرت " (2) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» (3) بِهَذَا اللَّفْظ عَن مُسَدّد، نَا
هشيم، عَن حُصَيْن، عَن معَاذ بن زهرَة أَنه بلغه " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ إِذا
أفطر قَالَ ... " (فَذكره) (4) وَهَذَا إِسْنَاد حسن لكنه مُرْسل؛ معَاذ بن زهرَة لم
يدْرك النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَأخرجه الْبَغَوِيّ فِي «شرح السّنة» (5) كَذَلِك وَلم يذكر فِيهِ
أَنه بلغه، وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث مُتَّصِلا أَيْضا، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي
«سنَنه» (6) من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا وَقَالَ: " صمنا وأفطرنا " بدل:
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 216) .
(2) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 216) .
(3) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 149 رقم 2350) .
(4) فِي «أ، ل» : ذكره. والمثبت من «م» .
(5) «شرح السّنة» (6 / 265 رقم 1741) .
(6) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 185 رقم 26) .(5/710)
" صمت وَأَفْطَرت " وَزَاد فِي آخِره: " فَتقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم ".
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» (1) بِلَفْظ: " كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا أفطر
قَالَ: لَك صمت وَعَلَى رزقك أفطرت " وَفِي إسنادهما عبد الْملك بن
هَارُون (2) ، وَقد ضَعَّفُوهُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ وَأَبوهُ ضعيفان. وَقَالَ
يَحْيَى (3) : عبد الْملك كَذَّاب. زَاد السَّعْدِيّ: دجال. وَقَالَ ابْن حبَان:
وَضاع. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ: عبد الْملك بن أبي عَمْرو حَتَّى لَا
يعرف. وَذكره صَاحب «الْمُهَذّب» (4) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، ثمَّ بيض لَهُ
الْمُنْذِرِيّ، و (استغربه) (5) النَّوَوِيّ وَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ بِمَعْرُوف. وَقد ذكرته فِي
تخريجي (لأحاديثه) (6) مُسْندًا فاستفده مِنْهُ.
فَائِدَة: فِي «سنَن أبي دَاوُد» (7) ، وَالنَّسَائِيّ (8) ، و «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير»
و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» (9) ، و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (10) من حَدِيث ابْن عمر
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ:) (11) " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا أفطر قَالَ: ذهب الظمأ وابتلت الْعُرُوق، وَثَبت الْأجر إِن شَاءَ الله - تَعَالَى " قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ:
إِسْنَاده حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
__________
(1) «المعجم الْكَبِير» (12 / 146 رقم 12720) .
(2) تَرْجَمته فِي «ميزَان الِاعْتِدَال» (2 / 666 - 667 رقم 5259) .
(3) زَاد فِي «م» : بن. وَهُوَ خطأ، فيحيى هُوَ ابْن معِين، وَعبد الْملك هُوَ ابْن هَارُون بن عنتر.
(4) «الْمُهَذّب» (1 / 187) .
(5) فِي «أ، ل» : أستغرب. والمثبت من «م» وَقَول النَّوَوِيّ فِي «الْمَجْمُوع» (6 / 382) .
(6) فِي «أ، ل» : لأحاديث. والمثبت من «م» وَمَعْنَاهُ أَي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب.
(7) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 148 - 149 رقم 2349) .
(8) «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» (2 / 255 رقم 3329، 6 / 82 رقم 10131) .
(9) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 422) .
(10) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 185 رقم 25) .
(11) من «م» .(5/711)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْأَرْبَعين
عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " إِن الله وضع عَن الْمُسَافِر الصَّوْم وَشطر
الصَّلَاة " (1) .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طَرِيقين: إِحْدَاهمَا: عَن عَمْرو بن أُميَّة
الضمرِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " قدمت عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ لي: (أَلا تنْتَظر) (2)
الْغَدَاء يَا أَبَا أُميَّة؟ قلت: إِنِّي صَائِم (ثمَّ قَالَ) (3) : تعال أخْبرك عَن
الْمُسَافِر، إِن الله وضع عَنهُ يَعْنِي: الصّيام وَنصف الصَّلَاة " رَوَاهُ
النَّسَائِيّ (4) .
ثَانِيهمَا: عَن أنس بن مَالك الكعبي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: " إِن الله وضع شطر
الصَّلَاة عَن الْمُسَافِر، وأرخص لَهُ فِي الْإِفْطَار، وأرخص فِيهِ للمرضع
والحبلى إِذا خافتا عَلَى ولديهما " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (5) ، وَهَذَا لَفظه، وَفِي آخر
لَهُ: " إِن الله (وضع) (6) شطر الصَّلَاة عَن الْمُسَافِر، وَوضع عَنهُ الصَّوْم،
وَوضع عَن الْحَامِل والمرضع الصّيام. وَالله لقد قالهما رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
كليهمَا، أَو (أَحدهمَا) (7) وَالتِّرْمِذِيّ (8) ، وَلَفظه: " إِن الله وضع عَن
الْمُسَافِر [الصَّوْم و] (9) شطر الصَّلَاة، وَعَن الْحَامِل أَو الْمُرْضع الصَّوْم [أَو
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 217) .
(2) فِي «أ» : لَا تنظر. وَفِي «ل» : لَا تنْتَظر. والمثبت من «م» و «سنَن النَّسَائِيّ» .
(3) فِي «سنَن النَّسَائِيّ» : فَقَالَ.
(4) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 490 رقم 2267) .
(5) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 169 - 170 رقم 2400) .
(6) سَقَطت من «أ» والمثبت من «ل، م» .
(7) فِي «أ، ل» : إِحْدَاهمَا. والمثبت من «م» .
(8) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 94 - 95 رقم 715) .
(9) من «جَامع التِّرْمِذِيّ» .(5/712)
الصّيام] (1» . وَالنَّسَائِيّ (2) وَلَفظه كَمَا فِي الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَفِي آخر لَهُ (3) :
" إِن الله وضع عَن الْمُسَافِر الصَّوْم وَنصف (الصَّلَاة) (4) وَرخّص للحبلى
والمرضع ". وَفِي آخر لَهُ (5) : " إِن الله وضع عَن الْمُسَافِر (6) الصَّلَاة - يَعْنِي
نصفهَا - وَالصَّوْم وَعَن الحبلى والمرضع " وَابْن مَاجَه (7) وَلَفظه: " إِن الله
وضع عَن الْمُسَافِر شطر الصَّلَاة، وَعَن الْمُسَافِر وَالْحَامِل والمرضع
الصَّوْم، أَو الصّيام. وَالله لقد (قالهما) (8) النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلتاهما أَو
(إِحْدَاهمَا) (9» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» (10) بِلَفْظ الْكتاب وَزِيَادَة: " وَعَن
الحبلى أَو الْمُرْضع " وَالْبَيْهَقِيّ (11) وَلَفظه كَلَفْظِ النَّسَائِيّ الثَّانِي إِلَّا أَنه
قَالَ: «شطر» بدل «نصف» . وَرَوَاهُ فِي «خلافياته» بِلَفْظ: " إِن الله وضع عَن
الْمُسَافِر وَالْحَامِل والمرضع الصَّوْم وَشطر الصَّلَاة " قَالَ التِّرْمِذِيّ (12) :
هَذَا حَدِيث حسن، وَلَا نَعْرِف لأنس هَذَا عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غير هَذَا الحَدِيث.
وَقَالَ عبد الْحق (13) : فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث اخْتِلَاف كثير. قلت: سنداً
ومتناً. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي «معرفَة الصَّحَابَة» : اخْتلف
__________
(1) من «جَامع التِّرْمِذِيّ» .
(2) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 492 رقم 2275) .
(3) (4 / 492 رقم 2276) من حَدِيث أبي قلَابَة عَن رجل.
(4) سَقَطت من «أ» والمثبت من «م، ل) .
(5) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 491 رقم 2273) .
(6) زَاد فِي «ل» : شطر.
(7) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 533 رقم 1667) .
(8) فِي «أ، ل» قَالَهَا. والمثبت من «م» و «سنَن ابْن مَاجَه» .
(9) فِي «أ، ل» : أَحدهمَا. والمثبت من «م» و «سنَن ابْن مَاجَه» .
(10) «الْمسند» (5 / 29) .
(11) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 231) .
(12) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 95) .
(13) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 234) . وَلَكِن ذكر الحَدِيث عَن عبد الله بن الشخير.(5/713)
فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث (اخْتِلَاف كثير) (1) ، وَفِي اسْم (رَاوِيه) (2) . وَقَالَ
ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» (3) : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: اخْتلف
فِيهِ، وَالصَّحِيح أنس بن مَالك (الْقشيرِي) (4) .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْأَرْبَعين
" أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج عَام الْفَتْح إِلَى مَكَّة فِي رَمَضَان فصَام حَتَّى
بلغ كرَاع الغميم فصَام النَّاس، ثمَّ دَعَا بقدح من مَاء فرفعه حَتَّى نظر النَّاس
ثمَّ شرب، فَقيل لَهُ بعد ذَلِك: إِن بعض النَّاس قد صَامَ. فَقَالَ: أُولَئِكَ
العصاة، أُولَئِكَ العصاة " (5) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» (6) من حَدِيث جَابر
رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَمَا سقته لَك، وَفِي رِوَايَة لَهُ (7) : «فَقيل: إِن النَّاس قد شقّ عَلَيْهِم
الصّيام، وَإِنَّمَا ينظرُونَ فِيمَا فعلت. فَدَعَا بقدح من مَاء بعد الْعَصْر» .
والرافعي (8) ذكره (بعد) (9) مُخْتَصرا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَاحْتج الْمُزنِيّ بِجَوَاز
الْفطر للْمُسَافِر بعد أَن أصبح صَائِما مُقيما " بِأَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صَامَ فِي مخرجه
إِلَى مَكَّة فِي رَمَضَان حَتَّى بلغ كرَاع الغميم ثمَّ أفطر " (وَبَنَى هَذَا) (10)
__________
(1) كَذَا فِي «أ، ل، م» وَالصَّوَاب: اخْتِلَافا كثيرا.
(2) فِي «م» : رُوَاته. والمثبت من «أ، ل» .
(3) «علل ابْن أبي حَاتِم» (1 / 266 رقم 784) .
(4) فِي «ل» : الْعَنزي. والمثبت من «أ، م» و «علل ابْن أبي حَاتِم» .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 217) .
(6) «صَحِيح مُسلم» (2 / 785 رقم 1114 / 90) .
(7) «صَحِيح مُسلم» (2 / 785 رقم 1114 / 91) .
(8) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 217) .
(9) من «م» .
(10) فِي «أ، ل» : فَهَذَا. والمثبت من «م» و «الشَّرْح الْكَبِير» .(5/714)
الِاحْتِجَاج عَلَى ظَنّه أَن ذَلِك كَانَ فِي يَوْم وَاحِد. قَالَ الْأَصْحَاب: وَهُوَ
وهم؛ فَإِن بَين الْمَدِينَة وكراع الغميم ثَمَانِيَة أَيَّام، وَالْمرَاد من الحَدِيث أَنه
صَامَ أَيَّامًا فِي سَفَره، ثمَّ أفطر. وَقيل: إِن الْمُزنِيّ تبين لَهُ ذَلِك فَرجع عَن
هَذَا الِاحْتِجَاج وَإِن لم يرجع عَن مذْهبه. هَذَا لَفظه، وَذكر غَيره أَن كرَاع
الغميم عِنْد عسفان، وَأَن بَينه وَبَين الْمَدِينَة نَحْو سَبْعَة أَيَّام، أَو ثَمَانِيَة.
وَعبارَة بَعضهم أَنه وادٍ أَمَام عُسفان بِثمَانِيَة أَمْيَال، وَعبارَة الْبكْرِيّ فِي
«مُعْجَمه» (1) : كُراع - بِضَم أَوله وبعين مُهْملَة فِي آخِره - منزل من منَازِل
بني عبس. وَقَالَ (2) فِي رسم العقيق: الغميم: وادٍ، والكراع: جبل أسود
عَن يسَار الطَّرِيق شَبيه بِالْكُرَاعِ. وَقَالَ صَاحب «الْمطَالع» : كرَاع الغميم:
بِفَتْح الْغَيْن وَكسر الْمِيم، وبضم الْغَيْن أَيْضا وَفتح الْمِيم. وَفرق الْحَازِمِي
بَينهمَا فِي «أَسمَاء الْأَمَاكِن» ، فَقَالَ: هُوَ بِفَتْح الْغَيْن، مَوضِع بَين مَكَّة
وَالْمَدينَة، لَهُ ذكر فِي الحَدِيث والمغازي، وَبِضَمِّهَا وبفتح الْمِيم: وادٍ فِي
ديار حَنْظَلَة من بني تَمِيم. وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ (3) من حَدِيث
ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خرج إِلَى مَكَّة فِي رَمَضَان (فصَام) (4) حَتَّى بلغ
(الكديد) (5) أفطر فَأفْطر النَّاس ". قَالَ أَبُو عبد الله: (الكديد) (6) مَاء بَين
عسفان وقديد. وَفِي رِوَايَة (7) لَهُ: " خرج من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة (فصَام) (8)
__________
(1) «مُعْجم مَا استعجم» (4 / 14) .
(2) «مُعْجم مَا استعجم» (3 / 216) .
(3) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 213 رقم 1944) .
(4) سَقَطت من «م» وَفِي «أ» : فَقَامَ. والمثبت من «ل» و «صَحِيح البُخَارِيّ» .
(5) فِي «أ، ل» : الكدية. والمثبت من «م» و «صَحِيح البُخَارِيّ» .
(6) فِي «أ، ل» : الكدية. والمثبت من «م» و «صَحِيح البُخَارِيّ» .
(7) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 220 رقم 1948) .
(8) سَقَطت من «م» وَفِي «أ» : فَقَامَ، والمثبت من «ل» و «صَحِيح البُخَارِيّ» .(5/715)
حَتَّى بلغ عُسفان، ثمَّ دَعَا بِمَا فرفعه إِلَى (فِيهِ يرِيه) (1) النَّاس فَأفْطر حَتَّى
قدم مَكَّة، وَذَلِكَ فِي رَمَضَان، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: قد صَامَ رَسُول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَأفْطر، فَمن شَاءَ صَامَ، وَمن شَاءَ أفطر ".
فَائِدَة: (هَذَا) (2) الَّذِي وَقع للمزني رَأَيْته فِي الْبُوَيْطِيّ أَيْضا، وَهَذَا
لَفظه: «من أصبح فِي حضر صَائِما ثمَّ سَافر فَلَيْسَ لَهُ أَن يفْطر " إِلَّا أَن
يثبت حَدِيث النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَنه أفطر يَوْم (الكديد) (3» انْتَهَى. وَهُوَ وكراع
الغميم متقاربان.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْأَرْبَعين
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفطر بعد الْعَصْر بكراع الغميم بقدح مَاء لما قيل: إِن النَّاس
(شقّ) (4) عَلَيْهِم الصّيام " (5) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سقناه أَيْضا من حَدِيث جَابر.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْأَرْبَعين
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " غزونا مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لست
عشرَة مَضَت من رَمَضَان، فمنا من صَامَ، وَمنا من أفطر، فَلم يعب الصَّائِم
عَلَى الْمُفطر، وَلَا الْمُفطر عَلَى الصَّائِم " (6)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» (7) كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة لَهُ (8) .
__________
(1) فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» : يَده ليراه.
(2) من «م» .
(3) فِي «أ، ل» : الكدية. والمثبت من «م» و «صَحِيح البُخَارِيّ» .
(4) فِي «أ» و «الشَّرْح الْكَبِير» يشق. والمثبت من «م، ل» .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 218) .
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 218) .
(7) «صَحِيح مُسلم» (2 / 786 رقم 1116 / 93) .
(8) «صَحِيح مُسلم» (2 / 787 رقم 1116 / 96) .(5/716)
" (يرَوْنَ) (1) أَن من وجد قُوَّة فصَام إِن ذَلِك حسن، ويرون أَن من وجد
ضَعفاً فَأفْطر، فَإِن ذَلِك حسن " وَفِي رِوَايَة لَهُ (2) : " لثمان عشرَة خلت " وَفِي
أُخْرَى لَهُ (3) : " فِي ثِنْتَيْ عشرَة "، وَفِي أُخْرَى لَهُ (4) : " لسبع عشرَة أَو تسع
عشرَة ".
الحَدِيث السَّابِع بعد الْأَرْبَعين
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ لِحَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ: " إِن شِئْت فَصم، وَإِن شِئْت
فَأفْطر " (5) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (6) من حَدِيث عَائِشَة «أَن
حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ سَأَلَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أَصوم فِي السّفر؟ - وَكَانَ كثير
الصّيام - فَقَالَ: إِن (شِئْت) (7) فَصم، وَإِن شِئْت فَأفْطر ". وَفِي رِوَايَة (8) :
" إِنِّي أسرد الصَّوْم " وَفِي رِوَايَة (9) : " سَأَلَهُ عَن صَوْم السّفر ". وَادَّعَى ابْن
__________
(1) فِي «أ، ل» : يروي. والمثبت من «م» . و «صَحِيح مُسلم» .
(2) «صَحِيح مُسلم» (2 / 787 رقم 1116 / 94) .
(3) «صَحِيح مُسلم» (2 / 787 رقم 1116 / 94) .
(4) «صَحِيح مُسلم» (2 / 787 رقم 1116 / 94) .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 218) .
(6) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 211 رقم 1943) وَاللَّفْظ لَهُ و «صَحِيح مُسلم» (2 / 789 - رقم 1121 / 103) .
(7) فِي «أ» : سم. والمثبت من «ل، م» . ومصدري التَّخْرِيج.
(8) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 211 رقم 1942) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 789 - رقم 1121 / 104، 105) .
(9) لم أَجِدهُ بِهَذَا اللَّفْظ، وَالله أعلم.(5/717)
(حزم) (1) أَنه إِنَّمَا سَأَلَهُ عَن التَّطَوُّع لرِوَايَة " إِنِّي أسرد الصَّوْم " وَلَيْسَ كَمَا
ذكره فَفِي سنَن أبي دَاوُد (2) أَنه سَأَلَهُ عَن الْفَرْض، وأعلها ابْن حزم بِمَا
رددت عَلَيْهِ فِي «تحفة الْمُحْتَاج إِلَى أَدِلَّة الْمِنْهَاج» (3) فراجع ذَلِك مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْأَرْبَعين
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " كُنَّا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زمَان غَزْوَة تَبُوك فَمر بِرَجُل فِي
ظلّ شجر يرش المَاء عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا بَال هَذَا؟ فَقَالُوا: صَائِم. فَقَالَ عَلَيْهِ
السَّلَام: لَيْسَ من الْبر الصّيام فِي السّفر " (4) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا
الْوَجْه، وَلَفظ البُخَارِيّ (5) ، عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: " كَانَ رَسُول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي سفر فَرَأَى زحاماً و [رجلا] (6) قد ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟
فَقَالُوا: صَائِم. قَالَ: لَيْسَ من الْبر الصَّوْم فِي السّفر ". وَلَفظ مُسلم (7) :
" فَرَأَى رجلا قد اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس، وَقد ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا لَهُ؟ قَالُوا:
رجل صَائِم. فَقَالَ لله: لَيْسَ [من] (8) الْبر أَن تَصُومُوا فِي السّفر " وَرَوَاهُ أَبُو
حَاتِم بن حبَان (9) من حَدِيث (عمَارَة بن غزيَّة، عَن مُحَمَّد) (10) بن عبد
__________
(1) فِي «أ، ل» : حَمْزَة. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «م» وتلخيص الحبير» وَانْظُر قَول ابْن حزم فِي «الْمُحَلَّى» (6 / 253) .
(2) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 167 - 168 رقم 2395) .
(3) «تحفة الْمُحْتَاج» (116 - 117) .
(4) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 218 - 219) .
(5) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 216 رقم 1946) .
(6) فِي «أ، ل، م» : رجل. والمثبت من «صَحِيح البُخَارِيّ» .
(7) «صَحِيح مُسلم» (2 / 786 رقم 1115) .
(8) من «صَحِيح مُسلم» .
(9) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 321 - 322 رقم 3553) .
(10) فِي «أ، ل» : الْمجد. والمثبت من «م» و «صَحِيح ابْن حبَان» .(5/718)
الرَّحْمَن بن زُرارة، عَن جَابر، قَالَ: " خرجنَا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي تَبُوك
و [كَانَت] (1) تُدعَى غَزْوَة [الْعسرَة] (2) فَبَيْنَمَا (رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسير) (3) بَعْدَمَا
أَضْحَى [النَّهَار] (4) فَإِذا هُوَ بِرَجُل تَحت ظلّ شَجَرَة، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله
[رجل] (5) صَامَ فجهده الصَّوْم. فَقَالَ لله: لَيْسَ من الْبر أَن تَصُومُوا فِي
السّفر.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» (6) من حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ، حَدثنِي يَحْيَى
ابْن أبي كثير، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: أَخْبرنِي جَابر بن
عبد الله " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مر بِرَجُل فِي ظلّ شَجَرَة يرش عَلَيْهِ المَاء،
فَقَالَ: مَا بَال صَاحبكُم؟ قَالُوا: يَا رَسُول الله، صَائِم. قَالَ: إِنَّه لَيْسَ من
الْبر أَن تَصُومُوا فِي السّفر، وَعَلَيْكُم بِرُخْصَة الله الَّتِي رخص لكم
(فاقبلوها) (7» . قَالَ ابْن الْقطَّان (8) : وإسنادها صَحِيح مُتَّصِل. قلت:
وَمُحَمّد هَذَا الْوَاقِع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ هُوَ (ابْن) (9) ثَوْبَان. كَذَا ذكرُوا هَذَا
الحَدِيث فِي (تَرْجَمته) (10) . وَقَالَ النَّسَائِيّ: لم يسمعهُ من جَابر، وَوَقع فِي
«صَحِيح ابْن حبَان» : ابْن زُرَارَة، كَمَا سلف وَهُوَ مُمكن؛ لِأَنَّهُ فِي الطَّبَقَة.
وَفِي مُسلم (11) قَالَ شُعْبَة: وَكَانَ يبلغنِي عَن يَحْيَى بن أبي كثير أَنه كَانَ
__________
(1) فِي «أ، ل، م» : كَانَ. والمثبت من «صَحِيح ابْن حبَان» .
(2) فِي «أ، ل، م» : الْعَشِيرَة. وَكتب فَوْقهَا فِي «م» : الْعسرَة. والمثبت من «صَحِيح ابْن حبَان» .
(3) فِي «صَحِيح ابْن حبَان) : نسير.
(4) من «صَحِيح ابْن حبَان» .
(5) من «صَحِيح ابْن حبَان» .
(6) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 486 - 487 رقم 2257) .
(7) فِي «أ» : فاقبلوا. والمثبت من «م، ل» و «سنَن النَّسَائِيّ» .
(8) «الْوَهم وَالْإِيهَام» (2 / 579) .
(9) من «م» .
(10) فِي «أ، ل» : ترجمتهم. والمثبت من «م» .
(11) «صَحِيح مُسلم» (2 / 786 رقم 1115) .(5/719)
يزِيد فِي هَذَا الحَدِيث أَنه قَالَ: " عَلَيْكُم بِرُخْصَة الله الَّتِي رخص لكم "
قَالَ: (فَلَمَّا) (1) سَأَلته لم يحفظه. قلت: وَهَذَا الْبَلَاغ قَدمته من رِوَايَة
النَّسَائِيّ مُسْندًا من غير طَرِيق شُعْبَة، عَن يَحْيَى فاستفدها.
فَائِدَة: فِي «مُسْند أَحْمد» (2) و «مُعْجم الطَّبَرَانِيّ» (3) من حَدِيث كَعْب
ابْن عَاصِم مَرْفُوعا: " لَيْسَ من امبر (4) (امصيام) (5) فِي امسفر ".
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْأَرْبَعين
" أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَمر النَّاس بِالْفطرِ عَام الْفَتْح وَقَالَ: تقووا
لعدوكم " (6) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» (7) من حَدِيث قزعة قَالَ:
" أتيت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ وَهُوَ مكثور عَلَيْهِ، فَلَمَّا تفرق النَّاس عَنهُ قلت:
[إِنِّي] (8) لَا أَسأَلك عَمَّا يَسْأَلك هَؤُلَاءِ (عَنهُ) (9) فَسَأَلته عَن الصَّوْم فِي
__________
(1) فِي «أ، ل» : قد. والمثبت من «م» و «صَحِيح مُسلم» .
(2) «الْمسند» (5 / 434) .
(3) «المعجم الْكَبِير» (19 / 172 رقم 387) .
(4) قَالَ ابْن حجر فِي «التَّلْخِيص» (2 / 393) : وَهَذِه لُغَة لبَعض أهل الْيمن، يجْعَلُونَ لَام
التَّعْرِيف ميماً، وَيحْتَمل أَن يكون النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خَاطب بهَا هَذَا الْأَشْعَرِيّ كَذَلِك لِأَنَّهَا
لغته، وَيحْتَمل أَن يكون الْأَشْعَرِيّ هَذَا نطق بهَا عَلَى مَا ألف من لغته، فحملها عَنهُ
الرَّاوِي عَنهُ، وأداها بِاللَّفْظِ الَّذِي سَمعهَا بِهِ، وَهَذَا الثَّانِي أوجه عِنْدِي، وَالله أعلم.
(5) فِي «أ، ل» : صِيَام. والمثبت من «م» ومصدري التَّخْرِيج.
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 219) .
(7) «صَحِيح مُسلم» (2 / 789 رقم 1120) .
(8) من «صَحِيح مُسلم» .
(9) من «م» و «صَحِيح مُسلم» .(5/720)
السّفر، فَقَالَ: سافرنا مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلَى مَكَّة وَنحن صِيَام، قَالَ:
فنزلنا منزلا فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِنَّكُم قد دنوتم من عَدوكُمْ وَالْفطر أَقْوَى لكم.
فَكَانَت رخصَة، فمنا من صَامَ وَمنا من أفطر، ثمَّ نزلنَا منزلا آخر فَقَالَ:
إِنَّكُم مصبحو عَدوكُمْ وَالْفطر أَقْوَى لكم فأفطروا. فَكَانَت عَزمَة فأفطرنا. ثمَّ
[قَالَ] (1) لقد رَأَيْتنَا نَصُوم بعد ذَلِك مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي السّفر ".
الحَدِيث الْخَمْسُونَ
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (سُئِلَ) (2) عَن قَضَاء رَمَضَان، فَقَالَ: إِن شَاءَ فرقه، وَإِن شَاءَ
تَابعه " (3) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه) (4) من حَدِيث سُفْيَان بن
بشر، ثَنَا عَلّي بن مسْهر، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (قَالَ فِي قَضَاء رَمَضَان: إِن شَاءَ فرق،
وَإِن شَاءَ تَابع) . ثمَّ قَالَ: لم يسْندهُ غير سُفْيَان بن بشر. قَالَ: وَرَوَى (5) عَن
عَطاء، عَن عبيد بن عُمَيْر، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) (6) مثله. وَعَن عَطاء عَن النَّبِي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثله، قَالَ: وَفِي إِسْنَاد حَدِيث عبيد بن عُمَيْر: عبد الله بن خرَاش،
وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ: وَرَوَى «7) عَن (عبد الله بن) (8) عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه
قَالَ: " فرق قَضَاء رَمَضَان، إِنَّمَا قَالَ الله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرٌ) (9) وَفِي
__________
(1) من «صَحِيح مُسلم» .
(2) سَقَطت من «أ» والمثبت من «ل، م» و «الشَّرْح الْكَبِير» .
(3) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 221) .
(4) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 193 رقم 74) .
(5) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 193 رقم 75) .
(6) تَكَرَّرت فِي «أ» .
(7) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 194 رقم 76) .
(8) لَيست فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(9) الْبَقَرَة: 184، 185.(5/721)
إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ: وَرَوَى (1) عَنهُ مَرْفُوعا، وَفِي إِسْنَاده
الْوَاقِدِيّ وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ وَرَوَى (2) عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر قَالَ: " بَلغنِي
أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُئِلَ عَن تقطيع قَضَاء صِيَام شهر رَمَضَان، فَقَالَ: ذَلِك
إِلَيْك، أَرَأَيْت (3) لَو كَانَ عَلَى أحدكُم دين فَقَضَى الدِّرْهَم وَالدِّرْهَمَيْنِ ألم
يكن قَضَاء؟ فَالله أَحَق أَن يعْفُو - أَو يغْفر ". ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده حسن إِلَّا أَنه
مُرْسل. قَالَ: وَقد وَصله (غير) (4) أبي بكر، عَن يَحْيَى بن سليم، وَلَا
يثبت مُتَّصِلا. وَرَوَاهُ (5) عَن جَابر مَرْفُوعا بِمثل حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر.
وَذكر الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (6) حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، وَنقل (كَلَام) (7)
الدَّارَقُطْنِيّ فِيهِ ثمَّ قَالَ: وَقد رُوِيَ من وَجه آخر ضَعِيف عَن ابْن عمر
مَرْفُوعا، وَمن وَجه آخر عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ مَرْفُوعا فِي جَوَاز
التَّفْرِيق وَلَا يَصح شَيْء من ذَلِك. وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فصحح فِي
«تَحْقِيقه» (8) حَدِيث ابْن عمر السالف أَولا فَإِنَّهُ ذكر عقب قَول الدَّارَقُطْنِيّ:
" لم يسْندهُ غير سُفْيَان بن بشر " قُلْنَا: مَا عرفنَا أحدا طعن فِيهِ، وَالزِّيَادَة من
الثِّقَة مَقْبُولَة. وَأما ابْن الْقطَّان (9) فَقَالَ: سُفْيَان هَذَا غير مَعْرُوف الْحَال.
وَأعله أَيْضا بِعَبْد الْبَاقِي بن قَانِع شيخ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقد قدم عبد الْحق
تَضْعِيفه واختلاطه قبل مَوته بِسنة وَترك أَصْحَاب الحَدِيث لَهُ، وَابْن
__________
(1) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 198 رقم 62) عَن عبد الله بن عَمْرو.
(2) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 194 رقم 77) .
(3) زَاد فِي «م» : أَن.
(4) فِي «م» : عَن. والمثبت من «أ، ل» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(5) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 194 رقم 78) .
(6) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 259) .
(7) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(8) «التَّحْقِيق» (2 / 99 رقم 1130) .
(9) «الْوَهم وَالْإِيهَام» (3 / 214) .(5/722)
الْجَوْزِيّ نَفسه ذكر عبد الْبَاقِي هَذَا فِي «كتاب الضُّعَفَاء» (1) وَنقل عَن
الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ فِي حَقه إِنَّه كَانَ يُخطئ كثيرا ويصر عَلَى الْخَطَأ.
الحَدِيث الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ
رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من كَانَ عَلَيْهِ صَوْم من رَمَضَان فليسرده وَلَا
يقطعهُ " (2) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» (3) من ثَلَاث طرق عَن أبي
هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء، ومدارها عَلَى عبد الرَّحْمَن بن
إِبْرَاهِيم (القَاضِي) (4) الْكرْمَانِي وَفِيه مقَال، قَالَ أَحْمد (5) : لَا بَأْس بِهِ.
وَقَالَ يَحْيَى بن معِين (6) مرّة: ثِقَة. وَمرَّة: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَبُو زرْعَة (7) :
لَا بَأْس بِهِ، أَحَادِيثه مُسْتَقِيمَة. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ النَّسَائِيّ:
لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَحَكَى البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه الْكَبِير» (8) ، وَالدَّارَقُطْنِيّ (9) فِي
نَفْس هَذَا الحَدِيث عَن حبَان بن هِلَال رَاوِيه عَنهُ أَنه ثِقَة. وَقَالَ ابْن عدي
فِي «كَامِله» (10) وَذكر حَدِيثا لعبد الرَّحْمَن هَذَا عَن الْعَلَاء (بن) (11) عبد
الرَّحْمَن: هَذَا قد رَوَى عَن الْعَلَاء غير هَذَا الحَدِيث، وَلم يتَبَيَّن فِي حَدِيثه
__________
(1) «الضُّعَفَاء والمتروكون» (2 / 82 رقم 1810) .
(2) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 221) .
(3) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 191 - 192 رقم 57، 58، 59) .
(4) كَذَا فِي «أ، ل، م» وَفِي كتب التراجم و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» : الْقَاص.
(5) «ميزَان الِاعْتِدَال» (2 / 545 رقم 4803) .
(6) «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» (5 / 211) .
(7) «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» (5 / 211) .
(8) «التَّارِيخ الْكَبِير» (5 / 257) .
(9) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 191 رقم 57) .
(10) «الْكَامِل» (5 / 501 رقم 1135) .
(11) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .(5/723)
ورواياته حَدِيث مُنكر فأذكره بِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (1) : (هَذَا حَدِيث
لَا يَصح) (2) ، وَعبد الرَّحْمَن ضعفه يَحْيَى بن معِين وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ.
وَقد علمت عَن يَحْيَى أَنه اخْتلف قَوْله (فِيهِ) (3) ، وَقَالَ عبد الْحق (4) : هَذَا
الحَدِيث رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن [إِبْرَاهِيم] (5) الْقَاص، وَقد أنكرهُ عَلَيْهِ أَبُو
حَاتِم ووثق وَضعف. قَالَ ابْن الْقطَّان (6) : كَذَا قَالَ، وَهُوَ يروي عَنهُ
أَحَادِيث، وَلم يبين أَبُو حَاتِم أَن الَّذِي أَنْكَرُوا عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه،
وَلَعَلَّه حَدِيث آخر. قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سُئِلَ أبي عَنهُ فَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ،
رَوَى حَدِيثا (مُنْكرا) (7) عَن الْعَلَاء. قَالَ أَحْمد: لَا بَأْس بِهِ. قَالَ ابْن
الْقطَّان (8) : وَرِجَاله لَا بَأْس بهم، وَلَيْسَ فيهم من يوضع النّظر فِيهِ إِلَّا هَذَا
(الْقَاص) (9) ، وَهُوَ لَا بَأْس بِهِ، وَمَا جَاءَ من ضعفه بِحجَّة. قَالَ (10) : وَإِذا
وجدت عَن يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ: لَيْسَ بِشَيْء. فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ قَلِيل
الرِّوَايَات، وَقد يُفَسر ذَلِك عَنهُ فِي رجال هَكَذَا، وَإِلَّا فَهَذَا توثيقه إِيَّاه،
نَقله عَنهُ الدوري. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَالْمَقْصُود أَن يعلم أَنه مُخْتَلف فِيهِ،
والْحَدِيث من رِوَايَته حسن.
__________
(1) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 259) .
(2) لَيست فِي «السّنَن الْكُبْرَى» .
(3) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(4) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 238) .
(5) سَقَطت من «أ، ل، م» والمثبت من «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» .
(6) «الْوَهم وَالْإِيهَام» (5 / 375 - 376) .
(7) فِي «أ» : مُنكر. والمثبت من «ل، م» و «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» .
(8) «الْوَهم وَالْإِيهَام» (5 / 375 - 376) .
(9) فِي «م» : القَاضِي. والمثبت من «أ، ل» و «الْوَهم وَالْإِيهَام» .
(10) «الْوَهم وَالْإِيهَام» (5 / 377) .(5/724)
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْخمسين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه " أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: هَلَكت. قَالَ:
مَا شَأْنك؟ قَالَ: واقعت امْرَأَتي فِي رَمَضَان. قَالَ: تَسْتَطِيع تعْتق رَقَبَة؟ قَالَ:
لَا. قَالَ: فَهَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَل
تَسْتَطِيع أَن تطعم سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فاجلس. فَأتي النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
بعرق فِيهِ تمر - والعرق: المكتل الضخم - فَقَالَ: خُذ هَذَا فَتصدق بِهِ. قَالَ:
عَلَى أفقر منا؟ فَضَحِك النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه، وَقَالَ: أطْعمهُ
عِيَالك " (1) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي
«صَحِيحَيْهِمَا» (2) من هَذَا الْوَجْه وَزَادا فِيهِ: " فوَاللَّه مَا بَين لابتيها - يُرِيد
الحرتين - أهل بَيت أفقر من أهل بَيْتِي " وَفِي رِوَايَة لَهما (3) " أنيابه " بدل
" نَوَاجِذه " وَأَخْرَجَاهُ (4) أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وَقد ذكرته
بِطُولِهِ فِي تخريجي لأحاديث «الْوَسِيط» بِزِيَادَة فَوَائِد فَرَاجعه مِنْهُ.
فَائِدَة: «العَرَق» بِفَتْح الْعين وَالرَّاء، وَيُقَال: بإسكانها، وَالصَّحِيح
الأول، وَيُقَال لَهُ: المكتل والزنبيل، والقفة، والسفيفة - بِفَتْح السِّين
الْمُهْملَة، وبفاء مكررة - وَكله اسْم لهَذَا الْوِعَاء الْمَعْرُوف، لَيْسَ لسعته
قدر مضبوط بل يصغر وَيكبر، وَلِهَذَا اخْتلفت الرِّوَايَات فِي قدر مَا يسع.
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 226) .
(2) «صَحِيح البُخَارِيّ» (11 / 604 رقم 6709) ، و «صَحِيح مُسلم» (2 / 782 رقم 1111 / 81) .
(3) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 193 رقم 1936، 9 / 423 - 424 رقم 5368، 10 / 568 رقم 6164) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 781 - 782 رقم 1111 / 81) .
(4) «صَحِيح البُخَارِيّ» (12 / 134 - 135 رقم 6822) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 783 - 784 رقم 1112) .(5/725)
وَقَوله: " مَا بَين لابتيها " يُرِيد (حرتيها) (1) والحرة: أَرض يركبهَا حِجَارَة
سود. و «النواجذ» - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة -: هِيَ الأنياب، هَذَا هُوَ الصَّحِيح
فِي اللُّغَة، وَهُوَ مُتَعَيّن جمعا بَين الرِّوَايَتَيْنِ.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْخمسين
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته. . " (2) الحَدِيث.
هَذَا الحَدِيث تقدم أول الْبَاب.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْخمسين
أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ لم يَأْمر الْأَعرَابِي بِالْقضَاءِ مَعَ الْكَفَّارَة،
وَرُوِيَ فِي بعض الرِّوَايَات أَنه قَالَ للرجل: " واقض يَوْمًا مَكَانَهُ " (3) .
هُوَ كَمَا قَالَه؛ فقد رُوِيَ الْأَمر بِالْقضَاءِ من أوجه:
أَحدهَا: من حَدِيث (أبي هُرَيْرَة، وَرُوِيَ عَنهُ من أوجه: أَحدهَا: من
حَدِيث) (4) هِشَام بن سعد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة عَنهُ. رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد (5) ، وَأعله ابْن حزم (6) ثمَّ ابْن الْقطَّان (7) بِهِشَام هَذَا، لكنه من رجال
الصَّحِيح فَجَاز القنطرة، وَتَابعه إِبْرَاهِيم بن سعد، كَمَا أخرجه أَبُو عوَانَة
(فِي صَحِيحه) (8) .
__________
(1) فِي «أ» : حرمتهَا. والمثبت من «ل، م» .
(2) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 232) .
(3) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 234) .
(4) تَكَرَّرت فِي «أ» .
(5) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 164 رقم 2385) .
(6) «الْمُحَلَّى» (6 / 181) .
(7) «الْوَهم وَالْإِيهَام» (3 / 435) .
(8) فِي «ل» : فِي صَحِيح. وَفِي «م» : وَصَححهُ. والمثبت من «أ» . والْحَدِيث فِي «مُسْند أبي عوَانَة» (2 / 206 رقم 2859) .(5/726)
ثَانِيهَا: من حَدِيث أبي أويس، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حميد بن عبد
الرَّحْمَن عَنهُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (1) ، وَقَالَ: تَابعه عبد الْجَبَّار بن عمر، عَن
الزُّهْرِيّ، وَأعله ابْن حزم (2) بِأبي أويس لكنه من رجال مُسلم ووثق.
ثَالِثهَا: من حَدِيث عبد الْجَبَّار بن عمر، عَن يَحْيَى بن سعيد
الْأنْصَارِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب عَنهُ، وَعبد الْجَبَّار هَذَا ضَعَّفُوهُ وَإِن
وَثَّقَهُ ابْن سعد (3) .
الْوَجْه الثَّانِي: من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده
مَرْفُوعا بِهِ. رَوَاهُ الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن عَطاء، عَن عَمْرو بِهِ. وَالْحجاج
حَالَته مَعْلُومَة.
الثَّالِث: من حَدِيث مَالك، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن سعيد بن
الْمسيب مُرْسلا.
الرَّابِع: من حَدِيث ابْن جريج، عَن نَافِع بن جُبَير بن مطعم مُرْسلا.
الْخَامِس: من حَدِيث أبي معشر الْمدنِي، عَن مُحَمَّد بن كَعْب
الْقرظِيّ مُرْسلا.
إِذا عرف ذَلِك فَقَوْل الرَّافِعِيّ أَولا " أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ لم يَأْمر
الْأَعرَابِي بِالْقضَاءِ " مُرَاده بِهِ أَنه لم يَأْمُرهُ بِهِ فِي الرِّوَايَات الصَّحِيحَة،
و (ورد) (4) فِي بعض الرِّوَايَات الْأَمر بِهِ، وَقد علمت مَا فِيهِ.
__________
(1) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 210 رقم 24) .
(2) «الْمُحَلَّى» (6 / 182) .
(3) «الطَّبَقَات الْكُبْرَى» (7 / 520) .
(4) من «م» .(5/727)
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْخمسين
" رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ للأعرابي الَّذِي جَاءَهُ وَقد وَاقع: صم شَهْرَيْن.
فَقَالَ: هَل أتيت إِلَّا من قبل الصَّوْم. . " (1) ثمَّ ذكر الْبَاقِي.
هَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة لَا أعرفهَا فِي هَذَا الحَدِيث، وَكَذَا قَالَ ابْن
الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى " الْوَسِيط ": إِنَّهَا لَا تعرف. قَالَ: وَالْمَذْكُور
(بدلهَا) (2) فِي الرِّوَايَات الْمَعْرُوفَة (أَنه) (3) لَا يَسْتَطِيع ذَلِك.
قلت: لَكِن فِي «سنَن أبي دَاوُد» (4) من حَدِيث سُلَيْمَان بن يسَار،
عَن سَلمَة بن صَخْر البياضي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للمظاهر من زَوجته حَتَّى
يَنْسَلِخ رَمَضَان، ثمَّ وطئ فِي أَثْنَائِهِ: " صم شَهْرَيْن مُتَتَابعين. قَالَ: وَهل
أصبت الَّذِي أصبت إِلَّا من الصّيام " وَهَذَا المجامع فِي رَمَضَان، هُوَ سَلمَة
ابْن صَخْر، أَو (سلمَان) (5) بن صَخْر الَّذِي ظَاهر من امْرَأَته أَنه لَا يَطَؤُهَا
فِي رَمَضَان. كَمَا حَكَاهُ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ بن سعيد، فَقَالَ: إِنَّه سَلمَة بن
صَخْر البياضي. ثمَّ ذكر بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ أَنه قَالَ: " لما دخل شهر رَمَضَان
ظَاهَرت من امْرَأَتي. . " وَذكر الْقِصَّة، وَفِي النَّفس من كَونهَا وَاقعَة وَاحِدَة
موقف عِنْدِي. وَفِي " الْجمع بَين مبهمات ابْن طَاهِر وَابْن بشكوال " للشَّيْخ
قطب الدَّين ابْن (الْقُسْطَلَانِيّ) (6) حِكَايَة قَوْلَيْنِ فِي اسْم هَذَا المجامع:
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 234) .
(2) فِي «م» تَركهَا. والمثبت من «أ، ل» .
(3) فِي «م» لِأَنَّهُ. والمثبت من «أ، ل» .
(4) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 81 - 82 رقم 2208) .
(5) فِي «أ، ل» : سُلَيْمَان. وَهُوَ تَحْرِيف، والمثبت من «م» وسلمان بن صَخْر البياضي تَرْجَمته فِي سَلمَة بن صَخْر فِي «التَّهْذِيب» (11 / 288 - 290) .
(6) فِي «أ، ل» : القسطاني. وَهُوَ تَحْرِيف، والمثبت من «م» .(5/728)
أَحدهمَا: أَنه سَلمَة بن صَخْر البياضي، وَالثَّانِي: (سلمَان) (1) بن صَخْر
وَحَقِيقَة الْقَوْلَيْنِ قولا وَاحِدًا؛ فَإِنَّهُ يُقَال فِيهِ: سَلمَة وسلمان كَمَا أسلفناه،
وَسَلَمَة أصح وَأشهر.
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ (2) : وَإِذا جرينا عَلَى الْقيَاس حملنَا قصَّة
الْأَعرَابِي عَلَى (خاصيته وخاصية) (3) أَهله. قَالَ الإِمَام: وَكَثِيرًا مَا كَانَ
يفعل ذَلِك رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَمَا فِي الْأُضْحِية، وإرضاع الْكَبِير وَنَحْوهمَا.
وَأَشَارَ الإِمَام بالأضحية إِلَى حَدِيث أبي بردة بن نيار فِي الْجذع
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " وَلنْ تُجزئ عَن أحد بعْدك " وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله فِي
بَابه.
وَأَشَارَ بإرضاع الْكَبِير إِلَى قصَّة سَالم الثَّابِتَة فِي صَحِيح مُسلم (4) عَن
عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " جَاءَت سهلة بنت سُهَيْل إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
(فَقَالَت) (5) : يَا رَسُول الله، إِنِّي أرَى فِي وَجه أبي حُذَيْفَة من دُخُول سَالم
- وَهُوَ حليفه - فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أرضعيه. قَالَت: وَكَيف أرضعه وَهُوَ رجل
كَبِير؟ ! فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَقَالَ: قد علمت أَنه رجل كَبِير ". وَفِي رِوَايَة
لَهُ (6) : " فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أرضعيه تحرمي عَلَيْهِ، وَيذْهب الَّذِي فِي نَفْس
أبي حُذَيْفَة. فَرَجَعت فَقَالَت: (إِنِّي) (7) قد أَرْضَعَتْه فَذهب الَّذِي فِي نَفْس
__________
(1) فِي «أ، ل» : سُلَيْمَان. وَهُوَ تَحْرِيف، والمثبت من «م» وَسبق التَّنْبِيه عَلَيْهِ.
(2) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 236) .
(3) فِي «أ، ل» : خاصته وخاصة. والمثبت من «م» و «الشَّرْح الْكَبِير» .
(4) «صَحِيح مُسلم» (2 / 1076 رقم 1453 / 26) .
(5) فِي «أ» . فَقلت: والمثبت من «م، ل» و «صَحِيح مُسلم» .
(6) «صَحِيح مُسلم» (2 / 1076 رقم 1453 / 27) .
(7) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «صَحِيح مُسلم» .(5/729)
أبي حُذَيْفَة " وَفِي رِوَايَة لَهُ (1) : " أرضعيه حَتَّى يدْخل عَلَيْك ". وَفِي رِوَايَة
لَهُ (2) : " فَقَالَت: إِنَّه ذُو لحية! فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أرضعيه يذهب مَا فِي وَجه
أبي حُذَيْفَة ". وَفِي رِوَايَة لَهُ (3) عَن أم سَلمَة أَنَّهَا كَانَت تَقول: " أَبَى
[سَائِر] (4) أَزوَاج النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن يدخلن عَلَيْهِنَّ أحدا بِتِلْكَ الرضَاعَة، وقلن
لعَائِشَة: مَا نرَى هَذِه إِلَّا رخصَة أرخصها رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خَاصَّة، فَمَا هُوَ
بداخل علينا أحد بِهَذِهِ [الرضَاعَة] (5) وَلَا رائينا " وَفِي رِوَايَة لمَالِك (6)
وَأحمد (7) " أَنَّهَا أَرْضَعَتْه خمس رَضعَات فَكَانَ وَلَده ".
الحَدِيث السَّادِس بعد الْخمسين
عَن ابْن عمر مَرْفُوعا وموقوفاً عَلَيْهِ: " من مَاتَ وَعَلِيهِ صَوْم فليطعم
عَنهُ مَكَان كل يَوْم مِسْكين " (8) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (9) من حَدِيث قُتَيْبَة، ثَنَا عَبْثَر بن
الْقَاسِم، عَن أَشْعَث، عَن مُحَمَّد، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام شهر فليطعم عَنهُ مَكَان كل يَوْم مِسْكينا "
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه (10) من حَدِيث قُتَيْبَة أَيْضا وَقَالَ: عَن مُحَمَّد بن سِيرِين.
__________
(1) «صَحِيح مُسلم» (2 / 1077 رقم 1453 / 29) .
(2) «صَحِيح مُسلم» (2 / 1077 - 1078 رقم 1453 / 30) .
(3) «صَحِيح مُسلم» (2 / 1078 رقم 1454) .
(4) من «صَحِيح مُسلم» .
(5) فِي «أ، ل، م» : الرُّخْصَة. والمثبت من «صَحِيح مُسلم» .
(6) «الْمُوَطَّأ» (2 / 472 رقم 12) .
(7) «الْمسند» (6 / 201، 255، 271) .
(8) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 237) .
(9) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 96 - 97 رقم 718) .
(10) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 558 رقم 1757) .(5/730)
وَهُوَ وهم؛ وَإِنَّمَا هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى. قَالَ التِّرْمِذِيّ:
هَذَا حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف
عَلَى ابْن عمر. قَالَ: وَأَشْعَث هُوَ ابْن سوار، وَمُحَمّد هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن
ابْن أبي لَيْلَى.
قلت: وَكِلَاهُمَا ضَعِيف، أما أَشْعَث بن سوار فالأكثر عَلَى أَنه غير
مرضِي وَلَا مُخْتَار كَمَا ستعلمه فِي بَاب حج الصَّبِي - إِن شَاءَ الله تَعَالَى -
وَأما ابْن أبي لَيْلَى (1) فصدوق سيئ الْحِفْظ، قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِذَاكَ.
وَقَالَ مرّة: ضَعِيف. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَحَله
الصدْق، شغل بِالْقضَاءِ فسَاء حفظه، لَا يتهم بِشَيْء من الْكَذِب، إِنَّمَا يُنكر
عَلَيْهِ كَثْرَة الْخَطَأ. وَقَالَ الْعجلِيّ: كَانَ فَقِيها صَاحب سنة جَائِز الحَدِيث.
وَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف عَلَى ابْن عمر كَمَا قَالَه التِّرْمِذِيّ وَغَيره من الْحفاظ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الْمَحْفُوظ وَقفه عَلَيْهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ (2) : إِنَّه الصَّحِيح.
قَالَ: وَقد رَوَاهُ ابْن أبي لَيْلَى، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَفعه " فِي الَّذِي
يَمُوت وَعَلِيهِ رَمَضَان لم يقضه قَالَ: يطعم عَنهُ لكل يَوْم نصف صَاع [من
برّ] (3» قَالَ: وَهَذَا خطأ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: رَفعه فَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف.
وَالثَّانِي: قَوْله: " نصف صَاع " وَإِنَّمَا قَالَ ابْن عمر: " مدًّا من حِنْطَة " قَالَ:
وَرُوِيَ من (وَجه) (4) آخر عَن ابْن أبي لَيْلَى لَيْسَ فِيهِ ذكر الصَّاع. ثمَّ ذكر
الرِّوَايَة الَّتِي (رويناها) (5) أَولا.
__________
(1) تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (25 / 622 - 627)
(2) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 254) .
(3) من «السّنَن الْكُبْرَى» .
(4) فِي «أ» : أوجه. والمثبت من «م، ل» و «السّنَن الْكُبْرَى» .
(5) فِي «م» : بدأنا بهَا. والمثبت من «أ، ل» .(5/731)
الحَدِيث السَّابِع بعد الْخمسين
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من مَاتَ وَعَلِيهِ صَوْم صَامَ عَنهُ وليه " (1) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي
«صَحِيحَيْهِمَا» (2) كَذَلِك من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ (3) : إِسْنَاده حسن. قَالَ عبد الْحق (4) : وَعلله بَعضهم
بالاختلاف فِي إِسْنَاده وَلَا يضر؛ لِأَن (الَّذين) (5) أسندوه ثِقَات. وَقَالَ
الشَّافِعِي (6) فِي الْقَدِيم: قد رُوِيَ فِي الصَّوْم عَن الْمَيِّت شَيْء، فَإِن كَانَ
ثَابتا صيم عَنهُ (كَمَا يحجّ) (7) عَنهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد ثَبت ذَلِك. وَفِي رِوَايَة
للبزار (8) من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا: " من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام فليصم عَنهُ وليه
إِن شَاءَ " وَفِي إسنادها ابْن لَهِيعَة وَهُوَ مَعْرُوف الْحَال، ودونه يَحْيَى بن كثير
الزيَادي، وَهُوَ ضَعِيف عِنْدهم.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْخمسين
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ فِي الْحَامِل والمرضع: إِذا خافتا عَلَى (ولديهما) (9)
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 237) .
(2) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 226 - 227 رقم 1952) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 803 رقم 1147) .
(3) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 195 رقم 80، 81) . وَلم يقل: إِسْنَاده حسن.
(4) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 236) .
(5) فِي «أ، ل» الَّذِي. والمثبت من «م» و «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» .
(6) نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» (3 / 402) .
(7) فِي «أ، ل» : كَالْحَجِّ. والمثبت من «م» و «الْمعرفَة» .
(8) «كشف الأستار» (1 / 481 - 482 رقم 1023) .
(9) فِي «أ» : ولديها. والمثبت من «م، ل» و «الشَّرْح الْكَبِير» .(5/732)
أفطرتا وافتدتا " (1) .
هَذَا الحَدِيث تقدم فِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْأَرْبَعين إِلَّا قَوْله:
" وافتدتا " وَسَيَأْتِي ذَلِك من قَول ابْن عَبَّاس فِي الْآثَار إِن شَاءَ الله.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْخمسين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من أدْرك رَمَضَان فَأفْطر
لمَرض ثمَّ صَحَّ وَلم يقضه حَتَّى (دخل) (2) رَمَضَان آخر صَامَ الَّذِي أدْركهُ ثمَّ
يقْضِي مَا عَلَيْهِ، ثمَّ يطعم عَن كل يَوْم مِسْكينا " (3) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (4) من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن نَافِع
الْجلاب، ثَنَا عمر بن مُوسَى بن وجيه، حَدثنَا الحكم، عَن مُجَاهِد، عَن
أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ " فِي رجل أفطر فِي رَمَضَان [من] (5) مرض،
ثمَّ صَحَّ وَلم يصمه حَتَّى أدْركهُ رَمَضَان آخر، قَالَ: يَصُوم الَّذِي أدْرك، ثمَّ
يَصُوم الشَّهْر الَّذِي أفطر فِيهِ، وَيطْعم مَكَان كل يَوْم مِسْكينا " ثمَّ قَالَ:
إِبْرَاهِيم بن نَافِع وَابْن وجيه ضعيفان. زَاد عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» (6) : وَلَا
يَصح فِي الْإِطْعَام شَيْء. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (7) : هَذَا الحَدِيث
لَيْسَ بِشَيْء، إِبْرَاهِيم وَعمر مَتْرُوكَانِ. وَقَالَ فِي «خلافياته» : لَا يَصح
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 240) .
(2) فِي «الشَّرْح الْكَبِير» : أدْرك.
(3) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 242) .
(4) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 197 رقم 89) .
(5) فِي «أ، ل، م» : فِي. والمثبت من «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(6) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 238) .
(7) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 253) .(5/733)
لضعفهما. ثمَّ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (1) مَوْقُوفا عَلَى أبي هُرَيْرَة من طرق، ثمَّ قَالَ
فِي كل (مِنْهَا) (2) : هَذَا إِسْنَاد صَحِيح. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته»
أَيْضا قَالَ: وَصَحَّ عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا عَلَيْهِ مثله.
الحَدِيث السِّتُّونَ
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " دخل (عليَّ) (3) رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
فَقلت: إِنَّا خبأنا لَك حَيْسًا. قَالَ: أما إِنِّي كنت أُرِيد الصَّوْم (و) (4) لَكِن
قربيه " (5) .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الْبَاب فِي الحَدِيث الْعَاشِر مِنْهُ وَمَعْنى
قربيه: أدنيه مني لأشرب مِنْهُ.
الحَدِيث الْحَادِي بعد السِّتين
عَن أم هَانِئ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " دخل عليَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَأَنا
صَائِمَة، فناولني فضل شرابه، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي كنت صَائِمَة،
وَإِنِّي كرهت أَن أرد سؤرك. فَقَالَ: إِن كَانَ قَضَاء من رَمَضَان فصومي يَوْمًا
مَكَانَهُ، وَإِن كَانَ تَطَوّعا فَإِن شِئْت فاقضيه، وَإِن شِئْت فَلَا تقضيه " (6) .
