رَأسه وَلَا يقنع ... » الحَدِيث. بِطُولِهِ، وَفِي رِوَايَة لَهُ «فَإِذا ركع أمكن كفيه من رُكْبَتَيْهِ وَفرج بَين أَصَابِعه ثمَّ هصر ظَهره غير مقنع رَأسه وَلَا صَافح بخده» . وَفِي رِوَايَة لَهُ «ثمَّ ركع فَوضع يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّهُ قَابض عَلَيْهِمَا ووتر يَدَيْهِ فتجافى عَن جَنْبَيْهِ» .
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ «ثمَّ ركع فَوضع يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كالقابض عَلَيْهِمَا فَلم يَصُبَّ رَأسه وَلم يقنعه، ونحّى يَدَيْهِ عَن جَنْبَيْهِ» . وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ «وَإِذا ركع كبر وَرفع يَدَيْهِ حِين ركع، ثمَّ يعتدل فِي صلبه وَلم ينصب رَأسه (وَلم) يقنعه» وَفِي رِوَايَة «ثمَّ أمكن يَدَيْهِ من رُكْبَتَيْهِ غير مقنع وَلَا مصوب» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَإِذا ركع أمكن يَدَيْهِ من رُكْبَتَيْهِ ثمَّ هصر ظَهره» .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْأَرْبَعين
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رجلا دخل الْمَسْجِد وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَالس فِي نَاحيَة الْمَسْجِد فَصَلى، ثمَّ جَاءَ فَسلم عَلَيْهِ ... » . الحَدِيث، بِذكر(3/595)
الطُّمَأْنِينَة فِي (الرُّكُوع) وَعدم ذكر التَّسْبِيح فِيهِ وَفِي السُّجُود.
هَذَا الحَدِيث اتّفق الشَّيْخان عَلَى إِخْرَاجه، وَقد ذكرته بِطُولِهِ أَوَّلَ الْبَاب.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْأَرْبَعين
يرْوَى أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «كَانَ يُسَوِّي ظَهره فِي الرُّكُوع بِحَيْثُ لَو صب المَاء عَلَى ظَهره لاستمسك» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ تبعا للْإِمَام؛ فَإِنَّهُ ذكره فِي «نهايته» فَقَالَ: «وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يمد ظَهره وعنقه فِي الرُّكُوع عَلَى اسْتِوَاء بِحَيْثُ لَو صب المَاء عَلَى ظَهره لاستمسك» . وَالْإِمَام تبع القَاضِي حُسَيْنًا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: رَوَت عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا ركع يُسَوِّي ظَهره وعنقه بِحَيْثُ لَو وضع قدح مَا انْصَبَّ أَو (قَالَ) لم ينصب» . وَهَذَا الحَدِيث يحضرني لَهُ ثَمَان طرق، وَلم أر فِي شَيْء مِنْهَا رِوَايَته عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
أَحدهَا: من حَدِيث وابصة بن معبد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي، فَكَانَ إِذا ركع سوَّى ظَهره حَتَّى لَو صب المَاء عَلَيْهِ لاستقر» . رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، نَا عبد الله بن عُثْمَان بن عَطاء، نَا طَلْحَة بن زيد، عَن رَاشد قَالَ: سَمِعت وابصة ... فَذكره.(3/596)
وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف؛ عبد الله بن عُثْمَان بن عَطاء لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي، سُئِلَ عَنهُ أَبُو حَاتِم فَقَالَ: صَالح. وَقَالَ: سَمِعت مُوسَى بن سهل الرَّمْلِيّ يَقُول: هُوَ أصلح من أبي طَاهِر مُوسَى بن مُحَمَّد الْمَقْدِسِي قَلِيلا، وَكَانَ أَبُو طَاهِر يكذب. وَقَالَ ابْن حبَان: يعْتَبر حَدِيثه إِذا رَوَى عَنهُ غير الضُّعَفَاء. وَطَلْحَة بن زيد - وَقيل: ابْن يزِيد - ضَعَّفُوهُ، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَنسبه أَحْمد وَابْن الْمَدِينِيّ إِلَى الْوَضع، وَرَاشِد هَذَا لم يحدث عَنهُ إِلَّا طَلْحَة هَذَا الواهي.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بالسند الْمَذْكُور لكنه قَالَ: عَن رَاشد [بن] أبي رَاشد «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ركع فِي صلَاته لَو صب عَلَى ظَهره مَاء لاستقر» .
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ركع لَو صب كوز مَاء عَلَى ظَهره لاستنقع عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» ، عَن حَفْص بن عمر، عَن شُعْبَة، عَن أبي فَرْوَة، عَن ابْن أبي لَيْلَى بِهِ. وَحَفْص هَذَا كَأَنَّهُ الرفاء، قَالَ أَبُو حَاتِم: كَذَّاب. وَسَيَأْتِي وَصله من حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ركع فَلَو صب (كوز) المَاء لاستقر» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر(3/597)
معاجمه» وَفِي سَنَده: سَلام الطَّوِيل تَرَكُوهُ، وَزيد الْعمي وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي الْعَالِيَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «كَانَ يعلمنَا الرُّكُوع كَمَا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعلمهُمْ (ثمَّ) يَسْتَوِي لنا رَاكِعا حَتَّى لَو قطرت بَين كَتفيهِ قَطْرَة من مَاء [مَا] تقدّمت وَلَا تَأَخَّرت» وَفِي سَنَده: (عليلة) بن بدر، تَركه الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره.
الطَّرِيق الرَّابِع: من حَدِيث عقبَة بن عَمْرو قَالَ: (كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ركع عدل ظَهره فَلَو صب عَلَى ظَهره مَاء لركد» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا، وَفِيه عبد الْملك بن عُمَيْر، وَهُوَ من فرسَان (الصَّحِيح) وَإِن تكلم فِيهِ أَحْمد وَنسبه إِلَى اضْطِرَاب الحَدِيث، وَابْن معِين إِلَى الِاخْتِلَاط.
الطَّرِيق الْخَامِس: من حَدِيث أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ركع لَو صب عَلَى ظَهره مَاء لاستقر» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي(3/598)
«أكبر معاجمه» أَيْضا، عَن مُحَمَّد بن عبد الله الْحَضْرَمِيّ، ثَنَا صَالح بن زِيَاد السُّوسِي، نَا يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن سعيد بن جمْهَان، عَن أبي بَرزَة بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَاد جيد، شيخ الطَّبَرَانِيّ هُوَ مطين الْحَافِظ، وَشَيْخه قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم: صَدُوق وَإِن ضعفه مسلمة بن قَاسم فِي «تَارِيخه» . وَيَحْيَى وَحَمَّاد لَا يسْأَل عَنْهُمَا (لجلالتهما) ، وَسَعِيد بن جمْهَان وَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ، وَحسن لَهُ التِّرْمِذِيّ حَدِيث: «الْخلَافَة ثَلَاثُونَ سنة) .
وَأما أَبُو حَاتِم فَقَالَ: لَا يحْتَج بِهِ.
الطَّرِيق السَّادِس: من حَدِيث أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا ركع لَو جعل عَلَى ظَهره قدح من مَاء لاستقر من اعتداله» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» ، عَن إِسْحَاق الصَّدَفِي الْمصْرِيّ، ثَنَا عَمْرو بن الرّبيع بن طَارق، نَا يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن مُحَمَّد بن ثَابت الْبنانِيّ، عَن أَبِيه، عَن أنس بِهِ، ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن مُحَمَّد بن ثَابت إِلَّا يَحْيَى، تفرد بِهِ عَمْرو بن الرّبيع.
قلت: هُوَ ثِقَة من فرسَان الصَّحِيح، لَكِن مُحَمَّد بن ثَابت ضعفه جمَاعَة، وَقَالَ الْحَاكِم: لَا بَأْس بِهِ.(3/599)
الطَّرِيق السَّابِع: من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ركع لَو صب عَلَى ظَهره مَاء اسْتَقر» ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» وَقَالَ: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: ذكر الْبَراء لَيْسَ بِمَحْفُوظ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْن أبي لَيْلَى مُرْسلا.
الطَّرِيق الثَّامِن: من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى عَن عَلّي قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ركع لَو وضع قدح من مَاء عَلَى ظَهره لم يهراق» رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» قَالَ وَلَده عبد الله: وجدت فِي كتاب أبي: أخْبرت عَن سِنَان بن هَارُون، عَن بَيَان، عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ. وَذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» فَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمد عَمَّن أخبرهُ، عَن (سِنَان) بِهِ، وَخَالفهُ [سلم] بن سَلام أَبُو الْمسيب الواسطى؛ فَرَوَاهُ عَن سِنَان بن هَارُون، عَن بَيَان، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء قَالَ: وَهُوَ أشبه بِالصَّوَابِ.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْأَرْبَعين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «نهَى عَن التدبيح فِي الصَّلاة» . وَفِي رِوَايَة: «نهَى أَن يدبح الرجل فِي الرُّكُوع كَمَا يدبح الْحمار» .(3/600)
هَذَا الحَدِيث ذكره أَبُو (عبيد) فِي «غَرِيبه» بِاللَّفْظِ الثَّانِي سَوَاء، وَلم يسْندهُ، وأسنده الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي نعيم النَّخعِيّ عبد الرَّحْمَن بن هَانِئ، ثَنَا أَبُو مَالك النَّخعِيّ [عَن] عبد الْملك بن حُسَيْن قَالَ: حَدثنِي أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، عَن الْحَارِث الْأَعْوَر، عَن عَلّي قَالَ أَبُو مَالك: وَأَخْبرنِي عَاصِم بن كُلَيْب الْجرْمِي، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى. قَالَ أَبُو نعيم: وَأَخْبرنِي [مُوسَى] الْأنْصَارِيّ، عَن عَاصِم بن كُلَيْب، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى (كِلَاهُمَا) قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يَا عَلّي، إِنِّي أَرْضَى لَك مَا أَرْضَى لنَفْسي (وأكره لَك مَا أكره لنَفْسي) لَا تقْرَأ الْقُرْآن وَأَنت جنب، وَلَا وَأَنت رَاكِع وَلَا وَأَنت ساجد، وَلَا تصل وَأَنت عاقص شعرك، وَلَا تدبح تدبيح الْحمار» .
وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، أَبُو نعيم النَّخعِيّ قَالَ ابْن معِين: كَذَّاب. وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ، وَأَبُو مَالك النَّخعِيّ أَيْضا ضَعَّفُوهُ. والْحَارث الْأَعْوَر مُخْتَلف فِيهِ، وَأطلق ابْن الْمَدِينِيّ عَلَيْهِ اسْم الْكَذِب. وَعَاصِم بن كُلَيْب (بن شهَاب) (من فرسَان مُسلم) ، وَهُوَ صَدُوق، وَإِن كَانَ عَلّي(3/601)
بن الْمَدِينِيّ قَالَ: لَا يحتجُّ بِهِ إِذا انْفَرد.
قلت: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق آخر، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي مُعَاوِيَة (عَن أبي سُفْيَان طريف بن شهَاب، عَن أبي نَضرة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - قَالَ أَبُو مُعَاوِيَة) (أرَاهُ) رَفعه -: «إِذا ركع أحدكُم فَلَا يدبح كَمَا يدبح الْحمار، وليقم صلبه» سكت عَنهُ الْبَيْهَقِيّ وَقد علمت حَال طريف بن شهَاب فِي أثْنَاء الحَدِيث الثَّالِث من هَذَا الْبَاب.
قلت: ويغني عَن هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي قبله فِي الدّلَالَة حَدِيث عَائِشَة الثَّابِت فِي (صَحِيح مُسلم) «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا ركع لم يُشخص رَأسه وَلم يصوبه، وَلَكِن بَين ذَلِك» يشخص - بِضَم أَوله وَكسر ثالثه -: أَي يرفع، وَمِنْه الشاخص للمرتفع (ويصوبه بتَشْديد) الْوَاو - أَي يخْفض، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: (أَو كصيِّب من السَّمَاء) أَي: مطر نَازل، وَكَذَا حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ الثَّابِت فِي «سنَن أبي دَاوُد» فِي صفة صلَاته عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: «ثمَّ يرْكَع وَيَضَع راحتيه عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثمَّ يعتدل؛ فَلَا يصب رَأسه وَلَا يقنع» مَعْنَى لَا يصب: لَا يُبَالغ فِي خفض رَأسه و (تنكيسه) وَمَعْنى لَا يقنع: لَا يرفع.
فَائِدَة: التدبيح أَن يُطَأْطِئ رَأسه. قَالَ الْهَرَوِيّ فِي «غَرِيبه» فِي الحَدِيث: نهي أَن يدبح الرجل فِي الصَّلَاة؛ أَي: يُطَأْطِئ رَأسه. ذكره فِي(3/602)
بَاب الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ بِالذَّالِ - يَعْنِي: الْمُعْجَمَة - وَالدَّال أعرف، وَاقْتصر الْجَوْهَرِي عَلَى ذكره فِي الدَّال الْمُهْملَة. وَيُقَال: دبح الرجل تدبيحًا إِذا بسط ظَهره وطأطأ رَأسه، فَتكون رَأسه أَشد (انحطاطًا) (من) أليتيه. قَالَ: وَفِي الحَدِيث «أَنه نهَى أَن يدبح الرجل فِي الرُّكُوع كَمَا يدبح الْحمار» . وَعَن أبي عَمْرو و (ابْن) الْأَعرَابِي نَحوه. وَكَذَا اقْتصر ابْن الْجَوْزِيّ فِي «غَرِيبه» عَلَى ذكره فِي الدَّال الْمُهْملَة، فَقَالَ - وَمن خطه نقلت -: (نهي) أَن يدبح الرجل فِي الصَّلَاة وَهُوَ أَن يُطَأْطِئ رَأسه فِي الرُّكُوع حَتَّى يكون أَخفض من ظَهره.
وَقَالَ الرَّافِعِيّ: هَذَا اللَّفْظ يرْوَى بِالدَّال والذال، وَالْأول أشهر. وَكَأَنَّهُ تبع الْهَرَوِيّ فِي ذَلِك، قَالَ: وَهُوَ أَن يبسط ظَهره، ويطأطئ رَأسه فَتكون أَشد انحطاطًا من أليتيه.
قلت: وَرُوِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، ذكره مُحَمَّد بن أبي بكر النَّيْسَابُورِي فِي (المناهى) فَقَالَ: (وَنهي عَن التدبيح فِي الصَّلَاة» . قَالَ: وَرُوِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. ثمَّ قَالَ بعده: التدبيخ أَن يُدِير نَفسه أَو رَأسه فِي الصَّلَاة كدوران الْحمار [فِي] الرَّحَى. وَقَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يدبخ الرجل فِي صلَاته كَمَا يدبخ الْحمار فِي الرَّحَى» . قَالَ: وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن يرفع رَأسه فِي الصَّلَاة كَمَا يرفع [الْحمار رَأسه إِلَى] السَّمَاء إِذا شم الْبَوْل.(3/603)
وَفِي (الصِّحَاح) فِي دبخ - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة -: دبخ الرجل تدبيخًا إِذا قبَّب ظَهره وطأطأ رَأسه - بِالْحَاء وَالْخَاء - جَمِيعًا عَن أبي عَمْرو، وَابْن الْأَعرَابِي. وَقَالَ: فِي (دبح: دبَّح الرجل إِذا طأطأ رَأسه، وَبسط ظَهره.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْأَرْبَعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يمسك راحتيه عَلَى رُكْبَتَيْهِ فِي الرُّكُوع كالقابض عَلَيْهِمَا ويفرج بَين أَصَابِعه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن قُتَيْبَة، نَا ابْن لَهِيعَة، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حَلْحلة، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو العامري قَالَ: «كنت فِي مجْلِس من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فتذاكروا صلَاته (فَقَالَ أَبُو حميد ... ) فَذكر الحَدِيث وَقَالَ: (فَإِذا ركع أمكن كفيه من رُكْبَتَيْهِ، وَفرج بَين أَصَابِعه، ثمَّ هصر ظَهره غير مقنع رَأسه وَلَا صَافح [بخده] ... » ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث.
ثمَّ رَوَاهُ عَن أَحْمد، نَا عبد الْملك بن عَمْرو (أَخْبرنِي) فليح، حَدثنِي عَبَّاس بن سهل قَالَ: اجْتمع أَبُو حميد وَأَبُو أسيد وَسَهل بن سعد وَمُحَمّد بن مسلمة، فَذكرُوا صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ أَبُو حميد: أَنا(3/604)
أعلمكُم بِصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكر بعض هَذَا - قَالَ: «ثمَّ ركع فَوضع يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّهُ قَابض عَلَيْهِمَا ووتر يَدَيْهِ فتجافى عَن جَنْبَيْهِ ... » ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث.
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «ثمَّ ركع فَوضع يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كالقابض عَلَيْهِمَا فَلم يصب رَأسه وَلم يقنعه، ونحى يَدَيْهِ عَن جَنْبَيْهِ» وَذكره الرَّافِعِيّ أَيْضا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام «كَانَ يُجَافِي مرفقيه عَن جَنْبَيْهِ فِي الرُّكُوع» وَقد عَلمته (آنِفا) وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يعْقد لَهُ تَرْجَمَة وَحده.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْأَرْبَعين
عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر فِي كل خفض وَرفع وَقيام وقعود» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» بِهَذَا اللَّفْظ، وَزَاد بعد قَوْله: «وقعود» : «وَأَبُو بكر وَعمر» يَعْنِي أَنَّهُمَا كَانَا يفْعَلَانِ ذَلِك أَيْضا. وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِنْهُم أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَغَيرهم.
وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه» بِنَحْوِهِ، وَفِي صَحِيح ابْن خُزَيْمَة، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ(3/605)
يكبر كلما خفض وَرفع» وَهُوَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن أبي هُرَيْرَة «أَنه كَانَ يكبر كلما رفع وَوضع. فَقُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَة، مَا هَذَا التَّكْبِير؟ ! فَقَالَ: إِنَّهَا لصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْأَرْبَعين
[رُوِيَ] أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «التَّكْبِير جزم) .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ أول الْبَاب فَرَاجعه.
الحَدِيث الْخَمْسُونَ
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يرفع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه إِذا كبر [وَإِذا ركع] وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته كَمَا سلف أول الْبَاب.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْخمسين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا ركع أحدكُم فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم ثَلَاثًا، فقد تمّ رُكُوعه وَذَلِكَ أدناه، وَإِذا سجد قَالَ فِي سُجُوده: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا، فقد تمّ سُجُوده، وَذَلِكَ أدناه) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ(3/606)
وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب، عَن إِسْحَاق بن يزِيد الْهُذلِيّ، عَن عون بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود، عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا، وَهُوَ حَدِيث مُنْقَطع؛ لِأَن عونًا لم يدْرك ابْن مَسْعُود كَمَا نَص عَلَيْهِ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِمُتَّصِل، عون لم يلق ابْن مَسْعُود. وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث مُرْسل، عون لم يدْرك عبد الله. وَذكره البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه الْكَبِير» وَقَالَ: مُرْسل. وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» بعد أَن رَوَاهُ مَرْفُوعا: إِن كَانَ الحَدِيث ثَابتا؛ فَإِنَّمَا يَعْنِي بقوله: «تمّ رُكُوعه، وَذَلِكَ أدناه» أَي: أدنَى (مَا) يُنسب إِلَى كَمَال الْفَرْض (وَالْإِحْسَان مَعًا لإكمال الْفَرْض) وَحده. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِنَّمَا قَالَ: إِن كَانَ ثَابتا؛ لِأَنَّهُ مُنْقَطع.
قلت: وَرَوَاهُ ابْن نَاجِية من حَدِيث عون، عَن علاقَة بن مَسْعُود، عَن ابْن مَسْعُود فاتصل، لَكِن إِسْحَاق الْهُذلِيّ لَا أعلم رَوَى عَنهُ غير ابْن أبي ذِئْب، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَرَوَاهُ الشَّافِعِي مرّة أُخْرَى بِإِسْقَاط ابْن مَسْعُود.(3/607)
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْخمسين
قَالَ (الرَّافِعِيّ) : واستحبَّ بَعضهم أَن (يضيف) إِلَى الدُّعَاء الْمَذْكُور - يَعْنِي: الَّذِي فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمُتَقَدّم -: «وَبِحَمْدِهِ» وَقَالَ: إِنَّه ورد ذَلِك فِي بعض الْأَخْبَار. انْتَهَى وَهَذِه الزِّيَادَة وَردت فِي أَحَادِيث.
أَحدهَا: عَن مُوسَى بن أَيُّوب، عَن عَمه [عَن] عقبَة بن عَامر قَالَ: «لما نزلت (فسبح بِسم رَبك الْعَظِيم) قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اجْعَلُوهَا فِي ركوعكم، فَلَمَّا نزلت (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى) قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودكُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث ابْن الْمُبَارك عَن مُوسَى (بِهِ) قَالَ أَبُو دَاوُد: نَا أَحْمد بن يُونُس، ثَنَا اللَّيْث بن سعد، عَن أَيُّوب بن مُوسَى - أَو مُوسَى بن أَيُّوب - عَن رجل من قومه، عَن عقبَة بن عَامر بِمَعْنَاهُ، زَاد قَالَ: «وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ركع قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم (وَبِحَمْدِهِ) ثَلَاثًا (وَإِذا سجد قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ) » قَالَ أَبُو(3/608)
دَاوُد: وَهَذِه الزِّيَادَة يخَاف أَن لَا تكون مَحْفُوظَة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : فِي رواتها - أَعنِي رِوَايَة أبي دَاوُد (الثَّانِيَة) - مَجْهُول.
قلت: عَنى بِهِ قَوْله: عَن رجل من قومه، لَكِن قَالَ الْمزي فِي «تهذيبه» : إِنَّه إِيَاس بن عَامر الغافقي. وَعلم لَهُ عَلامَة (دق) وَلم يعقبه بِجرح وَلَا تَعْدِيل، وَلم يذكر [من] رَوَى عَنهُ غير مُوسَى بن أَيُّوب، وَهُوَ كَمَا قَالَ من كَونه إِيَّاه؛ فقد صرح بِهِ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي رِوَايَته الحَدِيث فَقَالَ: عَن مُوسَى بن أَيُّوب الغافقي، سَمِعت عمي إِيَاس بن عَامر قَالَ: سَمِعت عقبَة ... فَذكره ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حجازي صَحِيح الْإِسْنَاد، وَقد اتفقَا عَلَى الِاحْتِجَاج برواته غير إِيَاس بن عَامر وَهُوَ عَم مُوسَى بن (أَيُّوب) الغافقي، وَهُوَ مُسْتَقِيم الْإِسْنَاد.
قلت: (وَجزم) بِهِ أَيْضا أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» فِي رِوَايَته لَهُ؛ فَإِنَّهُ لما ذكره من حَدِيث مُوسَى بن أَيُّوب الغافقي عَن (عَمه) إِيَاس بن عَامر (عَن عقبَة بن عَامر) ، قَالَ: (لما نزلت (فسبح بِسم(3/609)
رَبك الْعَظِيم (قَالَ: اجْعَلُوهَا ... » الحَدِيث، قَالَ: إِيَاس بن عَامر من ثِقَات المصريين.
قلت: وَقَالَ ابْن يُونُس: كَانَ من شيعَة عَلّي والوافدين عَلَيْهِ من أهل مصر، وَشهد مَعَه (مشاهده) وَقَالَ الْعجلِيّ: مصري تَابِعِيّ لَا بَأْس بِهِ.
قلت: فقد عُلم إِذا عينه وحاله؛ فانتفت الْجَهَالَة عَنهُ كَمَا ادَّعَاهَا النَّوَوِيّ، وَظهر بِهِ أَيْضا رد قَول الذَّهَبِيّ الْحَافِظ فِي «اختصاره للمستدرك» : إِيَاس هَذَا لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ. وَرَوَاهُ إِيَاس (مرّة، عَن) عَلّي. وَذكر مثله، أَفَادَهُ ابْن بطال فِي «شرح البُخَارِيّ» .
الحَدِيث الثَّانِي: عَن حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول فِي رُكُوعه: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم وَبِحَمْدِهِ ثَلَاثًا، وَفِي سُجُوده: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ ثَلَاثًا» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث حَفْص بن غياث، عَن مُحَمَّد بن أبي لَيْلَى، عَن الشّعبِيّ، عَن صلَة، عَن حُذَيْفَة بِهِ، وَمُحَمّد بن أبي لَيْلَى ضَعَّفُوهُ، وَإِن كَانَ رَأْسا فِي الْفِقْه، قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: شغل بِالْقضَاءِ فسَاء حفظه، وَلَا يتهم بِشَيْء من الْكَذِب؛ إِنَّمَا يُنكر عَلَيْهِ كَثْرَة الْخَطَأ فَلَا يحْتَج بِهِ. وَتَابعه سعد بن عُبَيْدَة بِدُونِ «وَبِحَمْدِهِ» عَن(3/610)
الْمُسْتَوْرد بن الْأَحْنَف، عَن صلَة بن زفر، عَن حُذَيْفَة قَالَ: «صليت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَرَكَعَ، فَقَالَ فِي رُكُوعه: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم. وَفِي سُجُوده: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، نَا أَبُو مُعَاوِيَة، عَن الْأَعْمَش، عَن سعد بِهِ، وَهَذَا إِسْنَاد جيد. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن عبيد الله بن أبي جَعْفَر، عَن أبي الْأَزْهَر، عَن حُذَيْفَة «أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول إِذا ركع: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم ثَلَاث مَرَّات، وَإِذا سجد قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاث مَرَّات» وَابْن لَهِيعَة (حَالَته) مَعْلُومَة، وَأَبُو الْأَزْهَر مَجْهُول.
الحَدِيث الثَّالِث: عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «من السّنة أَن يَقُول الرجل فِي رُكُوعه: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم وَبِحَمْدِهِ، وَفِي سُجُوده: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي يَحْيَى عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن، عَن السّري بن إِسْمَاعِيل، عَن الشّعبِيّ، عَن مَسْرُوق، عَن ابْن مَسْعُود بِهِ. وَالسري هَذَا (تَركه) النَّسَائِيّ وَغَيره.
الحَدِيث الرَّابِع: عَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى، فَلَمَّا ركع قَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ رفع رَأسه» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَفِيه شهر بن حَوْشَب، وَقد تَرَكُوهُ كَمَا مَضَى.(3/611)
الحَدِيث الْخَامِس: عَن (أبي) جُحَيْفَة قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا سجد يَقُول: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ ثَلَاثًا» رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «تَارِيخ نيسابور» من حَدِيث بشر بن يزِيد، عَن النَّضر بن إِسْمَاعِيل (الْبَلْخِي) ، عَن (عَمْرو) بن ثَابت، عَن (أبي) إِسْحَاق، عَن أبي جُحَيْفَة (بِهِ) و (عَمْرو) هَذَا كَأَنَّهُ عَمْرو بن ثَابت الْمَتْرُوك الرافضي.
الحَدِيث السَّادِس: عَن السَّعْدِيّ، عَن أَبِيه، عَن عَمه قَالَ: «رمقت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي صلَاته، فَكَانَ يمْكث فِي رُكُوعه وَسُجُوده وَيَقُول: سُبْحَانَ الله (وَبِحَمْدِهِ) ثَلَاثًا» رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن خلف بن الْوَلِيد، عَن خَالِد، عَن سعيد الْجريرِي، عَن السَّعْدِيّ بِهِ. وَرَوَاهُ المستغفري فِي «دعواته» من حَدِيثه عَن السَّعْدِيّ قَالَ: «رمقت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره، وَبِالْجُمْلَةِ فقد رَوَى (ابْن) الْمُنْذر أَنه قيل لِأَحْمَد بن حَنْبَل: يَقُول: «سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم وَبِحَمْدِهِ» قَالَ: أما أَنا فَأَقُول: وَبِحَمْدِهِ.(3/612)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْخمسين
ورد فِي الْخَبَر «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول فِي رُكُوعه: اللَّهُمَّ لَك ركعت وَلَك خَشَعت، وَبِك آمَنت، وَلَك أسلمت، خشع لَك سَمْعِي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وشعري وبشري وَمَا (اسْتَقَلت) بِهِ قدمي لله رب الْعَالمين» .
هَذَا قد ورد فِي (عدَّة) أَحَادِيث.
أَحدهَا: وَهُوَ أقربها إِلَى لفظ المُصَنّف عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ركع قَالَ: اللَّهُمَّ لَك ركعت، وَلَك أسلمت، وَبِك آمَنت، وَأَنت رَبِّي، خشع سَمْعِي وبصري وعظامي وشعري وبشري وَمَا اسْتَقَلت بِهِ قدمي لله رب الْعَالمين» .
رَوَاهُ الشَّافِعِي هَكَذَا عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، أَخْبرنِي صَفْوَان بن سليم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ قَالَ: وَأَنا مُسلم وَعبد الْمجِيد - قَالَ الرّبيع: أَحْسبهُ عَن ابْن جريج - عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن عبد الله بن الْفضل، عَن الْأَعْرَج، عَن (عبيد الله) بن أبي رَافع، عَن عَلّي «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا ركع قَالَ: اللَّهُمَّ لَك ركعت، وَبِك آمَنت، وَلَك أسلمت، وَأَنت رَبِّي، خشع لَك سَمْعِي وبصري ومخي وعظامي وَمَا اسْتَقَلت بِهِ قدمي لله رب الْعَالمين» وَرُوِيَ أَيْضا عَن ابْن علية، عَن شُعْبَة، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي قَالَ: «إِذا ركعت فَقل: اللَّهُمَّ (لَك) ركعت وَلَك خَشَعت وَلَك أسلمت، وَبِك آمَنت وَعَلَيْك(3/613)
توكلت؛ فقد تمّ ركوعك» وكل ذَلِك مخرج فِي «مُسْنده» أَيْضا.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد تقدم أَيْضا (رِوَايَة) الشَّافِعِي لَهُ، و (رَوَاهُ) مُسلم فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «كَانَ إِذا ركع قَالَ: اللَّهُمَّ لَك ركعت وَبِك آمَنت وَلَك أسلمت، خشع لَك سَمْعِي وبصري ومخي وعظمي وعصبي» وَقد أسلفناه بِطُولِهِ فِي أَوَائِل هَذَا الْبَاب.
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِلَفْظ: «كَانَ إِذا ركع قَالَ: اللَّهُمَّ لَك ركعت، وَبِك آمَنت، وَلَك أسلمت، أَنْت رَبِّي، خشع لَك سَمْعِي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وَمَا اسْتَقَلت بِهِ قدمي لله رب الْعَالمين» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : (هَذَا حَدِيث إِسْنَاده صَحِيح.
الحَدِيث الثَّالِث: عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «كَانَ إِذا ركع قَالَ: اللَّهُمَّ لَك ركعت، وَبِك آمَنت، وَلَك أسلمت، وَعَلَيْك توكلت، وَأَنت رَبِّي، خشع لَك سَمْعِي وبصري (ولحمي وَدمِي وعظمي) وعصبي لله رب الْعَالمين» رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» عَن يَحْيَى بن عُثْمَان، أَنا (أَبُو) حَيْوَة، نَا شُعَيْب، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر بِهِ.(3/614)
الحَدِيث الرَّابِع: عَن مُحَمَّد بن مسلمة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا قَامَ يُصَلِّي تَطَوّعا يَقُول إِذا ركع: اللَّهُمَّ لَك ركعت، وَبِك آمَنت، وَلَك أسلمت، وَعَلَيْك توكلت، أَنْت رَبِّي خشع سَمْعِي وبصري ولحمي وَدمِي ومخي وعصبي لله (عَزَّ وَجَلَّ) رب الْعَالمين» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن يَحْيَى بن عُثْمَان، نَا [مُحَمَّد بن حمير] نَا شُعَيْب، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، - وَذكر آخر قبله - عَن عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج، عَن مُحَمَّد بن (مسلمة) بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا خطأ، وَالصَّوَاب حَدِيث الْمَاجشون - يَعْنِي: حَدِيث عَلّي بن أبي طَالب.
فَتحصل من هَذَا كُله أَن الحَدِيث الَّذِي أوردهُ الرَّافِعِيّ لَيْسَ مَوْجُودا فِي حَدِيث وَاحِد؛ وَإِنَّمَا هُوَ ملفق من أَحَادِيث خلا قَوْله: «وَلَك خَشَعت» فَلم أرها إِلَى الْآن (وأقربها رِوَايَة) الشَّافِعِي كَمَا قدمْنَاهُ، لَكِن فِيهَا (ضعف) وتنجبر بِمَا بعْدهَا من الْأَحَادِيث.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْخمسين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للمسيء صلَاته: ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تعتدل قَائِما» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته كَمَا سلف (فِي) أول الْبَاب(3/615)
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْخمسين
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يرفع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه إِذا افْتتح الصَّلَاة، وَإِذا كبر للرُّكُوع، وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع رفعهما كَذَلِك وَقَالَ: سمع الله لمن حَمده رَبنَا، وَلَك الْحَمد» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته كَمَا سلف فِي أَوَائِل الْبَاب، وَفِي فصل الرُّكُوع قَالَ الرَّافِعِيّ: وروينا فِي خبر ابْن عمر: «رَبنَا لَك الْحَمد» بِإِسْقَاط الْوَاو (وبإثباتها) وَالرِّوَايَتَانِ مَعًا صحيحتان. وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَصَحَّ أَيْضا «اللَّهُمَّ رَبنَا وَلَك الْحَمد» بِإِثْبَات الْوَاو (وبحذفها) وَفِي «صَحِيح أبي عوَانَة» : «اللَّهُمَّ لَك الْحَمد» وَفِي «السّنَن الصِّحَاح» لِابْنِ السكن عَن الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: من قَالَ: رَبنَا، قَالَ: وَلَك الْحَمد، وَمن قَالَ: اللَّهُمَّ رَبنَا، قَالَ: لَك الْحَمد.
فَائِدَة: قَالَ الْأَصْمَعِي: سَأَلت أَبَا عَمْرو عَن الْوَاو فِي قَوْله: «رَبنَا وَلَك الْحَمد» فَقَالَ: هِيَ زَائِدَة؛ تَقول الْعَرَب: بِعني هَذَا الثَّوْب، فَيَقُول الْمُخَاطب: نعم (و) هُوَ لَك بدرهم؛ فالواو زَائِدَة. وَيحْتَمل كَمَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : إِنَّهَا عاطفة عَلَى مَحْذُوف. أَي رَبنَا أطعناك وحمدناك وَلَك الْحَمد، وَمَعْنى سمع الله لمن حَمده: أجَاب دُعَاء(3/616)
من حَمده، فَوضع السّمع مَوضِع الْإِجَابَة كَمَا جَاءَ فِي بعض الْأَحَادِيث: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من دُعَاء لَا يسمع» أَي: لَا يعْتد بِهِ وَلَا يُسْتَجَاب؛ فَكَأَنَّهُ غير مسموع، قَالَه ابْن الْأَنْبَارِي، كَمَا نقل عَن الصغاني فِي (مجمعه) .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْخمسين
عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (إِذا) رفع رَأسه من الرُّكُوع قَالَ: سمع الله لمن حَمده، اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد ملْء السَّمَاوَات وملء الأَرْض وملء مَا شِئْت (من شَيْء) بعد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء وَزَاد فِي آخِره «اللَّهُمَّ طهرني بالثلج وَالْبرد وَالْمَاء الْبَارِد، اللَّهُمَّ طهرني من الذُّنُوب والخطايا كَمَا (ينقي) الثَّوْب الْأَبْيَض من الْوَسخ» . وَفِي لفظ «من الدَّرن» . وَفِي لفظ «من الدنس» .
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ: قَوْله «ملْء السَّمَاوَات وملء الأَرْض» تقريب وَالْمرَاد تَكْثِير الْعدَد حَتَّى لَو قدر ذَلِك وَكَانَ جسمًا لملأ ذَلِك، وَيحْتَمل أَن المُرَاد بذلك أجرهَا، وَيحْتَمل أَن المُرَاد بهَا التَّعْظِيم لقدرها لَا كَثْرَة(3/617)
عَددهَا، كَمَا يُقَال هَذِه كلمة تملأ طباق الأَرْض. وَكَانَ ابْن خالويه يرجح فتح الْهمزَة من ملْء، والزجاج يرَى الرّفْع فِيهَا وَكِلَاهُمَا جَائِز كَمَا قَرَّرَهُ ابْن خالويه فِي مُصَنفه (فِي ذَلِك) وَلَكِن الْمَعْرُوف فِي رِوَايَات الحَدِيث كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَعزا إِلَى الْجُمْهُور النصب. وَهُوَ عَلَى الْحَال؛ أَي: مالئًا تَقْدِيره لَو كَانَ جسمًا لملأ ذَلِك، وَقَوله: وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد كَمَا قيل: ملْء الْكُرْسِيّ وَمَا غمض عَن إِدْرَاك الْعباد لَهُ قَالَ تَعَالَى: (وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض) .
الحَدِيث السَّابِع بعد الْخمسين
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول مَعَ الدُّعَاء الْمَذْكُور فِي الحَدِيث قبله: أهل الثَّنَاء وَالْمجد حق مَا قَالَ العَبْد - كلنا لَك عبد - لَا مَانع لما أَعْطَيْت وَلَا معطي لما منعت، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد» .
هَذَا الحَدِيث هَكَذَا أوردهُ الرَّافِعِيّ من هَذَا الْوَجْه، وَهُوَ غَرِيب لَا أعلم من خرجه من طَرِيقه بعد شدَّة الْبَحْث عَنهُ، وَهُوَ مَعْرُوف من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَابْن عَبَّاس وَأبي جُحَيْفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. أما حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ بِلَفْظ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع قَالَ: (اللَّهُمَّ) رَبنَا لَك الْحَمد ملْء السَّمَوَات (وملء) الأَرْض وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد، أهل الثَّنَاء(3/618)
وَالْمجد، أَحَق مَا قَالَ العَبْد وكلنَا لَك عبد [اللَّهُمَّ] لَا مَانع لما أَعْطَيْت، وَلَا معطي لما منعت، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد» .
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «لَا نَازع» بدل «لَا مَانع» وَلَيْسَ فِي رِوَايَته «وَلَا معطي لما منعت» .
وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) مُنْفَردا بِهِ أَيْضا عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع قَالَ: اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد ... » إِلَى قَوْله: «وَالْمجد، لَا مَانع لما أَعْطَيْت ... » إِلَى آخِره.
وَأما حَدِيث أبي جُحَيْفَة فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي (سنَنه) من حَدِيث شريك، (عَن أبي عمر) قَالَ: سمعتُ أَبَا جُحَيْفَة يَقُول: «ذكرت الجدود عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ فِي الصَّلَاة. فَقَالَ رجل: جد فلَان فِي الْخَيل، وَقَالَ آخر: جد فلَان فِي الْإِبِل، وَقَالَ آخر: جد فلَان فِي الْغنم، وَقَالَ آخر: جد فلَان فِي الرَّقِيق، فَلَمَّا قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صلَاته وَرفع رَأسه من آخر الرَّكْعَة قَالَ: اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد ملْء السَّمَاوَات وملء الأَرْض وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد اللَّهُمَّ لَا مَانع لما أَعْطَيْت، وَلَا معطي لما منعت، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد. وَطول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَوته بالجد ليعلموا أَنه لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ» .(3/619)
تَنْبِيهَانِ:
الأول: وَقع فِي «الْمُهَذّب» إِسْقَاط الْألف فِي «أَحَق» و (الْوَاو) فِي «وكلنَا» وَهُوَ كَذَلِك فِي «سنَن النَّسَائِيّ» وَهُوَ يرد قَول النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» الَّذِي رَوَاهُ سَائِر الْمُحدثين بإثباتهما، وَأَن الْوَاقِع فِي كتب الْفُقَهَاء بإسقاطهما، وَقد تعرض القَاضِي الْحُسَيْن فِي تَعْلِيقه للروايتين.
وَقد أوضحت كل ذَلِك فِي تخريجي لأحاديث «الْوَسِيط» فَرَاجعه مِنْهُ.
الثَّانِي: فِي ضبط أَلْفَاظ وَقعت فِي الحَدِيث وإعرابها والتنبيه عَلَى مَعَانِيهَا، وَقد أوضحت كل ذَلِك فِي لُغَات «الْمِنْهَاج» فَرَاجعهَا مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْخمسين
(أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قنت شهرا يَدْعُو عَلَى قاتلي أَصْحَابه ببئر مَعُونَة (ثمَّ) ترك، فَأَما فِي الصُّبْح فَلم يزل يقنت حَتَّى فَارق الدُّنْيَا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من طرق ثَلَاثَة عَن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ، عَن الرّبيع بن أنس، عَن أنس لَفظه فِي أَحدهَا: (كَمَا) ذكره الرَّافِعِيّ ذكره من طَرِيق عبيد الله بن مُوسَى، عَن أبي جَعْفَر بِهِ(3/620)
وَلَفظه فِي ثَانِيهَا: «مَا زَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقنت فِي الْفجْر حَتَّى فَارق الدُّنْيَا» ذكره من طَرِيق عبد الرَّزَّاق، عَن أبي جَعْفَر بِهِ. وَفِي ثَالِثهَا: عَن الرّبيع بن أنس: «كنت جَالِسا عِنْد أنس فَقيل لَهُ: إِنَّمَا قنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شهرا. فَقَالَ: مَا زَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقنت (فِي صَلَاة) الْغَدَاة حَتَّى فَارق الدُّنْيَا» ذكره من طَرِيق أبي نعيم، عَن أبي جَعْفَر بِهِ. وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ كَمَا سلف.
وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب من حَدِيث جَعْفَر الْأَحْمَر، (عَن أبي جَعْفَر) ، عَن الرّبيع بن أنس قَالَ: «كنت عِنْد أنس بن مَالك فَجَاءَهُ رجل فَقَالَ: مَا تَقول فِي الْقُنُوت؟ فبدره رجل فَقَالَ: قنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَقَالَ أنس: لَيْسَ كَمَا تَقول؛ قنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى قَبضه الله - عَزَّ وَجَلَّ» . ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث سُفْيَان، عَن أبي جَعْفَر، عَن الرّبيع بن أنس، عَن أنس قَالَ: «مَا زَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقنت حَتَّى فَارق الدُّنْيَا» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق (عبيد الله بن مُوسَى السالف، ثمَّ من حَدِيث أبي نعيم السالف أَيْضا ثمَّ قَالَ) أَبُو عبد الله - يَعْنِي الْحَاكِم -: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح سَنَده، ثِقَة رُوَاته. وَالربيع بن أنس تَابِعِيّ مَعْرُوف من أهل الْبَصْرَة سمع أنسا و (رَوَى) عَنهُ ابْن الْمُبَارك وَغَيره، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَن الرّبيع بن أنس فَقَالَ: صَدُوق ثِقَة. زَاد(3/621)
غَيره عَن الْحَاكِم أَنه قَالَ: ذاكرت بِهِ بعض الْحفاظ (فَقَالَ) : غير الرّبيع بن أنس (فَمَا زلت) أتأمل التواريخ وأقاويل الْأَئِمَّة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَلم أجد (أحدا) طعن فِيهِ. وَقَالَ الْعجلِيّ: بَصرِي صَدُوق. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس.
قلت: وَأما أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ عِيسَى بن ماهان فقد اخْتلف فِيهِ، فَقَالَ الإِمَام أَحْمد: صَالح الحَدِيث. كَذَا رَوَاهُ حَنْبَل عَنهُ، وَأخرج الحَدِيث وَصَححهُ من جِهَته، وَقَالَ عبد الله ابْنه عَنهُ: لَيْسَ بِقَوي. وَقَالَ الْحَازِمِي فِي «ناسخه ومنسوخه» : وَالرِّوَايَة الأولَى عَن الإِمَام أَحْمد أولَى (ويؤكدها) إِخْرَاجه حَدِيثه فِي «مُسْنده» وَعَن يَحْيَى فِيهِ رِوَايَات: أَحدهَا: ثِقَة، قَالَه إِسْحَاق بن مَنْصُور عَنهُ. ثَانِيهَا: يكْتب حَدِيثه لكنه يُخطئ، قَالَه ابْن أبي مَرْيَم عَنهُ. ثَالِثهَا: صَالح، قَالَه ابْن أبي خَيْثَمَة عَنهُ. رَابِعهَا: ثِقَة وَهُوَ يغلط فِيمَا يروي عَن مُغيرَة، قَالَه الدوري عَنهُ. وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ من رِوَايَته عَن مُغيرَة. خَامِسهَا: صَدُوق لَيْسَ بمتقن، قَالَه السَّاجِي عَنهُ. وَذكره الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي عَن السَّاجِي نَفسه، وَإِنَّمَا (ذكره رِوَايَة، كَذَا) هُوَ فِي جرحه وتعديله. وَكَذَا نَقله (عَنهُ) ابْن حزم. وَاخْتلف النَّقْل فِيهِ عَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ، فَقَالَ مرّة: هُوَ نَحْو(3/622)
مُوسَى بن عُبَيْدَة، يخلط فِيمَا رَوَى عَن مُغيرَة وَنَحْوه. وَقَالَ مرّة: كَانَ عندنَا ثِقَة، وَهَذِه رِوَايَة مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَنهُ، وَالْأولَى رِوَايَة وَلَده عَنهُ. وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الله (بن عمار) الْموصِلِي: ثِقَة. وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي الفلاس فِيهِ: صَدُوق وَهُوَ من أهل الصدْق سيئ الْحِفْظ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: شيخ يهم كثيرا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ثِقَة صَدُوق صَالح الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن خرَاش: سيئ الْحِفْظ صَدُوق. وَقَالَ ابْن عدي: لَهُ أَحَادِيث صَالِحَة، وَقد رَوَى عَنهُ النَّاس، وَأَحَادِيثه عامتها مُسْتَقِيمَة، وَأَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: كَانَ ثِقَة، وَكَانَ يقدم بَغْدَاد يسمعُونَ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي بَاب صَلَاة الْكُسُوف: البُخَارِيّ وَمُسلم (قد) هجرا أَبَا جَعْفَر الرَّازِيّ وَلم يخرجَا عَنهُ، وحاله عِنْد سَائِر الْأَئِمَّة أحسن الْحَال. وَقَالَ مرّة: ثِقَة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «الِاسْتِغْنَاء» : هُوَ عِنْدهم ثِقَة عَالم بتفسير الْقُرْآن. وَذكره ابْن شاهين فِي «ثقاته» وَقَالَ الْحَازِمِي فِي «ناسخه ومنسوخه» : هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَأَبُو جَعْفَر ثِقَة. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» بعد أَن أخرج الحَدِيث فِيهِ: (فِي) إِسْنَاده أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ وَقد وَثَّقَهُ غير وَاحِد. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا حَدِيث قد حكم بِصِحَّتِهِ غير وَاحِد من حفاظ الحَدِيث، مِنْهُم: أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَلّي الْبَلْخِي من أَئِمَّة الحَدِيث،(3/623)
وَأَبُو عبد الله الْحَاكِم، وَأَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ. وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «خلاصته» : هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ جماعات من الْحفاظ وصححوه، ثمَّ ذكر أَن هَؤُلَاءِ الَّذين ذكرهم ابْن الصّلاح من جملَة من صَححهُ، قَالَ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طرق بأسانيد صَحِيحَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي «مفهمه» : الَّذِي اسْتَقر (عَلَيْهِ) أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْقُنُوت مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أنس ... فَذكر الحَدِيث. وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فأعله فِي «علله المتناهية» و «تَحْقِيقه» بِأبي جَعْفَر هَذَا نصْرَة لمذهبه، وَنقل كَلَام من ضعفه فَقَط وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ، وَاقْتصر عَلَى رِوَايَة من رَوَى التَّضْعِيف عَن أَحْمد وَابْن الْمَدِينِيّ وَيَحْيَى بن معِين، وَمَا هَذَا فعل الْمنصف، عَلَى أَن حَدِيث أنس هَذَا من هَذَا الْوَجْه لم يتفرد بِهِ عِيسَى بن ماهان بل لَهُ (طرق) أُخْرَى غَيره ذكرتها مُوضحَة فِي تخريجي لأحاديث «الْمُهَذّب» يتَعَيَّن عَلَيْك مراجعتها مِنْهُ، وَذكرت فِيهِ أَن بَعضهم وهم فَعَزاهُ إِلَى مُسلم، وَأَن النَّوَوِيّ عزاهُ إِلَى «الْمُسْتَدْرك» (وَلَيْسَ) فِيهِ وبينت سَبَب وهمه فِي ذَلِك.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ الْقُنُوت فِي الصُّبْح أَيْضا عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْعَوام بن حَمْزَة قَالَ: «سَأَلت أَبَا عُثْمَان عَن الْقُنُوت فِي الصُّبْح قَالَ: بعد الرُّكُوع. قلت:(3/624)
عَمَّن؟ قَالَ: عَن أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده حسن، و (رَوَاهُ) الْبَيْهَقِيّ عَن عمر أَيْضا من طرق، وَرَوَى أَيْضا عَن عبد الله بن معقل (بِفَتْح الْمِيم) وَإِسْكَان الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف - التَّابِعِيّ قَالَ: (قنت عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي الْفجْر) قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا عَن عَلّي صَحِيح مَشْهُور.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: قَوْله: بِئْر مَعُونَة - بالنُّون - قَالَ الْحَازِمِي: فِي «المؤتلف والمختلف فِي أَسمَاء الْأَمَاكِن» : بِئْر مَعُونَة بَين جبال يُقَال لَهَا: أبلى فِي طَرِيق (المصعد) من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة وَهِي لبني سليم، قَالَه الْكِنْدِيّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ مَاء لبني عَامر بن صعصعة. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: هَذِه الْبِئْر فِي أَرض بني سُليم وَبني كلاب. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: هِيَ بَين أَرض بني عَامر وحرة بني سليم، كلا البلدين مِنْهَا قريب، وَهِي من (بني) سُليم أقرب.
ثَانِيهَا: قَوْله فِي الحَدِيث السالف «ثمَّ تَركه» . المُرَاد ترك الدُّعَاء عَلَى أُولَئِكَ الْكفَّار ولعنهم فَقَط، لَا ترك جَمِيع الْقُنُوت أَو ترك الْقُنُوت فِي غير الصُّبْح، وَهَذَا التَّأْوِيل مُتَعَيّن؛ لِأَن حَدِيث أنس بعده «لم (يزل يقنت) فِي الصُّبْح حَتَّى فَارق الدُّنْيَا» صَحِيح صَرِيح، فَيتَعَيَّن الْجمع بَينهمَا. وَقد رَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي الإِمَام أَنه قَالَ: إِنَّمَا ترك(3/625)
اللَّعْن. وَيُؤَيّد هَذَا التَّأْوِيل مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَن أبي هُرَيْرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قنت بعد الرُّكُوع فِي صلَاته شهرا يَدْعُو لفُلَان وَفُلَان ثمَّ ترك الدُّعَاء لَهُم» . وَمَعْنى لفُلَان: عَلَى فلَان، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: (وَإِن أسأتم فلهَا) أَي: فعلَيْهَا، قَالَ أَصْحَابنَا: الَّذين رووا إِثْبَات الْقُنُوت أَكثر وَمَعَهُمْ زِيَادَة علم، فَتقدم روايتهم.
ثَالِثهَا: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأما مَا عدا الصُّبْح من الْفَرَائِض فَإِن نزل بِالْمُسْلِمين نازلة من وباء أَو قحط، فيقنت فِيهَا أَيْضا فِي الِاعْتِدَال عَن رُكُوع الرَّكْعَة الْأَخِيرَة كَمَا فعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حَدِيث بِئْر مَعُونَة عَلَى مَا سبق، وَإِن لم تنزل نازلة فَفِيهِ قَولَانِ: أصَحهمَا لَا يقنت؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام ترك الْقُنُوت (فِيهَا. انْتَهَى. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لما عَلمته. وَبَوَّبَ الْبَيْهَقِيّ ترك الْقُنُوت) فِي سَائِر الصَّلَوَات غير الصُّبْح عِنْد ارْتِفَاع النَّازِلَة وَفِي صَلَاة الصُّبْح لقوم أَو عَلَى قوم بِأَسْمَائِهِمْ أَو قبائلهم. ثمَّ ذكر حَدِيث أبي هُرَيْرَة الثَّابِت فِي «صَحِيح مُسلم» قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول حِين يفرغ من صَلَاة الْفجْر من الْقِرَاءَة وَيكبر وَيرْفَع رَأسه: سمع الله لمن حَمده، رَبنَا وَلَك الْحَمد ثمَّ يَقُول -[وَهُوَ قَائِم]-: «اللَّهُمَّ أَنْج الْوَلِيد بن الْوَلِيد وَسَلَمَة بن هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك عَلَى مُضر وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم كَسِنِي يُوسُف، اللَّهُمَّ الْعَن لحيان(3/626)
وَرِعْلًا وذكوان وَعصيَّة عَصَتْ الله وَرَسُوله» ثمَّ بلغنَا أَنه ترك ذَلِك لما نزلت (لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء» ) . وَفِي لفظ لَهُ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قنت بعد الرُّكُوع فِي صلَاته شهرا إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده يَقُول فِي قنوته: اللَّهُمَّ أَنْج الْوَلِيد بن الْوَلِيد، اللَّهُمَّ نج سَلمَة بن هِشَام، اللَّهُمَّ نج عَيَّاش بن أبي ربيعَة ... » الحَدِيث. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ترك الدُّعَاء بعد، فَقلت: أرَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ترك الدُّعَاء [لَهُم] قَالَ: فَقيل: وَمَا (تراهم قد) قدمُوا؟) وَأخرج البُخَارِيّ ذَلِك أَيْضا، وَانْتَهَى حَدِيثه عِنْد الْآيَة، وَلم يذكرهَا الْبَيْهَقِيّ كَذَا، ثمَّ ذكر بعد ذَلِك حَدِيث أنس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قنت شهرا يَدْعُو عَلَى أَحيَاء (من أَحيَاء) الْعَرَب ثمَّ تَركه» وَعَزاهُ إِلَى مُسلم، وَذكر عقبه قَول ابْن مهْدي السالف.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْخمسين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قنت بعد رفع رَأسه من الرُّكُوع فِي الرَّكْعَة الْأَخِيرَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن عبد الله(3/627)
بن مُعَاوِيَة الجُمَحِي، ثَنَا ثَابت بن يزِيد، عَن هِلَال بن (خباب) ، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «قنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شهرا مُتَتَابِعًا فِي الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء وَصَلَاة الصُّبْح فِي دبر كل صَلَاة، إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده من الرَّكْعَة الْأَخِيرَة، يَدْعُو عَلَى أَحيَاء من سُليم؛ عَلَى رعل وذكوان وَعصيَّة ويؤمِّن من خَلفه» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، عَن عَفَّان، ثَنَا ثَابت بِهِ، وثابت هَذَا هُوَ الأودي الْأَحول الثِّقَة وهلال بن (خباب) رَوَى لَهُ الْأَرْبَعَة. وَقَالَ ابْن حبَان: اخْتَلَط فِي آخر عمره. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَذَلِك إِسْنَادًا ومتنًا، ثمَّ قَالَ: (هَذَا) حَدِيث عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي: هَذَا حَدِيث حسن، وَكَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» . وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِسْنَاده حسن أَو صَحِيح.(3/628)
الحَدِيث السِّتُّونَ
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قنت بعد رفع رَأسه من الرُّكُوع فِي الرَّكْعَة الْأَخِيرَة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلّي صِحَّته كَمَا سبق فِي التَّنْبِيه الثَّالِث السالف قَرِيبا. وَفِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ الصَّحِيحَة أَن أنس بن مَالك رَوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثل ذَلِك، وَهُوَ حَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته أَيْضا عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قنت شهرا بعد الرُّكُوع يَدْعُو عَلَى أَحيَاء من الْعَرَب ثمَّ تَركه» ، وَقَوله: «ثمَّ تَركه» قد سلف تَأْوِيله. وَفِي البُخَارِيّ مثل هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عمر، وَفِي مُسلم مثله من حَدِيث خفاف بن إِيمَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: رُوَاة الْقُنُوت بعد (الرّفْع) أَكثر وأحفظ، وَعَلِيهِ درج الْخُلَفَاء الراشدون فِي أشهر الرِّوَايَات عَنْهُم وأكثرها. وَفِي «الكنى» لأبي أَحْمد الْحَاكِم عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث قَالَ: سَمِعت خَالِدا العَبْد يَقُول: قَالَ الْحسن: «صليت خلف ثَمَانِيَة وَعشْرين بدريًّا كلهم يقنت فِي الصُّبْح بعد الرُّكُوع» . وَقَالَ الْأَثْرَم: قلت لِأَحْمَد يَقُول أحد فِي حَدِيث أنس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قنت قبل الرُّكُوع» غير عَاصِم الْأَحول؟ فَقَالَ: مَا علمت أحدا يَقُوله غَيره خالفهم كلهم هِشَام عَن قَتَادَة، والتيمي عَن أبي مجلز،(3/629)
وَأَيوب عَن ابْن سِيرِين، وَغير وَاحِد عَن حَنْظَلَة السدُوسِي كلهم، عَن أنس «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قنت بعد الرُّكُوع» . قيل لِأَحْمَد: سَائِر الْأَحَادِيث إِنَّمَا هِيَ بعد الرُّكُوع؟ قَالَ: بلَى، خفاف بن إِيمَاء وَأَبُو هُرَيْرَة. وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أنس «وَسُئِلَ عَن الْقُنُوت فِي صَلَاة الصُّبْح أقبل الرُّكُوع أم بعد؟ فَقَالَ: كِلَاهُمَا قد كُنَّا نَفْعل؛ قبل وَبعد» قَالَ: أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح لَا مطْعن عَلَى أحد من رُوَاته بِوَجْه.
الحَدِيث الْحَادِي بعد السِّتين
(أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقنت فِي الصُّبْح بِهَذَا الدُّعَاء وَهُوَ: اللَّهُمَّ اهدني فِيمَن هديت، وَعَافنِي فِيمَن عافيت، وتولني فِيمَن توليت، وَبَارك لي فِيمَا أَعْطَيْت، وقني شَرّ مَا قضيت؛ إِنَّك تقضي وَلَا يُقْضَى عَلَيْك، وَإنَّهُ لَا يذل من واليت، تَبَارَكت رَبنَا وَتَعَالَيْت» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: هَذَا الْقدر يرْوَى عَن الْحسن بن عَلّي عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْأَئِمَّة أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه فِي (سُنَنهمْ) ، فَأَما(3/630)
أَحْمد فَرَوَاهُ عَن وَكِيع، نَا يُونُس بن أبي إِسْحَاق، عَن بريد - بِالْبَاء الْمُوَحدَة - ابْن أبي مَرْيَم (السَّلُولي) ، عَن أبي الْحَوْرَاء - بِالْحَاء الْمُهْملَة - واسْمه ربيعَة بن شَيبَان، عَن الْحسن بن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَلِمَات أقولهن فِي قنوت الْوتر اللَّهُمَّ اهدني ... » فَذكره إِلَّا أَنه قَالَ: «فَإنَّك تقضي» بِإِثْبَات الْفَاء، وَإِسْقَاط الْوَاو من قَوْله: «وَإنَّهُ لَا يذل من واليت» .
وَأما أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ [فأخرجاه] كَذَلِك لَكِن بِإِسْقَاط الْفَاء (وَالْوَاو) وَأخرجه التِّرْمِذِيّ كَذَلِك أَيْضا (لَكِن) بِإِثْبَات الْوَاو، وَقَالُوا: «فِي الْوتر» بدل قَوْله «فِي قنوت الْوتر» .
وَأما ابْن مَاجَه فَرَوَاهُ بِلَفْظ: «عَلمنِي جدي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَلِمَات أقولهن فِي قنوت الْوتر: «اللَّهُمَّ] عَافنِي فِيمَن عافيت] ، وتولني فِيمَن توليت، واهدني فِيمَن هديت، وقني شَرّ مَا قضيت، وَبَارك (لي) فِيمَا أَعْطَيْت، إِنَّك تقضي وَلَا يُقْضَى عَلَيْك، إِنَّه لَا يذل من واليت، سُبْحَانَكَ رَبنَا تَبَارَكت وَتَعَالَيْت» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. قَالَ: وَلَا نَعْرِف عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْقُنُوت [فِي الْوتر] شَيْئا أحسن من هَذَا. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» وَهُوَ مِمَّا ألزم الشَّيْخَانِ تَخْرِيجه.(3/631)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من حَدِيث إِسْرَائِيل، عَن أبي إِسْحَاق، عَن بريد بن أبي مَرْيَم، عَن أبي الْحَوْرَاء، عَن الْحسن أَو الْحُسَيْن بن عَلّي قَالَ: «عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَلِمَات أقولهن فِي الْقُنُوت اللَّهُمَّ اهدني ... » فَذكره بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ إِلَّا أَنه أسقط (الْفَاء) من «فَإنَّك» وَزَاد: «وَلَا يعز من عاديت» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا قَالَ فِي أصل كِتَابه: عَن الْحسن أَو الْحُسَيْن بن عَلّي فكأنَّ الشَّك لم يَقع فِي الْحسن [أَو الْحُسَيْن بن عَلّي] وَإِنَّمَا وَقع فِي الْإِطْلَاق أَو النِّسْبَة، وَكَانَ فِي أصل كِتَابه هَذِه الزِّيَادَة «وَلَا يعز من عاديت» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي كتاب المناقب مِنْهُ فِي تَرْجَمَة الْحسن من طَرِيق أُخْرَى، رَوَاهُ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة، عَن عَمه مُوسَى بن عقبَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، عَن الْحسن بن عَلّي قَالَ: «عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي وتري إِذا رفعت رَأْسِي وَلم يبْق إِلَّا السُّجُود: اللَّهُمَّ اهدني فِيمَن هديت، وَعَافنِي فِيمَن عافيت، وتولني فِيمَن توليت، وَبَارك لي فِيمَا (أَعْطَيْت) ، وقني شَرّ مَا قضيت، فَإنَّك تقضي وَلَا يُقْضَى عَلَيْك، إِنَّه لَا يذل من واليت، تَبَارَكت وَتَعَالَيْت» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم إِلَّا أَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير قد خَالف إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة فِي إِسْنَاده، فَرَوَاهُ عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن أبي إِسْحَاق، عَن بريد بن أبي مَرْيَم، عَن(3/632)
أبي الْحَوْرَاء، عَن الْحسن بن عَلّي قَالَ: «عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَؤُلَاءِ الْكَلِمَات فِي الْوتر: اللَّهُمَّ اهدني فِيمَن هديت، وَبَارك لي فِيمَا [أَعْطَيْت] ، وقني شَرّ مَا قضيت، فَإنَّك تقضي وَلَا يُقْضَى عَلَيْك، وَإنَّهُ لَا يذل من واليت، تَبَارَكت رَبنَا وَتَعَالَيْت» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي (سنَنه) أَيْضا من طرق، فَفِي بَعْضهَا بالسند الْمَذْكُور، قَالَ بريد: «فَذكرت ذَلِك لمُحَمد ابْن الْحَنَفِيَّة فَقَالَ: إِنَّه الدُّعَاء الَّذِي (كَانَ) يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاة الْفجْر فِي قنوته» وَفِي بَعْضهَا من حَدِيث (عبد الْمجِيد بن أبي رواد) عَن ابْن جريج، أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز أَن بريد بن أبي مَرْيَم أخبرهُ قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس وَمُحَمّد بن [عَلّي] هُوَ ابْن الْحَنَفِيَّة بالخيف يَقُولَانِ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقنت فِي صَلَاة الصُّبْح وَفِي وتر اللَّيْل بهؤلاء (الْكَلِمَات)
» فَذكره كَمَا سلف إِلَّا أَنه لم يذكر «وَلَا يعز من عاديت» . ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم، نَا ابْن جريج، عَن ابْن هُرْمُز، عَن بريد بن أبي مَرْيَم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعلمنَا دُعَاء نَدْعُو بِهِ فِي الْقُنُوت (من) صَلَاة الصُّبْح: اللَّهُمَّ اهدنا فِيمَن هديت ... » الحَدِيث، إِلَّا أَنه قَالَ: «وتولنا» و «بَارك لنا» و «قِنَا» . ثمَّ قَالَ: رَوَاهُ مخلد بن يزِيد الْحَرَّانِي، عَن ابْن جريج. فَذكر رِوَايَة (بريد) مُرْسلَة فِي تَعْلِيم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أحد ابْني(3/633)
ابْنَته هَذَا الدُّعَاء فِي وتره ثمَّ قَالَ بريد: سَمِعت ابْن الْحَنَفِيَّة وَابْن عَبَّاس يَقُولَانِ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُولهَا فِي قنوت اللَّيْل» قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو صَفْوَان الْأمَوِي، عَن ابْن جريج إِلَّا أَنه قَالَ: عَن عبد الله بن هُرْمُز، وَقَالَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس وَابْن الْحَنَفِيَّة «فِي قنوت صَلَاة الصُّبْح» قَالَ: فصح بِهَذَا كُله أَن تَعْلِيمه هَذَا الدُّعَاء وَقع لقنوت صَلَاة الصُّبْح وقنوت الْوتر، فَإِن بريدًا أَخذ الحَدِيث من الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرناهما.
قلت: فصح حِينَئِذٍ دَعْوَى الرَّافِعِيّ أَن ذَلِك كَانَ فِي الصُّبْح، وَخَالف أَبُو حَاتِم بن حبَان فضعف حَدِيث الْحسن (بِمَا تشاحح فِيهِ) فَقَالَ فِي كِتَابه (وصف الصَّلَاة بِالسنةِ» : ذِكْرُ خبر عدُول نقلته، يُوهم عَالما أَن الْمُصْطَفَى (علم (الْحسن) بن عَلّي دُعَاء الْقُنُوت، ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ كَمَا أسلفناه عَن السّنَن الْأَرْبَعَة ثمَّ قَالَ: هَذَا خبر رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق، عَن بريد بن أبي مَرْيَم وسَمعه ابناه إِسْرَائِيل وَيُونُس، عَن أَبِيهِمَا، وَعَن بريد بن أبي مَرْيَم، وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي كَانَ مدلسًا لَا يصغر عَن بريد بن أبي مَرْيَم بل هُوَ أَعلَى إِسْنَادًا مِنْهُ، وَلَكِن لَا نَدْرِي أسمع هَذَا الْخَبَر من بريد أم لَا؟ قَالَ: (وَهَذِه) اللَّفْظَة «عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَلِمَات أقولهن فِي قنوت الْوتر» لَيست بمحفوظة؛ لِأَن الْحسن بن عَلّي قُبِضَ الْمُصْطَفَى وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين، فَكيف يعلم الْمُصْطَفَى ابْن ثَمَان سِنِين دُعَاء الْقُنُوت فِي الْوتر وَيتْرك أولي الأحلام والنهى من الصَّحَابَة و (لَا) يَأْمُرهُم بِهِ. قَالَ: وَشعْبَة بن الْحجَّاج أحفظ من مِائَتَيْنِ مثل أبي إِسْحَاق وابنيه، وَقد رَوَى(3/634)
هَذَا الْخَبَر عَن بريد بن أبي مَرْيَم من غير ذكر الْقُنُوت وَلَا الْوتر فِيهِ وَإِنَّمَا قَالَ: «كَانَ يعلمنَا هَذَا الدُّعَاء» وَقد (سَمعه) من بريد بن أبي مَرْيَم مرَارًا، فَلَو كَانَت هَذِه اللَّفْظَة مَحْفُوظَة لبادر بهَا شُعْبَة فِي خَبره إِذْ الإتقان بِهِ أَحْرَى والضبط للإسناد بِهِ أولَى من أبي إِسْحَاق وابنيه. هَذَا آخر كَلَامه. وَأخرجه فِي (صَحِيحه) من غير ذكر الْقُنُوت وَلَا الْوتر، رَوَاهُ من حَدِيث شُعْبَة عَن بريد، عَن أبي الْحَوْرَاء. [قَالَ] : (قلت لِلْحسنِ: مَا تذكر من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: أذكر أَنِّي أخذت تَمْرَة من تمر الصَّدَقَة فجعلتها فِي فيَّ فانتزعها بلعابها فطرحها فِي التَّمْر، وَكَانَ يعلمنَا هَذَا الدُّعَاء اللَّهُمَّ اهدني فِيمَن هديت ... » فَذكره إِلَى قَوْله: «إِنَّه لَا يذل من واليت» . قَالَ شُعْبَة: وَأَظنهُ قَالَ: «تَبَارَكت وَتَعَالَيْت» . ثمَّ قَالَ: اسْم أبي الْحَوْرَاء ربيعَة بن شَيبَان، وَأَبُو الجوزاء اسْمه أَوْس بن عبد الله هما جَمِيعًا تابعيان [بصريان] وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي «مُسْنده» سَوَاء وَقَالَ: وَرُبمَا قَالَ: «تَبَارَكت [رَبنَا] وَتَعَالَيْت» . بدل: وَأَظنهُ. ثمَّ رَوَاهُ بِلَفْظ ابْن حبَان وَزَاد: وَقَالَ شُعْبَة: وَقد حَدثنِي من سمع هَذِه مِنْهُ. ثمَّ إِن شُعْبَة حدث بِهَذَا الحَدِيث مخرجه إِلَى الْمهْدي بعد موت أَبِيه فَلم يشك فِي «تَبَارَكت وَتَعَالَيْت» . فَقيل لشعبة: إِنَّك تشك فِيهِ. فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ شكّ.(3/635)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَورد فِي حَدِيث الْحسن بن عَلّي أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ بعد «تَبَارَكت وَتَعَالَيْت) : (وَصَلى الله عَلَى النَّبِي وَسلم» .
قلت: رَوَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَة النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة، عَن عبد الله بن عَلّي، عَن الْحسن بن عَلّي قَالَ: «عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْوتر قَالَ: قل اللَّهُمَّ اهدني فِيمَن هديت، وَبَارك لي فِيمَا أَعْطَيْت، وتولني فِيمَن توليت، وقني بِرَحْمَتك شَرّ مَا قضيت، فَإنَّك تقضي وَلَا يُقْضَى عَلَيْك، وَإنَّهُ لَا يذل من واليت، تَبَارَكت رَبنَا وَتَعَالَيْت وَصَلى الله عَلَى النَّبِي» وَعَزاهُ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» إِلَيْهِ بِلَفْظ «وَصَلى الله عَلَى النَّبِي مُحَمَّد» . وَهَذِه الزِّيَادَة (و) هِيَ «مُحَمَّد» لم أرها فِي الحَدِيث، وَوَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ زِيَادَة «وَسلم» . وَلم أرها أَيْضا فِيهِ. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَزَاد الْعلمَاء فِي الْقُنُوت «وَلَا يعز من عاديت» قبل «تَبَارَكت وَتَعَالَيْت» .
قلت: هَذَا غَرِيب تبع فِيهِ ابْن الصّباغ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «شامله» : إِن بعض النَّاس زَاد فِيهِ ذَلِك. فَهَذِهِ الزِّيَادَة فِي نَفْس الحَدِيث (كَمَا أسلفتها لَك بإسنادها عَن الْبَيْهَقِيّ) وَادَّعَى النووى فِي «خلاصته» أَن الْبَيْهَقِيّ رَوَاهَا بِسَنَد ضَعِيف، وَقد أسلفت لَك السَّنَد وَلم يظْهر لي ضعفه، وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة - فِيمَا أَظن - فَقَالَ فِي «مطلبه» : [لم] تثبت الرِّوَايَة بهَا. وَتبع النَّوَوِيّ فِي «روضته» الرَّافِعِيّ فِي نَقله هَذِه الزِّيَادَة عَن الْعلمَاء(3/636)
لكنه أنكرهُ عَلَيْهِ فِي شرح «الْمُهَذّب» .
(فَائِدَة: هَذَا الْقُنُوت الَّذِي قَرَّرْنَاهُ اشْتهر بقنوت الْحسن واستفيد أَيْضا أَنه رُوِيَ عَن الْحُسَيْن أَيْضا أَخِيه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» فِي تَرْجَمَة الْحُسَيْن فَقَالَ يزِيد: أَنا شريك بن عبد الله، عَن أبي إِسْحَاق، عَن بريد بن أبي مَرْيَم، عَن أبي الْحَوْرَاء، عَن الْحُسَيْن بن عَلّي قَالَ: «عَلمنِي جدي - أَو قَالَ: النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَلِمَات أقولهن فِي الْوتر ... » فَذكر الحَدِيث) .
الحَدِيث الثَّانِي بعد السِّتين
قَالَ الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثمَّ الإِمَام فِي صَلَاة الصُّبْح هَل يجْهر بِالْقُنُوتِ؟ فِيهِ وَجْهَان: أظهرهمَا أَنه يجْهر؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ الْجَهْر بِهِ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» فِي كتاب التَّفْسِير عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يَدْعُو عَلَى أحد أَو يَدْعُو لأحد قنت بعد الرُّكُوع فَرُبمَا قَالَ: إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده، اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد، اللَّهُمَّ أَنْج الْوَلِيد بن الْوَلِيد ... » الحَدِيث. وَفِي آخِره: «يجْهر بذلك» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَحَدِيث بِئْر مَعُونَة يدل عَلَى أَنه كَانَ يجْهر بِهِ فِي جَمِيع الصَّلَوَات. هُوَ ظَاهر مَا أوردته.(3/637)
الحَدِيث الثَّالِث بعد السِّتين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقنت وَنحن (نؤمن) خَلفه» .
هَكَذَا هُوَ فِي «الشَّامِل» لِابْنِ الصّباغ أَيْضا، و (قد) قدمْنَاهُ بِطُولِهِ قَرِيبا فِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْخمسين بِلَفْظ «ويؤمن من خَلفه» فَيحْتَمل أَن يقْرَأ بنُون فِي أول «نؤمن» ثمَّ بعد الْكَلِمَة «مِن» الجارة بِكَسْر الْمِيم. و «خَلفه» بِالْجَرِّ ب (من) فيوافق إِذن مَا أوردهُ الرَّافِعِيّ، وَيحْتَمل أَن يقْرَأ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة تَحت فِي أَوله ثمَّ بعد الْكَلِمَة «من» بِفَتْح الْمِيم مَوْصُولَة بِمَعْنى الَّذِي و «خَلفه» بِالنّصب عَلَى الظّرْف.
(الحَدِيث الرَّابِع بعد السِّتين
عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا دَعَوْت فَادع ببطون كفيك، وَإِذا فرغت فامسح راحتيك عَلَى وَجهك»
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن مسلمة، نَا عبد الْملك بن مُحَمَّد بن أَيمن، عَن عبد الله بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق، عَمَّن حَدثهُ، عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَا تستروا الْجدر، وَمن نظر فِي كتاب أَخِيه بِغَيْر إِذْنه فَكَأَنَّمَا ينظر فِي النَّار. سلوا الله ببطون أكفكم وَلَا [تسألوه] بظهورها،(3/638)
فَإِذا فَرَغْتُمْ فامسحوا بهَا وُجُوهكُم) . قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا الحَدِيث رُوِيَ من غير وَجه عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ كلهَا واهية، وَهَذَا الطَّرِيق أمثلها وَهُوَ ضَعِيف أَيْضا. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَاللَّفْظ لَهُ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث صَالح بن (حسان) عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «إِذا دَعَوْت الله فَادع ببطون كفيك وَلَا تدع بظهورهما، فَإِذا فرغت فامسح بهما وَجهك» وَلَفظ الْحَاكِم «إِذا سَأَلْتُم الله فَاسْأَلُوهُ ببطون أكفكم، وَلَا تسألوه بظهورها، وامسحوا بهَا وُجُوهكُم» وَصَالح هَذَا ضَعَّفُوهُ. وَقَالَ البُخَارِيّ والرازي: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يروي الموضوعات عَن الثِّقَات. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَذكرته» : كَذَّاب. لَا جرم قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ، فَقَالَ: حَدِيث مُنكر. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : حَدِيث لَا يَصح. وَقَالَ أَحْمد: لَا يعرف هَذَا أَنه كَانَ يمسح وَجهه بعد الدُّعَاء إِلَّا عَن الْحسن. وَنقل النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» اتِّفَاق الْحفاظ عَلَى تَضْعِيفه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : لست أحفظ فِي مسح الْوَجْه - هُنَا - عَن أحد من(3/639)
السّلف شَيْئا، وَإِن كَانَ يرْوَى عَن بَعضهم فِي الدُّعَاء خَارج الصَّلَاة. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَدِيث فِيهِ ضعف وَهُوَ مُسْتَعْمل عِنْد بَعضهم خَارج الصَّلَاة، فَأَما فِي الصَّلَاة فَهُوَ عمل لم يثبت فِيهِ أثر وَلَا خبر وَلَا قِيَاس، وَالْأولَى أَن لَا يَفْعَله ويقتصر عَلَى مَا فعله السّلف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - من رفع الْيَدَيْنِ دون مسحهما بِالْوَجْهِ فِي الصَّلَاة. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ الحَدِيث السالف، وَنقل كَلَام أبي دَاوُد فِيهِ، ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن الْمُبَارك أَنه سُئِلَ عَن مسح الْوَجْه إِذا دَعَا الْإِنْسَان قَالَ: لم أجد لَهُ شَاهدا. هَذَا آخر كَلَام الْبَيْهَقِيّ.
وَأما حَدِيث عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا رفع يَدَيْهِ فِي الدُّعَاء لم يحطهما حَتَّى يمسح بهما وَجهه) فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: غَرِيب، انْفَرد بِهِ حَمَّاد بن عِيسَى. قلت: هُوَ الْجُهَنِيّ غريق الْجحْفَة، ضَعَّفُوهُ، وَأَتَى عَن جَعْفَر الصَّادِق وَابْن جريج بطامات.
وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: هَذَا حَدِيث مُنكر. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : قَالَ أَبُو زرْعَة: هَذَا حَدِيث مُنكر، أَخَاف أَن لَا يكون لَهُ أصل. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : لَا يَصح. وَنقل عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» أَن التِّرْمِذِيّ صَححهُ، وَقد قيل إِنَّه وجد كَذَلِك فِي غير مَا نُسْخَة مِنْهُ، لَكِن ابْن الصّلاح ثمَّ النَّوَوِيّ غلطاه فِي هَذَا النَّقْل عَنهُ، فَإِن يثبت ذَلِك عَن التِّرْمِذِيّ فَلَيْسَ بجيد مِنْهُ، وينكر عَلَى ابْن السكن فِي(3/640)
إِدْخَاله لَهُ فِي (سنَنه الصِّحَاح المأثورة) . وَالله أعلم.)
الحَدِيث (الْخَامِس) بعد السِّتين
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَا يرفع الْيَد إِلَّا (فِي) ثَلَاثَة مَوَاطِن: الاستستقاء، والاستنصار، وَعَشِيَّة عَرَفَة» .
هَذَا الحَدِيث قدمت الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الْفَصْل الْمَعْقُود لما عَارض الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الرّفْع وَأَنه غَرِيب، لَا نَعْرِف من خرجه من حَدِيث أنس وَأَن الْمَعْرُوف إرْسَاله، وَقد قَدمته هُنَاكَ، وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن أنس قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يرفع يَدَيْهِ فِي (شَيْء من) دُعَائِهِ إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء، وَأَنه يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يرَى بَيَاض إبطَيْهِ» .
قلت: وَثَبت أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رفع يَدَيْهِ فِي عدَّة مَوَاضِع أخر مِنْهَا: فِي الْقُنُوت، رَوَاهُ أنس، وَهُوَ فِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» ، وَمِنْهَا فِي دُعَائِهِ لأهل البقيع، روته عَائِشَة، وَهُوَ فِي «صَحِيح مُسلم» ، وَمِنْهَا فِي دُعَائِهِ يَوْم بدر وَقَوله: «اللَّهُمَّ أنْجز لي مَا وَعَدتنِي» . رَوَاهُ عمر بن الْخطاب وَهُوَ فِي «صَحِيح مُسلم» (أَيْضا) ، وَمِنْهَا فِي دُعَائِهِ عِنْد الْجَمْرَة الدُّنْيَا(3/641)
وَالْوُسْطَى، رَوَاهُ ابْنه عبد الله وَهُوَ فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» ، وَمِنْهَا لما صبح خَيْبَر وَقَالَ: «الله أكبر خربَتْ خَيْبَر» . رَوَاهُ أنس وَهُوَ (فِي) صَحِيح البُخَارِيّ أَيْضا، وَمِنْهَا فِي دُعَائِهِ لأبي عَامر لما اسْتشْهد رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَهُوَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَفِي كتاب «رفع الْيَدَيْنِ» للْبُخَارِيّ الرّفْع عَنهُ (من حَدِيث عَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر وَعلي وَقَالَ: هِيَ صَحِيحَة. إِذا علمت ذَلِك فيتأول حَدِيث أنس أَنه أَرَادَ الرّفْع البليغ فقد رَوَى هُوَ بعض ذَلِك.
الحَدِيث السَّادِس بعد السِّتين
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا سجدت فمكن جبهتك من الأَرْض وَلَا تنقر نقرًا» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي (مهذبه) ، وبيض لَهُ الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيثه، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» : هَذَا حَدِيث غَرِيب ضَعِيف، وَذكره فِي «خلاصته» فِي فصل الضَّعِيف وَأَشَارَ غَيره إِلَى غنية الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَنهُ لما لم يظفر(3/642)
بِهِ (وَهِي) «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يسْجد عَلَى جَبهته ويمكنها» وَمن ذَلِك حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا سجد أمكن جَبهته وَأَنْفه» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مطولا، وَمِنْهَا حَدِيث وَائِل بن حجر قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسْجد عَلَى الأَرْض وَاضِعا جَبهته وَأَنْفه فِي سُجُوده» . رَوَاهُ أَحْمد.
وَمِنْهَا حَدِيث رِفَاعَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لرجل: إِذا أَنْت سجدت فَأثْبت وَجهك ويديك حَتَّى يطمئن كل عظم مِنْك إِلَى مَوْضِعه» رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) .
وَهَذَا غَرِيب من هَؤُلَاءِ، فَالْحَدِيث مَوْجُود بِعَيْنِه فِي «المعجم الْكَبِير» للطبراني عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن مُجَاهِد، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر مطولا وَفِيه: «فَإِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فركعت فضع يَديك عَلَى ركبتيك وَفرج بَين أصابعك، ثمَّ ارْفَعْ رَأسك حَتَّى يرجع كل عُضْو إِلَى مفصله، وَإِذا سجدت فَأمكن جبهتك من الأَرْض وَلَا تنقر» . ثمَّ ذكر بَاقِيه: بِطُولِهِ إِسْحَاق الدبرِي صَدُوق احْتج بِهِ أَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» وَإِن استصغر فِي شَيْخه عبد الرَّزَّاق الإِمَام وَلَا عِبْرَة بِمن تكلم فِيهِ، وَمُجاهد سمع من ابْن عمر، قَالَ البرديجي (الَّذِي) صَحَّ لمجاهد من الصَّحَابَة ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأَبُو هُرَيْرَة عَلَى خلاف فِيهِ.(3/643)
قلت: لَكِن الشَّأْن فِي ابْن مُجَاهِد فَإِنَّهُ أحد الضُّعَفَاء كذبه سُفْيَان الثَّوْريّ. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: مَتْرُوك ثمَّ رَأَيْته بعد ذَلِك بإسقاطه من غير هَذَا الْوَجْه أخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» (فَالْحَمْد لله) عَلَى زَوَال الغرابة والضعف (عَنهُ) كَمَا ادعِي. قَالَ أَبُو حَاتِم: أَنا الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن مُصعب السنجي، نَا مُحَمَّد بن (عمر بن) الْهياج، نَا يَحْيَى بن عبد الرَّحْمَن الأرحبي، حَدثنِي عُبَيْدَة بن (الْأسود) ، عَن الْقَاسِم بن الْوَلِيد، عَن سِنَان بن الْحَارِث بن مصرف، [عَن طَلْحَة بن مصرف] ، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عمر قَالَ: «جَاءَ رجل من الْأَنْصَار إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَلِمَات أسأَل عَنْهُن، قَالَ: اجْلِسْ، وَجَاء رجل من ثَقِيف فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَلِمَات أسأَل عَنْهُن فَقَالَ (: سَبَقَك الْأنْصَارِيّ [فَقَالَ الْأنْصَارِيّ] : إِنَّه رجل غَرِيب، وَإِن للغريب حقًّا فابدأ بِهِ. فَأقبل عَلَى الثَّقَفِيّ فَقَالَ: إِن شِئْت أَجَبْتُك عَمَّا كنت تسْأَل، (وَإِن شِئْت سَأَلتنِي) وأخبرك. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، بل أجبني عَمَّا كنت (أَسأَلك) قَالَ: (جِئْت) تَسْأَلنِي عَن(3/644)
الرُّكُوع وَالسُّجُود وَالصَّلَاة وَالصَّوْم. فَقَالَ: [لَا] (و) الَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا أَخْطَأت مِمَّا كَانَ فِي نَفسِي شَيْئا. قَالَ: فَإِذا ركعت فضع (راحتيك) عَلَى ركبتيك، ثمَّ فرج بَين أصابعك ثمَّ امْكُث حَتَّى يَأْخُذ كل عُضْو مأخذه، وَإِذا سجدت فمكن جبهتك، وَلَا تنقر نقرًا، وصل أول النَّهَار وَآخره. فَقَالَ: يَا نَبِي الله، فَإِن أَنا صليت بَينهمَا؟ قَالَ: فَأَنت إِذا (مصلٍّ) ، وصم (من) كل شهر ثَلَاث عشرَة وَأَرْبع عشرَة وَخمْس عشرَة. فَقَامَ الثَّقَفِيّ، ثمَّ أقبل عَلَى الْأنْصَارِيّ فَقَالَ: إِن شِئْت أَخْبَرتك عَمَّا (جِئْت) تسْأَل، وَإِن شِئْت سَأَلتنِي فأخبرك. فَقَالَ: لَا يَا نَبِي الله، أَخْبرنِي عَمَّا (جِئْت) أَسأَلك. قَالَ: جِئْت تَسْأَلنِي عَن الْحَاج مَا لَهُ حِين يخرج من بَيته، وَمَا لَهُ حِين يقوم بِعَرَفَات، وَمَا لَهُ حِين يَرْمِي الْجمار، وَمَا لَهُ حِين يحلق رَأسه، وَمَا لَهُ حِين يقْضِي آخر طَوَافه بِالْبَيْتِ، فَقَالَ: يَا نَبِي الله، وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا أَخْطَأت مِمَّا كَانَ فِي نَفسِي شَيْئا ... » فَذكره بِطُولِهِ، وَقد سقته فِي شرحي الصَّغِير «للمنهاج» .
قلت: وَرُوِيَ فِي حَدِيث آخر «وَلَا تنقر كنقر الديك» رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه «تَلْخِيص الْمُتَشَابه» من حَدِيث أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُ (فِي جملَة) حَدِيث طَوِيل: «يَا بني، إِذا سجدت فَأمكن جبهتك من(3/645)
الأَرْض وَلَا تنقر نقر الديك» لكنه حَدِيث ضَعِيف فِي إِسْنَاده بشر بن إِبْرَاهِيم المفلوج الوضاع.
الحَدِيث السَّابِع بعد السِّتين
عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سجد بِأَعْلَى جَبهته عَلَى قصاص الشّعْر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن عبد الْعَزِيز بن عبيد الله قَالَ: «قلت لوهب بن كيسَان: مَا لَك لَا تمكن جبهتك وأنفك من الأَرْض؟ قَالَ: ذَلِك أَنِّي سَمِعت جَابر بن عبد الله يَقُول: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسْجد بِأَعْلَى جَبهته عَلَى قصاص الشّعْر» .
ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ عبد الْعَزِيز، عَن وهب، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ عبد الْحق: عبد الْعَزِيز هَذَا لم يرو عَنهُ إِلَّا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش وَهُوَ ضَعِيف وَحَدِيثه مُنكر، وَهَذَا قَالَه يَحْيَى بن معِين فِيهِ. وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ فِي حَقه: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: مُضْطَرب الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك.
فَائِدَة: قصاص الشّعْر - مثلث الْقَاف -: أول منبته من مقدم الرَّأْس (وَالتَّقْيِيد بِكَوْنِهِ من مقدم الرَّأْس إِنَّمَا هُوَ تَفْسِير للْقصَاص الْوَاقِع فِي(3/646)
الحَدِيث، وَأما مَفْهُومه اللّغَوِيّ فَينْطَلق عَلَى مُنْتَهى (الشّعْر) سَوَاء كَانَ من الْمُقدم أَو الْمُؤخر، قَالَه الْجَوْهَرِي، وَالضَّم أفْصح) .
الحَدِيث الثَّامِن بعد السِّتين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أمرت أَن أَسجد عَلَى سَبْعَة أعظم: عَلَى الْجَبْهَة - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنفه - وَالْيَدَيْنِ، والركبتين، وأطراف الْقَدَمَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة: «وَلَا أكفت الثِّيَاب وَلَا الشّعْر» . وَفِي رِوَايَة لَهما «أمرت أَن أَسجد عَلَى سبع [وَلَا أكفت الشّعْر وَلَا الثِّيَاب] : الْجَبْهَة، وَالْأنف، وَالْيَدَيْنِ، والركبتين [والقدمين] » وَفِي رِوَايَة لَهما: «أُمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يسْجد عَلَى سَبْعَة أعظم: الْكَفَّيْنِ، والركبتين، والقدمين، والجبهة» . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى «عَلَى سَبْعَة آرَاب» .(3/647)
قلت: هَذِه الرِّوَايَة صَحِيحَة رَوَاهَا أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا وَلَفظه: «أمرت - وَرُبمَا قَالَ: أَمر نَبِيكُم - أَن نسجد عَلَى سَبْعَة آرَاب» . إِسْنَاده صَحِيح. وَعَزاهُ غير وَاحِد من الْحفاظ كالبيهقي وَغَيره إِلَى مُسلم فِي «صَحِيحه» أَنه قد رَوَى فِيهِ من حَدِيث الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إِذا (سجد العَبْد) سجد مَعَه سَبْعَة (آرَاب) وَجهه، وَكَفاهُ، وَركبَتَاهُ، وَقَدمَاهُ» . وَوَقع فِي (مُسْتَدْرك الْحَاكِم) فِي أثْنَاء كتاب صَلَاة الْجَمَاعَة أَن البُخَارِيّ وَمُسلمًا اتفقَا عَلَى حَدِيث مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن عَامر بن سعد، عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إِذا سجد العَبْد سجد مَعَه سَبْعَة (آرَاب)
» الحَدِيث.
وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ فَلَيْسَ هُوَ فِي البُخَارِيّ قطعا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي بعض نسخ مُسلم كَمَا نبه عَلَيْهِ القَاضِي عِيَاض فِي «إكماله» وَلم أره أَنا فِي شَيْء من نسخه. قَالَ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» : وَلَا نعلم أحدا قَالَ: الْآرَاب إِلَّا الْعَبَّاس.
قلت: قد قَالَهَا وَلَده أَيْضا كَمَا نقلنا ذَلِك عَن «سنَن أبي دَاوُد» وَقَالَهَا أَيْضا غَيرهمَا فَفِي (مُسْند عبد بن حميد) حَدثنِي ابْن أبي شيبَة، نَا مُحَمَّد بن عمر، عَن عبد الله بن جَعْفَر، عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد، عَن(3/648)
عَامر بن سعد، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا سجد العَبْد يسْجد عَلَى سَبْعَة آرَاب: وَجهه، وكفيه، وركبتيه، وقدميه، فَمَا لم (يَقع بعد) انْتقصَ» .
فَائِدَة: الْآرَاب: الْأَعْضَاء، وَاحِدهَا: إرب - بِكَسْر الْهمزَة وَإِسْكَان الرَّاء - قَالَ ابْن يُونُس فِي «شرح التَّعْجِيز» : والآراب - بِفَتْح الرَّاء وإسكانها - جمع إرب؛ أَي: عُضْو.
الحَدِيث التَّاسِع بعد السِّتين
عَن خباب بن الْأَرَت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حر الرمضاء فِي جباهنا وأكفنا فَلم يشكنا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ كَذَلِك فِي «سنَنه» و «خلافياته» بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ فِي «خلافياته» : رَوَاهُ زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة، عَن أبي إِسْحَاق كَذَلِك، وزَكَرِيا مجمع عَلَى عَدَالَته، وَكَذَلِكَ الطَّرِيق إِلَيْهِ (سديد) ، وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي «أربعينه» : أَنا ابْن خُزَيْمَة، نَا الْعَبَّاس بن الْفضل، نَا أَحْمد بن يُونُس، نَا أَبُو إِسْحَاق، عَن سعيد بن وهب، عَن خباب قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حر الرمضاء فِي جباهنا وأكفنا فَلم يشكنا» ثمَّ(3/649)
قَالَ: رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» ، عَن أَحْمد بن يُونُس.
قلت: مُرَاده أَصله؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لفظ «جباهنا وأكفنا» هَذَا لفظ مُسلم: ثَنَا أَحْمد بن يُونُس، نَا أَبُو إِسْحَاق زُهَيْر بن حَرْب، عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي، عَن سعيد بن وهب، عَن خباب (بن الْأَرَت) قَالَ: «أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فشكونا إِلَيْهِ حر الرمضاء فَلم يشكنا» .
قَالَ زُهَيْر: قلت لأبي إِسْحَاق: أَفِي الظّهْر؟ قَالَ: نعم. قلت: أَفِي تَعْجِيلهَا؟ قَالَ: نعم. وَفِي رِوَايَة لَهُ: (شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (الصَّلَاة فِي) الرمضاء فَلم يشكنا» وَرَوَاهُ (ابْن) الْمُنْذر، عَن عبد الله بن أَحْمد، نَا خَلاد بن يَحْيَى، نَا يُونُس بن أبي إِسْحَاق، نَا سعيد بن وهب، نَا خباب قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (حر) الرمضاء فَمَا أشكانا، وَقَالَ: إِذا زَالَت الشَّمْس فصلوا» .
وَرَوَى هَذِه الزِّيَادَة أَيْضا الْبَيْهَقِيّ وصححها ابْن الْقطَّان، فَقَالَ فِي «الْوَهم وَالْإِيهَام» : يُونُس بن أبي إِسْحَاق قد شَارك أَبَاهُ فِي أَشْيَاخ، مِنْهُم: نَاجِية بن كَعْب وَغَيره فَلَا بعد فِي قَوْله: نَا سعيد بن وهب. وَهُوَ فِي «كتاب مُسلم» بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة من رِوَايَة أبي إِسْحَاق، عَن سعيد لَكِن من غير رِوَايَة يُونُس، فَلَعَلَّ يُونُس حفظ عَن سعيد الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة(3/650)
مَا لم يحفظ أَبوهُ أَبُو إِسْحَاق. وَيُونُس ثِقَة حَافظ، وخلاد بن يَحْيَى ثِقَة أحد أَشْيَاخ البُخَارِيّ.
قلت: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث أَيْضا من رِوَايَة أبي إِسْحَاق، عَن حَارِثَة بن (مضرب عَنهُ، رَوَاهُ وَكِيع، عَن الْأَعْمَش قَالَ عبد الرَّحْمَن: سَأَلت أَبَا زرْعَة عَنهُ فَقَالَ: أَخطَأ فِيهِ) وَكِيع بن الْجراح، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا رَوَاهُ (شُعْبَة وسُفْيَان وَزُهَيْر وَإِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق، عَن) سعيد بن وهب، عَن خباب يرفعهُ، وَقَالَ أَيْضا: سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَن حَدِيث رَوَاهُ ابْن (عُيَيْنَة) ، عَن الْأَعْمَش، عَن عمَارَة، (عَن) أبي معمر، عَن خباب قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (حر الرمضاء) فَلم يشكنا» . قَالَ أبي: هَذَا خطأ، أَخطَأ فِيهِ ابْن عُيَيْنَة، لَيْسَ لهَذَا أصل، مَا نَدْرِي كَيفَ أَخطَأ وَمَا أَرَادَ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: إِنَّمَا أَرَادَ ابْن عُيَيْنَة حَدِيث الْأَعْمَش، عَن عمَارَة، عَن أبي معمر، عَن خباب أَنه قيل [لَهُ] «كَيفَ تعرفُون قِرَاءَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: باضطراب لحيته» . قلت لأبي زرْعَة: عَنهُ الحديثان جَمِيعًا؟ فَقَالَ: أَحدهمَا وَالْآخر خطأ. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: الصَّحِيح حَدِيث الْأَعْمَش، عَن أبي إِسْحَاق، عَن حَارِثَة، عَن خباب قَالَ: «شَكَوْنَا ... » وَابْن عُيَيْنَة وهم فِيهِ (وَفِي) «علل التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث(3/651)
زيد بن جُبَير، عَن خشف بن مَالك، (عَن أَبِيه) عَن عبد الله قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حر الرمضاء فَلم يشكنا» ثمَّ قَالَ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَنهُ، فَقَالَ: الصَّحِيح عَن عبد الله مَوْقُوف.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: وَقع فِي «أَحْكَام الْمُحب الطَّبَرِيّ» أَن البُخَارِيّ أخرج حَدِيث خباب هَذَا، وَهُوَ وهم، وَقد شهد عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِأَن البُخَارِيّ لم يُخرجهُ.
ثَانِيهَا: اسْتدلَّ الرَّافِعِيّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى وجوب كشف الْجَبْهَة فِي السُّجُود تبعا للأصحاب. وَاعْترض بَعضهم عَلَى الِاسْتِدْلَال بِهِ وَقَالَ: (إِنَّه) إِنَّمَا ورد فِي الْإِبْرَاد. وَهَذَا الِاعْتِرَاض ضَعِيف كَمَا نبه عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» ؛ لأَنهم شكوا حر الرمضاء فِي جباههم وأكفهم، وَلَو كَانَ الْكَشْف غير وَاجِب (لقيل) لَهُم استروها، فَلَمَّا لم يقل ذَلِك دلّ عَلَى أَنه لَا بُد من كشفها.
ثَالِثهَا: اخْتلف فِي مَعْنَى (هَذَا) الحَدِيث فَقيل: لم يعذرنا، وَقيل: لم يحوجنا إِلَى الشكوى فِي الْمُسْتَقْبل. وَرِوَايَة ابْن الْمُنْذر السالفة مبينَة للْأولِ. قلت: لَكِن نسخ ذَلِك وَثبتت السّنة (بعده بِالْأَمر بالإبراد كَمَا سلف) فِي كتاب الصَّلَاة فِي عدَّة أَحَادِيث.(3/652)
رَابِعهَا: خباب بخاء مُعْجمَة مَفْتُوحَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة مُشَدّدَة ثمَّ ألف ثمَّ بَاء مُوَحدَة. والأرت: بِالْمُثَنَّاةِ فَوق كَلَفْظِ الْأَرَت فِي اللِّسَان. والرمضاء: شدَّة حر الأَرْض من وَقع الشَّمْس عَلَى الرمل (وَغَيره) ، ويشكنا - بِضَم أَوله.
خَامِسهَا: هَذَا الحَدِيث رُوِيَ من حَدِيث جَابر أَيْضا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حر الرمضاء فَلم يشكنا، وَقَالَ: أَكْثرُوا من قَول لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه فَإِنَّهَا تدفع (تِسْعَة وَتِسْعين) بَابا من الضّر (أدناها الْهم والفقر) . ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر إِلَّا بلهط بن عباد الْمَكِّيّ، وَهُوَ عِنْدِي ثِقَة، تفرد بِهِ ابْن أبي عمر الْعَدنِي، عَن عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، وَلَا يرْوَى عَن جَابر إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد وَلَا يحفظ بلهط حَدِيثا غير هَذَا. وَذكره الْعقيلِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» وَقَالَ: بلهط بن عباد، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر مَجْهُول فِي الرِّوَايَة وَالنّسب، حَدِيثه غير مَحْفُوظ، وَلَا يُتَابع عَلَيْهِ، وَهَذَا اللَّفْظ لَا يَصح، وَالْمَحْفُوظ إِلَى قَوْله: «فَلم يشكنا» . وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فَقَالَ فِي «الْمِيزَان» : بلهط لَا يعرف، وَالْخَبَر مُنكر.(3/653)
الحَدِيث السبعون
(رُوِيَ) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الزق جبهتك بِالْأَرْضِ» .
هَذَا الحَدِيث هُوَ بِمَعْنى الحَدِيث السَّادِس بعد السِّتين، وَقد سلف الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا.
الحَدِيث الْحَادِي بعد (السّبْعين)
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سُجُوده كالخرقة البالية» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده الْغَزالِيّ وإمامه. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: لم أجد لَهُ بعد الْبَحْث عَنهُ صِحَة. قَالَ: وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي التَّجَافِي (فِي) السُّجُود تنفيه، مِنْهَا حَدِيث مَيْمُونَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا سجد لَو أَرَادَت بهمة أَن تمر (من) تَحْتَهُ لمرت مِمَّا يتجافى» . رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» والبهمة - بِفَتْح الْبَاء وَإِسْكَان الْهَاء -: الصَّغِيرَة من أَوْلَاد الضَّأْن والمعز (يَقع عَلَى الذّكر وَالْأُنْثَى) وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «تنقيحه» : هَذَا الحَدِيث مُنكر لَا يعرف لَهُ أصل.
قلت: بل لَهُ أصل، وَلكنه ضَعِيف، رَوَاهُ سُلَيْمَان بن أبي كَرِيمَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: «كَانَت لَيْلَة النّصْف من(3/654)
شعْبَان فَبَاتَ عِنْدِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا كَانَ جَوف اللَّيْل فقدته فَلم أَجِدهُ، فأخذني مَا يَأْخُذ النِّسَاء من الْغيرَة، فتلففت بمرطي وطلبته فِي حجر نِسَائِهِ فَلم أَجِدهُ، فَانْصَرَفت إِلَى حُجْرَتي فَإِذا بِهِ كَالثَّوْبِ السَّاقِط عَلَى وَجه الأَرْض سَاجِدا وَهُوَ يَقُول فِي سُجُوده: اللَّهُمَّ سجد لَك سوَادِي ... » الحَدِيث. ذكره كَذَلِك ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «النُّور فِي فَضَائِل الْأَيَّام والشهور» وَلم يعله، نعم أعله فِي «علله» وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح.
قَالَ ابْن عدي: سُلَيْمَان هَذَا عَامَّة أَحَادِيثه مَنَاكِير.
قلت: وَضَعفه أَيْضا - أَعنِي سُلَيْمَان. وَفِي «الضُّعَفَاء» لأبي حَاتِم بن حبَان من حَدِيث أم سَلمَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا قَامَ يُصَلِّي ظن الظَّان أَنه جَسَد لَا روح فِيهِ» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا أصل لَهُ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد السّبْعين
عَن وَائِل بن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا سجد وضع رُكْبَتَيْهِ قبل يَدَيْهِ، وَإِذا نَهَضَ رفع يَدَيْهِ قبل رُكْبَتَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث يزِيد بن هَارُون، عَن شريك، عَن عَاصِم بن كُلَيْب، عَن أَبِيه، عَن وَائِل بن حجر قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا(3/655)
سجد ... » الحَدِيث. ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نَعْرِف أحدا رَوَاهُ [مثل هَذَا] (عَن) شريك، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد (أَكثر) أهل الْعلم. وَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ أثبت من حَدِيث تَقْدِيم الْيَدَيْنِ، وَهُوَ أرْفق بالمصلي وَأحسن فِي الشكل ورأي الْعين. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ ابْن أبي دَاوُد وضع (الرُّكْبَتَيْنِ قبل الْيَدَيْنِ) تفرد بِهِ شريك القَاضِي، عَن عَاصِم بن كُلَيْب، وَشريك لَيْسَ بِقَوي فِيمَا ينْفَرد بِهِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَلم يحدث بِهِ عَن عَاصِم غير شريك. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث يعد (فِي) أَفْرَاد شريك القَاضِي، وَإِنَّمَا تَابعه همام مُرْسلا، هَكَذَا ذكره البُخَارِيّ وَغَيره من الْحفاظ الْمُتَقَدِّمين. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نَعْرِف أحدا رَوَاهُ غير شريك.
قلت: وَشريك هَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب الرجل يَأْخُذ حَقه مِمَّن يمنعهُ: لم يحْتَج بِهِ أَكثر أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ. هَذَا كَلَامه وَهُوَ من رجال مُسلم وَالْأَرْبَعَة (وَثَّقَهُ) ابْن معِين وَغَيره. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَأخرج هَذَا الحَدِيث الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه، ثمَّ قَالَ: شريك احْتج بِهِ مُسلم، قَالَ: وَكَذَا عَاصِم بن كُلَيْب.(3/656)
قلت: وَفِيه أَيْضا مقَال قريب كَمَا ستعلمه فِي الحَدِيث الْمِائَة. وَأخرجه أَيْضا من هَذَا الْوَجْه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي (صَحِيحَيْهِمَا) وَابْن السكن فِي (سنَنه الصِّحَاح» ، وَقَالَ: إِنَّه (مُخْتَلف) فِيهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لم يقل هَذَا عَن شريك غير يزِيد بن هَارُون. قلت: وَهَذَا لَا يقْدَح فِي تَصْحِيحه لجلالة يزِيد وَحفظه. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرَوَاهُ همام، عَن عَاصِم مُرْسلا وَلم يذكر فِيهِ وَائِل بن حجر.
قلت: وَهَذَا لَا يقْدَح فِيهِ أَيْضا لجلالة همام وثقته، وَنِهَايَة مَا فِيهِ تعَارض الْوَصْل والإرسال، وَقد علم مَا فِيهِ، وَيلْزم التِّرْمِذِيّ تَصْحِيحه؛ لِأَنَّهُ صحّح حَدِيث عَاصِم عَن أَبِيه، عَن وَائِل: «لأنظرن إِلَى صَلَاة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا جلس للتَّشَهُّد ... » الحَدِيث. وَادَّعَى الْحَازِمِي أَن الْمَحْفُوظ رِوَايَة الْإِرْسَال، فَقَالَ فِي «ناسخه ومنسوخه» : هَذَا حَدِيث حسن عَلَى شَرط د ت ق أَخْرجُوهُ فِي كتبهمْ من حَدِيث يزِيد بن هَارُون، عَن شريك. وَرَوَاهُ همام بن يَحْيَى، عَن مُحَمَّد بن جحادة، عَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه مَرْفُوعا. قَالَ همام: ونا شَقِيق - يَعْنِي أَبَا اللَّيْث - عَن عَاصِم بن كُلَيْب (عَن) أَبِيه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا وَهُوَ الْمَحْفُوظ. انْتَهَى كَلَامه. ويقابل كَلَامه بِأَن جماعات من الْحفاظ صححوه متصلًّا كَمَا سلف. ثمَّ ننبه بعد ذَلِك لأمور وَقعت فِي كَلَام التِّرْمِذِيّ - رحمنا الله وإياه.(3/657)
أَولهَا: قَوْله: لَا نَعْرِف أحدا رَوَاهُ غير شريك وَقد علمت من (حَال) كَلَام الْحَازِمِي الْحَافِظ أَن همام بن يَحْيَى رَوَاهُ من طَرِيقين، وَأخرج أَبُو دَاوُد الطَّرِيق الثَّانِي، وَقد قَالَ التِّرْمِذِيّ نَفسه بعد ذَلِك: وَرَوَاهُ عَاصِم عَن همام مُرْسلا.
ثَانِيهَا: قَوْله إِن عَاصِمًا رَوَاهُ عَن همام غير مَعْرُوف، إِنَّمَا رَوَاهُ همام عَن شَقِيق، عَن عَاصِم. وَكَذَا ذكره أَبُو دَاوُد وَهُوَ نَفسه فِي علله.
ثَالِثهَا: نقل مثل ذَلِك عَن يزِيد بن هَارُون أَن شَرِيكا لم يرو عَن عَاصِم بن كُلَيْب إِلَّا هَذَا الحَدِيث وَأقرهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُمَا، فقد رَوَى شريك عَن عَاصِم بن كُلَيْب عدَّة أَحَادِيث: أَحدهَا: حَدِيث « (رَأَيْت) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين افْتتح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ حِيَال أُذُنَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، عَن شريك، عَن عَاصِم، عَن (أَبِيه، عَن) وَائِل.
ثَانِيهَا: حَدِيث «أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الشتَاء فَرَأَيْت أَصْحَابه يرفعون أَيْديهم فِي ثِيَابهمْ فِي الصَّلَاة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث وَكِيع عَن شريك، عَن عَاصِم، عَن عَلْقَمَة، عَن أَبِيه. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث شريك، عَن عَاصِم، عَن أَبِيه، عَن وَائِل.(3/658)
ثَالِثهَا: حَدِيث «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جهر بآمين» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث شريك، عَن عَاصِم، عَن أَبِيه، عَن وَائِل. فاستفد ذَلِك.
تَنْبِيه: جَاءَ فِي رِوَايَة لأبي دَاوُد فِي «سنَنه» و «مراسيله» من حَدِيث عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه «وَإِذا نَهَضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاعْتمد عَلَى فَخذيهِ» وَقد علمت فِيمَا مَضَى مَا فِي هَذِه التَّرْجَمَة من الِانْقِطَاع.
الحَدِيث الثَّالِث بعد السّبْعين
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَا يرفع يَدَيْهِ فِي السُّجُود» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ، كَمَا سلف فِي الْبَاب فِي الحَدِيث السَّابِع مِنْهُ.
الحَدِيث الرَّابِع بعد السّبْعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا سجد أحدكُم فَقَالَ فِي سُجُوده: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فقد تمّ سُجُوده وَذَلِكَ أدناه» .
هَذَا الحَدِيث قد سلف الْكَلَام عَلَيْهِ، وَهُوَ بعض من الحَدِيث الْحَادِي بعد الْخمسين، فَرَاجعه من ثمَّ.(3/659)
الحَدِيث الْخَامِس بعد السّبْعين
عَن عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول فِي سُجُوده: اللَّهُمَّ لَك سجدت، وَبِك آمَنت، وَلَك أسلمت، سجد وَجْهي للَّذي خلقه وصوره وشق سَمعه وبصره، فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم كَمَا سلف بِطُولِهِ فِي الْبَاب فِي الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين مِنْهُ إِلَّا أَنه قَالَ: «تبَارك» . بِإِسْقَاط الْفَاء، وَرَوَاهُ بإثباتها أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي كِتَابه «وصف الصَّلَاة بِالسنةِ» (وَزَاد فِي «أصل الرَّوْضَة» «بحوله وقوته» قبل «تبَارك» ) .
الحَدِيث السَّادِس بعد السّبْعين
عَن أبي حميد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا سجد أمكن (أَنفه و) جَبهته من الأَرْض، ونحى يَدَيْهِ عَن جَنْبَيْهِ، وَوضع كفيه حَذْو مَنْكِبَيْه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِلَفْظ «ثمَّ سجد فَأمكن ... » إِلَى آخِره وَلم يقل: «من الأَرْض» وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» بهَا.(3/660)
الحَدِيث السَّابِع بعد السّبْعين
قَالَ الرَّافِعِيّ: نقل فِي بعض الْأَخْبَار «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يفرق فِي السُّجُود بَين رُكْبَتَيْهِ» .
هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث بَقِيَّة، حَدثنِي عتبَة - يَعْنِي ابْن أبي حَكِيم - حَدثنِي عبد الله بن عِيسَى، عَن الْعَبَّاس بن سهل السَّاعِدِيّ، عَن أبي حميد فِي هَذَا الحَدِيث وأحال عَلَى حَدِيث قبله قَالَ: «وَإِذا سجد فرج بَين فَخذيهِ غير حَامِل بَطْنه عَلَى شَيْء من فَخذيهِ» . بَقِيَّة حَالَته قد علمتها فِيمَا مَضَى، وَعتبَة أَيْضا علمت حَاله فِي أَوَاخِر بَاب الاستطابة.
وَفِي «مُسْند أَحْمد» ، نَا أَبُو كَامِل، نَا شريك، عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه وصف السُّجُود فَقَالَ: فَبسط كفيه وَرفع عجيزته وخوى، وَقَالَ: هَكَذَا سجد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي تَوْبَة، عَن شريك، عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: «وصف لنا الْبَراء بن عَازِب أَنه وضع يَدَيْهِ وَاعْتمد عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرفع عجيزته، وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسْجد» .
وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» و «صِحَاح ابْن السكن» من حَدِيث الْبَراء أَيْضا قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ركع بسط ظَهره وَإِذا سجد وَجه أَصَابِعه قبل الْقبْلَة فتفاج» .(3/661)
قَالَ الْجَوْهَرِي: فججت مَا بَين رجليَّ أفجهما فجًّا إِذا فتحت، يُقَال: يمشي مفاجًّا وتفاجَّ (يبين) فعل ذَلِك من فتح رجلَيْهِ.
الحَدِيث الثَّامِن بعد السّبْعين
عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه وصف صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَذكر فِيهَا التَّفْرِقَة بَين الْمرْفقين والجنبين» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد كَمَا سلف فِي الحَدِيث السَّادِس بعد السّبْعين وبلفظ: «ونحى يَدَيْهِ عَن جَنْبَيْهِ» . وَفِي رِوَايَة لَهُ «فيجافي يَدَيْهِ عَن جَنْبَيْهِ» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ «ثمَّ جافى عضديه عَن إبطَيْهِ» . ثمَّ قَالَ: حسن صَحِيح. وَفِي رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة «ثمَّ يهوي إِلَى الأَرْض ويجافي يَدَيْهِ عَن جَنْبَيْهِ» . وَفِي لفظ: «مجافيًا يَدَيْهِ عَن جَنْبَيْهِ» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد السّبْعين
عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقل بَطْنه عَن فَخذيهِ فِي سُجُوده» .
هَذَا الحَدِيث سلف فِي الحَدِيث السَّابِع بعد السّبْعين وَلَفظه(3/662)
«وخوى» . وَفِي «سنَن النَّسَائِيّ» وَالْبَيْهَقِيّ و «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» عَن الْبَراء أَيْضا « (كَانَ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا صَلَّى جخ» . وَلَفظ النَّسَائِيّ «جخن» . وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بلفظين: أَحدهمَا: «جخ» وَالثَّانِي: «إِذا سجد جافى يَدَيْهِ عَن إبطَيْهِ» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يخرجَاهُ، وَهُوَ أحد مَا يعد من أَفْرَاد النَّضر بن شُمَيْل قَالَ: وَقد حدث بِهِ زُهَيْر بن مُعَاوِيَة، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أربدة التَّمِيمِي، عَن الْبَراء، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من خَلفه فَرَأَيْت بَيَاض إبطَيْهِ وَهُوَ مجخ قد فرج يَدَيْهِ» .
فَائِدَة: جخَّ - بجيم مَفْتُوحَة ثمَّ خاء مُعْجمَة مُشَدّدَة - قَالَ الْهَرَوِيّ: أَي فتح عضديه فِي السُّجُود، وَقَالَ: وَرَأَيْت لأبي حَمْزَة «كَانَ إِذا صَلَّى جخ» أَي: تحول من مَكَان إِلَى مَكَان.
قلت: وَهَذَا غَرِيب. قَالَ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» سَمِعت أَبَا زَكَرِيَّا (الْعَنْبَري) يَقُول: جخ الرجل فِي صلَاته إِذا مد ضبعيه ويجافي الرُّكُوع وَالسُّجُود. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» سَمِعت السّري(3/663)
يَقُول: قَالَ (النَّضر: جخ الَّذِي لَا يتمدّد فِي رُكُوعه وَلَا فِي سُجُوده) .
الحَدِيث الثَّمَانُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا سجد خوى فِي سُجُوده» .
هَذَا صَحِيح، وَقد ورد ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث:
أَحدهَا: عَن مَيْمُونَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا سجد، لَو شَاءَت بهمة أَن تمر بَين يَدَيْهِ لمرت» .
رَوَاهُ مُسلم كَمَا سلف فِي الحَدِيث الْحَادِي بعد السّبْعين، وَفِي رِوَايَة لَهُ «كَانَ إِذا سجد خوى بيدَيْهِ - يَعْنِي جنَّح - حَتَّى يرَى وضح إبطَيْهِ» . والوضح: الْبيَاض.
ثَانِيهَا: حَدِيث أبي حميد، وَقد سلف فِي الحَدِيث الثَّامِن بعد السّبْعين.
ثَالِثهَا: عَن عبيد الله بن عبد الله بن أقرم الْخُزَاعِيّ، عَن أَبِيه قَالَ: «كنت مَعَ أبي بالقاع من (نمرة) ، فمرت ركبة فَإِذا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ فَصَلى قَالَ: فَكنت أنظر إِلَى (عُفرتَىِ) إبطَيْهِ إِذا سجد أرَى بياضه» رَوَاهُ الشَّافِعِي وَأحمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث دَاوُد بن قيس، وَلَا نَعْرِف(3/664)
لعبد الله بن أقرم عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غير هَذَا الحَدِيث.
قلت: بلَى لَهُ حَدِيث آخر ذكره أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ فِي «مُعْجَمه» ، وَدَاوُد هَذَا من فرسَان مُسلم. قَالَ الشَّافِعِي (فِيهِ) : ثِقَة حَافظ، وَكَذَلِكَ وَثَّقَهُ أَحْمد وَيَحْيَى وَغَيرهمَا. وَعبيد الله بن أقرم وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ.
والقاع: المستوي من الأَرْض. (وَالركبَة) - بِفَتْح الْكَاف - قَالَه الْجَوْهَرِي قَالَ: والركب: أَصْحَاب الْإِبِل فِي السّفر دون الدَّوَابّ، وهم الْعشْرَة فَمَا فَوْقهَا، وَالْجمع أركب قَالَ: (وَالركبَة) بِالتَّحْرِيكِ أقل من الركب، والأركوب - بِالضَّمِّ -: أَكثر من الركب، والركبان الْجَمَاعَة مِنْهُم. وعفر الْإِبِط: بياضه.
رَابِعهَا: عَن عبد الله ابْن بُحَيْنَة قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا صَلَّى فرج بَين يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُو بَيَاض إبطَيْهِ» . مُتَّفق عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَة لَهما: «كَانَ إِذا سجد جافى فِي سُجُوده حَتَّى يرَى وضح إبطَيْهِ» .
خَامِسهَا: عَن جَابر بن عبد الله (قَالَ) : «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا سجد جافى حَتَّى يرَى بَيَاض إبطَيْهِ» . رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَصَححهُ أَبُو زرْعَة.(3/665)
سادسها: عَن أَحْمَر - بالراء - ابْن جُزْء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «إِن كُنَّا لنأوي لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (مِمَّا) يُجَافِي مرفقيه، عَن جَنْبَيْهِ إِذا سجد» رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي آخر «الاقتراح» : وَهُوَ عَلَى شَرط البُخَارِيّ. قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَى نأوي: نرق لَهُ. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» : فِي الصَّحَابَة خَمْسَة كلهم اسْمه أَحْمَر أحدهم: هَذَا، وثانيهم: ابْن سَوَاء، وثالثهم: ابْن مُعَاوِيَة، وأحمر مولَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. (وأحمر) مولَى أم سَلمَة، وأحمر بن قطن الهمذاني شهد فتح مصر، ذكره ابْن يُونُس.
سابعها: عَن عدي بن (عميرَة) الْكِنْدِيّ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا سجد جافى حَتَّى يرَى بَيَاض إبطَيْهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (أكبر معاجمه) بِإِسْنَاد جيد.
ثامنها: عَن ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا سجد يرَى بَيَاض إبطَيْهِ» وَفِي لفظ «أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من خَلفه، فَرَأَيْت بَيَاض إبطَيْهِ وَهُوَ مجخ(3/666)
قد فرج يَدَيْهِ» . رَوَاهُمَا أَحْمد فِي «مُسْنده» وَفِي الأول شُعْبَة مولَى ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. والمجخ الَّذِي قد فرج يَدَيْهِ فِي سُجُوده.
تَنْبِيه: لما ذكر الرَّافِعِيّ التَّفْرِيق فِي هَذِه الْأَمَاكِن قَالَ: هَذِه الْجُمْلَة يعبر عَنْهَا بالتخوية وَهِي ترك الخواء بَين الْأَعْضَاء. وَهُوَ تَابع «النِّهَايَة» فِي ذَلِك حَيْثُ قَالَ: تَفْسِير التخوية مَا ذَكرْنَاهُ وَمِنْه يُقَال خوى الْبَعِير إِذا برك عَلَى وقارٍ وَلم يسترح. وَمَعْنَاهَا فِي اللِّسَان: ترك خواء بَين الْأَعْضَاء. وَفِي (الصِّحَاح) (خوى) الْبَعِير تخوية إِذا جافى بَطْنه عَن الأَرْض فِي بروكه، وَكَذَلِكَ الرجل فِي سُجُوده، والطائر إِذا أرسل (جناحيه) وَهَذَا أخص من كَلَام الرَّافِعِيّ فَإِنَّهُ خص التخوية (بمجافاة) الْبَطن عَن الأَرْض، وَفِي (نِهَايَة) ابْن الْأَثِير مَعْنَى «إِذا سجد خوى» جافى بَطْنه عَن الأَرْض ورفعها، وجافى عضديه عَن جَنْبَيْهِ حَتَّى يخوى مَا بَين ذَلِك، وَفِي (الْمَشَارِق) (مَعْنَاهُ) : جافى بَطْنه عَن الأَرْض، وخواء الْفرس - مَمْدُود -: مَا بَين يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ. والخواء: الْمَكَان الْخَالِي.(3/667)
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّمَانِينَ
عَن أبي حميد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا سجد وضع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه» .
هَذَا الحَدِيث تقدم فِي الحَدِيث السَّادِس بعد السّبْعين فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّمَانِينَ
عَن وَائِل بن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا سجد ضم أَصَابِعه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» ، وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحهمَا» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّمَانِينَ
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا سجد وضع أَصَابِعه تجاه الْقبْلَة» .
هَذَا الحَدِيث ذكره أَيْضا صَاحب «الْمُهَذّب» وبيض لَهُ الْمُنْذِرِيّ.(3/668)
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» لَهُ: إِنَّه حَدِيث غَرِيب، ويغني عَنهُ حَدِيث أبي حميد ... فَذكره. وَهَذَا عَجِيب فَهُوَ فِي (سنَن الدَّارَقُطْنِيّ) عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد، نَا أَبُو شيبَة، نَا أَبُو غَسَّان، نَا جَعْفَر الْأَحْمَر، عَن حَارِثَة - بِالْحَاء الْمُهْملَة - عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا سجد اسْتقْبل بأصابعه الْقبْلَة» . وحارثة هَذَا هُوَ ابْن أبي الرِّجَال ضَعَّفُوهُ، [و] قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. ثمَّ رَأَيْته بعد ذَلِك فِي «وصف الصَّلَاة بِالسنةِ» لأبي حَاتِم بن حبَان بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «فقدتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَكَانَ معي عَلَى فِرَاشِي فوجدتهُ سَاجِدا راصًّا عَقِبَيْهِ مُسْتَقْبلا بأطراف أَصَابِعه الْقبْلَة» .
وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» من حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سجد واستقبل بأطراف أَصَابِع رجلَيْهِ الْقبْلَة» . (وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ قَالَ: لتكن الْأَصَابِع منشورة مَضْمُومَة مستطيلة فِي جِهَة الْقبْلَة) ثمَّ ذكر حَدِيث وَائِل السالف وَحَدِيث عَائِشَة، وَمرَاده بذلك أَصَابِع الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ سَيذكرُ بعد ذَلِك أَصَابِع الرجلَيْن، وَلَيْسَ فِي هذَيْن الْحَدِيثين صَرَاحَة بأصابع (الْيَدَيْنِ إِلَّا) أَن يُقَال أَصَابِعه (فيهمَا) جمع مُضَاف، وَهُوَ يَقْتَضِي الْعُمُوم، لَكِن حَدِيثهَا فِي «وصف الصَّلَاة بِالسنةِ» صَرِيح فِي أَصَابِع الرجلَيْن.(3/669)
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّمَانِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للمسيء صلَاته: ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا، (ثمَّ ارْفَعْ رَأسك حَتَّى تعتدل جَالِسا) ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا» وَفِي بعض الرِّوَايَات «ثمَّ (ارْفَعْ) حَتَّى تطمئِن جَالِسا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد أسلفناه بِطُولِهِ أول الْبَاب، فَرَاجعه من ثمَّ.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّمَانِينَ
عَن أبي حميد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ فِي وصف صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فَلَمَّا رفع رَأسه من السَّجْدَة الأولَى ثنى رجله (الْيُسْرَى) وَقعد عَلَيْهَا» .
هَذَا الحَدِيث (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَفظه «ثمَّ يرفع رَأسه ويثني رجله الْيُسْرَى فيقعد عَلَيْهَا) ، ويفتخ أَصَابِع رجلَيْهِ إِذا سجد، ثمَّ يسْجد ثمَّ يَقُول: الله أكبر. وَيرْفَع ويثني رجله الْيُسْرَى فيقعد عَلَيْهَا حَتَّى (يرجع) كل عُضْو إِلَى مَوْضِعه، ثمَّ يصنع فِي الْأُخْرَى مثل ذَلِك» .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ «ثمَّ ثنى رجله الْيُسْرَى وَقعد عَلَيْهَا ... » الحَدِيث ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي(3/670)
«صَحِيحه» بِلَفْظ «فَثنى رجله الْيُسْرَى وَقعد عَلَيْهَا» .
فَائِدَة: الفتخ - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة -: تليين الْأَصَابِع وثنيها إِلَى الْقبْلَة.
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّمَانِينَ
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر فِي كل خفض وَرفع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي أثْنَاء الْبَاب وَهُوَ الحَدِيث الثَّامِن بعد الْأَرْبَعين.
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّمَانِينَ
عَن طَاوس «قلت لِابْنِ عَبَّاس فِي الإقعاء عَلَى الْقَدَمَيْنِ قَالَ: هِيَ السّنة، فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّا لنراه جفَاء بِالرجلِ، فَقَالَ: بل هِيَ سنة نبيك مُحَمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا ذكرته فِي أثْنَاء الحَدِيث التَّاسِع عشر مَعَ (مَا) عَارضه وجمعت بَينهمَا وَذكرت هُنَاكَ أَنه من أَفْرَاد مُسلم وَأغْرب الْحَاكِم فاستدركه عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرطه وَقد علمت أَنه فِيهِ، وَهَذَا الحَدِيث أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَحكي قولٌ أَنه يضجع قَدَمَيْهِ وَيجْلس عَلَى صدورهما، وَيروَى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس. فَذَكرته أَنا بِلَفْظِهِ.
فَائِدَة: كَانَ الْحَافِظ أَبُو عمر بن عبد الْبر يَقُول فِي قَوْله: « (إِنَّا(3/671)
لنراه) جفَاء بِالرجلِ» ؛ (أَنه) - بِكَسْر الرَّاء وَإِسْكَان الْجِيم - وَيَقُول: من فتح الرَّاء وَضم الْجِيم - أَي الْإِنْسَان - فقد غلط. وَالَّذِي اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُونَ مَا رده أَبُو عمر (و) قَالُوا: وَهُوَ الَّذِي يصلح أَن ينْسب لَهُ الْجفَاء.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح مُسلم» : الَّذِي ضبطناه الثَّانِي (و) كَذَا نَقله القَاضِي عَن جَمِيع رُوَاة مُسلم، ورد الْجُمْهُور عَلَى ابْن عبد الْبر وَقَالُوا: الصَّوَاب الضَّم، وَهُوَ الَّذِي يَلِيق بِهِ مَعَ إِضَافَة الْجفَاء إِلَيْهِ.
قلت: لَكِن يُؤَيّد الأول رِوَايَة الإِمَام أَحْمد فِي (مُسْنده) «إِنَّا لنراه جفَاء بالقدم) وَفِي كتاب ابْن أبي (خَيْثَمَة) مَا يُؤَيّد الثَّانِي إِذْ فِيهِ «إِنَّا لنراه جفَاء بِالْمَرْءِ» فَلَو ادعِي صَوَاب كل مِنْهُمَا إِذن لما بعد.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّمَانِينَ
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول بَين السَّجْدَتَيْنِ: اللَّهُمَّ اغْفِر لي واجبرني وَعَافنِي وارزقني واهدني» وَيروَى «وارحمني» بدل «واجبرني» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه(3/672)
وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سُنَنهمْ) وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي موضِعين من (مُسْتَدْركه) وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لِلتِّرْمِذِي إِلَّا أَنه لم يقل: «وَعَافنِي» . وَلَفظ أبي دَاوُد مثله إِلَّا أَنه أثبت «وَعَافنِي» وَأسْقط «واجبرني» .
وَهُوَ لفظ إِحْدَى روايتي الْحَاكِم أَيْضا. وَلَفظ ابْن مَاجَه: «كَانَ يَقُول بَين السَّجْدَتَيْنِ فِي صَلَاة اللَّيْل: رب اغْفِر لي وارحمني واجبرني وارزقني وارفعني» . وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى للْحَاكِم «رب اغْفِر لي وارحمني واجبرني وارفعني وارزقني واهدني» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب. قَالَ: وَرَوَى بَعضهم هَذَا الحَدِيث عَن كَامِل أبي الْعَلَاء - يَعْنِي أحد رُوَاته - مُرْسلا، وَقَالَ الْحَاكِم فِي كلا الْمَوْضِعَيْنِ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَقَالَ: وَأَبُو الْعَلَاء هُوَ كَامِل بن الْعَلَاء مِمَّن يجمع حَدِيثه فِي الْكُوفِيّين. قلت: وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين. وَقَالَ النَّسَائِيّ مرّة: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَمرَّة: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. وَأما ابْن حبَان فجرحه وَتَبعهُ ابْن طَاهِر.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّمَانِينَ
عَن وَائِل بن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا رفع رَأسه من السَّجْدَتَيْنِ اسْتَوَى قَائِما» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب جدًّا لَا أعلم من خرجه من هَذَا الْوَجْه، وَتبع(3/673)
الرَّافِعِيّ فِي إِيرَاده صاحبا « (الشَّامِل» ) و «الْمُهَذّب» فَإِنَّهُمَا أورداه بِزِيَادَة تكبيره «بعد قَوْله اسْتَوَى قَائِما» ، وبيض بِهِ الْمُنْذِرِيّ بَيَاضًا، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : إِنَّه غَرِيب. لَكِن ذكره فِي فصل الضَّعِيف من «خلاصته» وَقَالَ الشَّيْخ تَاج الدَّين الْفَزارِيّ: لم أَقف عَلَى حَاله.
قلت: ورأيته من طَرِيق آخر من حَدِيث معَاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُمكن جَبهته وَأَنْفه من الأَرْض، ثمَّ يقوم كَأَنَّهُ السهْم لَا يعْتَمد عَلَى يَدَيْهِ» . لكنه ضَعِيف، كَمَا سلف بَيَانه فِي الْبَاب فِي الحَدِيث الثَّالِث عشر مِنْهُ فِي أثْنَاء التَّنْبِيه، فَإِنَّهُ قِطْعَة مِنْهُ.
وَفِي «أَحْكَام» الْمُحب الطَّبَرِيّ أَن أَبَا بكر يُوسُف بن البهلول رَوَى من حَدِيث رِفَاعَة بن رَافع «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رَأَى رجلا يُصَلِّي صَلَاة خَفِيفَة، فَقَالَ: أعد صَلَاتك، فَقَامَ الرجل عَائِدًا للصَّلَاة، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: كبر وارفع يَديك حَذْو منكبيك. فَفعل، ثمَّ قَالَ: اقْرَأ بِأم الْقُرْآن وَسورَة، ثمَّ كبر وارفع مُتَمَكنًا. فَفعل، ثمَّ قَالَ: ارْفَعْ رَأسك وَقل: سمع الله لمن حَمده رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَلَا تسْجد حَتَّى يرجع كل (عظم) إِلَى مَوْضِعه، ثمَّ كبر واسجد، فَإِذا رفعت رَأسك فَكبر وانتهض قبل أَن تستوي قَاعِدا. فَفعل، ثمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: افْعَل فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة كَمَا فعلت فِي هَذِه الرَّكْعَة» وَلم يذكرهَا الْمُحب الطَّبَرِيّ بإسنادها لينْظر (فِيهِ) .(3/674)
الحَدِيث التِّسْعُونَ
عَن مَالك بن الْحُوَيْرِث رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي فَإِذا كَانَ فِي وتر من صلَاته لم ينْهض حَتَّى يَسْتَوِي قَاعِدا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاده، وَرَوَاهُ بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ أَيْضا.
الحَدِيث الْحَادِي بعد التسعين
عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ فِي عشرَة من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه وصف صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: ثمَّ هوى سَاجِدا ثمَّ ثنى رجله وَقعد (واعتدل) حَتَّى يرجع كل عُضْو فِي مَوْضِعه، ثمَّ نَهَضَ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ كَذَلِك ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ «ثمَّ يرفع ويثني رجله الْيُسْرَى (فيقعد) عَلَيْهَا حَتَّى يرجع كل عظم إِلَى مَوْضِعه» وَقد أسلفنا ذَلِك قَرِيبا.