__________
(1) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 196 - 198 رقم 87، 88، 90، 92) .
(2) فِي «أ، م» : مِنْهُمَا. والمثبت من «ل» .
(3) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «الشَّرْح الْكَبِير» .
(4) من «م» و «الشَّرْح الْكَبِير» .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 244) .
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 244) .(5/734)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» (1) ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر
معاجمه» (2) وَأَبُو دَاوُد (3) ، وَالتِّرْمِذِيّ (4) ، وَالنَّسَائِيّ (5) ، وَالدَّارَقُطْنِيّ (6) ،
وَالْبَيْهَقِيّ (7) فِي «سُنَنهمْ» من حَدِيث سماك بن حَرْب، عَن هَارُون بن أم
هَانِئ، عَن أم هَانِئ، قَالَ (التِّرْمِذِيّ) (8) : فِي إِسْنَاده مقَال. وَقَالَ
النَّسَائِيّ (9) : اخْتلف عَلَى سماك فِيهِ، وَسماك لَيْسَ يعْتَمد عَلَيْهِ إِذا انْفَرد
بِالْحَدِيثِ. وَقَالَ عبد الْحق (10) بعد أَن رَوَاهُ من طَرِيق النَّسَائِيّ، عَن حَمَّاد
ابْن سَلمَة، عَن سماك بِهِ: هَذَا أحسن أَسَانِيد هَذَا الحَدِيث، وَإِن كَانَ لَا
يحْتَج بِهِ. قَالَ ابْن الْقطَّان (11) : هُوَ كَمَا ذكر إِلَّا أَن الْعلَّة لم يبينها وَهِي
الْجَهْل بهَارُون بن أم هَانِئ (12) أَو ابْن ابْنة أم هَانِئ فَكل ذَلِك قيل فِيهِ،
وَهُوَ لَا يعرف أصلا. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصر السّنَن» (13) : فِي إِسْنَاده
__________
(1) «الْمسند» (6 / 343 - 344) .
(2) «المعجم للكبير» (24 / 407 - 409 رقم 990 - 993) .
(3) كتب حَاشِيَة فِي «م» نَصهَا: «رِوَايَة أبي دَاوُد من طَرِيق عُثْمَان بن أبي شيبَة. قَالَ: نَا جرير
بن عبد الحميد، عَن يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن عبد الله بن الْحَارِث، عَن أم هَانِئ ...
فَذكره، وَكلهمْ ثِقَات إِلَّا يزِيد بن أبي زِيَاد فمختلف فِيهِ، قَالَ ابْن حجر: كبر فَتغير
حفظه. وَفِيه: " لما كَانَ فتح يَوْم مَكَّة ... فَذكره ".
قلت: هُوَ فِي «سنَن أبي دَاوُد» من هَذَا الطَّرِيق (3 / 191 رقم 2448) .
(4) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 109 - 110 رقم 731، 732) .
(5) «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» (2 / 250 - 252 رقم 3304 - 3309) .
(6) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 174 - 175 رقم 8، 12) .
(7) «سنَن الْبَيْهَقِيّ (4 / 278 - 279) .
(8) فِي «أ، ل» : الْبَيْهَقِيّ. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «م» وَالْكَلَام لِلتِّرْمِذِي (3 / 110) .
(9) «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» (2 / 252) .
(10) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (3 / 230) .
(11) «الْوَهم وَالْإِيهَام» (3 / 434) .
(12) زَاد فِي «أ، ل» : أَو ابْن أم هَانِئ.
(13) «مُخْتَصر السّنَن» (3 / 334) .(5/735)
مقَال وَلَا يثبت. قَالَ (1) : وَفِي إِسْنَاده اخْتِلَاف كثير أَشَارَ إِلَيْهِ النَّسَائِيّ.
قلت: وَحَاصِل الِاخْتِلَاف فِيهِ أَنه اخْتلف عَلَى سماك، فَتَارَة رَوَاهُ
عَن أبي صَالح باذان، وَهُوَ ضَعِيف كَمَا مر فِي الْجَنَائِز، وَتارَة عَن جعدة
وَهُوَ مَجْهُول. قَالَ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» (2) : جعدة من ولد أم هَانِئ، عَن
أبي صَالح، عَن أم هَانِئ رَوَى عَنهُ شُعْبَة، لَا يعرف إِلَّا بِحَدِيث فِيهِ نظر.
وَقَالَ النَّسَائِيّ: (3) لم يسمعهُ جعدة من أم هَانِئ وَتارَة عَن هَارُون، وَهُوَ
مَجْهُول الْحَال كَمَا قَالَه ابْن الْقطَّان (4) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ (5) من طرق عَن
سماك و (6) فِيهِ قَوْله: " فَإِن شِئْت فاقضيه وَإِن شِئْت فَلَا تقضيه ". وَرَوَاهُ
بِهَذَا اللَّفْظ من طَرِيق حَمَّاد عَنهُ (فَقَط، وَحَمَّاد هَذَا هُوَ ابْن سَلمَة ثِقَة ثَبت
من رجال مُسلم، لَكنا) (7) أسلفنا عَن الْبَيْهَقِيّ أَنه قَالَ فِي الحَدِيث الثَّالِث
عشر من بَاب شُرُوط الصَّلَاة (إِن حماداً) (8) اخْتلف فِي عَدَالَته، وَقَالَ فِي
بَاب من أَدَّى الزَّكَاة: سَاءَ حفظه فِي آخر عمره، فالحفاظ لَا يحتجون بِمَا
يُخَالف فِيهِ، ويتجنبون مَا ينْفَرد بِهِ عَن قيس بن ثَابت وَأَمْثَاله.
قلت: ووراء ذَلِك كُله أَمر آخر وَهُوَ أَن هَذَا من النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يَوْم
الْفَتْح (9) - كَمَا أخرجه النَّسَائِيّ، وَالطَّبَرَانِيّ وَغَيرهمَا من حَدِيث يَحْيَى بن
__________
(1) «مُخْتَصر السّنَن» (3 / 334) .
(2) «التَّارِيخ الْكَبِير» (2 / 239 رقم 2316) .
(3) «السّنَن الْكُبْرَى» للنسائي (2 / 252) .
(4) «الْوَهم وَالْإِيهَام» (3 / 434) .
(5) «السّنَن الْكُبْرَى» للنسائي (2 / 250 رقم 3305) .
(6) زَاد فِي «أ، ل، م» : لَيْسَ. وَهِي خطأ.
(7) جعلهَا فِي «ل» حَاشِيَة؛ فَكتب فَوق «حَمَّاد» : حش من. وَفَوق «مُسلم» : إِلَى.
(8) فِي «أ» : حَمَّاد. وَفِي «م» : أَنه. والمثبت من «ل» .
(9) زَاد فِي «م» : بل وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِيه يزِيد بن أبي زِيَاد تغير حَال كبر لكنه رَوَى لَهُ مُسلم. وَلَا أعلم موضعهَا لِأَنَّهَا كتبت بَين السطرين.(5/736)
جعدة السالف عَن أم هَانِئ " أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ دخل عَلَيْهَا يَوْم
الْفَتْح فَأتي بِإِنَاء فَشرب مِنْهُ، ثمَّ ناولني فَقلت: إِنِّي صَائِمَة؟ فَقَالَ: إِن
المتطوع أَمِير عَلَى نَفسه، فَإِن شِئْت فصومي، وَإِن شِئْت فافطري " هَذَا
لفظ النَّسَائِيّ، وَلَفظ الطَّبَرَانِيّ: " فَشرب مِنْهُ وسقاها. قَالَت: إِنِّي كنت
صَائِمَة وَلَكِن كرهت أَن أرد عَلَيْك (شرابك. قَالَ: كنت تقضين؟ قلت:
لَا. قَالَ: لَا يَضرك " انْتَهَى. فَلْيتَأَمَّل ذَلِك) (1) وَكَيف يَقع الْقَضَاء فِي
رَمَضَان.
فَائِدَة: السؤر بِالْهَمْزَةِ.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِفضل الله وَمِنْه.
وَأما الْآثَار فخمسة عشر أثرا.
الأول: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: " لِأَن أَصوم يَوْمًا من شعْبَان أحب إليَّ
من أَن أفطر يَوْمًا من رَمَضَان " (2) .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي (3) ، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ (4) من جِهَته: أَنا عبد
الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي، عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان، عَن أمه
فَاطِمَة بنت حُسَيْن " أَن رجلا شهد عِنْد عَلّي بِرُؤْيَة هِلَال رَمَضَان فصَام -
وَأَحْسبهُ قَالَ: وَأمر النَّاس أَن يَصُومُوا - وَقَالَ: أَصوم يَوْمًا من شعْبَان
أحب إليَّ من أَن أفطر يَوْمًا من رَمَضَان ".
الثَّانِي: عَن شَقِيق بن سَلمَة قَالَ: " أَتَانَا كتاب عمر بن الْخطاب
وَنحن بخانقين: إِن الْأَهِلّة بَعْضهَا أكبر من بعض، فَإِذا رَأَيْتُمْ الْهلَال نَهَارا
__________
(1) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «المعجم الْكَبِير» .
(2) الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 173 - 174) .
(3) «الْأُم» (2 / 94، 7 / 48) .
(4) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 212) .(5/737)
فَلَا تفطروا حَتَّى تمسوا " وَفِي رِوَايَة: " فَإِذا رَأَيْتُمْ [الْهلَال] (1) من أول
النَّهَار فَلَا تفطروا حَتَّى يشْهد شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رأياه بالْأَمْس " (2) .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (3) ، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح باللفظين
الْمَذْكُورين، وَزَاد فِي آخر الأول: " إِلَّا أَن يشْهد (شَاهِدَانِ) (4) رجلَانِ
مسلمان أَنَّهُمَا أهلاه بالْأَمْس عَشِيَّة " ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي بَابَيْنِ من «سنَنه» :
أَحدهمَا (5) : فِي بَاب الْهلَال يرَى بِالنَّهَارِ. وَالثَّانِي (6) : فِي بَاب من لم
يقبل عَلَى رُؤْيَة هِلَال الْفطر إِلَّا شَاهِدين عَدْلَيْنِ. وَقَالَ فِي هَذَا الْبَاب:
هَذَا أثر صَحِيح عَنهُ. وَرَوَى (7) عَنهُ - أَعنِي الْبَيْهَقِيّ - التَّفْرِقَة بَين رُؤْيَته قبل
الزَّوَال وَبعده، ثمَّ قَالَ: إِنَّه مُنْقَطع وَحَدِيث شَقِيق أصح مِنْهُ. (وَرَوَى (8)
عَنهُ أَيْضا " إِنَّمَا يَكْفِي الْمُسلمين الرجل " وَهُوَ من رِوَايَة عبد الْأَعْلَى
الثَّعْلَبِيّ) (9) عَن ابْن أبي لَيْلَى عَنهُ، وَنقل (10) عَن يَحْيَى بن معِين أَنه لم
يثبت سَماع ابْن أبي لَيْلَى من عمر، وَعَن الدَّارَقُطْنِيّ أَن عبد الْأَعْلَى غَيره
أثبت مِنْهُ، وَحَدِيث شَقِيق أصح إِسْنَادًا مِنْهُ.
فَائِدَة: قَوْله «بخانقين» هُوَ بخاء مُعْجمَة، ثمَّ نون ثمَّ قَاف
مكسورتين: بَلْدَة بالعراق قريبَة من بَغْدَاد، وَفِي «أَسمَاء الْأَمَاكِن»
__________
(1) سَقَطت من «أ، ل، م» والمثبت من «الشَّرْح الْكَبِير» .
(2) الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 182) .
(3) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 168 - 169 رقم 7، 8 - 11) .
(4) لَيست فِي «السّنَن الْكُبْرَى» .
(5) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 212 - 213) .
(6) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 248) .
(7) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 212 - 213) .
(8) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 248 - 249) .
(9) سقط من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(10) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 249) .(5/738)
للبكري (1) خانقون عَلَى وزن فاعلون: مَوضِع من بِلَاد فَارس، وَهُوَ
طَسُّوج من طساسيج حُلْوان. قَالَ كرَاع: سمي خانقين لِأَن عديًّا خُنق فِيهِ.
وَقيل: الخانق مضيق فِي الْوَادي. وَقيل: شعب ضيق فِي أَعلَى الْجَبَل،
وَبِه سمي خانقون.
وَقَوله: " إِن الْأَهِلّة بَعْضهَا أكبر من بعض " أَرَادَ ارْتِفَاع الْمنَازل لَا
عظم الدارة. وَوَقع فِي بعض نسخ الْكتاب «سُفْيَان) بدل «شَقِيق» وَهُوَ من
تَحْرِيف النَّاسِخ.
الثَّالِث: أثر ابْن عمر فِي الاستقاءة (2) تقدم فِي آخر الحَدِيث الْحَادِي
عشر.
الرَّابِع: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنه قَالَ: " الْفطر مِمَّا دخل،
وَالْوُضُوء مِمَّا خرج " (3) .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ (4) عَنهُ تَعْلِيقا بِصِيغَة جزم
وَلَفظه: قَالَ ابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة: " [الصَّوْم] (5) مِمَّا دخل، وَلَيْسَ مِمَّا
خرج ". وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (6) أَيْضا وَلَفظه عَن ابْن عَبَّاس: " أَنه ذكر عِنْده
الْوضُوء من الطَّعَام - قَالَ الْأَعْمَش مرّة: والحجامة للصَّائِم - فَقَالَ: إِن
الْوضُوء مِمَّا يخرج وَلَيْسَ مِمَّا دخل، وَإِنَّمَا الْفطر مِمَّا دخل وَلَيْسَ مِمَّا
خرج ". وَقد ذكره الرَّافِعِيّ مَرْفُوعا فِي الإحداث، وتكلمنا عَلَيْهِ هُنَاكَ.
الْخَامِس: " أَن النَّاس أفطروا فِي زمَان عمر ثمَّ انْكَشَفَ السَّحَاب
وَظَهَرت الشَّمْس ". (7) .
__________
(1) «مُعْجم مَا استعجم» (1 / 114) .
(2) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 191) .
(3) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 192) .
(4) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 205) .
(5) فِي «أ، ل، م» : الْوضُوء. والمثبت من «صَحِيح البُخَارِيّ» .
(6) «السن الْكُبْرَى» (1 / 116) .
(7) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 205) .(5/739)
وَهَذَا أثر صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي (1) ، وَالْبَيْهَقِيّ (2) عَنهُ، عَن زيد بن
أسلم، عَن أَخِيه خَالِد بن أسلم " أَن عمر بن الْخطاب أفطر فِي رَمَضَان فِي
يَوْم ذِي غيم، وَرَأَى أَنه قد أَمْسَى وَغَابَتْ الشَّمْس، فَجَاءَهُ رجل فَقَالَ: قد
طلعت الشَّمْس. فَقَالَ: الخَطْب يسير وَقد اجتهدنا " قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك:
يَعْنِي قَضَاء يَوْم مَكَانَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ من وَجْهَيْن آخَرين عَن عمر
مُفَسرًا فِي الْقَضَاء. فذكرهما بِإِسْنَادِهِ. إِحْدَاهمَا: عَن عَلّي بن حَنْظَلَة، عَن
أَبِيه - وَكَانَ أَبوهُ صديقا لعمر - قَالَ: " كنت عِنْد عمر فِي رَمَضَان فَأفْطر
وَأفْطر النَّاس، فَصَعدَ الْمُؤَذّن ليؤذن فَقَالَ: أَيهَا النَّاس، هَذِه الشَّمْس
(مَا) (3) تغرب. فَقَالَ عمر: [كفانا الله شرك، إِنَّا لم نبعثك رَاعيا. ثمَّ قَالَ
عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه] (4) : من كَانَ قد أفطر فليصم يَوْمًا مَكَانَهُ " وَفِي الْأُخْرَى " فَقَالَ
عمر: مَا نبالي وَالله نقضي يَوْمًا مَكَانَهُ " ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي (نَظَائِر) (5)
هَذِه الرِّوَايَات عَن عمر فِي الْقَضَاء دَلِيل عَلَى خطأ رِوَايَة زيد بن وهب فِي
ترك الْقَضَاء. ثمَّ سَاقهَا وَبَين (ضعفها) (6) .
السَّادِس وَالسَّابِع: رُوِيَ عَن عَلّي وَابْن عمر " أَنه لَا بَأْس بِالسِّوَاكِ
الرطب " (7) .
أما أثر عَلّي فَلَا يحضرني من خرجه، وَأما أثر ابْن عمر فَذكره
البُخَارِيّ (8) بِنَحْوِهِ، وَهَذَا لَفظه: وَقَالَ ابْن عمر: " يستاك أول النَّهَار
وَآخره " وَفِي الْبَيْهَقِيّ (9) عَنهُ «أَنه كَانَ يستاك وَهُوَ صَائِم» وَرُوِيَ عَنهُ
__________
(1) «الْأُم» (2 / 96) .
(2) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 217) .
(3) فِي «السّنَن الْكُبْرَى» : لم.
(4) من «السّنَن الْكُبْرَى» .
(5) فِي «السّنَن الْكُبْرَى» : تظاهر.
(6) فِي «أ، ل» : صفتهَا والمثبت من «م» .
(7) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 216) .
(8) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 181) .
(9) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 273) .(5/740)
مَرْفُوعا، وَفِي إِسْنَاده أَحْمد بن عبد الله بن ميسرَة النهاوندي (1) ، قَالَ ابْن
حبَان: لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ ابْن عدي: يحدث عَن الثِّقَات
بِالْمَنَاكِيرِ وَيسْرق حَدِيث النَّاس. وَالصَّحِيح وَقفه عَلَى ابْن عمر.
الثَّامِن وَالتَّاسِع والعاشر وَالْحَادِي عشر: عَن ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس،
وَأنس، وَأبي هُرَيْرَة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وجوب الْفِدْيَة عَلَى الشَّيْخ الْكَبِير الْمُفطر بِعُذْر
الْهَرم) (2) .
أما أثر ابْن عمر: فَذكره صَاحب «الْمُهَذّب» (3) وَلم يعزه النَّوَوِيّ (4)
وَلَا الْمُنْذِرِيّ، وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ (5) من حَدِيث نَافِع مولَى ابْن عمر «أَنه سُئِلَ
عَن رجل مرض فطال عَلَيْهِ مَرضه حَتَّى مرَّ عَلَيْهِ رمضانان أَو ثَلَاثَة، فَقَالَ
نَافِع: كَانَ ابْن عمر يَقُول: من أدْركهُ رَمَضَان وَلم يكن صَامَ رَمَضَان
(الجائي) (6) فليطعم مَكَان كل يَوْم مِسْكينا مدًّا من حِنْطَة وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء "
وَفِي البُخَارِيّ (7) من حَدِيث نَافِع، عَن ابْن عمر " أَنه قَرَأَ (فَدِيَة طَعَامُ
مَسَاكِينَ) (8) قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَة ".
وَأما أثر ابْن عَبَّاس، فَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» (9) فِي كتاب
التَّفْسِير مِنْهُ، عَن عَطاء «سمع ابْن عَبَّاس يقْرَأ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقونَهُ فِدْية
__________
(1) تَرْجَمته فِي «ميزَان الِاعْتِدَال» (1 / 108 رقم 423) .
(2) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» . وَانْظُر «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 238) .
(3) «الْمُهَذّب» (1 / 178) .
(4) «الْمَجْمُوع» (6 / 393) .
(5) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 196 رقم 85) .
(6) فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» الْخَالِي.
(7) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 221 رقم 1949) .
(8) الْبَقَرَة: 184. وَهِي قِرَاءَة المدنيَّيْن وَابْن عَامر. انْظُر النشر (2 / 170) .
(9) «صَحِيح البُخَارِيّ» (8 / 28 رقم 4505) .(5/741)
طَعَامُ مِسْكِين) (1) قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيست مَنْسُوخَة، وَهُوَ الشَّيْخ الْكَبِير
وَالْمَرْأَة الْكَبِيرَة لَا يستطيعان أَن يصوما فيطعمان مَكَان كل يَوْم مِسْكينا ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد (2) من حَدِيث سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس (وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (3) قَالَ: كَانَت رخصَة للشَّيْخ الْكَبِير
وَالْمَرْأَة الْكَبِيرَة وهما يطيقان الصّيام أَن يفطرا (و) (4) يطعما مَكَان كل يَوْم
مِسْكينا، والحبلى والمرضع إِذا خافتا - قَالَ أَبُو دَاوُد: يَعْنِي (عَلَى) (5)
أولادهما - أفطرتا وأطعمتا ". وَفِي أبي دَاوُد (6) أَيْضا من حَدِيث عِكْرِمَة،
عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: " (أَثْبَتَت) (7) للحبلى والمرضع ". وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي
«سنَنه» (8) من هَذَا الْوَجْه عَنهُ بِلَفْظ: " رخص للشَّيْخ الْكَبِير والعجوز
(الْكَبِيرَة) (9) فِي ذَلِك، وهما يطيقان الصَّوْم أَن (يفطرا إِن شاءا) (10)
ويطعما مَكَان كل يَوْم مِسْكينا، ثمَّ نسخ ذَلِك فِي هَذِه الْآيَة (فَمَنْ شَهِدَ
مِنكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (11) . وَثَبت للشَّيْخ الْكَبِير والعجوز الْكَبِيرَة إِذا كَانَا
لَا يطيقان الصَّوْم، وَالْحَامِل والمرضع إِذا خافتا أفطرتا وأطعمتا مَكَان كل
يَوْم مِسْكينا " وَفِي رِوَايَة لَهُ (12) من حَدِيث مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس: «يطعم
__________
(1) الْبَقَرَة: 184.
(2) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 132 رقم 2312) .
(3) الْبَقَرَة: 184.
(4) فِي «أ» : أَو. والمثبت من «م، ل) و «سنَن أبي دَاوُد» .
(5) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «سنَن أبي دَاوُد» .
(6) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 131 رقم 2311) .
(7) فِي «أ، ل» ، أثبت. والمثبت من «م» و «سنَن أبي دَاوُد» .
(8) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 230) .
(9) فِي «أ» : الْكَبِير. والمثبت من «م، ل» و «السّنَن الْكُبْرَى» .
(10) فِي «أ» : يفْطر إِن شَاءَ. والمثبت من «م، ل» و «السّنَن الْكُبْرَى» .
(11) الْبَقَرَة: 185.
(12) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 271) .(5/742)
نصف صَاع [من حِنْطَة] (1) مَكَان يَوْم " ثمَّ قَالَ: كَذَا فِي هَذِه الرِّوَايَة
" نصف صَاع من حِنْطَة " وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: " مدًّا لطعامه، ومدًّا لإدامه "
وَفِي رِوَايَة لَهُ: " إِذا عجز الشَّيْخ الْكَبِير عَن الصّيام أطْعم عَن كل [يَوْم مدًّا
مدًّا] (2» وَفِي رِوَايَة لَهُ: " رخص للشَّيْخ الْكَبِير أَن يفْطر وَيطْعم عَن كل يَوْم
مِسْكينا وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ ". (وَرَوَاهُ) (3) الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (4) بِهَذَا اللَّفْظ
الْأَخير ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَفِي رِوَايَة لَهُ (5) عَنهُ فِي قَوْله
تَعَالَى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) وَاحِد (فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً) (قَالَ: و) (6) زَاد مِسْكينا آخر (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (7) وَلَيْسَت بمنسوخة
إِلَّا أَنه قد وضع للشَّيْخ الْكَبِير الَّذِي لَا يَسْتَطِيع الصّيام وَأمر أَن يطعم الَّذِي
[يعلم أَنه] (8) لَا يطيقه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَأما أثر أنس، فَرَوَاهُ الشَّافِعِي (9) عَن مَالك " أَن أنس بن مَالك كبر
حَتَّى كَانَ لَا يقدر عَلَى الصّيام فَكَانَ يفتدي " قَالَ الشَّافِعِي: وَخَالفهُ مَالك
فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ بِوَاجِب. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» (10) : هَذَا مُنْقَطع،
وَقد رَوَيْنَاهُ عَن قَتَادَة مَوْصُولا عَن أنس " أَنه ضعف عَاما قبل مَوته فَأفْطر
وَأمر أَهله أَن يطعموا مَكَان كل يَوْم مِسْكينا ".
قلت: وَأخرج هَذَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» (11) .
__________
(1) سَقَطت من «أ، ل، م» والمثبت من «السّنَن الْكُبْرَى» .
(2) فِي «أ، ل» : مد يَوْمًا يَوْمًا. فِي «م» : مدًّا. والمثبت من «السّنَن الْكُبْرَى» .
(3) فِي «م» : وَفِي رِوَايَة. والمثبت من «أ، ل» .
(4) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 440) .
(5) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 440) .
(6) فِي «الْمُسْتَدْرك» : فَإِن.
(7) الْبَقَرَة: 184.
(8) سَقَطت من «أ، ل، م» والمثبت من «الْمُسْتَدْرك» .
(9) «الْأُم» (7 / 245) .
(10) «الْمعرفَة» (3 / 415) .
(11) «المعجم الْكَبِير» (1 / 242 رقم 675) .(5/743)
وَالدَّارَقُطْنِيّ (1) وَالْبَيْهَقِيّ (2) فِي «سُنَنهمَا» .
وَأما أثر أبي هُرَيْرَة، فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (3) من حَدِيث سُلَيْمَان بن
مُوسَى، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: " من أدْركهُ الْكبر
فَلم يسْتَطع صِيَام شهر رَمَضَان فَعَلَيهِ لكل يَوْم مد من قَمح ".
الْأَثر الثَّانِي عشر: أَن ابْن عَبَّاس قَرَأَ " وَعَلَى الَّذين (يطوقونه) (4) فديَة
طَعَام مِسْكين " (5) وَمَعْنَاهُ يكلفون الصَّوْم فَلَا يطيقُونَهُ (6) .
وَهَذِه الْقِرَاءَة مَشْهُورَة عَنهُ فِي كتب التَّفْسِير.
الْأَثر الثَّالِث عشر: عَن ابْن عَبَّاس " أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: (وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) (7) : إِنَّهَا مَنْسُوخَة الحكم إِلَّا فِي حق الْحَامِل
والمرضع " (8) .
وَهَذَا الْأَثر سلف بَيَانه قَرِيبا.
الْأَثر الرَّابِع عشر: عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما " أَنه قَالَ: فِيمَن عَلَيْهِ
صَوْم فَلم يصمه حَتَّى أدْركهُ رَمَضَان آخر: يطعم عَن الأول " (9) .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» (10) من رِوَايَة نَافِع عَنهُ أَنه
كَانَ يَقُول: " من أدْركهُ رَمَضَان وَعَلِيهِ من رَمَضَان شَيْء فليطعم (مَكَان كل
يَوْم مِسْكينا) (11) مدًّا من حِنْطَة " وَفِي رِوَايَة لَهُ (12) مثلهَا تقدّمت فِي الْأَثر
__________
(1) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 207 - 208 رقم 17) .
(2) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 271) .
(3) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 271) .
(4) فِي «م، ل» : يطيقُونَهُ. والمثبت من «أ» .
(5) الْبَقَرَة: 184.
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 238) .
(7) الْبَقَرَة: 184.
(8) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 240) .
(9) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 242) .
(10) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 196 رقم 86) .
(11) فِي «أ، ل» : كل مِسْكين يَوْمًا. والمثبت من «م» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
(12) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 196 رقم 85) .(5/744)
الثَّامِن. قَالَ ابْن حزم (1) : روينَا - يَعْنِي الْإِطْعَام - عَن عمر وَابْن عمر من
طَرِيق (2) مُنْقَطِعَة، وَبِه يَقُول الْحسن، وَعَطَاء، وروينا عَن ابْن عمر من
طَرِيق صَحِيحَة " أَنه يَصُوم رَمَضَان الآخر وَلَا يقْضِي الأول بصيام لَكِن
يطعم عَنهُ مَكَان كل يَوْم مِسْكينا مِسْكينا مًدًّا مدًّا " قَالَ: وروينا عَنهُ أَيْضا
" يهدي (مَكَان) (3) كل (يَوْم) (4) فرط فِي قَضَائِهِ بَدَنَة مقلدة ".
الْأَثر الْخَامِس عشر: عَن ابْن عَبَّاس مثله (5) .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (6) من رِوَايَة مَيْمُون بن مهْرَان عَنهُ " فِي
رجل أدْركهُ رَمَضَان وَعَلِيهِ رَمَضَان آخر قَالَ: يَصُوم (عَن) (7) هَذَا، وَيطْعم
عَن ذَاك كل يَوْم مِسْكينا ويقضيه ".
__________
(1) «الْمُحَلَّى» (6 / 261) .
(2) زَاد فِي «م» : صَحِيحَة.
(3) فِي «أ، ل» : مَكَانَهُ. والمثبت من «م» و «الْمُحَلَّى» .
(4) فِي «الْمُحَلَّى» : رَمَضَان.
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 242) .
(6) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 253) .
(7) لَيست فِي «السّنَن الْكُبْرَى» .(5/745)
بَاب صَوْم التَّطَوُّع
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَلَاثَة عشر حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " صِيَام يَوْم عَرَفَة كَفَّارَة سنتَيْن " (1) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم (2) مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث أبي قَتَادَة
رَضِيَ اللَّهُ عَنْه " أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَن صَوْم يَوْم عَرَفَة فَقَالَ: يكفر السّنة
الْمَاضِيَة والباقية، وَسُئِلَ عَن صَوْم يَوْم عَاشُورَاء فَقَالَ: يكفر السّنة
الْمَاضِيَة " وَفِي رِوَايَة لَهُ (3) : " صِيَام يَوْم عَرَفَة أحتسب عَلَى الله أَن يكفر
السّنة الَّتِي قبله وَالسّنة الَّتِي بعده، وَصِيَام يَوْم عَاشُورَاء أحتسب عَلَى الله
أَن يكفر السّنة الَّتِي قبله ". قَالَ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» (4) : هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف
فِي الْبَاب. قَالَ: وَرُوِيَ من طَرِيق عَائِشَة " أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يعدل صَوْمه
بِصَوْم ألف يَوْم - يَعْنِي يَوْم عَرَفَة " قَالَ: وَفِي إِسْنَاد هَذَا سُلَيْمَان بن مُوسَى
الْكُوفِي وَلَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه، وَلَا يعرف إِلَّا بِهِ.
قلت: وَرُوِيَ من طرق أُخْرَى:
إِحْدَاهَا: عَن زيد بن أَرقم " أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن صِيَام يَوْم عَرَفَة
فَقَالَ: يكفر السّنة الَّتِي أَتَت فِيهَا وَالسّنة الَّتِي بعْدهَا " (5) .
ثَانِيهَا: عَن سهل بن سعد مَرْفُوعا: " من صَامَ يَوْم عَرَفَة غفر لَهُ ذَنْب
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 245 - 246) .
(2) «صَحِيح مُسلم» (2 / 819 رقم 1162 / 197) .
(3) «صَحِيح مُسلم» (2 / 819 رقم 1162 / 196) .
(4) «الضُّعَفَاء الْكَبِير» (3 / 140 - 141) .
(5) «المعجم الْكَبِير» (5 / 202 رقم 5089) .(5/746)
سنتَيْن متتابعتين " (1) .
ثَالِثهَا: عَن قَتَادَة (بن) (2) النُّعْمَان مَرْفُوعا: " (من صَامَ) (3) يَوْم عَرَفَة
غفر لَهُ سنة أَمَامه، وَسنة خَلفه " (4) .
رَابِعهَا: عَن ابْن عمر قَالَ: " كُنَّا نعدل صَوْم (يَوْم) (5) عَرَفَة وَنحن مَعَ
النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِصَوْم سنة " (6) .
رواهن الطَّبَرَانِيّ.
خَامِسهَا: عَن عَائِشَة رفعته: " صَوْم يَوْم عَرَفَة يكفر الْعَام (الَّذِي) (7)
قبله " رَوَاهُ أَحْمد (8) من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي،
عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر عَنْهَا بِهِ.
سادسها: عَن أنس عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ " أَنه كَانَ فِي جمَاعَة من أَصْحَابه
فَقَالَ لَهُم: أَي يَوْم هَذَا؟ قَالُوا: يَوْم عَرَفَة. فَقَالَ: كَذَلِك يعرف الله بَين
أهل التَّقْوَى فِي الْقِيَامَة، وَهُوَ يَوْم صَوْمه ثَوَاب أَرْبَعِينَ سنة ". ذكره الْحَافِظ
شرف الدَّين الدمياطي فِي تَرْجَمَة عبد الْمُؤمن بن أَحْمد بن الْحُسَيْن
الإسكاف فِي «العقد الْمُثمن فِيمَن تسمى بِعَبْد الْمُؤمن» من حَدِيث حبيب
ابْن الشَّهِيد، عَن الْحسن، عَن أنس بِهِ.
__________
(1) «المعجم الْكَبِير» (6 / 179 رقم 5923) .
(2) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «المعجم الْكَبِير» .
(3) فِي «أ، ل» : إِن صِيَام. والمثبت من «م» و «المعجم الْكَبِير» .
(4) «المعجم الْكَبِير» (19 / 504 رقم 6، 8) .
(5) سَقَطت من «أ» والمثبت من «م، ل» و «المعجم الْأَوْسَط» .
(6) «المعجم الْأَوْسَط» (1 / 229 رقم 751) وَفِيه «سنتَيْن» بدل «سنة» .
(7) فِي «أ، ل» : الَّتِي. والمثبت من «م» و «الْمسند» .
(8) «الْمسند» (6 / 128) .(5/747)
الحَدِيث الثَّانِي
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يصم يَوْم عَرَفَة بِعَرَفَة " (1) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (2) من حَدِيث أم الْفضل بنت
الْحَارِث " أَن نَاسا اخْتلفُوا عِنْدهَا يَوْم عَرَفَة فِي صَوْم النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ
بَعضهم: (هُوَ صَائِم. وَقَالَ بَعضهم) (3) لَيْسَ بصائم. فَأرْسلت إِلَيْهِ بقدح
لبن وَهُوَ وَاقِف عَلَى بعيره فَشرب " وَأَخْرَجَا (4) مثله من حَدِيث أُخْتهَا
مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ (5) مصححاً لَهُ، وَالنَّسَائِيّ (6) من
حَدِيث ابْن عَبَّاس " أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أفطر بِعَرَفَة، وَأرْسلت إِلَيْهِ أم الْفضل
بِلَبن فَشرب " قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر «الاقتراح» (7) : وَهُوَ عَلَى
شَرط البُخَارِيّ.
تَنْبِيه: اقْتصر ابْن الْأَثِير فِي «جَامع الْأُصُول» (8) عَلَى عزو حَدِيث أم
الْفضل إِلَى البُخَارِيّ وَحده وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ.
فَائِدَة: اسْم أم الْفضل: لبَابَة الْكُبْرَى، وَهِي أم ابْن عَبَّاس وَإِخْوَته
وَكَانُوا سِتَّة نجباء، وَلها أُخْت يُقَال لَهَا: لبَابَة الصُّغْرَى، وَهِي أم خَالِد بن
الْوَلِيد، وَكن عشر أَخَوَات، ومَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ إِحْدَاهُنَّ، وَذكر ابْن
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 246) .
(2) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 278 رقم 1988) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 791 رقم 1123) .
(3) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» و «الصَّحِيحَيْنِ» .
(4) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 278 رقم 1989) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 791 رقم 1124) .
(5) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 124 - 125 رقم 750) .
(6) «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» (2 / 153 رقم 2815، 2816) .
(7) «الاقتراح» (ص 386) .
(8) «جَامع الْأُصُول» (6 / 358 رقم 4522) .(5/748)
سعد وَغَيره أَن أم الْفضل أول امْرَأَة أسلمت بعد خَدِيجَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
الحَدِيث الثَّالِث
رُوِيَ " أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهَى عَن صَوْم يَوْم عَرَفَة بِعَرَفَة " (1) .
هَذَا الحَدِيث (2) رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» (3) ، وَأَبُو دَاوُد (4) ، وَابْن
مَاجَه (5) ، وَالنَّسَائِيّ (6) فِي «سُنَنهمْ» من حَدِيث حَوْشَب بن عقيل، عَن
مهْدي الهجري الْعَبْدي، عَن عِكْرِمَة مولَى ابْن عَبَّاس، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وحوشب (7) هَذَا وَثَّقَهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ، وَضَعفه الْأَزْدِيّ وَابْن حزم (8) .
ومهدي رَوَى عَن عِكْرِمَة، وَعنهُ حَوْشَب بن عقيل فَقَط. قَالَ ابْن أبي حَاتِم
فِي «كِتَابه» (9) عَن ابْن معِين: أَنه سُئِلَ عَنهُ فَقَالَ: لَا أعرفهُ. وَنقل الذَّهَبِيّ
فِي «مِيزَانه» (10) عَن أبي حَاتِم أَنه قَالَ: لَا أعرفهُ. وَالَّذِي فِي كِتَابه مَا
حكيته، وَقَالَ ابْن حزم: مَجْهُول. إِلَّا أَنه سَمَّاهُ مهْدي بن هِلَال. وَسَماهُ
عبد الْحق (11) مهْدي بن حَرْب وَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ بِمَعْرُوف. وَسَماهُ
الْحَاكِم (12) مهْدي بن حسان، وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (13) (وَأخرج) (14) .
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 246) .
(2) زَاد فِي «م» : صَحِيح.
(3) «الْمسند» (2 / 304، 446) .
(4) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 185 رقم 2432) .
(5) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 551 رقم 1732) .
(6) «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» (2 / 155 - 156 رقم 2830 - 2831) .
(7) تَرْجَمته فِي «ميزَان الِاعْتِدَال» (1 / 622 رقم 2380) .
(8) «الْمُحَلَّى» (7 / 18) .
(9) «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» (8 / 337 رقم 1549) .
(10) «ميزَان الِاعْتِدَال» (4 / 195 رقم 8824) .
(11) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 246) .
(12) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 434) .
(13) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 284) .
(14) فِي «أ، ل» : بِإِخْرَاج. والمثبت من «م» .(5/749)
الْحَاكِم الحَدِيث الْمَذْكُور فِي «مُسْتَدْركه» (1) من طَرِيقه ثمَّ قَالَ: هَذَا
حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ
الضُّعَفَاء» (2) ، ثمَّ قَالَ: وَلَا يُتَابع عَلَيْهِ. قَالَ (3) : وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأسانيد جِيَاد " أَنه لم يصم يَوْم عَرَفَة " وَلَا يَصح عَنهُ أَنه نهَى عَن
صَوْمه، وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: " صَوْم عَرَفَة كَفَّارَة سنتَيْن سنة مَاضِيَة،
وَسنة مُسْتَقْبلَة ".
الحَدِيث الرَّابِع
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " صِيَام يَوْم عَاشُورَاء يكفر سنة " (4) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي أول الْبَاب وَلَفظه: " يكفر السّنة
الْمَاضِيَة " وَفِي لفظ: " السّنة الَّتِي قبله " وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» (5)
بِلَفْظ الْكتاب.
الحَدِيث الْخَامِس
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " لَئِن عِشْت إِلَى قَابل لأصومن التَّاسِع " (6) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم (7) من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله
عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " لَئِن بقيت إِلَى قَابل لأصومن التَّاسِع ". وَفِي
رِوَايَة لَهُ (8) : " فَلم يَأْتِ الْعَام الْمقبل حَتَّى توفّي رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ". قَالَ
__________
(1) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 434) .
(2) «الضُّعَفَاء الْكَبِير» (1 / 298) .
(3) «الضُّعَفَاء الْكَبِير» (1 / 298) .
(4) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 246) .
(5) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 395 رقم 3632) .
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 246) .
(7) «صَحِيح مُسلم» (2 / 798 رقم 1134 / 134) .
(8) «صَحِيح مُسلم» (2 / 797 - 798 رقم 134 / 133) .(5/750)
الرَّافِعِيّ (1) : وَفِي (صَوْم) (2) التَّاسِع مَعْنيانِ منقولان عَن ابْن عَبَّاس.
أَحدهمَا: الِاحْتِيَاط؛ فَإِنَّهُ رُبمَا يَقع فِي الْهلَال غلط فيظن الْعَاشِر
التَّاسِع. وَثَانِيهمَا: مُخَالفَة الْيَهُود فَإِنَّهُم لَا يَصُومُونَ إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، فعلَى
هَذَا لَو لم يصم التَّاسِع مَعَه اسْتحبَّ أَن يَصُوم الْحَادِي عشر.
قلت: المعنيان رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، الأول (3) : من حَدِيث ابْن أبي
ذِئْب عَن شُعْبَة مولَى ابْن عَبَّاس قَالَ: " كَانَ ابْن عَبَّاس يَصُوم عَاشُورَاء
يَوْمَيْنِ ويوالي بَينهمَا مَخَافَة أَن يفوتهُ ". وَالثَّانِي (4) : من حَدِيث الشَّافِعِي:
أَنا سُفْيَان أَنه سمع عبيد الله بن أبي يزِيد يَقُول: سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول:
" صُومُوا التَّاسِع والعاشر وَلَا تشبهوا باليهود ". وَفِي الْبَيْهَقِيّ (5) أَيْضا من
حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى، عَن دَاوُد بن عَلّي، عَن أَبِيه، عَن جده أَن رَسُول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " (لَئِن) (6) بقيت لآمرن بصيام يَوْم قبله أَو يَوْم بعده، يَوْم
عَاشُورَاء " وَفِي رِوَايَة لَهُ (7) عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: " صُومُوا يَوْم عَاشُورَاء
وخالفوا فِيهِ الْيَهُود وصوموا قبله يَوْمًا أَو بعده يَوْمًا " وَفِي رِوَايَة لَهُ (8) :
" صُومُوا قبله يَوْمًا وَبعده يَوْمًا ".
الحَدِيث السَّادِس
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من صَامَ رَمَضَان وَأتبعهُ (بست) (9) من شَوَّال فَكَأَنَّمَا
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 246) .
(2) فِي «م» : صَوْمه. والمثبت من «أ، ل» .
(3) «الْمعرفَة» (3 / 430) .
(4) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 287) .
(5) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 287) .
(6) فِي «أ، ل» : إِن. والمثبت من «م» و «السّنَن الْكُبْرَى»
(7) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 287) .
(8) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 287) .
(9) فِي «م» : ستًّا. والمثبت من «أ، ل» . و «الشَّرْح الْكَبِير» .(5/751)
صَامَ الدَّهْر " (1) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح حفيل جليل من حَدِيث سعد بن سعيد
الْأنْصَارِيّ أخي يَحْيَى (و) (2) عبد ربه ابْني سعيد، رَوَاهُ عَن عمر بن
ثَابت، عَن أبي أَيُّوب خَالِد بن زيد الْأنْصَارِيّ مَرْفُوعا. وَاللَّفْظ الْمَذْكُور
لأبي دَاوُد (3) ، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» (4) وَلَفظ مُسلم (5) : " ثمَّ أتبعه ستًّا
من شَوَّال» بدل " بست من شَوَّال " وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث عَن سعد بن
سعيد هَذَا (تِسْعَة) (6) وَعِشْرُونَ رجلا أَكْثَرهم ثِقَات حفاظ أثبات، وَقد
ذكرت كل ذَلِك عَنْهُم موضحاً فِي «تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب» مَعَ
الْجَواب عَمَّن طعن فِي سعد بن سعيد وَأَنه لم ينْفَرد بِهِ وتوبع عَلَيْهِ،
وَذكرت لَهُ ثَمَان شَوَاهِد، وأجبت عَن كَلَام ابْن دحْيَة الْحَافِظ فَإِنَّهُ طعن
فِيهِ، فراجع ذَلِك جَمِيعه مِنْهُ فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات الَّتِي يرحل إِلَيْهَا.
فَائِدَة: قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: " بست من شَوَّال " أَو " ستًّا من
شَوَّال " هُوَ بِغَيْر هَاء التَّأْنِيث فِي آخِره، هَذِه لُغَة الْعَرَب الفصيحة الْمَعْرُوفَة
(تَقول) (7) : صمنا خمْسا، وصمنا ستًّا، وصمناً عشرا وَثَلَاثًا، وَشبه ذَلِك
بِحَذْف الْهَاء، وَإِن كَانَ المُرَاد مذكراً وَهُوَ الْأَيَّام، فَمَا لم يصرحوا بِذكر
الْأَيَّام، يحذفون الْهَاء، فَإِن ذكرُوا الْمُذكر أثبتوا الْهَاء فَقَالُوا: صمنا سِتَّة
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 246) .
(2) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» وَهُوَ الصَّوَاب، وَانْظُر «التَّهْذِيب» (10 / 262) ، تَرْجَمَة سعد بن سعيد الْأنْصَارِيّ.
(3) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 182 رقم 2425) .
(4) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 396 - 397 رقم 3634) .
(5) «صَحِيح مُسلم» (2 / 822 رقم 1164) (6) فِي «ل» : سَبْعَة. والمثبت من «أ، م» .
(7) من «م» .(5/752)
أَيَّام، وَعشرَة أَيَّام، وَشبهه. وَنقل ذَلِك عَن الْعَرَب: الفرَّاء، ثمَّ ابْن
السّكيت، وَغَيرهمَا.
الحَدِيث السَّابِع
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَوْصَى أَبَا ذَر بصيام أَيَّام الْبيض الثَّالِث عشر، وَالرَّابِع عشر،
وَالْخَامِس عشر " (1) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ النَّسَائِيّ (2) وَالتِّرْمِذِيّ (3) وَحسنه من
حَدِيث أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ " إِذا صمت من الشَّهْر ثَلَاثَة أَيَّام
فَصم ثَلَاث عشرَة، وَأَرْبع عشرَة، وَخمْس عشرَة ". وَفِي رِوَايَة للنسائي (4) :
" أمرنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن نَصُوم من الشَّهْر ثَلَاثَة أَيَّام الْبيض: ثَلَاث عشرَة،
وَأَرْبع عشرَة، وَخمْس عشرَة ". وَرَوَاهَا أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي
«صَحِيحه» (5) وَفِي رِوَايَة لَهُ (6) : " أمرنَا بِصَوْم ثَلَاث عشرَة، وَأَرْبع
عشرَة، وَخمْس عشرَة ". وللنسائي (7) من حَدِيث ابْن الحوتكية قَالَ: قَالَ
أبي: " جَاءَ أَعْرَابِي ... " أَي فَذكر قصَّة، وَفِي آخرهَا قَالَ لله: " إِن كنت
صَائِما فَعَلَيْك بالغر الْبيض: ثَلَاث عشرَة، وَأَرْبع عشرَة، وَخمْس عشرَة ".
ثمَّ قَالَ النَّسَائِيّ: وَالصَّوَاب عَن أبي ذَر، وَيُشبه أَن يكون وَقع من الْكَاتِب
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 247) .
(2) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 540 رقم 2421) .
(3) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 134 رقم 761) .
(4) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 540 رقم 2422» .
(5) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 415 - 416 رقم 3656) .
(6) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 414 - 415 رقم 3655) .
(7) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 541 رقم 2426) .(5/753)
«ذَر» فَقيل «أبي» . وَله (1) - أَعنِي النَّسَائِيّ - وَكَذَا ابْن حبَان فِي
«صَحِيحه» (2) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، إِلَى قَوْله: «الغر» قَالَ ابْن حبَان:
سمع هَذَا (الْخَبَر) (3) مُوسَى بن طَلْحَة، عَن أبي هُرَيْرَة، وسَمعه ابْن
الحوتكية عَن أبي ذَر والطريقان جَمِيعًا محفوظان. وَفِي «علل ابْن أبي
حَاتِم» (4) : عَن جرير مَرْفُوعا: " صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر صِيَام الدَّهْر،
الْأَيَّام الْبيض ثَلَاث عشرَة، وَأَرْبع عشرَة، (وَخمْس عشرَة) (5) " قَالَ أَبُو
زرْعَة: رُوِيَ مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا وَهُوَ أصح
الحَدِيث الثَّامِن
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يتَحَرَّى صِيَام يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس " (6) .
هَذَا الحَدِيث لم أره فِي النّسخ الثَّابِتَة من الرَّافِعِيّ، ورأيته فِي
بَعْضهَا، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ التِّرْمِذِيّ (7) ،
وَالنَّسَائِيّ (8) ، وَابْن مَاجَه (9) فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي
«صَحِيحه» (10) من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث
__________
(1) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 539 رقم 2420) .
(2) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 410 - 411 رقم 3650) .
(3) فِي «م» : الحَدِيث. والمثبت من «أ، ل» و «صَحِيح ابْن حبَان» .
(4) «علل ابْن أبي حَاتِم» (1 / 266 - 267 رقم 785) .
(5) سَقَطت من «أ» والمثبت من «م، ل» و «علل ابْن أبي حَاتِم» .
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 247) .
(7) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 121 رقم 745) .
(8) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 517 - 518 رقم 2359 - 2362) .
(9) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 553 رقم 1739) .
(10) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 404 - 405 رقم 4643) .(5/754)
حسن غَرِيب من هَذَا الْوَجْه. وَفِي رِوَايَة للنسائي (1) وَابْن حبَان (2) " أَن
رجلا سَأَلَ عَائِشَة عَن الصّيام فَقَالَت: إِن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يَصُوم شعْبَان
كُله [حَتَّى يصله برمضان] (3) ويتحرى صِيَام الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس ". وَأعله ابْن
الْقطَّان (4) بِأَن رَاوِيه عَن عَائِشَة ربيعَة الجرشِي وَهُوَ إِن لم يكن لَهُ صُحْبَة
فَلَا يعرف أَنه ثِقَة، وَقد قَالَ بعض النَّاس إِن لَهُ صُحْبَة، وَكَانَ فَقِيه النَّاس
أَيَّام مُعَاوِيَة، قَالَه أَبُو المتَوَكل النَّاجِي، وَلَكِن لَيْسَ كل فَقِيه ثِقَة فِي
الحَدِيث. قَالَ: وَلست أرَى هَذَا الحَدِيث صَحِيحا من أَجله، وَمن أجل
الِاخْتِلَاف فِي ثَوْر بن يزِيد الرَّاوِي عَن خَالِد بن معدان عَنهُ وَمَا رمي بِهِ من
الْقدر. هَذَا آخر كَلَامه، وَقد أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من هَذَا
الْوَجْه كُله.
الحَدِيث التَّاسِع
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " تعرض الْأَعْمَال عَلَى الله يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس فَأحب
أَن يعرض عَمَلي وَأَنا صَائِم " (5) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (6) وَابْن مَاجَه (7) بِهَذَا اللَّفْظ
__________
(1) «سنَن النَّسَائِيّ» (4 / 462 رقم 2186) وَلَفظه: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَصُوم شعْبَان ورمضان ويتحرى الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس» .
(2) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 404 - 405 رقم 3643) .
(3) من «صَحِيح ابْن حبَان» .
(4) «الْوَهم وَالْإِيهَام» (4 / 270 - 271) .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 247) .
(6) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 122 رقم 747) .
(7) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 553 رقم 1740) بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ.(5/755)
من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن غَرِيب. وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُد (1) وَالنَّسَائِيّ (2) من حَدِيث أُسَامَة بن زيد قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله،
إِنَّك تَصُوم حَتَّى لَا تكَاد تفطر، وتفطر حَتَّى لَا تكَاد [أَن] (3) تَصُوم إِلَّا
يَوْمَيْنِ إِن دخلا فِي صيامك وَإِلَّا صمتهما. قَالَ: أَي يَوْمَيْنِ؟ قلت: يَوْم
الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس. قَالَ: ذَاك يَوْمَانِ تعرض فيهمَا الْأَعْمَال عَلَى رب
الْعَالمين، فَأحب أَن يعرض عَمَلي وَأَنا صَائِم " هَذَا لفظ النَّسَائِيّ، وَلَفظ
أبي دَاوُد نَحوه، وَرَوَاهُ أَحْمد (4) بِلَفْظ النَّسَائِيّ بِزِيَادَة: " وَلم أرك
[تَصُوم] (5) من شهر من الشُّهُور مَا تَصُوم من شعْبَان. قَالَ: ذَاك شهر يغْفل
النَّاس عَنهُ بَين رَجَب ورمضان، وَهُوَ شهر ترفع فِيهِ الْأَعْمَال إِلَى رب
الْعَالمين فَأحب أَن يرفع عَمَلي وَأَنا صَائِم ". وَرَوَى النَّسَائِيّ (6) هَذِه الزِّيَادَة
وَحدهَا من حَدِيث أُسَامَة أَيْضا، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد (7) " أَنه عَلَيْهِ السَّلَام
كَانَ أَكثر مَا يَصُوم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس فَقيل لَهُ فَقَالَ: الْأَعْمَال تعرض كل
اثْنَيْنِ وخميس [- أَو كل يَوْم اثْنَيْنِ وخميس -] (8) فَيغْفر [الله] (9) لكل مُسلم
- أَو لكل مُؤمن - إِلَّا (المتهاجرين) (10) فَيُقَال: أخروهما ".
__________
(1) «سنَن أبي دَاوُد (3 / 183 رقم 2428) .
(2) «السّنَن الْكُبْرَى» (2 / 121 رقم 3667) .
(3) من «السّنَن الْكُبْرَى» للنسائي.
(4) «الْمسند» (5 / 201) .
(5) سَقَطت من «أ، ل، م» . والمثبت من «الْمسند» .
(6) «السّنَن الْكُبْرَى» للنسائي (2 / 120 رقم 2666) .
(7) «الْمسند» (2 / 329) .
(8) من «الْمسند» .
(9) من «الْمسند» .
(10) فِي «أ، ل» : الْمُهَاجِرين. والمثبت من «م» و «الْمسند» .(5/756)
الحَدِيث الْعَاشِر
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " لَا (يَصُوم) (1) أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا أَن يَصُوم قبله أَو
يَصُوم بعده " (2) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (3) من
حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " لَا يصم أحدكُم يَوْم
الْجُمُعَة إِلَّا أَن يَصُوم قبله أَو يَصُوم بعده " وَهَذَا لفظ مُسلم، وَلَفظ
البُخَارِيّ: " لَا (يصومن) (4) أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا أَن يَصُوم يَوْمًا قبله أَو
بعده " وَفِي رِوَايَة لمُسلم (5) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا: " لَا (تخصوا) (6)
لَيْلَة الْجُمُعَة (بِصَلَاة) (7) من بَين اللَّيَالِي، وَلَا تخصوا يَوْم الْجُمُعَة بصيام
من بَين الْأَيَّام إِلَّا أَن يكون فِي صَوْم يَصُومهُ أحدكُم " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ (8)
أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن عباد قَالَ: " سَأَلت جَابر بن عبد الله وَهُوَ يطوف
بِالْبَيْتِ: أنهَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن صِيَام يَوْم الْجُمُعَة " قَالَ: نعم وَرب هَذَا
الْبَيْت ". زَاد البُخَارِيّ (9) فِي رِوَايَة مُنْقَطِعَة " يَعْنِي أَن ينْفَرد بصومه " وَفِي
أَفْرَاد البُخَارِيّ (10) من حَدِيث (جوَيْرِية) (11) " أَنه عَلَيْهِ السَّلَام دخل عَلَيْهَا
__________
(1) فِي «الشَّرْح الْكَبِير» : يصومن.
(2) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 247) .
(3) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 273 رقم 1985) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 801 رقم 1144 / 147) .
(4) فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» : يَصُوم.
(5) «صَحِيح مُسلم» (2 / 801 رقم 1144 / 148) .
(6) فِي «مُسلم» : تختصوا.
(7) فِي «مُسلم» : بِقِيَام.
(8) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 273 رقم 1984) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 801 رقم 1143) وَاللَّفْظ لَهُ.
(9) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 273 رقم 1984) .
(10) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 273 رقم 1986) .
(11) فِي «أ» : جويرة. والمثبت من «م، ل» وَجُوَيْرِية بنت الحارثة زوج النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(5/757)
يَوْم الْجُمُعَة وَهِي صَائِمَة، فَقَالَ لَهَا: أصمت أمس؟ قَالَت: لَا. قَالَ:
أَتُرِيدِينَ أَن (تصومي) (1) غَدا؟ قَالَت: لَا. قَالَ: فأفطري ". وَرَوَاهُ ابْن
حبَان فِي «صَحِيحه» (2) عَن عبد الله بن (عَمْرو) (3) قَالَ: " دخل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
عَلَى جوَيْرِية بنت الْحَارِث [يَوْم جُمُعَة] (4) وَهِي صَائِمَة ... " الحَدِيث. وَفِي
«مُسْتَدْرك الْحَاكِم» (5) فِي تَرْجَمَة سَواد بن قَارب، وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى
شَرط [مُسلم] (6) من حَدِيث جُنَادَة بن أبي أُميَّة قَالَ: " دخلت عَلَى رَسُول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي نفر من الأزد يَوْم الْجُمُعَة فَدَعَانَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلَى طَعَام بَين
يَدَيْهِ (فَقُلْنَا: إِنَّا صِيَام) (7) فَقَالَ: أصمتم أمس؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: أفتصومون
غَدا؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: فأفطروا. ثمَّ قَالَ: لَا تَصُومُوا يَوْم الْجُمُعَة مُفردا ".
وَأخرج هَذَا الحَدِيث أَحْمد فِي «مُسْنده» (8) بِنَحْوِهِ. وَحَدِيث عبد الله بن
مَسْعُود: " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَصُوم من غرَّة كل شهر ثَلَاثَة أَيَّام، وقلما
كَانَ يفْطر يَوْم الْجُمُعَة " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (9) ، وَقَالَ: حسن غَرِيب. وَقَالَ ابْن
عبد الْبر (10) : صَحِيح لَا يُخَالف هَذِه الْأَحَادِيث؛ فَإِنَّهُ مَحْمُول عَلَى أَنه لله
كَانَ يصله بِيَوْم الْخَمِيس. قَالَ ابْن عبد الْبر فِي «استذكاره» (11) : اخْتلفت
__________
(1) فِي «أ، ل» : تصومين. والمثبت من «م» و «صَحِيح البُخَارِيّ» .
(2) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 375 - 376 رقم 3611) .
(3) فِي «أ، ل» : عمر. والمثبت من «م» و «صَحِيح ابْن حبَان» .
(4) من «صَحِيح ابْن حبَان» .
(5) «الْمُسْتَدْرك» (3 / 608) وَذكره فِي تَرْجَمَة جُنَادَة بن أبي أُميَّة الْأَزْدِيّ.
(6) «أ، ل، م» : الشَّيْخَيْنِ. والمثبت عَن «الْمُسْتَدْرك» .
(7) سَقَطت من «أ» والمثبت من «م، ل» و «الْمُسْتَدْرك» .
(8) «الْمسند» (6 / 324، 430) .
(9) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 118 - 119 رقم 742) .
(10) «الاستذكار» (10 / 260) .
(11) «الاستذكار» (10 / 260 - 261) .(5/758)
الْآثَار عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي صِيَام يَوْم الْجُمُعَة. فَذكر حَدِيث ابْن مَسْعُود
هَذَا، وَذكر عَن ابْن عمر (أَنه) (1) قَالَ: " مَا رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
(مُفطرا) (2) يَوْم الْجُمُعَة قطّ " وَعَزاهُ إِلَى ابْن أبي شيبَة، وَأَنه رَوَاهُ عَن
حَفْص بن غياث، عَن (لَيْث) (3) بن أبي سليم، عَن عُمَيْر بن أبي عُمَيْر،
عَن ابْن عمر. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس " أَنه كَانَ يَصُوم يَوْم الْجُمُعَة ويواظب
عَلَيْهِ " وَرَوَى الدَّرَاورْدِي عَن صَفْوَان بن سليم، عَن رجل من بني
(حثْمَة) (4) أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " من صَامَ يَوْم
الْجُمُعَة كتبت لَهُ عشرَة أَيَّام (غُرر زهر) (5) من أَيَّام الْآخِرَة لَا تشاكلهن أَيَّام
الدُّنْيَا ". رَوَاهُ عَلّي بن الْمَدِينِيّ وَغَيره عَن الدَّرَاورْدِي.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " لَا تَصُومُوا يَوْم السبت إِلَّا فِيمَا افْترض عَلَيْكُم " (6) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد (7) وَأَبُو دَاوُد (8) وَالتِّرْمِذِيّ (9) وَالنَّسَائِيّ (10)
وَابْن مَاجَه (11) فِي «سُنَنهمْ» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (12) و (الدَّارمِيّ) (13) .
__________
(1) من «م» و «الاستذكار» .
(2) فِي «أ، ل» : يفْطر. والمثبت من «م» و «الاستذكار» .
(3) فِي «أ، ل» : كثير. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «م» و «الاستذكار» .
(4) فِي «الاستذكار» : جشم.
(5) فِي «الاستذكار» : عددهن.
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 247) .
(7) «الْمسند» (6 / 368) .
(8) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 175 - 176 رقم 2413) .
(9) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 120 رقم 744) .
(10) «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» (2 / 143 - 144 رقم 2762 - 2764) .
(11) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 550 رقم 1726) .
(12) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 435) .
(13) فِي «م» : الدَّارَقُطْنِيّ. والمثبت من «أ، ل» والْحَدِيث فِي «مُسْند الدَّارمِيّ» (2 / 32 رقم 1749) .(5/759)
فِي «مُسْنده» وَالطَّبَرَانِيّ (1) وَالْبَيْهَقِيّ (2) من حَدِيث عبد الله بن بُسر - بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة وَإِسْكَان السِّين الْمُهْملَة - عَن أُخْته الصماء أَن رَسُول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " لَا تَصُومُوا يَوْم السبت إِلَّا فِيمَا افْترض عَلَيْكُم فَإِن لم يجد
أحدكُم إِلَّا لحاء عنبة أَو عود شَجَرَة فليمضغه ". وَلَفظ الطَّبَرَانِيّ: " إِلَّا لحاء
شَجَرَة فليقضمه " وَلَفظ الدَّارمِيّ كَذَلِك وَقَالَ: " إِلَّا (كفًّا) (3) أَو لحاء
شَجَرَة (فليمضغه) (4) ". وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» (5) من
حَدِيث عبد الله بن بسر، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» (6)
كَذَلِك من طَرِيقين، وَرَوَاهُ ابْن السكن فِي «صحاحه» من هَذَا الْوَجْه
بِلَفْظ: " لَا تَصُومُوا يَوْم السبت إِلَّا فِي فَرِيضَة فَإِن لم يجد أحدكُم إِلَّا عود
كرم أَو لحاء شَجَرَة فليمضغه ". قَالَ التِّرْمِذِيّ عقب إِخْرَاجه (لَهُ) (7) من
حَدِيث الصماء: (هَذَا) (8) حَدِيث حسن. قَالَ: وَمَعْنى الْكَرَاهِيَة فِي هَذَا
أَن يخص الرجل يَوْم السبت بصيام؛ لِأَن الْيَهُود يعظمون يَوْم السبت.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ (9) : قَالَ الْأَوْزَاعِيّ مَا زلت بِهَذَا الحَدِيث كَاتِما ثمَّ رَأَيْته
انْتَشَر. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (10) : هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط
__________
(1) «المعجم الْكَبِير» (24 / 325 - 329 رقم 818) .
(2) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 302) .
(3) فِي «ل» لقا. وَفِي «مُسْند الدَّارمِيّ» : كَذَا. والمثبت من «أ، ل» .
(4) فِي «م» : فليمصه. والمثبت من «أ، ل» و «مُسْند الدَّارمِيّ» .
(5) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 379 رقم 3615) .
(6) «الْمسند» (4 / 189) .
(7) فِي «أ، ل» : أَنه. والمثبت من «م» .
(8) فِي «أ، ل» : وَقَالَ. والمثبت من «م» .
(9) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 302 - 303) .
(10) «الْمُسْتَدْرك» (1 / 435 - 436) .(5/760)
[البُخَارِيّ] (1) . قَالَ: وَله معَارض بِإِسْنَاد صَحِيح، وَقد أَخْرجَاهُ. فَذكر
حَدِيث (جوَيْرِية السالف فِي) (2) الحَدِيث الَّذِي قبله، وَقد علمت أَنه من
أَفْرَاد البُخَارِيّ، ثمَّ رَوَى عَن الزُّهْرِيّ أَنه كَانَ إِذا ذكر لَهُ أَنه نهي عَن صِيَام
يَوْم السبت قَالَ: هَذَا حَدِيث حمصي. قَالَ الْحَاكِم: وَله معَارض بِإِسْنَاد
صَحِيح. فَذكر بِإِسْنَادِهِ عَن كريب مولَى ابْن عَبَّاس " أَن [ابْن عَبَّاس] (3)
وناساً من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعثوني إِلَى أم سَلمَة أسألها عَن
] أَي] (4) الْأَيَّام [كَانَ] (5) رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَكثر لَهَا صياما. فَقَالَت: يَوْم
السبت والأحد. فَرَجَعت إِلَيْهِم فَأَخْبَرتهمْ، فكأنهم أَنْكَرُوا ذَلِك، فَقَامُوا
بأجمعهم إِلَيْهَا (فَقَالُوا: إِنَّا) (6) بعثنَا إِلَيْك هَذَا فِي كَذَا وَكَذَا. فَذكر أَنَّك
قلت كَذَا وَكَذَا فَقَالَت: صدق، إِن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَكثر مَا كَانَ يَصُوم من
الْأَيَّام يَوْم السبت والأحد، وَكَانَ يَقُول: إنَّهُمَا يَوْمًا عيد للْمُشْرِكين وَأَنا
أُرِيد أَن أخالفهم ". هَذَا آخر كَلَامه. وَحَدِيث أم سَلمَة هَذَا أخرجه
النَّسَائِيّ (7) وَالْبَيْهَقِيّ (8) فِي «سُنَنهمَا» وَأعله ابْن الْقطَّان (9) بِأَن قَالَ: فِيهِ
مَجْهُولَانِ. وَأما الْحَاكِم فقد صَححهُ كَمَا علمت، وَكَذَا ابْن حبَان (10) فَإِنَّهُ
__________
(1) فِي «أ، ل، م» : الشَّيْخَيْنِ. والمثبت من «الْمُسْتَدْرك» .
(2) من «م» .
(3) فِي «أ، ل، م» : كريباً. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «الْمُسْتَدْرك» .
(4) من «الْمُسْتَدْرك» .
(5) فِي «أ، ل، م» : أَكَانَ. والمثبت من «الْمُسْتَدْرك» .
(6) فِي «أ، ل» : فَقَالَ إِنَّمَا. والمثبت من «م» و «الْمُسْتَدْرك» .
(7) «السّنَن الْكُبْرَى للنسائي» (2 / 146 رقم 2776) .
(8) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 303) .
(9) انْظُر «الْوَهم وَالْإِيهَام» (4 / 265 - 267 رقم 1806) .
(10) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 407 - 408 رقم 3646) .(5/761)
أخرجه (فِي صَحِيحه) (1) عَن الْحسن بن سُفْيَان، نَا حبَان بن مُوسَى
[أخبرنَا عبد الله] (2) ، أَنا عبد الله بن مُحَمَّد بن عمر بن عَلّي بن أبي
طَالب، حَدثنِي [أبي] (3) عَن كريب ... فَذكره، وَقَول الْحَاكِم " إِنَّه معَارض
لحَدِيث الصماء " لَيْسَ كَذَلِك بل يحمل حَدِيث الصماء عَلَى إِفْرَاده
بِالصَّوْمِ، وَحَدِيث أم سَلمَة وَحَدِيث جوَيْرِية عَلَى مَا إِذا مَا صَامَ يَوْمًا قبله
أَو يَوْمًا بعده، وَحَدِيث جوَيْرِية صَرِيح فِي ذَلِك كَمَا سلف. وَفِي جَامع
التِّرْمِذِيّ (4) - وَقَالَ: حسن - من حَدِيث عَائِشَة قَالَت: " كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
يَصُوم من الشَّهْر: السبت والأحد والاثنين، وَمن الشَّهْر الآخر: الثُّلَاثَاء
وَالْأَرْبِعَاء وَالْخَمِيس ". ثمَّ اعْلَم أَن حَدِيث الصماء أعل بِأُمُور: أَحدهَا:
بِالِاضْطِرَابِ حَيْثُ رُوِيَ عَن عبد الله بن بسر (عَنْهَا) (5) ، وَعنهُ عَن رَسُول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَعَن أَبِيه بسر عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَعَن الصماء، عَن عَائِشَة أم
الْمُؤمنِينَ، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قَالَ النَّسَائِيّ: وَهَذِه أَحَادِيث مضطربة. قلت:
وَلَك أَن تَقول وَإِن كَانَت مضطربة فَهُوَ اضْطِرَاب غير قَادِح؛ فَإِن عبد الله
ابْن بسر صَحَابِيّ (6) ، وَكَذَا وَالِده (7) والصماء (8) مِمَّن ذكرهم فِي الصَّحَابَة
ابْن حبَان فِي أَوَائِل «الثِّقَات» فَتَارَة سَمعه من أَبِيه، وَتارَة من أُخْته، وَتارَة
من رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَتارَة سمعته أُخْته من عَائِشَة، وسمعته من رَسُول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قَالَ عبد الْحق (9) : وَقيل فِي هَذَا الحَدِيث: عَن عبد الله بن بسر، عَن
__________
(1) فِي «م» : وَصَححهُ. والمثبت من «أ، ل» .
(2) سَقَطت من «أ، ل، م» والمثبت من «صَحِيح ابْن حبَان» .
(3) سَقَطت من «أ، ل، م» والمثبت من «صَحِيح ابْن حبَان» .
(4) «جَامع التِّرْمِذِيّ» (3 / 122 رقم 746) .
(5) سَقَطت من «أ، ل) والمثبت من «م» .
(6) «الثِّقَات» (3 / 232 - 233) .
(7) «الثِّقَات» (3 / 35) .
(8) «الثِّقَات» (3 / 197 - 198) .
(9) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 225) .(5/762)
عمته الصماء. قَالَ: وَهُوَ أصح.
قلت: وَأخرجه من هَذَا الطَّرِيق الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (1) وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» : إِن الصَّحِيح عَن عبد الله بن بسر، عَن أُخْته
الصماء.
ثَانِيهَا: أَنه حَدِيث كذب، قَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» (2) ، قَالَ مَالك:
هَذَا الحَدِيث كذب. وَتَبعهُ ابْن الْعَرَبِيّ فَقَالَ فِي «القبس» : وَأما يَوْم السبت
فَلم يَصح فِيهِ الحَدِيث، وَلَو صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ مُخَالفَة أهل الْكتاب (وَفِيه
نظر) (3) . قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» (4» : وَهَذَا القَوْل لَا يقبل من
مَالك فقد صَححهُ الْأَئِمَّة. وَاعْتذر عَنهُ عبد الْحق (5) فَقَالَ: لَعَلَّ مَالِكًا إِنَّمَا
جعله كذبا من أجل رِوَايَة ثَوْر بن يزِيد الكلَاعِي، فَإِنَّهُ كَانَ يُرْمَى بِالْقدرِ،
وَلكنه كَانَ ثِقَة فِيمَا رَوَى، قَالَه يَحْيَى وَغَيره، وَقد رَوَى عَنهُ الجلة مثل:
يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان، وَابْن الْمُبَارك، و [الثَّوْريّ] (6) وَغَيرهم.
ثَالِثهَا: أَنه مَنْسُوخ، قَالَه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» (7) وَفِيه نظر، قَالَ
(النَّوَوِيّ) (8) فِي «شَرحه» (9) : هَذَا القَوْل (10) لَيْسَ بمقبول وَأي دَلِيل عَلَى
نسخه؟ ! قلت: وَالْحق أَنه حَدِيث صَحِيح غير مَنْسُوخ.
فَائِدَة: فِي اسْم الصماء أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه اسْمهَا صمية فسميت
__________
(1) «السّنَن الْكُبْرَى» (4 / 302) .
(2) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 177 رقم 2416) .
(3) من «م» .
(4) «الْمَجْمُوع» (6 / 451) .
(5) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 225) .
(6) فِي «أ، ل» : النَّوَوِيّ. وَفِي «م» : النواوي. وهما خطأ، والمثبت من «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» .
(7) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 176) .
(8) فِي «م» : الثَّوْريّ. وَهُوَ خطأ، والمثبت من «أ، ل» .
(9) «الْمَجْمُوع» (6 / 451) .
(10) زَاد فِي «م» : لَيْسَ بِالْقَوِيّ و.(5/763)
الصماء، قَالَه ابْن حبَان فِي «ثقاته» (1) .
ثَانِيهَا: بُهية بِضَم الْبَاء، حَكَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» عَن
الدَّارَقُطْنِيّ، وَحَكَاهُ عبد الْحق (2) أَيْضا.
ثَالِثهَا: بَهِيمَة، حَكَاهُ عبد الْحق (3) فَقَالَ: اسْمهَا بهية، وَقيل:
بَهِيمَة. وَهِي أُخْت عبد الله بن بسر، وَقيل: إِنَّهَا أُخْت بسر. وَالْأول أصح.
تَنْبِيه: لم يعز هَذَا الحَدِيث ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» (4) إِلَى النَّسَائِيّ
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي «سنَنه الصُّغْرَى» ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي «الْكُبْرَى» كَمَا عزيته لَك أَولا
فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ لعبد الله بن عَمْرو: " لَا صَامَ من صَامَ الدَّهْر، صَوْم ثَلَاثَة
أَيَّام من كل شهر صَوْم الدَّهْر " (5) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (6) من هَذَا الْوَجْه (بِلَفْظ) (7)
" لَا صَامَ من صَامَ الْأَبَد ثَلَاثًا " وَفِي آخر (8) " صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام ... " إِلَى آخِره.
كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَسَقَطت الْوَاو فِي بعض نسخ الْكتاب، وَهُوَ من
النساخ، وَهُوَ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ.
__________
(1) «الثِّقَات» (3 / 197 - 198) .
(2) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 225) .
(3) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (2 / 225) .
(4) «جَامع الْأُصُول» (6 / 360 رقم 4528) .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 248) .
(6) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 260 رقم 1977) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 814 - 815 رقم 1159 / 186) .
(7) من «م» .
(8) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 260 رقم 1977) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 815 - 816 رقم 1159 / 187) .(5/764)
الحَدِيث الثَّالِث عشر
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهَى عَن صِيَام الدَّهْر " (1) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عبد الله بن
عَمْرو بِلَفْظ: " لَا صَامَ من صَامَ الْأَبَد " كَمَا سلف، وَفِي أَفْرَاد مُسلم (2) من
حَدِيث أبي قَتَادَة " أَن عمر قَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ بِمن يَصُوم الدَّهْر؟
قَالَ: لَا صَامَ وَلَا أفطر - أَو لم يصم وَلم يفْطر ". وَفِي «مُسْند أَحْمد» (3)
و «صَحِيح ابْن حبَان» (4) من حَدِيث عبد الله بن الشخير رَفعه: «من صَامَ
الْأَبَد فَلَا صَامَ وَلَا أفطر ". وَمن حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن (5) " أَن رَسُول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قيل لَهُ: إِن فلَانا لَا يفْطر نَهَار الدَّهْر إِلَّا لَيْلًا. فَقَالَ لله: لَا صَامَ
وَلَا أفطر ". وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» (6) من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من صَامَ الدَّهْر (ضيقت) (7) عَلَيْهِ جَهَنَّم هَكَذَا. وَعقد
(تسعين) (8) " وَرَوَاهُ (9) مَوْقُوفا (عَلَى) (10) أبي مُوسَى أَيْضا. وَهَذَا الحَدِيث
احْتج بِهِ الْبَيْهَقِيّ عَلَى أَنه لَا كَرَاهَة فِي صَوْم الدَّهْر، وَمَعْنى (ضيقت) (11) .
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 248) .
(2) «صَحِيح مُسلم» (2 / 818 - 819 رقم 1162 / 196) .
(3) «الْمسند» (4 / 25، 26) .
(4) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 348 - 349 رقم 3583) .
(5) «مُسْند أَحْمد» (4 / 25، 26) و «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 348 رقم 3582) .
(6) «السّنَن الْكُبْرَى» للبيهقي (4 / 300) .
(7) فِي «أ» : صبَّتْ. والمثبت من «ل، م» و «السّنَن الْكُبْرَى» .
(8) فِي «م» سفين. والمثبت من «أ، ل» و «السّنَن الْكُبْرَى» .
(9) «السّنَن الْكُبْرَى» للبيهقي (4 / 300) .
(10) فِي «م» : عَن. والمثبت من «أ، ل» .
(11) فِي «أ، ل» : صبَّتْ. والمثبت من «م» .(5/765)
عَلَيْهِ؛ أَي: عَنهُ فَلم يدخلهَا. أَو (ضيقت) (1) عَلَيْهِ أَي لَا يكون لَهُ فِيهَا
مَوضِع. وَلما رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ (2) قَالَ فِي آخِره: قَالَ أَبُو الْوَلِيد يَعْنِي: أَن
يدخلهَا (وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَأَشَارَ غَيره إِلَى الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى كَرَاهَته.
و) (3) أوردهُ ابْن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» (4) فِي بَاب من كره صَوْم الدَّهْر.
وَاسْتدلَّ بِهِ أَيْضا كَذَلِك ابْن حزم (5) ، وَقَالَ: إِنَّمَا أوردهُ رُوَاته كلهم عَلَى
التَّشْدِيد وَالنَّهْي عَن صَوْمه. وَلما رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» (6) حمله
عَلَى من صَامَ الدَّهْر الَّذِي فِيهِ أَيَّام التَّشْرِيق وَالْعِيدَيْنِ.
__________
(1) فِي «أ» : صبَّتْ. والمثبت من «ل، م» .
(2) رَوَاهُ فِي «الْأَوْسَط» (3 / 83 رقم 2562) بِدُونِ قَول الطَّبَرَانِيّ: قَالَ أَبُو الْوَلِيد. . الخ.
(3) لَيست فِي «أ، ل» والمثبت من «م» .
(4) «مُصَنف ابْن أبي شيبَة» (2 / 491 رقم 5، 6) .
(5) «الْمُحَلَّى» (7 / 16) .
(6) «صَحِيح ابْن حبَان» (8 / 350) .(5/766)
كتاب الِاعْتِكَاف(5/767)
(صفحة فارغة)(5/768)
كتاب الِاعْتِكَاف
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ اثْنَي عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من اعْتكف فوَاق نَاقَة فَكَأَنَّمَا أعتق نسمَة " (1) .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا أعرفهُ بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ، ورأيته
بِلَفْظ: " من رابط " بدل " من اعْتكف " (وَذكره الْجَوْهَرِي فِي «صحاحه» (2)
بِلَفْظ: " العيادة قدر فوَاق نَاقَة ". قَالَ: والفواق - بِالضَّمِّ وَالْكَسْر -: مَا بَين
الحلبتين من الْوَقْت؛ لِأَنَّهَا تحلب ثمَّ تتْرك سويعة يرضعها الفصيل لتدر،
ثمَّ تحلب فَيُقَال: مَا أَقَامَ [عِنْده] (3) إِلَّا فواقاً. ثمَّ قَالَ: وَفِي الحَدِيث ...
فَذكره كَمَا أوردناه) (4) . وَفِي «ضعفاء الْعقيلِيّ» (5) من حَدِيث أنس بن عبد
الحميد، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، (عَن) (6) عَائِشَة مَرْفُوعا: " من
رابط فوَاق (نَاقَة) (7) حرمه الله عَلَى النَّار " ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَقد
رَأَيْت لأنس هَذَا غير حَدِيث من هَذَا النَّحْو. ثمَّ رَوَاهُ (8) من طَرِيق آخر
عَنْهَا (مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يعرف إِلَّا
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 249) .
(2) «الصِّحَاح» (4 / 1272) .
(3) فِي «أ، ل» : عَنهُ. والمثبت من «الصِّحَاح» .
(4) سقط من «م» والمثبت من «أ، ل» .
(5) «الضُّعَفَاء الْكَبِير» (1 / 22) .
(6) سَقَطت من «أ» والمثبت من «م، ل» .
(7) فِي «م» . نَاقَته. والمثبت من «أ، ل» و (الضُّعَفَاء الْكَبِير» .
(8) «الضُّعَفَاء الْكَبِير» (2 / 143) .(5/769)
بِسُلَيْمَان وَلَا يُتَابع عَلَيْهِ) (1) وَكَانَ سُلَيْمَان مُنكر الحَدِيث. وَذكره ابْن
الْجَوْزِيّ من هَذَا الْوَجْه فِي «علله» (2) ووهاه أَيْضا. وَورد فِي فضل
الِاعْتِكَاف حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَرْفُوع: " الْمُعْتَكف هُوَ يعكف الذُّنُوب،
ويجرى لَهُ من الْحَسَنَات كعامل الْحَسَنَات كلهَا ". رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي
«سنَنه) (3) من حَدِيث فرقد السبخي، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس
بِهِ، بعد أَن ترْجم عَلَيْهِ بَاب فِي ثَوَاب الِاعْتِكَاف. وفرقد (4) هَذَا وَثَّقَهُ ابْن
معِين، وَضَعفه أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَحَدِيث الْحُسَيْن مَرْفُوعا: " اعْتِكَاف
عشر فِي رَمَضَان كحجتين وعمرتين " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» (5)
بِإِسْنَاد ضَعِيف، بِسَبَب الْهياج بن بسطَام (6) الْمَتْرُوك، وَغَيره. وَأثر عبد الله
بن عمر أَنه قَالَ: " حق (عَلَى) (7) الله - عَزَّ وَجَلَّ - من عكف نَفسه فِي الْمَسْجِد
بعد الْمغرب إِلَى الْعشَاء لَا يتَكَلَّم إِلَّا (بقرآن) (8) أَو دُعَاء، أَو صَلَاة أَن
يُبْنَى لَهُ (قصران) (9) فِي الْجنَّة عرض كل قصر (مِنْهُمَا) (10) مائَة عَام ". رَوَاهُ
الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «كناه» .
__________
(1) سَقَطت من «أ، ل» والمثبت من «م» .
(2) «الْعِلَل المتناهية» (2 / 581 رقم 953) .
(3) «سنَن ابْن مَاجَه» (1 / 566 - 567 رقم 1781) .
(4) تَرْجَمته فِي «التَّهْذِيب» (23 / 164 - 169) .
(5) «المعجم الْكَبِير» (3 / 128 رقم 2888) .
(6) تَرْجَمته فِي «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» (9 / 112 رقم 474) .
(7) من «م» . وَسَقَطت من «أ، ل» .
(8) فِي «م» . بِقِرَاءَة. والمثبت من «ل، أ» .
(9) فِي «م» : قصراً. والمثبت من «أ، ل» .
(10) فِي «أ» : مِنْهَا. والمثبت من «ل، م» .(5/770)
فَائِدَة: فوَاق - بِضَم الْفَاء وَفتحهَا - مَا بَين الحلبتين من الْوَقْت؛
لِأَنَّهَا تحلب ثمَّ تتْرك سويعة ثمَّ يرضعها الفصيل لتدر ثمَّ تحلب.
وَقيل: مَا بَين الشخبتين.
الحَدِيث الثَّانِي
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يعْتَكف الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان حَتَّى قَبضه الله " (1) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (2) من
حَدِيث عَائِشَة " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يعْتَكف الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان
حَتَّى توفاه الله، ثمَّ اعْتكف أَزوَاجه من بعده " وَقد تقدم فِي أثْنَاء كتاب
الصّيام أَيْضا.
الحَدِيث الثَّالِث
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " تحروا لَيْلَة الْقدر فِي الْوتر من الْعشْر الْأَوَاخِر من
رَمَضَان " (3) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (4) من
حَدِيث عَائِشَة أَيْضا كَذَلِك، وَلم يذكر مُسلم لَفْظَة «فِي الْوتر» .
الحَدِيث الرَّابِع
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يعْتَكف
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 349) .
(2) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 318 رقم 2026) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 831 رقم 1172 / 5) .
(3) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 350) .
(4) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 305 رقم 2017) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 228 رقم 1169) .(5/771)
(الْعشْر) (1) الْأَوْسَط من رَمَضَان، فاعتكف عَاما فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة إِحْدَى
وَعشْرين وَهِي اللَّيْلَة الَّتِي يخرج فِي صبيحتها من اعْتِكَافه قَالَ: من كَانَ
اعْتكف معي فليعتكف فِي الْعشْر الْأَوَاخِر. قَالَ: فَأريت هَذِه اللَّيْلَة ثمَّ
أنسيتها، وَرَأَيْت (أَنِّي) (2) أَسجد فِي صبيحتها فِي مَاء وطين، فالتمسوها فِي
الْعشْر الْأَوَاخِر، والتمسوها فِي كل وتر. فأمطرت السَّمَاء تِلْكَ اللَّيْلَة وَكَانَ
الْمَسْجِد عَلَى عَرِيش، فوكف الْمَسْجِد. قَالَ أَبُو سعيد: فَأَبْصَرت عَيْنَايَ
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انْصَرف وَعَلَى جَبهته وَأَنْفه أثر المَاء والطين من صَبِيحَة
إِحْدَى وَعشْرين " (3) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (4) من هَذَا
الْوَجْه من طرق بِأَلْفَاظ.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن عبد الله بن أنيس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه " أَنه قَالَ لرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِنِّي أكون بباديتي
وَإِنِّي أُصَلِّي بهم فمرني بليلة فِي هَذَا الشَّهْر أنزلهَا فِي الْمَسْجِد فأصلي فِيهِ.
فَقَالَ: أنزل فِي لَيْلَة ثَلَاث وَعشْرين ".
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» (5) مُنْفَردا بِهِ.
والسياق الْمَذْكُور لأبي دَاوُد (6) من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن
__________
(1) سَقَطت من «أ» والمثبت من «ل، م» و «الشَّرْح الْكَبِير» .
(2) من «م» وَسَقَطت من «أ، ل» .
(3) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 250) .
(4) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 305، 318 - 319 رقم 2018، 2027) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 824 - 827 رقم 1167) .
(5) «صَحِيح مُسلم» (2 / 827 رقم 1168) .
(6) «سنَن أبي دَاوُد» (2 / 232 رقم 1375) .(5/772)
إِبْرَاهِيم، عَن ابْن عبد الله بن أنيس (عَن أَبِيه) (1) أَنه قَالَ: قلت: يَا رَسُول
الله، إِن لي بادية أكون فِيهَا وَأَنا أُصَلِّي فِيهَا بِحَمْد الله، فمرني بليلة أنزلهَا
إِلَى هَذَا الْمَسْجِد (فَقَالَ) (2) : انْزِلْ لَيْلَة ثَلَاث وَعشْرين " ثمَّ ذكر فِيهِ قصَّة.
وسياقة مُسلم (3) عَن عبد الله بن أنيس أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " أريت لَيْلَة
الْقدر ثمَّ أنسيتها، وَأرَانِي (صبحتها) (4) أَسجد فِي مَاء وطين. فمطرنا لَيْلَة
ثَلَاث وَعشْرين فَصَلى بِنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَانْصَرف وَإِن أثر المَاء والطين
عَلَى جَبهته وَأَنْفه. (قَالَ) (5) : وَكَانَ عبد الله بن أنيس يَقُول: ثَلَاث
وَعِشْرُونَ ".
الحَدِيث السَّادِس
أَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " يَا رَسُول الله، إِنِّي نذرت فِي
الْجَاهِلِيَّة أَن أعتكف لَيْلَة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أوف بِنَذْرِك " (6) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (7) من
حَدِيث ابْن عمر " أَن عمر قَالَ. . " الحَدِيث. زَاد البُخَارِيّ: " فاعتكف
لَيْلَة ". وَفِي رِوَايَة للدارقطني (8) ، وَالْبَيْهَقِيّ (9) " أَن عمر نذر أَن يعْتَكف فِي
__________
(1) من «م» و «صَحِيح مُسلم» وَسقط من «ل، أ» .
(2) فِي «أ، ل» : قَالَ. والمثبت من «م» و «سنَن أبي دَاوُد» .
(3) «صَحِيح مُسلم» (2 / 827 رقم 1168) .
(4) فِي «ل» : صبيحتها. وَفِي «صَحِيح مُسلم» صبحها. والمثبت من «أ، م» .
(5) من «م» و «صَحِيح مُسلم» وَسقط من «أ، ل» .
(6) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 256) .
(7) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 321 - 322 رقم 2032) و «صَحِيح مُسلم» (3 / 1277 - 1278 رقم 1656) .
(8) «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» (2 / 201 رقم 13) .
(9) «السّنَن الْكُبْرَى» (10 / 76) .(5/773)
الشّرك ويصوم، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أوف بِنَذْرِك ". قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ذكر نذر
الصَّوْم غَرِيب تفرد بِهِ عبد الله بن بشر. وَقَالَ عبد الْحق (1) : إِسْنَاد حسن،
تفرد بِهَذَا اللَّفْظ سعيد بن بشير، عَن [عبيد الله] (2) بن عمر. قَالَ ابْن
الْقطَّان (3) وَإِنَّمَا لم يُصَحِّحهُ؛ لِأَن سعيد بن بشير يخْتَلف فِيهِ. وَضَعفه ابْن
الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» (4) فَقَالَ: تفرد بِهِ سعيد هَذَا، قَالَ يَحْيَى وَابْن نمير:
لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف.
الحَدِيث السَّابِع
" أَن نسَاء رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كن يعتكفن فِي الْمَسْجِد " (5) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (6) من حَدِيث عَائِشَة رَضِي
الله عَنْهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا أَرَادَ أَن يعْتَكف صَلَّى الْفجْر، ثمَّ
دخل مُعْتَكفه وَأَنه أُمر بخبائها فَضرب - أَرَادَ الِاعْتِكَاف فِي الْعشْر
الْأَوَاخِر من شهر رَمَضَان - فَأمرت زَيْنَب بخبائها فَضرب، وَأمر غَيرهَا
من أَزوَاج النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بخبائهم فَضرب، فَلَمَّا صَلَّى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الْفجْر
نظر فَإِذا الأخبية، فَقَالَ: آلبر تردن؟ فَأمر بخبائه فقوض وَترك الِاعْتِكَاف
فِي شهر رَمَضَان حَتَّى اعْتكف فِي الْعشْر الأول من شَوَّال ".
__________
(1) «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» (3 / 250) .
(2) من «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» وَسقط من «أ، ل، م» .
(3) «الْوَهم وَالْإِيهَام» (3 / 442) .
(4) «التَّحْقِيق» (2 / 110) .
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 262) .
(6) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 332 - 333 رقم 2041) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 831 رقم 1173 / 6) .(5/774)
الحَدِيث الثَّامِن
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: مَسْجِدي هَذَا،
وَالْمَسْجِد الْحَرَام، وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى ".
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (1) من
حَدِيث أبي هُرَيْرَة كَذَلِك.
الحَدِيث التَّاسِع
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَمر ضباعة (بالإهلال بِشَرْط التَّحَلُّل " (2) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح (3) أخرجه الشَّيْخَانِ أَيْضا كَمَا ستعلمه فِي
الْحَج " (4) إِن شَاءَ الله فَهُوَ أليق بِهِ.
الحَدِيث الْعَاشِر
" أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يُدْني رَأسه إِلَى عَائِشَة فترجِّله وَهُوَ معتكف فِي
الْمَسْجِد " (5) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة
رَضِيَ اللَّهُ عَنْها كَمَا ستعلمه بَعْدُ (6) .
والترجيل: التسريح.
__________
(1) «صَحِيح البُخَارِيّ» (3 / 76 رقم 1189) و «صَحِيح مُسلم» (2 / 1014 رقم 1397 / 511) .
(2) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 269) .
(3) من «م» .
(4) يَأْتِي تَخْرِيجه فِي «الْحَج» قَرِيبا إِن شَاءَ الله.
(5) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 271) .
(6) يُخرَّج فِي الحَدِيث الْآتِي.(5/775)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ إِذا اعْتكف لَا يدْخل
الْبَيْت إِلَّا لحَاجَة الْإِنْسَان " (1) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (2) من
حَدِيثهَا قَالَت: " إِنْ كانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليُدْخل عليَّ رَأسه وَهُوَ فِي الْمَسْجِد
فأُرَجِّله، وَكَانَ لَا (يدْخل) (3) (الْبَيْت) (4) إِلَّا لحَاجَة الْإِنْسَان إِذا كَانَ
معتكفاً " (وَلَفظ) (5) " الْإِنْسَان " لَيست فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، وموجودة فِي
«صَحِيح مُسلم» فِي «كتاب الطَّهَارَة» و (ثَبت لفظ) (6) " الْإِنْسَان " (أَيْضا) (7)
فِي «سنَن أبي دَاوُد» (8) بِإِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، (قَالَت) (9) : " كَانَ
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا اعْتكف يُدني إليَّ رَأسه، وَكَانَ لَا يدْخل الْبَيْت إِلَّا
لحَاجَة الْإِنْسَان ". وَفِي «سنَن النَّسَائِيّ» (10) أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح قَالَت: " إِن
__________
(1) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 272) .
(2) «صَحِيح البُخَارِيّ» (4 / 320 - 321 رقم 2029) و «صَحِيح مُسلم» (1 / 244 رقم 297 / 7) .
(3) وَقع فِي «أ» : يدْخلهُ. محرف، والمثبت من «م، ل» .
(4) سَقَطت من «ل» والمثبت من «أ، م» .
(5) وَقع فِي «ل» : فلفظة. والمثبت من «أ، م» .
(6) فِي «ل» : ثبتَتْ لَفْظَة. والمثبت من «أ، م» .
(7) سَقَطت من «ل» والمثبت من «أ، م» .
(8) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 196 رقم 2459) .
(9) فِي «م» : قَالَ. محرف. والمثبت من «أ، ل» .
(10) «السّنَن الْكُبْرَى» للنسائي (2 / 265 - 266 رقم 3370) .(5/776)
(كنت) (1) لآتي الْبَيْت وَفِيه الْمَرِيض فَمَا أسألُ عَنهُ إِلَّا وَأَنا قَائِمَة، وإِنْ
كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليُدْخِل عليَّ رَأسه فأرجِّله، وَكَانَ لَا يَأْتِي الْبَيْت إِلَّا لحَاجَة
الْإِنْسَان ".
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رُوِيَ " أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ لَا يسْأَل عَن الْمَرِيض إِلَّا مارًّا فِي اعْتِكَافه وَلَا
يُعرّج عَلَيْهِ " (2) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» (3) من حَدِيث عَائِشَة رَضِي
الله عَنْهَا " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يمر بالمريض وَهُوَ معتكف فيمر كَمَا هُوَ
وَلَا يُعرِّج، وَيسْأل عَنهُ ". وَفِي إِسْنَاده لَيْث بن أبي سُليم، وَقد علمتَ حَاله
فِيمَا مَضَى، وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» (4) مَوْقُوفا عَلَيْهَا من فعلهَا قَالَت:
" إِن كنت لأدخل الْبَيْت للْحَاجة وَالْمَرِيض فِيهِ فَمَا أسأَل عَنهُ إِلَّا وَأَنا
مارَّة ".
__________
(1) وَقع فِي «م» : كدت. محرف، والمثبت من «أ، ل» و «سنَن النَّسَائِيّ الْكُبْرَى» .
(2) «الشَّرْح الْكَبِير» (3 / 274) .
(3) «سنَن أبي دَاوُد» (3 / 197 - 198 رقم 2464) .
(4) «صَحِيح مُسلم» (1 / 244 رقم 297 / 7) وَقد كتب مُقَابل ذَلِك فِي حَاشِيَة «أ» : فِي كتاب الطَّهَارَة.(5/777)
كتاب الْحَج كتاب الْحَج
قَالَ الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نزلت (فَرِيضَة الْحَج سنة) خمس من الْهِجْرَة، وأخره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من غير مَانع، فَإِنَّهُ خرج إِلَى مَكَّة سنة سبع لقَضَاء الْعمرَة وَلم يحجّ، وَفتح مَكَّة سنة ثمانٍ، وبعثَ أَبَا بكر أَمِيرا عَلَى (الحاجِّ) سنة تسع، وَحج هُوَ سنة عشر وعاش بعْدهَا ثَمَانِينَ يَوْمًا ثمَّ قبض.
هَذَا لَفظه، وَمَا جزمَ بِهِ من كونِ الْحَج فُرِضَ سنة خمس مُخَالف لما رَجحه فِي «كتاب السِّير» فَإِنَّهُ قَالَ: فُرِض سنة ستٍّ، وَقيل: سنة خمس. (وَتَبعهُ فِي «الرَّوْضَة» عَلَيْهَا، وصَحَّحَ ابْن (الرّفْعَة) أَيْضا أَنه سنة سِتّ، وَنَقله فِي «شرح الْمُهَذّب» عَن الْأَصْحَاب، وَقيل: إِنَّه فُرض سنة ثَمَان. قَالَ الماورديُّ فِي «الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة» : وَقيل: سنة تسع. حَكَاهُ فِي «الرَّوْضَة» فِي السّنَن، وَقيل: قبل الْهِجْرَة. حَكَاهُ فِي «النِّهَايَة» ، وَقَوله: «وعاش بعْدهَا» أَي: بعد عَوْدِهِ من الْحَج لَا (بعد) الْحَج نفسِه، فَإِن الْحَج انْقَضَى ثَالِث عشر، وَتُوفِّي الشَّارِع ثَانِي عشر ربيع الأول، وَهَذِه(6/7)
الْأُمُور الَّتِي نقلهَا (الرَّافِعِيّ) (هُنَا) عَنهُ؛ كلهَا صَحِيحَة) ثمَّ ذكر فِي الْبَاب أَحَادِيث وأثرًا وَاحِدًا، أما الْأَحَادِيث فَثَلَاثَة عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام «بني الْإِسْلَام عَلَى خمس ... » الحَدِيث.
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما كَمَا سلف فِي الصَّوْم، وَهُوَ حَدِيث عَظِيم الْموقع كثير الْفَوَائِد.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: أَيهَا النَّاس، إِن الله كتب عَلَيْكُم الْحَج. فَقَامَ الْأَقْرَع بن حَابِس فَقَالَ: أَفِي كل عَام يَا رَسُول الله؟ قَالَ: لَو قلتهَا لَوَجَبَتْ، وَلَو وَجَبت لم تعملوا بهَا، (وَلم تستطيعوا أَن تعملوا بهَا) ، الْحَج مرّة، فَمن زَاد (فمتطوع) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد،(6/8)
وَابْن مَاجَه، وَالنَّسَائِيّ، فِي «سُنَنهمْ» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور هُوَ لفظ أَحْمد، أخرجه من حَدِيث سُلَيْمَان بن كثير، عَن ابْن شهَاب، عَن أبي سِنَان الدؤَلِي، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس ... » فَذكره، وَقَالَ: «فَهُوَ تطوع» بدل «فمتطوع» وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ كَلَفْظِ الرَّافِعِيّ سَوَاء ثمَّ قَالَ: تَابعه سُفْيَان بن حُسَيْن، وَمُحَمّد بن أبي حَفْصَة، عَن الزُّهْرِيّ عَن (أبي سِنَان) ، وَقَالَ: عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سِنَان، وَهُوَ أَبُو سِنَان الدؤَلِي.
قلت: (أما) مُتَابعَة سُفْيَان، فأخرجها أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه بِلَفْظ: «أَن الْأَقْرَع بن حَابِس سَأَلَ رَسُول الله فَقَالَ: يَا رَسُول الله، الْحَج فِي كل سنة أَو مرّة وَاحِدَة؟ (فَقَالَ: بل مرّة وَاحِدَة) فَمن زَاد (فتطوع) » .
وَأما مُتَابعَة مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة؛ فأخرجها الْحَاكِم كَمَا سَيَأْتِي.
قلت: وتابعهما أَيْضا سُلَيْمَان بن كثير كَمَا سلف، وَعبد(6/9)
(الْجَلِيل) بن حُمَيْد، عَن الزُّهْرِيّ، وَلَفظه: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (قَامَ) (فَقَالَ) : إِن الله - تبَارك وَتَعَالَى - كتب عَلَيْكُم الْحَج. فَقَالَ الْأَقْرَع بن حَابِس التَّمِيمِي: كل عَام يَا رَسُول الله؟ فَسكت فَقَالَ: لَو قلت نعم لوَجَبت ثُمَّ إِذا لَا تَسْمَعُونَ وَلَا تطيعون، وَلكنه حجَّة وَاحِدَة» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث مُوسَى بن سَلمَة عَنهُ بِهِ، وأَعلَّه ابْن الْقطَّان بِجَهَالَة مُوسَى وَعبد الْجَلِيل. وَقَالَ: (فَالْحَدِيث) إِذا لَا يَصح من (أجلهما) .
قلت: عبد الْجَلِيل رَوَى عَن الزُّهْرِيّ وَأَيوب، وَعنهُ جمَاعَة، وَهُوَ صَدُوق. ومُوسَى (قَالَ) النَّسَائِيّ فِي حَقه: صَالح الحَدِيث. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي موضِعين من كتاب الْحَج من «مُسْتَدْركه» :(6/10)
أَحدهمَا: فِي أَوله من حَدِيث سُفْيَان (بن) حُسَيْن. كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه؛ إِلَّا أَنه قَالَ: «فَمن أَرَادَ (يتَطَوَّع) بدل «فَمن (زَاد) فمتطوع»
ثَانِيهمَا: (بعد هَذَا) الْموضع بِنَحْوِ (كراسة) من حَدِيث عبد الله بن صَالح، نَا اللَّيْث، حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن [مُسَافر] عَن ابْن شهَاب، عَن أبي سِنَان الدؤَلِي، عَن ابْن عَبَّاس أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «يَا قوم، كتب الله عَلَيْكُم الْحَج. فَقَالَ الْأَقْرَع بن حَابِس: (أكل) عَام يَا رَسُول الله؟ فَصمت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ قَالَ: لَا، بل حجَّة وَاحِدَة، ثمَّ من حج بعد ذَلِك فَهُوَ تطوع، وَلَو قلت: نعم. لَوَجَبَتْ عَلَيْكُم، ثمَّ إِذا لَا تَسْمَعُونَ وَلَا تطيعون» ثمَّ قَالَ فِي الْإِسْنَاد الأول: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَلم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ (فَإِنَّهُمَا) لم يخرجَا (لِسُفْيَان) بن حُسَيْن وَهُوَ من الثِّقَات الَّذين يجمع حَدِيثهمْ. وَقَالَ فِي الحَدِيث الثَّانِي: هَذَا حَدِيث(6/11)
صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ، وَلم يخرجَاهُ. ثمَّ ذكره قبل هَذَا الحَدِيث من حَدِيث روح بن عبَادَة، ثَنَا مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة، عَن ابْن شهَاب، عَن أبي سِنَان، (عَن ابْن عَبَّاس) «أَن الْأَقْرَع بن حَابِس سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: الْحَج كل عَام؟ قَالَ: (لَا) حجَّة وَاحِدَة، وَلَو قلت نعم لَوَجَبَتْ، وَلَو وَجَبت لم تسمعوا وَلم تطيعوا» وَذكره أَيْضا فِي كتاب «التَّفْسِير» من «مُسْتَدْركه» فِي تَفْسِير سُورَة «آل عمرَان» من حَدِيث سُلَيْمَان بن كثير بِهِ كَمَا سَاقه أَحْمد، إِلَّا أَنه زَاد: (أَو لم) تستطيعوا أَن تعملوا بهَا، الْحَج مرّة؛ فَمن زَاد فتطوع» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم (يخرجَاهُ) . قَالَ: وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَان بن حُسَيْن، عَن الزُّهْرِيّ، ثمَّ سَاقه بِلَفْظ: «سَأَلَ الْأَقْرَع بن حَابِس رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: الْحَج فِي كل عَام مرّة؟ قَالَ: لَا بل مرّة وَاحِدَة فَمن زَاد (فتطوع) » ، ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَلّي بن أبي طَالب بالشرح وَالْبَيَان عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ عَن عَلّي بن عبد الْأَعْلَى، عَن أَبِيه، عَن أبي البخْترِي، عَن عَلّي قَالَ: «لما نزلت هَذِه الْآيَة (وَللَّه عَلَى النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) قَالُوا: يَا رَسُول الله، أَفِي كل عَام؟ فَسكت(6/12)
ثمَّ قَالُوا: أَفِي كل (عَام) ؟ فَسكت ثمَّ قَالُوا: أَفِي كل عَام؟ قَالَ: لَا، وَلَو قلت: نعم لَوَجَبَتْ. فَأنْزل الله (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تسألوا عَن أَشْيَاء) الْآيَة» .
قلت: وَهَذَا الحَدِيث ضَعِيف مُنْقَطع، أَبُو البخْترِي لم يسمع من عَلّي، قَالَ ابْن عبد الْبر: (لَهُ) (مَرَاسِيل) عَنهُ، وَلم يسمع مِنْهُ عبد الْأَعْلَى ضَعَّفوه. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: ضَعِيف الحَدِيث رُبمَا رفع الحَدِيث وَرُبمَا وَقفه. وَرَوَاهُ يَحْيَى بن أبي أنيسَة، عَن الزُّهْرِيّ، فَقَالَ: عَن عبيد الله بن عبد الله، عَن ابْن عَبَّاس. وَالصَّوَاب كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، عَن أبي سُفْيَان. وَيَحْيَى بن أبي أنيسَة مَتْرُوك.
ثمَّ اعْلَم أَن ابْن حزم ذكر هَذَا الحَدِيث فِي محلاه من طَرِيق أبي دَاوُد (ثمَّ) قَالَ: لَا حجَّة فِيهِ؛ لِأَن رَاوِيه أَبُو سِنَان الدؤَلِي قَالَ فِيهِ عقيل: سِنَان مَجْهُول غير مَعْرُوف. انْتَهَى (وَهَذَا يُوهم) أنَّ عُقيلاً - أحد (رُوَاته) - قَالَ: «سِنَان مَجْهُول» وَلَيْسَ كَذَلِك، فَالَّذِي قَالَه(6/13)
أَبُو دَاوُد، وَهُوَ أَبُو سِنَان الدؤَلِي، وَكَذَا (قَالَه) عبد الْجَلِيل بن حميد وَسليمَان بن كثير جَمِيعًا، عَن الزُّهْرِيّ، وَقَالَ عُقيل: سِنَان؛ يَعْنِي: فِي رِوَايَة عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سِنَان، فعُرِف بِهَذَا أَن المُضَعِّف لأبي سِنَان: ابْن حزم لَا عُقيلاً، وَلَيْسَ هُوَ حِينَئِذٍ مَجْهُول؛ فقد رَوَى عَنهُ جمَاعَة، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: ثِقَة.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث ذكره (الرَّافِعِيّ) دَلِيلا عَلَى أَن الْحَج لَا يجب بِأَصْل الشَّرْع إِلَّا مرّة وَاحِدَة، ويغني عَنهُ فِي الدّلَالَة حَدِيث ثَابت فِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، قد فرض الله عَلَيْكُم الْحَج فحجوا. فَقَالَ (رجل) : يَا رَسُول الله، أكل عَام؟ فَسكت حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَو قلت نعم لَوَجَبَتْ وَلما اسْتَطَعْتُم. ثمَّ قَالَ: (ذروني) مَا تركتكم فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافهمْ عَلَى أَنْبِيَائهمْ، فَإِذا أَمرتكُم (بِأَمْر) فائتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَإِذا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَدَعوهُ» . قَالَ صَاحب «الإِمَام» : وَرَوَاهُ أَبُو الجهم الْمَالِكِي (من) هَذَا الْوَجْه(6/14)
وَفِيه: «أَفِي كل عَام؟ فَسكت ثمَّ أعَاد، فَسكت (فَأَعَادَ) الثَّالِثَة، فَقَالَ نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَو قلت (نعم) لَوَجَبَتْ، وَلَو وَجَبت مَا قُمْتُم بهَا» .
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (أَيّمَا) صبي حج ثمَّ بلغ فَعَلَيهِ حجَّة الْإِسْلَام، وَأَيّمَا عبد حج ثمَّ عتق فَعَلَيهِ حجَّة الْإِسْلَام» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ مُرْسلا ومتصلاً، أما المرسلُ؛ فَمن حَدِيث مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِنِّي أُرِيد أَن أجدد فِي صُدُور الْمُؤمنِينَ، أَيّمَا صبي حجَّ بِهِ أَهله فَمَاتَ أَجْزَأَ عَنهُ، وَإِن أدْرك فَعَلَيهِ الْحَج، وَأَيّمَا مَمْلُوك حج بِهِ أَهله فَمَاتَ أَجْزَأَ عَنهُ، وَإِن أعتق فَعَلَيهِ الْحَج» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» هَكَذَا، قَالَ عبد الْحق: وَهُوَ مُرْسل ومنقطع وَلَيْسَ بِمُتَّصِل السماع.
قلت: وَسَببه أَن أَبَا دَاوُد رَوَاهُ (عَن) أَحْمد، ثَنَا وَكِيع، عَن يُونُس، قَالَ: سَمِعت شَيخا يحدث أَبَا إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن كَعْب، وَمُحَمّد تَابِعِيّ وَلم يذكر عَمَّن أَخذه.
وَأما الْمُتَّصِل؛ فَمن حَدِيث عبد الله (بن عَبَّاس) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَيّمَا صبي حج ثمَّ بلغ الْحِنْث فَعَلَيهِ أَن يحجّ(6/15)
حجَّة أُخْرَى، وَأَيّمَا أَعْرَابِي حج ثمَّ هَاجر فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى، وَأَيّمَا عبد حج ثمَّ أعتق فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى» . وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» ، وَأَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي «محلاه» من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمنْهَال، عَن يزِيد بن زُرَيْع، عَن شُعْبَة، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي ظبْيَان، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا. وَاللَّفْظ الْمَذْكُور هُوَ لفظ الْبَيْهَقِيّ، وَلَفظ الْحَاكِم: «إِذا حج الصَّبِي (فَلهُ) حجَّة حَتَّى يعقل، (وَإِذا) عقل فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى، وَإِذا حج الْأَعرَابِي (فَلهُ) حجَّة، وَإِذا هَاجر فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى» وَلَفظ ابْن حزم: «إِذا حج الصَّبِي فَهِيَ لَهُ حجَّة صبي حَتَّى يعقل (فَإِذا) عقل فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى، وَإِذا حج الْأَعرَابِي (فَهِيَ لَهُ حجَّة أَعْرَابِي (فَإِذا) هَاجر فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى» ثمَّ ذكره بِلَفْظ الْبَيْهَقِيّ إِلَّا أَنه أسقط ذكر «الْأَعرَابِي» ) ، نعم ذكره كَذَلِك بِإِسْقَاط الصَّبِي فِي «كتاب الْإِعْرَاب» عَلَى مَا حَكَاهُ عبد(6/16)
الْحق فِي «أَحْكَامه» عَنهُ. قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا حَدِيث صَحِيح ورواتُه ثِقَات. وَقَالَ فِي (كتاب) «الْإِعْرَاب» : هَذَا إِسْنَاد رِجَاله أَئِمَّة وثقات. و (قَالَ) الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» بعد مقَالَة شَيْخه الْحَاكِم هَذِه: أَظن أَن شَيخنَا حمل حَدِيث عَفَّان وَغَيره عَلَى حَدِيث يزِيد بن زُرَيْع (فَهَذَا الحَدِيث إِنَّمَا رَوَاهُ أَصْحَاب شُعْبَة عَنهُ مَوْقُوفا سُوَى ابْن زُرَيْع) (فَإِن) مُحَمَّد بن الْمنْهَال (ينْفَرد) بِرَفْعِهِ عَنهُ. وَرَوَاهُ فِي «سنَنه» أَيْضا كَذَلِك مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَقَالَ: تفرد بِرَفْعِهِ مُحَمَّد بن الْمنْهَال، عَن يزِيد بن زُرَيْع، عَن شُعْبَة، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن (الْأَعْمَش) مَوْقُوفا، وَهُوَ الصَّوَاب.
قلت: وَلَك أَن تَقول: مُحَمَّد بن الْمنْهَال ثِقَة ضَابِط من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» (فَلَا) يضر تفرده بِرَفْعِهِ، عَلَى أَنه لم ينْفَرد بِهِ؛ بل توبع. قَالَ ابْن (أبي) شيبَة فِي «مُصَنفه» : نَا أَبُو مُعَاوِيَة، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي ظبْيَان، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «احْفَظُوا عني - وَلَا تَقولُوا: قَالَ(6/17)
ابْن عَبَّاس - أَيّمَا عبد حجَّ بِهِ أَهله ثمَّ أُعتق (فَعَلَيهِ) الْحَج، وَأَيّمَا صبي حج بِهِ أَهله صبيًّا ثمَّ أدْرك فَعَلَيهِ حجَّة الرجل، وَأَيّمَا أَعْرَابِي حج (أعرابيًّا) ثمَّ هَاجر فَعَلَيهِ حجَّة المُهَاجر» وَهَذَا ظَاهر فِي الرّفْع؛ بل قَطْعِيّ. وَكَذَا أخرجه الطَّحَاوِيّ (بِسَنَدِهِ) ، وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي «جمعه لحَدِيث الْأَعْمَش» من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمنْهَال، عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَمن حَدِيث الْحَارِث بن سُرَيج أبي عمر الْخَوَارِزْمِيّ (قَالَ) : نَا (يزِيد) بن زُرَيْع، عَن شُعْبَة بِهِ. (وَذكره) الْخَطِيب فِي «تَارِيخ بَغْدَاد» من حَدِيث ابْن الْمنْهَال والْحَارث قَالَا: ثَنَا يزِيد بن زُرَيْع، عَن شُعْبَة ... فَذكره بِلَفْظ الْحَاكِم، ثمَّ قَالَ: لم يرفعهُ إِلَّا يزِيد بن زُرَيْع، عَن شُعْبَة، وَهُوَ غَرِيب.