فَائِدَة: ادَّعَى الطَّحَاوِيّ مَعَ سَعَة علمه أَن جلْسَة الاسْتِرَاحَة لَيست فِي حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ، وَقد علمت أَنَّهَا ثَابِتَة فِيهِ وَقد سبق بالإنكار(3/675)
عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» لكنه وَقع فِي نُكْتَة لَطِيفَة، وَهِي أَنه قَالَ: (احْتج من) لم يسْتَحبّ جلْسَة الاسْتِرَاحَة (بِأَنَّهَا) لم تذكر فِي حَدِيث الْمُسِيء صلَاته، ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا علمَّه الْوَاجِبَات دون المسنونات. وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ فجلسة الاسْتِرَاحَة مَذْكُورَة فِي حَدِيث الْمُسِيء صلَاته فِي صَحِيح البُخَارِيّ، وَلكنهَا فِي غير المظنة، ذكرهَا فِي كتاب الاسْتِئْذَان فِي بَاب من رد فَقَالَ: (عَلَيْكُم) السَّلَام وَهَذَا لَفظه فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للمسيء صلَاته: «ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا، ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تطمئِن جَالِسا، ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا، ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تطمئِن جَالِسا، ثمَّ افْعَل ذَلِك فِي صَلَاتك كلهَا» .
الحَدِيث الثَّانِي بعد التسعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «كَانَ يكبر فِي كل خفض وَرفع» .
هَذَا الحَدِيث تكَرر فِي الْبَاب كَمَا سلف، وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى قَوْلنَا باستحباب جلْسَة الاسْتِرَاحَة أَن الْأَصَح أَنه يرفع رَأسه إِلَّا أَنه يرفع رَأسه غير مكبر، ويبتدئ بِالتَّكْبِيرِ جَالِسا ويمده إِلَى (أَن) يقوم. وَرِوَايَة أبي حميد فِي (جَامع التِّرْمِذِيّ) ثمَّ قَالَ: «الله(3/676)
أكبر، ثمَّ ثنى رجله وَقعد واعتدل» . شاهدة لذَلِك.
وَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيثه وَلَفظه «ثمَّ يعود - يَعْنِي إِلَى السُّجُود - ثمَّ يرفع فَيَقُول: الله أكبر، ثمَّ يثني رجله فيقعد عَلَيْهَا [معتدلًا] حَتَّى يرجع أَو يقر كل عظم مَوْضِعه معتدلًا» .
ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب جلْسَة الاسْتِرَاحَة فالاستدلال بذلك أولَى مِمَّا اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ فَتَأَمّله.
الحَدِيث الثَّالِث بعد التسعين
عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه وصف صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِذا جلس فِي الرَّكْعَتَيْنِ جلس عَلَى رجله الْيُسْرَى وَنصب الْيُمْنَى) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) كَذَلِك.
الحَدِيث الرَّابِع بعد التسعين
عَن مَالك بن الْحُوَيْرِث رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه وصف صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ فِي جملَة ذَلِك: فَلَمَّا رفع رَأسه عَن السَّجْدَة الْأَخِيرَة فِي الرَّكْعَة الأولَى، واستوى قَاعِدا قَامَ وَاعْتمد يَدَيْهِ عَلَى الأَرْض» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ بِمَعْنَاهُ وَهَذَا لَفظه عَن أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة قَالَ: «جَاءَنَا مَالك بن الْحُوَيْرِث فَصَلى بِنَا فَقَالَ: إِنِّي لأصلي بكم وَمَا أُرِيد الصَّلَاة لكني أُرِيد أَن أريكم كَيفَ رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي، قَالَ أَيُّوب: فَقلت لأبي قلَابَة: وَكَيف كَانَت صلَاته؟ قَالَ:(3/677)
مثل صَلَاة شَيخنَا هَذَا - يَعْنِي عَمْرو بن سَلمَة - قَالَ أَيُّوب: وَكَانَ ذَلِك الشَّيْخ يتم التَّكْبِير، فَإِذا رفع رَأسه عَن السَّجْدَة الثَّانِيَة جلس وَاعْتمد عَلَى الأَرْض ثمَّ قَامَ» .
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده وَلم يُخرجهُ مُسلم، وللطحاوي: (قَالَ: فَرَأَيْت: عَمْرو بن سَلمَة يصنع شَيْئا لَا أَرَاكُم تصنعونه كَانَ إِذا رفع رَأسه من السَّجْدَة الأولَى و (الثَّالِثَة) الَّتِي لَا يقْعد فِيهَا اسْتَوَى قَاعِدا ثمَّ قَامَ» وَلأَحْمَد (كَانَ إِذا رفع رَأسه من السَّجْدَتَيْنِ اسْتَوَى قَاعِدا، ثمَّ قَامَ من الرَّكْعَة الأولَى وَالثَّالِثَة) وَفِي «الإقليد» لِابْنِ الفركاح أَن الشَّافِعِي رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى مَالك (بن الْحُوَيْرِث فِي صفة صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «وَكَانَ مَالك» ) إِذا رفع رَأسه من السَّجْدَة الْأَخِيرَة فِي الرَّكْعَة الأولَى فَاسْتَوَى قَاعِدا (ثمَّ) قَامَ وَاعْتمد عَلَى الأَرْض» .
الحَدِيث الْخَامِس بعد التسعين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا قَامَ فِي صلَاته وضع يَده عَلَى الأَرْض كَمَا يصنع (العاجن) » .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ تبعا للغزالي فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك فِي «وسيطه» ، وَالْغَزالِيّ تبع إِمَامه فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك فِي نهايته (وَلَا يحضرني) من خرجه من الْمُحدثين من هَذَا الْوَجْه بعد الْبَحْث عَنهُ.(3/678)
وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى (الْوَسِيط) : هَذَا الحَدِيث لَا يعرف وَلَا يَصح وَلَا يجوز أَن يحْتَج بِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا حَدِيث ضَعِيف أَو بَاطِل لَا أصل لَهُ. وَقَالَ فِي (التَّنْقِيح) : ضَعِيف بَاطِل لَا (يعرف) ، وَفِي (النِّهَايَة) لِابْنِ الْأَثِير، وَفِي حَدِيث ابْن عمر «أَنه كَانَ يعجن فِي الصَّلَاة فَقيل لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعجن فِي الصَّلَاة) أَي يعْتَمد عَلَى يَدَيْهِ إِذا قَامَ كَمَا يفعل الَّذِي يعجن الْعَجِين. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: قد صَار هَذَا الحَدِيث - أَعنِي حَدِيث ابْن عَبَّاس - فِي (الْوَسِيط) و (الْوَجِيز) مَظَنَّة الْغَلَط، فَمن غالط فِي لَفظه (يَقُول) : «الْعَاجِز» . بالزاي وَإِنَّمَا هُوَ بالنُّون، وَقد جعله الْغَزالِيّ فِيمَا نقل عَنهُ فِي درسه بالزاي أحد الْوَجْهَيْنِ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَمن غالط فِي مَعْنَاهُ غير غالط فِي لَفظه يَقُول: هُوَ بالنُّون وَلكنه عاجن عجين الْخبز فَيقبض أَصَابِع كفيه ويضمها كَمَا يَفْعَله عاجن الْعَجِين، ويتكئ عَلَيْهَا ويرتفع، وَلَا يضع راحتيه عَلَى الأَرْض، وَهَذَا جعله الْغَزالِيّ فِي درسه. الْوَجْه الثَّانِي فِيهِ وَعمل بِهِ كثير من عَامَّة الْعَجم وَغَيرهم: وَهُوَ إِثْبَات هَيْئَة شَرْعِيَّة فى الصَّلَاة لَا عهد بهَا بِحَدِيث لم يثبت وَلَو ثَبت (ذَلِك) لم يكن ذَلِك مَعْنَاهُ (لِأَن العاجن) فِي اللُّغَة الرجل المسن الْكَبِير الَّذِي إِذا قَامَ اعْتمد بيدَيْهِ عَلَى الأَرْض من الْكبر وأنشدوا:
وَشر خِصَال الْمَرْء كُنْتٌ وعَاجِنُ
وأصبحت كُنتِيًّا وأصبحتُ عاجنًا(3/679)
قَالَ ابْن الصّلاح: (فَإِن كَانَ) وصف الْكبر بذلك مأخوذًا من عاجن الْعَجِين فالتشبيه فِي شدَّة الِاعْتِمَاد عِنْد وضع الْيَدَيْنِ لَا فِي كَيْفيَّة ضم (أصابعهما) قَالَ: وَأما الَّذِي فِي كتاب «الْمُحكم فِي اللُّغَة» للمغربي الْمُتَأَخر الضَّرِير من قَوْله فِي العاجن: إِنَّه الْمُعْتَمد عَلَى الأَرْض (بجمعه) ؛ وَجمع الْكَفّ - بِضَم الْمِيم - هُوَ أَن (يقبضهَا) كَمَا (ذكره) فَغير مَقْبُول مِنْهُ، فَإِنَّهُ مِمَّن لَا يقبل مَا (ينْفَرد) بِهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يغلط ويغالطونه كثيرا، وَكَأَنَّهُ أضرّ بِهِ فِي كِتَابه مَعَ كبر حجمه (ضرارته) هَذَا آخر كَلَامه.
وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب نقلا عَن صَاحب (الْمُجْمل) : إِن (العاجن) هُوَ الَّذِي إِذا نَهَضَ اعْتمد عَلَى يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يعجن أَي الخمير، قَالَ: وَيجوز أَن يكون مَعْنَى الْخبز كَمَا يَقع عاجن الخمير. قَالَ الرَّافِعِيّ: هما متقاربان. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : العاجن بالنُّون. قَالَ: وَلَو صَحَّ هَذَا الحَدِيث لَكَانَ مَعْنَاهُ قَامَ مُعْتَمدًا بِبَطن يَدَيْهِ كَمَا يعْتَمد (الْعَاجِز) وَهُوَ الشَّيْخ الْكَبِير وَلَيْسَ المُرَاد عاجن الْعَجِين (وَكَذَا قَالَ فِي «تنقيحه» : إِنَّه بالنُّون وَهُوَ الرجل المسن الَّذِي حطمه الْكبر فَصَارَ بِحَيْثُ) إِذا قَامَ اعْتمد بيدَيْهِ عَلَى الأَرْض، فَهَذَا صَوَابه لَو صَحَّ هَذَا(3/680)
اللَّفْظ، قَالَ: وَأما مَا نقل عَن الْغَزالِيّ فِي درسه أَنه قَالَ: رُوِيَ بالنُّون وَالزَّاي وبالنون أولَى، وَإنَّهُ الَّذِي يقبض بيدَيْهِ وَيقوم مُعْتَمدًا عَلَيْهَا، وَعلله بعلة فَاسِدَة، وَالصَّوَاب أَن الحَدِيث بَاطِل لَا يحْتَج بِهِ وَيقوم ويداه مبسوطتان مُعْتَمدًا عَلَى راحتيه وبطون أَصَابِعه.
الحَدِيث السَّادِس بعد التسعين
عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ «أَنه وصف (صَلَاة) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: فَإِذا جلس فِي الرَّكْعَتَيْنِ جلس عَلَى رجله الْيُسْرَى [وَنصب الْيُمْنَى] فَإِذا جلس فِي الرَّكْعَة الْأَخِيرَة قدَّم رجله الْيُسْرَى وَنصب الْأُخْرَى وَقعد عَلَى مقعدته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) كَذَلِك.
الحَدِيث السَّابِع بعد التسعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ من اثْنَتَيْنِ من الظّهْر أَو الْعَصْر فَلم يجلس فسبح النَّاس بِهِ (يَعْنِي) فَلم يعد فَلَمَّا كَانَ آخر صلَاته سجد سَجْدَتَيْنِ ثمَّ سلم» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وستعلمه فِي بَاب سُجُود السَّهْو - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(3/681)
الحَدِيث الثَّامِن بعد التسعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا جلس فِي الصَّلَاة وضع كَفه الْيُسْرَى عَلَى فَخذه الْيُسْرَى» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «كَانَ إِذا جلس فِي الصَّلَاة وضع كَفه الْيُمْنَى عَلَى فَخذه الْيُمْنَى، وَقبض أَصَابِعه كلهَا وَأَشَارَ بإصبعه الَّتِي تلِي الْإِبْهَام، وَوضع كَفه الْيُسْرَى عَلَى فَخذه الْيُسْرَى» . وَفِي رِوَايَة لَهُ «كَانَ إِذا جلس فِي الصَّلَاة وضع يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرفع أُصْبُعه الْيُمْنَى الَّتِي تلِي الْإِبْهَام فَدَعَا بهَا، وَيَده الْيُسْرَى عَلَى ركبته الْيُسْرَى باسطها عَلَيْهَا» . وَفِي رِوَايَة لَهُ «كَانَ إِذا قعد فِي التَّشَهُّد وضع يَده الْيُسْرَى عَلَى ركبته الْيُسْرَى، وَوضع يَده الْيُمْنَى عَلَى ركبته الْيُمْنَى، وَعقد ثَلَاثًا وَخمسين وَأَشَارَ بالسبابة» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد التسعين
عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه وصف صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنَّه كَانَ يقبض الْوُسْطَى مَعَ الْخِنْصر والبنصر، وَيُرْسل الْإِبْهَام والمسبحة» .(4/5)
هَذَا الحَدِيث غَرِيب عَلَى هَذِه الصُّورَة، والرافعي قلد فِي ذَلِك صَاحب «الْمُهَذّب» فَإِنَّهُ ذكر فِيهِ كَذَلِك، وَهُوَ قلد شَيْخه القَاضِي أَبَا الطّيب، وَأَشَارَ (النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» أَيْضا إِلَى غرابته وَقَالَ: الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره عَنهُ بِالْإِسْنَادِ «الصَّحِيح» أَنه قَالَ: وضع كَفه الْيُمْنَى عَلَى ركبته الْيُمْنَى، وكفه الْيُسْرَى عَلَى ركبته اليسري وَأَشَارَ) بِأُصْبُعِهِ» وَكَذَا قَالَ ابْن الفركاح فِي «إقليده» : لَا يكَاد قبض الْأَصَابِع يثبت فِي حَدِيث أبي حميد، وَإِنَّمَا لَفظه «وضع كَفه» كَمَا تقدم، وَلَا تعرض لإرسال الْإِبْهَام وَلَا لقبضها. وَأما الْمُنْذِرِيّ؛ فَإِنَّهُ أسقط هَذَا الحَدِيث (من تَخْرِيجه لأحاديث) «الْمُهَذّب» بِالْكُلِّيَّةِ.
فَائِدَة: أَبُو حميد - بحاء مَضْمُومَة - اسْمه: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: الْمُنْذر بن عَمْرو السَّاعِدِيّ من سَاعِدَة، بطن من الْأَنْصَار مدنِي، مَاتَ فِي آخر خلَافَة مُعَاوِيَة.
الحَدِيث الْمِائَة
عَن وَائِل بن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يحلق بَين الْإِبْهَام وَالْوُسْطَى» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه(4/6)
وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَلَفظ أبي دَاوُد عَن وَائِل قلت: «لأنظرن إِلَى صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَيفَ يُصَلِّي فَقَامَ [رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] فَاسْتقْبل الْقبْلَة فَكبر فَرفع يَدَيْهِ حَتَّى حاذتا بأذنيه، ثمَّ أَخذ شِمَاله بِيَمِينِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَن يرْكَع رفعهما مثل ذَلِك، ثمَّ وضع يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَلَمَّا رفع رَأسه من الرُّكُوع رفعهما مثل ذَلِك، فَلَمَّا (سجد) [وضع رَأسه بذلك الْمنزل من بَين يَدَيْهِ] قَالَ: ثمَّ جلس فافترش رجله الْيُسْرَى، وَوضع يَده الْيُسْرَى عَلَى فَخذه الْيُسْرَى، وحد مرفقه [الْأَيْمن] عَلَى فَخذه الْيُمْنَى، وَقبض ثِنْتَيْنِ وَحلق حَلقَة، ورأيته يَقُول هَكَذَا وحلَّق بشر - يَعْنِي ابْن الْمفضل أحد رُوَاته - الْإِبْهَام وَالْوُسْطَى وَأَشَارَ بالسبابة» .
وَلَفظ النَّسَائِيّ عَن وَائِل (وصف) جُلُوس رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي التَّشَهُّد قَالَ: «ثمَّ قعد وافترش رجله الْيُسْرَى، وَوضع كَفه الْيُسْرَى عَلَى فَخذه وركبته الْيُسْرَى، وَجعل حد مرفقه الْأَيْمن عَلَى فَخذه الْيُمْنَى، ثمَّ قبض اثْنَتَيْنِ من أَصَابِعه وَحلق حَلقَة، ثمَّ رفع أُصْبُعه فرأيته يحركها يَدْعُو بهَا» .
وَلَفظ ابْن مَاجَه عَن وَائِل قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حلق(4/7)
بالإبهام وَالْوُسْطَى وَرفع الَّتِي تَلِيهَا يَدْعُو بهَا فِي التَّشَهُّد» .
وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ «وَحلق حَلقَة ودعا هَكَذَا - وَأَشَارَ سُفْيَان يَعْنِي ابْن عُيَيْنَة أحد رُوَاته - بِأُصْبُعِهِ السبابَة» وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ «ثمَّ حلق الْوُسْطَى بالإبهام وَأَشَارَ بالسبابة» .
وَلَفظ ابْن حبَان «وَجمع بَين (إبهامه) وَالْوُسْطَى وَرفع الَّتِي تَلِيهَا يَدْعُو بهَا» .
ومدار الحَدِيث كُله عَلَى عَاصِم بن كُلَيْب، عَن أَبِيه وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن عَاصِم كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ. وَعَاصِم من فرسَان مُسلم وَالسّنَن. قَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ أفضل أهل الْكُوفَة، كَانَ من الْعباد. قَالَ أَحْمد: وَلَا بَأْس بحَديثه. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: صَالح. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لَا يحْتَج بِهِ إِذا انْفَرد.
وَهنا فَائِدَة حَدِيثِيَّةٌ، وَهِي أَن العواصم فِي حفظهم شَيْء. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «الضُّعَفَاء» : قَالَ ابْن علية: من كَانَ اسْمه عَاصِمًا كَانَ فِي حفظه شَيْء. وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد: مَا وجدت رجلا اسْمه عَاصِم إِلَّا وجدته رَدِيء الْحِفْظ. وَقَالَ (يَحْيَى) بن معِين: كل عَاصِم فِيهِ ضعف. وَأنكر ابْن حبَان عَلَى من أطلق الضعْف عَلَى العواصم، فَقَالَ فِي «تَارِيخ(4/8)
الثِّقَات» : قد وهم من أطلق الضعْف عَلَى العواصم كلهم حَيْثُ قَالَ: مَا فِي الدُّنْيَا عَاصِم إِلَّا (وَهُوَ ضَعِيف) من غير دلَالَة تثبت عَلَى صِحَة مَا قَالَه.
(فَائِدَة: وَائِل من كبار الْعَرَب وَأَوْلَاد مُلُوك حمير، كنيته أَبُو هِنْد، ترك الْكُوفَة وعاش إِلَى أَيَّام مُعَاوِيَة، وَوَائِل - أَي: ابْن حجر - بِضَم أَوله - وَالْعرب تَقول عِنْد الْأَمر تنكره: حجرا لَهُ - بِالضَّمِّ - أَي: دفعا، وَهُوَ استعاذة من الْأَمر، وَيَقُولُونَ: حُجر بِاللَّه من كَذَا) .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْمِائَة
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا جلس فِي الصَّلَاة وضع كَفه الْيُمْنَى عَلَى فَخذه الْيُمْنَى، وَقبض أَصَابِعه كلهَا، وَأَشَارَ بالأصبع الَّتِي تلِي الْإِبْهَام» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم كَذَلِك كَمَا سبق.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة
عَن ابْن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله كَانَ يضع (إبهامه) عِنْد الْوُسْطَى» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ، وَلَفظه عَن عبد الله(4/9)
بن الزبير قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قعد فِي الصَّلَاة جعل قدمه الْيُسْرَى بَين فَخذه وَسَاقه، وفرش قدمه الْيُمْنَى، وَوضع يَده الْيُسْرَى عَلَى ركبته الْيُسْرَى، وَوضع يَده الْيُمْنَى عَلَى فَخذه الْيُمْنَى، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ» (وَفِي) رِوَايَة لَهُ «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا [قعد] يَدْعُو وضع يَده الْيُمْنَى عَلَى فَخذه الْيُمْنَى، وَيَده الْيُسْرَى عَلَى فَخذه الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ السبابَة، وَوضع إبهامه عَلَى أُصْبُعه الْوُسْطَى، ويلقم كَفه الْيُسْرَى ركبته» . وَعند البرقاني: «كَانَ إِذا جلس فِي الرَّكْعَتَيْنِ افترش الْيُسْرَى، وَنصب الْيُمْنَى، وَوضع إبهامه عَلَى الْوُسْطَى وَأَشَارَ بالسبابة، وَوضع كَفه الْيُسْرَى عَلَى فَخذه الْيُسْرَى، وألقم كَفه الْيُسْرَى ركبته» .
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ: وَنحن نجيز مَا فِي حَدِيث وَائِل، ونختار مَا فِي حَدِيث ابْن عمر، ثمَّ ابْن الزبير لثُبُوت خبرهما وَقُوَّة إِسْنَاده ومزية (رِجَاله) ورجحانهم فِي الْفضل عَلَى عَاصِم بن كُلَيْب رَاوِي حَدِيث وَائِل. وَاعْلَم أَن لفظ الرَّافِعِيّ «عِنْد الْوُسْطَى» ، وَلَفظ الحَدِيث «عَلَى الْوُسْطَى» ، وَبَينهمَا فرق؛ فَتَأَمّله (وَلَعَلَّه تحرف عَلَيْهِ) .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (كَانَ إِذا قعد فِي(4/10)
التَّشَهُّد) وضع يَده الْيُمْنَى عَلَى ركبته الْيُمْنَى، وَعقد ثَلَاثًا وَخمسين، وَأَشَارَ بالسبابة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم كَذَلِك كَمَا سلف.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَة
عَن وَائِل بن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه وصف صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَذكر وضع الْيَدَيْنِ فِي التَّشَهُّد، قَالَ: ثمَّ رفع أُصْبُعه فرأيته يحركها يَدْعُو بهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِهَذَا اللَّفْظ بِإِسْنَاد صَحِيح، ثمَّ قَالَ: يحْتَمل أَن يكون مُرَاده بِالتَّحْرِيكِ الْإِشَارَة بهَا لَا (تَكْرِير) تحريكها؛ فَيكون مُوَافقا لحَدِيث ابْن الزبير - يَعْنِي: الْآتِي بعده.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة
عَن ابْن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُشِير بالسبابة وَلَا يحركها، وَلَا يُجَاوز بَصَره إِشَارَته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ: «كَانَ إِذا جلس فِي التَّشَهُّد وضع يَده الْيُمْنَى عَلَى فَخذه الْيُمْنَى، وَيَده الْيُسْرَى عَلَى فَخذه الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بالسبابة وَلم يُجَاوز بَصَره إِشَارَته» .(4/11)
وَوَقع فِي «جَامع المسانيد» لِابْنِ الْجَوْزِيّ أَنه من أَفْرَاد مُسلم وَمرَاده أَصله لَا قَوْله «وَلم يُجَاوز بَصَره إِشَارَته» ؛ فَإِنَّهُ لم (يُخرجهَا) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام وضع يَده الْيُمْنَى عَلَى فَخذه الْيُمْنَى، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ السبابَة» وَفِي رِوَايَة لَهُ «كَانَ يُشِير بِأُصْبُعِهِ إِذا دَعَا وَلَا يحركها» وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَدْعُو كَذَلِك، ويتحامل بِيَدِهِ الْيُسْرَى (عَلَى فَخذه الْيُسْرَى) » . وَفِي رِوَايَة لَهُ «لَا يُجَاوز بَصَره إِشَارَته» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ «كَانَ إِذا جلس فِي الثِّنْتَيْنِ أَو الْأَرْبَع يضع يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثمَّ أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ» وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ «كَانَ إِذا تشهد وضع يَده الْيُسْرَى عَلَى فَخذه الْيُسْرَى وَوضع يَده الْيُمْنَى عَلَى فَخذه الْيُمْنَى وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ السبابَة لَا يُجَاوز بَصَره إِشَارَته» .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة
عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كُنَّا نقُول قبل أَن يفْرض علينا التَّشَهُّد: السَّلَام عَلَى الله قبل عباده، السَّلَام عَلَى جِبْرِيل ... » إِلَى آخِره.(4/12)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» عَنهُ قَالَ: «كُنَّا نقُول قبل أَن يفْرض علينا التَّشَهُّد: السَّلَام عَلَى الله قبل عباده، السَّلَام عَلَى جِبْرِيل وَمِيكَائِيل، السَّلَام عَلَى فلَان. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تَقولُوا السَّلَام عَلَى الله؛ فَإِن الله هُوَ السَّلَام، وَلَكِن قُولُوا: التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات [السَّلَام عَلَيْك] أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده صَحِيح، قَالَ أَصْحَابنَا: (فِي) هَذَا الحَدِيث دليلان عَلَى وجوب التَّشَهُّد الْأَخير: أَحدهمَا: قَوْله: «قبل أَن يفْرض علينا التَّشَهُّد» فَدلَّ عَلَى أَنه قد فرض.
وَثَانِيهمَا: قَوْله: «وَلَكِن قُولُوا: التَّحِيَّات لله ... » وَهَذَا أَمر، وَظَاهره الْوُجُوب، وَلم يثبت شَيْء صَرِيح فِي خِلَافه.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْمِائَة
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا (يقبل الله) صَلَاة إِلَّا بِطهُور وَالصَّلَاة عَلّي» .
هَذَا الحَدِيث ذكره صَاحب «الْمُهَذّب» أَيْضا وَلم يعزه النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» لَهُ، وَهُوَ فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» من حَدِيث (عَمْرو)(4/13)
بن شمر، عَن جَابر قَالَ: قَالَ الشّعبِيّ: سَمِعت مَسْرُوق بن الأجدع يَقُول: قَالَت عَائِشَة: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَا تقبل صَلَاة إِلَّا بِطهُور وبالصلاة عَلّي» ثمَّ قَالَ: عَمْرو وَجَابِر ضعيفان. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، وَقد أسلفت ذَلِك فِي بَاب الْأَحْدَاث أَيْضا.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث عبد الْمُهَيْمِن بن عَبَّاس، عَن أَبِيه، عَن جده سهل بن سعد مَرْفُوعا: «لَا صَلَاة لمن لم يصل عَلَى نبيه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي صلَاته» وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث أُبَيِّ بن عَبَّاس بن سهل بن سعد، عَن أَبِيه، عَن جده: «لَا صَلَاة لمن لَا وضوء لَهُ، وَلَا وضوء لمن لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ، وَلَا صَلَاة لمن لم يصل عَلَى نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا صَلَاة لمن لم يصل عَلَى الْأَنْصَار» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ وَلأبي مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ: «لَا وضوء لمن لم يصل عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ (ثمَّ) قَالَ: لم يخرج هَذَا الحَدِيث عَلَى شَرطهمَا؛ لِأَنَّهُمَا لم يخرجَا (عَن) عبد الْمُهَيْمِن، وَإِنَّمَا ذكرته شَاهدا.
قلت: مَا [قصرا] فِي ذَلِك؛ فَإِن عبد الْمُهَيْمِن واه (قَالَ) الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» : لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: ضَعِيف لَا يحْتَج بروايته. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يحْتَج بِهِ. وَهَذِه التَّرْجَمَة - وَهِي عبد(4/14)
الْمُهَيْمِن - أهملها ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» ، وَهِي أحد مَا يسْتَدرك عَلَيْهِ، وَقد ضعفه هُوَ فِي «تَحْقِيقه» وَأما أبي بن عَبَّاس فَهُوَ من فرسَان البُخَارِيّ، وَإِن ضعفه ابْن معِين. وَقَالَ أَحْمد: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «إِمَامه» فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة: أخْشَى أَن يكون غَلطا؛ فَإِن الحَدِيث من رِوَايَة عبد الْمُهَيْمِن مَعْرُوف - يَعْنِي - بِاللَّفْظِ الأول لَا بِلَفْظ «لَا وضوء لمن لم يصل عَلَى النَّبِي» .
وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق آخر من حَدِيث جَابر، عَن أبي جَعْفَر، عَن أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ مَرْفُوعا: «من صَلَّى صَلَاة وَلم يصل فِيهَا عَلّي وَلَا عَلَى أهل بَيْتِي لم تقبل مِنْهُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ثمَّ قَالَ: جَابر ضَعِيف، وَقد اخْتلف عَنهُ فَوَقفهُ عَلَى أبي مَسْعُود تَارَة وَرَفعه أُخْرَى. قَالَ فِي «علله» : وَوَقفه هُوَ الصَّوَاب. قَالَ (ابْن) دَاوُد: وَهَذَا الْخَبَر إِن سلم أَن يكون من وضع جَابر الْجعْفِيّ فَلَنْ يسلم أَن يكون خلوا من الْحجَّة؛ لما قَالَه الشَّافِعِي.
قلت: الْحجَّة للشَّافِعِيّ أَحَادِيث صَحِيحَة صَرِيحَة فِي وجوب الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة (مِنْهَا حَدِيث أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» و «صَحِيح ابْن حبَان» و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» وَمِنْهَا(4/15)
حَدِيث فضَالة بن عبيد فِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» و «صَحِيح الْحَاكِم» وَقد ذكرتهما فِي «تحفة الْمُحْتَاج (فِي) أَدِلَّة الْمِنْهَاج) فَرَاجعهَا مِنْهُ. وَمِنْهَا الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْآتِيَة بتعليم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إيَّاهُم كَيْفيَّة الصَّلَاة عَلَيْهِ، وكل ذَلِك يرد قَول صَاحب «الاستذكار» حجَّة أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي ذَلِك ضَعِيفَة، وَقَول ابْن الْمُنْذر: «لَا أجد الدّلَالَة عَلَى ذَلِك» غَرِيب مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَة
رُوِيَ «أَنه قيل: يَا رَسُول الله، كَيفَ نصلي عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صلِ عَلَى مُحَمَّد و (عَلَى) آل مُحَمَّد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَله طرق: أَحدهَا: عَن (عبد الرَّحْمَن) بن أبي لَيْلَى قَالَ: «لَقِيَنِي كَعْب بن عجْرَة فَقَالَ: أَلا أهدي لَك هَدِيَّة؟ إِن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج علينا (فَقُلْنَا) : يَا رَسُول الله قد علمنَا كَيفَ نسلم عَلَيْك فَكيف نصلي عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صليت عَلَى إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا باركت عَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد» .
مُتَّفق عَلَيْهِ وَفِي لفظ «وَبَارك» بدل «اللَّهُمَّ بَارك» . وَفِي رِوَايَة(4/16)
للْبُخَارِيّ فِي كتاب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام «سَأَلنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، كَيفَ الصَّلَاة عَلَيْكُم أهل الْبَيْت؟ فَإِن الله قد علمنَا كَيفَ نسلم. قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد، كَمَا صليت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد» .
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنهم قَالُوا: يَا رَسُول الله، كَيفَ نصلي عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى أَزوَاجه وَذريته كَمَا صليت عَلَى آل إِبْرَاهِيم، وَبَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى أَزوَاجه وَذريته كَمَا باركت عَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد» مُتَّفق عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي وسط كتاب الدَّعْوَات من «صَحِيحه» ، عَن أبي حميد: «قُلْنَا: يَا رَسُول الله، هَذَا السَّلَام عَلَيْك؛ فَكيف نصلي عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد (عَبدك وَرَسُولك كَمَا صليت عَلَى إِبْرَاهِيم، وَبَارك عَلَى مُحَمَّد) وَآل مُحَمَّد كَمَا باركت عَلَى إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم» .
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أَتَانَا) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَنحن فِي مجْلِس سعد بن عبَادَة فَقَالَ (لَهُ) بشير(4/17)
بن سعد: أمرنَا الله أَن نصلي عَلَيْك يَا رَسُول الله فَكيف نصلي عَلَيْك؟ (قَالَ) فَسكت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى تمنينا أَنه لم يسْأَله. ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قُولُوا اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد، كَمَا صليت عَلَى آل إِبْرَاهِيم، وَبَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا باركت عَلَى آل إِبْرَاهِيم [فِي الْعَالمين] إِنَّك حميد مجيد، وَالسَّلَام كَمَا (قد) علمْتُم» رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ. وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ «اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي وَعَلَى آل مُحَمَّد» .
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قُلْنَا: يَا رَسُول الله، هَذَا السَّلَام عَلَيْك؛ فَكيف نصلي عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد عَبدك وَرَسُولك كَمَا صليت عَلَى إِبْرَاهِيم، وَبَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل (مُحَمَّد) كَمَا باركت عَلَى إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم، إِنَّك حميد مجيد» رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الدَّعْوَات من «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ. وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كَمَا صليت عَلَى آل إِبْرَاهِيم» .
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن طَلْحَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: كَيفَ نصلي عَلَيْك يَا نَبِي الله؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد [وَعَلَى(4/18)
آل مُحَمَّد] كَمَا صليت عَلَى (آل) إِبْرَاهِيم، إِنَّك حميد مجيد (وَبَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد، كَمَا باركت عَلَى إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد) رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» ) وَفِي رِوَايَة لَهُ «كَيفَ الصَّلَاة عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد [وَعَلَى آل مُحَمَّد] كَمَا صليت عَلَى إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد، وَبَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا باركت عَلَى إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْمِائَة
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين كَأَنَّهُ عَلَى الرضف» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» وَأحمد فِي «الْمسند» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من رِوَايَة أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود (عَن أَبِيه عبد الله بن مَسْعُود) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن إِلَّا أَن أَبَا عُبَيْدَة(4/19)
لم يسمع من أَبِيه. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَرَوَى شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة قَالَ: سَأَلت أَبَا عُبَيْدَة هَل تذكر من عبد الله شَيْئا؟ قَالَ: لَا. وَأما رِوَايَة أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ، عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ: «خرجت مَعَ أبي لصَلَاة الصُّبْح ... » فضعفه أَبُو حَاتِم؛ بل قيل أَنه ولد بعد أَبِيه. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي هَذَا الحَدِيث: إِنَّه عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم، وَفِيه النّظر الْمَذْكُور، وَأعله الذَّهَبِيّ الْحَافِظ فِي «اختصاره للمستدرك» بِوَجْه آخر فَقَالَ: ينظر فِي سعد بن إِبْرَاهِيم رَاوِيه عَن أبي عُبَيْدَة، هَل سمع مِنْهُ؟ .
قلت: قد ثَبت التَّصْرِيح بِسَمَاعِهِ مِنْهُ فِي هَذَا الحَدِيث فِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» و «المعجم الْكَبِير» للطبراني فَزَالَ هَذَا التَّعْلِيل.
تَنْبِيه: وَقع فِي «كِفَايَة ابْن الرّفْعَة» عزو هَذَا الحَدِيث إِلَى رِوَايَة أبي دَاوُد من طَرِيق ابْن عَبَّاس، وَلم أره فِيهِ إِلَّا من الطَّرِيق الَّذِي ذكرته،، وَالظَّاهِر أَنه سبق قلم.
فَائِدَة: الرضف - بِفَتْح الرَّاء، وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة ثمَّ فَاء -: الْحِجَارَة المحماة.
الحَدِيث الْعَاشِر بعد الْمِائَة
حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «فِي التَّشَهُّد» .
هُوَ حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ (عَنهُ) قَالَ: «كَانَ(4/20)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعلمنَا التَّشَهُّد كَمَا يعلمنَا السُّورَة من الْقُرْآن» (وَفِي لفظ: «كَمَا يعلمنَا الْقُرْآن) فَكَانَ يَقُول: التَّحِيَّات المباركات الصَّلَوَات الطَّيِّبَات لله، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَوَقع فِي رِوَايَة الشَّافِعِي (تنكير السَّلَام) فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، فقد رَوَاهُ كَذَلِك فِي «الْأُم» وَرَوَاهُ أَيْضا كَذَلِك التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» فِي إِحْدَى روايتيه. قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرَوَى غَيره تعريفهما وهما صَحِيحَانِ.
قلت: لَا شكّ وَلَا مرية فِي ذَلِك كَمَا قد أسلفته. وَفِي رِوَايَة لأبي حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» تَعْرِيف السَّلَام الأول وتنكير الثَّانِي، ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ (أَبُو) الزبير. وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي أكبر «معاجمه»(4/21)
من حَدِيث أبي الزبير تَعْرِيف الثَّانِي وتنكير الأول؛ فَهَذِهِ أَربع رِوَايَات فيهمَا.
وَوَقع فِي كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي أَن السَّلَام وَقع مُعَرفا فِي تشهد ابْن مَسْعُود، ومنكرًا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس والتعريف أَعم. وَقد عرفت أَن التَّعْرِيف رَوَاهُ مُسلم وَغَيره من حَدِيثه كَمَا بَينته، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ «وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» وَقَالَ فِي رِوَايَة للشَّافِعِيّ كَمَا عزاها إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ «وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله» وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَالنَّسَائِيّ: «وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» .
فَائِدَة: صرح الرَّافِعِيّ بِأَن حذف (الصَّلَوَات والطيبات) لم يرد، وَهُوَ خلاف مَا نَقله النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» عَن الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب (من) سقوطهما؛ فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب: يتعيَّن لفظ التَّحِيَّات؛ لثبوتها فِي جَمِيع الرِّوَايَات بِخِلَاف المباركات وَمَا بعْدهَا، وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عمر بِإِسْقَاط الصَّلَوَات، وَالله أعلم.
الحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الْمِائَة
حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «فِي التَّشَهُّد» .(4/22)
هُوَ حَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيثه «كُنَّا نقُول فِي الصَّلَاة خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: السَّلَام عَلَى الله، السَّلَام عَلَى فلَان، فَقَالَ لنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَات يَوْم: إِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ السَّلَام؛ فَإِذا قعد أحدكُم فِي الصَّلَاة فَلْيقل: التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين؛ فَإِذا قَالَهَا أَصَابَت كل عبد لله - عَزَّ وَجَلَّ - صَالح فِي السَّمَاء وَالْأَرْض، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، ثمَّ يتَخَيَّر من الْمَسْأَلَة مَا شَاءَ» . وَفِي رِوَايَة لَهما: «عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - التَّشَهُّد كفي بَين كفيه كَمَا يعلمني السُّورَة من الْقُرْآن ... » واقتص التَّشَهُّد بِمثل مَا سلف.
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «كُنَّا نقُول: التَّحِيَّة فِي الصَّلَاة ونُسمي وَيسلم بَعْضنَا عَلَى بعض، فَسَمعهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: قُولُوا التَّحِيَّات لله) قَالَ فِيهِ: (فَإِنَّكُم إِذا فَعلْتُمْ ذَلِك فقد سلمتم عَلَى كل عبد صَالح ... » إِلَى آخِره. وَفِي رِوَايَة لَهُ: (كُنَّا إِذا كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الصَّلَاة قُلْنَا: السَّلَام عَلَى الله من عباده، السَّلَام عَلَى فلَان وَفُلَان، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تَقولُوا السَّلَام عَلَى الله؛ فَإِن الله هُوَ السَّلَام، وَلَكِن قُولُوا: التَّحِيَّات لله ... »(4/23)
الحَدِيث، وَفِيه: «ثمَّ يتَخَيَّر من الدُّعَاء أعجبه إِلَيْهِ فيدعو» وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «السَّلَام عَلَى الله قبل عباده، السَّلَام عَلَى جِبْرِيل، السَّلَام عَلَى مِيكَائِيل، السَّلَام عَلَى فلَان وَفُلَان» . وَفِيه: «ثمَّ يتَخَيَّر بعد من الْكَلَام مَا شَاءَ» . ذكرهَا فِي الاسْتِئْذَان. وَفِي رِوَايَة لَهُ «ثمَّ يتَخَيَّر من الثَّنَاء مَا شَاءَ» ذكرهَا فِي الدَّعْوَات وَفِي الاسْتِئْذَان أَيْضا، وَزَاد فِيهِ بعد قَوْله: «وَرَسُوله وَهُوَ بَين ظهرانينا، فَلَمَّا قبض قُلْنَا: السَّلَام عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
وَفِي رِوَايَة للنسائي: «سَلام علينا» بالتنكير، وَفِي رِوَايَة (لَهُ) «أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ و (أشهد) أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» «سَلام عَلَيْك» وَفِي رِوَايَة «أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» .
الحَدِيث الثَّانِي عشر بعد الْمِائَة
تشهد عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.(4/24)
هُوَ حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ إِمَام دَار الْهِجْرَة فِي «موطئِهِ» وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن ابْن شهَاب، عَن عُرْوَة بن الزبير، عَن عبد الرَّحْمَن بن عبدٍ الْقَارِي - بتَشْديد الْيَاء نِسْبَة إِلَى القارة - «أَنه سمع عمر بن الْخطاب وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر يعلم النَّاس التَّشَهُّد يَقُول: قُولُوا: التَّحِيَّات لله الزاكيات لله الطَّيِّبَات الصَّلَوَات لله، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَلَى الصَّحِيحَيْنِ بِهَذَا اللَّفْظ ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق آخر بِزِيَادَة (فِيهِ) عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه «أَن عمر بن الْخطاب كَانَ يعلم النَّاس التَّشَهُّد فِي الصَّلَاة وَهُوَ يخْطب النَّاس عَلَى مِنْبَر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَيَقُول: إِذا تشهد أحدكُم فَلْيقل بِسم الله خير الْأَسْمَاء، التَّحِيَّات الزاكيات الصَّلَوَات الطَّيِّبَات لله، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. قَالَ عمر: (ابدءُوا) بِأَنْفُسِكُمْ بعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ سلمُوا عَلَى عباد الله الصَّالِحين» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَفِي رِوَايَة للبيهقي تَقْدِيم الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى كلمتي السَّلَام، ومعظم الرِّوَايَات عَكسه كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن رِوَايَة مَالك وَالْحَاكِم.(4/25)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : لم يَخْتَلِفُوا فِي أَن هَذَا الحَدِيث مَوْقُوف عَلَى عمر. قَالَ: وَرَوَاهُ بعض الْمُتَأَخِّرين عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، عَن مَالك، عَن الزُّهْرِيّ، (عَن عُرْوَة) ، عَن ابْن عبدٍ، عَن عمر مَرْفُوعا، وَوهم فِي رَفعه وَالصَّوَاب مَوْقُوف. وَفِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» نَا عبد الله بن سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث، نَا مُحَمَّد بن وَزِير الدِّمَشْقِي، ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، أَخْبرنِي ابْن لَهِيعَة، أَخْبرنِي جَعْفَر بن ربيعَة، عَن يَعْقُوب بن الْأَشَج «أَن عون بن عبد الله بن عتبَة كتب لي فِي التَّشَهُّد عَن ابْن عَبَّاس وَأخذ بيَدي (فَزعم أَن عمر بن الْخطاب أَخذه بِيَدِهِ) فَزعم لَهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَخذ بِيَدِهِ فَعلمه التَّشَهُّد، التَّحِيَّات لله الصَّلَوَات الطَّيِّبَات المباركات لله» ثمَّ قَالَ: (هَذَا) إِسْنَاد حسن، وَابْن لَهِيعَة لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَوَقع فِي الرَّافِعِيّ «الطَّيِّبَات لله الصَّلَوَات لله» وَلم أر لفظ «لله» فِي (الطَّيِّبَات) فِي رِوَايَة مَعَ لَفْظَة (لله) فِي (الصَّلَوَات) وَإِنَّمَا (فِيهَا) إِثْبَاتهَا مرّة فِي (الصَّلَوَات) وَأُخْرَى فِي (الطَّيِّبَات) وحذفهما مَعًا فِي أُخْرَى كَمَا ذكرته لَك.
الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ أول مَا يتَكَلَّم بِهِ عِنْد الْقعدَة التَّحِيَّات لله» .(4/26)
هُوَ حَدِيث صَحِيح (رَوَاهُ) أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» بإسنادهما الصَّحِيح من حَدِيث نصر بن عَلّي، نَا أبي، نَا (شُعْبَة) ، عَن أبي بشر، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عمر، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أَنه) قَالَ فِي التَّشَهُّد: «التَّحِيَّات لله الصَّلَوَات الطَّيِّبَات، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله (قَالَ) قَالَ ابْن عمر: زِدْت فِيهَا وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. قَالَ ابْن عمر: (و) زِدْت فِيهَا وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده صَحِيح. وَهُوَ كَمَا قَالَ (فَإِن) رِجَاله (ثِقَات) عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ [قد تَابعه عَلَى رَفعه ابْن أبي عدي عَن شُعْبَة وَوَقفه] غَيرهمَا، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَذَلِك لَكِن فِيهَا الْجَزْم «ببركاته» من غير تَنْبِيه عَلَى زيادتها من عِنْده وَلَيْسَ فِيهَا «وَحده لَا شريك لَهُ» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر(4/27)
قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعلمنَا التَّشَهُّد التَّحِيَّات الطَّيِّبَات الزاكيات (لله)
» إِلَى آخِره وَفِيه «أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده مُوسَى بن عُبَيْدَة وخارجة (يَعْنِي) ابْن مُصعب وهما ضعيفان، وَرَوَاهُ قَاسم بن أصبغ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث محَارب بن دثار، عَن (عبد الله) بن عمر «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعلمنَا التَّشَهُّد كَمَا يعلم الْمكتب السُّورَة من الْقُرْآن» .
الحَدِيث الرَّابِع عشر بعد الْمِائَة
عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعلمنَا التَّشَهُّد كَمَا يعلمنَا السُّورَة من الْقُرْآن: بِسم الله وَبِاللَّهِ، التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، أسأَل الله الْجنَّة وَأَعُوذ بِاللَّه من النَّار» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَنَصّ غير وَاحِد من الْحفاظ عَلَى ضعفه. قَالَ النَّسَائِيّ: لَا نعلم أحدا تَابع أَيمن - يَعْنِي ابْن نابل بِالْبَاء الْمُوَحدَة - رَاوِيه، عَن (أبي)(4/28)
الزبير، عَن جَابر عَلَى هَذَا الحَدِيث (وَخَالفهُ اللَّيْث بن سعد فِي إِسْنَاده) وأيمن عندنَا لَا بَأْس بِهِ، والْحَدِيث خطأ - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق - وَقَالَ حَمْزَة بن مُحَمَّد الْحَافِظ: قَوْله عَن جَابر خطأ، وَالصَّوَاب أَبُو (الزبير) ، عَن سعيد بن جُبَير وَطَاوُس، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: وَلَا أعلم أحدا قَالَ فِي التَّشَهُّد (باسم الله وَبِاللَّهِ) إِلَّا أَيمن بن نابل، عَن أبي الزبير.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رَوَى (أَيمن) بن نابل الْمَكِّيّ هَذَا الحَدِيث، عَن أبي الزبير، عَن جَابر، وَهُوَ غير مَحْفُوظ، قَالَ: وَسَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: هُوَ خطأ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أَيمن لَيْسَ بِالْقَوِيّ. زَاد فِي «علله» : وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أشبه بِالصَّوَابِ من حَدِيث جَابر. وَضَعفه أَيْضا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : أحسن حَدِيث أبي الزبير، عَن جَابر مَا ذكر فِيهِ سَمَاعه مِنْهُ وَلم يذكر السماع فِي هَذَا فِيمَا أعلم. وَقَالَ صَاحب «الْمُهَذّب» : ذكر التَّسْمِيَة غير صَحِيح عِنْد أَصْحَاب الحَدِيث وَكَذَا نَقله الْبَغَوِيّ عَنْهُم. وَخَالف الْحَاكِم فاستدرك هَذَا الحَدِيث وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ، قَالَ: وأيمن(4/29)
بن نابل ثِقَة قد احْتج بِهِ البُخَارِيّ. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ فِي أَيمن (بن) نابل: إِنَّه ثِقَة. قَالَ: فَأَما صِحَّته عَلَى شَرط مُسلم فَحَدَّثنَاهُ أَبُو عَلّي الْحَافِظ، ثَنَا عبد الله بن (قَحْطَبَةَ) ثَنَا مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، نَا الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان، نَا أبي، عَن أبي الزبير، عَن جَابر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكره. قَالَ الْحَاكِم: سَمِعت أَبَا عَلّي الْحَافِظ (يوثق ابْن قَحْطَبَةَ) إِلَّا أَنه أَخطَأ فِيهِ فَإِنَّهُ عِنْد الْمُعْتَمِر، عَن أَيمن بن نابل كَمَا تقدم ذكرنَا لَهُ، انْتَهَى كَلَام الْحَاكِم. وَأنكر النَّوَوِيّ عَلَيْهِ تَصْحِيحه فَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَغَيره: تَصْحِيح الْحَاكِم لهَذَا الحَدِيث مَرْدُود لَا يقبل مِنْهُ، فَإِن الَّذين ضَعَّفُوهُ أجل مِنْهُ وأتقن.
قلت: تَضْعِيف من هُوَ أجل مِنْهُ وأتقن لَا يصلح أَن يكون ردًّا عَلَى الْحَاكِم، فَإِن الْحَاكِم ادَّعَى أَنه عَلَى شَرط البُخَارِيّ فِي أَيمن بن نابل، وَهُوَ كَذَلِك فقد أخرج لَهُ و (قد) وَثَّقَهُ (الثَّوْريّ) وَابْن معِين وَغَيرهمَا وَلكنه تفرد بِهَذَا الحَدِيث فَهَذَا (هُوَ) الَّذِي يتَوَقَّف فِي صِحَّته لأَجله.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، خَالف النَّاس وَلَو لم يكن إِلَّا حَدِيث(4/30)
التَّشَهُّد. وَقَالَ (ابْن) الْمَدِينِيّ: ثِقَة وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: فِيهِ ضعف. وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَن أَحَادِيثه لَا بَأْس بهَا.
قلت: لَكِن يعْتَرض عَلَى الْحَاكِم من وَجه آخر فإنَّ التِّرْمِذِيّ سَأَلَ البُخَارِيّ عَنهُ فَقَالَ: إِنَّه خطأ. فَكيف يكون عَلَى شَرطه؟ ! . قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى «بِسم الله خير الْأَسْمَاء» .
قلت: هَذَا اللَّفْظ لم أره فِي حَدِيث جَابر، نعم هُوَ فِي حَدِيث (ابْن) الزبير كَمَا ستعلمه، وَسلف من حَدِيث عمر قَرِيبا.
فصل: قد تلخص من أول مَا شرع الرَّافِعِيّ فِي ذكر التَّشَهُّد إِلَى هُنَا خمس تشهدات أَحدهَا: تشهد ابْن عَبَّاس. ثَانِيهَا: تشهد ابْن مَسْعُود. ثَالِثهَا: تشهد عمر. رَابِعهَا: تشهد (ابْنه) . خَامِسهَا: تشهد جَابر. وَبَقِي مِنْهَا ثَمَانِي تشهدات أُخَر أَحدهَا: تشهد أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. ثَانِيهَا: تشهد عَائِشَة. ثَالِثهَا: تشهد (سَمُرَة بن) جُنْدُب. رَابِعهَا: تشهد عَلّي بن أبي طَالب. خَامِسهَا: تشهد عبد الله بن الزبير. سادسها: تشهد مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. سابعها: تشهد (سلمَان) . ثامنها: تشهد أبي حميد السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، فلنذكرها لتكمل الْفَائِدَة باستحضارها فِي مَوضِع وَاحِد فَإِنَّهُ من النفائس فَنَقُول:(4/31)
أما تشهد أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ مُسلم من حَدِيث حطَّان بن عبد الله الرقاشِي قَالَ: «صليت مَعَ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ صَلَاة، فَلَمَّا كَانَ عِنْد الْقعدَة قَالَ رجل من الْقَوْم: أقرَّت الصَّلَاة (بِالْبرِّ) وَالزَّكَاة. فَلَمَّا قَضَى (أَبُو مُوسَى) الصَّلَاة (وَسلم) انْصَرف فَقَالَ: أَيّكُم الْقَائِل كلمة كَذَا وَكَذَا؟ فأرم الْقَوْم، ثمَّ ذكر أَبُو مُوسَى صفة صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى أَن قَالَ: وَإِذا كَانَ عِنْد الْقعدَة فَلْيَكُن من [أول] قَول أحدكُم: التَّحِيَّات الطَّيِّبَات الصَّلَوَات لله، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَبَعض نسخ مُسلم «وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» .
(وَفِي رِوَايَة للنسائي: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، و (أشهد) أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله) وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» تنكير السَّلَام فيهمَا.
وَأما تشهد عَائِشَة فَرَوَاهُ الْحسن بن سُفْيَان فِي «مُسْنده» وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق قَالَ:(4/32)
«علمتني عَائِشَة [قَالَت:] هَذَا تشهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، و (أشهد) أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» .
وَفِي هَذِه الرِّوَايَة فَائِدَة حَسَنَة وَهِي أَن تشهد سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِلَفْظ تشهدنا. وَرَوَاهُ مَالك فِي (موطئِهِ) عَن [عبد الرَّحْمَن] بن الْقَاسِم، عَن (أَبِيه) ، عَن عَائِشَة زوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنَّهَا كَانَت تَقول إِذا تشهدت: التَّحِيَّات الطَّيِّبَات الصَّلَوَات الزاكيات لله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، السَّلَام عَلَيْكُم» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْقَاسِم أَيْضا عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا كَانَت تَقول فِي التَّشَهُّد فِي الصَّلَاة فِي وَسطهَا وَفِي آخرهَا قولا وَاحِدًا: «باسم الله التَّحِيَّات الصَّلَوَات لله الزاكيات لله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين» ، فِي إِسْنَاده ابْن إِسْحَاق وَصرح بِالتَّحْدِيثِ، لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِن الرِّوَايَة الصَّحِيحَة عَن عَائِشَة لَيْسَ فِيهَا ذكر التَّسْمِيَة إِلَّا مَا تفرد بِهِ ابْن إِسْحَاق.(4/33)
قَالَ: وَرَوَى ثَابت بن زُهَيْر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. وَهِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة كِلَاهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي التَّسْمِيَة قبل التَّحِيَّة، وثابت بن زُهَيْر مُنكر الحَدِيث ضَعِيف. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن عَائِشَة مَرْفُوعا وَالصَّوَاب وَقفه عَلَيْهَا.
وَأما (تشهد) سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَعْفَر بن سعد بن (سَمُرَة بن) جُنْدُب (قَالَ: حَدثنِي خُبيب بن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه سُلَيْمَان [بن] سَمُرَة، عَن سَمُرَة بن جُنْدُب) «أما بعد أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا كَانَ فِي وسط الصَّلَاة أَو حِين انْقِضَائِهَا فابدءوا قبل التَّسْلِيم فَقولُوا: التَّحِيَّات الطَّيِّبَات والصلوات وَالْملك لله، ثمَّ سلمُوا عَلَى (الْيَمين ثمَّ) سلمُوا عَلَى قارئكم وَعَلَى أَنفسكُم» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: سُلَيْمَان كُوفِي الأَصْل كَانَ بِدِمَشْق. قَالَ عبد الْحق: وَهَذَا الْإِسْنَاد لَيْسَ بِمَشْهُور.
قلت: وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب زَكَاة التِّجَارَة - إِن شَاءَ الله وَقدره.
وَأما تشهد عَلّي بن أبي طَالب، رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط(4/34)
معاجمه» و (أكبرها) والسياق للْأولِ عَن إِبْرَاهِيم - يَعْنِي الوكيعي - ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ، نَا عَمْرو بن هَاشم أَبُو مَالك [الْجَنبي] عَن عبد الله بن عَطاء قَالَ: حَدثنِي الْبَهْزِي قَالَ: (سَأَلت الْحُسَيْن بن عَلّي عَن تشهد عَلّي، فَقَالَ: (هُوَ) تشهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقلت: حَدثنِي بتشهد عَلّي عَن تشهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات والغاديات والرائحات والزاكيات والناعمات السابغات الطاهرات لله» .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يروه عَن عبد الله بن عَطاء إِلَّا عَمْرو.
قلت: قَالَ أَحْمد: صَدُوق. وَلينه غَيره.
وَأما تشهد عبد الله بن الزبير فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي «الْأَكْبَر» و «الْأَوْسَط» أَيْضا من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، (نَا الْحَارِث بن يزِيد) قَالَ: سَمِعت أَبَا الْورْد يَقُول: سَمِعت عبد الله بن الزبير يَقُول: «إِنَّ تشهد النَّبِي(4/35)
(: باسم الله وَبِاللَّهِ خير الْأَسْمَاء التَّحِيَّات لله الطَّيِّبَات الصَّلَوَات، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرْسلهُ بِالْحَقِّ بشيرًا وَنَذِيرا، وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا (وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور) ، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، اللَّهُمَّ اغْفِر لي واهدني. هَذَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين) .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لَا يرْوَى هَذَا الحَدِيث عَن عبد الله بن الزبير إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد، تفرد بِهِ ابْن لَهِيعَة.
وَأما تشهد مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث رَاشد بن سعد المقرائي، عَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، «أَنه كَانَ يعلم النَّاس التَّشَهُّد وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» .
وَرَاشِد هَذَا وَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم وَابْن سعد وَقَالَ أَحْمد: لَا بَأْس بِهِ. وشذ ابْن حزم فَقَالَ: ضَعِيف. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يعْتَبر بِهِ، لَا بَأْس بِهِ. وَفِي إِسْنَاده أَيْضا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش وَهُوَ ضَعِيف فِي غير(4/36)
الشاميين، وحريز بن عُثْمَان شَامي ثِقَة لكنه ناصبي مبغض.
وَأما تشهد (سلمَان) فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا من حَدِيث أبي رَاشد قَالَ: سَأَلت (سلمَان) الْفَارِسِي، عَن التَّشَهُّد فَقَالَ: «أعلمكُم كَمَا (علمنيهن) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - التَّشَهُّد حرفا حرفا. التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات لله، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله [وَحده لَا شريك لَهُ] وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» . فِي إِسْنَاده عمر بن يزِيد الْأَزْدِيّ، قَالَ ابْن عدي: مُنكر الحَدِيث.
وَأما تشهد أبي حميد السَّاعِدِيّ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا من حَدِيث الْعَبَّاس بن سهل عَنهُ، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - « (أَنه) كَانَ يتَشَهَّد: التَّحِيَّات لله الصَّلَوَات الطَّيِّبَات الزاكيات لله، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» . فِيهِ الْوَاقِدِيّ وحالته مَعْلُومَة.
إِذا عرفت هَذِه التشهدات وتقررت لديك بقيت متطلعًا إِلَى (الْأَرْجَح) مِنْهَا ولتعلم أَن أَشدّهَا صِحَة بِاتِّفَاق الْحفاظ حَدِيث ابْن مَسْعُود لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن الْأَئِمَّة السِّتَّة اتَّفقُوا عَلَى إِخْرَاجه فِي كتبهمْ، بِخِلَاف تشهد ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ مَعْدُود من مُفْرَدَات مُسلم و (إِن)(4/37)
أخرجه أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة أَيْضا.
(ثَانِيهمَا) أَنه أصح حَدِيث فِي الْبَاب قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : حَدِيث ابْن مَسْعُود رُوِيَ عَنهُ من غير وَجه وَهُوَ أصح حَدِيث رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي التَّشَهُّد، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمن بعدهمْ من التَّابِعين، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق، قَالَ التِّرْمِذِيّ: ثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى، أَنا عبد الله بن الْمُبَارك، عَن معمر، عَن خصيف قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْمَنَام فَقلت: يَا رَسُول الله، إِن النَّاس قد اخْتلفُوا فِي التَّشَهُّد فَقَالَ: عَلَيْك بتشهد ابْن مَسْعُود» زَاد ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» «فَإذْ فرغت من التَّشَهُّد فسل الله الْجنَّة، وتعوذ بِهِ من النَّار» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «نعم السّنة سنة ابْن مَسْعُود» وَذكر ابْن عبد الْبر بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَحْمد بن عَمْرو بن عبد الْخَالِق الْبَزَّار الْحَافِظ أَنه سُئِلَ عَن أصح حَدِيث فِي التَّشَهُّد فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي وَالله حَدِيث ابْن مَسْعُود، رُوِيَ عَنهُ من نَيف وَعشْرين طَرِيقا. ثمَّ عَددهمْ قَالَ: وَلَا أعلم (أَنه) يرْوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي التَّشَهُّد أثبت من حَدِيث عبد الله، وَلَا أصح أَسَانِيد، وَلَا أشهر رجَالًا، وَلَا أَشد تضافرًا بِكَثْرَة الْأَسَانِيد وَاخْتِلَاف طرقها، وَإِلَيْهِ أذهب وَرُبمَا زِدْت.
قَالَ ابْن عبد الْبر: كَانَ أَحْمد بن خَالِد بالأندلس يختاره، ويميل إِلَيْهِ ويتشهد بِهِ، وَذكر ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» طرق حَدِيث ابْن مَسْعُود(4/38)
فِي نَحْو ورقتين، ثمَّ نقل عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى الذهلي أَنه قَالَ: إِنَّه (من) أصح مَا رُوِيَ فِي التَّشَهُّد وَبِه نَأْخُذ، وَنقل عَن مُسلم بن الْحجَّاج أَنه قَالَ: إِنَّمَا اجْتمع النَّاس عَلَى تشهد ابْن مَسْعُود؛ لِأَن أَصْحَابه لَا يُخَالف بَعضهم بَعْضًا، وَغَيره قد (اخْتَلَّ) أَصْحَابه.
قلت: وَمَا رُجح (بِهِ) تشهد ابْن مَسْعُود أَيْضا أَن فِيهِ زِيَادَة وَاو الْعَطف، وَهِي تَقْتَضِي الْمُغَايرَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ؛ فَيكون كل جملَة ثَنَاء مستقلًّا بِخِلَاف إِسْقَاطهَا، فَإِن مَا عدا اللَّفْظ الأول يكون صفة للْأولِ وَالْأول أبلغ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِإِسْنَادِهِ، عَن ابْن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه قَالَ: مَا سَمِعت فِي التَّشَهُّد أحسن من حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَذَلِكَ أَنه رَفعه إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: وَكَذَلِكَ غَيره مِمَّا عَرفته فَلَا يَصح هَذَا أَن يكون مرجحًا، وَاخْتَارَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ تشهد ابْن عَبَّاس لأوجه:
أَحدهَا: لِأَن فِيهِ زِيَادَة و «المباركات» وَلِأَنَّهَا مُوَافقَة لقَوْل الله تَعَالَى: (تَحِيَّة من عِنْد الله مباركة طيبَة) (قَالَه) أَصْحَابنَا. قَالَ الشَّافِعِي: وَهُوَ أَكثر وَأحمد لفظا من غَيره. وَفِي «صَحِيح أبي عوَانَة» بِسَنَدِهِ إِلَى الشَّافِعِي أَنه قَالَ: حَدِيث ابْن عَبَّاس أَجود مَا رُوِيَ(4/39)
عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
ثَانِيهَا: لِأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - علمه ابْن عَبَّاس وأقرانه من أَحْدَاث الصَّحَابَة فَيكون مُتَأَخِّرًا عَن تشهد ابْن مَسْعُود [وَأَضْرَابه] قَالَه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» قَالَ: (وَهَذَا) بِلَا شكّ.
ثَالِثهَا: قَالَه الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : الَّذِي عِنْدِي أَنه إِنَّمَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِي؛ لِأَن إِسْنَاده إِسْنَاد حجازي، وَإسْنَاد حَدِيث عبد الله إِسْنَاد كُوفِي، وَمهما وجد أَئِمَّتنَا المتقدمون من أهل الْمَدِينَة للْحَدِيث طَرِيقا بالحجاز فَلَا يحتجون بِحَدِيث يكون مخرجه من الْكُوفَة. قَالَ: و (مِمَّا) يشْهد لهَذَا قَول الشَّافِعِي ليونس بن عبد الْأَعْلَى: إِذا وجدت أهل الْمَدِينَة عَلَى شَيْء فَلَا يدخلن قَلْبك شكّ أَنه حق، ثمَّ ذكر الْبَيْهَقِيّ شَوَاهِد لما ذكره. وَوَقع فِي «الشفا» للْقَاضِي عِيَاض أَن الشَّافِعِي اخْتَار تشهد ابْن مَسْعُود وَهُوَ سبق قلم، وَاخْتَارَ مَالك رَحِمَهُ اللَّهُ تشهد عمر بن الْخطاب (لتعليم) عمر إِيَّاه عَلَى الْمِنْبَر بِحَضْرَة الصَّحَابَة وَلم يُنكر، وَمثل هَذَا لَا يكون إِلَّا بتوقيف وَهُوَ (بِيَقِين) بعد (تَعْلِيم ابْن عَبَّاس فَتَأَخر التَّعْلِيم) ، وَزِيَادَة «المباركات» يقابلها عِنْد مَالك زِيَادَة «الزاكيات» لَكِن للشَّافِعِيّ أَن يَقُول: نَحن تمسكنا بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوع(4/40)
الثَّابِت، وَمَالك تمسك بالأثر عَن عمر، لَكِن لمَالِك أَن يَقُول هَذَا جارٍ عَلَى قواعدي فِي تَرْجِيح عمل أهل الْمَدِينَة. عَلَى أَن فِي تَسْلِيم كَون ذَلِك عمل الْمَدِينَة (وَقْفَة) ، لِأَن ابْن أبي شيبَة رَوَى فِي «مُصَنفه» عَن الْفضل بن دُكَيْن، عَن سُفْيَان، عَن زيد الْعمي، عَن أبي الصّديق النَّاجِي، عَن ابْن عمر «أَن أَبَا بكر كَانَ يعلمهُمْ التَّشَهُّد عَلَى الْمِنْبَر كَمَا يعلم الصّبيان فِي الْكتاب: التَّحِيَّات لله والصلوات، والطيبات، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، السَّلَام علينا وَعَلَى عباد الله الصَّالِحين، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» فَهَذَا يُوَافق حَدِيث ابْن مَسْعُود فَيَنْبَغِي تَرْجِيحه إِلَّا أَن يُجَاب بِضعْف زيد الْعمي، فاستفد مَا ذكرنَا لَك من ذكر التشهدات وَالْكَلَام عَلَيْهَا فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات الجليلة الَّتِي يرحل إِلَيْهَا.
الحَدِيث الْخَامِس عشر بعد الْمِائَة
عَن كَعْب بن عجْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن كَيْفيَّة الصَّلَاة عَلَيْهِ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صليت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم، وَبَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا باركت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته وَقد سلف بِلَفْظِهِ فِي الحَدِيث(4/41)
الثَّامِن بعد الْمِائَة وَهُوَ نَحْو هَذَا. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة أهل الْبَيْت إِن البُخَارِيّ رَوَاهُ ثمَّ سَاقه بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَعَزاهُ شَيخنَا الْحَافِظ قطب الدَّين عبد الْكَرِيم الْحلَبِي فِي كِتَابه [الاهتمام بتلخيص كتاب] الإِمَام الَّذِي نحا فِيهِ (نَحْو) الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي كالمكمل لَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره (الرَّافِعِيّ) سَوَاء إِلَى رِوَايَة الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا لَفظه - وَمن أَصله نقلته - رَوَى عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى قَالَ: «لَقِيَنِي كَعْب بن عجْرَة فَقَالَ: أَلا أهدي لَك هَدِيَّة سَمعتهَا من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَقلت: بلَى، فاهدها لي. قَالَ: سَأَلنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، كَيفَ الصَّلَاة عَلَيْكُم أهل الْبَيْت؟ فَإِن الله قد علمنَا كَيفَ نسلم. قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد ... » فَذكره بِمثلِهِ سَوَاء ثمَّ قَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم ورأيته فِي (النَّسَائِيّ الْكَبِير) كَمَا أوردهُ الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَهَذَا لَفظه عَن كَعْب ابْن عجْرَة قَالَ: «قُلْنَا: يَا رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك قد عَرفْنَاهُ، فَكيف الصَّلَاة عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صليت عَلَى إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد، وَبَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا باركت عَلَى إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد» وَقد رَأَيْت بعض فضلاء الشاميين اعْترض عَلَى المُصَنّف فِي رِوَايَته الحَدِيث كَذَلِك، وَقد زَالَ عَنهُ ذَلِك - بِحَمْد الله ومنِّه.(4/42)
فَائِدَة: قَالَ المستغفري فِي «الدَّعْوَات» : رَوَى جمَاعَة (أَحَادِيث فِي كَيْفيَّة الصَّلَاة عَلَيْهِ) (: كَعْب بن عجْرَة، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَطَلْحَة بن عبيد الله، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأَبُو مَسْعُود (الْأنْصَارِيّ) وَأَبُو حميد السَّاعِدِيّ و (بُرَيْدَة) بن الْحصيب الْأَسْلَمِيّ، والنعمان بن أبي عَيَّاش الزرقي، ورويفع بن ثَابت، وَجَابِر بن عبد الله، وَابْن عَبَّاس ثمَّ سَاق أَحَادِيثهم.
قلت: وَسَهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَزيد بن خَارِجَة رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ. وَعلي رَوَاهُ س وفضالة وَابْن مَسْعُود - كَمَا سلفا - وَعبد الرَّحْمَن بن بشر بن مَسْعُود.
الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَة
عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي آخر التَّشَهُّد: ثمَّ ليتخير من الدُّعَاء أعجبه إِلَيْهِ فيدعو» وَفِي رِوَايَة «فَليدع بعد مَا شَاءَ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي الحَدِيث (الْحَادِي) عشر بعد الْمِائَة فِي الْبَاب.(4/43)
الحَدِيث السَّابِع عشر بعد الْمِائَة
أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «كَانَ من آخر مَا يَقُول (بَين) التَّشَهُّد وَالتَّسْلِيم اللَّهُمَّ اغْفِر لي مَا قدمت، وَمَا أخرت، وَمَا أسررت، وَمَا أعلنت، وَمَا أسرفت، وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني، أَنْت الْمُقدم وَأَنت الْمُؤخر لَا إِلَه إِلَّا أَنْت» . .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم كَذَلِك من رِوَايَة عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَمَا سلف فِي الْبَاب فِي الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين.
الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الْمِائَة
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا فرغ أحدكُم من التَّشَهُّد الآخِر فليتعوذ بِاللَّه من أَربع: من عَذَاب جَهَنَّم، و (من) عَذَاب الْقَبْر، وَمن فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات، وَمن فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم كَذَلِك من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِذا تشهد أحدكُم فليتعوذ بِاللَّه من أَربع يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من عَذَاب جَهَنَّم، وَمن عَذَاب الْقَبْر، وَمن فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات، وَمن شَرّ فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من عَذَاب الْقَبْر وَعَذَاب النَّار وفتنة الْمَسِيح (الدَّجَّال) وفتنة الْمحيا وَالْمَمَات» .(4/44)
(زَاد) النَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي رِوَايَة لَهما بِإِسْنَاد صَحِيح « (ثمَّ) يَدْعُو لنَفسِهِ بِمَا بدا لَهُ» . (وَرَوَاهُ) البُخَارِيّ فِي الْجَنَائِز من «صَحِيحه» بِلَفْظ «كَانَ يَدْعُو بهؤلاء الْكَلِمَات» . وَلم يُقَيِّدهُ بتشهد وَلَا بِغَيْرِهِ، وَفِي «صَحِيح مُسلم» عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يعلمهُمْ هَذَا الدُّعَاء، كَمَا يعلمهُمْ السُّورَة من الْقُرْآن يَقُول: قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذ بك من عَذَاب جَهَنَّم، وَأَعُوذ بك من عَذَاب الْقَبْر، (وَأَعُوذ بك من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال) ، وَأَعُوذ بك من فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات» قَالَ مُسلم: وَبَلغنِي أَن طاوسًا قَالَ لِابْنِهِ: دَعَوْت بهَا فِي صَلَاتك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أعد صَلَاتك.
الحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَة
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَدْعُو فِي آخر (الصَّلَاة) اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من عَذَاب الْقَبْر، وَأَعُوذ بك من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال، وَأَعُوذ بك من فتْنَة الْمحيا وفتنة الْمَمَات، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من المأثم والمغرم» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من حَدِيث عَائِشَة رَضِي(4/45)
الله عَنْهَا بِزِيَادَة: «فَقيل: يَا رَسُول الله، مَا أَكثر مَا تستعيذ من المغرم! فَقَالَ: إِن الرجل إِذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف» .
الحَدِيث الْعشْرُونَ بعد الْمِائَة
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَدْعُو فِي صلَاته فَيَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا وَلَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك، وارحمني إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من رِوَايَة الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَنه قَالَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: عَلمنِي دُعَاء أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتي. فَقَالَ: قل: اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ... » الحَدِيث. (قَوْله) «كثيرا» رُوِيَ بِالْمُثَلثَةِ وبالموحدة، وَالْأول رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَالثَّانِي رِوَايَة بَعضهم قَالَ النَّوَوِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَنْبَغِي أَن يجمع بَينهمَا أَي للِاحْتِيَاط عَلَى التَّعَبُّد بِلَفْظِهِ والمحافظة (عَلَيْهِ) .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين وَالْمِائَة
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وتحليلها التَّسْلِيم» .
هَذَا الحَدِيث تقدم فِي الْبَاب وَهُوَ الحَدِيث الثَّالِث مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين وَالْمِائَة(4/46)
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين وَالْمِائَة
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول: السَّلَام» .
هَذَا صَحِيح، وَهُوَ مستفيض فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة كَمَا سيمر (بك) عَلَى الإثر.(4/47)
الحَدِيث [1] الثَّالِث بعد الْعشْرين وَالْمِائَة
عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم عَن يَمِينه: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، وَعَن يسَاره: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة: د ت س ق، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: (هَذَا) حَدِيث حسن صَحِيح. وَاللَّفْظ الْمَذْكُور هُوَ إِحْدَى رِوَايَات النَّسَائِيّ (وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَفِي رِوَايَة للنسائي) : «كَانَ يسلم عَن يَمِينه: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه الْأَيْمن، وَعَن يسَاره: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه الْأَيْسَر» .(4/47)
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه كَانَ يسلم عَن يَمِينه وَعَن يسَاره: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كَانَ يسلم عَن يَمِينه حَتَّى يَبْدُو بَيَاض خَدّه، وَعَن يسَاره حَتَّى يَبْدُو بَيَاض خَدّه» . وَفِي رِوَايَة لَهُ وللدارقطني: «وَرَأَيْت أَبَا بكر وَعمر يفْعَلَانِ ذَلِك» . وَلَفظ أبي دَاوُد: «كَانَ يسلم عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله، حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله» .
وَلَفظ التِّرْمِذِيّ مثله، إِلَّا أَنه لم يقل: «حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه» . وَلَفظ ابْن مَاجَه: «كَانَ يسلم عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله، حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله» . وَلَفظ ابْن حبَان: «كَانَ يسلم عَن يَمِينه، حَتَّى يَبْدُو بَيَاض خَدّه، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، وَعَن يسَاره مثل ذَلِك» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كَانَ يسلم عَن يَمِينه، وَعَن شِمَاله، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه» .
وأصل حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي أَفْرَاد «صَحِيح مُسلم» : وَهَذَا لَفظه عَن أبي معمر «أَن أَمِيرا (كَانَ) بِمَكَّة يسلم تسليمتين، فَقَالَ عبد الله - يَعْنِي ابْن مَسْعُود -: أَنى (عَلِقَهَا؟) إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَفْعَله» . وأمير(4/48)
مَكَّة هَذَا هُوَ نَافِع بن عبد الْحَارِث.
قَالَ الْعقيلِيّ: والأسانيد صِحَاح ثَابِتَة فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي تسليمتين، وَلَا يَصح فِي تَسْلِيمَة شَيْء.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين (وَالْمِائَة)
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم تَسْلِيمَة وَاحِدَة (تِلْقَاء وَجهه)) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى النَّيْسَابُورِي، نَا عَمْرو بن أبي سَلمَة، عَن زُهَيْر بن مُحَمَّد، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن (أَبِيه، عَن) عَائِشَة: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم فِي الصَّلَاة تَسْلِيمَة وَاحِدَة تِلْقَاء وَجهه، يمِيل إِلَى الشق الْأَيْمن شَيْئا» . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، عَن هِشَام بن عمار، ثَنَا عبد الْملك (بن مُحَمَّد) الصَّنْعَانِيّ، ثَنَا زُهَيْر ... فَذكره إِلَى قَوْله: «تِلْقَاء وَجهه» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من (طرق) ، عَن عَمْرو بن أبي سَلمَة بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ.(4/49)
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. قَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل - يَعْنِي البُخَارِيّ -: زُهَيْر بن مُحَمَّد، أهل الشَّام يروون عَنهُ مَنَاكِير، (وَرِوَايَة) أهل الْعرَاق عَنهُ أشبه. قَالَ: وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: كَأَن زُهَيْر بن مُحَمَّد الَّذِي وَقع عِنْدهم لَيْسَ هُوَ الَّذِي (يرْوَى) عَنهُ بالعراق، كَأَنَّهُ رجل آخر قلبوا اسْمه.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد قَالَ بِهِ (بعض) أهل الْعلم فِي التَّسْلِيم فِي الصَّلَاة. قَالَ: وَأَصَح الرِّوَايَات عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيهِ (تسليمتين) وَعَلِيهِ أَكثر أهل الْعلم. وَقَالَ (الْبَيْهَقِيّ) فِي «سنَنه» : هَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ زُهَيْر بن مُحَمَّد. قَالَ: وَرُوِيَ من وَجه آخر مَوْقُوفا عَلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هَذَا حَدِيث مُنكر، هُوَ مَوْقُوف عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : رفع هَذَا الحَدِيث عبد الْملك بن مُحَمَّد الصَّنْعَانِيّ وَعَمْرو - يَعْنِي: ابْن أبي سَلمَة - وَخَالَفَهُمَا الْوَلِيد بن مُسلم فَوَقفهُ عَلَى عَائِشَة، عَن زُهَيْر. قَالَ الْوَلِيد لزهير: هَل بلغك فِي هَذَا شَيْء عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ فَقَالَ: نعم، أَخْبرنِي يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[كَانَ يسلم تَسْلِيمَة] » . وَصوب(4/50)
الدَّارَقُطْنِيّ رِوَايَة الْوَقْف. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر مِنْهَا: إِنَّه الصَّحِيح، وَوهم رِوَايَة الرّفْع. وَقَالَ الْبَزَّار بعد أَن ذكره مَرْفُوعا: هَذَا رَوَاهُ غير وَاحِد مَوْقُوفا، وَلَا نعلم أسْندهُ إِلَّا عَمْرو عَن زُهَيْر. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لم يرفعهُ غير زُهَيْر، عَن هِشَام بن عُرْوَة؛ وَهُوَ ضَعِيف عِنْد الْجَمِيع كثير الْخَطَأ لَا يحْتَج بِهِ. وَنقل عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» عَن ابْن عبد الْبر أَنه قَالَ: لَا يَصح مَرْفُوعا، وَأقرهُ عَلَى ذَلِك. ورأيته كَذَلِك فِي «تمهيده» ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَأما حَدِيث عَائِشَة «أَنه كَانَ لَا يسلم إِلَّا تَسْلِيمَة وَاحِدَة» فَلم يرفعهُ إِلَّا زُهَيْر بن مُحَمَّد وَحده عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا، رَوَاهُ عَنهُ عَمْرو بن أبي سَلمَة، وَزُهَيْر بن مُحَمَّد ضَعِيف عِنْد الْجَمِيع كثير الْخَطَأ لَا يحْتَج بِهِ. وَذكر ليحيى بن (سعيد) هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: عَمْرو بن أبي سَلمَة وَزُهَيْر ضعيفان لَا حجَّة فيهمَا.
قلت: وَضَعفه أَيْضا من الْمُتَأَخِّرين جماعات. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : هَذَا حَدِيث ضَعِيف. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي «الْمُهَذّب» : هُوَ غير ثَابت عِنْد أهل النَّقْل. وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيّ فِي «شرح السّنة» . قَالَ الْحَافِظ زكي الدَّين الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» هُوَ كَمَا قَالَ الشَّيْخ؛ فَإِن زُهَيْر بن مُحَمَّد ضَعِيف. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» : هَذَا الحَدِيث ضعفه الْجُمْهُور. قَالَ:(4/51)
وَلَيْسَ فِي الِاقْتِصَار عَلَى تَسْلِيمَة وَاحِدَة شَيْء ثَابت. وَقد أسلفت ذَلِك عَن الْعقيلِيّ أَيْضا. وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : أطبق أَصْحَابنَا فِي كتب (الْمَذْهَب) عَلَى تَضْعِيفه.
قلت: وَحَاصِل قَول من ضعفه الطعْن فِي زُهَيْر بن مُحَمَّد، وانفراده بِهِ، وَلَك أَن تَقول: زُهَيْر من رجال الصَّحِيحَيْنِ وَالسّنَن الْأَرْبَعَة. وَقَالَ أَحْمد فِيهِ: إِنَّه مُسْتَقِيم الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: لَا بَأْس بِهِ. وَفِي رِوَايَة عَنهُ: إِنَّه ثِقَة. وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَاخْتلف قَول يَحْيَى بن معِين فِيهِ فَمرَّة قَالَ: لَا بَأْس بِهِ. وَمرَّة قَالَ: ثِقَة. وَمرَّة قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. (وَعند) عَمْرو بن أبي سَلمَة [عَنهُ] مَنَاكِير. وَمرَّة قَالَ: ضَعِيف. وَقَالَ الْعجلِيّ: جَائِز الحَدِيث. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «تَارِيخ نيسابور» بعد أَن نقل الرِّوَايَة الأولَى عَن أَحْمد: قَالَ صَالح بن مُحَمَّد: ثِقَة صَدُوق. وَقَالَ مُوسَى بن هَارُون: أَرْجُو أَنه صَدُوق. وَقَالَ الدَّارمِيّ: ثِقَة (لَهُ أغاليط) كَثِيرَة. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مَحَله الصدْق، وَفِي حفظه سوء، وَحَدِيثه بِالشَّام أنكر من حَدِيثه بالعراق لسوء حفظه، وَمَا حدث من حفظه فَهُوَ أغاليط. قَالَ ابْن عدي: لَعَلَّ أهل الشَّام حَيْثُ رووا(4/52)
عَنهُ أخطئوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ إِذا حدث عَنهُ أهل الْعرَاق، فرواياتهم عَنهُ شَبيهَة بالمستقيمة، وَأَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَقَالَ: إِنَّه يُخطئ وَيُخَالف.
وَإِذا عرفت هَذَا كُله قضيت الْعجب من قَول الْحَافِظ أبي (عمر) بن عبد الْبر: إِنَّه ضَعِيف عِنْد الْجَمِيع، فَهَذِهِ أَقْوَال من وَثَّقَهُ وَضَعفه، وَالْأَكْثَر عَلَى توثيقه. قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : فِي كَلَام أبي عمر حمل عَلَى زُهَيْر وَعَمْرو بن (أبي) سَلمَة، وَذَلِكَ فَوق (مَا يستحقان) ، وَلَيْسَ كَذَلِك عِنْد أهل الْعلم بهما.
قلت: وَأما (دَعْوَى) تفرده (بِهِ) فَلَيْسَ كَذَلِك، فقد تَابعه عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول. رَوَاهُ بَقِي بن مخلد فِي «مُصَنفه» من طَرِيقه، نَا هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (بِهِ) ، وَعَاصِم من رجال الصَّحِيحَيْنِ وَالسّنَن الْأَرْبَعَة. قَالَ الإِمَام أَحْمد فِيهِ: ثِقَة من الْحفاظ.
وَتَابعه أَيْضا زُرَارَة بن أَوْفَى، رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاس السراج فِي «مُسْنده» من طَرِيقه، فَقَالَ: نَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، نَا معَاذ بن هِشَام صَاحب الدستوَائي، حَدثنِي أبي، عَن قَتَادَة، عَن زُرَارَة بن أَوْفَى، عَن سعد(4/53)
بن هِشَام، عَن عَائِشَة قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أوتر أوتر بتسع رَكْعَات، لم يقْعد إِلَّا فِي الثَّامِنَة، فيحمد الله ويذكره ثمَّ يَدْعُو، ثمَّ ينْهض وَلَا يسلم، ثمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَة فيجلس فيذكر الله وَيَدْعُو، ثمَّ يسلم تَسْلِيمَة ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالس. فَلَمَّا كبر وَضعف، أوتر بِسبع رَكْعَات لَا يقْعد إِلَّا فِي السَّادِسَة، ثمَّ ينْهض وَلَا يسلم، فَيصَلي السَّابِعَة ثمَّ يسلم تَسْلِيمَة، ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالس» .
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَمن حق الْحَاكِم استدراكه فِي «مُسْتَدْركه» عَلَيْهِ، وَقد أخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، عَن عبد الله (الأودي) ، نَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم ... فَذكره.
فَظهر بِهَذَا رد قَول الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ زُهَيْر بن مُحَمَّد، وَقَول ابْن عبد الْبر: لم يرفعهُ غير زُهَيْر، عَن هِشَام. وَأما قَول الْحَافِظ أبي بكر الْبَزَّار: لَا نعلم أسْندهُ إِلَّا عَمْرو عَن زُهَيْر. فَلَيْسَ بجيد أَيْضا، فقد أسْندهُ عبد الْملك بن مُحَمَّد الصَّنْعَانِيّ (عَنهُ) ، كَمَا سلف عَن رِوَايَة ابْن مَاجَه وَغَيره و (علل الدَّارَقُطْنِيّ) . وَأما قَول الدَّارَقُطْنِيّ: إِن عَمْرو بن أبي سَلمَة وَعبد الْملك الصَّنْعَانِيّ رَفَعَاهُ، وَخَالَفَهُمَا الْوَلِيد بن مُسلم فَوَقفهُ عَلَى عَائِشَة فَجَوَابه من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه قد توارد عَلَى رَفعه ثَلَاثَة: هَذَانِ الإمامان، وَعَاصِم بن سُلَيْمَان، وتابعهم زُرَارَة بن أَوْفَى، فَيكون الْأَكْثَر عَلَى رَفعه، وَانْفَرَدَ بوقفه الْوَلِيد بن مُسلم.(4/54)
ثَانِيهمَا: أَنه يحمل عَلَى أَن عَائِشَة روته مَرْفُوعا، وأفتت بِهِ فَنقل الْمَجْمُوع عَنْهَا، لَا جرم أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، عَن الْحسن بن سُفْيَان، نَا ابْن أبي السّري، نَا عَمْرو بن أبي سَلمَة، عَن زُهَيْر بن مُحَمَّد، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم تَسْلِيمَة وَاحِدَة عَن يَمِينه، يمِيل بهَا وَجهه إِلَى الْقبْلَة» . واستدركه الْحَاكِم عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، فَرَوَاهُ عَن أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب، نَا أَحْمد بن عِيسَى، نَا عَمْرو بن أبي سَلمَة، نَا زُهَيْر بن مُحَمَّد الْمَكِّيّ، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم فِي الصَّلَاة تَسْلِيمَة وَاحِدَة تِلْقَاء وَجهه، يمِيل إِلَى الشق الْأَيْمن قَلِيلا» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَقد رَوَاهُ وهب بن خَالِد، عَن عبيد الله بن عمر، عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة: «أَنَّهَا كَانَت تسلم تَسْلِيمَة وَاحِدَة تِلْقَاء وَجههَا» . (قَالَ) : وَقد اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى الِاحْتِجَاج بِعَمْرو بن أبي سَلمَة وَزُهَيْر بن مُحَمَّد.
(الحَدِيث) الْخَامِس بعد الْعشْرين وَالْمِائَة
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم عَن يَمِينه: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله حَتَّى (يرَى) بَيَاض خَدّه الْأَيْمن، [وَعَن يسَاره] : السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه الْأَيْسَر» .(4/55)
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) لَهُ طرق كَثِيرَة يحضرنا مِنْهَا أحد عشر طَرِيقا:
أَولهَا: عَن (ابْن) مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم ... » الحَدِيث. بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء. رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (سنَنه) كَمَا سلف قَرِيبا، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بلفظين: أَحدهمَا: مثل هَذَا، إِلَّا أَنه قَالَ فِي كلٍّ: (بَيَاض خَدّه» وَلم يقل «الْأَيْمن» (وَلَا) «الْأَيْسَر» . ثَانِيهمَا: «يسلم عَن يَمِينه وَعَن يسَاره حَتَّى يرَى بَيَاض خديه - أَو خَدّه - وَرَأَيْت أَبَا بكر وَعمر يفْعَلَانِ ذَلِك» . وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَنهُ قَالَ: «مَا نسيت من الْأَشْيَاء فَلم أنس تَسْلِيم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الصَّلَاة عَن يَمِينه وشماله: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله. (ثمَّ قَالَ: كَأَنِّي أنظر إِلَى بَيَاض خديه» .
ثَانِيهَا: عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كنت أرَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يسلم) عَن يَمِينه، وَعَن يسَاره، حَتَّى كنت أرَى بَيَاض خَدّه» .(4/56)
رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ «أَنه كَانَ يسلم (عَن يَمِينه) حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه، وَعَن يسَاره حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه» ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَرَوَاهُ الْبَزَّار كَذَلِك، ثمَّ قَالَ: قد رُوِيَ عَن سعد من غير وَجه.
وَرَوَاهُ ابْن (حبَان) فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسلم عَن يَمِينه، وَعَن يسَاره حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه» . ثمَّ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيّ: لم يسمع هَذَا الْخَبَر من حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد - يَعْنِي أحد رُوَاته -: كل حَدِيث النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سمعته؟ قَالَ: لَا. قَالَ: (فالثلثين؟ قَالَ: لَا قَالَ:) فالنصف؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهُوَ من النّصْف الَّذِي لم تسمع.
ثَالِثهَا: عَن عمار بن يَاسر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله، (يسلم عَن يَمِينه وَعَن يسَاره حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله (السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله) » .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ: «كَانَ إِذا سلم عَن يَمِينه يرَى بَيَاض خَدّه الْأَيْمن، وَإِذا سلم عَن يسَاره يرَى بَيَاض(4/57)
خَدّه الْأَيْمن والأيسر، وَكَانَ يسلم تَسْلِيمَة: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله» .
رَابِعهَا: عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم عَن يَمِينه، وَعَن شِمَاله: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، (السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله) حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه» رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» فَقَالَ: ثَنَا وَكِيع، عَن (حُرَيْث) عَن الشّعبِيّ، عَن الْبَراء (فَذكره) وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الله بن دَاوُد، عَن حُريث، عَن الشّعبِيّ، عَن الْبَراء: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يسلم تسليمتين» .
وحريث هَذَا هُوَ ابْن أبي مطر، واسْمه عَمْرو الْفَزارِيّ أَبُو عَمْرو (الحناط) عَمْرو الْكُوفِي، وَقد تَركه النَّسَائِيّ وَغَيره.
خَامِسهَا: عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم فِي صلَاته عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله حَتَّى يرَى بَيَاض خديه» . رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَفِيه ابْن لَهِيعَة؛ وَقد علمت فِيمَا مَضَى حَاله.
سادسها: عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسلم عَن يَمِينه وَعَن يسَاره حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله» عزاهُ الضياء الْمَقْدِسِي فِي «أَحْكَامه» إِلَى(4/58)
ابْن مَاجَه، وَكَذَا الْحَافِظ جمال الدَّين فِي «أَطْرَافه» إِلَيْهِ، وَأَنه أخرجه فِي الصَّلَاة، وَعَزاهُ أَيْضا إِلَيْهِ شَيخنَا الْحَافِظ فتح الدَّين الْيَعْمرِي، وَلم أره فِيمَا حضرني من نسخه.
سابعها: عَن عدي بن عميرَة قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا سجد يرَى بَيَاض إبطه، ثمَّ إِذا سلم أقبل بِوَجْهِهِ عَن يَمِينه حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه، ثمَّ يسلم عَن يسَاره وَيقبل بِوَجْهِهِ حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه عَن يسَاره» .
رَوَاهُ (أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث الْفضل بن ميسرَة، حَدثنِي أَبُو حريز؛ أَن قيس بن أبي (حَازِم) حَدثهُ، عَن عدي (بِهِ) ، وَأَبُو حريز هَذَا هُوَ عبد الله بن الْحُسَيْن، وَقد اخْتلف فِي ثقته، وَاسْتشْهدَ بِهِ(4/59)
البُخَارِيّ، وَهَذَا الحَدِيث أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وبيض لَهُ شَيخنَا فتح الدَّين الْيَعْمرِي فِي شَرحه وَلم يظفر بِهِ، وَقد تيَسّر بِحَمْد الله وَمِنْه.
ثامنها: عَن طلق بن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسلم عَن يَمِينه وَعَن يسَاره، حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه الْأَيْمن وَبَيَاض خَدّه الْأَيْسَر» . رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ: «كَانَ إِذا سلم فِي الصَّلَاة، رَأينَا بَيَاض خَدّه الْأَيْمن وَبَيَاض خَدّه الْأَيْسَر» .
وَفِي إِسْنَاده: ملازم بن عَمْرو؛ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِيهِ نظر.
تاسعها: عَن وراد كَاتب الْمُغيرَة بن شُعْبَة: «أَن مُعَاوِيَة كتب إِلَى الْمُغيرَة يسْأَله عَن آخر مَا كَانَ يتَكَلَّم (بِهِ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَكتب إِلَيْهِ أَنه كَانَ يَقُول إِذا سلم: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد، وَهُوَ عَلَى كل شَيْء قدير، اللَّهُمَّ لَا مَانع لما أَعْطَيْت، وَلَا معطي لما منعت، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد. بعد أَن يسلم عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله، [وَكَانَ يسلم عَن يَمِينه حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه الْأَيْمن، وَعَن يسَاره] حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه الْأَيْسَر» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن الْحسن بن عَلّي المعمري، عَن مَحْمُود(4/60)
بن خَالِد الدِّمَشْقِي، عَن أَبِيه، عَن عِيسَى بن الْمسيب، عَن (سلم) بن عبد الرَّحْمَن النَّخعِيّ، عَن وراد بِهِ.
عَاشرهَا: عَن الْأَزْرَق بن قيس قَالَ: «صَلَّى بِنَا أَبُو رمثة، فَقَالَ: شهِدت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى، ثمَّ سلم عَن يَمِينه وَعَن يسَاره حَتَّى رَأينَا وضح خديه» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي «أكبر معاجمه» عَن إِبْرَاهِيم بن (متويه) ، عَن (الْيَمَان بن سعيد) ، عَن الْأَشْعَث، عَن الْمنْهَال، عَن الْأَزْرَق بِهِ.
الطَّرِيق الْحَادِي عشر: عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم عَن يَمِينه وَعَن يسَاره، حَتَّى يرَى خداه» .
رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن إِبْرَاهِيم - يَعْنِي ابْن أبي يَحْيَى - عَن إِسْحَاق بن عبد الله، عَن عبد الْوَهَّاب بن بخت، عَن وَاثِلَة بِهِ، وَهُوَ مخرج فِي(4/61)
«مُسْنده» وَإِبْرَاهِيم حَالَته مَعْلُومَة، وَشَيْخه كَأَنَّهُ ابْن أبي فَرْوَة الْمدنِي الْمَتْرُوك، وَشَيْخه، ثِقَة لكنه كثير الْوَهم.
ثمَّ ظَفرت لَهُ بعد بطرِيق آخر وَهُوَ:
الثَّانِي عشر: عَن يَعْقُوب بن الْحصين قَالَ: «كَأَنِّي أنظر إِلَى خدي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الصَّلَاة وَهُوَ يسلم عَن يَمِينه، وَعَن شِمَاله وَهُوَ يجْهر بِالتَّسْلِيمِ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة يَعْقُوب هَذَا، من حَدِيث عبد الْوَهَّاب بن مُجَاهِد، عَن مُجَاهِد عَنهُ بِهِ، وَعبد الْوَهَّاب هَذَا ضَعِيف مَتْرُوك كَمَا سلف (فِي الْبَاب فِي الحَدِيث السَّادِس بعد السِّتين) .
ثمَّ ظَفرت لَهُ بطرِيق آخر وَهُوَ:
الثَّالِث عشر: عَن حجر بن عَنْبَس قَالَ: سَمِعت وَائِل بن حجر يَقُول: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسلم حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه، من ذَا الْجَانِب وَمن ذَا الْجَانِب» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة لَهُ من (طَرِيق) عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَنهُ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يسلم (فِي(4/62)
صلَاته) عَن يَمِينه، وَعَن يسَاره إِذا انْصَرف، حَتَّى أرَى بَيَاض خَدّه من هَاهُنَا وَهَاهُنَا» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا بِدُونِ ذكر (بَيَاض خَدّه» كَمَا ستعلمه عَلَى الإثر.
(و) ظَفرت لَهُ (أَيْضا) بطرِيق آخر وَهُوَ:
الرَّابِع عشر: عَن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم فِي صلَاته عَن يَمِينه و (عَن) يسَاره، حَتَّى يرَى بَيَاض خديه» .
رَوَاهُ أَحْمد عَن يَحْيَى بن إِسْحَاق، نَا ابْن لَهِيعَة، عَن مُحَمَّد بن (عبد الله) بن مَالك، عَن سهل بِهِ.
فَائِدَة: وَقع فِي كتاب «الْمدْخل إِلَى الْمُخْتَصر» لزاهر السَّرخسِيّ، و «نِهَايَة إِمَام الْحَرَمَيْنِ» و «حلية الرَّوْيَانِيّ» زِيَادَة: «وَبَرَكَاته» فِي السَّلَام، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: هَذَا الَّذِي ذكره هَؤُلَاءِ لَا يوثق بِهِ، وَهُوَ شَاذ فِي نقل الْمَذْهَب، و (أما) من حَيْثُ الحَدِيث فَلم أَجِدهُ فِي شَيْء من الْأَحَادِيث، إِلَّا فِي حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من (رِوَايَة) وَائِل بن حجر «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم عَن يَمِينه: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، وَعَن شِمَاله: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله (وَبَرَكَاته) » . قَالَ الشَّيْخ: و (هَذِه) زِيَادَة نَسَبهَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» إِلَى مُوسَى(4/63)
بن قيس الْحَضْرَمِيّ وَعنهُ رَوَاهَا أَبُو دَاوُد.
قلت: ومُوسَى هَذَا وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين وَغَيره، وَيُقَال لَهُ: عُصْفُور الْجنَّة، وَلَعَلَّه لأجل صَلَاحه لَا جرم صحّح النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث فِي «سنَن أبي دَاوُد» إِسْنَاد صَحِيح.
قلت: وَجَاءَت زِيَادَة «وَبَرَكَاته» أَيْضا (فِي) حَدِيث آخر صَحِيح من غير شكّ وَلَا مرية، قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» : أَنا الْفضل بن الْحباب، نَا مُحَمَّد بن كثير، أَنا سُفْيَان، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي الْأَحْوَص، عَن عبد الله «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم عَن يَمِينه، وَعَن يسَاره حَتَّى يرَى بَيَاض خَدّه: (السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله) ، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته» .
وَقَالَ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» : نَا مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، نَا عمر بن عبيد، عَن أبي إِسْحَاق، عَن (أبي) الْأَحْوَص، عَن (عبد الله) «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسلم عَن يَمِينه، وَعَن شِمَاله حَتَّى يرَى بَيَاض(4/64)
خَدّه: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله (وَبَرَكَاته) » .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين وَالْمِائَة
عَن سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نسلم عَلَى أَنْفُسنَا وَأَن (يَنْوِي) بَعْضنَا بَعْضًا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أبي الْجمَاهِر مُحَمَّد بن عُثْمَان، نَا سعيد بن بشير، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن سَمُرَة قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نرد عَلَى الإِمَام، وَأَن نتحاب، وَأَن يسلم بَعْضنَا عَلَى بعض» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن (عَبدة بن عبد الله) ، نَا أَبُو الْقَاسِم، نَا همام، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن سَمُرَة بن جُنْدُب قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نسلم عَلَى (أَئِمَّتنَا) ، وَأَن يسلم بَعْضنَا عَلَى بعض» . قَالَ:(4/65)
ونا هِشَام بن عمار، نَا إِسْمَاعِيل ابْن عَيَّاش، نَا أَبُو بكر الْهُذلِيّ، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن سَمُرَة مَرْفُوعا: «إِذا سلم الإِمَام، فَردُّوا عَلَيْهِ» .
و (سعيد) بن بشير السالف هُوَ النصري - بالنُّون - مولَى (بني) نصر، رَوَى لَهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة وَفِيه مقَال، قَالَ أَبُو مسْهر: لم يكن ببلدنا أحفظ مِنْهُ وَهُوَ ضَعِيف مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَحَله الصدْق. وَقَالَ البُخَارِيّ: يَتَكَلَّمُونَ فِي حفظه. وَقَالَ بَقِيَّة: سَأَلت شُعْبَة (عَنهُ) فَقَالَ: (صَدُوق) اللِّسَان. وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة: نَا سعيد بن بشير وَكَانَ حَافِظًا، وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ توثيقه عَن شُعْبَة ودحيم. وَقَالَ عُثْمَان، عَن ابْن معِين: ضَعِيف. وَقَالَ عَبَّاس (الدوري) عَنهُ: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ الفلاس: نَا عَنهُ ابْن مهْدي ثمَّ تَركه. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَإِنَّمَا تَركه لفحش خطئه ونكارة بعض حَدِيثه. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن نمير: مُنكر الحَدِيث لَيْسَ بِشَيْء، لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث، يروي عَن قَتَادَة الْمُنْكَرَات. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ رَدِيء الْحِفْظ فَاحش الْخَطَأ، يروي عَن قَتَادَة مَا لَا يُتَابع عَلَيْهِ، وَعَن عَمْرو بن دِينَار مَا لَا يعرف من حَدِيثه. وَذكره أَبُو زرْعَة فِي الضُّعَفَاء، وَقَالَ: لَا يحْتَج بِهِ.(4/66)
وَقَالَ ابْن (عدي: لَا أرَى بِمَا يروي بَأْسا، وَلَعَلَّه يهم ويغلط، وَالْغَالِب عَلَيْهِ الصدْق. وَقَالَ) عبد الْحق: لَا يحْتَج بِهِ. فتلخص أَن الْأَكْثَر عَلَى ضعفه، وَلم يعبأ الْحَاكِم بِمَا قيل فِيهِ، بل أخرج الحَدِيث فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من طَرِيق أبي دَاوُد وَلَفظه، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
قَالَ: وَسَعِيد بن بشير إِمَام أهل الشَّام فِي عصره، إِلَّا أَن الشَّيْخَيْنِ لم يخرجَاهُ لما وَصفه أَبُو مسْهر من سوء حفظه. قَالَ: وَمثله لَا (ينزل) بِهَذَا الْمِقْدَار. وَرِوَايَة ابْن مَاجَه الأولَى خَالِيَة من هَذَا، وَقد نبه ابْن الْقطَّان (فِي «علله» ) عَلَى ذَلِك، فَقَالَ: (وَلِهَذَا الحَدِيث إِسْنَاد جيد لَيْسَ فِيهِ من الْبَأْس مَا بِهَذَا) . قَالَ الْبَزَّار: نَا عَمْرو بن عَلّي، نَا عبد الْأَعْلَى بن الْقَاسِم، نَا همام، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، (عَن) سَمُرَة قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نسلم عَلَى أَئِمَّتنَا، وَأَن يسلم بَعْضنَا عَلَى بعض فِي الصَّلَاة» . وَهَذَا (هُوَ) طَرِيق ابْن مَاجَه السالف، وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» بِلَفْظ ابْن مَاجَه: (ثمَّ) قَالَ: قَالَ عبد الله بن سُلَيْمَان: وَتَفْسِير ذَلِك إِذا سلم الإِمَام أَن يَقُول مَنْ خَلفه قبل أَن يسكت: وَعَلَيْكُم وَرَحْمَة الله.(4/67)
وَأما أَبُو حَاتِم (بن حبَان) فَقَالَ فِي كِتَابه «وصف الصَّلَاة بِالسنةِ» بعد أَن أخرجه: أَنا عَائِذ بِاللَّه أَن نحتج فِي شَيْء من كتبنَا بالمقاطيع والمراسيل، وَالْحسن لم يسمع من سَمُرَة شَيْئا، لَكِن ظَاهر الْكتاب يُوجب رد السَّلَام عَلَى الْمُسلم مُطلقًا، سَوَاء كَانَ فِي صَلَاة أم غَيرهَا.
قلت: وَإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه الثَّانِيَة قد علمت مقالات الْحفاظ فِيهِ فِي الحَدِيث السَّابِع من بَاب الْغسْل، وَأَبُو بكر الْهُذلِيّ فِيهَا أَيْضا تَرَكُوهُ وَهُوَ سلْمَى بن عبد الله بن سلْمَى.
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث سُلَيْمَان بن سَمُرَة، عَن سَمُرَة قَالَ: «أما بعد، أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا كَانَ فِي وسط الصَّلَاة أَو حِين انْقِضَائِهَا، فابدءوا قبل التَّسْلِيم وَقُولُوا: التَّحِيَّات لله الطَّيِّبَات والصلوات وَالْملك لله. [ثمَّ سلمُوا عَلَى الْيَمين] ، ثمَّ سلمُوا عَلَى قارئكم وَعَلَى أَنفسكُم» .
وسنتكلم عَلَى إِسْنَاده فِي أثْنَاء زَكَاة التِّجَارَة كَمَا وعدت بِهِ فِي الْبَاب.
فصل: وَأما تَرْجَمَة الْحسن عَن سَمُرَة فللحفاظ فِيهَا (ثَلَاثَة) مَذَاهِب، فلنذكرها (هُنَا) ونحيل بعد (حَيْثُ وَقعت هَذِه التَّرْجَمَة) عَلَيْهَا - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(4/68)
أَحدهَا: أَنه سمع مِنْهُ مُطلقًا قَالَ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه الْكَبِير» : قَالَ لي عَلّي - يَعْنِي ابْن الْمَدِينِيّ - سَماع الْحسن من سَمُرَة صَحِيح وَأخذ بحَديثه: «من قتل عَبده قَتَلْنَاهُ» . وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : احْتج البُخَارِيّ بالْحسنِ عَن سَمُرَة، وَقَالَ فِيهِ فِي كتاب الصَّلَاة: لَا يتَوَهَّم متوهم أَن الْحسن لم يسمع من سَمُرَة، فقد سمع مِنْهُ، وَصحح أَحَادِيثه مِنْهَا حَدِيثه فِي الْبَسْمَلَة الْمَشْهُور (أَنه ضبط عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سكتتين: سكتة إِذا كبر، وسكتة إِذا فرغ من قِرَاءَته عِنْد رُكُوعه» . وَقَالَ فِيهِ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَفِي (الاستذكار) لِابْنِ عبد الْبر: قَالَ التِّرْمِذِيّ: قلت للْبُخَارِيّ فِي قَوْلهم: لم يسمع الْحسن من سَمُرَة إِلَّا حَدِيث الْعَقِيقَة، قَالَ: سمع مِنْهُ أَحَادِيث كَثِيرَة، وَجعل رِوَايَته عَنهُ سَمَاعا وصححها، وَفِيه أَيْضا قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت البُخَارِيّ عَن حَدِيث «من قتل (عَبده) قَتَلْنَاهُ» . فَقَالَ: كَانَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ يَقُول بِهِ، وَأَنا أذهب إِلَيْهِ، وَسَمَاع الْحسن من سَمُرَة عِنْدِي صَحِيح.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي (بَاب) مَا جَاءَ فِي صَلَاة الْوُسْطَى من «جَامعه» : قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: سَماع الْحسن من سَمُرَة صَحِيح.(4/69)
وَكَذَا قَالَ أَيْضا فِي بَاب بيع الْحَيَوَان نَسِيئَة: سَماع الْحسن من سَمُرَة صَحِيح، كَذَا قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ وَغَيره. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» وَقَول عَلّي بن الْمَدِينِيّ: إِن أَحَادِيث سَمُرَة صِحَاح (يَعْنِي) أَنه قد سَمعهَا (مِنْهُ مقدم) عَلَى قَول يَحْيَى بن سعيد: إِن أَحَادِيثه عَنهُ كتاب، وَعَلَى قَول ابْن حبَان: إِنَّه لم يشافه سَمُرَة. قلت: وَصحح التِّرْمِذِيّ حَدِيثه فِي غير مَا مَوضِع: مِنْهَا حَدِيث «نهَى عَن بيع الْحَيَوَان نَسِيئَة» ، وَمِنْهَا حَدِيث « (جَار الدَّار) أَحَق بِالدَّار» ، وَمِنْهَا حَدِيث «الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر» ، وَمِنْهَا حَدِيث «لَا تلاعنوا بلعنة الله، وَلَا بغضب الله» ، وَمِنْهَا حَدِيث «الْحسب [المَال وَالْكَرم(4/70)
التَّقْوَى] ، وَمِنْهَا حَدِيث «عَلَى الْيَد مَا أخذت حَتَّى تُؤدِّي» . عَلَى مَا نَقله الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي (إلمامه) ، وَالَّذِي وجدته فِي نسخه أَنه حسن فَقَط. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب قتل الْحر بِالْعَبدِ: كَانَ شُعْبَة يثبت سَمَاعه مِنْهُ.
الْمَذْهَب الثَّانِي: أَنه لم يسمع مِنْهُ مُطلقًا، قَالَ عُثْمَان بن (سعيد) الدَّارمِيّ: قلت ليحيى بن معِين: الْحسن لَقِي سَمُرَة؟ قَالَ: لَا. وَقَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة: سَمِعت يَحْيَى بن معِين يَقُول: لم يسمع الْحسن من سَمُرَة. وَقَالَ الْغلابِي: نَا يَحْيَى بن معِين، عَن أبي النَّضر، عَن شُعْبَة قَالَ: لم يسمع الْحسن من سَمُرَة، وَقد تكلم بَعضهم مَعَ يَحْيَى بن معِين فِي(4/71)
هَذَا، فَأنْكر يَحْيَى سَمَاعه فاحتج عَلَيْهِ بقول ابْن سِيرِين: سُئِلَ الْحسن مِمَّن سمع حَدِيث الْعَقِيقَة؟ فَقَالَ: من سَمُرَة. فَلم يكن عِنْد يَحْيَى جَوَاب! وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان: أَحَادِيث سَمُرَة الَّتِي يَرْوِيهَا الْحسن سمعنَا أَنَّهَا كتاب. وَقَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» و «وصف الصَّلَاة بِالسنةِ» : الْحسن لم يسمع من سَمُرَة شَيْئا. وَقَالَ البرديجي الْحَافِظ: قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن سَمُرَة لَيست بصحاح؛ لِأَنَّهُ من كتاب وَلَا يُحفظ عَن الْحسن، عَن سَمُرَة حَدِيث يَقُول فِيهِ: سَمِعت سَمُرَة إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا وَهُوَ حَدِيث الْعَقِيقَة، وَلَا يثبت، رَوَاهُ قُرَيْش بن أنس، عَن أَشْعَث، عَن الْحسن، عَن سَمُرَة، وَلم يروه غَيره وَهُوَ وهم. كَذَا قَالَ، وَقَوله: عَن أَشْعَث وهم (فقد قَالَ) أَبُو يعْلى: ثَنَا أَبُو مُوسَى، حَدثنِي قُرَيْش بن أنس، عَن حبيب بن الشَّهِيد، عَن مُحَمَّد (بن) سِيرِين، عَن الْحسن فَذكره، وَقَالَ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» : نَا عبد الله بن أبي الْأسود، نَا قُرَيْش بن أنس، عَن حبيب بن الشَّهِيد قَالَ: أَمرنِي ابْن سِيرِين أَن أسأَل الْحسن مِمَّن سمع حَدِيث الْعَقِيقَة؟ قَالَ: من سَمُرَة.
قَالَ البرديجي: وَالَّذِي صَحَّ لِلْحسنِ سَمَاعا من الصَّحَابَة أنس وَعبد(4/72)
الله بن مُغفل وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة وأحمر بن جُزْء. فعلَى هَذَا الْمَذْهَب يكون حَدِيثه عَن سَمُرَة مُرْسلا، وَرَوَى أَبُو إِسْحَاق الصريفيني، عَن ابْن عون قَالَ: دخلت عَلَى الْحسن فَإِذا بِيَدِهِ صحيفَة فَقلت: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هَذِه صحيفَة كتبهَا سَمُرَة لِابْنِهِ. قَالَ: فَقلت: سمعته من (سَمُرَة قَالَ: لَا، فَقلت: سمعته من) ابْنه؟ فَقَالَ: لَا. وَأما أَبُو مُحَمَّد بن حزم فاضطرب قَوْله فِيهِ فِي «محلاه» فَقَالَ فِي الْعَارِية: لم يسمع الْحسن من سَمُرَة، وَقَالَ فِي الشُّفْعَة: لم يسمع مِنْهُ إِلَّا حَدِيث الْعَقِيقَة وَحده.
الْمَذْهَب الثَّالِث: أَنه لم يسمع مِنْهُ إِلَّا حَدِيث الْعَقِيقَة، وَقد أسلفنا ذَلِك من طَرِيق البُخَارِيّ وَغَيره، وأخرجها أَيْضا أَحْمد فِي «علله» ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: الْحسن عَن سَمُرَة كتاب، وَلم يسمع (الْحسن) مِنْهُ إِلَّا حَدِيث الْعَقِيقَة. وَقَالَ عبد الْغَنِيّ بن سعيد الْمصْرِيّ: لَا يَصح الْحسن عَن سَمُرَة إِلَّا حَدِيث وَاحِد، وَهُوَ حَدِيث تفرد بِهِ قُرَيْش بن أنس، عَن حبيب، وَقد دفع قوم آخَرُونَ قَول قُرَيْش وَقَالُوا: مَا يَصح لَهُ سَماع. وَقَالَ ابْن عَسَاكِر الْحَافِظ فِي «أَطْرَافه» : حَدِيثه عَنهُ كتاب إِلَّا حَدِيث الْعَقِيقَة. وَفِي مُسْند أَحْمد بن حَنْبَل: ثَنَا هشيم، نَا حميد الطَّوِيل قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى الْحسن الْبَصْرِيّ فَقَالَ: إِن عبدا لَهُ أبق وَإنَّهُ نذر إِن قدر عَلَيْهِ أَن يقطع يَده، فَقَالَ الْحسن: نَا سَمُرَة قَالَ: (قَلما خطب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(4/73)
خطْبَة إِلَّا أَمر فِيهَا بِالصَّدَقَةِ، وَنَهَى عَن الْمثلَة» . وَهَذَا يَقْتَضِي (أَن يكون) سمع مِنْهُ غير حَدِيث الْعَقِيقَة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : كَانَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ يثبت سَمَاعه مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي عهد عُثْمَان ابْن أَربع عشرَة سنة وَأشهر. وَمَات سَمُرَة فِي عهد زِيَاد، وَقَالَ: وَلم يخرج البُخَارِيّ وَمُسلم عَن الْحسن عَن سَمُرَة إِلَّا حَدِيث الْعَقِيقَة، فَإِنَّهُ بيَّن فِيهِ سَمَاعه من سَمُرَة.
قلت: لم يُخرجهُ مُسلم أصلا، وخرجه البُخَارِيّ بِدُونِ ذكر لَفظه كَمَا قَدمته، وَقَالَ فِي «سنَنه» فِي بَاب مَا رُوِيَ من قتل عَبده أَو مثل بِهِ: أَكثر أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ رَغِبُوا عَن رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة، وَقَالَ فِي بَاب النَّهْي عَن بيع الْحَيَوَان (بِالْحَيَوَانِ) نَسِيئَة: أَكثر الْحفاظ لَا يثبتون سَماع الْحسن من سَمُرَة فِي غير حَدِيث الْعَقِيقَة. وَقَالَ عبد الْحق أَيْضا فِي «أَحْكَامه» : إِن هَذَا الْمَذْهَب هُوَ الصَّحِيح، وَعبارَة ابْن الطلاع فِي «أَحْكَامه» فِي هَذِه التَّرْجَمَة: الْحسن عَن سَمُرَة لَيْسَ بِحجَّة (وَمرَاده) مَا ذكرنَا من التَّوَقُّف فِي سَمَاعه مِنْهُ لَيْسَ إِلَّا.
وَذكر النَّوَوِيّ فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» فِي الْجِنَايَات فِي كَلَامه عَلَى حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة: من قتل عَبده قَتَلْنَاهُ: أَن أَصْحَابنَا أجابوا(4/74)
(عَنهُ) بأجوبة مِنْهَا: أَنه مُرْسل؛ لِأَن الْحسن لم يسمع من سَمُرَة إِلَّا ثَلَاثَة أَحَادِيث لَيْسَ هَذَا مِنْهَا.
قلت: فَهَذَا مَذْهَب رَابِع، وَالله أعلم بِهِ.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين وَالْمِائَة
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي (قبل) الظّهْر أَرْبعا، [وَبعدهَا أَرْبعا] ، وَقبل الْعَصْر أَرْبعا، يفصل بَين كل رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَة المقربين، والنبيين، وَمن تَبِعَهُمْ من الْمُؤمنِينَ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» فِي موضِعين مِنْهُ، وَهَذَا لَفظه فِي أَولهمَا: عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي قبل الْعَصْر أَربع رَكْعَات، يفصل بَينهُنَّ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَة المقربين، وَمن تَبِعَهُمْ من الْمُسلمين وَالْمُؤمنِينَ» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْند» كَذَلِك. وَلَفظه فِي الثَّانِي: عَن عَاصِم قَالَ: «سَأَلنَا عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من النَّهَار. فَقَالَ: إِنَّكُم لَا تطيقون ذَلِك. فَقُلْنَا: من أطَاق ذَلِك منا؟ فَقَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا كَانَت الشَّمْس من هَاهُنَا كهيئتها (من هَاهُنَا) عِنْد (الْعَصْر صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَإِذا كَانَت الشَّمْس من(4/75)
هَاهُنَا كهيئتها من هَاهُنَا عِنْد) الظّهْر صَلَّى أَرْبعا وَصَلى قبل الظّهْر أَرْبعا وَبعدهَا رَكْعَتَيْنِ، وَقبل الْعَصْر أَرْبعا، يفصل بَين كل رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَة المقربين، والنبيين [وَالْمُرْسلِينَ] ، وَمن تَبِعَهُمْ من الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» بِنَحْوِ هَذَا اللَّفْظ، وَكَذَا أَحْمد فِي «مُسْنده» ، قَالَ التِّرْمِذِيّ فيهمَا: هَذَا حَدِيث حسن. قلت: وَبَعْضهمْ يُصَحِّحهُ، قَالَ: وَقَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم: أحسن شَيْء رُوِيَ فِي تطوع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالنَّهَارِ هَذَا.
وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من طرق، وَقَالَ: لَا نعلم رُوِيَ مَرْفُوعا إِلَّا عَن عَلّي من حَدِيث عَاصِم عَنهُ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ عَن ابْن الْمُبَارك أَنه كَانَ يضعف هَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا (ضعفه) عندنَا - وَالله أعلم - لِأَنَّهُ (لَا) يرْوَى مثل هَذَا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا من هَذَا الْوَجْه عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي، وَعَاصِم ثِقَة عِنْد بعض أهل الحَدِيث.
قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: قَالَ يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان: قَالَ (سُفْيَان) : كُنَّا نَعْرِف فضل حَدِيث عَاصِم بن ضَمرَة عَلَى حَدِيث الْحَارِث.(4/76)
قلت: وَأخرج لَهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين وَعلي بن الْمَدِينِيّ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن عدي: (تفرد) بِأَحَادِيث بَاطِلَة عَن عَلّي لَا يُتَابِعه الثِّقَات عَلَيْهَا، والبليّة مِنْهُ. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ رَدِيء الْحِفْظ فَاحش الْخَطَأ يرفع عَن عَلّي قَوْله كثيرا، فَلَمَّا (فحش) ذَلِك مِنْهُ اسْتحق التّرْك.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين وَالْمِائَة
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا، فليصلها إِذا ذكرهَا» .
هَذَا الحَدِيث تقدم (الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب التَّيَمُّم، فَليُرَاجع مِنْهُ) .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين وَالْمِائَة
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَاتَتْهُ أَربع صلوَات يَوْم الخَنْدَق، فقضاهن عَلَى التَّرْتِيب» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب الْأَذَان.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ بعد الْمِائَة
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا نسي أحدكُم صَلَاة فَذكرهَا وَهُوَ فِي صَلَاة(4/77)
مَكْتُوبَة فليبدأ (بِالَّتِي) هُوَ فِيهَا، فَإِذا فرغ مِنْهَا صَلَّى الَّتِي نسي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من رِوَايَة بَقِيَّة (عَن) [عمر بن أبي عمر] ، عَن مَكْحُول، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِهِ.
قَالَ ابْن عدي: عمر بن أبي [عمر] مَجْهُول لَا أعلم يروي عَنهُ غير بَقِيَّة.
قلت: وَقد قدمنَا أَقْوَال الْأَئِمَّة فِي بَقِيَّة فِي بَاب النَّجَاسَات، وَأَن من جملَة مَا عيب بِهِ التَّدْلِيس وَقد عنعن هُنَا، والمدلس إِذا عنعن لَا يحْتَج بِهِ؛ فَالْحَدِيث ضَعِيف من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: هَذَا الحَدِيث جمع ضعفا وانقطاعًا. وَلَعَلَّه أَرَادَ بالانقطاع رِوَايَة مَكْحُول عَن ابْن عَبَّاس؛ فَإِن أَبَا حَاتِم قَالَ: سَأَلت أَبَا مسْهر هَل سمع مَكْحُول من(4/78)
أحد من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: مَا صَحَّ (عندنَا) إِلَّا أنس بن مَالك.
قلت: وَهَذَا الحَدِيث لَهُ معَارض أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من نسي صَلَاة فَلم يذكرهَا إِلَّا وَهُوَ مَعَ الإِمَام، (فَإِذا فرغ من صلَاته فليعد الصَّلَاة الَّتِي نسي، ثمَّ يُعِيد الصَّلَاة الَّتِي صلاهَا مَعَ الإِمَام) » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» وَأَبُو يعْلى فِي «مُسْنده» لَكِن ضعفه مُوسَى بن هَارُون الْحمال - بِالْحَاء - الْحَافِظ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ أَبُو إِبْرَاهِيم الترجماني مَرْفُوعا وَالصَّحِيح أَنه موقوفٌ، (وَكَذَا) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» ، وَقَبله أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ: قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أَبَا زرْعَة عَنهُ مَرْفُوعا فَقَالَ: هَذَا خطأ، وَرَوَاهُ مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَوْقُوفا وَهُوَ الصَّحِيح. قَالَ: وأخبرت أَن يَحْيَى بن معِين انتخب عَلَى إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، فَلَمَّا بلغ هَذَا الحَدِيث جاوزه فَقيل لَهُ: كَيفَ لَا تكْتب هَذَا الحَدِيث؟ فَقَالَ يَحْيَى: فعل الله بِي إِن كتبته.
وَظَاهر كَلَام الضياء فِي «أَحْكَامه» تَصْحِيحه، فَإِنَّهُ قَالَ: قيل: تفرد بِهَذَا الحَدِيث سعيد بن عبد الرَّحْمَن الجُمَحِي قَالَ: وَسَعِيد رَوَى عَنهُ(4/79)
مُسلم، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَتكلم فِيهِ ابْن حبَان قَالَ: وَلَا يلْتَفت إِلَى كَلَام ابْن حبَان مَعَ تَعْدِيل من هُوَ أعلم مِنْهُ وَأثبت.
قلت: وَلَك أَن تجيب عَمَّا ذكره الْبَيْهَقِيّ أَيْضا بِأَن الترجماني خرج لَهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَقَالَ أَحْمد وَابْن معِين وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. فَيَنْبَغِي أَن تقبل رِوَايَة الرّفْع مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة من ثِقَة.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه.
وَأما آثاره فخمسة.
أَولهَا: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه فسر قَوْله تَعَالَى: (فصل لِرَبِّك وانحر) بِوَضْع الْيَمين (عَلَى) الشمَال تَحت النَّحْر» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث وَكِيع، ثَنَا يزِيد بن زِيَاد بن أبي الْجَعْد، عَن عَاصِم الجحدري، عَن عقبَة بن ظهير، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (فصل لِرَبِّك وانحر) قَالَ: وضع الْيَمين عَلَى الشمَال فِي الصَّلَاة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث روح بن الْمسيب، حَدثنِي عَمْرو(4/80)
بن مَالك النكري، عَن أبي الجوزاء، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «فصل لِرَبِّك وانحر) (قَالَ) : وضع الْيَمين عَلَى الشمَال فِي الصَّلَاة عِنْد النَّحْر» .
وروح هَذَا قَالَ يَحْيَى بن معِين: صُوَيْلِح. وَقَالَ الرَّازِيّ: صَالح لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن عدي: رَوَى عَن ثَابت الْبنانِيّ وَيزِيد الرقاشِي، أَحَادِيثه غير (مَحْفُوظَة) . وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَن الثِّقَات، لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ.
وَعَمْرو النكري قَالَ ابْن عدي: مُنكر (الحَدِيث) عَن الثِّقَات،(4/81)
وَيسْرق الحَدِيث، ضعفه أَبُو يعْلى الْموصِلِي؛ كَذَا فِي كتاب (ابْن) الْجَوْزِيّ، وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي» ، وَقَالَ فِي (الْمِيزَان) : إِنَّه ثِقَة. وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ. قَالَ الرَّافِعِيّ: وُيْرَوى أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كَذَلِك فسره لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قلت: رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» فِي تَفْسِير سُورَة الْكَوْثَر، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي الْبَاب من حَدِيث وهب بن أبي مَرْحُوم، حَدثنَا إِسْرَائِيل بن حَاتِم، عَن مقَاتل بن حَيَّان، عَن الْأَصْبَغ بن نباتة، عَن عَلّي بن أبي طَالب قَالَ: «لما نزلت هَذِه الْآيَة عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر * فصل لِرَبِّك وانحر) قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لجبريل عَلَيْهِ السَّلَام: (مَا) هَذِه النحيرة الَّتِي أَمرنِي بهَا رَبِّي؟ قَالَ: إِنَّهَا لَيست بنحيرة، وَلكنه يَأْمُرك إِذا تحرمت(4/82)
للصَّلَاة أَن ترفع يَديك إِذا كَبرت، وَإِذا ركعت، وَإِذا رفعت رَأسك من الرُّكُوع؛ فَإِنَّهَا صَلَاتنَا وَصَلَاة الْمَلَائِكَة الَّذين فِي السَّمَاوَات السَّبع. قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: رفع الْأَيْدِي من الاستكانة الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى: (فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ» ) .
قَالَ الْحَاكِم: اخْتلف الصَّحَابَة فِي تَأْوِيل الْآيَة، وأحسنها مَا رُوِيَ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي رِوَايَتَيْنِ: الأولَى مِنْهُمَا هَذِه، وَالثَّانيَِة: رِوَايَة عقبَة بن صهْبَان عَنهُ أَنه قَالَ فِيهَا: «هُوَ وضع يَمِينك عَلَى شمالك فِي الصَّلَاة» . رَوَاهَا من حَدِيث مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، (عَن حَمَّاد بن سَلمَة) ، عَن عَاصِم الجحدري، عَن عقبَة بِهِ.
قلت: قد علم أَن إِسْرَائِيل صَاحب عجائب لَا يعْتَمد عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان: إِسْرَائِيل يروي عَن مقَاتل الموضوعات والأوابد والطامات، من ذَلِك مَا يرويهِ عمر بن صبح، عَن مقَاتل، فظفر بِهِ إِسْرَائِيل فَرَوَاهُ عَن مقَاتل، عَن الْأَصْبَغ بن نباتة، عَن عَلّي فَذكر الحَدِيث الْمَذْكُور.
قلت: وَأصبغ بن نباتة أَيْضا شيعي مَتْرُوك عِنْد النَّسَائِيّ (وَابْن حبَان) وَقَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش: كَذَّاب. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «التَّذْكِرَة» : الآفة فِيهِ من إِسْرَائِيل، وَإِن كَانَ من رَوَى عَنهُ إِلَى عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لَا(4/83)
تقوم بِهِ حجَّة. لَا جرم قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد رَوَى هَذَا والاعتماد عَلَى مَا مَضَى - يَعْنِي: الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي وضع الْيَد الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى - وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : رُوِيَ هَذَا الحَدِيث (من) حَدِيث عقبَة بن ظهير، عَن عَلّي، وَمن حَدِيث عقبَة بن صهْبَان، عَن عَلّي. (وَالثَّانِي هُوَ الصَّوَاب) .
الْأَثر الثَّانِي: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه لما وَقع المَاء فِي عينه قَالَ لَهُ الْأَطِبَّاء: إِن مكثت سبعا لَا تصلي إِلَّا مُسْتَلْقِيا عالجناك. فَسَأَلَ عَائِشَة وَأم سَلمَة وَأَبا هُرَيْرَة وَغَيرهم من الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم فَلم (يرخصوا) لَهُ فِي ذَلِك، فَترك (المعالجة) وكف بَصَره» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة ابْن عَبَّاس (بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث الْمسيب بن رَافع قَالَ: «لما كف بصر ابْن عَبَّاس) ، أَتَاهُ رجل فَقَالَ لَهُ: إِنَّك إِن صبرت لي سبعا لم تصل إِلَّا مُسْتَلْقِيا تومئ إِيمَاء، داويتك فبرأت - إِن شَاءَ الله - فَأرْسل إِلَى عَائِشَة (وَأبي هُرَيْرَة) وَغَيرهمَا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[كل] يَقُول:(4/84)
أَرَأَيْت إِن مت فِي هَذَا السَّبع كَيفَ تصنع بِالصَّلَاةِ؟ ! قَالَ: فَترك عينه وَلم [يداوها] » .
وَذكره ابْن الْمُنْذر بِغَيْر إِسْنَاد فِي «إشراقه» ، فَقَالَ: «أَرَادَ ابْن عَبَّاس معالجة عَيْنَيْهِ، فَأرْسل إِلَى عَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة وَغَيرهمَا من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَكلهمْ قَالَ: أَرَأَيْت إِن مت فِي السَّبع كَيفَ تصنع بِالصَّلَاةِ؟ ! فَترك معالجة عينه» .
وَأسْندَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الله بن الْوَلِيد - هُوَ الْعَدنِي - نَا سُفْيَان، عَن جَابر، عَن أبي الضُّحَى؛ أَن عبد الْملك أَو غَيره بعث إِلَى ابْن عَبَّاس بالأطباء عَلَى الْبرد - وَقد وَقع المَاء فِي عَيْنَيْهِ - فَقَالُوا: تصلي سَبْعَة أَيَّام مُسْتَلْقِيا عَلَى (قفاك) ، فَسَأَلَ عَائِشَة وَأم سَلمَة عَن ذَلِك فنهتاه» .
والعدني مُتَكَلم فِيهِ، قَالَ أَحْمد: حَدِيثه صَحِيح، وَلم يكن صَاحب حَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحْتَج بِهِ. وَجَابِر لَعَلَّه الْجعْفِيّ وَقد (علمت) حَاله فِي الْأَذَان.
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن مهْدي، عَن سُفْيَان، عَن جَابر، عَن أبي الضُّحَى «أَن ابْن عَبَّاس وَقع فِي عَيْنَيْهِ المَاء فَقيل: (أتستلقي) سبعا(4/85)
وَلَا تصلي إِلَّا مُسْتَلْقِيا؟ فَبعث (إِلَى) عَائِشَة وَأم سَلمَة فَسَأَلَهُمَا فنهتاه» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (بِإِسْنَاد صَحِيح) من رِوَايَة عَمْرو بن دِينَار قَالَ: «لما وَقع فِي عين ابْن عَبَّاس المَاء أَرَادَ أَن يعالج عينه، فَقَالَ: تمكث كَذَا وَكَذَا يَوْمًا لَا تصلي إِلَّا مُضْطَجعا. فكرهه» . وَفِي رِوَايَة قَالَ ابْن عَبَّاس: «أَرَأَيْت إِن كَانَ الْأَجَل قبل ذَلِك؟ !» .