قلت: والْحَارث هَذَا هُوَ النقال - بالنُّون - ضعفه النَّسَائِيّ وَغَيره، وَقَالَ الْأَزْدِيّ: تكلمُوا فِيهِ حَسَدًا.
فَائِدَة: المُرَاد بالأعرابي هُنَا الْكَافِر إِذْ كَانَ الْكفْر هُوَ الْغَالِب حِينَئِذٍ عَلَى الْأَعْرَاب، وَقد نَبَّهَ عَلَى ذَلِك ابنُ الصّلاح فِي «مشكله» (قَالَ) : وَقد (جَاءَ) (إِطْلَاق) الْأَعْرَاب، وَالْمرَاد (بهم) الْكفَّار فِي غير(6/18)
هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : احتجَّ مَن لم يَرَ للعبدِ حجًّا بِهَذَا الحَدِيث (قَالَ) : وَلَا يخلُو أَن يكونَ صَحِيحا أَو غيرَ صحيحٍ، فَإِن كَانَ الثَّانِي (فقد) كفيناه، وَإِن كَانَ الأول - وَهُوَ الْأَظْهر؛ لِأَن رُوَاته ثِقَات - فإنَّه خبر مَنْسُوخ بِلَا شكّ، برهانُ ذَلِك: أنَّ هَذَا الْخَبَر بِلَا شكّ كَانَ قبل فتح مَكَّة؛ لِأَن فِيهِ إِعَادَة الْحَج (عَلَى من) حجَّ من الْأَعْرَاب قبل هجرته، وَرَوَى مُسلم من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مَرْفُوعا: «لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح» فَإِذا قد صحَّ - بِلَا شكّ - أَن هَذَا الحَدِيث كَانَ قبل الْفَتْح.
الحَدِيث الرَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئل عَن تَفْسِير السَّبِيل، (قَالَ) : زَاد وراحلة» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرقٍ: (إِحْدَاهَا) : (من) طَرِيق أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث (عَلّي بن سعيد بن (مَسْرُوق) الْكِنْدِيّ) (ثَنَا) ابْن أبي زَائِدَة، عَن سعيد(6/19)
بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة (عَن) أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «فِي قَوْله تَعَالَى (وَللَّه عَلَى النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) قَالَ: قيل: يَا رَسُول الله، مَا السَّبِيل؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَقد تَابع حَمَّاد بن سَلمَة (سعيدًا عَلَى رِوَايَته عَن قَتَادَة. ثمَّ أسْندهُ من حَدِيث أبي قَتَادَة ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة) عَن قَتَادَة، عَن أنس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن (قَول الله) - تَعَالَى -: (من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) فَقيل: مَا السَّبِيل؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ. ورواهما الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا فِي «سنَنه» وَلم يَسُقْ لَفْظهمَا؛ بل أحَال بِلَفْظ مثله عَلَى مَا قبله. وَعلي بن سعيد بن مَسْرُوق قَالَ أَبُو حَاتِم فِي حقِّه: هُوَ صَدُوق. و (وَثَّقَهُ) النَّسَائِيّ أَيْضا، وَأَبُو قَتَادَة هُوَ عبد الله بن وَاقد الْحَرَّانِي، قَالَ أَبُو حَاتِم: تكلمُوا فِيهِ، مُنكر الحَدِيث، وَذهب حَدِيثه. وَقَالَ (أَبُو) زرْعَة: ضَعِيف الحَدِيث لَا يحدث عَنهُ. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هُوَ مُنكر الحَدِيث مَتْرُوك، إِلَّا أَن(6/20)
أَحْمد بن حَنْبَل كَانَ يَصِفه بالنُّسُكِ وَالْفضل ويُثني عَلَيْهِ. وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد: سُئل أبي عَنهُ فَقَالَ: مَا بِهِ بَأْس، رجل صَالح يُشبه أهل النّسك وَالْخَيْر إِلَّا أَنه كَانَ رُبمَا أَخطَأ. قيل لَهُ: إِن قوما يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ. قَالَ: لم يكن بِهِ بَأْس. قلت لَهُ: إِنَّه لم يفصل بَين سُفْيَان وَيَحْيَى بن أبي أنيسَة. قَالَ: لَعَلَّه اخْتَلَط، أما هُوَ فَكَانَ (ذكيًّا) فَقلت لَهُ: إِن يَعْقُوب بن إِسْمَاعِيل بن (صبيح) ذكر أَن أَبَا قَتَادَة الْحَرَّانِي كَانَ يكذب، فَعظم ذَلِك عِنْده جدًّا، وَقَالَ: كَانَ أَبُو قَتَادَة الْحَرَّانِي يتَحَرَّى الصدْق (أَثْنَى) عَلَيْهِ (وَذكره بِخَير) وَقَالَ: قد رَأَيْته يشبه أَصْحَاب الحَدِيث، وَأَظنهُ كَانَ يُدَلس، وَلَعَلَّه كبر وَاخْتَلَطَ قلت: قد صرَّح فِي هَذَا الحَدِيث - فِي رِوَايَة الْحَاكِم - بِالتَّحْدِيثِ، فَقَالَ: نَا حَمَّاد بن سَلمَة. وَأنكر النَّوَوِيّ (عَلَى الْحَاكِم) تَصْحِيحه لحَدِيث أنس، وَقَالَ: إِنَّه يتساهل فِي التَّصْحِيح. وَهَذَا الْإِنْكَار يَنْبَغِي أَن يكون مَخْصُوصًا، بطرِيق أبي قَتَادَة هَذَا، وَأما الأول فَلَا أعلم فِيهَا طَعنا. (وَلما) ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» مقَالَة شيخهِ الحاكمِ قَالَ: هَكَذَا(6/21)
رُوِيَ بِهَذَا الْإِسْنَاد عَن قَتَادَة عَن أنس، وَالْمَحْفُوظ: عَن قَتَادَة وَغَيره، عَن الْحسن، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَقَالَ فِي «سنَنه» : رَوَاهُ سعيد بن أبي عرُوبَة وَحَمَّاد بن سَلمَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس مَرْفُوعا، وَلَا أرَاهُ إِلَّا وهما، وَالصَّوَاب: عَن قَتَادَة، عَن الْحسن الْبَصْرِيّ مَرْفُوعا وَهُوَ مُرْسل.
قلت: وَلَك أَن تَقول لم لَا يحمل (عَلَى) أَن لِقَتَادَة فِيهِ إسنادين فَإِنَّهُ أولَى من الحكم بالوهم؟ .
(الطَّرِيق الثَّانِي) : طَرِيق ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، مَا يُوجب الْحَج؟ فَقَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أهل الْعلم أَن الرجل إِذا ملك زادًا وراحلةً وَجب عَلَيْهِ الْحَج. قَالَ: وَفِي إِسْنَاده: إِبْرَاهِيم، وَهُوَ ابْن يزِيد الخوزي، وَقد تكلم فِيهِ بعض أهل الحَدِيث من قبل حفظه.
قلت: ضَعَّفُوهُ، وَقيل لَهُ: الخُوزيُ - بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة ثمَّ وَاو، ثمَّ زَاي (مُعْجمَة) - لِأَنَّهُ سكن شعب (الخوزة وَهُوَ شعب بِمَكَّة(6/22)
و) (بِالضَّمِّ) (وَهُوَ) جيل من النَّاس ينْسب إِلَيْهِ. قَالَ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا: (هُوَ) مَتْرُوك. وَضَعفه يَحْيَى، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ (ابْن الْمُنْذر) : (هُوَ) مَتْرُوك الحَدِيث عِنْدهم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : قَالَ الشَّافِعِي: قد رُوي أَحَادِيث عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (تدل عَلَى) أَنه لَا يجب الْمَشْي عَلَى أحد فِي الْحَج وَإِن أطاقه، غير أَن (مِنْهَا) مَا هُوَ مُنْقَطع وَمِنْهَا (مَا) يمْتَنع أهل الحَدِيث من تثبيته. ثمَّ رَوَى الشَّافِعِي عَن سعيد بن سَالم، عَن إِبْرَاهِيم بن يزِيد، عَن مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر قَالَ: «قعدنا إِلَى عبد الله بن عمر فَسَمعته يَقُول: سَأَلَ رجل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: مَا الْحَاج؟ فَقَالَ: الشعث التفل. فَقَامَ آخر فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَي الْحَج أفضل؟ فَقَالَ: العج والثج. فَقَامَ آخر فَقَالَ: يَا رَسُول الله، مَا السَّبِيل؟ قَالَ: زَاد وراحلة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الَّذِي عَنى الشَّافِعِي بقوله: مِنْهَا مَا يمْتَنع أهل الحَدِيث من تثبيته. قَالَ: وَإِنَّمَا امْتَنعُوا مِنْهُ؛ لِأَن الحَدِيث يعرف بإبراهيم بن يزِيد الخُوزي،(6/23)
وَقد ضعفه أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، قَالَ يَحْيَى بن معِين: إِبْرَاهِيم بن يزِيد رَوَى حَدِيث مُحَمَّد بن عباد هَذَا لَيْسَ بِثِقَة. قَالَ: و (قد) رَوَاهُ [مُحَمَّد بن عبد الله بن عبيد] بن عُمَيْر (عَن مُحَمَّد) بن عباد إِلَّا أَنه أَضْعَف من إِبْرَاهِيم بن يزِيد. (قَالَ) : وَرَوَاهُ (أَيْضا) مُحَمَّد (بن الْحجَّاج) عَن جرير بن حَازِم، عَن مُحَمَّد بن عباد، وَمُحَمّد بن (الْحجَّاج) مَتْرُوك.
قلت: وَلِحَدِيث (ابْن) عمر هَذَا طَرِيق آخر واه، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سألتُ عليَّ بن الْجُنَيْد، عَن حَدِيث رَوَاهُ سعيد بن سَلام الْعَطَّار بن عبد الله بن عمر الْعمريّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا «فِي قَوْله (تَعَالَى) (من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) (قَالَ) : الزَّاد وَالرَّاحِلَة» فَقَالَ: حَدِيث بَاطِل.
(الطَّرِيق الثَّالِث) : طَرِيق ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول(6/24)
الله (قَالَ: «الزَّاد وَالرَّاحِلَة» . يَعْنِي قَوْله: (من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا» ) رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عِكْرِمَة (عَنهُ) وَفِي إِسْنَاده هِشَام بن سُلَيْمَان بن عِكْرِمَة بن خَالِد بن العَاصِي، قَالَ أَبُو حَاتِم: مُضْطَرب الحَدِيث وَمحله الصدْق، مَا أرَى (بِهِ) بَأْسا. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث هِشَام بن سُلَيْمَان وَعبد الْمجِيد (عَن) ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي عمر بن عَطاء، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس مثل قَول عمر بن الْخطاب: «السَّبِيل: الزَّاد وَالرَّاحِلَة» . ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث حُصَيْن بن مُخَارق، عَن مُحَمَّد بن خَالِد، عَن سماك بن حَرْب، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «قيل: يَا رَسُول الله، الْحَج كل عَام؟ قَالَ: لَا، بل حجَّة. (قيل) : فَمَا السَّبِيل إِلَيْهِ؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة» . ثمَّ أخرجه من حَدِيث دَاوُد بن (الزبْرِقَان) ، عَن عبد الْملك (عَن عَطاء) ، عَن ابْن عَبَّاس(6/25)
مَرْفُوعا، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا من قَوْله.
قلت: قد أخرجه ابْن الْمُنْذر كَذَلِك.
(الطَّرِيق الرَّابِع) : طَرِيق عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث حُسَيْن، عَن أَبِيه، عَن جده عَنهُ مَرْفُوعا « (وَللَّه عَلَى النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) قَالَ: فَسئلَ عَن ذَلِك، قَالَ: أَن تَجِد ظهر بعير» . وحسين هَذَا هُوَ ابْن عبد الله بن ضميرَة، وَهُوَ واه وَسَيَأْتِي (لَهُ) طَرِيق (آخر) عَن عَلّي فِي الحَدِيث السَّابِع - إِن شَاءَ الله.
(الطَّرِيق الْخَامِس) : طَرِيق جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لما نزلت هَذِه الْآيَة (وَللَّه عَلَى النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) قَامَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، مَا السَّبِيل؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من (حَدِيث) مُحَمَّد بن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر، عَن أبي الزبير أَو عَمْرو بن دِينَار، عَن جَابر (بِهِ) . وَمُحَمّد هَذَا ضَعَّفُوهُ، وَقد(6/26)
اخُتلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمَعَهُ فِي الْإِسْنَاد عبد الْملك بن زِيَاد النصيبي قَالَ الْأَزْدِيّ: مُنكر الحَدِيث.
(الطَّرِيق السَّادِس) : طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: السَّبِيل (إِلَى الْبَيْت) : الزَّاد وَالرَّاحِلَة» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا وَفِيه ابْن لَهِيعَة، وَهُوَ مَشْهُور الْحَال، وَقد عَقَدتُ لَهُ فصلا فِي «الْوضُوء» ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق آخر عَنهُ بِلَفْظ: «قَالَ رجل: يَا رَسُول الله، مَا يُوجب الْحَج؟ قَالَ: (الزَّاد) وَالرَّاحِلَة» وَفِيه (الْعَرْزَمِي) الْمَتْرُوك.
(الطَّرِيق السَّابِع) : طَرِيق عَلْقَمَة، (عَن) عبد الله، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «فِي قَوْله تَعَالَى: (وَللَّه عَلَى النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) قيل: يَا رَسُول الله، مَا السَّبِيل؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث بهْلُول بن عبيد، عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة (بِهِ) .
وبهلول هَذَا الظَّاهِر أَنه [التاهرتي] صَاحب مَالك، قَالَ(6/27)
ابْن الْجَوْزِيّ: مَا عرفنَا فِيهِ قدحًا. وأَقَرَّه الذَّهَبِيّ عَلَيْهِ، وَإِن يكن بهْلُول بن عبيد الْكُوفِي فقد ضَعَّفُوهُ.
(الطَّرِيق الثَّامِن) : (من) طَرِيق عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مَرْفُوعا كَذَلِك، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث عتاب بن أعين، عَن الثَّوْريّ، عَن يُونُس بن عبيد، عَن الْحسن، (عَن أمه) عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. قَالَ الْعقيلِيّ: عتاب فِي حَدِيثه وهم. وَضعف هَذِه الطّرق غير وَاحِد من الْحفاظ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن ذكر حَدِيث ابْن عمر: رُوِيَ فِي الْمَسْأَلَة أَحَادِيث أُخَر لَا يَصح مِنْهَا شَيْء وأشهرها حَدِيث الخوزي، وينضم إِلَيْهِ مُرْسل الْحسن فيتأكد بِهِ (و) إِن كَانَ مُنْقَطِعًا. وَقَالَ عبد الْحق: خرج هَذَا الحَدِيث الدارقطني من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَجَابِر، وَعبد الله بن عمر، وَابْن مَسْعُود، وَأنس، وَعَائِشَة، وَغَيرهم، وَلَيْسَ فِيهَا إِسْنَاد يحْتَج بِهِ.
(الطَّرِيق التَّاسِع) : طَرِيق الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: «لما نزلت (وَللَّه عَلَى النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) قَالَ رجل: يَا(6/28)
رَسُول الله، مَا السَّبِيل؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» ، عَن يُونُس بن (عبيد) الْبَصْرِيّ عَنهُ، وَرَوَاهُ أَيْضا كَذَلِك سعيد بن مَنْصُور فِي «سنَنه» ، عَن هِشَام، عَن يُونُس (بِهِ) ، وَمن حَدِيث خَالِد بن عبد الله عَن يُونُس بِهِ، وَمن حَدِيث هشيم، عَن مَنْصُور، عَن الْحسن، وَأَسَانِيده صَحِيحَة إِلَى الْحسن إِلَّا أَنه مُرْسل، أرْسلهُ الْحسن وَلم يذكر من حَدثهُ (بِهِ) (و) قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ورويناه من أوجه صَحِيحَة، عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَفِيه قُوَّة لهَذَا الْمسند، وَأَشَارَ بذلك إِلَى حَدِيث ابْن عمر الَّذِي فِي إِسْنَاده: الخوزي، وَاعْتَرضهُ صَاحب «الإِمَام» (فَقَالَ: فِي قَوْله) هَذَا نظر؛ لِأَن الطَّرِيق الْمَعْرُوف أَنه إِذا كَانَ الطَّرِيق وَاحِدًا رَوَاهُ الثِّقَات مُرْسلا، وَانْفَرَدَ ضَعِيف بِرَفْعِهِ، أَن يعللوا هَذَا (الْمسند بالمرسل) ويحملوا الْغَلَط عَلَى رِوَايَة (الضَّعِيف) ، وَإِذا كَانَ ذَلِك مُوجبا لضعف الْمسند فَكيف يكون تَقْوِيَة لَهُ؟ !
قلت: وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا يثبت الحَدِيث الَّذِي ورد فِيهِ (ذِكْر)(6/29)
الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَلَيْسَ بِمُتَّصِل؛ لِأَن الصَّحِيح من الرِّوَايَات رِوَايَة الْحسن الْبَصْرِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: وَأما أَنا فَأرَى أَن حَدِيث أنس جيد الْإِسْنَاد صَالح (للاحتجاج) بِهِ كَمَا أسلفته. وَقَالَ الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين (الْمَقْدِسِي) فِي «أَحْكَامه» : لَا أرَى بِبَعْض طرقه بَأْسا.
الحَدِيث الْخَامِس
(رُوِيَ) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يركبن أحد الْبَحْر إِلَّا غازيًا أَو مُعْتَمِرًا أَو حاجًّا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ مَرْفُوعا بِزِيَادَة: «فَإِن تَحت الْبَحْر نَارا، وَتَحْت النَّار بحرًا» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ (بِصَحِيح) . وَقَالَ أَحْمد: هَذَا حَدِيث غَرِيب. وَقَالَ (أَبُو دَاوُد) : رُوَاته مَجْهُولُونَ. وَقَالَ الْخطابِيّ: ضعفوا إِسْنَاده. وَقَالَ صاحبُ «الإِمَام» : اخْتلف فِي(6/30)
إِسْنَاده. أَي فَإِنَّهُ رُوِيَ من حَدِيث بشير بن مُسلم الْكِنْدِيّ، عَن عبد الله بن عَمْرو، كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ (وَمن حَدِيث بشير عَن رجل عَن عبد الله بن عَمْرو، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ) مَوْقُوفا عَلَى (عبد الله بن عَمْرو) : «مَاء الْبَحْر لَا يُجزئ من وضوء، وَلَا من جَنَابَة، إِن تَحت الْبَحْر نَارا ثمَّ مَاء ثمَّ نَارا. حَتَّى عَدَّ سَبْعَة أَبْحُرٍ وَسَبْعَة أَنْيَار» .
الحَدِيث السَّادِس
عَن عدي بن حَاتِم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُ: يَا عدي، إِن طَالَتْ بك الْحَيَاة لترين الظعينة ترتحل من الْحيرَة حَتَّى تَطوف (بِالْكَعْبَةِ) لَا تخَاف إِلَّا الله. قَالَ عدي: فَرَأَيْت ذَلِك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» فِي بَاب: عَلَامَات النُّبُوَّة من حَدِيث مُحِل - بِضَم الْمِيم وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة - ابْن خَليفَة، عَن عدي قَالَ: «بَيْنَمَا أَنا عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (إِذْ) أَتَاهُ رجل فَشَكا إِلَيْهِ الْفَاقَة، ثمَّ أَتَاهُ آخر فَشَكا إِلَيْهِ قطع السَّبِيل، فَقَالَ: يَا عدي، هَل رَأَيْت الْحيرَة؟ قلت: لم أرها وَقد أنْبئت عَنْهَا. قَالَ: فَإِن طَالَتْ بك حَيَاة(6/31)
لترينَّ (الظعينة) ترتحل من الْحيرَة حَتَّى تَطوف بِالْكَعْبَةِ لَا تخَاف أحدا إِلَّا الله. (قَالَ عدي: فَرَأَيْت الظعينة ترتحل من الْحيرَة حَتَّى تَطوف بِالْكَعْبَةِ لَا تخَاف إِلَّا الله) » . هَذَا لفظهُ مُخْتَصرا، وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من هَذَا الْوَجْه وَفِيه: «أما قطع السَّبِيل فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْك إِلَّا (قَلِيل) حَتَّى (تخرج) العير من (الْحيرَة) إِلَى مَكَّة بِغَيْر خفير» .
وَرَوَاهُ عَن عدي جماعات أُخر: أحدهم ابْن سِيرِين، رَوَاهُ الدارقطني من حَدِيث عبيد الله بن عمر عَنهُ «أَن عدي بن حَاتِم وقف عَلَى (رَسُول) الله «فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) : يُوشك أَن تخرج الْمَرْأَة من الْحيرَة بِغَيْر (جوَار) أحد حَتَّى تحج» وَلَيْسَ ظَاهر لَفظه يَقْتَضِي أَنه مُسْند (فَتَأَمّله كَمَا) قَالَه صَاحب «الإِمَام» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث ابْن سِيرِين، عَن حُذَيْفَة، عَن عدي رَفعه: «فوالذي (نَفسِي) بِيَدِهِ ليتمّن الله - عَزَّ وَجَلَّ - هَذَا الْأَمر حَتَّى تخرج الظعينة من(6/32)
(الْحيرَة) حَتَّى تَطوف (بِالْبَيْتِ) فِي غير جوَار أحد. قَالَ عدي: فَهَذِهِ الظعينة تخرج من الْحيرَة تَطوف بِالْبَيْتِ فِي غير (جوَار) .
ثانيهم: عباد بن حُبَيْش، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث شُعْبَة، عَن سماك بن حَرْب قَالَ: سَمِعت عباد بن حُبَيْش يَقُول: سَمِعت عدي بن حَاتِم يَقُول: « (جَاءَت خيل) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكر حَدِيثا فِيهِ «إِنِّي (لَا أخْشَى) عَلَيْكُم الْفَاقَة، لينصرنكم الله - تَعَالَى - وليعطينكم - أَو (ليُسَخّرَنَّ) لكم - حَتَّى تسير الظعينة بَين الْحيرَة ويثرب (إِن أَكثر) مَا تخَاف السرق عَلَى ظعينتها» .
ثالثهم: مُحَمَّد بن حُذَيْفَة، رَوَاهُ (الدَّارَقُطْنِيّ) من حَدِيث ابْن عون، عَن مُحَمَّد قَالَ: حَدثنِي ابْن حُذَيْفَة - شكّ [ابْن عون(6/33)
اسْمه] مُحَمَّد بن حُذَيْفَة - عَن عدي ... فَذكر حَدِيثا، وَفِي آخِره: ثمَّ قَالَ: أتيت (الْحيرَة) ؟ قلت: لَا، وَقد علمت مَكَانهَا. قَالَ: فتوشك الظعينة أَن تخرج مِنْهَا بِغَيْر جوَار حَتَّى تَطوف بِالْكَعْبَةِ. قَالَ: فَرَأَيْت الظعينة (تخرج) من الْحيرَة حَتَّى تَطوف بِالْكَعْبَةِ» وَقد أسلفنا رِوَايَة هَذَا الحَدِيث، (عَن) ابْن سِيرِين، عَن حُذَيْفَة، من طَرِيق الإِمَام أَحْمد. وَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ من حَدِيث [أبي عُبَيْدَة] بن حُذَيْفَة، قَالَ: كنت أسأَل النَّاس عَن عدي بن حَاتِم وَهُوَ إِلَى جَنْبي (لَا أسأله) فَأَتَيْته فَسَأَلته فَقَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » وَفِيه: «هَل أتيت الْحيرَة؟ قلت: لم آتِهَا (و) قد علمت مَكَانهَا. قَالَ: توشك الظعينة أَن ترتحل من الْحيرَة بِغَيْر جوَار حَتَّى تَطوف بِالْبَيْتِ» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : قيل: سَنَده حسن.
رابعهم: عبد الْملك بن عُمَيْر، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي(6/34)
إِسْمَاعِيل (الْمُؤَدب) ، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر (عَنهُ) ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ليَأْتِيَن عَلَى النَّاس زمَان تسير الظعينة من مَكَّة إِلَى الْحيرَة لَا يَأْخُذ أحد بِخِطَام راحلتها» .
خامسهم: تَمِيم بن عبد الرَّحْمَن، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، وَرَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مجَالد، عَن الشّعبِيّ عَنهُ. وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث أَيْضا من طَرِيق جَابر بن سَمُرَة. (قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» ، قَالَ أبي: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق جَابر بن سَمُرَة) ، وَمن طَرِيق عدي بن حَاتِم، وَهَذَا كَأَنَّهُ (أشبه) .
فَائِدَة: الْحيرَة - بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة - (بَلْدَة مَعْرُوفَة بِظهْر الْكُوفَة سكنها مُلُوك قحطان. قَالَه الْحَازِمِي فِي «أماكنه» وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: هِيَ مَدِينَة النُّعْمَان مَعْرُوفَة من بِلَاد الْعرَاق) (قَالَ ابْن دحْيَة: سميت بذلك) لِأَن بخت (نصَّر) لما سلطه الله عَلَى الْعَرَب وقتلهم، وسبى(6/35)
من سَبَى مِنْهُم (فسكن) السَّبي فِي هَذَا الْمَكَان فتحيروا هُنَالك فسُمِّيت: الْحيرَة. وَقَالَ صَاحب «التنقيب» : هِيَ مَدِينَة ملاصقة (للكوفة) سميت بذلك؛ لِأَن تُبَّع الْأَكْبَر لما قصد خُرَاسَان (ترك) (ضعفة جنده) بِهَذَا الْموضع، وَقَالَ لَهُم: حِيروا فِيهِ؛ أَي: أقِيمُوا. قَالَ: وَقيل: أول من نزلها مَالك بن زُهَيْر فَلَمَّا نزلها وَجعلهَا مَسْكَنه وأقطعها (قومه) فسميت (الْحيرَة) لذَلِك. قَالُوا: وثَمَّ حيرة أُخْرَى بخراسان (من) عمل نيسابور، وَلَيْسَت الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : هِيَ اسْم مُشْتَرك بَين مَوَاضِع أشهرها هَذَا الْموضع، وَهُوَ حيرة الْكُوفَة الَّتِي كَانَ ينزلها (الْمُلُوك) إِلَى (نصر) اللخميون، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: حيري، وحاري، والحيرة محلّة كَانَت بنيسابور كَبِيرَة (ينْسب) إِلَيْهَا طَائِفَة (جمة) من أهل الْعلم،(6/36)
والحيرة قَرْيَة بِأَرْض فَارس، والحيرة بَلْدَة من أعالي (سقِِي الْفُرَات) قريبَة من (فرغانة) . ثمَّ قَالَ: ذكر هَذِه الْمَوَاضِع ياقوت الْحَمَوِيّ، (و) رَأَيْتهَا بعد (فِيهِ) .
والظعينة: الْمَرْأَة، وَأَصله الهَوْدَج وتُسمَّى الْمَرْأَة بِهِ، وَقيل: لَا تسمى إِلَّا الْمَرْأَة الراكبة، وَكثر حَتَّى اسْتعْمل فِي كل امْرَأَة حَتَّى (يَشْمَل) الْجمل الَّذِي ركب عَلَيْهِ ظَعِينَة، وَلَا يُقَال ذَلِك إِلَّا لِلْإِبِلِ الَّتِي عَلَيْهَا الهوادج. وَقيل: إِنَّمَا سميت ظَعِينَة؛ لِأَنَّهُ يظعن (بهَا) ويرحل. (وَعبارَة الْجَوْهَرِي: هِيَ الْمَرْأَة فِي الهودج فَإِن لم تكن فِيهِ فَلَيْسَتْ بظعينة) .
والجوار: بِالْكَسْرِ أفْصح من الضَّم.
تَنْبِيه: الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: احْتج للقائل بِأَن الْمَرْأَة لَهَا أَن تخرج وَحدهَا عِنْد الْأَمْن بِهَذَا الحَدِيث، وشُوحِح فِي الدّلَالَة عَلَى ذَلِك. وَقَالُوا: إِنَّمَا هَذَا إِخْبَار عَمَّا سيقع وَلَا يلْزم من إِخْبَار وُقُوعه جَوَازه.(6/37)
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من لم يحْبسهُ مرض، أَو (مشقة) ظَاهِرَة، أَو سُلْطَان جَائِر، فَلم يحجّ فليمت إِن شَاءَ يهوديًّا وَإِن شَاءَ نصرانيًّا» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق: أَحدهَا من حَدِيث أبي أُمَامَة رَضِي اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعا: «من لم يحْبسهُ مرض، أَو حَاجَة ظَاهِرَة، أَو سُلْطَان جَائِر، وَلم يحجّ فليمت إِن شَاءَ يهوديًّا أَو نصرانيًّا» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شَاذان، عَن شريك، عَن لَيْث، عَن ابْن (سابط) ، عَن أبي أُمَامَة (بِهِ) . (و) قَالَ: هَذَا الحَدِيث وَإِن كَانَ إِسْنَاده غير قوي (فَلهُ) شَاهد من قَول عمر بن الْخطاب ... فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ أَنه قَالَ: «ليمت يهوديًّا أَو نصرانيًّا - يَقُولهَا ثَلَاث مَرَّات -: رجل مَاتَ وَلم يحجّ، وجد لذَلِك سَعَة وخليت سَبيله» . وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور بِلَفْظ: «لقد هَمَمْت أَن أبْعث رجَالًا إِلَى هَذِه الْأَمْصَار فينظروا كل من كَانَ لَهُ جِدَة وَلم يحجّ؛ فيضربوا عَلَيْهِم الْجِزْيَة (مَا هم بمسلمين) » . وَقَالَ الْحَافِظ(6/38)
أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاده حسن، شَاهد لحَدِيث أبي أُمَامَة. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «كتاب الْإِيمَان» : عَن وَكِيع، عَن (سُفْيَان) عَن لَيْث، عَن ابْن سابط قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من مَاتَ وَلم يحجّ وَلم يمنعهُ من ذَلِك مرض حَابِس، أَو سُلْطَان ظَالِم، أَو حَاجَة ظَاهِرَة، فليمت عَلَى أَي حَال شَاءَ (إِن شَاءَ) يهوديًّا، وَإِن شَاءَ نصرانيًّا» . وَهَذَا مُرْسل، وَرَوَاهُ فِي «مُسْنده» مُتَّصِلا (فِيهِ من لَا أعرف حَاله) - بِلَفْظ: «من كَانَ ذَا يسَار فَمَاتَ وَلم يحجّ فليمت إِن شَاءَ يهوديًّا (و) إِن شَاءَ نصرانيًّا» . (و) (من رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «لقد هَمَمْت أَن أبْعث رجَالًا ... » إِلَى آخِره، تقدم) . وَاعْلَم أَن ابْن الْجَوْزِيّ ذكر هَذَا الحَدِيث فِي «تَحْقِيقه» من حَدِيث أبي عرُوبَة الْحَرَّانِي، نَا الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن، نَا يزِيد بن هَارُون، نَا شريك، عَن لَيْث، عَن عبد الرَّحْمَن بن سابط، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا بِلَفْظ الْبَيْهَقِيّ، ثمَّ قَالَ: قَالَ يَحْيَى بن معِين: الْمُغيرَة لَيْسَ بِشَيْء. وَلَيْث قد تَركه يَحْيَى بن معِين وَابْن مهْدي(6/39)
وَأحمد، وَقد رَوَاهُ (عمار) بن (نصر) ، عَن شريك، عَن سَالم، عَن أبي أُمَامَة، قَالَ العقيليُّ: عمار يحدث عَن الثِّقَات بِالْمَنَاكِيرِ. وَقَالَ ابْن عدي: مَتْرُوك الحَدِيث.
هَذَا آخر كَلَامه، وَفِيه نظر من وُجُوه:
أَحدهَا: يَحْيَى إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْكَلَام فِي الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن [الْحزَامِي] وَهُوَ مُتَقَدم عَلَى رَاوِي هَذَا الحَدِيث، يروي عَن أبي الزِّنَاد وَغَيره، ويروي عَنهُ قُتَيْبَة وَغَيره، وَهُوَ من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَأما رَاوِي هَذَا الحَدِيث فَهُوَ الْحَرَّانِي شيخ متأخِّر، رَوَى عَنهُ النَّسَائِيّ وَوَثَّقَهُ وَلَا (نَعْرِف) أحدا تكلم فِيهِ. وَقد ذكر هُوَ - أَعنِي ابْن الْجَوْزِيّ - الْحزَامِي فِي «ضُعَفَائِهِ» ، وَحَكَى كَلَام يَحْيَى فِيهِ، (و) قَالَ: وَجُمْلَة من فِي الحَدِيث اسْمه (مُغيرَة) بن عبد الرَّحْمَن سِتَّة لَا نَعْرِف قدحًا فِي أحد مِنْهُم غَيره.
قلت: وَلم ينْفَرد الْمُغيرَة عَن يزِيد (بِهَذَا) الحَدِيث؛ بل تَابعه(6/40)
مُحَمَّد بن أسلم الطوسي، عَن يزِيد. وَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ فِي «تَفْسِير سُورَة آل عمرَان» من رِوَايَة سهل بن عمار، عَن (يزِيد) . وَسَهل كذبه الْحَاكِم، وَقد رَوَاهُ عَن شريك غير يزِيد، رَوَاهُ أَبُو يعْلى، عَن بشر بن الْوَلِيد (الْكِنْدِيّ) ، (عَن شريك) ، عَن لَيْث بِهِ بِلَفْظ: «من لم (يمنعهُ) من الْحَج مرض حَابِس أَو حَاجَة؛ فليمت إِن شَاءَ يهوديًّا، وَإِن شَاءَ نصرانًّيا» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شَاذان، نَا شريك، عَن لَيْث بِهِ، كَمَا سلف، وَقد رَوَاهُ عَن لَيْث غير شريك (رَوَاهُ) سُفْيَان عَنهُ كَمَا سلف، عَن رِوَايَة الإِمَام أَحْمد فِي «كتاب (الْإِيمَان) » ، وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم - وَهُوَ ابْن عُلية - عَنهُ، عَن ابْن سابط رَفعه: «من مَاتَ وَلم يحجّ حجَّة الْإِسْلَام وَلم يمنعهُ من ذَلِك حَاجَة ظَاهِرَة، أَو مرض حَابِس، أَو سُلْطَان ظَالِم، فليمت عَلَى أَي حَال شَاءَ إِن شَاءَ يهوديًّا، وَإِن شَاءَ نصرانيًّا» رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا فِي الْكتاب الْمَذْكُور.
الثَّانِي (قَوْله) : «لَيْث قد تَركه يَحْيَى بن معِين وَابْن مهْدي وَأحمد» تبع فِيهِ ابْن حبَان، وَقد رَوَى ابْن مهْدي، عَن سُفْيَان وَغَيره(6/41)
عَنهُ، كَمَا (قَالَه) الفلاس، وَقَالَ أَحْمد: هُوَ مُضْطَرب الحَدِيث لَكِن حدث عَنهُ النَّاس. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَأَلت يَحْيَى عَنهُ فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْس.
الثَّالِث (قَوْله) : «وَقد رَوَاهُ عمار بن نصر، عَن شريك» صَوَابه ابْن مطر، (وجد فِي بعض نسخه وَكَذَا ذكره فِي «مَوْضُوعَاته» وَهُوَ عمار بن مطر الرهاوي، كَذَا أخرجه ابْن عدي فِي تَرْجَمَة عمار بن مطر) وَقَالَ: هَذَا الحَدِيث عَن شريك غير مَحْفُوظ، وعمار بن مطر (الضعْف) عَلَى رِوَايَته بَين، وَكَذَا أخرجه أَبُو يعْلى الْموصِلِي، عَن عمار، عَن شريك.
الرَّابِع: قَوْله: «عَن شريك، عَن سَالم، عَن أبي أُمَامَة» سقط بَين شريك وَسَالم رجل، وَهُوَ مَنْصُور، كَذَا أخرجه أَبُو يعْلى فَتنبه لهَذِهِ الْأُمُور، وَقد ذكر ابْن الْجَوْزِيّ حَدِيث أبي أُمَامَة هَذَا فِي «مَوْضُوعَاته» من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ و (ضعفهما) بِمَا تقدم، وَلَا أَدْرِي مَا (مُسْتَنده) فِي وضعهما.(6/42)
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث عَلّي - كرم الله وَجهه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ملك زادًا وراحلة تبلغه إِلَى بَيت الله (الْحَرَام) وَلم يحجّ فَلَا عَلَيْهِ أَن يَمُوت يهوديًّا (أَو نصرانيًّا) ، وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابه: (وَللَّه عَلَى النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث هِلَال بن عبد الله مولَى ربيعَة بن عَمْرو بن مُسلم الْبَاهِلِيّ، عَن أبي إِسْحَاق الْهَمدَانِي، عَن الْحَارِث، عَن عَلّي بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا (الْوَجْه) . قَالَ: وَفِي إِسْنَاده مقَال. قَالَ: والْحَارث (يضعف) ، وهلال مَجْهُول.
قلت: وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه. قَالَ: وَهَذَا الْمَتْن يُروى عَن عَلّي مَوْقُوفا (وَيروَى) مَرْفُوعا من طَرِيق (أصلح) من هَذَا. وَخَالف الْمُنْذِرِيّ فَقَالَ: حَدِيث أبي أُمَامَة عَلَى مَا فِيهِ أصلحها. (وَأبْعد) ابْن الْجَوْزِيّ، فَذكر هَذَا الحَدِيث فِي «مَوْضُوعَاته» ، وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح عَن رَسُول الله. وَلَو ذكره فِي «علله» لَكَانَ(6/43)
أنسب، وَقَالَ الْفَقِيه أَبُو بكر بن الجهم الْمَالِكِي بعد تَخْرِيجه: سَأَلت إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ عَنهُ فتبسَّم وَقَالَ: من هِلَال بن عبد الله؟ ! وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد: لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ مَعْرُوف بِهَذَا الحَدِيث وَلَيْسَ الحَدِيث بِمَحْفُوظ.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَفعه: «من مَاتَ وَلم يحجّ حجَّة الْإِسْلَام فِي غير وجع حَابِس، أَو (حجَّة) ظَاهِرَة، أَو سُلْطَان جَائِر فليمت (أَي الْميتَتَيْنِ) شَاءَ (إِمَّا) يهوديًّا أَو نصرانيًّا» رَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث عبد الرَّحْمَن الْقطَامِي، عَن أبي المُهَزِّم - بِضَم الْمِيم وَفتح الْهَاء وَكسر الزَّاي الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة (وَآخره مِيم) ، كَمَا ضَبطه صَاحب «الإِمَام» - عَن أبي هُرَيْرَة (بِهِ) ، وَأَبُو المهزم اسْمه يزِيد بن سُفْيَان وَهُوَ واه قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء. وَقَالَ شُعْبَة: رَأَيْته وَلَو أعطي درهما لوضع خمسين حَدِيثا. وَقَالَ أَيْضا: كَانَ فِي مَسْجِد ثَابت مطروحًا لَو أعطَاهُ إِنْسَان فلسين حَدثهُ سبعين حَدِيثا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ عَلّي بن الْجُنَيْد: (شبه) الْمَتْرُوك.(6/44)
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (ضَعِيف) . و (أما) عبد الرَّحْمَن الْقطَامِي فَهُوَ واه، قَالَ الفلاس: كَانَ كذابا. وَقَالَ ابْن حبَان: يجب تنكب رواياته.
قلت: وَكَانَ السَّاجِي يَقُول: عبد الرَّحْمَن الْقطَامِي. وَالصَّوَاب: ابْن الْقطَامِي وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» أَيْضا، وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. وَفِي الْكتاب الْمُسَمَّى « (الْمُغنِي) عَن الْحِفْظ وَالْكتاب بقَوْلهمْ لم يَصح شَيْء فِي الْبَاب» لأبي حَفْص الْموصِلِي بَاب حجُّوا قبل أَن لَا تَحُجُّوا: «وَمن أمكنه الْحَج فَلم يحجّ فليمت إِن شَاءَ يهوديًّا (و) إِن شَاءَ نصرانيًّا» . قَالَ الْعقيلِيّ: لَا يَصح فِي هَذَا شَيْء. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يَصح (فِيهَا) شَيْء.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سمع رجلا يَقُول: لبيْك عَن شبْرمَة. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من شبْرمَة؟ قَالَ: أَخ لي - أَو قريب لي - قَالَ: أحججت عَن نَفسك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: حج عَن نَفسك، ثمَّ عَن شبْرمَة» (وَفِي) رِوَايَة: «هَذِه عَنْك ثمَّ عَن شبْرمَة» .(6/45)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه فِي (سُنَنهمَا) من حَدِيث عَبدة بن سُلَيْمَان، عَن ابْن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة، عَن عزْرَة، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِهِ بِاللَّفْظِ الأول، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الثَّانِي وَإِسْنَاده صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» و «الْمعرفَة» و «الخلافيات» بعد تَخْرِيجه لَهُ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح لَيْسَ فِي هَذَا الْبَاب أصح مِنْهُ. ثمَّ رَوَاهُ من طرق كَذَلِك مَرْفُوعا، قَالَ: وَرُوِيَ مَوْقُوفا عَلَى ابْن عَبَّاس. قَالَ: وَمن رَوَاهُ مَرْفُوعا حَافظ ثِقَة فَلَا يضرّهُ خلافُ مَن خَالفه، قَالَ يَحْيَى بن معِين: سمعته من عَبدة بن سُلَيْمَان مَرْفُوعا. وَرَوَاهُ غنْدر، عَن سعيد بن أبي عرُوبَة (فَوَقفهُ) (وَرُوِيَ) عَن ابْن عَبَّاس من وَجه آخر مَوْقُوفا، وَعَبدَة بن سُلَيْمَان رَفعه وَهُوَ مُحْتَج بِهِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَرَوَاهُ عَنهُ (مَرْفُوعا جمَاعَة من) الثِّقَات، وَتَابعه عَلَى رَفعه مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ(6/46)
وَمُحَمّد بن بشر، قَالَ يَحْيَى بن معِين: أثبت النَّاس سَمَاعا (من) سعيد عَبدة بن سُلَيْمَان. وَقَالَ عبد الْحق: علل بَعضهم هَذَا الحَدِيث بِأَنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفا. قَالَ: وَالَّذِي أسْندهُ ثِقَة فَلَا يضرّهُ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: الرافعون لَهُ ثِقَات فَلَا يضرهم وقف الواقفين لَهُ، إِمَّا (لأَنهم) حفظوا مَا لم يحفظوا، وَإِمَّا لِأَن (الواقفين) رووا عَن ابْن عَبَّاس (رَأْيه) ، (والرافعين) رووا عَنهُ رِوَايَته. وَخَالف الطَّحَاوِيّ فَقَالَ فِي «مشكله» : الصَّحِيح أَنه مَوْقُوف، قَالَ أَحْمد: رَفعه خطأ. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا يثبت.
(قلت: وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ من قَوْله: وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا. قد أخرجه من حَدِيث الشَّافِعِي، كَمَا سَاقه الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَنهُ) : نَا سُفْيَان، عَن أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة: «سمع ابْن عَبَّاس رجلا يُلَبِّي عَن شبْرمَة، قَالَ: وَمَا شبْرمَة؟ فَذكر (قرَابَة) قَالَ: أحججت عَن نَفسك؟ قَالَ: لَا. (قَالَ) : فحج عَن نَفسك، ثمَّ(6/47)
حج عَن شبْرمَة» وَفِي هَذَا استبعاد تعدد الْقِصَّة بِأَن يكون فِي (زَمَنه) عَلَيْهِ السَّلَام وزمن ابْن عَبَّاس عَلَى سِيَاقَة وَاحِدَة (واتفاق لَفظه) . نَبَّه عَلَى ذَلِك صَاحب «الإِمَام» وأعلَّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا بِالْإِرْسَال؛ فَإِن سعيد بن مَنْصُور رَوَاهُ عَن سُفْيَان، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِنَّه أصح.
قلت: هَذِه طَرِيقَته وَطَرِيقَة جمَاعَة، وَرَأَى جماعات تَقْدِيم الْوَصْل (إِذا اجْتمع) مَعَ الْإِرْسَال، وَأعله بَعضهم (بِأَنَّهُ) رُوِيَ عَن قَتَادَة عَن ابْن جُبَير بِإِسْقَاط «عزْرَة» ذكره صَاحب «الاستذكار» ، وَأعله ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» بِأَن قَالَ: فِيهِ مقَال، فَإِن فِيهِ عزْرَة وَهُوَ لَا شَيْء. وَهَذَا غلط مِنْهُ (وَكَأَنَّهُ) ظن أَن عزْرَة هَذَا هُوَ ابْن قيس الَّذِي قَالَ فِيهِ يَحْيَى: لَا شَيْء. وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ عزْرَة بن عبد الرَّحْمَن الْخُزَاعِيّ من رجال مُسلم، وَوَثَّقَهُ عَلّي بن المدينى وَيَحْيَى بن معِين، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَأخرجه فِي «صَحِيحه»(6/48)
من (جِهَته) وَلما ذكر صَاحب «الْإِلْمَام» هَذَا الحَدِيث قَالَ: رَأَيْت فِي كتاب «التَّمْيِيز» للنسائي: عزْرَة الَّذِي رَوَى عَنهُ قَتَادَة لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي. ثمَّ (ذكره) - أَعنِي ابْن الْجَوْزِيّ - من طَرِيقين آخَرين عَن الدَّارَقُطْنِيّ:
أَحدهمَا: من حَدِيث يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن، عَن حميد بن الرّبيع، عَن مُحَمَّد بن بشر، عَن سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة، عَن عزْرَة، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (رجلا) يُلَبِّي عَن شبْرمَة، قَالَ: أحججت؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَبِّ عَن نَفسك، ثمَّ لبِّ عَن شبْرمَة» ثمَّ أعلَّها بحميد بن الرّبيع وَنقل عَن يَحْيَى أَنه قَالَ فِي حَقه: كذَّاب. وأغفل (رَاوِيه) يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن، وَفِي (حَدِيثه) وهم كَبِير مَعَ أَن البرقاني قَالَ: رَأَيْت الدَّارَقُطْنِيّ يحسن القَوْل فِي حميد. وَقَالَ مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي شيبَة: أَنا أعلم النَّاس بِهِ، هُوَ ثِقَة لكنه شَرِه يُدَلس.
قلت: قد صرح فِي هَذَا الحَدِيث بِالتَّحْدِيثِ فَقَالَ: نَا مُحَمَّد بن بشر.(6/49)
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث (الْحسن) بن ذكْوَان، ثَنَا عَمْرو بن دِينَار، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجلا يَقُول: لبيْك عَن شبْرمَة. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَل حججْت قطّ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: هَذِه عَنْك وَحج عَن شبْرمَة» . ثمَّ أعلَّها بالْحسنِ بن ذكْوَان.
وَنقل عَن أَحْمد أَن أَحَادِيثه أباطيل، وَعَن يَحْيَى (أَنه) ضَعِيف.
قلت: لكنه من فرسَان البُخَارِيّ، فاحتجَّ بِهِ فِي «صَحِيحه» ، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس (بِهِ) . وليت ابْن الْجَوْزِيّ أعلَّه بالراوي عَنهُ (و) هُوَ أَبُو بكر الْكَلْبِيّ فَإِنَّهُ مَتْرُوك، وأعلَّهُ ابْن الْمُغلس الظَّاهِرِيّ بِوَجْه آخر وَهُوَ أَن قَتَادَة رَاوِيه عَن عزْرَة لم يقل: «ثَنَا» وَلَا «سَمِعت» وَهُوَ إِمَام فِي التَّدْلِيس. قَالَ: وَقد قَالَ بعض أهل الْعلم: إِن هَذَا (الْخَبَر) لَيْسَ بِثَابِت؛ لِأَن سعيد بن أبي عرُوبَة كَانَ يحدث هَذَا الحَدِيث بِالْبَصْرَةِ فَيجْعَل هَذَا الْكَلَام من قَول ابْن عَبَّاس وَلَا يسْندهُ، وبالكوفة يَجعله مُسْندًا. قَالُوا: وَقد (رَوَاهُ)(6/50)
ابْن أبي لَيْلَى، عَن عَطاء، عَن عَائِشَة (مَرْفُوعا) قَالُوا: وَقد رَوَاهُ ابْن جريج وَهُوَ أثبت من ابْن أبي لَيْلَى، فَلم يقل «عَن عَائِشَة» وأرسله، وَرَوَاهُ أَبُو قلَابَة عَن ابْن عَبَّاس، وَأَبُو قلَابَة لم يسمع مِنْهُ شَيْئا، قَالُوا: فَالْخَبَر بذلك غير ثَابت.
قلت: فِي «تَقْيِيد المهمل» للجياني: (قَالَ البُخَارِيّ: عزْرَة بن عبد الرَّحْمَن الْخُزَاعِيّ) كُوفِي، عَن سعيد بن جُبَير وَسَعِيد بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى، سمع مِنْهُ قَتَادَة. فقد صرح البُخَارِيّ بِسَمَاع قَتَادَة (من عزْرَة) فقد يُقَال: زَالَت تُهْمَة تدليسه وَقد أسلفنا الْجَواب عَمَّن أوقفهُ.
فَائِدَتَانِ: الأولَى: عزْرَة الْمُتَقَدّم فِي الحَدِيث هُوَ عزْرَة بن عبد الرَّحْمَن الْخُزَاعِيّ، كَذَا ذكره الْأَئِمَّة البُخَارِيّ وَابْن أبي حَاتِم وَابْن حبَان فِي «تواريخهم» ، وَكَذَا ذكره صَاحب «الْكَمَال» ، والمزي فِي «تهذيبه» ، و «أَطْرَافه» .
وَوَقع فِي «سنَن أبي دَاوُد» ، و «ابْن مَاجَه» : عزْرَة. غير مَنْسُوب، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هُوَ عزْرَة بن يَحْيَى. وَنَقله عَن الْحَاكِم، عَن أبي عَلّي الْحَافِظ، قَالَ: وَقد رَوَى قَتَادَة أَيْضا عَن عزْرَة بن تَمِيم، وَعَن عزْرَة بن عبد الرَّحْمَن.(6/51)
قلت: ونصَّ (عَلَى) أَنه عزْرَة بن يَحْيَى الجيانيُّ فِي «تَقْيِيد المهمل» قَالَ: وَقَالَ أَحْمد: هُوَ عزْرَة بن دِينَار وَلَا أرَاهُ يَصح.
الْفَائِدَة الثَّانِيَة: قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي «مبهماته» : اسْم (المُلَبى) عَنهُ «شبْرمَة» . وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد جَاءَ صَرِيحًا كَمَا قدمْنَاهُ، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (تلقيحه) : وَفِي حَدِيث تفرد بِهِ ابْن عمَارَة أَن اسْمه: «نُبَيْشَة» قَالَ: وَهُوَ خطأ، وَيُقَال: إِن ابْن عمَارَة رَجَعَ عَن تِلْكَ الرِّوَايَة. قَالَ الْخَطِيب: وَلَا أحفظ اسْم (الملبي) . وَقَالَ ابْن باطيش فِي كِتَابه «الْمُغنِي فِي غَرِيب الْمُهَذّب» : اسْمه «نُبَيْشَة» .
قلت: فِيهِ نظر، وَكَأَنَّهُ وهم فَإِن الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ رويا من حَدِيث الْحسن بن عمَارَة، عَن عبد الْملك بن ميسرَة، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس أَنه (الملبى) عَنهُ، وَهُوَ خطأ كَمَا (أسلفناه) لَا (الملبي) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ: هَذِه الرِّوَايَة وهم، وَالصَّوَاب مَا تقدم عَن ابْن عَبَّاس. وَيُقَال: إِن الْحسن بن عمَارَة كَانَ يرويهِ ثمَّ رَجَعَ عَنهُ إِلَى الصَّوَاب، يحدث بِهِ عَلَى الصَّوَاب مُوَافقا لرِوَايَة غَيره عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث عَلَى كل حَال.(6/52)
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : إِنَّه حَدِيث بَاطِل. وَقَالَ (ابْن) الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : تفرد بِهَذَا الحَدِيث بلفظَيْه «هِيَ (عَن) نُبَيْشَة واحجج عَن نَفسك» و «هَذِه (عَن) نُبَيْشَة واحجج عَن نَفسك» الحسنُ بن عمَارَة، وَهُوَ الَّذِي (كَانَ) (يَقُول) مَكَان «شبْرمَة» : «نُبَيْشَة» ثمَّ رَجَعَ إِلَى الصَّوَاب فِي آخر عمره، وَقَالَ فِي «علله» : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح.
فَائِدَة ثَالِثَة: «شبْرمَة» بِضَم الشين وَالرَّاء، ذكره ابْن مَنْدَه، وَأَبُو نعيم فِي «الصَّحَابَة» ، وَهُوَ من الْأَفْرَاد، و «نُبَيْشَة» غير مَنْسُوب أَيْضا، توفّي فِي حَيَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَيْسَ «نُبَيْشَة الْهُذلِيّ» وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة نُبَيْشَة غَيرهمَا.
فَائِدَة رَابِعَة (غَرِيبَة) : أَن هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، وَمن رِوَايَة عَائِشَة، وظفرت لَهُ بطرِيق ثَالِث من حَدِيث أبي الزبير، عَن جَابر، «سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجلا وَهُوَ يُلَبِّي: لبيْك عَن شبْرمَة. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أحججت عَن نَفسك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفلا حججْت عَن(6/53)
نَفسك ثمَّ حججْت عَن شبْرمَة» . رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي «مُعْجَمه» ، عَن أَحْمد بن يُوسُف (بن) الضَّحَّاك، نَا عمر بن يَحْيَى، نَا ثُمَامَة، نَا أَبُو الزبير ... فَذكره.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أَتَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: إِن أُمِّي مَاتَت وَلم تحج. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: حجي عَن أمك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» ، وَكَذَا التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَاقْتصر ابْن (الْأَثِير) فِي «جَامعه» عَلَى عَزْوِه إِلَى التِّرْمِذِيّ فَقَط (وَلَيْسَ) بجيد مِنْهُ.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن امْرَأَة من خثعم قَالَت: يَا رَسُول الله، إِن فَرِيضَة الله عَلَى عباده أدْركْت أبي شَيخا كَبِيرا لَا يَسْتَطِيع أَن يسْتَمْسك عَلَى الرَّاحِلَة أفأحج عَنهُ؟ قَالَ: نعم» .(6/54)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: «لَا يثبت عَلَى الرَّاحِلَة» بدل «يسْتَمْسك» وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ «يَسْتَوِي» قَالَا: وَذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع. وَفِي رِوَايَة للبيهقي «يسْتَمْسك» كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ، وَمن الروَاة من جعل هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس، عَن أَخِيه الْفضل، (فَجعله [من] مُسْند الْفضل) . وَفِي رِوَايَة للنسائي « (أَن) امْرَأَة من خثعم سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَدَاة جَمْعٍ ... » الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَنْدَه فِي «كتاب الإرداف» لَهُ فِي آخر الحَدِيث: «فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن هَذَا يَوْم من ملك فِيهِ سَمعه (وبصره) وَلسَانه غفر لَهُ» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى «كَمَا لَو كَانَ عَلَى أَبِيك دين (فقضيته) »
قلت: رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ «أَن رجلا قَالَ: يَا نَبِي الله، إِن ابي مَاتَ وَلم يحجّ أفأحج عَنهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَو كَانَ عَلَى أَبِيك دين أَكنت قاضيه؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فدين الله أَحَق بِالْوَفَاءِ» وَفِي رِوَايَة لَهُ نَحْو هَذِه، وَقَالَ فِيهَا: «وَهُوَ شيخ كَبِير لَا يثبت عَلَى الرَّاحِلَة، وَإِن شددته(6/55)
خشيت أَن يَمُوت» وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث الْفضل وَجعل عوض الْمَرْأَة رجلا، وَأَنه استفتى عَن أمه. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه (أَيْضا) من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن أَخِيه الْفضل «أَنه كَانَ (رِدْف) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَدَاة النَّحْر فَأَتَتْهُ امْرَأَة من خثعم فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن فَرِيضَة الله فِي الْحَج (عَلَى عباده) أدْركْت أبي شَيخا كَبِيرا لَا يَسْتَطِيع أَن يركب أفأحج عَنهُ؟ قَالَ: نعم فَإِنَّهُ لَو كَانَ عَلَى أَبِيك دين (قَضيته) » . وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا بِلَفْظ «فَقَالَت: يَا رَسُول الله، فَهَل يَنْفَعهُ ذَلِك؟ قَالَ: (نعم) ، كَمَا لَو كَانَ عَلَيْهِ دين (فقضيته) نَفعه» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذِه الرِّوَايَة لم يذكر فِيهَا أَبُو بكر وَأَبُو زَكَرِيَّا «ابْن عَبَّاس» وَذكره (غَيرهمَا) . قَالَ ابْن حزم: وَأما رِوَايَة «حجي عَنهُ وَلَيْسَ لأحد بعده» فَفِيهَا مَجْهُولَانِ.
فَائِدَة: رَوَى (ابْن) مَاجَه فِي «سنَنه» «أَن أَبَا الْغَوْث - رجل(6/56)
من الْفَرْع - استفتى أَيْضا فِي الْحَج عَن أَبِيه، فَقَالَ: (لَهُ) عَلَيْهِ السَّلَام: حج عَن أَبِيك. قَالَ: وَكَذَلِكَ الصّيام (فِي النّذر) يُقْضَى عَنهُ» . (وَرَوَاهُ) الدولابي فِي «كناه» وَقَالَ: «رجل من خثعم» : (بدل «من الْفَرْع» ) وَفِيه: «يتَصَدَّق عَن الرجل و (يصام) عَنهُ وَلَده إِن كَانَ لَهُ، وَأَخُوهُ وَذُو قرَابَته مِنْهُ، وَالصَّدَََقَة أفضل» وَرَوَاهُ أطول من هَذَا أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» .
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ بعد أَن ذكر أَن الْإِنْسَان (إِذا مَاتَ) وَلم يجب عَلَيْهِ الْحَج لعدم الِاسْتِطَاعَة هَل يجوز أَن يحجّ عَنهُ، وَذكر أَنه قَالَ فِي «الْوَسِيط» بِالْجَوَازِ، وَاحْتج بِمَا رُوِيَ «أَن امْرَأَة قَالَت لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن فَرِيضَة الْحَج عَلَى الْعباد أدْركْت أبي شَيخا كَبِيرا لَا يَسْتَطِيع أَن يحجّ أفأحج عَنهُ؟ قَالَ: نعم» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلَيْسَ هَذَا الِاحْتِجَاج بِقَوي؛ لِأَن الحَدِيث هُوَ حَدِيث الخثعمية، وَاللَّفْظ الْمَشْهُور فِي حَدِيثهَا: «لَا يَسْتَطِيع أَن يثبت عَلَى الرَّاحِلَة» وَذَلِكَ يدل عَلَى أَن اللَّفْظَة الَّتِي نقلهَا « (أَن) يثبت»(6/57)
(مَحْمُول) عَلَى نفي استطاعته الْمُبَاشرَة، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي وجوب (الْحَج وَالْمَسْأَلَة) فِيمَن لَا وجوب عَلَيْهِ. قَالَ: وَيجوز أَن يحْتَج لَهُ بِحَدِيث بُرَيْدَة فَإِن الْمَرْأَة قَالَت: «إِن أُمِّي مَاتَت وَلم تحج» وَلم يفصل الْجَواب انْتَهَى.
قلت: فِي الْبَيْهَقِيّ نَحْو (لفظ) «الْوَسِيط» فَإِنَّهُ رَوَى من حَدِيث زيد بن عَلّي بن الْحُسَيْن عَن أَبِيه، عَن (عبيد الله) بن (أبي) رَافع عَن عَلّي «أَن امْرَأَة من خثعم شَابة قَالَت: يَا رَسُول الله، إِن أبي شيخ كَبِير أَدْرَكته فَرِيضَة الله عَلَى عباده فِي الْحَج لَا يَسْتَطِيع أداءها، فَيُجزئ عني أَن أؤديها عَنهُ؟ قَالَ: نعم» . (وَرَوَاهُ) التِّرْمِذِيّ فِي بَاب «مَا جَاءَ أَن عَرَفَة كلهَا موقف» من هَذَا (الْوَجْه فِي) أثْنَاء حَدِيث طَوِيل «فَقَالَت: إِن أبي شيخ كَبِير وَقد (أَدْرَكته) فَرِيضَة الله فِي الْحَج، أفيجزئ أَن أحج عَنهُ؟ (قَالَ) : حجي عَن أَبِيك» ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح لَا نعرفه من حَدِيث عَلّي إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث مُجَاهِد(6/58)
عَن مولَى لِابْنِ الزبير، عَن ابْن الزبير عَن سَوْدَة قَالَت: «جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن أبي شيخ كَبِير لَا يَسْتَطِيع أَن يحجّ. قَالَ: أرأيتك لَو كَانَ عَلَى أَبِيك دين (فَقضيت) عَنهُ قبل مِنْك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَالله أرْحم، حج عَن أَبِيك» .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أُخْتِي نذرت أَن تحج وَمَاتَتْ قبل أَن تحج. فَقَالَ: لَو كَانَ عَلَى (أختك) دين أَكنت قاضيه؟ قَالَ: نعم. قَالَ: (فاقضوا) الله فَهُوَ أَحَق بِالْقضَاءِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» كَمَا سلف فِي «الزَّكَاة» فِي بَاب: «لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول» . وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ، عَن يزِيد الْأَصَم، عَن ابْن عَبَّاس، وَفِيه ذِكْر «الْأَب» بدل «الْأُخْت» وَفِيه « (نعم) حج عَن أَبِيك، فَإِن لم يزده خيرا لم يزده شرًّا» . وَقَالَ ابْن عبد الْبر: تفرد (بِهِ) عبد الرَّزَّاق، وَلَا يُوجد فِي الدُّنْيَا عِنْد أحد غَيره، وخطؤه فِيهِ(6/59)
لانفراده بِهِ وَإِن كَانَ ثِقَة، وَهُوَ لفظ مُنكر لَا يشبه لفظ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَقَالَ الْبَزَّار: وَلَا نعلمهُ رَوَاهُ إِلَّا الثَّوْريّ من طَرِيق أبي دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة؛ فَجعل الْمُنْفَرد بِهِ هُوَ الثَّوْريّ.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْحَج وَالْعمْرَة فريضتان» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة زيد بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) : «إِن الْحَج وَالْعمْرَة فريضتان لَا يَضرك بِأَيِّهِمَا بدأت» . وَهُوَ من رِوَايَة مُحَمَّد بن (سعيد الْعَطَّار، عَن مُحَمَّد بن) كثير الْكُوفِي، عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن زيد بِهِ، وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، مُحَمَّد بن كثير لم يَرْضَهُ أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ: (خرقنا حَدِيثه) . وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَإِسْمَاعِيل هَذَا هُوَ المَخْزُومِي الْمَكِّيّ، وَقد ضَعَّفُوهُ.(6/60)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ مَوْقُوفا عَلَى زيد بن ثَابت، رَوَاهُ من حَدِيث هِشَام بن حسان، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين «أَن زيد بن ثَابت سُئِلَ: الْعمرَة قبل الْحَج؟ قَالَ: صلاتان لَا يَضرك بِأَيِّهِمَا بدأت» ثمَّ قَالَ: وَقد رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن سَالم، عَن ابْن سِيرِين مَرْفُوعا، وَالصَّحِيح مَوْقُوف.
قلت: كَذَا وَقع فِي الْبَيْهَقِيّ إِسْمَاعِيل بن سَالم، وَالْمَعْرُوف (ابْن) مُسلم كَمَا قَدمته، وَكَذَا صحّح الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقفه عَلَى زيد بن ثَابت، وَعبد الْحق فِي «أَحْكَامه» أَيْضا صحّح وَقفه، وَله طَرِيق ثَان من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن عَطاء، عَن جَابر مَرْفُوعا: «الْحَج وَالْعمْرَة فريضتان واجبتان» . رَوَاهُ ابْن عدي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من جِهَته ثمَّ قَالَ: ابْن لَهِيعَة غير مُحْتَج بِهِ. وَقَالَ ابْن عدي: غير مَحْفُوظ عَن عَطاء. قَالَ عبد الْحق: وَلَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب - يَعْنِي: فِي إِيجَاب الْعمرَة - (إِلَّا حَدِيث أبي رزين الْعقيلِيّ. وَتبع فِي ذَلِك الإِمَام؛ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا أعلم فِي إِيجَاب الْعمرَة) حَدِيثا أَجود مِنْهُ وَلَا أصح مِنْهُ. وَقد ذكرته فِي « (تحفة) دَلَائِل الْمِنْهَاج» مَعَ عدَّة أَحَادِيث أخر فِي ذَلِك، فَرَاجعهَا مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات.(6/61)
الحَدِيث (الثَّالِث) عشر
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الْعمرَة: أَوَاجِبَة؟ قَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرُوا فَهُوَ أولَى» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر مَرْفُوعا بِهِ إِلَّا أَن التِّرْمِذِيّ قَالَ: «فَهُوَ أفضل» بدل «فَهُوَ أولَى» . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: «وَأَن تعتمر خير لَك» . وَكَذَا لفظ أَحْمد إِلَّا أَنه قَالَ فِي أَوله: « (أَتَى) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَعْرَابِي فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَخْبرنِي عَن الْعمرَة، أَوَاجِبَة هِيَ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَن تعتمر خير لَك» . (وَذكره) ابْن حزم فِي «محلاه» بِلَفْظ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْعمرَة: أفريضة هِيَ؟ قَالَ: لَا، وَأَن تعتمر فَهُوَ خير لَك» . ومداره عَلَى الْحجَّاج بن أَرْطَاة أَبُو أَرْطَاة النَّخعِيّ الْكُوفِي وَقد عرفت حَاله فِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين من بَاب الْأَذَان، وَمِمَّا لم أقدمه هُنَاكَ أَن مُسلما أخرج لَهُ (مَقْرُونا) وَرَوَى لَهُ ابْن حبَان فِي(6/62)
«صَحِيحه» وَوَصفه الْخَطِيب بِأَنَّهُ أحد الْحفاظ، وَقَالَ الْعجلِيّ: كَانَ فَقِيها أحد مُفِْتيّ أهل الْكُوفَة، وَكَانَ (فِيهِ تيه) وَكَانَ يَقُول: أهلكني حبُّ الشَّرَف. وَولي قَضَاء الْبَصْرَة، وَكَانَ جَائِز الحَدِيث إِلَّا أَنه صَاحب إرْسَال، وَإِنَّمَا يعيب النَّاس (مِنْهُ) التَّدْلِيس. وَقَالَ ابْن حبَان: تَركه ابْن الْمُبَارك وَيَحْيَى الْقطَّان وَابْن مهْدي وَيَحْيَى بن معِين وَأحمد بن حَنْبَل، وَكَانَ زَائِدَة يَأْمر بترك حَدِيثه، وَقَالَ أَحْمد: يزِيد فِي الْأَحَادِيث ويروي عَمَّن لم يلقهُ لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ أَبُو طَالب عَن أَحْمد: كَانَ من الْحفاظ. قيل (لَهُ) : فلِمَ لَيْسَ هُوَ عِنْد النَّاس بِذَاكَ؟ قَالَ: (لِأَن) فِي (حَدِيثه) زِيَادَة عَلَى أَحَادِيث النَّاس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: يُدَلس عَن الضُّعَفَاء فَإِذا قَالَ: نَا فلَان (فَلَا) يرتاب. وَقَالَ ابْن عدي: عابوا عَلَيْهِ تدليسه عَن الزُّهْرِيّ وَغَيره، وَرُبمَا أَخطَأ، فَأَما أَن يتَعَمَّد الْكَذِب فَلَا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يحْتَج (بِهِ) . وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: رَأَيْته فِي مَسْجِد الْكُوفَة يُحَدِّثهُمْ بِأَحَادِيث الْعَرْزَمِي ويدلسها عَلَى شُيُوخ الْعَرْزَمِي، (والعرزمي) قَائِم يُصَلِّي لَا يعرفهُ(6/63)
أحد وَالنَّاس عَلَى حجاج. وَقَالَ ابْن حزم: هُوَ سَاقِط. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (ناهيك) (فِيهِ) أَي: فِي الضعْف. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: كَانَ لَا يُصَلِّي مَعَ الْمُسلمين فِي الْمَسْجِد، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك؟ فَقَالَ: أكره مزاحمة البقالين لَا (ينبل) الْإِنْسَان حَتَّى يدع الصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة. وَأَنه أنكر السَّلَام عَلَى الْمَسَاكِين وَقَالَ: عَلَى مثل هَؤُلَاءِ (يسلم!) . (فَهَذِهِ أَقْوَال) الْحفاظ فِي الْحجَّاج مصرحة بضعفه وبتدليسه، وَقدمنَا توثيقه فِي بَاب الْأَذَان عَن الثَّوْريّ وَشعْبَة وَغَيرهمَا. وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث جمَاعَة عَنهُ، أحدهم: عمر بن عَلّي الْمقدمِي، أخرجه التِّرْمِذِيّ من جِهَته، ومعتمر بن سُلَيْمَان وَأَبُو مُعَاوِيَة، وَعبد الله بن الْمُبَارك، أخرجه عَنْهُم الْحَافِظ أَبُو نعيم (الْأَصْبَهَانِيّ) فِي(6/64)
«جمعه لأحاديث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر» وَقَالَ التِّرْمِذِيّ (عقب) إِخْرَاجه لَهُ من الْوَجْه الْمَذْكُور: هَذَا حَدِيث حسن. وَوَقع فِي رِوَايَة (الْكَرْخِي) دون غَيره كَمَا أَفَادَهُ صَاحب «الإِمَام» عَنهُ زِيَادَة الصِّحَّة أَيْضا وَهُوَ مَا نَقله صَاحب «الْأَحْكَام» عَنهُ، وَفِي تَصْحِيحه نظر كَبِير، قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي «محلاه» : هَذَا حَدِيث (بَاطِل) حجاج سَاقِط. وَقَالَ الشَّافِعِي - فِيمَا نَقله التِّرْمِذِيّ -: الْعمرَة سنة، لَا نعلم أحدا رخص فِي تَركهَا، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْء ثَابت أَنَّهَا وَاجِبَة، قَالَ الشَّافِعِي: وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[بِإِسْنَاد] (وَهُوَ) ضَعِيف لَا تقوم بِمثلِهِ الْحجَّة، وَقد بلغنَا عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يُوجِبهَا. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ حجاج بن أَرْطَاة مَرْفُوعا، وَالْمَحْفُوظ إِنَّمَا هُوَ عَن جَابر مَوْقُوف عَلَيْهِ غير مَرْفُوع. قَالَ: وَرُوِيَ عَن جَابر مَرْفُوعا (خلاف) ذَلِك. قَالَ: وَكِلَاهُمَا ضَعِيف. ثمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من رِوَايَة غير(6/65)
الْحجَّاج بن أَرْطَاة، رَوَاهُ من طَرِيق سعيد بن (عُفَيْر) الْأنْصَارِيّ، عَن يَحْيَى بن أَيُّوب (عَن عبيد الله (عَن) أبي الزبير) عَن جَابر أَنه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، الْعمرَة فَرِيضَة كَالْحَجِّ؟ قَالَ: لَا، وَأَن تعتمر فَهُوَ خير لَك» كَذَا قَالَ: «عَن عبيد الله» ، وَهُوَ «عبيد الله بن الْمُغيرَة» تفرد بِهِ عَن أبي الزبير، ذكره يَعْقُوب بن سُفْيَان وَمُحَمّد بن عبد الرَّحِيم البرقي وَغَيرهمَا، عَن ابْن عفير، عَن يَحْيَى [عَن] (عبيد الله) بن الْمُغيرَة. (وَرَوَاهُ) الباغندي، عَن جَعْفَر بن مُسَافر، عَن (ابْن) عفير (وَقَالَ) عَن يَحْيَى (عَن) عبيد الله بن عمر. وَهَذَا وهم من الباغندي، وَقد رَوَاهُ ابْن أبي دَاوُد، عَن جَعْفَر كَمَا رَوَاهُ النَّاس، وَإِنَّمَا يعرف هَذَا الْمَتْن بالحجاج بن أَرْطَاة، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر قَالَ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «الْعمرَة تطوع» وَكِلَاهُمَا ضَعِيف. وَكَذَا قَالَ الطَّبَرَانِيّ (لما أخرجه من حَدِيث) سعيد بن عفير: عبيد الله هَذَا(6/66)
هُوَ ابْن أبي جَعْفَر الْمصْرِيّ، وَلم يرو هَذَا الحَدِيث عَن (أبي) الزبير إِلَّا هُوَ، تفرد بِهِ يَحْيَى بن أَيُّوب، وَالْمَشْهُور: حَدِيث الْحجَّاج، عَن (مُحَمَّد) بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِثَابِت، وحجاج بن أَرْطَاة يتفرد بِسَنَدِهِ، وَرَفعه إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من هَذَا الْوَجْه، وَخَالفهُ عبد الْملك بن جريج وَغَيره، فَرَوَوْه عَن ابْن الْمُنْكَدر، عَن جَابر من قَوْله، وَهُوَ الصَّوَاب، وحجاج لَيْسَ يقبل مِنْهُ مَا ينْفَرد بِهِ من الرِّوَايَات لسوء حفظه، وَقلة مراعاته لما يحدث بِهِ، وَكَثْرَة تدليسه، فَكيف إِذا خَالف الثِّقَات وَرفع الْمَوْقُوفَات والمعضلات؟ ! وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» : رَفعه ضَعِيف. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : هَذَا حَدِيث ضَعِيف. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» : فِي تَصْحِيح التِّرْمِذِيّ لهَذَا الحَدِيث (نظر) ، فَإِن الْحجَّاج بن أَرْطَاة لم يحْتَج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَقد ضعفه الْأَئِمَّة.
وَقَالَ صَاحب «الإِمَام» : صحّح التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث وَاعْترض عَلَيْهِ بالْكلَام فِي الْحجَّاج بن أَرْطَاة رافعه، وَقد رُوِيَ مَوْقُوفا من قَول جَابر. وَقَالَ الإِمَام الظَّاهِرِيّ: اعْترض عَلَى هَذَا الحَدِيث بِأَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : قَول التِّرْمِذِيّ: «إِن هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح» غير مَقْبُول، وَلَا تغتر بِكَلَامِهِ؛(6/67)
فقد اتّفق الْحفاظ عَلَى أَنه حَدِيث ضَعِيف، وَدَلِيل ضعفه أَن مَدَاره عَلَى الْحجَّاج بن أَرْطَاة لَا يعرف إِلَّا من جِهَته، وَالتِّرْمِذِيّ إِنَّمَا رَوَاهُ من جِهَته، وَالْحجاج ضَعِيف ومدلس بِاتِّفَاق الْحفاظ، وَقد قَالَ فِي حَدِيثه «عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر» والمدلس إِذا قَالَ فِي رِوَايَته «عَن» (فَلَا) يحْتَج بهَا بِلَا خلاف، كَمَا هُوَ مُقَرر فِي كتب أهل الحَدِيث وَأهل (الْأُصُول) وَلِأَن جُمْهُور الْعلمَاء عَلَى تَضْعِيف الْحجَّاج بِسَبَب آخر غير التَّدْلِيس (فَإِذا) كَانَ (فِيهِ سببان يمْنَع) كل وَاحِد مِنْهُمَا الِاحْتِجَاج بِهِ - وهما الضعْف والتدليس - فَكيف يكون حَدِيثا صَحِيحا، أَو حسنا! وَقد قَالَ التِّرْمِذِيّ فِيمَا تقدم عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: لَيْسَ فِي الْعمرَة شَيْء ثَابت أَنَّهَا تطوع. فَالْحَاصِل من هَذَا كُله أَنه حَدِيث ضَعِيف، وَوَقع فِي «الْمُهَذّب» أَن هَذَا الحَدِيث رَفعه ابْن لَهِيعَة، وَهُوَ ضَعِيف فِيمَا يتفرد بِهِ، وَصَوَابه رَفعه الْحجَّاج بن أَرْطَاة كَمَا أوضحته فِي «تخريجي لأحاديثه» فَرَاجعه مِنْهُ، وَاعْترض عَلَى هَذِه الْعبارَة من وَجْهَيْن آخَرين كَمَا ذكرته فِيهِ.
تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: هَذَا الحَدِيث قد أسلفناه من حَدِيث عبيد الله بن عمر، عَن أبي الزبير، عَن جَابر قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَاعْترض عَلَيْهِ بِتَضْعِيف عبيد الله الْعمريّ المصغر. ورُويَ من طرق أُخْرَى: إِحْدَاهَا: من حَدِيث أبي صَالح الْحَنَفِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ:(6/68)
«الْحَج جِهَاد، وَالْعمْرَة تطوع» رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سعيد بن سَالم، عَن الثَّوْريّ، عَن مُعَاوِيَة بن إِسْحَاق، عَن أبي صَالح بِهِ ثمَّ قَالَ: قلت لَهُ - يَعْنِي بعض المشرقيين - أيثبت (مثل) هَذَا (عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) ؟ فَقَالَ: هُوَ مُنْقَطع. وَكَذَا قَالَ ابْن حزم أَيْضا: إِنَّه مُرْسل. قَالَ: وَأَبُو صَالح ماهان ضَعِيف كُوفِي قد رَوَى عَنهُ جمَاعَة مشاهير، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ من حَدِيث شُعْبَة، عَن مُعَاوِيَة بن إِسْحَاق، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَوْصُولا وَالطَّرِيق فِيهِ إِلَى شُعْبَة طَرِيق ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حزم: رَوَاهُ عبد الْبَاقِي مُسْندًا بِزِيَادَة أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ كذب بحت من بلايا عبد الْبَاقِي. وَاعْتَرضهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» ، فَقَالَ: عبد الْبَاقِي من كبار الْحفاظ. قلت: لَكِن قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يُخطئ كثيرا (ويُصِرّ) .
ثَانِيهَا: من حَدِيث طَلْحَة بن (عبيد الله) مَرْفُوعا رَوَاهُ ابْن قَانِع أَيْضا وتَورَّكَ ابْن حزم عَلَيْهِ، (فَقَالَ) : اتّفق أَصْحَاب الحَدِيث عَلَى تَركه، وَهُوَ رَاوِي كل بلية وكذبة. وَاعْتَرضهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين (أَيْضا) فَقَالَ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء فَلم ينْفَرد بِهِ. (فَأخْرجهُ)(6/69)
ابْن مَاجَه عَمَّن رَوَى (عَنهُ) عبد الْبَاقِي.
ثَالِثهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْفضل بن عَطِيَّة، عَن سَالم الْأَفْطَس، عَن ابْن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَمُحَمّد هَذَا مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن حزم: رُوِيَ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَفِيه عبد الْبَاقِي (وَيَكْفِي) ثمَّ هُوَ عَن ثَلَاثَة مجهولين فِي نَسَقٍ لَا يُدْرى [من هم] . ثمَّ أَطَالَ ابْن حزم فِي ذَلِك بأَشْيَاء أُخَر.
(التَّنْبِيه الثَّانِي) : هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا عَلَى أحد الْقَوْلَيْنِ أَن الْعمرَة سنة، قَالَ الْأَصْحَاب: وَلَو صَحَّ لم يلْزم مِنْهُ عدم وجوب الْعمرَة عَلَى النَّاس كلهم؛ لاحْتِمَال أَن المُرَاد لَيست وَاجِبَة فِي حق السَّائِل لعدم استطاعته. (انْتَهَى) الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب، وَذكر (فِيهِ) اسْتِطْرَادًا حَدِيث «واشترطي الْخِيَار ثَلَاثًا» وسنتكلم عَلَيْهِ فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله - تَعَالَى - (فَإِنَّهُ أليق بِهِ) .(6/70)
وَذكر فِيهِ من الْآثَار:
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «إِنَّهَا لقرينتها فِي كتاب الله - تَعَالَى» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» تَعْلِيقا فَقَالَ: وَقَالَ ابْن عَبَّاس: «إِنَّهَا لقرينتها فِي كتاب الله (وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله) » . وأسنده الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُفْيَان (عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «وَالله إِنَّهَا لقرينتها فِي كتاب الله (وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله» ) . ثمَّ قَالَ: رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان) بن عُيَيْنَة، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن جريج قَالَ: أخْبرت عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «الْعمرَة وَاجِبَة كوجوب الْحَج من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا» قَالَ الْحَاكِم: وَإِسْنَاده صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ (وَرَوَاهُ) سعيد بن مَنْصُور، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عبد الله بن طَاوس، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «الْحَج وَالْعمْرَة واجبتان» وَعَن سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس (قَالَ) فِي الْعمرَة وَالْحج: «إِنَّمَا أُمِرَ (بهما) فِي كتاب الله -(6/71)
تَعَالَى» . وَرَوَاهُ ابْن حزم من حَدِيث سعيد بن مَنْصُور عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس (أَنه قَالَ فِي الْعمرَة وَالْحج: «إِنَّهَا لقرينتها فِي كتاب الله» ثمَّ قَالَ: وَهَذَا عَن ابْن عَبَّاس) من طرق فِي غَايَة الصِّحَّة أَنَّهَا وَاجِبَة كوجوب الْحَج.(6/72)
بَاب الْمَوَاقِيت
ذكر فِيهِ من الْأَحَادِيث (سِتَّة) عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) كَذَلِك من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قَالَ: «قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لامْرَأَة من الْأَنْصَار - سَمَّاهَا ابْن عَبَّاس -: مَا مَنعك أَن تَحُجِّي مَعنا؟ قَالَت: لم يكن لنا إِلَّا ناضحان فحج أَبُو وَلَدهَا وَابْنهَا عَلَى ناضحٍ، وَترك لنا ناضحًا ننضح عَلَيْهِ. فَقَالَ: إِذا جَاءَ رَمَضَان فاعتمري (فَإِن) عمْرَة فِيهِ تعدل حجَّة» هَذَا لفظ مُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ مثله إِلَّا أَنه قَالَ: « (فَإِن) عمْرَة فِي رَمَضَان حجَّة» أَو نَحوا مِمَّا قَالَ، قَالَ عبد الْحق: وَخرج أَيْضا - أَعنِي فِي هَذَا الحَدِيث - من حَدِيث جَابر تَعْلِيقا، وَلمُسلم فِي طَرِيق أُخْرَى من حَدِيث ابْن عَبَّاس «تقضي حجَّة أَو حجَّة معي» وَسَمَّى الْمَرْأَة: أم سِنَان. قَالَ عبد الْحق: وَأخرج البُخَارِيّ هَذِه الطَّرِيقَة، وَقَالَ: أم(6/73)
سِنَان الْأَنْصَارِيَّة. وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» ، وللإسماعيلي فِي «مُعْجَمه» ، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «جَاءَت أم سليم إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: حج أَبُو طَلْحَة وَابْنه وتركاني. فَقَالَ (لي) : يَا أم سليم، عمْرَة فِي رَمَضَان تجزئك من حجَّة» وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم فِي « (مُسْتَدْركه» ) ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي أكبر «معاجمه» «عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة معي» روياها من حَدِيث مُسَدّد، (و) عَن عبد الْوَارِث بن سعيد، عَن عَامر الْأَحول، عَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ الْحَاكِم: (صَحِيح) عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
قلت: وعامر هَذَا وَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم، وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَرَوَاهَا الطَّبَرَانِيّ، ثمَّ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» من حَدِيث أنس أَيْضا «عمْرَة فِي رَمَضَان حجَّة معي» ثمَّ قَالَ الْعقيلِيّ: الرِّوَايَة فِي هَذَا ثَابِتَة من غير هَذَا الْوَجْه. وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى رِوَايَة ابْن عَبَّاس،(6/74)
وَرَوَاهَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث أبي طليق «أَن امْرَأَته أم طليق قَالَت: يَا نَبِي الله، مَا يعدل الْحَج مَعَك؟ قَالَ: عمْرَة فِي رَمَضَان» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة أم معقل الصحابية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب، وَقَالَ (الْحَاكِم: صَحِيح) عَلَى شَرط مُسلم. قَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: هَذَا الحَدِيث ثَابت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب - يَعْنِي: عمْرَة رَمَضَان - عَن ابْن عَبَّاس، وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة [وَأنس] ، ووهب بن خنبش. وَيُقَال: هرم بن خنبش، قَالَ الْخَطِيب فِي «الموضح» : ونقلته (من) خطه: وهب (هَذَا) هُوَ الصَّوَاب، وهرم وهم. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ إِسْحَاق: مَعْنَى هَذَا الحَدِيث مثل مَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «من قَرَأَ: (قل هُوَ الله أحد (فقد قَرَأَ ثلث الْقُرْآن» .
فَائِدَة: قد ذكرت لَك أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة»(6/75)
لجَماعَة: أم سِنَان، وَأم سليم، وَأم طليق، وَأم معقل، زَاد الْمُحب فِي «أَحْكَامه» : وَأم الْهَيْثَم.
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أَعْمَرَ) عَائِشَة من التَّنْعِيم لَيْلَة المحصّب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) من حَدِيثهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «أرْدف أختك - يَعْنِي: عَائِشَة - (فَأَعْمِرْها) من التَّنْعِيم؛ فَإِذا هَبَطت (بهَا) إِلَى الأَكَمَةِ فمُرْهَا فلتُحْرِم؛ فإنَّهَا عمْرَة متقبَّلَة» . وَرَوَى هَذِه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا.
فَائِدَة: التَّنْعِيم - بِفَتْح التَّاء - من الحِلِّ بَين مَكَّة وَالْمَدينَة عَلَى ثَلَاثَة أميالٍ من مَكَّة، وَقيل: أَرْبَعَة. حَكَاهُ النَّوَوِيّ، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: إِنَّه عَلَى فَرسَخ من مَكَّة. وَقَالَ الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» : عَلَى فرسخين مِنْهَا.(6/76)
وعبارةُ المنذريِّ وَصَاحب «الإِمَام» : هُوَ بَين مَكَّة وسرف عَلَى فرسخين من مَكَّة. وَقيل: عَلَى أَرْبَعَة أَمْيَال، سُمِّي بذلك؛ لِأَن عَن يَمِينه جبلا يُقَال لَهُ: نعيم، وَعَن شِمَاله جبل يُقَال لَهُ: ناعم، والوادي: نعْمَان. قَالَه الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» : وَتَبعهُ النوويُّ، ثمَّ المنذريُّ، ثمَّ صَاحب «الإِمَام» .
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعمر عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فِي سنة وَاحِدَة مرَّتَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ مطولا ومختصرًا «أَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (أَحرمت) بِعُمْرَة عَام حجَّة الْوَدَاع فَحَاضَت فَأمرهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تحرم بِحَجّ فَفعلت، وَصَارَت قارنة ونسكت الْمَنَاسِك كلهَا، فَلَمَّا طهرت طافت وسعت فَقَالَ لَهَا عَلَيْهِ السَّلَام: قد حللت من حجك وعمرتك، فطلبت من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يعمرها عمْرَة أُخْرَى، (فَأذن) لَهَا فَاعْتَمَرَتْ من التَّنْعِيم عُمرة أُخْرَى» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: كَانَت(6/77)
عمرتها فِي ذِي الْحجَّة ثمَّ سَأَلته أَن يعمرها فأعمرها فِي ذِي الْحجَّة، فَكَانَت هَذِه عمرتان فِي شهر. وَفِي «سنَن سعيد بن مَنْصُور» عَن سُفْيَان، عَن صَدَقَة بن يسَار، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد «أنَّ عائشةَ اعتمرتْ فِي سنة ثلاثَ مراتٍ، فَقلت: (تعيب) ذَلِك عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: أَعلَى أم الْمُؤمنِينَ؟ !» نَا سُفْيَان، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب «أَن عَائِشَة اعْتَمَرت من الْجحْفَة وَذي الحليفة فِي سنة» وَهَؤُلَاء ثِقَات مشاهير.
الحَدِيث الرَّابِع
(يُرْوَى) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (إِن) أفضل الْحَج أَن يحرم من دويرة أَهله» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِنَحْوِهِ من حَدِيث جَابر بن نوح، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة، (عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) «فِي قَوْله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله) قَالَ: من تَمام الْحَج أَن تُحْرِم من دُوَيْرة (أهلك) » ثمَّ قَالَ: وَفِي رَفعه نظر. وَذكره الْغَزالِيّ فِي(6/78)
«وسيطه» بِلَفْظ «من تَمام الْحَج وَالْعمْرَة أَن تحرم (بهما) من دُوَيْرة أهلك» . قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ (يُرْوَى) بِإِسْنَاد (ضَعِيف) .
قلت: وَصَحَّ مَوْقُوفا عَلَى عَلِيٍّ كَمَا سَيَأْتِي (فِي) آخر الْبَاب.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقت لأهل الْمَدِينَة ذَا الحليفة، وَلأَهل الشَّام الْجحْفَة، وَلأَهل نجد قرن الْمنَازل، وَلأَهل الْيمن (يَلَمْلَمَ) وَقَالَ: هن لَهُنَّ وَلمن أَتَى عَلَيْهِنَّ من غير أهلهن مِمَّن أَرَادَ الْحَج وَالْعمْرَة، وَمن كَانَ (دون) ذَلِك فَمن حَيْثُ أنشأ حَتَّى أهل مَكَّة يهلون مِنْهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِهَذَا اللَّفْظ وَفِي رِوَايَة لَهما «فَمن كَانَ دُونهن فمِنْ أَهْلِه، وَكَذَلِكَ حَتَّى أهل(6/79)
مَكَّة يُهلون مِنْهَا» وَأَخْرَجَا قَرِيبا مِنْهُ من رِوَايَة ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وَذكر الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الْبَاب قطعا مِنْهُ، فَذكر مِنْهُ مرّة «هن لَهُنَّ وَلمن أَتَى عَلَيْهِنَّ من غَيْرهنَّ» وَمرَّة «فَمن كَانَ يُرِيد الْحَج وَالْعمْرَة» وَمرَّة «فَمن كَانَ دونهن (فمهلُّه) من أَهله» .
فَائِدَة: هَذِه الْمَوَاضِع قد بينتها وَاضِحَة فِي «شرح الْمِنْهَاج» و «تَخْرِيج أَحَادِيث المهذّب» فَرَاجعه مِنْهُمَا. وَوَقع من الرَّافعي أَن بَين الْمَدِينَة وَذي الحليفة ميل (وَهُوَ غَرِيب) وَالْمَعْرُوف أَن بَينهمَا سِتَّة (و) قيل: سَبْعَة. نعم لم ينْفَرد بذلك؛ فقد سبقه إِلَى ذَلِك صَاحب «الشَّامِل» و «الْبَحْر» والبندنيجي فِي «تَعْلِيقه» ، وَقد حَكَى فِي «الشَّرْح الصَّغِير» الْخلاف فِيهِ فَقَالَ: إِنَّه (عَلَى) ميل من الْمَدِينَة، وَقيل: عَلَى سِتَّة أَمْيَال، أَو (سَبْعَة) . وَفِي «الْبَسِيط» (أَنه عَلَى فَرْسَخَيْن مِنْهَا) وَفِي «مَنَاسِك ابْن الْحَاج» : أَنه عَلَى خَمْسَة أَمْيَال أَو سِتَّة مِنْهَا. قَالَ الْمُحب(6/80)
الطَّبَرِيّ: والحِسُّ يَرُدُّ مَا قَالُوهُ؛ بل هِيَ فَرسَخ أَو يزِيد قَلِيلا.
قلت: وَأما من جِهَة مَكَّة فَهِيَ عَلَى عشر مراحِل مِنْهَا. قَالَه ابْن الصّلاح، ثمَّ النَّوَوِيّ، قَالَ الرَّافِعِيّ، (و) النَّوَوِيّ: وَهُوَ أبعد الْمَوَاقِيت من مَكَّة، وَفِي حَدِيث رَافع بن خديج: «كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِذِي الحليفة من تهَامَة» . قَالَ (الرَّازِيّ) : ذُو الحليفة هَذِه لَيست الْمهل الَّتِي (بِقرب) الْمَدِينَة.
(أُخْرَى: قَالَ الرَّافِعِيّ: السماع الْمُعْتَمد عَن المتقنين فِي قرن هُوَ التسكين، ورأيته مَنْقُولًا عَن أبي عُبَيْدَة وَغَيره، وَرَوَاهُ صَاحب «الصِّحَاح» بِالتَّحْرِيكِ، وَادَّعَى أَن أويسًا مَنْسُوب إِلَيْهِ.
قلت: قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : اتّفق الْعلمَاء عَلَى تغليط الْجَوْهَرِي فِي فتح الرَّاء، وَفِي نِسْبَة أويس إِلَيْهِ. قَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَإِنَّمَا هُوَ مَنْسُوب إِلَى «قرن» قَبيلَة من مُرَاد بِلَا خلاف بَين أهل الْمعرفَة، وَقد ثَبت فِي «صَحِيح مُسلم» عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «أويس بن عَامر من مُرَاد (ثمَّ من مُرَاد إِلَى قَرَنٍ)) .(6/81)
الحَدِيث السَّادِس
عَن طَاوس أَنه قَالَ: « [لم يُوَقت] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (ذَات عرق) [وَلم] يكن حِينَئِذٍ أهل الشرق أَي مُسلمين» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مُسلم وَسَعِيد، عَن ابْن جريج [قَالَ] : فراجعت عَطاء، فَقلت (لَهُ) : «إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام - زَعَمُوا - لم يُوَقت ذَات عرق، وَلم يكن أهل مشرق حِينَئِذٍ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ) سمعنَا أَنه وَقت ذَات عرق أَو العقيق لأهل الْمشرق.
قَالَ: (وَلم) يكن عراق وَلَكِن لأهل الْمشرق. وَلم يعزه إِلَى أحد دون النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَلكنه يَأْبَى إِلَّا أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) وَقَّتَهُ» . قَالَ الشَّافِعِي: و (أَنا) مُسلم (بن) خَالِد، عَن ابْن جريج (عَن عَمْرو بن دِينَار) ، عَن ابْن طَاوس، عَن أَبِيه، قَالَ: «لم يُوَقت رَسُول الله(6/82)
(ذَات عرق وَلم يكن أهل (مشرق) حِينَئِذٍ فوقت (النَّاس) ذَات عرق» . قَالَ الشافعيُّ: وَلَا أَحْسبهُ إِلَّا كَمَا قَالَ طَاوس. ذكرهمَا عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» ، وَذكر الأول فِي «سنَنه» ثمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيح (عَن عَطاء) ، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا. وَقد (رَوَاهُ) الْحجَّاج بن أَرْطَاة، - وضَعْفُه ظَاهر - عَن عَطاء وَغَيره فوصله.
فَائِدَة: ذَات عرق عَلَى مرحلَتَيْنِ من مَكَّة. كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ، قَالَ الْحَازِمِي: وَهِي الْحَد بَين نجد وتهامة.
الحَدِيث السَّابِع
فِي «الصَّحِيح» عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «لما فتح هَذَانِ المصران (أَتَوْا عُمَر) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَدَّ لأهل نجد قرنا، وَهُوَ جور عَن طريقنا، وَإِنَّا إِن أردناه شقّ علينا،(6/83)
(قَالَ) : فانظروا حذوها من طريقكم. فحدَّ لَهُم ذَات عرق» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ، والمصران: الْبَصْرَة والكوفة. (وَالْمرَاد بفتحهما لِأَنَّهُمَا إسلاميتان بُنيا فِي خلَافَة عمر) . وَقَوله: «جور عَن طريقنا» أَي: مائل منحرف، وَمِنْه جور فِي الْأُمُور وَغَيرهَا. وَقَوله: «حذوها» أَي: مَا يدانيها وَيقرب مِنْهَا، وأصل الْمُحَاذَاة الْمُقَابلَة.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقت لأهل الْمشرق ذَات عرق» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» بِإِسْنَاد صَحِيح من رِوَايَة أَفْلح بن حميد (الْمدنِي) ، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقت لأهل الْعرَاق ذَات عرق» هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَلَفظ النَّسَائِيّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام وَقت لأهل الْمَدِينَة ذَا الحليفة،(6/84)
وَلأَهل الشَّام ومصر الْجحْفَة، وَلأَهل الْعرَاق ذَات عرق، وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم»
وأفلح هَذَا نقل ابْن عدي وَغَيره، عَن (أَحْمد) بن حَنْبَل أَنه أنكر عَلَيْهِ (رِوَايَته) هَذَا الحَدِيث وانفراده بِهِ، (لكنه) ثِقَة (فَلَا يضر تفرده) . فقد احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَنقل عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه سَأَلَ أَبَاهُ عَنهُ، فَقَالَ: صَالح. وَقَالَ ابْن عدي: (هُوَ عِنْدِي) صَالح، وَهَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ الْمعَافى بن عمرَان، عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : هُوَ حَدِيث صَحِيح غَرِيب.
قلت: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث من (طرق) أُخْرَى غير (طَرِيق) عَائِشَة.
(إِحْدَاهَا) : من طَرِيق جَابر، رَوَاهُ مُسلم وَابْن مَاجَه.(6/85)
ثَانِيهَا: من طَرِيق الْحَارِث (بن) عَمْرو السَّهْمي الصَّحَابِيّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» .
ثَالِثهَا: من طَرِيق أنس، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» .
رَابِعهَا: من طَرِيق ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» .
خَامِسهَا: من طَرِيق (عبد الله) بن عَمْرو، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَفِيه: حجاج بن أَرْطَاة.
سادسها: من طَرِيق عَطاء مُرْسلا، (وَهُوَ) كَمَا سلف، وَعَطَاء من كبار التَّابِعين، وَمذهب الشَّافِعِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاحْتِجَاج بمرسل كبار التَّابِعين إِذا اعتضد بِأحد أُمُور: مِنْهَا أَن يَقُول بِهِ بعض الصَّحَابَة أَو أَكثر الْعلمَاء، وَقد اتّفق عَلَى الْعَمَل بِهِ الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ، وَقد وَصله عَطاء بِضعْف كَمَا تقدم.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقت لأهل الْمشرق العقيق» .(6/86)
هَذَا الحَدِيث (رَوَاهُ) أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، من طَرِيق يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن مُحَمَّد بن عَلّي بن عبد الله بن عَبَّاس، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، كَذَلِك قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن.
قلت: يزِيد هَذَا ضَعَّفُوهُ، وَقد تفرد بِهِ كَمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ، قَالَ ابْن (فُضَيْل) : كَانَ من أَئِمَّة الشِّيعَة الْكِبَار. وَقَالَ أَحْمد: لم يكن بِالْحَافِظِ لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ ابْن معِين: لَا يحْتَج بحَديثه. وَقَالَ مرّة: ضَعِيف الحَدِيث. قيل لَهُ: أَيّمَا أحب إِلَيْك هُوَ أَو عَطاء بن السَّائِب؟ قَالَ: (مَا أقربهما) . وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: (لَيِّن) يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ ضَعِيف. وَقَالَ الْجوزجَاني: سمعتهم يضعفون حَدِيثه. (وَأخرج) لَهُ مُسلم (مَقْرُونا) ، وَالْبُخَارِيّ تَعْلِيقا. وَقَالَ(6/87)
الْعجلِيّ: جَائِز الحَدِيث وَكَانَ بِأخرَة [يُلقَّن] . وَقَالَ جرير: كَانَ أحسن حفظا من عَطاء بن السَّائِب. وَقَالَ عبد الله بن الْمُبَارك: أَكْرِمْ بِهِ. ووقعَ فِي كلامِ ابْن حزم وَابْن الْجَوْزِيّ عَنهُ: «ارْمِ بهِ» بدل «أَكْرِمْ بِهِ» وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا أعلم أحدا ترك حَدِيثه. وَقَالَ ابْن عدي: مَعَ ضعفه يكْتب حَدِيثه. وَاعْترض النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» ، فَقَالَ: يزِيد هَذَا ضَعِيف بِاتِّفَاق الْمُحدثين. قَالَ: وَقَول التِّرْمِذِيّ «هَذَا حَدِيث حسن» لَيْسَ كَمَا قَالَ. وَأَشَارَ إِلَى الْإِنْكَار عَلَى التِّرْمِذِيّ أَيْضا الْمُنْذِرِيّ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» وَلَا إِنْكَار (عَلَيْهِ) فِي ذَلِك؛ فَإِنَّهُ لأجل اخْتِلَاف الْأَئِمَّة فِيهِ حسن حَدِيثه، نعم الشَّأْن فِيمَا أبداه ابْن الْقطَّان فِي كتاب «الْوَهم(6/88)
وَالْإِيهَام» وَهُوَ أَن هَذَا الحَدِيث مَشْكُوك فِي اتِّصَاله؛ لِأَن مُحَمَّد بن عَلّي بن عبد الله بن عَبَّاس إِنَّمَا هُوَ مَعْرُوف بالرواية عَن أَبِيه، عَن جده ابْن عَبَّاس، وَبِذَلِك ذكر فِي كتب الرِّجَال وَفِي حديثين (ذكرهمَا) كَذَلِك، أَحدهمَا فِي كتاب مُسلم، وَالْآخر فِي كتاب الْبَزَّار، ثمَّ قَالَ: وَلَا أعلمهُ يروي عَن جده إِلَّا هَذَا الحَدِيث، وأخاف أَن يكون مُنْقَطِعًا وَلم يذكر البُخَارِيّ. وَلَا ابْن أبي حَاتِم أَنه يروي عَن جده، وَقد ذكر أَنه رَوَى عَن أَبِيه، وَقَالَ مُسلم فِي «كتاب الكنى» : لَا يعلم لَهُ سَماع من جده (و) لَا أَنه لَقِيَهُ. هَذَا (آخر) مَا أبداه، ولقاؤه لَهُ مُمكن؛ فَإِنَّهُ ولد (فِي) سنة سِتِّينَ وجده توفّي سنة سبعين، أَو سنة ثَمَان وَسِتِّينَ، أَو تسع وَسِتِّينَ.
تَنْبِيه: جملَة مَا يَجِيء فِي رُوَاة الحَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد أَرْبَعَة:
أحدهم هَذَا وَأَهْمَلَهُ (الْحَافِظ جمال الدَّين) ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» .
(ثانيهم) : الشَّامي الْمَتْرُوك. وَاقْتصر عَلَيْهِ.(6/89)
(ثالثهم) : يروي عَن الشّعبِيّ، قَالَ أَبُو حَاتِم: لَا تقوم بِهِ حجَّة.
(رابعهم) : (الْوَاقِع) فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة «كَانَ يَمِين رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا وَأَسْتَغْفِر الله» يرويهِ عَن مُحَمَّد بن هِلَال، عَن أَبِيه عَنهُ بِهِ. قَالَ ابْن أبي حَاتِم: ضَعِيف، وَكَانَ هَذَا مَوْضُوعا.
فَائِدَة: العَقِيقُ وادٍ يدفق مَاؤُهُ فِي غَوْرَى تهَامَة، كَذَا ذكره الْأَزْهَرِي فِي «تَهْذِيب اللُّغَة» ، وَفِي بِلَاد الْعَرَب أَرْبَعَة أَعِقَّة، وَهِي أَوديَة عَارِية، وَالْمَذْكُور هُنَا أبعد من ذَات عرق بِقَلِيل، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «نكته عَلَى مُخْتَصره لصحيح مُسلم» : العقيق: وَاد عَلَيْهِ أَمْوَال أهل الْمَدِينَة، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَة أَمْيَال، وَقيل: ميلين، وَقيل: أَرْبَعَة، وَقيل: سِتَّة، وَقيل: سَبْعَة، وهما عقيقان: أَحدهمَا عقيق الْمَدِينَة عَقَّ (عَن) (حَرَّتِها) أَي: قطع، فَهُوَ عقيق (بِمَعْنى) معقوق، وَهُوَ العَقيق الْأَصْغَر (وَفِيه بِئْر(6/90)
رومة) وَالْآخر أكبر من هَذَا، وَفِيه بِئْر عُرْوَة (الَّذِي) ذكره الشُّعَرَاء، وثَمَّ عَقِيق (بقُرْبه) وَهُوَ من بِلَاد مزينة، وَهُوَ الَّذِي أَقْطَعَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بلالَ بن الْحَارِث، ثمَّ أَقْطَعَهُ عُمر (بن الْخطاب) الناسَ، والعَقِيق الَّذِي جَاءَ فِيهِ أَنه مهلّ أهل الْعرَاق هُوَ من ذَات عرق، وكل (مَسِيلٍ) شقَّهُ ماءُ السَّيْل يوسّعه فَهُوَ عقيق، وَالْجمع أَعِقَّة، وعَقَائِق، والمواضع الَّتِي تسمى بالعقيق عشرَة مَوَاضِع أشهرها عقيق الْمَدِينَة، وَأكْثر مَا يذكر فِي الْأَشْعَار، وإيَّاه يعنون.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما مَوْقُوفا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا: «من ترك نسكا فَعَلَيهِ دم» .
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من رَوَاهُ مَرْفُوعا بعد الْبَحْث عَنهُ، وَوَقفه عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي نعرفه عَن ابْن عَبَّاس، كَذَلِك رَوَاهُ إِمَام دَار الْهِجْرَة مَالك فِي «موطئِهِ» عَن أَيُّوب - هُوَ ابْن (أبي تَمِيمَة) - عَن سعيد بن جُبَير، أَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «من نسي من نُسكه شَيْئا أَو تَركه، فليهرق دَمًا» قَالَ (مَالك) : لَا أَدْرِي قَالَ: «ترك» (أم) «نسي» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ:(6/91)
(فَكَأَنَّهُ) قالهما (جَمِيعًا. وَفِي) الْبَيْهَقِيّ أَن «أَو» لَيست للشَّكّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مَالك؛ بل للتقسيم، وَالْمرَاد: يريق دَمًا سَوَاء تَركه عمدا أم سَهوا. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك كَمَا سلف، وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ من جِهَته، ثمَّ قَالَ: وَرَوَى لَيْث بن أبي سليم، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: « (إِذا) جَاوز الْوَقْت فَلم يحرم فَإِن خشِي أَن يرجع إِلَى الْوَقْت فَإِنَّهُ يحرم وأهراق (دَمًا لذَلِك) » .
الحَدِيث الْحَادِي الْعشْر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يحرم إِلَّا من الْمِيقَات» .
هَذَا لَا شكّ فِيهِ وَلَا ريب، وَمن تَأمل الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيرهمَا فِي حجَّته حجَّة الْوَدَاع وجده مطابقًا لذَلِك.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أحرم من الْمَسْجِد الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام بِحجَّة أَو عمْرَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن جَعْفَر بن ربيعَة، عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة، عَن أم حَكِيم السلمِيَّة، عَن أم سَلمَة زوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) قَالَ: «من(6/92)
أَحْرَمَ من بَيت الْمُقَدّس غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه» وَفِي لفظ: «من أَهَلَّ من الْمَسْجِد الْأَقْصَى بِعُمْرَة، أَو (بِحجَّة) » وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَن أَحْمد بن صَالح نَا ابْن أبي فديك، عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن يُحَنَّس، عَن يَحْيَى بن أبي سُفْيَان الأخنسي، عَن جدَّته حُكيمة أم حَكِيم، عَن أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ أَنَّهَا سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «من أَهَلَّ بحجةٍ أَو عُمرةٍ من الْمَسْجِد الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام؛ غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر، أَو وَجَبت لَهُ الْجنَّة» شكّ عبد الله السالف أَيهمَا قَالَ. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيقين، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، إِحْدَاهمَا: عَنهُ قَالَ: حَدثنِي سُلَيْمَان بن سحيم، عَن أم حَكِيم بنت أُميَّة، عَن أم سَلمَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَهَلَّ بِعُمْرَة من بَيت الْمُقَدّس غفر لَهُ» . (ثَانِيهمَا) : عَنهُ، عَن يَحْيَى بن أبي سُفْيَان، عَن أمه أم حَكِيم بنت أُميَّة، عَن أم سَلمَة، (قَالَت) : قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «من أهل بِعُمْرَة من بَيت الْمُقَدّس، كَانَت كَفَّارَة لما قبلهَا من الذُّنُوب. (قَالَت) : فَخَرَجْتُ - (أَي) من بيتِ المقدسِ - بعمرةٍ» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من طرق إِحْدَاهَا: طَرِيق أبي دَاوُد وَلَفظه، إِلَّا أَنه قَالَ: «بحجٍّ» بدل «بحجَّةٍ»(6/93)
وَقَالَ: «وَوَجَبَت لَهُ الْجنَّة» من غير شكّ. ثَانِيهَا كَذَلِك إِلَّا أَنه (قَالَ) : عَن يَحْيَى، عَن أمه، عَن أم سَلمَة - رفعته -: «من (أقدم) (من) بَيت الْمُقَدّس بِحَجّ أَو عمْرَة كَانَ من ذنُوبه (كَيَوْم) وَلدته أمه» وَفِي سَنَد هَذِه: الْوَاقِدِيّ، عَن عبد الله بن يحنس.
ثَالِثهَا: من طَرِيق ابْن مَاجَه الأولَى، لكنه قَالَ: عَن سُلَيْمَان بن سليم، عَن يَحْيَى بن أبي سُفْيَان، عَن أمه أم حَكِيم، عَن أم سَلمَة مَرْفُوعا: «من أهل بِحجَّة أَو عمْرَة من بَيت الْمُقَدّس غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه» وأعل هَذَا الحَدِيث (أَبُو مُحَمَّد) بن حزم فَإِنَّهُ ذكره فِي «محلاه» من طَرِيق أبي دَاوُد وَمن طَرِيق ابْن مَاجَه الأولَى، ثمَّ قَالَ: (هَذَانِ) الأثران لَا يشْتَغل بهما من لَهُ أدنَى علم بِالْحَدِيثِ (لِأَن) يَحْيَى بن [أبي] سُفْيَان الأخنسي، وجدته حكيمة، وَأم حَكِيم بنت أُميَّة لَا يُدْرى من هم من النَّاس، وَلَا يجوز مُخَالفَة مَا صَحَّ بِيَقِين بِمثل(6/94)
هَذِه المجهولات الَّتِي لم تصح قطّ. هَذَا آخر كَلَامه ومقتضاهُ أنَّ أم حَكِيم غير حكيمة وَهِي هِيَ؛ فَإِنَّهَا أم حَكِيم حكيمة بنت أُميَّة بن الْأَخْنَس بن عبيد جدة يَحْيَى بن أبي سُفْيَان، وَقيل: أمه، وَقيل: خَالَته، رَوَى عَنْهَا (يَحْيَى) بن أبي سُفْيَان، (وَسليمَان) بن سحيم ذكرهَا ابْن حبَان فِي «ثقاته» . وَيَحْيَى بن أبي سُفْيَان الأخنسي رَوَى عَنهُ جمَاعَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ من شُيُوخ الْمَدِينَة لَيْسَ بالمشهور. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، رَوَى عَن أم حَكِيم فارتفعت (عَنْهَا) الْجَهَالَة العينية والحالية، لَا جرم أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من طَرِيق سُلَيْمَان بن سُحيم [عَن يَحْيَى بن أبي سُفْيَان الأخنسي] عَن أمه أم حَكِيم، عَن أم سَلمَة سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يَقُول) : «من أهل من الْمَسْجِد الْأَقْصَى بِعُمْرَة غُفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه. (قَالَ) : (فركبَتْ) أمُّ حَكِيم إِلَى بَيت الْمُقَدّس (حَتَّى) (أَهَلَّتْ) بِعُمْرَة» . وأعلَّه عبد(6/95)
الْحق بِمَا ناقشهُ فِيهِ ابْن الْقطَّان فَإِن (عبد الْحق) قَالَ: فِي إِسْنَاده يَحْيَى الأخنسي، قَالَ أَبُو حَاتِم فِيهِ: إِنَّه شيخ من شُيُوخ الْمَدِينَة، لَيْسَ بالمشهور مِمَّن يحْتَج بِهِ. قَالَ ابْن الْقطَّان: كَذَا ذكر عَن أبي حَاتِم، وَلَيْسَ عِنْده فِي كِتَابه لَفْظَة: «مِمَّن يحْتَج بِهِ» . وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَلَعَلَّ الإشبيلي ظَفَر بِهَذِهِ اللَّفْظَة فِي غير «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» ، وأَعَلَّه غَيرهمَا بأمرٍ آخر، ذكر الدارقطني فِي «علله» أَنه اختُلِف فِي إِسْنَاده، وَهُوَ كَمَا قَالَ كَمَا شاهدته، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: اخْتلفت (الروَاة) فِي مَتنه وَإِسْنَاده اخْتِلَافا كثيرا. وَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى «الْمُهَذّب» : إِنَّه حَدِيث غَرِيب. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ. ثمَّ أنكر عَلَى صَاحب «الْمُهَذّب» حَيْثُ رَوَى حَدِيث أم سَلمَة هَذَا بِلَفْظ: «وَوَجَبَت لَهُ الْجنَّة» بِالْوَاو، فَقَالَ: كَذَا وَقع فِي أَكثر كتب الْفِقْه. قَالَ: وَالصَّوَاب «أَو وَجَبت» ب «أَو» بِالشَّكِّ، أَي كَمَا تقدم عَن أبي دَاوُد، قَالَ: وَكَذَا هُوَ ب «أَو» فِي كتب الحَدِيث، وصرحوا بِأَنَّهُ شكّ من عبد الله بن عبد الرَّحْمَن. وَقد (أسلفناه) لَك من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث (عبد الله) الْمَذْكُور(6/96)
(من) غير شكّ، وَقَالَ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» : مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن يحنس حَدِيثه فِي الْإِحْرَام من بَيت الْمُقَدّس (لَا يثبت) . وجزمَ بِهَذَا الذَّهَبِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» ، فِي حرف الْمِيم، لكنه قَالَ: لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَلم أر أَنا هَذَا فِي طَرِيق الحَدِيث، وَالَّذِي فِيهِ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن لَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن فَلْيتَأَمَّل.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
«أَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها لما أَرَادَت أَن تعتمر بعد التحلُّل أمرهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِأَن تخرج إِلَى الْحل فتُحْرِم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيثهَا.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
نقلوا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اعْتَمر من الْجِعِرَّانَة مرَّتَيْنِ: مرّة (عمْرَة) الْقَضَاء، وَمرَّة عمْرَة هوَازن» .