تَنْبِيهَانِ:
الأول: اعْترض ابْن الصّلاح عَلَى الْغَزالِيّ حَيْثُ قَالَ فِي «وسيطه» : «إِن ابْن عَبَّاس استفتى عَائِشَة وَأَبا هُرَيْرَة فَلم يرخصا لَهُ» فَقَالَ: هَذَا لَا يَصح هَكَذَا، وَإِنَّمَا الثَّابِت فِي ذَلِك مَا روينَا «أَنه نزل فِي عَيْنَيْهِ المَاء فَقيل لَهُ: تستلقي سَبْعَة أَيَّام لَا تصلي إِلَّا مُسْتَلْقِيا، فكره هُوَ ذَلِك» . وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» و «الْخُلَاصَة» : مَا حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» من أَنه استفتى أَبَا هُرَيْرَة لَا يَصح، وَأَنه بَاطِل لَا أصل لَهُ. وَقَالَ فِي «التَّنْقِيح» : هَذَا ضَعِيف لَا أصل لَهُ (قَالَ) : وَقد رُوِيَ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَمْرو بن دِينَار فَذكره كَمَا أسلفناه، هَذَا كَلَامهمَا، وَقد علمت أَن استفتاءه أَبَا هُرَيْرَة وَعَائِشَة لَهُ أصل جيد فاستفد ذَلِك.(4/86)
الثَّانِي: كَانَ بعض شُيُوخنَا يسْتَشْكل ذكر عبد الْملك فِي الْأَثر السالف عَن رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ وَيَقُول: إِن فِيهِ نظرا؛ لِأَنَّهُ ولي الْخلَافَة سنة خمس وَسِتِّينَ، وَكَانَت وَفَاة عَائِشَة وَأم سَلمَة قبل ذَلِك (بسنين) ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يحمل عَلَى أَن عبد الْملك أرسل البُرُد إِلَيْهِ قبل خِلَافَته. قَالَ: وَفِيه بُعْد؛ إِذْ لَا نعلم لعبد الْملك فِي زمن عَائِشَة وَأم سَلمَة ولَايَة تَقْتَضِي إرسالهم عَلَى الْبرد، وَهَذَا الْإِشْكَال مَسْبُوق بِهِ.
قَالَ ابْن [معن] فِي «تنقيبه» : بعث عبد الْملك - إِن كَانَ هُوَ ابْن مَرْوَان - الْأَطِبَّاء إِلَى ابْن عَبَّاس فِيهِ بعد؛ لِأَن ابْن عَبَّاس توفّي قبله بثماني عشرَة سنة؛ لِأَن ابْن عَبَّاس توفّي بِالطَّائِف سنة ثَمَان وَسِتِّينَ، وَعبد الْملك توفّي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ. قَالَ: فَلَعَلَّهُ حمل الْأَطِبَّاء إِلَيْهِ أول مَا كَانَ مُخَاطبا بالخلافة بِالشَّام قبل الْإِجْمَاع عَلَى خِلَافَته. وَقَالَ ابْن الصّلاح: الْمَذْكُور فِي «الْمُهَذّب» أَن عبد الْملك بن مَرْوَان حمل لَهُ الْأَطِبَّاء عَلَى الْبرد، فَذكرُوا ذَلِك لَهُ فاستفتى عَائِشَة وَأم سَلمَة فنهتاه - لَا يَصح؛ لِأَن عبد الْملك إِنَّمَا (ولي) الْخلَافَة بعد مَوْتهمَا وَمَوْت أبي هُرَيْرَة بسنين عدَّة.
وَأجَاب عَنهُ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» فَقَالَ: هَذَا الْمَذْكُور من استفتاء عَائِشَة وَأم سَلمَة أنكرهُ بعض الْعلمَاء وَقَالَ: إِنَّه بَاطِل من حَيْثُ إنَّهُمَا توفيتا قبل خلَافَة عبد الْملك بأزمان، وَهَذَا الْإِنْكَار بَاطِل؛ فَإِنَّهُ لَا يلْزم من بَعثه أَن يَبْعَثهُ فِي زمن خِلَافَته؛ بل يبْعَث فِي خلَافَة مُعَاوِيَة وزمن(4/87)
عَائِشَة وَأم سَلمَة، وَلَا (يستكثر) بعث الْبرد من مثل عبد الْملك؛ فَإِنَّهُ (كَانَ) [قبل] خِلَافَته من رُؤَسَاء بني أُميَّة وأشرافهم وَأهل الوجاهة والتمكن وَبسط الدُّنْيَا، فَبعث الْبرد لَيْسَ يصعب عَلَيْهِ وَلَا عَلَى من دونه بدرجات.
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي «الشَّرْح الصَّغِير» : وَهَذِه الْمُرَاجَعَة من ابْن عَبَّاس كَأَنَّهَا جرت عَلَى سَبِيل الْمُشَاورَة والاستظهار، وَإِلَّا فالمجتهد لَا يُقَلّد مُجْتَهدا آخر.
الْأَثر الثَّالِث: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه نسي الْقِرَاءَة فِي صَلَاة الْمغرب، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: كَيفَ كَانَ الرُّكُوع وَالسُّجُود؟ قَالُوا: حسنا. قَالَ: فَلَا بَأْس» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن مَالك، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن «أَن عمر بن الْخطاب صَلَّى بِالنَّاسِ الْمغرب، فَلم يقْرَأ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرف قيل لَهُ: مَا قَرَأت؟ قَالَ: كَيفَ كَانَ الرُّكُوع وَالسُّجُود؟ قَالُوا: حسنا. قَالَ: فَلَا بَأْس» .
وَهَذَا مُنْقَطع، أَبُو سَلمَة لم يدْرك عمر، (قَالَه) النَّوَوِيّ، وَسَبقه(4/88)
إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: ضعفه الشَّافِعِي مَعَ إرْسَاله. وَقَالَ صَاحب «الاستذكار» : حَدِيث مُنكر لَيْسَ (عِنْد) يَحْيَى وَطَائِفَة مَعَه؛ لِأَنَّهُ رَمَاه مَالك (من كِتَابه) بِأخرَة، وَلَيْسَ عَلَيْهِ (الْعَمَل) ، وَالصَّحِيح عَن عمر أَنه أعَاد الصَّلَاة. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيقين موصولين، عَن عمر أَعنِي (أَنه) أعَاد الْمغرب ثمَّ قَالَ: وَهَذِه (الرِّوَايَة) : مَوْصُولَة وَهِي مُوَافقَة للسّنة فِي وجوب الْقِرَاءَة. (وَرَوَى) ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» مثل رِوَايَة الشَّافِعِي السالفة من طَرِيق آخر وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث بَاطِل فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن مهَاجر. قَالَ ابْن حبَان: كَانَ وضاعًا، وَرَوَى أَشهب عَن مَالك أَنه سُئِلَ عَن الَّذِي نسي الْقِرَاءَة؛ أيعجبك مَا قَالَ عمر؟ فَقَالَ: أَنا أنكر أَن يكون عمر فعله وَأنكر الحَدِيث، وَقَالَ: يرَى النَّاس عمر يصنع هَذَا فِي الْمغرب وَلَا يسبحون بِهِ، أرَى أَن يُعِيد الصَّلَاة من فعل هَذَا! .(4/89)
الْأَثر الرَّابِع: عَن عَطاء قَالَ: «كنت أسمع (الْأَئِمَّة) - وَذكر (ابْن الزبير) وَمن بعده - يَقُولُونَ: آمين، وَيَقُول من خَلفهم: آمين حَتَّى إِن لِلْمَسْجِدِ (للجة) » .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» وَهُوَ مخرج فِي «الْمسند» أَيْضا عَن مُسلم بن خَالِد، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء قَالَ: «كنت أسمع الْأَئِمَّة ابْن الزبير وَمن بعده يَقُولُونَ: آمين، وَمن خَلفهم: آمين حَتَّى إِن لِلْمَسْجِدِ للجة» . وَذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» تَعْلِيقا قَالَ: قَالَ عَطاء: «أمَّنَ ابْن الزبير وَمن وَرَاءه حَتَّى إِن لِلْمَسْجِدِ للجة» وَهَذَا تَعْلِيق (وَهُوَ) بِصِيغَة جزم فَيكون صَحِيحا.
وَأنكر شَيخنَا فتح الدَّين الْيَعْمرِي عَلَى (بعض الْفُضَلَاء - وعنى بِهِ) النَّوَوِيّ - حَيْثُ قَالَ: إِن مثل هَذَا التَّعْلِيق من البُخَارِيّ يَقْتَضِي الصِّحَّة، وَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ بِشَيْء. وَلم يظْهر لي وَجه ذَلِك؛ فَإِن هَذَا مُقَرر(4/90)
فِي عُلُوم الحَدِيث كَمَا ذكره النَّوَوِيّ.
فَائِدَة: للجة - بِفَتْح اللامين وَتَشْديد الْجِيم -: اخْتِلَاط الْأَصْوَات، وَقَوله: (لِلْمَسْجِدِ) أَي: لأَهله.
الْأَثر الْخَامِس: قَالَ الرَّافِعِيّ: رُوِيَ الرّفْع فِي الْقُنُوت عَن ابْن مَسْعُود وَعمر، وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَاهُ عَنْهُمَا ابْن الْمُنْذر وَالْبَيْهَقِيّ، زَاد الأول: وَابْن عَبَّاس، وَزَاد الثَّانِي: أَبَا هُرَيْرَة. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ أَيْضا عَن عُثْمَان. قلت: تبع فِيهِ صَاحب «التَّتِمَّة» وَهُوَ غَرِيب، بل اخْتلف عَنهُ فِي أصل الْقُنُوت، فَفِي الْبَيْهَقِيّ: يقنت، وَفِي ابْن حبَان: لَا.
خاتمتان أختم بهما الْبَاب، ختم الله لي ولمطالعهما بِالْحُسْنَى:
الأولَى: نقل الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَنه قَالَ فِي «نهايته» : فِي قلبِي من الطُّمَأْنِينَة فِي الِاعْتِدَال شَيْء؛ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث الْمُسِيء صلَاته ذكرهَا فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَلم يذكرهَا فِي الِاعْتِدَال والقعدة بَين السَّجْدَتَيْنِ، فَقَالَ: «ثمَّ ارْفَعْ رَأسك حَتَّى تعتدل قَائِما، ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا، ثمَّ ارْفَعْ رَأسك حَتَّى تعتدل جَالِسا» وَأقرهُ الرَّافِعِيّ عَلَى ذَلِك، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُمَا، فالطمأنينة فِي الْجُلُوس بَين(4/91)
السَّجْدَتَيْنِ ثَابِتَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي « (مُسْند» ) أَحْمد و «سنَن أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وأعجب من هَذَا أَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ خرجها فِي أَرْبَعِينَ لَهُ (وَهِي سَمَاعنَا، قلت: وَلَا أعلم من خرجها بِدُونِهَا) والطمأنينة فِي الِاعْتِدَال ثَابِتَة أَيْضا (فَفِي) صَحِيح أبي حَاتِم بن حبَان من حَدِيث رِفَاعَة بن رَافع الزرقي وَهَذَا لَفظه: «فَإِذا رفعت رَأسك، فأقم صلبك حَتَّى ترجع الْعِظَام إِلَى مفاصلها، فَإِذا سجدت، فمكن سجودك ... » الحَدِيث.
وَرَوَاهُ ابْن السكن فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تطمئِن قَائِما» وَقَالَ الْحَافِظ محب الدَّين الطَّبَرِيّ: قد جَاءَ فِي رِوَايَة مَشْهُورَة فِي كتب الْفِقْه: «ثمَّ لتقم حَتَّى تطمئِن (قَائِما» ) ، وَفِي الصَّحِيح أَنه طوله أَيْضا (وَالله أعلم) .
الخاتمة الثَّانِيَة: قَالَ الرَّافِعِيّ بعد أَن ذكر كَيْفيَّة الصَّلَاة عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قَالَ الصيدلاني: وَمن النَّاس من يزِيد (وَارْحَمْ)(4/92)
مُحَمَّدًا وَآل مُحَمَّد كَمَا رحمت عَلَى [آل] إِبْرَاهِيم، (قَالَ: وَرُبمَا يَقُولُونَ: كَمَا ترحمت عَلَى إِبْرَاهِيم) قَالَ: وَهَذَا لم يرد فِي الْخَبَر وَهُوَ غير (صَحِيح) فَإِنَّهُ لَا يُقَال رَحمت عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُقَال: رَحمته، وَأما الترحم فَفِيهِ مَعْنَى التَّكَلُّف والتصنع؛ فَلَا يحسن إِطْلَاقه فِي حق الله - تَعَالَى - هَذَا آخر كَلَام الصيدلاني، وإنكاره وُرُود هَذِه الزِّيَادَة فِي الْخَبَر غَرِيب (فقد) وَردت عدَّة أَخْبَار:
أَحدهَا: خبر ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «إِذا تشهد أحدكُم فِي الصَّلَاة، فَلْيقل: اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد، وَبَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد، وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآل محمدٍ؛ كَمَا صليت وباركت وترحمت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد» .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي هَذَا الْبَاب، عَن أبي بكر بن إِسْحَاق، أَنا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن ملْحَان، نَا يَحْيَى بن بكير، ثَنَا اللَّيْث، عَن خَالِد بن يزِيد، عَن سعيد بن أبي هِلَال، عَن يَحْيَى بن السباق، عَن رجل من بني الْحَارِث، عَن ابْن مَسْعُود بِهِ، ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح.
ثَانِيهَا: خبر أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من قَالَ: اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد؛ كَمَا صليت عَلَى إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم، وَبَارك عَلَى مُحَمَّد و (عَلَى) آل مُحَمَّد؛ كَمَا باركت عَلَى إِبْرَاهِيم(4/93)
و (عَلَى) آل إِبْرَاهِيم و (ترحم) عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد؛ كَمَا ترحمت عَلَى إِبْرَاهِيم و (عَلَى) آل إِبْرَاهِيم - شهِدت لَهُ يَوْم الْقِيَامَة (بالشفاعة) » .
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب «الْأَدَب» عَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء، نَا إِسْحَاق بن [سُلَيْمَان] عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن مولَى سعيد بن (الْعَاصِ) ، أَنا حَنْظَلَة بن عَلّي، عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ.
ثَالِثهَا: خبر عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد؛ كَمَا صليت عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلَى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بَارك عَلَى مُحَمَّد (وَعَلَى آل مُحَمَّد) ؛ كَمَا باركت بِمثلِهِ، اللَّهُمَّ وترحم عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد؛ كَمَا ترحمت (عَلَى إِبْرَاهِيم) بِمثلِهِ، (اللَّهُمَّ وتحنن عَلَى مُحَمَّد؛ وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا تحننت بِمثلِهِ) ، اللَّهُمَّ وَسلم عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد (كَمَا) سلمت عَلَى إِبْرَاهِيم فِي الْعَالمين إِنَّك حميد مجيد» .(4/94)
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «عُلُوم الحَدِيث» فِي النَّوْع الْعَاشِر مِنْهُ، وَفِي إِسْنَاده عَمْرو بن خَالِد الوَاسِطِيّ الوضاع، وَهُوَ من مسلسل الْأَحَادِيث وأكثرها لَا يَصح، وَقَالَ المستغفري فِي (الدَّعْوَات) : (روينَا) حديثًَا مسلسلًا عَن الْحسن بن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «قَالَ جِبْرِيل صلوَات الله عَلَيْهِ: هَكَذَا أنزلت من عِنْد رب الْعِزَّة: اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد ... » فَذكره بِمثلِهِ، إِلَّا أَنه أسقط لَفْظَة «وَعَلَى» فِي آل إِبْرَاهِيم فِي الصَّلَاة وَالْبركَة، وَلم يقل: «فِي الْعَالمين» .
رَابِعهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «قُلْنَا: يَا رَسُول الله، علمنَا السَّلَام عَلَيْك، فَكيف الصَّلَاة عَلَيْك؟ قَالَ: اللَّهُمَّ صل (عَلَى) مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صليت عَلَى إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد، (وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآل مُحَمَّد كَمَا رحمت آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد) ، وَبَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا باركت عَلَى إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد» . رَوَاهُ ابْن جرير، وَقَول الصيدلاني إِنَّه لَا يُقَال: رحمت عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُقَال: رَحمته مَرْدُود من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْخَبَر ورد بِلَفْظ «وترحمت» كَمَا سبق عَن الْحَاكِم تَصْحِيح إِسْنَاده.(4/95)
ثَانِيهمَا: أَن الصَّاغَانِي قَالَ: لَا يُقَال: ترحمت عَلَيْهِ، بل رَحمته (ورحمت) عَلَيْهِ، عَلَى أَن قَول الصَّاغَانِي (لَا يُقَال) : ترحمت عَلَيْهِ مَرْدُود بِلَفْظ الحَدِيث أَيْضا، فاستفد كل ذَلِك فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات النفيسة.(4/96)
بَاب شُرُوط الصَّلَاة
ذكر فِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فَأَرْبَعَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا صَلَاة إِلَّا بِطَهَارَة» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي بَاب الْأَحْدَاث.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن عَلّي بن طلق اليمامي رَضِي الله قَالَ: قَالَ رَسُول الله عَنهُ (: «إِذا فسا أحدكُم فِي الصَّلَاة، فلينصرف وليتوضأ وليعد الصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث جيد الْإِسْنَاد، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد كَذَلِك وَالتِّرْمِذِيّ فِي الرَّضَاع، وَالنَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء،(4/97)
وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الطَّهَارَة فِي (سُنَنهمْ) .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. قلت: وصحيح؛ فقد أخرجه أَبُو حَاتِم فِي «صَحِيحه» ، وَقَالَ: لم يقل فِيهِ: «وليعد صلَاته» إِلَّا جرير بن عبد الحميد. قلت: قد نسبه الْبَيْهَقِيّ وَغَيره إِلَى سوء الْحِفْظ فِي آخر عمره، لكنه من رجال الصَّحِيحَيْنِ، وَأعله ابْن الْقطَّان بِأَن قَالَ: رَوَاهُ عَن عَلّي بن طلق مُسلم بن سَلام الْحَنَفِيّ أَبُو عبد الْملك وَهُوَ مَجْهُول الْحَال. قَالَ: فَالْحَدِيث إِذن لَا يَصح. قلت: بل هُوَ صَحِيح. وَمُسلم هَذَا رَوَى عَنهُ ابْنه عبد الْملك وَعِيسَى بن حطَّان. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَأخرج عَنهُ الحَدِيث فِي «صَحِيحه» فَزَالَتْ عَنهُ الْجَهَالَة العينية والحالية.
فَائِدَة: نقل التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: لَا أعلم لعَلي بن طلق عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غير هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وَلَا أعرف هَذَا من حَدِيث طلق بن عَلّي السحيمي. فَكَأَنَّهُ رَأَى أَن هَذَا (رجل) آخر من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَخَالف الإِمَام أَحْمد فَقَالَ فِيمَا حَكَاهُ مهنا عَنهُ: (عَاصِم يُخطئ فِي هَذَا الحَدِيث يَقُول: عَلّي بن طلق، وَإِنَّمَا هُوَ طلق بن عَلّي. وَقَالَ أَبُو عبيد) فِي كتاب «الطّهُور» : إِنَّمَا هُوَ عندنَا عَلّي بن طلق؛ لِأَنَّهُ(4/98)
حَدِيثه الْمَعْرُوف، وَكَانَ رجلا من بني حنيفَة، وَأَحْسبهُ وَالِد طلق بن عَلّي الَّذِي سَأَلَ عَن مس الذّكر. وَقَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار: بعض النَّاس (يرَى) أَنه طلق بن عَلّي.
قلت: وَمِمَّنْ ذكره فِي مُسْند عَلّي بن طلق، أَحْمد بن منيع فِي «مُسْنده» ، وَابْن قَانِع وَغَيرهمَا.
تَنْبِيه: وَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ بدل عَلّي بن طلق: عَلّي بن أبي طَالب وَهُوَ من النَّاسِخ فاجتنبه.
فَائِدَة: قَوْله: «فسا» هُوَ - بِفَتْح الْفَاء ثمَّ سين مُهْملَة ثمَّ ألف - أَي: أخرج الرّيح مِنْهُ. نقُول مِنْهُ: فسا فسوًا، وَالِاسْم الفساء بِالْمدِّ.
فَائِدَة (جليلة) أَحْبَبْت أَن ذكرهَا (هُنَا) ؛ لينْتَفع بهَا من يَقع مِنْهُ حدث: رَوَى ابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحه» ، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أحدث أحدكُم وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فليأخذ عَلَى أَنفه ثمَّ لينصرف» .
قَالَ ابْن حبَان: من زعم أَن هَذَا الْخَبَر مَا رَفعه عَن هِشَام بن عُرْوَة إِلَّا الْمقدمِي فَهُوَ مدحوض القَوْل، ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث(4/99)
(الْفضل) بن مُوسَى عَن هِشَام أَيْضا. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ: وَسمعت عَلّي بن عمر الْحَافِظ يَقُول: سَمِعت أَبَا بكر الشَّافِعِي الصَّيْرَفِي يَقُول: كل من أفتَى من أَئِمَّة الْمُسلمين بالحيل إِنَّمَا أَخذه من هَذَا الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّالِث
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من قاء أَو رعف أَو أمذى فِي صلَاته، فلينصرف وليتوضأ وليبن عَلَى صلَاته مَا لم يتَكَلَّم) .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
أَحدهَا: من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن ابْن جريج، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «من أَصَابَهُ قيء أَو رُعَاف أَو قلس أَو مذي فلينصرف وليتوضأ، ثمَّ ليبن عَلَى صلَاته وَهُوَ فِي ذَلِك لَا يتَكَلَّم» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث إِسْمَاعِيل أَيْضا قَالَ: حَدثنِي عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، عَن أَبِيه، وَعَن عبد الله بن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «إِذا قاء أحدكُم فِي صلَاته أَو قلس، فلينصرف فَليَتَوَضَّأ (ثمَّ) ليبن عَلَى مَا مَضَى من صلَاته مَا لم يتَكَلَّم» قَالَ(4/100)
ابْن جريج: فَإِن تكلم اسْتَأْنف. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث إِسْمَاعِيل، عَن ابْن جريج، عَن (أَبِيه) قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا قاء ... » بِهِ، إِلَّا أَنه قَالَ: «وليبن عَلَى صلَاته مَا لم يتَكَلَّم» بدل «ثمَّ ليبن ... » إِلَى آخِره (قَالَ) : قَالَ ابْن جريج: وحَدثني ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا مثله. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث إِسْمَاعِيل أَيْضا عَن عباد بن كثير وَعَطَاء بن عجلَان، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة بِمثلِهِ، ثمَّ قَالَ: عباد وَعَطَاء ضعيفان، ثمَّ قَالَ: كَذَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيل، عَن ابْن جريج، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة، وَتَابعه سُلَيْمَان بن أَرقم وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث، وَأَصْحَاب ابْن جريج (الْحفاظ عَنهُ يَرْوُونَهُ عَن ابْن جريج عَن أَبِيه مُرْسلا. ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ حَدِيث سُلَيْمَان بن أَرقم، عَن ابْن جريج) ، عَن أَبِيه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا رعف أحدكُم فِي صلَاته أَو قلس، فلينصرف فَليَتَوَضَّأ وليرجع فليتم عَلَى مَا مَضَى (مِنْهَا) مَا لم يتَكَلَّم» قَالَ: وحَدثني ابْن جريج، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا مثله، ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث أبي عَاصِم وَمُحَمّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ وَعبد الرَّزَّاق كلهم، عَن ابْن جريج، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا قاء أحدكُم أَو قلس أَو وجد مذيًا وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فلينصرف فَليَتَوَضَّأ وليرجع فليبن عَلَى صلَاته مَا لم يتَكَلَّم» .(4/101)
ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ لنا أَبُو بكر: سَمِعت مُحَمَّد بن يَحْيَى يَقُول: هَذَا هُوَ الصَّحِيح عَن ابْن جريج، وَهُوَ مُرْسل، وَأما حَدِيث ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة الَّذِي يرويهِ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش فَلَيْسَ بِشَيْء.
ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث (عبد الْوَهَّاب) ، عَن ابْن جريج، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «من وجد رعافًا أَو قيئًا أَو مذيًا أَو قلسًا، فَليَتَوَضَّأ، ثمَّ ليتم عَلَى مَا مَضَى مَا بَقِي، و (هُوَ) مَعَ ذَلِك يتوقى (أَن يتَكَلَّم) » وَصرح الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا فِي «علله» بتصويب رِوَايَة الْإِرْسَال فَقَالَ: رَوَاهُ أَصْحَاب ابْن جريج، عَن أَبِيه مُرْسلا، وَلم يذكرُوا ابْن أبي مليكَة وَهُوَ الصَّوَاب.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: رِوَايَة إِسْمَاعِيل، عَن ابْن جريج، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة خطأ، إِنَّمَا (يرويهِ) ابْن جريج، عَن أَبِيه، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا، والْحَدِيث هُوَ هَذَا. وَلما ذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي «إِمَامه» كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» السالفة أتبعه بِكَلَام أبي حَاتِم هَذَا، ثمَّ قَالَ: يَنْبَغِي أَن يتتبع هَذَا بالكشف، ثمَّ ذكر رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ السالفة الْمُرْسلَة ثمَّ المسندة الَّتِي فِيهَا: قَالَ ابْن جريج ... إِلَى آخِره [قَالَ:] وَمِمَّنْ رَوَاهُ بِهَذَيْنِ الإسنادين جَمِيعًا عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش الرّبيع بن نَافِع وَدَاوُد(4/102)
بن رشيد، ثمَّ قَالَ: و (هَذِه) الرِّوَايَات الَّتِي جمع فِيهَا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش بَين الإسنادين جَمِيعًا - أَعنِي: الْمُرْسل والمسند - فِي حَالَة وَاحِدَة مِمَّا يبعد الْخَطَأ عَلَى إِسْمَاعِيل، فَإِنَّهُ لَو اقْتصر عَلَى (رفع مَا وَقفه) النَّاس لتطرق الْوَهم إِلَى خطئه تطرقًا قَرِيبا، فَأَما وَقد وَافق النَّاس إِلَى روايتهم الْمُرْسل وَزَاد عَلَيْهِم (الْمسند) فَهَذَا يشْعر بتحفظٍ وَتثبت فِيمَا زَاده عَلَيْهِم. قَالَ: وَإِسْمَاعِيل (قد) وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين وَغَيره، وَتَابعه عَلَى الْمسند سُلَيْمَان بن أَرقم. وَهَذَا الْبَحْث من الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين يُؤذن بِصِحَّة رِوَايَة الْمسند أَيْضا، وَاحْتج إِلَى ذَلِك ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» فَإِنَّهُ قَالَ: إِن قيل: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الْحفاظ من أَصْحَاب ابْن جريج يَرْوُونَهُ، عَن ابْن جريج، عَن أَبِيه مُرْسلا، وَأما حَدِيثه، عَن ابْن (أبي) مليكَة، عَن عَائِشَة الَّذِي يرويهِ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش فَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَيْسَ بِشَيْء، وَإِنَّمَا يرويهِ ابْن أبي مليكَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ أجَاب بِأَن يَحْيَى بن معِين وثق إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة. والمرسل عِنْد أَحْمد حجَّة. انْتَهَى كَلَامه.
وَخَالف ذَلِك فِي «علله» فَذكره وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح؛ فَإِن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش تغير فَصَارَ يخلط. قَالَ ابْن عدي: وَقد قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن جريج، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة. وَهَذَا تخَالف مِنْهُ عَجِيب،(4/103)
وَقد أسلفت لَك فِي الحَدِيث السَّابِع من بَاب الْغسْل (مقَالَة) الْحفاظ فِي إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وَأَن أَكثر الْحفاظ عَلَى ضعفه فِي غير الشاميين، وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَته عَن ابْن جريج وَهُوَ حجازي، فَهُوَ ضَعِيف من هَذَا الْوَجْه، وَقد ضعفه جماعات.
قَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» لما ذكره من طَرِيق إِسْمَاعِيل، عَن ابْن جريج، عَن أَبِيه، وَعَن ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة: هَذَانِ أثران ساقطان؛ لِأَن وَالِد ابْن جريج لَا صُحْبَة لَهُ، فَهُوَ مُنْقَطع، وَالْآخر من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وَهُوَ سَاقِط لَا سِيمَا عَن الْحِجَازِيِّينَ. انْتَهَى كَلَامه. وَعبارَته فِي إِسْمَاعِيل فِيهَا نظر، فَإِنَّهُ لَيْسَ سَاقِطا كَمَا أَشرت إِلَيْهِ هُنَاكَ، بل هُوَ من الْمُخْتَلف فيهم.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : اسْتدلَّ (أَصْحَابنَا) بِأَحَادِيث مُسْتَقِيمَة رويت بأسانيد واهية فَذكر مِنْهَا هَذَا الحَدِيث، وَتكلم عَلَيْهِ نَحْو كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ السالف، وَقَالَ: إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش لَا تقوم بِهِ حجَّة، وَعباد وَابْن عجلَان ضعفاء. قَالَ يَحْيَى فِي عباد: لَيْسَ بِشَيْء، وَكَانَ يوضع لَهُ الحَدِيث فَيحدث بِهِ. وَقَالَ البُخَارِيّ: تَرَكُوهُ. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي عَطاء: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الْجوزجَاني: كَذَّاب، (قَالَ:) وَتَابعه سُلَيْمَان وَهُوَ شَرّ من إِسْمَاعِيل بِكَثِير. قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ يسوى فلسًا. وَقَالَ البُخَارِيّ: تَرَكُوهُ. وَقَالَ الْجوزجَاني: سَاقِط. قَالَ الْبَيْهَقِيّ:(4/104)
فَهَذَا حَال رُوَاة هَذَا الحَدِيث قَالَ: وَالصَّوَاب إرْسَاله. وَذكر فِي «سنَنه» عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه قَالَ: مَا رَوَى ابْن عَيَّاش، عَن الشاميين صَحِيح، [وَمَا رَوَى] عَن أهل الْحجاز فَلَيْسَ بِصَحِيح، وَإِنَّمَا رَوَى ابْن جريج هَذَا الحَدِيث عَن أَبِيه لَيْسَ فِيهِ ذكر عَائِشَة ثمَّ أسْندهُ كَذَلِك مُرْسلا قَالَ: وَهُوَ الْمَحْفُوظ.
قلت: وَضَعفه أَيْضا من الْمُتَأَخِّرين ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» (فَقَالَ) : هَذَا حَدِيث لَا يَصح رَفعه وَهُوَ مُرْسل ضَعِيف رَوَاهُ جمَاعَة عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن أَبِيه، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا. وَرَوَاهُ عَن إِسْمَاعِيل جمَاعَة عَن ابْن جريج (عَن أَبِيه مُرْسلا) وَالْمَحْفُوظ فِيهِ الْمُرْسل، كَذَلِك رَوَاهُ جمَاعَة غَيره من الثِّقَات، ووصْلُِه أحد مَا أُنكر عَلَى إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وَأهل الحَدِيث يضعفونه فِيمَا يرويهِ عَن غير أهل الشَّام لسوء حفظه عَنْهُم، وَابْن جريج لَيْسَ شاميٍّا فَاعْلَم ذَلِك؛ فَإِن فِي «نِهَايَة الْمطلب» عَلَى هَذَا الحَدِيث كلَاما غير قويم.
قلت: أَرَادَ بِهِ قَوْله (فِيهِ) تَوْجِيه الْقَدِيم الحَدِيث الْمَرْوِيّ فِي الصِّحَاح وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة إِلَى آخِره قَالَ: وَإِنَّمَا لم يقل بِهِ الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد لإرسال ابْن أبي مليكَة؛ فَإِنَّهُ لم يلق عَائِشَة وَلَا حجَّة فِي الْمُرْسل عِنْده، وَقد رَوَى إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش فِي طَرِيقه، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة، لَكِن إِسْمَاعِيل هَذَا سيئ الْحِفْظ، كثير الْغَلَط فِيمَا يرويهِ عَن غير الشاميين، وَابْن أبي مليكَة لَيْسَ من(4/105)
الشاميين. هَذَا آخر كَلَامه وَتَبعهُ الْغَزالِيّ فِي «بسيطه» فَقَالَ: (رَوَى) ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة عَنهُ (أَنه قَالَ: «من قاء ... » إِلَى آخِره بِلَفْظ الرَّافِعِيّ السالف، ثمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا لم يعْمل بِهِ الشَّافِعِي؛ لكَونه مُرْسلا، وَإِلَّا فيسهل عَلَيْهِ كتب صِحَاح. انْتَهَى. وَفِيه أغاليط فَاحِشَة:
إِحْدَاهَا: دَعْوَاهُ (أَنه) فِي الصِّحَاح وَلم يُخرجهُ أحد فِيهَا، وَهُوَ (من) أَفْرَاد «سنَن ابْن مَاجَه» ، وفيهَا أَحَادِيث كَثِيرَة ضَعِيفَة بل مَوْضُوعَات.
ثَانِيهَا: قَوْله (إِنَّه) جعل (إرْسَاله أَن) ابْن أبي مليكَة لم يلق عَائِشَة، وَإِنَّمَا إرْسَاله أَن ابْن جريج يرويهِ عَن أَبِيه مُرْسلا كَمَا سلف عَن الدَّارَقُطْنِيّ، أَو يرويهِ عَن أَبِيه، عَن ابْن أبي مليكَة مُرْسلا كَمَا سلف عَن أبي حَاتِم، وَلَئِن كَانَ الْأَمر كَمَا ذكره فَهُوَ مُنْقَطع لَا مُرْسل بِحَسب اصْطِلَاح أهل هَذَا الْفَنّ.
ثَالِثهَا: إِدْخَاله عُرْوَة (بَين) عَائِشَة وَابْن أبي مليكَة، فَإِنَّهُ غَرِيب لم أر أحدا ذكره سواهُ، وَقد (أخرجته) من طرق لَيْسَ هَذَا فِيهَا.
رَابِعهَا: دَعْوَاهُ أَن إِسْمَاعِيل رَوَاهُ عَن ابْن أبي مليكَة، ثمَّ ضعف إِسْمَاعِيل فِي غير الشاميين، فَإِنَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ عَن ابْن جريج عَنهُ فَقَوله: وَابْن أبي مليكَة لَيْسَ من
الشاميين صَوَابه إِذن، وَابْن جريج لَيْسَ من(4/106)
الشاميين، فَظهر بِمَا ذَكرْنَاهُ وهم الإِمَام فِي كَلَامه عَلَى هَذَا الحَدِيث وَخُرُوجه عَن الصَّوَاب فِي التَّعْبِير عَن (المُرَاد) ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَدِيث غير ثَابت كَمَا قَررنَا، فَلَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ، وَقد نقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» فِي بَاب الْأَحْدَاث مِنْهُ اتِّفَاق الْحفاظ عَلَى ضعفه؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل، [عَن] ابْن جريج وَهُوَ حجازي، وَرِوَايَة إِسْمَاعِيل عِنْد أهل الْحجاز ضَعِيفَة عِنْد أهل الحَدِيث، وَلِأَنَّهُ مُرْسل.
قَالَ الْحفاظ: الْمَحْفُوظ أَنه عَن ابْن جريج، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِمَّن قَالَ ذَلِك: الشَّافِعِي، وَأحمد بن حَنْبَل، وَمُحَمّد بن يَحْيَى، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم عَن أَبِيه وَأبي زرْعَة، وَأَبُو [أَحْمد] بن عدي، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهم.
الطَّرِيق الثَّانِي: من طرق الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا رعف أحدكُم فِي صلَاته، فلينصرف فليغسل الدَّم، ثمَّ ليعد وضوءه وَيسْتَقْبل صلَاته» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من حَدِيث سُلَيْمَان (بن أَرقم، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف أَيْضا؛ فَإِن سُلَيْمَان) هَذَا مَتْرُوك الحَدِيث كَمَا قدمْنَاهُ عَنْهُمَا وَفِي رِوَايَة(4/107)
لَهما: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا رعف فِي صلَاته تَوَضَّأ ثمَّ بنى عَلَى مَا بَقِي من صلَاته» .
وَفِي إسنادها عمر بن ريَاح - برَاء مُهْملَة مَكْسُورَة ثمَّ مثناة تَحت - وَهُوَ مَتْرُوك كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ الفلاس: دجال.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من رعف فِي صلَاته، فَليرْجع فَليَتَوَضَّأ وليبن عَلَى صلَاته» .
روياه أَيْضا وَقَالا: فِي إِسْنَاده أَبُو بكر الداهري - يَعْنِي: بِالدَّال الْمُهْملَة - (عبد الله) بن حَكِيم وَهُوَ مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : لَا يَصح. قَالَ السَّعْدِيّ: الداهري هَذَا كَذَّاب مُصَرح. وَقَالَ ابْن حبَان: يضع الحَدِيث عَلَى الثِّقَات. وَفِي «مُصَنف عبد الرَّزَّاق»(4/108)
بِإِسْنَاد جيد (عَلَى شَرط الصَّحِيح) عَن عَلّي قَالَ: «إِذا رعف الرجل فِي صلَاته أَو قاء، فَليَتَوَضَّأ وَلَا يتَكَلَّم، وليبن عَلَى صلَاته» وَهَذَا مَوْقُوف جيد.
فَائِدَة: القلس فِي الحَدِيث - بِالْقَافِ وَاللَّام وبالسين الْمُهْملَة - الْقَيْء. وَقَالَ الْخَلِيل: هُوَ مَا خرج من الْحلق ملْء الْفَم أَو دونه وَلَيْسَ هُوَ بقيء، فَإِن عَاد فَهُوَ الْقَيْء، فعلَى هَذَا يكون قَوْله فِي الحَدِيث: «أَو قلس» للتقسيم، وَعَلَى الأول تكون «أَو» للشَّكّ من الرَّاوِي. وَقَوله: «أَو رعف» هُوَ مثلث الْعين حكاهن ابْن مَالك فِي (مثلثه) ، قَالَ ابْن الصّلاح: الصَّحِيح فِيهِ فتح الْعين، قَالَ: وَرُوِيَ ضمهَا عَلَى ضعف فِيهِ، قَالَ: وَرُوِيَ أَن هَذِه الْكَلِمَة كَانَت السَّبَب فِي لُزُوم سِيبَوَيْهٍ الْخَلِيل بن أَحْمد، وتعويله عَلَيْهِ فِي طلب الْعَرَبيَّة بعد أَن كَانَ يطْلب الحَدِيث وَالتَّفْسِير، وَذَلِكَ أَنه سَأَلَ يَوْمًا حَمَّاد بن سَلمَة فَقَالَ لَهُ: أحَدثك هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه فِي رجل رعف فِي الصَّلَاة وَضم الْعين - فَقَالَ لَهُ: أَخْطَأت إِنَّمَا هُوَ رعف - بِفَتْح الْعين - فَانْصَرف إِلَى الْخَلِيل وَلَزِمَه.
الحَدِيث الرَّابِع
(أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لأسماء: حتيه، ثمَّ اقرصيه، ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ وَصلي فِيهِ» .(4/109)
(هَذَا الحَدِيث) تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي أثْنَاء بَاب النَّجَاسَات فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الْخَامِس
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «لعن الله الْوَاصِلَة وَالْمسْتَوْصِلَة، والواشمة والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة» .
هَذَا الحَدِيث ذكره كَذَلِك تبعا للغزالي، وَالْغَزالِيّ تبع إِمَامه، وَالْإِمَام تبع القَاضِي الْحُسَيْن، وَكَذَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ، لَكِن بِلَفْظ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام «لعن الْوَاصِلَة ... » إِلَى آخِره، وَهُوَ بِاللَّفْظِ الأول مُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عمر إِلَّا قَوْله: «والواشرة والمستوشرة» فَزِيَادَة (لَيست) فِي رِوَايَات هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «تذنيبه» : إِنَّهَا مروية فِي غير الرِّوَايَات الْمَشْهُورَة، وَهُوَ كَمَا قَالَ فقد أسندها أَبُو بكر الباغندي فِي جمعه لحَدِيث عمر بن عبد الْعَزِيز من (حَدِيثه) ، عَن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن قارظ، عَن مُعَاوِيَة مَرْفُوعا «لعن الله الواشمة، والمتنمصة والنامصة، والواشرة والمستوشرة» . وَقد وَقع لنا عَالِيا: أخبرنَا ابْن السراج قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع (سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة)(4/110)
أخبرتنا (شامية) بنت الْبكْرِيّ، أَنا ابْن طبر زد، أَنا (أَبُو الْمَوَاهِب الْوراق) وَابْن عبد الْبَاقِي قَالَا: أَنا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي، أَنا (أَبُو الْحُسَيْن الْحَافِظ مُحَمَّد بن المظفر) ، ثَنَا الباغندي، وَفِي (سَمَاعنَا) «الموشومة» بدل «المستوشرة» .
وَذكرهَا أَبُو نعيم من حَدِيث عبد الله بن عِصَام الْأَشْعَرِيّ (مَرْفُوعا) «لعن (عشرَة) العاضهة والمعتضهة - يَعْنِي: الساحرة - والواشرة والموشرة ... » الحَدِيث.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي «مُخْتَلفه» : قَالَ الشَّاعِر:
ت فِي عقد العاضه المعضه
أعوذ بربي من النافثا(4/111)
وَذكرهَا أَبُو عبيد فِي كِتَابه «غَرِيب الحَدِيث» بِغَيْر إِسْنَاد.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَلم أجد لَهَا ثبتًا بعد الْبَحْث الشَّديد، غير أَن أَبَا دَاوُد وَالنَّسَائِيّ رويا فِي حَدِيث آخر عَن أبي رَيْحَانَة عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه نهَى عَن (الوشم) والوشر» .
قلت: وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا فِي «مُسْنده» ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن مَسْعُود «لعن الله الْوَاشِمَات والموتشمات، وَالْمُتَنَمِّصَات وَالْمُتَفَلِّجَات لِلْحسنِ، الْمُغيرَات خلق الله» .
وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ «لعن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الواشمة والمتوشمة، (والواصلة) والموصولة (وَفِي رِوَايَة لَهُ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينْهَى عَن النامصة والواشرة والواصلة) والواشمة إِلَّا من دَاء» . وَفِي «مُسْند أَحْمد» أَيْضا عَن عَائِشَة «كَانَ (يلعن القاشرة والمقشورة والواشمة والمتوشمة والواصلة والموصولة» . وَقد فسر الرَّافِعِيّ هَذِه الْأَلْفَاظ فِي الشَّرْح فأغنانا عَن الْخَوْض فِي ذَلِك. قَالَ: وَيروَى بدل «المستوشمة والمستوشرة» : (الموتشمة والمؤتشرة» . قلت: قد «سلف الموتشمة» .(4/112)
الحَدِيث السَّادِس
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الصَّلَاة فِي (سَبْعَة) مواطنٍ: المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطَّرِيق، وبطن الْوَادي، وَالْحمام، ومعاطن الْإِبِل، وَفَوق ظهر بَيت الله» . وَيروَى بدل «بطن الْوَادي» : «الْمقْبرَة» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي بَاب اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَلَيْسَ فِي روايتهم «بطن الْوَادي» ، وَهِي غَرِيبَة لَا نَعْرِف تبع الرَّافِعِيّ فِيهَا «الْوَسِيط» و «الْوَجِيز» ، وَهُوَ (تبع) إِمَامه وَلم يعزها الرَّافِعِيّ فِي (تذنيبه» إِلَّا إِلَى الْغَزالِيّ، وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : قد علل النهى عَن الصَّلَاة فِي بطن الْوَادي باختلال الْخُشُوع فِيهِ خوفًا من سيل هاجم فَلَو لم يخف فَلَا نهي، وَهَذَا النَّهْي لم أجد لَهُ ثبتًا، وَلَا وجدت لَهُ ذكرا فِي كتب من يرجع إِلَيْهِم فِي مثل ذَلِك، كَيفَ وَالْمَسْجِد الْحَرَام إِنَّمَا هُوَ فِي بطن وادٍ؟ ! كثيرا مَا هجمت السُّيُول فِيهِ عَلَى غَفلَة. قَالَ: وَالَّذِي ذكره الإِمَام الشَّافِعِي إِنَّمَا هُوَ وادٍ خَاص، وَهُوَ الَّذِي نَام فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمن مَعَه عَن الصَّلَاة حَتَّى فَاتَت، فكره أَن يصلوا فِيهِ، وَقَالَ: «اخْرُجُوا بِنَا من هَذَا الْوَادي؛ فَإِن فِيهِ شَيْطَانا» رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة.
قلت: بل ورد أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى فِي هَذَا الْوَادي، كَمَا أسلفته فِي الحَدِيث السَّادِس من بَاب الْأَذَان.
فَائِدَة: «المجزرة» - بِفَتْح الْمِيم وَالزَّاي - مَوضِع ذبح الْحَيَوَان.(4/113)
وقارعة الطَّرِيق أَعْلَاهُ، وَقيل صَدره. و «معاطن الْإِبِل» مباركها حول الْحَوْض، «والمقبرة» - مثلث الْبَاء - «والمزبلة» - بِفَتْح الْبَاء أَجود (من ضمهَا) .
الحَدِيث السَّابِع
رَوَى أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أدركتم الصَّلَاة وَأَنْتُم فِي مراح الْغنم، فصلوا فِيهَا فَإِنَّهَا سكينَة وبركة، وَإِذا أدركتم وَأَنْتُم فِي أعطان الْإِبِل، فاخرجوا مِنْهَا وصلوا؛ فَإِنَّهَا جن خلقت من جن، أَلا ترَى إِذا نَفرت كَيفَ تشمخ بأنفها؟ !» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي كَذَلِك فِي «الْأُم» عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، (عَن) عبيد الله بن طَلْحَة بن (كريز) - بِفَتْح الْكَاف وبالزاي فِي آخِره - عَن الْحسن، عَن عبد الله بن معقل، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ مخرج فِي «الْمسند» أَيْضا، وَقَالَ: عَن عبد الله بن معقل أَو [مُغفل] . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا الشَّك أَظُنهُ من الرّبيع، وَهُوَ مُغفل بِلَا شكّ، (و) كَذَلِك أخرجه النَّسَائِيّ أَي: من حَدِيث أَشْعَث، عَن(4/114)
الْحسن (عَنهُ) أَنه عَلَيْهِ السَّلَام «نهَى عَن الصَّلَاة فِي أعطان الْإِبِل» .
قلت: وَإِبْرَاهِيم هَذَا قد علمت كَلَام الْأَئِمَّة فِيهِ فِي كتاب الطَّهَارَة، وَقد أخرجه مَعَ النَّسَائِيّ ابْن مَاجَه من حَدِيث يُونُس عَن الْحسن عَن عبد الله بن مُغفل (بِلَفْظ) : «صلوا فِي (مرابض) الْغنم، وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل؛ فَإِنَّهَا خلقت من الشَّيَاطِين» . (وَأخرجه أَحْمد من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ «كُنَّا نؤمر أَن نصلي فِي مرابض الْغنم وَلَا نصلي فِي أعطان الْإِبِل؛ فَإِنَّهَا خلقت من الشَّيَاطِين» ) وَأخرجه أَحْمد أَيْضا من حَدِيث [أبي سُفْيَان بن] الْعَلَاء، عَن الْحسن عَنهُ بِلَفْظ «إِذا حضرت الصَّلَاة وَأَنْتُم فِي مرابض الْغنم فصلوا، وَإِذا حضرت (الصَّلَاة) وَأَنْتُم فِي أعطان الْإِبِل فَلَا تصلوا؛ فَإِنَّهَا خلقت من الشَّيَاطِين» .
وَأخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِسَنَد ابْن مَاجَه وَلَفظه، إِلَّا أَنه قَالَ: «معاطن» بدل «أعطان» . وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي(4/115)
(أكبر) معاجمه من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن (عبيد الله) بن طَلْحَة، عَن الْحسن عَنهُ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ فِي ظلّ شَجَرَة وَأَنا آخذ بِغُصْن من أَغْصَانهَا أَن يُؤْذِيه إِذْ قَالَ: لَوْلَا أَن الْكلاب أمة من الْأُمَم لأمرت بقتلها فَاقْتُلُوا مِنْهَا كل أسود (بهيم) ؛ فَإِنَّهُ شَيْطَان، وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل؛ لِأَنَّهَا من الْجِنّ خلقت، أَلا ترَوْنَ إِلَى هيآتها وعيونها إِذا نَفرت، وصلوا فِي مراح الْغنم فَإِنَّهَا أقرب (من) الرَّحْمَة» . وَفِي «المعجم الْكَبِير» للطبراني أَن الْحسن سُئِلَ عَن سَمَاعه لحَدِيث قتل الْكلاب مِمَّن؟ قَالَ: (أخبرنيه) - وَالله - عبد الله بن مُغفل (فِي هَذَا الْمَسْجِد. وَفِي مَرَاسِيل ابْن أبي حَاتِم، نَا صَالح بن أَحْمد بن حَنْبَل. قَالَ أبي: سمع الْحسن الْبَصْرِيّ من عبد الله بن مُغفل) .
قلت: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث أَيْضا من رِوَايَة (جماعات من الصَّحَابَة غير عبد الله بن مُغفل مِنْهُم جَابر بن سَمُرَة وَهُوَ من أَفْرَاد) مُسلم كَمَا ذكرته فِي بَاب الْأَحْدَاث، وَمِنْهُم ابْن عمر وَقد ذكرته هُنَاكَ أَيْضا، وَمِنْهُم الْبَراء بن عَازِب كَمَا ذكرته هُنَاكَ أَيْضا، وَمِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «صلوا فِي مرابض الْغنم، وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل» . رَوَاهُ(4/116)
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث هِشَام، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة (و) من حَدِيث أبي حُصَيْن، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة ثمَّ قَالَ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. قَالَ: وَحَدِيث أبي حُصَيْن غَرِيب. قَالَ: وَرُوِيَ من حَدِيثه مَوْقُوفا.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث هِشَام، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِن لم تَجدوا إِلَّا مرابض الْغنم وأعطان الْإِبِل، فصلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل» .
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من طَرِيقين بِسَنَد ابْن مَاجَه هَذَا وَلَفظه، (إِلَّا) أَنه قَالَ: «إِذا لم تَجدوا» (بدل «إِن لم تَجدوا» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عدي وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْوَلِيد بن رَبَاح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «صلُّوا فِي مراح الْغنم، وامسحوا رعامها؛ فَإِنَّهَا من دَوَاب الْجنَّة» .
الرعام - بِالْعينِ الْمُهْملَة - مَا يسيل من أنفها. وَفِي الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير من حَدِيث (ابْن) عمر أَنه قيل (لَهُ) : (وَمَا الرعام؟(4/117)
قَالَ: المخاط) . قَالَ ثَعْلَب: وصحفه (اللَّيْث) فَقَالَ: بِالْمُعْجَمَةِ.
وَفِي رِوَايَة للبيهقي من حَدِيث أبي زرْعَة (بن عَمْرو بن جرير، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا) «أَن الْغنم من دَوَاب (الْجنَّة) فامسحوا رعامها، وصلوا فِي مرابضها» .
وَمِنْهُم سُبْرَة بن معبد الْجُهَنِيّ (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يُصلَّى فِي أعطان الْإِبِل، وَيصلى فِي مراح الْغنم» رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الْملك بن الرّبيع بن سُبْرَة بن معبد الْجُهَنِيّ) عَن أَبِيه، عَن جده بِإِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم، وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى أَن يصلى فِي أعطان الْإِبِل، وَرخّص أَن يصلى فِي مراح الْغنم» .
وَمِنْهُم عقبَة بن عَامر رَفعه «صلوا فِي مرابض الْغنم، وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل أَو مبارك الْإِبِل» . رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث عَاصِم بن حَكِيم، عَن [يَحْيَى بن] أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، عَن أَبِيه عَنهُ بِهِ.
وَمِنْهُم ذُو الْغرَّة رَوَاهُ أَحْمد بِنَحْوِ حَدِيث ابْن عمر الْمشَار إِلَيْهِ فِيمَا سلف.(4/118)
فَائِدَة: مراح الْغنم - بِضَم الْمِيم مأواها لَيْلًا؛ قَالَه الْأَزْهَرِي.
(الحَدِيث) الثَّامِن
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (اخْرُجُوا بِنَا من هَذَا الْوَادي؛ فَإِن فِيهِ شَيْطَانا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: «ليَأْخُذ كل (وَاحِد) بِرَأْس رَاحِلَته؛ فإنَّ هَذَا منزل حَضَرنَا فِيهِ الشَّيْطَان» وَقد ذكرت الحَدِيث بِطُولِهِ فِي الحَدِيث السَّادِس من بَاب الْأَذَان، فَرَاجعه من ثمَّ.
الحَدِيث التَّاسِع
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الأَرْض كلهَا (مسجدُُ) ، إِلَّا الْمقْبرَة وَالْحمام» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ(4/119)
وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ. أما الشَّافِعِي فَرَوَاهُ فِي «الْأُم» وَهُوَ مخرج فِي «الْمسند» أَيْضا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن يَحْيَى الْمَازِني، عَن أَبِيه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « ... » فَذكره، قَالَ الشَّافِعِي: وجدت هَذَا الحَدِيث فِي كتابي فِي موضِعين: أَحدهمَا: مُنْقَطع، وَالْآخر: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «السّنَن المأثورة» الَّتِي رَوَاهَا الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَنهُ، عَن سُفْيَان بِهِ بِذكر أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
وَأما أَحْمد فَرَوَاهُ عَن يزِيد، نَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَمْرو، عَن أَبِيه، عَن أبي سعيد وَأما أَبُو دَاوُد فَرَوَاهُ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، نَا حَمَّاد، وَعَن مُسَدّد، ثَنَا عبد الْوَاحِد، عَن عَمْرو بِهِ.
وَأما التِّرْمِذِيّ فَرَوَاهُ عَن ابْن أبي عمر، وَأبي عمار الْحُسَيْن بن حُرَيْث قَالَا: نَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن عَمْرو بِهِ.
وَرَوَاهُ كَذَلِك فِي «علله» قَالَ: تَابعه حَمَّاد بن سَلمَة.
وَأما ابْن مَاجَه: فَرَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى، ثَنَا يزِيد بن هَارُون، ثَنَا سُفْيَان، عَن عَمْرو، عَن أَبِيه وَحَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَمْرو، عَن أَبِيه، عَن أبي سعيد بِهِ. وَأما الدَّارَقُطْنِيّ فَرَوَاهُ فِي «علله» عَن الْبَغَوِيّ والصفار، ثَنَا أَبُو قلَابَة، ثَنَا أَبُو نعيم، ثَنَا سُفْيَان، عَن عَمْرو، عَن أَبِيه، عَن أبي سعيد بِهِ. ثمَّ قَالَ: وثنا جَعْفَر بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمُؤَذّن ثِقَة، ثَنَا السّري (بن) يَحْيَى، ثَنَا أَبُو نعيم وَقبيصَة (قَالَا) : ثَنَا سُفْيَان، عَن(4/120)
عَمْرو بن يَحْيَى، عَن أَبِيه، مَرْفُوعا بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث قد رُوِيَ عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد رِوَايَتَيْنِ، مِنْهُم من ذكره عَن أبي سعيد، وَمِنْهُم من لم يذكرهُ، وَهَذَا (حَدِيث) فِيهِ اضْطِرَاب رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن عَمْرو بن يَحْيَى، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَمْرو، عَن أَبِيه، عَن أبي سعيد مُتَّصِلا وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن عَمْرو، عَن أَبِيه. قَالَ: وَكَانَ عَامَّة رِوَايَته عَن أبي سعيد عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يذكر فِيهِ عَن أبي سعيد، وَكَأن رِوَايَة الثَّوْريّ، عَن عَمْرو، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أثبت وَأَصَح هَذَا آخر كَلَام التِّرْمِذِيّ. وَقَالَ فِي «علله» ، كَانَ الدَّرَاورْدِي أَحْيَانًا يذكر فِيهِ عَن أبي سعيد، وَرُبمَا لم يذكر فِيهِ، وَالصَّحِيح رِوَايَة الثَّوْريّ وَغَيره عَن عَمْرو، عَن أَبِيه مُرْسل، وَحَاصِله أَن رِوَايَته مُرْسلا أثبت وَأَصَح من رِوَايَته مُسْندًا، وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» ؛ فَإِنَّهُ لما سُئِلَ عَنهُ قَالَ: يرويهِ عَمْرو بن يَحْيَى بن عمَارَة وَاخْتلف عَنهُ فَرَوَاهُ عَنهُ عبد الْوَاحِد بن زِيَاد والدراوردي وَمُحَمّد بن إِسْحَاق، عَن عَمْرو بن يَحْيَى، عَن أَبِيه، عَن أبي سعيد (مُتَّصِلا. قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نعيم، عَن الثَّوْريّ، عَن عَمْرو، وَتَابعه سعيد) بن سَالم القداح وَيَحْيَى بن آدم، عَن الثَّوْريّ (فوصلوه) ، وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن عَمْرو عَن أَبِيه مُرْسلا، والمرسل الْمَحْفُوظ (ثمَّ(4/121)
سَاقه) من طريقي الْوَصْل والإرسال بِإِسْنَادِهِ كَمَا قدمْنَاهُ عَنهُ، وَلما ذكره عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» قَالَ: اخْتلف فِي إِسْنَاده، أسْندهُ نَاس، وأرسله آخَرُونَ مِنْهُم الثَّوْريّ، قَالَ أَبُو عِيسَى: وَكَأن الْمُرْسل أصح.
قلت: وَقد أسلفنا من طَرِيق ابْن مَاجَه وصل الثَّوْريّ لَهُ، وَتبع فِي ذَلِك التِّرْمِذِيّ، فَإِنَّهُ عزا الْإِرْسَال إِلَى الثَّوْريّ أَيْضا قَالَ ابْن الْقطَّان يَنْبَغِي أَلا يضرّهُ الِاخْتِلَاف إِذا كَانَ الَّذِي أسْندهُ ثِقَة، قَالَ: وَإِلَى هَذَا فَإِن الَّذِي لأَجله ذكرته هُنَا هُوَ أَن أَبَا دَاوُد ذكره هَكَذَا: ثَنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، ثَنَا حَمَّاد، وثنا مُسَدّد، (ثَنَا) عبد الْوَاحِد، عَن (عَمْرو) بن يَحْيَى، عَن أَبِيه، عَن أبي سعيد قَالَ: (قَالَ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ مُوسَى فِي حَدِيثه فِيمَا يحْسب عَمْرو أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الأَرْض كلهَا مَسْجِد إِلَّا الْحمام والمقبرة» فقد أخبر حَمَّاد فِي رِوَايَته، أَن عَمْرو بن يَحْيَى شكّ فى ذكر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ومنتهى الَّذين رَوَوْهُ مَرْفُوعا إِلَى عَمْرو، فَإِن الحَدِيث حَدِيثه وَعَلِيهِ يَدُور فَسَوَاء شكّ (أَولا) ثمَّ(4/122)
تَيَقّن، أَو تَيَقّن ثمَّ شكّ، فَإِنَّهُ لَو تعين الْوَاقِع مِنْهُمَا أَنه الشَّك بعد أَن حدث بِهِ متيقنًا للرفع لَكَانَ يخْتَلف فِيهِ، فَمن يرَى نِسْيَان الْمُحدث قادحًا لَا يقبله، (وَمن يرَاهُ غير ضار يقبله) ، وَإِن قدرناه حدث بِهِ شاكًا ثمَّ تَيَقّن، فهاهنا يحْتَمل أَن يُقَال: عثر بعد الشَّك عَلَى سَبَب من أَسبَاب الْيَقِين، مثل أَن يرَاهُ فِي مسموعاته أَو مكتوباته فيرفع شكه فَلَا يُبَالِي مَا تقدم من تشككه، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَنْبَغِي للمحدث أَن يتْرك مثل هَذَا فِي (نَقله) فَإِنَّهُ إِذا فعل (فقد) أَرَادَ منا قبُول رَأْيه فِي رِوَايَته، وَهَذَا كُله إِنَّمَا يكون إِذا سلم أَن الدراوردى (وَعبد الْوَاحِد) (الرافعين) لَهُ سمعاه مِنْهُ غير مَشْكُوك فِيهِ، فَإِنَّهُ من الْمُحْتَمل أَلا يكون الْأَمر كَذَلِك بِأَن [يسمعاه] مشكوكًا فِيهِ كَمَا سَمعه حَمَّاد ولكنهما (حَدثا بِهِ) وَلم يذكرَا ذَلِك اكْتِفَاء بحسبانه، وَعَلَى هَذَا يكون عِلّة الْخَبَر أبين. هَذَا آخر كَلَامه وَقد أسلفنا رِوَايَة حَمَّاد، عِنْد أَحْمد وَابْن مَاجَه وَغَيرهمَا بِالْجَزْمِ بِالرَّفْع عَن عَمْرو بن يَحْيَى من غير شكّ فِيهِ، وَتَابعه عَلَيْهِ جماعات مِنْهُم سُفْيَان بن عُيَيْنَة كَمَا سلف (عَن) رِوَايَة الشَّافِعِي، وَمِنْهُم عبد الْوَاحِد كَمَا سلف عَن رِوَايَة أبي دَاوُد، وَمِنْهُم عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد كَمَا سلف عَن رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَقد رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، عَن(4/123)
ابْن خُزَيْمَة، ثَنَا (بشر) بن (معَاذ) الْعَقدي، ثَنَا عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، ثَنَا عَمْرو بن يَحْيَى، عَن أَبِيه، عَن أبي سعيد بِهِ وَرَوَاهُ عَن عمرَان بن مُوسَى السّخْتِيَانِيّ، ثَنَا أَبُو كَامِل الجحدري، ثَنَا عبد الْوَاحِد بِهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَن ابْن خُزَيْمَة، أَنا مُحَمَّد بن غَالب، ثَنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، ثَنَا عبد الْوَاحِد بن زِيَاد بِهِ، فَهَذَا مُوسَى نَفسه (قد جزم) وَلم يشك، ثمَّ رَوَاهُ عَن عبد الله بن مُحَمَّد الصيدلاني، نَا مُحَمَّد بن أَيُّوب، أَنا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى، نَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، نَا عَمْرو بِهِ، ثمَّ رَوَاهُ عَن ابْن خُزَيْمَة، أَنا أَبُو الْمثنى، نَا مُسَدّد، نَا بشر بن الْمفضل، نَا عمَارَة بن غزيَّة، عَن [يَحْيَى بن عمَارَة] ، ثمَّ قَالَ: هَذِه الْأَسَانِيد كلهَا صَحِيحَة عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يخرجَاهُ.
قلت: فَظهر بِهَذَا صِحَة الحَدِيث، وَزَوَال الشَّك فِي رَفعه، (و) بَقِي النّظر (فِي) كَون الْأَصَح وَصله أَو إرْسَاله، وَقد أسلفنا عَن التِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ تَصْحِيح إرْسَاله، وَقد صحّح وَصله ابْن حبَان وَالْحَاكِم كَمَا ترَى، وَهُوَ زِيَادَة من ثِقَة فَقبلت، وَقد صححها أَيْضا جمَاعَة(4/124)
من الْمُتَأَخِّرين مِنْهُم الرَّافِعِيّ نَفسه فِي (شرح الْمسند) ، فَإِنَّهُ قَالَ: هَذَا الحَدِيث بَين الشَّافِعِي أَنه رُوِيَ مرّة مُنْقَطِعًا، وَمرَّة مَوْصُولا، وَلَا يضر الِانْقِطَاع إِذا ثَبت الْوَصْل فِي بعض الرِّوَايَات، وَمِنْهُم الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابه «الإِمَام» : حَاصِل مَا (يعل) فِيهِ بِالْإِسْنَادِ والإرسال، وَأَن الروَاة اخْتلفُوا فِي ذَلِك قَالَ: وَإِذا كَانَ الرافع نَفسه ثِقَة فقد عرف مَذْهَب الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء فِي قبُوله. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» بعد أَن اسْتدلَّ بِهِ لمذهبه: إِن قيل هُوَ مُضْطَرب كَانَ الدَّرَاورْدِي يَقُول فِيهِ تَارَة: عَن أبي سعيد، وَتارَة لَا يذكرهُ، ثمَّ أجَاب بِأَن (مثل) هَذَا لَا يُوجب إطراح الحَدِيث.
(و) الْمزي فِي «أَطْرَافه» : رَوَاهُ عَلّي بن عبد الْعَزِيز، عَن حجاج (بن) منهال، عَن حَمَّاد مُسْندًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بكر الْبَزَّار، عَن أبي كَامِل الجحدري، عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو نعيم، عَن خَارِجَة بن مُصعب، عَن عَمْرو بن يَحْيَى، وَأما الْبَيْهَقِيّ فَإِنَّهُ تبع الدَّارَقُطْنِيّ وَالتِّرْمِذِيّ فَإِنَّهُ لما ذكره مُرْسلا من طَرِيق الثَّوْريّ قَالَ: وَقد رُوِيَ مَوْصُولا وَلَيْسَ بِشَيْء. قَالَ: وَحَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة مَوْصُول، وَقد تَابعه عَلَى وَصله عبد الْوَاحِد بن زِيَاد والدراوردي، ثمَّ أسْندهُ مَوْصُولا من وَجه آخر. وَلَك أَن تَقول: إِذا وَصله حَمَّاد وتوبع عَلَى وَصله فَلم لَا(4/125)
تُرجح عَلَى رِوَايَة الْإِرْسَال، عوضا عَن كَونهَا لَيْسَ بِشَيْء، لَا سِيمَا وَقد اعتضدت أَيْضا بِالْحَدِيثِ السالف فِي اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي سَبْعَة مَوَاطِن مِنْهَا الْمقْبرَة وَالْحمام، (و) إِن كَانَ ضَعِيفا.
وَأنكر النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْحَاكِم تَصْحِيحه فَقَالَ: إِنَّه لَا يقبل مِنْهُ، فَإِن الَّذين ضَعَّفُوهُ أتقن مِنْهُ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ قد تصح أسانيده وَهُوَ ضَعِيف لاضطرابه.
وَهَذَا مِنْهُ فِيهِ نظر؛ لأَنا قَررنَا أَن هَذَا الِاضْطِرَاب غير قَادِح، وَمن ضعفه لم يطعن فِي رِجَاله، وَإِنَّمَا قَالَ: إِن الْمُرْسل أصح كَمَا أسلفناه، وَلم يصب ابْن دحْيَة فِي قَوْله (فِي) كتاب «التَّنْوِير فِي مولد السراج الْمُنِير» : هَذَا لَا يَصح من (طَرِيق من) الطّرق فاجتنبه.
الحَدِيث الْعَاشِر
(أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى أَن تتَّخذ الْقُبُور محاريب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث جُنْدُب بن عبد الله، وَيُقَال: ابْن سُفْيَان قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل أَن يَمُوت بِخمْس وَهُوَ يَقُول: إِنِّي أَبْرَأ إِلَى الله أَن يكون لي مِنْكُم خَلِيل؛ فَإِن الله عَزَّ وَجَلَّ قد اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا؛ وَلَو كنت متخذًا من أمتِي(4/126)
خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا، [أَلا] وَإِن من كَانَ قبلكُمْ كَانُوا يتخذون قُبُور أَنْبِيَائهمْ وصالحيهم مَسَاجِد، [أَلا] فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُور مَسَاجِد، إِني أنهاكم عَن ذَلِك» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَا: «لما نزلت برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (طفق) يطْرَح خميصة لَهُ عَلَى وَجهه، فَإِذا اغتم كشفها عَن وَجهه فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِك: لعنة الله عَلَى الْيَهُود والنصاري، اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد يحذر مَا صَنَعُوا» .
وَفِي مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، «قَاتل الله الْيَهُود؛ اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد» .
الحَدِيث الحادى عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يحمل أُمَامَة بنت أبي الْعَاصِ وَهُوَ فِي صلَاته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. كَمَا تقدم فِي بَاب الِاجْتِهَاد بفوائده.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رَوَى أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أصَاب خف أحدكُم أَذَى، (فليدلكه) بِالْأَرْضِ؛ فَإِن التُّرَاب لَهُ طهُور» .(4/127)
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق ثَلَاثَة:
أَحدهَا: من طَرِيق أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث (أبي) الْمُغيرَة، والوليد بن مزِيد، و (عمر) بن عبد الْوَاحِد، عَن الْأَوْزَاعِيّ الْمَعْنى، أنبئت أَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري حدث عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا وطئ أحدكُم بنعله الْأَذَى، فَإِن التُّرَاب لَهُ طهُور» . ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث مُحَمَّد بن كثير، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن ابْن عجلَان، عَن سعيد بن أبي سعيد، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَعْنَاهُ «إِذا وطئ (أحدكُم) الْأَذَى (بخفيه) ، فطهورهما التُّرَاب» .
وَمُحَمّد بن كثير هَذَا من رجال د ت [س] ، وَهُوَ صنعاني مولَى ثَقِيف، ضعفه أَحْمد جدًّا (وَقَالَ: مُنكر الحَدِيث قَالَ عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل: ذكره أبي فضعفه جدًّا) ، وَضعف حَدِيثه عَن معمر جدًّا. وَقَالَ صَالح بن أَحْمد بن حَنْبَل: قَالَ أبي: مُحَمَّد بن كثير لم يكن عِنْدِي بِثِقَة. وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد أَيْضا عَن أَبِيه: إِنَّه مُنكر الحَدِيث(4/128)
ويروي أَشْيَاء مُنكرَة. وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: كنت أشتهي أَن أرَاهُ، فَلَمَّا ذكر حَدِيثا من رِوَايَته قلت: الْآن لَا أحب أَن أرَاهُ. وَقَالَ أَبُو أَحْمد: لَهُ رِوَايَات عَن الْأَوْزَاعِيّ لَا يُتَابِعه عَلَيْهَا أحد، وَذكر ابْن سعد أَنه اخْتَلَط بِأخرَة، قَالَ: وَكَانَ ثِقَة، وَتكلم فِيهِ أَبُو حَاتِم (وجرحه) قَالَ أَبُو حَاتِم: دفع إِلَيْهِ كتاب الْأَوْزَاعِيّ فَرَوَاهُ عَنهُ، وَكَذَلِكَ (قَالَ) أَحْمد. وَقَالَ الْحَاكِم: إِنَّه صَدُوق وَوَثَّقَهُ يَحْيَى، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» .
وَأما مُحَمَّد بن عجلَان فَهُوَ صَدُوق رَوَى لَهُ مُسلم مُتَابعَة، وَالْبُخَارِيّ فِي الشواهد وَذكره فِي (الضُّعَفَاء) ، وَرَوَى لَهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة (و) تكلم فِيهِ غير وَاحِد، وَوَثَّقَهُ غير وَاحِد مِنْهُم أَحْمد وَيَحْيَى، وَذكره (ابْن حبَان) فِي «ثقاته» (من) أَتبَاع التَّابِعين، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: لَا عيب فِيهِ بل هُوَ أحد الثِّقَات إِلَّا أَنه سُوَى أَحَادِيث المَقْبُري. وَاخْتلف الْحفاظ فِي تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث بِحَسب آرائهم فِي هذَيْن الرجلَيْن، فَأوردهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من حَدِيث مُحَمَّد بن كثير، عَن الْأَوْزَاعِيّ بِسَنَدِهِ بِلَفْظ «إِذا وطئ أحدكُم بخفيه - أَو قَالَ: بنعليه الْأَذَى فطهورهما التُّرَاب» .
ثمَّ جعله معلولًا بمخالفة أَصْحَاب (الْأَوْزَاعِيّ لمُحَمد) بن كثير فِي إِقَامَة إِسْنَاده، فَرَوَاهُ من طَرِيق الْوَلِيد بن مزِيد، عَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ:(4/129)
أنبئت أَن سعيد (بن أبي سعيد) المَقْبُري حدث عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو الْمُغيرَة عبد القدوس بن الْحجَّاج وَعمر بن عبد الْوَاحِد، وهما أعرف بالأوزاعى. قَالَ: فَصَارَ الحَدِيث بذلك معلولًا قَالَ: وَقد ضعف الشَّافِعِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا فِي الْإِمْلَاء، وَرَوَاهُ - أَعنِي الْبَيْهَقِيّ أَيْضا - من حَدِيث سعيد عَن أبي هُرَيْرَة بِإِسْقَاط أَبِيه أَيْضا، وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ فِي «علله» : رُوِيَ عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة، وَعَن سعيد، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة، وَعَن سعيد (أَن امْرَأَة سَأَلت عَائِشَة ... ) مَوْقُوف.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان: مُحَمَّد بن كثير هَذَا يروي عَن الْأَوْزَاعِيّ وَغَيره، وَهُوَ ضَعِيف وأضعف مَا هُوَ فِي الْأَوْزَاعِيّ، ثمَّ نقل مقالات أَحْمد السالفة فِيهِ، ثمَّ قَالَ: فعلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَن يظنّ بِهَذَا الحَدِيث أَنه صَحِيح من هَذَا الطَّرِيق، وتضعيفه الحَدِيث بِسَبَب مُحَمَّد بن كثير هَذَا مُخَالف لتصحيحه حَدِيثه عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، عَن أنس «جَاءَت أم سليم ... » الحَدِيث الْمَشْهُور فِي الْغسْل، رَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيثه نَا الْأَوْزَاعِيّ فَذكره، وَقَالَ ابْن عبد الْحق فِيمَا رده عَلَى «الْمُحَلَّى» : هَذَا حَدِيث ضَعِيف؛ لِأَن فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن كثير الصَّنْعَانِيّ، ثمَّ ذكر قَول أَحْمد وَغَيره فِيهِ، وَقَالَ الْحَافِظ زَكى الدَّين الْمُنْذِرِيّ بعد أَن أخرجه من طريقي أبي دَاوُد: كِلَاهُمَا ضَعِيف، أما الأول فَفِي إِسْنَاده مَجْهُول - وَلم يظْهر لي ذَلِك - وَأما الثَّانِي فأعله(4/130)
بِابْن عجلَان، وَأعْرض عَن مُحَمَّد بن كثير فَلم يعله بِهِ، وَلَو عكس كَانَ أصوب.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) فِي بَاب إِزَالَة النَّجَاسَة: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طرق كلهَا ضَعِيفَة. كَذَا قَالَ: من طرق، وَقد أسلفنا لَك نَص رِوَايَته فتأملها.
وَخَالف هَؤُلَاءِ جماعات (فصححوه) مِنْهُم ابْن خُزَيْمَة فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» من) حَدِيث مُحَمَّد بن كثير عَن الْأَوْزَاعِيّ (بِهِ بِلَفْظ «إِذا وطئ أحدكُم بخفيه أَو نَعْلَيْه، فطهورهما التُّرَاب» .، وَمِنْهُم ابْن حبَان فَإِنَّهُ أخرجه أَيْضا فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ) (عَن سعيد بِهِ، وَقَالَ: «لَهَا طهُور» بدل «لَهُ طهُور» ، وَفِي حَدِيث مُحَمَّد بن كثير بِهِ بِلَفْظ: «إِذا وطئ أحدكُم بخفيه، فطهورهما التُّرَاب» . وَمِنْهُم الْحَاكِم فَإِنَّهُ أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» عَلَى الصَّحِيحَيْنِ من الطَّرِيقَيْنِ الْمَذْكُورين، لكنه قَالَ فِي الأول عَن الْأَوْزَاعِيّ) : إِنَّه قَالَ: «أنبئت أَن سعيد بن أبي سعيد ... » فَذكره بِلَفْظ أبي حَاتِم، وَلَفظه فِي الثَّانِي: «إِذا وطئ أحدكُم بنعليه فِي الْأَذَى فَإِن التُّرَاب لَهُ طهُور» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم؛ فَإِن مُحَمَّد بن كثير هَذَا صَدُوق،(4/131)
وَقد حفظ فِي إِسْنَاده ذكر ابْن عجلَان وَلم يخرجَاهُ.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد قَالَ: أَخْبرنِي أَيْضا سعيد بن أبي سعيد، عَن الْقَعْقَاع بن حَكِيم، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَعْنى حَدِيث أبي هُرَيْرَة، كَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من حَدِيث ابْن وهب، عَن ابْن سمْعَان أَن سعيدًا المَقْبُري حَدثهُ عَن الْقَعْقَاع بن حَكِيم أَنه حَدثهُ عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «إِذا وطئ أحدكُم بنعليه الْأَذَى فَإِن التُّرَاب لَهما طهُور» .
قَالَ الْحَافِظ زكي (الدَّين) الْمُنْذِرِيّ فِي طَرِيق أبي دَاوُد: إسنادها حسن قلت: وَفِي ذَلِك نظر؛ لِأَنَّهُ مُنْقَطع، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : الطَّرِيق فِيهِ لَيْسَ بواضح إِلَى أبي سعيد وَهُوَ مُرْسل، (الْقَعْقَاع لم يسمع من عَائِشَة. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : بل وردنا يَقْتَضِي إِبْطَاله) - يَعْنِي: سَمَاعه (مِنْهَا) - فَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن روح بن (الْقَاسِم) رَوَى عَن عبد الله بن سمْعَان، عَن المَقْبُري، عَن الْقَعْقَاع، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الرجل يطَأ بنعليه الْأَذَى فَقَالَ: التُّرَاب طهُور» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مدَار الحَدِيث عَلَى ابْن سمْعَان وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث أشبه بِالصَّوَابِ من غَيره من الطّرق مَعَ ضعفه. وَأما ابْن السكن فَذكره فِي (السّنَن الصِّحَاح المأثورة» .(4/132)
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن ابْن وهب، عَن الْحَارِث بن نَبهَان، عَن رجل، عَن إنس ابْن مَالك أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا جَاءَ أحدكُم الْمَسْجِد، فَإِن كَانَ لَيْلًا فليدلك نَعْلَيْه، وَإِن كَانَ نَهَارا فَلْينْظر إِلَى أَسْفَلهَا» .
رَوَاهُ (الْبَيْهَقِيّ) فِي «خلافياته» وَقَالَ: فِي إِسْنَاده رجل مَجْهُول، قلت: والْحَارث بن نَبهَان ضَعَّفُوهُ قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خلع نَعله، فَخلع النَّاس نعَالهمْ، فَلَمَّا قَضَى صلَاته قَالَ: مَا حملكم عَلَى صنيعكم؟ قَالُوا: رَأَيْنَاك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فَقَالَ: إِن جِبْرِيل (أَتَانِي فَأَخْبرنِي أَن فيهمَا قذرًا» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
أَحدهَا: من طَرِيق أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضى الله عَنهُ رَوَاهُ أَبُو (دَاوُد فِي «سنَنه» ) مُنْفَردا (بِهِ) عَن الْجَمَاعَة من حَدِيث حَمَّاد - وَهُوَ ابْن سَلمَة - عَن أبي نعَامَة السَّعْدِيّ، عَن أبي نَضرة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رضى الله عَنهُ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خلع نَعْلَيْه فوضعهما عَن يسَاره، فَلَمَّا رَأَى ذَلِك الْقَوْم ألقوا نعَالهمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صلَاته قَالَ: مَا حملكم عَلَى (إلقائكم) نعالكم؟ قَالُوا: رَأَيْنَاك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن جِبْرِيل(4/133)
عَلَيْهِ السَّلَام أَتَانِي فَأَخْبرنِي أَن فيهمَا قذرًا، فَإِذا جَاءَ أحدكُم (إِلَى) الْمَسْجِد، فَلْينْظر فَإِن رَأَى فِي نَعْلَيْه قذرًا أَو أَذَى فليمسحه وَليصل فيهمَا» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: نَا مُوسَى، نَا أبان، ثَنَا قَتَادَة، حَدثنِي بكر بن عبد الله، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِهَذَا قَالَ: «فيهمَا (خبث) » فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك بِلَفْظ «الْخبث» . وَقَالَ: «فليمسه) بِالْأَرْضِ» (وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَقَالَ فِي حَمَّاد وَأبي نعَامَة وَأبي نَضرة: كل وَاحِد مِنْهُم مُخْتَلف فِي عَدَالَته) وَكَذَلِكَ لم يحْتَج البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح بِوَاحِد مِنْهُم.
قلت: قد أخرج (لَهُم) مُسلم، وَحَمَّاد ثِقَة ثَبت، وَأَبُو نعَامَة وَثَّقَهُ ابْن معِين، (وَأَبُو نَضرة وَثَّقَهُ ابْن معِين) وَأَبُو زرْعَة أَيْضا، وَقد استدركه عَلَى مُسلم الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فَرَوَاهُ فِي آخر صَلَاة الْجَمَاعَة مِنْهُ، عَن أبي الْعَبَّاس المحبوبي، عَن سعيد بن مَسْعُود، عَن يزِيد بن هَارُون، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أبي نعَامَة، عَن أبي نَضرة، عَن أبي سعيد «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى فَخلع نَعْلَيْه، فَخلع النَّاس نعَالهمْ، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: لم خلعتم نعالكم؟ قَالُوا: يَا رَسُول الله، رَأَيْنَاك(4/134)
خلعت فخلعنا، قَالَ: إِن جِبْرِيل أَتَانِي فَأَخْبرنِي أَن فيهمَا خبثًا، فَإِذا جَاءَ أحدكُم الْمَسْجِد، فليقلب نَعْلَيْه فَلْينْظر (فيهمَا) فَإِن وجد خبثًا فليمسحهما بِالْأَرْضِ، ثمَّ ليصل فيهمَا» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة أَيْضا فِي «صَحِيحه» من حَدِيث يزِيد بن هَارُون أَيْضا، عَن حَمَّاد بِهِ، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن الْفضل بن حباب، عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أبي نعَامَة، عَن أبي نَضرة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا صَلَّى خلع نَعْلَيْه فوضعهما عَن يسَاره، فَخلع الْقَوْم نعَالهمْ، فَلَمَّا قَضَى صلَاته قَالَ: مَا لكم خلعتم نعالكم؟ قَالُوا: رَأَيْنَاك خلعت فخلعنا، قَالَ: إِنِّي لم أخلعهما من بَأْس، وَلَكِن جِبْرِيل أَخْبرنِي أَن فيهمَا قذرًا، فَإِذا أَتَى أحدكُم الْمَسْجِد فَلْينْظر فِي نَعْلَيْه فَإِن كَانَ فيهمَا أَذَى فليمسحه» . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث أبي سعيد هَذَا فَقَالَ: رُوِيَ مُرْسلا بِإِسْقَاط أبي سعيد، ومتصلًا بإثباته وَهُوَ أشبه، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ جمَاعَة عَن أبي نعَامَة، عَن أبي نَضرة، عَن أبي سعيد، وَرَوَاهُ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، عَن أبي نعَامَة مُرْسلا قَالَ: وَمن قَالَ فِيهِ(4/135)
عَن أَيُّوب، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة - فقد وهم، وَالصَّحِيح عَن أَيُّوب سَمعه من أبي نعَامَة لم يحفظ إِسْنَاده فَأرْسلهُ، وَالْقَوْل قَول من قَالَ: عَن أبي سعيد.
تَنْبِيه: نقل النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» و «شرح الْمُهَذّب» عَن الْحَاكِم أَنه قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: إِنَّه عَلَى شَرط البُخَارِيّ، وَلم أر ذَلِك فِيهِ، إِنَّمَا فِيهِ أَنه عَلَى شَرط مُسلم، وَهُوَ المطابق لإسناده أَيْضا، نعم قَالَ الْحَاكِم (ذَلِك) فِي طَرِيق أنس الْآتِي إِثْر هَذَا، وَالنَّوَوِيّ لم يذكرهَا، إِنَّمَا ذكرهَا من طَرِيق أبي سعيد فَتنبه لذَلِك.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي أَوَائِل كتاب الطَّهَارَة مِنْهُ، عَن مُحَمَّد بن صَالح وَإِبْرَاهِيم بن عصمَة قَالَا: ثَنَا السّري بن خُزَيْمَة، نَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، نَا (عبد الله) بن الْمثنى الْأنْصَارِيّ، عَن ثُمَامَة، عَن أنس «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يخلع نَعْلَيْه فِي الصَّلَاة قطّ إِلَّا مرّة وَاحِدَة، خلع فَخلع النَّاس، فَقَالَ: مالكم؟ قَالُوا: خلعت فخلعنا، فَقَالَ: إِن جِبْرِيل أَخْبرنِي أَن فيهمَا قذرًا أَو أَذَى» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ، فقد احْتج (بِعَبْد الله) بن الْمثنى وَلم يخرجَاهُ، قَالَ: وَشَاهده الحَدِيث الْمَشْهُور عَن مَيْمُون الْأَعْوَر، حدّثنَاهُ مُحَمَّد بن صَالح وَإِبْرَاهِيم بن عصمَة قَالَا: ثَنَا(4/136)
السّري بن خُزَيْمَة، ثَنَا أَبُو غَسَّان مَالك بن إِسْمَاعِيل، ثَنَا زُهَيْر بن مُعَاوِيَة، ثَنَا أَبُو حَمْزَة، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة، عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: «خلع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَعله فَقَالَ: إِن جِبْرِيل أَخْبرنِي ... » الحَدِيث.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث ابْن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد سقناه (آنِفا) وَذكره ابْن السكن فِي سنَنه الصِّحَاح المأثورة.
وَلِلْحَدِيثِ طَرِيق رَابِع وخامس (لكنهما ضعيفان) فالرابع عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: (خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد) [قَالَ: الصَّلَاة فِي] النَّعْلَيْنِ، (وَقد صَلَّى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي نَعْلَيْه (فخلعهما) فَخلع النَّاس، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاة قَالَ: لم خلعتم نعالكم؟ قَالُوا: رَأَيْنَاك خلعت فخلعنا. قَالَ: إِن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَانِي فَقَالَ: إِن (فيهمَا) دم حلمة» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث صَالح بن بَيَان، نَا فرات بن السَّائِب، عَن مَيْمُون بن مهْرَان، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ، وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف؛ صَالح بن بَيَان يروي الْمَنَاكِير عَن الثِّقَات، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك، وفرات بن السَّائِب مَتْرُوك، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث تَرَكُوهُ. والحلمة: القراد الْعَظِيم.(4/137)
وَلِحَدِيث ابْن عَبَّاس طَرِيق آخر يُخَالف السَّبَب الْمَذْكُور فِي خلع النَّعْل رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي « (أكبر معاجمه) من حَدِيث مُحَمَّد بن (عبيد الله) ، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَخلع نَعْلَيْه فخلعنا نعالنا، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاة قَالَ: لم خلعتم نعالكم؟ قَالُوا: رَأَيْنَاك خلعت فخلعنا. قَالَ: إِنِّي بللت (مِنْهُمَا) » . وَمُحَمّد هَذَا أَظُنهُ الْعَرْزَمِي الْمَتْرُوك.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن يزِيد بن عبد الله بن الشخير، عَن أَبِيه قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَخلع نَعْلَيْه وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فَخلع الصَّفّ الَّذِي يَلِيهِ نعَالهمْ، فَخلع الصَّفّ الَّذِي (يليهم) نعَالهمْ. فَقَالَ (لَهُم) : لم خلعتم نعالكم؟ قَالُوا: خلعت يَا رَسُول الله، فَخلع الصَّفّ الَّذِي يليك نعَالهمْ فخلعنا نعالنا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَتَانِي جِبْرِيل فَذكر أَن فِي نَعْلي قذرًا (فخلعتهما) ، فصلوا فِي نعالكم» .
فِي إِسْنَاده الرّبيع بن بدر السَّعْدِيّ عُلَيْلُة تَركه الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تُعَاد الصَّلَاة من قدر الدِّرْهَم من الدَّم» .(4/138)
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف بِمرَّة. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يروه عَن الزُّهْرِيّ غير روح بن غطيف أَي وَهُوَ بِضَم الْعين الْمُعْجَمَة وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة - وَهُوَ مَتْرُوك، ثمَّ قَالَ فِي «علله» : يرويهِ روح، عَن الزُّهْرِيّ، وَاخْتلف فِيهِ، فَقَالَ: الْقَاسِم بن مَالك الْمُزنِيّ، عَن روح بن غطيف، عَن الزُّهْرِيّ وَقَالَ: [أَسد] بن عَمْرو البَجلِيّ، عَن غطيف الطَّائِفِي، عَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ روح بن غطيف. كَمَا قَالَ الْقَاسِم بن مَالك، وروح ضَعِيف، وَلَا يعرف هَذَا عَن الزُّهْرِيّ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا حَدِيث لَيْسَ بِثَابِت، قَالَ البُخَارِيّ: روح مُنكر الحَدِيث، وَكَذَا قَالَ فِي «الْمعرفَة» : (إِنَّه) لم يثبت وَقد أنكرهُ عَلَى روح عبد الله بن الْمُبَارك وَيَحْيَى بن معِين، وَغَيرهمَا من الْحفاظ.
قلت: وَعبارَة ابْن حبَان فِيهِ أَنه يروي الموضوعات عَن الثِّقَات، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مُنكر الحَدِيث جدًّا، وَرَوَى الْعقيلِيّ(4/139)
وَالْبَيْهَقِيّ، عَن ابْن الْمُبَارك قَالَ: قد رَأَيْت روح بن غطيف «صَاحب الدَّم قدر الدِّرْهَم» عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَجَلَست إِلَيْهِ مَجْلِسا، فَجعلت: أستحي من أَصْحَابِي أَن يروني جَالِسا (مَعَه) ؛ لِكَثْرَة مَا فِي حَدِيثه - يَعْنِي: من الْمَنَاكِير.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وأبنا أَبُو سعد الْمَالِينِي، نَا أَبُو أَحْمد بن عدي، ثَنَا مُحَمَّد بن مُنِير، ثَنَا أَحْمد بن الْعَبَّاس قَالَ: قلت ليحيى بن معِين: تحفظ عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «تُعَاد الصَّلَاة من مِقْدَار الدِّرْهَم» ؟ فَقَالَ: لَا وَالله، ثمَّ قَالَ: من؟ قلت: ثَنَا مُحرز (بن) عون، قَالَ: ثِقَة (عَمَّن) ؟ قلت: الْقَاسِم بن مَالك الْمُزنِيّ، قَالَ: (ثِقَة) عَمَّن؟ قلت: عَن روح بن غطيف قَالَ: هاه، قلت: يَا أَبَا زَكَرِيَّا، مَا أرَى أَتَيْنَا إِلَّا من روح بن غطيف (قَالَ: أجل، قَالَ ابْن عدي: وَهَذَا لَا يرويهِ عَن الزُّهْرِيّ فِيمَا أعلمهُ غير روح بن غطيف) وَهُوَ مُنكر بِهَذَا الْإِسْنَاد.
قَالَ: وروح بن غطيف رَأَيْته قَلِيل الرِّوَايَة لَا يعرف إِلَّا بِهَذَا الحَدِيث، وَمِقْدَار مَا يرويهِ من الحَدِيث لَيْسَ بِمَحْفُوظ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِيمَا بَلغنِي عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى الذهلي أَنه قَالَ: أَخَاف أَن يكون هَذَا مَوْضُوعا، وروح هَذَا مَجْهُول.
قلت: فِي جهالته وَقْفَة، فقد رَوَى عَنهُ الْقَاسِم بن مَالك وَنصر(4/140)
بن حَمَّاد و [أَسد] بن عَمْرو البَجلِيّ وَعرف النَّاس دبره كَمَا قدمْنَاهُ عَنْهُم، وَجزم بِكَوْنِهِ مَوْضُوعا ابْن الْجَوْزِيّ فَذكره فِي «مَوْضُوعَاته» من طرق، عَن أبي هُرَيْرَة، وضعفها كلهَا، ثمَّ نقل عَن البُخَارِيّ أَنه حَدِيث بَاطِل، وَكَذَا نَقله الْعقيلِيّ عَنهُ، وَقَالَ ابْن حبَان: هَذَا حَدِيث مَوْضُوع لَا شكّ فِيهِ، مَا قَالَه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَإِنَّمَا هُوَ اختراع اخترعه أهل الْكُوفَة فِي الْإِسْلَام.
وَوَقع فِي «الْمِيزَان» للذهبي أَن هَذَا الحَدِيث انْفَرد بِهِ عَن روح: الْقَاسِم بن مَالك، وَقد أسلفنا لَك من كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» أَن [أَسد] بن عَمْرو البَجلِيّ رَوَاهُ عَنهُ أَيْضا، فَلم ينْفَرد إِذن.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) : «تنزهوا من الْبَوْل» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ (فِي بَاب الِاسْتِنْجَاء) ، فَرَاجعه مِنْهُ.(4/141)
الحَدِيث السَّادِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تكشف فخذك، وَلَا تنظر إِلَى فَخذ حَيّ وَلَا ميت» ، وَيروَى: «وَلَا تبرز فخذك» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فِي الْجَنَائِز وَكتاب الْحمام من حَدِيث (ابْن جريج) قَالَ: أخْبرت عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء، وَلَفظه فِي كتاب الْحمام: «لَا تكشف» ، وَفِي الْجَنَائِز: «لَا تبرز» .
وَقد ذكر الرَّافِعِيّ اللَّفْظَيْنِ ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث فِيهِ نَكَارَة، (وَرَوَاهُ) ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» فِي الْجَنَائِز من حَدِيث روح بن عبَادَة [عَن ابْن جريج] عَن حبيب بِهِ بِلَفْظ «لَا تبرز» . وَرَوَاهُ الْحَاكِم (فِي اللبَاس) فِي «مُسْتَدْركه» كَذَلِك إِسْنَادًا ومتنًا، وَكَذَا الْبَزَّار فِي «مُسْنده» ، ثمَّ قَالَ: لَا نعلمهُ يرْوَى عَن عَلّي مَرْفُوعا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد.
قلت: وأعل هَذَا الحَدِيث بالطعن فِي عَاصِم والانقطاع، أما الأول(4/142)
فَقَالَ ابْن عدي: إِنَّه ينْفَرد عَن عَلّي بِأَحَادِيث بَاطِلَة لَا يُتَابِعه الثِّقَات عَلَيْهَا والبلية مِنْهُ، وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ رَدِيء الْحِفْظ، فَاحش الْخَطَأ، يرفع عَن عَلّي قَوْله كثيرا، فَلَمَّا فحش ذَلِك مِنْهُ اسْتحق التّرْك. نعم وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَكَذَا ابْن الْمَدِينِيّ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس.
وَأما الِانْقِطَاع فَفِي مَوْضُوعَيْنِ أَحدهمَا: بَين ابْن جريج وحبِيب بن أبي ثَابت كَمَا هُوَ ظَاهر رِوَايَة أبي دَاوُد الأولَى؛ حَيْثُ قَالَ: أخْبرت، وَثَانِيهمَا: بَين حبيب وَعَاصِم فَإِنَّهُ لم (يسمعهُ) مِنْهُ.
قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: رَوَاهُ حجاج، عَن ابْن جريج، قَالَ: أخْبرت، عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن عَاصِم بِهِ قَالَ: وَابْن جريج لم يسمع هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد من حبيب؛ إِنَّمَا هُوَ من حَدِيث عَمْرو بن خَالِد (الوَاسِطِيّ، وَلَا يثبت (لحبيب) رِوَايَة عَن عَاصِم، فَأرَى أَن ابْن جريج أَخذ من الْحسن بن ذكْوَان، عَن عَمْرو بن خَالِد) ، عَن حبيب، وَالْحسن وَعَمْرو: ضعيفان فِي الحَدِيث. وَقَالَ ابْن الْقطَّان كتاب «أَحْكَام النّظر» : كل رِجَاله ثِقَات، وَلَكِن الِانْقِطَاع فِيهِ بَين ابْن جريج وحبِيب فِي قَوْله: أخْبرت، وَزعم ابْن معِين أَيْضا أَنه مُنْقَطع فِي مَوضِع آخر، وَهُوَ مَا بَين حبيب(4/143)
وَعَاصِم بن ضَمرَة، وَأَن حبيبًا لم يسمعهُ من عَاصِم، وَأَن بَينهمَا رجلا لَيْسَ بِثِقَة.
وَقَالَ الْبَزَّار ذَلِك أَيْضا، وَفسّر (الرجل) الَّذِي بَينهمَا بِأَنَّهُ عَمْرو بن خَالِد وَهُوَ مَتْرُوك، فعلَى هَذَا يكون إِسْنَاده سُوِّيَ، وَلَا أدرى من سواهُ، وَابْن جريج لَا يعرف بالتسوية إِنَّمَا يعرف بالتدليس. قَالَ: وَأحسن من هَذَا الْإِسْنَاد، وَمن هَذَا الحَدِيث مَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث روح بن عبَادَة، نَا ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي حبيب بن أبي ثَابت، عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي مَرْفُوعا: « (لَا تكشف) فخذك؛ فَإِن الْفَخْذ عَورَة» .
قَالَ: وَهَذَا أَيْضا رِجَاله ثِقَات، والانقطاع الذى فِي الأولَى بَين ابْن جريج وحبِيب زَالَ هُنَا، وَقد رَوَاهُ يزِيد بن عبد الله الْقرشِي، عَن ابْن جريج، كَذَلِك أَفَادَهُ بن عدي. قلت: وَكَذَا أخرجه عبد الله بن أَحْمد، فَقَالَ: حَدثنِي عبيد الله بن عمر القواريري (حَدثنِي) يزِيد أَبُو خَالِد الْقرشِي، حَدثنِي ابْن جريج قَالَ: أَخْبرنِي حبيب بن أبي ثَابت، عَن عَاصِم (بن ضَمرَة) ، عَن عَلّي مَرْفُوعا فَذكره بِمثل لفظ ابْن مَاجَه، وَأما أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَإِنَّهُ أعل الحَدِيث بِمَا تقدم وَبِزِيَادَة وهم فِيهَا فَقَالَ فِي «محلاه» : (فَإِن) ذكرُوا الْأَخْبَار الْوَاهِيَة «أَن(4/144)
الْفَخْذ عَورَة» فَهِيَ كلهَا سَاقِطَة، وَذكر فِيهَا هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: إِنَّه مُنْقَطع رَوَاهُ ابْن (جريج) ، عَن حبيب، وَلم يسمعهُ مِنْهُ بَينهمَا (من) لم يسم وَلَا يُدْرَى من هُوَ، وَرَوَاهُ حبيب (عَن) عَاصِم وَلم يسمعهُ مِنْهُ. قَالَ ابْن معِين: بَينهمَا رجل لَيْسَ بِثِقَة، وَلم يروه عَن ابْن جريج إِلَّا أَبُو خَالِد وَلَا يُدْرَى من هُوَ، هَذَا كَلَامه وَقد علمت أَن عبد الله بن أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ أَخْرجَاهُ من حَدِيث ابْن جريج قَالَ: أَخْبرنِي حبيب، وَإِن كَانَ فِي أبي دَاوُد أُخبرت عَن حبيب، فَيكون لم يسمعهُ مِنْهُ أَولا، ثمَّ سَمعه (مِنْهُ) ثَانِيًا، فطاح قَوْله: «بَينهمَا من لم يسم وَلَا يُدْرَى من هُوَ» .
(وَقَوله) : «وَلم يروه عَن ابْن جريج إِلَّا أَبُو خَالِد» وهم قَبِيح؛ فقد رَوَاهُ عَنهُ روح بن عبَادَة كَمَا تقدم عَن رِوَايَة ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَالْبَزَّار وَالدَّارَقُطْنِيّ (وحجاج كَمَا تقدم من رِوَايَة أبي دَاوُد وَعبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي روَّاد كَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ) فِي «سنَنه» وَيَحْيَى بن سعيد كَمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، فَهَؤُلَاءِ خَمْسَة رَوَوْهُ عَن ابْن جريج، وَقَوله: «وَلَا يُدْرَى من هُوَ» لَيْسَ بجيد فَهُوَ أَبُو خَالِد الدالاني يزِيد بن عبد الرَّحْمَن، (كَذَا) سَمَّاهُ يزِيد عبد الله بن أَحْمد فِي مُسْند أَبِيه(4/145)
وَابْن عدي كَمَا سلف وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ كَمَا سلف، فِي بَاب الْأَحْدَاث، وَيحْتَمل أَيْضا أَنه يزِيد بن عبد الله الْقرشِي إِن كَانَ فِي طبقته، وَهُوَ من رجال النَّسَائِيّ، وثقات ابْن حبَان، وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» مَا نَصه: يروي عَن ابْن (عَبَّاس) وجرهد، وَمُحَمّد بن جحش عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الفخذُ عَورَة» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» و «الخلافيات» فِي هَذِه الثَّلَاثَة: هَذِه أَسَانِيد صَحِيحَة يحْتَج بهَا. قلت: وَخَالفهُ غَيره فِي ذَلِك، قَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : فَإِن ذكرُوا الْأَخْبَار الْوَاهِيَة فِي أَن الْفَخْذ عَورَة فَهِيَ سَاقِطَة، أما حَدِيث (جرهد) فَإِنَّهُ عَن ابْن (جرهد) وَهُوَ مَجْهُول، وَعَن مجهولين، (ومنقطع) قَالَ: وَمن طَرِيق ابْن جحش فِيهِ أَبُو كثير وَهُوَ مَجْهُول، قَالَ: وَمن طَرِيق ابْن عَبَّاس وَفِيه يَحْيَى القَتَّات وَهُوَ ضَعِيف، وَذكره فِي مَوضِع آخر وَقَالَ: مَجْهُول، ثمَّ أعل حَدِيث عَلّي بِمَا أسلفته عَنهُ.(4/146)
وَأَقُول: قد أسرف فِي قَوْله: «إِنَّهَا أَخْبَار سَاقِطَة» فَإِن حَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي يَحْيَى القَتَّات - بقاف، ثمَّ مثناة فَوق، ثمَّ ألف، ثمَّ مثناة فَوق أَيْضا - عَن مُجَاهِد عَنهُ قَالَ: «مر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى رجل فَخذه خَارِجَة، فَقَالَ: غط فخذك فَإِن فَخذ الرجل من عَوْرَته» . هَذَا لفظ أَحْمد وَالْحَاكِم، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ مُخْتَصرا «الْفَخْذ عَورَة» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ عَلَى مَا نَقله الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. قلت: وَأَبُو يَحْيَى هَذَا اسْمه: زَاذَان، أَو يزِيد، أَو دِينَار، أَو عبد الرَّحْمَن بن دِينَار، أَو مُسلم أَقْوَال لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم كَمَا قَالَ أَبُو عمر، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: ضَعِيف عِنْدهم، وَأَحْسَنهمْ فِيهِ رَأيا الْبَزَّار؛ فَإِنَّهُ قَالَ: مَا نعلم بِهِ بَأْسا، فقد رَوَى عَنهُ جمَاعَة من أهل الْعلم وَاحْتَملُوا حَدِيثه وَهُوَ كُوفِي مَعْرُوف، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: ضعفه شريك وَيَحْيَى، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى فِي رِوَايَة، وَقَالَ أَحْمد: رويت عَنهُ أَحَادِيث مَنَاكِير جدًّا، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ ابْن حبَان: فحش(4/147)
خَطؤُهُ، وَكثر (وهمه) ، حَتَّى سلك غير مَسْلَك (الْعُدُول) فِي الرِّوَايَات.
قلت: فنسبة ابْن حزم الْجَهَالَة إِلَيْهِ إِذن غَرِيب من يكون هَذَا حَاله كَيفَ يكون مَجْهُولا؟ ! ، وَأما حَدِيث مُحَمَّد بن جحش فَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالْبُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي كثير مولَى مُحَمَّد بن جحش، (عَن مُحَمَّد بن جحش) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه مر عَلَى معمر مُحْتَبِيًا كاشفًا عَن طرف فَخذه، فَقَالَ (لَهُ) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: خمر فخذك يَا معمر فَإِن الْفَخْذ عَورَة» .
وَأَبُو كثير هَذَا حجازي يُقَال: إِن لَهُ صُحْبَة رَوَى لَهُ النَّسَائِيّ فدعوى ابْن حزم جهالته إِذن غير جَيِّدَة، وَقد تبعه فِي هَذَا ابْن الْقطَّان فَقَالَ: لَا يعرف حَاله، وَتَصْحِيح الْبَيْهَقِيّ السالف لَهُ فرع عَن معرفَة حَاله، وَأما حَدِيث جرهد (فَرَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن أبي [النَّضر] ، عَن زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن بن جرهد) ، عَن أَبِيه، عَن جده (قَالَ:(4/148)
وَكَانَ جدي من ًاصحاب الصّفة قَالَ: (جلس رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عِنْدِي وفخذي) مكشوفة، فَقَالَ: خمر عَلَيْك، أما علمت أَن الْفَخْذ عَورَة» . قَالَ ابْن عبد الْبر فِي «التَّقَصِّي» : هَكَذَا هُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» عِنْد ابْن بكير وَجَمَاعَة، وَقَالَ غَيره: هَكَذَا يَقُول (ابْن) معِين وَابْن مهْدي وَجَمَاعَة عَن أَبِيه، عَن جده جرهد، وَقَالَ ابْن بكير وَابْن طهْمَان وَغَيرهمَا: عَن زرْعَة، عَن أَبِيه وَكَانَ من أَصْحَاب الصّفة لَا يذكرُونَ جده، وَكَذَلِكَ أخرجه عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَلَى مَا عزاهُ إِلَيْهِ (صَاحب) «الإِمَام» عَن أبي الزِّنَاد (عَن آل جرهد، عَن جرهد بِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمد عَن حُسَيْن بن مُحَمَّد، ثَنَا ابْن أبي الزِّنَاد) ، عَن أَبِيه، عَن زرْعَة بن (عبد الله) بن جرهد، عَن جرهد «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر عَلَى جرهد وفخذ جرهد مكشوفة (فِي الْمَسْجِد) فَقَالَ (لَهُ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا جرهد، غط فخذك فَإِن الْفَخْذ عَورَة» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث مَالك، عَن أبي النَّضر، عَن زرْعَة، عَن أَبِيه قَالَ - كَانَ جرهد من أَصْحَاب الصّفة أَنه قَالَ - «جلس رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عندنَا و (فَخذي) مكشوفة فَقَالَ: أما علمت أَن الْفَخْذ عَورَة» .(4/149)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي كتاب الاسْتِئْذَان من «جَامعه» من ثَلَاث طرق:
إِحْدَاهَا: من حَدِيث زرْعَة بن مُسلم بن جرهد الْأَسْلَمِيّ، عَن جده جرهد قَالَ: «مر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بجرهد فِي الْمَسْجِد وَقد انْكَشَفَ فَخذه، فَقَالَ: إِن الْفَخْذ عَورَة» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن عبد الله بن جرهد الْأَسْلَمِيّ، عَن أَبِيه مَرْفُوعا «الْفَخْذ عَورَة» .
ثَالِثهَا: من حَدِيث معمر عَن أبي الزِّنَاد، أَخْبرنِي ابْن جرهد، عَن أَبِيه « (أَن) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (مر بِهِ وَهُوَ كاشف عَن فَخذه فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) : غط فخذك، فَإِنَّهَا من الْعَوْرَة» .
ثمَّ قَالَ فِي هَذِه الطَّرِيق: هَذَا حَدِيث حسن، وَقَالَ فِي الثَّانِي هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. قلت: وَرِجَاله (إِلَى) ابْن عقيل رجال الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ رَوَاهُ عَن وَاصل بن عبد الْأَعْلَى وَهُوَ من فرسَان مُسلم، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيّ (و) مطين (عَن) يَحْيَى بن آدم، وَهُوَ من فرسَان الصَّحِيحَيْنِ (وَالسّنَن) ، عَن الْحسن بن صَالح وَهُوَ من فرسَان مُسلم، وَابْن عقيل قد أسلفنا حَاله فِي الْوضُوء وَابْن حزم (يحْتَج بِهِ) .(4/150)
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي الأول: حسن مَا أرَى إِسْنَاده بِمُتَّصِل، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن (الْحُسَيْن) بن مُحَمَّد بن أبي معشر، نَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الصَّواف، نَا أَبُو عَاصِم، عَن سُفْيَان، عَن أبي الزِّنَاد، عَن زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن جده جرهد «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مر بِهِ وَقد كشف فَخذه، فَقَالَ: غطها فَإِنَّهَا عَورَة» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي كتاب اللبَاس من «مُسْتَدْركه» عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان الْموصِلِي، ثَنَا عَلّي بن حَرْب، نَا سُفْيَان، عَن سَالم أبي النَّضر، عَن زرْعَة بن مُسلم بن جرهد، عَن جده جرهد «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أبصره، وَقد انْكَشَفَ فَخذه فِي الْمَسْجِد وَعَلِيهِ بردة، فَقَالَ: إِن الْفَخْذ من الْعَوْرَة» . ثمَّ قَالَ: (هَذَا) حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، ثمَّ ذكر لَهُ شَوَاهِد.
وَرَوَاهُ يَحْيَى بن معِين عَلَى مَا عزاهُ إِلَيْهِ صَاحب «الإِمَام» عَن ابْن عُيَيْنَة، قَالَ يَحْيَى: ونا سُفْيَان أَيْضا، عَن سَالم أبي النَّضر، سَمعه من زرْعَة بن مُسلم بن جرهد «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بجرهد هَذَا، وَقد انْكَشَفَ فَخذه فَقَالَ: غطها فَإِن الْفَخْذ عَورَة» .
وَقَالَ أَبُو أُميَّة بن يعْلى: عَن أبي الزِّنَاد، عَن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عَن سُلَيْمَان بن جرهد، عَن جرهد «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام دخل عَلَيْهِ وَهُوَ كاشف فَخذيهِ» .
وَرَوَاهُ مُوسَى بن هَارُون الْحَافِظ من حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن جرهد، عَن أَبِيه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مر عَلَيْهِ وَهُوَ كاشف عَن فَخذه،(4/151)
فَقَالَ: غطها؛ فَإِنَّهَا من الْعَوْرَة» .
(قَالَ) ابْن الْقطَّان ثمَّ صَاحب «الإِمَام» : لهَذَا الحَدِيث عِلَّتَانِ: إِحْدَاهمَا: الِاضْطِرَاب الْمُورث سُقُوط (الثِّقَة) بِهِ، وَذَلِكَ أَنهم يَخْتَلِفُونَ فِيهِ: فَمنهمْ من يَقُول: زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن، وَمِنْهُم من يَقُول: زرْعَة بن عبد الله، وَمِنْهُم من يَقُول: زرْعَة بن مُسلم، ثمَّ من هَؤُلَاءِ من يَقُول: عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَمِنْهُم من يَقُول: عَن أَبِيه، عَن جرهد، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَمِنْهُم من يَقُول: عَن زرْعَة، عَن آل جرهد [عَن جرهد] عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَإِن كنت لَا أرَى الِاضْطِرَاب فِي الْإِسْنَاد عِلّة. فَأَما ذَلِك إِذا كَانَ من يَدُور عَلَيْهِ الحَدِيث ثِقَة، فَحِينَئِذٍ لَا (يظْهر) اخْتِلَاف النقلَة عَنهُ إِلَى مُسْند ومرسل، أَو رفع، أَو وقف، أَو وصل، أَو قطع. وَأما إِذا كَانَ الَّذِي يضطرب عَلَيْهِ جَمِيع هَذَا أَو بعضه غير ثِقَة أَو غير مَعْرُوف، فالاضطراب حِينَئِذٍ يكون زِيَادَة فِي وهنه، وَهَذِه حَالَة هَذَا الْخَبَر، وَهَذِه الْعلَّة (الثَّانِيَة) ؛ وَذَلِكَ أَن زرْعَة وأباه غير (معروفي) الْحَال وَلَا مشهوري الرِّوَايَة.(4/152)
قلت: بلَى هما معروفان، قَالَ ابْن حبَان فِي «ثقاته» : فِي التَّابِعين زرْعَة بن [عبد الرَّحْمَن] بن جرهد الْأَسْلَمِيّ من أهل الْمَدِينَة، يروي عَن جرهد، (رَوَى) عَنهُ أَبُو الزِّنَاد وَسَالم أَبُو النَّضر. قَالَ: وَمن زعم أَنه زرْعَة بن مُسلم بن جرهد فقد وهم. (قَالَ) : وَقد رَوَى قَتَادَة، عَن زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن رَاشد بن [حُبَيْش] ، عَن عبَادَة بن الصَّامِت، وَفِي (التذهيب) مُخْتَصر التَّهْذِيب: زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن بن جرهد الْأَسْلَمِيّ، وَقيل: اسْم أَبِيه مُسلم رَوَى عَن أَبِيه، عَن جده «الْفَخْذ عَورَة» ، وَعنهُ سَالم (أَبُو) النَّضر، وَأَبُو الزِّنَاد وَهُوَ ثِقَة كَمَا قَالَ النَّسَائِيّ. وَأما وَالِده عبد الله بن جرهد فَذكره ابْن حبَان أَيْضا فِي «ثقاته» وَقَالَ: رَوَى عَنهُ ابْن عقيل إِن كَانَ (حفظه) . وَقد حسن التِّرْمِذِيّ حَدِيثه كَمَا مر، (و) عبد الرَّحْمَن بن جرهد رَوَى عَنهُ مَعَ ابْنه ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ الإِمَام، وَأخرج الحَدِيث من جِهَة مَالك فِي الْمُوَطَّأ، (و) قد علم شدَّة تحريه فِي الرِّجَال. ونختم الْكَلَام عَلَى ذَلِك بخاتمتين:(4/153)
الأولَى: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : أصلح هَذِه الْأَحَادِيث حَدِيث عَلّي، وَحَدِيث مُحَمَّد بن (جحش) قلت: وَفِي تَقْدِيمه عَلَى حَدِيث جرهد وَقْفَة لما علمت من حَاله، وَقَالَ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» : حَدِيث أنس أسْند، وَحَدِيث جرهد أحوط حَتَّى يُخرج من اخْتلَافهمْ يُشِير إِلَى حَدِيث أنس بن مَالك قَالَ: «حُسرِ الْإِزَار عَن فَخذ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
الثَّانِيَة: حَكَى الْخَطِيب فِي الرجل الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (غط فخذك فَإِن الْفَخْذ عَورَة» ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: جرهد بن خويلد الْأَسْلَمِيّ. ثَانِيهَا: قبيصَة بن مُخَارق الْهِلَالِي. ثَالِثهَا: معمر بن عبد الله بن نَضْلَة (الْعَدوي) ، وَقد أسلفنا (فِيمَا) مَضَى التَّصْرِيح بِهَذَا (وَالْأول) ، وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «إِيضَاح الْإِشْكَال» : هُوَ يعِيش بن طخفة (الْغِفَارِيّ) . فَقَالَ: الرجل الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «غط فخذك فَإِن الْفَخْذ عَورَة» من رِوَايَة حبيب بن أبي ثَابت، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس. وَرَوَاهُ مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس مَعَ الِاخْتِلَاف الْوَاقِع فِي إسناديهما، قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر عَلَى رجل - وَهُوَ يعِيش(4/154)
بن (طخفة) الْغِفَارِيّ - قَالَ: وَقيل غير ذَلِك.
الحَدِيث السَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يقبل الله صَلَاة حَائِض إِلَّا بخمار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ رَوَوْهُ كلهم من حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قَالَ الْحَاكِم: وأظن أَنَّهُمَا لم يخرجَاهُ لخلاف فِيهِ عَلَى قَتَادَة، ثمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تقبل صَلَاة حَائِض إِلَّا بخمار» .
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» أَيْضا بِلَفْظ: «لَا يقبل الله صَلَاة امْرَأَة قد حَاضَت إِلَّا بخمار» . وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا عَن ابْن خُزَيْمَة بِهِ سَوَاء، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث رُوِيَ عَن قَتَادَة، عَن ابْن سِيرِين، عَن صَفِيَّة بنت الْحَارِث، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا، وَعَن قَتَادَة مَوْقُوفا. وَرَوَاهُ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَهِشَام بن حسان،(4/155)
عَن ابْن سِيرِين مُرْسلا، عَن عَائِشَة أَنَّهَا نزلت عَلَى صَفِيَّة حدثتها بذلك ووقفا الحَدِيث، وقولهما أشبه بِالصَّوَابِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (بعد أَن) رَوَى هَذَا الحَدِيث: قَالَ ابْن أبي عَاصِم: أَرَادَ بِالْحيضِ: الْبلُوغ. قلت: لابد من ذَلِك فَإِنَّهُ؛ لم يرد بِهِ الْمَرْأَة (الَّتِي) هِيَ فِي أَيَّام حَيْضَتهَا؛ فَإِن الْحَائِض لَا تصح صلَاتهَا بِوَجْه من الْوُجُوه، (وَمِمَّا) يُوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» من حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يقبل الله من امْرَأَة صَلَاة حَتَّى تواري زينتها، وَلَا من جَارِيَة بلغت الْمَحِيض حَتَّى (تختمر) » . قَالَ الطَّبَرَانِيّ لم يروه عَن الْأَوْزَاعِيّ إِلَّا عَمْرو بن هَاشم الْبَيْرُوتِي، تفرد بِهِ (إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل) بن عبد الْأَعْلَى (الْأَيْلِي) . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: رُوِيَ «لَا يقبل الله صَلَاة امْرَأَة تحيض إِلَّا بخمار» . فوضح أَن المُرَاد بالحائض من بلغت، سميت حَائِضًا لبلوغها سنّ (الْحيض) ، وَمن عبر بِأَن المُرَاد (بالحائض) الَّتِي بلغت سنّ الْحيض فَفِيهِ تساهل؛ لِأَنَّهَا قد تبلغ سنّ الْحيض وَلَا تبلغ الْبلُوغ الشَّرْعِيّ.(4/156)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ (وَفِي) هَذَا الحَدِيث كالدلالة عَلَى توجه الْفَرْض عَلَيْهَا إِذا بلغت بِالْحيضِ. ثمَّ التَّقْيِيد بالحائض جَرَى مجْرى الْغَالِب، وَهِي أَن الَّتِي دون الْبلُوغ لَا تصلي وَإِلَّا فَلَا تقبل صَلَاة المميزة إِلَّا بخمار، ثمَّ لَا يخْفَى تَخْصِيص الحَدِيث بِالْحرَّةِ؛ فَإِن الْأمة تصح صلَاتهَا مكشوفة الرَّأْس.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
عَن أبي أَيُّوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا فَوق الرّكْبَة وَدون السُّرَّة عَورَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث سعيد بن رَاشد، عَن عباد بن كثير، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي أَيُّوب قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: (مَا فَوق الرُّكْبَتَيْنِ من الْعَوْرَة، وَمَا أَسْفَل السُّرَّة من الْعَوْرَة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِهَذَا الطَّرِيق من جِهَة الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا، وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف فسعيد بن رَاشد، وَعباد بن كثير مَتْرُوكَانِ، وَضَعفه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (بِسَعِيد) فَقَالَ: سعيد بن رَاشد ضَعِيف،(4/157)
وَأعله ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» بهما فَقَالَ: إنَّهُمَا مَتْرُوكَانِ، وَكَذَا صَاحب «الإِمَام» فَقَالَ: قيل فِي كل مِنْهُمَا إِنَّه مَتْرُوك.
قلت: وَقَالَ ابْن عدي فِي سعيد: أَنه لَا يُتَابِعه عَلَى رِوَايَته أحد. قلت: وَعباد بن كثير اثْنَان فِي طبقَة وَاحِدَة: أَحدهمَا: الرملى وَالْجُمْهُور عَلَى تَركه، وَالثَّانِي: الثَّقَفِيّ، قَالَ البُخَارِيّ: تَرَكُوهُ، وَقَالَ (ابْن عدي) : الرَّمْلِيّ خير من الْبَصْرِيّ.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «الضُّعَفَاء» : وَمن الْعلمَاء من ذهب إِلَى أَنَّهُمَا وَاحِد؛ وَلَيْسَ كَذَلِك.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَورَة الرجل مَا بَين سرته وركبته» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَارِث بن أبي أُسَامَة، نَا دَاوُد، نَا عباد، عَن أبي عبد الله الشَّامي، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَورَة (الرجل) مَا بَين سرته إِلَى ركبته» . وَذكر مَعَه أَحَادِيث، وَدَاوُد هَذَا هُوَ (ابْن) المحبر - بحاء مُهْملَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة - صَاحب كتاب (الْعقل) وَقد ضَعَّفُوهُ. وَأما يَحْيَى بن معِين فَقَالَ: ثِقَة، وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِيهِ: شبه الضَّعِيف.(4/158)
وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» من حَدِيث أَحْمد بن الْمِقْدَام، عَن أَصْرَم بن حَوْشَب، عَن إِسْحَاق بن وَاصل، عَن أبي جَعْفَر الباقر، عَن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «مَا بَين السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة عَورَة» . ذكره فِي فَضَائِل عبد الله بن جَعْفَر، وَهُوَ حَدِيث مُنكر.
أَصْرَم بن حَوْشَب مُتَّهم تَركه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ يَحْيَى: كَذَّاب خَبِيث. وَإِسْحَاق بن وَاصل هَالك. قَالَ الْأَزْدِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث زائغ لَا جرم قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مُخْتَصر الْمُسْتَدْرك» : أَظن هَذَا الحَدِيث مَوْضُوعا، وَقَالَ فِي «مِيزَانه» : إِسْحَاق بن وَاصل، عَن أبي جَعْفَر الباقر من الهلكى، من بلاياه الَّتِي أوردهَا الْأَزْدِيّ مَرْفُوعا «من السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة عَورَة» ، وَهُوَ رِوَايَة أَصْرَم وَلَيْسَ بِثِقَة عَنهُ، وَهُوَ هَالك.
قلت: وَلما رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» بِلَفْظ الْحَاكِم قَالَ: تفرد بِهِ أَبُو الْأَشْعَث أَحْمد بن الْمِقْدَام عَن الأصرم. قلت: وَأَبُو الْأَشْعَث هَذَا من فرسَان البُخَارِيّ، وَإِن لين لأجل مزاحه.
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث أبي حَمْزَة سوار بن دَاوُد الْمُزنِيّ، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله(4/159)
(: (مروا أَوْلَادكُم بِالصَّلَاةِ وهم أَبنَاء سبع (سِنِين) ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وهم أَبنَاء عشر سِنِين، وَفرقُوا (بَينهم) فِي الْمضَاجِع» . ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث (وَكِيع) عَن دَاوُد بن سوار الْمُزنِيّ بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ، وَزَاد «وَإِذا زوج أحدكُم خادمه عَبده أَو أجيره، فَلَا ينظر إِلَى مَا دون السُّرَّة وَفَوق الرّكْبَة» . ثمَّ قَالَ: وهم (وَكِيع) فِي اسْمه، (قَالَ:) وَرَوَى عَنهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: ثَنَا أَبُو حَمْزَة سوار الصَّيْرَفِي.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بالسند الْمَذْكُور من طَرِيقين لَفظه فِي أَحدهمَا بعد «وَفرقُوا (بَينهم) فِي الْمضَاجِع، وَإِذا زوج أحدكُم عَبده (أَو) أمته أَو أجيره، فَلَا (تنظر الْأمة إِلَى شَيْء من عَوْرَته) ، فَإِن تَحت السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة من الْعَوْرَة» . وَلَفظه فِي الثَّانِي بعد «فِي الْمضَاجِع» : «وَإِذا زوج الرجل مِنْكُم عَبده أَو أجيره، فَلَا يرين مَا بَين ركبته وسرته، فَإِن مَا(4/160)
بَين سرته وركبته (من عَوْرَته) » .
قلت: وسوار بن دَاوُد الْمَذْكُور وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يُتَابع عَلَى أَحَادِيثه يعْتَبر بِهِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِلَفْظ أبي دَاوُد الْمُتَقَدّم، ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق أبي دَاوُد أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن مَيْمُون، ثَنَا الْوَلِيد، ثَنَا الْأَوْزَاعِيّ، عَن عمر بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا زوج أحدكُم عَبده أَو أمته أَو أجيره، فَلَا ينظرن إِلَى عورتها» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة عَن أبي دَاوُد إِذا قرنت بِهَذِهِ، دلنا عَلَى أَن المُرَاد بِالْحَدِيثِ نهي السَّيِّد عَن النّظر إِلَى عورتها إِذا زَوجهَا، وَأَن عَورَة الْأمة مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة، وَسَائِر طرق الحَدِيث تدل، وَبَعضهَا ينص عَلَى أَن المُرَاد بِهِ نهي الْأمة عَن النّظر إِلَى عَورَة السَّيِّد بَعْدَمَا بلغا النِّكَاح، فَيكون الْخَبَر واردًا فِي مِقْدَار الْعَوْرَة (من الرجل لَا فِي بَيَان قدرهَا) من الْمَرْأَة، ثمَّ ذكر بعد (ذَلِك) للْحَدِيث ألفاظًا أُخر، فَمِنْهَا لفظ الدَّارَقُطْنِيّ السالف وَمِنْهَا «وَإِذا زوج أحدكُم خادمه من عَبده أَو أجيره، فَلَا ينظرن إِلَى شَيْء من عَوْرَته فَإِن كل شَيْء أَسْفَل من سرته إِلَى ركبته من عَوْرَته» . وَمِنْهَا «وَإِذا زوج أحدكُم أمته عَبده أَو أجيره، فَلَا (تنظر) إِلَى عَوْرَته، والعورة مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة» . ثمَّ قَالَ فِي(4/161)
آخر الْبَاب: فَأَما حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، فقد اخْتلف فِي مَتنه فَلَا يَنْبَغِي أَن يعْتَمد عَلَيْهِ فِي عَورَة الْأمة، وَإِن كَانَ يصلح الِاسْتِدْلَال بِهِ؛ يَعْنِي: فَيكون (الحَدِيث) واردًا فِي عَورَة الرجل.
تَنْبِيه: بيض النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَالْمُنْذِرِي لحَدِيث أبي سعيد السالف (بَيَاضًا) وَلم يعزياه، (و) قَالَ بعض مَشَايِخنَا فِي بعض مصنفاته: إِنَّه لم يجده، وَلَا حَدِيث أبي أَيُّوب السالف أَيْضا، وَقد وجدناهما بِحَمْد الله وَمِنْه، (فاستفد) ذَلِك.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الْمَرْأَة تصلي فِي درع وخمار (من غير إِزَار؟) فَقَالَ: لَا بَأْس؛ إِذا كَانَ الدرْع سابغًا يغطى ظُهُور قدميها» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» (من حَدِيث أم سَلمَة) مَوْقُوفا عَلَيْهَا، عَن مُحَمَّد بن زيد بن قنفد، عَن (أمه) : «أَنَّهَا سَأَلت أم سَلمَة مَاذَا تصلي فِيهِ الْمَرْأَة من الثِّيَاب؟ [فَقَالَت] : تصلي فِي الْخمار، والدرع السابغ؛ إِذا غيبت ظُهُور قدميها» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي، عَن مَالك هَكَذَا ثمَّ قَالَ: ثَنَا(4/162)
مُجَاهِد بن مُوسَى، نَا عُثْمَان بن عمر، نَا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار، عَن مُحَمَّد بن زيد؛ بِهَذَا الحَدِيث قَالَ: «عَن أم سَلمَة أَنَّهَا سَأَلت رَسُول (أتصلى الْمَرْأَة فِي درع وخمار لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَار؟ قَالَ: إِذا كَانَ الدرْع سابغًا يُغطي ظُهُور قدميها» . ثمَّ قَالَ: رَوَى هَذَا الحَدِيث مَالك بن أنس، وَبكر بن (مُضر) ، وَحَفْص بن غياث، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، وَابْن أبي ذِئْب، وَابْن إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن زيد، عَن [أمه] ، عَن أم سَلمَة لم يذكر أحد مِنْهُم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قصروا بِهِ عَلَى أم سَلمَة.
وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : إِنَّه الصَّحِيح، وَأَن بَعضهم رَفعه. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : هَذَا الحَدِيث فِي رَفعه مقَال؛ وَهُوَ أَن عبد الرَّحْمَن بن دِينَار ضعفه يَحْيَى، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحْتَج بِهِ، قَالَ: وَالظَّاهِر أَنه غلط فِي رَفعه، ثمَّ اسْتدلَّ بِكَلَام أبي دَاوُد السالف. وَلَك أَن تَقول: عبد الرَّحْمَن وَإِن ضعفه يَحْيَى وَأَبُو حَاتِم فَلم يثبتا سَبَب ضعفه، وَقد وَثَّقَهُ (غَيرهمَا) وَهُوَ من فرسَان البُخَارِيّ (فالرفع) إِذن زِيَادَة من ثِقَة، وَقد علم مَا فِيهِ لَا جرم أَن الْحَاكِم أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» ، عَن أبي الْوَلِيد الْفَقِيه، نَا مُحَمَّد بن نعيم، نَا مُجَاهِد. كَمَا سَاقه أَبُو دَاوُد(4/163)
مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ.
قلتُ: فيحتج بِهَذَا الْمَرْفُوع و (بالموقوف) أَيْضا لاعتضاده بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعد حكايته كَلَام أبي دَاوُد السالف: فِيهِ (مَعَ) هَذَا الْمُرْسل قَول من ذَكَرْنَاهُمْ من الصَّحَابَة فِي بَيَان (مَا) أَبَاحَ الله من الزِّينَة الظَّاهِرَة، قَالَ: فَصَارَ القَوْل بذلك قويًّا. (وَالله سُبْحَانَهُ الْمُوفق للصَّوَاب) .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الرجل يَشْتَرِي الْأمة: لَا بَأْس أَن ينظر إِلَيْهَا إِلَّا إِلَى الْعَوْرَة، وعورتها مَا بَين معقد إزَارهَا إِلَى (ركبتها» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وَقَالَ (فِي) إِسْنَاده: لَا تقوم بِمثلِهِ الْحجَّة. قَالَ: وَعِيسَى بن مَيْمُون - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - ضَعِيف.
قلت: بل مَتْرُوك، وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. زَاد(4/164)
ابْن حبَان: لَا يحْتَج بروايته، وَقَالَ ابْن مهْدي: استعديت عَلَيْهِ، فَقلت: مَا هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي تحدث عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة؟ ! قَالَ: لَا أَعُود.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ أَيْضا عَن حَفْص بن عمر، عَن صَالح (بن حسان) ، عَن مُحَمَّد بن كَعْب - أَي: عَن ابْن عَبَّاس - وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف - يَعْنِي: صَالح بن حسان - كَمَا بَينه فِي «الْمعرفَة» . وَقَالَ البُخَارِيّ فِي (حَقه) مُنكر الحَدِيث. وَنسبه ابْن طَاهِر إِلَى الْكَذِب، وَلَفظ هَذِه الرِّوَايَة: «لَا بَأْس أَن يقلب الرجل الْجَارِيَة إِذا أَرَادَ أَن يَشْتَرِيهَا، وَينظر إِلَيْهَا مَا خلا عورتها، وعورتها بَين (ركبتها) (إِلَى) معقد إزَارهَا» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب البيع من «سنَنه» بِلَفْظ: «من أَرَادَ شِرَاء جَارِيَة أَو اشْتَرَاهَا، فَلْينْظر إِلَى جَسدهَا كلهَا إِلَّا عورتها، وعورتها مَا بَين معقد إزَارهَا إِلَى ركبتها» . ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ حَفْص بن عمر(4/165)
قَاضِي حلب وَهُوَ ضَعِيف.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كتاب «أَحْكَام النّظر» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح من طريقيه فَلَا معرج عَلَيْهِ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي رجل أصيد أفأصلِّي فِي الْقَمِيص الْوَاحِد؟ قَالَ: نعم وازرره وَلَو بشوكة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، عَن العطاف بن خَالِد المَخْزُومِي، وَعبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله ابْن أبي ربيعَة، عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع «قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا نَكُون فِي الصَّيْد؛ أفيصلي أَحَدنَا فِي الْقَمِيص الْوَاحِد؟ قَالَ: نعم وليزرره و (لَو) لم يجد إِلَّا أَن (يخله بشوكة) » .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن حَمَّاد بن خَالِد، عَن أَيُّوب بن عتبَة، عَن إِيَاس بن سَلمَة بن الْأَكْوَع، عَن أَبِيه «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أكون فِي الصَّيْد فأصلي وَلَيْسَ عَلّي إِلَّا قَمِيص وَاحِد؟ قَالَ: فازرره و (لَو) لم تَجِد إِلَّا شَوْكَة» .(4/166)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الدَّرَاورْدِي كَمَا ذكره المُصَنّف سَوَاء. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث العطاف بن خَالِد؛ بِلَفْظ «قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي لأَكُون فِي (الصَّفّ) وَلَيْسَ عَلّي إِلَّا الْقَمِيص أفأصلي فِيهِ؟ قَالَ: (ازرره) عَلَيْك وَلَو بشوكة» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الدَّرَاورْدِي؛ بِلَفْظ «يَا رَسُول الله، إِنِّي (أكون) فِي الصَّيْد وَلَيْسَ عَلّي إِلَّا قَمِيص وَاحِد. قَالَ: فازرره (وَلَو) بشوكة» .
وَرَوَاهُ شَيْخه ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه؛ بِلَفْظ: «يَا رَسُول الله أكون فِي الصَّيْد فتحضر الصَّلَاة وَعلي قَمِيص. قَالَ: شده وَلَو بشوكة» .
وَفِي لفظ لَهُ: «أكون فِي الصَّيْد وَلَيْسَ عَلّي إِلَّا قَمِيص وَاحِد أَو جُبَّة (وَاحِدَة) فأزره؟ قَالَ: نعم وَلَو بشوكة» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من الْوَجْه الْمَذْكُور بِهَذَا اللَّفْظ،(4/167)
إِلَّا أَن فِي رِوَايَته: «فأشده» ، أَو قَالَ: «فازرره» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث مديني صَحِيح؛ فَإِن مُوسَى هَذَا - يَعْنِي: الَّذِي يرويهِ عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع - هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم (التَّيْمِيّ أَخُو مُحَمَّد) وَلم يخرجَاهُ.
قلت: وَذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِغَيْر إِسْنَاد، فَقَالَ: وَيذكر عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (يزره) وَلَو بشوكة» ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده نظر.
وأسنده فِي «تَارِيخه الْكَبِير» من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، عَن أَبِيه، عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم، عَن أَبِيه، عَن سَلمَة (بن الْأَكْوَع) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالْأول أصح - يَعْنِي: رِوَايَة الْجَمَاعَة لَهُ - عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم، عَن سَلمَة.