هَذَا (الحَدِيث) غَرِيب (غير مُسْتَقِيم فِي عمْرَة الْقَضَاء مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ(6/97)
عَلَيْهِ السَّلَام خرج من الْمَدِينَة عَلَى قصد الْإِحْرَام، وميقاتها: ذُو الحليفة حجًّا وَعمرَة) وَالْمَعْرُوف فِي الْأَحَادِيث «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اعْتَمر من الْجِعِرَّانَة مرّة وَاحِدَة» . فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أنس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اعْتَمر أَربع عُمَر، كُلهنَّ فِي ذِي الْقعدَة إِلَّا الَّتِي مَعَ حجَّته عمْرَة من الْحُدَيْبِيَة - أَو زمن الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْقعدَة - وَعمرَة (من) الْعَام الْمقبل فِي ذِي الْقعدَة، وَعمرَة من الْجِعِرَّانَة حَيْثُ قسّم غَنَائِم حنين فِي ذِي الْقعدَة، وَعمرَة مَعَ حجَّته» . وَقَالَ البُخَارِيّ: «من الْحُدَيْبِيَة» وَلم يقل «أَو زمن الْحُدَيْبِيَة» وَله فِي لفظ آخر « (عمْرَة) الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْقعدَة حَيْثُ صده الْمُشْركُونَ، وَعمرَة من الْعَام الْمقبل فِي ذِي الْقعدَة حَيْثُ صَالحهمْ ... » (وَذكر) الحَدِيث، وأَتْبَعَه مُسلم بِحَدِيث قَتَادَة «سَأَلت أنسا: كم حج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: حجَّة وَاحِدَة، وَاعْتمر أَربع عمر» ثمَّ أَحَالَ فِي تَمام الحَدِيث عَلَى مَا تقدَّم، وَسَاقه البخاريُّ (بِطُولِهِ) ، وَفِي أَفْرَاد البُخَارِيّ(6/98)
من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب قَالَ: «اعْتَمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي ذِي الْقعدَة قبل أَن يحجّ مرَّتَيْنِ» . وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» و «ابْن مَاجَه» و «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ «اعْتَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَربع عُمَر: عمْرَة (الْحُدَيْبِيَة) ، وَالثَّانيَِة: حِين تواطئوا عَلَى عمْرَة قَابل، وَالثَّالِثَة: من الْجِعِرَّانَة، وَالرَّابِعَة: الَّتِي قرن مَعَ حجَّته» وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، (وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: صَحِيح) الْإِسْنَاد. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الاقتراح» : إِنَّه عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَذكر التِّرْمِذِيّ أَنه رُوِيَ مُرْسلا. وَرَوَى الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ اعتماره عَلَيْهِ السَّلَام من الْجِعِرَّانَة من رِوَايَة مُحَرِّش الكعبي الْخُزَاعِيّ (الصَّحَابِيّ) ، ثمَّ حسنه، قَالَ: (وَلَا يعرف لَهُ) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَيره. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَإِنَّمَا(6/99)
لم يُصَحِّحهُ؛ لِأَن فِيهِ مُزَاحم بن أبي مُزَاحم وَهُوَ لَا يعرف لَهُ حَال.
قلت: بلَى ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَقد أسلفنا فِي بَاب (صَلَاة) الْمُسَافِر عَن (أبي حَاتِم) بن حبَان أَن عمْرَة الْجِعِرَّانَة كَانَت فِي شَوَّال وَأَن عمْرَة الْقَضَاء فِي رَمَضَان، وَهُوَ غَرِيب مِنْهُ وَالْمَعْرُوف أَنَّهُمَا كَانَتَا فِي ذِي الْقعدَة. وَذكر ابْن سعد بِسَنَدِهِ إِلَى (عتبَة) مولَى ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «لما قدم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الطَّائِف نزل الْجِعِرَّانَة فقسم بهَا الْغَنَائِم، ثمَّ اعْتَمر مِنْهَا، وَذَلِكَ لليلتين بَقِيَتَا من شَوَّال» وكأَنَّ ابْن حبَان تَبِع هَذَا، وَالْمَعْرُوف عِنْد أهل السِّير «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام انْتَهَى إِلَى الْجِعِرَّانَة لَيْلَة الْخَمِيس لخمس لَيَال خلون من ذِي الْقعدَة، فَأَقَامَ (بهَا) (ثَلَاث) عشرَة لَيْلَة، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَاف إِلَى الْمَدِينَة خرج لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لِاثْنَتَيْ عشرَة (بقيت) من ذِي الْقعدَة لَيْلًا، فَأحْرم بِعُمْرَة وَدخل مَكَّة» وَمن الْغَرِيب رِوَايَة نَافِع «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يعْتَمر من الْجِعِرَّانَة» وَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَهُوَ وهم، وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث عَائِشَة الْإِنْكَار عَلَى ابْن عمر فِي (كَونه) عَلَيْهِ السَّلَام اعْتَمر فِي رَجَب، وَأجَاب ابْن حبَان(6/100)
فِي «صَحِيحه» بِأَن (الْحَبْر الْفَاضِل قد ينسَى بعض مَا يسمع من السّنَن أَو يشهدها) . وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» عَنْهَا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اعْتَمر عمرتين: عمْرَة فِي ذِي الْقعدَة، وَعمرَة فِي شَوَّال» .
فَائِدَة: الجِعْرانة بِكَسْر الْجِيم وَإِسْكَان الْعين، وَتَخْفِيف الرَّاء، وَكَذَا الْحُدَيْبِيَة بتَخْفِيف الْبَاء، هَذَا قَول الشَّافِعِي فيهمَا، وَبِه قَالَ أهل اللُّغَة وَالْأَدب وَبَعض الْمُحدثين، وَقَالَ ابْن وهب - صَاحب مَالك -: هما بِالتَّشْدِيدِ. وَهُوَ قَول أَكثر الْمُحدثين، وَالصَّحِيح تخفيفهما، قَالَ صَاحب «الْمطَالع» : الْجِعِرَّانَة مَا بَين الطَّائِف وَمَكَّة وَهِي إِلَى مَكَّة أقرب. قَالَ: وَالْحُدَيْبِيَة عَلَى نَحْو مرحلة من مَكَّة. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الْجِعِرَّانَة وَالْحُدَيْبِيَة كِلَاهُمَا عَلَى (سِتّ) فراسخ من مَكَّة، وَالْحُدَيْبِيَة قَرْيَة لَيست بالكبيرة، سميت ببئر هُنَاكَ عِنْد مَسْجِد الشَّجَرَة، وَقد جَاءَ فِي (الحَدِيث) هِيَ بِئْر، قَالَ مَالك: هِيَ من الْحرم، وَقيل: بَعْضهَا من الحِلِّ.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أَن عَائِشَة لما أَرَادَت أَن تعتمر أَمر أخاها عبد الرَّحْمَن أَن يعمرها من التَّنْعِيم فأعْمَرَها مِنْهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ وَقد سلف.(6/101)
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أحرم عَام الْحُدَيْبِيَة وَأَرَادَ الدُّخُول مِنْهَا للْعُمْرَة، فَصَدَّه الْمُشْركُونَ عَنْهَا» .
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خرج مُعْتَمِرًا، فحال كفارُ قُرَيْش بَينه وَبَين الْبَيْت، فَنحر هَدْيه وحَلَق رَأسه بِالْحُدَيْبِية» وَوَقع فِي «بسيط الْغَزالِيّ» (وَغَيره) : «أَنه هَمَّ بِالْإِحْرَامِ بالعُمرة من الْحُدَيْبِيَة فصد» وَهُوَ غلط؛ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام وردهَا بعد أَن أحرم من (ذِي) الحليفة، رَوَى ذَلِك البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» فِي «كتاب الْمَغَازِي» عَن الْمسور ومروان قَالَا: «خرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام الْحُدَيْبِيَة فِي بضع عشرَة (مائَة) من أَصْحَابه فَلَمَّا كَانَ بِذِي الحليفة قلد الْهَدْي وأشعر وَأحرم بِالْعُمْرَةِ بهَا» وخرجه فِي الْحَج أَيْضا من «صَحِيحه» (هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب) .
وَذكر فِيهِ من الْآثَار: «أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (فسر) الْإِتْمَام فِي قَوْله(6/102)
تَعَالَى: (وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله) أَن يحرم بهما من دويرة أَهله» .
وَهَذَا أثر صَحِيح، رَوَاهُ الْحَاكِم فِي كتاب التَّفْسِير من «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عَمْرو بن مرّة، عَن عبد الله بن سَلمَة «سُئِلَ عَلّي عَن قَوْله تَعَالَى: (وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله) قَالَ: يحرم (بهما) من دُوَيْرةِ أَهْلِهِ» ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَذكر فِيهِ أَيْضا عَن عمر مثله (وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي فِيمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ عَنهُ فِي «الْمعرفَة» ) .(6/103)
بَاب (بَيَان) وُجُوه الْإِحْرَام وآدابه وسننه
ذكر فِيهِ أَحَادِيث وأثرًا وَاحِدًا، أما الْأَحَادِيث (فتسعة) عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا قَالَت: « (خرجنَا) مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام حجَّة الْوَدَاع، فمِنَّا منَ أهلَّ بِالْحَجِّ، (وَمنا من أهل بِالْعُمْرَةِ) وَمنا من أهل بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك بِزِيَادَة «وأَهَلَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْحَجِّ (فَأَما) من أهل بِعُمْرَة (فحلّ) ، وَأما من أهل بِالْحَجِّ أَو جمع الْحَج وَالْعمْرَة فَلم يحلّوا حَتَّى كَانَ يَوْم النَّحْر» .(6/104)
الحَدِيث الثَّانِي
عَن (أنس) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يصْرخ بهما صراخًا: لبيْك (بِحجَّة) وَعمرَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ) بِمَعْنَاهُ من حَدِيث بكر بن عبد الله عَن أنس قَالَ: «سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا. قَالَ بكر: فَحدثت بذلك ابْن عمر فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحده. فَلَقِيت أنسا فَحَدَّثته بقول ابْن عمر، فَقَالَ أنس: مَا تعدوننا إِلَّا صبيانًا، سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لبيْك عمْرَة وحجًّا» وَهَذَا لفظ مُسلم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَسَأَلت ابْن عمر فَقَالَ: أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ» . وَقَالَ البُخَارِيّ عَن أنس: «كنت رِدْفَ أبي طَلْحَة (وَإِنَّهُم) يصرخون بهما جَمِيعًا الْحَج وَالْعمْرَة» خرَّجَهُ فِي «الْجِهَاد» فِي «الارْتداف فِي الْغَزْو» (عَن أبي قلَابَة) عَنهُ، فِي بَاب «الْخُرُوج بعد الظّهْر» من «كتاب الْجِهَاد» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى الظّهْر بِالْمَدِينَةِ أَرْبعا، وَالْعصر بِذِي(6/105)
الحليفة رَكْعَتَيْنِ، وسمعتهم يصرخون بهما جَمِيعًا» وخرَّجَهُ فِي (الْحَج) أَيْضا وَقَالَ: «بهما» . وَلمُسلم عَن يَحْيَى بن أبي إِسْحَاق وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب وَحميد الطَّوِيل، وَهُوَ حميد بن عبد الرَّحْمَن أَنهم سمعُوا أنسا قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أهل بهما: لبيْك عمْرَة وحجًّا» . وَرَوَاهُ حميد بن هِلَال أَيْضا، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق، وَرَوَاهُ يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن أنس قَالَ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لبيْك بِحَجّ وَعمرَة مَعًا» رَوَاهُ أَبُو يُوسُف القَاضِي، وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو أَسمَاء عَن أنس قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُلبِّي بهما» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. (وَرَوَاهُ أَيْضا الْحسن وَسليمَان التَّيْمِيّ عَن أنس مثله، رَوَاهُمَا النَّسَائِيّ) أَيْضا. (وَرَوَاهُ) وَكِيع من حَدِيث مُصعب بن (سليم) وثابت (عَن أنس) مثله، وَرَوَاهُ أَيْضا قَتَادَة، وَزيد (بن أسلم) ، وَأَبُو قدامَة عَاصِم عَنهُ، وَوَافَقَ أنسا من الصَّحَابَة فِي كَونه عَلَيْهِ السَّلَام قرن: عَائِشَة، وَجَابِر، وَابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة عَنْهُم، وَعمر، وَعلي، وَعُثْمَان وَعمْرَان بن (الْحصين) والبراء(6/106)
بن عَازِب، وَحَفْصَة، وَأَبُو قَتَادَة، وَابْن أبي أَوْفَى، والهرماس بن زِيَاد الْبَاهِلِيّ، وَأم سَلمَة، وَسعد بن (أبي) وَقاص، قَالَ ابْن حزم: ذكر اثْنَا عشر من الصَّحَابَة بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ قَارنا» وهم: عمر، وَابْنه، وَعلي، وَابْن عَبَّاس، وَجَابِر، وَعمْرَان، والبراء، وَأنس، وَعَائِشَة، وَحَفْصَة، وَأَبُو قَتَادَة، وَابْن أبي أَوْفَى، وَرُوِيَ أَيْضا عَن سراقَة و (أبي) طَلْحَة، وَأم سَلمَة، والهرماس.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا سقت الْهَدْي، ولجعلتها عمْرَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (من) حَدِيث جَابر بن عبد الله مَرْفُوعا بِلَفْظ: «لَو اسْتقْبلت من أمرى مَا اسْتَدْبَرت لم أسق الْهَدْي. فحلوا» وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ فِي «كتاب الشّركَة» : «لَو أَنِّي اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا أهديت، وَلَوْلَا أَن معي الْهَدْي لأحللت» . وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل بِلَفْظ «لَو أَنِّي اسْتقْبلت(6/107)
من أَمْرِي (مَا اسْتَدْبَرت لم أسق الْهَدْي وجعلتها عمْرَة) » .
الحَدِيث الرَّابِع
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أفرد الْحَج» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرجح الشَّافِعِي رِوَايَته عَلَى رِوَايَة من رَوَى الْقرَان والتمتع؛ فَإِن جَابِرا أقدم صُحْبَة وَأَشد عناية بضبط الْمَنَاسِك وأفعال النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من لدن خُرُوجه من الْمَدِينَة إِلَى أَن يحلل.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أَخْرجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» (من) حَدِيثه (بِلَفْظ) : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أهل هُوَ وَأَصْحَابه بِالْحَجِّ» . وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل (بِلَفْظ) : «خرجنَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لسنا ننوي إِلَّا الْحَج» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن جَابر «قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُهِلِّين (بِحَجّ) مُفْرد» . وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا عَنهُ قَالَ: «أَهْلَلْنَا أَصْحَاب مُحَمَّد (بِالْحَجِّ خَالِصا وَحده (فقدمنا) صَبِيحَة رَابِعَة من ذِي(6/108)
الْحجَّة، فَأمرنَا أَن (نحل) » وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد، وَابْن مَاجَه «أَهْلَلْنَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْحَجِّ خَالِصا لَا نخلطه بِغَيْرِهِ» . وَحَدِيث جَابر هَذَا هُوَ ظَاهر حَدِيثه كَمَا ستعلمه، وَرَأَيْت أَن أذكرهُ هُنَا بِطُولِهِ؛ فَإِن الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر قطعا مِنْهُ فِي مَوَاضِع، وَهُوَ حَدِيث كثير الْفَوَائِد مُشْتَمل عَلَى حجَّةِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من أَولهَا إِلَى آخرهَا أَو غالبها. وَقد أخرجه مُسلم من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَلّي بن الْحُسَيْن، عَن أَبِيه، قَالَ: «دَخَلنَا عَلَى جَابر بن عبد الله فَسَأَلَ عَن الْقَوْم حَتَّى انْتَهَى إليَّ فَقلت: أَنا مُحَمَّد بن عَلّي بن حُسَيْن، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنزع زِرِّي الْأَعْلَى، ثمَّ نزع زِرِّي الْأَسْفَل، ثمَّ وضع كفَّه بَين ثديي، وَأَنا يَوْمئِذٍ غُلَام شَاب، فَقَالَ: مرْحَبًا بك يَا ابْن أخي، سل عَمَّا شِئْت. فَسَأَلته - وَهُوَ أَعْمَى - وَقد (حضر) وَقت الصَّلَاة، فَقَامَ فِي نساجة ملتحفًا بهَا كلما وَضعهَا عَلَى مَنْكِبه رَجَعَ طرفاها إِلَيْهِ مِن صِغَرِها، وَرِدَاؤُهُ إِلَى جنبه عَلَى المشجب فصلَّى بِنَا، فَقلت: أَخْبرنِي عَن حجَّة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعقدَ بِيَدِهِ تِسعًا فَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مكث تسع سِنِين لم يحجّ، ثمَّ أذن فِي النَّاس الْعَاشِرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَاج، فَقدم الْمَدِينَة بشر كثير، كلهم يلْتَمس أَن يأتم برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَيعْمل مثل عمله، فخرجنا مَعَه حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الحليفة، فَولدت أَسمَاء بنت عُمَيْس مُحَمَّد بن أبي بكر، فَأرْسلت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -:(6/109)
كَيفَ أصنع؟ قَالَ: اغْتَسِلِي (واستثفري) بِثَوْب وأَحْرِمي. فَصَلى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْمَسْجِد وَركب الْقَصْوَاء، حَتَّى إِذا اسْتَوَت بِهِ نَاقَته عَلَى الْبَيْدَاء نظرت إِلَى مد بَصرِي بَين يَدَيْهِ من رَاكب وماش، وَعَن يَمِينه مثل ذَلِك، وَعَن يسَاره مثل ذَلِك، وَمن خَلفه مثل ذَلِك، وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَين أظهرنَا وَعَلِيهِ ينزل الْقُرْآن وَهُوَ يعرف (تَأْوِيله) ، وَمَا عمل من شَيْء عَملنَا بِهِ، فَأهل بِالتَّوْحِيدِ: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك (لبيْك) لَا شريك لَك لبيْك، إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك لَا شريك لَك. وَأهل النَّاس بِهَذَا الَّذِي يهلون بِهِ، فَلم يرد عَلَيْهِم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْئا مِنْهُ، وَلزِمَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تلبيته، قَالَ جَابر: لسنا نَنْوِي إِلَّا الْحَج، لسنا نَعْرِف الْعمرَة، حَتَّى إِذا أَتَيْنَا الْبَيْت مَعَه اسْتَلم الرُّكْن فَرمَلَ ثَلَاثًا وَمَشى أَرْبعا، ثمَّ (نفذ) إِلَى مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام (فَقَرَأَ) : (وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مُصَلَّى) فَجعل الْمقَام بَينه وَبَين الْبَيْت، فَكَانَ أبي يَقُول: وَلَا أعلم (ذكره) إِلَّا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ: (قل هُوَ الله أحد (و (قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ (ثمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْن فاستلمه، ثمَّ خرج من الْبَاب إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دنا من الصَّفَا قَرَأَ (إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله) أبدأ(6/110)
بِمَا بَدَأَ الله بِهِ. فَبَدَأَ بالصفا فرقى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْت، فَاسْتقْبل الْقبْلَة فَوحد الله وَكبره وَقَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ عَلَى كل شَيْء قدير، لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده أنْجز وعده وَنصر عَبده، وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده. ثمَّ دَعَا بَين ذَلِك قَالَ (مثل) هَذَا ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ نزل إِلَى الْمَرْوَة حَتَّى إِذا (انصبت) قدماه فِي بطن الْوَادي (رمل) حَتَّى إِذا صعدنا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَة فَفعل عَلَى الْمَرْوَة كَمَا فعل عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذا كَانَ آخر (طواف) عَلَى الْمَرْوَة قَالَ: لَو (أَنِّي) اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لم أسق الْهَدْي وجعلتها عُمرة؛ فَمن كَانَ مِنْكُم لَيْسَ مَعَه هدي فليحل وليجعلها عمْرَة. فَقَامَ سراقَة بن جعْشم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، ألعامنا هَذَا أم لأبد؟ فشبك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَصَابِعه وَاحِدَة فِي الْأُخْرَى وَقَالَ: دخلت الْعمرَة فِي الْحَج مرَّتَيْنِ (لَا) بل لأبد (أَبَد) ، وَقدم عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من الْيمن ببدن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَوجدَ فَاطِمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مِمَّن حلَّ ولبست ثيابًا صبيغًا(6/111)
واكتحلت، فَأنْكر ذَلِك عَلَيْهَا فَقَالَت: أبي أَمرنِي بِهَذَا. (قَالَ) : وَكَانَ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وعنها يَقُول بالعراق: فَذَهَبت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - محرشًا عَلَى فَاطِمَة للَّذي صنعت مستفتيًا لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيمَا ذكرت عَنهُ، فَأَخْبَرته أَنِّي أنْكرت ذَلِك عَلَيْهَا، فَقَالَ: صدقت. (مَاذَا) قلت (حِين) فرضت الْحَج؟ قَالَ: قلت: اللَّهُمَّ إِنِّي أهل بِمَا أهل بِهِ (رَسُولك) (. قَالَ: فَإِن معي الْهَدْي. قَالَ: (فَلَا) تحل. (قَالَ) : فَكَانَ جمَاعَة الْهَدْي الَّذِي قدم بِهِ عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من الْيمن، وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مائَة. قَالَ: فَحل النَّاس كلهم وَقصرُوا إِلَّا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمن كَانَ مَعَه هدي، فَلَمَّا كَانَ يَوْم التَّرويَة توجهوا إِلَى منى (فأهلوا) بِالْحَجِّ، وَركب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَصَلى بهَا الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء وَالْفَجْر، ثمَّ مكث قَلِيلا حَتَّى طلعت الشَّمْس، وَأمر بقبة من شعر فَضربت لَهُ بنمرة فَسَار رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا تشك قُرَيْش [إِلَّا] أَنه وَاقِف عِنْد الْمشعر الْحَرَام بِالْمُزْدَلِفَةِ كَمَا كَانَت قُرَيْش تصنع فِي الْجَاهِلِيَّة، فَأجَاز رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى أَتَى عَرَفَة فَوجدَ الْقبَّة قد ضربت لَهُ بنمرة،(6/112)
فَنزل بهَا حَتَّى إِذا زَالَت الشَّمْس أَمر بالقصواء فرحلت لَهُ، فَأَتَى بطن الْوَادي فَخَطب النَّاس، وَقَالَ: إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ حرَام عَلَيْكُم كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا فِي شهركم هَذَا فِي بلدكم هَذَا، أَلا كل شَيْء من أَمر الْجَاهِلِيَّة تَحت قدمي مَوْضُوع، وَدِمَاء الْجَاهِلِيَّة (مَوْضُوعَة) ، وَإِن أول دم (أَضَعهُ) من دمائنا: دم ابْن ربيعَة بن الْحَارِث كَانَ مسترضعًا فِي بني سعد فَقتلته هُذَيْل، وَربا الْجَاهِلِيَّة مَوْضُوعَة، وَأول رَبًّا أَضَع [ربانا] رَبًّا الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوع كُله، فَاتَّقُوا الله فِي النِّسَاء فَإِنَّكُم أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَان الله - سُبْحَانَهُ - واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله، وَلكم عَلَيْهِنَّ أَن لَا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه؛ فَإِن فعلن ذَلِك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عَلَيْكُم رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ، وَقد تركت فِيكُم (مَا لن) تضلوا (بعده) إِن (اعْتَصَمْتُمْ) بِهِ: كتاب الله، وَأَنْتُم تسْأَلُون عني فَمَا أَنْتُم قَائِلُونَ؟ ! قَالُوا: (نشْهد) أَنَّك قد بلغت وَأديت وَنَصَحْت. (فَقَالَ) بإصبعه السبابَة يرفعها إِلَى السَّمَاء وينكتها إِلَى النَّاس اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ(6/113)
(اشْهَدْ) - ثَلَاث مَرَّات - ثمَّ أذن (بِلَال فَأَقَامَ) فَصَلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ فَصَلى الْعَصْر وَلم يصل بَينهمَا شَيْئا، ثمَّ ركب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى (أَتَى) الْموقف فَجعل (بطن) نَاقَته الْقَصْوَاء إِلَى الصخرات، وَجعل حَبل المشاة بَين يَدَيْهِ واستقبل الْقبْلَة فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى غربت الشَّمْس وَذَهَبت الصُّفْرَة قَلِيلا حَتَّى غَابَ القرص وَأَرْدَفَ أُسَامَة خَلفه، وَدفع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد شنق (للقصواء) الزِّمَام حَتَّى إِن رَأسهَا ليصيب مورك رَحْله وَيَقُول بِيَدِهِ [الْيُمْنَى] : أَيهَا النَّاس، السكينَة السكينَة. كلما أَتَى حبلاً من الحبال أَرْخَى لَهَا قَلِيلا حَتَّى تصعد، حَتَّى أَتَى الْمزْدَلِفَة فَصَلى بهَا الْمغرب وَالْعشَاء بِأَذَان وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ وَلم يسبح بَينهمَا شَيْئا، ثمَّ اضْطجع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى طلع الْفجْر فَصَلى الْفجْر (حِين) تبين [لَهُ] الصُّبْح بِأَذَان وَإِقَامَة ثمَّ ركب الْقَصْوَاء حَتَّى أَتَى الْمشعر الْحَرَام (اسْتقْبل الْقبْلَة) فَدَعَاهُ وكبّره وهلّله ووحّده، فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى (أَسْفر) جدًّا، فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس وَأَرْدَفَ الْفضل(6/114)
بن الْعَبَّاس وَكَانَ رجلا حسن الشّعْر أَبيض وسيمًا، فَلَمَّا (دفع) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مرّت ظُعُن يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفضل ينظر إلَيْهِنَّ (فَوضع) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَده عَلَى (وَجه) الْفضل، فحول الْفضل وَجهه إِلَى الشق الآخر ينظر، فحول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَده من الشق الآخر عَلَى وَجه الْفضل (فصرف) وَجهه من الشق الآخر (ينظر) حَتَّى أَتَى بطن محسر فحرك قَلِيلا، ثمَّ سلك الطَّرِيق الْوُسْطَى الَّتِي تخرج عَلَى الْجَمْرَة الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَة الَّتِي عِنْد الشَّجَرَة (فَرَمَاهَا) بِسبع حَصَيَات يكبر مَعَ كل حَصَاة مِنْهَا - حَصى الْخذف - رَمَى من بطن الْوَادي، ثمَّ انْصَرف إِلَى المنحر فَنحر ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثمَّ أعْطى عليًّا فَنحر مَا غبر وأشركه فِي هَدْيه، ثمَّ أَمر من كل بَدَنَة ببضعة فَجعلت فِي قدر فطبخت فأكلا من لَحمهَا وشربا من مرقها، ثمَّ ركب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْت فَصَلى بِمَكَّة الظّهْر (فَأَتَى) بني عبد الْمطلب يسقون عَلَى زَمْزَم، فَقَالَ: انزعوا بني عبد الْمطلب؛ فلولا أَن يغلبكم النَّاس عَلَى سِقَايَتكُمْ لنزعت مَعكُمْ، فناولوه دلوًا فَشرب مِنْهُ» هَذَا كُله لفظ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِحُرُوفِهِ.(6/115)
الحَدِيث الْخَامِس
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أفرد الْحَج» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» عَنهُ قَالَ: «أهلّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْحَجِّ؛ فَقدم لأَرْبَع مضين من ذِي الْحجَّة (فَصَلى) الصُّبْح، وَقَالَ لما صَلَّى الصُّبْح: من شَاءَ أَن يَجْعَلهَا عمْرَة فليجعلها عمْرَة» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى الظّهْر بِذِي الحليفة، ثمَّ أَتَى (ببدن) فأشعر صفحة سنامها الْأَيْمن وسَلَتَ (الدَّم) وقلدها نَعْلَيْنِ، ثمَّ ركب رَاحِلَته فَلَمَّا اسْتَوَت [بِهِ] عَلَى (الْبَيْدَاء) أهلّ بِالْحَجِّ» .
الحَدِيث السَّادِس
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أفرد الْحَج» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْهَا(6/116)
قَالَت: «أهلّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْحَجِّ» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أفرد الْحَج» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أحرم) بِالْحَجِّ مُفردا» وَفِي رِوَايَة لَهما، (قَالَت) : «خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَلَا) نذْكر إِلَّا الْحَج، فَلَمَّا جِئْنَا سرف طمثت) وذكَرَتْ تمامَ الحَدِيث إِلَى قَوْلهَا: « (ثمَّ) راحوا مهلّين بِالْحَجِّ - يَعْنِي: إِلَى منى» وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث مَالك، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أفرد الْحَج» ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن هَذَا الْخَبَر تفرد بِهِ مَالك عَن عبد الرَّحْمَن. ثمَّ أخرجه من حَدِيث الثَّوْريّ، عَن عبد الرَّحْمَن ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن هَذِه اللَّفْظَة تفرد بهَا الْقَاسِم. ثمَّ أخرجه من حَدِيث مَالك عَن أبي الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن نَوْفَل، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة بِهِ.
(الحَدِيث السَّابِع)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأما قَوْله: «لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت ... » الْخَبَر (فَإِنَّمَا) ذكره تطييبًّا لقلوب أَصْحَابه واعتذارًا لَهُم؛ وَتَمام الْخَبَر(6/117)
مَا رُوِيَ عَن جَابر: «أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحرم إحرامًا (مُبْهما) ، وَكَانَ ينْتَظر الْوَحْي فِي اخْتِيَار الْوُجُوه الثَّلَاثَة، فَنزل الْوَحْي بِأَن من سَاق الْهَدْي فليجعله حَجًّا، وَمن لم يَسُقْ فليجعله عمْرَة، وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد سَاق الْهَدْي دون (غَيره) (فَأَمرهمْ) أَن (يجْعَلُوا) إحرامهم عمْرَة ويتمتعوا، وَجعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِحْرَامه حجًّا فشق عَلَيْهِم ذَلِك؛ لأَنهم (كَانُوا) يَعْتَقِدُونَ من قبل أَن الْعمرَة فِي أشهر الْحَج من أكبر الْكَبَائِر (وَأظْهر) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الرَّغْبَة فِي موافقتهم، وَقَالَ: لَو لم أسق الْهَدْي» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب من طَرِيق جَابر وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان، أَنا ابْن طَاوس وَإِبْرَاهِيم بن ميسرَة وَهِشَام بن حُجَيْر، سمعُوا طاوسًا يَقُول: «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الْمَدِينَة لَا يُسَمِّي حجًّا وَلَا عمْرَة ينْتَظر الْقَضَاء - يَعْنِي نزُول جِبْرِيل (بِمَا) يصرف إِحْرَامه الْمُطلق إِلَيْهِ - فَنزل عَلَيْهِ الْقَضَاء بَين الصَّفَا والمروة، فَأمر أَصْحَابه من كَانَ مِنْهُم أهلّ بِالْحَجِّ وَلم يكن مَعَه هدي أَن يَجْعَلهَا عمْرَة، وَقَالَ: لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا سقت الْهَدْي وَلَكِنِّي لبدت رَأْسِي وسقت هَدْيِي فَلَيْسَ (لي) مَحل إلاّ محلّ هَدْيِي. فَقَامَ إِلَيْهِ سراقَة بن مَالك فَقَالَ: يَا رَسُول(6/118)
الله، اقْضِ لنا قَضَاء قوم كَأَنَّمَا ولدُوا الْيَوْم، أعمرتنا هَذِه لِعَامِنَا هَذَا أم لِلْأَبَد؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: بل لِلْأَبَد (دخلت) الْعمرَة فِي الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. قَالَ: فَدخل عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من الْيمن فَسَأَلَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَا أهللتَ؟ فَقَالَ (أَحدهمَا) : لبّيك إهلال النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَقَالَ الآخر: لبيْك حجَّة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وَفِي البُخَارِيّ من حَدِيث جَابر: «أهلّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ (أحد) مِنْهُم هدي غير النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
الحَدِيث (الثَّامِن)
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أحرم مُتَمَتِّعا» .
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: «تمتّع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأهْدَى فساق الْهَدْي من ذِي الحليفة، وَبَدَأَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَأهل) بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أهل بِالْحَجِّ ... » فَذكر الحَدِيث، وَأخرجه مُسلم من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، قَالَ: «تمتّع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وتمتعنا مَعَه» وحسَّنَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عَبَّاس: «تمتّع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان، وَأول من نهَى عَنْهَا مُعَاوِيَة» .(6/119)
الحَدِيث (التَّاسِع)
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعَائِشَة: طوافك بِالْبَيْتِ وسعيك بَين الصَّفَا والمروة يَكْفِيك لحجك وعمرتك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» عَنْهَا بِلَفْظ « (يسعك) طوافك لحجك وعمرتك» وَفِي رِوَايَة لَهُ «يُجزئ عَنْك طوافك بالصفا والمروة عَن حجك وعمرتك» .
الحَدِيث (الْعَاشِر)
«أَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَحرمت بِالْعُمْرَةِ لما خرجت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام حجَّة الْوَدَاع فَحَاضَت وَلم يُمكنهَا أَن تَطوف للْعُمْرَة وخافت فَوَات الْحَج لَو أخرت إِلَى أَن تطهر، فَدخل عَلَيْهَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ لَهَا: مَا بالك، أنفست؟ قَالَت: بلَى. قَالَ: ذَلِك شَيْء كتبه الله عَلَى بَنَات آدم، أهلّي بِالْحَجِّ واصنعي مَا يصنع الْحَاج، غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ وطوافك يَكْفِيك لحجك وعمرتك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم بِنَحْوِهِ من حَدِيثهَا، وَكَذَا(6/120)
البُخَارِيّ (و) رَوَاهُ أَيْضا (مُسلم) بِنَحْوِهِ من حَدِيث جَابر، وَكَذَا البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد من حَدِيث جَابر: «غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ وَلَا تصلي» .
الحَدِيث (الْحَادِي عشر)
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «أهْدَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بقرة وَنحن قارنات» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ عَنْهَا، قَالَت: «خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة لَا نرَى إِلَّا أَنه الْحَج، حَتَّى إِذا دنونا من مَكَّة أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من لم يكن مَعَه هدي إِذا طَاف بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة أَن يحل، قَالَت: فَدُخِلَ علينا يَوْم النَّحْر بِلَحْم بقرٍ، فَقلت: مَا هَذَا؟ فَقيل: ذبح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن أَزوَاجه» وَفِي حَدِيث آخر عَنْهَا «فأتينا بِلَحْم بقرٍ فَقلت: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أهْدَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن(6/121)
نِسَائِهِ الْبَقر» أَخْرجَاهُ أَيْضا، (وَأخرج) مُسلم من حَدِيث أبي الزبير، عَن جَابر، قَالَ: «ذبح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن عَائِشَة بقرة يَوْم النَّحْر» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: «نحر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن نِسَائِهِ» وَفِي رِوَايَة عَن عَائِشَة: «بقرة فِي حجَّته» ترْجم الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَلَى هذَيْن الْحَدِيثين بَاب الْقَارِن يهريق دَمًا، ثمَّ قَالَ: وَحَدِيث أبي الزبير عَن جَابر قَاطع بِكَوْن عَائِشَة قارنة. ثمَّ قَالَ: بَاب الْعمرَة قبل الْحَج. وسَاق فِيهِ: «أَن عَائِشَة أهلّت من التَّنْعِيم بِعُمْرَة مَكَان عمرتها فَقَضَى الله عمرتها» . وَلم يكن فِي ذَلِك هدي وَلَا صِيَام وَلَا صَدَقَة، قَالَ: وَقَوله: «وَقَضَى (الله) عمرتها» من قَول عُرْوَة. (قَالَ) : وَإِنَّمَا لم يكن فِي ذَلِك هدي؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ قد أهْدَى عَنْهَا وَعَمن اعْتَمر من أَزوَاجه بقرة بَينهُنَّ. وَهُوَ كَمَا قَالَ فَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» و «صَحِيح الْحَاكِم» عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «ذبح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَمَّن اعْتَمر من نِسَائِهِ فِي حجَّة الْوَدَاع بقرة بَينهُنَّ» قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط(6/122)
الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ الْوَلِيد بن مُسلم وَلم يذكر سَمَاعه فِيهِ، وَالْبُخَارِيّ كَانَ يخَاف أَن يكون أَخذه عَن يُوسُف بن السّفر. ثمَّ رَوَاهُ مرّة أُخْرَى بالتصريح بِالتَّحْدِيثِ، ثمَّ قَالَ: (فَإِن) كَانَ قَوْله: « (ثَنَا) الْأَوْزَاعِيّ» مَحْفُوظًا صَار الحَدِيث جيدا. وَفِي «النَّسَائِيّ» عَن عَائِشَة قَالَت: «ذبح عَنَّا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم حجِّنا (بقرة بقرة) » .
الحَدِيث (الثَّانِي) عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر أَصْحَابه أَن يحرموا من مَكَّة وَكَانُوا متمتعين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: «حجَجنَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام سَاق الْهَدْي مَعَه - يَعْنِي حجَّة الْوَدَاع - وَقد أهلوا بِالْحَجِّ مُفردا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أحلُّوا من إحرامكم فطوفوا بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة وَقصرُوا وَأقِيمُوا حَلَالا، حَتَّى إِذا كَانَ يَوْم التَّرويَة فأهلوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتم (بهَا) مُتْعَة. قَالُوا: كَيفَ نَجْعَلهَا مُتْعَة وَقد سمّينا الْحَج؟ ! قَالَ: افعلوا مَا(6/123)
(أَمرتكُم) بِهِ، فلولا أَنِّي سقت الْهَدْي لفَعَلت مثل الَّذِي أَمرتكُم بِهِ، وَلَكِن لَا يحل مني حرَام حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله. فَفَعَلُوا» وَقَالَ البُخَارِيّ: «حلوا من إحرامكم بِطواف (الْبَيْت) وَبَين الصَّفَا والمروة» وَقَالَ: «قبل التَّرويَة بِثَلَاثَة أَيَّام» وَلَهُمَا أَيْضا من حَدِيثه قصَّة (الْإِحْلَال) ، قَالَ: « (فأحللنا) ووطئنا النِّسَاء وَفعلنَا مَا يفعل الْحَلَال، حَتَّى إِذا كَانَ يَوْم التَّرويَة وَجَعَلنَا مَكَّة بظهرٍ أَهْلَلْنَا بالحجِّ» .
الحَدِيث (الثَّالِث) عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالْمُسْتَحب لَهُ أَن يحرم يَوْم التَّرويَة بعد الزَّوَال مُتَوَجها إِلَى (منى) ، لما رُوِيَ (عَن) جَابر أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا توجهتم إِلَى منى فأهلوا بِالْحَجِّ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما أَحللنَا أَن نحرم إِذا توجهنا إِلَى منى. قَالَ: فأهللنا من الأبطح» . وللبخاري قَالَ أَبُو الزبير: عَن جَابر: «أَهْلَلْنَا من(6/124)
الأبطح» . وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ مطابقًا لما اسْتدلَّ بِهِ، بل السّنة الثَّابِتَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى الظّهْر بمنى» كَمَا (أسلفناه) من حَدِيث جَابر، ثمَّ مَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ هُنَا من كَون خُرُوجهمْ بعد الزَّوَال خلاف مَا ذكره بعد ذَلِك فِي كَلَامه عَلَى الْوُقُوف بِعَرَفَة من أَن الْمَشْهُور أَن خُرُوجهمْ قبله بِحَيْثُ يصلونَ الظّهْر بمنى.
الحَدِيث (الرَّابِع) عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للمتمتعين: من كَانَ مَعَه هدي فليهد، وَمن لم يجد هَديا فليصم ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «تمتّع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وسَاق (الْهَدْي)
» . الحَدِيث بِطُولِهِ إِلَى أَن قَالَ: «ثمَّ ليهد، فَمن لم يجد هَديا فليصم ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله» .(6/125)
الحَدِيث (الْخَامِس) عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج، وَسَبْعَة إِذا رجعتم إِلَى أمصاركم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ تَعْلِيقا بِصِيغَة جزم من حَدِيث عِكْرِمَة عَنهُ مطولا وَذكر هَذَا فِي آخِره، قَالَ الْحميدِي: قَالَ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي: هَذَا الحَدِيث عَزِيز لم أره إِلَّا عِنْد مُسلم، وَلم يُخرجهُ فِي «صَحِيحه» من أجل عِكْرِمَة؛ فَإِنَّهُ لم (يَرْوِ) عَنهُ فِي «صَحِيحه» وَعِنْدِي أَن البُخَارِيّ أَخذه عَن مُسلم.
الحَدِيث (السَّادِس) عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أحرم إحرامًا مُطلقًا وانتظر الْوَحْي» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي السَّابِع.
الحَدِيث (السَّابِع) عشر
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قدمنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَنحن نقُول: لبيْك بِالْحَجِّ» .(6/126)
ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا عَلَى أَن التَّعْيِين أفضل من الْإِطْلَاق، (وَهَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَقد سلف فِي الْبَاب بِلَفْظِهِ) . وَذكره الرَّافِعِيّ بعد دَلِيلا عَلَى اسْتِحْبَاب (التَّلَفُّظ) بِمَا عَيَّنَهُ.
الحَدِيث (الثَّامِن) عشر
«أَن عليًّا قدم من الْيمن مهلاًّ بِمَا أهل بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يُنكر عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح (أخرجه) الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من (حَدِيث أنس، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث جَابر وَكَذَا مُسلم فِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث النزال بن سُبْرَة عَن عَلّي، وَأحمد من حَدِيث ابْن عمر.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
«أَن أَبَا مُوسَى قدم من الْيمن مهلاًّ بِمَا أهل بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يُنكر عَلَيْهِ» .(6/127)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من) حَدِيثه (هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب) .
وَأما أَثَره فَذكر فِيهِ عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعتمرون فِي أشهر الْحَج؛ فَإِذا لم يحجوا من عَامهمْ ذَلِك لم يهدوا» .
وَهَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث مُسلم بن (إِبْرَاهِيم) نَا هِشَام، نَا قَتَادَة، عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتمتعون فِي أشهر الْحَج؛ فَإِذا لم يحجوا عَامهمْ ذَلِك لم يهدوا شَيْئا» .(6/128)
بَاب سنَن الْإِحْرَام
ذكر فِيهِ من الْأَحَادِيث (إِحْدَى) وَعشْرين حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تجرّد لإهلاله واغتسل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الله بن يَعْقُوب الْمدنِي، عَن ابْن أبي الزِّنَاد، عَن أَبِيه، عَن خَارِجَة بن زيد، عَن أَبِيه زيد بن ثَابت «أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تجرّد (لإهلاله) واغتسل» ثمَّ قَالَ: حسن غَرِيب. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ: « (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اغْتسل لإحرامه حَيْثُ أحرم» ) . قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : وَإِنَّمَا حسَّنَه التِّرْمِذِيّ للِاخْتِلَاف فِي عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، قَالَ: وَلَعَلَّه عرف عبد الله بن يَعْقُوب الْمدنِي وَمَا أَدْرِي كَيفَ ذَلِك؟ وَلَا أرَى أَنِّي يلْزَمنِي صِحَّته؛ فَإِنِّي أجهدت نَفسِي فِي مَعْرفَته فَلم أر أحدا ذكره، وَفِي حَدِيث النَّهْي عَن الصَّلَاة خلف (النَّائِم) عبد الله بن يَعْقُوب (الْمدنِي) وَهُوَ(6/129)
أَيْضا لَا أعرفهُ مَذْكُورا (بِهَذَا) .
قلت: صرح بَعضهم بِأَنَّهُ هُوَ، وَلَيْسَ فِي سنَن د ت سواهُ، نعم هُوَ مَجْهُول الْحَال، وَقد تَابعه الْأسود بن عَامر شَاذان فَرَوَاهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، عَن أَبِيه، عَن خَارِجَة بن زيد بن ثَابت، عَن أَبِيه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تجرد لإهلاله واغتسل» وَالْأسود هَذَا (ثِقَة) من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَتَابعه أَيْضا أَبُو غزيَّة مُحَمَّد بن مُوسَى بن مِسْكين القَاضِي، (فَرَوَاهُ) عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، عَن أَبِيه، عَن خَارِجَة بن زيد بن ثَابت، عَن أَبِيه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اغْتسل لإحرامه» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من طَرِيقه وَقد ضَعَّفُوهُ، قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: يسرق الحَدِيث وَيحدث بِهِ، يروي عَن الثِّقَات الموضوعات. وَقَالَ ابْن صاعد: هَذَا حَدِيث غَرِيب مَا سمعناه إِلَّا مِنْهُ. قَالَ الْعقيلِيّ - بعد أَن أخرجه فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» من طَرِيقه -: لَا يُتَابع عَلَيْهِ إِلَّا من طَرِيق فِيهَا (ضعف) وَلما أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» قَالَ: أَبُو غزيَّة لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ الْحَاكِم: ثِقَة، وَله شَاهد من حَدِيث يَعْقُوب بن عَطاء، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس(6/130)
قَالَ: «اغْتسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ لبس ثِيَابه، فَلَمَّا أَتَى ذَا الحليفة صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ قعد عَلَى بعيره، فَلَمَّا اسْتَوَى بِهِ عَلَى الْبَيْدَاء أحرم بِالْحَجِّ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ ثمَّ قَالَ: يَعْقُوب بن عَطاء غير قوي.
الحَدِيث الثَّانِي
«أَن أَسمَاء بنت عُميس امْرَأَة أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْها نفست بِذِي الحليفة، فَأمرهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تَغْتَسِل للْإِحْرَام» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه مَالك فِي «موطئِهِ» عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن أَسمَاء بنت عُمَيْس «أَنَّهَا ولدت مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق بِالْبَيْدَاءِ، فَذكر ذَلِك أَبُو بكر لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: مرها (فلتغتسل) ثمَّ لتهل» وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَنَّهَا ولدت مُحَمَّدًا بِذِي الحليفة (فَأمرهَا) أَبُو بكر أَن تَغْتَسِل ثمَّ تهلّ» و (فِي) رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين، عَن (ابْن) الْقَاسِم، عَن مَالك بِاللَّفْظِ الأول، وَهُوَ مُرْسل كَمَا صرح (بِهِ) الْبَيْهَقِيّ (فَلِأَن) الْقَاسِم هَذَا هُوَ (ابْن) مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق وَلم يلق أَسمَاء، كَمَا نبه عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَن عَائِشَة كَمَا سَيَأْتِي،(6/131)
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، عَن أَبِيه، عَن أَسمَاء. وَهُوَ مُرْسل أَيْضا، قَالَ ابْن حزم: مُحَمَّد هَذَا لم يسمع من أَبِيه، مَاتَ أَبوهُ وَهُوَ ابْن عَاميْنِ وَسَبْعَة أشهر وَأَرْبَعَة أَيَّام. رَوَاهُ مُسلم مُتَّصِلا من حَدِيث [عبيد الله] بن عمر الْعمريّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، قَالَت: «نفست أَسمَاء بنت عُميس بِمُحَمد بن أبي بكر الصّديق بِالشَّجَرَةِ، فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبَا بكر فَأمرهَا أَن تَغْتَسِل [وتهل] » وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد كَذَلِك، وَابْن مَاجَه فِي إِحْدَى روايتيه، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : الصَّحِيح قَول مَالك وَمن وَافقه - يَعْنِي: مُرْسلا - (و) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أَسمَاء، قَالَ: وَرَوَاهُ يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن أبي بكر الصّديق، وَهُوَ حَافظ ثِقَة، وَقد سلف أَيْضا هَذَا الحَدِيث من حَدِيث جَابر الطَّوِيل.(6/132)
(فَائِدَة) : أَسمَاء هَذِه زَوْجَة الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه و (أَبُو) عُميس بِعَين مُهْملَة مَضْمُومَة، ثمَّ مِيم مَفْتُوحَة، ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ سين مُهْملَة (والعميس أَنَّك تُظهِر أَنَّك لَا تعرف الْأَمر وَأَنت عَارِف بِهِ، قَالَه الْجَوْهَرِي) ، وَقَوله: «ثمَّ لتهل» يجوز فِي لَام «لتهل» الْكسر والإسكان وَالْفَتْح، وَهُوَ غَرِيب.
و «نفست» بِضَم النُّون وَفتحهَا: ولدت وحاضت، لُغَتَانِ فيهمَا، وَقيل: بِالْفَتْح فِي الْحيض لَا غير.
والبيداء - بِفَتْح الْبَاء وبالمد - وَالْمرَاد بِهِ هُنَا: (مَكَان) بِذِي الحليفة، كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَفِي الْأُخْرَى «بِالشَّجَرَةِ» وَكَانَت سَمُرَة، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام ينزلها من الْمَدِينَة وَيحرم مِنْهَا، وَهِي عَلَى سِتَّة أَمْيَال من الْمَدِينَة. نبه عَلَيْهِ الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِي السّنَن» .
(الحَدِيث الثَّالِث
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ اغْتسل لدُخُول مَكَّة» ) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من رِوَايَة نَافِع قَالَ: «كَانَ ابْن عمر إِذا دخل أدنَى الْحرم أمسك عَن التَّلْبِيَة ثمَّ يبيت بِذِي طوى، ثمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْح ويغتسل وَيحدث أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ(6/133)
(يفعل) ذَلِك» . هَذَا لفظ البُخَارِيّ وَلَفظ مُسلم عَن نَافِع: «أَن ابْن عمر كَانَ لَا يقدم مَكَّة إِلَّا بَات بِذِي طوى حَتَّى يصبح ويغتسل ثمَّ يدْخل مَكَّة نَهَارا، وَيذكر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه فعله» وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث ابْن عمر: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اغْتسل لدُخُول مَكَّة بفخ» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث (غَرِيب) غير مَحْفُوظ، وَالصَّحِيح مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر: «أَنه كَانَ يغْتَسل لدُخُول مَكَّة» وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَالْأول لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم وَهُوَ ضَعِيف فِي الحَدِيث، وَلَا نَعْرِف هَذَا مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيثه.
(فَائِدَة: قَالَ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» فِي «بَاب: الْغسْل لدُخُول مَكَّة» : «وَإِذا اغْتسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام الْفَتْح لدُخُول مَكَّة وَهُوَ حَلَال يُصِيب الطّيب (فَلَمَّا) أرَاهُ - إِن شَاءَ الله - ترك الِاغْتِسَال ليدخلها حَرَامًا لَا يُصِيب الطّيب» أَنا مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: «أَنه كَانَ يغْتَسل لدُخُول مَكَّة» انْتَهَى، وَهِي مَسْأَلَة نفيسة، قل من تعرض لَهَا أَنه يسْتَحبّ الْغسْل لدخولها وَإِن كَانَ غير محُرم) .(6/134)
الحَدِيث الرَّابِع
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كنت أطيب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لإحرامه قبل أَن يحرم ولحله قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِأَلْفَاظ مِنْهَا هَذَا. وَمِنْهَا: «طيبته لحرمه» بدل «إِحْرَامه» وَمِنْهَا: «أَنا طيبته عِنْد إِحْرَامه ثمَّ طَاف فِي نِسَائِهِ ثمَّ أصبح محرما» وَفِي لفظ: «ينضح طيبا» ، وَاعْترض ابْن حزم عَلَى هَذِه الرِّوَايَة فَقَالَ: قَول عَائِشَة «ثمَّ أصبح محرما» لفظ مُنكر وَلَا خلاف أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا أحرم بعد (صَلَاة) الظّهْر بِذِي الحليفة، كَمَا قَالَ جَابر فِي (حَدِيثه) الطَّوِيل السالف (قَالَ) : وَلَعَلَّ قَول عَائِشَة هَذَا إِنَّمَا كَانَ من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي عمْرَة الْقَضَاء (أَو) الْحُدَيْبِيَة أَو الْجِعِرَّانَة.
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ فِي «تصاحيف الروَاة» : قَوْلهَا: «لحرمه»(6/135)
هُوَ مضموم الْحَاء «والحُرم» (و) الْإِحْرَام، (فَأَما) «الحِرم» بِكَسْر الْحَاء فَهُوَ (بِمَعْنى) الْحَرَام، يُقَال: حِرم وَحرَام، كَمَا يُقَال حِلٌّ وحلال، وخالَفَهُ غَيره (وَأنكر) ثَابت الضَّم عَلَى الْمُحدثين، وَقَالَ: الصوابُ الْكسر.
فَائِدَة ثَانِيَة: جَاءَ فِي «الصَّحِيح» : أَن الطّيب كَانَ ذريرة، وَسَيَأْتِي الْمسك وَالطّيب، وَفِي رِوَايَة غَرِيبَة: «بالغالية» (أخرجهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا. قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث عَائِشَة قَالَت: «طيبت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالغالية) الجيدة عِنْد إِحْرَامه» فَقَالَ: حَدِيث مُنكر. وَقَالَ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» : تفرد بِهِ يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ عَن مُوسَى بن عقبَة.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَأَنِّي أنظر إِلَى وبيص الْمسك فِي مفرق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ محرم» .(6/136)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ (فِي صَحِيحَيْهِمَا) عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها والسياق لمُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ: «الطّيب» بدل «الْمسك» و «مفارق» بدل «مفرق» وَأخرجه مُسلم كَذَلِك، زَاد: «ويهل» . وَفِي لفظ «وَهُوَ (يُلَبِّي) » وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وبيص الدّهن فِي رَأسه ولحيته بعد ذَلِك» وللنسائي وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : وبيص الْمسك بعد ثَلَاث وَهُوَ محرم» .
فَائِدَة: الوبيص - بالصَّاد الْمُهْملَة -: البريق واللمعان (يُقَال: وبص الْبَرْق، أَي: لمع) (والمفرِق) بِكَسْر الرَّاء جمعه مفارق، وَهُوَ وسط الرَّأْس حَيْثُ يتفرق الشّعْر يَمِينا وَشمَالًا.
الحَدِيث السَّادِس
رُوِيَ «من السّنة (أَن) تمسح الْمَرْأَة يَديهَا للْإِحْرَام بِالْحِنَّاءِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة مُوسَى(6/137)
بن عُبَيْدَة (الرَّبَذِيّ) وَهُوَ (واهٍ) عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يَقُول: «من السّنة أَن تدلك الْمَرْأَة بِشَيْء من الْحِنَّاء عَشِيَّة الْإِحْرَام وتغلف (رَأسهَا) بغسلة لَيْسَ فِيهَا طيب وَلَا تحرم (عطلاً) » وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي عَن سعيد بن سَالم، عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة - وَهُوَ (واهٍ) كَمَا سلف - عَن (أَخِيه) عبد الله بن عُبَيْدَة - وَهُوَ كأخيه - وَعبد الله بن دِينَار قَالَا: «من السّنة أَن تمسح الْمَرْأَة يَديهَا عِنْد الْإِحْرَام بِشَيْء من الْحِنَّاء، وَلَا تحرم وَهِي غفل» قَالَ الشَّافِعِي: وَكَذَلِكَ أحب لَهَا. قَالَه الْبَيْهَقِيّ وَقد رُوِيَ عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة ... فَذكر مثل رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ السالفة، ثمَّ قَالَ: وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ.