قلت: وَمَا ذكره الْحَاكِم (فِي) مُوسَى أَنه [ابْن] إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ رِوَايَة الشَّافِعِي السالفة تخَالفه؛ (إِذْ) فِيهَا أَنه مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي ربيعَة وَكَذَا قَالَه عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» فَإِنَّهُ لما رَوَى الحَدِيث من طَرِيق أبي دَاوُد وَفِيه مُوسَى قَالَ: إِنَّه ابْن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي، ثمَّ أتبعه بقول البُخَارِيّ(4/168)
السالف: فِي إِسْنَاده نظر. لَكِن تعقبه ابْن الْقطَّان وَقَالَ: هَذَا خطأ؛ فَإِنَّهُ مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ الْمَذْكُور فِي حَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ: «صل فِي الْقوس» الَّذِي قَالَ فِيهِ عبد الْحق: إِنَّه مُنكر الحَدِيث، قَالَ: وَبَيَان غلطه: أَن الحَدِيث ذكره الطَّحَاوِيّ من حَدِيث الدَّرَاورْدِي، عَن مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، عَن أَبِيه، عَن سَلمَة الْمَذْكُور فِي الحَدِيث؛ فَهَذَا الدَّرَاورْدِي قد بَين أَن الَّذِي حَدثهُ بِهِ هُوَ مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، وَزَاد إِنَّمَا رَوَاهُ عَن أَبِيه، عَن سَلمَة، فَحَدِيث أبي دَاوُد (عَلَى هَذَا) مُنْقَطع.
فَإِن قلت: وَلَعَلَّ الدَّرَاورْدِي عِنْده فِيهِ عَن الرجلَيْن، عَن المَخْزُومِي، عَن سَلمَة، وَعَن التَّيْمِيّ، عَن أَبِيه، عَن سَلمَة. قُلْنَا: هَذَا يحْتَمل وَلَكِن لَا (يُصَار) إِلَيْهِ لمُجَرّد الِاحْتِمَال، وَلَا يجْزم إِلَّا بِأَن الَّذِي حَدثهُ بِهِ التَّيْمِيّ، وَإنَّهُ بَينه وَبَين سَلمَة فِيهِ وَاحِد وَهُوَ أَبوهُ، وَقد ذكر البرقاني مُوسَى بن إِبْرَاهِيم هَذَا فَذكر عَن أبي دَاوُد أَنه قَالَ: هُوَ مُوسَى بن (مُحَمَّد) بن إِبْرَاهِيم كَمَا قُلْنَا وَذكر عَن أَحْمد أَنه كره الرِّوَايَة عَنهُ، وَهَذَا كُله هُوَ النّظر الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ.
قلت: وَكَذَا جزم بِأَنَّهُ مُوسَى هَذَا الْمُنْذِرِيّ؛ فَإِنَّهُ لما أخرجه فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب من طَرِيق أبي دَاوُد قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن(4/169)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الدَّرَاورْدِي، وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث عطاف بن خَالِد كِلَاهُمَا عَن مُوسَى بِهِ. ثمَّ أتبعه بِأَن قَالَ: ومُوسَى هَذَا ضَعِيف. قلت: فَكيف يكون حسنا عَلَى مَا صدرت بِهِ أَولا؟ فَلَو سلم أَنه المَخْزُومِي فَإِنَّهُ ثِقَة (كَذَا) ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» فِي التَّابِعين، وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس حَكَاهُ عَنهُ صَاحب «الإِمَام» .
فَائِدَة: قد أسلفنا أَنه جَاءَ فِي رِوَايَة «إِنَّا نَكُون فِي (الصَّيْد) » وعزى ابْن الْأَثِير فِي شَرحه للمسند إِلَيْهِ أَيْضا «فِي (الصَّيْد) » . قَالَ: وَجَاء فِي حَوَاشِي بعض نسخ أبي دَاوُد بِخَط الْمَقْدِسِي: «إِنِّي رجل أصيد» - بِسُكُون الصَّاد وَفتح الْيَاء - وَهُوَ الَّذِي فِي رقبته عِلّة تمنع من الِالْتِفَات. قَالَ: وَلَيْسَ بِمَعْرُوف فِي كتاب أبي دَاوُد إِلَّا بِكَسْر الصَّاد من الصَّيْد، وَجمع بَين الرِّوَايَات فَقَالَ: إِن صحت رِوَايَة النَّسَائِيّ «فِي الصَّيف» وَلم تكن تحريفًا من الكتبة والرواة، فَيمكن أَن يخرج لَهَا وَجه وَهُوَ أَن الصَّيف مَظَنَّة الْحر وَالْكرب، وَلَا سِيمَا فِي الْحجاز، وَلَا يُمكنهُ أَن يكثر من اللبَاس فَيقْتَصر عَلَى الْقَمِيص وَحده، وَيتْرك الْإِزَار والسراويل هربًا من الْحر، (فاستفتاه عَن صِحَة الصَّلَاة فِي الْقَمِيص الْوَاحِد حَيْثُ لم يُمكنهُ أَن يلبس مَعَه غَيره من شدَّة الْحر) » قَالَ: (وَمَعْنى) رِوَايَة فِي الصَّفّ أَنه يكون يُصَلِّي فِي جمَاعَة وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا قَمِيص وَاحِد فَرُبمَا بَدَت عورتُه من (جنبه(4/170)
لمن) يجاوره من (الْجَمَاعَة) فِي الصَّفّ، فاستفتى عَن الصَّلَاة فِيهِ.
وَأما رِوَايَة ذكر الصَّيْد، فتشبه أَن يكون خصص ذكر الْقَمِيص بِحَالَة الصَّيْد لأمرين:
أَحدهمَا: أَن الصَّائِد (قد) يحْتَاج أَن يكون (حِينَئِذٍ) خَفِيفا لَيْسَ عَلَيْهِ من الثِّيَاب مَا يشْغلهُ، و (يثقله) ليسرع فِي عدوه خلف الصَّيْد؛ وَلِأَن الْإِزَار والسراويل خَاصَّة تمنعان من التَّمَكُّن والإسراع فِي الْعَدو لالتفافهما عَلَى الْفَخْذ والساق فَيقْتَصر الصَّائِد عَلَى قَمِيص وَاحِد لذَلِك.
الثَّانِي: أَنه يشبه أَن يكون أَرَادَ بِهِ السُّؤَال عَن الصَّلَاة فِي الْقَمِيص الَّذِي يكون عَلَيْهِ حَالَة الصَّيْد، وَمَا يَنَالهُ من دم الصَّيْد، ويترتش عَلَيْهِ مِنْهُ عِنْد ذبحه أَو تخليصه من الْكَلْب وَنَحْو ذَلِك فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام: «نعم» كَأَنَّهُ عَفا عَمَّا يكون قد نَالَ ثَوْبه من ذَلِك. ثمَّ إِنَّه لما أفتاه نبَّهه عَلَى الأهم الَّذِي هُوَ أعنى بِهِ من أَمر صلَاته الْوَاجِب عَلَيْهِ الْمَشْرُوط فِي صِحَّتهَا ستر الْعَوْرَة فَقَالَ: «وليزرره عَلَيْهِ وَلَو بشوكة» ثمَّ استبعد هَذَا الْوَجْه؛ لِأَن دم الصَّيْد وَمَا يجرى مجْرَاه غير مَعْفُو عَنهُ فِي الصَّلَاة، وَهُوَ كَمَا استبعد.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام الْآدَمِيّين، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وتلاوة الْقُرْآن» .(4/171)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ قَالَ: «بَينا أَنا أُصَلِّي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذْ عطس رجل من الْقَوْم. فَقلت: يَرْحَمك الله، فَرَمَانِي الْقَوْم بِأَبْصَارِهِمْ، فَقلت: واثكل أمِّياه مَا شَأْنكُمْ تنْظرُون إِلَيّ فَجعلُوا يضْربُونَ بِأَيْدِيهِم عَلَى أَفْخَاذهم؛ فَلَمَّا رَأَيْتهمْ يصمتونني (لكني) سكت، فَلَمَّا صَلَّى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فبأبي (هُوَ) وَأمي مَا رَأَيْت معلِّمًا قبله وَلَا بعده أحسن تَعْلِيما مِنْهُ، فوَاللَّه مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: إِن هَذِه الصَّلَاة لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن» . أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الحَدِيث. فِيهِ طول، وَهُوَ من أَفْرَاده بل لم يخرج البُخَارِيّ عَن مُعَاوِيَة ابْن الحكم شَيْئا.
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «لَا يحل» مَكَان: «لَا يصلح» . وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان «إِنَّمَا هِيَ» . وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «إِنَّمَا هُوَ الصَّلَاة وَالتَّسْبِيح والتحميد وَقِرَاءَة الْقُرْآن» . أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
فَائِدَة: الثكل - بِضَم الثَّاء وَفتحهَا - فقدان الْمَرْأَة وَلَدهَا. وأمياه - بِكَسْر الْمِيم ثمَّ يَاء. والكهر: النَّهْر.(4/172)
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله يحدث من أمره مَا شَاءَ، وَإِن مِمَّا أحدث أَلا تتكلموا فِي الصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كُنَّا نسلم عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الصَّلَاة فَيرد علينا وَيَأْمُر بحاجتنا، فَقدمت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يُصَلِّي فَسلمت (عَلَيْهِ) فَلم يرد عَلّي السَّلَام، فأخذني مَا قدم وَمَا حدث، فَلَمَّا قضي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الصَّلَاة قَالَ: إِن الله يحدث من أمره مَا شَاءَ، وَإِن الله سُبْحَانَهُ قد أحدث أَلا (تكلمُوا) فِي الصَّلَاة فَرد عَلَيْهِ السَّلَام» قَالَ أَبُو عمر فِي «تمهيده» : من ذكر فِي هَذَا الحَدِيث [أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُ فِي حِين رُجُوعه من أَرض الْحَبَشَة] : «إِن الله أحدث أَلا (تكلمُوا) فِي الصَّلَاة» . فقد وهم وَلم يقل ذَلِك غير عَاصِم وَهُوَ عِنْدهم سيئ الْحِفْظ كثير الْخَطَأ، وَالصَّحِيح من حَدِيث ابْن مَسْعُود أَنه لم يكن إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، و (بهَا) نهي عَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة. قَالَ: وَقد رُوِيَ فِي حَدِيث(4/173)
ابْن مَسْعُود بِمَا يُوَافق حَدِيث (زيد) بن أَرقم وَهُوَ الصَّحِيح؛ لِأَن سُورَة الْبَقَرَة مَدَنِيَّة، وَتَحْرِيم الْكَلَام كَانَ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد مَا أخرج هَذَا الحَدِيث فِي «الْمعرفَة» من جِهَة الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن عَاصِم بن أبي النجُود، عَن أبي وَائِل، عَن ابْن مَسْعُود مَعَ اخْتِلَاف لَفظه؛ وَفِيه «فأخذني مَا قرب وَمَا بعد ... » هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ (سُفْيَان) عَن عَاصِم بن أبي النجُود. وتداوله الْفُقَهَاء مِنْهُم، إِلَّا أَن صَاحِبي الصَّحِيح يتوقيان رِوَايَة عَاصِم لسوء حفظه، (ووجدا) الحَدِيث من طَرِيق آخر عَلّي شَرطهمَا بِبَعْض مَعْنَاهُ، فأخرجاه دون حَدِيث عَاصِم.
قلت: (وَهُوَ أحد) حَدِيثهمَا عَنهُ: «كُنَّا نسلم عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَيرد علينا» فَلَمَّا رَجعْنَا من عِنْد النَّجَاشِيّ سلمت عَلَيْهِ فَلم يرد عَلّي، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله كُنَّا نسلِّم عَلَيْك فِي الصَّلَاة فَترد علينا. فَقَالَ: إِن فِي الصَّلَاة شغلًا» .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (قَالَ) «صَلَّى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْعَصْر،(4/174)
وَسلم من رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُول الله أقصرت الصَّلَاة أم نسيت؟ فَقَالَ: كل ذَلِك لم يكن، [فَقَالَ:] أصدق ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نعم. (فَأَتمَّ) مَا بَقِي من صلَاته وَسجد للسَّهْو» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا اللَّفْظ إِلَى قَوْله: «لم يكن» فَقَالَ: «قد كَانَ بعض ذَلِك يَا رَسُول الله، فَأقبل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى النَّاس فَقَالَ: أصدق ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نعم يَا رَسُول الله. فأتمَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا بَقِي من الصَّلَاة، ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالس بعد التَّسْلِيم» .
وَفِي رِوَايَة: «من صَلَاة الظّهْر» بدل: «الْعَصْر» .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
عَن مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لما رجعت من الْحَبَشَة صلَّيتُ مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعطس بعض الْقَوْم فَقلت: يَرْحَمك الله، فحدقني النَّاس بِأَبْصَارِهِمْ، فَقلت: مَا شَأْنكُمْ تنْظرُون إِلَى؟ ! فَضربُوا بِأَيْدِيهِم عَلَى أَفْخَاذهم، يسكتونني فَسكت، فَلَمَّا فرغ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: يَا مُعَاوِيَة؛ إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن» .(4/175)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف قَرِيبا، لَكِن لَيْسَ فِيهِ «لما رجعت من الْحَبَشَة» فِي طَرِيق من الطّرق. وَقد أخرجه مَعَ مُسلم أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَأَبُو عوَانَة وَالْبَيْهَقِيّ، وَإِنَّمَا الموجودُ فِيهَا: «بَينا أَنا أصلِّى مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذْ عطس رجل من الْقَوْم ... » ثمَّ ذكرُوا الحَدِيث كَمَا سلف. نعم هَذِه اللَّفْظَة مَوْجُودَة فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود كَمَا سلف قَرِيبا، بل لم أجد (أحدا) ذكر مُعَاوِيَة بن الحكم فِي (مهاجرة) الْحَبَشَة، وَقد اعتنى أَيْضا الْمَقْدِسِي بتعداد من هَاجر إِلَى الْحَبَشَة من كَلَام ابْن إِسْحَاق فَلم يذكرهُ فيهم.
فَائِدَة: قَوْله: حدقني هُوَ - بحاء ثمَّ دَال مهملتين وَالدَّال مُخَفّفَة - كَذَا وَقع فِي النَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَأبي عوَانَة وَالْبَيْهَقِيّ.
وَلَفظ مُسلم «رماني الْقَوْم بِأَبْصَارِهِمْ» ، واستشكلت رِوَايَة «حدقني» كَمَا ذكرته فِي تَخْرِيج أَحَادِيث «المهذَّب» مَعَ الْجَواب عَنْهَا.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْكَلَام ينْقض الصَّلَاة، وَلَا ينْقض الْوضُوء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث جَابر كَذَلِك، وَهُوَ(4/176)
حَدِيث ضَعِيف؛ لأجل أبي شيبَة الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق فَإِنَّهُ ضَعِيف. قَالَ أَحْمد: مُنكر الحَدِيث لَيْسَ بِشَيْء. وَقد اخْتلف عَلَيْهِ فِيهِ: فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ أَيْضا بِلَفْظ «الضحك» بدل «الْكَلَام» . وَفِيه مَعَ ذَلِك يزِيد بن عبد الرَّحْمَن الدَّالاني وَقد علمت حَاله فِي (الْأَحْدَاث) .
الحَدِيث الثَّامن بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
إِحْدَاهَا: من طَرِيق ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله وضع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» كَذَلِك، وَابْن حبَان فِي [ (صَحِيحه) ] وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ «تجَاوز الله عَن أمتِي الْخَطَأ ... .» إِلَى آخِره. وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك، وَالْبَيْهَقِيّ باللفظين،(4/177)
وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ «إِن الله تبَارك وَتَعَالَى تجَاوز لأمتي ... » إِلَى آخِره.
قَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: جود إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث بشر بن بكر، وَهُوَ من الثِّقَات.
قَالَ: وَرَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ، فَلم يذكر فِي إِسْنَاده عبيد بن عُمَيْر - يَعْنِي رَاوِيه عَن ابْن عَبَّاس، يَعْنِي: وَبشر بن بكر (رَوَاهُ) ، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عَطاء، (عَن عبيد بن عُمَيْر) ، عَن ابْن عَبَّاس. هَذَا كَلَامه. وَجَائِز أَن يكون عَطاء سَمعه أَولا من عبيد بن عُمَيْر، عَن ابْن عَبَّاس، ثمَّ (لقى) ابْن عَبَّاس (فَسَمعهُ) مِنْهُ فَحدث (بِهِ) عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا: تَارَة عَن عبيد، عَن ابْن عَبَّاس، وَتارَة عَن ابْن عَبَّاس. وَكَذَلِكَ، الْأَوْزَاعِيّ يجوز أَن يكون سَمعه من عَطاء عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَحدث بِهِ كَذَلِك وَلما رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث الرّبيع بن سُلَيْمَان، عَن بشر بن بكر بِهِ، بِلَفْظ: «إِن الله تجَاوز ... » إِلَى آخِره.
قَالَ: تفرد بِهِ الرّبيع وَلم يروه عَن الْأَوْزَاعِيّ إِلَّا بشر.(4/178)
قلت: (قد) رَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم كَمَا مر، وَفِي علل (ابْن) أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «إِن الله عَزَّ وَجَلَّ وضع عَن أمتِي ... » إِلَى آخِره فَقَالَ: (هَذَا) حَدِيث مُنكر كَأَنَّهُ مَوْضُوع، وَلم يسمعهُ الْأَوْزَاعِيّ (عَن) عَطاء، إِنَّمَا سَمعه من رجل لم يسمه أتوهم أَنه عبد الله بن عَامر، أَو إِسْمَاعِيل بن مُسلم، قَالَ: وَلَا يَصح هَذَا الحَدِيث وَلَا يثبت إِسْنَاده.
وَفِي «علل الإِمَام أَحْمد» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ مُحَمَّد بن (مصفى) الشَّامي، عَن الْوَلِيد بن مُسلم، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «إِن الله تجَاوز لأمتي عَمَّا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ، وَعَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان» . وَعَن الْوَلِيد، عَن مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مثله فَأنكرهُ جدًّا وَقَالَ: لَيْسَ يرْوَى فِيهِ إِلَّا عَن الْحسن، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن الله تجَاوز عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» . وَفِي لفظ: «وضع الله عَن أمتِي» .
رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» وَقَالَ: قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: تفرد بِهِ الْوَلِيد بن مُسلم عَن مَالك وَهُوَ غَرِيب صَحِيح، وَقد أسلفنا عَن الإِمَام أَحْمد أَنه أنكرهُ جدًّا.(4/179)
وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس وَقد أسلفناه عَنهُ. وَحَدِيث الْوَلِيد عَن مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مثله، وَحَدِيث الْوَلِيد أَيْضا عَن ابْن لَهِيعَة، عَن مُوسَى بن وردان، عَن عقبَة بن عَامر مَرْفُوعا مثله، فَقَالَ: هَذِه أَحَادِيث مُنكرَة كَأَنَّهَا مَوْضُوعَة، وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» : أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «إِن الله تجَاوز لأمتي عَمَّا أَخْطَأت، أَو نسيت، أَو استكرهت عَلَيْهِ» . فَقَالَ [رَوَاهُ] أَبُو عقيل يَحْيَى بن المتَوَكل، وَاخْتلف عَلَيْهِ: فَقيل: عَنهُ عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، وَقيل: عَنهُ عَن عبد الله بن عمر، عَن نَافِع، وَهُوَ بِعَبْد الله أشبه (مِنْهُ) بعبيد الله. قلت: (وَرَوَاهُ) الْخَطِيب فِي كتاب من رَوَى عَن مَالك من حَدِيث (سوَادَة) بن إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ، عَن مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا «أَتَانِي جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِن الله يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام، وَيَقُول: إِنِّي تجاوزت عَن أمتك ثَلَاث خِصَال: الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» . ثمَّ قَالَ الْخَطِيب: (سوَادَة) مَجْهُول، والْحَدِيث مُنكر عَن مَالك.
قلت: وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي الْإِقْرَار من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُصَفَّى، نَا الْوَلِيد بن مُسلم، عَن مَالك بِهِ؛ بِلَفْظ «وضع عَن أمتِي (الْخَطَأ)
» إِلَى آخِره. قَالَ: كَذَلِك (رَوَاهُ) مُحَمَّد بن سعيد المنبجي، عَن مُحَمَّد بن الْمُصَفَّى، وَالْمَحْفُوظ عَن الْوَلِيد [عَن(4/180)
الْأَوْزَاعِيّ] عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس. وَعَن الْوَلِيد، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن مُوسَى بن وردان، عَن عقبَة بن عَامر كِلَاهُمَا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن عقبَة بن عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَمَا سلف.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله تجَاوز لأمتي عَمَّا توسوس بِهِ صدورها، مَا لم تعْمل بِهِ أَو تَتَكَلَّم بِهِ، وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه كَذَلِك عَن هِشَام بن عمار، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن مسعر، عَن قَتَادَة، عَن زُرَارَة بن أَوْفَى عَنهُ، (و) هَذَا إِسْنَاد كل رِجَاله فِي الصَّحِيح، وَإِن تكلم أَبُو حَاتِم فِي هِشَام بن عمار وَقَالَ: إِنَّه صَدُوق (و) قد تغير فَكَانَ كلما لقن تلقن.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حدث بأرجح من أَرْبَعمِائَة حَدِيث لَا أصل لَهَا. فَهُوَ من رجال البُخَارِيّ وَترْجم البُخَارِيّ بَاب: الْخَطَأ وَالنِّسْيَان فِي الطَّلَاق وَنَحْوه.
ثمَّ أورد حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمُتَّفق عَلَى صِحَّته «أَن الله تجَاوز لأمتي مَا حدثت بِهِ (أَنْفسهَا) مَا لم تعْمل أَو (تَتَكَلَّم) بِهِ» .
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن الله(4/181)
تجَاوز عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه؛ وَفِي إِسْنَاده: شهر بن حَوْشَب وَقد تَرَكُوهُ؛ أَي: طعنوا فِيهِ.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن أم الدَّرْدَاء، عَن أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: «إِن الله تجَاوز لأمتي عَن النسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَفِيه شهر أَيْضا.
الطَّرِيق السَّابِع: عَن يزِيد بن ربيعَة الرَّحبِي الدِّمَشْقِي، عَن أبي الْأَشْعَث، عَن ثَوْبَان مَرْفُوعا «إِن الله تجَاوز عَن أمتِي ثَلَاثَة: الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا. وَيزِيد هَذَا (أَحَادِيثه) مَنَاكِير كَمَا قَالَ البُخَارِيّ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك.
الطَّرِيق الثَّامِن: عَن جَعْفَر بن جسر بن فرقد، حَدثنِي أبي، عَن الْحسن، عَن أبي بكرَة مَرْفُوعا: «رفع الله عَن هَذِه الْأمة ثَلَاثًا: الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَالْأَمر يكْرهُونَ عَلَيْهِ» .
رَوَاهُ ابْن عدي. وجعفر (و) جسر ضعيفان. قَالَ(4/182)
ابْن عدي: الْبلَاء من جَعْفَر لَا من جسر. وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور (مُرْسلا كَمَا عزاهُ إِلَيْهِ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» عَن خَالِد بن عبد الله، عَن هِشَام، عَن الْحسن، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) قَالَ: «إِن الله عَفى عَنْكُم عَن ثَلَاث (عَن) الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ» .
وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث تكَرر فِي كتب الْفُقَهَاء وَالْأُصُول؛ بِلَفْظ الرّفْع وَقد عَرفته من رِوَايَة ابْن عدي فاستفدها، فقد بحث عَنْهَا بُرْهَة من الزَّمن فَلم تُوجد، وَذكره النَّوَوِيّ فِي «الرَّوْضَة» فِي كتاب الطَّلَاق، بِلَفْظ: «رفع» وَحكم بحسنه، وَقد علمت مَا فِيهِ، وَأَنه بِهَذَا اللَّفْظ ضَعِيف.
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ فِي كتاب «تصاحيف الروَاة» : الْعَامَّة تَقول: النسْيَان عَلَى وزن الغليان، (وَإِنَّمَا) هُوَ بِكَسْر النُّون سَاكِنة السِّين. قَالَ: وَالْخَطَأ مَهْمُوز غير مَمْدُود.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا نَاب أحدكُم شَيْء فِي صلَاته فليسبح؛ فَإِنَّمَا التَّسْبِيح للرِّجَال، والتصفيق للنِّسَاء» .(4/183)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث سهل بن سعد السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذهب إِلَى بني عَمْرو بن عَوْف (ليصلح) بَينهم، فحانت الصَّلَاة، فجَاء المؤذِّن إِلَى أبي بكر فَقَالَ: أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ فأقيم؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَصَلى أَبُو بكر فجَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالنَّاس فِي الصَّلَاة فتخلص حَتَّى وقف فِي الصَّفّ فصفَّق النَّاس، وَكَانَ أَبُو بكر لَا يلفت فِي (الصَّلَاة) ، فَلَمَّا أَكثر النَّاس التصفيق الْتفت فَرَأَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن امْكُث مَكَانك، فَرفع أَبُو بكر يَدَيْهِ فَحَمدَ الله عَلَى مَا أمره بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (من ذَلِك) ، ثمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بكر حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفّ وَتقدم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَصَلى بهم ثمَّ انْصَرف فَقَالَ: يَا أَبَا بكر مَا مَنعك أَن تثبت (إِذْ) أَمرتك؟ فَقَالَ أَبُو بكر: مَا كَانَ لِابْنِ أبي قُحَافَة أَن يصلِّي بَين يَدي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَالِي أَرَاكُم أَكثرْتُم (من) التصفيق؛ من نابه شَيْء فِي صلَاته فليسبح فَإِنَّهُ إِذا سبح الْتفت إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء» .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «فَلْيقل: سُبْحَانَ الله؛ فَإِنَّهُ لَا يسمعهُ أحد [حِين] يَقُول: سُبْحَانَ الله إِلَّا الْتفت» .(4/184)
وَذكر فِي كتاب الْأَحْكَام أَن تِلْكَ الصَّلاة كَانَت صَلَاة الْعَصْر، وَأَنه عَلَيْهِ السَّلَام ذهب إِلَى بني عَمْرو بن عَوْف بعد مَا صلَّى الظّهْر.
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فأَوْمَأ» بدل «فَأَشَارَ» وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا التَّسْبِيح للرِّجَال، والتصفيق للنِّسَاء» زَاد مُسلم «فِي الصَّلَاة» .
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَت لي سَاعَة من السحر أَدخل عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فِيهَا) فَإِن كَانَ قَائِما يُصَلِّي سبح بِي فَكَانَ ذَلِك إِذْنه لي، وَإِن لم يكن يُصَلِّي أذن لي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي كتاب الْأَدَب من «سنَنه» من حَدِيث عبد الله بن نجي، عَن عَلّي قَالَ: «كَانَ لي من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مدخلان: مدْخل بِاللَّيْلِ، ومدخل بِالنَّهَارِ؛ فَكنت إِذا أَتَيْته وَهُوَ يُصَلِّي يَتَنَحْنَح لي» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي بكر بن عَيَّاش، نَا مُغيرَة، عَن الْحَارِث العكلي، عَن عبد الله بن نجي، عَن عَلّي: «كنت إِذا دخلت بِاللَّيْلِ يَتَنَحْنَح» .(4/185)
وَرَوَاهُ من حَدِيث جرير، عَن مُغيرَة، عَن الْحَارِث، عَن أبي زرْعَة بن عَمْرو، عَن عبد الله بن نجي، عَن عَلّي: «كَانَ لي من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَاعَة آتيه فِيهَا (إِذا أتيت) اسْتَأْذَنت؛ فَإِن وجدته يُصَلِّي فسبح دخلت، وَإِن وجدته فَارغًا أذن لي» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث شُرَحْبِيل بن مدرك، عَن عبد الله بن نجي، عَن أَبِيه، عَن عَلّي قَالَ: «كَانَت لي منزلَة من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم تكن لأحد من الْخَلَائق، فَكنت آتيه كل سحر فَأَقُول: السَّلَام عَلَيْك يَا نَبِي الله، فَإِن تنحنح انصرفت إِلَى أَهلِي، وَإِلَّا دخلت عَلَيْهِ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا (الحَدِيث) مُخْتَلف فِي إِسْنَاده وَمَتنه: فَقيل: «سبح» ، وَقيل: «تنحنح» . قَالَ: ومداره عَلَى عبد الله بن نُجَيٍّ الْحَضْرَمِيّ؛ قَالَ البُخَارِيّ: فِيهِ نظر.
قلت: (و) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَأما النَّسَائِيّ فوثَّقه وَأخرج حَدِيثه هَذَا ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» . نعم فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيّ الأولَى وَالثَّانيَِة انْقِطَاع توضحِّه رِوَايَته الثَّالِثَة (الَّتِي) فِيهَا ذكر وَالِد عبد الله بن نجي، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: ذكر أبي عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور قَالَ: قلت ليحيى بن معِين: عبد الله بن نجي سمع من عَلّي؟ قَالَ: لَا بَينه وَبَين عَلّي أَبوهُ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يُقَال:(4/186)
إِن (عبد الله) بن نجي لم يسمع هَذَا من عَلّي، وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَن أَبِيه، عَن عَلّي وَلَيْسَ بِقَوي فِي الحَدِيث.
ثمَّ رُوِيَ من حَدِيث جَابر الْجعْفِيّ، عَن عبد الله بن نجي، عَن عَلّي قَالَ: «كنت آتِي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كل غَدَاة؛ فَإِذا تنحنح دخلت، وَإِذا سكت لم أَدخل» .
ذكره من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن خَالِد، عَن سُفْيَان، عَن جَابر (بِهِ) ، وَجَابِر قد عرفت حَاله فِي أَوَاخِر الْأَذَان.
الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى الظّهْر خمْسا، فَلَمَّا تبيَّن الْحَال سجد للسَّهْو وَلم يعد الصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صلي الظّهْر خمْسا فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ بعد مَا سلم» ، والسياق للْبُخَارِيّ.
الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حمل أُمَامَة بنت أبي الْعَاصِ فِي صلَاته» .(4/187)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته؛ كَمَا سلف فِي بَاب الِاجْتِهَاد.
الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بقتل الأسودين فِي الصَّلَاة: الْحَيَّة وَالْعَقْرَب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ الدَّارمِيّ وَأحمد فِي «مسنديهما» ، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَصَححهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان أَيْضا، وَالْحَاكِم فَقَالَ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا الحَدِيث غَرِيب من حَدِيث هِشَام الدستوَائي، عَن معمر (بن) رَاشد، عَن يَحْيَى(4/188)
بن أبي كثير، تفرد بِهِ عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَنهُ، وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن هِشَام، عَن يَحْيَى لم يذكرُوا فِيهِ معمرًا. وَاعْترض الْمُنْذِرِيّ فِي «موافقاته» عَلَى الدَّارَقُطْنِيّ فِي دَعْوَاهُ تفرد عبد الصَّمد بِهِ، وَقَالَ: فِيهِ نظر، فقد تَابعه أَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فَرَوَاهُ عَن هِشَام الدستوَائي، عَن معمر، عَن يَحْيَى رَوَاهُ النَّسَائِيّ، عَن مُحَمَّد بن رَافع، عَن أبي دَاوُد.
قلت: وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث زيد بن جُبَير قَالَ: «سَأَلَ رجل ابْن عمر مَا يقتل الرجلُ من الدَّوَابّ وَهُوَ محرم، فَقَالَ: حَدَّثتنِي إِحْدَى نسْوَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه كَانَ يَأْمر بقتل الكَلْب الْعَقُور والفأرة وَالْعَقْرَب والحديا والغراب والحية قَالَ: وَفِي الصَّلَاة أَيْضا» .
فَائِدَة: قَوْله: «الْحَيَّة وَالْعَقْرَب» يجوز نصبهما عَلَى الْبَدَل من الأسودين، ورفعهما عَلَى تَقْدِير: وهما «الْحَيَّة وَالْعَقْرَب» .
الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَخذ بأذن (ابْن) عَبَّاس وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فأداره من يسَاره إِلَى يَمِينه» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مطولا(4/189)
بِأَلْفَاظ مِنْهَا: «فقمتُ إِلَى جنبه فَوضع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَده الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأخذ بأذني الْيُمْنَى يفتلها (وَمِنْهَا «فَقُمْت إِلَى جنبه الْأَيْسَر، فأخذني بِيَدِهِ فجعلني من شقَّه الْأَيْمن) » . وَمِنْهَا: «فَقُمْت إِلَى جنبه فَقُمْت عَن يسَاره، فأخذني فأقامني عَن يَمِينه» .
الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ
«دخل أَبُو بكرَة الْمَسْجِد وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الرُّكُوع فَرَكَعَ (خيفة) أَن يفوتهُ الرُّكُوع، ثمَّ خطا خطْوَة (وَدخل الصَّفّ) فَلَمَّا فرغ قَالَ (لَهُ) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: زادك الله حِرْصًا وَلَا تعد» .
(هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ) عَن أبي بكرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه انْتَهَى إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ رَاكِع، فَرَكَعَ قبل أَن (يصل) إِلَى الصَّفّ، فَذكر ذَلِك للنَّبِي (فَقَالَ: وزادك الله حرصًا وَلَا تعد» .
وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاده، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ «أَنه دخل الْمَسْجِد وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَاكِع فَرَكَعَ دون الصَّفّ؛ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: زادك الله حرصًا وَلَا تعد» .(4/190)
وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد (بِإِسْنَاد صَحِيح) بِلَفْظ: «إِن أَبَا بكرَة جَاءَ وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَاكِع فَرَكَعَ دون الصَّفّ، ثمَّ مَشَى إِلَى الصَّفّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صلَاته قَالَ: أَيّكُم الَّذِي ركع دون الصَّفّ ثمَّ مَشَى إِلَى الصَّفّ؟ قَالَ أَبُو بكرَة: أَنا. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (زادك) الله حرصًا وَلَا تعد» .
وَهَذِه الرِّوَايَة نَحْو رِوَايَة (المُصَنّف) ؛ فَإِن قَوْله: «ثمَّ مَشَى إِلَى الصَّفّ» يتَضَمَّن مَا ذكره من أَنه خطا خطْوَة فَإِنَّهَا أَقَله، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بلفظين:
أَحدهمَا: عَن عَنْبَسَة الْأَعْوَر عَن الْحسن: «أَن أَبَا بكرَة دخل الْمَسْجِد وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَاكِع، فَرَكَعَ ثمَّ مَشَى حَتَّى لحق بالصف، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: زادك الله حرصًا وَلَا تعد» . ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن (هَذَا) الْخَبَر تفرد بِهِ عَنْبَسَة (عَن الْحسن) ، ثمَّ أخرجه من حَدِيث [سعيد بن أبي عرُوبَة] ، عَن زِيَاد الأعلم، عَن الْحسن، عَن أبي بكرَة «أَنه دخل الْمَسْجِد وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَاكِع، قَالَ: فركعت دون الصَّفّ. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: زادك الله حرصًا وَلَا تعد» .(4/191)
قلت: ومدار حَدِيث (أبي) بكرَة هَذَا من طَرِيق البُخَارِيّ وَغَيره (عَلَى) الْحسن عَنهُ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يسمع مِنْهُ، (قلت) : لَكِن لَهُ عَنهُ فِي «صَحِيحه» عدَّة أَحَادِيث مِنْهَا هَذَا، وقصة الْكُسُوف، وَلَيْسَ فِيهَا التَّصْرِيح بِالسَّمَاعِ، لَكِن البُخَارِيّ لَا يَكْتَفِي بِإِمْكَان اللِّقَاء؛ فَلَا بُد أَن يكون ثَبت (عِنْده) سَمَاعه مِنْهُ، وَغَايَة مَا اعتل بِهِ الدَّارَقُطْنِيّ أَن الْحسن رَوَى أَحَادِيث عَن الْأَحْنَف بن قيس، عَن أبي بكرَة، وَذَلِكَ لَا يمْنَع من سَمَاعه مِنْهُ مَا أخرجه البُخَارِيّ.
فَائِدَة: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «وَلَا تعد» هُوَ - بِفَتْح التَّاء وَضم الْعين - وَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ: لَا تعد إِلَى الْإِحْرَام خَارج الصَّفّ.
ثَانِيهَا: لَا تعد إِلَى التَّأَخُّر عَن الصَّلَاة إِلَى هَذَا الْوَقْت، (وشكر لَهُ مَعَ ذَلِك) حرصه. قَالَ ابنُ حبَان فِي «صَحِيحه» : أَرَادَ: لَا تعد فِي إبطاء الْمَجِيء إِلَى الصَّلَاة، لَا أَنه أَرَادَ بذلك أَن لَا تعود بعد تكبيرك فِي اللحوق (بِالصَّلَاةِ) .
ثَالِثهَا: لَا تعد إِلَى إتْيَان الصَّلَاة مسرعًا. (وَيُؤَيِّدهُ) : رِوَايَة ابْن السكن فِي (صحاحه المأثورة) عَن أبي بكرَة قَالَ: «أُقِيمَت الصَّلَاة فَانْطَلَقت أسعى حَتَّى دخلت فِي الصَّف، فَلَمَّا قَضَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الصَّلَاة(4/192)
قَالَ: من السَّاعِي آنِفا؟ قَالَ أَبُو بكرَة: أَنا. فَقَالَ: زادك الله حِرْصًا وَلَا تعد» .
رَابِعهَا: لَا تعد إِلَى دخولك فِي الصَّفّ وَأَنت رَاكِع، فَإِنَّهَا كمشية الْبَهَائِم؛ قَالَه المهلَّب بن أبي صفرَة. قَالَ ابْن القطَّان فِي «علله» : وَهَذَا هُوَ المُرَاد (فَإِن) فِي مُصَنف حَمَّاد بن سَلمَة عَن الأعلم - هُوَ زِيَاد - عَن الْحسن، عَن أبي بكرَة «أَنه دخل الْمَسْجِد وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي وَقد ركع فَرَكَعَ، ثمَّ دخل (فِي) الصَّفّ وَهُوَ رَاكِع فَلَمَّا انْصَرف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: أَيّكُم دخل (فِي) الصَّفّ وَهُوَ رَاكِع؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بكرَة: أَنا. فَقَالَ: زادك الله حِرْصًا وَلَا تعد» . قَالَ ابْن الْقطَّان: فتبيَّن بِهَذِهِ الزِّيَادَة أَن الَّذِي أنكر عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِنَّمَا هُوَ أَن دب رَاكِعا، وَقد كَانَ هَذَا متنازعًا فِيهِ إِلَى أَن تبين أَن هَذَا هُوَ المُرَاد.
قلت: لَكِن فِي «الْأَوْسَط» للطبراني من حَدِيث ابْن جريج عَن عَطاء سمع ابْن الزبير عَلَى الْمِنْبَر يَقُول: «إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد وَالنَّاس رُكُوع فليركع حَتَّى يدْخل، ثمَّ يدب رَاكِعا حَتَّى يدْخل فِي الصَّفّ، فَإِن ذَلِك السّنة» . قَالَ عَطاء: وَقد رَأَيْته يصنع ذَلِك، ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن ابْن جريج إِلَّا ابْن وهب، تفرَّد بِهِ حَرْمَلَة وَلَا يرْوَى عَن (ابْن) الزبير إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد.(4/193)
الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَلًّمَ (عَلَيْهِ) نفر من الْأَنْصَار، وَكَانَ يرد عَلَيْهِم (السَّلَام) بِالْإِشَارَةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن عمر قَالَ: «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى قبَاء يُصَلِّي فِيهِ، قَالَ: فَجَاءَت الْأَنْصَار فسلَّموا عَلَيْهِ فَقلت لِبلَال: كَيفَ رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يرد) عَلَيْهِم حِين كَانُوا يسلمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ: يَقُول هَكَذَا وَبسط كفَّّه، وَبسط جَعْفَر بن عون كَفه وَجعل بَطنهَا إِلَى أَسْفَل وظهرها إِلَى فَوق» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي فَضَائِل سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، عَن ابْن عمر قَالَ: «دخل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَسْجِد بني عَمْرو بن عَوْف وَهُوَ مَسْجِد قبَاء يُصَلِّي فِيهِ؛ فَدخل عَلَيْهِ رجل من الْأَنْصَار يسلمُونَ عَلَيْهِ قَالَ ابْن عمر: وَدخل مَعَهم صُهَيْب فَسَأَلته كَيفَ كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يصنع إِذا سلم عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاة؟ قَالَ: كَانَ يُشِير بِيَدِهِ» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ، وَرَوَاهُ أَحْمد عَنهُ «قلت لِبلَال: كَيفَ كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرد عَلَيْهِم حِين كَانُوا يسلمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة؟ قَالَ: كَانَ يُشِير بِيَدِهِ» .(4/194)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (عَنهُ) قَالَ: «قلت لِبلَال: كَيفَ (كَانَ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرد عَلَيْهِم حِين كَانُوا يسلمُونَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِد بني عَمْرو بن عَوْف؟ قَالَ: كَانَ يرد إِشَارَة» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كَيفَ كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرد عَلَيْهِم حِين كَانُوا يسلمُونَ عَلَيْهِ [وَهُوَ فِي الصَّلَاة] ؟ قَالَ: كَانَ يُشِير بِيَدِهِ» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. ثمَّ رَوَى (عَن) ابْن عمر، عَن صُهَيْب قَالَ: «مررتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يُصَلِّي فسلمتُ عَلَيْهِ فَرد (عَلّي) إِشَارَة وَقَالَ: لَا أعلم إِلَّا أَنه (قَالَ) : أَشَارَ (بإصبعه) » . ثمَّ قَالَ: (هَذَا حَدِيث حسن) . قَالَ: وكلا الْحَدِيثين عِنْدِي صَحِيح؛ لِأَن قصَّة حَدِيث صُهَيْب غير قصَّة حَدِيث بِلَال، وَإِن كَانَ ابْن عمر رَوَى عَنْهُمَا، فَاحْتمل أَن يكون سمع مِنْهُمَا جَمِيعًا. وَرَوَى الْأَخير أَيْضا أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَرَوَى الأول ابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيّ فِي(4/195)
«سُنَنهمَا» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام دخل مَسْجِد قبَاء ليُصَلِّي فِيهِ، فَدخل مَعَه رجال يسلمُونَ عَلَيْهِ فَسَأَلت (صهيبًا) وَكَانَ مَعَه كَيفَ كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يصنع إِذا سلم - يَعْنِي: عَلَيْهِ -؟ قَالَ: كَانَ يُشِير بِيَدِهِ» .
تَنْبِيه: لما ذكر الرَّافِعِيّ هَذِه الْأَخْبَار قَالَ: دلّت هَذَا الْأَخْبَار وَنَحْوهَا عَلَى احْتِمَال الْفِعْل الْقَلِيل فِي الصَّلَاة، وَمرَاده بقوله: «وَنَحْوهَا» حَدِيث جَابر الثَّابِت فِي «صَحِيح مُسلم» : بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حَاجَة، ثمَّ أَدْرَكته وَهُوَ يُصَلِّي فَسلمت عَلَيْهِ فَأَشَارَ إِلَيّ» . وَقد أسلفنا فِي الحَدِيث بعد الْأَرْبَعين من بَاب أَوْقَات الصَّلَاة إِشَارَته أَيْضا فِي حَدِيث أم سَلمَة، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة «لما صَلَّى بهم جَالِسا فِي مرض مَوته وَقَامُوا خَلفه، أَشَارَ إِلَيْهِم أَن اجلسوا» .
وَفِي مُسلم من حَدِيث جَابر مثله، وَسَيَأْتِي فِي بَاب سُجُود السَّهْو - إِن شَاءَ الله تَعَالَى ذَلِك وَقدره - (أَنه) رَوَى «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مسح الْعرق عَن وَجهه فِي الصَّلَاة، وَقتل عقربًا فِيهَا» . لَكِن إسنادهما ضَعِيف.(4/196)
الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا مرَّ الْمَار بَين يَدي أحدكُم وَهُوَ فِي الصَّلَاة فليدفعه، فَإِن أَبَى فليدفعه، فَإِن أَبَى فليقاتله؛ فَإِنَّهُ شَيْطَان» .
هَذَا الحَدِيث ثَابت هَكَذَا فِي النّسخ الصَّحِيحَة من الرَّافِعِيّ، وَفِي بعض نسخه تكْرَار «فليدفعه» مرّة ثَالِثَة، وَهُوَ غَرِيب كَذَلِك وَالثَّابِت الأول. فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي بَاب: صفة إِبْلِيس وَجُنُوده من كتاب: بَدْء الْخلق، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا مر بَين يَدي أحدكُم شَيْء وَهُوَ يُصَلِّي فليمنعه، فَإِن أَبَى فليمنعه، فَإِن أَبَى فليقاتله؛ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان» .
وَرَوَاهُ مُسلم بِدُونِ تكْرَار «فيمنعه» ، وَكَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ مرّة أُخْرَى كَمَا عزاهُ إِلَيْهِ الرَّافِعِيّ كَمَا ستعلمه عَلَى الإثر (وَالله أعلم) .
الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا صَلَّى أحدكُم إِلَى شَيْء يستره من النَّاس، فَأَرَادَ أحد أَن يجتاز بَين يَدَيْهِ فليدفعه فَإِن أَبَى فليقاتله؛ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: رَوَى هَذَا الحَدِيث البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَهُوَ(4/197)
كَمَا قَالَ وَقد رَوَاهُ مُسلم أَيْضا. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «تذنيبه» : رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم عَن مَالك، عَن زيد بن أسلم، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، عَن أَبِيه.
الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ
عَن أبي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا صَلَّى أحدكُم فليجعل تِلْقَاء وَجهه شَيْئا، فَإِن لم يجد فلينصب عَصا، فَإِن لم يكن مَعَه عَصا فليخطَّ خطًّا ثمَّ لَا يضرّهُ مَا مر بَين يَدَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، وَأحمد فِي «الْمسند» ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه فِي «سنَنَيْهِمَا» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي (كِتَابيه) الْمعرفَة» و «السّنَن» من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة (، عَن أبي مُحَمَّد بن عَمْرو بن حُرَيْث، عَن جده حُرَيْث، عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ) أَحْمد، عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَن مُسَدّد، عَن بشر بن الْمفضل، عَن إِسْمَاعِيل. وَرَوَاهُ أَيْضا عَن مُحَمَّد(4/198)
بن فَارس، عَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ (عَن) سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن (بكر) بن خلف [عَن] حميد بن الْأسود (و) عَن عمار بن (خَالِد) ، عَن سُفْيَان بِهِ. وَرَوَاهُ ابْن حبَان، عَن أبي يعْلى، عَن أبي خَيْثَمَة [عَن سُفْيَان] عَن إِسْمَاعِيل بِهِ. وَرَوَاهُ أَيْضا عَن أبي يعْلى، عَن [مُحَمَّد] بن الصَّباح الدُّولابي، عَن مُسلم بن خَالِد، [عَن إِسْمَاعِيل ابْن أُميَّة] عَن أبي مُحَمَّد بن عَمْرو بن حُرَيْث، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن أبي هُرَيْرَة. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن أبي سعيد، عَن أبي بَحر، عَن بشر بن مُوسَى، عَن الْحميدِي، عَن سُفْيَان كَمَا سلف.
وَاخْتلف الْحفاظ فِي هَذَا الحَدِيث: فصححه جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد وَعلي بن الْمَدِينِيّ نَقله عَنْهُمَا ابْن عبد الْبر فِي (استذكاره) وَعبد الْحق فِي «أَحْكَامه» ، وَمِنْهُم أَبُو حَاتِم بن حبَّان؛ فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه»(4/199)
كَمَا سلف ثمَّ قَالَ: عَمْرو بن حُرَيْث هَذَا شيخ من أهل الْمَدِينَة رَوَى عَنهُ سعيد المَقْبُري، وَابْنه أَبُو مُحَمَّد يروي عَن جده. قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِعَمْرو بن حُرَيْث المَخْزُومِي ذَاك لَهُ صُحْبَة، وَهَذَا عَمْرو بن حُرَيْث بن عمَارَة من بني عذرة سمع أَبُو مُحَمَّد عَمْرو بن حُرَيْث جدَّهُ حُرَيْث (بن عمَارَة) ، عَن أبي هُرَيْرَة، وَذكره أَيْضا فِي «ثقاته» فَقَالَ: عَمْرو بن حُرَيْث المَخْزُومِي الَّذِي رَوَى عَن (ابْن) عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَرَوَى عَنهُ سعيد بن سعيد المَقْبُري وَأهل مصر. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : رَفعه صَحِيح، قَالَ ذَلِك بعد أَن ذكر الِاخْتِلَاف (فِي إِسْنَاده وَفِي «أَحْكَام عبد الْحق» و) «إقليد» ابْن الفركاح عَنهُ (أَنه) رَوَى حَدِيث الصَّلَاة (إِلَى) الْخط عَن أبي هُرَيْرَة من طرق؛ وَلَا تصح وَلَا تثبت.
قلت: وَضَعفه آخَرُونَ. رَوَى أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: لم نجد شَيْئا نَشد بِهِ هَذَا الحَدِيث، و (لم) يجِئ إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: قلت لِسُفْيَان: إِنَّهُم يَخْتَلِفُونَ فِيهِ بَعضهم يَقُول: أَبُو عَمْرو بن مُحَمَّد، وَبَعْضهمْ يَقُول: أَبُو مُحَمَّد بن عَمْرو (فتفكَّر سُفْيَان سَاعَة، ثمَّ قَالَ: مَا أحفظ إِلَّا أَبَا مُحَمَّد بن عَمْرو. قلت لِسُفْيَان: وَابْن جريج يَقُول: أَبُو مُحَمَّد بن عَمْرو) فَسكت سُفْيَان سَاعَة، ثمَّ قَالَ: قدم هُنَا رجل بعد مَا مَاتَ إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، فَطلب هَذَا(4/200)
الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد حَتَّى وجده (فَسَأَلَهُ) عَنهُ فخلط عَلَيْهِ. قَالَ سُفْيَان: وَكَانَ إِسْمَاعِيل إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث يَقُول: عنْدكُمْ شَيْء تشدونه بِهِ وَأَشَارَ الإِمَام الشَّافِعِي إِلَى ضعفه وَقد كَانَ احْتج بِهِ فِي الْقَدِيم وَسنَن حَرْمَلَة، وَتوقف فِيهِ فِي الْجَدِيد فَقَالَ فِي (كتاب) الْبُوَيْطِيّ: وَلَا يخط المصلِّي بَين يَدَيْهِ خطًّا، إِلَّا أَن يكون فِي ذَلِك حَدِيث ثَابت، فَيتبع. فَكَأَنَّهُ اطلع بعد ذَلِك عَلَى مَا نقل من الِاخْتِلَاف فى إِسْنَاده. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث قد أَخذ بِهِ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، وَسنَن حَرْمَلَة، وَتوقف فِيهِ فِي الْجَدِيد. قَالَ: وَإِنَّمَا توقف فِيهِ لاخْتِلَاف الروَاة عَلَى إِسْمَاعِيل بن أُميَّة فِي أبي مُحَمَّد بن عَمْرو بن حُرَيْث؛ فَقيل هَكَذَا، وَقيل: عَن أبي عَمْرو بن مُحَمَّد بن حُرَيْث، عَن جده، وَقيل: عَن أبي عَمْرو بن حُرَيْث، عَن أَبِيه، وَقيل غير ذَلِك.
وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : صحّح أَحْمد بن حَنْبَل وَعلي بن الْمَدِينِيّ هَذَا الحَدِيث، وضعَّفه غَيرهمَا من أجْلِ رِوَايَة أبي عَمْرو بن مُحَمَّد (بن عَمْرو) بن حُرَيْث، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد بدل أبي عَمْرو، عَن جده حُرَيْث، وَلم يقل مَالك وَلَا أَبُو حنيفَة وَلَا اللَّيْث بالخطِّ، ثمَّ نقل مقَالَة الدَّارَقُطْنِيّ السالفة عَنهُ، و (لما) ذكر ابْن الصَّلاح فِي علومه نوع المضطرب وَقَالَ: إِنَّه مُوجب ضعف الحَدِيث؛ لإشعاره بِعَدَمِ الضَّبْط، مَثَّلَهُ بِالْحَدِيثِ، وَقَالَ: رَوَاهُ عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، عَن عَمْرو بن مُحَمَّد بن حُرَيْث، عَن جده حُرَيْث، عَن أبي هُرَيْرَة. فَرَوَاهُ بشر(4/201)
بن الْمفضل وروح بن الْقَاسِم، عَن إِسْمَاعِيل هَكَذَا، وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ (عَنهُ) ، عَن أبي عَمْرو بن حُرَيْث، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة.
وَرَوَاهُ حميد بن الْأسود (عَن إِسْمَاعِيل) ، عَن أبي عَمْرو مُحَمَّد بن حُرَيْث بن سليم، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة. وَرَوَاهُ وهيب وَعبد الْوَارِث، عَن إِسْمَاعِيل، عَن أبي عَمْرو بن حُرَيْث، عَن جدِّه حُرَيْث. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج: سمع إِسْمَاعِيل عَن حُرَيْث بن عمَارَة. قَالَ: وَفِيه من الِاضْطِرَاب أَكثر من هَذَا.
قلت: من صحَّحه كَأَنَّهُ لم ير هَذَا الِاضْطِرَاب قادحًا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «إِذا صَلَّى أحدكُم فَليصل إِلَى شَجَرَة، أَو إِلَى بعير، فَإِن لم يجد، فليخط خطا، ثمَّ لَا يضرّهُ من مر وَرَاءه» .
قَالَ: وَرَوَى أَيْضا (مَوْقُوفا عَلَى) أبي هُرَيْرَة، والْحَدِيث لَا يثبت. وَضَعفه من الْمُتَأَخِّرين النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شرح المهذَّب» : هَذَا الحَدِيث قَالَ فِيهِ الْبَغَوِيّ وَغَيره: إِنَّه ضَعِيف، ثمَّ نقل كَلَام الْبَيْهَقِيّ السالف فِيهِ، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ غير الْبَيْهَقِيّ: هُوَ ضَعِيف لاضطرابه، وَقَالَ فِي «خلاصته» : قَالَ الْحفاظ: (هُوَ ضَعِيف لاضطرابه، وَذكره الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب وَضَعفه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ) وَلَا بَأْس بِالْعَمَلِ بِهَذَا(4/202)
الحَدِيث فِي هَذَا الحكم - إِن شَاءَ الله - أَي يخْتَار مَشْرُوعِيَّة الْخط عِنْد عدم الستْرَة.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار؛ لِأَنَّهُ وَإِن لم يثبت الحَدِيث فَفِيهِ تَحْصِيل حَرِيم للْمُصَلِّي. قَالَ: وَقد اتّفق الْعلمَاء عَلَى الْعَمَل بِالْحَدِيثِ (الضَّعِيف) فِي فَضَائِل الْأَعْمَال دون الْحَلَال وَالْحرَام، وَهَذَا من نَحْو فَضَائِل الْأَعْمَال.
فَائِدَة: اخْتلف الْعلمَاء فِي كَيْفيَّة الْخط: فَقَالَ الإِمَام أَحْمد والْحميدِي شيخ البُخَارِيّ وَصَاحب الشَّافِعِي: يَجعله مثل الْهلَال.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : سَمِعت مُسَددًا يَقُول: قَالَ (ابْن) دَاوُد: الْخط (بالطول) ، وَقَالَ صَاحب الْمُهَذّب: يخط بَين يَدَيْهِ خطا إِلَى الْقبْلَة، وَقَالَ غَيره: يخط يَمِينا وَشمَالًا كالجنازة.
تَنْبِيه: ذكر الرَّافِعِيّ بعد هَذَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِي خبر أبي هُرَيْرَة - يَعْنِي هَذَا -: «ثمَّ لَا يضرّهُ مَا مر بَين يَدَيْهِ» من العلامات الْمَذْكُورَة انْتَهَى. وَقَوله من الْعَلامَة الْمَذْكُورَة لَيْسَ فِي متن الحَدِيث وَإِن كَانَ هُوَ المُرَاد فاعلمه. (وَالله أعلم) .(4/203)
الحَدِيث [1] الْأَرْبَعُونَ
صَحَّ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «لَو يعلم المارُّ بَين يَدي الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ من الْإِثْم لَكَانَ أَن يقف أَرْبَعِينَ خيرا لَهُ من أَن يمر بَين يَدَيْهِ» .
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث أبي (الْجُهَيْم) الْأنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إِلَّا قَوْله: «من الْإِثْم» . فَإِنَّهَا للْبُخَارِيّ فِي بعض رِوَايَات أبي ذَر، عَن أبي الْهَيْثَم، وَرَوَاهَا عبد الْقَادِر الرهاوي فِي أربعينه أَيْضا.
قَالَ أَبُو النَّضر: لَا أَدْرِي أقَال أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَو شهرا أَو سنة. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِدُونِ أَنه من قَول (أبي) النَّضر وَزِيَادَة: «أَو سَاعَة» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «لِأَن يقف أحدكُم مائَة عَام خير لَهُ من أَن يمر بَين (يَدَيْهِ) » .
قلت: أخرجه ابْن مَاجَه بِمَعْنَاهُ، وَصَححهُ ابْن حبَان وَفِي(4/204)
«الْأَسْمَاء والكنى» لأبي بشر الدولابي الْحَافِظ من حَدِيث أبي رزين الغافقي رَفعه «الَّذِي يمر بَين يَدي أَخِيه وَهُوَ يُصَلِّي مُتَعَمدا يتمنَّى يَوْم الْقِيَامَة لَو كَانَ شَجَرَة يابسة» .
فَائِدَة: (خيرا) رُوِيَ بِالنّصب وَالرَّفْع؛ عَلَى أَنه اسْم كَانَ أَو خَبَرهَا.
تَنْبِيهَانِ:
الأول: لما نقل ابْن الصّلاح فِي «مشكله» عَن العِجْلي أَن فِي البُخَارِيّ «مَاذَا عَلَيْهِ من الْإِثْم» . تعقبه بِأَن قَالَ: لَيْسَ فِيهِ لفظ «الْإِثْم» تَصْرِيحًا، وَلَكِن ترْجم البُخَارِيّ وَغَيره عَلَيْهِ بِبَاب إِثْم الْمَار، وَسِيَاق الحَدِيث دَال عَلَى عظم الْإِثْم فِيهِ، وَالْأَمر بقتاله دَال عَلَيْهِ أَيْضا. هَذَا كَلَامه، وَقد علمت أَنه فِيهِ فِي بعض الطّرق عَنهُ فَلَا اعْتِرَاض إِذن عَلَى الْعجلِيّ (وَقد تَابعه النَّوَوِيّ عَلَى هَذَا الذهول فِي «شرح الْمُهَذّب» وَعَزاهَا للرهاوي فِي أربعينه) .
الثَّانِي: وَقع فِي «الْكِفَايَة» (لِابْنِ) الرّفْعَة عزو حَدِيث «لِأَن يقف أحدكُم مائَة عَام خير لَهُ من أَن يمر بَين يَدي أَخِيه وَهُوَ يُصَلِّي» إِلَى مُسلم وَهُوَ عَجِيب؛ فَلَيْسَ هُوَ فِيهِ أصلا، وَقد (رَأَيْته) فِي «الْمطلب» اعتذر عَن ذَلِك فَقَالَ: كَذَا قلت فِيهَا، وَلم أره فِي هَذَا الْموضع فلعلي قلَّدت فِي نسبته إِلَيْهِ غَيْرِي، أَو هُوَ فِي غير هَذَا الْموضع.
قلت: لَيْسَ هُوَ فِيهِ أصلا فاعلمه.(4/205)
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين
عَن أبي صَالح (السمان) قَالَ: «رَأَيْت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ فِي يَوْم الْجُمُعَة يُصَلِّي إِلَى شَيْء يستره من النَّاس فَأَرَادَ شَاب من بني معيط أَن يجتاز بَين يَدَيْهِ فَدفع أَبُو سعيد فِي صَدره، فَنظر الشَّاب فَلم يجد مساغًا إِلَّا بَين يَدَيْهِ، فَعَاد ليجتاز فَدفعهُ أَبُو سعيد أشدَّ من الأولَى فنال من أبي سعيد، ثمَّ دخل عَلَى مَرْوَان فَشَكا إِلَيْهِ مَا لَقِي من أبي سعيد، وَدخل أَبُو سعيد خَلفه عَلَى مَرْوَان، فَقَالَ: مَا لَك وَلابْن أَخِيك يَا أَبَا سعيد؟ فَقَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: إِذا صَلَّى أحدكُم إِلَى شَيْء يستره من النَّاس ... » وَذكر الحَدِيث الْمُتَقَدّم.
قَالَ الرَّافِعِيّ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فقد أخرجه (البُخَارِيّ) فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي «صَحِيحه» بِنَحْوِهِ (وَالله أعلم بِالصَّوَابِ) .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ربط ثُمَامَة بن أَثَال فِي الْمَسْجِد قبل إِسْلَامه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه(4/206)
مطولا قَالَ: «بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَيْلًا قبل نجد، فَجَاءَت بِرَجُل من بني حنيفَة يُقَال لَهُ: ثُمَامَة بن أَثَال، فربطوه بِسَارِيَة من سواري الْمَسْجِد فَخرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: أطْلقُوا ثُمَامَة. فَانْطَلق إِلَى نخلٍ قريبٍ من الْمَسْجِد فاغتسل، ثمَّ دخل الْمَسْجِد فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، و (أشهد) أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله» .
فَائِدَة: ثُمَامَة - بالثاء الْمُثَلَّثَة - والثمام: نبت ضَعِيف لَهُ خوص أَو شَبيه بالخوص، الْوَاحِدَة: ثُمَامَة؛ (وَبِه سمي) الرجل (قَالَه الْجَوْهَرِي، وَقَالَ: وأُثَال - بِضَم الْهمزَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة - اسْم جبل؛ قَالَ: وَبِه سمي الرجل) .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْأَرْبَعين
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قدم عَلَيْهِ وَفد ثَقِيف فأنزلهم فِي الْمَسْجِد، وَلم يسلمُوا بعد» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» بِإِسْنَاد حسن من رِوَايَة الْحسن بن أبي الْحسن (الْبَصْرِيّ) ، عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ أَشْعَث عَن الْحسن مُرْسلا.(4/207)
قلتُ: أخرجه كَذَلِك أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن (عبيد الله) بن معَاذ، ثَنَا أبي، نَا أَشْعَث، عَن الْحسن «أَن وَفد ثَقِيف أَتَوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَضرب لَهُم (قبَّة) فِي مؤخَّر الْمَسْجِد؛ لينظروا إِلَى صَلَاة الْمُسلمين إِلَى ركوعهم وسجودهم فَقيل: يَا رَسُول الله، أنزلتهم فِي الْمَسْجِد وهم مشركون؟ فَقَالَ: إِن الأَرْض لَا تنجس، إِنَّمَا ينجس ابْن آدم» . وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد جيد، عَن عَطِيَّة بن [سُفْيَان] حَدثنَا وفدنا الَّذين قدمُوا عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِإِسْلَام ثَقِيف قَالَ: «وَقدمُوا عَلَيْهِ فِي رَمَضَان، فَضرب عَلَيْهِم قبَّة فِي الْمَسْجِد فَلَمَّا أَسْلمُوا صَامُوا مَا بَقِي عَلَيْهِم من الشَّهْر» .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْأَرْبَعين
(أَن الْكفَّار كَانُوا يدْخلُونَ مَسْجِد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ويطيلون الْجُلُوس وَلَا شكّ أَنهم كَانُوا يجنبون) .
هُوَ كَمَا قَالَ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث جُبَير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ:(4/208)
«سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ (بِالطورِ) فِي الْمغرب» زَاد البُخَارِيّ «فَلَمَّا بلغ هَذِه الْآيَة: (أم خلقُوا من غير شَيْء) إِلَى قَوْله (المسيطرون) كَاد قلبِي (أَن) يطير» .
وَذكره فِي الْمَغَازِي مُخْتَصرا وَقَالَ فِيهِ: (وَذَلِكَ أول) مَا وقر الْإِيمَان فِي قلبِي» . وَذكر فِي طَرِيق أُخْرَى: «أَنه كَانَ جَاءَ فِي أُسَارى بدر - يَعْنِي فِي فدائهم) وللبرقاني: (وَهُوَ يَوْمئِذٍ مُشْرك) » .
(وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ: «أَنه أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي فدَاء الْمُشْركين) وَمَا أسلم يَوْمئِذٍ، فَدخلت الْمَسْجِد وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي الْمغرب فَقَرَأَ بِالطورِ فَكَأَنَّمَا صدع قلبِي حِين سَمِعت الْقُرْآن» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: «أتيت الْمَدِينَة فِي فدَاء بدر (قَالَ) : وَهُوَ يَوْمئِذٍ مُشْرك فدخلتُ الْمَسْجِد ... » الحَدِيث.
وَرَوَى الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن عُثْمَان بن أبي سُلَيْمَان: «أَن مُشْركي قُرَيْش حِين أَتَوا الْمَدِينَة فِي فدَاء أَسْرَاهُم كَانُوا يبيتُونَ فِي الْمَسْجِد مِنْهُم جُبَير بن مُطْعم (قَالَ جُبَير:) فَكنت أسمع(4/209)
قِرَاءَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَهَذَا مُرْسل.
وَفِي أبي دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «أَن الْيَهُود أَتَوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ جَالس فِي الْمَسْجِد فِي أَصْحَابه فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِم (مَا تَقول) فِي رجل وَامْرَأَة زَنَيَا مِنْهُم» .
وَفِي «صَحِيح مُسلم» «قصَّة الْيَهُودِيّ الَّذِي دخل الْمَسْجِد وفاوضه ثمَّ قَالَ (: مَا يمنعك أَن تتبعني؟ فَذكر أَن الْيَهُود يَزْعمُونَ أَن النُّبُوَّة فِي أَوْلَاد إِسْحَاق ... » الحَدِيث.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فَثَلَاثَة:
أَحدهَا: عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه عصر بثرة (عَلَى) وَجهه ودلك بَين أصبعيه بِمَا خرج مِنْهَا وَصَلى وَلم يعد (الْعَصْر) » .
وَهَذَا الْأَثر ذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِغَيْر إِسْنَاد، فَقَالَ: «وعصر ابْن عمر بثرة فَخرج مِنْهَا دم وَلم يتَوَضَّأ» .
وأسنده ابْن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «مَعْرفَته» من حَدِيث عبد الْوَهَّاب، عَن التَّيْمِيّ، عَن بكر بن عبد الله(4/210)
قَالَ: «رَأَيْت ابْن عمر عصر بَثْرَة فِي وَجهه فَخرج مِنْهَا (شَيْء من دم فَحَكَّه بَين أصبعيه ثمَّ صَلَّى وَلم يتَوَضَّأ» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فَقَالَ: أَنا رجل، عَن حميد الطَّوِيل، عَن بكر بن عبد الله قَالَ: (رَأَيْت ابْن عمر عصر بَثْرَةً بِوَجْهِهِ فَخرج مِنْهَا) الدَّم فدلك بَين أَصَابِعه ثمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاة وَلم يغسل يَده» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : قد اتهمَ الرجل الَّذِي رَوَى عَنهُ فَهُوَ عندنَا مَجْهُول، قَالَ: وَالْأول إِسْنَاده صَحِيح عِنْدهم.
ثَانِيهَا: عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَنه قَالَ: «فِي قَوْله تَعَالَى: (خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد) أَن المُرَاد بهَا الثِّيَاب» وَهَذَا مَشْهُور، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ غَيره.
ثَالِثهَا: أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «رَأَى أمة سترت وَجههَا فَمنعهَا من ذَلِك، وَقَالَ: أتشتهين أَن تشبهي بالحرائر» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث نَافِع أَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد (حدثته) قالتْ: «خرجت امْرَأَة مختمرة متجلببة فَقَالَ عمر: من هَذِه الْمَرْأَة؟ فَقيل لَهُ: هَذِه جَارِيَة لفُلَان - رجل من بنيه - فَأرْسل إِلَى حَفْصَة فَقَالَ: مَا حملك عَلَى أَن تخمري هَذِه الْمَرْأَة وتجلببيها وتشبهيها بالمحصنات حَتَّى هَمَمْت أَن أقع بهَا لَا أحسبها إِلَّا من الْمُحْصنَات؟ لَا تشبهوا (الْإِمَاء) بالمحصنات» .(4/211)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: والْآثَار عَن عمر فِي ذَلِك صَحِيحَة، وَإِنَّمَا تدل عَلَى (أَن) رَأسهَا، أَو رَأسهَا ورقبتها، وَيظْهر مِنْهَا فِي حَال (المهنة) فَلَيْسَ (بِعَوْرَة) .(4/212)
بَاب سُجُود السَّهْو
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا. أما الْأَحَادِيث فَأَرْبَعَة عشر حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى بهم الظّهْر فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين وَلم يجلس، فَقَامَ النَّاس مَعَه حَتَّى إِذا قَضَى الصَّلَاة وانتظر النَّاس تَسْلِيمه كبر وَهُوَ جَالس فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ قبل أَن يسلم (ثمَّ سلم) » .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث عبد الله بن بُحَيْنَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ فِي صَلَاة (الظّهْر) وَعَلِيهِ جُلُوس، (فَلَمَّا) أتم (صلَاته) سجد سَجْدَتَيْنِ، وَكبر فِي كل سَجْدَة وَهُوَ جَالس قبل أَن يسلم، وسجدهما النَّاس مَعَه مَكَان مَا نسي من الْجُلُوس» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «صَلَّى لنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَكْعَتَيْنِ من بعض(4/213)
الصَّلَوَات، ثمَّ قَامَ فَلم يجلس، فَقَامَ النَّاس (مَعَه) فَلَمَّا قَضَى صلَاته، ونظرنا تَسْلِيمه، كبر فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالس قبل التَّسْلِيم» .
وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) : «صَلَّى لنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَاة [من الصَّلَوَات] ، فَقَامَ من اثْنَتَيْنِ، فسبح بِهِ، فَمَضَى حَتَّى فرغ من صلَاته، وَلم يبْق إِلَّا (السَّلَام) ، سجد سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالس قبل أَن يسلم» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح (مُفَسّر) عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ.
الحَدِيث الثَّانِي
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى الظّهْر خمْسا» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَذَلِك، وَزِيَادَة أَنه سجد للسَّهْو بَعْدَمَا سلم، وَقد سلف فِي أَوَاخِر الْبَاب قبله أَيْضا.
الحَدِيث الثَّالِث
(أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَامَ، وَمَضَى إِلَى نَاحيَة الْمَسْجِد وراجع ذَا الْيَدَيْنِ، وَسَأَلَ الصَّحَابَة فَأَجَابُوا) .(4/214)
وَذكر فِي الْبَاب أَيْضا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (سلم) فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ، وَتكلم، واستدبر الْقبْلَة، وَمَشى، وَلم يزدْ عَلَى سَجْدَتَيْنِ، وَهَذَا الحَدِيث اتفقَا عَلَى إِخْرَاجه أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِحْدَى صَلَاتي الْعشي، إِمَّا الظّهْر وَإِمَّا الْعَصْر فَسلم فِي رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ أَتَى جذعًا فِي قبْلَة الْمَسْجِد واستند إِلَيْهَا مغضبًا وَفِي الْقَوْم أَبُو بكر وَعمر، فَهَابَا أَن يتكلما، وَخرج سرعَان النَّاس، (فَقَالُوا) : قصرت الصَّلَاة. فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أقصرت الصَّلَاة أم نسيت؟ فَنظر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَمِينا، وَشمَالًا، فَقَالَ: مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: صدق، لم تصل إِلَّا رَكْعَتَيْنِ. فَصَلى رَكْعَتَيْنِ، وَسلم ثمَّ كبر، ثمَّ سجد، ثمَّ كبر فَرفع، ثمَّ كبر وَسجد، ثمَّ كبر وَرفع» . قَالَ: وأخبرت عَن عمرَان بن حُصَيْن أَنه قَالَ: «وَسلم» هَذَا لفظ مُسلم.
وَقَالَ البُخَارِيّ: «فَصَلى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سلم فَقَامَ إِلَى خَشَبَة معروضة فِي الْمَسْجِد، فاتكأ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَان، وَوضع يَده الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَشَبك بَين أَصَابِعه، وَوضع خَدّه الْأَيْمن عَلَى ظهر كَفه الْيُسْرَى، وَخرجت (سرعَان النَّاس) من أَبْوَاب الْمَسْجِد فَقَالُوا: قصرت الصَّلَاة، وَقَالَ فِيهِ: يَا رَسُول الله، أنسيت أم قصرت الصَّلَاة؟(4/215)
قَالَ: لم أنس، وَلم تقصر. فَقَالَ: أكما يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نعم، فَتقدم فَصَلى مَا ترك، ثمَّ سلم، ثمَّ كبر، وَسجد مثل سُجُوده، أَو أطول، ثمَّ رفع وَكبر» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: أَنَّهَا صَلَاة الظّهْر، وفيهَا (فَقَامَ رجل من بني سليم، يُقَال لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ) .
وَفِي رِوَايَة لَهُ أَنَّهَا صَلَاة الْعَصْر، وَأَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لذِي الْيَدَيْنِ: (كل ذَلِك لم يكن. فَقَالَ: قد كَانَ بعض ذَلِك يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «بل قد نسيت» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد بِإِسْنَاد الصَّحِيح فَقَالَ: «صدق ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَأَوْمَئُوا أَي: نعم» . قَالَ أَبُو دَاوُد: وَلم يذكر «فَأَوْمَئُوا» إِلَّا حَمَّاد بن زيد. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلم يبلغنَا إِلَّا من جِهَة أبي دَاوُد عَن مُحَمَّد بن عبيد، عَن حَمَّاد، [وهم] ثِقَات أَئِمَّة، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا من(4/216)
حَدِيث عمرَان بن الْحصين، نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأَنه سلم فِي ثَالِثَة الْعَصْر، وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي «شرح الْعُمْدَة» فَليُرَاجع مِنْهُ. وَمن الْأَعَاجِيب مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي «كَامِله» من حَدِيث ابْن معِين: ثَنَا سعيد بن أبي مَرْيَم، ثَنَا لَيْث [عَن] ابْن وهب عَن عبد الله الْعمريّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يسْجد يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ سُجُود السَّهْو» .
قَالَ ابْن عبد الْبر: وَكَانَ ابْن شهَاب يَقُول: إِذا عرف الرجل مَا نسي من صلَاته فأتمها لَيْسَ (عَلَيْهِ) سجدتا السَّهْو لهَذَا الحَدِيث.
وَقَالَ مُسلم فِي «التَّمْيِيز» قَول ابْن شهَاب إِنَّه لم يسْجد يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ خطأ وَغلط. وَقد ثَبت سُجُوده من رِوَايَة الثِّقَات ابْن سِيرِين وَغَيره.
قلت: وَفِي مُسْند السراج أَن سَلمَة بن عَلْقَمَة قَالَ لِابْنِ سِيرِين: (أبالتشهد) قَالَ: لم أسمع فِيهِ شَيْئا وَأحب لي أَن أَتَشهد، وَهَذَا ابْن عمر قَالَ: إِنَّه لم يسْجد.(4/217)
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (قَالَ) : «لَا سَهْو إِلَّا فِي قيام عَن جُلُوس، أَو جُلُوس عَن قيام» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة يَحْيَى بن صَالح، عَن أبي بكر الْعَنسِي - بالنُّون - عَن يزِيد، بن (أبي) حبيب، عَن سَالم بن عبد الله بن عمر، (عَن أَبِيه) ، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا سَهْو فِي وثبة (الإِمَام) إِلَّا قيام عَن جُلُوس أَو جُلُوس عَن قيام» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ - وَخَالفهُ الْبَيْهَقِيّ (فَقَالَ) فِي «سنَنه» : تفرد بِهِ أَبُو بكر الْعَنسِي، وَهُوَ مَجْهُول. وَتوقف فِيهِ الْحَافِظ عبد الْحق فَقَالَ فِي «أَحْكَامه» كتبت هَذَا الْإِسْنَاد - يَعْنِي: السالف - حَتَّى أسأَل عَن أبي بكر (هَذَا) انْتَهَى. وَعَن ابْن عدي أَنه قَالَ فِيهِ: إِنَّه مَجْهُول، لَهُ أَحَادِيث مَنَاكِير عَن الثِّقَات، رَوَى عَنهُ بَقِيَّة وَيَحْيَى الوُحَاظي.
قلت: فينكر إِذن عَلَى الْحَاكِم تَصْحِيحه، لَا جرم ذكر النَّوَوِيّ هَذَا(4/218)
الحَدِيث فِي فصل الضَّعِيف من «خلاصته» ، وَنقل عَن الْبَيْهَقِيّ وَغَيره أَنهم قَالُوا: تفرد (بِهِ) أَبُو بكر الْعَنسِي (وَهُوَ مَجْهُول قَالَ: وغلطوا الْحَاكِم فِي دَعْوَاهُ صِحَة إِسْنَاده قَالَ: والعنسي) - بالنُّون - قلت: (وَثمّ آخر مَجْهُول يُقَال لَهُ: أَبُو بكر الْعَنسِي أَيْضا يروي عَن عمر ذكره فِي «الْمِيزَان» ) وَيَحْيَى بن صَالح الَّذِي رَوَى هَذَا الحَدِيث عَنهُ من فرسَان الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ ثِقَة، وَإِنَّمَا تكلم فِيهِ لتجهُّمه.
الحَدِيث الْخَامِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعل الْفِعْل الْقَلِيل فِي الصَّلَاة، وَرخّص فِيهِ وَلم يسْجد للسَّهْو وَلَا أَمر بِهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
فقد صَحَّ عَنهُ: «حمله أُمَامَة فِي الصَّلَاة» ، «وَأمر بقتل الأسودين فِيهَا» وَقد أسلفنا وَسلف أَيْضا فِي الْبَاب قبله حَدِيث ضرب الأفخاذ فِي حَدِيث مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ، وَحَدِيث (تَأَخّر) الصّديق فِي الصَّلَاة، وَحَدِيث مسح الْحَصَى مسحة وَاحِدَة فِي أبي دَاوُد، وَحَدِيث «دلك البصاق فِي الثَّوْب» فِي الصَّحِيح وَغير ذَلِك. وَفِي الطَّبَرَانِيّ(4/219)
الْكَبِير من حَدِيث الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يمسح الْعرق عَن وَجهه فِي الصَّلَاة» . وَفِيه: أَيْضا من حَدِيث أبي رَافع «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قتل عقربًا وَهُوَ يُصَلِّي» .
وَفِي الأول خَارِجَة بن مُصعب وَقد ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره، وَفِي الثَّانِي (حبَان) بن عَلّي (أَخُو) منْدَل، وَمُحَمّد بن عبيد الله بن أبي رَافع وَقد ضعفوهما.
الحَدِيث السَّادِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى الظّهْر خمْسا ثمَّ سجد للسَّهْو» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا قدمْنَاهُ أول الْبَاب، وَفِي الْبَاب الَّذِي (قبله) أَيْضا.
الحَدِيث السَّابِع
عَن حُذَيْفَة رضى الله عَنهُ قَالَ: « (صليت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَيْلَة فَقَرَأَ الْبَقَرَة (وَآل عمرَان وَالنِّسَاء) فِي رَكْعَة، ثمَّ ركع فَكَانَ رُكُوعه نَحوا من(4/220)
قِيَامه، ثمَّ رفع رَأسه وَقَامَ قَرِيبا من رُكُوعه، ثمَّ سجد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ عَنهُ قَالَ) : «صليت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَات لَيْلَة فَافْتتحَ الْبَقَرَة فَقلت: يرْكَع عِنْد الْمِائَة، ثمَّ مَضَى فَقلت: يُصَلِّي بهَا فِي رَكْعَة فَمَضَى. فَقلت: يرْكَع بهَا، ثمَّ افْتتح سُورَة (النِّسَاء) فقرأها ثمَّ افْتتح سُورَة (آل عمرَان) فقرأها يقْرَأ مترسِّلًا إِذا مر بِآيَة تَسْبِيح سبَّح، وَإِذا مر بسؤال سَأَلَ، وَإِذا مر بتعُّوذ تعوَّذ، ثمَّ ركع فَجعل يَقُول: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم. وَكَانَ رُكُوعه نَحوا من قِيَامه، ثمَّ قَالَ: سمع الله لمن حَمده، ثمَّ قَامَ قيَاما طَويلا قَرِيبا مِمَّا ركع، ثمَّ سجد فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى فَكَانَ سُجُوده قَرِيبا من قِيَامه» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «سمع الله لمن حَمده رَبنَا لَك الْحَمد» .
قَالَ عبد الْحق فِي جمعه بَين الصَّحِيحَيْنِ: كَذَا وَقع (يُصَلِّي) بهَا فِي رَكْعَة وَإِنَّمَا هُوَ رَكْعَتَيْنِ. وَالله أعلم.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» : إِنَّه المُرَاد لينتظم الْكَلَام بعده.(4/221)
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يرتب بَين أَرْكَان الصَّلاة، وَقَالَ: صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
أما كَونه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يرتب بَين أَرْكَان الصَّلَاة فمشهور فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
وَأما قَوْله: «صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (فَصَحِيح) أَيْضا كَمَا سلف (فِي) أول الْأَذَان فِي الحَدِيث الثَّانِي مِنْهُ.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا قَامَ أحدكُم من الرَّكْعَتَيْنِ فَلم يستتم قَائِما فليجلس، (فَإِذا) استتم قَائِما فَلَا يجلس، وَيسْجد سَجْدَتَيْنِ» . وَيروَى: «فَإِن ذكر قبل أَن يستتم قَائِما جلس وَلَا سَهْو» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه بِلَفْظ: «إِذا قَامَ الإِمَام فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَإِن ذكر قبل أَن يستوى قَائِما فليجلس، فَإِن اسْتَوَى قَائِما فَلَا يجلس، وَيسْجد سَجْدَتي السَّهْو» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بلفظين: أَحدهمَا هَذَا. ثَانِيهمَا: «إِذا شكّ أحدكُم فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَاسْتَتَمَّ قَائِما فليمضِ(4/222)
وليسجد سَجْدَتَيْنِ، وَإِن لم يستتم قَائِما فليجلس وَلَا سَهْو عَلَيْهِ» .
ومداره عَلَى جَابر الْجعْفِيّ وَقد أسلفنا حَاله فِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين من بَاب الْأَذَان.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : جَابر لَا يحْتَج بِهِ، غير أَن هَذَا قد رُوِيَ من وَجْهَيْن آخَرين، وَحَدِيثه أشهر فِيمَا بَين الْفُقَهَاء.
قلت: وَصَحَّ عَن زِيَاد بن علاقَة قَالَ: «صَلَّى بِنَا الْمُغيرَة بن شُعْبَة فَنَهَضَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَقُلْنَا: سُبْحَانَ الله. وَمَضَى، فَلَمَّا أتم صلَاته وَسلم سجد سَجْدَتي (السَّهْو) فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: رأيتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صنع كَمَا صنعتُ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَرَوَى الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» مثله من رِوَايَة سعد بن أبي وَقاص وَعقبَة بن عَامر وَقَالَ فِي كل مِنْهُمَا: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا شكَّ أحدكُم فِي صلَاته فَلم يدر صَلَّى ثَلَاثًا (أم) أَرْبعا فليطرح الشَّك وليبن عَلَى مَا استيقن، وَيسْجد سَجْدَتَيْنِ؛ فَإِن (كَانَت) صلَاته تَامَّة كَانَت الرَّكْعَة والسجدتان نَافِلَة، وَإِن كَانَت صلَاته نَاقِصَة كَانَت الرَّكْعَة تَمامًا، والسجدتان(4/223)
ترغيمًا للشَّيْطَان» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ كَذَلِك، إِلَّا أَنه قَالَ: (ثمَّ) يسْجد سَجْدَتَيْنِ قبل أَن يسلم فَإِن كَانَ صَلَّى خمْسا شفعن (لَهُ) صلَاته، وَإِن كَانَ صَلَّى إتمامًا لأَرْبَع كَانَتَا ترغيمًا للشَّيْطَان» بدل «يسْجد سَجْدَتَيْنِ ... » إِلَى آخِره.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح بِنَحْوِ سِيَاقَة الرَّافِعِيّ لَهُ، وَلَفظه «إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته فليلق الشَّك وليبن عَلَى الْيَقِين، فَإِذا استيقن التَّمام سجد سَجْدَتَيْنِ، فَإِن كَانَت صلَاته تَامَّة كَانَت الرَّكْعَة نَافِلَة والسجدتان، وَإِن كَانَت نَاقِصَة كَانَت الرَّكْعَة تَمامًا لصلاته، وَكَانَت السجدتان مرغمتي الشَّيْطَان» .
وَرَوَاهُ كَذَلِك ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : (إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته فَلم يدر كم صَلَّى ثَلَاثًا أَو أَرْبعا فَليقمْ فَليصل رَكْعَة» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد من حَدِيث عَطاء بن يسَار أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته) فَلَا(4/224)
يدْرِي كم صَلَّى ثَلَاثًا أم أَرْبعا فَليصل رَكْعَة وليسجد سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالس قبل التَّسْلِيم، فَإِن كَانَت الرَّكْعَة الَّتِي صَلَّى خَامِسَة شفعها بِهَاتَيْنِ، وَإِن كَانَت رَابِعَة فالسجدتان ترغيم للشَّيْطَان» . وَوصل هَذِه الرِّوَايَة أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِذكر أبي سعيد الْخُدْرِيّ بعد عَطاء بن يسَار، وَرَوَى مثلهَا من رِوَايَة عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، ثمَّ قَالَ: هَذِه الرِّوَايَة وهم وَالصَّوَاب عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
فَائِدَة: نقل (الْمَاوَرْدِيّ) عَن (ابْن) الْمُنْذر أَنه قَالَ: أصح حَدِيث فِي الْبَاب حَدِيث أبي سعيد هَذَا.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذْ شكّ أحدكُم فَلم يدر أواحدة صَلَّى أم اثْنَتَيْنِ فليبن عَلَى وَاحِدَة، وَإِن لم يدر اثْنَتَيْنِ صَلَّى أم (ثَلَاثًا) فليبن عَلَى ثِنْتَيْنِ، وَإِن لم يدر ثَلَاثًا صَلَّى أم أَرْبعا فليبنِ عَلَى(4/225)
ثلاثٍ، وَيسْجد سَجْدَتَيْنِ قبل أَن يسلم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث (ابْن) إِسْحَاق، عَن مَكْحُول، عَن كريب، عَن ابْن عَبَّاس، عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. قَالَ: وَرُوِيَ عَنهُ من غير هَذَا الْوَجْه. (وَرَوَاهُ) الْهَيْثَم بن كُلَيْب الشَّاشِي، عَن الْعَبَّاس الدوري، عَن مُحَمَّد بن عبد الله، عَن إِسْمَاعِيل الْمَكِّيّ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «كنت أذاكر عمر شَيْئا من الصَّلَاة قَالَ: فأَتَانا عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَقَالَ: أَلا أحدثكُم حَدِيثا سمعته من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: قُلْنَا: بلَى. قَالَ: أشهد شَهَادَة الله لسمعتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: إِذا كَانَ أحدكُم (فِي) شكّ من النُّقْصَان فِي صلَاته فَليصل حَتَّى يكون فِي شكّ من الزِّيَادَة» .
قَالَ الْهَيْثَم: وثنا أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ مُحَمَّد بن إِدْرِيس، (نَا) الْأنْصَارِيّ، نَا إِسْمَاعِيل، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا شكَّ أحدكُم فِي صلَاته فَلَا يدْرِي ثَلَاثًا صَلَّى أم أَرْبعا فَليصل رَكْعَة(4/226)
(ثمَّ يسْجد) سَجْدَتَيْنِ» .
وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم. وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ فَقَالَ: رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن [سعد] وَمُحَمّد بن سَلمَة وَعِيسَى بن عبد الله الْأنْصَارِيّ وَطَلْحَة بن زيد، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن مَكْحُول (عَن كريب، عَن ابْن عَبَّاس عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ابْن إِسْحَاق، عَن مَكْحُول) مُرْسلا.
(وَكَذَلِكَ) سَمعه مُحَمَّد بن إِسْحَاق (من) مَكْحُول مُرْسلا. وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل ابْن علية وَعبد الله بن نمير، وَعبد الرَّحْمَن الْمحَاربي، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن مَكْحُول مُرْسلا.
وَعَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن حُسَيْن بن عبد الله، عَن مَكْحُول، عَن كريب، عَن ابْن عَبَّاس، عَن عبد الرَّحْمَن. فضبط هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة عَن ابْن إِسْحَاق الْمُتَّصِل والمرسل.
وَرَوَى هَذَا الحَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن (عبيد الله) بن عبد الله، عَن ابْن عَبَّاس حدث عَنهُ إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ وبحر السقاء.(4/227)
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن يزِيد الوَاسِطِيّ، وَاخْتلف عَنهُ: فَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن هود عَنهُ، عَن ابْن إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ. وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن بهْلُول، عَن عمار بن سَلام، عَن مُحَمَّد بن يزِيد، عَن (سُفْيَان) بن حُسَيْن وَكِلَاهُمَا وهم.
وَرَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل، عَن مُحَمَّد بن يزِيد - عَلَى الصَّوَاب - عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن الزُّهْرِيّ فَرجع الحَدِيث إِلَى إِسْمَاعِيل بن مُسلم، وَإِسْمَاعِيل ضَعِيف. انْتَهَى كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ.
وَفِي مُسْند الإِمَام أَحْمد: ثَنَا إِسْمَاعِيل، نَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق، حَدثنِي مَكْحُول أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا صَلَّى أحدكُم فَشك ... » فَذكره. قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَقَالَ لي حُسَيْن بن عبد الله هَل أسْندهُ لَك؟ فَقلت: لَا. فَقَالَ: لكنه حَدثنِي أَن كريبًا مولَى ابْن عَبَّاس حَدثهُ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «صليت إِلَى عمر بن الْخطاب ... » فَذكر الحَدِيث.
وحسين بن عبد الله تكلم فِيهِ غير وَاحِد.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى من خلف الإِمَام سَهْو، فَإِن سَهَا الإِمَام فَعَلَيهِ وَعَلَى من خَلفه السَّهْو» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث خَارِجَة(4/228)
بن مُصعب، عَن أبي الْحُسَيْن الْمَدَائِنِي، عَن سَالم، عَن أَبِيه ابْن عمر، عَن جده عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة «وَإِن سَهَا (من) خلف الإِمَام فَلَيْسَ عَلَيْهِ سَهْو، وَالْإِمَام كافيه» .
وخارجة هَذَا ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره كَمَا أسلفناه فِي الحَدِيث الْخَامِس فِي الْبَاب. نعم قَالَ ابْن عدي: هُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه وَأخرج لَهُ ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» حَدِيث «إِن للْوُضُوء (شَيْطَانا) يُقَال لَهُ الولهان» . وَأَبُو الْحُسَيْن هَذَا مَجْهُول كَمَا قَالَه (الْبَيْهَقِيّ) فِي (سنَنه» فَإِنَّهُ لما رَوَاهُ فِي «سنَنه» بِلَفْظ «إِن الإِمَام يَكْفِي من وَرَاءه، فَإِن سَهَا الإِمَام فَعَلَيهِ سجدتا السَّهْو، وَعَلَى من وَرَاءه أَن يسجدوا مَعَه، وَإِن سَهَا أحد مِمَّن خَلفه فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يسْجد، وَالْإِمَام يَكْفِيهِ» .
قَالَ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف؛ وَالْحكم بن عبد الله - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - ضَعِيف، (ثمَّ) قَالَ: وَرَوَاهُ خارجةُ بن مصعبٍ، عَن أبي الْحُسَيْن الْمَدَائِنِي، عَن سَالم بن عبد الله، عَن أَبِيه، عَن عمر بِمَعْنَاهُ، وَأَبُو الْحُسَيْن هَذَا مَجْهُول، وَضعف الحَدِيث أَيْضا الضياء فِي(4/229)
«أَحْكَامه» ، وَكَذَا عبد الْحق فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث إِسْنَاده (ضَعِيف) فِيهِ خَارِجَة بن مُصعب، عَن أبي الْحُسَيْن الْمَدَائِنِي قَالَ: وَذكر أَبُو أَحْمد أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: «قلت للنَّبِي (عَلَى الرجل سَهْو خلف الإِمَام؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا السَّهْو عَلَى الإِمَام» .
وَهَذَا يرويهِ عمر بن عَمْرو أَبُو حَفْص الْعَسْقَلَانِي الطَّحَّان، وَهُوَ مَتْرُوك، فِي عداد من يكذب، والإسناد مُنْقَطع أَيْضا؛ لِأَنَّهُ عَن مَكْحُول، عَن ابْن عَبَّاس.
تَنْبِيه: ذكر الرَّافِعِيّ (هُنَا) حَدِيث (مُعَاوِيَة) السَّابِق فِي شُرُوط الصَّلَاة فَقَالَ: «وَإِذا سَهَا الْمَأْمُوم خلف الإِمَام لم يسْجد ويتحمل الإِمَام سَهْوه» ثمَّ ذكر الحَدِيث السالف ثمَّ قَالَ: وَلِحَدِيث مُعَاوِيَة بن الحكم الَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي فصل الْكَلَام فَإِن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يَأْمُرهُ بِالسُّجُود مَعَ أَنه تكلم خَلفه انْتَهَى. وَيُمكن أَن يُقَال: إِنَّمَا لم يَأْمُرهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أعلمهُ بمنافاة مَا فعله (فِي) الصَّلَاة بعد فَرَاغه مِنْهَا وَسُجُود السَّهْو قبيل السَّلَام، فَلَمَّا فَاتَهُ مَحَله لم يَأْمُرهُ بِهِ وَالْمَاوَرْدِيّ استدلَّ (فِي(4/230)
الْمَسْأَلَة) بِحَدِيث: «الْأَئِمَّة ضمناء» قَالَ: يُرِيد - وَالله اعْلَم - ضمناء السَّهْو.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ» .
هَذَا الحَدِيث متَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِزِيَادَة: «فَلَا تختلفوا عَلَيْهِ، فَإِذا كبر فكبروا، وَإِذا ركع فاركعوا، وَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده. فَقولُوا: (اللَّهُمَّ) رَبنَا لَك الْحَمد، وَإِذا سجد فاسجدوا، وَإِذا صَلَّى قَائِما فصلوا قيَاما، وَإِذا صَلَّى قَاعِدا فصلوا قعُودا أَجْمَعُونَ» . وَلم يذكر البُخَارِيّ الصَّلَاة.
واتفقا عَلَى إِخْرَاجه أَيْضا من حَدِيث أنس وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما واتفقا عَلَى بعضه (وَفِي أَفْرَاد مُسلم) من حَدِيث جَابر «إِن صلوا قيَاما فصلوا قيَاما، وَإِن صلوا قعُودا فصلوا قعُودا» .(4/231)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
عَن عبد الله بن بُحَيْنَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى بهم الظُّهر فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأولتين وَلم يجلس فَقَامَ النَّاس مَعَه حَتَّى إِذا قَضَى الصَّلَاة وانتظر النَّاس تَسْلِيمه كبر وَهُوَ جَالس فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ قبل أَن يسلم ثمَّ سلم» .
هَذَا الحَدِيث متَّفق عَلَى صِحَّته كَمَا سلف أول الْبَاب.
فَائِدَة: بُحَيْنَة أم عبد الله، وَقيل جدته، وَالصَّحِيح الأول كَمَا قَالَه أَبُو عمر، وَهِي صحابية، وَاسْمهَا: عَبدة بنت الْحَارِث بن الْمطلب بن عبد منَاف، قَالَه ابْن سعد وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مَالك بن القِشْب جُنْدُب بن (نَضْلَة بن عبد الله) الْأَزْدِيّ.
تَنْبِيه: لما ذكر الرَّافِعِيّ هَذَا الحَدِيث مستدلًا بِهِ عَلَى أَن سُجُود السَّهْو مَحَله قبل (السَّلَام) قَالَ: وَلِحَدِيث أبي سعيد وَعبد الرَّحْمَن (الْمَذْكُورين) فِي الشَّك فِي عدد الرَّكْعَات وَمرَاده بذلك الحَدِيث الْعَاشِر وَالْحَادِي عشر وَلَفظه الَّذِي قدمه فِي حَدِيث أبي سعيد «وَيسْجد سَجْدَتَيْنِ» وَهُوَ مُحْتَمل لما قبل السَّلَام وَبعده، لَكِن ثَبت فِي الصَّحِيح زِيَادَة «قبل أَن يسلم» كَمَا قَدمته هُنَاكَ، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالْقَوْل الثَّالِث إِنَّه(4/232)
مُخَيَّر إِن شَاءَ قدم أَو أخر لثُبُوت الْأَمريْنِ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَعْنِي: أَنه ثَبت عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه سجد قبل السَّلَام، وَثَبت أَنه سجد بعده، أما قبل السَّلَام فسلف فِي حَدِيث ابْن بُحَيْنَة كَمَا ترَاهُ، وَسلف حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي ذَلِك، وَأما أَنه بعد السَّلَام فَهُوَ فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا سلف، وَكَذَا فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود لَكِن قَالَ ابْن الصّلاح فِي هذَيْن الْحَدِيثين: إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام لم يذكر السَّهْو إِلَّا بعد السَّلَام، وَفِي هذَيْن مَا يمْنَع الِاحْتِجَاج بِهِ فِي محلَِّ النزاع. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى الْأَحَادِيث.
وَأما آثاره فَثَلَاثَة:
أَحدهَا: «أَن أنسا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه جهر فِي الْعَصْر فَلم يعدها وَلم يسْجد للسَّهْو، وَلم يُنكر عَلَيْهِ» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه الْكَبِير» فَقَالَ: وَيذكر عَن قَتَادَة، عَن أنس بن مَالك «أَنه جهر فِي الظّهْر وَالْعصر فَلم يسْجد» وأسنده الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» فَقَالَ: نَا مُحَمَّد بن عبد الله الْحَضْرَمِيّ، نَا أَبُو كريب، ثَنَا وَكِيع، عَن سعيد بن بشير، عَن قَتَادَة: «أَن أنسا جهر فِي الظّهْر أَو الْعَصْر فَلم يسْجد» .
ثَانِيهَا: «أَن أنسا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه تحرَّك للْقِيَام فِي الرَّكْعَتَيْنِ من الْعَصْر (فَسَبحُوا فَجَلَسَ ثمَّ سجد للسَّهْو» . وَهَذَا الْأَثر ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ) أَيْضا فَقَالَ: روينَا عَن (يَحْيَى بن) سعيد، عَن أنس ... فَذكره قَالَ: «ثمَّ(4/233)
سجد سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالس» . وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث يَحْيَى بن سعيد، عَن أنس قَالَ: «صَلَّى بِنَا (رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) الْعَصْر فَتحَرك للْقِيَام فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ» فَقَالَ: يرويهِ جمَاعَة عَنهُ هَكَذَا مَوْقُوفا، وَرَوَاهُ سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن أنس أَنه فعل ذَلِك وَقَالَ: هَذَا السُّنة، وَلم (يقل) هَذَا غَيره وَقَالَ: زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة.
ثَالِثهَا: نقل عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: آخر الْأَمريْنِ من فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - السُّجُود قبل السَّلَام. وَهَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِي مُنْقَطِعًا، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، عَن مطرف بن مَازِن، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: «سجد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل السَّلَام وَبعده، وَآخر الْأَمريْنِ قبل السَّلَام» .
قَالَ: وَذكره أَيْضا فِي رِوَايَة حَرْمَلَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِلَّا أَن قَول الزُّهْرِيّ مُنْقَطع لم يسْندهُ إِلَى أحد من الصَّحَابَة، ومطرف بن (مَازِن) غير قوي، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ومشهور عَن الزُّهْرِيّ من فتواه سُجُود السَّهْو قبل السَّلَام. وَذكر نَحْو هَذَا فِي «الْمعرفَة» أَيْضا، إِلَّا أَنه قَالَ: إِن بعض أَصْحَابنَا زعم أَن قَول الزُّهْرِيّ مُنْقَطع. وانقطاعه ظَاهر، فَلَا حَاجَة إِلَى نسبته إِلَى بعض أَصْحَابه بِلَفْظ الزَّعْم وَقد أَلان الْبَيْهَقِيّ القَوْل فِي مطرف(4/234)
هُنَا وَضَعفه فِي بَاب سهم ذَوي الْقرب من سنَنه، وَأطلق عَلَيْهِ يَحْيَى الْكَذِب.
خَاتِمَة: صَلَاة التَّسْبِيح أَشَارَ إِلَيْهَا الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، حَيْثُ قَالَ: ورد الشَّرْع بالتطويل فِي الصَّلَاة فلنذكر طرق حَدِيثهَا، وَكَلَام أَصْحَابنَا فِيهَا فَنَقُول: حَدِيثهَا مَشْهُور فِي «سنَن أبي دَاوُد» وَابْن مَاجَه و «جَامع التِّرْمِذِيّ» و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه عَن عبد الرَّحْمَن بن بشر النَّيْسَابُورِي، عَن مُوسَى بن عبد الْعَزِيز، عَن الحكم بن أبان، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - للْعَبَّاس: «يَا عَبَّاس يَا عماه (أَلا أُعْطِيك) أَلا أمنحك، أَلا أحبوك، أَلا أفعل بك عشر خِصَال، إِذا أَنْت فعلت ذَلِك غفر الله لَك ذَنْبك أَوله وَآخره، قديمه وَحَدِيثه خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته، أَن تصلي أَربع رَكْعَات تقْرَأ فِي كل رَكْعَة فَاتِحَة الْكتاب وَسورَة، فَإِذا فرغت من الْقِرَاءَة أول رَكْعَة وَأَنت قَائِم قلت: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر (خمس عشرَة) مرّة، ثمَّ تركع وتقولها وَأَنت رَاكِع عشرا، وترفع رَأسك من الرُّكُوع فتقولها عشرا، ثمَّ تهوي سَاجِدا فتقولها وَأَنت ساجد عشرا، ثمَّ ترفع رَأسك من السُّجُود (فتقولها) عشرا، ثمَّ تسْجد فتقولها(4/235)
عشرا، ثمَّ ترفع رَأسك فتقولها عشرا، فَذَلِك خمس وَسَبْعُونَ فِي كل رَكْعَة تفعل ذَلِك فِي أَربع رَكْعَات إِن اسْتَطَعْت أَن تصليها فِي كل يَوْم [مرّة] فافعل، فَإِن لم تفعل فَفِي كل جُمُعَة مرّة، فَإِن لم تفعل فَفِي كل شهر مرّة، فَإِن لم تفعل فَفِي كل سنة مرّة، فَإِن لم تفعل فَفِي عمرك مرّة» .
وَهَذَا الْإِسْنَاد جيد، عبد الرَّحْمَن بن بشر احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَشَيْخه قَالَ فِيهِ يَحْيَى بن معِين: لَا بَأْس بِهِ، وَشَيْخه وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَكَانَ أحد الْعباد، وَسكت عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد فَهُوَ حسن أَو صَحِيح عِنْده، لَا جرم ذكره ابْن السكن فِي (سنَنه الصِّحَاح المأثورة) . قَالَ الْحَافِظ زكي الدَّين الْمُنْذِرِيّ فِي «موافقاته» : وَهَذَا الطَّرِيق أمثل طرقه. قَالَ: وَقد رويت هَذِه الصَّلَاة من رِوَايَة الْعَبَّاس وَأنس وَأبي رَافع مولَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَغَيرهم مَرْفُوعا وموقوفًا، وفيهَا كلهَا مقَال، وأمثلها مَا تقدم.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (من) حَدِيث أبي رَافع (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للْعَبَّاس ... ) فَذكره وَفِيه: «وَلَو كَانَت ذنوبك مثل رمل عالج غفرها الله لَك، قَالَ: يَا رَسُول الله، وَمن يَسْتَطِيع أَن يَقُولهَا فِي يَوْم؟ قَالَ: إِن لم تستطع أَن تَقُولهَا فِي يَوْم فقلها فِي جُمُعَة، فَإِن لم تستطع أَن تَقُولهَا فِي جُمُعَة فقلها فِي شهر، فَلم يزل يَقُول حَتَّى قَالَ: فقلها فِي سنة» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث أبي رَافع. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غير حديثٍ فِي صَلَاة التَّسْبِيح وَلَا يَصح مِنْهُ كَبِير شَيْء، وَقد رَأَى ابْن الْمُبَارك (وَغير) واحدٍ من أهل الْعلم صَلَاة (التَّسْبِيح)(4/236)
وَذكروا الْفضل فِيهِ.
نَا أَحْمد بن عَبدة، نَا (أَبُو وهب) قَالَ: سألتُ عبد الله بن الْمُبَارك عَن الصَّلَاة الَّتِي يسبح فِيهَا فَقَالَ: يكبر ثمَّ يَقُول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وتبارك اسْمك، وَتَعَالَى جدك، وَلَا إِلَه غَيْرك، ثمَّ يَقُول خمس عشرَة مرّة: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر ثمَّ يتعوَّذ وَيقْرَأ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وفاتحة الْكتاب وَسورَة، ثمَّ يَقُول عشر مَرَّات: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر (ثمَّ)(4/237)
يرْكَع، فيقولها عشرا، ثمَّ يرفع [رَأسه] فيقولها عشرا، ثمَّ يسْجد فيقولها عشرا، ثمَّ يرفع رَأسه فيقولها عشرا، ثمَّ يسْجد الثَّانِيَة فيقولها عشرا، يُصَلِّي أَربع (رَكْعَات) عَلَى هَذَا، فَذَلِك خمس وَسَبْعُونَ تَسْبِيحَة فِي كل رَكْعَة، يبْدَأ فِي كل رَكْعَة (بِخمْس عشرَة) تَسْبِيحَة، ثمَّ يقْرَأ، ثمَّ يسبح عشرا، فَإِن صَلَّى لَيْلًا فَأحب إِلَى أَن يسلم فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَإِن صَلَّى نَهَارا فَإِن شَاءَ سلم، وَإِن شَاءَ لم يسلم» .
قَالَ أَبُو وهب: وَأَخْبرنِي عبد الْعَزِيز بن أبي (رزمة) ، عَن عبد الله أَنه قَالَ: «يبْدَأ فِي الرُّكُوع بسبحان رَبِّي الْعَظِيم، وَفِي السُّجُود بسبحان رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا، ثمَّ يسبح التسبيحات» . قَالَ أَحْمد بن عَبدة: وثنا وهب بن زَمعَة قَالَ: أَخْبرنِي عبد الْعَزِيز - وَهُوَ ابْن أبي رزمة - قَالَ: قلت لعبد الله بن الْمُبَارك: «إِن سَهَا فِيهَا أيسبح فِي سَجْدَتي السَّهْو عشرا عشرا؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا هِيَ ثَلَاثمِائَة تَسْبِيحَة) .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، عَن أبي بكر أَحْمد بن إِسْحَاق، أبنا إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق بن يُوسُف، ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن بشر بن الحكم الْهِلَالِي، ثَنَا مُوسَى بن عبد الْعَزِيز أَبُو شُعَيْب(4/238)
(القنباري) ، نَا الحكم بن أبان، حَدثنِي عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للْعَبَّاس ... فَذكره بِاللَّفْظِ السالف عَن أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث يماني وَصله مُوسَى بن عبد الْعَزِيز، عَن الحكم بن أبان. قَالَ: وَقد أخرجه أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق - يَعْنِي ابْن خُزَيْمَة وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث وَأَبُو عبد الرَّحْمَن أَحْمد بن شُعَيْب - يَعْنِي النَّسَائِيّ - فِي الصَّحِيح.
قلت: لم أره فِيهِ. قَالَ: فَرَوَوْه ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الرَّحْمَن بن بشر قَالَ: وَقد رَوَاهُ إِسْحَاق بن أبي إِسْرَائِيل، عَن مُوسَى بن عبد الْعَزِيز فَذكره بِإِسْنَادِهِ بِمثلِهِ لفظا وَاحِدًا، ثمَّ قَالَ: أما حَال مُوسَى بن عبد الْعَزِيز فَأحْسن الثَّنَاء عَلَيْهِ عبد الرَّزَّاق. ثمَّ ذكر عَنهُ بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: وَأما حَال الحكم بن أبان فقد قَالَ البُخَارِيّ: ثَنَا عَلّي بن الْمَدِينِيّ، عَن (ابْن) عُيَيْنَة قَالَ: سَأَلت يُوسُف بن يَعْقُوب كَيفَ كَانَ الحكم بن أبان؟ قَالَ: ذَاك سيدنَا. قَالَ الْحَاكِم: وَأما إرْسَال إِبْرَاهِيم بن الحكم بن أبان هَذَا(4/239)
الحَدِيث، عَن أَبِيه فَحَدَّثَنِيهِ عَلّي بن عِيسَى ... فَذكره بِإِسْنَادِهِ ثمَّ قَالَ: هَذَا الْإِرْسَال لَا يوهن الْوَصْل؛ فَإِن الزِّيَادَة من الثِّقَة أولَى من الْإِرْسَال، عَلَى أَن إِمَام أهل عصره فِي الحَدِيث إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي قد أَقَامَ هَذَا الْإِسْنَاد، عَن إِبْرَاهِيم بن الحكم بن أبان وَوَصله ... فَذكره، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِمثل حَدِيث مُوسَى بن عبد الْعَزِيز، عَن الحكم بِإِسْنَادِهِ، قَالَ الْحَاكِم: وَقد صحت (الرِّوَايَة) عَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - علم ابْن عَمه جَعْفَر (بن أبي طَالب) هَذِه الصَّلَاة كَمَا علمهَا عَمه» ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ وَقَالَ: إِسْنَاد صَحِيح لَا غُبَار عَلَيْهِ. قَالَ: وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ عَلَى صِحَة هَذَا الحَدِيث اسْتِعْمَال الْأَئِمَّة من أَتبَاع التَّابِعين وَإِلَى عصرنا هَذَا إِيَّاه، ومواظبتهم عَلَيْهِ، وتعليمهن النَّاس مِنْهُم عبد الله بن الْمُبَارك، ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ كَمَا أسلفناه عَن التِّرْمِذِيّ، ثمَّ قَالَ: رُوَاة هَذَا الحَدِيث، عَن ابْن الْمُبَارك كلهم ثِقَات أَثْبَات.
قَالَ: وَلَا يُتَّهَمُ عبد الله أَن يعلم مَا لم يصحَّ عِنْده (سَنَده) انْتَهَى مَا ذكره الْحَاكِم.
(وَعَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ: أصح شَيْء فِي فَضَائِل السُّور (قل هُوَ الله أحد (. وَأَصَح شَيْء فِي فَضَائِل الصَّلَوَات صَلَاة التَّسْبِيح) ،(4/240)
وَأغْرب ابْن الْجَوْزِيّ فروَى هَذَا الحَدِيث فِي «مَوْضُوعَاته» من حَدِيث الْعَبَّاس (وَابْنه وَأبي رَافع) وضعفها كلهَا وَقَالَ: إِنَّهَا لَا تثبت، (وَقد) رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام علمهَا عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وعليًّا وجعفرًا. (ثمَّ) ضعفها وَنقل عَن الْحَافِظ أبي جَعْفَر الْعقيلِيّ أَنه قَالَ: لَيْسَ فِي صَلَاة التَّسْبِيح (حَدِيث) يثبت وَذكره لهَذَا الحَدِيث فِي «مَوْضُوعَاته» من الغلو، وَله فِي هَذَا الْكتاب أَشْيَاء تساهل فِي دَعْوَى وَضعهَا، وحقها أَن تذكر فِي الْأَحَادِيث الضعيفة بل (بَعْضهَا) حسن أَو صَحِيح. وَقد أنكر غير وَاحِد عَلَيْهِ فعله فِي هَذَا التصنيف. قَالَ الْحَافِظ محب الدَّين الطَّبَرِيّ: لم يكن لَهُ أَن يذكر هَذَا الحَدِيث فِي الموضوعات فقد خرجه الحفَّاظ. قلت: مثل أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم كَمَا سلف قَالَ: وَله مثل هَذَا كثير - عَفا الله عَنهُ.
وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يواظب عَلَى فعلهَا بعد الزَّوَال فِي (كل) جُمُعَة، قَالَ الْعلمَاء: وَإِذا عمل الصَّحَابِيّ بِحَدِيث دلَّ عَلَى قوته، وَلَا الْتِفَات إِلَى قَول من زهد فِيهَا، وَقد رُوِيَ عَن أبي دَاوُد أَنه قَالَ: عرضت السّنَن بعد فراغها عَلَى أَحْمد بن حَنْبَل فارتضاها وَلم يُنكر مِنْهَا شَيْئا، (وَصَلَاة التَّسْبِيح) مثبتة فِيهَا، وشيوخ الحَدِيث قد ينقلون(4/241)
الحَدِيث من طَرِيق صَحِيحَة، ثمَّ (من) طَرِيق ضَعِيفَة فيطلقون عدم الصِّحَّة، ويريدون مَا نقل بِالطَّرِيقِ الضَّعِيف، وَجُمْهُور الْفُقَهَاء لم يمنعوا صَلَاة التَّسْبِيح مَعَ اخْتلَافهمْ فِي الْمَنْع من تَطْوِيل الِاعْتِدَال. هَذَا آخر كَلَام الْحَافِظ - رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقد اسْتحبَّ هَذِه الصَّلَاة من أَصْحَابنَا القَاضِي الْحُسَيْن وَصَاحب «التَّهْذِيب» و «التَّتِمَّة» وَالرُّويَانِيّ فِي «الْبَحْر» عملا بِالْحَدِيثِ فِيهَا، وَاعْترض عَلَيْهِم النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» فَقَالَ: فِي هَذَا الِاسْتِحْبَاب نظر؛ لِأَن حَدِيثهَا ضَعِيف وفيهَا تَغْيِير لنظم الصَّلَاة الْمَعْرُوفَة، فَيَنْبَغِي أَن لَا تفعل بِغَيْر حَدِيث صَحِيح، وَلَيْسَ حَدِيثهَا (بِثَابِت) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا يَصح فِي ذَلِك كَبِير شَيْء. وَكَذَا قَالَ الْعقيلِيّ وَأَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: إِنَّه لَيْسَ فِيهَا حَدِيث حسن وَلَا صَحِيح، وَنقل مثل هَذِه الْمقَالة عَنْهُم فِي «خلاصته» وأقرهم، ولخص كَلَامه فِي «شرح الْمُهَذّب» وَفِي «تَحْقِيقه» فَقَالَ: قَالَ القَاضِي حُسَيْن وَالْبَغوِيّ وَالْمُتوَلِّيّ وَالرُّويَانِيّ: تسْتَحب صَلَاة التَّسْبِيح. وَعِنْدِي فِيهَا نظر؛ لِأَن فِيهَا تَغْيِير الصَّلَاة وحديثها ضَعِيف. وَقَالَ فِي «الْأَذْكَار» : قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: حَدِيث أبي رَافع الْمَرْوِيّ فِي صَلَاة التَّسْبِيح ضَعِيف لَيْسَ لَهُ أصل فِي الصِّحَّة وَلَا فِي الْحسن، قَالَ: وَإِنَّمَا ذكره التِّرْمِذِيّ لينبه عَلَيْهِ؛(4/242)
لِئَلَّا يغتر بِهِ. قَالَ: وَقَول ابْن الْمُبَارك لَيْسَ بِحجَّة. ثمَّ نقل كَلَام الْعقيلِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ قَالَ: وَقد نصَّ جمَاعَة من أَصْحَابنَا عَلَى استحبابها مِنْهُم الْبَغَوِيّ وَالرُّويَانِيّ وأقرهما عَلَى ذَلِك.
وَقَالَ فِي كِتَابه «تَهْذِيب اللُّغَات» : قد جَاءَ فِي صَلَاة التَّسْبِيح حَدِيث حسن فِي كتاب التِّرْمِذِيّ وَغَيره، وَذكره (الْمحَامِلِي) وَصَاحب «التتمَّة» وَغَيرهمَا من أَصْحَابنَا وَهِي سُنَّةٌ حَسَنَة. هَذَا لَفظه وَهُوَ مُخَالف لما قدمه فِي غير هَذَا الْكتاب، وَالله الْمُوفق للصَّوَاب. (وَسميت صَلَاة التَّسْبِيح لِكَثْرَة التَّسْبِيح فِيهَا خلاف الْعَادة فِي غَيرهَا) .(4/243)
بَاب سُجُود التِّلَاوَة وَالشُّكْر
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا؛ أما الْأَحَادِيث فخمسة عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن زيد بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قَرَأت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَجْدَة (والنجم (فَلم يسْجد فِيهَا (وَلَا أمره) بِالسُّجُود» .
هَذَا الحَدِيث اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخراجه من حَدِيثه «أَنه قَرَأَ عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (والنجم إِذا هوى (فَلم يسْجد» هَذَا لفظ مُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ: «قَرَأت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (والنجم (فَلم يسْجد فِيهَا» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: «لم يسْجد (منا) أحد» وَقَول الرَّافِعِيّ «وَلَا (أَمر) بِالسُّجُود» تبع فِيهِ الْمَاوَرْدِيّ وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا أَنه لم (يفعل) ذَلِك إِن لم يُوجد كَذَلِك فِي رِوَايَة. ثمَّ اعْلَم أَن ابْن حزم أعلَّ هَذَا الحَدِيث فِي «مُحَلاَّه» فَقَالَ: وَاحْتج المقلدون لمَالِك بِهَذَا الحَدِيث، ثمَّ رَاوِيه(4/244)
قد صَحَّ عَن مَالك أَنه لَا يعْتَمد عَلَى رِوَايَته، وَهُوَ يزِيد بن عبد الله بن (قُسَيْط) هَذَا كَلَامه. وَهَذَا الحَدِيث قد أخرجه الشَّيْخَانِ من طَرِيقه وَكَذَا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. وَمَا نَقله عَن مَالك فِي ابْن (قسيط) لَا نعلمهُ عوضا عَن صِحَّته، ثمَّ إِن مَالِكًا قد أخرج لَهُ فِي «موطئِهِ» فَلَو كَانَ لَا يعْتَمد عَلَى رِوَايَته لما رُوِيَ عَنهُ فِي الْمُوَطَّأ وَحده، وَقد قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: ابْن (قسيط) ثِقَة (وَلَو لم يكن ثِقَة مَا رَوَى عَنهُ مَالك) . وَقَالَ ابْن عدي: رَوَى مَالك عَنهُ غير حَدِيث وَقد أَثْنَى النَّاس عَلَيْهِ.
تَنْبِيه: (أجَاب الْبَيْهَقِيّ) تبعا للشَّافِعِيّ عَن هَذَا الحَدِيث بِأَن قَالَ: يحْتَمل أَن يكون رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِنَّمَا لم يسْجد؛ لِأَن زيدا لم يسْجد وَكَانَ هُوَ الْقَارئ، وَكَانَ سَبَب هَذَا الِاحْتِمَال أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سجد فِيهَا كَمَا أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَرَأَ (والنجم (فَسجدَ(4/245)
فِيهَا وَسجد من كَانَ مَعَه غير أَن شَيخا أَخذ كفًّا من حَصى - أَو تُرَاب - فرفعه إِلَى جَبهته وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، قَالَ عبد الله: لقد رَأَيْته بعد (قُتِلَ) كَافِرًا» وَيحْتَمل أَن يكون تَركه فِي حَدِيث (زيد) لبَيَان الْجَوَاز وَأَنه لَيْسَ بِوَاجِب؛ لَا كَمَا يَقُوله الْمُخَالف.
فَائِدَة: هَذَا الشَّيْخ الَّذِي لم يسْجد هُوَ أُميَّة بن خلف، وَفِي الطَّبَرَانِيّ (الْكَبِير) أَنه الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَقيل إِنَّه عتبَة بن ربيعَة، وَقيل: أَبُو أحيحة سعيد بن الْعَاصِ، حَكَاهُمَا الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» وَقَالَ: الأول أصح. وَهُوَ الَّذِي ذكره البُخَارِيّ. قلت: وَبِه جزم النوويُّ فِي «شرح مُسلم» وَعبد الْحق فِي «جمعه» .
تَنْبِيه ثَان: هَذَا الحَدِيث استدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ عَلَى أَن سُجُود التِّلَاوَة لَيْسَ بِوَاجِب، وَهُوَ يتم إِذا ثَبت أَن سَجدَات الْمفصل من عزائم السُّجُود، وَمذهب زيد بن ثَابت عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم أَنه لَا سُجُود فِي الْمفصل.(4/246)
الحَدِيث الثَّانِي
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يسْجد فِي شَيْء من المفصَّل مُنْذُ تحول [إِلَى] الْمَدِينَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث أَزْهَر بن الْقَاسِم، عَن أبي قدامَة، عَن مَطَر الْوراق، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِهِ، وَأَبُو قدامَة الْمَذْكُور اسْمه: الْحَارِث بن عبيد إيادي بَصرِي وَهُوَ من رجال مُسلم وَأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، ضَعَّفُوهُ. قَالَ أَحْمد: مُضْطَرب الحَدِيث. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا عِنْدهم يكون من سوء الْحِفْظ. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ مرّة: ضَعِيف. وَقَالَ الفلاَّس: رَأَيْت ابْن مهْدي يحدث عَنهُ وَقَالَ: مَا رَأَيْت إِلَّا خيرا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ السَّاجي: صَدُوق عِنْده مَنَاكِير. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ شَيخا صَالحا مِمَّن كثر وهمه، لَا يحْتَج بِهِ إِذا انْفَرد.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : وَهَذَا الحَدِيث يَدُور عَلَيْهِ، وَقد ضعفه يَحْيَى بن معِين، وَحدث عَنهُ ابْن مهْدي وَقَالَ: كَانَ من شُيُوخنَا، وَمَا رَأَيْت إِلَّا خيرا. قَالَ: وَالْمَحْفُوظ عَن ابْن عَبَّاس مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَرَأَ بِالنَّجْمِ، فَسجدَ مَعَه الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنّ وَالْإِنْس» وَقَالَ فِي «معرفَة السّنَن والْآثَار» : أَبُو قدامَة مُخْتَلف فِي عَدَالَته.(4/247)
قلت: وَضَعفه أَيْضا غير وَاحِد من المتأخِّرين. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتبه الثَّلَاث «التَّحْقِيق» ، و «الْعِلَل» ، و «الْإِعْلَام» : هَذَا الحَدِيث (لَا يَصح) فِيهِ أَبُو قدامَة، وَقد ضعفه يَحْيَى وَأحمد. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصر السّنَن» : فِي إِسْنَاده أَبُو قدامَة وَلَا يحْتَج بحَديثه. وَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى «الْمُهَذّب» : رَوَاهُ أَبُو دَاوُد كَمَا سلف، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، عَن أبي قدامَة، عَن مطر الْوراق - أَو رجل - وَرَوَاهُ بكر بن خلف، عَن حُسَيْن الْمُقْرِئ، عَن أَزْهَر فَقَالَ فِي مَتنه «إِن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سجد فِي النَّجْم وَهُوَ بِمَكَّة، فَلَمَّا هَاجر إِلَى الْمَدِينَة تَركهَا» .
قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الحَدِيث مَدَاره عَلَى (أبي) قدامَة، وَقد ضعفه يَحْيَى وَأحمد. قلت: وَهَذَا اللَّفْظ الْأَخير ذكره ابْن السَّكن فِي «صحاحه» .
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِقَوي. قَالَ: وَيروَى أَيْضا مُرْسلا قَالَ: وَالصَّحِيح مَا تقدَّم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة يُشِير إِلَى الحَدِيث الْآتِي بعد هَذَا، وأعلَّه ابْن الْقطَّان أَيْضا بمطرٍ الْوراق، وَقَالَ: كَانَ يُشبه فِي سوء الْحِفْظ بِمُحَمد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، وَقد عيب عَلَى مُسلم إِخْرَاج حَدِيثه.(4/248)
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح. وَضَعفه أَيْضا فِي «خلاصته» .
وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : مطر رَدِيء (الْحِفْظ. وَهَذَا مُنكر؛ فقد صَحَّ «أَن أَبَا هُرَيْرَة سجد مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي «إِذا السَّمَاء انشقت وإسلامه مُتَأَخّر» وَقَالَ ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» : (إِن) صَحَّ هَذَا الحَدِيث (يكون) نَاسِخا لحَدِيث ابْن مَسْعُود السالف؛ لِأَن ذَلِك كَانَ بِمَكَّة.
قلت: أَنى لَهُ بِالصِّحَّةِ وَضَعفه قد ظهر كَمَا قَرَّرْنَاهُ؟ !
الحَدِيث الثَّالِث
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «سجدنا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي (إِذا السَّمَاء انشقت (و (اقْرَأ باسم رَبك.
هَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك وَلم يذكر البُخَارِيّ سَجْدَة (اقْرَأ (ورويا عَن أبي رَافع قَالَ: «صليت خلف(4/249)
أبي هُرَيْرَة صَلَاة الْعَتَمَة فَقَرَأَ: (إِذا السَّمَاء انشقت (فَسجدَ فِيهَا فَقلت لَهُ: مَا هَذِه السَّجْدة؟ ! فَقَالَ: سجدت فِيهَا خلف أبي الْقَاسِم (فَلَا أَزَال أَسجد فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ» وَفِي بعض طرق البُخَارِيّ «لَو لم أر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سجد لم أَسجد» وَفِي رِوَايَة للبزار من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَالَ: «رأيتُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سجد فِي (إِذا السَّمَاء انشقت (عشر مَرَّات» .
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ: كَانَ إِسْلَام أبي هُرَيْرَة بعد الْهِجْرَة بسنين - أَي: سبع سِنِين - وَرَأَيْت من يصحفه ويقرؤه بِلَفْظ التَّثْنِيَة ويعترض عَلَى الرَّافِعِيّ فِي ذَلِك وَهَذَا تَحْرِيف مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِلَفْظ الْجمع، والرافعي نَفسه قد صرح فِي كِتَابه «الأمالي» بِأَنَّهُ أسلم سنة سبع من الْهِجْرَة؛ فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنهُ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سجد فِي (ص (وَقَالَ: سجدها دَاوُد توبةًَّ، ونسجدها شكرا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشافعيُّ عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن أَيُّوب، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنهُ «عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه سجدها - يَعْنِي(4/250)
[فِي] (ص) » وَرَوَاهُ فِي الْقَدِيم عَن سُفْيَان، عَن عمر بن ذَر، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «سجدها دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام تَوْبَة، ونسجدها نَحن شكرا - يَعْنِي: (ص.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ وَهُوَ مُرْسل، قَالَ: وَقد رُوِيَ من وَجه آخر عَن عمر بن ذَر، عَن أَبِيه، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس مَوْصُولا، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَكَذَا قَالَ فِي «الْمعرفَة و (الخلافيات» : إِنَّه رُوِيَ مُرْسلا بِإِسْقَاط ابْن عَبَّاس وَرُوِيَ مَوْصُولا من أوجه؛ وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَكَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» أَن الْمَحْفُوظ إرْسَاله، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مُتَّصِلا فِي موضِعين فِي سنَنه من حَدِيث حجَّاج بن مُحَمَّد، عَن (عمر بن ذَر) عَن أَبِيه، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِي سَجْدَة ص: سجدها نَبِي الله [دَاوُد] تَوْبَة، ونسجدها شكرا» .(4/251)
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مُتَّصِلا أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن بزيع: عَن عمر بن ذَر، عَن أَبِيه، عَن سعيد، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا. وَعبد الله بن بزيع هَذَا قَالَ فِيهِ ابْن عدي: لَيْسَ عِنْدِي مِمَّن يحْتَج بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لين الحَدِيث لَيْسَ (بمتروك) قلت: وَلم ينْفَرد بِهِ؛ بل توبع عَلَيْهِ كَمَا سلف، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» من هَذَا الْوَجْه وأعلَّه بِابْن بزيع، وَذكر كَلَام ابْن عدي فِيهِ، وَأما ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح) فَذكره.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن عقبَة بن عَامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، فضلت سُورَة الْحَج بِأَن فِيهَا [سَجْدَتَيْنِ] ؟ قَالَ: نعم، وَمن لم يسجدهما فَلَا يقرأهما» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد(4/252)
وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي (سُنَنهمْ) من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة، عَن مشرح بن هاعان، عَن عقبَة بِهِ وَاللَّفْظ لِلتِّرْمِذِي، وَلَفظ أَحْمد: «قلت: يَا رَسُول الله، أفضِّلت سُورَة الْحَج عَلَى سَائِر الْقُرْآن بسجدتين؟ قَالَ: نعم، وَمن لم يسجدهما فَلَا يقرأهما» .
وَلَفظ أبي دَاوُد: «قلت: يَا رَسُول الله، فِي سُورَة الْحَج سَجْدَتَانِ؟ قَالَ: نعم ... » إِلَى آخِره.
وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ: «قلت: يَا رَسُول الله، فِي سُورَة الْحَج سَجْدَتَانِ؟ قَالَ: نعم، إِن لم تسجدهما فَلَا تقرأهما» .
وَهُوَ حَدِيث فِي إِسْنَاده ضعيفان:
أَحدهمَا: ابْن لَهِيعَة (وَقد) سلف حَاله فِي أَوَاخِر بَاب الْوضُوء، وَإِن الْبَيْهَقِيّ قَالَ: أجمع أَصْحَاب الحَدِيث عَلَى ضعفه وَترك الِاحْتِجَاج بِمَا ينْفَرد بِهِ.
ثَانِيهمَا: مشرح بن هاعان لَا يحْتَج بِهِ، قَالَ ابْن حبَان: انقلبت عَلَيْهِ صحائفه؛ فَكَانَ يحدث بِمَا سمع من هَذَا عَن ذَاك وَهُوَ لَا يعلم فَكل مَا يروي عَن شُعْبَة هُوَ مَا سَمعه من الْحسن بن عمَارَة؛ فَبَطل الِاحْتِجَاج(4/253)
بِهِ. لَا جرم قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حديثٌ لَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيّ. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي موضِعين:
أَحدهمَا: فِي أثْنَاء صَلَاة الْجَمَاعَة، وَأَشَارَ إِلَى ضعفه؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَقد رُوِيَ بِإِسْنَاد رِوَايَة عبد الله بن لَهِيعَة (إِن فِي سُورَة الْحَج سَجْدَتَيْنِ ثمَّ سَاقه بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن لَهِيعَة) (عَن مشرح، عَن عقبَة بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ السالف.
الثَّانِي: فِي كتاب التَّفْسِير فِي تَفْسِير سُورَة الْحَج سَاقه من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة) عَن مشرح، عَن عقبَة بِلَفْظ الإِمَام أَحْمد السالف ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لم (نَكْتُبهُ) مُسْندًا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه قَالَ: وَعبد الله بن لَهِيعَة بن عقبَة الْحَضْرَمِيّ أحد الْأَئِمَّة، إِنَّمَا نقم عَلَيْهِ اخْتِلَاطه فِي آخر عمره. قَالَ الْحَاكِم: وَقد صحت الرِّوَايَة فِيهِ من قَول عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن مَسْعُود وَأبي مُوسَى وَأبي الدَّرْدَاء وعمَّار.
أما حَدِيث عمر: فروَى عبد الله بن (ثَعْلَبَة) «أَنه صَلَّى مَعَه(4/254)
الصُّبْح فَسجدَ فِي الْحَج سَجْدَتَيْنِ» وَأما حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس فروَى أَبُو الْعَالِيَة عَنهُ أَنه قَالَ: «فِي سُورَة الْحَج سَجْدَتَانِ» .
وَأما حَدِيث ابْن عمر فروَى نَافِع عَنهُ «أَنه سجد فِي الْحَج سَجْدَتَيْنِ» .
وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود وعمار؛ فروَى عَاصِم، عَن [زر] عَنْهُمَا «أَنَّهُمَا كَانَا يسجدان فِي الْحَج سَجْدَتَيْنِ» .
وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فروَى صَفْوَان بن مُحرز عَنهُ «أَنه سجد فِي سُورَة الْحَج سَجْدَتَيْنِ، وَأَنه قَرَأَ السَّجْدَة الَّتِي فِي آخر سُورَة الْحَج؛ فَسجدَ وسجدنا مَعَه» .
وَأما حَدِيث أبي الدَّرْدَاء؛ فروَى عبد الرَّحْمَن بن جُبَير قَالَ: «رَأَيْت أَبَا الدَّرْدَاء سجد فِي الْحَج سَجْدَتَيْنِ» هَذَا ملخص مَا ذكره الْحَاكِم، وسَاق كل ذَلِك بأسانيده.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : فِي هَذَا الحَدِيث ابْن لَهِيعَة، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث، و (قَالَ) فِي «الْمعرفَة» روينَا عَن خَالِد بن معدان أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فضِّلت سُورَة الْحَج عَلَى الْقُرْآن بسجدتين»(4/255)
قَالَ: وَهَذَا الْمُرْسل إِذا ضم إِلَى رِوَايَة ابْن لَهِيعَة صَار قويًّا. وَتَبعهُ ابْن الصَّلاح فَقَالَ فِي «مشكله» : فِي إِسْنَاده من لَا حجَّة فِيهِ، وَهُوَ ابْن لَهِيعَة ومشرح - وهما ضعيفان - لَكِن لَهُ شَاهد يقويه، وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة قَالَ: وَقَوله: «وَمن لم يسجدهما فَلَا يقرأهما» مَعْنَاهُ - وَالله أعلم - (أَن) من لم يرد أَن يسجدهما فَلَا يقْرَأ آيتيهما.
وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فاحتج فِي «تَحْقِيقه» بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور وَسَاقه من مُسْند أَحْمد، ثمَّ قَالَ: فَإِن قَالُوا: ابْن لَهِيعَة ضَعِيف. قُلْنَا: قَالَ ابْن وهب: هُوَ صَادِق. وَلم يزدْ عَلَى ذَلِك، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ، وأعجب مِنْهُ إغفاله تَضْعِيف مشرح بن هاعان، وَقد ذكره هُوَ فِي «ضُعَفَائِهِ» وَجزم النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» (بِضعْف) الحَدِيث فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة وَهُوَ ضَعِيف بالِاتِّفَاقِ لاختلال ضَبطه. وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة، وَهُوَ مُتَّفق عَلَى ضعف رِوَايَته، قَالَ: وَإِنَّمَا ذكرته لأبينه لِئَلَّا يُغتر بِهِ.
قلت: وَلَا (ينتهى) إِلَى هَذَا كُله؛ بل هُوَ قوي (لشاهده و) أَقْوَال الصَّحَابَة، كَمَا قَرّرته لَك.(4/256)
الحَدِيث السَّادِس
عَن (عَمْرو) بن العَاصِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أقرأه خمس عشرَة سَجْدَة فِي الْقُرْآن؛ مِنْهَا ثَلَاث فِي الْمفصل، وَفِي الْحَج سَجْدَتَانِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي (سُنَنهمَا) وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَلَى الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عبد الله بن مُنين، عَن (عَمْرو) بن العَاصِي، وَسكت عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد؛ وَهُوَ مُقْتَضَى (لحسنه) أَو صحَّته عِنْده، وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث رُوَاته مصريون قد احْتج الشَّيْخَانِ بأكثرهم، وَلَيْسَ فِي عدد سُجُود الْقُرْآن أتم مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح المهذَّب» : رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم بِإِسْنَاد حسن. ثمَّ قَالَ بعد فِي «فرع مَذَاهِب الْعلمَاء» : إِنَّه حَدِيث صَحِيح، وَكَذَا قَالَ فِي «خلاصته» : رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد حسن. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث المهذَّب إِنَّه حَدِيث حسن.(4/257)
قلت: وَفِي ذَلِك كُله نظر، فعبد الله بن منين هَذَا مَجْهُول، وَكَذَا الرَّاوِي عَنهُ وَهُوَ الْحَارِث بن سعيد العُتَقي الْمصْرِيّ، لَا جرم ضعفه عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِعَبْد الله بن منين فَقَالَ: عبد الله بن منين لَا يحْتَج بِهِ.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَيشْتَبه بِعَبْد الله بن مُنِير الْمروزِي يروي لَهُ خَ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان عقب قَول عبد الْحق: لَا يحْتَج بِهِ - يَعْنِي: أَنه مَجْهُول لَا يعرف - والمجهول لَا يحْتَج بِهِ قَالَ: وَقد وَقع فِي نسبه وَاسم أَبِيه اخْتِلَاف وتصحيف عَلَى ابْن أبي حَاتِم فَقَالَ: مُنِير - بالراء فِي آخِره - وَإِنَّمَا هُوَ منين - بنونين وَضم الْمِيم - وَقَالَ فِيهِ: من بني عبد الدَّار، وَصَوَابه أَنه من بني عبد كلال كَذَا هُوَ فِي كتاب أبي دَاوُد و «تَارِيخ البُخَارِيّ» وَلَا يعرف، رَوَى عَنهُ الْحَارِث بن سعيد العُتَقي وَهُوَ الَّذِي يعل بِهِ الحَدِيث؛ لِأَنَّهُ رجل لَا يعرف لَهُ حَال وَرَوَى عَنهُ ابْن لَهِيعَة وَنَافِع بن يزِيد، ذكره بذلك (ابْن يُونُس) فِي تَارِيخ مصر؛ فَالْحَدِيث من أَجله(4/258)
لَا يَصح، وَلَو كَانَ ابْن منين مَعْرُوفا.
قلت: وَوَقع فِي «الْإِكْمَال» لِابْنِ مَاكُولَا أَن عبد الله بن منين من بني عبد كلال من بني عبد الدَّار، وَقد علمت كَلَام ابْن الْقطَّان السالف فِيهِ. قَالَ الْأَمِير: وَلَيْسَ لَهُ غير هَذَا الحَدِيث.
وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث سَاقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» من (طَرِيق) الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن رشدين، عَن ابْن أبي مَرْيَم، عَن نَافِع بن يزِيد، عَن الْحَارِث بن (سعيد) عَن عبد الله بن منين، عَن (عَمْرو) بن العَاصِي ... الحَدِيث. ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا يعْتَمد عَلَيْهِ. قَالَ ابْن عدي: ابْن رشدين كذبوه وَأنْكرت عَلَيْهِ أَشْيَاء. وَقَالَ: يَحْيَى بن أبي مَرْيَم لَيْسَ بِشَيْء. انْتَهَى مَا ذكره، وَكَأَنَّهُ كالعالم بِحَال الْحَارِث وَعبد الله بن منين (أنَّى) لَهُ ذَلِك، ثمَّ ابْن أبي مَرْيَم الَّذِي تكلم فِيهِ يَحْيَى هُوَ أَبُو بكر بكير، وَقَالَ فِيهِ مرّة: صَدُوق. وَأما رَاوِي هَذَا(4/259)
الحَدِيث عَنهُ غير أَحْمد بن مُحَمَّد بن رشدين فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن البرقي عَنهُ، عَن نَافِع بن يزِيد، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى الذهلي، عَن ابْن أبي مَرْيَم أَيْضا.
الحَدِيث السَّابِع
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ علينا الْقُرْآن، فَإِذا مر بِالسَّجْدَةِ كبر وَسجد وسجدنا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» كَذَلِك وَزَاد: قَالَ عبد الرَّزَّاق: كَانَ الثَّوْريّ يُعجبهُ هَذَا الحَدِيث. قَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ يُعجبهُ؛ لِأَن فِيهِ: «كَبَّر» .
وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة عبد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب قَالَ أَحْمد: صَالح الحَدِيث. وَقَالَ ابْن معِين: يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بِهِ، صَدُوق، وَأخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا بأَخيه عبيد الله بن عمر.
وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: صَدُوق ثِقَة فِي حَدِيثه اضْطِرَاب. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: ضعفه يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان من قبل حفظه.(4/260)
وَاخْتلف قَول يَحْيَى فِيهِ؛ فَمرَّة ضعفه، وَمرَّة قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْس يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن حبَان: غلب عَلَيْهِ التَّعَبُّد حَتَّى غفل عَن حفظ الْأَخْبَار وجودة الْحِفْظ؛ فَوَقَعت الْمَنَاكِير فِي رِوَايَته، فَلَمَّا فحش خَطؤُهُ اسْتحق التّرْك. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» فِي بَاب الْغسْل: هُوَ ضَعِيف عِنْد أهل الْعلم لَا يحْتَج بروايته.
وَهَذَا لَيْسَ بجيد مِنْهُ؛ بل هُوَ من الْمُخْتَلف فيهم كَمَا علمت، وَقد قَالَ ابْن الْقطَّان: الصَّوَاب حسن هَذَا الحَدِيث؛ لِأَن الْعمريّ من النَّاس من يوثقه ويثني عَلَيْهِ، وَمِنْهُم من يُضعفهُ.
قلت: وَلم يتفرد بِهِ؛ بل تَابعه عَلَيْهِ أَخُوهُ عبيد الله - بِالتَّصْغِيرِ - الثِّقَة، فَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيثه عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «كُنَّا نجلس عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَيقْرَأ الْقُرْآن، فَرُبمَا مر بِسَجْدَة فَيسْجد ونسجد مَعَه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ: وَسُجُود الصَّحَابَة بسجود رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَارج الصَّلَاة سنة عزيزة.
قلت: قد أخرجَا فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يقْرَأ الْقُرْآن، فَيقْرَأ فِيهَا سُورَة فِيهَا سَجْدَة فَيسْجد ونسجد مَعَه حَتَّى مَا يجد(4/261)
بَعْضنَا موضعا لمَكَان جَبهته» وَفِي رِوَايَة لمُسلم «فِي غير صَلَاة» وَلَو أورد الرَّافِعِيّ هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ لَكَانَ أولَى؛ لِأَنَّهُ سَاقه عَلَى الِاحْتِجَاج بِأَنَّهُ يسن السُّجُود للقارئ كَمَا يسن للمستمع، وَهَذَا الحَدِيث وافٍ بذلك مَعَ الِاتِّفَاق عَلَى صِحَّته، بِخِلَاف اللَّفْظ الَّذِي أوردهُ من طَرِيق أبي دَاوُد.
الحَدِيث الثَّامِن
«أَن رجلا قَرَأَ عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (السَّجْدَة فَسجدَ، فَسجدَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) ثمَّ قَرَأَ آخر عِنْده السَّجْدَة فَلم يسْجد، فَلم يسْجد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: سجدت لقِرَاءَة فلَان وَلم تسْجد لقراءتي! قَالَ: كنتَ إِمَامًا فَلَو سجدتَ لسجدنا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» من رِوَايَة زيد بن أسلم قَالَ: «قَرَأَ غُلَام عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - السَّجْدَة، فانتظر الْغُلَام النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يسْجد، فَلَمَّا لم يسْجد قَالَ: يَا رَسُول الله، أَلَيْسَ فِيهَا سَجْدَة؟ قَالَ: أَنْت قرأتها وَلَو سجدت سجدنا» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من رِوَايَة زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار قَالَ: «بَلغنِي أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكر نَحوه.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا مُرْسلا من رِوَايَة عَطاء بن يسَار: «أَن رجلا قَرَأَ ... » الحَدِيث بِمثلِهِ، إِلَّا أَنه قَالَ: «فَقَالَ: يَا رَسُول الله، قَرَأَ فلَان(4/262)
عنْدك السَّجْدَة فسجدت، وقرأت فَلم تسْجد! فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: كنت إِمَامًا فَلَو سجدتَ سجدتُ» .
قَالَ الشَّافِعِي: إِنِّي لأحسبه - يَعْنِي: الرجل الْمَذْكُور - زيد بن ثَابت؛ لِأَنَّهُ يُحْكَى أَنه قَرَأَ عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يسْجد، وَإِنَّمَا رَوَى الْحَدِيثين مَعًا عَطاء بن يسَار.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا الَّذِي ذكره الشَّافِعِي مُحْتَمل، قَالَ: وَقد رَوَاهُ (إِسْحَاق بن عبد الله) بن أبي فَرْوَة، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي هُرَيْرَة مَوْصُولا، وَإِسْحَاق ضَعِيف.
قَالَ: (وَرَوَى الْأَوْزَاعِيّ) عَن قُرَّة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة، وَهَذَا أَيْضا ضَعِيف وَالْمَحْفُوظ: عَطاء بن يسَار مُرْسل، وَحَدِيثه عَن زيد بن ثَابت مَوْصُول مُخْتَصر.
ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن (سليم) بن حَنْظَلَة قَالَ: «قَرَأت السَّجْدَة عِنْد ابْن مَسْعُود فَنظر إِلَيّ فَقَالَ: (أَنْت) إمامنا فاسجد نسجد مَعَك» .(4/263)
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سجد فِي الظّهْر فَرَأَى أَصْحَابه أَنه قَرَأَ آيَة سَجْدَة فسجدوا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن أُميَّة، عَن لَاحق بن حميد أبي مجلز السدُوسِي الْبَصْرِيّ، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سجد فِي صَلَاة الظّهْر، ثمَّ قَامَ فَرَكَعَ، فَرَأَيْنَا أَنه قَرَأَ: تَنْزِيل السَّجْدَة» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سجد فِي الرَّكْعَة الأولَى من صَلَاة الظّهْر، فَرَأَى أَصْحَابه أَنه قَرَأَ: تَنْزِيل السَّجْدَة» .
وَأُميَّة هَذَا لَا يعرف حَاله، قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : لَا يُدرى من ذَا وَلَا أعلم رَاوِيا عَنهُ غير سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، وَقد انْفَرد أَبُو دَاوُد بِالْإِخْرَاجِ لَهُ.
وَسَبقه إِلَى ذَلِك ابْن الْقطَّان فَقَالَ: لَا أعلم أحدا صنف فِي الرِّجَال ذكره، وَهُوَ مَجْهُول الْحَال، وَقد رَوَى أَبُو عِيسَى الرَّمْلِيّ عَن أبي دَاوُد أَنه قَالَ إِثْر هَذَا الحَدِيث: أُميَّة هَذَا لَا يعرف.
وَقد ذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة، يزِيد بن هَارُون، عَن(4/264)
سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن أبي مجلز، عَن ابْن عمر بِغَيْر توَسط أُميَّة الْمَذْكُور بَينهمَا، وَقَالَ: لم أسمعهُ مِنْهُ. قَالَ ابْن الْقطَّان: فَالْحَدِيث إِذا ضَعِيف.
قلت: وتابع يزِيد بن هَارُون هشيم وعبثر بن الْقَاسِم وَغَيرهمَا.
وَقَالَ الْمزي فِي «أَطْرَافه» : رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه قَالَ: أَخْبرنِي أُميَّة، عَن أبي مجلز «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » .
قلت: وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَن أبي سعيد الثَّقَفِيّ، نَا يُوسُف القَاضِي، نَا مُحَمَّد بن أبي (بكر) نَا يَحْيَى بن سعيد، عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن أبي مجلز، عَن ابْن عمر: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى الظّهْر فَسجدَ، فظننا أَنه قَرَأَ: تَنْزِيل السَّجْدَة» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَهُوَ سنة صَحِيحَة غَرِيبَة أَن الإِمَام يسْجد فِيمَا يسر بِالْقِرَاءَةِ مثل سُجُوده فِيمَا يعلن.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول فِي سُجُود الْقُرْآن (بِاللَّيْلِ) سجد وَجْهي للَّذي خلقه وصوره وشق سَمعه وبصره(4/265)
بحوله وقوته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِدُونِ «وصوره» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَسقط لَفْظَة «بِاللَّيْلِ» فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ وَإِحْدَى رِوَايَات الْحَاكِم.
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: «يَقُول فِي (السَّجْدَة) مرَارًا سجد وَجْهي ... » إِلَى آخِره.
وَزَاد الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ: «فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ» .
وَرَوَاهُ ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» وَقَالَ فِي آخِره: «ثَلَاثًا» .(4/266)
وَاعْلَم أَنه وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن خَالِد الْحذاء، عَن رجل، عَن أبي الْعَالِيَة، عَن عَائِشَة، وَكلهمْ قَالُوا: نَا خَالِد الْحذاء (عَن أبي الْعَالِيَة. بِإِسْقَاط هَذَا الرجل، وَقد صَححهُ من هَذَا الْوَجْه التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم) وَهُوَ مُقْتَض لسماعه مِنْهُ فَيحمل عَلَى أَنه سَمعه مِنْهُ مرّة بِوَاسِطَة وَمرَّة بِدُونِهَا.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول فِي سُجُود الْقُرْآن: اللَّهُمَّ (اكْتُبْ) لي (بهَا) عنْدك أجرا، وَاجْعَلْهَا لي عنْدك ذخْرا، وضع عني بهَا وزرًا، واقبلها مني كَمَا قبلتها من عَبدك دَاوُد» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث مُحَمَّد بن يزِيد بن خُنَيْس، عَن الْحسن بن (مُحَمَّد) بن عبيد الله بن أبي يزِيد قَالَ: قَالَ لي ابْن جريج: يَا حسن، أَخْبرنِي عبيد الله بن أبي يزِيد، عَن(4/267)
ابْن عَبَّاس قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي رَأَيْتنِي البارحة وَأَنا نَائِم كَأَنِّي أُصَلِّي خلف شَجَرَة، فسجدت فسجدت الشَّجَرَة لسجودي، فسمعتها وَهِي تَقول: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لي بهَا عنْدك أجرا، وضع عني بهَا وزرًا، وتقبلها مني كَمَا تقبلتها من عَبدك دَاوُد» وَقَالَ الْحسن: قَالَ لي ابْن جريج: قَالَ لي جدك: قَالَ ابْن عَبَّاس: «فَقَرَأَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَجْدَة ثمَّ سجد. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: فَسَمعته يَقُول مِثْلَمَا أخبرهُ الرجل عَن قَول الشَّجَرَة» هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَلم يقل: «وتقبلها مني ... » إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة لَهُ «اللَّهُمَّ احطط بهَا عني وزرًا» .
وَلَفظ رِوَايَة الْحَاكِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ: يَا رَسُول الله) إِنِّي (رَأَيْت) فِي هَذِه اللَّيْلَة فِيمَا يرَى النَّائِم كَأَنِّي أُصَلِّي خلف شَجَرَة، فَرَأَيْت كَأَنِّي قَرَأت سَجْدَة فسجدت، فَرَأَيْت الشَّجَرَة كَأَنَّهَا تسْجد بسجودي فسمعتها سَاجِدَة وَهِي تَقول: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لي ... » الحَدِيث - كَمَا سَاقه الرَّافِعِيّ سَوَاء - قَالَ ابْن عَبَّاس: «فَرَأَيْت رَسُول (قَرَأَ السَّجْدَة ثمَّ سجد، فَسَمعته يَقُول وَهُوَ ساجد مِثْلَمَا قَالَ الرجل عَن كَلَام الشَّجَرَة» وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان.(4/268)
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث ابْن عَبَّاس لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح رُوَاته مكيون لم يذكر وَاحِد مِنْهُم (بِجرح) وَهُوَ من شَرط الصَّحِيح وَلم يخرجَاهُ.
قلت: وَالْحسن بن مُحَمَّد بن (عبيد الله) رَاوِيه عَن ابْن جريج. قَالَ الْعقيلِيّ فِيهِ: لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه، قَالَ: وَله طرق (كلهَا) فِيهَا لين. وَقَالَ غَيره: فِيهِ جَهَالَة، مَا رَوَى عَنهُ سُوَى ابْن خُنَيْس. وَجزم بِهَذَا الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي» فَقَالَ: لَا يعرف لَكِن صحّح الْحَاكِم حَدِيثه - كَمَا ترَى - وَكَذَا ابْن حبَان، وَهُوَ مُؤذن بمعرفته وثقته.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» من طَرِيق الشَّافِعِي: أَنا سُفْيَان، عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة، عَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: رَأَيْت كَأَن رجلا يكْتب الْقُرْآن، فَلَمَّا مر بِالسَّجْدَةِ الَّتِي فِي (ص (سجدت شَجَرَة، فَقَالَت اللَّهُمَّ أعظم بهَا أجرا، واحطط بهَا(4/269)
وزرًا، وأحدث بهَا شكرا. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَنحْن أَحَق بِالسُّجُود من الشَّجَرَة. فسجدها وَأمر بِالسُّجُود» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُنْقَطع.
وَرَوَاهُ حميد الطَّوِيل، عَن بكر قَالَ: أَخْبرنِي مخبر، عَن أبي سعيد قَالَ: «رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي أقرّ سُورَة (ص ( ... » فَذكره بِنَحْوِهِ.
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث بكر هَذَا فَقَالَ: يرويهِ حميد عَنهُ عَن رجل، عَن أبي سعيد، وأرسله حَمَّاد بن سَلمَة، عَن حميد، عَن بكر «أَن أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ رَأَى فِيمَا يرَى النَّائِم ... » الحَدِيث. وَقَالَ ابْن جحادة، عَن بكر أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَالَ عَاصِم (عَن) بكر «إِن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وَلم يسمه، قَالَ: [وَقَول مُسَدّد عَن هشيم أشبههَا بِالصَّوَابِ] .(4/270)
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «كَانَ إِذا مر فِي قِرَاءَته بِالسُّجُود كبر وَسجد» .
هَذَا الحَدِيث تقدم فِي الْبَاب، وَهُوَ الحَدِيث السَّابِع مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تَحْرِيمهَا التَّكْبِير، وتحليلها التَّسْلِيم» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي بَاب صفة الصَّلَاة؛ فَرَاجعه من ثمَّ.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأَى رجلا (نغاشيًّا) فَخر سَاجِدا ثمَّ قَالَ: أسأَل الله الْعَافِيَة» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» بِلَفْظ: «رَأَى رجلا نغاشيًّا؛ فَسجدَ شكرا لله» وَرَوَاهُ فِي الْقَدِيم بلاغًا؛ كَمَا عزاهُ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» ، وَذكره الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» مستشهدًا بِهِ عَلَى(4/271)
حَدِيث أبي بكرَة فِي سُجُود الشُّكْر الْمَشْهُور فِي «سنَن أبي دَاوُد» وَغَيره بِلَفْظ «إنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأَى نغاشيًّا، فَخر سَاجِدا» .
وأسنده الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث من جَابر الْجعْفِيّ، عَن أبي جَعْفَر «إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأَى رجلا من النغاشين؛ فَخر سَاجِدا» .
وَهَذَا مُنْقَطع، وَجَابِر عرفت حَاله فِي بَاب الْأَذَان، وَغَيره.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» و «الْمعرفَة» من رِوَايَة جَابر، عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلّي أَيْضا قَالَ: «رَأَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجلا نغاشيًّا يُقَال لَهُ: زنيم - قصير - فَخر سَاجِدا، ثمَّ قَالَ: أسأَل الله الْعَافِيَة» .
قَالَ فِي «السّنَن» : هَذَا مُنْقَطع (رَوَاهُ) جَابر الْجعْفِيّ، وَله شَاهد من وَجه آخر ... فَذكره من جِهَة أُخْرَى بِمَعْنَاهُ، وَسَماهُ فِي «الْمعرفَة» مُرْسلا، قَالَ: وَله شَاهد يؤكده ... فَذكره.
قلت: وأسنده ابْن حبَان فِي «ضُعَفَائِهِ» من وجهٍ آخر من حَدِيث يُوسُف بن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن أَبِيه، عَن جَابر قَالَ: «كَانَ رَسُول الله(4/272)
(إِذا رَأَى الرجل مغير الْخلق خر سَاجِدا شكرا لله» ثمَّ قَالَ: يُوسُف يروي عَن أَبِيه مَا لَيْسَ من حَدِيث أَبِيه من الْمَنَاكِير الَّتِي لَا يشك عوام (أهل) الحَدِيث أَنَّهَا مَقْلُوبَة، وَكَانَ يُوسُف شَيخا صَالحا مِمَّن غلب عَلَيْهِ (الصّلاح) حَتَّى غفل عَن حد الْحِفْظ والإتقان، فَكَانَ يَأْتِي بالشَّيْء عَلَى التَّوَهُّم؛ فَبَطل الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث - يَعْنِي: حَدِيث جَابر - فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر.
فَائِدَة: النُّغاشي - بِضَم النُّون وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة المخففة ثمَّ ألف ثمَّ شين مُعْجمَة - وَهُوَ الرجل الْقصير، كَمَا سلف فِي متن الحَدِيث، وَكَذَا فسره بِهِ ابْن فَارس وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» (وَزَاد فِي «غَرِيبه» : الضَّعِيف الْحَرَكَة، وَكَذَا هُوَ فِي «المعرب» للمطرزي فَقَالَ: هُوَ الْقصير فِي [الْقَامَة] الضَّعِيف الْحَرَكَة (وَقَالَ فِي (زنيم) «رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رَأَى رجلا نغاشيًّا يُقَال لَهُ: (زنيم) فَخر سَاجِدا» قَالَ: فَهَذَا عَلَى هَذَا اسْم علم(4/273)
الرجل بِعَيْنِه، وَقد أسلفنا هَذِه الرِّوَايَة) وَقَالَ الْهَرَوِيّ فِي «غَرِيبه» فِي الحَدِيث «إِنَّه رَأَى نغاشيًّا» وَيروَى «نغاشًا فَسجدَ» قَالَ (أَبُو عبيد) وَهُوَ (القصنصع الْبُنيان) قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: النغاشيون هم: الْقصار الصغار الْحَرَكَة، والقَلَطي فَوق النغاشي. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: النغاش الْقصير الضاوي الصَّغِير الجثة. قَالَ: وَنصب «شكرا لله» لِأَنَّهُ مصدر، وَفِيه قَول آخر إِنَّه نصب؛ لِأَنَّهُ مفعول لَهُ. وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن: النغاشي: النَّاقِص الْخلقَة. وَقيل: هُوَ مختلط الْعقل. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ: هُوَ النَّاقِص الْخلق. وَقيل: الْمُبْتَلَى. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» : النغاشي [بتَشْديد الْيَاء] والنغاش - بحذفها - هُوَ: الْقصير جدًّا الضَّعِيف الْحَرَكَة (النَّاقِص الْخلق. وَكَذَا ذكره ابْن الْأَثِير، وَهَذِه الْأَقْوَال مُتَقَارِبَة) .
الحَدِيث الْخَامِس عشر
عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سجد فَأطَال، فَلَمَّا رفع قيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: أَخْبرنِي جِبْرِيل أَن من صَلَّى عليِّ مرّة صَلَّى الله عَلَيْهِ عشرا، فسجدت شكرا لله تَعَالَى» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد بن عَمْرو بن عَاصِم، عَن عبد الْوَهَّاب بن(4/274)
(نجدة) الحوطي، عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد (عَن) عَمْرو بن أبي عَمْرو، عَن عبد الْوَاحِد - وَهُوَ ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف - عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (سجد سَجْدَة) (فَأطَال) فَرفع رَأسه فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ: إِن جِبْرِيل لَقِيَنِي فَقَالَ: من صَلَّى عَلَيْك صَلَّى الله عَلَيْهِ، وَمن سلم عَلَيْك سلم الله عَلَيْهِ - أَحْسبهُ قَالَ: عشرا - فسجدت لله شكرا» كَذَا رَوَاهُ عبد الْوَهَّاب، وَخَالفهُ غَيره؛ فَرَوَاهُ عَن الدَّرَاورْدِي، عَن عَمْرو من غير ذكر الْأَب، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَهُوَ الْمَحْفُوظ - وَأثبت البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» سَماع عبد الْوَاحِد (وَحده) ، وَكَذَا قَالَ ابْن أبي حَاتِم أَيْضا عَن أَبِيه.(4/275)
قلت: وَعَمْرو بن أبي عَمْرو هُوَ: مولَى الْمطلب (وَفِيه لين) (وَسَتَأْتِي أَيْضا رِوَايَة الإِمَام أَحْمد وَغَيره لَهُ) وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» والعقيلي فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» وَاللَّفْظ لَهُ من حَدِيث (سعد) بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عَن أَبِيه، عَن جده عبد الرَّحْمَن بن عَوْف «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سجد فَأطَال السُّجُود، قلت: يَا رَسُول الله، أطلت السُّجُود. فَقَالَ: سجدت شكرا لرَبي فِيمَا (آتَانِي) فِي أمتِي: من صَلَّى عليَّ صَلَاة كتبت لَهُ عشر حَسَنَات» .
وَذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» بِهَذَا الْإِسْنَاد وَاللَّفْظ إِلَى قَوْله: «لرَبي» .
قَالَ الْعقيلِيّ: (قَالَ البُخَارِيّ:) هَذَا حَدِيث لَا يَصح. وَقَالَ الْبَزَّار: لَا نعلم رَوَاهُ عَن سعد بن إِبْرَاهِيم إِلَّا قيس بن عبد الرَّحْمَن(4/276)
بن أبي صعصعة، وَلَا رَوَاهُ عَن قيس سُوَى مُوسَى بن (عُبَيْدَة) قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف من وَجه آخر غير مُتَّصِل عَنهُ، وَقَالَ الْعقيلِيّ: هَذَا يرْوَى من وجهٍ آخر بِإِسْنَاد جيد (ثَابت) .
قلت: رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من طرق عَنهُ مدارها عَلَى عَمْرو بن أبي عَمْرو، لَفظه فِي أَحدهَا «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتوجه نَحْو صدقته فَدخل فَاسْتقْبل الْقبْلَة، فَخر سَاجِدا فَأطَال السُّجُود حَتَّى ظَنَنْت أَن الله عَزَّ وَجَلَّ قبض نَفسه فِيهَا، فدنوت مِنْهُ ثمَّ جَلَست فَرفع رَأسه، فَقَالَ: من هَذَا؟ فَقلت: عبد الرَّحْمَن. قَالَ: مَا شَأْنك؟ قلت: يَا رَسُول الله، سجدت سَجْدَة خشيت أَن يكون الله عَزَّ وَجَلَّ قد قبض نَفسك فِيهَا. فَقَالَ: إِن جِبْرِيل أَتَانِي فبشرني فَقَالَ: إِن الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُول لَك: من صَلَّى عَلَيْك صليت عَلَيْهِ، وَمن سلم عَلَيْك سلمت عَلَيْهِ؛ فسجدت لله عَزَّ وَجَلَّ شكرا» .
وَرَوَاهُ ابْن أبي عَاصِم وَقَالَ: «وَمن سلم عَلَيْك سلم الله عَلَيْهِ قَالَ: - أَحْسبهُ عشرا - قَالَ: فسجدت لله شكرا» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ: عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَالَ: «دخلت الْمَسْجِد وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَارج من الْمَسْجِد فتتبعته أَمْشِي وَرَاءه وَهُوَ لَا يشْعر حَتَّى دخل نخلا، فَاسْتقْبل الْقبْلَة فَسجدَ فَأطَال السُّجُود وَأَنا وَرَاءه حَتَّى ظَنَنْت أَن الله قد توفاه، فَأَقْبَلت حَتَّى جِئْته، فطأطأت رَأْسِي أنظر فِي وَجهه فَرفع رَأسه فَقَالَ: مَا لَك يَا عبد الرَّحْمَن؟(4/277)
فَقلت: لما أطلت (السُّجُود) يَا رَسُول الله خشيت أَن يكون توفى نَفسك فَجئْت أنظر. فَقَالَ: إِنِّي لما دخلت النّخل لَقِيَنِي جِبْرِيل فَقَالَ: إِنِّي أُبَشِّرك أَن الله يَقُول: من سلم عَلَيْك سلمت عَلَيْهِ، وَمن صَلَّى عَلَيْك صليت عَلَيْهِ» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ (قَالَ:) وَلَا أعلم فِي سَجْدَة الشُّكْر أصح مِنْهُ، وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ؛ فَذكر اخْتِلَافا فِي إِسْنَاده، وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف سمع أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «سجد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَجْدَة فَأطَال السُّجُود حَتَّى ظَنَنْت أَن الله قبض روحه، ثمَّ رفع رَأسه فَسَأَلته عَن ذَلِك. فَقَالَ: إِن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لَقِيَنِي فَقَالَ: من صَلَّى عَلَيْك صَلَّى الله عَلَيْهِ، وَمن سلم عَلَيْك سلم الله عَلَيْهِ - أَحْسبهُ قَالَ: عشرا - فسجدت لله شكرا» وَرَوَاهُ [عمر بن أبي عَمْرو، عَن] عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ: حَدِيث أبي سعيد وهم، وَالصَّوَاب: حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب. وَأما آثاره فَأَرْبَعَة:
الأول: عَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَر سُورَة السَّجْدَة، فَنزل (فَسجدَ) وَسجد النَّاس مَعَه، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَة(4/278)
الْأُخْرَى قَرَأَهَا فتهيأ النَّاس للسُّجُود، فَقَالَ: عَلَى رسلكُمْ؛ إِن الله لم يَكْتُبهَا علينا إِلَّا أَن نشَاء» .
وَهُوَ أثر صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه «أَن عمر قَرَأَ السَّجْدَة وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة فَنزل وَسجد وسجدنا مَعَه، ثمَّ قَرَأَ يَوْم الْجُمُعَة الْأُخْرَى فتهيأ النَّاس للسُّجُود، فَقَالَ: عَلَى رسلكُمْ؛ إِن الله لم يَكْتُبهَا علينا إِلَّا أَن نشَاء. فَلم يسْجد ومنعهم أَن يسجدوا» .
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَلَفظه: «إِن عمر قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَر سُورَة النَّحْل، حَتَّى إِذا جَاءَ السَّجْدَة نزل فَسجدَ وَسجد النَّاس مَعَه، حَتَّى إِذا كَانَت الْجُمُعَة الْقَابِلَة قَرَأَ بهَا حَتَّى إِذا جَاءَ للسجدة قَالَ: أَيهَا النَّاس، إِنَّا لم نؤمر بِالسُّجُود؛ فَمن سجد فقد أصَاب، وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ، وَلم يسْجد عمر» .
قَالَ البُخَارِيّ: وَزَاد نَافِع عَن ابْن عمر: «إِن الله لم يفْرض السُّجُود إِلَّا أَن نشَاء» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: «يَا أَيهَا النَّاس، إِنَّا لم نؤمر بِالسُّجُود؛ فَمن سجد فقد أصَاب وَأحسن» ثمَّ قَالَ: وَشَاهده الْمُرْسل: حَدِيث هِشَام(4/279)
بن عُرْوَة، عَن أَبِيه ... فَذكره.
تَنْبِيهَانِ:
التَّنْبِيه الأول: قَوْله: «إِلَّا أَن نشَاء» الظَّاهِر أَنه بالنُّون لَا بِالْمُثَنَّاةِ تَحت.
الثَّانِي: قَالَ القَاضِي فِي «مشارقه» : عَلَى رسلك، وَعَلَى رِسْلكُمَا، وَعَلَى رسلكُمْ - بِكَسْر الرَّاء (فِي) هَذَا وَفتحهَا مَعًا، فبكسرها: عَلَى تؤدتكم، وَبِفَتْحِهَا من اللين والرفق، وَأَصله السّير اللين، وَمَعْنَاهُ مُتَقَارب، وَقيل: هما مَعْنَى من التؤدة وَترك العجلة.
الْأَثر الثَّانِي: عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه كَانَ لَا يسْجد فِي (ص) .» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ عَنهُ فِي كِتَابيه «الْمعرفَة» و «السّنَن» وَزَاد: «وَيَقُول: إِنَّهَا تَوْبَة نَبِي» قَالَ فِي «السّنَن» : وروينا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة «أَنهم كَانُوا يَسْجُدُونَ فِي (ص (ثمَّ ذكر ذَلِك عَنْهُم بأسانيده، وَكَذَا قَالَ فِي «الْمعرفَة» : روينَا ذَلِك عَن (عمر، وَعُثْمَان) وروينا عَن (ابْن) عمر «أَنه يسْجد فِيهَا فِي الصَّلَاة» .
الْأَثر الثَّالِث: عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه مر بقاصٍّ فَقَرَأَ آيَة السَّجْدَة ليسجد(4/280)
عُثْمَان مَعَه، فَلم يسْجد وَقَالَ: مَا [استمعنا لَهَا] » .
وَهَذَا الْأَثر غَرِيب، كَذَلِك لم أَقف عَلَى من خرجه بِهَذِهِ السِّيَاقَة وَفِي «البُخَارِيّ» قَالَ عُثْمَان: «إِنَّمَا السَّجْدَة عَلَى من استمعها» وَفِي ابْن أبي شيبَة، عَن وَكِيع، عَن ابْن أبي عرُوبَة (عَن قَتَادَة، عَن ابْن الْمسيب، عَن عُثْمَان قَالَ: «إِنَّمَا السَّجْدَة عَلَى من جلس لَهَا» ) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: رُوِيَ عَن ابْن الْمسيب، عَن عُثْمَان قَالَ: «إِنَّمَا السَّجْدَة عَلَى من جلس لَهَا وأنصت» .
الْأَثر الرَّابِع: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «السَّجْدَة لمن جلس لَهَا» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: «إِنَّمَا السَّجْدَة عَلَى من جلس لَهَا» وَرَوَى مثله عَن سلمَان وَابْن الْمسيب. قَالَ: وَيذكر عَن ابْن عمر نَحوه.
خَاتِمَة: لما ذكر الرَّافِعِيّ عَن الْجُوَيْنِيّ أَنه لَا يجوز التَّقَرُّب بِسَجْدَة فَرده من غير سَبَب، كَمَا لَا يجوز التَّقَرُّب بركوع مُفْرد أَو نَحوه، والعبادات يتبع فِيهَا الْوُرُود، وَظَاهر هَذَا عدم وُرُود ذَلِك هُنَا، لَكِن فِي(4/281)
«صَحِيح مُسلم» من حَدِيث ثَوْبَان وَأبي الدَّرْدَاء: «عَلَيْك بِكَثْرَة السُّجُود» وَحمله النَّوَوِيّ عَلَى أَن المُرَاد بِهِ السُّجُود فِي الصَّلَاة، وَالْقَائِل بِجَوَاز مثل ذَلِك يمنعهُ.(4/282)
بَاب صَلَاة التَّطَوُّع
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فسبعة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قَالَ: «صليت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَكْعَتَيْنِ قبل الظّهْر وَرَكْعَتَيْنِ بعْدهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب فِي بَيته، وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْعشَاء فِي بَيته، قَالَ: وحدثتني أُخْتِي حَفْصَة أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خفيفتين حِين يطلع الْفجْر» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى إِخْرَاجه من هَذَا الْوَجْه بِمَعْنَاهُ، وَزِيَادَة: «رَكْعَتَيْنِ بعد الْجُمُعَة فِي بَيته» (والأخير) للْبُخَارِيّ وَلمُسلم مَعْنَاهُ أَيْضا.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من ثابر عَلَى اثْنَتَيْ عشرَة رَكْعَة من السُّنة بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة: أَربع قبل الظّهْر ... » وَالْبَاقِي كَمَا فِي حَدِيث ابْن عمر.(4/283)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه كَذَلِك من رِوَايَة الْمُغيرَة (بن) زِيَاد، عَن عَطاء عَنْهَا وَلَفْظهمَا فِي الْبَاقِي: «وَرَكْعَتَيْنِ بعْدهَا وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب، وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْعشَاء، وَرَكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ: «من ثابر عَلَى ثِنْتَيْ عشرَة رَكْعَة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة دخل الْجنَّة ... » وَذكر بَاقِيه.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، والمغيرة تكلم فِيهِ بعض أهل الْعلم من قبل حفظه.
قلت: قَالَ (أَحْمد: ضَعِيف الحَدِيث، حدث بِأَحَادِيث مَنَاكِير وكل حَدِيث رَفعه فَهُوَ مُنكر. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا يحْتَج بحَديثه، وَقَالَ وَكِيع: كَانَ ثِقَة. وَكَذَلِكَ) قَالَ يَحْيَى فِي رِوَايَة: وَوَثَّقَهُ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ. وَقَالَ(4/284)
النَّسَائِيّ: هَذَا خطأ، قَالَ: وَلَعَلَّ عَطاء أَرَادَ أَن يَقُول: عَنْبَسَة فتصحف بعائشة. وَقَالَ الْمزي فِي «أَطْرَافه» : الْمَحْفُوظ فِي هَذَا حَدِيث عَنْبَسَة بن أبي سُفْيَان، عَن أم حَبِيبَة.
قلت: فَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم، وَلَفظه عَنْهَا: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «من صَلَّى ثِنْتَيْ عشرَة رَكْعَة فِي يَوْم وَلَيْلَة يُبْنَى لَهُ بِهن بَيت فِي الْجنَّة ... » وَفِي آخِره: «مَا من عبد مُسلم يتَوَضَّأ فأسبغ الْوضُوء ثمَّ صَلَّى فِي كل يَوْم ... » بِمثلِهِ، وَفِي آخر: «سَجْدَة» بدل «رَكْعَة» .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: «من صَلَّى فِي يَوْم وَلَيْلَة ثِنْتَيْ عشرَة رَكْعَة بُني لَهُ بَيت فِي الْجنَّة: أَرْبعا قبل الظّهْر وَرَكْعَتَيْنِ بعْدهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب، وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْعشَاء، وَرَكْعَتَيْنِ قبل صَلَاة الْفجْر» ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. (وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» هَكَذَا لكنهما قَالَا: «وَرَكْعَتَيْنِ قبل الْعَصْر» بدل «رَكْعَتَيْنِ بعد الْعشَاء» ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من طرق عَن عَنْبَسَة وَغَيره مَرْفُوعا كَرِوَايَة(4/285)
مُسلم، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من طَرِيقين لَفظه فِي أَحدهمَا: «من صَلَّى ثِنْتَيْ عشرَة رَكْعَة فِي يَوْم بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة أَربع رَكْعَات قبل الظّهْر، وَرَكْعَتَيْنِ قبل الْعَصْر، وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب (وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْعشَاء) وَرَكْعَتَيْنِ قبل الصُّبْح» وَلَفظه فِي الآخر كَلَفْظِ النَّسَائِيّ وَابْن حبَان، ثمَّ قَالَ: كلا الإسنادين صَحِيحَانِ عَلَى شَرط (الشَّيْخَيْنِ) وَلم يخرجَاهُ. (قَالَ) : وشواهده كلهَا صَحِيحَة؛ فَمِنْهَا مُتَابعَة النُّعْمَان بن سَالم وَمَكْحُول الْفَقِيه. ثمَّ ذكر ذَلِك (عَنْهُمَا) بأسانيده.
فَائِدَة: ثابر - بثاء مُثَلّثَة ثمَّ ألف ثمَّ بَاء مُوَحدَة ثمَّ رَاء - أَي: واظب.
الحَدِيث الثَّالِث
أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رحم الله امْرأ صَلَّى قبل الْعَصْر أَرْبعا» .(4/286)
هَذَا الحَدِيث حسن، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، نَا مُحَمَّد بن مُسلم بن مهْرَان سمع جده، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: نَا ابْن مهْرَان، حَدثنِي جدي أَبُو الْمثنى ... فَذكر كنيته.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث سكت عَنهُ عبد الْحق متسامحًا - فِيمَا أرَى - لكَونه من فَضَائِل الْأَعْمَال، وَهُوَ حَدِيث يرويهِ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، عَن مُحَمَّد بن مهْرَان، عَن (أبي) الْمثنى، عَن ابْن عمر.(4/287)
وَمُحَمّد بن مهْرَان يكنى - أَيْضا - أَبَا الْمثنى وَهُوَ مُحَمَّد بن مهْرَان بن مُسلم بن مهْرَان. كَذَا يَقُول ابْن معِين، وَغَيره يَقُول: مُحَمَّد بن مهْرَان بن (مُسلم) بن الْمثنى، وَابْن أبي حَاتِم وأَبُو أَحْمد يَقُولَانِ: مُحَمَّد بن مُسلم بن مهْرَان بن مُسلم بن الْمثنى، وَمُسلم بن الْمثنى هُوَ جده يكنى أَبَا الْمثنى، وَهُوَ مُؤذن مَسْجِد الْكُوفَة، وَهُوَ ثِقَة، فَأَما حفيده مُحَمَّد بن مهْرَان فَقَالَ أَبُو زرْعَة: واهي الحَدِيث. وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي: رَوَى عَنهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ أَحَادِيث مُنكرَة. وَلم يرضه يَحْيَى الْقطَّان.
وَهَذَا الحَدِيث - كَمَا ترَى - هُوَ من رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنهُ، وَقد ذكره أَبُو أَحْمد فِي جملَة مَا أورد مِمَّا أنكر عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي بَابه: إِن حَدِيثه يسير لَا يتَبَيَّن بِهِ صدقه من كذبه.
قلت: وَأما ابْن حبَان فَخَالف؛ فَذكر مُحَمَّد بن مهْرَان فِي (ثقاته) ، وَأخرج الحَدِيث فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، عَن أبي دَاوُد عَنهُ، عَن جده، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ السالف، ثمَّ قَالَ: أَبُو الْمثنى هَذَا اسْمه مُسلم بن الْمثنى، من ثِقَات أهل الْكُوفَة.(4/288)
قَالَ: وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: «أَرْبعا» أَرَادَ بتسليمتين؛ لِأَن فِي خبر يعْلى بن عَطاء، عَن عَلّي بن عبد الله الْأَزْدِيّ، عَن (ابْن عمر) رَفعه: «صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى» .
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَمِعت أبي يَقُول: سَأَلت أَبَا الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ عَن حَدِيث: مُحَمَّد بن مُسلم بن الْمثنى، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: « (رحم الله من صَلَّى قبل الْعَصْر أَرْبعا» فَقَالَ: دع ذَا - فَقلت: إِن أَبَا دَاوُد رَوَاهُ. فَقَالَ أَبُو الْوَلِيد: كَانَ ابْن عمر يَقُول: «حفظت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) عشر رَكْعَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة ... » فَلَو كَانَ هَذَا لعده، قَالَ أبي [يَعْنِي] كَانَ يَقُول: «حفظت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثِنْتَيْ عشرَة رَكْعَة ... » انْتَهَى كَلَامه.
وَلَك أَن تَقول: هَذَا لَيْسَ بعلة (فَإِن ابْن عمر أخبر فِي ذَلِك عَمَّا حفظه من فعله عَلَيْهِ السَّلَام، وَهَذَا عَمَّا حث عَلَيْهِ) فَلَا تنَافِي بَينهمَا.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي قبل الْعَصْر أَرْبعا، يفصل بَين كل رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ» .
هَذَا الحَدِيث سلف بِطُولِهِ فِي أَوَاخِر بَاب كَيْفيَّة الصَّلَاة؛ فَرَاجعه مِنْهُ.(4/289)
الحَدِيث الْخَامِس
عَن أم حَبِيبَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من حَافظ عَلَى أَربع رَكْعَات قبل الظّهْر وَأَرْبع بعْدهَا حرمه الله عَلَى النَّار» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة من حَدِيث: عَنْبَسَة بن أبي سُفْيَان، عَنْهَا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ «من صَلَّى» بدل «من حَافظ» وَفِي لفظ للنسائي «فتمس وَجهه النَّار أبدا - إِن شَاءَ الله» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة مَكْحُول عَنهُ، وَرَوَى النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة حسان بن عَطِيَّة عَنهُ، وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الله بن المُهَاجر الشعيثي عَنهُ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب.
وَذكر أَبُو زرْعَة وَهِشَام بن عمار وَالنَّسَائِيّ أَن مَكْحُولًا لم يسمع(4/290)
من عَنْبَسَة، وَخَالفهُم غَيرهم كَمَا ذكر عَنْهُم فِي بَاب الإحداث فِي حَدِيث أم حَبِيبَة فِي مس الْفرج، لَا جرم أخرجه [الْحَاكِم] من طَرِيقه، وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي عبد الرَّحْمَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن - صَاحب أبي أُمَامَة - عَن عَنْبَسَة قَالَ: سَمِعت أُخْتِي أم حَبِيبَة - زوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَقول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «من حَافظ عَلَى أَربع رَكْعَات قبل الظّهْر وَأَرْبع بعْدهَا حرمه الله عَلَى النَّار» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب من هَذَا الْوَجْه قَالَ: وَالقَاسِم هَذَا ثِقَة شَامي.
قلت: وَوَثَّقَهُ أَيْضا ابْن معِين والجوزجاني، وَضَعفه أَحْمد وَابْن حبَان، قَالَ أَحْمد: هُوَ مُنكر الحَدِيث، حدث عَنهُ عَلّي بن يزِيد أَعَاجِيب، وَمَا أَرَاهَا إِلَّا من قبل الْقَاسِم.
وَقَالَ ابْن حبَان، كَانَ يروي عَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَآله: المعضلات.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «مَا من عبد مُؤمن يُصَلِّي أَربع رَكْعَات بعد الظّهْر فتمس وَجهه النَّار أبدا - إِن شَاءَ الله» كَمَا سلف.
وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي سُفْيَان بن حَرْب عَن أم حَبِيبَة بِاللَّفْظِ السالف أَولا.(4/291)
الحَدِيث السَّادِس
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «صليت الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قيل لَهُ: رآكم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: نعم رآنا، فَلم يَأْمُرنَا وَلم ينهنا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ عَن أنس: «كُنَّا نصلي عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَكْعَتَيْنِ بعد غرُوب الشَّمْس قبل الْمغرب، فَقيل لَهُ: أَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صلاهما؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نصليهما، فَلم يَأْمُرنَا وَلم ينهنا» .
وَاللَّفْظ الَّذِي سَاقه الرَّافِعِيّ أخرجه أَبُو دَاوُد وَالْقَائِل لأنس هُوَ الْمُخْتَار بن فلفل.
الحَدِيث السَّابِع
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنه قَالَ: «مَا رَأَيْت أحدا يُصَلِّي قبل الْمغرب رَكْعَتَيْنِ عَلَى عهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد حسن عَن طَاوس قَالَ: «سُئِلَ ابْن عمر عَن الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب فَقَالَ: مَا رَأَيْت [أحدا عَلَى عهد] رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّيهمَا وَرخّص فِي الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - بعد أَن رَوَاهُ -: القَوْل فِي هَذَا قَول من شَاهد دون من لم يُشَاهد.(4/292)
الحَدِيث الثَّامِن
عَن عبد الله بن مُغفل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صلوا قبل الْمغرب رَكْعَتَيْنِ. قَالَ فِي الثَّالِثَة: لمن شَاءَ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ بِلَفْظ: «صلوا قبل صَلَاة الْمغرب. قَالَ فِي الثَّالِثَة: لمن شَاءَ؛ كَرَاهِيَة أَن يتخذها النَّاس سنة» .
هَذَا لَفظه هُنَا وَفِي الِاعْتِصَام.
وَوَقع فِي «جَامع المسانيد» لِابْنِ الْجَوْزِيّ أَنه مُتَّفق عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا ذكره، إِنَّمَا هُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «صلوا قبل الْمغرب رَكْعَتَيْنِ. ثمَّ قَالَ: صلوا قبل الْمغرب رَكْعَتَيْنِ لمن شَاءَ. خشيَة أَن يتخذها النَّاس سنة» .
رَوَاهُ أَحْمد كَذَلِك وَقَالَ: «كَرَاهِيَة» بدل «خشيَة» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ: «خشيَة أَن يحسبها النَّاس سنة» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِزِيَادَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام يُصليهَا» وَهُوَ من الْفَوَائِد الجليلة وَهَذَا لَفظه: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى قبل الْمغرب رَكْعَتَيْنِ ثمَّ قَالَ: صلوا قبل الْمغرب رَكْعَتَيْنِ. ثمَّ قَالَ عِنْد الثَّالِثَة: لمن شَاءَ. خَافَ أَن يحسبها النَّاس سنة» .(4/293)
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث عبد الله بن مُغفل أَيْضا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «بَين كل أذانين صَلَاة - قَالَهَا ثَلَاثًا - قَالَ فِي الثَّالِثَة: لمن شَاءَ» .
وَفِي أَفْرَاد (مُسلم» : «قَالَ فِي الرَّابِعَة: لمن شَاءَ» وَلأَحْمَد: «بَين كل أذانين صَلَاة - ثَلَاث مَرَّات - لمن شَاءَ» .
وللبيهقي: «بَين كل أذانين صَلَاة مَا خلا الْمغرب» . وَهِي ضَعِيفَة كَمَا بَينهَا ابْن خُزَيْمَة وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن حزم، وَإِن أقرها بعض شُيُوخنَا.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أحب أَن يُوتر بِخمْس فَلْيفْعَل، وَمن أحب أَن يُوتر بِثَلَاث فَلْيفْعَل، وَمن أحب أَن يُوتر بِوَاحِدَة فَلْيفْعَل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ (أَحْمد فِي «مُسْنده» ) وَأَبُو(4/294)
دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَلَفظ أَحْمد: «أوتر بِخمْس، فَإِن لم تستطع فبثلاث، فَإِن لم تستطع فبواحدة، فَإِن لم تستطع فأومئ إِيمَاء» .
وَلَفظ أبي دَاوُد: «الْوتر حق عَلَى كل مُسلم؛ فَمن أحب أَن يُوتر بِخمْس ... » إِلَى آخِره.
وَلَفظ (أبي دَاوُد) مثله بِزِيَادَة: «وَمن شَاءَ أوتر أَوْمَأ إِيمَاء» وَفِي رِوَايَة لَهُ زِيَادَة فِي أَوله وَهِي: «فَمن شَاءَ أَن يُوتر بِسبع فَلْيفْعَل» .
وَلَفظ ابْن مَاجَه: «الْوتر حق، فَمن شَاءَ أَن يُوتر بِخمْس ... » إِلَى آخِره.(4/295)
وللدارقطني أَلْفَاظ: أَحدهَا: «الْوتر حق، فَمن شَاءَ فليوتر بِخمْس، وَمن شَاءَ فليوتر بِثَلَاث، وَمن شَاءَ فليوتر بِوَاحِدَة» . ثَانِيهَا: «الْوتر خمس أَو ثَلَاث أَو وَاحِدَة» . ثَالِثهَا: «الْوتر حق؛ فَمن شَاءَ أوتر بِسبع، وَمن شَاءَ أوتر بِخمْس وَمن شَاءَ أوتر بِثَلَاث، وَمن شَاءَ أوتر بِوَاحِدَة» . رَابِعهَا: «أوتر (بِخمْس)
) إِلَى آخِره كَمَا سلف عَن رِوَايَة أَحْمد. خَامِسهَا: «الْوتر حق، فَمن شَاءَ يُوتر بِخمْس، وَمن شَاءَ فليوتر بِثَلَاث، وَمن شَاءَ أَن يُوتر بِرَكْعَة، وَمن لم يسْتَطع إِلَّا أَن يُومِئ فليومئ» .
وَلابْن حبَان أَلْفَاظ: أَحدهَا: «الْوتر حق، فَمن أحب أَن يُوتر بِخمْس فليوتر، وَمن أحب أَن يُوتر بِثَلَاث فليوتر، وَمن أحب (أَن) يُوتر (بِوَاحِدَة) فليوتر، وَمن غَلبه ذَلِك فليومئ إِيمَاء» . ثَانِيهَا: «الْوتر حق، فَمن شَاءَ فليوتر بِخمْس ... » إِلَى آخِره كَمَا سلف فِي اللَّفْظ الأول للدارقطني. ثَالِثهَا: كَالْأولِ.
وَلَفظ الْحَاكِم: «الْوتر حق، فَمن شَاءَ فليوتر بِخمْس، وَمن شَاءَ(4/296)
فليوتر بِثَلَاث، وَمن شَاءَ فليوتر بِوَاحِدَة» .
قَالَ النَّسَائِيّ: رُوِيَ هَذَا الحَدِيث مَوْقُوفا عَلَى أبي أَيُّوب وَهُوَ أولَى بِالصَّوَابِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كَذَا رَوَاهُ عدي بن الْفضل، عَن معمر مُسْندًا، وَوَقفه عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، وَوَقفه أَيْضا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَاخْتلف عَنهُ.
وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ وَقَالَ: وَقد تَابعه [مُحَمَّد بن الْوَلِيد الزبيدِيّ] وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وسُفْيَان بن حُسَيْن وَمعمر بن رَاشد وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَبكر بن وَائِل عَلَى رَفعه. ثمَّ سَاق ذَلِك بأسانيده، فَفِي لفظ: «الْوتر خمس، أَو ثَلَاث، أَو وَاحِدَة» وَفِي آخر: «الْوتر حق، فَمن شَاءَ أوتر بِثَلَاث، وَمن شَاءَ أوتر بِخمْس، وَمن أحب أَن يُوتر بِوَاحِدَة فليوتر بِوَاحِدَة ... » وَفِي آخر: «أوتر بِخمْس، فَإِن لم تستطع فبثلاث، فَإِن لم تستطع فبواحدة، فَإِن لم تستطع فأومئ إِيمَاء» .
ثمَّ قَالَ - أَعنِي: الْحَاكِم -: لست أَشك أَن الشَّيْخَيْنِ تركا هَذَا(4/297)
الحَدِيث إِلَّا لتوقيف بعض أَصْحَاب الزُّهْرِيّ إِيَّاه. قَالَ: وَمثل هَذَا لَا يُعلل هَذَا الحَدِيث.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا الحَدِيث مُخْتَلف فِي رَفعه إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ الذهلي: وَالْأَشْبَه وَقفه. قَالَ: وَلأَجل اختلافه تَركه الشَّيْخَانِ.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ: أَيّمَا أصح فِيهِ طَرِيق الْوَصْل أَو الْإِرْسَال؟ فَقَالَ: لَا هَذَا وَلَا هَذَا، هُوَ من كَلَام أبي أَيُّوب.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : الَّذين (وَقَفُوهُ) عَن معمر أثبت مِمَّن رَفعه.
وَخَالف ابْن الْقطَّان فنحا إِلَى مَا قَالَه الْحَاكِم فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث مُخْتَلف فِيهِ رَفعه قوم عَن الزُّهْرِيّ، عَن عَطاء بن يزِيد، عَن أبي أَيُّوب، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَوَقفه آخَرُونَ، وَكلهمْ ثِقَة، فَيَنْبَغِي أَن يكون القَوْل فِيهِ قَول من رَفعه؛ لِأَنَّهُ حفظ مَا لم يحفظ واقفه.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ: «الْوتر حق، وَلَيْسَ بِوَاجِب» .
وَهَذِه الرِّوَايَة لم أَقف عَلَى من خرجها بعد الْبَحْث الشَّديد عَن طرق هَذَا الحَدِيث، وَعَزاهَا الْمجد ابْن تَيْمِية فِي «أَحْكَامه» إِلَى رِوَايَة(4/298)
ابْن الْمُنْذر فِي هَذَا الحَدِيث. وَذكرهَا الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي «مهذبه» . وَأما الْمُنْذِرِيّ فَإِنَّهُ أسقطها وَلم يتَكَلَّم عَلَيْهَا. وَأما النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شَرحه» : إِنَّهَا غَرِيبَة لَا أعرف لَهَا إِسْنَادًا صَحِيحا.
قلت: وَفِي «الدَّارَقُطْنِيّ» من حَدِيث أبي أَيُّوب أَيْضا: «الْوتر حق وَاجِب، فَمن شَاءَ (فليوتر بِثَلَاث فليوتر) ، وَمن شَاءَ أَن يُوتر بِوَاحِدَة فليوتر بِوَاحِدَة» وَفِي إسنادها: مُحَمَّد بن حسان الْأَزْرَق، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : ضَعَّفُوهُ.
قلت: لَا، بل وثقوه (كَابْن أبي حَاتِم) وَأبي حَاتِم بن حبَان وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيرهم، وَلَا نعلم أحدا ضعفه.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» : قَوْله: «وَاجِب» لَيْسَ بِمَحْفُوظ، وَلَا أعلم أحدا تَابع ابْن حسان عَلَى ذَلِك.
قَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ مِمَّا انْفَرد بِهِ الثِّقَة؛ فَإِن مُحَمَّد بن حسان الْأَزْرَق ثِقَة صَدُوق. قَالَه ابْن أبي حَاتِم.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : وهم فِي رَفعه، وَالصَّحِيح وَقفه عَلَى أبي أَيُّوب.(4/299)
قلت: وَفِي «صَحِيح الْحَاكِم» عَن عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ: «الْوتر حسن جميل، عمل بِهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمن بعده، وَلَيْسَ بِوَاجِب» .
قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرطهمَا، وَله شَوَاهِد. فَذكرهَا بأسانيده.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : رُوَاته ثِقَات.
الحَدِيث الْعَاشِر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْوتر حق مسنون، فَمن أحب أَن يُوتر بِثَلَاث فَلْيفْعَل» .
هَذَا الحَدِيث قد فَرغْنَا الْآن من إِيرَاد طرقه وَأَلْفَاظه، وَلَيْسَ فِيهَا هَذِه الزِّيَادَة، وَهِي: «مسنون» .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن أبي أُمَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُوتر بِسبع رَكْعَات» .
هَذَا الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه بيضت لَهُ مُدَّة (عزيزة) ، وتطلبه ابْن الرّفْعَة فِي «مطلبه» فَلم يظفر بِهِ وَقَالَ: (لم) أر من خرجه.
وَقد ظَفرت بِهِ - بِحَمْد الله - فِي كتابين جليلين: «مُسْند الإِمَام أَحْمد» و «مُعْجم الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير) روياه من حَدِيث عمَارَة، عَن أبي(4/300)
غَالب، عَن أبي أُمَامَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُوتر بتسع رَكْعَات، فَلَمَّا بدن وَكثر لَحْمه أوتر بِسبع وَصَلى رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالس يقْرَأ فيهمَا: (إِذا زلزلت) و (قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ) .» .
وَعمارَة هَذَا قَالَ خَ: رُبمَا يضطرب فِي حَدِيثه. وَقَالَ أَحْمد: لَهُ مَنَاكِير. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف - وَقَالَ د: لَيْسَ بِذَاكَ - وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا بَأْس بِهِ. زَاد ابْن عدي: مِمَّن يكْتب حَدِيثه.
قلت: وَتَابعه أَبُو قبيصَة، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث يُونُس بن بكير عَنهُ، عَن أبي غَالب، عَن أبي أُمَامَة قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُوتر بتسع، فَلَمَّا ثقل أوتر بِسبع» .
وَأَبُو غَالب اسْمه: حزوّر. قَالَ ابْن حبَان: لَا يحْتَج بِهِ.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» : «وبدّن» - مشدد - مَعْنَاهُ كبر، وَمن خفف فقد غلط؛ لِأَن مَعْنَاهُ كَثْرَة اللَّحْم، وَلَيْسَ من صِفَاته. قَالَ: وَأَبُو غَالب اسْمه: حزور، وَلَا يلْتَفت إِلَى رِوَايَته، وَالظَّاهِر أَنه رَوَاهُ بِمَا يَظُنّهُ الْمَعْنى.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أوتروا بِخمْس أَو بِسبع أَو بتسع أَو إِحْدَى عشرَة» .(4/301)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَلَفْظهمْ: «لَا توتروا بِثَلَاث، أوتروا بِخمْس أَو سبع، وَلَا تشبهوا بِصَلَاة الْمغرب» .
وَلَفظ الرِّوَايَة الْأُخْرَى للْحَاكِم: «لَا توتروا بِثَلَاث، وَلَا تشبهوا (بِصَلَاة الْمغرب) ، وَلَكِن أوتروا بِخمْس أَو بِسبع أَو بتسع أَو بِإِحْدَى عشرَة رَكْعَة أَو أَكثر من ذَلِك» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : رِجَاله كلهم ثِقَات. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «لم يكن يُوتر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِأَكْثَرَ من ثَلَاث عشرَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح: (بِلَفْظ) «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُوتر بِأَرْبَع وَثَلَاث، وست وَثَلَاث، وثمان وَثَلَاث، وَعشر وَثَلَاث، وَلم يكن يُوتر بأنقص من سبع وَلَا بِأَكْثَرَ من ثَلَاث عشرَة» .(4/302)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
عَن أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُوتر بِثَلَاث عشرَة، فَلَمَّا كبر وَضعف أوتر بِسبع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن.
وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْوتر بِثَلَاث عشرَة، وَإِحْدَى عشرَة، وتسع، وَسبع، وَخمْس، وَثَلَاث، وَوَاحِدَة» .
قَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : صَحَّ وتر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِثَلَاث عشرَة - إِلَى آخر مَا قَالَه التِّرْمِذِيّ - قَالَ وأصحها: وتره عَلَيْهِ السَّلَام بِرَكْعَة وَاحِدَة.
وَادَّعَى الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب أَنه الَّذِي واظب عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَأما ابْن الصّلاح فَقَالَ: لَا نعلم فِي رِوَايَات الْوتر مَعَ كثرتها أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أوتر بِوَاحِدَة فَحسب.
وَقد ناقشته فِي ذَلِك فِي «تخريجي لأحاديث الْوَسِيط» .(4/303)
وَذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا: أَن صَاحب «النِّهَايَة» حَكَى ترددًا فِي ثُبُوت الْفِعْل فِي الإيتار بِثَلَاث عشرَة، وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَى ذَلِك فِي الْكتاب الْمَذْكُور؛ فَرَاجعه مِنْهُ.
فَائِدَة: قِيَامه (من وتره جَاءَ عَلَى أَنْوَاع:
أَحدهَا: تسع رَكْعَات؛ كَمَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس، وَفِيه: (أَنه استفتحها بِرَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فيهمَا) ، لَكِن فِي حَدِيث عَائِشَة افتتاحه بِرَكْعَتَيْنِ خفيفتين، وَالظَّاهِر أَنه مقدم عَلَى حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي ذَلِك.
ثَانِيهَا: إِحْدَى عشرَة من حَدِيثهَا.
ثَالِثهَا: ثَلَاث عشرَة من حَدِيثهَا أَيْضا، كل ذَلِك يسلم من كل رَكْعَتَيْنِ.
رَابِعهَا: ثَمَان رَكْعَات، يسلم من كل رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ يُوتر بِخمْس لَا يجلس إِلَّا فِي آخِرهنَّ.
خَامِسهَا: تسع رَكْعَات، لَا يجلس إِلَّا فِي الثَّامِنَة والتاسعة.
سادسها: بِسبع رَكْعَات كَذَلِك، ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالس.
سابعها: «كَانَ يُصَلِّي مثنى مثنى، ثمَّ يُوتر بِثَلَاث لَا يفصل بَينهُنَّ» ضعفه أَحْمد.
ثامنها: رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن حُذَيْفَة «أَنه صَلَّى مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي رَمَضَان، فَرَكَعَ فَقَالَ فِي رُكُوعه: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم - مِثْلَمَا كَانَ قَائِما -(4/304)
ثمَّ جلس يَقُول: رب اغْفِر لي - مِثْلَمَا كَانَ قَائِما - فَمَا صَلَّى إِلَّا أَربع رَكْعَات» .
الحَدِيث الْخَامِس عشر
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُوتر بِخمْس لَا يجلس إِلَّا فِي آخِرهنَّ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم بِلَفْظ: «كَانَ يُصَلِّي من اللَّيْل ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، يُوتر من ذَلِك بِخمْس لَا يجلس فِي شَيْء إِلَّا فِي آخرهَا» .
قَالَ عبد الْحق: وَلم يخرج البُخَارِيّ هَذَا اللَّفْظ.
وَأما الْحميدِي فَإِنَّهُ عزاهُ إِلَيْهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْفَقِيه نجم الدَّين بن الرّفْعَة فِي «مطلبه» فَقَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَمَشى عَلَى ذَلِك عبد الْغَنِيّ فِي «عمدته الْكُبْرَى» و «الصُّغْرَى» .
وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» عَنْهَا أَيْضا: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُوتر بِخمْس رَكْعَات لَا يجلس إِلَّا فِي الْخَامِسَة، وَلَا يسلم إِلَّا فِي الْخَامِسَة» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَفِي «مُسْند الشَّافِعِي» عَنْهَا: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يُوتر بِخمْس رَكْعَات لَا يجلس وَلَا يسلم إِلَّا فِي الْأَخِيرَة مِنْهُنَّ» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى عَنْهَا أَيْضا: «أَنه أوتر بتسع لم يجلس إِلَّا(4/305)
فِي الثَّامِنَة والتاسعة، وبسبع لم يجلس إِلَّا فِي السَّادِسَة وَالسَّابِعَة» .
قلت: هَذِه الرِّوَايَة صَحِيحَة، أخرجهَا مُسلم مُنْفَردا بهَا من حَدِيث سعد بن هِشَام: قلت: «يَا أم الْمُؤمنِينَ، أَنْبِئِينِي عَن وتر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَت: كُنَّا نعد لَهُ سواكه وَطهُوره، فيبعثه الله مَتى شَاءَ أَن يَبْعَثهُ من اللَّيْل، فيتسوك وَيتَوَضَّأ وَيُصلي (تسع) رَكْعَات لَا يجلس فِيهَا إِلَّا فِي الثَّامِنَة، فيذكر الله وَيَحْمَدهُ ويدعوه، ثمَّ ينْهض وَلَا يُسلم، ثمَّ يقوم فَيصَلي التَّاسِعَة ثمَّ يقْعد فيذكر الله وَيَحْمَدهُ ويدعوه، ثمَّ يسلم تَسْلِيمًا يسمعنا، ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يسلم وَهُوَ قَاعد، فَتلك إِحْدَى عشرَة يَا بني، فَلَمَّا (أسن) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[وَأَخذه] اللَّحْم أوتر بِسبع وصنع فِي الرَّكْعَتَيْنِ مثل صنعه الأول، فَتلك تسع يَا بني، وَكَانَ إِذا صَلَّى صَلَاة أحب أَن يداوم عَلَيْهَا» .
وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ «فَلَمَّا أسن وَأخذ اللَّحْم أوتر بِسبع رَكْعَات، لم يجلس إِلَّا فِي السَّادِسَة وَالسَّابِعَة، وَلم يسلم إِلَّا فِي السَّابِعَة»(4/306)
وَفِي رِوَايَة للنسائي: «فَلَمَّا أسن وَأَخذه اللَّحْم صَلَّى سبع رَكْعَات، لَا يقْعد إِلَّا فِي آخِرهنَّ» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي «صَحِيحه» : «كَانَ إِذا أوتر بتسع رَكْعَات لم يقْعد إِلَّا فِي الثَّامِنَة وَلَا يسلم ثمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَة، فَلَمَّا كبر وَضعف أوتر بِسبع رَكْعَات لَا يقْعد إِلَّا فِي السَّادِسَة، ثمَّ ينْهض وَلَا يسلم فَيصَلي السَّابِعَة ثمَّ يسلم تَسْلِيمَة» .
وَقد سلفت الْإِشَارَة إِلَى هَذِه الرِّوَايَة فِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين وَمِائَة من بَاب صفة الصَّلَاة.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُوتر بِثَلَاث لَا يجلس إِلَّا فِي آخِرهنَّ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالنَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سُنَنهمَا) ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
وَلَفظ أَحْمد: «كَانَ يُوتر بِثَلَاث لَا يفصل فِيهِنَّ» .
وَلَفظ النَّسَائِيّ وَإِحْدَى روايتي الْحَاكِم: «كَانَ لَا يسلم فِي(4/307)
الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين من الْوتر» . وَلَفظ رِوَايَة الْحَاكِم الْأُخْرَى: «كَانَ يُوتر بِثَلَاث لَا يقْعد إِلَّا فِي آخِرهنَّ» . قَالَ الْحَاكِم فِي الرِّوَايَة الأولَى: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ - وَاسْتشْهدَ بالرواية الثَّانِيَة - قَالَ: وَهَذَا وتر أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب وَعنهُ أَخذ أهل (الْكُوفَة) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : يشبه أَن يكون هَذَا اختصارًا من حَدِيثهَا فِي الإيتار (بتسع) .
وَفِي «الْمُنْتَقَى» للمجد ابْن تَيْمِية أَن الإِمَام أَحْمد ضعف إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث.
الحَدِيث السَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا توتروا بِثَلَاث فتشبهوا بالمغرب» .
هَذَا الحَدِيث تقدم قَرِيبا، وَهُوَ الحَدِيث الثَّانِي عشر.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
عَن ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْوتر رَكْعَة من آخر اللَّيْل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم كَذَلِك مُنْفَردا بِهِ، وَفِي رِوَايَة(4/308)
ابْن مَاجَه: «الْوتر رَكْعَة قبل الصُّبْح» .
الحَدِيث التَّاسِع عشر
عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْوتر رَكْعَة من آخر اللَّيْل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم أَيْضا فِي «صَحِيحه» عَن أبي مجلز قَالَ: سَأَلت ابْن عَبَّاس عَن الْوتر فَقَالَ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «رَكْعَة من آخر اللَّيْل» وَلم يذكرهُ عبد الْحق وَلَا الْحميدِي فِي «جَمعهمَا» .
الحَدِيث الْعشْرُونَ
عَن ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يفصل بَين الشفع وَالْوتر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد من حَدِيث أبي حَمْزَة السكرِي، عَن إِبْرَاهِيم الصَّائِغ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يفصل بَين الشفع وَالْوتر بِتَسْلِيمَة يسمعناها» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَقَالَ: « (بِتَسْلِيم) يسمعناه» .
وَابْن السكن فِي «صحاحه» وَالطَّبَرَانِيّ وَقَالَ: لم يروه عَن إِبْرَاهِيم(4/309)
الصَّائِغ إِلَّا (أَبُو) حَمْزَة السكرِي.
وَإِبْرَاهِيم هَذَا وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان أَيْضا من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم، عَن الْوَضِين بن عَطاء، عَن سَالم، عَن أَبِيه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يفصل بَين الشفع وَالْوتر بِتَسْلِيم يسمعناه» والوضين: قَالَ الإِمَام أَحْمد: مَا كَانَ بِهِ بَأْس. وَلينه غَيره.
وَقَالَ مهنا: سَأَلت أَحْمد إِلَى أَي شَيْء تذْهب فِي الْوتر تسلم فِي الرَّكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: نعم. قلت: (لأي شَيْء) ؟ قَالَ: لِأَن الْأَحَادِيث فِيهِ أَقْوَى وَأكْثر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الرَّكْعَتَيْنِ.
قَالَ حَرْب عَنهُ: إِن التَّسْلِيم ثَبت عَنهُ (.
وَقَالَ أَبُو طَالب عَنهُ: أَكثر الحَدِيث وأقواه رَكْعَة، فَأَنا أذهب إِلَيْهَا.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله قد أمدكم بِصَلَاة هِيَ خير لكم من حمر النعم، وَهِي الْوتر، جعلهَا الله لكم فِيمَا بَين صَلَاة الْعشَاء إِلَى أَن يطلع الْفجْر» .(4/310)
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق: أَحدهَا: من رِوَايَة خَارِجَة بن حذافة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث اللَّيْث بن سعد، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن عبد الله بن رَاشد الزوفي، عَن عبد الله بن أبي مرّة الزوفي، عَن خَارِجَة بن حذافة قَالَ: «خرج علينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن الله - تَعَالَى - قد أمدكم بِصَلَاة، وَهِي خير لكم من حمر النعم، وَهِي الْوتر فَجَعلهَا فِيمَا بَين الْعشَاء وطلوع الْفجْر» .
وَرَوَاهُ أَحْمد، عَن [ابْن] إِسْحَاق، عَن يزِيد بِهِ.
وَرَوَاهُ ابْن لَهِيعَة عَن [رزين] بن عبد الله الزوفي، عَن عبد الله بن أبي مرّة. أَفَادَهُ الْمزي فِي «أَطْرَافه» . والزوفي مَنْسُوب إِلَى زوف بن زَاهِر وعامتهم بِمصْر.
وَاخْتلف الْحفاظ فِي هَذَا الحَدِيث، فصححه الْحَاكِم، فَإِنَّهُ لما(4/311)
أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَرُوَاته مدنيون ومصريون، قَالَ: وَإِنَّمَا تَركه الشَّيْخَانِ لما قَدمته من تفرد التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: حسن الْإِسْنَاد.
وَأعله جماعات، قَالَ شيخ الصِّنَاعَة أَبُو عبد الله البُخَارِيّ - كَمَا أَفَادَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» -: (فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث رجلَانِ لَا يعرفان إِلَّا بِهَذَا الحَدِيث) وَلَا يعرف سَماع رُوَاته بَعضهم من بعض.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : هَذَا حَدِيث غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث يزِيد بن أبي حبيب.
وَقَالَ ابْن حبَان: إِسْنَاده مُنْقَطع، و (مَتنه) بَاطِل. مَعَ أَنه ذكر عبد الله بن رَاشد فِي «ثقاته» .
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : هَذَا الحَدِيث فِي إِسْنَاده(4/312)
عبد الله بن رَاشد الزوفي، عَن عبد الله بن أبي مرّة الزوفي، وَلم يسمع مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا هَذَا الحَدِيث، وَكِلَاهُمَا لَيْسَ مِمَّن يحْتَج بِهِ وَلَا (يكَاد) . قَالَ: وَرَوَاهُ عبد الله بن أبي مرّة، عَن خَارِجَة، وَلَا يعرف لَهُ سَماع من خَارِجَة.
وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَإِنَّهُ لما ذكره فِي «تَحْقِيقه» من طَرِيق الإِمَام أَحْمد، عَن يزِيد بن هَارُون، عَن (ابْن) إِسْحَاق، عَن يزِيد بن أبي حبيب وَأعله بِابْن إِسْحَاق وَقَالَ: كذبه مَالك. وَبِعَبْد الله بن رَاشد وَقَالَ: ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ. وَقَالَ البُخَارِيّ: لَا يعرف إِلَّا بِحَدِيث الْوتر، وَلَا يعرف سَماع ابْن رَاشد من أبي (مرّة) - انْتَهَى مَا ذكره.
فَأَما تَضْعِيفه لَهُ بِابْن إِسْحَاق فعجيب؛ فَإِنَّهُ يحْتَج بِهِ فِي غير مَوضِع، وَلم ينْفَرد بِهِ ابْن إِسْحَاق؛ بل تَابعه اللَّيْث بن سعد - كَمَا تقدم - ونقْله عَن الدَّارَقُطْنِيّ تَضْعِيفه بِعَبْد الله بن رَاشد أعجب مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا ضعف عبد الله بن رَاشد الْبَصْرِيّ مولَى عُثْمَان بن عَفَّان - الرَّاوِي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - وَأما رَاوِي هَذَا الحَدِيث فَهُوَ الزوفي أَبُو الضَّحَّاك(4/313)
الْمصْرِيّ، وَقد أسلفنا عَن ابْن حبَان أَنه ذكره فِي «الثِّقَات» .
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث معَاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «زادني رَبِّي صَلَاة، وَهِي الْوتر، ووقتها مَا بَين الْعشَاء إِلَى طُلُوع الْفجْر» .
وَفِي إِسْنَاده: عبيد الله بن زحر، وَهُوَ مِمَّن اخْتلف فِيهِ، وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات. وَعبد الرَّحْمَن بن رَافع وَفِي حَدِيثه مَنَاكِير كَمَا قَالَ البُخَارِيّ. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يحْتَج بِخَبَرِهِ إِذا كَانَ من رِوَايَة الأفريقي، وَإِنَّمَا وَقع الْمَنَاكِير فِي رِوَايَته من أَجله. وَقَالَ الْبَزَّار: مَا نعلم من رَوَى عَنهُ إِلَّا الأفريقي، وَلم يكن بحافظ للْحَدِيث.
قلت: قد رَوَى عَنهُ عبيد الله بن زحر وَابْنه إِبْرَاهِيم، وَرَأَيْت من أعله بالانقطاع أَيْضا بِسَبَب عدم إِدْرَاك عبد الرَّحْمَن هَذَا معَاذًا.
الطَّرِيق الثَّالِث وَالرَّابِع: من حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ وَعقبَة بن عَامر.(4/314)
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ: «إِن الله عَزَّ وَجَلَّ زادكم صَلَاة خير لكم من حمر النعم: الْوتر، وَهِي لكم فِيمَا بَين صَلَاة الْعشَاء وطلوع الشَّمْس» .
وَفِي إِسْنَاده: قُرَّة بن حَيْوِيل، وَهُوَ من الْمُخْتَلف فيهم كَمَا سلف لَك فِي الحَدِيث الرَّابِع عشر من بَاب صفة الصَّلَاة.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن أبي بصرة الْغِفَارِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الله عَزَّ وَجَلَّ زادكم صَلَاة، فصلوها فِيمَا بَين صَلَاة الْعشَاء إِلَى الصُّبْح: الْوتر الْوتر» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالْحَاكِم فِي تَرْجَمته، وَفِيه: ابْن لَهِيعَة، وحاله مَعْلُومَة سلفت فِي الْوضُوء، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا وَفِي سَنَده: نعيم بن حَمَّاد وَهُوَ من فرسَان البُخَارِيّ، وَتكلم فِيهِ واتهم بِالْوَضْعِ أَيْضا.
وَرُوِيَ مُخْتَصرا بِدُونِ تَبْيِين وقته من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج عَلَيْهِم ترَى الْبُشْرَى وَالسُّرُور فِي وَجهه، فَقَالَ: إِن الله قد أمدكم بِصَلَاة هِيَ الْوتر» .(4/315)
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَفِي إِسْنَاده النَّضر بن عبد الرَّحْمَن أَبُو (عمر) الخزاز، قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ.
ثَانِيهَا: من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده.
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن عبيد الله الْعَرْزَمِي، عَن عَمْرو قَالَ: «مكثنا زَمَانا لَا نزيد عَلَى الصَّلَوَات الْخمس، فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَاجْتَمَعْنَا، فَحَمدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: إِن الله زادكم صَلَاة. فَأمرنَا بالوتر» .
وَمُحَمّد هَذَا تَرَكُوهُ، وَتَابعه حجاج بن أَرْطَاة، عَن عَمْرو.
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «إِن الله زادكم صَلَاة، وَهِي الْوتر» .
قَالَ أَحْمد: لَا يحْتَج بِهِ. قَالَ عبد الْحق: وَكَانَ حجاج يُدَلس حَدِيث الْعَرْزَمِي، عَن عَمْرو.
ثَالِثهَا: من حَدِيث مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «إِن الله زادكم صَلَاة إِلَى صَلَاتكُمْ، وَهِي الْوتر» .
رَوَاهُ أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن وهب، عَن عَمه، عَن مَالك بِهِ.(4/316)
قَالَ ابْن حبَان: لَا يخْفَى عَلَى من كتب حَدِيث ابْن وهب أَن هَذَا الحَدِيث مَوْضُوع، وَأحمد بن عبد الرَّحْمَن كَانَ يَأْتِي عَن عَمه بِمَا لَا أصل لَهُ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا وتران فِي لَيْلَة» .
هَذَا الحَدِيث حسن، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة قيس بن طلق بن عَلّي، عَن أَبِيه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ عبد الْحق: غَيره يُصَحِّحهُ.
قلت: قد نقلنا عَن ابْن (حبَان) تَصْحِيحه، لَكِن قد أسلفنا فِي آخر الحَدِيث الثَّالِث عشر، من بَاب الْأَحْدَاث أَن أَحْمد وَيَحْيَى ضعفا قيس بن طلق، وَأَن أَبَا حَاتِم وَأَبا زرْعَة قَالَا: لَا تقوم بِهِ حجَّة (وَذكر الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن معِين أَنه قَالَ: قد أَكثر النَّاس فِي قيس(4/317)
بن طلق، وَأَنه لَا تقوم بِهِ حجَّة) وَأما ابْن أبي حَاتِم فَنَقَل عَنهُ توثيقه، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَأخرج لَهُ فِي «صَحِيحه» وَفِي إِسْنَاده أَيْضا ملازم بن عَمْرو قد وَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن معِين وَأَبُو زرْعَة (وَالْعجلِي) وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا بَأْس بِهِ صَدُوق. وَقَالَ أَبُو بكر الضبعِي: فِيهِ نظر. وَفِي « (علل ابْن أبي) حَاتِم» سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث [أَيهمَا] أصح قيس بن طلق، عَن أَبِيه، أَو قيس بن طلق، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: الأول أصح.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
الْخَبَر الْمَشْهُور «أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يُوتر ثمَّ ينَام، ثمَّ يقوم يتهجد، وَأَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ ينَام قبل أَن يُوتر، ثمَّ يقوم وَيُصلي ويوتر فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لأبي بكر: أَنْت [أخذت] بالحزم. وَقَالَ لعمر: أَنْت [أخذت] بِالْقُوَّةِ» .(4/318)
هُوَ كَمَا قَالَ، وَله طرق: أَحدهَا: من رِوَايَة أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لأبي بكر: مَتى توتر؟ قَالَ: أوتر من أول اللَّيْل. وَقَالَ لعمر: مَتى توتر؟ قَالَ: من آخر اللَّيْل. فَقَالَ لأبي بكر: أَخذ هَذَا بالحزم. وَقَالَ لعمر: أَخذ هَذَا بِالْقُوَّةِ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» كَذَلِك بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ ابْن الْقطَّان: رِجَاله كلهم ثِقَات.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لأبي بكر: مَتى توتر؟ قَالَ: أوتر قبل أَن أَنَام. وَقَالَ لعمر: مَتى توتر؟ قَالَ: أَنَام ثمَّ أوتر. فَقَالَ لأبي بكر: أخذت بالحزم - أَو بالوثيقة - وَقَالَ لعمر: أخذت بِالْقُوَّةِ» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
الطَّرِيق الثَّانِي: من رِوَايَة ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأبي بكر: مَتى توتر؟ قَالَ: أوتر ثمَّ أَنَام. قَالَ: بالحزم أخذت. وَسَأَلَ عمر: مَتى توتر؟ قَالَ: أَنَام ثمَّ أقوم من اللَّيْل فأوتر. قَالَ: [فعل] القَويِّ أخذت» رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ: «فعلت» بدل «أخذت» ذكره مستشهدًا بِهِ عَلَى حَدِيث أبي قَتَادَة السالف أَولا، وَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا فِي «سنَنه» وَالْبَزَّار فِي «مُسْنده» وَقَالَ: لَا(4/319)
نعلم رَوَاهُ عَن عبيد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر إِلَّا يَحْيَى بن سليم.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَيَحْيَى بن سليم وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَمن ضعفه لم يَأْتِ بِحجَّة، وَهُوَ صَدُوق عِنْد الْجَمِيع. قَالَ: فَهُوَ حَدِيث حسن. قَالَ: وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا من حَدِيث سعيد بن سِنَان (عَن أبي الزَّاهِرِيَّة) عَن كثير بن مرّة، عَن ابْن عمر (مَرْفُوعا) وَإِسْنَاده ضَعِيف؛ لِأَن سعيد بن سِنَان سيئ الْحِفْظ. قلت: بل هَالك.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن (عقيل) عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: (قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لأبي بكر: أَي حِين توتر؟ قَالَ: أول اللَّيْل بعد الْعَتَمَة. قَالَ: فَأَنت يَا عمر؟ قَالَ: آخر اللَّيْل. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أما إِنَّك يَا أَبَا بكر فَأخذت بالوثقى، وَأما أَنْت يَا عمر فَأخذت بِالْقُوَّةِ» .
رَوَاهُ كَذَلِك أَحْمد فِي «مُسْنده» وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَإِسْنَاده حسن.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن سعيد بن الْمسيب: «أَن أَبَا بكر وَعمر تذاكرا الْوتر عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ أَبُو بكر: أما أَنا فأوتر فِي أول اللَّيْل. وَقَالَ عمر: أما أَنا فأوتر آخر اللَّيْل. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: حذر هَذَا وَقَوي هَذَا» .(4/320)
رَوَاهُ الْمُزنِيّ، عَن الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن سعيد بِهِ.
قَالَ الشَّافِعِي: وَأَنا إِبْرَاهِيم بن سعد، عَن أَبِيه، عَن سعيد بن الْمسيب «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأبي بكر: مَتى توتر؟ قَالَ: قبل أَن أَنَام - أَو قَالَ: أول اللَّيْل - وَقَالَ: يَا عمر، مَتى توتر؟ قَالَ: آخر اللَّيْل. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَلا أضْرب لكم مثلا؟ أما أَنْت يَا أَبَا بكر فكالذي قَالَ: أحرزت نَهْبي وأبتغي النَّوَافِل، وَأما أَنْت يَا عمر فتعمل بِعَمَل الأقوياء» .
قَالَ الطَّحَاوِيّ: نَهْبي - يَعْنِي سهمي.
وَرَوَاهُ بَقِي بن مخلد فِي (مُسْنده) كَمَا أَفَادَهُ ابْن الْقطَّان، عَن ابْن رمح، نَا اللَّيْث، عَن ابْن شهَاب، عَن سعيد بن الْمسيب «أَن أَبَا بكر وَعمر تذاكرا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ أَبُو بكر: (أما أَنا فأصلي) ثمَّ أَنَام عَلَى وتر، فَإِذا استيقظت صليت شفعًا حَتَّى الصَّباح. قَالَ عمر: لكني أَنَام عَلَى شفع ثمَّ أوتر من السحر. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لأبي بكر: حذر هَذَا. وَقَالَ لعمر: قوي هَذَا» .(4/321)
وَهَكَذَا أَيْضا رَوَاهُ سُفْيَان فِي «مُسْنده» عَن ابْن شهَاب، عَن سعيد قَالَ: (تَذكرُوا الْوتر عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ أَبُو بكر: أما أَنا فأوتر أول اللَّيْل. وَقَالَ عمر: أما أَنا فأوتر آخر اللَّيْل. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: حذر هَذَا، وَقَوي هَذَا» .
وَأعله عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» فَقَالَ: ابْن الْمسيب لم يسمع من عمر إِلَّا (نعيه) النُّعْمَان بن مقرن.
لَكِن فِي «تَهْذِيب الْكَمَال» للمزي عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه رَآهُ وَسمع مِنْهُ. قَالَ: وَإِذا لم يقبل سعيد عَن عمر فَمن يقبل؟ ! وَقَالَ أَيْضا: مرسلاته (صِحَاح) لَا نرَى أصح مِنْهَا.
لَا جرم قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: إِسْنَاده ثَابت جيد. قَالَ: وَقد عرف أَن مُرْسل سعيد حجَّة.
قلت: اعتضد بالمسند السالف.
الطَّرِيق (الْخَامِس) : عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَبَا بكر: كَيفَ توتر؟ قَالَ: أوتر أول اللَّيْل. قَالَ: حذر كيس. ثمَّ سَأَلَ عمر: كَيفَ توتر؟ قَالَ: من آخر اللَّيْل. قَالَ: قوي معَان» .
رَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث سُلَيْمَان بن دَاوُد اليمامي، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة. وَسليمَان هَذَا ضَعَّفُوهُ.(4/322)
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن أبي بكر وَعمر «أَن أَحدهمَا كَانَ يُوتر أول اللَّيْل، وَالْآخر يُوتر آخِره فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: حذر هَذَا، وَقَوي هَذَا» فَقَالَ: هَذَا حَدِيث يرويهِ ابْن عُيَيْنَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، وَاخْتلف عَنهُ؛ فَرَوَاهُ مُحَمَّد بن يَعْقُوب [الزبيري] عَن ابْن عُيَيْنَة وَقَالَ فِيهِ: عَن أبي هُرَيْرَة، وَغَيره يرويهِ عَن ابْن عُيَيْنَة وَلَا يذكر أَبَا هُرَيْرَة يُرْسِلهُ عَن سعيد وَهُوَ الصَّوَاب، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الزبيري عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد مُرْسلا.
الطَّرِيق (السَّادِس) : عَن عقبَة بن عَامر بِمثلِهِ: «وَقَالَ لأبي بكر: حذر - مرَّتَيْنِ - وَقَالَ لعمر: مُؤمن قوي» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَفِيه ضعف، كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان، وَلم يُنكر عَلَيْهِ و (لم) يعزه لأحد.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
عَن ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اجعلوا آخر صَلَاتكُمْ بِاللَّيْلِ وترا» .(4/323)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق (عَلَيْهِ) من هَذَا الْوَجْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من خَافَ مِنْكُم أَن لَا يَسْتَيْقِظ من آخر اللَّيْل فليوتر من أول اللَّيْل، وَمن طمع مِنْكُم أَن يَسْتَيْقِظ فليوتر آخر اللَّيْل؛ فَإِن صَلَاة آخر اللَّيْل مَشْهُودَة، وَذَلِكَ أفضل» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ بلفظين أَحدهمَا: «من خَافَ أَن لَا يقوم من آخر اللَّيْل فليوتر أَوله، وَمن طمع أَن يقوم آخِره فليوتر آخر اللَّيْل؛ فَإِن صَلَاة آخر اللَّيْل مَشْهُودَة، وَذَلِكَ أفضل» .
ثَانِيهمَا: «أَيّكُم خَافَ أَن لَا يقوم من آخر اللَّيْل فليوتر ثمَّ ليرقد، وَمن وثق (بِقِيَام) من اللَّيْل فليوتر من آخِره؛ فَإِن قِرَاءَة آخر اللَّيْل محضورة، وَذَلِكَ أفضل» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «من ظن مِنْكُم أَن لَا يَسْتَيْقِظ آخر اللَّيْل فليوتر أَوله، وَمن ظن أَنه يَسْتَيْقِظ آخِره فليوتر آخِره؛ فَإِن صَلَاة آخر اللَّيْل محضورة، وَذَلِكَ أفضل» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَرُوِيَ أَيْضا عَن جَابر، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا، وَالصَّوَاب إِسْقَاط عَائِشَة من هَذَا الْإِسْنَاد.(4/324)
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قَالَت: «من كل اللَّيْل قد أوتر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من أول اللَّيْل وأوسطه وَآخره، وَانْتَهَى وتره إِلَى السحر» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من هَذَا الْوَجْه، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لمُسلم، قَالَ عبد الْحق: وَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ.
وَلَفظ البُخَارِيّ: «كل اللَّيْل أوتر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَانْتَهَى وتره إِلَى السحر» .
وَلَفظ أبي دَاوُد: «انْتَهَى وتره (حِين مَاتَ إِلَى السحر» .
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كتب عليَّ الْوتر وَهُوَ لكم سنة، وَكتب عليّ (رَكعَتَا) الضُّحَى وهما لكم سنة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاث هن عليّ فَرَائض وَلكم تطوع: (النَّحْر)(4/325)
وَالْوتر (وركعتا) الضُّحَى» .
هَذَا لفظ أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ، وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ مثله إِلَّا أَنه قَالَ: «وركعتا الْفجْر» بدل «وركعتا الضُّحَى» .
وَرَوَاهُ ابْن عدي بِلَفْظ: «ثَلَاث عَلّي فَرِيضَة وَلكم تطوع: الْوتر، وَالضُّحَى، وركعتا الْفجْر» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» مستشهدًا بِهِ بِلَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، وَإِن ذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» لِأَن مَدَاره عَلَى أبي جناب الْكَلْبِيّ، واسْمه: يَحْيَى بن أبي حَيَّة (وَاسم أبي حَيَّة:) حَيّ، رَوَاهُ عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس.
وَأَبُو جناب كَانَ يَحْيَى الْقطَّان يَقُول: لَا أستحل أَن أروي عَنهُ. وَقَالَ أَبُو نعيم: كَانَ يُدَلس أَحَادِيث مَنَاكِير. وَفِي «علل أَحْمد» : كَانَ ثِقَة يُدَلس، وَعِنْده أَحَادِيث مَنَاكِير. مَعَ أَنه أخرج لَهُ فِي «مُسْنده» وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي: مَتْرُوك. وَقَالَ يَحْيَى وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا: ضَعِيف. وَقَالَ يَحْيَى مرّة: لَيْسَ بِهِ بَأْس إِلَّا أَنه كَانَ يُدَلس. وَقَالَ مرّة: صَدُوق. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَا يكْتب حَدِيثه، لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَاخْتلف كَلَام ابْن حبَان(4/326)
فِيهِ؛ فَذكره فِي «ثقاته» وَقَالَ: رَوَى [عَن] جمَاعَة من التَّابِعين، وَعنهُ أهل الْكُوفَة. وَذكره فِي «الضُّعَفَاء» ، وَقَالَ: كَانَ يُدَلس عَلَى الثِّقَات مَا سمع من الضُّعَفَاء، فالتزقت بِهِ الْمَنَاكِير الَّتِي يَرْوِيهَا عَن الْمَشَاهِير، فَحمل عَلَيْهِ أَحْمد بن حَنْبَل حملا شَدِيدا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : أَبُو جناب هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ فِي «سنَنه» : ضَعِيف، وَكَانَ يزِيد بن هَارُون يصدقهُ ويرميه بالتدليس. وَقَالَ ابْن الصّلاح: حَدِيث غير ثَابت، ضعفه الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : أَبُو جناب هَذَا لَا يُؤْخَذ من حَدِيثه إِلَّا مَا قَالَ فِيهِ: ثَنَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُدَلس، وَهُوَ أَكثر مَا عيب بِهِ، وَلم يقل فِي هَذَا الحَدِيث: نَا عِكْرِمَة. وَلَا ذكر مَا يدل عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : هَذَا حَدِيث ضَعِيف. ثمَّ نقل كَلَام يَحْيَى الْقطَّان وَالْفَلَّاس فِي تَضْعِيف أبي جناب. وَنقل النَّوَوِيّ فِي «الْخُلَاصَة» الْإِجْمَاع عَلَى (أَن) أَبَا جناب مُدَلّس وَقد عنعن فِي هَذَا الحَدِيث. فتلخص من كَلَامه هَذَا كُله أَن هَذَا الحَدِيث لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ. وَمن الْعَجَائِب أَن أَصْحَابنَا يثبتون كَون هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة من خَصَائِصه بِمثل هَذَا الحَدِيث، فَإِن قلت: لم ينْفَرد بِهِ؛ بل تَابعه عَلَيْهِ جَابر الْجعْفِيّ، رَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث إِسْرَائِيل عَنهُ، عَن عِكْرِمَة، عَن(4/327)
ابْن عَبَّاس رَفعه: «أمرت بركعتي الْفجْر وَالْوتر، وَلَيْسَ عَلَيْكُم» (وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد أَيْضا وَقَالَ: «وَلم يكْتب» ) بدل: «وَلَيْسَ عَلَيْكُم» وَرَوَاهُ عبد بن حميد فِي «مُسْنده» بِزِيَادَة «عَلَيْكُم» .
قلت: جَابر ضَعِيف كَمَا سلف.
وَرَوَاهُ وضاح بن يَحْيَى، عَن منْدَل، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «ثَلَاث عليّ فَرِيضَة وَهن لكم تطوع: الْوتر، وركعتا الْفجْر، وركعتا الضُّحَى» وَهُوَ ضَعِيف أَيْضا.
الوضاح قَالَ ابْن حبَان: لَا يحْتَج بِهِ، كَانَ يروي عَن الثِّقَات الْأَحَادِيث الَّتِي كَأَنَّهَا معمولة. ومندل ضعفه أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَلم يتْرك. لَا جرم قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. وَقَالَ فِي «الْإِعْلَام» : إِنَّه حَدِيث لَا يثبت. وَضَعفه فِي «تَحْقِيقه» أَيْضا.
عَلَى أَنه قد جَاءَ مَا يُعَارضهُ أَيْضا وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الله بن مُحَرر، عَن قَتَادَة، عَن أنس رَفعه: «أمرت بالوتر والأضحى وَلم يعزم عليّ» .(4/328)
وَرَوَاهُ ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» فَقَالَ: «وَلم يفْرض عليّ» لكنه حَدِيث ضَعِيف أَيْضا بِسَبَب عبد الله بن مُحَرر؛ فَإِنَّهُ مَتْرُوك بإجماعهم. قَالَ ابْن الْمُبَارك: لَو خيرت بَين أَن أَدخل الْجنَّة أَو أَلْقَاهُ لاخترت لقاءه ثمَّ أدخلها، فَلَمَّا رَأَيْته كَانَت بَعرَة أحب إليّ مِنْهُ. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ من خِيَار عباد الله إِلَّا أَنه (كَانَ) يكذب وَلَا يعلم، ويقلب الْأَخْبَار وَلَا يفهم.
وَأغْرب ابْن شاهين فَذكر فِي «ناسخه ومنسوخه» حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف من طَرِيق الوضاح، وَحَدِيث أنس هَذَا، ثمَّ قَالَ: الحَدِيث الأول أقرب إِلَى الصَّوَاب من الثَّانِي؛ لِأَن فِيهِ ابْن الْمُحَرر، وَلَيْسَ بمرضي عِنْدهم. قَالَ: وَلَا أعلم النَّاسِخ مِنْهُمَا لصَاحبه. قَالَ: وَلَكِن الَّذِي عِنْدِي يشبه أَن يكون حَدِيث عبد الله بن مُحَرر عَلَى مَا فِيهِ نَاسِخا للْأولِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يثبت أَن هَذِه الصَّلَوَات فرض. انْتَهَى مَا ذكره (وَلَا نَاسخ فِي ذَلِك) وَلَا مَنْسُوخ؛ لِأَن النّسخ إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ عِنْد تعَارض الْأَدِلَّة الصَّحِيحَة، وَأَيْنَ الصِّحَّة هُنَا فيهمَا؟ !
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا أوتر قنت فِي الرَّكْعَة الْأَخِيرَة» .(4/329)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عَمْرو بن شمر، عَن سَلام، عَن سُوَيْد بن غَفلَة قَالَ: «سَمِعت أَبَا بكر وَعمر وعليًّا وَعُثْمَان يَقُولُونَ: قنت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي آخر الْوتر وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك» وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف؛ عَمْرو بن شمر رَافِضِي مَتْرُوك، وَقَالَ السَّعْدِيّ: زائغ كَذَّاب. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَن الثِّقَات، لَا يحل كتب حَدِيثه إِلَّا عَلَى جِهَة التَّعَجُّب.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
عَن أبيّ بن كَعْب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقنت قبل الرُّكُوع» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» وَلَفظ أبي دَاوُد: «كَانَ يقنت - يَعْنِي: فِي الْوتر - قبل الرُّكُوع» وَلَفظ النَّسَائِيّ: «كَانَ يُوتر بِثَلَاث رَكْعَات ويقنت قبل الرُّكُوع» وَلَفظ ابْن مَاجَه «كَانَ يُوتر فيقنت قبل الرُّكُوع» .
هُوَ حَدِيث ضَعِيف، ضعفه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فأطنب، وَابْن الْمُنْذر وَابْن خُزَيْمَة وَغَيرهمَا من الْأَئِمَّة؛ كَمَا نَقله النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَلَا عِبْرَة بِذكر ابْن السكن لَهُ فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» - أَعنِي: الْقُنُوت فِي الْوتر - من غير(4/330)
رِوَايَة أبيّ، من (رِوَايَة) ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس مَرْفُوعا وضعفها كلهَا وَبَين سَبَب ضعفها.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي «مهذبه» : هَذَا حَدِيث غير ثَابت عِنْد أهل النَّقْل.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة ابْنه عبد الله: أخْتَار الْقُنُوت بعد الرُّكُوع؛ لِأَن كل شَيْء يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْقُنُوت إِنَّمَا هُوَ بعد الرُّكُوع، فَلم يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي قنوت الْوتر قبل أَو بعد شَيْء.
وَقَالَ أَيْضا فِيمَا رَوَاهُ الْخلال عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن الْقُنُوت (فِي) الْوتر؟ فَقَالَ: لَيْسَ يرْوَى فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْء، وَلَكِن عمر كَانَ يقنت السّنة إِلَى السّنة.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
حَدِيث قنوت الْحسن فِي الْوتر.
هَذَا الحَدِيث تقدم مَبْسُوطا فِي أثْنَاء بَاب صفة الصَّلَاة.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولَى من الْوتر ب (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (وَفِي الثَّانِيَة ب (قل يَا أَيهَا(4/331)
الْكَافِرُونَ (وَفِي الثَّالِثَة ب (قل هُوَ الله أحد (والمعوذتين» .
هَذَا الحَدِيث حسن، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة ابْن جريج عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِهِ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَإِنَّمَا لم يُصَحِّحهُ؛ لِأَن فِي إِسْنَاده خصيف بن عبد الرَّحْمَن الْجَزرِي؛ فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن عبد الْعَزِيز بن جريج قَالَ: «سَأَلنَا عَائِشَة ... » الحَدِيث، وَحفظ خصيف رَدِيء. فقد زعم قوم أَنه لم يسمع (مِنْهَا) قَالَه أَحْمد بن عبد الله بن صَالح الْكُوفِي، وَلَو جَاءَ قَوْله: «سَأَلنَا عَائِشَة» عَن غير خصيف مِمَّن يوثق بِهِ صَحَّ سَمَاعه مِنْهَا (فَأَنَّى لَهُ ذَلِك فَإِنَّهُ أَعنِي:) عبد الْعَزِيز - لَا يُتَابع عَلَى حَدِيثه كَمَا قَالَ البُخَارِيّ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرَوَاهُ يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، عَن عمْرَة عَن عَائِشَة مَرْفُوعا.
قلت: رَوَاهُ من هَذَا الْوَجْه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَأَبُو حَاتِم(4/332)
ابْن حبَان فِي (صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة سعيد بن عفير وَابْن أبي مَرْيَم، عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء.
ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر الدَّال عَلَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يفصل (بالتسليمة) بَين الرَّكْعَتَيْنِ وَالثَّالِثَة. ثمَّ أخرج من طَرِيق ابْن عفير إِلَيْهَا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُوتر بعدهمَا ب (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (و (قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ (وَيقْرَأ فِي الْوتر ب (قل هُوَ الله أحد (و (قل أعوذ بِرَبّ الفلق (و (قل أعوذ بِرَبّ النَّاس (.
وَلما أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث سعيد بن عفير، عَن يَحْيَى بِهِ، وَمن حَدِيث سعيد بن أبي مَرْيَم عَن يَحْيَى بِهِ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَسَعِيد بن عفير إِمَام أهل مصر بِلَا مدافعة، وَقد (أَتَى بِالْحَدِيثِ مُفَسرًا دَالا عَلَى أَن الرَّكْعَة الَّتِي هِيَ الْوتر ثَانِيَة غير الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قبلهَا هَذَا مَا ذكره) الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي بَاب صَلَاة الْوتر، وَقَالَ فِي كتاب التَّفْسِير مِنْهُ فِي تَفْسِير سُورَة «سبح» بعد أَن أخرجه من حَدِيث يَحْيَى بن أَيُّوب أَيْضا بِاللَّفْظِ السالف -: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ هَكَذَا؛ إِنَّمَا أخرجه البُخَارِيّ وَحده عَن ابْن أبي مَرْيَم.(4/333)
قلت: لم يُخرجهُ البُخَارِيّ من هَذِه الطَّرِيق وَلَا من غَيره.
وَقَالَ الْحَاكِم: وَإِنَّمَا تعرف هَذِه الزِّيَادَة من حَدِيث يَحْيَى بن أَيُّوب فَقَط. وَقَالَ: وَقد رُوِيَ بِإِسْنَاد آخر صَحِيح. فَذكره من حَدِيث ابْن جريج كَمَا سلف أَولا، ثمَّ قَالَ: قد أَتَى [بهَا] إِمَام أهل مصر فِي الحَدِيث وَالرِّوَايَة (سعيد) بن عفير، عَن يَحْيَى بن أَيُّوب بِهَذَا الحَدِيث، وطلبته وَقت إملائي كتاب الْوتر فَلم أَجِدهُ، ثمَّ وجدته بعد. فَذكره بِإِسْنَادِهِ السالف.
قلت: قد وجده هُنَاكَ وَأخرجه كَمَا سقناه عَنهُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الْعقيلِيّ: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث صَالح. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: إِن حَدِيث أُبيّ وَابْن عَبَّاس - يَعْنِي: بِإِسْقَاط المعوذتين - أصح مِنْهُ وَأولَى. قَالَ: وَهُوَ شَبيه بالمرسل عَن عَائِشَة؛ للشَّكّ فِي لِقَائِه عَائِشَة - يَعْنِي: (ابْن) جريج.
وَتَبعهُ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» فَقَالَ: «حَدِيث أبيّ أصح إِسْنَادًا من حَدِيث عَائِشَة» . قَالَ ابْن الْقطَّان وَهُوَ كَمَا ذكر. وَأما ابْن الْجَوْزِيّ لما ذكره فِي «تَحْقِيقه» من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث يَحْيَى(4/334)
بن أَيُّوب أتبعه بِأَن قَالَ: وَقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن سَلمَة. قَالَ: والطريقان لَا يصحان؛ (فَإِن) يَحْيَى بن أَيُّوب لَا يحْتَج بِهِ (قَالَه) أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: وَمُحَمّد بن سَلمَة ضَعِيف. وَقد أنكر يَحْيَى بن معِين وَأحمد زِيَادَة المعوذتين. هَذَا مَا ذكره، فَأَما تَضْعِيف الحَدِيث بِيَحْيَى فَهُوَ مَسْبُوق بِهِ، قَالَ الْأَثْرَم: سَمِعت أَبَا عبد الله يسْأَل عَن يَحْيَى بن أَيُّوب الْمصْرِيّ، فَقَالَ: كَانَ يحدث من حفظه، وَكَانَ لَا بَأْس بِهِ، وَكَانَ كثير الْوَهم فِي حفظه. فَذكرت لَهُ من حَدِيثه هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: هَا من يحْتَمل هَذَا؟ ! وَقَالَ مرّة: كم قد رَوَى هَذَا (الحَدِيث) عَن عَائِشَة من النَّاس لَيْسَ فِيهِ هَذَا. وَأنكر حَدِيث يَحْيَى خَاصَّة.
قلت: لم ينْفَرد بِهِ عَنْهَا؛ فقد أخرجه هُوَ فِي «مُسْنده» من حَدِيث خصيف، عَن عبد الْعَزِيز عَنْهَا. ثمَّ يَحْيَى بن أَيُّوب من رجال الصَّحِيحَيْنِ وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَقد صحّح حَدِيثه (هَذَا) ابْن حبَان وَالْحَاكِم - كَمَا سلف.
وَأما (قَول) ابْن الْجَوْزِيّ: وَقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن سَلمَة فَلم أره فِي (سنَنه) . وَلَعَلَّه أَرَادَ التِّرْمِذِيّ، فَسبق الْقَلَم (إِلَى الدَّارَقُطْنِيّ، وَأما تَضْعِيف مُحَمَّد بن سَلمَة فغلط؛ فقد صدقه أَحْمد وَغَيره، وَأخرج لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» وَحسن التِّرْمِذِيّ حَدِيثه كَمَا مَضَى، وَمِمَّا يتَبَيَّن بِهِ غلطه أَنه فِي كتاب) «الضُّعَفَاء» (ذكر) مُحَمَّد(4/335)
بن سَلمَة الْحَضْرَمِيّ و (الْبنانِيّ) وَضعفهمَا، ثمَّ قَالَ: وَجُمْلَة من (يَأْتِي) فِي الحَدِيث من اسْمه مُحَمَّد بن سَلمَة أَرْبَعَة عشر رجلا لَا يعرف قدحًا فِي غير هذَيْن. انْتَهَى.
وَمُحَمّد بن سَلمَة هَذَا لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ فَتنبه لذَلِك.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: هَذَا الحَدِيث مَعَ شهرته أوردهُ الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» بِعِبَارَة لَا تلِيق بِهِ؛ فَقَالَ فِي «وسيطه» : قيل إِن عَائِشَة رَوَت ذَلِك. وَعبارَة شَيْخه - إِمَام الْحَرَمَيْنِ -: رَأَيْت فِي كتاب مُعْتَمد أَن عَائِشَة رَوَت ذَلِكَ. وَلَا يخْفَى مَا فِيهَا من مثله.
ثَانِيهَا: أورد ابْن السكن فِي «صحاحه» من حَدِيث عبد الله بن سرجس مثل حَدِيث عَائِشَة، وَكَأَنَّهُ غَرِيب (نعم) هُوَ (يُروى) من حَدِيث أبيّ بن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَعبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى، عَن أَبِيه، لَكِن بِدُونِ ذكر المعوذتين.
أما حَدِيث أبيّ (فَرَوَاهُ) أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ(4/336)
وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» (و) أَبُو حَاتِم بن حبَان وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِلَفْظ أَحْمد «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يقْرَأ فِي الْوتر: (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (و (قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ (و (قل هُوَ الله أحد (فَإِذا سلم قَالَ: سُبْحَانَ الْملك القدوس - ثَلَاث (مرار) » .
وَلَفظ البَاقِينَ خلا النَّسَائِيّ: كَانَ يُوتر ب (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى) و (قل للَّذين كفرُوا) و «الله الْوَاحِد الصَّمد» زَاد ابْن حبَان مَا ذكره أَحْمد آخرا.
وَلَفظ النَّسَائِيّ: «كَانَ يُوتر بِثَلَاث رَكْعَات، يقْرَأ فِي الأولَى ب (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (وَفِي (الثَّانِيَة) ب (قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ (وَفِي الثَّالِثَة: (قل هُوَ الله أحد (ويقنت قبل الرُّكُوع» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كَانَ يُوتر ب (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (و (قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ (و (قل هُوَ الله أحد (و (كَانَ يَقُول: (سُبْحَانَ الْملك) القدوس - ثَلَاثًا - وَيرْفَع بالثالثة» .(4/337)
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه كَذَلِك، وَلم يذكر) : «وَكَانَ يَقُول: سُبْحَانَ الْملك القدوس ... » (إِلَخ) .
وَلما (خرجه) الْحَاكِم فِي كتاب التَّفْسِير من «مُسْتَدْركه» (قَالَ) : هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَفِيه نظر؛ فَفِي إِسْنَاده من طَرِيقه مُحَمَّد بن أنس (الرَّازِيّ) وَقد تفرد بمناكير، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح (عَنهُ) «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يقْرَأ فِي الْوتر ب (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (و (قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ (و (قل هُوَ الله أحد «فِي رَكْعَة رَكْعَة» .
وَلَفظ أَحْمد: «كَانَ يُوتر بِثَلَاث ب (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى) و (قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ) و (قل هُوَ الله أحد) » .
وَأما حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى، عَن أَبِيه؛ فَرَوَاهُ أَحْمد(4/338)
وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد جيد بِلَفْظ: «كَانَ يقْرَأ فِي الْوتر ب (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (و (قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ (و (قل هُوَ الله أحد (زَاد أَحْمد: «وَإِذا أَرَادَ أَن ينْصَرف من الْوتر قَالَ: سُبْحَانَ الْملك القدوس - ثَلَاث مَرَّات - ثمَّ يرفع صَوته فِي الثَّالِثَة» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن ذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس: وَفِي الْبَاب عَن عليّ وَعَائِشَة وَعبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى (عَن) أبيّ بن كَعْب، وَرُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَقَالَ (المعمري) (أَيْضا) : وَرَوَاهُ أَيْضا عمرَان بن حُصَيْن وَابْن مَسْعُود وَأَبُو أُمَامَة وَجَابِر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رُبمَا استسقى وَرُبمَا ترك، وَلم يتْرك الصَّلَاة عِنْد الخسوف بِحَال» .
أما كَونه عَلَيْهِ السَّلَام استسقى فَصَحِيح مَشْهُور كَمَا ستعلمه فِي بَابه، وَأما كَونه تَركه؛ فَلَعَلَّ مُرَاده ترك الاسْتِسْقَاء بِالصَّلَاةِ واستسقى بِالدُّعَاءِ، لَا أَنه ترك مُطلقًا، وَأما كَونه لم يتْرك الصَّلَاة عِنْد الخسوف بِحَال فَهُوَ الظَّاهِر من استقراء أَفعاله.(4/339)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يداوم عَلَى التَّرَاوِيح، ودوام عَلَى السّنَن الرَّاتِبَة» .
أما عدم مداومته عَلَى التَّرَاوِيح فَسَيَأْتِي فِي الْبَاب من حَدِيث عَائِشَة؛ حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ، وَأما مداومته عَلَى السّنَن الرَّاتِبَة فَهُوَ الظَّاهِر من حَاله أَيْضا.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أَوْصَانِي خليلي (بِثَلَاث لَا أدعهن لشَيْء (أَوْصَانِي) بصيام ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، وَلَا أَنَام (إِلَّا) عَلَى وتر، وسبحة الضُّحَى فِي الْحَضَر وَالسّفر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «أَوْصَانِي خليلي (بِثَلَاث لن أدعهن مَا عِشْت: بصيام ثَلَاثَة أَيَّام (من) كل شهر، وَصَلَاة الضُّحَى، وَأَن لَا أَنَام إِلَّا عَلَى (وتر) » .
رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالْبَزَّار بِلَفْظ الرَّافِعِيّ.
قَالَ الْبَزَّار: وَإِسْنَاده حسن.(4/340)
قلت: لَكِن فِي إِسْنَاده: أَبُو إِدْرِيس (السكونِي) وَلَا يعرف، رَوَى عَنهُ غير صَفْوَان بن عَمْرو؛ فحاله (مَجْهُولَة) قَالَه ابْن الْقطَّان قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ عِنْده حسن - أَي: عِنْد الْبَزَّار (بِاعْتِبَار الْخلاف فِي قبُول المساتير؛ للْخلاف) فِي أَصلٍ قَبْلَه وَهُوَ: من علم إِسْلَامه هَل تقبل رِوَايَته وشهادته مَا لم يظْهر من حَاله مَا يمْنَع من ذَلِك؟ (أَو) يَنْبَغِي وَرَاء الْإِسْلَام مزِيد لَهُ هُوَ الْمعبر عَنهُ بِالْعَدَالَةِ؟
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (أكبر معاجمه» من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز، عَن (أبي الزِّنْبَاع) عَن أبي الدَّرْدَاء: «أَوْصَانِي خليلي بِصَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، وَالْوتر قبل النّوم» .
قَالَ مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز: وَلَا أَدْرِي أذكر (الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة) أم (رَكْعَتي الْفجْر) . وَجزم فِي مَوضِع آخر فَقَالَ: وركعتي الْفجْر.
فَائِدَة: رُوِيَ (مثل) حَدِيث أبي الدَّرْدَاء هَذَا غَيره من الصَّحَابَة: رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أَوْصَانِي خليلي أَبُو الْقَاسِم (بِثَلَاث لَا أدعهن(4/341)
حَتَّى أَمُوت: صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، وركعتي الضُّحَى، وَأَن لَا أَنَام إِلَّا عَلَى وتر» وَفِي رِوَايَة (للْبُخَارِيّ) «ونوم عَلَى وتر» وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد بدل: «الضُّحَى» «وَالْغسْل يَوْم الْجُمُعَة» وَفِي رِوَايَة لأبي أَحْمد الْحَاكِم فِي «كناه» وَلأبي بكر الْخَطِيب فِي «تلخيصه» بعد قَوْله: «وَأَصُوم من كل شهر ثَلَاثًا: (ثَلَاث) عشر وَأَرْبع عشر وَخمْس عشر وهُنَّ الْبيض» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «أَوْصَانِي خليلى بِثَلَاث لَا أدعهن [فِي] سفر وَلَا حضر» فَذَكرهنَّ. وَرَوَاهُ (أَبُو ذرٍّ) أَيْضا: «أَوْصَانِي (حبي) بِثَلَاث لَا أدعهن: بِصَلَاة الضُّحَى (وَالْوتر) قبل النّوم، وبصيام ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر» . (رَوَاهُ) أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث عَطاء بن يسَار عَنهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أم هَانِئ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى يَوْم الْفَتْح سبْحَة الضُّحَى ثَمَان رَكْعَات؛ يسلم من كل رَكْعَتَيْنِ» .(4/342)
هَذَا الحَدِيث أَصله فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بعضه وَفِي آخرهَا: « (وَصَلى) ثَمَان رَكْعَات ملتحفًا فِي ثوب وَاحِد وَذَلِكَ ضحى» وَفِي رِوَايَة لمُسلم: « (صَلَّى) ثَمَان رَكْعَات سبْحَة الضُّحَى» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِاللَّفْظِ الَّذِي سقناه أَولا بإسنادٍ عَلَى شَرط البُخَارِيّ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة أم هَانِئ بِلَفْظ: «فَصَلى صَلَاة الضُّحَى ثَمَان رَكْعَات» .
(وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : «فَصَلى الضُّحَى ثَمَان رَكْعَات» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» لَكِن بِلَفْظ: « (فَصَلى) الضُّحَى أَربع رَكْعَات» وَفِي رِوَايَة لَهُ: « (ثمَّ صَلَّى ثَمَان رَكْعَات) لم يصلهن قبل يَوْمئِذٍ وَلَا بعده» .
وَاسم أم هَانِئ (فَاخِتَة) - عَلَى الْمَشْهُور - وَسَتَأْتِي بَقِيَّة الْأَقْوَال(4/343)
فِيهَا فِي بَاب الْأَيْمَان - إِن شَاءَ الله.
وهانئ بهمز آخِره (والسبحة - بِضَم السِّين -: الصَّلَاة) .
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأكْثر الضُّحَى: ثنتا عشرَة (رَكْعَة) ذكره الرَّوْيَانِيّ، وَورد فِي الْأَخْبَار.
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن صليت الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ لم تكْتب من الغافلين، وَإِن صليتها أَرْبعا كتبت من الْمُحْسِنِينَ، وَإِن صليتها ستًّا كتبت من القانتين، وَإِن صليتها ثمانيًا كتبت من الفائزين، وَإِن صليتها عشرا لم يكْتب لَك ذَلِك الْيَوْم ذَنْب، وَإِن صليتها ثِنْتَيْ عشرَة رَكْعَة بنى الله لَك بَيْتا فِي الْجنَّة» .
ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِي إِسْنَاده نظر.
(وَذكره) ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» بِدُونِ ذكر (الضُّحَى) ، وَهَذَا لَفظه عَن ابْن عمر قَالَ: «قلت لأبي ذَر: يَا عماه، أوصني. قَالَ: سَأَلتنِي كَمَا سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِن صليتَ رَكْعَتَيْنِ لم تكْتب من الغافلين، وَإِن صليت أَرْبعا كتبت من العابدين، وَإِن صليت ستًّا لم يلحقك ذَنْب، وَإِن صليت ثمانيًا كتبت من القانتين، وَإِن صليت [اثْنَتَيْ] عشرَة رَكْعَة بنى الله لَك بَيْتا فِي الْجنَّة، وَمَا من يَوْم وَلَا (لَيْلَة) وَلَا سَاعَة إِلَّا وَللَّه فِيهَا صَدَقَة يمنّ بهَا عَلَى من يَشَاء من عباده،(4/344)
وَمَا منّ عَلَى عبد بِمثل أَن يلهمه ذكره» .
وَفِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء بِمثل حَدِيث أبي ذرٍّ كَمَا سَاقه الْبَيْهَقِيّ، وَفِيه مُوسَى بن يَعْقُوب الزَّمْعي، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» و «سنَن ابْن مَاجَه» عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عشرَة (رَكْعَة) بنى الله لَهُ قصرًا من ذهب فِي الْجنَّة» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث غَرِيب.
ثمَّ اعْلَم أَن مَا ذكره الرَّافِعِيّ عَن الرَّوْيَانِيّ وَأقرهُ فِي أَن أَكثر الضُّحَى مَا ذكره: خَالفه فِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَقَالُوا: أَكْثَرهَا ثَمَان رَكْعَات، كَمَا نَقله عَنْهُم النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَصَححهُ فِي «تحفته» وَإِن كَانَ فِي «روضته» و «منهاجه» تبع الرَّافِعِيّ.
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فَلَا يجلس حَتَّى يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَمَا سلف فِي بَاب مَوَاقِيت الصَّلَاة، فِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ مِنْهُ.(4/345)
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ (أبي) شيبَة: «أعْطوا الْمجَالِس حَقّهَا. قيل: وَمَا حَقّهَا؟ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ قبل أَن تجْلِس» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي «صَحِيحه» : «إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فليركع رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يجلس أَو [يستخبر] » .
وَفِي رِوَايَة (لِلْحَارِثِ) بن أبي أُسَامَة: «لَا يجلس وَلَا [يستخبر] حَتَّى يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» .
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «لم يكن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى شَيْء من النَّوَافِل أَشد تعاهدًا مِنْهُ عَلَى (رَكْعَتي) الْفجْر» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ بالسياقة الْمَذْكُورَة.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (رَكعَتَا)(4/346)
الْفجْر خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ كَذَلِك.
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من لم يُوتر فَلَيْسَ منا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من رِوَايَة عبيد الله بن عبد الله الْعَتكِي، عَن عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْوتر حق؛ فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا» هَذَا لفظ الْحَاكِم.
وَلَفظ أَحْمد: «الْوتر حق؛ فَمن لم يُوتر (فَلَيْسَ منا) - قَالَهَا ثَلَاثًا» .
وَلَفظ أبي دَاوُد: «الْوتر حق؛ فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا - وَكرر هَذَا اللَّفْظ ثَلَاثًا» .
وَعبيد الله بن عبد الله الْعَتكِي (هَذَا قَالَ البُخَارِيّ:) عِنْده مَنَاكِير. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: (ينْفَرد) عَن الثِّقَات بالأشياء المقلوبات.
وَوَثَّقَهُ يَحْيَى. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: صَالح (الحَدِيث) وَأنكر(4/347)
عَلَى البُخَارِيّ إِدْخَاله فِي كتاب «الضُّعَفَاء» وَقَالَ: يحول. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ عِنْدِي لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : هُوَ (مروزي) ثِقَة يجمع حَدِيثه.
وَاخْتلف الْحفاظ فِي تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث بِحَسب الْكَلَام فِي عبيد الله (الْعَتكِي) هَذَا فَقَالَ الْحَاكِم - بعد أَن أخرجه - فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث صَحِيح (وَلم يخرجَاهُ) .
وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» : إِن قَالُوا: الْعَتكِي (هَذَا) ضعفه البُخَارِيّ، قُلْنَا: وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين.
وَظَاهر هَذَا مِنْهُ تَصْحِيحه، وَكَذَا ظَاهر إِيرَاد عبد الْحق؛ فَإِنَّهُ لما ذكر الحَدِيث قَالَ: فِي إِسْنَاده عبيد الله الْعَتكِي (وَثَّقَهُ) يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم: صَالح الحَدِيث.
وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فضعفه فِي «تَحْقِيقه» و «علله» وَقَالَ: إِنَّه لَا يَصح. وَضَعفه أَيْضا النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث فِي إِسْنَاده عبيد الله (الْعَتكِي) وَالظَّاهِر(4/348)
أَنه مُنْفَرد بِهِ، وَقد ضعفه البُخَارِيّ وَغَيره، وَوَثَّقَهُ (يَحْيَى) بن معِين وَغَيره.
قلت: وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق آخر من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة.
قَالَ أَحْمد فِي «مُسْنده» : نَا وَكِيع، حَدثنِي خَلِيل بن مرّة، عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة، عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: «من لم يُوتر فَلَيْسَ منا» .
وَهَذَا ضَعِيف ومنقطع؛ فَإِن الْخَلِيل بن مرّة وهاه يَحْيَى وَالنَّسَائِيّ. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَمُعَاوِيَة بن قُرَّة لم يسمع من أبي هُرَيْرَة وَلَا لقِيه، كَمَا قَالَه الإِمَام أَحْمد.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى بِالنَّاسِ عشْرين رَكْعَة لَيْلَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَة الثَّالِثَة اجْتمع النَّاس فَلم يخرج إِلَيْهِم، ثمَّ قَالَ من الْغَد: خشيت أَن (تفرض) عَلَيْكُم فَلَا (تطيقونها) » .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث عَائِشَة بِدُونِ تعْيين عدد الرَّكْعَات، وَإِنَّمَا فِيهِ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى فِي الْمَسْجِد ذَات لَيْلَة، فَصَلى بِصَلَاتِهِ نَاس، ثمَّ صَلَّى من الْقَابِلَة (فَكثر) النَّاس، ثمَّ اجْتَمعُوا من اللَّيْلَة الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة فَلم يخرج إِلَيْهِم، فَلَمَّا أصبح قَالَ: قد رَأَيْت الَّذِي صَنَعْتُم فَلم(4/349)
يَمْنعنِي من الْخُرُوج إِلَيْكُم إِلَّا أَنِّي خشيت أَن تفرض عَلَيْكُم - وَذَلِكَ فِي رَمَضَان» وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فِي الصَّحِيح: «فَلَمَّا كَانَ من اللَّيْلَة الرَّابِعَة عجز الْمَسْجِد عَن أَهله، فَلم يخرج إِلَيْهِم [رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَطَفِقَ رجال مِنْهُم يَقُولُونَ: الصَّلَاة. فَلم يخرج إِلَيْهِم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] حَتَّى خرج لصَلَاة الْفجْر» وَذكر نَحوه. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فِيهِ: «خشيت أَن تفرض عَلَيْكُم صَلَاة اللَّيْل فتعجزوا عَنْهَا» زَاد البُخَارِيّ فِي بعض طرقه: «فَتوفي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالْأَمر عَلَى ذَلِك» .
وَأما تعْيين عدد الرَّكْعَات فَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث أبي شيبَة عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي فِي شهر رَمَضَان، فِي غير جمَاعَة بِعشْرين رَكْعَة وَالْوتر» .
ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ (أَبُو) شيبَة إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَهُوَ ضَعِيف.
قلت: بِإِجْمَاع ضعفه (ابْن معِين وَأَبُو دَاوُد) وَقَالَ خَ: سكتوا عَنهُ. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: مَتْرُوك.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عمر «أَن النَّاس كَانُوا يقومُونَ عَلَى (عَهده) بِعشْرين رَكْعَة» .(4/350)
وَرَوَى هُوَ وَابْن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» مثله عَن عَلّي.
ورُوِيَ عَن يزِيد بن رُومَان قَالَ: «كَانَ النَّاس يقومُونَ فِي زمن عمر بن الْخطاب بِثَلَاث وَعشْرين رَكْعَة» .
رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» (وَالْبَيْهَقِيّ) لكنه مُرْسل؛ فَإِن يزِيد بن رُومَان لم يدْرك عمر.
وَفِي رِوَايَة لَهُ من طَرِيق آخر «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَمر أبي بن كَعْب وتميمًا أَن يقوما بِإِحْدَى عشرَة» .
(قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يجمع بَين الرِّوَايَات بِأَنَّهُم كَانُوا يقومُونَ بِإِحْدَى عشرَة) ثمَّ قَامُوا بِعشْرين وأوتروا بِثَلَاث.
وَأما ابْن عبد الْبر فَجعل رِوَايَة إِحْدَى (عشرَة) وهما، فَقَالَ: لَا أعلم أحدا قَالَ فِيهِ إِحْدَى عشرَة غير مَالك.
قلت: رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، عَن عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي، عَن مُحَمَّد بن يُوسُف - شيخ مَالك - فقد (تظافر) مَالك وَعبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي عَلَى ذَلِك.
وَفِي «صَحِيح أبي حَاتِم بن حبَان» من حَدِيث جَابر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام(4/351)
صَلَّى بهم فِي الأول ثَمَان رَكْعَات ثمَّ أوتر، وَلم يخرج لَهُم فِي الثَّانِيَة، وَقَالَ: إِنِّي خشيت - أَو كرهت - أَن (يكْتب) عَلَيْكُم الْوتر» .
قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان: هَذَا وَخبر عَائِشَة لَفْظهمَا مُخْتَلف، ومعناهما متباين؛ إِذْ هما فِي حالتين فِي شَهْري (رَمَضَان) لَا فِي حَالَة (وَاحِدَة) فِي شهر وَاحِد.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج ليَالِي من رَمَضَان، وَصَلى فِي الْمَسْجِد وَلم يخرج بَاقِي الشَّهْر، وَقَالَ: صلوا فِي بُيُوتكُمْ؛ فَإِن أفضل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إِلَّا الْمَكْتُوبَة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ (أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا) من حَدِيث زيد بن ثَابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «احتجر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حجيرة بخصفة - أَو حَصِير - قَالَ عَفَّان (أحد رُوَاته) : - فِي الْمَسْجِد - وَقَالَ عبد الْأَعْلَى: فِي رَمَضَان - فَخرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَصَلى فِيهَا. قَالَ: (فتتبع) إِلَيْهِ رجال وَجَاءُوا يصلونَ (بِصَلَاتِهِ) قَالَ: ثمَّ جَاءُوا إِلَيْهِ فَحَضَرُوا وَأَبْطَأ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَنْهُم فَلم يخرج إِلَيْهِم، فَرفعُوا أَصْوَاتهم وحصبوا الْبَاب، فَخرج(4/352)
(إِلَيْهِم) رَسُول (مغضبًا فَقَالَ (لَهُم) : مَا زَالَ بكم صنيعكم حَتَّى ظَنَنْت أَنه سيكتب عَلَيْكُم، فَعَلَيْكُم بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتكُمْ؛ فَإِن خير صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إِلَّا (الصَّلَاة) الْمَكْتُوبَة» .
وَفِي حَدِيث عَفَّان: «وَلَو كتب عَلَيْكُم مَا قُمْتُم بِهِ» وَفِيه: «فَإِن أفضل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إِلَّا الْمَكْتُوبَة» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد بِإِسْنَاد كل رِجَاله فِي «الصَّحِيحَيْنِ» إِلَّا أَحْمد بن صَالح؛ فَمن رجال البُخَارِيّ، وَإِلَّا إِبْرَاهِيم بن أبي النَّضر؛ فَمن رجال أبي دَاوُد وَوَثَّقَهُ ابْن سعد - عَن (زيد) بن ثَابت مَرْفُوعا: «صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته أفضل من صلَاته فِي مَسْجِدي (هَذَا) إِلَّا الْمَكْتُوبَة» .
وَهِي رِوَايَة حَسَنَة، وَفَائِدَة مهمة.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْأَرْبَعين
(الْخَبَر) الْمَشْهُور أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الصَّلَاة خير مَوْضُوع؛ فَمن شَاءَ اسْتَقل و (من) شَاءَ استكثر» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طَرِيق أبي ذرٍّ وَأبي أُمَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
أما الأول: فَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث أبي عَمْرو(4/353)
الدِّمَشْقِي، عَن عبيد بن (الخشخاش) عَن أبي ذَر قَالَ: «أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ فِي الْمَسْجِد فَجَلَست ... » فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: «فَقلت: يَا رَسُول الله، الصَّلَاة؟ قَالَ: خير مَوْضُوع، من شَاءَ أقل وَمن شَاءَ أَكثر» .
وَكَذَا رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» وَأَبُو عَمْرو هَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَقه: إِنَّه مَتْرُوك.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «الْأَحَادِيث الطوَال» عَن بكر بن سهل الدمياطي، نَا أَبُو صَالح - كَاتب اللَّيْث - حَدثنِي مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن أبي عبد الْملك مُحَمَّد بن أَيُّوب، عَن ابْن عَائِذ، عَن أبي ذَر ... الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، مَا الصَّلَاة؟ قَالَ: خير مَوْضُوع؛ فَمن شَاءَ استكثر، وَمن شَاءَ اسْتَقل» .