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ « (أَن) امْرَأَة بَايَعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأخرجت يَدهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أَيْن الْحِنَّاء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث مُسلم(6/138)
بن إِبْرَاهِيم، حَدَّثتنِي غبطةُ بنت عمر المجاشعية، قَالَت: حَدَّثتنِي عَمَّتي أم الْحسن، عَن جدَّتهَا، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (أَن (هِنْد) بنت عتبَة قَالَت: يَا نَبِي الله، بايعني. قَالَ: لَا أُبَايِعك حَتَّى تغيري كفيك كَأَنَّهُمَا كفّا سَبُع» وغبطة وعمتها وَجدّة أم الْحسن (لَا) يعرف حالهن بعد الفحص عَنهُ، قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه «أَحْكَام النّظر» : هَذَا حَدِيث فِي غَايَة الضعْف، فِيهِ ثَلَاث نسْوَة لَا يعرفن (كُلهنَّ) عدم. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث مُطِيع بن مَيْمُون، ثَنَا صَفِيَّة بنت عصمَة، عَن عَائِشَة أَيْضا قَالَت: « (أَوْمَأت) امْرَأَة مِن وراءِ سِتْرٍ بِيَدِهَا كتاب (إِلَى) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقبض النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَده فَقَالَ: مَا أَدْرِي أيد رجل أم يَد امْرَأَة؟ ! قَالَت: بل امْرَأَة. قَالَ: (لَو) كنت امْرَأَة لغيرت أظفارك - يَعْنِي بِالْحِنَّاءِ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا (وقبلهما) الإِمَام أَحْمد وَصفِيَّة هَذِه مَجْهُولَة، قَالَ ابْن الْقطَّان فِي الْكتاب الْمَذْكُور: هَذَا حَدِيث فِي غَايَة (الضعْف) صَفيّة هَذِه عدم.(6/139)
قلت: لَا تعرف، رَوَى عَنْهَا مُطِيع بن مَيْمُون، قَالَ ابْن عدي: لَهُ حديثان غير محفوظين. ومطيع (قد علمت) حَاله، وَلم يذكرهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» وَلَا الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي» ، وَقَالَ فِي «الكاشف» : إِنَّه ضَعِيف. وَاقْتصر فِي «الْمِيزَان» عَلَى قَول ابْن عدي فِيهِ، وَقَالَ أَحْمد - فِيمَا نَقله ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» -: إِنَّه حَدِيث مُنكر. وَفِي «مُسْند الْبَزَّار» من حَدِيث عبد الله بن عبد الْملك الفِهري، عَن (لَيْث، عَن) مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس «أَن أمراة أَتَت رَسُول الله تبايعه وَلم تكن مختضبة فَلم يبايعها حَتَّى اختضبت» ثمَّ قَالَ: لَا نعلمهُ عَن ابْن عَبَّاس إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. والفهري لَيْسَ بِهِ بَأْس وَلَيْسَ بِالْحَافِظِ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه «أَحْكَام النّظر» : (لَيْث) ضَعِيف، وَفِيه نَكَارَة. وَفِي «مُسْند الْبَزَّار» أَيْضا و «المعجم الْكَبِير» للطبراني من حَدِيث عباد بن كثير - وَهُوَ ضَعِيف - عَن شميسة بنت نَبهَان - وَلَا تعرف - عَن مَوْلَاهَا مُسلم بن عبد الرَّحْمَن، (قَالَ) : « (رَأَيْت) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(6/140)
يُبَايع النِّسَاء عَلَى الصَّفَا، فَجَاءَت امْرَأَة يَدهَا كيد الرجل فَلم يبايعها حَتَّى ذهبت فغيرت يَدهَا بصفرة أَو بحمرة، وجاءه رجل عَلَيْهِ خَاتم حَدِيد، فَقَالَ: مَا طهر الله يدا فِيهَا خَاتم حَدِيد» قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه «أَحْكَام النّظر» الْمَذْكُور: هَذَا حَدِيث فِي غَايَة (الضعْف) . وَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي نعيم عَن سَوْدَاء بنت عَاصِم قَالَت: «أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُبَايِعهُ، فَقَالَ: اختضبي. فاختضبت، ثمَّ (جِئْت) فَبَايَعته» وَفِي سَنَده من لَا أعرفهُ، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» (بِنَحْوِهِ) لَكِن من رِوَايَة أم عَاصِم عَن السَّوْدَاء، وَلم يذكر أَنه بَايَعَهَا بَعْدُ.
الحَدِيث الثَّامِن
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَحَيْثُ يسْتَحبّ (الخضب بِالْحِنَّاءِ) إِنَّمَا يسْتَحبّ تَعْمِيم الْيَد بالخضاب دون النقش والتسويد والتطريف، فقد رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن التطريف وَعَن أَن تخضب أَطْرَاف الْأَصَابِع» .
هَذَا الحَدِيث لَا يحضرني من خرجه كَذَلِك وَفِي «المعجم الْكَبِير»(6/141)
للطبراني (من) حَدِيث مُحَمَّد بن [عمرَان] بن أبي لَيْلَى - (قَالَ أَبُو حَاتِم: كُوفِي صَدُوق. وَأخرج عَنهُ البُخَارِيّ فِي «كتاب الْأَدَب» وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ) - قَالَ: حَدَّثتنِي عمَّتي حمادة بنت مُحَمَّد، عَن عَمَّتهَا آمِنَة بنت عبد الرَّحْمَن - وَلَا أعرف حَالهمَا - عَن جدَّتهَا أم لَيْلَى قَالَت: «بَايعنَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَكَانَ) فِيمَا أَخذ علينا أَن نختضب الغمس و (نمتشط) بِالْغسْلِ وَلَا (نقحل) أَيْدِينَا من خضاب» . وَحَدِيث عصمَة، عَن عَائِشَة - السالف -: «لغيرت أظفارك» قد يُخَالف هَذَا.
الحَدِيث التَّاسِع
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «ليُحْرِم أحدكُم فِي إِزَار ورداء (و) نَعْلَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث ذكره صَاحب «الْمُهَذّب» أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر، وبَيَّضَ لَهُ الْمُنْذِرِيّ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» وَذكره(6/142)
الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» وَلم يَعْزه، وَعَزاهُ بعض المصريين إِلَى (الْبَيْهَقِيّ) فَوَهم، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» : إِنَّه غَرِيب (ويُغْني عَنهُ) مَا ثَبت عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «انْطلق النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الْمَدِينَة (بعد) مَا ترجَّلَ وادَّهَن وَلبس إزَاره (ورداءه) هُوَ وَأَصْحَابه، وَلم يَنْه عَن شَيْء من الأُزُرِ والأردية تُلْبَس إِلَّا المزعفرة الَّتِي تردع عَلَى الْجلد، حَتَّى إِذا أصبح بِذِي الحليفة فَركب رَاحِلَته حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاء أهل هُوَ وَأَصْحَابه ... » ثمَّ ذكر تَمام الحَدِيث، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَثَبت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِيمَن لم يجد نَعْلَيْنِ: فليلبس خُفَّيْنِ، وليقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ» وَثَبت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «وَمن لم يجد الْإِزَار فليلبس السَّرَاوِيل، وَمن لم (يجد) النَّعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ» وَمثله فِي «صَحِيح مُسلم» عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وَذكره ابْن الْمُنْذر بِلَفْظ الرَّافِعِيّ و «الْمُهَذّب» بِغَيْر إِسْنَاد، وَهَذَا لَفظه ثَبت أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ:(6/143)
«وليحرم أحدكُم فِي إِزَار ورداء ونعلين» قَالَ: وَكَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي وَمن تَبِعَهُمْ يَقُولُونَ: يلبس الَّذِي يُرِيد الْإِحْرَام إزارًا ورداء.
قلت: وَعَزاهُ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» إِلَى رِوَايَة الإِمَام أَحْمد من حَدِيث ابْن عمر كَمَا ذكره صَاحب «الْمُهَذّب» بِلَفْظ: «ليحرم أحدكُم فِي إِزَار ورداء ونعلين، فَإِن لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس خُفَّيْنِ وليقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ» وراجعت «الْمسند» فَلم أره، ثمَّ بعد سِنِين كَثِيرَة فَوق (الْعشْر) ظَفرت بِهِ فِي «صَحِيح (أبي) عوَانَة» ، (فَرَوَاهُ) عَن أَحْمد بن يُوسُف السّلمِيّ، ثَنَا عبد الرَّزَّاق، أبنا معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن ابْن (عمر) : «أَن رجلا نَادَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: مَا يجْتَنب الْمحرم من الثِّيَاب؟ فَقَالَ: لَا يلبس السَّرَاوِيل وَلَا الْقَمِيص وَلَا البرانس وَلَا الْعِمَامَة، وَلَا (ثوب) مسّه زعفران وَلَا ورس، وليحرم أحدكُم فِي إِزَار ورداء ونعلين، فَإِن لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس خُفَّيْنِ وليقطعهما حَتَّى يَكُونَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ» فاستفده.(6/144)
الحَدِيث الْعَاشِر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صلي بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أحرم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل كَمَا سلف (لَكِن) لَفظه « (فَصَلى» ) وَلم يذكر عددا، وَفِي بَعْضهَا « (فَصَلى) رَكْعَتَيْنِ ثمَّ ركب» وَأخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عمر «أَنه كَانَ يَأْتِي مَسْجِد ذِي الحليفة فَيصَلي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يركب؛ فَإِذا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة أحرم ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . (و) أخرجه مُسلم من هَذَا الْوَجْه، وَلَفظه عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يَقُول: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرْكَع بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ إِذا اسْتَوَت بِهِ النَّاقة قَائِمَة عِنْد مَسْجِد ذِي الحليفة أهل» وَأخرجه أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَصَححهُ الْحَاكِم عَلَى شَرط مُسلم.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يهل حَتَّى انبعثت بِهِ رَاحِلَته» .(6/145)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَله طرق:
إِحْدَاهَا: عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن إهلال رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من ذِي الحليفة (حِين) اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته» رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَقَالَ: رَوَاهُ أنس وَابْن عَبَّاس.
ثَانِيهَا: عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يهل حَتَّى تنبعث بِهِ رَاحِلَته» رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، ورويا أَيْضا عَنهُ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا (أَدْخَلَ) رجله فِي الغرز واستوتْ بِهِ نَاقَته أَهَلَّ من مَسْجِد ذِي الحليفة» .
الغرز: ركاب كور الْبَعِير سَوَاء كَانَ من خشب أَو حَدِيد، وَقيل: إِن كَانَ من حَدِيد فَهُوَ إكاف. ورويا أَيْضا (عَنهُ) «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أهل حِين اسْتَوَت بِهِ (رَاحِلَته) قَائِمَة»
ثَالِثهَا: عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَات بِذِي الحليفة، فَلَمَّا أصبح واستوت بِهِ رَاحِلَته أهل» رَوَاهُ البُخَارِيّ(6/146)
رَابِعهَا: عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «اغْتسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ لبس ثِيَابه، فَلَمَّا أَتَى ذَا الحليفة صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ قعد عَلَى بعيره، فَلَمَّا اسْتَوَى بِهِ عَلَى الْبَيْدَاء أحرم بِالْحَجِّ» رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَله شَاهد صَحِيح عَلَى شَرطهمَا.
خَامِسهَا: عَن عَائِشَة بنت سعد بن أبي وَقاص، قَالَت: قَالَ سعد بن أبي وَقاص: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أَخذ طَرِيق الْفَرْع أهل إِذا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْبَزَّار وَقَالَ: لَا نعلمهُ يرْوَى عَن سعد إلاّ من هَذَا الْوَجْه، وَلَا نعلم رَوَى أَبُو الزِّنَاد عَن عَائِشَة عَن أَبِيهَا إِلَّا هَذَا الحَدِيث، وَلَا نعلم رَوَى (هَذَا اللَّفْظ) عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا سعد بن أبي وَقاص. وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» . وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أهل فِي دبر الصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ كَذَلِك مُخْتَصرا، وَأَبُو(6/147)
دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَفِي إِسْنَاده خصيف بن عبد الرَّحْمَن الْجَزرِي وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، ضعفه يَحْيَى الْقطَّان، وَقَالَ: كُنَّا نتجنبه. وَضَعفه أَحْمد أَيْضا، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَفِي رِوَايَة عَنهُ: صَالح. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ صَالح. وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين وَمُحَمّد بن سعد وَأَبُو زرْعَة، وَقد أسلفنا ذَلِك فِي كتاب الْحيض فِي الحَدِيث الْحَادِي عشر مِنْهُ، وبحسب اخْتِلَاف (أَقْوَال) هَؤُلَاءِ، اخْتلف الْحفاظ فِي تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث وتضعيفه، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نَعْرِف أحدا رَوَاهُ غير عبد السَّلَام بن حَرْب.
قلت: هُوَ ثِقَة من فرسَان «الصَّحِيحَيْنِ» وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. أَي: فِي ابْن إِسْحَاق، وَهُوَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا؛ فَإِنَّهُ أخرج لَهُ لَكِن مُتَابعَة لَا اسْتِقْلَالا، وَصرح بِالتَّحْدِيثِ فِي هَذَا الحَدِيث عَن خصيف فَانْتَفَى تدليسه، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف الْإِسْنَاد؛ لِأَن خصيفًا غير قوي. وَتَبعهُ الْمُنْذِرِيّ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» وكَنَّاه أَبَا عبد الرَّحْمَن، وَصَوَابه: ابْن عبد الرَّحْمَن، وكنيته: أَبُو عون، وَقَالَ عبد الْحق: خصيف، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم وَيَحْيَى بن معِين: صَالح. وَوَثَّقَهُ أَبُو زرْعَة، وَضَعفه غير هَؤُلَاءِ. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» من طَرِيق الإِمَام أَحْمد وَلم يُضعفهُ (لكنه)(6/148)
ذكر خصيفًا فِي «ضُعَفَائِهِ» ، وَاعْترض النَّوَوِيّ فِي «شَرحه للمهذب» (عَلَى الْبَيْهَقِيّ) ، فَقَالَ: قَول الْبَيْهَقِيّ إِن خصيفًا ضَعِيف، قد قَالَه غَيره لَكِن (قد) خَالفه فِيهِ كَثِيرُونَ من الْحفاظ وَالْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين فِي هَذَا الشَّأْن، فوثقه يَحْيَى بن معِين (وَابْن) سعد. وَقَالَ النَّسَائِيّ: صَالح. قَالَ: وَلَعَلَّه اعتضد عِنْد التِّرْمِذِيّ بطرِيق آخر فَصَارَ حسنا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ عقب إِخْرَاجه لَهُ من حَدِيث ابْن عَبَّاس مطولا وتليين خصيف: وَقد رَوَاهُ الْوَاقِدِيّ بِإِسْنَاد لَهُ عَن ابْن عَبَّاس إِلَّا أَنه لَا تَنْفَع مُتَابعَة الْوَاقِدِيّ. قَالَ: وَالْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِي ذَلِك عَن ابْن عمر وَغَيره أسانيدها قَوِيَّة ثَابِتَة - يَعْنِي: فِي (إهلاله) حِين انبعثت بِهِ رَاحِلَته، وَاعْلَم أَن رِوَايَة ابْن عَبَّاس (المطولة) فِيهَا جمع بَين اخْتِلَاف الروَاة (فِي ابْتِدَاء إِحْرَامه، جمع بَينهمَا ابْن عَبَّاس و) قَالَ: أَنا أعلم النَّاس بذلك «وَأَنه أهل بِهِ حِين فرغ من ركعتيه ثمَّ ركب، فَلَمَّا اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته أهل، فَلَمَّا علا عَلَى شرف البَيْداء أَهَلَّ» (فَكل) رَوَى مَا قَد سَمِع، لَا جرم قَالَ الطَّحَاوِيّ: إِنَّه حَدِيث جَامع لجَمِيع الْأَحَادِيث يقْضِي عَلَى جَمِيعهَا.(6/149)
وَقَول الرَّافِعِيّ إِن طَائِفَة من الْأَصْحَاب (حملُوا) اخْتِلَاف الرِّوَايَة عَلَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أعَاد التَّلْبِيَة عِنْد (انبعاث) الدَّابَّة، فَظن من سمع أَنه حِينَئِذٍ لَبَّى، يساعده مَا ذكره ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعَائِشَة - وَقد حَاضَت -: افعلي مَا يفعل الْحَاج غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَقد سلف فِي الْحيض أَيْضا، وَفِي رِوَايَة لمَالِك بعد ذَلِك « (وَلَا) بَين الصَّفَا والمروة حَتَّى [تَطْهُرِين] » وَهَذِه الزِّيَادَة ثَابِتَة من طَرِيق يَحْيَى بن يَحْيَى.(6/150)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُلَبِّي فِي حَجِّه إِذا لَقِي ركبًا أَو عَلا أَكَمَةً أَو هَبَطَ وَاديا، وَفِي أَدْبار الْمَكْتُوبَة وَآخر اللَّيْل» .
هَذَا الحَدِيث (ذكره) كَذَلِك صَاحب «الْمُهَذّب» وَلم أره فِي شَيْء من كتب «السّنَن» وَلَا «المسانيد» (و) لم يعزه النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» لَهُ، وبَيَّضَ لَهُ الْمُنْذِرِيّ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيثه» وَذكره كَذَلِك الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» وَلم يَعْزه لأحد، وَرَوَاهُ عبد الله بن نَاجِية فِي «فَوَائده» بِإِسْنَاد غَرِيب لَا يثبت مثله عَن صباح بن مَرْوَان أبي سهل، عَن عبد الله بن سِنَان (الزُّهْرِيّ عَن أَبِيه سِنَان) عَن ابْن أبي سِنَان عَن مُحَمَّد بن عَلّي بن حُسَيْن، عَن جَابر، قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُلَبِّي إِذا لَقِي ركبًا أَو صعد أكمة أَو هَبَط وَاديا، وَفِي أدبار المكتوبات (و) من آخر اللَّيْل» وَلما أخرجه ابْن عَسَاكِر من هَذَا الْوَجْه قَالَ: غَرِيب جدًّا، وَلم أكتبه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَلَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيّ. وَرَوَى الشَّافِعِي عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يكثر من التَّلْبِيَة» وَفِي «الْكِفَايَة» (للفقيه نجم الدَّين) (ابْن) الرّفْعَة أَن الشَّافِعِي رَوَى بِسَنَدِهِ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُلَبِّي قَائِما وراكبًا وماشيًا ومضطجعًا» وَفِي «الْبَيْهَقِيّ» من طَرِيق الشَّافِعِي، أَنا سعيد بن سَالم، عَن عبد الله بن (عمر) عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: «أَنه(6/151)
كَانَ يُلَبِّي رَاكِبًا ونازلاً ومضطجعًا» .
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيل فَأمرنِي أَن آمُر أَصْحَابِي فيرفعوا أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْأَئِمَّة: مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة خَلاد بن السَّائِب، (عَن أَبِيه) عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَفْظهمْ خلا أَحْمد وَالنَّسَائِيّ (وَابْن مَاجَه) وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن جِبْرِيل أَتَانِي (فَأمرنِي) (أَن) آمُر أَصْحَابِي - أَو من معي - أَن يرفعوا أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ أَو بالإهلال، يُرِيد أَحدهمَا» وَلَفظ أَحْمد: «بِالتَّلْبِيَةِ والإهلال»(6/152)
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «بالإهلال» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَن جِبْرِيل أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: كن عجاجًا ثجاجًا» والعجّ: التَّلْبِيَة، والثّجّ: نحر الْبدن. وَلَفظ النَّسَائِيّ: «جَاءَنِي جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، مُر أَصْحَابك أَن يرفعوا (أَصْوَاتهم) بِالتَّلْبِيَةِ» وَلَفظ ابْن مَاجَه وَابْن حبَان: « (أَتَانِي) جِبْرِيل (فَأمرنِي) أَن آمُر أَصْحَابِي أَن يرفعوا أَصْوَاتهم بالإهلال» وَفِي رِوَايَة لَهما: «أَتَانِي جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، مُر أَصْحَابك فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ؛ فَإِنَّهُ من شعار الْحَج» وَلَفظ الْحَاكِم: «أَتَانِي جِبْرِيل فَقَالَ: مر أَصْحَابك أَن يرفعوا أَصْوَاتهم بالإهلال» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «مر أَصْحَابك فَلْيَرْفَعُوا صِيَاحهمْ (بِالتَّلْبِيَةِ) فَإِنَّهَا (من) شعار الْحَج» وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ: «أَتَانِي جِبْرِيل (فَأمرنِي) أَن آمُر أَصْحَابِي أَن يرفعوا أَصْوَاتهم بالإهلال (أَو) بِالتَّلْبِيَةِ أَو أَحدهمَا» وَفِي (رِوَايَة) لَهُ: «وَأَمرَنِي أَن آمُر أَصْحَابِي (أَو من معي) أَن يرفعوا أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ أَو بالإهلال، يُرِيد أَحدهمَا» وَفِي رِوَايَة لَهُ كَرِوَايَة ابْن حبَان الأولَى. وَفِي رِوَايَة لَهُ:(6/153)
«جَاءَنِي جِبْرِيل فَقَالَ: مُر أَصْحَابك أَن يرفعوا أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ؛ فَإِنَّهَا شعار الْحَج» (وَرَوَاهُ) ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة خَلاد بن السَّائِب أَيْضا عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه أَيْضا قَالَ (التِّرْمِذِيّ عقيب حَدِيث) خَلاد، عَن أَبِيه: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. قَالَ: وَرَوَى بَعضهم هَذَا الحَدِيث عَن خَلاد بن السَّائِب، عَن زيد بن خَالِد، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا يَصح. قَالَ: وَالصَّحِيح هُوَ عَن خَلاد بن السَّائِب، عَن أَبِيه. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الصَّحِيح رِوَايَة مَالك وَابْن عُيَيْنَة عَن خَلاد، عَن أَبِيه، كَذَلِك قَالَه البُخَارِيّ وَغَيره. وَقَالَ صَاحب «الإِمَام» : قيل: جوّده مَالك وَابْن جريج وَمعمر، وَلم يروه عَن السَّائِب غير (ابْنه) خَلاد. وَخَالف ابْن حبَان فَقَالَ فِي «صَحِيحه» : سمع هَذَا الْخَبَر خَلاد بن السَّائِب من أَبِيه وَمن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ ولفظاهما مُخْتَلِفَانِ، وهما طَرِيقَانِ محفوظان. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من طَرِيق زيد بن خَالِد أَيْضا، وَمن طَرِيق ثَالِث عَن الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب، عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَمرنِي جِبْرِيل بِرَفْع الصَّوْت بالإهلال؛ فَإِنَّهُ من(6/154)
شَعَائِر الْحَج» ثمَّ قَالَ: هَذِه الْأَسَانِيد كلهَا صَحِيحَة، وَلَيْسَ يُعلل وَاحِد مِنْهُمَا الآخر؛ فَإِن السّلف (كَانَ يجْتَمع) عِنْدهم الْأَسَانِيد لمتن وَاحِد كَمَا (يجْتَمع) عندنَا الْآن.
قلت: وَله طَرِيق رَابِع رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن دِينَار، ثَنَا أَبُو حَازِم، عَن جَعْفَر (بن عَبَّاس) ، عَن ابْن عَبَّاس ان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن جِبْرِيل أَتَانِي فَأمرنِي أَن أعلن (بِالتَّلْبِيَةِ) » .
الحَدِيث السَّادِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أفضل الْحَج: العج والثج» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي فديك عَن الضَّحَّاك (بن) عُثْمَان، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن عبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع، عَن أبي بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَرَوَاهُ(6/155)
الْبَزَّار بِلَفْظ: «سُئِلَ مَا برّ الْحَج؟ (قَالَ) : العجّ والثج» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر لم يسمع من عبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع، وَهَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث ابْن أبي فديك عَن الضَّحَّاك عَنهُ. قَالَ: وَقد رَوَى مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن (بن) يَرْبُوع، عَن أَبِيه غير هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَرَوَى أَبُو نعيم الطَّحَّان ضرار بن صرد هَذَا الحَدِيث عَن ابْن أبي فديك، عَن (الضَّحَّاك بن) عُثْمَان، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع، عَن أَبِيه، عَن أبي بكر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَخْطَأ فِيهِ ضرار. قَالَ: وَسمعت أَحْمد بن الْحُسَيْن يَقُول: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: من قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث (عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر (عَن) ابْن عبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع، عَن أَبِيه» فقد أَخطَأ. قَالَ: وَسمعت مُحَمَّدًا - يَعْنِي: البُخَارِيّ - يَقُول (وَذكرت) لَهُ حَدِيث ضرار بن صرد عَن ابْن أبي فديك فَقَالَ: هُوَ خطأ. فَقلت: قد رَوَاهُ [غَيره عَن] ابْن أبي فديك أَيْضا مثل رِوَايَته. فَقَالَ: لَا شَيْء؛ إِنَّمَا [رَوَوْهُ](6/156)
عَن (ابْن) أبي فديك وَلم يذكرُوا فِيهِ عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن (ورأيتُه يُضَعِّف) ضرار بن صرد. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَا قَالَ أَحْمد (بن حَنْبَل) فِيمَا بلغنَا عَنهُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : (الْأَشْبَه) بِالصَّوَابِ رِوَايَة من رَوَاهُ عَن الضَّحَّاك (بن) عُثْمَان، عَن ابْن الْمُنْكَدر، عَن عبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع، عَن أبي بكر قَالَ: وَقَالَ أهل النّسَب إنَّ مَن قَالَ: سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع. فقد وهم؛ وَإِنَّمَا هُوَ عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن يَرْبُوع. قَالَ: وَيروَى هَذَا الحَدِيث (أَيْضا) من حَدِيث ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا (وموقوفًا) (وَرَفعه) هُوَ الصَّوَاب. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : عبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع مَا رَوَى عَنهُ سُوَى مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر حَدِيثا فِي العج والثج. (وَقد قَالَ) التِّرْمِذِيّ: لم يسمعهُ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر مِنْهُ. وَقيل: رَوَاهُ عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه. وَكَأن هَذَا أصح.(6/157)
قلت: هَذَا الَّذِي قَالَ: «كَأَنَّهُ أصح» خطأه أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ كَمَا سلف، فَخَالف النَّاس. وَقَوله: «مَا رَوَى عَنهُ سُوَى مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر» لَيْسَ كَذَلِك، قَالَ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» عقب هَذَا الحَدِيث: عبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع قديم، حدث عَنهُ عَطاء بن يسَار وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر وَغَيرهمَا. وَذكر الحَدِيث فِي مَوضِع آخر، ثمَّ قَالَ: وَعبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع مَعْرُوف (رَوَى عَنهُ) عَطاء بن يسَار وَغَيره. وَأخرجه الْبَزَّار من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع، أَو عَن عبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع، هَكَذَا عَلَى الشَّك.
قلت: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طرق (أُخْرَى) :
إِحْدَاهَا: من حَدِيث ابْن عمر: «أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (مَا الْحَج؟) قَالَ: العجّ والثجّ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وَهَذَا لَفظه، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «أَي الْحَج أفضل؟» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن يزِيد الخُوزِيّ الْمَكِّيّ، وَقد تكلم بعض أهل الْعلم (فِيهِ) من قِبَلِ حفظه.
ثَانِيهَا: من حَدِيث جَابر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا بر الْحَج؟ قَالَ: العج والثج» ذكره التِّرْمِذِيّ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن (جَابر.(6/158)
وَرَوَاهُ) أَبُو الْقَاسِم الْأَصْبَهَانِيّ فِي «ترغيبه وترهيبه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي فَرْوَة، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر (بِهِ) وَإِسْحَاق هَذَا ضَعَّفُوهُ، وَإِسْمَاعِيل إِذا رَوَى عَن الْحِجَازِيِّينَ لَا يحْتَج بِهِ، و [إِسْحَاق] مدنِي.
ثَالِثهَا: من حَدِيث عبد الله بن شُعَيْب، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أفضل الْأَعْمَال العج والثج؛ فَأَما العج فالعجيج بِالتَّلْبِيَةِ، وَأما الثج فَنحر الْبدن» رَوَاهُ ابْن أبي الْعَوام فِي «فَضَائِل الإِمَام أبي حنيفَة» كَمَا أَفَادَهُ صَاحب «الإِمَام» من حَدِيث أبي أُسَامَة (عَن) أبي حنيفَة، عَن قيس بن مُسلم، عَن طَارق بن شهَاب، عَن عبد الله بن شُعَيْب بِهِ.
فَائِدَة: الثج: سيلان دِمَاء الْهَدْي، والعج: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. قَالَه(6/159)
الْهَرَوِيّ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عبيد إِن الثج إِرَاقَة الدِّمَاء، وَكَذَا التِّرْمِذِيّ، وَلَفظه «الثج: نحر الْبدن» وَقد (أوردناه) كَذَلِك مفَسرًا فِي الطَّرِيق الْأَخِيرَة من طرق الحَدِيث.
الحَدِيث السَّابِع عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: «والأحب أَن لَا يزِيد فِي التَّلْبِيَة عَلَى تَلْبِيَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - والتلبية: لبيْك (اللَّهُمَّ) لبيْك، لبيْك لَا شريك لَك لبيْك، إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك، لَا شريك لَك» .
هَذَا صَحِيح فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن تَلْبِيَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَذِه ... » فَذكرهَا كَذَلِك، وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» من حَدِيث عَائِشَة مثله إِلَى قَوْله «وَالنعْمَة لَك» وَفِي «صَحِيح مُسلم» ، عَن جَابر مثله كَامِلا وَقد سلف بِطُولِهِ. قَالَ الرَّافِعِيّ: «وَكَانَ ابْن عمر يزِيد فِيهَا: لبيْك لبيْك وَسَعْديك، وَالْخَيْر بيديك لبيْك، وَالرغْبَاء إِلَيْك وَالْعَمَل» (هُوَ) كَمَا قَالَ، وَقد أخرجهَا مُسلم فِي «صَحِيحه»(6/160)
كَذَلِك فِي آخر الحَدِيث الْمَرْفُوع، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: «وَكَانَ ابْن عمر يزِيد فِيهَا: لبيْك لبيْك (لبيْك) وَسَعْديك، وَالْخَيْر فِي يَديك لبيْك، وَالرغْبَاء إِلَيْك وَالْعَمَل» وَفِي بعض نسخ مُسلم بِخَط بعض الْحفاظ ذكر التَّلْبِيَة ثَلَاث مَرَّات (أَيْضا) .
فَائِدَة: قد تكلمنا عَلَى لفظ التَّلْبِيَة فِي غير هَذَا الْكتاب، فأغنى عَن ذكره هُنَا، وَتكلم الرَّافِعِيّ عَلَى قَوْله: «إِن الْحَمد» فَقَالَ: قد تكسر عَلَى الِابْتِدَاء، وَقد تفتح عَلَى مَعْنَى: لِأَن الْحَمد. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَاخْتَارَ ثَعْلَب الْكسر، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّه الْأَحْسَن (و) إِن الْفَتْح رِوَايَة الْعَامَّة. (وَذكر فِي «الرَّوْضَة» أَن الْكسر أصح وَأشهر. وَاخْتِيَار الشَّافِعِي الْفَتْح كَمَا نَقله الزَّمَخْشَرِيّ فِي آخر تَفْسِير سُورَة «يس» حَيْثُ كسر أَبُو حنيفَة وَفتح الشَّافِعِي) . وَقَوله: «وَالنعْمَة» هِيَ بِالنّصب عَلَى الْمَشْهُور، وَيجوز رَفعهَا. وَقَوله: «وَسَعْديك» أَي: مساعدة بعد مساعدة. قَالَ الْحَرْبِيّ: وَلم يسمع (بسعديك) مُفردا. وَقَوله: «والرَغباء إِلَيْك» رُوِيَ بِفَتْح الرَّاء وَضمّهَا، فَمن فتح مد، وَمن قصر ضم، كالنَعماء والنُّعمى، وَمَعْنَاهُ هُنَا الطّلب وَالْمَسْأَلَة.(6/161)
الحَدِيث الثَّامِن عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: «فَإِن رَأَى شَيْئا يُعجبهُ، قَالَ: لبيْك، إِن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة» ثَبت ذَلِك عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - انْتَهَى.
كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ بِلَفْظ الثُّبُوت، وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وقف بِعَرَفَات، فَلَمَّا قَالَ: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، قَالَ: إِنَّمَا الْخَيْر خير الْآخِرَة» قَالَ الْحَاكِم: قد احْتج البُخَارِيّ بِعِكْرِمَةَ، وَمُسلم بِدَاوُد، وَهَذَا الحَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن شَيْخه الْحَاكِم، عَن أبي أَحْمد يُوسُف بن (مُحَمَّد، عَن ابْن) خُزَيْمَة، عَن نصر بن عَلّي الْجَهْضَمِي، عَن مَحْبُوب بن الْحسن، عَن دَاوُد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خطب بِعَرَفَات، فَلَمَّا قَالَ: لبيْك ... » الحَدِيث، وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، عَن عِكْرِمَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «نظر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حوله وَهُوَ وَاقِف بِعَرَفَة، فَقَالَ: لبيْك ... » (فَذكره) وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن (سعيد) - هُوَ ابْن سَالم - عَن ابْن جريج، أَخْبرنِي حميد الْأَعْرَج، عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يظْهر من التَّلْبِيَة: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك (لبيْك) لَا(6/162)
شريك لَك لبيْك، إِن الْحَمد وَالنعْمَة (لَك) وَالْملك، لَا شريك لَك. قَالَ: حَتَّى إِذا كَانَ ذَات يَوْم وَالنَّاس يصرفون عَنهُ - كَأَنَّهُ أعجبه مَا هُوَ فِيهِ - فَزَاد فِيهَا: لبيْك إِن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة» قَالَ ابْن جريج: وحسبت أَن ذَلِك كَانَ يَوْم عَرَفَة. وَسَعِيد هَذَا هُوَ القداح، وَقد وَثَّقَهُ ابْن معِين (وَلينه) غَيره، وَهُوَ مُرْسل أَيْضا، وسمَّاهُ الْمُنْذِرِيّ مُنْقَطِعًا، وَفِي «الْأُم» : أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ذَلِك فِي أسرّ حَاله؛ وَفِي أَشد حَاله، فَأَما الأشد فَفِي حفر الخَنْدَق، وَأما الأسرّ فحين وقف بِعَرَفَات وَرَأَى (جَمِيع) الْمُسلمين. وَسَيَأْتِي هَذَا فِي «الخصائص» من «النِّكَاح» وَاضحا - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(فَائِدَة: مَعْنَى «إِن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة» : إِن الْحَيَاة الْمَطْلُوبَة الهنية الدائمة هِيَ حَيَاة الدَّار الْآخِرَة) .
الحَدِيث التَّاسِع عشر
رُوِيَ فِي بعض الرِّوَايَات «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِي تلبيته: (لبيْك) حقًّا تعبدًا ورقًّا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» ، فَقَالَ: سَمِعت بعض(6/163)
أَصْحَابنَا يحدث عَن النَّضر بن (شُمَيْل، نَا) هِشَام بن حسان، عَن ابْن سِيرِين، عَن أَخِيه، عَن أنس، قَالَ: «كَانَت تَلْبِيَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: [لبيْك] حجًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا» ثمَّ أخرجه بِسَنَدِهِ مُتَّصِلا عَن فعل أنس ثمَّ قَالَ: لم يحدث يَحْيَى بن سِيرِين عَن أنس إِلَّا بِهَذَا الحَدِيث. وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أنس بن سِيرِين، عَن أنس، قَالَ: «سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُلَبِّي: لبيْك حجًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا» فَأجَاب فِي «علله» بِأَن قَالَ: يرويهِ هِشَام بن حسان وَاخْتلف عَنهُ، فَرَوَاهُ النَّضر بن شُمَيْل، عَن هِشَام (عَن) مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أَخِيه يَحْيَى، عَن أَخِيه أنس، عَن أنس، وَرُوِيَ عَن الْفضل بن مُوسَى نَحْو هَذَا، (وَرَوَاهُ) يَحْيَى بن يمَان، عَن هِشَام بن حسان، عَن حَفْصَة بنت سِيرِين، عَن أُخْت لَهَا، عَن أنس، (قَالَت) : عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: لَا. وَرَوَاهُ يَحْيَى الْقطَّان وروح بن عبَادَة وَحَمَّاد بن زيد، عَن هِشَام، عَن حَفْصَة، عَن يَحْيَى بن سِيرِين، عَن أنس (بن مَالك) فعله وَقَوله. وَرَوَاهُ الثَّوْريّ، عَن هِشَام، عَن أم الْهُذيْل، عَن أنس قَوْله. قَالَ: وَالصَّحِيح من ذَلِك قَول حَمَّاد بن زيد وَيَحْيَى الْقطَّان. (ثمَّ) قَالَ: نَا مُحَمَّد بن مخلد،(6/164)
نَا يَحْيَى (بن مُحَمَّد) بن أعين الْمروزِي، نَا النَّضر بن شُمَيْل، نَا هِشَام بن حسان، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أَخِيه يَحْيَى بن سِيرِين، عَن أَخِيه أنس بن سِيرِين، عَن أنس بن مَالك سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لبيْك حجًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا» وَهَذِه غَرِيبَة عَايَا بهَا بَعضهم، فَقَالَ: ثَلَاثَة إخْوَة، رَوَى بَعضهم عَن بعض. وَرَوَاهُ ابْن طَاهِر الْمَقْدِسِي الْحَافِظ فِي تَخْرِيجه لأبي مَنْصُور (عبد المحسن) بن مُحَمَّد بن عَلّي الْبَغْدَادِيّ بِزِيَادَة أَخ رَابِع، وَهُوَ معبد (أَخُو) يَحْيَى وَأنس.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا فرغ من تلبيته فِي حج أَو عمْرَة سَأَلَ الله رضوانه وَالْجنَّة، واستعاذ برحمته من النَّار» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن صَالح بن مُحَمَّد بن زَائِدَة، عَن عمَارَة بن خُزَيْمَة (بن) ثَابت، عَن أَبِيه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا فرغ من تلبيته سَأَلَ الله رضوانه وَالْجنَّة (واستعفاه)(6/165)
برحمته من النَّار» كَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: تَابعه عبد الله بن عبد الله الْأمَوِي، عَن صَالح. قَالَ الشَّافِعِي: وَأَنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد «أَنَّ القاسمَ بن مُحَمَّد كَانَ يَأْمر إِذا فرغ من التَّلْبِيَة أَن يصلى عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ عبد الله الْأمَوِي، عَن صَالح، (عَن) الْقَاسِم قَالَ: «كَانَ يُؤْمَر ... » وَاقْتصر الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَلَى مُتَابعَة عبد الله (الْأمَوِي) وَلَفظه: «سَأَلَ الله رضوانه ومغفرته، واستعاذ برحمته من النَّار» قَالَ صَالح: وسمعتُ الْقَاسِم بن مُحَمَّد يَقُول: «كَانَ يُؤْمر إِذا فرغ من تلبيته أَن يصلى عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وَكَذَا سَاقه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» (سَوَاء) ، وَكَذَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَقَالَ: « (استعتقه) من النَّار» وَعَزاهُ صَاحب «الإِمَام» إِلَى رِوَايَة أبي (ذَر) الْهَرَوِيّ بِلَفْظ الْبَيْهَقِيّ وَالطَّبَرَانِيّ، وَإِبْرَاهِيم شيخ الشَّافِعِي قد عرفتَ حَاله فِي أول الْكتاب فِي حَدِيث (المشمس) ،(6/166)
وَصَالح بن مُحَمَّد بن زَائِدَة قَالَ أَحْمد: مَا أرَى بِهِ بَأْسا. وَضَعفه يَحْيَى وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان، وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَعبد الله الْأمَوِي قَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَقَالَ: يُخَالف فِي رِوَايَته.
الحَدِيث الْحَادِي (بعد) الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يحرم غسل رَأسه بأشنان وخطمي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وَفِي إِسْنَاده: عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، وَفِيه لين، وَقد أسلفنا أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ فِي بَاب الْوضُوء (هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب) .
وَذكر فِيهِ من الْآثَار (أثر) عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه رَأَى عَلَى طَلْحَة ثَوْبَيْنِ مصبوغين وَهُوَ حرَام، فَقَالَ: أَيهَا الرَّهْط، إِنَّكُم أَئِمَّة (يُقْتَدَى) بكم؛ فَلَا يلبس أحدكُم من هَذِه الثِّيَاب المصبغة فِي الْإِحْرَام» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن نَافِع أَنه(6/167)
سمع أسلم مولَى عمر بن الْخطاب يحدث عبد الله بن عمر «أَن عمر بن الْخطاب رَأَى عَلَى طَلْحَة بن عبيد الله ثوبا مصبوغًا وَهُوَ محرم، فَقَالَ عمر: مَا هَذَا الثَّوْب الْمَصْبُوغ يَا طَلْحَة؟ ! فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّمَا هُوَ مدر. فَقَالَ عمر: (إِنَّكُم) أَيهَا الرَّهْط (أَئِمَّة) يَقْتَدِي بكم النَّاس، فَلَو أَن رجلا جَاهِلا رَأَى هَذَا الثَّوْب لقَالَ إِن طَلْحَة بن عبيد الله كَانَ يلبس الثِّيَاب المصبغة فِي الْإِحْرَام؛ فَلَا تلبسوا أَيهَا الرَّهْط شَيْئا من هَذِه الثِّيَاب المصبغة» .
وَذكر فِيهِ من الْآثَار، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنه قَالَ: «لَا يُلَبِّي الطَّائِف» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِنَحْوِهِ (بِإِسْنَادِهِ) عَن مَالك، عَن ابْن شهَاب أَنه كَانَ يَقُول: «كَانَ عبد الله بن عمر لَا يُلَبِّي وَهُوَ يطوف حول الْبَيْت» .(6/168)
بَاب دُخُول مَكَّة وَمَا يتَعَلَّق بِهِ
ذكر فِيهِ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فستة وَتسْعُونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام دخل مَكَّة ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى عَرَفَة» .
هَذَا حَدِيث صَحِيح مَشْهُور مستفيض عَنهُ (وَمن ذَلِك حَدِيث جَابر الطَّوِيل السالف، وَكَذَلِكَ فَعَله الْخلف وَالسَّلَف.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنه كَانَ لَا يقدم مَكَّة إِلَّا بَات بِذِي طوى حَتَّى يصبح ويغتسل، ثمَّ يدْخل مَكَّة، وَيذكر أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَفْعَله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد تقدم فِي «بَاب: سنَن الْإِحْرَام» وَهُوَ الحَدِيث الثَّالِث (مِنْهُ) .
فَائِدَة: طوى مثلث الطَّاء، حكاهن صَاحب «الْمطَالع» وجماعات (قَالُوا) : وَالْفَتْح أَجود وَهُوَ مَقْصُور، وَلَا يجوز (مَدّه) قَالَ صَاحب «الْمطَالع» : وَوَقع فِي كتاب الْمُسْتَمْلِي (ذُو) الطواء (مَمْدُود)(6/169)
وَيصرف وَلَا يصرف، قيل: سُمِّي بذلك؛ لِأَن بِئْرهَا كَانَ مطويًّا (بِالْحِجَارَةِ) فنُسِب (الْوَادي إِلَيْهَا) وَهُوَ مَوضِع عِنْد بَاب مَكَّة من أَسْفَلهَا فِي طَرِيق الْعمرَة الْمُعْتَادَة من مَسَاجِد عَائِشَة بَين الثَّنية السُّفْلَى والعليا.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يدْخل مَكَّة من الثَّنية الْعليا وَيخرج من الثَّنية السُّفْلَى» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل مَكَّة من كداء من الثَّنية الْعليا الَّتِي عِنْد الْبَطْحَاء وَخرج من الثَّنية السُّفْلَى» هَذَا لفظ البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة لَهُ وَلمُسلم عَنهُ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يخرج من طَرِيق الشَّجَرَة (وَيدخل) من طَرِيق المعرس» زَاد البُخَارِيّ: «وَأَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا خرج إِلَى مَكَّة يُصَلِّي فِي مَسْجِد الشَّجَرَة (فَإِذا) رَجَعَ صَلَّى بِذِي الحليفة بِبَطن الْوَادي وَبَات(6/170)
حَتَّى يصبح» وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «وَإِذا دخل مَكَّة يدْخل من الثَّنية الْعليا الَّتِي بالبطحاء وَيخرج من الثَّنية السُّفْلَى» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «الْعليا الَّتِي بالبطحاء» وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «دخل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَام الْفَتْح من كداء الَّتِي (بِأَعْلَى) مَكَّة» وَفِي رِوَايَة لَهما: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما جَاءَ إِلَى مَكَّة دَخلهَا من أَعْلَاهَا وَخرج من أَسْفَلهَا» وَفِي بعض طرق البُخَارِيّ: «دخل من كداء وَخرج من كداء من أَعلَى مَكَّة»
(كداء عِنْده) بِالضَّمِّ فِي الأولَى وَالْفَتْح فِي الثَّانِيَة كَمَا نَقله عبد الْحق، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا مقلوب، وكداء بِالضَّمِّ إِنَّمَا هِيَ السُّفْلَى. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
فَائِدَة: أصل الثَّنية فِي اللُّغَة: الطَّرِيق الضّيق بَين الجبلين، وَأما كداء الْعليا (فَهِيَ) بِفَتْح الْكَاف وبالمد مَصْرُوف، وَوَقع فِي «الإِمَام» (للشَّيْخ تَقِيّ الدَّين أَنه) غير مَصْرُوف وَأَنه مَمْدُود، وَأما السُّفْلَى فبالضم(6/171)
وَالْقصر والتنوين. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الَّذِي (يشْعر) بِهِ كَلَام المصنفين: أَن السُّفْلَى أَيْضا بِالْمدِّ، (ورد) عَلَيْهِ ذَلِك النَّوَوِيّ، (وَقَول الرَّافِعِيّ وَيدل عَلَيْهِ أَنهم كتبوها بِالْألف، وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّهَا بِالْيَاءِ، وَرَوَى فِيهِ شعرًا.
قلت: استدلاله بِالْكِتَابَةِ عَجِيب، فَإِن الْكِتَابَة بِالْألف لَا تَسْتَلْزِم أَن يكون ممدودًا؛ بل كل مَقْصُور لَا يمال كَمَا يعْصَى وَنَحْوه بِالْألف، وَكَذَلِكَ مَا أميل أَيْضا. وَكَلَامه فِي «الشَّرْح الصَّغِير» ظَاهر فِي تَرْجِيح الْقصر، وَهُوَ الصَّوَاب الَّذِي قطع بِهِ الْمُحَقِّقُونَ.
فَائِدَة (ثَانِيَة) : كدى - بِالتَّصْغِيرِ -: جبل مُرْتَفع قريب من مَكَّة فِي صوب الْيمن، وَفِيه أَيْضا ثنية ضيقَة، وَهِي فِي ذهَاب الشَّخْص إِلَى جبل ثَوْر، وَلَيْسَ بلغةٍ كَمَا توهَّمَه بَعضهم) .
الحَدِيث (الرَّابِع)
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا رَأَى الْبَيْت رفع يَدَيْهِ ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْت تَشْرِيفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً، وزِدْ من شرَّفَه وعظَّمَه ممَّنْ حَجَّه أَو اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبِرًّا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي أَنا سعيد بن سَالم، عَن ابْن جريج: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا رَأَى الْبَيْت رفع (يَدَيْهِ) وَقَالَ:(6/172)
اللَّهُمَّ ... » فَذكره كَمَا سَاقه الرَّافِعِيّ، إِلَّا أَنه قَالَ بدل: «وعظمه» : «وَكَرمه» وَسَيَأْتِي بِلَفْظ: «وعظمه» أَيْضا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُنْقَطع. وَقَالَ ابْن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ: مُرْسل معضل. وَقَالَ صَاحب «الإِمَام» : معضل فِيمَا بَين ابْن جريج وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: هَكَذَا حدث بِهِ الشَّافِعِي مُنْقَطِعًا. وَقَالَ: لَيْسَ فِي رفع الْيَدَيْنِ شَيْء أكرهه وَلَا أستحبه عِنْد رُؤْيَة الْبَيْت وَهُوَ عِنْدِي حسن. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَأَنَّهُ لم يعْتَمد عَلَى الحَدِيث لانقطاعه.
قلت: وَسَعِيد بن سَالم هُوَ القداح، وَقد علمتَ حَاله فِي أَوَاخِر الْبَاب قبله، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَله شَاهد مُرْسل عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن أبي سعيد الشَّامي، عَن مَكْحُول، قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا دخل مَكَّة (فَرَأَى) الْبَيْت رفع يَدَيْهِ وَكبر وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْت السَّلَام ومنك السَّلَام، فحيِّنا رَبنَا بِالسَّلَامِ، اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْت تَشْرِيفًا وتعظيمًا وتكريمًا (ومهابة، وزد من حجه أَو اعتمره تَشْرِيفًا وتكريمًا) (وتعظيمًا) وبِرًّا» .
قلت: وَله شَاهد مُتَّصِل من حَدِيث حُذَيْفَة بن أسيد، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن مُحَمَّد بن مُوسَى الْأَيْلِي الْمُفَسّر، ثَنَا عمر بن يَحْيَى الْأَيْلِي، نَا عَاصِم بن سُلَيْمَان الكوزي، عَن زيد بن أسلم، عَن(6/173)
أبي الطُّفَيْل، عَن حُذَيْفَة بن أسيد «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا نظر إِلَى الْبَيْت قَالَ: اللَّهُمَّ زد بَيْتك هَذَا تَشْرِيفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبرًّا ومهابة» . وَعَاصِم (هَذَا) كذبوه. وَفِي «سنَن سعيد بن مَنْصُور» : نَا (مُعْتَمر) بن سُلَيْمَان، حَدثنِي برد بن سِنَان أَبُو الْعَلَاء، قَالَ: سَمِعت عباد بن قسَامَة يَقُول: «إِذا رَأَيْت الْبَيْت فَقل: اللَّهُمَّ زد بَيْتك هَذَا تَشْرِيفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة، وزد من شرفه وعظمه وَكَرمه مِمَّن حجه (واعتمره) تَشْرِيفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبرًّا» وفيهَا أَيْضا عَن سعيد بن الْمسيب، قَالَ: سَمِعت هَذَا من عمر، وَمَا بَقِي عَلَى الأَرْض سمع هَذَا مِنْهُ غَيْرِي «أَنه نظر إِلَى الْبَيْت فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْت السَّلَام ومنك السَّلَام (فحيِّنا) رَبنَا بِالسَّلَامِ» وَفِي هَذَا إِثْبَات سَماع سعيد (من عمر) وَالْمَشْهُور خِلَافه.
فَائِدَة: وَقع فِي «مُخْتَصر الْمُزنِيّ» ذكر المهابة فِي هَذَا الحَدِيث فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وغلطه الْأَصْحَاب فِي ذَلِك وَقَالُوا: إِنَّمَا يُقَال فِي الثَّانِي «وبرًّا» لِأَن المهابة تلِيق بِالْبَيْتِ وَالْبر يَلِيق بالإنسان، (قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالثَّابِت فِي الْخَبَر إِنَّمَا هُوَ الِاقْتِصَار عَلَى الْبر.(6/174)
قلت: أَيْن الثُّبُوت؟ فَالْحَدِيث فِي نَفسه رَوَاهُ الشَّافِعِي مُرْسلا ومعضلاً) . وَوَقع فِي «الْوَجِيز» ذِكْر المهابة وَالْبر جَمِيعًا فِي (الأول) وَذكر الْبر وَحده ثَانِيًا، وَاعْتَرضهُ الرَّافِعِيّ فَقَالَ: لم (يَرَ) الْجمع بَينهمَا إِلَّا لَهُ، وَلَا ذكر لَهُ فِي الحَدِيث الْوَارِد بِهَذَا الدُّعَاء، وَلَا فِي كتب الْأَصْحَاب، وَالْبَيْت لَا يتَصَوَّر مِنْهُ بر، وَلَا يَصح إِطْلَاق هَذَا اللَّفْظ عَلَيْهِ إِلَّا أَن يَعْنِي الْبر عَلَيْهِ. وَأجَاب النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «تهذيبه» : لإِطْلَاق الْبر عَلَى الْبَيْت وَجه صَحِيح وَهُوَ أَن يكون (مَعْنَاهُ) أَكثر زائريه، فبِرّه بزيارته كَمَا أَن من جملَة بِرّ الْوَالِدين والأقارب والأصدقاء زيارتهم واحترامهم. وَلَكِن الْمَعْرُوف مَا تقدم، وَقد رَوَى الْأَزْرَقِيّ فِي «تَارِيخ مَكَّة» حَدِيثا عَن مَكْحُول، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - « (أَنه) كَانَ إِذا رَأَى الْبَيْت رفع يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْت تَشْرِيفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة وبِرًّا وزِدْ مَن شَرَّفه ... » إِلَى آخِره، هَكَذَا ذكره، جمع أَولا بَين المهابة والبِرّ كَمَا وَقع فِي «الْوَجِيز» لَكِن هَذِه الرِّوَايَة مُرْسلَة، وَفِي (إسنادها) رجل مَجْهُول وَآخر ضَعِيف.(6/175)
الحَدِيث الْخَامِس
(رُوِيَ) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لقد حج هَذَا الْبَيْت (سَبْعُونَ) نبيًّا لَهُم، خلعوا نعَالهمْ من ذِي طوى تَعْظِيمًا للحرم» .
هَذَا الحَدِيث رُوِيَ بِمَعْنَاهُ من طَرِيقين:
إِحْدَاهمَا: عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لقد مرّ بالصخرة من الروحاء (سَبْعُونَ) نبيًّا حُفَاة، عَلَيْهِم العباء يؤمُّونَ الْبَيْت الْعَتِيق فيهم مُوسَى» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» والعقيلي فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» فِي تَرْجَمَة أبان الرَّقاشي، وَقَالَ: حَدثنِي آدم، قَالَ: سَمِعت البُخَارِيّ، قَالَ: أبان الرقاشِي، عَن أبي مُوسَى رَوَى عَنهُ يزِيد، وَلم يَصح حَدِيثه. قَالَ الْعقيلِيّ: والْحَدِيث هُوَ هَذَا.
(الطَّرِيق الثَّانِي) : عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما مَوْقُوفا عَلَيْهِ، قَالَ: «كَانَت الْأَنْبِيَاء يدْخلُونَ الْحرم مشَاة حُفَاة يطوفون بِالْبَيْتِ ويقضون الْمَنَاسِك حُفَاة مشَاة» رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي(6/176)
«سنَنه» كَذَلِك وَفِي إِسْنَاده مبارك بن حسان الْبَصْرِيّ وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، لَا يحْتَج بِهِ، يُرْمَى بِالْكَذِبِ. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَلَى نمطٍ آخر فَقَالَ: ثَنَا وَكِيع، نَا زَمعَة بن صَالح، عَن سَلمَة بن وهرام، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «لما مرّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بوادي عسفان حِين حج (قَالَ) : يَا أَبَا بكر، أَي وادٍ هَذَا؟ قَالَ: وَادي عسفان. قَالَ: لقد مرّ بِهِ هود وَصَالح عَلَى بكرات حمرٍ خطمها الليف، أزرهم العباء، وأرديتهم النمار، يلبون نَحْو الْبَيْت الْعَتِيق» وَزَمعَة ضعفه أَحْمد، وَأخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا بآخر، وَسَلَمَة بن وهرام مُخْتَلف فِيهِ، وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وَضَعفه أَبُو دَاوُد، وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» ، عَن ابْن عمر قَالَ: «وقف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعسفان، فَقَالَ: لقد مر (بِهَذِهِ) الْقرْيَة سَبْعُونَ نبيًّا، ثِيَابهمْ العباء، ونعالهم الخوص» قَالَ ابْن أبي حَاتِم: [قَالَ أبي:] هَذَا حَدِيث مَوْضُوع بِهَذَا الْإِسْنَاد.
وَلما ذكر ابْن الرّفْعَة عَن (النَّوَوِيّ) اسْتِحْبَاب دُخُول مَكَّة حافيًا، قَالَ: وَهُوَ مَا ذكره فِي «الْبَحْر» عَن بعض النَّاس مستدلاًّ بقوله تَعَالَى(6/177)
لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: (اخلع نعليك) (وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام: «لقد حج هَذَا الْبَيْت ... » فَذكر الحَدِيث، وَهُوَ كَمَا ذكره عَن (الْبَحْر) ، وَكَأَنَّهُ سقط شَيْء من الِاسْتِدْلَال وَأَصله (لقَوْله تَعَالَى: (اخلع نعليك) الْآيَة) .
الحَدِيث السَّادِس
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل الْمَسْجِد من بَاب بني شيبَة» .
هَذَا الحَدِيث قَالَ فِيهِ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن بوب دُخُول الْمَسْجِد من بَاب بني شيبَة: وَرَوَى عَن ابْن عمر مَرْفُوعا (فِي) دُخُوله من بَاب بني شيبَة وَخُرُوجه من بَاب الخياطين. قَالَ: وَإِسْنَاده غير مَحْفُوظ.