وَبكر هَذَا ضعفه النَّسَائِيّ. وَأَبُو صَالح من رجال البُخَارِيّ. وَمُعَاوِيَة بن صَالح من رجال مُسلم، وَقد تكلم فيهمَا. وَأَبُو عبد الْملك وَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَرَوَاهُ أَيْضا فِي الْكتاب الْمَذْكُور من حَدِيث مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، نَا يَحْيَى بن سعيد السَّعْدِيّ، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن عبيد بن عُمَيْر، عَن أبي ذَر بِهِ.
ومُوسَى هَذَا لَا يحضرني حَاله.(4/354)
وَرَوَاهُ (أَبُو) حَاتِم بن حبَان فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» من حَدِيث الْحسن بن إِبْرَاهِيم البياضي، عَن يَحْيَى بن سعيد بِهِ.
وَأَبُو نعيم فِي «الْحِلْية» من حَدِيث مُحَمَّد بن مَرْزُوق، عَن يَحْيَى بِهِ.
وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة عِيسَى (من كتاب الْفَضَائِل من حَدِيث الْحسن بن عَرَفَة، عَن يَحْيَى بِلَفْظ أَحْمد وَالْبَزَّار، وَلم (يعقب) الْحَاكِم بِشَيْء.
وَأعله ابْن حبَان فِي «ضُعَفَائِهِ» بِيَحْيَى هَذَا، وَقَالَ: إِنَّه يروي عَن ابْن جريج (المقلوبات) وَعَن غَيره من الثِّقَات الملزقات (وَلَا) يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا انْفَرد. قَالَ: وَلَيْسَ (هَذَا) من حَدِيث ابْن جريج (وَلَا) من حَدِيث عَطاء وَلَا من حَدِيث ابْن عُمَيْر، وأشبه مَا فِيهِ رِوَايَة أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ، عَن أبي ذَر (وَهَذِه) الرِّوَايَة أخرجهَا فِي(4/355)
«صَحِيحه» فَقَالَ: أَنا ابْن قُتَيْبَة وَغَيره، نَا إِبْرَاهِيم بن هِشَام (بن يَحْيَى) الغساني نَا أبي (عَن) جدي، عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ، عَن أبي ذَر قَالَ: «دخلت الْمَسْجِد ... » الحَدِيث، وَلَفظه: «الصَّلَاة خير مَوْضُوع؛ استكثر أَو أقل» .
وَإِبْرَاهِيم هَذَا (قَالَ) فِيهِ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: إِنَّه لم يطْلب الْعلم، وَإنَّهُ كَذَّاب. وَقَالَ عَلّي بن الْجُنَيْد: صدق أَبُو حَاتِم، يَنْبَغِي أَن لَا يحدث عَنهُ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة أَيْضا: كَذَّاب. نَقله ابْن الْجَوْزِيّ.
وَأما ابْن حبَان فَذكره فِي «ثقاته» وَأخرج حَدِيثه فِي «صَحِيحه» كَمَا ترَى. وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يرو هَذَا عَن يَحْيَى إِلَّا وَلَده وهم ثِقَات. وَقَالَ (أَبُو) نعيم فِي «الْحِلْية» : وَرَوَاهُ الْمُخْتَار بن غَسَّان، عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن أبي إِدْرِيس.
وَأما الطَّرِيق الثَّانِي: فَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» أَيْضا من حَدِيث معَان بن رِفَاعَة، عَن عَلّي بن (يزِيد) عَن الْقَاسِم، بن أبي أُمَامَة قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْمَسْجِد ... » الحَدِيث. إِلَى أَن قَالَ: «قَالَ أَبُو ذَر: قلت: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت الصَّلَاة مَاذَا هِيَ؟ قَالَ: خير مَوْضُوع؛ فَمن شَاءَ اسْتَقل، وَمن شَاءَ استكثر» .(4/356)
وَهَذَا (إِسْنَاده واه) معَان ضعفه ابْن معِين وَغَيره، وَعلي بن يزِيد مَتْرُوك مُنكر الحَدِيث، وَالقَاسِم مُخْتَلف فِيهِ؛ قَالَ أَحْمد: حدث عَنهُ عَلّي بن يزِيد بأعاجيب، مَا أَرَاهَا إِلَّا من قبل الْقَاسِم. وَضَعفه أَيْضا وَوَثَّقَهُ ابْن معِين والجوزجاني وَالتِّرْمِذِيّ. قَالَ أَبُو نعيم: وَرَوَاهُ عَلّي بن يزِيد، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة، عَن أبي ذَر.
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ فِي كتاب «مَا صحفه الروَاة» : قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «خير مَوْضُوع» يرْوَى عَلَى وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن (يكون) (مَوْضُوعا) نعتًا لما قبله، يُرِيد أَنَّهَا خير حَاضر، فَاسْتَكْثر مِنْهُ.
وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون الْخَيْر مُضَافا إِلَى الْمَوْضُوع، يُرِيد أَنَّهَا أفضل مَا وضع من الطَّاعَات وَشرع من الْعِبَادَات.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْأَرْبَعين
عَن ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى» .
هَذَا الحَدِيث أَصله فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِدُونِ ذكر «النَّهَار»(4/357)
(وَرَوَاهُ) بِذكرِهِ: أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بأسانيد صَحِيحَة.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: اخْتلف أَصْحَاب شُعْبَة فِي هَذَا الحَدِيث، فرفعه بَعضهم وَوَقفه بَعضهم. قَالَ: وَالصَّحِيح (مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر) أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى» .
وَرَوَى الثِّقَات عَن ابْن عمر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَلم) يذكرُوا فِيهِ صَلَاة النَّهَار.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: (هَذِه) (سنة) تفرد بهَا أهل مَكَّة. وَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا الحَدِيث عِنْدِي خطأ يَعْنِي الَّذِي فِيهِ ذكر «النَّهَار» .
وَكَذَا قَالَ الْحَاكِم فِي «عُلُوم الحَدِيث» : هَذَا (حَدِيث) لَيْسَ فِي إِسْنَاده إِلَّا ثِقَة ثَبت، وَذكر النَّهَار فِيهِ وهم. (وَكَذَا) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِن ذكر «النَّهَار» وهم.(4/358)
وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» : زَاد الْأَزْدِيّ عَلّي بن عبد الله الْبَارِقي - أحد رجال مُسلم - ذكر «النَّهَار» ، وَلم يقلهُ أحد عَن ابْن عمر غَيره، وأنكروه عَلَيْهِ.
وَكَانَ ابْن معِين يضعف حَدِيث الْأَزْدِيّ وَلَا يحْتَج بِهِ وَيَقُول: إِن نَافِعًا وَعبد الله بن دِينَار وَجَمَاعَة رَوَوْهُ عَن ابْن عمر، وَلم يذكرُوا فِيهِ «النَّهَار» ثمَّ (ذكر سَنَده) عَن ابْن معِين أَنه قَالَ: «صَلَاة النَّهَار أَربع لَا يفصل بَينهُنَّ» . (فَقيل) لَهُ: ابْن حَنْبَل يَقُول: صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى (مثنى) فَقَالَ: بِأَيّ حَدِيث؟ فَقيل لَهُ بِحَدِيث الْأَزْدِيّ عَن ابْن عمر. (قَالَ) : وَمن الْأَزْدِيّ حَتَّى أقبل (هَذَا مِنْهُ) وأدع يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يتَطَوَّع بِالنَّهَارِ أَرْبعا، لَا يفصل بَينهُنَّ» ؟ إِن كَانَ حَدِيث الْأَزْدِيّ صَحِيحا لم يُخَالِفهُ ابْن عمر.
وَقَالَ الشَّافِعِي: هَكَذَا جَاءَ الْخَبَر (عَن) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الثَّابِت فِي صَلَاة اللَّيْل، وَقد يرْوَى عَنهُ خبر يثبت أهل الحَدِيث مثله فِي صَلَاة النَّهَار. وَذكر حَدِيث ابْن عمر هَذَا.
وَذكر الْبَيْهَقِيّ (بِإِسْنَادِهِ) عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن فَارس قَالَ: سُئِلَ (أَبُو) عبد الله - (يَعْنِي:) البُخَارِيّ - عَن حَدِيث يعْلى(4/359)
أصحيح (هُوَ) ؟ قَالَ: نعم، ويعلى هُوَ (رَاوِيه) عَن عَلّي بن عبد الله الْأَزْدِيّ.
وَذكر (البُخَارِيّ) فِي «صَحِيحه» عَن يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ أَنه قَالَ: مَا أدْركْت فُقَهَاء [أَرْضنَا] إِلَّا يسلمُونَ فِي كل اثْنَتَيْنِ من النَّهَار. وَذكر فِي الْبَاب أَحَادِيث تدل عَلَى ذَلِك، وَحَكَى ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة (وَالتَّابِعِينَ) .
وَقَالَ الْخطابِيّ: رَوَى هَذَا عَن ابْن عمر: نَافِع وَطَاوُس وَعبد الله بن دِينَار (و) لم يذكر فِيهَا أحد صَلَاة النَّهَار، وَإِنَّمَا هُوَ: «صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى» إِلَّا أَن سَبِيل الزِّيَادَات أَن تقبل.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذِه الزِّيَادَة الَّتِي فِيهَا ذكر النَّهَار عَن أبي عَمْرو، عَن شُعْبَة (عَن) يعْلى، عَن الْبَارِقي، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا. قَالَ: وَهَكَذَا رَوَاهُ (غنْدر) وَهُوَ الحكم بَين أَصْحَاب شُعْبَة، ومعاذ الْعَنْبَري وَدَاوُد بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهم عَن شُعْبَة. قَالَ: وَهَذَا حَدِيث صَحِيح رُوَاته ثِقَات (فقد) احْتج مُسلم (بعلي) الْبَارِقي الْأَزْدِيّ، وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة، وَقد صَححهُ البُخَارِيّ لما سُئِلَ عَنهُ. قَالَ: وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «صَلَاة اللَّيْل (وَالنَّهَار) مثنى(4/360)
مثنى، وَالْوتر رَكْعَة من آخر اللَّيْل» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث غَرِيب بِهَذَا الْإِسْنَاد (وَرُوَاته) كلهم ثِقَات، وَلَا أعرف لَهُ عِلّة.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ مثله من رِوَايَة عَلّي مَرْفُوعا، وَنَحْوه عَن الْفضل بن الْعَبَّاس مَرْفُوعا.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْأَرْبَعين
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْوتر: صلوها مَا بَين الْعشَاء إِلَى صَلَاة الصُّبْح» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ (الإِمَام) أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، نَا عبد الله بن هُبَيْرَة، عَن أبي تَمِيم (الجيشاني) عَن عَمْرو بن الْعَاصِ، عَن أبي بصرة الْغِفَارِيّ مَرْفُوعا.
وَقد سلف (بِلَفْظِهِ) فِي (الطَّرِيق الرَّابِع) من (طرق) الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين فِي الْبَاب، و (قد) أسلفنا هُنَاكَ أَن الْحَاكِم أَيْضا رَوَاهُ فِي «مُسْتَدْركه» وَأعله (ابْن) الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» بِابْن لَهِيعَة وَقَالَ: هُوَ مَتْرُوك.(4/361)
قلت: وَلم ينْفَرد (بِهِ) فقد تَابعه سعيد بن زيد، عَن هُبَيْرَة رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا عَن عَلّي بن إِسْحَاق، عَن عبد الله - يَعْنِي: ابْن مبارك، عَن سعيد بِهِ. وَسَعِيد من الثِّقَات (وَإِن لين) .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْأَرْبَعين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من نَام عَن صَلَاة أَو (نَسِيَهَا) فليصلها إِذا ذكرهَا» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي مَوَاضِع، مِنْهَا التَّيَمُّم.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْأَرْبَعين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الْمَكْتُوبَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث أبي (هُرَيْرَة) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاده.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
أما آثاره (فعشر) :
أَولهَا: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يضْرب عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب» .
وَهَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْه لَا أعرفهُ، وَإِنَّمَا (فِي) الصَّحِيح عَنهُ أَنه(4/362)
كَانَ يضْرب عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر. (كَمَا أخرجه مُسلم عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه سَأَلَ الْمُخْتَار بن فلفل عَن التَّطَوُّع بعد الْعَصْر) قَالَ: (كَانَ) عمر يضْرب الْأَيْدِي عَلَى صَلَاة بعد الْعَصْر، وَكُنَّا نصلي عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَكْعَتَيْنِ بعد غرُوب الشَّمْس قبل صَلَاة الْمغرب، فَقلت لَهُ: أَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صلاهما؟ قَالَ: قد كَانَ يَرَانَا نصليهما (فَلم يَأْمُرنَا وَلم ينهنا) » .
وَفِي «مُسْند أَحْمد» (ثَنَا) عبد الرَّزَّاق، نَا (معمر، عَن) ابْن جريج قَالَ: سَمِعت أَبَا (سعد) الْأَعْمَى يخبر عَن رجل يُقَال لَهُ: السَّائِب - مولَى الفارسيين - وَعَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ «أَنه رَآهُ عمر بن الْخطاب - وَهُوَ خَليفَة - ركع رَكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر فَمَشى إِلَيْهِ فَضَربهُ بِالدرةِ وَهُوَ يُصَلِّي كَمَا هُوَ، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ زيد: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ (فوَاللَّه) لَا أدعهما أبدا بعد إِذْ رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّيهمَا (قَالَ) : فَجَلَسَ إِلَيْهِ عمر وَقَالَ: يَا زيد بن خَالِد، لَوْلَا أَن(4/363)
(نخشى) أَن يتخذها النَّاس سلما إِلَى الصَّلَاة حَتَّى اللَّيْل لم أضْرب فيهمَا» .
نعم فِي الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن طَاوس، عَن أَبِيه «أَن أَبَا أَيُّوب (الْأنْصَارِيّ) صَلَّى مَعَ أبي بكر بعد غرُوب الشَّمْس قبل الصَّلَاة، ثمَّ لم يكن يُصَلِّي مَعَ عمر، ثمَّ صَلَّى مَعَ عُثْمَان. فَذكر (ذَلِك لَهُ) فَقَالَ: إِنِّي صليت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ صليت مَعَ أبي بكر (ثمَّ فرقت) من عمر فَلم أصل مَعَه، وَصليت مَعَ عُثْمَان؛ إِنَّه لين» .
قلت: (وَظَاهر) هَذَا أَن عمر كَانَ لَا يراهما.
الْأَثر الثَّانِي: «أَن (ابْن) عمر كَانَ يسلم وَيَأْمُر بَينهمَا - يَعْنِي: بَين الشفع وَالْوتر - بحاجته» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ من رِوَايَة نَافِع «أَن عبد الله بن عمر كَانَ يسلم بَين الرَّكْعَة والركعتين فِي الْوتر، حَتَّى يَأْمر بِبَعْض حَاجته» .
الْأَثر الثَّالِث: عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه كَانَ يُوتر قبل أَن ينَام، فَإِذا قَامَ تهجد وَلم يعد الْوتر» .
وَهَذَا الْأَثر سلف فِي أثْنَاء طرق الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين عَن(4/364)
رِوَايَة بَقِي بن مخلد فِي «مُسْنده» وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر أَيْضا.
وَوَافَقَ الصّديق عَلَى هَذَا - أَعنِي: عدم نقض الْوتر - الْفَارُوق وَسعد وعمار وَابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة وَجُمْهُور الْعلمَاء، وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» عَن نصر بن عمرَان الضبعِي قَالَ: «سَأَلت عَائِذ بن عَمْرو الصَّحَابِيّ: هَل ينْقض الْوتر؟ (قَالَ) : إِذا أوترت من أَوله فَلَا (توتر) من آخِره» .
الْأَثر الرَّابِع: «أَن ابْن عمر كَانَ ينْقض الْوتر، فيوتر أول اللَّيْل (فَإِذا) قَامَ ليتجهد صَلَّى رَكْعَة شفع بهَا (تِلْكَ) ثمَّ يُوتر آخر اللَّيْل» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مَالك. قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ ثَابت عَنهُ.
وَرَوَاهُ أَحْمد وَلَفظه: عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ إِذا سُئِلَ عَن الْوتر قَالَ: أما أَنا (لَو) أوترت قبل أَن أَنَام ثمَّ أردْت (أَن) أُصَلِّي بِاللَّيْلِ شفعت (وَاحِدَة) مَا مَضَى من وتري، ثمَّ صليت مثنى مثنى، فَإِذا قضيت صَلَاتي أوترت بِوَاحِدَة؛ إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أمرنَا أَن نجْعَل آخر صَلَاة اللَّيْل الْوتر» .(4/365)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَمْرو بن مرّة «أَنه سَأَلَ سعيد بن الْمسيب عَن الْوتر، فَقَالَ: كَانَ عبد الله بن عمر يُوتر أول اللَّيْل؛ فَإِذا قَامَ نقض وتره، ثمَّ صَلَّى ثمَّ أوتر آخر صلَاته - أَو آخر اللَّيْل. وَكَانَ عمر يُوتر آخر اللَّيْل، وَكَانَ (خير) مني (وَمِنْهَا أَن) أَبَا بكر يُوتر من أول اللَّيْل ويشفع (فِي) آخِره، يُوتر بذلك [يُصَلِّي] مثنى مثنى وَلَا ينْقض وتره» .
قلت: وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِك عُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وَعَمْرو بن مَيْمُون (وَابْن) سِيرِين وَإِسْحَاق (و) حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنهُ.
الْأَثر الْخَامِس: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه جمع النَّاس عَلَى أبيّ بن كَعْب فِي صَلَاة التَّرَاوِيح (و) لم يقنت إِلَّا فِي النّصْف الثَّانِي» .
وَهَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من طَرِيقين:
أولاهما: عَن الْحسن الْبَصْرِيّ «أَن عمر بن الْخطاب جمع النَّاس عَلَى أبيّ بن كَعْب (وَكَانَ) يُصَلِّي لَهُم عشْرين لَيْلَة (و) لَا يقنت (بهم) إِلَّا فِي النّصْف (الثَّانِي) فَإذْ (كَانَ) الْعشْر الْأَوَاخِر(4/366)
تخلف (فَيصَلي) فِي بَيته، وَكَانُوا يَقُولُونَ: أبق أبيٌّ!» .
ثَانِيهمَا: عَن ابْن سِيرِين، عَن بعض أَصْحَابه «أَن أبي بن كَعْب أمّهم - يَعْنِي: فِي رَمَضَان - وَكَانَ يقنت فِي النّصْف (الْأَخير) مِنْهُ» .
وَهَذَا فِيهِ جَهَالَة كَمَا ترَى، وَالْأول مُنْقَطع؛ لِأَن الْحسن لم يدْرك عمر، بل ولد لِسنتَيْنِ من خِلَافَته.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَوَافَقَهُ الصَّحَابَة.
يَعْنِي (عمر) عَلَى جمعه النَّاس عَلَى أبيّ. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
الْأَثر السَّادِس: قَالَ الرَّافِعِيّ: (تسْتَحب) الْجَمَاعَة فِي التَّرَاوِيح، تأسيًا بعمر.
قلت: قد عَرفته أَيْضا، وَفِي البُخَارِيّ أَيْضا أَنه جمعهم عَلَيْهِ.
الْأَثر السَّابِع: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: (السّنة إِذا انتصف شهر رَمَضَان أَن يلعن الْكَفَرَة فِي الْوتر بَعْدَمَا يَقُول: سمع الله لمن حَمده» .
وَهَذَا غَرِيب، لم أره فِي كتاب حَدِيثي مُعْتَمد، والرافعي ذكره تبعا للشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ؛ فَإِنَّهُ ذكره فِي «مهذبه» (وحذفه) النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» فَلم يذكرهُ، وَذكر مَكَانَهُ مَا هُوَ مَشْهُور فِي أبي دَاوُد من فعل عمر، مَعَ انْقِطَاعه.(4/367)
وَأما الْمُنْذِرِيّ؛ فَإِنَّهُ أسْندهُ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» من حَدِيث السلَفِي، أَنا ابْن البطر، أَنا ابْن رزقويه، نَا عُثْمَان بن أَحْمد الدقاق، ثَنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن كَامِل، نَا سعيد بن حَفْص الْهُذلِيّ أَبُو عَمْرو، قَالَ: قَرَأنَا عَلَى معقل، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة بن الزبير، عَن عَائِشَة ... فَذكر (حَدِيثا) فِي قيام رَمَضَان السالف، وَقَالَ فِي آخِره: فَأَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن (عبيد) الْقَارِي - وَكَانَ من عُمَّال عمر، وَكَانَ مَعَ عبد الله بن الأرقم عَلَى بَيت مَال الْمُسلمين - «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه خرج لَيْلَة فِي شهر رَمَضَان، وَخرج مَعَه عبد الرَّحْمَن فَرَأَى أهل الْمَسْجِد يصلونَ أوزاعًا مُتَفَرّقين، فَأمر أبيّ بن كَعْب (أَن يقوم بهم فِي شهر رَمَضَان) فَخرج عمر وَالنَّاس يصلونَ بِصَلَاة قارئهم، فَقَالَ: نعم الْبِدْعَة، وَالَّتِي ينامون عَنْهَا أفضل من الَّتِي يقومُونَ - يُرِيد من آخر اللَّيْل. وَكَانُوا يقومُونَ فِي أولهِ. فَقَالَ: السّنة إِذا انتصف شهر رَمَضَان أَن يلعن الْكَفَرَة فِي آخر رَكْعَة من الْوتر بَعْدَمَا يَقُول الْقَارئ: سمع الله لمن حَمده، ثمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ (قَاتل) الْكَفَرَة» .
ثمَّ قَالَ الْمُنْذِرِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» . (قَالَ) : وَوَقع فِي كتابي: معقل، عَن الزُّهْرِيّ، وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب: عقيل.
هَذَا كَلَامه، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ (فَالْحَدِيث) جَمِيعه لَيْسَ فِي(4/368)
البُخَارِيّ وَلَا فِي مُسلم؛ بل وَلَا أعرفهُ فِي (غَيرهمَا) من بَاقِي الْكتب السِّتَّة وَالْمَسَانِيد، نعم صدر الحَدِيث وَهُوَ صلَاته عَلَيْهِ السَّلَام فِي رَمَضَان مَذْكُور (فيهمَا) وَكَذَا (إِلَى) قَوْله: « (ويقومون) فِي أَوله» فِي أَفْرَاد البُخَارِيّ والشأن فِي هَذِه الزِّيَادَة الَّتِي هِيَ من كَلَام عمر وَهِي قَوْله: «السّنة (إِذا) انتصف ... » إِلَى آخِره؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَة، وَلَا أحمل كَلَامه عَلَى أَن مُرَاده أَنَّهُمَا أخرجَا أَصله؛ لبعد ذَلِك هُنَا، ثمَّ (عَلَيْهِ) اعْتِرَاض آخر وَرَاء هَذَا وَهُوَ تخطئة مَا وَقع فِي كِتَابه، وَقَوله إِن الصَّوَاب: أَنا عقيل. وَلم يبرهن لَهُ، وَلم يظْهر لي وَجهه؛ فَإِن (كِلَاهُمَا) يروي عَن الزُّهْرِيّ، وَقد أخرج لكل مِنْهُمَا فِي «الصَّحِيح» لَكِن عقيل - وَهُوَ ابْن خَالِد بن عقيل - من رجال الصَّحِيحَيْنِ وَقد وَثَّقَهُ النَّاس. وَمَعْقِل بن [عبيد الله] الْجَزرِي من رجال مُسلم، وَقد اخْتلف قَول يَحْيَى بن معِين فِي توثيقه.
قلت: (ورد) بِإِسْنَاد ضَعِيف من حَدِيث أنس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يقنت فِي النّصْف من رَمَضَان ... » إِلَى آخِره.(4/369)
رَوَاهُ ابْن عدي، وَسبب ضعفه أَن (رَاوِيه) عَن أنس أَبُو عَاتِكَة طريف بن (سلمَان) وَهُوَ ذَاهِب الحَدِيث، لَا جرم قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف لَا (يَصح) إِسْنَاده.
الْأَثر الثَّامِن: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قنت بِهَذَا، وَهُوَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نستعينك ونستغفرك ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكل عَلَيْك، ونثني عَلَيْك الْخَيْر كُله، نشكرك وَلَا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللَّهُمَّ إياك نعْبد، وَلَك نصلي ونسجد، وَإِلَيْك نسعى ونحفد، وَنَرْجُو رحمتك ونخشى عذابك (إِن عذابك الْجد) بالكفار مُلْحق، اللَّهُمَّ (عذب) كفرة أهل الْكتاب الَّذين يصدون عَن سَبِيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللَّهُمَّ اغْفِر للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات وَالْمُسْلِمين وَالْمُسلمَات، وَأصْلح ذَات بَينهم، وَألف بَين قُلُوبهم، وَاجعَل فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وَالْحكمَة، وثبتهم عَلَى مِلَّة رَسُولك، وأوزعهم (أَن يشكروا نِعْمَتك و) أَن يوفوا بعهدك الَّذِي عاهدتهم عَلَيْهِ، وانصرهم عَلَى عَدوك (وعدوهم) إِلَه الْحق واجعلنا مِنْهُم» .(4/370)
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سُفْيَان (حَدثنِي) ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن عبيد بن (عُمَيْر أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قنت بعد الرُّكُوع فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر (لنا و) للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات، وَالْمُسْلِمين وَالْمُسلمَات، وَألف (بَين قُلُوبهم وَأصْلح) ذَات بَينهم، وانصرهم عَلَى عَدوك وعدوهم، اللَّهُمَّ الْعَن كفرة أهل الْكتاب الَّذين يصدون عَن سَبِيلك، ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللَّهُمَّ خَالف بَين كلمتهم، وزلزل أَقْدَامهم، وَأنزل بهم بأسك (الَّذِي) لَا ترده عَن الْقَوْم الْمُجْرمين، بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، اللَّهُمَّ إِنَّا نستعينك ونستغفرك، ونثني عَلَيْك وَلَا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، اللَّهُمَّ إياك نعْبد، وَلَك نصلي ونسجد، وَإِلَيْك (نسعى) ونحفد، نخشى عذابك الْجد، وَنَرْجُو رحمتك، إِن عذابك بالكفار مُلْحق» .
قَالَ (الْبَيْهَقِيّ) : هَذَا عَن عمر مَوْصُول صَحِيح. قَالَ ذَلِك بعد أَن رَوَى بعضه مَرْفُوعا وَحكم عَلَيْهِ بِالْإِرْسَال، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَقد أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» من حَدِيث خَالِد بن أبي (عمرَان) قَالَ: «بَينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَدْعُو عَلَى مُضر إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيل(4/371)
عَلَيْهِ السَّلَام فَأَوْمأ إِلَيْهِ أَن اسْكُتْ فَسكت، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِن الله لم يَبْعَثك (سبابًا) وَلَا لعانًا، وَإِنَّمَا بَعثك رَحْمَة وَلم يَبْعَثك عذَابا (لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم فَإِنَّهُم ظَالِمُونَ) (قَالَ) ثمَّ علمه هَذَا الْقُنُوت: اللَّهُمَّ إِنَّا نستعينك ونستغفرك، ونؤمن بك ونخضع لَك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللَّهُمَّ إياك نعْبد، وَلَك نصلي ونسجد، وَإِلَيْك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك، إِن عذابك بالكافرين مُلْحق» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَى - يَعْنِي: (أثر) عمر - سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى، عَن أَبِيه، عَن عمر (بن الْخطاب) فَخَالف فِي بعضه ثمَّ أسْندهُ إِلَى وَالِد سعيد قَالَ: «صليت خلف عمر بن الْخطاب صَلَاة الصُّبْح فَسَمعته يَقُول بعد الْقِرَاءَة قبل الرُّكُوع: اللَّهُمَّ إياك نعْبد، وَلَك (نصلي) ونسجد، وَإِلَيْك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى (عذابك) إِن عذابك بالكافرين مُلْحق، اللَّهُمَّ إِنَّا نستعينك ونستغفرك، ونثني عَلَيْك الْخَيْر (كُله) وَلَا نكفرك، ونؤمن بك ونخضع لَك، ونخلع من يكفرك» .
(ثمَّ) قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا قَالَ: «قبل الرُّكُوع» وَهُوَ وَإِن كَانَ إِسْنَادًا صَحِيحا؛ فَمن رَوَى عَن عمر قنوته بعد الرُّكُوع أَكثر؛ فقد رَوَاهُ أَبُو(4/372)
رَافع وَعبيد بن عُمَيْر وَأَبُو عُثْمَان [النَّهْدِيّ] وَزيد بن وهب، وَالْعدَد أولَى بِالْحِفْظِ من الْوَاحِد، وَفِي حسن سِيَاق عبيد بن عُمَيْر للْحَدِيث دلَالَة عَلَى حفظه وَحفظ من حفظ عَنهُ. قَالَ: وروينا عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه قنت فِي الْفجْر فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نستعينك ونستغفرك» .
وَرَأَيْت فِي «مُسْند الفردوس» لِابْنِ شهرديار من زوائده عَلَى وَالِده وَهُوَ فِي (مجلدات صغَار) «أَن الْحَارِث - يَعْنِي: ابْن أبي أُسَامَة - رَوَى عَن الْعَبَّاس، عَن عبد الْوَارِث، عَن حَنْظَلَة، عَن أنس مَرْفُوعا: «اللَّهُمَّ عذب كفرة أهل الْكتاب الَّذين (يحادون) رسلك ويصدون عَن سَبِيلك وألق بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء» .
وَأَن ابْن (منيع) رَوَى عَن أبي نصر (البابي) عَن (أبي هِلَال عَن حَنْظَلَة) (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَدْعُو مُدَّة (فِي) صَلَاة الْفجْر بعد الرُّكُوع: اللَّهُمَّ عذب كفرة أهل الْكتاب (وَاجعَل قُلُوبهم كقلوب النِّسَاء الكوافر» .
قَالَ: وَرَوَاهُ الْموصِلِي عَن إِسْحَاق بن إِسْرَائِيل، عَن حَمَّاد بن زيد، عَن حَنْظَلَة مثله) .(4/373)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَنقل الرَّوْيَانِيّ عَن أبي الْعَاصِ أَنه (كَانَ) يزِيد (فِي) آخر الْقُنُوت: (رَبنَا لَا تؤخذنا) إِلَى آخر السُّورَة. وَاسْتَحْسنهُ. وَهَذَا من (عِنْده) وَلم أره فِي حَدِيث، لَا جرم استغربه النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» واستضعفه بِأَن الْمَشْهُور كَرَاهَة الْقِرَاءَة فِي غير الْقيام. قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ: «عذب كفرة أهل الْكتاب» لأَنهم كَانُوا (هم) الَّذين يُقَاتلُون الْمُسلمين (حِينَئِذٍ) وَأما الْيَوْم فَيُقَال: عذب الْكَفَرَة (وَغَيرهم) ليعمهم وَغَيرهم؛ لِأَن الْحَاجة إِلَى الدُّعَاء عَلَى غَيرهم كالحاجة إِلَى الدُّعَاء عَلَيْهِم أَو أَكْثَرهم.
(وَأَشَارَ بذلك) إِلَى إِدْخَال التتار؛ فَإِنَّهُم كَانُوا قد استولوا فِي زَمَانه عَلَى كثير من أقاليم الْمُسلمين، وَكَانُوا إِذْ ذَاك (كفَّارًا) لَا كتاب لَهُم.
وَقد تَكَلَّمت عَلَى ضبط الْأَلْفَاظ الْوَاقِعَة فِي هَذَا الْقُنُوت، وَمَعْنَاهَا فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب؛ فراجع ذَلِك مِنْهُ.
الْأَثر التَّاسِع: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه مر بِالْمَسْجِدِ فَصَلى رَكْعَة، فَتَبِعَهُ رجل فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّمَا صليت رَكْعَة! فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ تطوع؛ فَمن شَاءَ زَاد، وَمن شَاءَ نقص» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة قَابُوس بن أبي(4/374)
ظبْيَان - بِكَسْر الظَّاء الْمُعْجَمَة - أَن أَبَاهُ حَدثهُ قَالَ: «مر عمر بن الْخطاب فِي مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَرَكَعَ رَكْعَة وَاحِدَة ثمَّ انْطلق، فَلحقه رجل فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا ركعت إِلَّا رَكْعَة وَاحِدَة! قَالَ: هُوَ التَّطَوُّع، فَمن شَاءَ زَاد، وَمن شَاءَ نقص» .
وقابوس هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيّ، كَمَا قَالَه النَّسَائِيّ وَغَيره.
الْأَثر الْعَاشِر: عَن بعض السّلف أَنه قَالَ: «الَّذِي صليت لَهُ يعلم كم صليت» .
وَهَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه صَلَّى عددا كثيرا (فَلَمَّا) سلم قَالَ لَهُ الْأَحْنَف بن قيس: هَل تَدْرِي أنصرفت (عَلَى شفع أَو عَلَى وتر) ؟ قَالَ: إِن (لَا) أكن أَدْرِي فَإِن الله يدْرِي، إِنِّي سَمِعت خليلي أَبَا الْقَاسِم (يَقُول: ثمَّ (بَكَى) (ثمَّ) قَالَ: (إِنِّي) سَمِعت خليلي (أَبَا الْقَاسِم) (يَقُول: مَا من عبد يسْجد (لله) سَجْدَة إِلَّا رَفعه الله بهَا دَرَجَة، وَحط (عَنهُ) بهَا خَطِيئَة» .
وَعَزاهُ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» إِلَى الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» وَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح إِلَّا رجلا اخْتلفُوا فِي عَدَالَته. وَذكره فِي فصل (الضَّعِيف) من «خلاصته» .(4/375)
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عَفَّان، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَلّي بن زيد، عَن مطرف قَالَ: «قعدت إِلَى نفر من قُرَيْش، فجَاء رجل فَجعل (يُصَلِّي) يرْكَع وَيسْجد ثمَّ يقوم، ثمَّ يرْكَع وَيسْجد لَا يقْعد، فَقلت: وَالله مَا (أرَى) هَذَا يدْرِي أينصرف عَلَى شفع أَو وتر (فَقَالُوا: أَلا تقوم إِلَيْهِ) فَتَقول لَهُ. فَقُمْت فَقلت: يَا عبد الله، مَا أَرَاك تَدْرِي تَنْصَرِف عَلَى شفع أَو وتر. (فَقَالَ: لَكِن) الله يدْرِي، سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: من سجد لله سَجْدَة كتب الله لَهُ بهَا حَسَنَة، وَحط عَنهُ بهَا خَطِيئَة، وَرفع لَهُ بهَا دَرَجَة. فَقلت: من أَنْت؟ (قَالَ) : أَبُو ذَر. فَرَجَعت إِلَى أَصْحَابِي فَقلت: جزاكم (الله) من جلساء شرًّا أَمرْتُمُونِي أَن أعلم رجلا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -!» .(4/376)
كتاب صَلَاة الْجَمَاعَة(4/377)
كتاب [1] صَلَاة الْجَمَاعَة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث (فاثنان) وَخَمْسُونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صَلَاة الْجَمَاعَة أفضل من صَلَاة الْفَذ بِسبع وَعشْرين دَرَجَة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من هَذَا الْوَجْه كَذَلِك وَلَفظ رِوَايَة الشَّافِعِي: «تفضل [عَلَى] صَلَاة الْفَذ» . وَهِي مَا فِي الْكتاب. وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِلَفْظ: «الضعْف» بدل «الدرجَة» وبلفظ « (الْجُزْء» ) أَيْضا.
وَأخرجه مُسلم بِلَفْظ: «الدرجَة» وَأخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث أبي سعيد بِلَفْظ: «الدرجَة» .(4/379)
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد من هَذَا الْوَجْه: «الصَّلَاة فِي (جمَاعَة) تعدل خمْسا وَعشْرين صَلَاة؛ فَإِذا صلاهَا فِي فلاة فَأَتمَّ ركوعها وسجودها بلغت خمسين صَلَاة» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَقَالَ عبد الْوَاحِد بن زِيَاد فِي هَذَا الحَدِيث: «صَلَاة الرجل فِي الفلاة تضَاعف عَلَى صلَاته فِي الْجَمَاعَة» .
وَرَوَى هَذِه (الرِّوَايَة) الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
وَرَوَاهَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «صَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تزيد عَلَى صلَاته وَحده بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة، فَإِن صلاهَا بأرضٍ قِيٍّ فَأَتمَّ وضوءها وركوعها وسجودها تكْتب صلَاته بِخَمْسِينَ دَرَجَة» .
وَقَوله: «قيّ» هُوَ بِالْقَافِ الْمَكْسُورَة (وَهُوَ) الفلاة كَمَا فِي رِوَايَة (أبي) دَاوُد وَالْحَاكِم.
(قَالَ الْحَاكِم) عقب رِوَايَته للْحَدِيث: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ؛ فقد اتفقَا عَلَى الْحجَّة بروايات هِلَال بن (أبي) هِلَال (وَيُقَال) ابْن أبي مَيْمُونَة: وَيُقَال: ابْن عَلّي، وَيُقَال: ابْن أُسَامَة. وَكله وَاحِد. انْتَهَى كَلَامه.(4/380)
وَاعْلَم أَن الْوَاقِع فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ هِلَال بن مَيْمُون، وَهُوَ غير هَذَا، وَلَيْسَ من رجال الصَّحِيحَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ من رجال د ق وَقد اخْتلف فِيهِ أَيْضا.
(وَقَالَ) أَبُو حَاتِم فِي حَقه: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، يكْتب حَدِيثه. (لَكِن) وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» .
وَأما هِلَال بن أبي هِلَال الَّذِي حَكَى الْخلاف فِيهِ فَهُوَ غير هَذَا فليتنبه (لَهُ) .
تَنْبِيهَانِ:
الأول: ذكرت فِي شرحي للعمدة ثَلَاثَة عشر وَجها فِي الْجمع بَين رِوَايَة «خمس وَعشْرين» و «سبع وَعشْرين» (فَرَاجعهَا) مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات وظفرت فِي هَذِه الْحَالة بِوَجْهَيْنِ آخَرين:
أَحدهمَا: أَنه حسب فِي أَحدهمَا دَرَجَة الِابْتِدَاء والانتهاء، وَفِي (الْأُخْرَى) أسقطهما.
ثَانِيهمَا: أَنه يحمل أَحدهمَا عَلَى دَرَجَات كبار تعدل سبعا وَعشْرين دونهَا، ونظيرها: أَنه جمع بَين كَلَام الشَّافِعِي (بذلك) فِي حد السّفر الطَّوِيل حَيْثُ قَالَ مرّة: إِنَّه سِتَّة وَأَرْبَعُونَ ميلًا - وَقَالَ مرّة: ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ.(4/381)
الثَّانِي: فِي «ضعفاء الْعقيلِيّ» من حَدِيث عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «الْجَمَاعَة ثَلَاثَة (كلهم خمس) (وَعِشْرُونَ) دَرَجَة؛ فَكلما زَاد رجل مِنْهُم فَلهُ دَرَجَة (فِي) عشرَة» . ثمَّ قَالَ الْعقيلِيّ: الحَدِيث ثَابت عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي فضل صَلَاة الْجَمَاعَة عَلَى صَلَاة الْفَذ (بضع) وَعشْرين دَرَجَة من غير وَجه، فَأَما هَذَا اللَّفْظ فَلَيْسَ بِمَحْفُوظ.
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صَلَاة الرجل مَعَ الرجل أفضل من صلَاته وَحده، وَصلَاته مَعَ الرجلَيْن أفضل من صلَاته مَعَ الرجل، وَمَا زَاد فَهُوَ أحب إِلَى الله» .
هَذَا الحَدِيث (رَوَاهُ) أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» من رِوَايَة أبيّ بن كَعْب بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور (إِلَّا) أَنهم قَالُوا: «أَزْكَى» بدل «أفضل» .(4/382)
وَرَوَاهُ أَحْمد باللفظين وَقَالَ فِي إِحْدَى (روايتيه) «وحيثما كثرت جمَاعَة فَهُوَ أفضل» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من طرق، ثمَّ قَالَ: (فقد) اخْتلفُوا فِيهِ عَلَى أبي إِسْحَاق من أَرْبَعَة أوجه، وَالرِّوَايَة فِيهَا (عَن) أبي بَصِير وَابْنه عبد الله كلهَا صَحِيحَة. ثمَّ برهن عَلَى ذَلِك (بأسانيد) ثمَّ قَالَ: وَقد حكم أَئِمَّة الحَدِيث: ابْن معِين وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَمُحَمّد بن يَحْيَى الذهلي وَغَيرهم (لهَذَا) الحَدِيث بِالصِّحَّةِ. ثمَّ رَوَى عَن يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ: حَدِيث أبي إِسْحَاق، عَن أبي بَصِير، عَن أبيِّ بن كَعْب هَذَا يَقُوله زُهَيْر بن مُعَاوِيَة، وَشعْبَة يَقُول: عَن أبي إِسْحَاق، عَن عبد الله بن أبي بَصِير، وَعَن أَبِيه، عَن أبيّ بن كَعْب. فَالْقَوْل قَول شُعْبَة وَهُوَ أثبت من زُهَيْر.
وَعَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ أَنه قَالَ فِي حَدِيث أبيّ بن كَعْب هَذَا: رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق، عَن شيخ لم يسمع مِنْهُ غير هَذَا وَهُوَ عبد الله بن أبي بَصِير، فقد قَالَ شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق إِنَّه سَمعه من أَبِيه وَمِنْه.
وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَص: عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْعيزَار بن حُرَيْث. وَمَا أرَى الحَدِيث إِلَّا صَحِيحا.
وَعَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ أَنه قَالَ: سمع أَبُو إِسْحَاق من عبد الله بن أبي بَصِير، وَمن أَبِيه أبي بَصِير. وَعَن مُحَمَّد بن يَحْيَى الذهلي أَنه قَالَ:(4/383)
(رَوَاهُ) يَحْيَى بن سعيد، وَخَالف ابْن الْحَارِث عَن شُعْبَة، وَقَول أبي الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْعيزَار بن حُرَيْث كلهَا مَحْفُوظَة.
قَالَ الْحَاكِم: فقد ظهر بأقاويل أَئِمَّة الحَدِيث صِحَة الحَدِيث.
وَأما البُخَارِيّ وَمُسلم (فَإِنَّهُمَا لم يخرجَاهُ لهَذَا) الْخلاف.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَقَامَ إِسْنَاده: شُعْبَة وَالثَّوْري وَإِسْرَائِيل فِي آخَرين وَعبد الله بن (بَصِير سَمعه من أُبيٍّ مَعَ أَبِيه) وسَمعه أَبُو إِسْحَاق مِنْهُ وَمن أَبِيه. قَالَه شُعْبَة وَعلي بن الْمَدِينِيّ.
قلت: وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ - أَعنِي رِوَايَة عبد الله بن (أبي) بَصِير، عَن أبيّ بن كَعْب، و (بَين) رِوَايَة عبد الله بن أبي بَصِير عَن أَبِيه - ثمَّ قَالَ: قَالَ شُعْبَة: وَقد (قَالَ) إِسْحَاق: [سمعته] مِنْهُ وَمن أَبِيه، ثمَّ ساقهما.
(وَقَالَ) الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الْعقيلِيّ: هَذَا الحَدِيث من حَدِيث شُعْبَة صَحِيح.(4/384)
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» ، عبد الله بن أبي بَصِير، (عَن أَبِيه) لَيْسَ بالمشهور فِيمَا أعلم لَا هُوَ وَلَا أَبوهُ.
ونحا نَحوه النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» و «الْخُلَاصَة» : هَذَا الحَدِيث إِسْنَاده صَحِيح، إِلَّا رجلا وَاحِدًا وَهُوَ عبد الله بن أبي بَصِير الرَّاوِي عَن أبيّ، فَسَكَتُوا عَنهُ وَلم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد، وَقد أَشَارَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا إِلَى صِحَّته.
قلت: عبد الله هَذَا ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» فَقَالَ: عبد الله بن أبي بَصِير الْعَبْدي يروي عَن أبيّ بن كَعْب، (و) عَن أَبِيه عَن أبيّ، وَعنهُ أَبُو إِسْحَاق السبيعِي. وَرَوَى الحَدِيث فِي «صَحِيحه» من جِهَته كَمَا سلف.
قَالَ صَاحب «الْكَمَال» : وَلَا نعلم رَوَى عَنهُ غير أبي إِسْحَاق السبيعِي. وتوبع عَلَى ذَلِك، وَقد أسلفنا (أَن) الْعيزَار بن حُرَيْث رَوَى عَنهُ أَيْضا، وَنَصّ عَلَى رِوَايَته عَنهُ ابْن مَاكُولَا فِي «إكماله» أَيْضا.
وَأما وَالِده أَبُو بَصِير فروَى عَنهُ جمَاعَة، وَهُوَ ثِقَة أَيْضا، فتلخص من هَذَا كُله صِحَّته وَللَّه الْحَمد.(4/385)
وَلِلْحَدِيثِ طَرِيق آخر بِمَعْنَاهُ من حَدِيث (قباث) - بِضَم الْقَاف وَفتحهَا، ثمَّ بَاء مُوَحدَة مُخَفّفَة، ثمَّ ألف، ثمَّ مُثَلّثَة - ابْن أَشْيَم الصَّحَابِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا «صَلَاة الرجلَيْن يؤم أَحدهمَا صَاحبه أَزْكَى عِنْد الله من صَلَاة أَرْبَعَة (تترى) ، وَصَلَاة أَرْبَعَة يؤم أحدهم صَاحبه أَزْكَى عِنْد الله من صَلَاة (ثَمَانِيَة) ، وَصَلَاة (ثَمَانِيَة) يؤم أحدهم صَاحبه أَزْكَى عِنْد الله من (صَلَاة مائَة) تترى (تترى» ذكره الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة: (قباث) من حَدِيث مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن يُونُس بن سيف، عَن عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد، عَن قباث بِهِ.
وَمُعَاوِيَة من رجال مُسلم وَإِن ضعفه أَبُو حَاتِم، وَكَذَا يُونُس وَإِن لينه ابْن معِين.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (مَا) من ثَلَاثَة فِي قَرْيَة وَلَا (فِي) بَدو، لَا تُقَام فيهم الْجَمَاعَة إِلَّا استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان» .(4/386)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بأسانيد صَحِيحَة من رِوَايَة أبي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة: « (فَعَلَيْك) بِالْجَمَاعَة؛ فَإِنَّمَا يَأْكُل الذِّئْب من الْغنم القاصية» . قَالَ السَّائِب - أحد رُوَاته - إِنَّمَا يَعْنِي بِالْجَمَاعَة: جمَاعَة الصَّلَاة.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي مَوَاضِع مِنْهُ:
إِحْدَاهَا: فِي أَوَائِل صَلَاة الْجَمَاعَة بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور إِلَى (قَوْله) : «فَعَلَيْك بِالْجَمَاعَة» (ثمَّ) قَالَ: هَذَا (حَدِيث) صَحِيح الْإِسْنَاد.
ثَانِيهَا: بعد هَذَا (الْموضع) بِثَلَاثَة أوراق بِلَفْظ: «الْجَمَاعَة» بِكَمَالِهِ.
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَدُوق (رُوَاته) شَاهد لما تقدمه، مُتَّفق(4/387)
عَلَى الِاحْتِجَاج (برواته) إِلَّا السَّائِب بن حُبَيْش. قَالَ: وَقد عرف من مَذْهَب زَائِدَة - يَعْنِي الرَّاوِي عَن السَّائِب - أَنه لَا يحدث إِلَّا عَن الثِّقَات.
قلت: والسائب هَذَا وَثَّقَهُ الْعجلِيّ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: من أهل الشَّام صَالح الحَدِيث لَا أعلم حدث عَنهُ غير زَائِدَة.
قلت: قد حدث عَنهُ أَيْضا حَفْص بن رَوَاحَة الْأنْصَارِيّ الْحلَبِي. (وَأما الإِمَام) أَحْمد (فَإِنَّهُ سُئِلَ) عَنهُ: أثقة هُوَ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي.
ثَالِثهَا: فِي كتاب التَّفْسِير بِلَفْظ: «لَا تُقَام فيهم الصَّلَاة ... » ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» : (مَا من خَمْسَة أَبْيَات لَا يجمعُونَ الصَّلَاة إِلَّا استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان» .
وَاعْلَم أَن لفظ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِيرَاد هَذَا الحَدِيث: «مَا من ثَلَاثَة فِي قَرْيَة لَا تُقَام فيهم الصَّلَاة إِلَّا استحاذ (عَلَيْهِم) الشَّيْطَان» وَزَاد فِي الْمُهَذّب: «فِي قَرْيَة وَلَا بَدو» وَقَالَ: «الْجَمَاعَة» بدل «الصَّلَاة» وَقَالَ: «استحوذ» بدل «استحاذ» مَعَ أَن فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ: «استحوذ» بِالْوَاو - وَقَالَ: «وَلَا تُقَام» - بِإِثْبَات الْوَاو - وَلم أر من خرجه بإثباتها وَلَا (من) خرجه بِلَفْظ: «استحاذ» إِن لم يكن ذَلِك من (بعض) النساخ.(4/388)
وَقد قَالَ ابْن الْأَثِير فِي «نهايته» فِي «حوذ» (بعد) ذكره هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ «استحوذ» - بِالْوَاو - وَأَن الْمَعْنى: اسْتَوْلَى عَلَيْهِم وحواهم إِلَيْهِ. (هَذِه اللَّفْظَة) أحد مَا جَاءَ عَلَى الأَصْل من غير إعلال خَارِجا عَن أخواتها نَحْو: استقال واستقام.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ « (أَن) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر أم ورقة أَن تؤم أهل دارها» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الْوَلِيد بن جَمِيع، عَن جدته وَعَن عبد الرَّحْمَن ابْن خَلاد الْأنْصَارِيّ، عَن أم ورقة بنت نَوْفَل «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما غزا بَدْرًا قَالَت: يَا رَسُول الله، ائْذَنْ لي فِي الْغَزْو مَعَك أمرض مرضاكم، لَعَلَّ الله - سُبْحَانَهُ - (يَرْزُقنِي) شَهَادَة. قَالَ: قري فِي بَيْتك فَإِن الله يرزقك الشَّهَادَة. قَالَ: فَكَانَت (تسمى) الشهيدة، وَكَانَت قد قَرَأت الْقُرْآن؛ (فاستأذنت) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن تتَّخذ فِي دارها مُؤذنًا فَأذن لَهَا. قَالَ: وَكَانَت دبرت غُلَاما لَهَا وَجَارِيَة فقاما إِلَيْهَا بِاللَّيْلِ فغماها (بقطيفة) لَهَا حَتَّى مَاتَت (وذهبا) فَأصْبح عمر فَقَامَ فِي النَّاس(4/389)
فَقَالَ: من كَانَ عِنْده من هذَيْن علم - أَو من رآهما - فليجئ بهما. فَأمر بهما فصلبا، فَكَانَا أول مصلوب بِالْمَدِينَةِ» .
زَاد الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث الْوَلِيد عَن جدته: «فَقَالَ عمر: صدق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول: انْطَلقُوا نزور الشهيدة» وَذكر فِي أَوله أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ لَهَا لما أَرَادَت أَن تخرج مَعَه إِلَى بدر: «إِن الله (يهدي) لَك شَهَادَة» . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد من حَدِيث الْوَلِيد، عَن عبد الرَّحْمَن، عَن أم ورقة بِهِ. وَالْأول أتم، قَالَ: «وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ يزورها فِي بَيتهَا وَجعل لَهَا مُؤذنًا وأمرها أَن تؤم أهل دارها» . قَالَ عبد الرَّحْمَن بن خَلاد: فَأَنا رَأَيْت مؤذنها شَيخا كَبِيرا. وَلم يذكر جدته.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» فِي أَوَائِل الصَّلَاة من حَدِيث الْوَلِيد بن جَمِيع، عَن (أمه) ، عَن أم ورقة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أذن لَهَا أَن يُؤذن لَهَا ويقام وتؤم نساءها» .
وَرَوَاهُ (فِي أَوَاخِر كتاب) الصَّلَاة من حَدِيث الْوَلِيد، عَن جدته، عَن أم ورقة - وَكَانَت تؤم - «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أذن لَهَا أَن تؤم أهل دارها» .
وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» من(4/390)
حَدِيث الْوَلِيد، عَن عبد الرَّحْمَن بن خَلاد، عَن أَبِيه «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ أذن لأم ورقة أَن تؤم أهل دارها وَكَانَ لَهَا مُؤذن» .
قَالَ: وَرَوَاهُ عبد الْعَزِيز، عَن الْوَلِيد، عَن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه، عَن أم ورقة «أَنَّهَا اسْتَأْذَنت ... » .
وَرَوَاهُ وَكِيع، عَن الْوَلِيد، عَن جدته، وَعبد الرَّحْمَن، عَن أم ورقة.
وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن الْوَلِيد، عَن جدته. لم يذكرُوا عبد الرَّحْمَن.
قلت: وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، عَن الْوَلِيد، عَن جدته، عَن أم ورقة - كَمَا أَفَادَهُ ابْن عَسَاكِر - (وَرَوَاهُ) الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث الْوَلِيد، عَن لَيْلَى بنت مَالك وَعبد الرَّحْمَن بن خَلاد الْأنْصَارِيّ، عَن أم ورقة الْأَنْصَارِيَّة أَنه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يَقُول: (انْطَلقُوا بِنَا إِلَى الشهيدة فنزورها. وَأمر أَن يُؤذن لَهَا (و) يُقَام وتؤم أهل دارها فِي الْفَرَائِض» .
والوليد هَذَا ثِقَة من فرسَان (مُسلم) وَمِمَّنْ صرح بتوثيقه يَحْيَى بن معِين، وَالْإِمَام أَحْمد وَأَبُو زرْعَة فَقَالَا: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَأَبُو حَاتِم فَقَالَ: صَالح الحَدِيث. وَقَالَ الْبَزَّار: حدث عَنهُ جمَاعَة وَاحْتَملُوا حَدِيثه، وَكَانَ فِيهِ تشيع. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : قد احْتج مُسلم بالوليد بن جَمِيع، وَهَذِه سنة غَرِيبَة، لَا أعرف فِي الْبَاب حَدِيثا مُسْندًا غير هَذَا.(4/391)
(قلت) : وَقَول هَؤُلَاءِ مقدم عَلَى تَضْعِيف ابْن حبَان لَهُ حَيْثُ قَالَ: إِنَّه ينْفَرد عَن الْأَثْبَات بِمَا لَا (يشبه) حَدِيث الثِّقَات، فَلَمَّا فحش ذَلِك مِنْهُ بَطل الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقد (تبعه) فِي ذَلِك الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين فِي «أَحْكَامه» فَقَالَ: قَول هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة فِي توثيقه مقدم عَلَى قَول ابْن حبَان فِيهِ؛ لأَنهم أعلم مِنْهُ نعم الشَّأْن فِي (جدته) فَإنَّا لَا نعلم لَهَا حَالا، وَكَذَا عبد الرَّحْمَن بن (خَلاد) وَإِن نقل عَن ابْن حبَان أَنه ذكر عبد الرَّحْمَن فِي «ثقاته» وَقد أعله بهما ابْن الْقطَّان فَقَالَ: حَال عبد الرَّحْمَن مَجْهُولَة، وَجدّة الْوَلِيد (كَذَلِك) لَا تعرف أصلا.
وليلى بنت مَالك السالفة فِي رِوَايَة الْحَاكِم قَالَ الصريفيني - فِيمَا (رَأَيْته) بِخَطِّهِ فِي كتاب - إِنَّهَا أم ورقة.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: هَذَا الحَدِيث سكت عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» ، وَعبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» ، وَقد علمت مَا فِيهِ من الِاضْطِرَاب والجهالة.
(ثَانِيهَا) : وَقع فِي أَحْكَام عبد الْحق: (أم) ورقة بنت(4/392)
الْحَارِث، وناقشه ابْن الْقطَّان فِي ذَلِك فَقَالَ: إِنَّمَا وَقع فِي كتاب أبي دَاوُد الَّذِي نَقله (من عِنْده) أم ورقة بنت عبد الله بن الْحَارِث.
قلت: وَالْأَمر فِي هَذَا قريب، فَإِنَّهُ نَسَبهَا إِلَى جدها.
(ثَالِثهَا) : لما ذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» هَذَا الحَدِيث قَالَ: الْوَلِيد بن جَمِيع (ضَعِيف) وَأمه مَجْهُولَة.
وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ؛ (فالوليد قد) علمت حَاله وَتبع فِي ذَلِك مقَالَة ابْن حبَان السالفة، وَقد ذكره أَيْضا فِي «ضُعَفَائِهِ» ، (وَاقْتصر) عَلَى هَذِه القولة فِيهِ، وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ.
وَأما الذَّهَبِيّ فَإِنَّهُ ذكره فِي (كتاب) «الْمُغنِي فِي الضُّعَفَاء» وَلم يعقبه بِتَضْعِيف، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنه تكلم (فِيهِ) . وَقَوله «إِن أمه مَجْهُولَة» تبع فِيهِ رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ السالفة (فَإِنَّهُ) أوردهَا من جِهَته، وَقد أسلفنا أَن رِوَايَة غَيره أَنَّهَا جدته.(4/393)
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «نهَى النِّسَاء (عَن) الْخُرُوج إِلَى الْمَسَاجِد فِي جمَاعَة الرِّجَال (إِلَّا عجوزًا فِي منقلها) » .
هَذَا الحَدِيث لَا يحضرني رَفعه بعد الْبَحْث عَنهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن عمر، عَن المَسْعُودِيّ، عَن سَلمَة بن كهيل، عَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: «وَالَّذِي لَا إِلَه غَيره مَا صلت امْرَأَة (صَلَاة) (أفضل) من صَلَاة [تصليها] فِي بَيتهَا (إِلَّا مَسْجِد مَكَّة وَالْمَدينَة) إِلَّا عجوزًا فِي مَنْقلها» . ثمَّ قَالَ: تَابعه جَعْفَر بن عون وَغَيره عَن المَسْعُودِيّ.(4/394)
(قلت: والمسعودي ثِقَة اخْتَلَط بِأخرَة، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الله) .
(و) اعْلَم أَن الرَّافِعِيّ تبع فِي إِيرَاده مَرْفُوعا صَاحب «الْمُهَذّب» فَإِنَّهُ ذكره كَذَلِك لَكِن لَفظه: «نهَى النِّسَاء عَن الْخُرُوج إِلَّا عجوزًا فِي منقليها» .
وأعقبه الْحَافِظ زكي الدَّين الْمُنْذِرِيّ فِي تَخْرِيجه لأحاديث (الْمُهَذّب) بأثر ابْن مَسْعُود هَذَا فَقَط، وَسكت عَلَيْهِ وَلم يتبعهُ بتصحيح وَلَا (بِتَضْعِيف) .
وَأما النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شَرحه» : إِنَّه حَدِيث غَرِيب. وَخَالف فِي «خلاصته» فَذكره فِي فصل الضَّعِيف مِنْهَا، وَهُوَ فرع عَن مَعْرفَته، قَالَ فيهمَا: وَإِنَّمَا يعرف عَن ابْن مَسْعُود، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ كَذَلِك بِإِسْنَاد ضَعِيف.
فَائِدَة: (المنقل) - فتح الْمِيم أشهر من كسرهَا، وَالْقَاف مَفْتُوحَة فيهمَا، وَحَكَى النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» عَن شَيْخه ابْن مَالك أَنه بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح: الْخُف، وبالضم: الْخُف المصلح. وَأطلق الرَّافِعِيّ فِي «شَرحه»(4/395)
أَنه الْخُف. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِنَّه الْخُف الْخلق. وَتَبعهُ الْمُنْذِرِيّ فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الْمُهَذّب» قَالَ: أَرَادَ أَنَّهَا (مِمَّن) تخرج إِلَى السُّوق فِي خفيها وَهِي من الْعَجَائِز الَّتِي لَا يرغب فِيهَا، وَجزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» (أَيْضا) لكنه رد عَلَيْهِ فِي «شَرحه» فَقَالَ: الصَّحِيح الْمَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة: (الأول) .
وَقَالَ فِي «تهذيبه» : لم يُقَيِّدهُ أهل اللُّغَة وَلَا غَيرهم بذلك وَإنَّهُ الْمُعْتَمد.
قَالَ: وَالتَّقْيِيد بذلك قَالَه الإِمَام وَغَيره من الْفُقَهَاء.
(قلت) : وَكَذَا الْجَوْهَرِي فِي «صحاحه» (وَأورد فِيهِ (الحَدِيث) شبه النَّقْل وَمثله المنقل - بِفَتْح النُّون وَكسرهَا -) وَفِي «التَّهْذِيب» للأزهري عَن أبي عبيد عَن الْأمَوِي: أَنه الْخُف. قَالَ أَبُو عبيد: لَوْلَا أَن الرِّوَايَة وَالشعر اتفقَا عَلَى فتح الْمِيم مَا كَانَ وَجه الْكَلَام عِنْدِي إِلَّا الْكسر. قَالَ الْأَزْهَرِي: وَرَوَى أَبُو الْعَبَّاس، عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: يُقَال للخف الْمعدل: والمنقل - بِكَسْر الْمِيم فيهمَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: المنقل بِفَتْحِهَا.(4/396)
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صَلَاة الرجل فِي بَيته أفضل إِلَّا الْمَكْتُوبَة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته كَمَا سلف فِي الْبَاب قبله فِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين مِنْهُ
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من صَلَّى لله أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جمَاعَة يدْرك التَّكْبِيرَة الأولَى كتب لَهُ براءتان: بَرَاءَة من النَّار، وَبَرَاءَة من النِّفَاق» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
أَولهَا: من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» كَذَلِك. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن أنس (مَوْقُوفا) عَلَيْهِ. قَالَ: وَلَا (نعلم) أحدا رَفعه إِلَّا مَا رَوَاهُ مُسلم بن قُتَيْبَة، عَن طعمة بن عَمْرو، (عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن أنس) إِنَّمَا [يُروى] هَذَا عَن حبيب بن أبي حبيب البَجلِيّ (عَن أنس) قَوْله، وَلم يرفعهُ. قَالَ: وَرَوَى إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش هَذَا الحَدِيث عَن عمَارَة بن غزيَّة، عَن أنس، عَن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَحْو هَذَا. قَالَ: وَهَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ وَهُوَ حَدِيث مُرْسل، عمَارَة بن غزيَّة لم يدْرك أنس بن مَالك.(4/397)
قلت: وَهُوَ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل عَن غير الشاميين فَإِن عمَارَة مدنِي، وَقد نَص غير وَاحِد من الْأَئِمَّة عَلَى ضعف هَذَا الحَدِيث (فَذكره) ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» (من) طَرِيق حبيب - غير مَنْسُوب، عَن أنس، (وَأَنه) سَأَلَ أَبَاهُ عَن حبيب هَذَا فَلم يعرفهُ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» حبيب هَذَا لَا مطْعن فِيهِ. وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فَقَالَ فِي «الْمِيزَان» : لَا أعلم (بِهِ) بَأْسا. وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث أنس، عَن عمر مَرْفُوعا: «من صَلَّى فِي (مَسْجِد) جمَاعَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا تفوته الرَّكْعَة الأولَى فِي صَلَاة الصُّبْح [كتب] لَهُ بهَا عتقا من النَّار» فَقَالَ: هُوَ حَدِيث يرْوَى عَن عمَارَة بن [غزيَّة] ، عَن أنس بن مَالك، عَن [عمر] وَعمارَة لَا نعلم لَهُ سَمَاعا من أنس، رَوَاهُ عَنهُ هَكَذَا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش وَمُحَمّد بن إِسْحَاق، وَرَوَاهُ يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عمَارَة بن غزيَّة، عَن رجل، عَن أنس، (عَن) (عمر) .(4/398)
(وَرَوَاهُ) أَبُو [الْعَلَاء] الْخفاف خَالِد بن طهْمَان الْكُوفِي، عَن حبيب بن أبي عميرَة الإسكاف، عَن أنس مَرْفُوعا، لم يذكر فِيهِ (عمر) . وَاخْتلف عَن أبي الْعَلَاء، فَقيل: عَنهُ، عَن حبيب بن أبي ثَابت. وَمن قَالَ ذَلِك عَنهُ فَهُوَ وهم. وَكَذَلِكَ يَقُول قيس بن الرّبيع وَعَطَاء بن مُسلم عَنهُ عَن خَالِد بن طهْمَان أبي (الْعَلَاء) الْخفاف الْكُوفِي، عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن أنس. ووهما فِي نسب (حبيب) ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو الْعَلَاء الْخفاف، عَن أبي [عميرَة] حبيب الإسكاف الْكُوفِي، عَن أنس وَقيل: عَن أبي الْعَلَاء، عَن (حبيب) بن أبي ثَابت، عَن نس. قَالَه قيس بن الرّبيع وَعَطَاء بن مُسلم عَنهُ، وَذَلِكَ وهم من قَائِله.
هَذَا (نَص) مَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من طَرِيق التِّرْمِذِيّ السالفة ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ ومرسل(4/399)
أَيْضا؛ لِأَن (عمَارَة) لم يدْرك أنس بن مَالك. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث (بكر) بن أَحْمد، عَن يَعْقُوب بن تَحِيَّة، عَن يزِيد بن هَارُون، عَن حميد، عَن أنس مَرْفُوعا: «من صَلَّى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جمَاعَة صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعشَاء (كتبت) لَهُ بَرَاءَة من النَّار وَبَرَاءَة من النِّفَاق» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، وَلَا نعلم رَوَاهُ غير (بكر) بن أَحْمد، عَن يَعْقُوب بن تَحِيَّة، وَكِلَاهُمَا مَجْهُول الْحَال.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد عرفت مَا فِيهِ (فِي) الطَّرِيق الَّذِي قبله.
(رَوَاهُ) ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «من صَلَّى فِي مَسْجِد جمَاعَة أَرْبَعِينَ لَيْلَة لَا تفوته (الرَّكْعَة) الأولَى من صَلَاة الْعشَاء (كتب لَهُ) عتقا من النَّار» .
(وَرَوَاهُ) سعيد بن مَنْصُور فِي «سنَنه» بِلَفْظ (الظّهْر) بدل «الْعشَاء» وَكَذَا رَوَاهُ الْحَازِمِي.
(وَرَوَاهُ) الْخَطِيب فِي «تَلْخِيص الْمُتَشَابه» بِلَفْظ: «من شهد(4/400)
الصَّلَاة (فِي) جمَاعَة أَرْبَعِينَ لَيْلَة وأيامها لَا يكبر الإِمَام إِلَّا وَهُوَ فِي الْمَسْجِد كتب الله (لَهُ) بِيَدِهِ بَرَاءَة من النَّار» .
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث أبي كَاهِل قَالَ: «قَالَ (لي) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا أَبَا كَاهِل، إِنَّه من صَلَّى (لله) أَرْبَعِينَ يَوْمًا - أَو أَرْبَعِينَ لَيْلَة - فِي الْجَمَاعَة يدْرك التَّكْبِيرَة الأولَى كَانَ حقًّا عَلَى الله أَن يكْتب (لَهُ) بَرَاءَة من النَّار» وَذكر حَدِيثا طَويلا.
(رَوَاهُ) الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر «معاجمه» ، والعقيلي فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» ، وَالْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «كناه» ثمَّ قَالَ: أَبُو كَاهِل هَذَا لَهُ صُحْبَة، وَإِسْنَاده لَيْسَ بالمعتمد عَلَيْهِ وَقَالَ الْعقيلِيّ: إِسْنَاده مَجْهُول وَفِيه نظر وَلَا يعرف إِلَّا من هَذَا الْوَجْه.
قلت: والفضائل يتَسَامَح فِي أحاديثها مَا لم ينْتَه إِلَى الْوَضع.
قَالَ ابْن مهْدي - عَلَى مَا نَقله الْحَاكِم فِي أول كتاب الدُّعَاء فِي «مُسْتَدْركه» -: إِذا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَحْكَام شددنا فِي الْأَسَانِيد وانتقدنا الرِّجَال، (وَإِذا) روينَا عَنهُ فِي فَضَائِل(4/401)
الْأَعْمَال وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب والمباحات والدعوات تساهلنا فِي الْأَسَانِيد.
قَالَ الرَّافِعِيّ: (ووردت) أَخْبَار فِي إِدْرَاك التَّكْبِيرَة الأولَى مَعَ الإِمَام نَحْو هَذَا.
قلت: مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لكل شَيْء صفوة، وصفوة الصَّلَاة التَّكْبِيرَة الأولَى» ثمَّ قَالَ الْعقيلِيّ: رَوَاهُ ابْن السكن عَن الْأَعْمَش وَلَا يُتَابع عَلَيْهِ وَلَا يعرف إِلَّا بِهِ وَهُوَ مُنكر الحَدِيث.
قلت: وَضَعفه أَحْمد أَيْضا. وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: «لكل شَيْء (أنف) ، و (إِن أنف) الصَّلَاة التَّكْبِيرَة الأولَى فحافظوا عَلَيْهَا» و (فِي) إِسْنَاده مَجْهُول.
«وأنف كل شَيْء» بِسُكُون النُّون أَوله، قَالَه الصغاني.
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَن السّلف من طرق حسان، قَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: «إِذا رَأَيْت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولَى فاغسل يَديك مِنْهُ» .
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: «مَا فاتتني (التَّكْبِيرَة) الأولَى مُنْذُ خمسين سنة» .
وَعَن ربيعَة بن يزِيد الدِّمَشْقِي: «مَا أذن الْمُؤَذّن لصَلَاة الظّهْر مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة إِلَّا وَأَنا فِي الْمَسْجِد، إِلَّا أَن أكون مَرِيضا أَو مُسَافِرًا» .(4/402)
وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود: «عَلَيْكُم بِحَدّ الصَّلَاة: التَّكْبِيرَة الأولَى» .
وَعَن السّلف أَنهم كَانُوا يعزون أنفسهم إِذا فَاتَتْهُمْ التَّكْبِيرَة الأولَى، ويعزون سبعا إِذا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَة.
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا (تأتوها) وَأَنْتُم تسعون، وائتوها وَأَنْتُم تمشون وَعَلَيْكُم (السكينَة) وَالْوَقار» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من طَرِيقين:
أولاهما: من (حَدِيث) أبي قَتَادَة الْأنْصَارِيّ (قَالَ) : « (بَيْنَمَا) نَحن نصلي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذْ سمع جلبة رجال فَقَالَ: مَا شَأْنكُمْ؟ قَالُوا: استعجلنا إِلَى الصَّلَاة. قَالَ: فَلَا تَفعلُوا، إِذا أتيتم الصَّلَاة فَعَلَيْكُم السكينَة، فَمَا أدركتم فصلوا، وَمَا (فاتكم) فَأتمُّوا» وَقَالَ البُخَارِيّ: «فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: مَا شَأْنكُمْ؟» .(4/403)
الطَّرِيق الثَّانِي: (من حَدِيث) أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَكَانَت جديرة بالتقديم لقربها من رِوَايَة المُصَنّف - عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا ثوب بِالصَّلَاةِ فَلَا تأتوها وَأَنْتُم تسعون، وائتوها وَعَلَيْكُم السكينَة، فَمَا أدركتم فصلوا، وَمَا فاتكم فَأتمُّوا» .
زَاد مُسلم: «فَإِن أحدكُم إِذا كَانَ يعمد إِلَى الصَّلَاة فَهُوَ فِي صَلَاة» .
وَفِي لفظ آخر: «إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا تأتوها تسعون وائتوها تمشون» .
وَفِي آخر: «إِذا نُودي» وَفِي آخر: «إِذا ثوب إِلَى الصَّلَاة فَلَا يسْعَى إِلَيْهَا أحدكُم، و (لَكِن) ليمش وَعَلِيهِ السكينَة وَالْوَقار، ثمَّ [صل] مَا (أدْركْت) واقض مَا سَبَقَك» .
وَلم يذكر البُخَارِيّ هَذَا اللَّفْظ - أَعنِي «واقض مَا سَبَقَك» - وَهِي من أَفْرَاد مُسلم، وَسَائِر (رواياته) مَعَ رِوَايَات البُخَارِيّ «وَمَا فاتكم فَأتمُّوا» .(4/404)
وَفِي كتاب «الْقِرَاءَة خلف الإِمَام» للْبُخَارِيّ: عَن مُحَمَّد بن كثير (عَن) سُلَيْمَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة رَفعه: «صلوا مَا أدركتم واقضوا مَا سبقكم» قَالَ: ونا (آدم) ، نَا ابْن أبي ذِئْب، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة وَسَعِيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «فَمَا أدركتم فصلوا وَمَا فاتكم فاقضوا» وَذكر الْبَيْهَقِيّ اخْتِلَاف الرِّوَايَة فِي «فَأتمُّوا» و «فاقضوا» ثمَّ قَالَ: وَالَّذين قَالُوا: «فَأتمُّوا» : أَكثر وأحفظ وألزم لأبي هُرَيْرَة، فَهُوَ أولَى. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى (مُسلم) بن الْحجَّاج قَالَ: لَا أعلم رَوَى هَذِه اللَّفْظَة عَن الزُّهْرِيّ غير ابْن عُيَيْنَة: « (واقضوا مَا فاتكم.» قَالَ مُسلم: وَأَخْطَأ ابْن عُيَيْنَة) فِيهَا.
قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ يُونُس والزبيدي وَابْن أبي ذِئْب وَإِبْرَاهِيم (بن) سعد وَمعمر وَشُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ: «وَمَا فاتكم [فَأتمُّوا] » . وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ وَحده: «فاقضوا» وَقَالَ مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة. وجعفر بن ربيعَة، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة: «فَأتمُّوا» . وَابْن مَسْعُود وَأَبُو قَتَادَة وَأنس عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فَأتمُّوا» .(4/405)
قلت: لم ينْفَرد ابْن عُيَيْنَة بِلَفْظ الْقَضَاء فقد تَابعه ابْن أبي ذِئْب - كَمَا أسلفناه (فِي) كتاب «الْقِرَاءَة خلف الإِمَام للْبُخَارِيّ» ؛ لَكِن فِي «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب، عَن الزُّهْرِيّ: «وَمَا سُبقتم فَأتمُّوا» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث شُعْبَة، عَن سعد بن إِبْرَاهِيم، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: (ائْتُوا الصَّلَاة وَعَلَيْكُم السكينَة، فصلوا مَا أدركتم واقضوا مَا (سبقتم)) (قد) توبع الزُّهْرِيّ وَغَيره عَلَيْهَا (لَا جرم) .
(قَالَ) الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : (اخْتلف فِي) هَذِه اللَّفْظَة، فَقيل: «فَأتمُّوا» وَقيل: «فاقضوا» . وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قلت: (وَالْقَضَاء) فِي عرف الشَّرْع هُوَ الْإِتْمَام فَلَا فرق إِذا بَينهمَا قَالَ الله - تَعَالَى -: (فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم) (و) (فَإِذا قضيتم الصَّلَاة) .(4/406)
ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك (أَن) ابْن الْجَوْزِيّ سَاق الحَدِيث فِي «تَحْقِيقه» بِإِسْنَادِهِ إِلَى مَحْمُود بن إِسْحَاق الْخُزَاعِيّ، نَا البُخَارِيّ، نَا أَبُو نعيم، نَا ابْن عُيَيْنَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «مَا أدركتم فصلوا (وَمَا فاتكم فاقضوا) » . ثمَّ قَالَ: أَخْرجَاهُ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) . وَمرَاده أَصله، وَأما لفظ الْقَضَاء فقد (علمت) أَنه من أَفْرَاد مُسلم بِلَفْظ: «واقض مَا سَبَقَك» لَا كَمَا سَاقه ابْن الْجَوْزِيّ. فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «مَا صليت وَرَاء إِمَام قطّ أخف (صَلَاة) وَلَا أتم من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» . كَذَلِك زَاد البُخَارِيّ: «وَإِن كَانَ يسمع بكاء الصَّبِي(4/407)
فيخفف مَخَافَة أَن تفتن أمه» . وَفِي رِوَايَة لَهما: «إِنِّي لأدخل فِي الصَّلَاة أُرِيد إطالتها فَأَسْمع بكاء الصَّبِي (فأتجوز) فِي صَلَاتي (مِمَّا) أعلم من شدَّة وجد أمه من بكائه» وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ من (أخف) النَّاس صَلَاة فِي تَمام» . وَفِي البُخَارِيّ نَحوه من حَدِيث أبي قَتَادَة.
الحَدِيث الْعَاشِر
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أم أحدكُم النَّاس فليخفف» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ أَيْضا، أودعاه فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من طَرِيق أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِزِيَادَة: « (فَإِن) فيهم الصَّغِير وَالْكَبِير والضعيف وَالْمَرِيض، (فَإِذا) صَلَّى وَحده فَليصل كَيفَ شَاءَ» . لم يذكر(4/408)
البُخَارِيّ «الصَّغِير» وَأَخْرَجَاهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» أَيْضا من حَدِيث أبي مَسْعُود البدري عقبَة بن (عَمْرو) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بعضه، وَفِي آخِره: «فَأَيكُمْ أم النَّاس فليوجز؛ فَإِن من وَرَائه الْكَبِير والضعيف وَذَا الْحَاجة» وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ «الْمَرِيض» بدل «الْكَبِير» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة «إِذا أم (أحدكُم) بِقوم فليخفف» .
وَهَذِه الرِّوَايَة أخرجهَا مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُ: أم قَوْمك. قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أجد فِي (نَفسِي) شَيْئا. قَالَ: ادنه. فأجلسني بَين يَدَيْهِ، ثمَّ وضع (كَفه) فِي صَدْرِي (بَين) ثديي، ثمَّ قَالَ: تحول (فوضعها) فِي ظَهْري بَين كَتِفي، ثمَّ قَالَ: أم قَوْمك فَمن أم قوما فليخفف؛ فَإِن فيهم الْكَبِير (وَإِن فيهم الضَّعِيف) وَإِن فيهم الْمَرِيض وَإِن فيهم ذَا الْحَاجة،(4/409)
إِذا صَلَّى أحدكُم (وَحده) فَليصل كَيفَ شَاءَ» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: « (آخر مَا عهد) إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِذا (أممت) قوما فأخفف بهم الصَّلَاة» .
والْحَدِيث من أَفْرَاد مُسلم، بل لم يخرج البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ (الثَّقَفِيّ شَيْئا) .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ ينْتَظر فى صلَاته مَا (سمع) وَقع نعل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث مُحَمَّد بن حجادة، عَن رجل، عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقوم فِي الرَّكْعَة الأولَى من صَلَاة الظّهْر حَتَّى لَا يسمع وَقع قدم» .
وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف بِجَهَالَة هَذَا الرجل لَكِن قَالَ (الْحَافِظ جمال الدَّين) (الْمزي) فِي «أَطْرَافه» : رَوَى هَذَا الحَدِيث أَبُو إِسْحَاق(4/410)
(الخميسي) ، عَن مُحَمَّد بن جحادة، عَن كثير الْحَضْرَمِيّ، عَن ابْن أبي (أَوْفَى) . بِطُولِهِ.
قلت: وَالظَّاهِر أَن كثيرا هَذَا هُوَ كثير بن مرّة الَّذِي رَوَى عَن معَاذ وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة، وَهُوَ ثِقَة كَمَا شهد (لَهُ) بذلك ابْن (سعد) وَالْعجلِي وَابْن حبَان، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. فَإِن (يكنه) فإسناده صَحِيح.
ثمَّ رَأَيْت بعد ذَلِك فِي «شرح الْمُهَذّب» للنووي أَن بعض الروَاة سَمّى هَذَا الرجل الْمَجْهُول (فَقَالَ) : طرفَة الْحَضْرَمِيّ.
قلت: فَإِن يَكُنْه فَفِي كتاب الْأَزْدِيّ: أَن طرفَة الْحَضْرَمِيّ لَا يَصح حَدِيثه.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حمل أُمَامَة بنت أبي الْعَاصِ، فَإِذا سجد وَضعهَا وَإِذا قَامَ حملهَا» .(4/411)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح من حَدِيث أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَمَا سلف فِي بَاب الِاجْتِهَاد.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن يزِيد بن الْأسود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «شهِدت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حجَّته، فَصليت مَعَه صَلَاة الصُّبْح فِي مَسْجِد الْخيف، فَلَمَّا قَضَى صلَاته وانحرف إِذا هُوَ برجلَيْن فِي آخر الْقَوْم لم يصليا (مَعَه) ، (فَقَالَ) : عليَّ بهما. فجيء بهما ترْعد فرائصهما، قَالَ: مَا منعكما أَن تصليا مَعنا؟ فَقَالَا: يَا رَسُول الله، إِنَّا كُنَّا قد صلينَا فِي رحالنا. قَالَ: فَلَا تفعلا، إِذا صليتما فِي رحالكما ثمَّ أتيتما مَسْجِد جمَاعَة فَصَليَا مَعَهم، (فَإِنَّهَا) لَكمَا نَافِلَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة للدارقطني: «سبْحَة» بدل «نَافِلَة» .(4/412)
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث (حسن) صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: (إِسْنَاده صَحِيح) وَصَححهُ ابْن السكن أَيْضا.
قلت: ومداره من طَرِيق هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة عَلَى يعْلى بن عَطاء، عَن جَابر بن يزِيد (بن) الْأسود، عَن أَبِيه، وَقد طعن فِيهِ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم حَيْثُ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد مَجْهُول. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن يزِيد بن الْأسود لَيْسَ لَهُ راوٍ (غير) ابْنه، وَلَا لجَابِر راوٍ غير يعْلى، ويعلى لم يحْتَج بِهِ بعض الْحفاظ، وَكَانَ يَحْيَى بن معِين وَجَمَاعَة من الْأَئِمَّة يوثقونه، وَهَذَا الحَدِيث لَهُ شَوَاهِد. فَذكرهَا.
قلت: ويعلى من رجال مُسلم، قَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : وَرَوَاهُ جمَاعَة عَنهُ. فَذكرهمْ، قَالَ: وَقد احْتج بِهِ مُسلم.
قلت: وَجَابِر بن [يزِيد] وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ فَهَذِهِ وَجه من صَححهُ.(4/413)
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: «وليجعل الَّتِي صَلَّى فِي بَيته نَافِلَة» لَكِنَّهَا شَاذَّة (ضَعِيفَة) .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ بعد أَن أَخْرَجَاهَا: هَذِه الرِّوَايَة شَاذَّة ضَعِيفَة مَرْدُودَة؛ لمخالفتها (الثِّقَات والحفاظ) وَنَصّ عَلَى ذَلِك غَيرهمَا أَيْضا.
الثَّانِي: «الفرائص» - بالصَّاد الْمُهْملَة - جمع فريصة وَهِي لحْمَة فِي (وسط) الْجنب قريبَة من الْقلب ترتعد عِنْد الْفَزع، قَالَه الْخطابِيّ.
الثَّالِث: نَحْو هَذَا الحَدِيث فِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أبي ذَر، وَفِي «الْمُوَطَّأ» من حَدِيث محجن الديلِي، وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث يزِيد بن عَامر.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
(أَنه) (قَالَ: «من سمع النداء فَلم يَأْته فَلَا صَلَاة لَهُ إِلَّا من عذر. قيل يَا رَسُول الله، وَمَا الْعذر؟ قَالَ: خوف أَو مرض» .(4/414)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي جناب الْكَلْبِيّ، عَن مغراء الْعَبْدي، عَن عدي بن ثَابت، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من سمع (الْمُنَادِي) فَلم يمنعهُ من اتِّبَاعه عذر - قَالُوا: وَمَا الْعذر؟ قَالَ: خوف (أَو) مرض - لم يقبل الله مِنْهُ الصَّلَاة الَّتِي صَلَّى» .
(وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ) أَيْضا فِي «سنَنه» كَذَلِك.
وَأَبُو جناب - بِالْجِيم - (هَذَا) ضَعِيف مُدَلّس، كَمَا (قَدمته) فِي الْبَاب السالف قبل هَذَا، وَقد عنعن فِي هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ عبد الْحق: هَذَا الحَدِيث يرويهِ مغراء الْعَبْدي، وَالصَّحِيح فِيهِ مَوْقُوف، ومغراء (الْعَبْدي) (رَوَى) عَنهُ أَبُو إِسْحَاق.
وَاعْتَرضهُ ابْن الْقطَّان قَالَ: لَيْسَ الشَّأْن فِي مغراء (الْعَبْدي) ؛ فَإِنَّهُ لم يثبت فِيهِ مَا يتْرك (بِهِ) حَدِيثه، (رَوَى(4/415)
عَنهُ) جمَاعَة، وَلَا يحفظ فِيهِ لأحد تجريح، عَلَى أَن الْكُوفِي قَالَ - فِيمَا حَكَاهُ أَبُو الْعَرَب -: لَا بَأْس بِهِ. إِنَّمَا عِلّة هَذَا الْخَبَر يَحْيَى (ابْن) أبي حَيَّة الْكَلْبِيّ المكنى (أَبُو) جناب فَإِنَّهُ (يضعف) ، وَيُوجد لِأَحْمَد فِيهِ التوثيق، وَلَكِن مَعَ وَصفه بالتدليس (وَهُوَ) عِنْدهم مَشْهُور بِهِ.
قَالَ ابْن نمير: هُوَ صَدُوق، (وَلَكِن) فَشَا فِي حَدِيثه التَّدْلِيس وَهُوَ لم يقل فِي هَذَا الحَدِيث: ثَنَا مغراء، فَهَذَا هُوَ المتقى مِنْهُ.
قلت: وَكَذَا ضعفه بِهِ (من) الْمُتَأَخِّرين ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» ، فَقَالَ فِي « (تَحْقِيقه» ) : أَبُو جناب وَهُوَ ضَعِيف. (وَالنَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» و «الْخُلَاصَة» فَقَالَ: هُوَ من رِوَايَة أبي جناب وَهُوَ) مُدَلّس (ضَعِيف) ، وَقد عنعن.
ثمَّ قَالَ عبد الْحق: عَلَى أَن قَاسم بن أصبغ ذكره فِي كِتَابه فَقَالَ: نَا إِسْمَاعِيل القَاضِي، نَا سُلَيْمَان بن حَرْب، نَا شُعْبَة، عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من(4/416)
سمع النداء فَلم يجب فَلَا صَلَاة لَهُ إِلَّا من عذر» (قَالَ) : وحسبك بِهَذَا الْإِسْنَاد صِحَة.
وَاعْتَرضهُ ابْن الْقطَّان فَقَالَ: هَكَذَا أوردهُ وَلَيْسَ فِي كتاب قَاسم: «إِلَّا من عذر» فِي الْمَرْفُوع، إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَوْقُوف - وَتبع عبد الْحق فِي ذَلِك (أَبَا مُحَمَّد) بن حزم، وَهَذَا نَص مَا ذكره قَاسم بن أصبغ وَمن كِتَابه نقلت: نَا إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق، نَا حَفْص بن عمر وَسليمَان بن حَرْب و (عَمْرو) بن مَرْزُوق، عَن عدي بن ثَابت [عَن] سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس (قَالَ) : «من سمع النداء فَلم يجب فَلَا صَلَاة (لَهُ) إِلَّا من عذر قَالَ إِسْمَاعِيل: وَبِهَذَا الْإِسْنَاد رَوَى النَّاس عَن شُعْبَة، وثنا بِهِ أَيْضا سُلَيْمَان عَن شُعْبَة بِإِسْنَاد آخر: نَا سُلَيْمَان، نَا شُعْبَة، عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من سمع النداء فَلم يجب فَلَا صَلَاة لَهُ» نَا بِهَذَا سُلَيْمَان مَرْفُوعا، ونا بِالْأولِ مَوْقُوفا عَلَى ابْن عَبَّاس. هَذَا نَص مَا عِنْده، فَالْمَرْفُوع عِنْده إِنَّمَا هُوَ من رِوَايَة شُعْبَة، عَن حبيب، لَا عَن عدي، وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَة: «إِلَّا من عذر» فَحمل الحَدِيث الْمَرْفُوع عَلَى الْمَوْقُوف فِي أَن هَذِه الزِّيَادَة فِيهِ، وَنسبَة ذَلِك إِلَى قَاسم بن أصبغ خطأ، نعم هِيَ فِي الحَدِيث الْمَرْفُوع، و (فِي)(4/417)
رِوَايَة عدي بن ثَابت عِنْد غير قَاسم من رِوَايَة هشيم عَن شُعْبَة رَوَاهَا بَقِي بن مخلد من حَدِيث عبد الحميد ابْن بَيَان - أحد أَشْيَاخ مُسلم - عَن هشيم بِهِ بِلَفْظ: «من سمع النداء فَلم يجب فَلَا صَلَاة لَهُ إِلَّا من عذر» وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا كَذَلِك، وَأَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ فِيمَا جمع من حَدِيث عَلّي بن الْجَعْد، بعد أَن ذكر رِوَايَة شُعْبَة الْمَوْقُوفَة، (من حَدِيث عَمْرو بن عون عَن هشيم) وَابْن الْمُنْذر أَيْضا بِلَفْظ: «فَلم يَأْته» بدل «فَلم يجبهُ» . قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث وَكِيع وَعبد الرَّحْمَن عَن شُعْبَة مَوْقُوفا عَلَى ابْن عَبَّاس غير مَرْفُوع.
قلت: وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الحميد أَيْضا.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: فِي إِسْنَاده نظر. وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى كَونه رُوِيَ مَوْقُوفا أَيْضا.
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» (أَيْضا) وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ قَالَ: حَدِيث قد وَقفه غنْدر وَأكْثر أَصْحَاب شُعْبَة، وَهُوَ صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يخرجَاهُ، وَالَّذِي وَصله ثِقَة، وَإِذا كَانَ الْوَاصِل ثِقَة فَالْقَوْل قَوْله. ثمَّ ذكر لَهُ شَوَاهِد ومتابعات مِنْهَا طَرِيق أبي دَاوُد السالفة. ثمَّ قَالَ: وَقد صحت الرِّوَايَة(4/418)
(فِيهِ) عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حَدِيث أبي حُصَيْن، عَن أبي بردة (بن أبي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن أَبِيه) : «من سمع النداء فَلم يجب فَلَا صَلَاة لَهُ» ثمَّ (ذكره) بِإِسْنَادِهِ.
قلت: [ورُوي] من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا: «لَا صَلَاة لمن سمع النداء ثمَّ لم يَأْتِ إِلَّا من عِلّة» .
رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» ، وَالْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «كناه» ، وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد (مُؤذن بني شقرة وَهُوَ مَجْهُول، وَقَالَ البُخَارِيّ: فِيهِ نظر، وَأغْرب) ابْن السكن، فَأخْرجهُ فِي صحاحه من هَذَا الْوَجْه.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا ابتلت النِّعَال فَالصَّلَاة فِي الرّحال» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي (إِيرَاده) عَلَى هَذَا النمط الْمَاوَرْدِيّ وَصَاحب الْبَيَان، وَلم أَجِدهُ بعد الْبَحْث عَنهُ كَذَلِك فِي كتاب حَدِيث.
(وَتَبعهُ) أَيْضا ابْن (الفركاح) فَقَالَ فِي «إقليده» : لم أَجِدهُ فِي الْأُصُول، إِنَّمَا ذكره أهل الْعَرَبيَّة.(4/419)
قلت: وَهُوَ مَوْجُود بِمَعْنَاهُ فِي «الْمُسْتَدْرك» للْحَاكِم أبي عبد الله من حَدِيث نَاصح بن الْعَلَاء، حَدثنِي عمار بن (أبي) عمار قَالَ: «مَرَرْت بِعَبْد الرَّحْمَن بن سَمُرَة يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ عَلَى نهر يسيل المَاء مَعَ غلمانه ومواليه، (فَقلت) لَهُ: يَا أَبَا سعيد، الْجُمُعَة. (فَقَالَ) : قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِذا كَانَ مطر وابل فصلوا فِي رحالكُمْ» قَالَ الْحَاكِم: (هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ) وناصح بن الْعَلَاء هَذَا (بَصرِي) ثِقَة، إِنَّمَا المطعون فِيهِ نَاصح (أَبُو عبد الله) [المحلمي] الْكُوفِي فَإِنَّهُ رَوَى عَن سماك بن حَرْب الْمَنَاكِير.
قلت: وَالْأول مطعون فِيهِ (أَيْضا) قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ مرّة: ضَعِيف. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّسَائِيّ. وَقَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا انْفَرد. وَأما ابْن الْمَدِينِيّ وَأَبُو دَاوُد فوثقاه.(4/420)
وَرَوَى عبد الله بن أَحْمد هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أَبِيه بِهَذَا السَّنَد دون الْقِصَّة وَهَذَا لَفظه: عَن (عبد الرَّحْمَن) بن سَمُرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول: إِذا كَانَ يَوْم (مطر) وابل فَليصل أحدكُم فِي رَحْله» .
وَفِي «الْمسند» أَيْضا: ثَنَا بهز، حَدثنَا أبان، نَا قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن سَمُرَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ يَوْم حنين فِي يَوْم (مطير) : الصَّلَاة فِي الرّحال» .
وَقد علمت مَا فِي هَذِه التَّرْجَمَة للحفاظ فِيمَا أسلفته لَك فِي أَوَاخِر صفة الصَّلَاة.
وَفِي « (الْمسند» أَيْضا و) (سنَن أبي دَاوُد) و (النَّسَائِيّ) و (ابْن مَاجَه) و «صحيحي» ابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث أبي الْمليح، عَن أَبِيه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه شهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زمن الْحُدَيْبِيَة فِي يَوْم الْجُمُعَة وأصابهم مطر لم تبتل أَسْفَل نعَالهمْ فَأَمرهمْ أَن يصلوا فِي رحالهم» . هَذَا لفظ أبي دَاوُد وَالْحَاكِم.(4/421)
وَلَفظ ابْن حبَان: «كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زمن الْحُدَيْبِيَة وأصابنا مطر لم يبل (أَسْفَل) نعالنا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن صلوا فِي رحالكُمْ» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَصَابَنَا مطر بحنين فَنَادَى مُنَادِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أَن صلوا فِي الرّحال» ) .
وَلَفظ أَحْمد «أَن يَوْم حنين كَانَ مطيرًا فَأمر عَلَيْهِ السَّلَام مناديه أَن الصَّلَاة فِي الرّحال» .
وَفِي لفظ لَهُ: «كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْحُدَيْبِية فأصابنا مطر لم (يبل) أَسْفَل نعالنا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: صلوا فِي رحالكُمْ» .
وَلَفظ البَاقِينَ بِنَحْوِهِ.
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد (و) احْتج الشَّيْخَانِ برواته.
قلت: وَهَذَا الْمَعْنى ثَابت فِي الصَّحِيحَيْنِ من طَرِيقين:
أَولهمَا: من حَدِيث نَافِع «أَن ابْن عمر أذن بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَة ذَات برد وريح ومطر فَقَالَ فِي آخر ندائه: أَلا صلوا (فِي رحالكُمْ أَلا(4/422)
صلوا) فِي الرّحال، ثمَّ قَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَأْمر الْمُؤَذّن إِذا كَانَت لَيْلَة بَارِدَة أَو ذَات مطر فِي السّفر أَن يَقُول: أَلا صلوا فِي رحالكُمْ» وَهَذَا السِّيَاق لمُسلم.
وَفِي رِوَايَة لَهُ: « (نَادَى) بِالصَّلَاةِ بضجنان» .
وَلَفظ البُخَارِيّ «أَن (ابْن) عمر أذن بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَة ذَات برد وريح (ثمَّ) قَالَ: أَلا صلوا فِي الرّحال. ثمَّ قَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَأْمر الْمُؤَذّن إِذا كَانَت لَيْلَة ذَات برد ومطر يَقُول: أَلا صلوا فِي الرّحال» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : وَفِي (رِوَايَة) مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن (نَافِع) ، عَن ابْن عمر قَالَ: «نَادَى مُنَادِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بذلك [فِي الْمَدِينَة] فِي اللَّيْلَة الْمَطِيرَة، والغداة القرة» .
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَنه قَالَ لمؤذنه فِي يَوْم مطير: إِذا قلت: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول(4/423)
الله فَلَا تقل: حَيّ عَلَى الصَّلَاة، قل: صلوا فِي بُيُوتكُمْ. فَكَأَن النَّاس استنكروا ذَلِك (فَقَالَ) : أتعجبون من ذَا؟ (قد) فعل ذَا من هُوَ خير مني، إِن الْجُمُعَة عَزمَة، وَإِنِّي كرهت أَن أخرجكم فِي الطين والدحض» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «إِن ذَلِك (كَانَ ليَوْم جُمُعَة) . وَقَالَ: «فعله (من هُوَ) خير مني - يَعْنِي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» (وَفِي أُخْرَى خَطَبنَا ابْن) (عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي يَوْم ذِي ردغ وَلم يذكر الْجُمُعَة) .
وَله طَرِيق ثَالِث فِي مُسلم خَاصَّة من حَدِيث جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «خرجنَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر فمطرنا فَقَالَ: ليصل من شَاءَ مِنْكُم فِي رَحْله» .
فَائِدَة: فِي (بَيَان) الْأَلْفَاظ الْوَاقِعَة فِي رِوَايَة الرَّافِعِيّ وَالْأَحَادِيث الَّتِي أوردناها: النِّعَال هَل هِيَ الَّتِي يمشى عَلَيْهَا أَو الأرجل (و) الْأَقْدَام أَو الْحِجَارَة الصغار الَّتِي تكون فِي الطَّرِيق؛ فَإِنَّهَا(4/424)
تسمى بذلك، فِيهِ [ثَلَاثَة] أوجه حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحَكَى القَاضِي حُسَيْن وَجها رَابِعا أَنَّهَا وَجه الأَرْض. (وَقَالَ) الْأَزْهَرِي: النَّعْل: مَا غلظ من الأَرْض فِي صلابة. قَالَ ثَعْلَب: (يَقُول) إِذا مُطرت (الأَرَضُون) الصلاب (فزلقت) بِمن يمشي فِيهَا - «فصلوا فِي مَنَازِلكُمْ» وَلم يذكر (ابْن) الْجَوْزِيّ فِي «غَرِيبه» غَيره.
(وَقَالَ) ابْن الْأَثِير: النِّعَال جمع نعل: وَهُوَ مَا غلظ من الأَرْض فِي صلابة، وَإِنَّمَا خصها (بِالذكر) ؛ لِأَن أدنَى بَلل ينديها بِخِلَاف الرخوة فَإِنَّهَا تنشف المَاء.
وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه: ظَاهر حَدِيث أبي الْمليح أَن المُرَاد بالنعال: الَّتِي تلبس فِي الرجل. قَالَ: وَأما الحَدِيث الآخر: «إِذا ابتلت النِّعَال (فَالصَّلَاة فِي الرّحال) » فأكثرهم قَالُوا: النِّعَال هُنَا جمع نعل وَهُوَ مَا غلظ من الأَرْض فِي صلابة. وَحمله آخَرُونَ عَلَى ظَاهره وَقَالَ: إِذا وَقع (شَيْء) من الْمَطَر (فابتل) بِهِ النَّعْل فيعذر بِهِ.(4/425)
وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أبي الْمليح. كَذَا ذكر (هَذَا) الْحَافِظ حَدِيث: «إِذا ابتلت النِّعَال» .
وَلم يقره وَكَأَنَّهُ تبع فِي إِيرَاده أَصْحَاب الْغَرِيب كَمَا أسلفته عَنْهُم.
و «الردغ» - فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس - برَاء ثمَّ دَال مُهْملَة سَاكِنة ثمَّ غين مُعْجمَة - وَرَوَاهُ بعض رُوَاة مُسلم: رزغ - بزاي بدل الدَّال مَفْتُوحَة وساكنة - وَهُوَ صَحِيح، وَهُوَ بِمَعْنى الردغ، و (الردغ) والدحض والزلل والزلق بِمَعْنى.
وَقَالَ اللَّيْث: الرزغة أَشد من الردغة.
و «أحرجكم» - بِالْحَاء الْمُهْملَة - يَعْنِي الْمَشَقَّة.
و «عَزمَة» - بِفَتْح الْعين - و (إسكان) الزَّاي أَي: وَاجِبَة متحتمة، فَلَو قَالَ الْمُؤَذّن: حَيّ عَلَى الصَّلَاة: لتكلفتم الْمَجِيء إِلَيْهَا ولحقتكم الْمَشَقَّة.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَأْمر مناديه فِي اللَّيْلَة الممطرة وَاللَّيْلَة ذَات الرّيح أَن يُنَادي أَلا صلوا فِي رحالكُمْ» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث ابْن عمر كَمَا (أسلفته) لَك وَحَدِيث ابْن عَبَّاس وَجَابِر نَحوه كَمَا سلف أَيْضا.
وتنبه لفائدة جليلة وَهِي: أَن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «أَلا صلوا فِي الرّحال»(4/426)
يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ فِي جمَاعَة، وَأَن يكون مَعْنَاهُ فُرَادَى أَو فِي جمَاعَة كَيفَ شِئْت، وَقد أَفَادَ ابْن الْقطَّان فِي «كِتَابه» مَا يرجح الأول، (وَأَن) بَقِي بن مخلد رَوَى بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث (عبيد الله) ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه أذن بضجنان فِي لَيْلَة ذَات ريح ومطر، فَلَمَّا فرغ من أَذَانه قَالَ: صلوا فِي رحالكُمْ» قَالَ: وَأخْبرنَا «أَنهم كَانُوا (يكونُونَ) مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي السّفر، فَإِذا كَانَ اللَّيْلَة الْبَارِدَة أَو الْمَطِيرَة أَمر مؤذنه فَنَادَى بِالصَّلَاةِ، حَتَّى إِذا فرغ من أَذَانه قَالَ: نَاد أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا جمَاعَة (صلوا فِي الرّحال) » .
الحَدِيث السَّابِع عشر
(أَنه) (قَالَ: «لَا يُصَلِّي أحدكُم وَهُوَ يدافع الأخبثين» .
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ، (من) حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وَهُوَ فِي أَفْرَاد مُسلم بِلَفْظ: «لَا صَلَاة بِحَضْرَة طَعَام وَلَا وَهُوَ يدافعه الأخبثان» وَفِي أَوله قصَّة، والأخبثان: الْبَوْل وَالْغَائِط.(4/427)
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة وَوجد أحدكُم الْغَائِط، فليبدأ بالغائط» .
هَذَا (حَدِيث) صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي «مسنديهما» ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان (وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ) من رِوَايَة عبد الله بن الأرقم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَلَفظ مَالك وَالنَّسَائِيّ: «إِذا أَرَادَ أحدكُم الْغَائِط فليبدأ بِهِ قبل الصَّلَاة» .
وَلَفظ الشَّافِعِي كَذَلِك فِي (إِحْدَى روايتيه) ، وَلَفظه فِي الْأُخْرَى كَلَفْظِ الرَّافِعِيّ سَوَاء.
وَلَفظ أَحْمد: «إِذا أَرَادَ أحدكُم أَن يذهب إِلَى الْخَلَاء وأُقِيمَت(4/428)
الصَّلَاة فليذهب إِلَى الْخَلَاء» .
وَلَفظ أبي دَاوُد: «إِذا أَرَادَ أحدكُم أَن يذهب إِلَى الْخَلَاء وَقَامَت الصَّلَاة فليبدأ بالخلاء» .
وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة وَوجد أحدكُم الْخَلَاء فليبدأ بالخلاء» .
وَلَفظ ابْن حبَان: «إِذا وجد أحدكُم الْغَائِط فليبدأ بِهِ قبل الصَّلَاة» .
وَلَفظ ابْن مَاجَه: «إِذا حضرت الصَّلَاة والخلاء فابدءوا بالخلاء» .
وَلَفظ الْحَاكِم فِي أَوَاخِر بَاب صَلَاة الْجَمَاعَة: «إِذا حضرت الصَّلَاة وَحضر الْغَائِط فابدءوا بالغائط» .
وَلَفظه فِي تَرْجَمَة عبد الله بن الأرقم: «إِذا حضرت الصَّلَاة وبأحدكم الْغَائِط فليبدأ بالغائط» .
وَلَفظه فِي أثْنَاء الطَّهَارَة كَلَفْظِ أبي دَاوُد، وَالْكل ذكرُوا فِي أَوله قصَّة وَهِي «أَن عبد الله بن الأرقم كَانَ يؤم أَصْحَابه، فَحَضَرت الصَّلَاة يَوْمًا فَذهب لِحَاجَتِهِ ثمَّ رَجَعَ ... » فَذكر الحَدِيث. وَفِي بَعْضهَا «أَنه أَخذ رجلا فقدمه وَقَالَ ذَلِك» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح (هَكَذَا) رَوَاهُ (مَالك(4/429)
بن أنس) وَيَحْيَى ابْن سعيد وَغير وَاحِد من الْحفاظ عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن الأرقم. [وَرَوَى] وهيب وَغَيره عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، [عَن رجل] عَن عبد الله بن الأرقم.
وَقَالَ فِي «علله» : سَأَلت مُحَمَّدًا عَن حَدِيث هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن الأرقم ... فَذكره. فَقَالَ: رَوَاهُ وهيب، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن رجل، عَن (عبد الله) بن الأرقم، وَكَأن هَذَا أشبه عِنْدِي.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: رَوَاهُ مَالك وَغير وَاحِد من الثِّقَات عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن ابْن الأرقم لم يذكرُوا فِيهِ: عَن رجل.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : (رَوَى حَدِيث) عبد الله بن الأرقم: وهيب بن خَالِد وَشُعَيْب بن إِسْحَاق وَأَبُو ضَمرَة، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن رجل حَدثهُ عَن عبد الله ابْن الأرقم. وَأكْثر الَّذين رَوَوْهُ عَن هِشَام قَالُوا كَمَا قَالَ زُهَيْر - يَعْنِي عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بِغَيْر وَاسِطَة.
وَقَالَ أَبُو عمر فِي «التَّمْهِيد» : اخْتلف فِيهِ عَن هِشَام، فَرَوَاهُ مَالك كَمَا ترَى - يَعْنِي بِغَيْر ذكر وَاسِطَة بَين عُرْوَة وَعبد الله - وَتَابعه جمَاعَة.
وَقَالَ الْحَاكِم لما أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» فِي أَوَاخِر بَاب صَلَاة الْجَمَاعَة: هَذَا حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ فِي أثْنَاء كتاب الطَّهَارَة: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَقَالَ فِي تَرْجَمَة عبد الله بن الأرقم: إِنَّه(4/430)
حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ فِي أثْنَاء الطَّهَارَة: لَهُ شُهُود بأسانيد صَحِيحَة مِنْهَا: عَن (أبي) هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا يحل لرجل يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يُصَلِّي وَهُوَ حقن حَتَّى يتخفف» وَمِنْهَا حَدِيث عَائِشَة السالف.
فَائِدَة: عبد الله بن الأرقم هَذَا من مسلمة الْفَتْح، أحد كتاب الْوَحْي، وَلَيْسَ لَهُ فِي السّنَن غير هَذَا الحَدِيث، وَمن مناقبه مَا ذكره ابْن عُيَيْنَة، (عَن عَمْرو بن) دِينَار «أَن عُثْمَان اسْتعْمل عبد الله بن الأرقم عَلَى بَيت المَال، فَأعْطَاهُ عمالته ثَلَاثمِائَة ألف فَأَبَى أَن يقبله وَقَالَ: إِنَّمَا عملت لله» .
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذْ حضر الْعشَاء وأقيمت الصَّلَاة فابدءوا بالعشاء» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من طرق: أَحدهَا من طَرِيق ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (إِذا) وضع عشَاء أحدكُم وأقيمت الصَّلَاة فابدءوا بالعشاء، وَلَا (يعجل) حَتَّى يفرغ مِنْهُ. وَكَانَ ابْن عمر يوضع لَهُ الطَّعَام وتقام الصَّلَاة فَلَا يَأْتِيهَا حَتَّى يفرغ مِنْهُ وَإنَّهُ (ليسمع) قِرَاءَة الإِمَام» .(4/431)
ثَانِيهَا: من طَرِيق أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا قرب الْعشَاء وَحَضَرت الصَّلَاة فابدءوا بِهِ قبل أَن تصلوا صَلَاة الْمغرب (وَلَا تعجلوا عَن عشائكم» وَفِي لفظ: «إِذا حضرت الْعشَاء وأقيمت الصَّلَاة فابدءوا بالعشاء» » وَلابْن حبَان: «بعد عشائكم، وَإِذا أُقِيمَت الصَّلَاة وأحدكم صَائِم فليبدأ بالعشاء قبل صَلَاة الْمغرب وَلَا تعجلوا عَن عشائكم» .
ثَالِثهَا: من طَرِيق عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - بِمثل حَدِيث أنس، وللبخاري فِي بعض طرقه «إِذا وضع الْعشَاء» .
وَأما حَدِيث جَابر الْمَرْفُوع: «لَا تُؤخر الصَّلَاة لطعام وَلَا لغيره» .
فَهُوَ حَدِيث فِي «سنَن أبي دَاوُد» ، وَإِسْنَاده ضَعِيف بِسَبَب مُحَمَّد بن مَيْمُون المفلج الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده، فَإِن البُخَارِيّ قَالَ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ: كُوفِي (ليّن) وَقَالَ ابْن حبَان: مُنكر الحَدِيث جدًّا لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا وَافق الثِّقَات بالأشياء المستقيمة،(4/432)
فَكيف إِذا انْفَرد (بأوابد) ! .
وَأما ابْن معِين فوثقه و (أما) أَبُو حَاتِم وَالدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَا: لَا بَأْس بِهِ.
وَفِيه أَيْضا مُعلى بن مَنْصُور، وَقد وُثِّق وَأخرج (لَهُ) فِي الصَّحِيح؛ إِلَّا أَن أَحْمد قَالَ عَنهُ: كَانَ يحدث بِمَا وَافق الرَّأْي، وَكَانَ كل يَوْم يُخطئ فِي حديثين وَثَلَاثَة.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَلا لَا تَؤمَّنَّ امْرَأَة رجلا، وَلَا أعرابيُّ مُهَاجرا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه «فِي سنَنه» مُنْفَردا (بِهِ) ، عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، عَن الْوَلِيد بن بكير، عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْعَدوي، عَن عَلّي بن زيد بن جدعَان، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: أَيهَا النَّاس، تُوبُوا إِلَى الله قبل أَن تَمُوتُوا ... فَذكره» إِلَى أَن قَالَ: (وَاعْلَمُوا) أَن الله قد (فرض) عَلَيْكُم الْجُمُعَة (فِي مقَامي هَذَا) ، فَمن تَركهَا فِي حَياتِي أَو (بعد موتِي)(4/433)
وَله إِمَام عَادل أَو جَائِر اسْتِخْفَافًا بهَا (أَو) جحُودًا لَهَا فَلَا جمع الله (لَهُ) شَمله، وَلَا بَارك لَهُ فِي أمره، أَلا وَلَا صَلَاة لَهُ، أَلا وَلَا زَكَاة لَهُ وَلَا حج لَهُ، وَلَا صَوْم لَهُ وَلَا بركَة، حَتَّى (يَتُوب) ، فَمن تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ، أَلا لَا تؤُمنَّ امْرَأَة رجلا، وَلَا (يَؤُمنَّ) أَعْرَابِي مُهَاجرا، وَلَا فاجرٌ مُؤمنا إِلَّا أَن يَقْهَرهُ سُلْطَان يخَاف سطوته وسيفه» .
(وَهُوَ) حَدِيث ضَعِيف؛ عبد الله الْعَدوي هَذَا أَبُو الْحباب وَهُوَ كَذَّاب، (و) قَالَ وَكِيع: وَضاع. وَقَالَ خَ: عِنْده مَنَاكِير. وَقَالَ الرَّازِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يحل الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ. وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي تَخْرِيجه: هَذَا حَدِيث غَرِيب جدًّا وَإِسْنَاده فِيهِ ضعف؛ لحَال عبد الله هَذَا. وَأوردهُ بِإِسْنَادِهِ بِلَفْظ «سَوْطه» بدل «سطوته» .
وَعلي بن زيد بن جدعَان مُخْتَلف فِيهِ كَمَا مَضَى فِي أَوَائِل الْكتاب، وَالْحمل فِي الحَدِيث عَلَى الأول، وَادَّعَى عبد الْحق أَن الْأَكْثَر عَلَى تَضْعِيف عَلّي بن زيد. وَرَوَاهُ مُوسَى بن دَاوُد عَن الْوَلِيد بن بكير فَقَالَ: عَن مُحَمَّد بن عبد الله. قلت: وتابع عبد الله: فُضَيْل بن عِيَاض، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي كتاب «الإغراب» من طَرِيق عبد الْملك بن حبيب، عَن أَسد (بن) مُوسَى وَعلي بن معبد كِلَاهُمَا عَن فُضَيْل، عَن عَلّي بن زيد.(4/434)
قَالَ عبد الْحق: وَكَذَا رَأَيْته فِي كتاب ابْن حبيب.
قلت: وَالدَّلِيل الصَّحِيح عَلَى الْمَسْأَلَة هُوَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أبي بكرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لن يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة» .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى قَاعِدا وَأَبُو بكر وَالنَّاس خَلفه قيَاما» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته (أخرجه الشَّيْخَانِ) من حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر أَبَا بكر أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا دخل فِي الصَّلَاة (وجد) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خفَّة من نَفسه، فَقَامَ يهادى بَين رجلَيْنِ وَرجلَاهُ تخطان فِي (الأَرْض) ، فجَاء فَجَلَسَ عَن يسَار أبي بكر، وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسا وَأَبُو بكر قَائِما، يَقْتَدِي أَبُو بكر بِصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (ويقتدي النَّاس) بِصَلَاة أبي بكر» وَفِي لفظ آخر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (أُجلس) إِلَى جنب أبي بكر، فَجعل أَبُو بكر يُصَلِّي وَهُوَ قَائِم بِصَلَاة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَالنَّاس يصلونَ بِصَلَاة أبي بكر» وَفِي آخر:(4/435)
«وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَأَبُو بكر يسمعهم التَّكْبِير» .
وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمُتَّفق عَلَى صِحَّته: «وَإِذا صَلَّى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» . وَمثله حَدِيث عَائِشَة وَأنس فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَحَدِيث جَابر فِي مُسلم؛ فَقَالَ الشَّافِعِي: إِنَّه مَنْسُوخ بِهَذَا الحَدِيث. وَأَبَى ذَلِك أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَبسط القَوْل فِيهِ بسطًا بليغًا، قَالَ: وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى عَن عَائِشَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى خلف أبي بكر قَاعِدا» تفرد بهَا نعيم بن أبي هِنْد، عَن أبي وَائِل، (عَن) مَسْرُوق (عَنْهَا) . وَاخْتلف عَلَيْهِ فِيهَا أَيْضا، قَالُوا: وَإِن صحت فَكَأَن ذَلِك مرَّتَيْنِ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل فِي صلَاته وَأحرم (النَّاس) خَلفه، ثمَّ ذكر أَنه جنب فَأَشَارَ إِلَيْهِم كَمَا أَنْتُم، ثمَّ خرج واغتسل وَرجع (وَرَأسه) يقطر مَاء» .(4/436)
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق أقربها إِلَى رِوَايَة المُصَنّف رِوَايَة أنس (بن مَالك) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «دخل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي صلاةٍ فَكبر وَكَبَّرْنَا مَعَه، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْقَوْم كَمَا أَنْتُم، فَلم نزل قيَاما حَتَّى أَتَى نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد اغْتسل وَرَأسه يقطر مَاء» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الله بن معَاذ، حَدثنَا أبي، نَا سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس بِهِ. ثمَّ قَالَ: خَالفه عبد الْوَهَّاب بن عَطاء الْخفاف فَرَوَاهُ عَن سعيد، عَن قَتَادَة، عَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل فِي صلَاته فَكبر وَكبر من خَلفه، فَانْصَرف فَأَشَارَ إِلَى أَصْحَابه أَن كَمَا أَنْتُم، فَلم يزَالُوا قيَاما حَتَّى جَاءَ وَرَأسه يقطر» قَالَ عبد الْوَهَّاب: وَبِه نَأْخُذ.
ثَانِيهَا: عَن عبد الله بن زرير الغافقي، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ قَائِما يُصَلِّي بهم، إِذْ انْصَرف فَأَتَى وَرَأسه يقطر مَاء، فَقَالَ: إِنِّي قُمْت بكم ثمَّ ذكرت أَنِّي كنت جنبا وَلم أَغْتَسِل، فَانْصَرَفت وَاغْتَسَلت، فَمن أَصَابَهُ (مِنْكُم) مثل مَا أصابني أَو وجد فِي بَطْنه رزًّا فلينصرف فليغتسل أَو ليتوضأ» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِنَحْوِهِ.
قَالَ الْبَزَّار: وَهَذَا الحَدِيث (لَا يحفظ وَلَا) يرْوَى عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد.
قلت: وَفِي إِسْنَاده عبد الله بن لَهِيعَة وحالته مَشْهُورَة وَقد عرفتها فِيمَا(4/437)
مَضَى، وَعبد الله ابْن زرير نسبه إِلَى الْجَهَالَة ابْن الْقطَّان، لَكِن وَثَّقَهُ ابْن (سعد) وَالْعجلِي، كَمَا أسلفته لَك فِي بَاب الْأَوَانِي.
ثَالِثهَا: عَن أبي بكرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل فِي صَلَاة الْفجْر فَأَوْمأ بِيَدِهِ أَن مَكَانكُمْ، ثمَّ جَاءَ وَرَأسه يقطر فَصَلى بهم» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث حَمَّاد - وَهُوَ ابْن سَلمَة - عَن زِيَاد الأعلم، عَن الْحسن، عَن أبي بكرَة بِهِ، ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق حَمَّاد أَيْضا وَقَالَ: بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ. قَالَ فِي أَوله: «فَكبر» وَقَالَ فِي آخِره: «فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاة قَالَ: إِنَّمَا أَنا بشر وَإِنِّي كنت جنبا» ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ أَيُّوب وَابْن عون وَهِشَام، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (فَكبر ثمَّ أَوْمَأ إِلَى الْقَوْم أَن (اجلسوا) فَذهب واغتسل» .
وَرَوَاهُ مَالك، عَن إِسْمَاعِيل (بن) حَكِيم، عَن عَطاء بن يسَار «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كبر فِي صَلَاة» ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق آخر كَذَلِك، وَكلهَا مُرْسلَة.
قلت: وَلَفظ رِوَايَة أبي حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» فِي الرِّوَايَة الأولَى الْمُتَّصِلَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كبر فِي صَلَاة الْفجْر يَوْمًا ثمَّ انْطلق فاغتسل فجَاء وَرَأسه يقطر فَصَلى بهم» .(4/438)
وَصَححهُ أَيْضا الْبَيْهَقِيّ فِي «مَعْرفَته» ، وَقَالَ فِي «خلافياته» : رُوَاته ثِقَات لَكِن فِيهِ وَقْفَة مَعَ القَوْل فِي حَمَّاد بن سَلمَة، فَإِنَّهُ قد قيل: إِنَّه لم يسمع الْحسن من أبي بكرَة كَمَا سلف التَّنْبِيه (عَلَيْهِ) فِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ من بَاب شُرُوط الصَّلَاة وبحثنا فِيهِ.
وَقَالَ البرديجي فِي «كتاب الْمُتَّصِل والمرسل» : والمقطوع الَّذِي صَحَّ (عَن) الْحسن سَمَاعا من الصَّحَابَة أنس وَعبد الله بن مُغفل وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة و (أَحْمَر) بن جُزْء.
قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : وَقَول أبي بكرَة «فَصَلى بهم» أَرَادَ بَدَأَ بتكبير مُحدث؛ (لَا) أَنه رَجَعَ فَبَنَى عَلَى صلَاته؛ (إِذْ) محَال (أَن) يذهب عَلَيْهِ السَّلَام ليغتسل وَيبقى النَّاس كلهم قيَاما عَلَى حالتهم من غير إِمَام إِلَى أَن يرجع.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قَامَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (إِلَى الصَّلَاة) وَكبر، ثمَّ أَشَارَ إِلَيْهِم فَمَكَثُوا، ثمَّ انْطلق فاغتسل وَكَانَ رَأسه يقطر مَاء فَصَلى بهم، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: إِنِّي خرجت إِلَيْكُم جنبا وَإِنِّي أنسيت حَتَّى قُمْت فِي الصَّلَاة» .(4/439)
رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أُسَامَة بن زيد، عَن عبد الله بن يزِيد مولَى الْأسود بن سُفْيَان، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان، عَن أبي هُرَيْرَة (بِهِ) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا ثَابت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى نمط آخر وَهَذَا إسنادهما عَنهُ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حضر (وَقد) أُقِيمَت الصَّلَاة وَعدلت الصُّفُوف حَتَّى قَامَ فِي مُصَلَّاهُ قبل أَن يكبر (ذكر) فَانْصَرف وَقَالَ: مَكَانكُمْ. فَلم نزل قيَاما حَتَّى خرج إِلَيْنَا وَقد اغْتسل ينطف رَأسه مَاء فَكبر فَصَلى بِنَا» وحملت عَلَى (أَنَّهَا) (قَضِيَّة) أُخْرَى فِي يَوْم آخر.
قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : هَذَانِ فعلان فِي موضِعين (متباينين) . خرج عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام (مرّة) فَكبر ثمَّ ذكر أَنه جنب، فَانْصَرف فاغتسل، ثمَّ جَاءَ فاستأنف بهم الصَّلَاة، وَجَاء مرّة أُخْرَى فَلَمَّا وقف ليكبر ذكر أَنه جنب قبل أَن يكبر، فَذهب واغتسل ثمَّ رَجَعَ فَأَقَامَ بهم الصَّلَاة من غير أَن يكون بَين الْخَبَرَيْنِ تضَاد وَلَا (تهاتر) .
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَن الإِمَام إِذا(4/440)
بَان كَونه جنبا (أَو) مُحدثا لَا إِعَادَة عَلَى الْمَأْمُوم، سَوَاء علم الإِمَام بحدثه أم لَا. وَقد علمت (مِمَّا) أوردناه لَك أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن عَالما [بجنابته] ، فالدعوى إِذا عَامَّة وَالدَّلِيل خَاص، (ثمَّ إِن الِاسْتِدْلَال بِهِ اسْتِدْلَال عَلَى غير مَحل النزاع، فَإِن الْمَسْأَلَة مُقَيّدَة بهَا إِذا أحرم مُنْفَردا، فَأَما إِذا افتتحها فِي جمَاعَة فَإِنَّهُ يجوز بِلَا خلاف) .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا صَلَّى الإِمَام بِقوم وَهُوَ عَلَى غير وضوء أجزأتهم وَيُعِيد» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة بَقِيَّة بن الْوَلِيد، عَن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم، عَن جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك، عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا إِمَام سَهَا فَصَلى بالقوم وَهُوَ جنب فقد مَضَت صلَاتهم، ثمَّ ليغتسل هُوَ، ثمَّ ليعد (صلَاته) ، فَإِن صَلَّى بِغَيْر وضوء فَمثل ذَلِك» .
وَهَذَا حَدِيث لَا يَصح الِاسْتِدْلَال بِهِ؛ لأوجه:
أَحدهَا: مَا قيل فِي بَقِيَّة، وَقد أسلفته وَاضحا فِي أَوَائِل الْكتاب فِي (بَاب) بَيَان النَّجَاسَات.
ثَانِيهَا: ضعف عِيسَى بن إِبْرَاهِيم.(4/441)
ثَالِثهَا: ضعف جُوَيْبِر، وَهُوَ ابْن سعيد الْبَلْخِي، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث.
رَابِعهَا: أَنه مُنْقَطع؛ فَإِن الضَّحَّاك لم يلق الْبَراء، قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» .
وَقَالَ (ابْن حبَان) : رواياته عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَجَمِيع من رَوَى عَنهُ (فَفِي) ذَلِك كُله [نظر] ، وَإِنَّمَا اشْتهر بالتفسير.
وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان: الضَّحَّاك عندنَا ضَعِيف. وَقَالَ مرّة (أُخْرَى) : تساهلوا فِي أَخذ التَّفْسِير عَن قوم لَا يوثقوهم فِي الحَدِيث. ثمَّ ذكر لَيْث (بن) أبي سليم وجوبيرًا وَالضَّحَّاك وَمُحَمّد بن السَّائِب، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ لَا يحمد حَدِيثهمْ وَيكْتب التَّفْسِير عَنْهُم.
قلت: وَأما أَرْبَاب السّنَن فاحتجوا بِهِ، وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن معِين وَأَبُو زرْعَة، وَلما أوردهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» قَالَ: هُوَ حَدِيث غير قوي. قَالَ: وَالَّذِي رُوِيَ فِي معارضته عَن أبي جَابر البياضي، عَن سعيد بن الْمسيب «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ جنب، فَأَعَادَ وأعادوا» مُرْسل، وَأَبُو جَابر البياضي مَتْرُوك، كَانَ مَالك لَا يرتضيه، وَكَانَ ابْن معِين يَقُول:(4/442)
إِنَّه كَذَّاب. قَالَ: والمروي مثله عَن عَلّي ضَعِيف أَيْضا، وَنقل فِي «خلافياته» عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: الرِّوَايَة عَن حرَام بن عَمْرو حرامٌ، وَمن رَوَى عَن (أبي) جَابر البياضي بيض الله عَيْنَيْهِ.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
«أَن (عَمْرو) بن سَلمَة كَانَ يؤم [قومه] (عَلَى) عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ ابْن سبع سِنِين» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَنهُ قَالَ: « (كُنَّا بِمَا ممر) النَّاس وَكَانَ يمر بِنَا الركْبَان (فنسألهم) : مَا للنَّاس؟ مَا للنَّاس؟ مَا هَذَا الرجل؟ فَيَقُولُونَ: يزْعم أَن الله أرْسلهُ، أوحى إِلَيْهِ (أوحى) إِلَيْهِ كَذَا! (فَكنت) أحفظ ذَلِك الْكَلَام (فَكَأَنَّمَا) (يغري) فِي صَدْرِي، وَكَانَت الْعَرَب (تلوم) بإسلامها الْفَتْح،(4/443)
فَيَقُولُونَ: اتركوه وَقَومه، إِن ظهر عَلَيْهِم فَهُوَ نَبِي صَادِق. فَلَمَّا كَانَت وقْعَة الْفَتْح بَادر (كل) قوم بِإِسْلَامِهِمْ وَبَدَرَ (أبي) قومِي بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قدم قَالَ: وَالله لقد جِئتُكُمْ وَالله من عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حقًّا، فَقَالَ: (صلوا) صَلَاة كَذَا فِي حِين كَذَا، (وصلوا) صَلَاة كَذَا فِي حِين كَذَا، فَإِذا حضرت الصَّلَاة فليؤذن أحدكُم، وليؤمكم أَكْثَرَكُم قُرْآنًا. فنظروا، فَلم يكن أحد أَكثر قُرْآنًا مني؛ لما كنت أتلقَّى (من) الركْبَان، فقدموني (بَين أَيْديهم) وَأَنا ابْن سِتّ أَو سبع سِنِين وَكَانَت عليَّ بردة كنت إِذا سجدت تقلصت عني فَقَالَت امْرَأَة من الْحَيّ: أَلا [تغطون] عَنَّا است قارئكم. فاشتروا، فَقطعُوا لي قَمِيصًا، فَمَا فرحت بِشَيْء فرحي بذلك الْقَمِيص» .
تفرد بِهِ البُخَارِيّ وَلم (يخرج) عَن عَمرو بن سَلمَة (غَيره، وَلَا أخرج) لَهُ مُسلم (فِي كِتَابه) شَيْئا كَمَا نبه عَلَيْهِ عبد الْحق وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ: «وَكنت أؤمهم وَأَنا ابْن ثَمَان سِنِين» وَأَبُو دَاوُد(4/444)
وَقَالَ: «ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان سِنِين» وَالطَّبَرَانِيّ (وَقَالَ) و «أَنا ابْن سِتّ سِنِين» وَفِي رِوَايَة «لأبي دَاوُد» : «فَمَا شهِدت مجمعا من جرم إِلَّا كنت إمَامهمْ، وَكنت أُصَلِّي عَلَى جنائزهم إِلَى يومي هَذَا» فرواية الرَّافِعِيّ أَنه ابْن سبع سِنِين عَلَى الْجَزْم غَرِيب إِذن.
(فَائِدَة) : و (عَمْرو) - بِفَتْح الْعين. وَسَلَمَة - بِكَسْر اللَّام كنيته أَبُو بريد - بِالْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ رَاء مُهْملَة وَقيل بمثناة وزاي، وَالْأول هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور - وَسَلَمَة صَحَابِيّ. وَأما عَمْرو فَاخْتلف فِي سَمَاعه من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ورؤيته (إِيَّاه) ، وَالْأَشْهر الْمَنْع فيهمَا، وَإِنَّمَا كَانَت الركْبَان تمر بِهِ فيحفظ عَنْهُم مَا سَمِعُوهُ من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَمَا قدمْنَاهُ - وَقيل: رَآهُ. قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : وَلَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ عبد الْغَنِيّ: هُوَ مَعْدُود فِيمَن نزل الْبَصْرَة وَلم يلق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يثبت لَهُ سَماع مِنْهُ، (وَقد) وَفد أَبوهُ عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَقد رُوِيَ من وَجه غَرِيب أَن عمرا أَيْضا قدم عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَقَالَ الْخطابِيّ: كَانَ أَحْمد يضعف أَمر عَمْرو بن سَلمَة، وَقَالَ مرّة: دَعه لَيْسَ بِشَيْء.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قلت لَهُ: حَدِيث (عَمْرو) بن سَلمَة. قَالَ: لَا(4/445)
أَدْرِي أَي شَيْء هَذَا.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ عَلَى صِحَة إِمَامَة الصَّبِي، وَوجه الدّلَالَة مِنْهُ: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (أَمرهم) أَن يؤمهم أَكْثَرهم قُرْآنًا من غير فرق بَين الْبَالِغ وَالصَّبِيّ.
وَمنع ابْن الْجَوْزِيّ ذَلِك؛ لأجل مذْهبه وَقَالَ: هَذَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام، وَلم يعلمُوا بِجَمِيعِ الْوَاجِبَات، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أقرَّه عَلَى ذَلِك.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اسمعوا وَأَطيعُوا وَلَو أَمر عَلَيْكُم عبد أجدع مَا أَقَامَ فِيكُم (الصَّلَاة)) .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا عَلَى صِحَة الِاقْتِدَاء بِالْعَبدِ، وَتبع فِي إِيرَاده كَذَلِك ابْن الصّباغ وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهمَا من الْفُقَهَاء، وَالَّذِي أعرفهُ بِلَفْظ: «اسمعوا وَأَطيعُوا وَلَو اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد حبشِي كَأَن رَأسه زبيبة مَا أَقَامَ فِيكُم كتاب الله» رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مُنْفَردا (بِهِ) ، وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لأبي ذَر: «اسْمَع وأطع وَلَو لحبشي كَأَن رَأسه زبيبة» .(4/446)
وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أم الْحصين الأحمسية - (مُنْفَردا بِهِ) - «أَنَّهَا سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخْطب فِي حجَّة الْوَدَاع وَهُوَ يَقُول: وَلَو اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد يقودكم بِكِتَاب الله فَاسْمَعُوا وَأَطيعُوا» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «عبدا حبشيًّا مجدعًا» (وَفِي رِوَايَة) لَهُ: «بمنى أَو بِعَرَفَات» ، وَفِي (رِوَايَة) (لَهُ) : «إِن (أَمر) عَلَيْكُم عبد مجدع - حسبتها (قَالَت) : أسود يقودكم بِكِتَاب الله فَاسْمَعُوا وَأَطيعُوا» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي كتاب اللبَاس من هَذَا الطَّرِيق - أَعنِي: من طَرِيق أم الْحصين - ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.
وَيَنْبَغِي أَن يحمل كَلَامه عَلَى أَن مُرَاده أَنه عَلَى شَرط البُخَارِيّ إِن وجد فِيهِ (شَرطه) فَإِنَّهُ فِي مُسلم فَلَا يسْتَدرك عَلَيْهِ.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي ذَر قَالَ: «إِن خليلي أَوْصَانِي أَن أسمع (وَأطِيع) وَإِن كَانَ عبدا مجدع الْأَطْرَاف» . وَعند البُخَارِيّ:(4/447)
«وَلَو (لحبشي) كَأَن رَأسه زبيبة» وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث أم سَلمَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «سَيكون أُمَرَاء (فتعرفون وتنكرون) ، فَمن عرف برِئ وَمن أنكر سلم، وَلَكِن من رَضِي وتابع، قَالُوا: أَفلا نقاتلهم؟ قَالَ: لَا مَا صلوا» .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتخْلف ابْن أم مكثوم فِي بعض عزواته يؤم النَّاس (وَهُوَ أَعْمَى) » .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا بِهَذَا اللَّفْظ، ذكره فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة، وَرَوَاهُ أَيْضا فِي «سنَنه» فِي بَاب (فِي) الضَّرِير يُولى» عَن أنس أَيْضا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اسْتخْلف ابْن أم مَكْتُوم عَلَى الْمَدِينَة مرَّتَيْنِ» (زَاد) أَحْمد فِي «مُسْنده» يُصَلِّي بهم وَهُوَ أَعْمَى» وَلم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيقه ومدارهما عَلَى عمرَان بن (دَاور) - بالراء فِي آخِره - الْقطَّان، ضعفه يَحْيَى بن معِين(4/448)
وَالنَّسَائِيّ، وَوَثَّقَهُ عَفَّان بن مُسلم، وَمَشاهُ أَحْمد، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، وَذكره ابْن حبَان فِي ثقاته.
وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق ثَانِي من حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» : أَنا الْحسن بن سُفْيَان، أَنا أُميَّة بن بسطَام، نَا يزِيد بن زُرَيْع، نَا حبيب بن الْمعلم، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتخْلف ابْن أم مَكْتُوم عَلَى الْمَدِينَة يُصَلِّي بِالنَّاسِ» .
وَله طَرِيق ثَالِث من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتخْلف ابْن أم مَكْتُوم عَلَى الصَّلَاة وَغَيرهَا من أَمر الْمَدِينَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، عَن عبيد الْعجلِيّ، نَا عبد الله بن عمر بن أبان، ثَنَا عبد الْمجِيد، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس (بِهِ)) .
وَله طَرِيق رَابِع من حَدِيث ابْن بُحَيْنَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا سَافر اسْتخْلف عَلَى الْمَدِينَة أَن أم مَكْتُوم، (فَكَانَ) يُؤذن وَيُقِيم وَيُصلي بهم» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ (أَيْضا) فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث الْوَاقِدِيّ، نَا عثيم بن (نسطاس) ، عَن عَطاء بن يسَار عَنهُ بِهِ.
الْوَاقِدِيّ: حَاله مَشْهُور، وعثيم وَثَّقَهُ ابْن حبَان.(4/449)
فَوَائِد: الأولَى: ابْن ام مَكْتُوم اسْمه: عَمْرو عِنْد الْأَكْثَرين، وَقيل (اسْمه) عبد الله بن قيس بن مَالك الْأَشْعَرِيّ (رِوَايَة استخلافه مرَّتَيْنِ رَوَاهَا قَتَادَة عَن أنس، وَلم يبلغهُ مَا بلغ غَيره.
الثَّانِيَة: حَكَى ابْن عبد الْبر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اسْتخْلف ابْن أم مَكْتُوم عَلَى الْمَدِينَة (ثَلَاث عشرَة) مرّة، فِي غَزْوَة الْأَبْوَاء» .
(قلت: خَالفه ابْن سعد فَقَالَ: سعد بن معَاذ. وَذكر ابْن هِشَام أَنه اسْتخْلف فِيهَا السَّائِب بن عُثْمَان بن مَظْعُون، وبواط فِي بَاب [من] اسْمه عَمْرو وَقَالَ: ذكر ذَلِك جمَاعَة من أهل السّير وَالْعلم بِالنّسَبِ وَالْخَبَر.
قلت: خَالف ابْن سعد عبد الْملك بن هِشَام فَقَالَ: سعد بن عبَادَة. وَذي الْعَشِيرَة.(4/450)
قلت: خَالفه ابْن إسحاق وَابْن سعد فَقَالَا بدله: أَبَا سَلمَة بن عبد الْأسد.
قلت: قَالَا: اسْتخْلف فِي طلب كرز زيد بن حَارِثَة، وَفِي غَزْوَة السويق أَبَا لبَابَة بن عبد الْمُنْذر.
قلت: ذكر ابْن إِسْحَاق بدله أَبَا ذَر، وَذكر ابْن سعد عُثْمَان بن عَفَّان وغَطَفَان.
قلت: خَالفه ابْن سعد وَابْن هِشَام فَقَالَا: عُثْمَان بن عَفَّان) وَأحد وحمراء الْأسد وبُحران - بِضَم (الْبَاء) الْمُوَحدَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَبعدهَا رَاء مُهْملَة ثمَّ ألف ثمَّ نون، وَقَيده بَعضهم بِفَتْح (الْبَاء) ، وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور - وَذَات الرّقاع، واستخلفه حِين سَار إِلَى(4/451)
بدر ثمَّ رد أَبَا لبَابَة واستخلفه عَلَيْهَا (واستخلفه أَيْضا) فِي حجَّة الْوَدَاع وَقتل شَهِيدا بالقادسية. وَقيل: رَجَعَ من الْقَادِسِيَّة فَمَاتَ وَلم يسمع لَهُ بِذكر بعد عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَذكر أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اسْتَعْملهُ يَوْم الخَنْدَق. (وَقَالَ: ابْن سعد وَابْن هِشَام زادا وغزوة بني النَّضِير وَبني قُرَيْظَة وَبني حَيَّان، زَاد ابْن سعد: وغزوة قرقرة (الكدر) وَبني سليم والغابة وَالْحُدَيْبِيَة، وَذكر ابْن هِشَام غَزْوَة ذِي (قرد) زَاد ابْن سعد غَزْوَة الْفَتْح. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: أَبَا رهم كُلْثُوم بن الْحصين الْغِفَارِيّ، فالجملة ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ تخلف) .
الثَّالِثَة: نقل الْمُنْذِرِيّ فِي حَوَاشِيه عَن بَعضهم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا ولاه الصَّلَاة بِالْمَدِينَةِ دون القضايا وَالْأَحْكَام؛ فَإِن الضَّرِير لَا يجوز لَهُ أَن يقْضِي بَين النَّاس؛ لِأَنَّهُ لَا يدْرك الْأَشْخَاص وَلَا (يثبت الْأَعْيَان) وَلَا يدْرِي لمن يحكم وَعَلَى من يحكم، وَهُوَ مقلد فِي كل مَا يَلِيهِ، وَالْحكم بالتقليد غير جَائِز.
قلت: يُعَكر عَلَى هَذَا رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ (السالفة) من حَدِيث(4/452)
ابْن عَبَّاس «اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الصَّلَاة وَغَيرهَا من أَمر الْمَدِينَة» وَقيل: إِنَّمَا ولاه عَلَيْهِ السَّلَام الْإِمَامَة إِكْرَاما لَهُ وأخذًا بالأدب فِيمَا عاتبه الله فِي أمره فِي قَوْله تَعَالَى: (عبس وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى) - وَرُوِيَ أَن الْآيَة نزلت فِيهِ.
(الْفَائِدَة) الرَّابِعَة: الحَدِيث دالٌّ عَلَى أَن إِمَامَة الضَّرِير غير مَكْرُوهَة وَكَذَا (أَذَانه) عَلَى مَا سلف (من) رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ (أَي) فِي حَدِيث ابْن بُحَيْنَة.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى إِمَامَة الْأَعْمَى، وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الدّلَالَة حَدِيث مَحْمُود بن الرّبيع الثَّابِت فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَن عتْبَان بن مَالك كَانَ يؤم قومه وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنه قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنَّهَا تكون الظلمَة والسيل وَأَنا رجل ضَرِير الْبَصَر ... » وسَاق الحَدِيث وَفِي رِوَايَة لَهما: «يَا رَسُول الله، إِنِّي قد أنْكرت بَصرِي وَأَنا أُصَلِّي لقومي ... » . وَذكر الحَدِيث.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله، (فَإِن) كَانُوا فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأعلمهم بِالسنةِ، فَإِن كَانُوا فِي السّنة سَوَاء فأقدمهم هِجْرَة، فَإِن كَانُوا فِي الْهِجْرَة سَوَاء فأكبرهم سنًّا» .(4/453)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أودعهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور إِلَّا أَنه قَالَ: «فأقدمهم سلما» بدل: «فأكبرهم سنًّا» وَهُوَ من أَفْرَاده، وَزَاد فِي آخِره: « (و) لَا يَؤُمّنّ الرجلُ الرجلَ فِي سُلْطَانه، وَلَا يقْعد فِي بَيته عَلَى تكرمته إِلَّا بِإِذْنِهِ» وَفِي رِوَايَة لَهُ «يؤم الْقَوْم أقرؤهم (لكتاب) الله وأقدمهم قِرَاءَة، فَإِن كَانَت قراءتهم سَوَاء فليؤمهم أقدمهم هِجْرَة، فَإِن كَانُوا فِي الْهِجْرَة [سَوَاء] فليؤمهم أكبرهم سنًّا، وَلَا تؤمّنّ الرجل فِي أَهله و (لَا فِي) سُلْطَانه، وَلَا تجْلِس عَلَى تكرمته إِلَّا أَن يَأْذَن (لَك) - أَو بِإِذْنِهِ» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «وَلَا (تؤمّنّ) الرجل فِي بَيته وَلَا فِي سُلْطَانه» ، وَفِي رِوَايَة لسَعِيد ابْن مَنْصُور: «لَا يؤم (الرجل) الرجل فِي سُلْطَانه إِلَّا بِإِذْنِهِ» ، وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : «يؤم الْقَوْم أَكْثَرهم قُرْآنًا، فَإِن كَانُوا فِي الْقُرْآن وَاحِدًا فأقدمهم هِجْرَة، فَإِن كَانُوا فِي الْهِجْرَة وَاحِدًا فأفقههم فقهًا، فَإِن كَانُوا فِي الْفِقْه وَاحِدًا فأكبرهم سنًّا» ثمَّ قَالَ الْحَاكِم:(4/454)
قد أخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث وَلم يذكر (فِيهِ) : «أفقههم فقهًا» وَهَذِه لَفْظَة غَرِيبَة (عزيزة) بِهَذَا الْإِسْنَاد، ثمَّ ذكر لَهُ شَاهدا.
فَائِدَة: اسْم أبي مَسْعُود: عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ سكن بَدْرًا وَلم يشهدها فِي قَول الْأَكْثَرين، وَقَالَ (المحمدون) - مُحَمَّد بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَمُحَمّد بن إِسْحَاق - صَاحب الْمَغَازِي - وَمُحَمّد بن (إِسْمَاعِيل) البُخَارِيّ -: شَهِدَهَا، وَقَالَهُ مُسلم أَيْضا كَمَا نَقله الْمُنْذِرِيّ فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الْمُهَذّب» .
فَائِدَة (أُخْرَى) : التكرمة - بِفَتْح التَّاء و (كسرهَا) -: مَا يخْتَص بِهِ الْإِنْسَان من فرَاش ووسادة وَنَحْوهَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَقيل (هِيَ) الْمَائِدَة حَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب، وَقيل: السجادة حَكَاهُ صَاحب (التنقيب) ، وَقَوله: «وَلَا يجلس» «وَلَا يُؤمن» رُوِيَ بِالْمُثَنَّاةِ تَحت المضمومة عَلَى مَا لم يسم فَاعله، وبالمثناة فَوق الْمَفْتُوحَة عَلَى الْخطاب، نبه عَلَيْهِ فِي «شرح الْمُهَذّب» .
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صلوا خلف كل بر وَفَاجِر» .(4/455)
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق ضَعِيفَة أمثلها: رِوَايَة مَكْحُول عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْجِهَاد وَاجِب عَلَيْكُم مَعَ كل أَمِير برًّا كَانَ أَو (فَاجِرًا) ، وَالصَّلَاة (وَاجِبَة) عَلَيْكُم خلف كل مُسلم برًّا كَانَ أَو فَاجِرًا وَإِن عمل الْكَبَائِر» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب الْجِهَاد من «سنَنه» فِي بَاب الْغَزْو مَعَ أَئِمَّة الْجور من حَدِيث مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن الْعَلَاء بن الْحَارِث، عَن مَكْحُول بِهِ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من هَذَا الْوَجْه مُخْتَصرا بِلَفْظ: «صلوا خلف (كل) بر وَفَاجِر، وَجَاهدُوا مَعَ كل بر وَفَاجِر» ثمَّ قَالَ: (مَكْحُول) لم يسمع من أبي هُرَيْرَة، وَمن دونه ثِقَات. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : إِسْنَاده صَحِيح إِلَّا أَن (فِيهِ) إرْسَالًا بَين مَكْحُول وَأبي هُرَيْرَة. وَقَالَ فِي «سنَنه» فِي الْجَنَائِز: إِنَّه أصح مَا فِي الْبَاب إِلَّا أَن فِيهِ إرْسَالًا. (وأعلّه) ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» «وَعلله» بِمُعَاوِيَة بن صَالح، وَنقل (عَن) أبي حَاتِم الرَّازِيّ أَنه لَا يحْتَج بِهِ،(4/456)
وَمُعَاوِيَة هَذَا من رجال مُسلم وَهُوَ صَدُوق وَإِن لينه (يَحْيَى الْقطَّان) أَيْضا، وأعلَّه بمكحول أَيْضا فَقَالَ: (رَوَى) مُحَمَّد بن سعد أَن جمَاعَة من الْعلمَاء ضعفوا رِوَايَة مَكْحُول. وَقد ذكرنَا فِي كتاب الصَّلَاة أَن جمَاعَة وثقوه، وَأَنه من رجال مُسلم، وَقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيقين آخَرين إِلَى أبي هُرَيْرَة.
أَولهمَا: من حَدِيث بَقِيَّة، عَن الْأَشْعَث، عَن يزِيد بن يزِيد بن جَابر، عَن مَكْحُول، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِلَفْظ أبي دَاوُد السالف إِلَّا أَنه قَالَ: وَزَاد (فِيهِ) : «وَإِن عمل الْكَبَائِر فِي الْجِهَاد» وَبَقِيَّة حَاله مَعْرُوفَة سلفت، وَأَشْعَث هَذَا نسبه ابْن الْقطَّان إِلَى الْجَهَالَة فَقَالَ: بَقِيَّة مَعْرُوف الْحَال وَهُوَ أروى النَّاس عَن المجهولين، وَأَشْعَث هَذَا مُتَّهم.
وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَقَالَ فِي «تَحْقِيقه» : الْأَشْعَث مَجْرُوح، وَبَقِيَّة لَا (يعول) عَلَى رواياته.
قلت: وَأَشْعَث الْمَجْرُوح (الَّذِي أَشَارَ) إِلَيْهِ هُوَ ابْن سوار الْكُوفِي وَلَيْسَ هَذَا، فَالصَّوَاب مَعَ ابْن الْقطَّان.(4/457)
ثَانِيهَا: من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن (عُرْوَة) ، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أبي صَالح (السمان) ، عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «سيليكم بعدِي وُلَاة، فيليكم الْبر ببره والفاجر (بِفُجُورِهِ) ، فَاسْمَعُوا لَهُم وَأَطيعُوا فِيمَا وَافق الْحق، وصلوا وَرَاءَهُمْ، فَإِن أَحْسنُوا فلكم وَلَهُم، وَإِن أساءوا فلكم وَعَلَيْهِم» وَعبد الله هَذَا واه، قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يحل كتب حَدِيثه، يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات، وَيَأْتِي عَن هِشَام بِمَا لم يروه قطّ.
الطَّرِيق الثَّانِي: من أصل طرق الحَدِيث عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَفعه: «من أصل الدَّين الصَّلَاة خلف كل بر وَفَاجِر (و) الْجِهَاد مَعَ كل أَمِير وَلَك أجره، وَالصَّلَاة عَلَى من مَاتَ من أهل الْقبْلَة» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث فرات بن (سُلَيْمَان) ، عَن مُحَمَّد بن علوان، (عَن(4/458)
الْحَارِث) ، عَن عَلّي (بِهِ) . وَقَالَ فِيهِ: وَفِي (طرق) حَدِيث ابْن عمر الْآتِيَة لَيْسَ فِيهَا شَيْء يثبت.
قلت: وفرات هَذَا (أعله) ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» (بِهِ) وَنقل عَن ابْن حبَان أَنه قَالَ فِي حَقه: مُنكر الحَدِيث جدًّا (يَأْتِي) بِمَا لَا يشك فِيهِ أَنه مَعْمُول. لكنه لم يذكرهُ فِي «ضُعَفَائِهِ» ، وَذكر كَلَام ابْن حبَان هَذَا (فِي) فرات بن سليم وَقَالَ: إِنَّه (يروي) عَن (عَمْرو) بن عَاتِكَة، وَتَابعه الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي» ، وراجعت الضُّعَفَاء لِابْنِ حبَان فَوَجَدته كَمَا ذكره فِي «ضُعَفَائِهِ» لَا كَمَا ذكره فِي «تَحْقِيقه» ، وَفِي كتاب الصريفيني - وَمن خطه نقلت -: فرات بن (سُلَيْمَان) مولَى ابْن عقيل من أهل الرقة، رَوَى عَن مَيْمُون بن مهْرَان. ثمَّ نقل عَن (خطّ) ابْن حبَان أَنه قَالَ: لَيْسَ هَذَا بفرات بن السَّائِب الْجَزرِي، ذَاك(4/459)
واه ضَعِيف. وَمُحَمّد بن علوان قَالَ الْأَزْدِيّ: يروي عَن نَافِع، مَتْرُوك الحَدِيث. والْحَارث هُوَ الْأَعْوَر، كذبه ابْن الْمَدِينِيّ وَمِنْهُم من وَثَّقَهُ.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن عبد الله بن مَسْعُود (رَفعه: «ثَلَاث من السّنة) : الصَّلَاة خلف كل إِمَام، لَك صلَاته (وَعَلِيهِ) إثمه، و (الْجِهَاد مَعَ كل أَمِير لَك) جهادك وَعَلِيهِ شَره، وَالصَّلَاة عَلَى كل ميت من (أهل التَّوْحِيد وَإِن كَانَ قَاتل) نَفسه» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث عمر بن صبح (عَن مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة و) الْأسود، عَن عبد الله بِهِ. وَعمر هَذَا كَذَّاب (اعْترف بِالْوَضْعِ، قَالَ عَن نَفسه) أَنا وضعت خطْبَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَآله (قَالَ الْأَزْدِيّ: كَذَّاب (ذامر)) .
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن ابْن عمر، وَسَيَأْتِي فِي الحَدِيث الْآتِي بعده بِطرقِهِ مُعَللا.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن وَاثِلَة رَفعه: «لَا تكفرُوا أهل قبلتكم وَإِن عمِلُوا الْكَبَائِر، وصلوا مَعَ كل إِمَام، وَجَاهدُوا مَعَ كل أَمِير، وصلوا عَلَى كل ميت» .(4/460)
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من رِوَايَة الْحَارِث بن نَبهَان، عَن عتبَة بن يقظان، عَن أبي سعيد، عَن مَكْحُول، عَن وَاثِلَة بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، (الْحَارِث هَذَا ضَعَّفُوهُ) قَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَعتبَة بن يقظان قَالَ عَلّي بن الْجُنَيْد: لَا يُسَاوِي شَيْئا. وَأَبُو سعيد هَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَقه: إِنَّه مَجْهُول. وَمَكْحُول قد سلف مَا فِيهِ، لَا جرم قَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي (كناه) : هَذَا حَدِيث مُنكر. قَالَ: والْحَارث بن نَبهَان وَعتبَة بن يقظان وَأَبُو سعيد إِذا اجْتَمعُوا (فَغير) مستنكر (مثل) هَذَا فِيمَا بَينهم، وَالله يرحمهم جَمِيعًا.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن أبي الدَّرْدَاء رَفعه: «لَا تكفرُوا أحدا من (أهل) قِبْلَتِي بذنب وَإِن عمِلُوا الْكَبَائِر، وصلوا خلف كل إِمَام، وَجَاهدُوا - (أَو) قَالَ: وقاتلوا - مَعَ كل أَمِير، وَلَا تَقولُوا فِي أبي بكر الصّديق وَلَا فِي عمر وَلَا فِي عُثْمَان وَلَا فِي عَلّي إِلَّا خيرا، قُولُوا: (تِلْكَ أمة قد خلت لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم.
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من رِوَايَة عباد بن الْوَلِيد (عَن الْوَلِيد) [بن الْفضل، أَخْبرنِي عبد الْجَبَّار] بن الْحجَّاج الْخُرَاسَانِي، عَن مكرم(4/461)
بن حَكِيم (الْخَثْعَمِي) ، عَن سيف بن مُنِير، عَن أبي الدَّرْدَاء بِهِ. ثمَّ قَالَ: لَا يثبت إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، (مَا) بَين عباد وَأبي الدَّرْدَاء ضعفاء. وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ (أَيْضا) من حَدِيث إِسْحَاق بن وهب العلاف، عَن الْوَلِيد بن الْفضل الْعَنزي، عَن عبد الْجَبَّار بن الْحجَّاج بن مَيْمُون، عَن مكرم بِهِ بِلَفْظ: «صلوا خلف كل إِمَام، وقاتلوا مَعَ كل أَمِير» ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده مَجْهُول غير مَحْفُوظ. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: سيف لَا يكْتب حَدِيثه، ومكرم لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء.
وَقَالَ ابْن حبَان: الْوَلِيد بن الْفضل الْعَنزي يروي الْمَنَاكِير الَّتِي لَا شكّ أَنَّهَا مَوْضُوعَة.
وَقَالَ (أَبُو حَاتِم) : مَجْهُول.
قلت: (وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الحَدِيث) من كل طرقه ضَعِيف كَمَا قَدمته أَولا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد رُوِيَ (فِي) «الصَّلَاة عَلَى كل بر وَفَاجِر،(4/462)
وَالصَّلَاة عَلَى من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله» (أَحَادِيث) كلهَا ضَعِيفَة غَايَة الضعْف. وَأَصَح مَا رُوِيَ فِي الْبَاب حَدِيث مَكْحُول، عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» إِلَّا أَن فِيهِ إرْسَالًا (كَمَا) ذكره الدَّارَقُطْنِيّ.
وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَيْسَ فِي هَذَا الْمَتْن إِسْنَاد يثبت.
وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» و «علله» وأوضح ضعفه وَقَالَ فِي «علله» : كلهَا لَا تصح. وَنقل (فيهمَا) عَن الإِمَام أَحْمد أَنه سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث: «صلوا خلف كل بر وَفَاجِر» فَقَالَ: مَا سمعنَا بِهَذَا.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «صلوا خلف من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَعَلَى من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة ابْن عمر من طرق (ثَلَاثَة) عَنهُ وَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْء يثبت.
أَولهَا: من طَرِيق عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن، عَن عَطاء بن أبي(4/463)
رَبَاح، عَن ابْن عمر (مَرْفُوعا) : «صلوا عَلَى من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله. (وصلوا خلف) من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله» وَعُثْمَان هَذَا تَرَكُوهُ، نسبه يَحْيَى إِلَى الْكَذِب مرّة.
ثَانِيهَا: من طَرِيق الْعَلَاء بن سَالم، عَن (أبي الْوَلِيد المَخْزُومِي - واسْمه خَالِد (بن) إِسْمَاعِيل) عَن (عبيد الله) بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِهِ إِلَّا أَنه قَالَ: «وَرَاء» بدل «خلف» .
وَأَبُو الْوَلِيد هَذَا وَضاع كَمَا قَالَه ابْن عدي. وَأغْرب أَيْضا فَذكره من هَذَا الْوَجْه فِي «الْأَحَادِيث المختارة» وَيبعد فِي حَقه حقًّا اسْم أبي الْوَلِيد وحاله، وَفِي هَذَا الْكتاب أَحَادِيث كَثِيرَة من هَذَا النمط.
وَرَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُغيرَة (الشهروزي) ، عَن خَالِد. وَمُحَمّد هَذَا مثل خَالِد، قَالَ ابْن عدي: هُوَ مِمَّن يسرق الحَدِيث (قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي وَضاع وَذكر لَهُ أَحَادِيث) مِمَّا يُنكر عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: وَرَأَيْت لَهُ مَا يتهم فِيهِ غير مَا ذكرت.(4/464)
ثَالِثهَا: من طَرِيق مُحَمَّد بن الْفضل، عَن سَالم الْأَفْطَس، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا (بِهِ) وَمُحَمّد هَذَا خراساني (مروزي) وَهُوَ مَتْرُوك بالِاتِّفَاقِ، وَنسبه يَحْيَى وَغَيره إِلَى الْكَذِب.
وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق رَابِع من حَدِيث وهب بن وهب، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِهِ.
ووهب هَذَا هُوَ أَبُو البخْترِي القَاضِي كَذَّاب وَضاع كَمَا أسلفته فِي حَدِيث المشمس من كتاب الطَّهَارَة.
وَله طَرِيق خَامِس من حَدِيث (عُثْمَان) بن عبد الله العثماني، نَا مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «صلوا خلف من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَعَلَى من (مَاتَ) من أهل لَا إِلَه إِلَّا الله» .
وَعُثْمَان هَذَا مُتَّهم واه، رَمَاه بِالْوَضْعِ ابْن حبَان وَابْن عدي. (فَالْحَاصِل) أَن هَذَا الحَدِيث من جَمِيع طرقه لَا يثبت.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وليؤمكم أكبركم» .
هَذَا (الحَدِيث) مُتَّفق عَلَى صِحَّته من رِوَايَة مَالك بن الْحُوَيْرِث رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد سلف بِطُولِهِ فِي بَاب الْأَذَان.(4/465)
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «قدمُوا قُريْشًا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن ابْن أبي فديك، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن ابْن شهَاب، أَنه بلغه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «قدمُوا قُريْشًا وَلَا (تقدموها) وتعلموا مِنْهَا وَلَا تعالموها - أَو تعلموها شكّ ابْن أبي فديك» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، أَنا عبد الرَّزَّاق، أَنا معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن أبي حثْمَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تُعلموا قُريْشًا وتعلموا مِنْهَا، وَلَا تقدمُوا قُريْشًا وَلَا تَأَخَّرُوا عَنْهَا؛ فَإِن للقرشي مثل قُوَّة الرجلَيْن من غَيرهم - يَعْنِي فِي الرَّأْي» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مُرْسل، قَالَ: و (يرْوَى) مَوْصُولا وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : وَهَذَا الحَدِيث وَإِن كَانَ مُرْسلا جيدا لَا يبلغ دَرَجَة الصَّحِيح.
قلت: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث أبي معشر، عَن سعيد المَقْبُري، عَن السَّائِب أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «قدمُوا قُريْشًا وَلَا (تقدموها) ، وتعلموا من قُرَيْش وَلَا تعلموها» وَأَبُو معشر(4/466)
(نجيح) هَذَا هُوَ السندي مُنكر الحَدِيث كَمَا (قَالَه) البُخَارِيّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ مثله من رِوَايَة عَلّي بن أبي طَالب مَرْفُوعا، وَفِي إِسْنَاده عَلّي بن الْفضل وَقد تَرَكُوهُ.
وَمن رِوَايَة جُبَير بن مطعم مَرْفُوعا، وَفِي إِسْنَاده إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن ثَابت وَهُوَ ذُو مَنَاكِير، وَاحْتج الْبَيْهَقِيّ وَغَيره فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَهِي تَقْدِيم (النّسيب) بِالْحَدِيثِ الثَّابِت فِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة (أَن رَسُول) الله (قَالَ: «النَّاس (تبع لقريش) فِي هَذَا الشَّأْن، مسلمهم (تبع) لمسلمهم، وكافرهم (تبع) لكافرهم» وَهَذَا الحَدِيث وَإِن كَانَ (واردًا) فِي الْخلَافَة (فيستنبط) مِنْهُ إِمَامَة الصَّلَاة.
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ: حَكَى الْأَصْحَاب عَن بعض مُتَقَدِّمي(4/467)
الْعلمَاء أَنهم قَالُوا عِنْد التَّسَاوِي فِي جَمِيع الْخِصَال مَعَ نظافة الثَّوْب وَحسن الصَّوْت أَنه يقدم أحْسنهم وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَمنهمْ من قَالَ: (أحْسنهم) وَجها. وَمِنْهُم من قَالَ: (أحْسنهم) ذكرا بَين النَّاس. هَذَا كَلَامه، وَيُؤَيّد الأول أَنه ورد مُصَرحًا بِهِ فِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث أبي زيد عَمْرو بن أَخطب أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يؤمهم أقرؤهم، فَإِن اسْتَووا فِي الْقِرَاءَة فأكبرهم سنًّا، فَإِن اسْتَووا فأحسنهم وَجها» وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيّ إِلَى تَضْعِيفه، فَإِنَّهُ قَالَ: من قَالَ «يؤمهم أحْسنهم وَجها» إِن صَحَّ (الْخَبَر) .
وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَذكره فِي «مَوْضُوعَاته» وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث مَوْضُوع. وَنقل عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه قَالَ: هَذَا حَدِيث سوء لَيْسَ بِصَحِيح.
(وَذكر) الْمَاوَرْدِيّ بعد أَن حَكَاهُ وَجها للأصحاب من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رفعته: «يؤمكم أحسنكم وَجها؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يكون أحسنكم خلقا» وَهَذِه طَريقَة جَيِّدَة.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: هَذَانِ التفسيران لِأَصْحَابِنَا - يَعْنِي فِي قَوْله: « (أحْسنهم) وَجها» وَصحح الثَّانِي.(4/468)
وَحَكَى الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَجها أَنه يقدم الْأَحْسَن وَجها عَلَى الأورع وَالْأَكْثَر طَاعَة، وَهُوَ غلط.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : يُنكر (عَلَى) الْأَصْحَاب حَيْثُ نقلوا هَذَا عَن بعض الْعلمَاء مَعَ أَنه ورد فِي حَدِيث مَرْفُوع فِي الْبَيْهَقِيّ (فَذكره) وَأَشَارَ إِلَى ضعفه.
قلت: لَعَلَّهُم أَعرضُوا عَنهُ لضَعْفه الشَّديد، ثمَّ إِن الْمَاوَرْدِيّ قد ذكره وَهُوَ من جلتهم.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يؤم الرجل الرجل فِي سُلْطَانه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف قَرِيبا فِي الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «من السّنة أَن لَا يؤمهم إِلَّا صَاحب الْبَيْت» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي عَلَى مَا نَقله الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» (عَنهُ) عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، أَنا معن بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله(4/469)
بن مَسْعُود، عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن، عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: «من السّنة أَن لَا يؤمهم إِلَّا صَاحب الْبَيْت» . وَإِبْرَاهِيم هَذَا قد عرفت حَاله فِي الطَّهَارَة فِي الْكَلَام عَلَى المشمس، والْحَدِيث الَّذِي قبله مُغن عَنهُ. وَهَذَا الحَدِيث إِنَّمَا ذكرته هُنَا وَلم أذكرهُ فِي الْآثَار؛ لِأَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ من السّنة كَذَا كَانَ مَرْفُوعا عَلَى الصَّحِيح.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
«أَن عبد الله بن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وقف عَن يسَار رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأداره عَن يَمِينه» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته كَمَا سلف فِي بَاب شُرُوط الصَّلَاة فِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ مِنْهُ.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «صليت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقُمْت (عَن) يَمِينه ثمَّ جَاءَ آخر فَقَامَ عَن يسَاره فدفعنا جَمِيعًا حَتَّى أقامنا من خَلفه» .
هَذَا (الحَدِيث) صَحِيح رَوَاهُ مُسلم بِلَفْظ عَن جَابر قَالَ: «قَامَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقُمْت عَن يسَاره فَأخذ بِيَدِهِ حَتَّى أدارني عَن يَمِينه، ثمَّ جَاءَ جَبَّار بن صَخْر فَقَامَ عَن يسَار النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخذ بِأَيْدِينَا جَمِيعًا فدفعنا حَتَّى(4/470)
أقامنا خَلفه» وَهُوَ بعض من حَدِيث صَحِيح فِي (آخِر) مُسلم، وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد بِلَفْظ عَن جَابر قَالَ: «قَامَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي الْمغرب فَجئْت فَقُمْت عَن يسَاره، فنهاني فجعلني عَن يَمِينه، ثمَّ جَاءَ صَاحب لي (فصفنا) خَلفه، فَصَلى بِنَا فِي ثوب وَاحِد مُخَالفا (بَين طَرفَيْهِ) .
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «صليت أَنا ويتيم خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي بيتنا وَأم سليم خلفنا» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور للْبُخَارِيّ.
وَاسم هَذَا الْيَتِيم: ضميرَة بن سعد الْحِمْيَرِي الَّذِي لَهُ (ولابنه) صُحْبَة. وَأم سليم هِيَ أم أنس.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا عَلَى أَنه إِذا حضرت امْرَأَة مَعَ رجلَيْنِ أَو مَعَ رجل وَصبي قاما صفًّا وَاحِدًا وَقَامَت الْمَرْأَة خلفهمَا، وَإِنَّمَا (يتم) ذَلِك (فِي الْحَالة الثَّانِيَة) إِذا ثَبت بُلُوغ أنس إِذْ ذَاك، وتقاس (الأولَى) عَلَيْهَا.(4/471)
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لرحل صَلَّى خلف الصَّفّ: أَيهَا الْمُصَلِّي، هلا دخلت فِي الصَّفّ أَو جررت رجلا من الصَّفّ، أعد صَلَاتك» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث السّري بن إِسْمَاعِيل، عَن الشّعبِيّ، عَن وابصة قَالَ: « (رَأَى) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجلا صَلَّى خلف الصُّفُوف وَحده فَقَالَ: أَيهَا الْمُصَلِّي (أَلا) دخلت فِي الصَّفّ أَو جررت إِلَيْك رجلا فَقَامَ مَعَك، أعد (الصَّلَاة)) ثمَّ قَالَ: (إِسْنَاد) ضَعِيف تفرد بِهِ السّري بن إِسْمَاعِيل وَهُوَ ضَعِيف.
قلت: بل مَتْرُوك كَمَا قَالَه النَّسَائِيّ وَغَيره.
وَقَالَ يَحْيَى الْقطَّان: استبان لي كذبه فِي مجْلِس وَاحِد.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث من طَرِيق عمر بن عَلّي، عَن أَشْعَث بن سوار، عَن بكير بن الْأَخْنَس، عَن (حَنش) بن الْمُعْتَمِر، عَن وابصة مَرْفُوعا فَقَالَ: رَوَاهُ بعض الْكُوفِيّين، عَن أَشْعَث، عَن بكير، عَن وابصة مَرْفُوعا. قَالَ: وَأما عمر فمحله الصدْق وَلَوْلَا تدليسه (لحكمنا إِذْ جَاءَ بِالزِّيَادَةِ غير أَنا نَخَاف أَن يكون أَخذ من(4/472)
غير ثِقَة. قَالَ: وَسَأَلته) عَن (حَنش) هَل أدْرك وابصة؟ فَقَالَ: لَا، أبعد.
قلت: وحنش (لين) لَا يحْتَج بِهِ، وَأَشْعَث ضعفه جمَاعَة وَرَوَى لَهُ (م) مُتَابعَة. قلت: وَلِحَدِيث هَذَا طَرِيق آخر رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيثه « (أَنه) عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ رَأَى رجلا (يصلى) خلف (الصَّفّ) وَحده (فَأمره أَن يُعِيد الصَّلَاة» وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن رجل خلف الصُّفُوف وَحده) فَقَالَ: يُعِيد الصَّلَاة» وَهَذَا الطَّرِيق حسنه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ ابْن حبَان وَقَالَ: رُوِيَ من طَرِيقين محفوظين، وَلم ينْفَرد بِهِ هِلَال بن يسَاف.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ثبته أَحْمد وَإِسْحَاق. وَخَالف ابْن عبد الْبر فَقَالَ: إِسْنَاد حَدِيث وابصة مُضْطَرب وَلَا يُثبتهُ جمَاعَة.(4/473)
وَقَالَ الْحَاكِم: (إِنَّمَا) لم يخرج الشَّيْخَانِ لوابصة فِي كِتَابَيْهِمَا شَيْئا؛ لفساد الطَّرِيق إِلَيْهِ.
قلت: وَرَوَى مثل حَدِيث وابصة هَذَا (عَلّي) بن (شَيبَان) ، (رَوَاهُ) أَحْمد (و) ابْن أبي شيبَة وَابْن مَاجَه من حَدِيثه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رَأَى رجلا يُصَلِّي خلف الصَّفّ فَوقف حَتَّى انْصَرف الرجل فَقَالَ لَهُ: اسْتقْبل صَلَاتك فَلَا صَلَاة لفرد خلف الصَّفّ» .
(فَقَالَ الْأَثْرَم) : قَالَ أَحْمد: إِنَّه حَدِيث حسن.
الحَدِيث (الثَّامِن) بعد الثَّلَاثِينَ
حَدِيث أبي بكرَة: « (أَنه) لما ركع خَارج الصَّفّ ثمَّ دخل الصَّفّ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام لما ذكر لَهُ ذَلِك: زادك الله حرصًا وَلَا تعد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح (رَوَاهُ البُخَارِيّ) كَمَا سلف فِي شُرُوط الصَّلَاة وَهُوَ الحَدِيث الْخَامِس (وَالثَّلَاثُونَ) مِنْهُ.(4/474)
الحَدِيث (التَّاسِع بعد الثَّلَاثِينَ)
حَدِيث ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فِي صلَاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ صَلَاة الْخَوْف بِذَات الرّقاع.
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، وَسَيَأْتِي فِي بَابه بِطُولِهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى (ذَلِك) وَقدره.
وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر هَذَا الحَدِيث فِي كَلَامه عَلَى أَنه إِذا كَانَ الإِمَام وَالْمَأْمُوم فِي فضاء فَإِنَّهُ يشْتَرط أَلا (يزِيد مَا) بَينهمَا عَلَى ثَلَاثمِائَة ذِرَاع. (قَالَ: ومم) أَخذ هَذَا التَّقْدِير فَعَن ابْن (سُرَيج) وَأَبَى إِسْحَاق أَنه (أَخذ) من صلَاته عَلَيْهِ السَّلَام بِذَات الرّقاع، فَإِنَّهُ تنحى بطَائفَة بِحَيْثُ لَا تصيبهم سِهَام الْعَدو وَصَلى بهم (رَكْعَة) وانصرفت الطَّائِفَة إِلَى وَجه الْعَدو وهم فِي الصَّلَاة وسهام الْعَدو لَا تبلغ (أَكثر) من الْقدر الْمَذْكُور. انْتَهَى كَلَامه. وَفِي هَذَا الاستنباط نظر من أوجه:
أَحدهَا: أَنه لَا يتم مَا ذكر حَتَّى يثبت أَن الْمسَافَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث مَا زَادَت عَلَى الْقدر الْمَذْكُور.
ثَانِيهَا: أَن (هَذَا حَال) ضَرُورَة فَلَا يُقَاس عَلَيْهَا (حَال) الِاخْتِيَار.(4/475)
ثَالِثهَا: أَن سِهَام الْعَدو قد بلغت أَكثر من هَذَا فقد قَالَ الرَّافِعِيّ نَفسه فِي بَاب الْمُسَابقَة: أَنهم قدرُوا الْمسَافَة الَّتِي تتعذر الْإِصَابَة (بهَا) (بِمَا) هُوَ أَكثر من ثَلَاثمِائَة وَخمسين ذِرَاعا. قَالَ: وَرووا أَنه لم يرم إِلَى أَرْبَعمِائَة ذِرَاع سُوَى عقبَة بن عَامر.
الحَدِيث (الْأَرْبَعُونَ)
عَن جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «كَانَ معَاذ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْعشَاء، ثمَّ ينْطَلق إِلَى قومه فيصليها بهم، هِيَ لَهُ تطوع (وَلَهُم) مَكْتُوبَة الْعشَاء» .
هَذَا الحَدِيث أَصله مُتَّفق عَلَيْهِ أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَن جَابر «أَن معَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عشَاء الْآخِرَة ثمَّ يرجع إِلَى قومه فَيصَلي بهم تِلْكَ الصَّلَاة» هَذَا لفظ مُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ: «فَيصَلي بهم الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة» (ذكره فِي كتاب الْأَدَب من «صَحِيحه» فِي نُسْخَة مِنْهُ - أَعنِي بِلَفْظ «الْمَكْتُوبَة» ) .(4/476)
(وَرَوَاهُ - كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ - الشَّافِعِي) فِي «الْأُم» وحرملة، عَن عبد الْمجِيد، عَن ابْن جريج، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن جَابر قَالَ: «كَانَ معَاذ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْعشَاء، ثمَّ ينْطَلق إِلَى قومه فيصليها لَهُم، فَهِيَ لَهُ تطوع وَلَهُم مَكْتُوبَة الْعشَاء» .
قَالَ الشَّافِعِي - فِي رِوَايَة حَرْمَلَة -: هَذَا حَدِيث ثَابت لَا أعلم حَدِيثا يرْوَى من طَرِيق وَاحِد أثبت من هَذَا وَلَا أوثق - يَعْنِي رجَالًا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَة - يَعْنِي: «هِيَ لَهُ تطوع ... » إِلَى آخِره» - أَبُو عَاصِم النَّبِيل وَعبد الرَّزَّاق، عَن ابْن جريج - يَعْنِي كَرِوَايَة شيخ الشَّافِعِي عَن ابْن جريج - وَزِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة فِي مثل هَذَا.
وَسَاقه فِي «سنَنه» من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: فِي رِوَايَة عَاصِم: «هِيَ لَهُ تطوع وَلَهُم فَرِيضَة» وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: «هِيَ لَهُ نَافِلَة وَلَهُم فَرِيضَة» قَالَ فِي الْمعرفَة: وَقد رويت هَذِه الزِّيَادَة من أوجه أخر عَن جَابر. ثمَّ سَاقه من طَرِيق الشَّافِعِي عَن شَيْخه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن ابْن (عجلَان) ، عَن (عبيد) الله بن مقسم، عَن(4/477)
جَابر «أَن معَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْعشَاء، ثمَّ يرجع إِلَى قومه فَيصَلي بهم الْعشَاء، وَهِي لَهُ نَافِلَة» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالْأَصْل أَن مَا كَانَ مَوْصُولا بِالْحَدِيثِ يكون مِنْهُ، وخاصة إِذا رُوِيَ (من) وَجْهَيْن إِلَّا أَن تقوم دلَالَة عَلَى التَّمْيِيز. قَالَ: وَالظَّاهِر أَن قَوْله: «هِيَ لَهُ تطوع وَلَهُم مَكْتُوبَة» من قَول جَابر، (وَكَانَ) أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أعلم بِاللَّه وأخشى لَهُ من أَن يَقُولُوا مثل هَذَا إِلَّا بِعلم، وَحين حَكَى الرجل فعل معَاذ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يُنكر عَلَيْهِ إِلَّا التَّطْوِيل.
وَقَالَ ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» : لَا خلاف بَين أهل النَّقْل للْحَدِيث أَنه حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: وَسمعت أَحْمد بن (سلمَان) الْفَقِيه يَقُول: سَمِعت إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق (وَسَأَلَهُ) رجل من أهل خُرَاسَان: إِذا صَلَّى الإِمَام تَطَوّعا وَمن خَلفه فَرِيضَة. قَالَ: لَا يجزئهم. قلت: فَأَيْنَ حَدِيث معَاذ بن جبل؟ قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: حَدِيث معَاذ بن جبل قد (أعيى) الْقُرُون الأول.
تَنْبِيه: الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه احْتج بِهَذَا الحَدِيث عَلَى صِحَة صَلَاة المفترض خلف المتنفل، وللمخالف عَلَيْهِ اعتراضات غير لائحة، وَقد ذكرت جملَة مِنْهَا مَعَ بَيَان (وهنها) فِي تَخْرِيج أَحَادِيث (الْمُهَذّب) ، فَرَاجعهَا مِنْهُ.(4/478)
الحَدِيث (الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين)
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَهُوَ يُصَلِّي) (فوقفت خَلفه) ، ثمَّ جَاءَ آخر حَتَّى صرنا رهطًا (كَبِيرا) فَلَمَّا أحس النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِنَا أوجز فِي صلَاته ثمَّ قَالَ: إِنَّمَا فعلت هَذَا لكم» .
هَذَا (الحَدِيث صَحِيح) ، رَوَاهُ مُسلم فِي كتاب الصَّوْم من «صَحِيحه» وَهَذَا لَفظه عَن (أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -) قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي فِي رَمَضَان (فَجئْت فَقُمْت إِلَى جنبه) وَجَاء (رجل) فَقَامَ أَيْضا حَتَّى كُنَّا رهطًا، فَلَمَّا أحس النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جعل يتجوز فِي الصَّلَاة، ثمَّ دخل وَحده (فَصَلى) صَلَاة لَا يُصليهَا (عندنَا) - قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ حِين أَصْبَحْنَا: [أفطنت] لنا اللَّيْلَة؟ قَالَ: نعم، ذَاك الَّذِي حَملَنِي عَلَى الَّذِي صنعت ... » ثمَّ ذكر قصَّة الْوِصَال.(4/479)
وَاعْلَم بِأَن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَن الإِمَام لَا يشْتَرط فِي (حَقه نِيَّة) الْإِمَامَة، ورد بِهِ عَلَى الإِمَام (أَحْمد) حَيْثُ قَالَ باشتراطها، وَلَك أَن تَقول يحْتَمل أَن يكون عَلَيْهِ السَّلَام نَوى الْإِمَامَة لما اقتدوا بِهِ؛ فَإِنَّهَا قَضِيَّة عين وَهِي مُحْتَملَة، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يَقْتَضِي أَنه لم ينْو، وَاسْتدلَّ الْمَاوَرْدِيّ لذَلِك (بِقصَّة) ابْن عَبَّاس السالفة لما بَات عِنْد خَالَته مَيْمُونَة، قَالَ: فصحح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صلَاته وَلم ينْو إِمَامَته، وَفِيه النّظر الْمَذْكُور أَيْضا. وَاسْتدلَّ (لَهُ) الْمُتَوَلِي فِي «تتمته» بِقصَّة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف (بغزوة) تَبُوك حَيْثُ صَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَة من الصُّبْح وأدركه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الثَّانِيَة (فَصلاهَا) خَلفه، ثمَّ قَضَى مَا فَاتَهُ (ثمَّ لما) فرغ من الصَّلَاة قَالَ لَهُم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَحْسَنْتُم» . كَذَا أوردهُ ثمَّ قَالَ: وَمَعْلُوم أَن عبد الرَّحْمَن مَا كَانَ (نَوى) الْإِمَامَة برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَلفه.
وَفِيمَا ذكره نظر أَيْضا.
الحَدِيث (الثَّانِي) بعد الْأَرْبَعين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ فَلَا تختلفوا عَلَيْهِ» .(4/480)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة: «فَإِذا كبر فكبروا، وَإِذا ركع فاركعوا، وَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده فَقولُوا: اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد، وَإِذا سجد فاسجدوا، وَإِذا صَلَّى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» .
واتفقا عَلَيْهِ أَيْضا من حَدِيث أنس، واتفقا عَلَى بعضه من حَدِيث عَائِشَة، وَفِي آخِره: «وَإِذا صَلَّى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا» . وَانْفَرَدَ مُسلم بِهَذَا الْأَخير من رِوَايَة جَابر.
وَفِي «سنَن» أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أبي (هُرَيْرَة) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ، فَإِذا كبر فكبروا، وَإِذا قَرَأَ فأنصتوا» .
قيل لمُسلم بن الْحجَّاج فِي «صَحِيحه» (فِي) حَدِيث أبي هُرَيْرَة: هَذَا صَحِيح هُوَ؟ قَالَ: نعم. قيل: لِمَ لَمْ تضعه هُنَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ(4/481)
كل شَيْء صَحِيح وَضعته هُنَا إِنَّمَا وضعت هُنَا مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ.
قلت: وَصَححهُ أَيْضا: أَحْمد وَابْن حزم، وَقَالَ جُمْهُور الْحفاظ: قَوْله: «وَإِذا قَرَأَ فأنصتوا» لَيست صَحِيحَة عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَأَطْنَبَ الْبَيْهَقِيّ فِي بَيَان بُطْلَانهَا وَذكر عللها، وَنقل بُطْلَانهَا عَن يَحْيَى بن معِين وَأبي حَاتِم وَأبي دَاوُد و (أبي) عَلّي النَّيْسَابُورِي.
تَنْبِيه: اعْلَم أَن الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كرر هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب وَذكر فِي بعض أَلْفَاظه: «لَا تختلفوا عَلَى إمامكم» ، وَلَا يحضرني من خرجه بِهَذَا اللَّفْظ وَمَا سبق هُوَ بِمَعْنَاهُ، وَمن جملَة مَا اسْتدلَّ بِهِ عَلَى أَن الْمَأْمُوم إِذا فَارق إِمَامه أَن صلَاته تبطل، وَقد يُقَال: تَمام الحَدِيث يدل عَلَى أَنه أَرَادَ مَا دَامَ مقتديًا بِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «فَإِذا كبر فكبروا» وَتبع فِي الِاسْتِدْلَال (بِهِ) صَاحب الْبَيَان فَإِنَّهُ قَالَ عقبه: فَمن خَالفه فقد دخل تَحت النَّهْي، وَالنَّهْي (يَقْتَضِي) فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ.
الحَدِيث (الثَّالِث) بعد الْأَرْبَعين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تبَادرُوا الإِمَام، إِذا كبر فكبروا وَإِذا ركع فاركعوا، وَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده فَقولُوا: رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَإِذا سجد فاسجدوا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: كَانَ(4/482)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعلمنَا، يَقُول: «لَا تبَادرُوا الإِمَام، إِذا كبر فكبروا، وَإِذا قَالَ: «وَلَا الضَّالّين» فَقولُوا: آمين. وَإِذا ركع فاركعوا، وَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده فَقولُوا: (اللَّهُمَّ) رَبنَا لَك الْحَمد» وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : وَلَا تَرفعُوا قبله» وَفِي أُخْرَى (لَهُ) : «إِنَّمَا الإِمَام جنَّة، فَإِذا صَلَّى قَاعِدا فصلوا قعُودا، وَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده فَقولُوا: (اللَّهُمَّ) رَبنَا لَك الْحَمد، فَإِذا وَافق قَول أهل الأَرْض قَول أهل السَّمَاء غفر الله لَهُ (مَا تقدم) من ذَنبه» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ؛ فَإِذا كبر فكبروا، وَلَا تكبروا حَتَّى يكبر، وَإِذا ركع فاركعوا، وَلَا تركعوا حَتَّى يرْكَع، وَإِذا سجد فاسجدوا، وَلَا تسجدوا حَتَّى يسْجد» .
وَفِي إِسْنَاده: مُصعب بن مُحَمَّد (الْعَبدَرِي) وَثَّقَهُ ابْن معِين. وَقَالَ أَحْمد: لَا أعلم إِلَّا خيرا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» : وَجَاء حرف غَرِيب فِي(4/483)
هَذَا الحَدِيث وَهُوَ: « (إِذا) قَالَ: سمع الله لمن حَمده فَقولُوا: سمع الله لمن حَمده» مثل قَول الإِمَام سَوَاء، قَالَ: وَالْمَشْهُور حذف هَذِه الزِّيَادَة كَمَا تقدم فِي الصَّحِيح.
تَنْبِيه: اسْتدلَّ الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وإيانا - بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَنه يجب عَلَى الْمَأْمُوم مُتَابعَة إِمَامه، وَالدّلَالَة مِنْهُ ظَاهِرَة، ثمَّ اسْتدلَّ بقوله: «فَإِذا كبر فكبروا» عَلَى أَنه إِذا (قارنه) فِي التَّكْبِير أَن صلَاته لَا تَنْعَقِد، وَلقَائِل أَن يَقُول (فِي تَمام) الحَدِيث وَإِذا ركع فاركعوا» وَلَو ركع مَعَه لم تفْسد فَيَنْبَغِي أَن لَا تفْسد إِذا كبر مَعَه؛ لِأَن الصِّيغَة وَاحِدَة فِي الْجَمِيع، نعم الْفَارِق بَينهمَا مَا أبداه الرَّافِعِيّ من كَون الإِمَام فِي الرُّكُوع وَغَيره فِي (صلَاته) فينتظم الِاقْتِدَاء بِهِ بِخِلَاف التَّكْبِير.
الحَدِيث (الرَّابِع) بعد الْأَرْبَعين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أما يخْشَى الَّذِي يرفع رَأسه وَالْإِمَام ساجد أَن يحول الله رَأسه رَأس حمَار» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ مُحَمَّد (: «أما يخْشَى الَّذِي يرفع رَأسه قبل الإِمَام أَن يحول الله رَأسه رَأس حمَار» وَفِي لفظ: «مَا يَأْمَن الَّذِي يرفع رَأسه فِي صلَاته أَن(4/484)
يحول الله صورته صُورَة حمَار» وَفِي (آخر) : «أَن يَجْعَل الله وَجهه وَجه حمَار» هَذِه أَلْفَاظ مُسلم.
وَلَفظ البُخَارِيّ: «رَأسه رَأس حمَار (أَو) صورته صُورَة حمَار» . وَلأبي دَاوُد: «أما يخْشَى أحدكُم إِذا رفع رَأسه وَالْإِمَام ساجد أَن يحول الله رَأسه رَأس حمَار أَو صورته صُورَة حمَار» .
وَلابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : «أَن يحول الله رَأسه رَأس الْكَلْب» .
وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي «تلخيصه» بِهَذِهِ الزِّيَادَة ثمَّ قَالَ: لم (أكتبه) بِهَذَا الْإِسْنَاد إِلَّا عَن أبي نعيم بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: وَقد رَوَاهُ جمَاعَة عَن يُوسُف بن عدي (فَقَالَ) فِيهِ: «رَأس حمَار» .
قلت: ويوسف هَذَا لَيْسَ فِي (رِوَايَة) ابْن حبَان. وللعقيلي فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» : «الَّذِي يرفع رَأسه قبل الإِمَام فَإِنَّمَا ناصيته بيد شَيْطَان» .
قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي و (أَبَا)(4/485)
(زرْعَة) عَن هَذِه الزِّيَادَة فَقَالَا: هِيَ خطأ وَهِي معلولة حَيْثُ رويت مَوْقُوفَة عَلَى أبي هُرَيْرَة.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : الصَّحِيح وَقفهَا عَلَيْهِ.
الحَدِيث (الْخَامِس) بعد الْأَرْبَعين
عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كُنَّا (نصلي) مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده لم يحن أحد منا ظَهره حَتَّى يضع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَبهته عَلَى الأَرْض» .
(هَذَا الحَدِيث) مُتَّفق عَلَى صِحَّته من هَذَا الْوَجْه، وَفِي بعض رواياته: «ثمَّ (نخر) من وَرَائه سجدا» .
وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث عَمْرو بن حُرَيْث: «وَكَانَ لَا يحني (رجل منا) ظَهره حَتَّى يستتم سَاجِدا» وَلم يخرج البُخَارِيّ عَن عَمْرو هَذَا فِي كِتَابه شَيْئا.(4/486)
الحَدِيث (السَّادِس) بعد الْأَرْبَعين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تبادروني بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُود فمهما (أسبقكم) بِهِ إِذا ركعت تدركوني إِذا رفعت، وَمهما أسبقكم بِهِ إِذا سجدت تدركوني بِهِ إِذا رفعت» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ كَذَلِك أَحْمد والْحميدِي فِي (مسنديهما) ، وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: «لَا تسبقوني بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُود فَإِنِّي قد بدنت، وَإِنِّي مهما أسبقكم بِهِ حِين أركع تدركوني بِهِ حِين أرفع، وَمَا سبقتكم بِهِ حِين أَسجد تدركوني بِهِ حِين أرفع» .(4/487)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «لَا تبادروني بركوع وَلَا سُجُود فَإِنَّهُ مهما أسبقكم بِهِ إِذا ركعت تدركوني (بِهِ) إِذا رفعت إِنِّي قد بدنت) وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» (من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَفعه (يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي قد بدَّنت أَو بدنت) فَلَا تسبقوني بِالرُّكُوعِ (وَالسُّجُود) ، وَلَكِن إِن سبقتكم إِنَّكُم تدركون مَا فاتكم» .
فَائِدَة: «بدنت» بِالتَّشْدِيدِ وَنصب الدَّال عَلَى الْأَصَح.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : اخْتَار أَبُو عبيد: «بدنت» بِالتَّشْدِيدِ وَنصب الدَّال - يَعْنِي: كَبرت. وَمن قَالَ بِرَفْع الدَّال فَإِنَّهُ أَرَادَ كَثْرَة اللَّحْم. وَفِي «مجمع الغرائب للفارسي) : رَوَى هشيم - (وَكَانَ) فِيمَا يُقَال: (لحانًا) بدنت، (قَالَ) أَبُو عبيد: لَيْسَ لَهُ مَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَثْرَة اللَّحْم من صفته عَلَيْهِ السَّلَام؛ لِأَن من نَعته أَنه كَانَ رجلا بَين الرجلَيْن فِي جِسْمه ولحمه. وَكَذَا قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» : «بدنت» مُشَدّدَة بِمَعْنى كَبرت وَمن خففها غلط؛ لِأَنَّهُ يكون من كَثْرَة اللَّحْم، وَلَيْسَ من صِفَاته. وَكَذَا قَالَ المطرزي: الصَّوَاب عَن الْأمَوِي «بدنت» ؛ أَي: كَبرت؛ لِأَن البدانة وَالسمن خلاف صفته عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَّا أَن يحمل عَلَى أَن الْحَرَكَة(4/488)
ثقلت عَلَى البادن. قَالَ: وَإِن صَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حمل الشَّحْم فِي آخر عمره (لاستغنى) عَن التَّأْوِيل.
الحَدِيث (السَّابِع) بعد الْأَرْبَعين
«أَن معَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أمَّ قومه لَيْلَة فِي صَلَاة الْعشَاء بَعْدَمَا صلاهَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَافْتتحَ سُورَة الْبَقَرَة فَتنَحَّى رجل من خَلفه وَصَلى وَحده فَقيل لَهُ نافقت، ثمَّ ذكر ذَلِك للنَّبِي (فَقَالَ الرجل: يَا رَسُول الله إِنَّك أخرت الْعشَاء وَإِن معَاذًا صَلَّى مَعَك ثمَّ أمنا وافتتح سُورَة الْبَقَرَة، وَإِنَّمَا نَحن أَصْحَاب نواضح نعمل بِأَيْدِينَا، فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك تَأَخَّرت وَصليت، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (أفتان) أَنْت يَا معَاذ؟ اقْرَأ (سُورَة) كَذَا اقْرَأ (سُورَة) كَذَا» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث جَابر بن عبد الله (قَالَ: «كَانَ معَاذ) يُصَلِّي (مَعَ) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ يَأْتِي فيؤم قومه، فَصَلى لَيْلَة مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْعشَاء، ثمَّ أَتَى قومه فَأمهمْ فَافْتتحَ سُورَة الْبَقَرَة، فانحرف رجل فَسلم ثمَّ صَلَّى وَحده وَانْصَرف، فَقَالُوا لَهُ: نافقت يَا فلَان.(4/489)
قَالَ: لَا وَالله ولآتين رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فلأخبرنه) فَأَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنَّا أَصْحَاب نواضح نعمل بِالنَّهَارِ، وَإِن معَاذًا صَلَّى مَعَك الْعشَاء ثمَّ أَتَى فَافْتتحَ (سُورَة) الْبَقَرَة. فَأقبل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى معَاذ فَقَالَ: (يَا معَاذ، أفتان أَنْت) ، اقْرَأ بِكَذَا واقرأ بِكَذَا» قَالَ سُفْيَان: فَقلت لعَمْرو: إِن أَبَا الزبير حَدثنَا عَن جَابر أَنه قَالَ: «اقْرَأ (وَالشَّمْس وَضُحَاهَا) (وَالضُّحَى) (وَاللَّيْل إِذا (يغشى)) و (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى) فَقَالَ عَمْرو نَحْو هَذَا.
هَذَا لفظ مُسلم، وَفِي (آخر لَهُ) : «إِذا (أممت النَّاس) فاقرأ (بالشمس وَضُحَاهَا) و (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى) و (اقْرَأ باسم رَبك) (وَاللَّيْل إِذا يغشي» .
وللبخاري: «أَن معَاذًا صَلَّى بِنَا البارحة فَقَرَأَ الْبَقَرَة فتجوزت، فَزعم أَنِّي مُنَافِق: فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أفتان أَنْت - ثَلَاثًا» وَلم يذكر تعْيين السُّور.(4/490)
وَله أَيْضا: «أَن معَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ يَأْتِي قومه فَيصَلي بهم (صَلَاة) الْعشَاء (فَقَرَأَ) الْبَقَرَة، قَالَ: فَتجوز رجل وَصَلى صَلَاة خَفِيفَة، فَبلغ ذَلِك معَاذًا، فَقَالَ: إِنَّه مُنَافِق. فَبلغ ذَلِك الرجلَ فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنَّا قوم نعمل بِأَيْدِينَا ونسقي نواضحنا وَإِن معَاذًا صَلَّى البارحة فَقَرَأَ الْبَقَرَة فتجوزت فَزعم أَنِّي مُنَافِق. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: يَا معَاذ، أفتان أَنْت - ثَلَاثًا - اقْرَأ (وَالشَّمْس وَضُحَاهَا) و (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى) وَنَحْوهَا» وَفِي (لفظ) آخر: «فلولا صليت ب (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى) (وَالشَّمْس وَضُحَاهَا) ، (وَاللَّيْل إِذا يغشى) فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَك (الْكَبِير وَالصَّغِير) وَذُو الْحَاجة» قَالَ: أَحسب هَذَا (فِي) الحَدِيث وَلَيْسَت (عِنْده) قَول سُفْيَان لعَمْرو، وَفِي بعض طرقه: «أقبل رجل بناضحين وَقد أقبل اللَّيْل فَوَافَقَ معَاذًا يُصَلِّي فَأقبل (معَاذ)
» وَذكر الحَدِيث.
وَللشَّافِعِيّ، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو، عَن جَابر: «كَانَ (معَاذ) يُصَلِّي مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْعشَاء - أَو الْعَتَمَة - ثمَّ يرجع فيصليها(4/491)
بقَوْمه فِي بني سَلمَة. قَالَ: فَأخر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْعشَاء ذَات لَيْلَة، قَالَ: فَصَلى معَاذ مَعَه، ثمَّ رَجَعَ فَأم قومه فَقَرَأَ (بِسُورَة) الْبَقَرَة فَتنَحَّى رجل من خَلفه فَصَلى وَحده فَقَالُوا لَهُ: نافقت. قَالَ: لَا وَلَكِنِّي آتِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنَّك أخرت الْعشَاء وَإِن معَاذًا صَلَّى مَعَك، ثمَّ رَجَعَ فأمنا وافتتح سُورَة الْبَقَرَة، فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك تَأَخَّرت فَصليت، وَإِنَّمَا نَحن أَصْحَاب نواضح نعمل بِأَيْدِينَا. فَأقبل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: أفتان أَنْت يَا معَاذ، أفتان أَنْت يَا معَاذ، اقْرَأ (بِسُورَة كَذَا وَسورَة) كَذَا» .
قَالَ الشَّافِعِي: وَأَنا سُفْيَان، أَنا أَبُو الزبير، عَن جَابر بِمثلِهِ وَزَاد فِيهِ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُ: اقْرَأ ب (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى) ، (وَاللَّيْل إِذا يغشى) ، (وَالسَّمَاء والطارق) وَنَحْوهَا قَالَ سُفْيَان فَقلت لعَمْرو: إِن أَبَا الزبير يَقُول (قَالَ) لَهُ: اقْرَأ (ب (سبح اسْم) رَبك الْأَعْلَى) (وَاللَّيْل إِذا يغشي) (وَالسَّمَاء والطارق) (قَالَ) عَمْرو: هُوَ هَذَا أَو نَحوه» .
فَوَائِد:
الأولَى: قد أسلفنا أَنه قَرَأَ (سُورَة) الْبَقَرَة، وَفِي «مُسْند الإِمَام أَحْمد» من حَدِيث (بُرَيْدَة) أَنه قَرَأَ (اقْتَرَبت السَّاعَة) وَجمع بَينهمَا بِأَنَّهُ قَرَأَ هَذِه فِي رَكْعَة وَهَذِه فِي أُخْرَى.(4/492)
الثَّانِيَة: هَذِه الصَّلَاة كَانَت الْعشَاء (كَمَا) سلف لَك - وَهُوَ أصح من رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَنَّهَا كَانَت فِي صَلَاة الْمغرب.
الثَّالِثَة: اخْتلف فِي اسْم (هَذَا الرجل) المنحرف أَو المتجوز عَلَى أَقْوَال، ذكرتها فِي تخريجي لأحاديث «الْمُهَذّب» وَغَيره أَصَحهَا: أَنه حرَام بن ملْحَان خَال أنس، وَلم يذكر الْخَطِيب فِي «مبهماته» غَيره، وَوَقع فِي «الْمُهَذّب» : «فَانْفَرد عَنهُ أَعْرَابِي» ، وَالصَّوَاب: أَنْصَارِي. بدله.
الرَّابِعَة: احْتج المُصَنّف تبعا للشَّافِعِيّ وَالْأَصْحَاب بِهَذَا الحَدِيث عَلَى جَوَاز الْمُفَارقَة وَالْبناء عَلَى مَا (صَلَّى) ، لَكِن احْتج بِهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم وَالشَّيْخ أَبُو حَامِد وَآخَرُونَ عَلَى الْمُفَارقَة (و) بِغَيْر عذر وَجعلُوا تَطْوِيل الْقِرَاءَة لَيْسَ بِعُذْر وَاحْتج بِهِ صَاحب «الْمُهَذّب» وَآخَرُونَ عَلَى الْمُفَارقَة بِعُذْر، وَجعلُوا طولهَا عذرا، وَرِوَايَة مُسلم السالفة أَنه انحرف فَسلم ثمَّ صَلَّى وَحده تشكل عَلَى ذَلِك، (كَأَنَّهُ) اسْتَأْنف وَلم يبن، فَلَا دلَالَة فِيهِ إِذا للمفارقة وَالْبناء، لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا أَدْرِي هَل حفظت الزِّيَادَة الَّتِي فِي مُسلم لِكَثْرَة من رَوَى الحَدِيث عَن سُفْيَان بِدُونِهَا، وَإِنَّمَا انْفَرد بهَا مُحَمَّد بن عباد عَن سُفْيَان. وَلَك أَن تَقول: هَذِه الزِّيَادَة من ثِقَة فَقبلت - كَمَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء وَالْأُصُول والْحَدِيث.
وَجَوَاب هَذَا أَن أَكثر الْمُحدثين يجْعَلُونَ مثل هَذِه الزِّيَادَة شَاذَّة(4/493)
ضَعِيفَة مَرْدُودَة، فَإِن الشاذ عِنْدهم أَن يروي مَا (لَا) يرويهِ سَائِر الثِّقَات سَوَاء خالفهم أم لَا، وَمذهب الشَّافِعِي وَطَائِفَة من عُلَمَاء الْحجاز أَن الشاذ مَا يُخَالف الثِّقَات، أما مَا لَا يخالفهم فَلَيْسَ بشاذ بل يحْتَج بِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح (وَقَول الْمُحَقِّقين) فعلَى الأول: (هَذِه) اللَّفْظَة شَاذَّة لَا يحْتَج بهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ، وَيُؤَيِّدهُ أَن فِي رِوَايَة الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» فِي هَذَا الحَدِيث من طَرِيق أنس: أَن هَذَا الرجل لما رَأَى معَاذًا طول تجوز فِي صلَاته وَلحق بنخله ليسقيه، فَلَمَّا قَضَى (معَاذ) الصَّلَاة قيل لَهُ (فِي) ذَلِك (قَالَ) : إِنَّه لمنافق يعجل عَن الصَّلَاة (لأجل سقِِي) نخله.
الحَدِيث (الثَّامِن) بعد الْأَرْبَعين
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (لما) صَلَّى صَلَاة الْخَوْف بِذَات الرّقاع (فارقته) الْفرْقَة الأولَى بَعْدَمَا صَلَّى بهم رَكْعَة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى (صِحَّته) من حَدِيث خَوات بن جُبَير، وَسَيَأْتِي فِي بَابه إِن شَاءَ الله (ذَلِك وَقدره) .(4/494)
الحَدِيث (التَّاسِع) بعد الْأَرْبَعين
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى بِأَصْحَابِهِ ثمَّ تذكر فِي صلَاته أَنه جنب فَأَشَارَ إِلَيْهِم كَمَا أَنْتُم وَخرج واغتسل ثمَّ عَاد وَرَأسه تقطر وَتحرم بهم» .
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الْبَاب بعد عقد الْعشْرين مِنْهُ.
وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث لأظهر الْقَوْلَيْنِ أَنه يجوز لمن أحرم مُنْفَردا أَن يَنْوِي الْقدْوَة فِي (خلال صلَاته) ، فَإِنَّهُ لما أوردهُ قَالَ: وَمَعْلُوم أَنهم أنشئوا اقْتِدَاء جَدِيدا (إِذْ تبين أَن الأول لم يكن صَحِيحا، وَتبع فِي ذَلِك الإِمَام فَإِنَّهُ قَالَه كَذَلِك سَوَاء، وَهُوَ عَجِيب؛ لأَنهم إِذا أنشئوا اقْتِدَاء جَدِيدا) لم يكن فِيهِ إنْشَاء الْمُنْفَرد الِاقْتِدَاء؛ بل هُوَ إنْشَاء قدوة من لَيْسَ بمصلٍّ؛ وَهَذَا (لَيْسَ مَحل) النزاع، وَأَيْضًا لَا نسلم بطلَان الِاقْتِدَاء الأول؛ لِأَنَّهُ تصح الصَّلَاة خلف الْمُحدث إِذا جهل الْمَأْمُوم حَدثهُ، لَا جرم أَن الْمَاوَرْدِيّ لما اسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور ذكر فِيهِ أَنه اسْتَأْنف الْإِحْرَام وَأَن (الْقَوْم) بقوا عَلَى إحرامهم، ثمَّ قَالَ: فَلَمَّا سَبَقُوهُ بِالْإِحْرَامِ وَلم يَأْمُرهُم باستئنافه وَقد خَرجُوا بالجنابة من إِمَامَته دلّ عَلَى صِحَة صَلَاة الْمَأْمُوم إِذا سبق الإِمَام بِبَعْض صلَاته. وَقَوله: وَقد خَرجُوا بالجنابة من إِمَامَته: كَأَنَّهُ يَعْنِي بِهِ أَنه تبين بِسَبَب الْجَنَابَة أَنه لم يكن إِمَامًا لَهُم، وَقد سبق بِهَذَا الِاعْتِرَاض الشَّيْخ تَاج الدَّين فَقَالَ فِي «إقليده» :(4/495)
تمسُّك الْأَصْحَاب بِهَذَا الحَدِيث من النَّوَادِر؛ فَإِن الشَّافِعِي فرق بَين إنْشَاء الْقدْوَة وَمَا وَقع فِي هَذِه الْقِصَّة، وَقد قَالَ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» : كرهت أَن يفتتحها صَلَاة إِفْرَاد ثمَّ يَجْعَلهَا (صَلَاة جمَاعَة) . وَهَذَا يُخَالف صَلَاة الَّذين افْتتح (بهم) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الصَّلَاة. ثمَّ ذكر فَانْصَرف فاغتسل ثمَّ رَجَعَ فَأمهمْ فَإِنَّهُم افتتحوا الصَّلَاة جمَاعَة.
وَقَالَ فِي «الْقَدِيم» : (ثمَّ) قَالَ قَائِل يدْخل مَعَ الإِمَام وَيُعِيد (مَا) مَضَى. قَالَ الْمُزنِيّ: وَهَذَا عِنْدِي أَقيس عَلَى أَصله؛ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن فِي صَلَاة وَصَحَّ إحرامهم وَلَا إِمَام لَهُم ثمَّ ابْتَدَأَ (بهم) وَقد (سبقوا هم) بِالْإِحْرَامِ.
قلت: لَكِن سلف فِي الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث من طَرِيق أبي دَاوُد: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كبر ثمَّ أَوْمَأ أَن اجلسوا، (فَذهب فاغتسل) . وَعَلَى هَذَا فَلَا دلَالَة (فِيهِ) عَلَى الْمُدعَى؛ لِأَن هَذَا (إِحْرَام) آخر جَدِيد إِلَّا أَن يَدعِي أَن هَذِه (قَضِيَّة) أُخْرَى غير تِلْكَ كَمَا سلف هُنَاكَ.
الحَدِيث (الْخَمْسُونَ)
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أدْرك الرُّكُوع من الرَّكْعَة الْأَخِيرَة يَوْم الْجُمُعَة(4/496)
(فليضف) إِلَيْهَا أُخْرَى، وَمن لم يدْرك الرُّكُوع (من الرَّكْعَة) الْأَخِيرَة فَليصل الظّهْر أَرْبعا» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طَرِيق أبي هُرَيْرَة وَمن طَرِيق ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
أما الأول: فَمن أوجه يحضرنا مِنْهَا ثَلَاثَة (عشر) وَجها:
أَحدهَا: من طَرِيق الْوَلِيد بن مُسلم، عَن الْأَوْزَاعِيّ، حَدثنِي الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من أدْرك من صَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَة فقد أدْرك الصَّلَاة» رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث مُحَمَّد بن مَيْمُون الإسْكَنْدراني، حَدثنَا الْوَلِيد بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث إِسْنَاده صَحِيح عَلَى شَرط (الشَّيْخَيْنِ) وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ، إِنَّمَا اتفقَا عَلَى حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «من أدْرك من الصَّلَاة رَكْعَة وَمن أدْرك من صَلَاة الْعَصْر (رَكْعَة) » وَلمُسلم فِيهِ الزِّيَادَة «فقد أدْركهَا كلهَا» .
ثَانِيهَا: من طَرِيق أُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ، عَن ابْن شهَاب، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من أدْرك من (صَلَاة) الْجُمُعَة رَكْعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى» . رَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث(4/497)
الْفضل بن مُحَمَّد الشعراني (ثَنَا) [سعيد] بن أبي مَرْيَم، نَا يَحْيَى بن أَيُّوب، نَا أُسَامَة بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح إِسْنَاده عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» (من) حَدِيث أَحْمد بن حَمَّاد زغبة، نَا ابْن أبي مَرْيَم بِهِ.
وَيَحْيَى هَذَا هُوَ الغافقي وَإِن احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ وَغَيرهمَا (فقد قَالَ) أَبُو حَاتِم فِي حَقه: مَحَله الصدْق وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَأُسَامَة بن زيد من رجال مُسلم وَقَالَ فِي حَقه أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء وراجع فِيهِ عبد الله أَبَاهُ فَقَالَ: إِذا تدبرت حَدِيثه تعرف فِيهِ النكرَة. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: كَانَ يَحْيَى الْقطَّان يُضعفهُ. ثمَّ قَالَ (يَحْيَى بن معِين) : هُوَ ثِقَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن عدي: لَيْسَ بِهِ بَأْس.
(الثَّالِث) : (من) طَرِيق حَمَّاد بن زيد، عَن مَالك بن أنس وَصَالح بن أبي الْأَخْضَر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة مَرْفُوعا: «من أدْرك من الْجُمُعَة رَكْعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى» .(4/498)
رَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عبد الله بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي، نَا حَمَّاد بِهِ وَقَالَ فِيهِ كَمَا قَالَ فِي الطَّرِيقَيْنِ قبله.
قلت: وَصَالح هَذَا لينه البُخَارِيّ وَضَعفه النَّسَائِيّ وَأحمد وَأَبُو زرْعَة. وَقَالَ ابْن حبَان: (اخْتَلَط عَلَيْهِ) مَا سمع بِمَا لم يسمع فَحدث بِالْكُلِّ، فَيَنْبَغِي أَن لَا يحدث عَنهُ.
وَذكره ابْن السكن فِي «الصِّحَاح الْمَأْثُور» بِلَفْظ: «من أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة فليضف إِلَيْهَا أُخْرَى» .
(قلت: وَهَذِه الطّرق الثَّلَاث أحسن طرق هَذَا الحَدِيث، وَالْبَاقِي ضِعَاف بِمرَّة) .
(الطَّرِيق الرَّابِع) : من طَرِيق ياسين بن معَاذ، عَن ابْن شهَاب، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِذا أدْرك أحدكُم الرَّكْعَتَيْنِ يَوْم الْجُمُعَة (فقد أدْرك الْجُمُعَة) وَإِذا أدْرك رَكْعَة فليركع إِلَيْهَا أُخْرَى، وَإِن لم يدْرك رَكْعَة فَليصل أَربع رَكْعَات» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الله بن صَالح (نَا اللَّيْث) ، عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن ياسين، ثمَّ قَالَ: ياسين ضَعِيف.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث(4/499)
فَقَالَ: لَا أصل لَهُ إِنَّمَا مَتنه: «من أدْرك من الصَّلَاة رَكْعَة فقد أدْركهَا» .
(الْخَامِس) : من طَرِيق سُلَيْمَان بن أبي دَاوُد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الَّذِي أوردهُ الرَّافِعِيّ سَوَاء.
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا من حَدِيث أبي (يزِيد الْخصاف) الرقي - واسْمه خَالِد بن (حَيَّان) - نَا سُلَيْمَان بِهِ.
ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث سُلَيْمَان بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي قَالَ: حَدثنِي جدي مُحَمَّد بن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه سُلَيْمَان، عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، لَكِن بِلَفْظ: «إِذا أدْركْت (الرَّكْعَة) الْأَخِيرَة من صَلَاة الْجُمُعَة فصلِّ إِلَيْهَا (رَكْعَة) ، وَإِذا فاتتك الرَّكْعَة الْأَخِيرَة فصل الظّهْر أَربع رَكْعَات» .
وَسليمَان هَذَا ضَعَّفُوهُ، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
قلت: وخَالِد بن حَيَّان فِيهِ لين مَا لكنه صَدُوق.
(السَّادِس) : من طَرِيق عبد الرَّزَّاق بن عمر الدِّمَشْقِي، عَن(4/500)
الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من أدْرك من الْجُمُعَة رَكْعَة فليضف إِلَيْهَا أُخْرَى» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا من حَدِيث الحكم بن مُوسَى نَا عبد الرَّزَّاق بِهِ.
وَعبد الرَّزَّاق هَذَا ضَعَّفُوهُ، (قَالَ يَحْيَى) : لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ مرّة: كَذَّاب. وَقَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن حبَان: يقلب الْأَخْبَار (فَاسْتحقَّ) التّرْك.
(السَّابِع) : من حَدِيث الْحجَّاج، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: «من أدْرك من الْجُمُعَة رَكْعَة (فَليصل) إِلَيْهَا أُخْرَى» .
رَوَاهُ الدَّارقطني فِي «سنَنه» أَيْضا من حَدِيث جرير، عَن عبد القدوس بن بكر، نَا الْحجَّاج ... فَذكره.
وَالْحجاج هُوَ ابْن أَرْطَاة وحالته قد عرفت، وَقد عنعن.
(الثَّامِن) : من طَرِيق ياسين بن معَاذ عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد(4/501)
وَأبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من أدْرك من الْجُمُعَة رَكْعَة صَلَّى إِلَيْهَا أُخْرَى، فَإِن أدركهم جُلُوسًا صَلَّى الظّهْر أَرْبعا» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (فِي «سنَنه» أَيْضا) من حَدِيث بكر بن بكار، نَا ياسين بِهِ.
وَيَاسِين قد أسلفنا عَن الدَّارَقُطْنِيّ تَضْعِيفه، وَأطلق النكارة عَلَى (حَدِيثه) البُخَارِيّ وَابْن أبي حَاتِم، وَأطلق التّرْك عَلَيْهِ النَّسَائِيّ وَغَيره، وَقَالَ ابْن حبَان: يروي (الموضوعات) عَن الثِّقَات، وينفرد بالمعضلات عَن الْأَثْبَات لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ.
قلت: وَقد سلف من طَرِيق ياسين هَذَا عَن الزُّهْرِيّ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث ياسين، عَن الزُّهْرِيّ، عَن(4/502)
سعيد (و) أبي سَلمَة، (عَن أبي هُرَيْرَة) مَرْفُوعا: «من أدْرك من الْجُمُعَة رَكْعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى، وَمن فَاتَتْهُ الركعتان فَليصل أَرْبعا - أَو قَالَ: الظّهْر. أَو قَالَ: الأولَى» .
(الْوَجْه التَّاسِع) : من طَرِيق عمر بن قيس، [عَن الزُّهْرِيّ] عَن أبي سَلمَة وَسَعِيد، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من أدْرك من الْجُمُعَة رَكْعَة فَليصل إِلَيْهَا (أُخْرَى)) .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن بكير، نَا عمر بِهِ.
وَعمر هَذَا أَظُنهُ (الْمَكِّيّ) (الْمَعْرُوف) (بسندل) وَهُوَ مُتَّهم مَتْرُوك قَالَ أَحْمد: لَا يُسَاوِي حَدِيثه شَيْئا.
(الْوَجْه الْعَاشِر) : من طَرِيق صَالح بن أبي الْأَخْضَر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة مَرْفُوعا: «من أدْرك من الْجُمُعَة رَكْعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى، فَإِن أدركهم جُلُوسًا صَلَّى أَرْبعا» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا من حَدِيث يَحْيَى بن المتَوَكل،(4/503)
عَن صَالح. وَصَالح قد عرفت حَاله فِيمَا مَضَى، وَيَحْيَى (إِن) كَانَ الْحذاء فقد ضَعَّفُوهُ.
(الْوَجْه الْحَادِي عشر) : من طَرِيق (دَاوُد) بن أبي هِنْد، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من أدْرك من الْجُمُعَة رَكْعَة فليضف إِلَيْهَا أُخْرَى» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (فِي «سنَنه» أَيْضا) من حَدِيث يَحْيَى بن رَاشد الْبَراء، عَن دَاوُد بِهِ.
وَيَحْيَى هَذَا ضعفه النَّسَائِيّ، وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يعْتَبر بِهِ صُوَيْلِح. وَقَالَ فِي «علله» : رُوِيَ من وَجْهَيْن عَن سعيد مَرْفُوعا وَكِلَاهُمَا غير مَحْفُوظ، (وَرَوَاهُ) يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ أَنه بلغه عَن سعيد بن الْمسيب قَوْله، وَهُوَ أشبه بِالصَّوَابِ.
(الْوَجْه الثَّانِي عشر) : من طَرِيق سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِذا (أدْرك) أحدكُم من الْجُمُعَة رَكْعَة فَليصل(4/504)
إِلَيْهَا أُخْرَى» . (وَسُهيْل) هَذَا احْتج بِهِ مُسلم ووثق وَتكلم فِيهِ.
(الْوَجْه الثَّالِث عشر) : من طَرِيق ابْن أبي ذِئْب، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة وَسَعِيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من أدْرك من الْجُمُعَة رَكْعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث عمر بن (حبيب) ، عَن ابْن أبي ذِئْب (بِهِ) .
وَعمر هَذَا ضعفه النَّسَائِيّ وَكذبه ابْن معِين، وَقَالَ (ابْن عدي) : حسن الحَدِيث يكْتب (حَدِيثه) مَعَ ضعفه.
فَهَذَا مَا حضرني من طرق هَذَا الحَدِيث، وأحسنها الثَّلَاثَة (الأول) وَقَالَ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : ذكر الْخَبَر الدَّال عَلَى أَن الطّرق المروية فِي خبر الزُّهْرِيّ «من أدْرك من الْجُمُعَة رَكْعَة» كلهَا معلولة (لَيْسَ) يَصح فِيهَا شَيْء مَا أخبرنَا بِهِ عمرَان(4/505)
بن مُوسَى بن مجاشع، نَا أَبُو كَامِل (الجحدري) ، نَا حَمَّاد بن زيد، عَن مَالك بن أنس، [عَن الزُّهْرِيّ] ، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أدْرك (من صلاةٍ رَكْعَة فقد أدْرك» قَالُوا: من (هَاهُنَا قيل) : «وَمن أدْرك من الْجُمُعَة رَكْعَة صَلَّى إِلَيْهَا أُخْرَى» (وَقَالَ فِي ضُعَفَائِهِ) : هَذَا الحَدِيث - يَعْنِي (بِذكر) الْجُمُعَة - خطأ إِنَّمَا هُوَ «من أدْرك من الصَّلَاة رَكْعَة» وذِكْر «الْجُمُعَة» قَالَه أَرْبَعَة أنفس (عَن الزُّهْرِيّ) ، عَن أبي سَلمَة كلهم ضعفاء، أَي وهم: أُسَامَة بن زيد وَصَالح بن أبي الْأَخْضَر وَسليمَان بن أبي دَاوُد وَعبد الرَّزَّاق بن عمر الدِّمَشْقِي.
قلت: قد تَابعهمْ الْأَوْزَاعِيّ وَمَالك كَمَا سلف من طَرِيق الْحَاكِم (وصححهما) عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَقَالَ فِي رِوَايَة أُسَامَة وَصَالح مثل ذَلِك، وتابعهم (أَيْضا: ياسين بن معَاذ) وَالْحجاج ومعاذ كَمَا سلف،(4/506)
وَذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» من طرق (بالاختلاف) فِيهَا، ثمَّ قَالَ: وَالصَّحِيح حَدِيث: «من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة» (و) هَذَا الْخَبَر الَّذِي ذكره الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن حبَان اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه كَمَا أسلفناه فِي الحَدِيث الثَّامِن من بَاب أَوْقَات الصَّلَاة، وَاحْتج بِهِ الْأَئِمَّة فِي هَذَا الْمقَام (مَالك وَالشَّافِعِيّ) وَغَيرهمَا.
قَالَ الشَّافِعِي فِي الْأُم: مَعْنَاهُ: لم تفته تِلْكَ الصَّلَاة وَمن لم تفته الْجُمُعَة صلاهَا (رَكْعَة) .
وَفِي رِوَايَة غَرِيبَة (للعقيلى) فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا: «من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْركهَا قبل أَن (يُقيم) الإِمَام صلبه» قَالَ الْعقيلِيّ: رَوَاهُ (جماعات) بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة (و) لم يذكرهَا إِلَّا يَحْيَى بن حميد، ولعلها من كَلَام الزُّهْرِيّ فَأدْخلهَا يَحْيَى فِيهِ.
وَقد قَالَ البُخَارِيّ: لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : زَادهَا قُرَّة بن عبد الرَّحْمَن فِيهِ.(4/507)
وَأما حَدِيث ابْن عمر فَلهُ أَيْضا طرق:
(أَحدهَا) : (من) طَرِيق الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه رَفعه: «من أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الْجُمُعَة أَو غَيرهَا فليضف إِلَيْهَا أُخْرَى وَقد تمت صلَاته» .
وَفِي لفظ: «وَقد أدْرك الصَّلَاة» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث مُحَمَّد بن مصفى (وَعَمْرو) بن عُثْمَان قَالَا: ثَنَا بَقِيَّة، قَالَ: حَدثنِي يُونُس بن (يزِيد) الْأَيْلِي، عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. ثمَّ قَالَ: قَالَ لنا (ابْن) أبي دَاوُد: لم يروه عَن يُونُس إِلَّا بَقِيَّة، وَرَوَاهُ أَيْضا النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: (هَذَا) خطأ الْمَتْن والإسناد، إِنَّمَا هُوَ عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من أدْرك من صَلَاة رَكْعَة فقد أدْركهَا» وَأما قَوْله: «من صَلَاة الْجُمُعَة» فَلَيْسَ هَذَا فِي الحَدِيث فَوَهم فِي كليهمَا.(4/508)
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي (الإِمَام) : هَذَا الحَدِيث مَعْدُود فِي أَفْرَاد بَقِيَّة عَن يُونُس، وَبَقِيَّة (موثق) وَقد زَالَت تُهْمَة (تدليسه) بتصريحه (بِالتَّحْدِيثِ) ، وَهَذَا (مُؤذن) من الشَّيْخ تَقِيّ (الدَّين) بتصحيح هَذَا الطَّرِيق لَكِن (بَقِيَّة رمي) بتدليس (التَّسْوِيَة) فَلَا (يَنْفَعهُ) تصريحه بِالتَّحْدِيثِ.
(الطَّرِيق الثَّانِي) : من طَرِيق يَحْيَى بن سعيد عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَفعه: «من أدْرك (من) الْجُمُعَة (رَكْعَة) فقد أدْركهَا (وليضف) إِلَيْهَا أُخْرَى» (وَفِي لفظ: «من أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى» .) .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا من حَدِيث يعِيش بن الجهم،(4/509)
ثَنَا عبد الله بن نمير، عَن يَحْيَى بِاللَّفْظِ الْأَخير. وَمن حَدِيث عِيسَى بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُسلم، عَن يَحْيَى بِاللَّفْظِ الأول.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان (الدباس) ، عَن عبد الْعَزِيز (بِهِ) بِلَفْظ: «من أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة فقد أدْرك» ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن يَحْيَى إِلَّا عبد الْعَزِيز تفرد بِهِ إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان.
وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» الِاخْتِلَاف فِيهِ، ثمَّ قَالَ: (و) الصَّوَاب وَقفه عَلَى ابْن عمر.
(الطَّرِيق الثَّالِث) : عَن إِبْرَاهِيم بن عَطِيَّة الثَّقَفِيّ، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه رَفعه: «من أدْرك من الْجُمُعَة (رَكْعَة) فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى» .
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» فِي تَرْجَمَة إِبْرَاهِيم هَذَا، (ثمَّ) قَالَ فِي حَقه: مُنكر (الحَدِيث) (جدًّا) وَكَانَ هشيم يُدَلس عَنهُ أَخْبَارًا لَا أصل لَهَا وَهُوَ حَدِيث خطأ.
قلت: وَمن الْأَحَادِيث الَّتِي يَنْبَغِي أَن يتَنَبَّه لَهَا (مَا رَوَاهُ)(4/510)
ابْن عدي من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا: «من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك فضل الْجَمَاعَة، وَمن أدْرك (الإِمَام) قبل أَن يسلم فقد (أدْرك فضل) الْجَمَاعَة» . أعلِه عبد الْحق بِكَثِير (بن) (شنظير) وَلم يصب؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ (فِي حد من) يتْرك (حَدِيثه) وَقد وثق، وَالصَّوَاب تَعْلِيله بِأَبَان بن طَارق فَإِنَّهُ مَجْهُول؛ (قَالَه أَبُو زرْعَة) وبصالح بن رُزَيْق فَإِنَّهُ لَا يعرف.
وَعَلَى ذَلِك جَرَى ابْن الْقطَّان.
الحَدِيث (الحادى بعد الْخمسين)
حَدِيث أبي بكرَة: «أَنه دخل الْمَسْجِد وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَاكِع فَرَكَعَ ثمَّ(4/511)
دخل الصَّفّ، وَأخْبر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بذلك وَوَقعت (ركعته) معتدًّا بهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي الْبَاب، وَهُوَ الحَدِيث (السَّابِع) وَالثَّلَاثِينَ فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث (الثَّانِي) بعد الْخمسين
عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أدْرك (الإِمَام) فِي الرُّكُوع فليركع مَعَه وليعد الرَّكْعَة» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا أعلم من خرجه بعد الْبَحْث الشَّديد عَنهُ من هَذَا الْوَجْه لَا فِي الْكتب (الْمُعْتَبرَة) وَلَا (فِي) غَيرهَا، و (بَلغنِي) أَن (الْحَافِظ) جمال الدَّين الْمزي وَغَيره سئلوا عَنهُ فَلم يعرفوه، ورأيته فِي «طَبَقَات الْفُقَهَاء» (لأبي) الْحسن الْعَبَّادِيّ - (أحد)(4/512)
أَصْحَابنَا أَصْحَاب الْوُجُوه - من قَول أبي هُرَيْرَة، (فَإِنَّهُ قَالَ) : قَالَ (ابْن خُزَيْمَة) فِي رجل (دخل) أدْرك الإِمَام رَاكِعا أَنه يتبعهُ (وَيُعِيد) الرَّكْعَة.
قَالَ: وَرَوَى فِيهِ خَبرا مُسْندًا وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة، والرافعي حَكَاهُ (عَن) أبي عَاصِم الْعَبَّادِيّ أَنه حَكَى عَن ابْن خُزَيْمَة أَنه قَالَ: لَا تدْرك الرَّكْعَة بِإِدْرَاك الرُّكُوع وَيجب تداركها. ثمَّ قَالَ: وَاحْتج بِمَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة ... فَذكره.
(وَرَأَيْت فِي كتاب «الْقِرَاءَة خلف الإِمَام» للْبُخَارِيّ فِي آخِره: نَا معقل بن مَالك، نَا أَبُو عوَانَة، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة: «إِذا أدْركْت الْقَوْم رُكُوعًا لم يعْتد بِتِلْكَ الرَّكْعَة» .
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن معَاذ قَالَ: « (جَاءَ) رجل [و] النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَاجِدا فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: عَلَى أَي حَال وجدتنا؟ قَالَ: وجدتكم (قيَاما) أَو ركعا. (فَقَالَ) : مَتى وجدتني قَائِما أَو قَاعِدا أَو رَاكِعا فلتكن معي عَلَى تِلْكَ(4/513)
(الْحَال) ، وَلَا تَعْتَد بِالسُّجُود حَتَّى تدْرك الرَّكْعَة» .
فَقَالَ: هَذَا حَدِيث يرويهِ عبد الْعَزِيز بن رفيع وَاخْتلف عَنهُ فَرَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن جبلة، عَن يزِيد بن زُرَيْع، عَن شُعْبَة، عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع، (عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن معَاذ، وَخَالفهُ الثَّوْريّ وَزُهَيْر وَجَرِير وَشريك (فَرَوَوه) عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع) قَالَ: حَدثنِي شيخ من الْأَنْصَار، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا. قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيح.
وَقيل للدارقطني: هَل يَصح سَماع عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى من معَاذ؟ قَالَ: فِيهِ نظر؛ لِأَن معَاذًا قديم الْوَفَاة مَاتَ فِي طاعون عمواس، وَله نَيف (وَثَلَاثُونَ) سنة.
الحَدِيث (الثَّالِث) بعد الْخمسين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أَتَى أحدكُم الصَّلَاة وَالْإِمَام عَلَى حَال فليصنع كَمَا يصنع الإِمَام» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة الْحجَّاج، عَن أبي إِسْحَاق، عَن هُبَيْرَة - هُوَ ابْن يريم - عَن عَلّي. وَعَن (عَمْرو) بن مرّة، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن معَاذ بن جبل (قَالَا) :(4/514)
قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: « (إِذا) أَتَى ... » الحَدِيث (مثله) سَوَاء.
وَهَذَا (إِسْنَاد) ضَعِيف ومنقطع؛ لِأَن الْحجَّاج - هُوَ ابْن أَرْطَاة وَهُوَ ضَعِيف - يُدَلس عَن الضُّعَفَاء، وَعبد الرَّحْمَن لم يسمع من معَاذ كَمَا ذَكرْنَاهُ قبل هَذَا آنِفا، وَسلف فِي أثْنَاء بَاب الْأَذَان أَيْضا.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعلم أحدا أسْندهُ (إِلَّا مَا رُوِيَ من هَذَا الْوَجْه، وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أهل الْعلم) (قَالُوا) : إِذا جَاءَ (الرجل) وَالْإِمَام ساجد فليسجد وَلَا (تُجزئه) تِلْكَ الرَّكْعَة إِذا فَاتَهُ الرُّكُوع مَعَ الإِمَام. وَاخْتَارَ عبد الله بن الْمُبَارك أَن يسْجد مَعَ الإِمَام، وَذكر عَن بَعضهم فَقَالَ: لَعَلَّه أَن لَا يرفع رَأسه من تِلْكَ السَّجْدَة حَتَّى يغْفر لَهُ.
وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : حَدِيث عَلّي ضَعِيف، وَإسْنَاد حَدِيث معَاذ مُنْقَطع. وَلم يبين مَوضِع الْعلَّة مِنْهُمَا، وَقد بيناها كَمَا أسلفناه لَك.
وَفِي «مُسْند الإِمَام أَحْمد» من حَدِيث عَمْرو بن مرّة، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن معَاذ قَالَ: «أحيلت (الصَّلَاة) ثَلَاثَة أَحْوَال ... » فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: «وَكَانُوا يأْتونَ الصَّلَاة وَقد(4/515)
سبقهمْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِبَعْضِهَا (فَكَانَ) الرجل يُشِير إِلَى الرجل إِذا (جَاءَ: كم) صَلَّى؟ فَيَقُول وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ فيصليهما، ثمَّ يدْخل مَعَ الْقَوْم فِي صلَاتهم. قَالَ: فجَاء معَاذ فَقَالَ: لَا أَجِدهُ عَلَى حَال أبدا إِلَّا كنت عَلَيْهَا، ثمَّ قضيت مَا سبقني. قَالَ: فجَاء وَقد سبقه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِبَعْضِهَا. قَالَ: (فَثَبت) مَعَه فَلَمَّا قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (صلَاته قَامَ فَقَضَى، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) : قد سنّ لكم معَاذ فَهَكَذَا فَاصْنَعُوا» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى قَالَ: « (أحيلت) الصَّلَاة ... » فَذكره. ثمَّ من حَدِيثه عَن معَاذ ... فَذكره أَيْضا.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب (بِفضل الله وَمِنْه) .
وَأما آثاره فستة:
أَولهَا: أَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها « (أمَّت) نسَاء فَقَامَتْ وسطهن» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ أَحْمد، عَن وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن (ابْن) أبي حَازِم (ميسرَة) ، عَن رائطة الْحَنَفِيَّة «أَن عَائِشَة أَمَّتْ نسْوَة فِي الْمَكْتُوبَة فأمتهن بَينهُنَّ وسطا» .(4/516)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من هَذَا الْوَجْه وَمن حَدِيث عبد الله بن إِدْرِيس، عَن لَيْث، عَن عَطاء، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا كَانَت تؤذن وتقيم وتؤم النِّسَاء وَتقوم (وسطهن) .
وَذكره فِي «الْمعرفَة» عَن الشَّافِعِي فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِي: وَرَوَى لَيْث بن أبي سليم، عَن عَطاء، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا صلت بنسوة الْعَصْر فَقَامَتْ وسطهن» .
وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد بن حزم من حَدِيث زِيَاد بن لَاحق، عَن [تَمِيمَة] (بنت) سَلمَة، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا أمت النِّسَاء فَقَامَتْ وسطهن وجهرت بِالْقِرَاءَةِ» .
الْأَثر الثَّانِي: «أَن أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أمت نسَاء فَقَامَتْ وسطهن» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن عمار (الدهني) ، عَن امْرَأَة من قومه يُقَال لَهَا: [حجيرة] ، عَن أم(4/517)
سَلمَة « (أَنَّهَا) أمتهن فَقَامَتْ (وسطا)) .
وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد بن حزم من هَذَا الْوَجْه (وَقَالَ) حجيرة (بنت) حُصَيْن قَالَت: «أمتنَا (أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ) (فِي صَلَاة الْعَصْر فَقَامَتْ بَيْننَا» وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث قَتَادَة عَن أم (الْحسن بن أبي الْحسن) أَن أم سَلمَة كَانَت تؤمهن فِي رَمَضَان وَتقوم مَعَهُنَّ فِي الصَّفّ» .
قَالَ الشَّافِعِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَرَوَى صَفْوَان بن سليم قَالَ: «من السّنة أَن تصلي الْمَرْأَة بِالنسَاء تقوم (وسطهن) وَفِي الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث (دَاوُد يَعْنِي) ابْن الْحصين عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «تؤم الْمَرْأَة النِّسَاء تقوم وسطهن» . قَالَ: «و (قد) روينَا فِيهِ حَدِيثا مُسْندًا (فِي) بَاب الْأَذَان وَفِيه ضعف» .(4/518)
وَقد أسلفنا هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ أَيْضا، وَأطلق ابْن الصّلاح فِي «مشكله» أَنه بَاطِل لَا أصل لَهُ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» .
الْأَثر الثَّالِث: «أَن عَائِشَة كَانَ يؤمها عبد لَهَا لم يعْتق يكنى أَبَا عَمرو» .
وَهَذَا الْأَثر ذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» تَعْلِيقا بِغَيْر إِسْنَاد؛ فَقَالَ: «وَكَانَت عَائِشَة يؤمها عَبدهَا ذكْوَان من الْمُصحف» . وَأسْندَ هَذَا التَّعْلِيق أَبُو بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع حَدثنَا هِشَام بن (عُرْوَة) عَن أبي بكر بن أبي مليكَة: «أَن عَائِشَة أعتقت غُلَاما لَهَا عَن دبر فَكَانَ يؤمها فِي رَمَضَان فِي الْمُصحف» . وَأسْندَ الشَّافِعِي عَن عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز، عَن ابْن جريج، أَخْبرنِي عبد الله بن (عبيد الله) بن أبي مليكَة: «أَنهم كَانُوا يأْتونَ عَائِشَة بِأَعْلَى الْوَادي هُوَ وَعبيد بن عُمَيْر والمسور بن مخرمَة وناس كثير، فيؤمهم أَبُو عَمْرو مولَى عَائِشَة، وَأَبُو عَمْرو غلامها حِينَئِذٍ لم يعْتق، وَكَانَ إِمَام بني مُحَمَّد بن أبي بكر وَعُرْوَة» . وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث (عُرْوَة) عَن عَائِشَة «أَنَّهَا دبرت ذكْوَان فَكَانَ يؤمها فِي رَمَضَان فِي الْمُصحف» فَقَالَ يرويهِ هِشَام(4/519)
بن عُرْوَة وَاخْتلف عَنهُ فَرَوَاهُ زفر بن الْهُذيْل وَسَعِيد بن أبي عرُوبَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة. وَهُوَ أشبه بِالصَّوَابِ.
الْأَثر الرَّابِع:
«أَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يُصَلِّي خلف الْحجَّاج بن يُوسُف) الثَّقَفِيّ» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» .
الْأَثر الْخَامِس:
«أَن أَبَا هُرَيْرَة صَلَّى عَلَى ظهر الْمَسْجِد (بِصَلَاة الإِمَام فِي الْمَسْجِد)) .
وَهَذَا الْأَثر ذكره (البُخَارِيّ) فِي «صَحِيحه» بِغَيْر إِسْنَاد فَقَالَ: «وَصَلى أَبُو هُرَيْرَة عَلَى (ظهر) الْمَسْجِد بِصَلَاة الإِمَام» .
وأسنده الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد قَالَ: حَدثنِي صَالح مولَى التوءمة «أَنه رَأَى أَبَا هُرَيْرَة يُصَلِّي فَوق ظهر الْمَسْجِد بِصَلَاة الإِمَام فِي الْمَسْجِد» وَفِي رِوَايَة (لَهُ) (فَصَلى) فَوق ظهر الْمَسْجِد وَحده بِصَلَاة الإِمَام» .(4/520)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث (القعْنبِي) ، نَا ابْن أبي (ذِئْب) ، عَن صَالح مولَى التوءمة قَالَ: «كنت أُصَلِّي أَنا وَأَبُو هُرَيْرَة فَوق ظهر الْمَسْجِد نصلي (بِصَلَاة الإِمَام الْمَكْتُوبَة)) .
وَابْن أبي ذِئْب رَوَى عَن صَالح بعد الِاخْتِلَاط كَمَا سلف فِي الحَدِيث الْحَادِي بعد الْخمسين من بَاب الْوضُوء.
الْأَثر السَّادِس: «أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يدْخل فَيرَى أَبَا بكر فِي الصَّلَاة فيقتدي بِهِ، وَكَانَ أَبُو بكر (يَفْعَله)) .
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، والرافعي اسْتدلَّ بِهِ عَلَى أَحْمد فِي اشْتِرَاطه (نِيَّة) الْإِمَامَة، وَلَو اسْتدلَّ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَام خلف أبي بكر فِي مرض مَوته بعد إِحْرَام أبي بكر لَكَانَ مُوَافقا لما أوردهُ، لَكِن فِيهِ النّظر الَّذِي أسلفناه فِي حَدِيث أنس السالف فِي الْبَاب، فَإِن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهِ عَلَى ذَلِك.
وَذكر الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب أَيْضا عَن عَطاء بن أبي رَبَاح «أَنه كَانَ يُصَلِّي الْعشَاء خلف من يُصَلِّي التَّرَاوِيح» وَلَا يلْزَمنِي تَخْرِيجه وَإِن تبرعت بذلك.
قلت: خرجه الشَّافِعِي عَن شَيْخه مُسلم (بن) خَالِد، عَن(4/521)
ابْن جريج عَنهُ «أَنه (كَانَ) تفوته الْعَتَمَة فَيَأْتِي وَالنَّاس قيام فَيصَلي مَعَه رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ (يَبْنِي) (عَلَيْهَا) رَكْعَتَيْنِ وَأَنه (رَآهُ) فعل ذَلِك ويعتد بِهِ من الْعَتَمَة» . وَمُسلم هَذَا مُخْتَلف فِيهِ.(4/522)
كتاب صَلَاة الْمُسَافِرين(4/523)
كتاب [1] صَلَاة (الْمُسَافِرين)
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا.
أما الْأَحَادِيث (فستة) :
الحَدِيث الأول
عَن يعْلى بن أُميَّة، قَالَ: «قلت لعمر بن الْخطاب: إِنَّمَا قَالَ الله - تَعَالَى -: (إِن خِفْتُمْ) وَقد أَمن النَّاس. فَقَالَ: عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور إِلَّا أَنه قَالَ (فِي أَوله) : «قلت لعمر بن الْخطاب: (لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة (إِن خِفْتُمْ) أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا) وَقد أَمن النَّاس ... » وَالْبَاقِي (مثله) ، وَقد سلف فِي بَاب الْوضُوء (مثله) أَيْضا، وَهُوَ الحَدِيث الرَّابِع.(4/525)
الحَدِيث الثَّانِي
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (أَنَّهَا) قَالَت: «سَافَرت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا رجعت قَالَ: مَا صنعت فِي سفرك؟ قلت: أتممت الَّذِي قصرت وَصمت الَّذِي (أفطرت) . قَالَ: أَحْسَنت» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي نعيم، عَن الْعَلَاء بن زُهَيْر، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا اعْتَمَرت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة حَتَّى إِذا قدمت مَكَّة قَالَت: يَا رَسُول الله، بِأبي أَنْت وَأمي، قصرتَ وأتممتُ، وأفطرتَ وصمتُ. قَالَ: أَحْسَنت يَا عَائِشَة. وَمَا عَابَ عليّ» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، عَن الْعَلَاء - الْمَذْكُور - عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: «خرجت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي عمْرَة فِي رَمَضَان فَأفْطر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَصمت، وَقصر وَأَتْمَمْت، فَقلت: يَا رَسُول الله، بِأبي وَأمي، أفطرتَ وصمتُ وقَصرتَ وأتممتُ. فَقَالَ: أَحْسَنت يَا عَائِشَة» .
ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث الْقَاسِم بن الحكم، عَن الْعَلَاء، عَن عبد الرَّحْمَن، عَن عَائِشَة - بِإِسْقَاط الْأسود كَمَا أخرجه النَّسَائِيّ - وَلَفظه: «اعْتَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنا مَعَه فقصرَ وأتممتُ الصَّلَاة، وأفطرَ وصمتُ، فَلَمَّا دَنَوْت إِلَى مَكَّة (قلت:) بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله، قصرتَ(4/526)
وأتممتُ وأفطرتَ وصمتُ. قَالَ: أَحْسَنت يَا عَائِشَة (وَمَا عَابَ) عليّ» ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الأول مُتَّصِل وَهُوَ إِسْنَاد حسن. قَالَ: وَعبد الرَّحْمَن قد أدْرك عَائِشَة وَدخل عَلَيْهَا وَهُوَ مراهق. وَقَالَ فِي «علله» (كهذه) الْمقَالة، وَذكر الطَّحَاوِيّ عَن عبد الرَّحْمَن أَنه دخل عَلَى عَائِشَة بالاستئذان بعد احتلامه.
وَذكر صَاحب «الْكَمَال» أَنه سمع مِنْهَا، وَخَالف أَبُو حَاتِم فَقَالَ فِي «مراسيله» : أَدخل عَلَيْهَا وَهُوَ صَغِير وَلم يسمع مِنْهَا.
وَلما سَاقه الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» من حَدِيث أبي نعيم، عَن الْعَلَاء كَمَا سَاقه النَّسَائِيّ قَالَ: كَذَا رَوَاهُ الْقَاسِم بن الحكم عَن الْعَلَاء، وَهُوَ إِسْنَاد صَحِيح مَوْصُول؛ فَإِن عبد الرَّحْمَن أدْرك عَائِشَة. وَقد رَوَاهُ مُحَمَّد بن يُوسُف عَن الْعَلَاء، عَن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة.
قلت: وَقَالَ أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي: من قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: عَن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة. فقد أَخطَأ.
قلت: وَأما (أَبُو مُحَمَّد) بن حزم فَإِنَّهُ طعن فِيهِ، وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا خير فِيهِ. ثمَّ ادَّعَى أَن الْعَلَاء تفرد (بِهِ) وَأَنه مَجْهُول.(4/527)
(وَهَذَا من أعاجيبه) فالعلاء هَذَا مَعْلُوم الْعين وَالْحَال، أما عينه فروَى عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود ووبرة بن عبد الرَّحْمَن، وَرَوَى عَنهُ وَكِيع وَالْفِرْيَابِي و (أَبُو) نعيم وَغَيرهم، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين (وَغَيره) وَأخرج لَهُ النَّسَائِيّ، فَزَالَتْ إِذن عَنهُ جَهَالَة الْعين وَالْحَال.
لَا جرم اعْترض (عَلَيْهِ) ابْن عبد الْحق فَقَالَ فِيمَا (رده) (عَلَى) الْمُحَلَّى: (هَذَا) حَدِيث صَحِيح بِنَقْل الثِّقَة عَن الثِّقَة، رِجَاله كلهم ثِقَات، وَسَمَاع كل وَاحِد مِمَّن رَوَى عَنهُ مَذْكُور. قَالَ: وَقَول ابْن حزم «أَنه لَا خير فِيهِ» (جهل مِنْهُ) بالآثار. (قَالَ) : ودعواه جَهَالَة (الْعَلَاء) غلط، بل هُوَ ثِقَة مَشْهُور رَوَى عَنهُ الْأَعْلَام، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين.
قلت: لَكِن فِي مَتنه نَكَارَة، وَهُوَ كَون عَائِشَة خرجت مَعَه فِي عمْرَة رَمَضَان؛ (فَالْمَشْهُور) أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يعْتَمر إِلَّا أَربع عُمر لَيْسَ مِنْهُنَّ شَيْء فِي رَمَضَان؛ بل كُلهنَّ فِي ذِي الْقعدَة إِلَّا الَّتِي مَعَ حجَّته فَكَانَ إحرامها فِي ذِي الْقعدَة وفعلها فِي ذِي الْحجَّة، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي(4/528)
«الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيرهمَا، وتمحل بعض شُيُوخنَا الْحفاظ فِي الْجَواب عَن هَذَا الْإِشْكَال فَقَالَ: لَعَلَّ عَائِشَة (مِمَّن) خرج مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سَفَره عَام الْفَتْح، (وَكَانَ) سَفَره ذَلِك فِي رَمَضَان وَلم يرجع من سَفَره ذَلِك حَتَّى اعْتَمر (عُمرة) الْجِعِرَّانَة، فَأَشَارَتْ بِالْقصرِ والإتمام، وَالْفطر وَالصِّيَام، وَالْعمْرَة إِلَى مَا كَانَ فِي تِلْكَ السفرة.
قَالَ شَيخنَا: وَقد رُوي (من) حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اعْتَمر فِي رَمَضَان» ثمَّ رَأَيْت بعد ذَلِك عياضًا القَاضِي أجَاب بِهَذَا الْجَواب فَقَالَ: لَعَلَّ هَذِه هِيَ الَّتِي عَملهَا فِي شَوَّال وَكَانَ ابْتِدَاء خُرُوجهَا فِي رَمَضَان. وَظَاهر إِيرَاد أبي حَاتِم بن حبَان أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اعْتَمر فِي رَمَضَان، فَإِنَّهُ قَالَ فِي «صَحِيحه» : «اعْتَمر عَلَيْهِ السَّلَام أَربع عمر: الأولَى عمْرَة الْقَضَاء سنة الْقَابِل من عَام الْحُدَيْبِيَة وَكَانَ ذَلِك فِي رَمَضَان، ثمَّ الثَّانِيَة حَيْثُ فتح مَكَّة وَكَانَ فتحهَا فِي رَمَضَان، ثمَّ خرج مِنْهَا قبل هوَازن وَكَانَ من أمره مَا كَانَ فَلَمَّا رَجَعَ وَبلغ الْجِعِرَّانَة قسم الْغَنَائِم (بهَا) وَاعْتمر مِنْهَا إِلَى مَكَّة وَذَلِكَ فِي شَوَّال، وَاعْتمر الرَّابِعَة فِي حجَّته وَذَلِكَ فِي ذِي الْحجَّة سنة عشر من الْهِجْرَة» . هَذَا لَفظه، وَاعْترض (عَلَيْهِ الْحَافِظ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد(4/529)
الْوَاحِد الْمَقْدِسِي فِي كَلَام لَهُ) عَلَى هَذَا الحَدِيث وَقَالَ: وهم فِي هَذَا فِي غير (مَوضِع) . ثمَّ رد عَلَيْهِ بِحَدِيث أنس وَابْن عَبَّاس الآتيين فِي (بَاب) الْمَوَاقِيت فِي كتَابنَا هَذَا إِن شَاءَ الله، وَرَوَى (أَبُو بكر عبد الله) بن دَاوُد، عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اعْتَمر (عمرتين) أَو ثَلَاثًا إِحْدَاهُنَّ فِي رَمَضَان» .
وَبَلغنِي عَن بعض الأكابر مِمَّن (عاصرت) أَنه أنكر هَذَا الحَدِيث من وَجه آخر وَقَالَ: كَيفَ تُتم (هِيَ) مَعَ مشاهدتها (قصر) الشَّارِع وَالصَّحَابَة، وَهِي تَقول: «فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ وَزيد فِي (صَلَاة) الْحَضَر وأقرت صَلَاة السّفر» وَإِنَّمَا صَحَّ إِتْمَامهَا بعده عَلَيْهِ السَّلَام متأولة مَا تَأَوَّلَه عُثْمَان، وَهَذَا إِنْكَار عَجِيب، وَكَيف يرد الحَدِيث بِفعل أحد (الجائزين) .
وَمَعْنى «أقرَّت صَلَاة السّفر» فِي جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَيْهَا بِخِلَاف صَلَاة الْحَضَر فَإِن الزِّيَادَة فِيهَا (متحتمة) .(4/530)
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمن مَعَه من الْمُهَاجِرين لما حجُّوا قصروا بِمَكَّة وَكَانَ لَهُم بهَا أهل وعشيرة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث يَحْيَى بن (أبي) إِسْحَاق، عَن أنس قَالَ: «خرجنَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجعْنَا إِلَى (الْمَدِينَة) . قلت: كم أَقَامَ بِمَكَّة؟ قَالَ: عشرا» .
وَلمُسلم: «خرجنَا من الْمَدِينَة (إِلَى) الْحَج ... » ثمَّ ذكر مثله.
قَالَ أَحْمد: إِنَّمَا وَجه هَذَا الحَدِيث أَنه حسب مقَام النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَكَّة وَمنى، وَإِلَّا فَلَا وَجه لَهُ غير هَذَا - (أَي فِي حجَّة الْوَدَاع) - وَاحْتج بِحَدِيث جَابر الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قدم مَكَّة (صَبِيحَة) رَابِعَة من ذِي الْحجَّة فَأَقَامَ بهَا الرَّابِع وَالْخَامِس وَالسَّادِس وَالسَّابِع وَصَلى(4/531)
الصُّبْح فِي الْيَوْم الثَّامِن، ثمَّ خرج إِلَى منى وَخرج (من) مَكَّة مُتَوَجها إِلَى الْمَدِينَة بعد أَيَّام التَّشْرِيق» هَذَا مَعْنَاهُ وَالله أعلم.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام دخل مَكَّة عَام حجَّة الْوَدَاع يَوْم الْأَحَد، وَخرج يَوْم الْخَمِيس إِلَى منى كل ذَلِك يقصر» .
وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِن الوقفة - شرفها الله - كَانَت يَوْم (الْجُمُعَة) ، وَكَانَ دُخُوله يَوْم الْأَحَد وَخُرُوجه يَوْم الْخَمِيس وَقصر تِلْكَ الْمدَّة، وَلم يحْسب يَوْم الدُّخُول وَلَا (يَوْم) الْخُرُوج (إِلَى منى) .
الحَدِيث الرَّابِع
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (يُقيم) المُهَاجر بعد قَضَاء نُسكه ثَلَاثًا» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور إِحْدَى رِوَايَات مُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ: «ثَلَاث للمهاجرين بعد الصَّدْر» .
قلت: وَكَانَت الْإِقَامَة بِمَكَّة (حَرَامًا) عَلَى الْمُهَاجِرين، ثمَّ رخص(4/532)
لَهُم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي هَذَا الْقدر (فَدلَّ) عَلَى أَن إِقَامَة الثَّلَاث لَيست إِقَامَة مُؤثرَة.
الحَدِيث الْخَامِس
«ثَبت أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَقَامَ عَام الْفَتْح عَلَى حَرْب هوَازن أَكثر من أَرْبَعَة أَيَّام يقصر» فَروِيَ عَنهُ «أَنه أَقَامَ سَبْعَة عشر» .
رَوَاهُ ابْن عَبَّاس وَرُوِيَ (عَنهُ) «أَنه أَقَامَ تِسْعَة عشر» وَرُوِيَ «أَنه (أَقَامَ) ثَمَانِيَة عشر» رَوَاهُ عمرَان بن (حُصَيْن) ، وَرُوِيَ «عشْرين» .
قَالَ فِي (التَّهْذِيب) : و (اعْتمد) الشَّافِعِي رِوَايَة عمرَان لسلامتها من الِاخْتِلَاف.
أما رِوَايَة «سَبْعَة عشر» بِتَقْدِيم السِّين، فرواها أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عَبَّاس كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ بعد هَذَا، و (نَقَلْنَاهُ نَحن) إِلَى هُنَا، وَلَفظ أبي دَاوُد: عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَقَامَ بِمَكَّة سَبْعَة (عشر) يقصر الصَّلَاة. قَالَ ابْن عَبَّاس: (و) من أَقَامَ سَبْعَة عشر(4/533)
قصر، وَمن أَقَامَ أَكثر أتم» . وَإِسْنَاده عَلَى شَرط البُخَارِيّ، وَقد أودعهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» .
(وَأما رِوَايَة «تِسْعَة (عشر) » - بِتَقْدِيم التَّاء عَلَى السِّين - فرواها البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه) من رِوَايَة ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَهَذَا لَفظه: عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «أَقَامَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تِسْعَة عشر يَوْمًا يقصر، فَنحْن إِذا سافرنا تِسْعَة عشر قَصرنَا وَإِن زِدْنَا أتممنا» وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ: «لما فتح النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَكَّة أَقَامَ (فِيهَا تسع عشرَة) يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» .
وَأما رِوَايَة «ثَمَانِيَة عشر» فرواها أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَلّي بن زيد بن جدعَان، عَن أبي نَضرة، عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ: «غزوت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَشهِدت مَعَه الْفَتْح فَأَقَامَ بِمَكَّة ثَمَانِي (عشرَة) لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ يَقُول: يَا أهل الْبَلَد صلوا أَرْبعا فَإنَّا سَفْر» وَرَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ أَيْضا.(4/534)
وَعلي هَذَا تكلم فِيهِ جمَاعَة من الْأَئِمَّة، وَقد (عرفت) حَاله فِي الْبَاب قبله (وَقَالَ غَيره: إِنَّه حَدِيث لَا تقوم بِهِ حجَّة لِكَثْرَة اضطرابه) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن أخرجه بِنَحْوِ مِنْهُ من هَذَا الطَّرِيق: إِنَّه حسن.
وَأما رِوَايَة «عشْرين» فتبع فِي إيرادها الإِمَام، وَلم أرها بعد الْبَحْث عَنْهَا من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة إِلَى سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ، فَعَثَرَتْ عَلَيْهَا فِي «مُسْند عبد بن حميد» (وَللَّه الْحَمد) .
قَالَ عبد فِي «مُسْنده» : أبنا عبد الرَّزَّاق، أَنا ابْن الْمُبَارك، عَن عَاصِم، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما افْتتح مَكَّة أَقَامَ عشْرين يَوْمًا يقصر الصَّلَاة» .
وَجَاء فِي أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه و (الْبَيْهَقِيّ) «أَنه أَقَامَ خَمْسَة عشر» لَكِنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى عنعنة ابْن إِسْحَاق وَفِي بعض طرقها إرْسَال، قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ جماعات، عَن ابْن إِسْحَاق وَلم يذكرُوا فِيهِ ابْن عَبَّاس.
قلت: وأخرجها النَّسَائِيّ من طَرِيق (صَحِيحَة) مَوْصُولَة وَلَيْسَ فِيهَا ابْن إِسْحَاق.(4/535)
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور (كَانَ) فِي إِقَامَته عَلَيْهِ السَّلَام بِمَكَّة لِحَرْب هوَازن عَام الْفَتْح، وَالَّذِي سبق فِي حَدِيث أنس «عشرَة أَيَّام» كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع.
ثَانِيهَا: قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد (ذكر) اخْتِلَاف الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس: أَصَحهَا عِنْدِي رِوَايَة «تسع عشرَة» وَهِي الرِّوَايَة الَّتِي أودعها البُخَارِيّ (فِي) (جَامعه) ، (فأحد) من رَوَاهَا - وَلم يخْتَلف عَلَيْهِ فِي علمي - عبد الله بن الْمُبَارك، وَهُوَ أحفظ من رَوَاهُ عَن عَاصِم الْأَحول.
قَالَ: (وَيُمكن) الْجمع بَين رِوَايَة «ثَمَانِي عشرَة» و «تسع عشرَة» و «سبع عشرَة» بِأَن من رَوَى «تسع عشرَة» عَدَّ يَوْم الدُّخُول و (يَوْم) الْخُرُوج، وَمن رَوَى «سبع عشرَة» لم يعدهما، وَمن رَوَى « (ثَمَان) عشرَة» عد أَحدهمَا.
الثَّالِث: من الْعجب أَن الْفَتْوَى عندنَا عَلَى رِوَايَة « (ثَمَان) عشرَة»(4/536)
مَعَ مَا فِيهَا من التَّعْلِيل، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن تكون الْفَتْوَى بِرِوَايَة تسع عشرَة.
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي «تذنيبه» : وَإِنَّمَا اعْتمد الشَّافِعِي عَلَى رِوَايَة « (ثَمَان) عشرَة» لسلامتها من الِاخْتِلَاف. وَنقل هَذَا فِي الْكتاب عَن صَاحب «التَّهْذِيب» .
الرَّابِع: (اسْتدلَّ) الرَّافِعِيّ بِرِوَايَة «عشْرين» عَلَى القَوْل الثَّانِي أَنه يقصر أبدا وَلَيْسَ الدَّلِيل مطابقًا للدعوى، وَيُمكن أَن يجمع بَين هَذِه الرِّوَايَة وَرِوَايَة (ثَمَانِيَة عشر) (بِأَن) عد يَوْم الدُّخُول و (يَوْم) الْخُرُوج، وَقد ذكره كَذَلِك الإِمَام فِي «النِّهَايَة» .
الْخَامِس: وَقع فِي «نِهَايَة» إِمَام الْحَرَمَيْنِ (نِسْبَة رِوَايَة) «سَبْعَة عشر» إِلَى عمرَان بن الْحصين وَرِوَايَة «ثَمَانِيَة عشر» إِلَى ابْن عَبَّاس، وَصَوَابه الْعَكْس كَمَا ذكرته (لَك) .
السَّادِس: المُرَاد بإقامته - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - لِحَرْب هوَازن: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما فتح مَكَّة جمعت هوَازن قبائل الْعَرَب وأرادت الْمسير إِلَى قِتَاله، فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام مُقيما يتخوف من ذَلِك وينتظرهم (ليقاتلهم) وَهُوَ يقصر الصَّلَاة فَأَقَامَ الْمدَّة الَّتِي ذكرنَا، وَمِمَّنْ نَص عَلَى ذَلِك من الْفُقَهَاء(4/537)
صَاحب «الْبَيَان» (وَكَذَلِكَ) قَالَ الإِمَام فِي «نهايته» : أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما فتح مَكَّة أَخذ يُرِيد الْمسير إِلَى هوَازن فَكَانَت إِقَامَته عَلَى تَدْبِير الْحَرْب.
الحَدِيث السَّادِس
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَقَامَ بتبوك عشْرين يَوْمًا (يقصر الصَّلَاة) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد عَنهُ عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن يَحْيَى - هُوَ ابْن أبي كثير - عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان، عَن جَابر قَالَ: «أَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بتبوك عشْرين يَوْمًا يقصر الصَّلَاة» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: غير معمر لَا يسْندهُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد معمر بروايته مُسْندًا وَرَوَاهُ عَلّي بن الْمُبَارك وَغَيره عَن يَحْيَى، عَن (ابْن) ثَوْبَان، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (مُرْسلا) وَرُوِيَ عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أنس وَقَالَ: «بضع عشرَة» وَلَا أرَاهُ مَحْفُوظًا.
وَأما أَبُو حَاتِم بن حبَان فَأخْرجهُ فِي «صَحِيحه» من طَرِيقه، وَمعمر إِمَام مجمع عَلَى جلالته فَلَا يضر تفرده بِهِ.
وَقَالَ (أَبُو مُحَمَّد) بن حزم: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ثِقَة(4/538)
وَبَاقِي (رُوَاة) الْخَبَر أشهر من أَن يسْأَل عَنْهُم.
قلت: وَمُحَمّد قَالَ أَبُو حَاتِم فِيهِ: هُوَ من التَّابِعين لَا يسْأَل عَن (مثله) . وَهُوَ من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» .
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» : هَذَا الحَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلَا يقْدَح فِيهِ تفرد معمر؛ فَإِنَّهُ ثِقَة حَافظ (فزيادته) مَقْبُولَة. وَكَذَا قَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : رِوَايَة الْمسند تفرد بهَا معمر بن رَاشد وَهُوَ إِمَام مجمع عَلَى جلالته، وَبَاقِي الْإِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، فَالْحَدِيث إِذن صَحِيح؛ لِأَن الصَّحِيح أَنه إِذا تعَارض فِي الحَدِيث إرْسَال وَإسْنَاد حُكِمَ (بالمسند) .
قلت: وَرُوِيَ من طَرِيق عَن جَابر بِلَفْظ «بضع عشرَة» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي إِسْحَاق - يَعْنِي الْفَزارِيّ - عَن [أبي] أنيسَة، عَن أبي الزبير، عَن جَابر قَالَ: «غزوت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَزْوَة تَبُوك فَأَقَامَ بهَا بضع عشرَة فَلم يزدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ» .
وَرِوَايَة يَحْيَى عَن أنس الَّتِي أسلفناها عَن الْبَيْهَقِيّ ذكرهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» إِذْ فِيهَا: أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أنس(4/539)
«أَقَامَ (عَلَيْهِ السَّلَام) بتبوك عشْرين يَوْمًا يُصَلِّي صَلَاة الْمُسَافِر» فَقَالَ: يرويهِ الْأَوْزَاعِيّ وَاخْتلف عَنهُ فَرَوَاهُ (عَمْرو) بن عُثْمَان (الْكلابِي) ، عَن يُونُس، عَن الْأَوْزَاعِيّ مَرْفُوعا. وَالصَّحِيح: عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن يَحْيَى «أَن أنسا كَانَ يفعل ذَلِك» غير مَرْفُوع.
فَائِدَة: تَبُوك - بِفَتْح التَّاء - بَلْدَة مَعْرُوفَة (بطرق الشَّام) بَينهَا وَبَين دمشق إِحْدَى عشرَة مرحلة وَكَانَت فِي (سنة) تسع من الْهِجْرَة، وَهِي من (آخر) غَزَوَاته بِنَفسِهِ (وَأقَام) عَلَيْهِ السَّلَام بهَا بضعَة عشر يَوْمًا، وَالْمَشْهُور ترك صرف تَبُوك للتأنيث والعلمية، وَوَقع فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» فِي حَدِيث كَعْب فِي (أَوَاخِر) «صَحِيح البُخَارِيّ» عَن كَعْب، وَلم (يدْرك) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى بلغ تَبُوكا - كَذَا هُوَ بِالْألف فِي جَمِيع النّسخ - تَغْلِيبًا للموضع، وَبَين تَبُوك ومدينة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَربع عشرَة(4/540)
مرحلة، قَالَه كُله النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» . وَقَالَ ابْن (معن) فِي «تنقيبه» : بَينهَا ثَلَاث عشرَة مرحلة. قَالَ: و (هُوَ) مَوضِع بَين وَادي (الْقرى) وَالشَّام. قَالَ: وَقيل: تَبُوك اسْم لبركة لبني سعد بن عزْرَة سميت تَبُوكا؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لما بلغه أَن هِرقل جمع جموعًا ورزق أَصْحَابه لعام، وَخرج مَعَه جذام ولخم وغسان وَوصل أوائلهم إِلَى البلقاء خرج عَلَيْهِ السَّلَام (وَسَار) حَتَّى وصل إِلَى هَذَا الْمَكَان (فَرَأَى) أَصْحَابه يحفرون الْبركَة فَقَالَ (لَهُم) : (تبوكونها) - أَي تحفرونها - ثمَّ غرز عنزته فِيهَا ثَلَاث دفعات (فَجَاشَتْ ثَلَاث عُيُون) وَهِي (إِلَى) الْآن كَذَلِك (فسميت تَبُوك) لقَوْله: (تبوكونها) ثمَّ أَقَامَ بهَا عشْرين لَيْلَة وَكَانَت فِي ثَلَاثِينَ ألفا من الْمُسلمين وَعشرَة آلَاف (فرس) ، وَكَانَ هِرقل بحمص فَبعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَالِد بن الْوَلِيد إِلَيْهِ (وَقَالَ) فِي كتاب «السّير» من هَذَا الْكتاب: قيل: إِن تَبُوك هِيَ مَدِينَة أَصْحَاب الأيكة الَّذين بعث إِلَيْهِم شُعَيْب.(4/541)
قَالَ ابْن دحْيَة فِي «خَصَائِص أَعْضَاء سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» : وعدة من حضرها سَبْعُونَ ألفا فِيمَا رَوَى الثِّقَات. ثمَّ عزا رِوَايَة «ثَلَاثِينَ ألفا» إِلَى (رِوَايَة) (الْوَاقِدِيّ) فَقَالَ: وَذكر (الْوَاقِدِيّ) بِسَنَدِهِ إِلَى زيد بن ثَابت ثَلَاثُونَ ألفا و (الْوَاقِدِيّ) كَذَّاب (قَالَه) أَحْمد، وَزَاد النَّسَائِيّ وضَّاع.
الحَدِيث السَّابِع
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا أهل مَكَّة لَا تقصرُوا فِي أقل من (أَرْبَعَة) برد من مَكَّة إِلَى عُسفان وَإِلَى الطَّائِف» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن عبد الْوَهَّاب (بن) مُجَاهِد بن جبر الْمَكِّيّ، عَن أَبِيه وَعَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا أهل مَكَّة لَا تقصرُوا الصَّلَاة فِي أدنَى من أَرْبَعَة برد من مَكَّة إِلَى عُسفان»(4/542)
وَلَيْسَ فِي روايتهما ذكر «الطَّائِف» وَهَذَا الحَدِيث ضَعِيف لأوجه:
أَحدهَا: أَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش فِيهِ مقَال، وَهُوَ عَن غير الشاميين لَيْسَ بشي عِنْد الْجُمْهُور.
ثَانِيهَا: أَن عبد الْوَهَّاب أَجمعُوا عَلَى شدَّة ضعفه، وَنسبه، [الثَّوْريّ] إِلَى الْكَذِب، وَتَركه الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ الْأَزْدِيّ: لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ.
ثَالِثهَا: أَن عبد الْوَهَّاب لم يسمع من أَبِيه، قَالَ وَكِيع: كَانُوا يَقُولُونَ: لم يسمع من أَبِيه شَيْئا.
رَابِعهَا: أَنه رُوِيَ مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَهُوَ الصَّحِيح، فَرَوَاهُ مَالك أَنه بلغه أَن (عبد الله بن عَبَّاس) كَانَ يَقُول: «تقصر الصَّلَاة فِي مثل مَا بَين مَكَّة (والطائف، وَفِي مثل مَا بَين مَكَّة) وَجدّة، وَفِي مثل مَا بَين مَكَّة وَعُسْفَان» .
قَالَ مَالك: وَذَلِكَ أَرْبَعَة برد.
وَقَالَ الشَّافِعِي: أَنا سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه سُئِلَ: أتقصر الصَّلَاة إِلَى عَرَفَة؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن إِلَى عسفان و (إِلَى) جدة وَإِلَى الطَّائِف» .(4/543)
قلت: وَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَلما ذكر الْبَيْهَقِيّ رِوَايَة الرّفْع قَالَ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش لَا يحْتَج بِهِ، وَعبد الْوَهَّاب ضَعِيف (بِمرَّة) وَالصَّحِيح أَن ذَلِك من قَول ابْن عَبَّاس.