قلت: وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ وَلَفظه عَن عبد الله بن عمر، قَالَ: «دخل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ودخلنا مَعَه من بَاب بني عبد منَاف، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه النَّاس: بَاب بني شيبَة، وَخَرجْنَا مَعَه إِلَى الْمَدِينَة من بَاب الْحَزْوَرَة، وَهُوَ بَاب الخياطين» وَفِي إِسْنَاده عبد الله بن نَافِع وَقد ضَعَّفُوهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ورويناه عَن ابْن جريج عَن عَطاء قَالَ: «يدْخل الْمحرم من حَيْثُ شَاءَ، وَدخل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من بَاب بني شيبَة، وَخرج من بَاب بني مَخْزُوم إِلَى الصَّفَا» ثمَّ قَالَ - أَعنِي الْبَيْهَقِيّ -: هَذَا مُرْسل جيد.(6/178)
وصَدَّرَ الْبَاب بِحَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لما أَن هُدِم الْبَيْت بعد جُرْهم بَنَتْه قُرَيْش، فَلَمَّا أَرَادوا وضع الْحجر تشاجروا، من يَضَعهُ؟ (فاتفقوا) أَن يَضَعهُ أول من يدْخل (من) هَذَا الْبَاب، فَدخل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من بَاب بني شيبَة (فَأمر) بِثَوْب فَوضع الْحجر فِي وَسطه، وَأمر كلَّ فَخذ أَن يَأْخُذُوا بطائفةٍ من الثَّوْب (فيرفعوه) وَأَخذه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَوَضعه» ثمَّ عقبه بِحَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام [لما قدم] فِي عهد قُرَيْش دخل من هَذَا الْبَاب الْأَعْظَم، وَقد جَلَست قُرَيْش مِمَّا يَلِي الْحجر» .
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حج فَأول شَيْء بَدَأَ بِهِ حِين قدم أَن تَوَضَّأ (ثمَّ) طَاف (بِالْبَيْتِ) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (مطولا) .(6/179)
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل مَكَّة عَام الْفَتْح غير محرم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» (من) حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل مَكَّة يَوْم الْفَتْح وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء بِغَيْر إِحْرَام) هَذَا لفظ إِحْدَى رِوَايَات مُسلم، وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: « (أَن) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل مَكَّة عَام الْفَتْح وَعَلَى رَأسه المِغْفر» قَالَ مَالك: وَلم يكن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيمَا نرَى، وَالله أعلم - محرما. وَاعْلَم أَن (الرَّافِعِيّ) ذكر هَذَا الحَدِيث (دَلِيلا) عَلَى أَن الْخَائِف من الْقِتَال وَنَحْوه لَا يلْزمه الْإِحْرَام، وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ؛ فَإِن من خَصَائِصه عَلَيْهِ السَّلَام دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام، كَمَا ذكره صَاحب «التَّلْخِيص» وَغَيره وَالْخلاف فِي حق غَيره.
الحَدِيث التَّاسِع(6/180)
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الطّواف (بِالْبَيْتِ) مثل الصَّلَاة إِلَّا أَنكُمْ تتكلمون فِيهِ؛ فَمن تكلم فَلَا يتَكَلَّم إِلَّا بِخَير» .
هَذَا (الحَدِيث) تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب الْأَحْدَاث، فَرَاجعه من ثمّ.
الحَدِيث الْعَاشِر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلَا حدثان قَوْمك بالشرك لهدمت الْبَيْت ولبنيته عَلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، فَأَلْصَقته بِالْأَرْضِ وَجعلت لَهُ بَابَيْنِ شرقيًّا وغربيًّا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْحجر: أهوَ من الْبَيْت؟ قَالَ: نعم. قلت: فَمَا لَهُم (لم) يدخلوه فِي الْبَيْت؟ ! قَالَ: إِن قَوْمك قصرت بهم النَّفَقَة. قلت: فَمَا شَأْن بَابه مرتفعًا؟ قَالَ: فعل ذَلِك قَوْمك ليدخلوا من شَاءُوا ويمنعوا من (شَاءُوا) وَلَوْلَا أَن قَوْمك حَدِيث عَهدهم بالجاهلية وأخاف أَن (ينكروا) أَن أَدخل الْجدر فِي الْبَيْت وَأَن ألصق بَابه بِالْأَرْضِ» وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «الحِجْر» بدل(6/181)
«الْجدر» (والجَدْر) بِفَتْح الْجِيم وَإِسْكَان الدَّال الْمُهْملَة: (الحِجْر) وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لعَائِشَة: لَوْلَا أَن قَوْمك حَدِيث (عَهدهم) بجاهلية لأمرت بِالْبَيْتِ فهُدِم (فأُدْخِل) فِيهِ مَا أُخْرِج مِنْهُ (وأَلْزَقْته) بِالْأَرْضِ، وَجعلت لَهُ بَابَيْنِ: بَابا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، وَبَلغت بِهِ أساس إِبْرَاهِيم» وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَنْهَا، قَالَت: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَوْلَا أَن قَوْمك حديثو عهدٍ بجاهلية - أَو قَالَ بِكفْر - لأنفقت كنز الْكَعْبَة فِي سَبِيل الله، ولجعلت بَابهَا بِالْأَرْضِ، ولأدخلت فِيهَا الحِجْر» وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا: «يَا عَائِشَة، لَوْلَا أَن قَوْمك (حديثو) عهد بشرك لنقَضْتُ الْكَعْبَة فألزقتها بِالْأَرْضِ، وَجعلت لَهَا بَابَيْنِ: بَابا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، وزدت فِيهَا سِتَّة أَذْرع (من الحِجْر؛ فَإِن قُريْشًا اقتصرتها حِين بنت الْكَعْبَة» وَفِي رِوَايَة «خمس أَذْرع» ) وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِن قَوْمك استقصروا من بُنيان الْبَيْت وَلَوْلَا حَدَاثَة عَهدهم بالشرك أعدت مَا تركُوا مِنْهُ، فَإِن بدا لقَوْمك من بعدِي أَن يبنوه (فهلمي)(6/182)
لأريك مَا تركُوا مِنْهُ. فأراها قَرِيبا من سَبْعَة أَذْرع» .
الحَدِيث الْحَادِي عشر وَالثَّانِي عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ - بعد اعْتِبَار جعل الْبَيْت عَلَى يسَار الطَّائِف ومحاذاة الحَجَر بِجَمِيعِ الْبدن -: وَإِنَّمَا اعْتبر لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَذَلِك طَاف وَقَالَ: «خُذُوا عني مَنَاسِككُم» .
هَذَا (الحَدِيث) كُله صَحِيح، فَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث جَابر «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ لما قدم مَكَّة أَتَى الْحجر فاستلمه، ثمَّ مَشَى عَلَى يَمِينه فَرمَلَ ثَلَاثًا وَمَشى أَرْبعا» وَفِيه أَيْضا من حَدِيث جَابر، قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَرْمِي عَلَى رَاحِلَته يَوْم النَّحْر وَيَقُول: لِتَأْخُذُوا (عني) مَنَاسِككُم؛ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لعَلي لَا أحج بعد حجتي هَذِه» وَفِي رِوَايَة للبيهقي بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح فِي بَاب الْإِسْرَاع فِي وَادي محسر: «خُذُوا عني مَنَاسِككُم، لعَلي لَا أَرَاكُم بعد عَامي هَذَا» وَفِي رِوَايَة للنسائي بِإِسْنَادِهِ فِي بَاب الرّكُوب إِلَى الْجمار «رَأَيْت رَسُول الله يَرْمِي الْجَمْرَة وَهُوَ عَلَى بعيره وَهُوَ يَقُول: يَا أَيهَا النَّاس، خُذُوا عني مَنَاسِككُم (فَإِنِّي) لَا أَدْرِي لعَلي لَا أحج بعد عَامي هَذَا» .
الحَدِيث الثَّالِث عشر(6/183)
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «نذرت أَن أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي الْبَيْت، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (صلي) فِي الْحجر؛ فَإِن سِتَّة أَذْرع مِنْهُ من الْبَيْت» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب كَذَلِك، وَالْمَعْرُوف مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَنْهَا، قَالَت: «كنت أحب (أَن) أَدخل الْبَيْت فأصلي فِيهِ، فَأخذ رَسُول الله بيَدي فَأَدْخلنِي فِي الْحجر، فَقَالَ لي: صلي فِيهِ إِن أردْت دُخُول الْبَيْت؛ فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَة مِنْهُ، وَإِن قَوْمك اقتصروا حِين بنوا الْكَعْبَة (فأخرجوه) من الْبَيْت» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَفِي رِوَايَة للنسائي: «قلت: يَا رَسُول الله، (أَأدْخل) الْبَيْت؟ قَالَ: ادخلي الْحجر؛ فَإِنَّهُ من الْبَيْت» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه (بِلَفْظِهِ) عَن عَائِشَة: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْحجر، فَقَالَ: هُوَ من الْبَيْت. قلت: مَا مَنعهم أَن يدخلوه فِيهِ؟ ! قَالَ:(6/184)
عجزت بهم النَّفَقَة» وَفِي «مُعْجم الْإِسْمَاعِيلِيّ» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الترجماني، نَا شُعَيْب بن صَفْوَان، عَن عَطاء، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس، عَن عَائِشَة، قَالَت: (قلت: يَا رَسُول الله، كل نِسَائِك قد دَخَلْنَ البيتَ غَيْرِي! قَالَ: (فاذهبي) إِلَى ذِي قرابتك - إِلَى شيبَة - فليفتح لَك (الْبَاب) (قَالَت) : فذهبتُ إِلَى شيبَة فَقلت: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَأْمُرك أَن تفتحَ لي الْبَاب (قَالَ) : رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمَرَك؟ قلت: نعم. فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا نَبِي الله، أمرت عَائِشَة أَن يُفْتَحَ لَهَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: واللهِ مَا فتحتُ فِي جَاهِلِيَّة وَلَا (إِسْلَام) بليلٍ قطّ. قَالَ: فاذْهَبْ فاصَنَعْ مَا كنت تفعل؛ واذْهبي أنتِ يَا عَائِشَة فصلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي الْحجر، فَإِن طَائِفَة مِنْهُ فِي الْبَيْت، وإنَّ قَوْمك قصرت بهم النَّفَقَة فتركوا طَائِفَة من الْبَيْت فِي الْحجر» وَرَوَاهُ ابْن الْمُغلس عَن (أَحْمد) بن أبي خَيْثَمَة، عَن سُرَيج (بن) النُّعْمَان، نَا أَبُو (معشر) ، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «إِن أهل الْجَاهِلِيَّة اقتصروا فِي بِنَاء (هَذَا) الْبَيْت فادخلي الحِجْر وصَلِّي عندَ الْبَيْت؛ فإنَّ ذَلِك من الْبَيْت» .
وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ ذكر هَذَا الحَدِيث فِي (تَقْرِيره) أَن سِتَّة أذرعٍ(6/185)
من الحِجْر فَقَط من الْبَيْت، ويغني عَنهُ الحَدِيث الصَّحِيح عَنْهَا فِي تَقْرِيره بذلك، وَقد (أسلفت) فِي الحَدِيث الْعَاشِر اضْطِرَاب الرِّوَايَات فِيهِ.
الحَدِيث الرَّابِع عشر وَالْخَامِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - طَاف سبعا وَقَالَ: خُذُوا عني مَنَاسِككُم» .
أما كَونه «طَاف سبعا» فَأخْرجهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر و (مُسلم) من حَدِيث جَابر الطَّوِيل كَمَا سلف. وَأما قَوْله: «خُذُوا عني مَنَاسِككُم» فَتقدم بَيَانه قَرِيبا.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما فرغ من طَوَافه صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: «قدم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا ثمَّ صَلَّى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ» .
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل، كَمَا سلف فِي الْبَاب قبله.
الحَدِيث السَّابِع عشر(6/186)
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[لما] صَلَّى بعد الطّواف رَكْعَتَيْنِ تَلا قَوْله تَعَالَى: (وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مُصَلَّى» ) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر الطَّوِيل، وَقد سلف فِي الْبَاب قبله، لَكِن ظَاهره أَنه تَلا هَذِه الْآيَة قبل الصَّلَاة كَمَا مرّ، وَكَذَا رِوَايَة ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : «فَلَمَّا فرغ من طَوَافه انْتقل إِلَى الْمقَام، فَقَالَ: قَالَ الله: (وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مُصَلَّى) (وَصَلى) خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ» (وَكَذَلِكَ رِوَايَة) الْبَيْهَقِيّ: «فَلَمَّا طَاف ذهب إِلَى الْمقَام، وَقَالَ (: (وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مُصَلَّى) فَصَلى رَكْعَتَيْنِ» .
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي حَدِيث الْأَعرَابِي: «لَا إلاّ أنْ تَطَّوع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف بَيَانه (فِي) أول الصّيام.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقْرَأ فِي رَكْعَتي الطّواف فِي الأولَى: (قل يأيها الْكَافِرُونَ ((6/187)
وَفِي الثَّانِيَة: (قل هُوَ الله أحد) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح؛ رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل كَمَا أسلفناه، وَرَوَاهُ البيهقيُّ بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام طافَ بِالْبَيْتِ، فَرَمَلَ من الحَجَر الْأسود ثَلَاثًا ثمَّ، صلّى رَكْعَتَيْنِ يقْرَأ فيهمَا: (قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ (و (قل هُوَ الله أحد. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا وجدتُهُ، وَإسْنَاد هَذِه الرِّوَايَة صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - طَاف رَاكِبًا فِي حَجَّة الْوَدَاع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَله طرق:
إِحْدَاهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام طَاف فِي حجَّة الْوَدَاع عَلَى بعيرٍ، يسْتَلم الركنَ بمحجن» . أَخْرجَاهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: وَقع ذكر الْبَعِير فِي «أبي دَاوُد» دون «مُسلم» ، وَاعْترض(6/188)
بذلك عَلَى عبد الْحق، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ؛ (فَهِيَ) ثَابِتَة فِيهِ كَمَا فِي «البُخَارِيّ» أَيْضا وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ عَنهُ: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - طَاف بِالْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى بعير، كلما أَتَى عَلَى الرُّكْن أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْء فِي يَده، وكبَّرَ» .
(ثَانِيهَا: من) حَدِيث جَابر بْنِ عبد الله قَالَ: «طَاف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (بِالْبَيْتِ) فِي حجَّة الْوَدَاع عَلَى (رَاحِلَته) ، يسْتَلم الْحجر بِمِحْجَنِهِ لِأَن يرَاهُ النَّاس، (وليشرف) ، وليسألوه؛ فَإِن النَّاس غشوه» . رَوَاهُ مُسلم كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وبالصفا والمروة» . وَرَوَاهُ البُخَارِيّ إِلَى قَوْله: «بِمِحْجَنِهِ» .
ثَالِثهَا: من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «طَاف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حجَّة الْوَدَاع حول الْكَعْبَة عَلَى بعير يسْتَلم الركنَ، كَرَاهِيَة أَن يُصْرَفَ عَنْهُ الناسُ» . رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ.(6/189)
رَابِعهَا: من حَدِيث أبي الطُّفَيْل قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يطوف بِالْبَيْتِ، ويستلم الرُّكْن بمحجن مَعَه، وَيُقَبِّلُ المحجنَ» . رَوَاهُ مُسلم، وَقد ذكره الرافعيُّ بعد، قَالَ الرَّافِعِيّ: (وَكَانَ) أَكثر طَوَافه مَاشِيا، وَإِنَّمَا ركب فِي حجَّة الْوَدَاع ليراه النَّاس فيستفتونه. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد تقدم كَذَلِك فِي حَدِيث جَابر (الطَّوِيل) السالف. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا طَاف رَاكِبًا لشكوى عرضت لَهُ» . فَرَوَاهُ أَحْمد (وَأَبُو دَاوُد) ، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة يزِيد بن أبي زِيَاد، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد تفرد بهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: وَلَا (أعلمهُ) اشْتَكَى فِي تِلْكَ الْحجَّة. وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث ابْن عمر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام طَاف رَاكِبًا يَوْم الْفَتْح، وَهَذَا لَفظه: «طَاف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى رَاحِلَته الْقَصْوَاء يَوْم الْفَتْح، واستلم الرُّكْن بِمِحْجَنِهِ» . وَهُوَ حَدِيث طَوِيل، وَفِي «الْأُم» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام طَاف طواف الْقدوم عَلَى (عقبه) » . وَفِي «الْمَاوَرْدِيّ» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام طَاف مرّة فِي عمره طواف الْإِفَاضَة رَاكِبًا» .(6/190)
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَدَأَ بالحَجَرِ فاستلمه، وفاضت عَيناهُ من البُكاء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة أبي جَعْفَر محمدِ بن عَلّي بن الْحُسَيْن، عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: «دَخَلنَا مَكَّة عِنْد ارْتِفَاع الضُّحَى، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَاب الْمَسْجِد، فَأَنَاخَ رَاحِلَته، ثمَّ دخل الْمَسْجِد، فَبَدَأَ بِالْحجرِ فاستلمه وفاضت عَيناهُ بالبكاء، ثمَّ رَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشى أَرْبعا حَتَّى فرغ، فلمّا فرغ قبَّل الحَجَرَ، وَوضع يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَمسح بهما وَجهه» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. أَي: فِي مُحَمَّد بن إِسْحَاق مُتَابعَة لَا اسْتِقْلَالا، لكنه عنعن فِيهِ وَهُوَ مُدَلّس.
قلت: وَله شَاهد من حَدِيث ابْن عمر ذكرته فِي أَحَادِيث (الْمُهَذّب) .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ - وَهُوَ يطوف بالركن -: «إِنَّمَا أَنْت حَجَر لَا تضر وَلَا تَنْفَع، وَلَوْلَا أَنِّي رأيتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقبِّلُك لَمَا قبَّلْتُك، ثمَّ تقدم فقبَّله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَلَفظ البُخَارِيّ: «أَن عمر قبَّل الحَجَرَ وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله(6/191)
(يقبِّلك (مَا) قبَّلْتُك» . وَلَفظ مُسلم: عَن ابْن عمر قَالَ: «قبَّل عمرُ بْنُ الْخطاب الحَجَرَ، ثمَّ قَالَ: (أما) واللهِ لقد علمتُ أَنَّك حَجَر، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقبِّلك مَا قبَّلتك» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن عبد الله بن سرجس الصحابيِّ قَالَ: «رَأَيْت الأَصْلع - يَعْنِي: عمر بن الْخطاب - يُقبِّل الحَجَر وَيَقُول: واللَّهِ (إِنِّي) لأُقَبِّلُك، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّك حَجَر (وَأَنَّك) لَا تضر وَلَا تَنْفَع، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يقبِّلك) مَا قبَّلتك» وَفِي رِوَايَة لَهُ (وللبخاري) عَن عَابس - بِالْبَاء الْمُوَحدَة - بن ربيعَة التَّابِعِيّ قَالَ: «رَأَيْت عمر يُقبِّل الْحجر وَيَقُول: إِنِّي لأقبلك وَإِنِّي لأعْلم أَنَّك حجر، وَلَوْلَا (أَنِّي) رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقبلك لم أقبلك» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن سُوَيْد بن غَفلَة - بِفَتْح الْغَيْن وَالْفَاء - قَالَ: « (رَأَيْت عمر قبَّل الحَجَرَ وَالْتَزَمَهُ، وَقَالَ) : رَأَيْت(6/192)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بك حفيًّا» . وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «حجَجنَا مَعَ عمر بن الْخطاب، فَلَمَّا دخل الطّواف اسْتقْبل الْحجر فَقَالَ: إِنِّي أعلم أَنَّك حجر لَا تضر وَلَا تَنْفَع، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قبَّلك) مَا قبَّلتك. ثمَّ قَبَّله» . والْحَدِيث فِيهِ طول، ذكرتُه برمَّتِهِ فِي تخريجي لأحاديث «الْوَسِيط» ، فراجِعْهُ مِنْهُ.
(تَنْبِيه) : إِنَّمَا قَالَ عُمَرُ مَا قَالَ ليسمع ذَلِك الناسُ مِنْهُ ويشيع بَينهم، وَقد كَانَ عَهْدُ كثيرٍ مِنْهُم قَرِيبا بعبادةِ الْأَحْجَار وتعظيمها، واعتقاد نَفعهَا وضرها، فخاف أَن يغتر بَعضهم بذلك فَقَالَ مَا قَالَ.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسْتَلم الرُّكْن الْيَمَانِيّ والحَجَرَ الْأسود فِي كل طوفةٍ، وَلَا يسْتَلم الرُّكْنَيْنِ اللَّذين يليان الْحجر» .
هَذَا الحَدِيث أخرجه الشَّيْخَانِ من هَذَا الْوَجْه، وَلَفظ البُخَارِيّ: «لم أَرَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسْتَلم من الْبَيْت إِلَّا الرُّكْنَيْنِ اليمانيين» . وَلَفظ مُسلم: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَا يسْتَلم إِلَّا الحَجَرَ والركنَ الْيَمَانِيّ» . وَفِي رِوَايَة لَهما: قَالَ ابْن عمر: «مَا تركتُ استلام هذَيْن الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيّ وَالْحجر(6/193)
الْأسود مُنْذُ رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستلمهما بِيَدِهِ» . وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا عَنهُ أَنه قَالَ حِين بلغه حَدِيث عَائِشَة السَّابِق «لَوْلَا أَن قَوْمك حَدِيث عهدٍ بكفرٍ ... » الحَدِيث، قَالَ ابْن عمر: «لَئِن كَانَت عَائِشَة سَمِعت هَذَا من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا أرَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ترك استلام الرُّكْنَيْنِ اللَّذين يليان الحَجَرَ، إلاَّ أَن الْبَيْت لم يتم عَلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم» . وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَنهُ: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يسْتَلم الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَالْحجر فِي كل طوفةٍ، وَكَانَ عبد الله بْنُ عمر يَفْعَله» . قَالَ الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاد حسن. وَأخرج الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث حجاج عَن عَطاء وَابْن أبي مُليكة وَعَن نَافِع عَن ابْن عمر: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين دخل مَكَّة اسْتَلم الْحجر الْأسود والركن الْيَمَانِيّ، وَلم يسْتَلم (غَيرهمَا) من الْأَركان» .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
عَن أبي الطُّفَيْل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يطوف بِالْبَيْتِ عَلَى بعيرٍ، ويستلم (الرُّكْن) بمحجنٍ، وَيقبل المحجن» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم، وَقد سبق بِلَفْظِهِ قَرِيبا، وَلم(6/194)
أر فِيهِ ذكر الْبَعِير. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد (بِهِ) ، وَهَذَا لَفظه عَن أبي الطُّفَيْل: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يطوف بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَته، (و) يسْتَلم (الرُّكْن) بِمِحْجَنِهِ، ثمَّ يقبّله» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «ثمَّ خرج (إِلَى) الصَّفَا والمروة فَطَافَ (سبعا) عَلَى رَاحِلَته» .
فَائِدَة:
المِحْجَن - بميم مَكْسُورَة، ثمَّ حاء مُهْملَة، ثمَّ جِيم مَفْتُوحَة، ثمَّ نون - عَصَى معقفةُ الرأسِ.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
عَن عبد الله بن السَّائِب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) « (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) كَانَ يَقُول فِي ابْتِدَاء الطّواف: بِسم الله واللَّهُ أكبر، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بك، وَتَصْدِيقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعًا لسنَّة نبيك مُحَمَّد» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، لَا يحضرني من خرجه مَرْفُوعا بعد الْبَحْث عَنهُ، (وَذكره) صَاحب «المهذَّب» من رِوَايَة جَابر،(6/195)
(وَلم يعزه الْمُنْذِرِيّ، وَلَا النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» ، وَلَا صَاحب «الإِمَام» وَرَوَاهُ ابْن نَاجِية) فِي «فَوَائده» بِإِسْنَاد غَرِيب (عَنهُ) ؛ رَوَاهُ عَن صباح بن مَرْوَان أبي سهل، نَا عبد الله بن سِنَان الزُّهْرِيّ، عَن أَبِيه، عَن مُحَمَّد بن عليّ بن حُسَيْن، عَن جَابر بن عبد الله: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَضَى إِلَى الرُّكْن الَّذِي فِيهِ الْحجر، وكبَّر (فاستلم) ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ وَفَاء بعهدك، وَتَصْدِيقًا بكتابك. قَالَ جَابر: وأمرنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن (نقُول) : وَاتِّبَاع سنَّة نبيك» . قَالَ ابْن عَسَاكِر فِي «تَخْرِيجه لأحاديث المهذَّب» : هَذَا مُخْتَصر من حَدِيث جَابر فِي الْمَنَاسِك، وَهُوَ غَرِيب من هَذَا الْوَجْه وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَفِي كتاب « (الْقرى) » لِلْحَافِظِ محب الدَّين الطَّبَرِيّ أَن الشَّافِعِي أخرج عَن (سعيد بن سَالم، عَن) ابْن أبي نجيح قَالَ: أُخْبرت أَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا رَسُول الله، كَيفَ نقُول إِذا استلمنا؟ قَالَ: قُولُوا: بِسم الله، واللَّهُ أكبر، إِيمَانًا بِاللَّه، وَتَصْدِيقًا لإجابة محمدٍ» . وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» عَن عليّ مَوْقُوفا: «أَنه كَانَ إِذا (مَرَّ) بِالْحجرِ الْأسود فَرَأَى عَلَيْهِ زحامًا استقبله وكبَّر، وَقَالَ: اللَّهُمَّ(6/196)
تَصْدِيقًا بكتابك وَسنة نبيك» . وَفِي رِوَايَة لَهُ عَنهُ «أَنه كَانَ يَقُول إِذا اسْتَلم الْحجر: اللَّهُمَّ إِيمَانًا بك، وَتَصْدِيقًا (بكتابك) ، واتباعًا لسنَّة نبيك مُحَمَّد» . ومدارها وَالَّتِي قبلهَا عَلَى الْحَارِث الْأَعْوَر، وحالته سلفت. وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» أَيْضا من حَدِيث أَحْمد بن حَنْبَل، عَن ابْن (عُليَّة) عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: «أَنه كَانَ إِذا اسْتَلم الْحجر قَالَ: بِسم الله، وَالله أكبر» . وَهَذَا إِسْنَاد جيد، وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» أطول من هَذَا، وَهَذَا لَفظه: «كَانَ ابْن عمر إِذا أَرَادَ أَن يسْتَلم يَقُول: اللَّهُمَّ إِيمَانًا بك، وَتَصْدِيقًا بكتابك وسنَّة نبيك (. ثمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ يستلمه» . وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن (مهَاجر) عَن نَافِع، قَالَ البُخَارِيّ: لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه. وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُ: «يَا عمر، إِنَّك رجل قوي، لَا تُزاحم عَلَى الْحجر فتؤذي الضَّعِيف، إِن وجدت خلْوَة فاستلمه، وَإِلَّا فَاسْتَقْبلهُ وهلِّل وكبِّر» . وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اضطبع، فاستلم وكبَّر، ثمَّ رمل ثَلَاثَة أطواف» .(6/197)
وَاعْلَم أَن الرافعَّي رَحِمَهُ اللَّهُ بعد أَن ذكر أنواعًا من الْأَدْعِيَة قَالَ: وَلَا بَأْس بِقِرَاءَة الْقُرْآن فِي الطّواف، بل هِيَ أفضل من الدُّعَاء (الَّذِي) لم يُؤثر، وَالدُّعَاء الْمسنون أفضل مِنْهَا تأسيًا برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. هَذَا كَلَامه، وَأَشَارَ (إِلَى الْأَحَادِيث) الْوَارِدَة فِي الْأَدْعِيَة فِي الطّواف، وأمثلها حَدِيث عبد الله بن السَّائِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول فِي الطّواف مَا بَين الرُّكْنَيْنِ: (رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وقنا عَذَاب النَّار» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» كَذَلِك، والنسائيُّ وَقَالَ: «بَين الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَالْحجر» وابنُ حبَان فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: «بَين ركن بني جمح والركن الْأسود» وأحمدُ فِي «مُسْنده» كَذَلِك، وَكَذَا الشَّافِعِي، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد كَالنَّسَائِيِّ، قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَقَالَ فِي كتاب التَّفْسِير من «مُسْتَدْركه» : إِنَّه حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» قَالَ أبي: هَكَذَا صَوَاب هَذَا الحَدِيث: عبد الله بن السَّائِب.(6/198)
وَأَخْطَأ أَبُو نعيم فَقَالَ: السَّائِب بن عبد الله. وَقَالَ البخاريُّ أَيْضا فِي «تَارِيخه» : إِنَّه وهْم. وَأما ابْن الْقطَّان فَإِنَّهُ أَعَلَّه بِأَن قَالَ: رَوَاهُ يَحْيَى بن عبيد، عَن أَبِيه، عَن (عبد الله) بن السَّائِب، (ووالد) هَذَا لَا يُعرف لَهُ حَال، وَلَا يُعرف (بِغَيْر) رِوَايَة ابْنه يَحْيَى عَنهُ، وَابْنه يَحْيَى أَيْضا لَا يُعرف رَوَى عَنهُ غيرُ ابْن جريج، وَلَكِن قد قَالَ فِيهِ النسائيُّ: إِنَّه ثِقَة. فاللَّهُ أعلم إِن كَانَ كَذَلِك، فَإِن تَعْدِيل غير المعاصر وتجريحه فِيهِ نظر. هَذَا كَلَامه، و «عبيد» ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَكَذَا وَلَده وَقَوله: «إِن يَحْيَى لَا يعرف رَوَى عَنهُ غير ابْن جريج» لَيْسَ كَمَا (ذكر) ؛ فقد رَوَى عَنهُ أَيْضا وَاصل مولَى (أبي) عُيَيْنَة، ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» فِي تَرْجَمَة يَحْيَى (وَأخرج حَدِيثه) ، وَقد صحَّح ابنُ الْقطَّان غير مَا حديثٍ ضعفها أَبُو مُحَمَّد، وَاعْتمد فِي تصحيحها عَلَى تَوْثِيق غير المعاصر:(6/199)
مِنْهَا: حَدِيث جسرة بنت دجَاجَة الراوية عَن عَائِشَة حَدِيث «لَا أُحل المسجدَ لحائضٍ وَلَا جُنُب» السالف فِي الغُسل، ردَّ عبدُ الْحق حَدِيثهَا، وصحَّحَه ابنُ الْقطَّان لقَوْل الْعجلِيّ: إِنَّهَا تابعية ثِقَة.
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاء بَين الرُّكْنَيْنِ: اللَّهُمَّ (قَنِّعْنِي) بِمَا رزقتني، وَبَارك (لي فِيهِ) ، واخلف عليَّ كل غائبةٍ لي بخيرٍ» . رَوَاهُ ابْن (مَاجَه) ، وَالْحَاكِم ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، فَإِنَّهُمَا لم يحْتَجَّا بِسَعِيد بن زيد أخي حَمَّاد بن زيد.
قلت: (قد) احْتج بِهِ مُسلم، ووثَّقه البخاريُّ عَلَى مَا نَقله (ابْن) الجوزيّ عَنهُ، وَوَثَّقَهُ أَيْضا غير البخاريّ، وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِهِ بَأْس (نعم) ضعَّفَه يَحْيَى الْقطَّان، وَقَالَ السعديُّ: يضعفون حَدِيثه وَلَيْسَ بحُجة. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من طَاف(6/200)
بِالْبَيْتِ سبعا وَلَا يتَكَلَّم إِلَّا بسبحان الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، مُحِيَتْ عَنهُ عشرُ سيئات، وكتبتْ لَهُ عشر حسناتٍ، وَرفعت لَهُ (بهَا) عشر درجاتٍ، وَمن طَاف فَتكلم فِي تِلْكَ الْحَال خَاضَ فِي الرَّحْمَة بِرجْليه (كخائض المَاء برجليه) » . رَوَاهُ ابْن مَاجَه بإسنادٍ ضَعِيف، كَمَا أوضحته فِي تخريجي لأحاديث «المهذَّب» ، وَفِي أوَّله: « (وكِّلَ) بِهِ - يَعْنِي: الرُّكْن الْيَمَانِيّ - (سَبْعُونَ) ملكا، فَمن قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك الْعَفو والعافية فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة، وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة، وقِنَا عَذَاب (النَّار) قَالُوا: آمين» .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «لمَّا قَدِم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَكَّة لعُمرة الزِّيَارَة؛ قَالَت قُرَيْش: إِن أَصْحَاب محمدٍ قد أوهنتهم حمى يثرب. فَأَمرهمْ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالرَّمَل والاضطباع ليري الْمُشْركين قوتَّهم، فَفَعَلُوا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «قَدِم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وأصحابُه مكةَ وَقد وهنتهم حمى(6/201)
يثرب. فَقَالَ الْمُشْركُونَ: إِنَّه يَقْدُم عَلَيْكُم (غَدا) قوم (قد) وهنتهم الحمَّى، ولقوا مِنْهَا شدَّة. فجلسوا مِمَّا يَلِي الْحجر، وَأمرهمْ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن (يرملوا) ثَلَاثَة أَشْوَاط، ويمشوا مَا بَين (الرُّكْنَيْنِ) ليرَى الْمُشْركُونَ جلدهمْ، فَقَالَ الْمُشْركُونَ - (زَاد البُخَارِيّ) -: هَؤُلَاءِ الَّذين زعمتم أَن الْحمى قد وهنتهم، هَؤُلَاءِ أجْلَدُ من كَذَا وَكَذَا» وَقَالَ ابْن عَبَّاس: «وَلم يمنعهُ أَن يَأْمُرهُم أَن (يرملوا) الأشواط كلهَا (إِلَّا) الْإِبْقَاء عَلَيْهِم» . وَفِي رِوَايَة لَهما: «إِنَّمَا سَعَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْبَيْتِ ليرَى الْمُشْركُونَ قوته» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: « (لما) قَدِمَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعامه الَّذِي استأمن فِيهِ، قَالَ: ارملوا؛ ليُرِي (الْمُشْركين) قوتهم، وَالْمُشْرِكُونَ من قبل قعيقعان» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قدم مَكَّة، فَقَالَ الْمُشْركُونَ: إِن مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه لَا (يَسْتَطِيعُونَ) أَن يطوفوا(6/202)
بِالْبَيْتِ من الهزال. (فَكَانُوا) يحسدونه، (قَالَ) فَأَمرهمْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يرملوا ثَلَاثًا ويمشوا أَرْبعا» . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «إِن هَؤُلَاءِ أجلدُ منَّا» . وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد قَالَ أَبُو الطُّفَيْل: وَأَخْبرنِي ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام فعل ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَأطلع الله نَبِيَّهُ عَلَى مَا قَالُوا؛ فَأَمرهمْ بذلك» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اضطبع، فاستلم وكبَّر، ثمَّ رمل ثَلَاثَة أطوافٍ، فَكَانُوا إِذا بلغُوا الرُّكْن الْيَمَانِيّ وتغيبوا (من) قُرَيْش مَشوا، ثمَّ يطلعون عَلَيْهِم يرملون، فَتَقول قُرَيْش: كَأَنَّهُمْ (الغزلان) . قَالَ ابْن عَبَّاس: فَكَانَت سُنَّة» .
فَائِدَة:
الحِجْر السالف فِي الحَدِيث: هُوَ بِكَسْر الْحَاء.
وقعيقعان: هُوَ الْجَبَل المطل عَلَى مَكَّة.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «فيمَ الرَّمَل الْآن وَقد نَفَى الله الشركَ وأهلَه، وأعز الْإِسْلَام (وَأَهله) ؟ ! إِلَّا أَنِّي لَا أحب أَن أَدَعَ شَيْئا كُنَّا نفعله عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .(6/203)
هَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ (أَبُو دَاوُد) فِي «سنَنه» من رِوَايَة أسلم، قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب يَقُول: «فيمَ الرّملان والكشف عَن المناكب وَقد (أَطَأ) الله الْإِسْلَام، وَنَفَى الكفرَ وأهلَه؟ ! لَكِن مَعَ ذَلِك لَا نَدع شَيْئا كُنَّا نفعله (عَلَى عهد) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد صَحِيح عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت عُمَرَ يَقُول: «فيمَ الرّملان الْآن وَقد (أطَّأ) الله الْإِسْلَام، وَنَفَى الكفرَ وَأَهله؟ ! وايْمُ الله، مَا نَدَعُ شَيْئا كُنَّا نفعله عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أسلم «أَن عُمَرَ قَالَ للركن: أَمَا واللَّهِ إِنِّي لأعْلم أَنَّك حجر لَا تضر وَلَا تَنْفَع، وَلَكِنِّي رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استلمك، وَأَنا أستلمك. فاستلمه وَقَالَ: مَا لنا وللرمل؛ إِنَّمَا راءينا بِهِ الْمُشْركين، وَقد أهلكهم الله؟ ! ثمَّ قَالَ: شَيْء صنعه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ فَلَا نحب أَن نتركه. ثمَّ رمل» . ثمَّ قَالَ البيهقيُّ: رَوَاهُ البخاريُّ فِي «صَحِيحه» . وَهُوَ كَمَا قَالَ بِدُونِ لَفْظَة: «رمل» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» أَيْضا عَن أسلم قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب يَقُول: «فيمَ(6/204)
الرملان الْآن والكشف عَن المناكب، وَقد (أَضَاء) الله الْإِسْلَام، وَنَفَى الْكفْر وَأَهله؟ ! وَمَعَ ذَلِك لَا نَتْرُك شَيْئا كُنَّا نصنعه مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ. وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» بِلَفْظ أبي دَاوُد، ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ يُرْوى إِلَّا عَن عُمَرَ بِهَذَا الْإِسْنَاد.
فَائِدَة: قَوْله فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: « (أَطَّأَ) الله الْإِسْلَام» قَالَ المُحِبُّ فِي «أَحْكَامه» : إِنَّمَا هُوَ «وطَّأ» أَي: ثَبَّتَهُ وأَرْسَاهُ، (وَالْوَاو) قد تبدل ألفا، وَرَأَيْت فِي نُسْخَة قديمَة من «ابْن مَاجَه» : «أَطَالَ» بِاللَّامِ.
وَقَوله: «الرملان» قَالَ الْحَرْبِيّ: هُوَ بِكَسْر النُّون تَثْنِيَة الرَّمَل فِي الطّواف، وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، وَلم يُقَلْ: «السعيان» تَغْلِيبًا للأخف (كالقمرين والعمرين) . وَقَالَ غَيره: (إِنَّمَا هُوَ) بِضَم النُّون، مصدر رمل، (فكثيرًا) مَا يَجِيء الْمصدر عَلَى هَذَا الْوَزْن، خُصُوصا فِي أَنْوَاع الْمَشْي وَالْحَرَكَة (كالرَّسَفان) فِي مشي المُقَيَّد، واللوذان(6/205)
والنَّزَوان والسَّيلان فِي أشباهٍ لَهَا، وَاخْتَارَهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى وَغَيره.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما قدم مَكَّة أَتَى الْحجر فاستلمه، ثمَّ مَشَى عَلَى يَمِينه، فَرمَلَ ثَلَاثًا وَمَشى أَرْبعا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ كُله.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رمل من الْحجر إِلَى الْحجر ثَلَاثًا وَمَشى أَرْبعا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث ابْن عمر، وَاللَّفْظ لإحدى روايتي مُسلم، وَلَفظ البخاريِّ وَمُسلم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى -: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا طَاف بِالْبَيْتِ الطّواف الأوَّل خبَّ (ثَلَاثًا) ومشي أَرْبعا» وَمَعْنى خَبَّ: رمل. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «أَن ابْن عمر رمل من الْحجر إِلَى الْحجر، وَذكر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فعل) ذَلِك» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «أَن ابْن عمر كَانَ(6/206)
يرمل ثَلَاثًا وَيَمْشي أَرْبعا، وَيَزْعُم أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَفْعَله، وَكَانَ يمشي (مَا) بَين الرُّكْنَيْنِ» وَإِنَّمَا كَانَ يمشي بَينهمَا ليَكُون أيسر لاستلامه. وَرَوَاهُ الْحَاكِم بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سَعَى ثَلَاثَة أطواف وَرمل أَرْبَعَة» ثمَّ قَالَ: صَحِيح. وَفِيه نظر؛ فَإِن فِيهِ عبد الله بن نَافِع وَقد ضُعِّفَ. وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رمل من الْحجر الْأسود حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ ثَلَاثَة أطواف» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رمل الثَّلَاثَة (الأطواف) من الْحجر إِلَى الْحجر» . هَكَذَا الرِّوَايَة: «الثَّلَاثَة الأطواف» ، وَهُوَ جَائِز، وَإِن كَانَ أَكثر أهل الْعَرَبيَّة يبطلونه، وَقد جَاءَت لَهُ نَظَائِر فِي «الصَّحِيح» . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد مُسلم من حَدِيث جَابر بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر «معاجمه» من حَدِيث الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس كَذَلِك. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث (عبيد الله) بن أبي زِيَاد - وحالته مُخْتَلف فِيهَا - قَالَ: سمعنَا أَبَا الطُّفَيْل يحدِّث: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رمل ثَلَاثًا من الْحجر إِلَى الْحجر» .(6/207)
فَائِدَة: حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف قَرِيبا فِيهِ (عدم اسْتِيعَاب) الْبَيْت بالرمل، وَالْأَحَادِيث الَّتِي ذَكرنَاهَا مُخَالفَة لَهُ، وَيجمع بَينهمَا بِأَن حَدِيث ابْن عَبَّاس (السالف قَرِيبا) كَانَ فِي عمْرَة الْقَضَاء سنة سبع من الْهِجْرَة قبل الْفَتْح، وَكَانَ أَهلهَا مُشْرِكين حِينَئِذٍ، وَهَذِه الْأَحَادِيث كَانَت فِي حجَّة الْوَدَاع سنة عشر من الْهِجْرَة، فَتعين الْأَخْذ بهَا لتأخرها.
فَائِدَة: الرَّمَل: بِفَتْح الرَّاء وَالْمِيم، (وَهُوَ) : سرعَة الْمَشْي مَعَ تقَارب الخطا، وَهُوَ الخبب، وَمن قَالَ: إِن الرمل دون الخبب. فَهُوَ غالط.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
«أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانُوا (يتئدون) بَين الرُّكْنَيْنِ اليمانيين» وَذَلِكَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ قد شَرط عَلَيْهِم عَام الصد أَن ينجلوا عَن بطحاء مَكَّة إِذا عَادوا لقَضَاء الْعمرَة، فَلَمَّا عَادوا وفارقوا «قعيقعان» - وَهُوَ جبل فِي (مُقَابل) الْحجر والميزاب - (فَكَانُوا) يظهرون الْقُوَّة (والجلادة) حَيْثُ تقع أَبْصَارهم عَلَيْهِم، (فَإِذا) صَارُوا بَين الرُّكْنَيْنِ اليمانيين كَانَ(6/208)
الْبَيْت حَائِلا بَينهم وَبَين أبصار الْكفَّار.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَهُوَ حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف.
وَقَوله: «لقَضَاء الْعمرَة» صَوَابه: «لعمرة الْقَضَاء» ، أَي: الشَّرْط، أَنهم قَاضَوْهُ - أَي: شارطوه - فِي عَام الْحُدَيْبِيَة عَلَى أَن يتَحَلَّل، وَيعود الْعَام الْقَابِل فِي شُرُوط أُخْرَى، وَتسَمَّى أَيْضا «عمْرَة الْقَضِيَّة» كَذَلِك، قَالَ الْعلمَاء: وَلَيْسَ تَسْمِيَتهَا بِهَذَا الِاسْم من الْقَضَاء، بِمَعْنى (اسْتِدْرَاك) الْعِبَادَة، وَمَا يُؤَيّدهُ أَن الْقَضَاء لَا يجب عَلَى الْمحصر.
وَقَوله: (يتئدون) كَذَا رَأَيْته وَهُوَ من [التؤدة] ، وَذكره بعض شُيُوخنَا بِلَفْظ: « (يبازون) » ثمَّ قَالَ: وَهُوَ بِالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة وزاي مُعْجمَة بعْدهَا ألِف يَقُول: يبازي فلَان فِي مَشْيه، أَي: حرَّك عجيزته. قَالَ: وَيُقَال أَيْضا بالراء الْمُهْملَة من المباراة وَهِي الْمُسَابقَة والمجاراة، قَالَ: وَهَذَا الثَّانِي مُنَاسِب فِي الْمَعْنى للدليل) .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (لم) يرمل فِي طَوَافه بَعْدَمَا أَفَاضَ» .(6/209)
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يرمل فِي السَّبع الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رمل فِي طواف عُمَره كلِّها وَفِي بعض أَنْوَاع الطّواف فِي الْحَج» .
أما «أَنه رمل فِي طواف عُمَره كلِّها» فَأخْرجهُ كَذَلِك أَحْمد فِي «مُسْنده» فَقَالَ: نَا أَبُو مُعَاوِيَة، نَا ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «رمل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فِي) حجِّه، (وَفِي) عُمَرِهِ كلِّها، وَأَبُو بكر وعمرُ وَعُثْمَان وَالْخُلَفَاء» .
قلت: وَقد أسلفنا أَنه اعْتَمر أَربع عمر كُلهنَّ فِي ذِي الْقعدَة إِلَّا الَّتِي مَعَ حجَّته، وَمِنْهَا: عمْرَة الْحُدَيْبِيَة وَلَا طواف فِيهَا عوضا (عَن) الرمل؛ لِأَنَّهُ صد عَن الْبَيْت فَتنبه لذَلِك، أما عمْرَة الْقَضَاء، (فَهِيَ)(6/210)
سَبَب مَشْرُوعِيَّة الرَّمَل، وَأما عمْرَة الْجِعِرَّانَة، فَرمَلَ أَيْضا فِيهَا كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عَبَّاس بِإِسْنَاد صَحِيح، (وَأما) عمرته الَّتِي مَعَ حجَّته، فَهُوَ كَانَ أَولا أحرم مُفردا ثمَّ أَدخل الْعمرَة (عَلَيْهِ) ، وَرمل فِي طواف قدومه كَمَا سلف من حَدِيث (جَابر، وَأما «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ رمل فِي بعض أَنْوَاع الطّواف فِي الْحَج» فقد أسلفنا قَرِيبا من حَدِيث) ابْن عَبَّاس: «أَنه لم يرمل فِي طواف الْإِفَاضَة» ، وَذكرنَا آنِفا: «أَنه رمل فِي طواف الْقدوم» وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» (من حَدِيث) ابْن عمر قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا طَاف فِي الْحَج (أَو) الْعمرَة أول مَا يقدم فَإِنَّهُ يسْعَى ثَلَاثَة (أطواف) بِالْبَيْتِ وَيَمْشي أَرْبعا» وَفِي رِوَايَة لَهما: «كَانَ إِذا طَاف بِالْبَيْتِ (الطّواف الأول) خب ثَلَاثًا وَمَشى أَرْبعا» . وَفِي «الْبَزَّار» قَالَ: «طَاف سعيًا ليري الْمُشْركين قوته» . قَالَ صَاحب «الاقتراح» : إِسْنَاده عَلَى شَرط خَ.(6/211)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ: «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَدْعُو فِي رمله: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب، (لم) أر من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، وَلم يذكرهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «مَعْرفَته» (مَعَ) كَثْرَة إطلاعه إِلَّا من كَلَام الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ. وَرُوِيَ هَذَا مَوْقُوفا، لَكِن فِي غير هَذَا الموطن، قَالَ سعيد بن مَنْصُور (فِي «سنَنه» ) : نَا إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا، عَن لَيْث، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: «لما رَمَى جَمْرَة الْعقبَة قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا» . قَالَ: وثنا سُفْيَان، عَن إِبْرَاهِيم، عَن ابْن أبي حرَّة «سمع ابْن عمر وَهُوَ يَرْمِي الْجمار وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا» . قَالَ: ونا (هشيم، أَنا) مُغيرَة، عَن إِبْرَاهِيم: «كَانُوا يحبونَ للرجل إِذا رَمَى الْجمار أَن يَقُول: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا. قَالَ: قلت: أَقُول ذَلِك عِنْد كل جَمْرَة؟ قَالَ: نعم، إِن شِئْت» . وَأما الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي كِتَابه «الإِمَام» فَإِنَّهُ ذكر هَذِه الْآثَار فِي هَذَا الْفَصْل، (فَإِنَّهُ) قَالَ: فصل فِيمَن قَالَ لَا رمل بَين الرُّكْنَيْنِ. ثمَّ ذكر(6/212)
حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف فِي الرمل، وَذكر هَذِه الْآثَار عقب ذَلِك، فَلَعَلَّهُ سقط من النُّسْخَة هُنَا شَيْء.
(وَقَوله: «وذنبًا» هُوَ [مَنْصُوب] بإضمار فعل، أَي: وَاجعَل ذَنبي ذَنبا مغفورًا، وسعيي سعيًا مشكورًا) .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَدَأَ بالصفا، وَقَالَ: ابدءوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ» .
هَذَا الحَدِيث سلف عَن «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث جَابر الطَّوِيل، لكنه لَفظه: «أبدأ» عَلَى الْخَبَر. وَكَذَا أخرجه أَبُو نعيم فِي «مستخرجه» عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ أَحْمد وَمَالك وسُفْيَان وَابْن الْجَارُود وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: «نبدأ» وَكَذَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَرَوَاهُ النسائيُّ فِي «سنَنه الْكَبِير»(6/213)
بِلَفْظ: «ابدءوا» كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ، وَصَححهُ ابْن حزم وَاحْتج بِهِ عَلَى وجوب التَّرْتِيب فِي الْوضُوء، وَقَالَ: هُوَ عُمُوم لَا يجوز أَن يخص مِنْهُ شَيْء. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إسنادها عَلَى شَرط مُسلم. وخرّجها الدَّارَقُطْنِيّ من طرق أَيْضا. قَالَ صَاحب « (الإِمَام» ) فِي الْوضُوء: الحَدِيث وَاحِد والمخرج وَاحِد، (وَقد) اجْتمع مَالك وسُفْيَان وَيَحْيَى بن سعيد، (عَن) جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جَابر عَلَى صِيغَة «نبدأ» ، وَرَوَاهُ حَاتِم بن إِسْمَاعِيل، عَن جَعْفَر عَلَى صِيغَة الْإِخْبَار إِمَّا بِلَفْظ «أبدأ» أَو «نبدأ» .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
«الطّواف صَلَاة» بالْخبر.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد سلف هَذَا الْخَبَر مَبْسُوطا فِي بَاب الْأَحْدَاث فَليُرَاجع مِنْهُ.
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
وَهُوَ مُشْتَمل عَلَى أَرْبَعَة أَحَادِيث:
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي آخر الْفَصْل الْمَعْقُود للسعي: وَجَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ(6/214)
من وظائف السَّعْي، (قولا وفعلاً) أَي: من التهليل وَالتَّكْبِير (مِمَّا) يَقُوله عَلَى الصَّفَا، والرقي عَلَى الصَّفَا حَتَّى رَأَى الْبَيْت، وَالْمَشْي بَينه وَبَين الصَّفَا والمروة، (وَالْمَشْي) فِي الْبَعْض، (والعدو) فِي الْبَعْض، وَالدُّعَاء فِي السَّعْي مَشْهُور فِي الْأَخْبَار.
هَذَا كَلَامه أما مَا (يَقُوله) عَلَى الصَّفَا من التهليل وَالتَّكْبِير فقد سلف فِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل بِنَحْوِهِ، وَفِيه أَيْضا: «أَنه رقى عَلَى الصَّفَا حَتَّى (رَأَى) الْبَيْت» ، وَفِيه الْمَشْي بَين الصَّفَا والمروة فِي بعضه، (والعدو) فِي الْبَاقِي أَيْضا. وَأما الدُّعَاء فِي السَّعْي ب: «اللَّهُمَّ اغْفِر وَارْحَمْ، وَتجَاوز عمّا تعلم، إِنَّك أَنْت الْأَعَز الأكرم» فَذكره الْمَاوَرْدِيّ فِي «حاويه» ، وَالرُّويَانِيّ فِي «بحره» من غير تعْيين راو كَمَا فعل الرَّافِعِيّ، وَذكره صَاحب «الْمُهَذّب» من حَدِيث صَفِيَّة بنت شيبَة عَن امْرَأَة من بني نَوْفَل: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول بَين الصَّفَا والمروة: رب اغْفِر وَارْحَمْ، إِنَّك أَنْت الْأَعَز الأكرم» . وبيَّض لَهُ الْمُنْذِرِيّ، وَلم يعزه النَّوَوِيّ، وَعَزاهُ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» إِلَى المُلا فِي «سيرته» ، وَهَذَا لَفظه: (عَن) امْرَأَة من بني نَوْفَل ... » إِلَى آخر مَا ذكره الشَّيْخ سَوَاء، وَعَن أُمِّ(6/215)
سَلمَة قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول فِي سَعْيه: رب اغْفِر وَارْحَمْ، واهد السَّبِيل الأقوم» . ثمَّ قَالَ: أخرجهَا المُلا فِي «سيرته» ، وَهُوَ فِي «الْبَيْهَقِيّ» من فعل ابْن مَسْعُود وَابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أما أثر ابْن مَسْعُود؛ فَرَوَاهُ من حَدِيث سُفْيَان، عَن مَنْصُور، (عَن) أبي وَائِل، عَن مَسْرُوق عَنهُ: «أَنه لمَّا هَبَط إِلَى الْوَادي سَعَى؛ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر وَارْحَمْ (وَأَنت) الْأَعَز الأكرم» . وَرَوَاهُ أَبُو بكر الشَّافِعِي فِي «الْجُزْء التَّاسِع من جملَة أَحَادِيث رَوَاهَا إِسْحَاق عَن أبي حُذَيْفَة، عَن سُفْيَان، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي وَائِل، عَن مَسْرُوق، عَن عبد الله أَنه قَالَ: «إِذا أتيت عَلَى بطن المسيل فَقل: رب اغْفِر وَارْحَمْ، وَأَنت الْأَعَز الأكرم» . وَفِي نُسْخَة: «إِنَّك أَنْت» ، وَلما ذكره الْبَيْهَقِيّ كَمَا مَضَى قَالَ: هَذَا أصح الرِّوَايَات فِي ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود. (وَلَعَلَّه يُشِير إِلَى تَضْعِيف مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي كتاب «الدُّعَاء» من حَدِيث لَيْث بن أبي سليم، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَلْقَمَة، عَن ابْن مَسْعُود) : «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا سَعَى بَين الصَّفَا والمروة فِي بطن المسيل قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر وَارْحَمْ، وَأَنت الْأَعَز الأكرم» . وَهُوَ كَذَلِك؛ فَإِن لَيْث بن أبي سليم قد ضُعِّف، وَأما إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَادَّعَى فِي «نهايته» : أَنه صَحَّ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول فِي سَعْيه: اللَّهُمَّ اغْفِر وَارْحَمْ، واعف (عَمَّا) تعلم، وَأَنت الْأَعَز الأكرم، (رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وقنا عَذَاب(6/216)
النَّار» . وَأما أثر ابْن عمر؛ (فَرَوَاهُ) من طَرِيق زُهَيْر، نَا أَبُو إِسْحَاق قَالَ: «سَمِعت ابْن عمر يَقُول بَين الصَّفَا والمروة: رب اغْفِر وَارْحَمْ، وَأَنت - أَو: إِنَّك - الْأَعَز الأكرم» .
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَمن بعده لم يسعوا إِلَّا بعد الطّواف» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَهُوَ مستفيض فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة استفاضة (تغني عَن تدوينها) .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَدَأَ بالصفا، وَختم بالمروة» .
هَذَا صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل كَمَا (سلف) .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث أَبَا بكر أَمِيرا عَلَى الحجيج فِي السّنة التَّاسِعَة من الْهِجْرَة» .(6/217)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن (أَبَا بكر) بَعثه فِي الْحجَّة الَّتِي أمره عَلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قبل حجَّة الْوَدَاع فِي رهطٍ يُؤذنُونَ فِي النَّاس يَوْم النَّحْر: أَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك، وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان» .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْأَرْبَعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خطب النَّاس قبل التَّرويَة بِيَوْم، وَأخْبرهمْ (بمناسكهم) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْحَاكِم ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عمر قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا كَانَ قبل التَّرويَة خطب النَّاس فَأخْبرهُم مناسكهم» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
(فَائِدَة) : (يَوْم) التَّرويَة: هُوَ ثامن ذِي الْحجَّة، سمي بذلك لأَنهم كَانُوا (يتروون) (بِحمْل) المَاء مَعَهم من مَكَّة إِلَى عَرَفَات. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَقيل غير ذَلِك مِمَّا أوضحته فِي تخريجي لأحاديث «الْمُهَذّب» .(6/218)