قلت: (وَفَاته) الْعلَّة الثَّالِثَة وَهِي الِانْقِطَاع، وَمن الْغَرِيب إِخْرَاج ابْن خُزَيْمَة هَذَا الحَدِيث مَرْفُوعا فِي «صَحِيحه» عَلَى مَا (حَكَاهُ) ابْن الرّفْعَة عَن القَاضِي أبي الطّيب، وَمن (أَوْهَام) «نِهَايَة» إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَنه ذكر فِي حَدِيث جَابر أَن ذَلِك كَانَ فِي (فتح) مَكَّة، وَالْمَعْرُوف (أَنه) إِنَّمَا هُوَ فِي غَزْوَة تَبُوك فَتنبه لَهُ. وَوَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ إِيرَاد هَذَا الحَدِيث من طَرِيق ابْن عمر، وَهُوَ من النساخ فاجتنبه.
(هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِفضل الله وَمِنْه، وَأما) آثاره فخمسة:
(الأول) : «أَن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - منع أهل الذِّمَّة من الْإِقَامَة فِي أَرض الْحجاز وَجوز للمجتازين (بهَا) الْإِقَامَة ثَلَاث أَيَّام» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ» بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح(4/544)
فَرَوَاهُ عَن (نَافِع) ، عَن أسلم مولَى عمر، عَن عمر «أَنه أجلى الْيَهُود من الْحجاز ثمَّ أذن (لمن) قدم مِنْهُم تَاجِرًا أَن يُقيم (ثَلَاثَة أَيَّام) » .
قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أَبَا زرْعَة عَن هَذَا حَيْثُ حَدثنَا (بِهِ) عَن مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر فَقَالَ: الصَّحِيح (مَا) فِي «الْمُوَطَّأ» .
قلت: وَفِي البُخَارِيّ عَنهُ «أَنه أجلى الْيَهُود وَالنَّصَارَى من أَرض الْحجاز، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام لما ظهر عَلَى أَرض خَيْبَر أَرَادَ أَن يخرج الْيَهُود مِنْهَا، وَكَانَت الأَرْض لما ظهر عَلَيْهَا لله وَلِرَسُولِهِ وللمسلمين، فَسَأَلَ الْيَهُود رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يتركهم عَلَى أَن يكفوا الْعَمَل وَلَهُم نصف التَّمْر، فَقَالَ (لَهُم) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (نقركم) عَلَى ذَلِك مَا شِئْنَا. (وأقروا) حَتَّى أجلاهم عمر إِلَى تيماء» .
(الْأَثر) الثَّانِي: «أَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما (أَقَامَ) بِأَذربِيجَان سِتَّة أشهر يقصر الصَّلَاة» .(4/545)
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ قَالَ: «ارتج (علينا) الثَّلج وَنحن بِأَذربِيجَان سِتَّة أشهر فِي غزَاة وَكُنَّا نصلي رَكْعَتَيْنِ» .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» : (إِسْنَاده) عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَوَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ أَن عمر هُوَ الْفَاعِل لذَلِك وَهُوَ من النساخ (فاحذره) .
فَائِدَة: أذربيجان بِهَمْزَة مَفْتُوحَة غير ممدودة، ثمَّ ذال مُعْجمَة سَاكِنة، ثمَّ رَاء (مُهْملَة) مَفْتُوحَة، ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَكْسُورَة، ثمَّ يَاء مثناة تَحت، (ثمَّ جِيم، ثمَّ ألف، ثمَّ نون هَذَا) هُوَ الْأَشْهر كَمَا قَالَه صَاحب «الْمطَالع» (وَالْأَكْثَر) فِي ضَبطهَا، وَعَلِيهِ اقْتصر الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» ، قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: كَذَلِك (تَقوله) الْعَرَب، وَكَذَا ذكره صَاحب « (تثقيف) اللِّسَان» وَلكنه كسر الْهمزَة. قَالَ صَاحب «الْمطَالع» : وَمد الْأصيلِيّ والمهلب الْهمزَة مَعَ فتح الذَّال، وَفتح عبد الله بن سُلَيْمَان وَغَيره الْبَاء. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: الْأَشْهر فِيهَا(4/546)
(مد) الْهمزَة مَعَ فتح الذَّال وَإِسْكَان الرَّاء. (قَالَ) : والأفصح الْقصر وَإِسْكَان الذَّال، وَهِي نَاحيَة تشْتَمل عَلَى بِلَاد (مَعْرُوفَة) . وَحَكَى فِيهِ ابْن مكي آذْربيجان قَالَ: وَالنِّسْبَة أذَري وأذْري عَلَى غير قِيَاس. وَنقل ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «مرج الْبَحْرين» عَن الْمُهلب أَنه قَيده فِي «شرح البُخَارِيّ» : آذْريبجان بِالْمدِّ وَسُكُون الذَّال وَكسر الرَّاء، بعْدهَا يَاء مثناة تَحت، بعْدهَا بَاء مَفْتُوحَة.
(و) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: ألفها مَقْصُورَة وذالها سَاكِنة، كَذَلِك (قرأته) عَلَى أبي مَنْصُور (الجواليقى) (ويغلط) من يمده، وَفِي (المبتدئين) من يقدم الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت عَلَى الْمُوَحدَة وَهُوَ جهل.
قلت: (فتحصلنا) عَلَى أوجه، ثمَّ نقل ابْن (دحْيَة) عَن النَّحْوِيين أَنه اسْم اجْتمعت فِيهِ خمس مَوَانِع من الصّرْف وَهِي العجمة والتعريف والتأنيث والتركيب وَالزِّيَادَة، (وَعَن ابْن الْأَعرَابِي أَربع وَحذف الْأَخِيرَة) قَالَ: وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق (النجيرمي) : الْكَلَام الفصيح(4/547)
(ذربيجان) ، (وَرَأَيْت بِخَط) ابْن خلكان فِي حَاشِيَة «مُشكل الْوَسِيط» لِابْنِ الصّلاح - عَلَى مَا قيل أَنه بِخَطِّهِ - عقب كَلَام ابْن الصّلاح السالف: نَحن (بهَا) وَلَا (نَعْرِف) مَا ذكره وَذَلِكَ (بلساننا) أذربايكان، وأذر هُوَ النَّار، وبايكان عبارَة عَن المقيمين عَلَيْهَا - أَي كَانُوا عابدين عَلَيْهَا فعرب.
فَائِدَة: (و) قد جَاءَ عَن (غير) ابْن عمر (الْقصر) فِي أَكثر من ذَلِك.
(رَوَى) الْبَيْهَقِيّ عَن أنس «أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَقَامُوا برامهرمز تِسْعَة أشهر (يقصرون) الصَّلَاة» إِسْنَاده صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم (فِيهِ) عِكْرِمَة بن عمار، وَفِيه أَيْضا عَن أنس «أَنه أَقَامَ بِالشَّام مَعَ عبد الْملك بن مَرْوَان شَهْرَيْن يُصَلِّي صَلَاة الْمُسَافِرين» . إِسْنَاده صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم (فِيهِ) عبد الْوَهَّاب بن عَطاء، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى توثيقه. وَفِيه أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَقَامَ بِخَيْبَر أَرْبَعِينَ(4/548)
يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ الْحسن بن عمَارَة وَهُوَ غير مُحْتَج بِهِ. وَقَالَ زَكَرِيَّا السَّاجِي: أَجمعُوا عَلَى ترك حَدِيثه.
(الْأَثر) الثَّالِث وَالرَّابِع:
لما ذكر (الرَّافِعِيّ) حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف رادًّا عَلَى أبي حنيفَة فِي قَوْله: إِن السّفر الطَّوِيل (مسيرَة) ثَلَاثَة أَيَّام. ثمَّ قَالَ: فَهَذَا الحَدِيث يَقْتَضِي الترخيص فِي (هَذَا) الْقدر - يَعْنِي أَرْبَعَة برد وَهُوَ مرحلتان - ثمَّ قَالَ: (و) رُوِيَ مثل مَذْهَبنَا عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة. انْتَهَى.
أما أثر ابْن عَبَّاس فقد أسلفناه لَك.
وَأما أثر ابْن عمر فقد ذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» مَعَ أثر ابْن عَبَّاس فَقَالَ مَا نَصه: «وَسَمَّى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - السّفر يَوْمًا وَلَيْلَة وَكَانَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس يقصران فِي أَرْبَعَة (برد) وَهِي سِتَّة عشر فرسخًا» .
وأسندهما الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث حجاج، ثَنَا لَيْث، حَدثنِي يزِيد بن أبي حبيب، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح «أَن عبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس كَانَا يصليان رَكْعَتَيْنِ ويفطران فِي أَرْبَعَة برد فَمَا فَوق ذَلِك» .(4/549)
ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث مَالك، عَن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه «أَن عمر قصر الصَّلَاة إِلَى خَيْبَر» (وَمن) حَدِيث مَالك أَيْضا، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه قصر الصَّلَاة إِلَى خَيْبَر وَقَالَ: هَذِه ثَلَاث (فواصل) - يَعْنِي ليالٍ» .
وَمن حَدِيثه أَيْضا عَن نَافِع، عَن سَالم «أَن أَبَاهُ ركب إِلَى ذَات النصب (فقصر) الصَّلَاة فِي مسيرَة ذَلِك. (قَالَ) مَالك: وَبَين ذَات النصب وَالْمَدينَة (أَرْبَعَة) برد» . وَمن حَدِيثه أَيْضا عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم، عَن أَبِيه «أَنه ركب إِلَى ريم فقصر الصَّلَاة (فِي مسيرَة ذَلِك) قَالَ: وَذَلِكَ نَحْو (من) أَرْبَعَة برد» وَمن حَدِيثه أَيْضا عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم «أَن أَبَاهُ كَانَ يقصر (الصَّلَاة) فِي مسيرَة (الْيَوْم) التَّام» . وَمن حَدِيثه أَيْضا (أَنه) بلغه أَن عبد الله(4/550)
بن عَبَّاس كَانَ يَقُول: «تقصر الصَّلَاة فِي (مثل) مَا بَين مَكَّة والطائف، وَفِي مثل مَا بَين مَكَّة وَجدّة، وَفِي مثل مَا بَين مَكَّة وَعُسْفَان. قَالَ مَالك: وَذَلِكَ أَرْبَعَة برد» . وَهَذَا الْأَثر تقدم إِسْنَاده.
ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «إِذا سَافَرت يَوْمًا إِلَى اللَّيْل فاقصر الصَّلَاة» .
وَرَوَى معمر، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع «أَن ابْن عمر كَانَ يقصر فِي أَرْبَعَة برد» وَفِي لفظ « (فِي) مسيرَة أَرْبَعَة برد» .
وَرَوَى وَكِيع، عَن هِشَام بن ربيعَة بن الْغَاز الجرشِي، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح (قَالَ) «قلت لِابْنِ عَبَّاس: أقصر (الصَّلَاة) إِلَى عَرَفَة؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن إِلَى الطَّائِف وَعُسْفَان فَذَلِك ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين ميلًا» .
وَرَوَى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَحميد كِلَاهُمَا عَن نَافِع ووافقها ابْن جريج عَن نَافِع « (أَن) ابْن عمر كَانَ لَا يقصر فِي أقل من سِتَّة وَتِسْعين ميلًا» .
وَرَوَى هِشَام بن الْغَاز، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «لَا تقصر الصَّلَاة إِلَّا فِي الْيَوْم التَّام» .
وَرَوَى مَالك، عَن نَافِع، عَنهُ «أَنه كَانَ لَا يقصر الصَّلَاة فِي الْبَرِيد» .
وَرَوَى عَنهُ عَلّي بن ربيعَة الْوَالِبِي: «لَا تقصر فِي أقل من اثْنَيْنِ وَسبعين ميلًا» .(4/551)
وَرَوَى عَنهُ (ابْنه) سَالم بن عبد الله - وَهُوَ أجلُّ من نَافِع (وَأعلم بِهِ - «أَنه قصر إِلَى ثَلَاثِينَ ميلًا» .
وَرَوَى عَنهُ ابْن أَخِيه حَفْص بن عَاصِم - وَهُوَ أجل من نَافِع -) «أَنه قصر إِلَى ثَمَانِيَة عشر ميلًا» .
وَرَوَى عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس: «الْقصر إِلَى عسفان (وَهِي) اثْنَان وَثَلَاثُونَ ميلًا - وَإِذا (ورد) عَلَى أهلٍ أَو مَاشِيَة (فَيتم) وَلَا يقصر إِلَى عَرَفَة وَلَا منى» .
وَرَوَى مُجَاهِد عَنهُ: «لَا (قصر) فِي يَوْم إِلَى الْعَتَمَة لَكِن (فِيمَا) زَاد عَلَى ذَلِك» .
وَرَوَى أَبُو حَمْزَة الضبعِي عَنهُ: «لَا قصر إِلَّا فِي يَوْم مُبَاح» .
(وَرَوَى عَنهُ) : «لَا قصر إِلَّا فِي خَمْسَة وَأَرْبَعين ميلًا فَصَاعِدا» .
وَعنهُ: «لَا قصر إِلَّا [فِي] اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين ميلًا فَصَاعِدا» .
وَعنهُ: « (لَا) قصر إِلَّا فِي أَرْبَعِينَ ميلًا فَصَاعِدا) » .
وَعنهُ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس: «لَا قصر إِلَّا فِي سِتَّة وَثَلَاثِينَ (ميلًا) فَصَاعِدا» .(4/552)
ذكر هَذِه الرِّوَايَات عَنهُ ابْن حزم فِي «محلاه» وَغَيره.
وَقَول الرَّافِعِيّ: «و (غَيرهمَا) من الصَّحَابَة» قد (أسلفناه) عَن عمر، وَالشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لم (يذكرهُ) إِلَّا عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، (وَكرر) ذَلِك مَرَّات، وَكَذَا الْمَاوَرْدِيّ فِي «حاويه» و (الْمُوفق) الْحَنْبَلِيّ فِي (مغنيه) قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن ابْن عُمر وَابْن عَبَّاس خلاف ذَلِك.
قلت: وَقد أسلفنا ذَلِك (عَنْهُمَا) وَقد يجمع بَينهمَا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَن عُثْمَان وَابْن (مَسْعُود) تعلق الْقصر بِالسَّفرِ، لَكِن لَيْسَ فِيهِ التَّحْدِيد بِالْحَدِّ الْمَذْكُور.
(الْأَثر) الْخَامِس:
«أَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ: مَا بَال الْمُسَافِر يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إِذا انْفَرد وأربعًا إِذا ائتم بمقيم؟ فَقَالَ: تِلْكَ السّنة» .(4/553)
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الطفَاوِي، ثَنَا أَيُّوب، عَن قَتَادَة، عَن مُوسَى بن سَلمَة قَالَ: «كُنَّا مَعَ ابْن عَبَّاس بِمَكَّة فَقلت: إِنَّا إِذا كُنَّا مَعكُمْ صلينَا أَرْبعا، وَإِذا رَجعْنَا (إِلَى رحالنا) صلينَا رَكْعَتَيْنِ (فَقَالَ) : (تِلْكَ) سنة أبي الْقَاسِم - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَكَذَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن عبد الله بن أَحْمد، عَن أَبِيه بِهِ سَوَاء، وَهَذَا الْإِسْنَاد (رِجَاله) كلهم مُحْتَج بهم فِي الصَّحِيح، أخرج البُخَارِيّ لمُحَمد الطفَاوِي وَوَثَّقَهُ ابْن الْمَدِينِيّ وَقَالَ أَحْمد: مُدَلّس.
قلت: قد صرح هُنَا بِالتَّحْدِيثِ، وَعَن أبي زرْعَة: مُنكر الحَدِيث. وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ مُتَّفق عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَتَادَة، ومُوسَى بن سَلمَة أخرج لَهُ مُسلم وَوَثَّقَهُ أَبُو زرْعَة.
وَفِي أَفْرَاد «صَحِيح (مُسلم) » ، عَن مُوسَى بن سَلمَة قَالَ: «سَأَلت ابْن عَبَّاس: كَيفَ أُصَلِّي إِذا كنت بِمَكَّة إِذا لم (أصل) مَعَ الإِمَام؟ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ سنة أبي الْقَاسِم» .(4/554)
وَفِي النَّسَائِيّ عَن مُوسَى عَنهُ (قَالَ) : «تفوتني الصَّلَاة فِي جمَاعَة وَأَنا بالبطحاء مَا ترَى أُصَلِّي؟ (قَالَ) : رَكْعَتَيْنِ سنة أبي الْقَاسِم» .
وَفِي «مُسْند أَحْمد» ، عَن مُوسَى قَالَ: « (قلت) لِابْنِ عَبَّاس: إِذا لم تدْرك الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد (كَيفَ) تصلي بالبطحاء؟ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ تِلْكَ سنة أبي الْقَاسِم» .
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ عقب هَذَا: وَالْإِشَارَة إِلَى صَلَاة الْعِيد. كَذَا قَالَ، ثمَّ عزاهُ إِلَى أَفْرَاد مُسلم، وَمرَاده أَصله لَا لَفظه.
قَالَ الرَّافِعِيّ بعد (سياقته) لهَذَا الْأَثر: وَالْمَفْهُوم سنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فِي السّفر) . وَهُوَ كَمَا قَالَ.(4/555)
بَاب الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر
ذكر فِيهِ أحد عشر حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا جد بِهِ السّير جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك، ذكره مُسلم هُنَا وَالْبُخَارِيّ آخر الْحَج (وَزَاد) فِي أَوله عَن نَافِع « (أَن ابْن عمر) كَانَ إِذا جد بِهِ السّير جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بعد أَن يغيب الشَّفق وَيَقُول: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا جد بِهِ (السّير) و ... » الحَدِيث.
وَمَعْنى جد: أسْرع.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يجمع بَين الظّهْر وَالْعصر فِي السّفر» .(4/556)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته أَيْضا بِلَفْظ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ارتحل قبل أَن تزِيغ الشَّمْس أخر الظّهْر إِلَى وَقت الْعَصْر ثمَّ نزل (فَجمع) بَينهمَا، (فَإِن) زاغت قبل أَن يرتحل صَلَّى (الظّهْر) ثمَّ ركب» (وَأوردهُ) الْحَاكِم فِي الْأَرْبَعين الَّتِي خرجها فِي شعار أهل الحَدِيث بِلَفْظ: «صَلَّى الظّهْر وَالْعصر ثمَّ ركب» ثمَّ قَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم. وَمرَاده أَصله، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يجمع بَين صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء فِي السّفر» وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر أخر الظّهْر حَتَّى يدْخل أول وَقت الْعَصْر (ثمَّ يجمع بَينهمَا» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِذا عجل عَلَيْهِ السّفر يُؤَخر الظّهْر إِلَى [أول] وَقت الْعَصْر فَيجمع بَينهمَا) وَيُؤَخر الْمغرب حَتَّى يجمع بَينهَا وَبَين الْعشَاء حِين يغيب الشَّفق» .
قَالَ عبد الْحق فِي «جمعه» : لم يخرج البُخَارِيّ ذكر الْمغرب وَالْعشَاء فِي هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ، إِنَّمَا قَالَ: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يجمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء فِي السّفر وَلم يقل: «إِلَى أول وَقت الْعَصْر» (بل) قَالَ: «إِلَى وَقت الْعَصْر» .(4/557)
الحَدِيث الثَّالِث
ثَبت أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا كَانَ سائرًا فِي وَقت الأولَى أَخّرهَا إِلَى الثَّانِيَة، وَإِذا كَانَ نازلاً فِي وَقت الأولَى قدم الثَّانِيَة إِلَيْهَا.
هُوَ كَمَا قَالَ، أما الْقطعَة الأولَى وَهِي جمع التَّأْخِير فثابتة فِي «الصَّحِيحَيْنِ» كَمَا عَرفته (آنِفا) من حَدِيث (أنس) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وَأما الْقطعَة الثَّانِيَة - وَهِي جمع التَّقْدِيم - فثابت (من) حَدِيث جَابر الطَّوِيل الْآتِي بِطُولِهِ فِي الْحَج - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - فَإِن فِيهِ: «ثمَّ أذن ثمَّ أَقَامَ فَصَلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ فَصَلى الْعَصْر وَلم يصل بَينهمَا شَيْئا، وَكَانَ ذَلِك بعد الزَّوَال» (كَمَا) ستعلمه هُنَاكَ - إِن شَاءَ الله وَقدره - وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم.
وَورد أَيْضا فِي عدَّة أَحَادِيث:
أَحدهَا: (فِي) حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَقد سقته بِطُولِهِ وَالْكَلَام (عَلَيْهِ) فِي أَحَادِيث «الْمُهَذّب» فَرَاجعه مِنْهُ، ونقلنا هُنَاكَ عَن التِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي حَامِد أَحْمد بن عبد الله التَّاجِر الْمروزِي أَنه قَالَ فِيهِ: (إِنَّه) حسن صَحِيح غَرِيب من حَدِيث ابْن عَبَّاس.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث(4/558)
كريب وَعِكْرِمَة أَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «أَلا أخْبركُم عَن صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي السّفر؟ قُلْنَا: بلَى. قَالَ: كَانَ إِذا زاغت (لَهُ الشَّمْس) فِي منزله جمع بَين الظّهْر وَالْعصر قبل أَن يركب، وَإِذا لم تزغ لَهُ فِي منزله سَار حَتَّى إِذا حانت الْعَصْر نزل فَجمع بَين الظّهْر وَالْعصر، (و) إِذا حانت الْمغرب فِي منزله جمع بَينهَا وَبَين الْعشَاء، وَإِذا لم تحن فِي منزله ركب حَتَّى إِذا حانت الْعشَاء (نزل) فَجمع بَينهمَا» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَى هَذَا الحَدِيث حجاج، عَن ابْن جريج، (قَالَ: أَخْبرنِي) حُسَيْن، عَن كريب وَحده، عَن ابْن عَبَّاس. وَرَوَاهُ عُثْمَان بن عمر، عَن ابْن جريج، (عَن حُسَيْن، عَن [عِكْرِمَة] ، عَن ابْن عَبَّاس. وَرَوَاهُ عبد الْمجِيد، عَن ابْن جريج) ، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن حُسَيْن عَن كريب، عَن ابْن عَبَّاس، وَكلهمْ ثِقَات (فَاحْتمل) أَن يكون ابْن جريج (سَمعه) أَولا من هِشَام بن عُرْوَة، عَن حُسَيْن كَقَوْل عبد الْمجِيد عَنهُ، ثمَّ لَقِي ابْن جريج حُسَيْنًا فَسَمعهُ مِنْهُ، كَقَوْل عبد الرَّزَّاق وحجاج عَن ابْن جريج قَالَ: حَدثنِي حُسَيْن. وَاحْتمل أَن يكون حُسَيْن سَمعه من كريب وَمن عِكْرِمَة جَمِيعًا عَن ابْن عَبَّاس، فَكَانَ يحدث بِهِ مرّة(4/559)
عَنْهُمَا جَمِيعًا كَرِوَايَة عبد الرَّزَّاق (عَنهُ) وَمرَّة عَن كريب وَحده كَقَوْل حجاج وَابْن أبي رواد، وَمرَّة عَن عِكْرِمَة وَحده عَن ابْن عَبَّاس كَقَوْل عُثْمَان بن عمر، وَتَصِح الْأَقَاوِيل كلهَا. ثمَّ رَوَى (بأسانيده) عَن حُسَيْن، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا زاغت الشَّمْس (صَلَّى) الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا، وَإِذا ارتحل قبل أَن تزِيغ [أخرهما] حَتَّى [يُصَلِّيهمَا] (فِي) وَقت الْعَصْر» وَفِي رِوَايَة لَهُ «كَانَ إِذا نزل منزلا فَزَالَتْ الشَّمْس لم يرتحل حَتَّى يُصَلِّي (الظّهْر) ، وَإِذا ارتحل قبل الزَّوَال صَلَّى كل وَاحِدَة لوَقْتهَا» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كَانَ إِذا ارتحل حِين تزِيغ الشَّمْس (يجمع) بَين الظّهْر وَالْعصر، وَإِذا ارتحل قبل ذَلِك أخر ذَلِك إِلَى وَقت الْعَصْر» .
(ثَانِيهَا) : عَن معَاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك إِذا(4/560)
زاغت الشَّمْس قبل أَن يرتحل جمع بَين الظّهْر وَالْعصر، وَإِن ارتحل قبل أَن تزِيغ الشَّمْس أخر الظّهْر حَتَّى ينزل الْعَصْر، وَفِي الْمغرب مثل ذَلِك إِن (غَابَتْ) الشَّمْس قبل أَن يرتحل جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَإِن ارتحل (قبل) أَن يغيب الشَّفق أخر الْمغرب (حَتَّى) ينزل الْعشَاء ثمَّ يجمع (بَينهمَا) » .
رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِم وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث قُتَيْبَة بن سعيد، عَن اللَّيْث بن سعد، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي الطُّفَيْل، عَن (معَاذ بِهِ) وَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ لكنه (فَرد) من الْأَفْرَاد، لَا جرم أَن التِّرْمِذِيّ قَالَ إثره: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب تفرد بِهِ قُتَيْبَة لَا نعلم أحدا رَوَاهُ عَن اللَّيْث غَيره. قَالَ: وَالْمَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم حَدِيث معَاذ من حَدِيث أبي الزبير. يَعْنِي الَّذِي رَوَاهُ مُسلم وَغَيره وَلَيْسَ فِيهِ جمع التَّقْدِيم.(4/561)
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لم يرو هَذَا (الحَدِيث إِلَّا) قُتَيْبَة وَحده. وَقَالَ - فِيمَا حَكَاهُ (الْمُنْذِرِيّ) -: هَذَا حَدِيث مُنكر وَلَيْسَ فِي تَقْدِيم الْوَقْت حَدِيث قَائِم.
وَقَالَ (أَبُو مُحَمَّد عَلّي) بن حزم: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي الطُّفَيْل، وَلَا (يعلم أحد) من أَصْحَاب الحَدِيث أَن ليزِيد بن أبي حبيب سَمَاعا من أبي الطُّفَيْل.
قلت: وَأثبت أَبُو الْقَاسِم هبة الله اللالكائي (سَمَاعه مِنْهُ) وَهُوَ مُحْتَمل؛ (لِأَن عمره) حِين مَاتَ أَبُو الطُّفَيْل (أَكثر من أَرْبَعِينَ سنة؛ لِأَنَّهُ ولد سنة ثَلَاث وَخمسين وَمَات أَبُو الطُّفَيْل) سنة مائَة، سِيمَا وَيزِيد بن أبي حبيب مِمَّن خرج حَدِيثه فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَاحْتج بِهِ ابْن حزم فِي مَوَاضِع وَلم يتهم بالتدليس.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو سعيد بن يُونُس: لم يحدث بِهَذَا الحَدِيث إِلَّا قُتَيْبَة وَيُقَال: إِنَّه غلط فِيهِ (فغيَّر) بعض الْأَسْمَاء (وَأَن) مَوضِع يزِيد بن أبي حبيب أَبُو الزبير.(4/562)
وَقَالَ قُتَيْبَة بن سعيد: هَذَا الحَدِيث عَلَيْهِ عَلامَة من الْحفاظ كتبُوا عني هَذَا الحَدِيث أَحْمد بن حَنْبَل وَيَحْيَى بن معِين والْحميدِي وَأَبُو بكر بن أبي شيبَة، وَأَبُو خَيْثَمَة. حَتَّى عد (سَبْعَة) ، نَقله ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» عَنهُ.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: لَا أعرفهُ من حَدِيث يزِيد بن أبي حبيب، وَالَّذِي عِنْدِي أَنه دخل لَهُ حَدِيث فِي حَدِيث.
وَقَالَ (الْحَاكِم) أَبُو عبد الله فِي «عُلُوم الحَدِيث» : (هَذَا الحَدِيث) رُوَاته أَئِمَّة ثِقَات وَهُوَ شَاذ الْإِسْنَاد والمتن، ثمَّ (لَا تُعرف) لَهُ عِلّة نعلله بهَا، فَلَو كَانَ الحَدِيث عِنْد اللَّيْث، عَن أبي الزبير، عَن أبي الطُّفَيْل (لعللنا) الحَدِيث، وَلَو كَانَ عِنْد يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي الزبير (لعللناه) بِهِ، فَلَمَّا لم نجد (التعليلين) خرج عَن أَن يكون معلولاً، ثمَّ نَظرنَا فَلم نجد ليزِيد بن أبي حبيب عَن أبي الطُّفَيْل رِوَايَة، وَلَا وجدنَا هَذَا الْمَتْن بِهَذِهِ السِّيَاقَة عِنْد أحد من أَصْحَاب أبي الطُّفَيْل،(4/563)
وَلَا عِنْد أحد مِمَّن رَوَى عَن معَاذ غير أبي الطُّفَيْل، (فَقُلْنَا) الحَدِيث شَاذ. وحدثونا عَن أبي الْعَبَّاس الثَّقَفِيّ قَالَ: كَانَ قُتَيْبَة بن سعيد يَقُول لنا: عَلَى هَذَا الحَدِيث عَلامَة أَحْمد بن حَنْبَل وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَيَحْيَى بن معِين وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي خَيْثَمَة، حَتَّى عد قُتَيْبَة (سَبْعَة) أسامي من أَئِمَّة الحَدِيث كتبُوا عَنهُ هَذَا الحَدِيث.
قَالَ الْحَاكِم: فأئمة الحَدِيث إِنَّمَا سَمِعُوهُ من قُتَيْبَة تَعَجبا من إِسْنَاده وَمَتنه، ثمَّ لم يبلغنَا عَن أحد مِنْهُم أَنه ذكر للْحَدِيث (عِلّة) وَلم يذكر لَهُ أَبُو عَلّي الْحَافِظ وَلَا النَّسَائِيّ عِلّة - وهما حَافِظَانِ - فَنَظَرْنَا فَإِذا الحَدِيث مَوْضُوع، وقتيبة ثِقَة مَأْمُون. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى البُخَارِيّ قَالَ: قلت (لقتيبة بن سعيد) مَعَ من (كتبت) عَن اللَّيْث بن سعد حَدِيث يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي الطُّفَيْل؟ قَالَ: (كتبته) مَعَ خَالِد الْمَدَائِنِي. (قَالَ البُخَارِيّ: وَكَانَ خَالِد الْمَدَائِنِي) يدْخل الْأَحَادِيث عَلَى الشُّيُوخ. يُرِيد (أَنه) يدْخل فِي روايتهم مَا لَيْسَ مِنْهَا؛ (قَالَه) ابْن حزم.
قلت: (وخَالِد) هَذَا مَتْرُوك، قَالَ البُخَارِيّ: تَركه عَلّي وَالنَّاس.(4/564)
وَقَالَ (أَحْمد) : لَا أروي عَنهُ شَيْئا. وَقَالَ ابْن رَاهَوَيْه: كَانَ كذابا. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: أَجمعُوا عَلَى تَركه. وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: مَتْرُوك الحَدِيث، كل أَصْحَابنَا (يجمع) عَلَى تَركه (سُوَى ابْن الْمَدِينِيّ فَإِنَّهُ كَانَ حسن الرَّأْي فِيهِ) .
قلت: قد أسلفنا عَن (البُخَارِيّ) عَن (عَلّي بن) الْمَدِينِيّ أَنه تَركه، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: مَتْرُوك الحَدِيث. وأحرق ابْن معِين مَا (كتب) عَن خَالِد، وَقَالَ ابْن عدي: لَهُ عَن اللَّيْث بن سعد غير حَدِيث مُنكر، وَاللَّيْث [بَرِيء] من رِوَايَة خَالِد عَنهُ تِلْكَ الْأَحَادِيث. وَأعله أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي «محلاه» بأوجه:
أَحدهَا: أَنه لم يَأْتِ هَكَذَا إِلَّا من طَرِيق يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي الطُّفَيْل، وَلَا يُعلم (أحد) من أَصْحَاب (الحَدِيث) ليزِيد سَمَاعا من أبي الطُّفَيْل، وَقد أسلفنا هَذَا عَنهُ (مَعَ) جَوَابه.
ثَانِيهَا: أَن أَبَا الطُّفَيْل صَاحب راية الْمُخْتَار، وَذكر أَنه كَانَ يَقُول بالرجعة.
ثَالِثهَا: مَا تقدم عَن البُخَارِيّ.(4/565)
وَأجَاب عبد الْحق عَن الْعلَّة الثَّانِيَة فَقَالَ: هَذَا لَيْسَ بعلة، وَلَعَلَّ أَبَا الطُّفَيْل كَانَ لَا يعلم (بِسوء) مَذْهَب الْمُخْتَار، وَإِنَّمَا خرج الْمُخْتَار يطْلب (دم) الْحُسَيْن وَكَانَ قَاتله حيًّا فَخرج أَبُو الطُّفَيْل مَعَه.
قلت: وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِك أَن أَبَا عمر بن عبد الْبر ذكر فِي كِتَابه عَن أبي الطُّفَيْل أَنه كَانَ (محبًّا فِي) عَلّي، وَكَانَ من أَصْحَابه فِي مشاهده، وَكَانَ ثِقَة مَأْمُونا يعْتَرف بِفضل الشَّيْخَيْنِ إِلَّا أَنه كَانَ يقدم عليًّا، وَأما مَا (ذكر) عَنهُ من أَمر الرّجْعَة فَلَعَلَّ ذَلِك لم يَصح عَنهُ. وَقَوله: لم يَأْتِ هَذَا الحَدِيث هَكَذَا (إِلَّا) من طَرِيق يزِيد بن أبي حبيب، عَن أبي الطُّفَيْل. فِيهِ نظر؛ فقد ذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» أَن (الْمفضل) بن فضَالة رَوَى عَن اللَّيْث، عَن هِشَام بن سعد، عَن أبي الزبير، عَن أبي الطُّفَيْل، عَن معَاذ (الْقِصَّة) بِعَينهَا، وَقد أخرجهَا ابْن حزم أَيْضا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَهُوَ (أشبه) بِالصَّوَابِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِنَّمَا أَنْكَرُوا من هَذَا رِوَايَة يزِيد عَن أبي الطُّفَيْل، فَأَما رِوَايَة أبي الزبير عَن أبي الطُّفَيْل فَهِيَ مَحْفُوظَة صَحِيحَة. وَهَذِه الطَّرِيقَة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا رَوَاهَا أَبُو(4/566)
دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَفِي إسنادها هِشَام بن سعد وَقد استضعف، وَكَانَ يَحْيَى (بن سعيد) لَا يحدث عَنهُ، وأعلها ابْن حزم فِي «محلاه» (بِهِ) ، لَكِن احْتج بِهِ مُسلم وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، وَقَالَ الْعجلِيّ: جَائِز الحَدِيث حسن الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: شيخ مَحَله الصدْق. وَقَالَ عبد الْحق: لم أر فِيهِ أحسن من قَول أبي بكر الْبَزَّار: لم أر أحدا توقف عَن حَدِيث هِشَام بن سعد وَلَا (اعتل) عَلَيْهِ (بعلة) بعد توجب التَّوَقُّف عَنهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي غير «سنَنه» : إِنَّه حَدِيث مُنكر.
قلت: (فتحصلنا) عَلَى خمس مقالات فِي هَذَا الحَدِيث للحفاظ (إِحْدَاهَا) : أَنه حسن غَرِيب. قَالَه (التِّرْمِذِيّ) .
ثَانِيهَا: أَنه مَحْفُوظ صَحِيح. قَالَه ابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ.
ثَالِثهَا: أَنه مُنكر. قَالَه أَبُو دَاوُد.(4/567)
رَابِعهَا: أَنه مُنْقَطع. قَالَه ابْن حزم.
خَامِسهَا: أَنه مَوْضُوع. قَالَه الْحَاكِم.
وأصل حَدِيث أبي الطُّفَيْل عَن معَاذ فِي «صَحِيح مُسلم» وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاده وَلَفظه عَنهُ: «جمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي غَزْوَة تَبُوك بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء قَالَ: فَقلت: مَا حمله عَلَى ذَلِك؟ (فَقَالَ) : أَرَادَ أَن لَا يحرج أمته» .
وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» .
(ثَالِثهَا) : عَن عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا ارتحل حِين تَزُول الشَّمْس جمع بَين الظّهْر وَالْعصر، وَإِذا جد بِهِ السّير أخر الظّهْر وَعجل الْعَصْر ثمَّ يجمع بَينهمَا» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد، عَن الْمُنْذر بن مُحَمَّد، (عَن أَبِيه) ، عَن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن(4/568)
(بن عَلّي) بن الْحُسَيْن قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عَلّي ... فَذكره.
قَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : الْمُنْذر وَمُحَمّد بن الْحُسَيْن لم أجد (لَهما) ذكرا.
وَفِي «مُسْند أَحْمد» من زيادات ابْنه عبد الله: ثَنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، نَا أَبُو أُسَامَة، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عمر بن عَلّي، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن عليًّا كَانَ (يسير) حَتَّى إِذا غربت الشَّمْس وأظلم نزل (فَصَلى) الْمغرب، ثمَّ صَلَّى الْعشَاء عَلَى إثْرهَا ثمَّ يَقُول: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يصنع» .
(رَابِعهَا) : عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ (إِذا كَانَ فِي سفر فَزَالَتْ الشَّمْس صَلَّى الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا ثمَّ ارتحل» .
رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْبَيْهَقِيّ، قَالَ النَّوَوِيّ: وَإِسْنَاده صَحِيح. وَذكره صَاحب «الإِمَام» من طَرِيق الْبَيْهَقِيّ وَأقرهُ، وَأما الذَّهَبِيّ فَذكره فِي «مِيزَانه» فِي تَرْجَمَة إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَنهُ عَن (شَبابَة) ، عَن(4/569)
اللَّيْث، عَن عقيل، عَن ابْن شهَاب، عَن أنس مَرْفُوعا - كَمَا سَاقه الْإِسْمَاعِيلِيّ - ثمَّ قَالَ: هَذَا مَعَ (نبل) رُوَاته (مُنكر) ثمَّ أعله بِرِوَايَة الصَّحِيح الْمُتَقَدّمَة.
وَرَوَى الْحَاكِم فِي «الْأَرْبَعين الَّتِي خرجها فِي شعار أهل الحَدِيث» عَن أبي الْعَبَّاس الْأَصَم - أحد الثِّقَات الْأَثْبَات - ثَنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق (الصغاني) قَالَ: أَخْبرنِي حسان بن عبد الله، عَن الْمفضل بن فضَالة، (عَن عقيل) عَن ابْن شهَاب، عَن أنس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا ارتحل قبل (أَن) تزِيغ الشَّمْس ... » الحَدِيث كَمَا سلف وَفِيه «فَإِن زاغت الشَّمْس قبل أَن يرتحل صَلَّى الظّهْر وَالْعصر ثمَّ ركب» ثمَّ (قَالَ) : أخرجه الشَّيْخَانِ. وَمرَاده: أَصله لَا بِهَذِهِ (اللَّفْظَة) كَمَا سلف فِي الحَدِيث الثَّانِي من أَحَادِيث الْبَاب، وَهَذِه الزِّيَادَة من الْأَصَم إِلَى أنس كلهم رجال الصَّحِيح.
ثمَّ اعْلَم أَن الْحَافِظ أَبَا مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ لما ذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف قَالَ عقبه: وَقد صَحَّ ذَلِك من حَدِيث أنس. ثمَّ سَاقه بِلَفْظ(4/570)
البُخَارِيّ وَمُسلم كَمَا قَدمته وَعَزاهُ إِلَيْهِمَا، وَقد علمت أَنه لَيْسَ فِيهَا الصراحة بِجمع التَّقْدِيم، فَتنبه لَهُ.
الحَدِيث (الرَّابِع)
(من أَحَادِيث الْبَاب) عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جمع بَين الظّهْر وَالْعصر للمطر» .
هَذَا الحَدِيث كَرَّرَه الرَّافِعِيّ، وَتبع فِي إِيرَاده الإِمَام، فَإِنَّهُ قَالَ: (رَأَيْت) فِي بعض الْكتب الْمُعْتَمدَة، وَلم أر (أَنا) من خرجه (كَذَلِك) أصلا، وَإِنَّمَا فِي سنَن الْبَيْهَقِيّ مَا (نَصه) : روينَا عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر (الْجمع) فِي الْمَطَر، ثمَّ رَوَاهُ مَوْقُوفا (عَلَيْهِمَا) .
الحَدِيث (الْخَامِس)
(من أَحَادِيث الْبَاب) عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جمع بِالْمَدِينَةِ من غير خوف وَلَا سفر» .(4/571)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ عَنهُ قَالَ: «صَلَّى لنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء جَمِيعًا (فِي) غير خوف وَلَا سفر» وَفِي لفظ: «جمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَين الظّهْر وَالْعصر و (بَين) الْمغرب وَالْعشَاء (فِي الْمَدِينَة) فِي غير خوف وَلَا مطر. قيل لِابْنِ عَبَّاس: مَا أَرَادَ إِلَى ذَلِك؟ قَالَ: أَرَادَ أَن لَا يحرج أمته» .
وَلم يذكر البُخَارِيّ: «الْخَوْف» وَلَا «الْمَطَر» وَلَا «قيل لِابْنِ عَبَّاس ... » إِلَى آخِره.
وَرَوَاهُ مَالك فِي «موطئِهِ» بِلَفْظ: «صَلَّى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا، وَالْمغْرب وَالْعشَاء (جَمِيعًا) فِي غير خوف وَلَا سفر» قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالك: أُرى ذَلِك كَانَ فِي مطر.
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» : «جمع (فِي الْمَدِينَة) من غير عِلّة. فَقيل لِابْنِ عَبَّاس: مَا أَرَادَ بذلك؟ فَقَالَ: التَّوَسُّع عَلَى أمته» .
فَائِدَة: قَول الإِمَام مَالك: أُرى - هُوَ بِضَم الْهمزَة - أَي (أَظن) ، وَوَافَقَهُ الشَّافِعِي عَلَيْهِ أَيْضا (وَهَذَا ترده) الرِّوَايَة السالفة عَن «صَحِيح(4/572)
مُسلم» : «وَلَا مطر» وَهِي من رِوَايَة حبيب بن أبي ثَابت وَهُوَ إِمَام مُتَّفق عَلَى توثيقه وجلالته وعدالته والاحتجاج بِهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلم يذكرهَا البُخَارِيّ مَعَ أَن حبيب بن أبي ثَابت من شَرطه. قَالَ: وَلَعَلَّه تَركهَا لمخالفتها (رِوَايَة) الْجَمَاعَة. قَالَ: وَرِوَايَة الْجَمَاعَة أولَى بِأَن (تكون مَحْفُوظَة) (حَتَّى) رِوَايَة الْجُمْهُور: «من غير خوف وَلَا سفر» (قَالَ) : وَقد روينَا عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر الْجمع فِي الْمَطَر. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» أَيْضا: قَول ابْن عَبَّاس: «أَرَادَ أَن لَا يحرج أمته» قد يحمل عَلَى الْمَطَر أَي: لَا يلحقهم مشقة الْمَشْي فِي الطين إِلَى الْمَسْجِد.
وَأجَاب الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه عَن رِوَايَة (من رَوَى) «من غير خوف وَلَا مطر» بجوابين: أَحدهمَا: (مَعْنَاهُ) وَلَا مطر كثير.
ثَانِيهمَا: (فِيهِ) يجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ، فَيكون المُرَاد بِرِوَايَة «من غير خوف وَلَا سفر» الْجمع بالمطر، وَالْمرَاد بِرِوَايَة «وَلَا مطر» الْجمع (الْمجَازِي) وَهُوَ أَن يُؤَخر الأولَى إِلَى آخر وَقتهَا، وَيقدم الثَّانِيَة إِلَى أول وَقتهَا.(4/573)
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَيُؤَيّد هَذَا التَّأْوِيل الثَّانِي أَن (عَمْرو) بن دِينَار رَوَى هَذَا الحَدِيث عَن أبي الشعْثَاء، (عَن ابْن عَبَّاس، وَثَبت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: قلت: يَا أَبَا الشعْثَاء) ، أَظُنهُ أخر الظّهْر وَعجل الْعَصْر، وَأخر الْمغرب وَعجل الْعشَاء قَالَ: وَأَنا أَظن (ذَلِك) .
(وَأجَاب) القَاضِي أَبُو الطّيب فِي «تَعْلِيقه» وَالشَّيْخ (أَبُو) نصر فِي «تهذيبه» وَغَيرهمَا بِأَن قَوْله: «وَلَا مطر» أَي مستدام فَلَعَلَّهُ انْقَطع فِي الثَّانِيَة.
وَنقل صَاحب «الشَّامِل» هَذَا الْجَواب عَن أَصْحَابنَا، وَأجَاب الْمَاوَرْدِيّ بِأَنَّهُ كَانَ (مستظلاًّ) بسقف وَنَحْوه، وَهَذِه التأويلات كلهَا لَيست ظَاهِرَة كَمَا (قَالَ) النَّوَوِيّ، وَالْمُخْتَار مَا (أجَاب) بِهِ الْبَيْهَقِيّ.
وَمن الْغَرِيب (قَول) إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي «النِّهَايَة» أَن ذكر الْمَطَر لم يرد فِي متن الحَدِيث، وَقد عرفت أَنه فِي مَتنه.(4/574)
الحَدِيث (السَّادِس)
ثَبت «أَن سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جمع بَين الظّهْر وَالْعصر بِعَرَفَة فِي وَقت الظّهْر، وَجمع (بَين) الْمغرب وَالْعشَاء بِمُزْدَلِفَة فِي وَقت الْعشَاء» .
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى عَرَفَة فَأذن ثمَّ أَقَامَ فَصَلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ فَصَلى الْعَصْر وَلم (يصل) بَينهمَا شَيْئا» وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أُسَامَة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «دفع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من عَرَفَة، فَلَمَّا جَاءَ الْمزْدَلِفَة نزل فَتَوَضَّأ، ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فَصَلى الْمغرب، ثمَّ أَنَاخَ كل إِنْسَان بعيره فِي منزله، ثمَّ أُقِيمَت الْعشَاء فَصلاهَا وَلم يصل بَينهمَا شَيْئا» .
وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عمر: «جمع عَلَيْهِ السَّلَام الْمغرب وَالْعشَاء بِجمع، كل (وَاحِدَة مِنْهُمَا) بِإِقَامَة، وَلم يسبح بَينهمَا وَلَا عَلَى إِثْر (كل) (وَاحِدَة مِنْهُمَا) » وَلمُسلم نَحوه.(4/575)
وَمَعْنى «لم يسبح» : لم يصل النَّافِلَة، والنافلة تسمى سُبحة.
الحَدِيث (السَّابِع)
(رُوِيَ) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) : «لَيْسَ من الْبر الصّيام فِي السّفر»
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر فَرَأَى رجلا قد اجْتمع النَّاس عَلَيْهِ وَقد ظلل (عَلَيْهِ) ، فَقَالَ مَا لَهُ؟ قَالُوا: رجل صَائِم. فَقَالَ النَّبِي: لَيْسَ (من) الْبر أَن تَصُومُوا فِي السّفر» . قَالَ شُعْبَة: وَكَانَ يبلغنِي عَن يَحْيَى بن أبي كثير أَنه كَانَ يزِيد فِي هَذَا الحَدِيث أَنه قَالَ: «عَلَيْكُم بِرُخْصَة الله الَّتِي رخص لكم» قَالَ: فَلَمَّا سَأَلته لم يحفظه.
وَقَالَ البُخَارِيّ: «لَيْسَ من الْبر» بِزِيَادَة «من» وَلم يذكر قَول شُعْبَة عَن يَحْيَى.
الحَدِيث (الثَّامِن)
(رُوِيَ) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خِيَار عباد الله (الَّذين) إِذا سافروا قصروا» .(4/576)
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَفعه: «خياركم من قصر الصَّلَاة فِي السّفر وَأفْطر» ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» فَقَالَ: سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ سهل بن عُثْمَان (العسكري) ، نَا غَالب بن فائد، عَن إِسْرَائِيل، عَن (خَالِد) ، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر مَرْفُوعا ... فَذكره. فَقَالَ أبي: حَدثنَا عبد الله بن صَالح بن مُسلم، أَنا إِسْرَائِيل، عَن خَالِد (الْعَبْدي) عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر (مَرْفُوعا) قَالَ: وغالب بن فائد مغربي لَيْسَ بِهِ بَأْس.
قلت: وَقَالَ الْأَزْدِيّ: يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «كتاب الدُّعَاء» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا: «خير أمتِي الَّذين إِذا أساءوا اسْتَغْفرُوا وَإِذا أَحْسنُوا اسْتَبْشَرُوا، وَإِذا سافروا قصروا وأفطروا» .
(الطَّرِيق الثَّانِي) : من حَدِيث عُرْوَة بن رُوَيْم قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «خِيَار أمتِي من يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي (رَسُول الله) وَإِذا أَحْسنُوا اسْتَبْشَرُوا، وَإِذا سافروا قصروا» .(4/577)
رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن (إِسْحَاق) القَاضِي فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» عَلَى مَا حَكَاهُ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» عَنهُ حَدثنَا نصر بن عَلّي، نَا عِيسَى بن يُونُس، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عُرْوَة ... فَذكره.
وَهَذَا مُرْسل؛ عُرْوَة هَذَا لم يدْرك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَه أَبُو حَاتِم.
(الطَّرِيق الثَّالِث) : (من) حَدِيث سعيد بن الْمسيب قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «خِيَار أمتِي من قصر الصَّلَاة فِي السّفر أَو أفطر» .
رَوَاهُ إِسْمَاعِيل القَاضِي (أَيْضا فِي «أَحْكَامه» عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة، نَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن ابْن حَرْمَلَة، عَن سعيد بِهِ. وَهَذَا أَيْضا مُرْسل.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن ابْن أبي يَحْيَى، عَن ابْن حَرْمَلَة - هُوَ عبد الرَّحْمَن - عَن ابْن الْمسيب قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «خياركم الَّذين إِذا سافروا قصروا (الصَّلَاة) وأفطروا - أَو قَالَ: لم يَصُومُوا» .
وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَن الْقصر أفضل من الْإِتْمَام، ويغني عَنهُ فِي الدّلَالَة أَحَادِيث صَحِيحَة مِنْهَا حَدِيث جَابر السالف (فِي الحَدِيث الثَّامِن) : «عَلَيْكُم (بِرُخْصَة) الله الَّتِي رخص لكم» وَمِنْهَا حَدِيث يعْلى عَن عمر السالف: «صَدَقَة تصدق الله(4/578)
(بهَا) عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته» وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث.
الحَدِيث (التَّاسِع)
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ لما جمع بَين الصَّلَاتَيْنِ والى بَينهمَا وَترك الرَّوَاتِب بَينهمَا» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد سلف فِي الحَدِيث السَّابِع من حَدِيث جَابر وَأُسَامَة وَابْن عمر.
الحَدِيث (الْعَاشِر)
«صَحَّ أَنه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر بِالْإِقَامَةِ بَينهمَا» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد سلف فِي الْبَاب من حَدِيث أُسَامَة، لَكِن فِيهِ «أَنه أَقَامَ» وَلم أر فِيهِ الْأَمر بهَا، وَهُوَ كَاف فِي الدّلَالَة؛ لِأَن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهِ عَلَى أَن الْفَصْل الْيَسِير لَا يُؤثر بَين صَلَاتي الْجمع.
الحَدِيث (الْحَادِي) عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَشْهُور أَنه لَا جمع بِالْمرضِ وَالْخَوْف والوصل؛ إِذْ لم ينْقل أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جمع بِهَذِهِ الْأَشْيَاء مَعَ حدوثها فِي عصره.(4/579)
وَقَالَ بعد: رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جمع بِالْمَدِينَةِ من غير خوف وَلَا سفر وَلَا (مطر) » .
هَذَا الحَدِيث قد سلف الْكَلَام عَلَيْهِ قَرِيبا وَلم يُوجد هَكَذَا مجموعًا فِي رِوَايَة، وَإِنَّمَا هُوَ حَاصِل فِي رِوَايَتَيْنِ كَمَا أسلفته لَك، وَأغْرب (الْحَمَوِيّ) شَارِح «الْوَسِيط» فَعَزاهُ (بِهَذَا اللَّفْظ) إِلَى أبي دَاوُد وَلَيْسَ مجموعًا فِيهِ كَذَلِك.
خَاتِمَة: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلم يرد نقل عَن (رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) أَنه جمع بَين الصُّبْح وَغَيرهَا وَلَا بَين الْعَصْر وَالْمغْرب، و (هُوَ) كَمَا قَالَ، فَمن سبر الْأَحَادِيث جزم بذلك وَلم يتَرَدَّد.(4/580)
كتاب الْجُمُعَة(4/581)
كتاب الْجُمُعَة
ذكر فِيهِ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فأحد وَسِتُّونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ترك (ثَلَاث جمع) تهاونًا طبع الله عَلَى قلبه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار فِي مسنديهما، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» (من) رِوَايَة أبي الْجَعْد الضمرِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لفظ روايتهم إِلَّا التِّرْمِذِيّ فَإِن لَفظه: «من ترك الْجُمُعَة ثَلَاث مَرَّات تهاونًا طبع الله عَلَى قلبه» (وَإِلَّا) إِحْدَى روايتي ابْن حبَان فَإِن لَفظه فِيهَا: «من ترك الْجُمُعَة ثَلَاثًا من غير عذر فَهُوَ مُنَافِق» وَإِلَّا الإِمَام أَحْمد فَإِن لَفظه: «من ترك ثَلَاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الله عَلَى قلبه» وَإِلَّا الْبَزَّار فَإِن لَفظه: «من ترك الْجُمُعَة ثَلَاثًا من غير عذر طبع الله عَلَى قلبه» .(4/583)
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» .
فَائِدَة مهمة: اخْتلف فِي اسْم أبي الْجَعْد الضمرِي عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: عَمْرو بن بكر. ثَانِيهَا: أدرع. ثَالِثهَا: جُنَادَة (حكاهن) الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصر السّنَن» والمزي فِي «أَطْرَافه» ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : سَأَلت مُحَمَّدًا - يَعْنِي البُخَارِيّ - عَن اسْم أبي الْجَعْد الضمرِي فَلم يعرفهُ، وَقَالَ: لَا أعرف لَهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا هَذَا الحَدِيث. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَلَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو.
وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» فِي تَرْجَمَة من لَا يعرف اسْمه، وَتبع فِي ذَلِك (ابْن) أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ.
قلت: وَقَول البُخَارِيّ: لَا أعرف لَهُ إِلَّا هَذَا الحَدِيث. قد ذكر الْبَزَّار فِي «مُسْنده» لَهُ حديثًَا آخر وَهُوَ: «لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى (ثَلَاثَة) مَسَاجِد ... » الحَدِيث ثمَّ قَالَ: لَا نعلم رَوَى أَبُو الْجَعْد عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا هذَيْن الْحَدِيثين.
فَائِدَة ثَانِيَة: أَبُو الْجَعْد فِي الصَّحَابَة ثَلَاثَة هَذَا أحدهم. وثانيهم: أَفْلح أَخُو أبي القعيس عَم عَائِشَة. وثالثهم: الْغَطَفَانِي الْأَشْجَعِيّ وَالِد سَالم بن أبي الْجَعْد اسْمه رَافع مولَى الأشجع.(4/584)
(ثمَّ) هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق أُخْرَى:
أَحدهَا: عَن صَفْوَان بن سليم، قَالَ مَالك: لَا أَدْرِي أعن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أم لَا، أَنه قَالَ: «من ترك الْجُمُعَة ثَلَاث مَرَّات من غير عذر وَلَا عِلّة طبع الله عَلَى قلبه» رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن صَفْوَان هَكَذَا.
ثَانِيهَا: عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من ترك الْجُمُعَة ثَلَاثًا من غير ضَرُورَة طبع الله عَلَى قلبه» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي آخر كتاب الصَّلَاة، وَالْحَاكِم فِي آخر هَذَا الْبَاب من «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث شَاهد لحَدِيث أبي الْجَعْد الضمرِي. قَالَ: وَله شَاهد من حَدِيث مُحَمَّد بن عجلَان صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَلا هَل عَسى أحدكُم أَن يتَّخذ الصُّبَّة من الْغنم عَلَى رَأس ميل أَو ميلين، فيتعذر عَلَيْهِ الْكلأ (عَلَى) رَأس ميل أَو (ميلين) فيرتفع حَتَّى تَجِيء الْجُمُعَة فَلَا يشهدها ثمَّ يطبع (الله) عَلَى قلبه» .(4/585)
قلت: وَفِي إِسْنَاد هَذَا معدي بن سُلَيْمَان وَلم يخرج لَهُ مُسلم، وَإِنَّمَا أخرج لَهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وَقَالَ ابْن حبَان: إِنَّه كَانَ يروي المقلوبات عَن الثِّقَات والملزقات عَن الْأَثْبَات، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا انْفَرد. وَقَالَ عبد الْحق: لين الحَدِيث.
فَائِدَة: اخْتلف الْحفاظ أَيّمَا أصح: حَدِيث جَابر هَذَا (أَو) حَدِيث أبي الْجَعْد السالف، فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : إِنَّه أشبه من حَدِيث جَابر. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِن حَدِيث جَابر أصح.
فَائِدَة (ثَانِيَة) : الصُّبة - بِضَم الصَّاد -: الْقطعَة من الْمعز وَالْإِبِل. قَالَه ابْن الْأَثِير فِي «جَامعه» وَقَالَ عبد الْحق: هِيَ الْقطعَة من الْخَيل وَالْإِبِل.
(الطَّرِيق الثَّالِث) : عَن أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من ترك الْجُمُعَة ثَلَاث مَرَّات من غير ضَرُورَة طبع الله عَلَى قلبه» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» (عَن) أبي سعيد، نَا عبد الْعَزِيز(4/586)
بن مُحَمَّد، عَن (أسيد) [عَن عبد الله بن] أبي قَتَادَة، عَن أَبِيه (بِهِ) سَوَاء.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (آخر) تَفْسِير سُورَة الْجُمُعَة من «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عبد الله بن أبي قَتَادَة، عَن أَبِيه (بِهِ) سَوَاء. ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَفِيمَا قَالَه نظر؛ فَإِن فِي إِسْنَاده يَعْقُوب بن مُحَمَّد الزُّهْرِيّ وَهُوَ واه.
(الطَّرِيق الرَّابِع) : عَن أبي عبس عبد الرَّحْمَن بن جَابر (الْحَارِثِيّ) البدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من ترك الْجُمُعَة ثَلَاث مَرَّات تهاونًا طبع الله عَلَى قلبه» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» من حَدِيث عبد الله بن أَحْمد حَدثنِي (أبي) ، (نَا) الْوَلِيد بن مُسلم قَالَ: سَمِعت يزِيد بن أبي مَرْيَم، عَن عَبَايَة بن رَافع عَنهُ بِهِ، (وَهَذَا) إِسْنَاد جيد.(4/587)
(الطَّرِيق الْخَامِس) : عَن (ابْن) أبي أوفي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من سمع النداء يَوْم الْجُمُعَة وَلم يأتها ثمَّ سمع النداء وَلم يأتها (ثَلَاثًا) طبع الله عَلَى قلبه فَجعل (قلبه قلب) مُنَافِق» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث (ابْن) إِسْحَاق، عَن شُعْبَة، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن سعد بن زُرَارَة، عَن ابْن أبي أَوْفَى بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَرَوَاهُ القَاضِي أَبُو بكر أَحْمد بن عَلّي الْمروزِي فِي كتاب الْجُمُعَة (و) فَضلهَا. من حَدِيث يَحْيَى بن سعيد، عَن شُعْبَة، عَن مُحَمَّد الْمَذْكُور، عَن عَمه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من ترك الْجُمُعَة ثَلَاثًا طبع الله عَلَى قلبه، وَجعل قلبه قلب مُنَافِق» .
(الطَّرِيق السَّادِس) :
عَن أُسَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من ترك ثَلَاث جمعات من غير عذر كتب من الْمُنَافِقين» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا وَفِيه مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي وَفِيه(4/588)
مقَال، ضعفه أَحْمد و (وَثَّقَهُ) ابْن معِين وَغَيره.
(الطَّرِيق السَّابِع) : عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من ترك ثَلَاث جمع من غير (عِلّة) - أَو قَالَ: عذر - طبع الله عَلَى قلبه» .
ذكره ابْن السكن فِي صحاحه.
(الطَّرِيق الثَّامِن) : عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَفعه: «من ترك ثَلَاث جمع - وَلَاء من غير عِلّة (طبع) عَلَى قلبه: مُنَافِق» .
سُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» فَقَالَ: إِنَّه وهم، وَالصَّحِيح حَدِيث أبي الْجَعْد الضمرِي.
وَفِي «الْإِقْنَاع» لِابْنِ الْمُنْذر: ثَبت أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ترك الْجُمُعَة ثَلَاثًا من غير ضَرُورَة طبع (عَلَى) قلبه: (مُنَافِق) » .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَة بعد الزَّوَال» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَلَفظه: «أَن(4/589)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَة حِين تميل الشَّمْس» .
وَلم يخرج مُسلم عَن أنس فِي وَقت صَلَاة الْجُمُعَة شَيْئا.
وَفِي «الْمُسْتَدْرك» عَن الزبير بن الْعَوام قَالَ: «كُنَّا نصلي الْجُمُعَة مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَكُنَّا) نَبْتَدِر الْفَيْء فَمَا يكون إِلَّا قدر قدم أَو قدمين» قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ إِنَّمَا خرج البُخَارِيّ حَدِيث أنس بِغَيْر هَذَا (اللَّفْظ) .
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف بَيَانه فِي بَاب الْأَذَان وَغَيره.
الحَدِيث الرَّابِع
أَن الْجُمُعَة لم تقم فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا فِي عهد الْخُلَفَاء (الرَّاشِدين) إِلَّا فِي مَوضِع الْإِقَامَة.
هَذَا (حَدِيث) صَحِيح مَشْهُور، وَمن تتبع الْأَحَادِيث وجد من ذَلِك عددا كثيرا، وَمن ذَلِك حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنه قَالَ: «أول جُمُعَة جمعت بعد جُمُعَة فِي مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي مَسْجِد عبد الْقَيْس بجواثا من الْبَحْرين» رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ، وَفِي(4/590)
رِوَايَة لأبي دَاوُد: «بجواثا قَرْيَة من الْبَحْرين» وَفِي أُخْرَى: «قَرْيَة من قرَى عبد الْقَيْس» .
«جواثا» مَضْمُومَة، يُقَال (بِالْهَمْز) وَتَركه، وَذكر ابْن الْأَثِير أَنَّهَا حصن بِالْبَحْرَيْنِ، وَقَالَ الْبكْرِيّ: مَدِينَة.
وَمن ذَلِك حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «كَانَ النَّاس (ينتابون) الْجُمُعَة من مَنَازِلهمْ وَمن العوالي» .
اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه.
والعوالي: الْقرى الَّتِي بِقرب (من) الْمَدِينَة من جِهَة الشرق وأقربها عَلَى أَرْبَعَة أَمْيَال، وَقيل: ثَلَاثَة. وَقيل: اثْنَان. ذكره الرَّافِعِيّ فِي «شَرحه للمسند» (مقدما) عَلَى قَول من قَالَ: ثَلَاثَة. وأبعدها (عَلَى) ثَمَانِيَة.
وَمن ذَلِك حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن كَعْب الْآتِي فِي الْبَاب قَرِيبا، وَأما (حَدِيث) عليٍّ رَفعه: «لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق إِلَّا فِي مصر» فَلَا يَصح (الِاحْتِجَاج) بِهِ للانقطاع (ولضعف) إِسْنَاده، وَقد ضعفه الإِمَام أَحْمد وَآخَرُونَ.(4/591)
تَنْبِيه: اسْتدلَّ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ (لِلْقَوْلِ) الصَّحِيح بِأَن أهل الْخيام النازلين فِي الصَّحرَاء إِذا اتَّخذُوا ذَلِك وطنًا لَا يبرحون (عَنهُ) شتاء وَلَا صيفًا أَن الْجُمُعَة لَا تجب عَلَيْهِم بِأَن (قبائل) الْعَرَب كَانُوا مقيمين حول الْمَدِينَة، وَمَا كَانُوا يصلونَ الْجُمُعَة، وَلَا أَمرهم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (بهَا) فَإِن اعْترض معترض عَلَى الرَّافِعِيّ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال بِأَن التِّرْمِذِيّ رَوَى فِي «جَامعه» عَن رجل من أهل قبَاء، عَن أَبِيه - وَكَانَ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أمرنَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نشْهد الْجُمُعَة من قبَاء» وَرَوَى أَيْضا فِي «جَامعه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْجُمُعَة عَلَى من آواه اللَّيْل إِلَى أَهله» .
فيجاب (عَنهُ) : بِأَنَّهُ اعْترض بحديثين غير صَحِيحَيْنِ.
أما الأول: فالرجل من أهل قبَاء مَجْهُول. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث (غَرِيب) لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَلَا يَصح فِي (هَذَا) الْبَاب عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْء.
وَأما الثَّانِي: فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ تفرد بِهِ معارك عَن عبد الله بن سعيد، وَالْأول مَجْهُول.(4/592)
قلت: (لَا بل) ضَعِيف فَإِنَّهُ قد رَوَى عَنهُ ثَمَانِيَة. وَالثَّانِي مُنكر الحَدِيث مَتْرُوك. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث إِسْنَاده ضَعِيف، إِنَّمَا يرْوَى من حَدِيث معارك بن عباد، عَن عبد الله بن سعيد المَقْبُري، وَضعف يَحْيَى (عبد الله بن سعيد المَقْبُري) .
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد لِأَحْمَد بن الْحسن لما أورد لَهُ هَذَا الحَدِيث: اسْتغْفر رَبك، اسْتغْفر رَبك.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَإِنَّمَا فعل بِهِ أَحْمد هَذَا؛ لِأَنَّهُ لم يعد هَذَا الحَدِيث شَيْئا، وَضَعفه لحَال إِسْنَاده، وَقَالَ البُخَارِيّ: لم يَصح حَدِيثه.
قلت: وَله شَاهد من حَدِيث مُحَمَّد بن جَابر، عَن أَيُّوب، عَن أبي (قلَابَة) قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْجُمُعَة عَلَى من آواه اللَّيْل» رَوَاهُ لوين عَن مُحَمَّد بن جَابر (و) قَالَ: سَمِعت رجلا يذكرهُ (لحماد) بن زيد فتعجب مِنْهُ وَسكت (فَلم) يقل شَيْئا.(4/593)
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالْخُلَفَاء بعده لم يقيموا الْجُمُعَة إِلَّا فِي مَوضِع وَاحِد مَعَ أَنهم أَقَامُوا الْعِيد فِي الصَّحرَاء والبلد للضعفة.
هُوَ كَمَا قَالَ وَمن سبر الْأَحَادِيث وجدهَا كَذَلِك وَقرب من التَّوَاتُر، وَعبارَة (الشَّافِعِي) - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقد كَانَت (مَسَاجِد) عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يَكُونُوا يجمعوا إِلَّا فِي (مَسْجِد، فَإِذا كَانَ فِي الْمصر مَسَاجِد أَحْبَبْت أَن تكون الْجُمُعَة فِي) مَسْجِدهَا الْأَعْظَم.
الحَدِيث السَّادِس
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «مَضَت السّنة أَن (فِي) كل أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقهَا جُمُعَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن، عَن خصيف، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: «مَضَت السّنة أَن فِي كل ثَلَاثَة(4/594)
(إِمَامًا) وَفِي كل أَرْبَعِينَ فَمَا فَوق ذَلِك جُمُعَة وأضحى وَفطر، وَذَلِكَ أَنهم جمَاعَة» .
وَهَذَا ضَعِيف لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ؛ فَإِن عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن ضَعِيف. قَالَ أَحْمد: اضْرِب عَلَى أَحَادِيثه فَإِنَّهَا كذب أَو مَوْضُوعَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ: هُوَ لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ.
وخصيف هَذَا هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن الْجَزرِي، وَهُوَ مقارب الْأَمر، ضعفه أَحْمد وَغَيره، وَقَالَ ابْن معِين: صَالح. وَلم يعله الْبَيْهَقِيّ (بِهِ) وَإِنَّمَا أعله بِالْأولِ فَقَالَ فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث لَا يحْتَج بِمثلِهِ، تفرد بِهِ عبد الْعَزِيز هَذَا وَهُوَ ضَعِيف. وَقَالَ فِي «خلافياته» : هَذَا الحَدِيث لَا أرَاهُ يَصح، فَإِنَّهُ لم يَأْتِ بِهِ غير عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن شيخ من أهل بالس يُضعفهُ أَصْحَاب الحَدِيث. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» : هَذَا حَدِيث ضَعِيف لَا يَنْبَغِي أَن يحْتَج بِهِ.
الحَدِيث السَّابِع
عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا (اجْتمع أَرْبَعُونَ) رجلا فَعَلَيْهِم الْجُمُعَة» .(4/595)
هَذَا الحَدِيث غَرِيب، لم أر من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، ولغرابته عزاهُ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب إِلَى صَاحب «التَّتِمَّة» فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث أوردهُ فِي «التَّتِمَّة» .
الحَدِيث الثَّامِن
عَن أبي أُمَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا جُمُعَة إِلَّا بِأَرْبَعِينَ» .
هَذَا الحَدِيث لَا يحضرني من خرجه من هَذَا الْوَجْه هَكَذَا، وَكَأن الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ استغربه؛ (فَإِنَّهُ) قَالَ: وَذكر القَاضِي ابْن (كجُ) أَن [الحناطي] رَوَى عَن أبي أُمَامَة ... فَذكره.
قلت: وَالَّذِي يحضرنا من طَرِيق أبي أُمَامَة لَا يُوَافق مَذْهَبنَا؛ (فَإِن) الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ - (فِي «خلافياته» أَيْضا) - رويا عَنهُ مَرْفُوعا: «عَلَى خمسين جُمُعَة، لَيْسَ فِيمَا دون ذَلِك» وَفِي لفظ: «الْجُمُعَة عَلَى الْخمسين وَلَيْسَ عَلَى (من) دون الْخمسين جُمُعَة» .
ثمَّ هُوَ مَعَ ذَلِك ضَعِيف، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح إِسْنَاده. و (قَالَ) فِي «خلافيلاته» : تفرد بِهِ جَعْفَر بن الزبير، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث. وَأعله عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِجَعْفَر أَيْضا وَقَالَ:(4/596)
إِنَّه مَتْرُوك. وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان فَقَالَ: لَو كَانَ جَعْفَر بن الزبير ثِقَة مَا صَحَّ هَذَا الحَدِيث من أجل غَيره من رُوَاته وهم جمَاعَة أَوَّلهمْ: الْقَاسِم الرَّاوِي عَن أبي أُمَامَة وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، لَكِن عبد الْحق يوثقه ويصحح حَدِيثه - كَمَا فعل التِّرْمِذِيّ - فَلَا يُؤَاخذ بِهِ.
الثَّانِي: هياج بن بسطَام فَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث لَيْسَ بِشَيْء. قَالَه يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ.
الثَّالِث: (أَن) خَالِد بن هياج لَا أعرفهُ فِي شَيْء من كتب الرِّجَال مَذْكُورا بِذكر يَخُصُّهُ، لَكِن ابْن أبي حَاتِم ذكره فِي أثْنَاء تَرْجَمَة، وَذكره ذكرا يمسهُ.
الرَّابِع: النقاش الْمُفَسّر وَهُوَ ضَعِيف، قَالَ طَلْحَة بن مُحَمَّد: كَانَ (يكذب) فِي الحَدِيث. قَالَ البرقاني: كل حَدِيثه مُنكر.
قَالَ ابْن الْقطَّان: فقد علم أَن تَضْعِيف الحَدِيث بِسَبَب جَعْفَر بن الزبير ظلم؛ إِذْ فَوْقه وَتَحْته من لَعَلَّ الْجِنَايَة مِنْهُ.
وَاعْلَم أَنه ورد إِقَامَة الْجُمُعَة فِيمَا دون ذَلِك، فَفِي الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أم عبد الله الدوسية رفعته: «الْجُمُعَة وَاجِبَة عَلَى كل قَرْيَة فِيهَا إِمَام وَإِن لم (يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَة» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «الْجُمُعَة وَاجِبَة عَلَى كل قَرْيَة وَإِن لم) يَكُونُوا إِلَّا ثَلَاثَة رابعهم إمَامهمْ»(4/597)
و (فِي) رِوَايَة لِابْنِ عدي (بعد) : «وَإِن لم يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَة» حَتَّى ذكر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (ثَلَاثَة) لكنه حَدِيث ضَعِيف، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يَصح هَذَا عَن الزُّهْرِيّ، كل من (رَوَاهُ) عَنهُ مَتْرُوك، وَالزهْرِيّ لَا يَصح سَمَاعه من الدوسية. وَقَالَ (عبد الْحق) فِي «أَحْكَامه» : لَا يَصح فِي عدد الْجُمُعَة شَيْء.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جمع الْمَدِينَة وَلم يجمع بِأَقَلّ من أَرْبَعِينَ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «جَمعنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَنحن أَرْبَعُونَ رجلا» وَفِي رِوَايَة «نَحْو (من) أَرْبَعِينَ» .
وَقَالَ الْمزي - فِيمَا نَقله عَنهُ بعض شُيُوخنَا -: لَا يَصح عِنْد أَصْحَاب الحَدِيث مَا احْتج بِهِ الشَّافِعِي (من) «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حِين قدم الْمَدِينَة (جمع) أَرْبَعِينَ رجلا» لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قدم الْمَدِينَة (وَقد) تكاثر الْمُسلمُونَ (وتوافروا) فَيجوز أَن يكون جمع فِي(4/598)
مَوضِع نُزُوله قبل دُخُوله الْمَدِينَة فاتفق لَهُ أَرْبَعُونَ نفسا.
قلت: وَفِي سنَن أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ و (فِي) «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» و «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك «أَن أَبَاهُ كَانَ إِذا سمع النداء يَوْم الْجُمُعَة ترحم لأسعد بن زُرَارَة (قَالَ) : فَقلت لَهُ: يَا أبتاه، رَأَيْت استغفارك لأسعد (بن زُرَارَة) كلما سَمِعت الْأَذَان للْجُمُعَة مَا هُوَ؟ (قَالَ) : لِأَنَّهُ أول من جمع بِنَا فِي نَقِيع يُقَال لَهُ: نَقِيع (الْخضمات) من حرَّة بني بياضة. قَالَ: (كم) كُنْتُم يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رجلا» وَهُوَ (من) رِوَايَة ابْن إِسْحَاق وَهُوَ مُدَلّس، وَقد قَالَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد (عَن) لَكِن فِي أَكثر رِوَايَات الْبَيْهَقِيّ قَالَ: حَدثنِي. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَاكِم وَابْن حبَان وَالدَّارَقُطْنِيّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» و «سنَنه» : وَمُحَمّد بن إِسْحَاق إِذا(4/599)
ذكر سَمَاعه وَكَانَ الرَّاوِي عَنهُ ثِقَة استقام الْإِسْنَاد، وَقَالَ فِي «سنَنه» : و (هَذَا) حَدِيث حسن الْإِسْنَاد صَحِيح. وَقَالَ فِي «خلافياته» : رُوَاته كلهم ثِقَات.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم - أَي فِي ابْن إِسْحَاق - لَكِن أخرج لَهُ مُتَابعَة لَا (اسْتِقْلَالا) .
قلت: وَوجه الدّلَالَة من الحَدِيث أَن يُقَال: أَجمعت الْأمة عَلَى اشْتِرَاط عدد وَالْأَصْل الظّهْر، فَلَا تصح الْجُمُعَة إِلَّا بِعَدَد ثَبت فِيهِ التَّوْقِيف وَقد ثَبت جَوَازهَا بِأَرْبَعِينَ، فَلَا يجوز أقل مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيل صَرِيح، وَثَبت أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
فَائِدَة: النقيع الْمَذْكُور فِي حَدِيث كَعْب بالنُّون، كَذَا قَيده الْخطابِيّ والحازمي وَغَيرهمَا، وَقد يصحف فَيُقَال بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَعَن أَحْمد بن (أبي) بكر الْبَنْدَنِيجِيّ (أَن الأبقعة) ثَلَاثَة: بَقِيع الْغَرْقَد وَهُوَ الْمقْبرَة، وَكَانَ قبل ذَلِك ينْبت (بِهِ) نبت يُسمى الْغَرْقَد، وبقيع الْمُصَلى وبقيع الْخضمات، وَكلهَا بِالْمَدِينَةِ، والنقيع - بالنُّون - وَاحِد وَهُوَ الَّذِي حماه لخيله وَهُوَ غَرِيب فِي الثَّانِي (فَإِن) الْمَعْرُوف أَنه بالنُّون.(4/600)
وَرَأَيْت فِي «السّنَن الصِّحَاح» لأبي عَلّي بن السكن الْحَافِظ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى الضُّحَى (بنقيع) الزبير ثَمَان رَكْعَات، وَقَالَ: إِنَّهَا صَلَاة رَغْبَة وَرَهْبَة» وَهُوَ مضبوط ضبط الْكَاتِب بالنُّون، وأصل النقيع - بالنُّون - بطن من الأَرْض (يستنقع) فِيهِ المَاء مُدَّة، فَإِذا نضب المَاء (نبت) الْكلأ.
«و (الْخضمات) » بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد المعجمتين: مَوضِع مَعْرُوف، قَالَ الْبكْرِيّ فِي «أماكنه» : كَأَنَّهُ جمع خضمة. قَالَ الإِمَام أَحْمد: هُوَ قَرْيَة لبني بياضة بِقرب الْمَدِينَة عَلَى ميل من (منَازِل) بني سَلمَة، وَكَذَا هُوَ فِي «المعالم» للخطابي أَيْضا أَنه قَرْيَة عَلَى ميل من الْمَدِينَة « (وحرة) بني بياضة» قَرْيَة عَلَى ميل من الْمَدِينَة.
وبياضة: بطن من الْأَنْصَار.
الحَدِيث الْعَاشِر
«أَن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم انْفَضُّوا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يبْق مِنْهُم إِلَّا اثْنَا عشر رجلا وَفِيهِمْ نزلت (وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا» ) .(4/601)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته (أودعهُ) الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخْطب (قَائِما) يَوْم الْجُمُعَة (فَجَاءَت) عير من الشَّام، فَانْفَتَلَ النَّاس إِلَيْهَا حَتَّى لم يبْق إِلَّا اثْنَا عشر رجلا، فأنزلت هَذِه الْآيَة الَّتِي فِي الْجُمُعَة (وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِما) » . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «إِلَّا اثْنَا عشر رجلا فيهم أَبُو بكر وَعمر» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنا فيهم» وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «بَيْنَمَا نَحن نصلي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذْ أَقبلت عير تحمل طَعَاما ... » (الحَدِيث) وَفِي «الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ» لعبد الْحق: أَن البُخَارِيّ لم يذكر «عير تحمل (طَعَاما) » كَذَا رَأَيْته فِيهِ وَهُوَ غَرِيب؛ فَهُوَ ثَابت فِيهِ وَمِنْه (نقلت) .
تَنْبِيهَانِ:
الأول: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْأَشْبَه أَن يكون الصَّحِيح رِوَايَة من رَوَى أَن ذَلِك كَانَ فِي الْخطْبَة وَيكون قَوْله: «نصلي مَعَه» المُرَاد بِهِ الْخطْبَة وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث كَعْب بن عجْرَة «أَنه (دخل) الْمَسْجِد وَعبد الرَّحْمَن بن أم الحكم يخْطب قَاعِدا فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبيث يخْطب قَاعِدا،(4/602)
(وَقد) قَالَ الله - تَعَالَى -: (وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِما» ) .
رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ.
الثَّانِي: رَوَى الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» تَسْمِيَة من لم ينفض مَعَه من حَدِيث جَابر فِي قَوْله تَعَالَى: (وَإِذا رَأَوْا) الْآيَة قَالَ: «قدمت عير الْمَدِينَة تحمل طَعَاما فِي يَوْم جُمُعَة وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الصَّلَاة، فَخَرجُوا إِلَيْهَا وَانْصَرفُوا حَتَّى لم يبْق مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا اثْنَا عشر رجلا (فَأنْزل) الله فيهم هَذِه الْآيَة فنهوا عَن ذَلِك، وَكَانَ (البَاقِينَ) : أَبُو بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَعلي، وَطَلْحَة وَالزبير، وَسعد بن أبي وَقاص، وَسَعِيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل [وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف] وبلال، وَابْن مَسْعُود، وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح - أَو عمار بن يَاسر» . الشَّك من أَسد بن (عَمْرو) البَجلِيّ الْكُوفِي أحد رُوَاته؛ (فَإِنَّهُ) قَالَ الْعقيلِيّ: هَكَذَا (حدث) أَسد بِهَذَا الحَدِيث، وَلم(4/603)
يبين هَذَا التَّفْسِير مِمَّن هُوَ، وَجعله (مدمجًا) فِي الحَدِيث. قَالَ: وَقد رَوَاهُ هشيم بن بشير وخَالِد بن عبد الله عَن (الَّذِي رَوَاهُ (عَنهُ) أَسد) وَلم يذكر هَذَا التَّفْسِير كُله. قَالَ: وَهَؤُلَاء (قوم) يتهاونون بِالْحَدِيثِ وَلَا يقومُونَ بِهِ و (يصلونه) بِمَا لَيْسَ فِيهِ فتفسد الرِّوَايَة. قَالَ: وَقد جَاءَ فِي بعض رواياته «أَنه لم يبْق فيهم إِلَّا ثَمَانِيَة نفر» .
وَفِي «صَحِيح أبي عوَانَة» عَن جَابر أَنه قَالَ عَن نَفسه: «أَنا كنت مِنْهُم - أَي من الاثْنَي عشر» وَفِي رِوَايَة للدارقطني وَالْبَيْهَقِيّ عَن جَابر أَيْضا «أَنهم انْفَضُّوا حَتَّى لم يبْق إِلَّا أَرْبَعُونَ رجلا» وَقَالا: لم يقل «أَرْبَعُونَ» إِلَّا عَلّي بن عَاصِم عَن حُصَيْن، وَخَالفهُ أَصْحَاب حُصَيْن (فَقَالُوا) «اثْنَا عشر» .
قلت: وَعلي مَتْرُوك، قَالَه النَّسَائِيّ. وَقَالَ يزِيد بن هَارُون: (مَا زلنا) نعرفه بِالْكَذِبِ. وَكَانَ أَحْمد سيئ الرَّأْي فِيهِ. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ(4/604)
بِشَيْء. وَقَالَ ابْن عدي: الضعْف عَلَى حَدِيثه بَين.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة (فليضف) إِلَيْهَا أُخْرَى» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي آخر بَاب صَلَاة الْجَمَاعَة، فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة فقد أدْركهَا، وَمن أدْرك دون الرَّكْعَة صلاهَا ظهرا أَرْبعا» .
هَذَا الحَدِيث تقدم فِي (الْموضع) الْمشَار إِلَيْهِ أَعْلَاهُ أَيْضا، فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أحرم بِالنَّاسِ، ثمَّ ذكر أَنه جنب، فَذهب واغتسل وَلم (يسْتَخْلف) » .
(هَذَا) الحَدِيث سلف بَيَانه أَيْضا فِي الْبَاب الْمَذْكُور.(4/605)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَدخل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَجلسَ إِلَى جنبه، فاقتدى بِهِ أَبُو بكر وَالنَّاس» .
هَذَا (الحَدِيث) سلف بَيَانه أَيْضا فِي أثْنَاء الْبَاب الْمَذْكُور.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ، فَإِذا ركع فاركعوا، وَإِذا سجد فاسجدوا» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الْبَاب الْمَذْكُور أَيْضا.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم (يصل) الْجُمُعَة إِلَّا بخطبتين» .
هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخْطب خطبتين يقْعد بَينهمَا» وَفِي رِوَايَة لَهما: «كَانَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة قَائِما ثمَّ يجلس ثمَّ يقوم، (قَالَ) : كَمَا يَفْعَلُونَ الْيَوْم» .(4/606)
وَفِي رِوَايَة للنسائي: «كَانَ يخْطب الْخطْبَتَيْنِ قَائِما، وَكَانَ يفصل بَينهمَا بجلوس» .
وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَت للنَّبِي (خطبتان يجلس بَينهمَا يقْرَأ الْقُرْآن وَيذكر النَّاس» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يخْطب ثمَّ يجلس، ثمَّ يقوم فيخطب قَائِما، فَمن (نبأك) أَنه كَانَ يخْطب جَالِسا فقد كذب، فقد - وَالله - صليت مَعَه أَكثر من ألفي صَلَاة» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح « (يخْطب) قَائِما ثمَّ يقْعد قعدة لَا يتَكَلَّم» .
قَوْله: «صليت مَعَه أَكثر من ألفي صَلَاة» (يَعْنِي: ألفي صَلَاة) غير الْجُمُعَة، وَلَا بُد من هَذَا التَّأْوِيل؛ لِأَن هَذَا الْعدَد إِنَّمَا يتم فِي نَحْو من أَرْبَعِينَ سنة، (وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) إِنَّمَا صَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَة بِالْمَدِينَةِ، لَا سِيمَا وَجَابِر بن سَمُرَة مدنِي وَمُدَّة مقَامه بِالْمَدِينَةِ عشر سِنِين وَلَا يكون فِيهَا إِلَّا خَمْسمِائَة صَلَاة.(4/607)
الحَدِيث السَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف مَرَّات مِنْهَا فِي الْبَاب.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
«أَنه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام خطب يَوْم الْجُمُعَة فَحَمدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (قَالَ) : «كَانَت خطْبَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم الْجُمُعَة يحمد الله ويثني عَلَيْهِ، ثمَّ يَقُول عَلَى إِثْر ذَلِك وَقد علا صَوته وَاشْتَدَّ غَضَبه كَأَنَّهُ مُنْذر جَيش يَقُول: صبحكم ومساكم. وَيَقُول: بعثت أَنا والساعة كهاتين. ويقرن بَين أصبعيه السبابَة وَالْوُسْطَى، وَيَقُول: أما بعد، فَإِن خير الحَدِيث كتاب الله، وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد، وَشر الْأُمُور محدثاتها، وكل بِدعَة ضَلَالَة. ثمَّ يَقُول: أَنا أولَى بِكُل مُؤمن من نَفسه، وَمن ترك مَالا فلورثته وَمن ترك دَينًا أَو ضيَاعًا فإليَّ وعليَّ» .
وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «كَانَ إِذا خطب احْمَرَّتْ عَيناهُ وَعلا صَوته وَاشْتَدَّ غَضَبه ... » الحَدِيث.
وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «وَكَانَ يحمد الله ويثني عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهله ثمَّ(4/608)
يَقُول: من (يهده) الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ» .
وَقد تَكَلَّمت عَلَى أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب (فَليُرَاجع) مِنْهُ.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يواظب عَلَى الْوَصِيَّة بالتقوى فِي خطبَته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَقد (أسلفناه لَك) من حَدِيث جَابر كَمَا ترَاهُ.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقْرَأ آيَات وَيذكر الله تَعَالَى» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد أسلفت لَك قَرِيبا من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة بِلَفْظ «يقْرَأ الْقُرْآن» وَفِي سنَن أبي دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح، عَن سماك، عَن جَابر بن سَمُرَة قَالَ: «كَانَت صَلَاة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قصدا) وخطبته (قصدا) يقْرَأ آيَات من الْقُرْآن وَيذكر النَّاس» .(4/609)
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث يعْلى بن أُميَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يقْرَأ عَلَى الْمِنْبَر) (وَنَادَوْا يَا مَالك» ) .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَرَأَ فِي الْخطْبَة سُورَة ق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة يَحْيَى بن سعيد، عَن عمْرَة، عَن أُخْت لعمرة (قَالَت) : «أخذت (ق وَالْقُرْآن الْمجِيد (من (فِِيِّ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي يَوْم جُمُعَة وَهُوَ (يقْرَأ بهَا) عَلَى الْمِنْبَر كل جُمُعَة» .
وَفِيه أَيْضا (عَن يَحْيَى) بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن سعد بن زُرَارَة، عَن أم هِشَام بنت حَارِثَة بن النُّعْمَان الصحابية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (قَالَت) : «مَا أخذت (ق وَالْقُرْآن الْمجِيد (إِلَّا (عَن) لِسَان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرؤهَا كل جُمُعَة عَلَى الْمِنْبَر إِذا خطب النَّاس» .(4/610)
وَهَذَا الحَدِيث مُنْقَطع فِيمَا بَين يَحْيَى وَأم هِشَام، (قَالَه) ابْن الْقطَّان، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «الِاسْتِيعَاب» : لم يسمع يَحْيَى (بن) عبد الله من أم هِشَام بَينهمَا عبد الرَّحْمَن بن (سعد) .
وَالطَّرِيق الأولَى (الَّتِي) قدمناها مُتَّصِلَة بِلَا شكّ.
فَائِدَتَانِ:
الأولَى: (هَذَا الحَدِيث وَقد عرفت) أَنه فِي صَحِيح مُسلم وَهُوَ من أَفْرَاده، بل لم يخرج البُخَارِيّ عَن أم هِشَام شَيْئا، وَأغْرب الْحَاكِم فاستدركه وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
(الثَّانِيَة: وَقع فِي مُسلم) وَأبي دَاوُد هَذَا الحَدِيث من حَدِيث عمْرَة عَن أُخْتهَا، وَهُوَ وهم (فَإِنَّهُ لم يكن لعمرة بنت عبد الرَّحْمَن أُخْت من أَبَوَيْهَا وَلَا من أَحدهمَا لَهَا صُحْبَة) وَإِنَّمَا الصُّحْبَة لعمرة بنت حَارِثَة أُخْت (أم) هِشَام (بنت) حَارِثَة، فَلَعَلَّ الْوَهم (أَتَى) من قِبَلِ الِاشْتِرَاك فِي الِاسْم.(4/611)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا مجودًا من حَدِيث عمْرَة، عَن أم هِشَام. وَوهم مُسلم - (أَو) غَيره - حَيْثُ رَوَاهُ مرّة عَن عمْرَة عَن أُخْت لعمرة بنت عبد الرَّحْمَن كَانَت أكبر مِنْهَا.
وَيُمكن تَأْوِيل قَوْله: عَن أُخْت لعمرة. من (حَيْثُ) أَن الْعَرَب تَقول: الرجل أَخُو مُضر. إِذا كَانَ مِنْهَا عَلَى وَجه الْمجَاز، فعمرة وَأم هِشَام تجتمعان فِي (جدهما) الْأَعْلَى وَهُوَ (عبيد) بن ثَعْلَبَة بن غنم بن مَالك بن (النجار) ، وَلم يذكر مصنفو الْأَطْرَاف مُسْندًا (لأخت) عمْرَة وَهُوَ دَلِيل عَلَى أَنه حَدِيث أم هِشَام، نبه عَلَى ذَلِك (كُله) الْحَافِظ شرف الدَّين الدمياطي.
وَأما الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فَقَالَ: أم هِشَام هِيَ أُخْت عمْرَة لأمها. فَزَالَ الْإِشْكَال.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة بعد الزَّوَال» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا ستقف عَلَيْهِ (فِي الْبَاب) فِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ مِنْهُ - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(4/612)
تَنْبِيه: ذكر الرَّافِعِيّ هُنَا أَنه ثَبت (النَّقْل) بِتَقْدِيم الْخطْبَتَيْنِ عَلَى الصَّلَاة بِخِلَاف صَلَاة (الْعِيد) تُؤخر الْخطْبَتَيْنِ عَلَى الصَّلَاة، وَهُوَ كَمَا قَالَ (فَسَيَأْتِي) فِي كتاب صَلَاة الْعِيدَيْنِ من حَدِيث ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُصَلِّي الْعِيد قبل الْخطْبَة» وَهُوَ حَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، واتفقا أَيْضا عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ كَانَ يخرج يَوْم الْأَضْحَى وَيَوْم الْفطر فَيبْدَأ بِالصَّلَاةِ، فَإِذا صَلَّى صلَاته وَسلم قَامَ فَأقبل عَلَى النَّاس ... » الحَدِيث. (وَفِيهِمَا) أَيْضا من هَذَا الْوَجْه «أَن مَرْوَان خرج فِي يَوْم (عيد) فَبَدَأَ بِالْخطْبَةِ قبل الصَّلَاة فَأنْكر عَلَيْهِ ... » الحَدِيث بِطُولِهِ. وَجَمِيع الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي صَلَاة الْجُمُعَة (قبل الصَّلَاة) مصرحة بِتَقْدِيم الْخطْبَة، فقد ذكرت بَعْضهَا هُنَا وَبَعضهَا فِي الاسْتِسْقَاء، فَتدبر ذَلِك.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمن بعده لم يخطبوا إِلَّا قيَاما» .
أما خطبَته عَلَيْهِ السَّلَام قَائِما فثابت فِي الصَّحِيح فِي (عدَّة أَحَادِيث) مِنْهَا حَدِيث جَابر بن سَمُرَة السالف فِي أثْنَاء الحَدِيث السَّادِس عشر، وَمِنْهَا حَدِيث كَعْب السالف فِي الحَدِيث الْعَاشِر، وَمِنْهَا حَدِيث (جَابر بن عبد(4/613)
الله و (هُوَ) الحَدِيث الْعَاشِر، وَمِنْهَا حَدِيث) ابْن (عمر) فِي الحَدِيث السَّادِس عشر.
وَأما خطْبَة من بعده كَذَلِك فَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن (إِبْرَاهِيم بن) مُحَمَّد قَالَ: حَدثنِي صَالح مولَى التوءمة، عَن أبي هُرَيْرَة «عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأبي بكر وَعمر أَنهم كَانُوا يخطبون يَوْم الْجُمُعَة خطبتين عَلَى الْمِنْبَر قيَاما يفصلون بَينهمَا بِالْجُلُوسِ حَتَّى جلس مُعَاوِيَة فِي الْخطْبَة الأولَى فَخَطب جَالِسا، وخطب فِي الثَّانِيَة (قَائِما) » قَالَ الشَّافِعِي - فِيمَا بلغه - عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن الرُّؤَاسِي، عَن الْحسن بن صَالح، عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: «رَأَيْت عليًّا يخْطب يَوْم الْجُمُعَة ثمَّ لم يجلس حَتَّى فرغ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ لم يجلس فِي حَال الْخطْبَة خلاف مَا أحدث بعض الْأُمَرَاء من الْجُلُوس (فِيهَا) وَرَوَى فِي «سنَنه» عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: «أول من أحدث الْقعُود عَلَى الْمِنْبَر مُعَاوِيَة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يحْتَمل أَنه إِنَّمَا (قعد) لضعف (أَو) كبر أَو مرض.(4/614)
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
«ثَبت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمن بعده الْجُلُوس بَين الْخطْبَتَيْنِ» .
أما جُلُوسه عَلَيْهِ السَّلَام بَينهمَا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أسلفناه لَك من حَدِيث ابْن عمر، وَمن حَدِيث جَابر بن سَمُرَة أَيْضا، وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث الْحجَّاج، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة قَائِما ثمَّ يقْعد ثمَّ يقوم فيخطب» وَهَذَا (يسْتَأْنس) بِهِ.
وَأما جُلُوس من بعده فقد عَلمته أَيْضا من رِوَايَة الشَّافِعِي (وَهُوَ) ثَابت عَلَى رَأْيه ورأي آخَرين فِي إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد شَيْخه، وَرَوَاهُ أَيْضا بلاغًا عَن عَلّي كَمَا أسلفته لَك أَيْضا، وَرَوَاهُ الإِمَام (الْأَثْرَم) مُرْسلا فَقَالَ: نَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، ثَنَا أَبُو أُسَامَة، نَا مجَالد، عَن الشّعبِيّ قَالَ: «كَانَ رَسُول (إِذا صعد الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة اسْتقْبل النَّاس فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم. ويحمد الله ويثني، وَيقْرَأ سُورَة، ثمَّ يجلس، ثمَّ يقوم فيخطب، ثمَّ ينزل، وَكَانَ أَبُو بكر وَعمر يفعلانه» وَهَذَا مَعَ إرْسَاله؛ فِيهِ مجَالد وَهُوَ لين.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا قلت لصاحبك: أنصت وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة فقد لغوت» .(4/615)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِهَذَا اللَّفْظ قَالَ الرَّافِعِيّ: واللغو: الْإِثْم. قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذين هم عَن اللَّغْو معرضون) .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
«أَن رجلا دخل الْمَسْجِد وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخْطب يَوْم الْجُمُعَة فَقَالَ: مَتى السَّاعَة؟ فَأَوْمأ النَّاس إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ، فَلم يَقْبَل وَأعَاد الْكَلَام، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الثَّالِثَة: مَاذَا أَعدَدْت لَهَا؟ فَقَالَ: حب الله وَرَسُوله. فَقَالَ: (إِنَّك) مَعَ من أَحْبَبْت» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي كتاب الْعلم من «سنَنه» ، وَالْبَيْهَقِيّ هُنَا بِإِسْنَاد صَحِيح.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كلم قتلة ابْن أبي الْحقيق وسألهم عَن كَيْفيَّة قَتله فِي الْخطْبَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن كَعْب «أَن الرَّهْط الَّذين بَعثهمْ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى ابْن أبي(4/616)
الْحقيق بِخَيْبَر ليقتلوه فَقَتَلُوهُ، فقدموا عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ قَائِم عَلَى الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ لَهُم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين رَآهُمْ: أفلحت الْوُجُوه. فَقَالُوا: أَفْلح وَجهك يَا رَسُول الله. قَالَ: أقتلتموه؟ قَالُوا: نعم. فَدَعَا بِالسَّيْفِ الَّذِي قتل بِهِ وَهُوَ قَائِم عَلَى الْمِنْبَر فسلَّه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أجل، هَذَا طَعَامه فِي ذُبَاب (السَّيْف) وَكَانَ الرَّهْط: عبد الله بن عتِيك، وَعبد الله بن أنيس، وأسود بن خزاعي حَلِيف لَهُم، وَأَبُو قَتَادَة - فِيمَا يظنّ الزُّهْرِيّ - وَلَا يحفظ الزُّهْرِيّ الْخَامِس» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا وَإِن كَانَ مُرْسلا فَهُوَ مُرْسل جيد، وَهَذِه قصَّة مَشْهُورَة فِيمَا بَين أَرْبَاب الْمَغَازِي. قَالَ: وَقد رُوِيَ من وَجه آخر عَن الزُّهْرِيّ.
وَرُوِيَ عَن أبي الْأسود (عَن عُرْوَة) بن الزبير (فَذكر) هَذِه الْقِصَّة وَذكر مَعَهم مَسْعُود بن سِنَان. قَالَ: وَقد رُوِيَ من وَجه آخر موصلاً مُخْتَصرا (فَذكره) بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث (ابْن) عبد الله بن أنيس عَن أَبِيه قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى ابْن أبي الْحقيق ... » فَذكره.
وَقَالَ أَبُو نعيم فِي «معرفَة (الصَّحَابَة) » فِي تَرْجَمَة أَوْس بن خولي أَنه كَانَ أحد الرَّهْط الَّذين بَعثهمْ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى ابْن أبي الْحقيق فَقتله.(4/617)
قلت: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْخَامِس الَّذِي لم (يحفظه) الزُّهْرِيّ.
وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث ذكره الْغَزالِيّ فِي «بسيطه» و «وسيطه» عَلَى غير وَجهه فَقَالَ: «سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ابْن أبي الْحقيق عَن كَيْفيَّة الْقَتْل بعد قفوله من الْجِهَاد» وَهُوَ سَهْو فَاحش، وَصَوَابه: «وَسَأَلَ الَّذين قتلوا ابْن أبي الْحقيق» كَمَا مَضَى، وَكَذَا قَالَه الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم وَالظَّاهِر أَنه سقط لفظ قبله.
وَأما إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَذكره أَولا عَلَى غير الصَّوَاب، ثمَّ ذكره ثَانِيًا بعد بِوَرَقَة عَلَى الصَّوَاب، وَأوردهُ بِلَفْظ: «صَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام ... » فَذكره.
وَابْن أبي الحُقيق - بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وقافين بَينهمَا (يَاء) مثناة تَحت سَاكِنة - وَهُوَ أَبُو رَافع الْيَهُودِيّ، كَانَ يُؤْذِي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلذَلِك أرسل إِلَيْهِ جمَاعَة من الصَّحَابَة فَقَتَلُوهُ.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كلم سليكًا الْغَطَفَانِي فِي الْخطْبَة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «دخل رجل يَوْم الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخْطب قَالَ: صليت؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فصل رَكْعَتَيْنِ» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي يَوْم الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ(4/618)
(يخْطب فَجَلَسَ فَقَالَ (لَهُ) : يَا سليك، قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ وَتجوز فيهمَا. ثمَّ قَالَ: إِذا (جَاءَ أحدكُم) يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فليركع رَكْعَتَيْنِ (وليتجوز) فيهمَا» .
وَهَذِه الرِّوَايَة مفسرة للمبهم فِي الرِّوَايَة الأولَى، (وسليك هُوَ ابْن عَمْرو، وَقيل: هدبة) .
وَقد ذكر الرَّافِعِيّ هَذِه الرِّوَايَة فِي أثْنَاء الْبَاب أَيْضا.
وَفِي رِوَايَة لأبي حَاتِم بن حبَان: «اركع رَكْعَتَيْنِ وَلَا (تعودن) لمثل هَذَا. (فركعهما) ثمَّ جلس» قَالَ ابْن حبَان: أَرَادَ بقوله: «لَا (تعودن) لمثل هَذَا» الإبطاء فِي الْمَجِيء (إِلَى) الْجُمُعَة لَا الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَمر بهما، وَالدَّلِيل عَلَى صِحَة هَذَا الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنه أمره فِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة أَن يرْكَع رَكْعَتَيْنِ (مثلهمَا) ثمَّ أورد من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ «أَن رجلا دخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْمِنْبَر، فَدَعَاهُ فَأمره أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ (ثمَّ دخل الْجُمُعَة الثَّانِيَة وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر(4/619)
فَأمره أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) و (فعل) مثل ذَلِك فِي الْجُمُعَة الثَّالِثَة (وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر فَأمره أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) » .
وَفِي رِوَايَة للدارقطني من حَدِيث مُعْتَمر، عَن أَبِيه، عَن قَتَادَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أمسك عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من صلَاته» ثمَّ قَالَ: (أسْندهُ) (عبيد) بن مُحَمَّد وَوهم فِيهِ، وَالصَّوَاب: عَن مُعْتَمر، عَن أَبِيه (مُرْسلا) ، وَقَالَ فِي «علله» : إِنَّه الصَّحِيح.
وَفِي «مُسْند أَحْمد» و «صَحِيح أبي حَاتِم بن حبَان» عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ «أَن رجلا دخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة، فَدَعَاهُ فَأمره أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: تصدقوا. فتصدقوا فَأعْطَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام ثَوْبَيْنِ مِمَّا تصدقوا وَقَالَ: تصدقوا. فَألْقَى هُوَ أحد ثوبيه فكره عَلَيْهِ السَّلَام مَا صنع وَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا دخل الْمَسْجِد بهيئة (بذة) فرجوت أَن (تفطنوا) لَهُ(4/620)
فتصدقوا عَلَيْهِ فَلم تَفعلُوا، فَقلت: تصدقوا، فَأعْطَاهُ (أحدكُم) ثَوْبَيْنِ، ثمَّ قلت: تصدقوا، فَألْقَى أحد ثوبيه، خُذ ثَوْبك. وانتهره» .
وَقَالَ الْأَثْرَم الْحَافِظ (فِي) «ناسخه ومنسوخه» : حَدِيث أبي سعيد هَذَا صَحِيح، وَفِي (رِوَايَته) : «إِنَّمَا أَمرته أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى (تتفطنوا) لَهُ فتصدقوا عَلَيْهِ» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ (كَانَ يخْطب مُسْتَندا إِلَى جذع فِي الْمَسْجِد، ثمَّ صنع لَهُ الْمِنْبَر) (فَكَانَ) يخْطب عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مَرْوِيّ من طرق:
مِنْهَا: حَدِيث سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أرسل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى امْرَأَة من الْأَنْصَار أَن مري غلامك النجار يعْمل لي (أعوادًا) أكلم النَّاس عَلَيْهَا. فَعمل هَذِه الثَّلَاث (دَرَجَات) ، ثمَّ أَمر بهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَوضعت هَذَا الْموضع، وَلَقَد رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ عَلَيْهِ فَكبر وَكبر النَّاس وَرَاءه وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر، ثمَّ رفع فَنزل الْقَهْقَرَى حَتَّى سجد فِي أصل الْمِنْبَر، ثمَّ عَاد حَتَّى فرغ من صلَاته، ثمَّ أقبل عَلَى النَّاس فَقَالَ: يَا أَيهَا(4/621)
النَّاس، إِنَّمَا فعلت هَذَا لتأتموا بِي ولتعلموا صَلَاتي» رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَمِنْهَا حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ جذع يقوم إِلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا وضع لَهُ الْمِنْبَر سمعنَا للجذع مثل أصوات العشار حَتَّى نزل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَوضع يَده عَلَيْهِ» رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد فِي مُسْنده «فَأن الْجذع الَّذِي كَانَ يقوم عَلَيْهِ كَمَا يَئِن الصَّبِي، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: إِن هَذَا بَكَى لما فقد من الذّكر» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فاضطربت تِلْكَ السارية كحنين النَّاقة حَتَّى سَمعهَا أهل الْمَسْجِد حَتَّى نزل إِلَيْهَا فاعتنقها فسكنت» .
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخْطب إِلَى جذع، فَلَمَّا اتخذ الْمِنْبَر تحول إِلَيْهِ، فحنَّ الْجذع فَأَتَاهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فمسحه» . وَفِي رِوَايَة: «الْتَزمهُ» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا، وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ: «فخار الْجذع كَمَا تخور الْبَقَرَة جزعًا عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَالْتَزمهُ ومسحه حَتَّى سكن» .
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخْطب إِلَى جذع قبل أَن يتَّخذ الْمِنْبَر، فَلَمَّا اتخذ الْمِنْبَر وتحول إِلَيْهِ حنَّ إِلَيْهِ، فَأَتَاهُ فَاحْتَضَنَهُ فسكن (ثمَّ) قَالَ: لَو لم (أحتضنه) لحن إِلَى يَوْم(4/622)
الْقِيَامَة» رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن (عَفَّان) ، نَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عمار بن أبي عمار عَنهُ (بِهِ) وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (دَلَائِل النُّبُوَّة) من هَذَا الْوَجْه.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بن كَعْب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي إِلَى جذع إِذْ كَانَ الْمَسْجِد عَرِيشًا، وَكَانَ يخْطب إِلَى ذَلِك الْجذع، فَقَالَ رجل من أَصْحَابه: يَا رَسُول الله، هَل لَك أَن نجْعَل شَيْئا تقوم عَلَيْهِ يَوْم الْجُمُعَة حَتَّى يراك (النَّاس) وتُسمعهم خطبتك؟ قَالَ: نعم. فَصنعَ لَهُ ثَلَاث دَرَجَات اللائي عَلَى الْمِنْبَر، فَلَمَّا صنع الْمِنْبَر وَوضع فِي مَوْضِعه الَّذِي وَضعه فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَلَمَّا أَرَادَ أَن يَأْتِي الْمِنْبَر مرَّ عَلَيْهِ، (فَلَمَّا) جاوزه خار الْجذع حَتَّى تصدع وَانْشَقَّ، فَرجع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فمسحه (بِيَدِهِ) حَتَّى سكن، ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَر وَكَانَ إِذا صَلَّى (صَلَّى) إِلَيْهِ، فَلَمَّا هدم الْمَسْجِد وغُيِّر، أَخذ ذَلِك الْجذع أبي بن كَعْب (فَكَانَ) عِنْده حَتَّى بلي وأكلته الأرضة وَعَاد رفاتًا» .
رَوَاهُ أَحْمد هَكَذَا فِي «مُسْنده» .(4/623)
فَائِدَة: الْمَرْأَة المبهمة فِي حَدِيث سهل بن سعد قَالَ الْخَطِيب: لَا أعلم أحدا سَمَّاهَا. وَهُوَ كَمَا قَالَ فَلم أَقف عَلَيْهِ.
وَأما صانع الْمِنْبَر فَتحصل لي فِيهِ أَقْوَال نَحْو الْعشْرَة - فاستفدها فَإِنَّهَا تَسَاوِي رحْلَة -:
أَحدهَا: أَنه (تَمِيم) الدَّارِيّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عمر أَنه الَّذِي اتخذ الْمِنْبَر لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
ثَانِيهَا: ميناء غُلَام الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، حَكَاهُ ابْن النجار فِي كِتَابه « (الدُّرة) الثمينة فِي أَخْبَار الْمَدِينَة» .
ثَالِثهَا: أَنه (صباح) مولَى الْعَبَّاس، حَكَاهُ أَيْضا فِي الْكتاب الْمَذْكُور عَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَحِمَهُ اللَّهُ.
رَابِعهَا: باقوم - بِالْمِيم فِي آخِره، وَقيل بِاللَّامِ - الرُّومِي مَوْلى سعيد بن الْعَاصِ، أخرجه أَبُو نعيم وَابْن مَنْدَه وَأَبُو (عمر) فِي «معرفَة الصَّحَابَة» . وَقَالَ ابْن مَنْدَه: إِسْنَاده لَيْسَ بالقائم.
خَامِسهَا: إِبْرَاهِيم، وَبِه جزم ابْن الْأَثِير فِي «أُسد الغابة» فَقَالَ: إِبْرَاهِيم النجار الَّذِي صنع الْمِنْبَر لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ثمَّ قَالَ فِي آخِره: أخرجه أَبُو مُوسَى.(4/624)
سادسها: مَيْمُون النجار، كَذَا فِي فَوَائِد قَاسم بن أصبغ.
سابعها: أَن صانعه مولَى الْعَاصِ بن أُميَّة.
ثامنها: أَنه (قبيصَة) المَخْزُومِي (من أثلة) كَانَت قريبَة من الْمَسْجِد، حَكَاهُ ابْن بشكوال.
وَفِي كتاب ابْن زبالة (قَول) : أَنه غُلَام لرجل من بني مَخْزُوم، وَفِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» قَالَ عَبَّاس بن سهل بن سعد: «فَذهب أبي (فَقطع) عيدَان الْمِنْبَر من الغابة فَلَا أَدْرِي عَملهَا أبي أَو استعملها» . وَفِيه من حَدِيث سهل بن سعد «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لخالٍ لَهُ من الْأَنْصَار: اخْرُج إِلَى الغابة (وائتني) من خشبها فاعمل لي منبرًا أكلم النَّاس عَلَيْهِ. فَعمل لَهُ منبرًا (لَهُ) عتبتان وَجلسَ عَلَيْهِمَا» .
فَائِدَة: كَانَ اتِّخَاذه سنة ثَمَان كَمَا قَالَه ابْن النجار.
وَذكر الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَن منبره عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ عَلَى يَمِين (الْقبْلَة) وَلَا شكّ فِي ذَلِك وَلَا مرية.(4/625)
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا دنا من منبره سلم (عَلَى من عِنْد) الْمِنْبَر، ثمَّ صعد فَإِذا اسْتقْبل النَّاس بِوَجْهِهِ سلم ثمَّ قعد» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، رَوَاهُ ابْن عدي فِي «كَامِله» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «كَانَ إِذا دنا من منبره يَوْم الْجُمُعَة سلم عَلَى من عِنْده من الْجُلُوس، فَإِذا صعد الْمِنْبَر اسْتقْبل النَّاس بِوَجْهِهِ ثمَّ سلم» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ عِيسَى بن عبد الله الْأنْصَارِيّ. قَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ، وَله أَحَادِيث مَنَاكِير. وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك عبد الْحق فَقَالَ فِي «أَحْكَامه» بعد أَن أخرجه من طَرِيق ابْن عدي: وَلَا يُتَابع عِيسَى هَذَا عَلَى هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَذكرته» : عِيسَى هَذَا يُخَالف الثِّقَات فَلَا يحْتَج بِهِ.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتَوَى عَلَى الدرجَة الَّتِي تلِي (المستراح) قَائِما ثمَّ سلم» .(4/626)
هَذَا الحَدِيث كَأَنَّهُ تبع فِي إِيرَاده صَاحب «الْمُهَذّب» فَإِنَّهُ ذكره (لَكِن) بِدُونِ قَوْله: «قَائِما ثمَّ سلم» وبيض لَهُ الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» إِنَّه مَوْجُود فِي بعض نسخ «الْمُهَذّب» وَلَيْسَ مَوْجُودا فِي بعض (نسخه) الْمُقَابلَة بِأَصْل المُصَنّف، قَالَ: وَهُوَ حَدِيث صَحِيح. كَذَا قَالَ، وَلم أَقف أَنا عَلَى من خرجه وَإِن كَانَ الْوَاقِع كَذَلِك. وَأما سَلَامه عَلَى الْمِنْبَر فقد أسلفته لَك من حَدِيث ابْن عمر، وذكرته فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الْمُهَذّب» من حَدِيث جَابر مُتَّصِلا وَمن حَدِيث الشّعبِيّ وَعَطَاء مُرْسلا.
فَائِدَة: حُكيَ عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: «إِذا وقف عَلَى الثَّالِثَة. أقبل بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاس وَسلم» لِأَن هَذَا يرْوَى عَالِيا. وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي مُرَاده بالعالي، فَقيل: إِسْنَاد ذَلِك، وَقيل: أَرَادَ السَّلَام فَإِنَّهُ يُفعل عَالِيا، وَقيل غير ذَلِك.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخْطب خطبتين وَيجْلس جلستين» .
هَذَا (الحَدِيث) صَحِيح، وَقد سلف لَك فِي الْبَاب مفرقًَا خلال الجلسة الأولَى فستعلمها فِي حَدِيث السَّائِب الْآتِي عَلَى الإثر، وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» من حَدِيث ابْن عمر قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا(4/627)
خرج يَوْم الْجُمُعَة (فَقعدَ) عَلَى الْمِنْبَر أذن بِلَال» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: فِيهِ مُصعب بن سَلام؛ وَقد لينه أَبُو دَاوُد (و) فِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي نعيم فِي تَرْجَمَة سعيد بن حَاطِب الَّذِي ذكره البُخَارِيّ فِي الصَّحَابَة من حَدِيثه: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يخرج فيجلس عَلَى الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة، ثمَّ يُؤذن الْمُؤَذّن، فَإِذا فرغ قَامَ يخْطب» .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
عَن السَّائِب بن يزِيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ النداء يَوْم الْجُمُعَة أَوله إِذا جلس الإِمَام عَلَى الْمِنْبَر عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأبي بكر وَعمر، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَان وَكثر النَّاس زَاد النداء الثَّالِث عَلَى الزَّوْرَاء» .
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَن الَّذِي زَاد (التأذين) الثَّالِث يَوْم الْجُمُعَة عُثْمَان بن عَفَّان حِين كثر أهل الْمَدِينَة، وَلم يكن للنَّبِي (مُؤذن غير وَاحِد، وَكَانَ التأذين يَوْم الْجُمُعَة حِين يجلس الإِمَام [يَعْنِي] عَلَى الْمِنْبَر» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث ابْن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنِي الزُّهْرِيّ قَالَ: «لم يكن لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا مُؤذن وَاحِد فِي الصَّلَوَات كلهَا فِي(4/628)
الْجُمُعَة وَغَيرهَا يُؤذن وَيُقِيم، وَكَانَ بِلَال يُؤذن إِذا جلس رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة وَيُقِيم إِذا نزل، وَلأبي بكر وَعمر، حَتَّى كَانَ عُثْمَان» (وَمن) مَرَاسِيل عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج قَالَ: قَالَ سُلَيْمَان بن مُوسَى: «أول من زَاد الْأَذَان بِالْمَدِينَةِ عُثْمَان. فَقَالَ عَطاء: كلا، إِنَّمَا كَانَ يَدْعُو النَّاس دُعَاء وَلَا يُؤذن غير أَذَان وَاحِد» وَكَذَا حَكَى الشَّافِعِي عَن عَطاء أَنه أنكر أَن يكون عُثْمَان (أحدثه) (وَالَّذِي فعله عُثْمَان إِنَّمَا هُوَ تذكير) وَالَّذِي أَمر بِهِ إِنَّمَا هُوَ مُعَاوِيَة.
فَائِدَة: «الزَّوْرَاء» - بِالْفَتْح وَالْمدّ -: مَكَان مُتَّصِل بِالْمَدِينَةِ، قَالَه أَبُو عبيد الْبكْرِيّ (فِي) الْأَمْكِنَة قَالَ: وَكَانَ بِهِ مَال لأحيحة بن الجلاح وَهُوَ الَّذِي عَنى بقوله:
إِن الْكَرِيم عَلَى الإخوان ذُو مَال
إِنِّي مُقيم عَلَى الزَّوْرَاء أعمرها
وَقَوله: «زَاد النداء الثَّالِث» إِنَّمَا سَمَّاهُ (أذانًا) لِأَن الْإِقَامَة تسمى أذانًا كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: «بَين كل أذانين صَلَاة» .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «قصر الْخطْبَة وَطول الصَّلَاة مئنة من فقه الرجل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث عمار بن يَاسر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه(4/629)
وَلَفظه: «إِن طول صَلَاة الرجل وَقصر خطبَته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصَّلَاة واقصروا الْخطْبَة، وَإِن من الْبَيَان (سحرًا) » واستدركه الْحَاكِم عَلَيْهِ وَعَلَى (البُخَارِيّ) وَقد علمت أَنه فِي مُسلم، نعم لَيْسَ هُوَ فِي البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِإِقْصَارِ الْخطْبَة» .
فَائِدَة: «مَئِنَّة» بِفَتْح الْمِيم وَبعدهَا همزَة مَكْسُورَة ثمَّ نون مُشَدّدَة: أَي عَلامَة وَدلَالَة عَلَى فقهه.
قَالَ الْأَزْهَرِي: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَن الْمِيم فِيهَا زَائِدَة وَهِي مفعلة. قَالَ الْأَزْهَرِي: وَغلط أَبُو عبيد فِي جعله الْمِيم أَصْلِيَّة. قَالَ الْأَصْمَعِي: لَوْلَا أَن الحَدِيث ورد كَذَلِك لَكَانَ صَوَابه (مئينة) عَلَى وزن مُعينَة. وَقَالَ أَبُو زيد: مئته - بِكَسْر الْهمزَة وتاء مثناة فَوق وهاء - حَكَاهُ الْجَوْهَرِي أَي مخلقة (لذَلِك) ومجدرة.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَت صلَاته قصدا وخطبته قصدا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه(4/630)
قَالَ: «كنت أُصَلِّي مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَكَانَت) صلَاته قصدا (وخطبته قصدا) » وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح: «كَانَ لَا يُطِيل الموعظة يَوْم الْجُمُعَة إِنَّمَا هِيَ كَلِمَات يسيرات» .
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «كَانَ إِذا خطب (اسْتقْبل) النَّاس بِوَجْهِهِ واستقبلوه، وَكَانَ لَا يلْتَفت» .
هَذَا الحَدِيث كَأَنَّهُ تبع فِي إِيرَاده صَاحب «الْمُهَذّب» فَإِنَّهُ أوردهُ من حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا خَطَبنَا استقبلناه (بوجوهنا) واستقبلنا بِوَجْهِهِ» .
وَلم (يعزه) الْمُنْذِرِيّ (الْحَافِظ) فِي تَخْرِيجه وَلَا النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» وَإِنَّمَا بيضًا لَهُ بَيَاضًا، وَأنكر غَيرهمَا عَلَى الشَّيْخ إِيرَاده، وَقد رَأَيْت ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث إِلَّا قَوْله: «لَا يلْتَفت» .
أَحدهَا: عَن عدي بن ثَابت، عَن أَبِيه قَالَ: «كَانَ رَسُول (إِذا قَامَ عَلَى الْمِنْبَر استقبله أَصْحَابه بِوُجُوهِهِمْ» .(4/631)
رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَقَالَ: أَرْجُو أَن يكون مُتَّصِلا.
ثَانِيهَا: عَن عَلْقَمَة، عَن عبد الله قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا كَانَ عَلَى الْمِنْبَر استقبلناه بوجوهنا» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث مُحَمَّد بن الْفضل بن عَطِيَّة وَهُوَ ذَاهِب فِي الحَدِيث عِنْد أَصْحَابنَا. وَكَذَا (ضعفه) الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» من هَذَا الْوَجْه، وَكَذَا ابْن عدي فِي «كَامِله» (أَيْضا) .
ثَالِثهَا: عَن ابْن عمر، وَقد سلف قَرِيبا، وذكرته فِي تخريجي لأحاديث «الْمُهَذّب» من طَرِيقين آخَرين فَرَاجعهَا مِنْهُ.
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يعْتَمد عَلَى قَوس فِي خطبَته» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طَرِيقين أَحدهمَا: من حَدِيث الحكم بن حزن الكلفي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «وفدت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَابِع سَبْعَة أَو تَاسِع تِسْعَة، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، زرناك فَادع الله لنا بِخَير. فَأمر لنا بِشَيْء من التَّمْر، والشأن إِذْ ذَاك دون، فَأَقَمْنَا بهَا أَيَّامًا شَهِدنَا (فِيهَا)(4/632)
الْجُمُعَة مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَامَ متوكئًا عَلَى عَصَى أَو قَوس فَحَمدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَات خفيفات طَيّبَات مباركات، ثمَّ قَالَ: أَيهَا النَّاس، إِنَّكُم لن (تُطِيقُوا) (و) لن تَفعلُوا كل مَا (أمرْتُم) بِهِ وَلَكِن سددوا ويسروا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَلم يُضعفهُ فَهُوَ حسن عِنْده، وَأخرجه ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» لَكِن فِي سَنَده شهَاب بن خرَاش وَهُوَ من الْمُخْتَلف (فيهم) ، وَوَثَّقَهُ ابْن الْمُبَارك وَغير وَاحِد كَأبي زرْعَة وَأبي حَاتِم وَأحمد وَيَحْيَى بن معِين، وَقَالَ ابْن عدي: فِي بعض رواياته مَا يُنكر. وَلم (أر) للْمُتَقَدِّمين فِيهِ كلَاما، وَقَالَ ابْن حبَان: يُخطئ كثيرا. وَاقْتصر ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» عَلَى هَذِه القولة فِيهِ.
وَأما الذَّهَبِيّ فَقَالَ فِي «الْمُغنِي» : لم يُضعفهُ أَحْمد قطّ. وَرَأَيْت بِخَط ابْن عَسَاكِر فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الْمُهَذّب» إِثْر (سياقته لَهُ بِإِسْنَادِهِ) : هَذَا حَدِيث غَرِيب وَإِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ.(4/633)
قلت: وَأخرجه الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» وَلم يذكر لَهُ فِي تَرْجَمته سواهُ.
وَصرح الْمُنْذِرِيّ فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الْمُهَذّب» بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَيْضا سواهُ، وَهُوَ الحكم بن حزن الكلفي مَنْسُوب إِلَى كلفة (بن) حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم.
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ: وَيُقَال: كلفة فِي تَمِيم. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: كلفة فِي تَمِيم. وَنسبه مُحَمَّد بن أبي عُثْمَان الْحَافِظ فِي بني تَمِيم. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَيُقَال هُوَ (من) بني نصر بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوَازن. وَهَكَذَا ذكره أَبُو بكر البرقي وشباب وَغَيرهمَا.
وَقَالَ مُحَمَّد بن يُونُس الْحَافِظ: الصَّوَاب أَن الحكم بن حزن ينْسب إِلَى كلفة بن عَوْف بن نصر بن مُعَاوِيَة.
(الطَّرِيق الثَّانِي) : من (حَدِيث) (الْبَراء) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا نَنْتَظِر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم الْأَضْحَى، فجَاء فَسلم عَلَى النَّاس، وَقَالَ: إِن أول منسك يومكم هَذَا الصَّلَاة. فَتقدم فَصَلى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ سلم فَاسْتقْبل الْقبْلَة بِوَجْهِهِ، ثمَّ أعطي قوسًا أَو عَصا اتكأ عَلَيْهَا،(4/634)
فَحَمدَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَأمرهمْ ونهاهم» (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ) فِي «مُعْجَمه الْكَبِير» عَن (عَلّي بن عبد الْعَزِيز، نَا أَبُو) نعيم، نَا أَبُو جناب الْكَلْبِيّ، حَدثنِي يزِيد بن الْبَراء، عَن أَبِيه (بِهِ) . وَأَبُو جناب (هَذَا) واهٍ كَمَا عرفت حَاله فِي صَلَاة النَّفْل.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث زَائِدَة، ثَنَا أَبُو جناب الْكَلْبِيّ، ثَنَا يزِيد بن الْبَراء بن عَازِب، عَن الْبَراء ... فَذكره أطول مِنْهُ، وَمن (ضعَّفَ) الْكَلْبِيّ هَذَا بالتدليس يلْزمه (تَصْحِيح) هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ صرح فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ (وَقد أخرجه أَبُو دَاوُد عَن الْحسن بن عَلّي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن (أبي) جناب (بِهِ) مُخْتَصرا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (أعطي) يَوْم الْعِيد قوسًا فَخَطب عَلَيْهِ) » وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ عذر ابْن السكن؛ فَإِنَّهُ أوردهُ فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» من حَدِيث الْبَراء «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خطب عَلَى قَوس أَو عَصا» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كَانَ إِذا صعد الْمِنْبَر اعْتمد عَلَى قَوس أَو عَصا» .(4/635)
(وَأخرجه الشَّيْخ فِي «كتاب أَخْلَاق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» من حَدِيث وَكِيع وَعبد الله بن دَاوُد عَن أبي جناب، عَن يزِيد بن الْبَراء، عَن أَبِيه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خطبهم يَوْم عيد وَهُوَ مُعْتَمد عَلَى قَوس أَو عَصا» وَكَانَ أخرجه قبل ذَلِك من حَدِيث أبي إِسْحَاق الْفَزارِيّ، عَن الْحسن بن عمَارَة - أحد الهلكى - عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «كَانَ رَسُول الله يخطبهم يَوْم الْجُمُعَة فِي السّفر متوكئًا عَلَى قَوس قَائِما» وَهَذَا طَرِيق ثَالِث بعد الْأَرْبَعين مَا يتَعَلَّق بِإِسْنَادِهِ، ثمَّ رَوَى خَ ذكر قصَّته من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، نَا الْأسود، عَن عَامر بن عبد الله بن الزبير، عَن أَبِيه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخْطب وَمَعَهُ مخصرة) » .
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا خطب (يعْتَمد) عَلَى (عنزته) اعْتِمَادًا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث لَيْث عَن عَطاء عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهَذَا مُرْسل وَضَعِيف.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّلَاثِينَ
(رُوِيَ) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْجُمُعَة حق وَاجِب عَلَى كل مُسلم فِي(4/636)
جمَاعَة إِلَّا أَرْبَعَة: عبد أَو امْرَأَة أَو صبي أَو مَرِيض» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من رِوَايَة طَارق بن شهَاب عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وطارق هَذَا هُوَ ابْن شهَاب (بن عبد شمس الأحمسي) ، عده أَبُو نعيم وَابْن مَنْدَه وَأَبُو عمر وَصَاحب الْكَمَال وَابْن حبَان فِي «ثقاته» فِي الصَّحَابَة.
وَرَوَى الْبَغَوِيّ وَأَبُو نعيم فِي «معجميهما» وَابْن أبي حَاتِم فِي «مراسيله» بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وغزوت مَعَ أبي بكر» وَفِي مَرَاسِيل ابْن أبي حَاتِم أَيْضا عَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ وَأبي زرْعَة وَأبي حَاتِم أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زَاد أَبُو حَاتِم: وَلَيْسَت لَهُ صُحْبَة. وَلَعَلَّ مُرَاده بذلك طول الصُّحْبَة (و (عبارَة) أبي زرْعَة: لَهُ رُؤْيَة وَلَيْسَت لَهُ رِوَايَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم فِي حَدِيثه «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ سُئِلَ: أَي الْجِهَاد أفضل؟ فَقَالَ: كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر» : هُوَ مُرْسل. قَالَ (وَلَده: قلت لَهُ: أدخلته) فِي مُسْند الوحدان قَالَ: إِنَّمَا أدخلته فِي الوحدان لما حُكيَ من رُؤْيَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) .(4/637)
وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : طَارق هَذَا مِمَّن يعد فِي الصَّحَابَة.
(وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يُعد فِي الصَّحَابَة) . وَلم يسمع مِنْهُ. كَذَا رَأَيْته فِيهَا، وَعبارَة الْبَيْهَقِيّ فِي النَّقْل عَنهُ أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يسمع مِنْهُ شَيْئا.
وَقَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث بِذَاكَ، وطارق لَا يَصح لَهُ سَماع من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا أَنه قد لَقِي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَفِي قَول الْخطابِيّ: لَيْسَ إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث بِذَاكَ نظر؛ فَإِن رِجَاله كلهم ثِقَات.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» و «الْخُلَاصَة» : إِسْنَاده (صَحِيح) عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَصرح ابْن الْأَثِير فِي «جَامع الْأُصُول» بِسَمَاع طَارق من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَقَالَ: رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) وَلَيْسَ لَهُ سَماع مِنْهُ إِلَّا شاذًّا. وَعبارَة الذَّهَبِيّ فِي «مُخْتَصر كتاب ابْن الْأَثِير أُسْد الغابة» : طَارق بن شهَاب لَهُ رُؤْيَة وَرِوَايَة. (هَذَا) لَفظه.
وَعبارَة النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» أَنه صَحَابِيّ أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَصَحب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: وَعَلَى تَقْدِير (عدم) سَمَاعه الْبَتَّةَ لَا يقْدَح ذَلِك فِي صِحَة(4/638)
الحَدِيث؛ لِأَن نهايته (أَنه مُرْسل) صَحَابِيّ وَهُوَ حجَّة (بِالْإِجْمَاع) إِلَّا من شَذَّ، وَقد رَوَاهُ طَارق مرّة أُخْرَى عَن أبي مُوسَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : ثَنَا أَبُو بكر بن إِسْحَاق الْفَقِيه - يَعْنِي ابْن خُزَيْمَة - ثَنَا عبيد بن مُحَمَّد الْعجلِيّ، حَدثنِي (الْعَبَّاس) بن عبد الْعَظِيم، حَدثنِي إِسْحَاق بن مَنْصُور، نَا هريم بن سُفْيَان، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْمُنْتَشِر، عَن قيس بن مُسلم، عَن طَارق بن شهَاب، عَن أبي مُوسَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... فَذكره بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدّم، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، فقد اتفقَا جَمِيعًا عَلَى الِاحْتِجَاج بهريم بن سُفْيَان، وَلم يخرجَاهُ.
(و) قَالَ: وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة، (عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد) بن الْمُنْتَشِر، وَلم يذكر أَبَا مُوسَى فِي إِسْنَاده. وَأَشَارَ إِلَى رِوَايَة أبي دَاوُد السالفة أَولا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : حَدِيث طَارق هَذَا (وَإِن) كَانَ فِيهِ إرْسَال (فَهُوَ) (إرْسَال) جيد؛ فطارق من كبار التَّابِعين وَمِمَّنْ رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يسمع مِنْهُ.(4/639)
قلت: هَذَا الْكَلَام مِنْهُ مُخَالف لرأي الْجُمْهُور؛ فَإِن عِنْدهم أَن الصُّحْبَة تثبت بِالرُّؤْيَةِ فَقَط، (وَقد عده) من أسلفنا من الصَّحَابَة، ثمَّ قَالَ - أَعنِي الْبَيْهَقِيّ -: و (لحديثه) هَذَا شَوَاهِد فَذكرهَا بأسانيده:
من رِوَايَة تَمِيم الدَّارِيّ، وَمولى لآل الزبير يرفعهُ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَابْن عمر. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر من «سنَنه» : رَوَى هَذَا الحَدِيث عبيد بن مُحَمَّد (عَن) الْعَبَّاس بن عبد الْعَظِيم، فوصله بِذكر أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ؛ فقد رَوَاهُ غير الْعَبَّاس - يُرِيد بِهِ الطَّرِيقَة السالفة عَن «الْمُسْتَدْرك» - عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور دون ذكر أبي مُوسَى فِيهِ.
قلت: وَلقَائِل أَن يَقُول لَا نجْعَل رِوَايَة الْعَبَّاس بن عبد الْعَظِيم غير (مَحْفُوظَة) بِهَذَا الْقدر؛ فقد يكون للْحَدِيث إسنادان (فَيُؤَدِّي) كل من رُوَاته مَا سمع، وَقد يكون عِنْد الشَّخْص الْوَاحِد إسنادان لحَدِيث وَاحِد فيرويه كل مرّة عَلَى نمط. وَقَالَ فِي (كِتَابه) «فَضَائِل الْأَوْقَات» : تفرد بوصله عَن طَارق عبيد بن مُحَمَّد الْعجلِيّ.
قلت: هُوَ ثِقَة فَلَا يضر تفرده إِذن، وَقد علم مَا فِي تعَارض(4/640)
(الْوَصْل) والإرسال، وَحَدِيث تَمِيم (الَّذِي) ذكره الْبَيْهَقِيّ خرجه الْعقيلِيّ وَالْحَاكِم أَبُو أَحْمد من حَدِيث ضرار بن عَمْرو عَن أبي عبد الله الشَّامي عَن تَمِيم بِزِيَادَة: «أَو مُسَافر» كَمَا هُوَ فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ، قَالَ الْعقيلِيّ: وَلَا يُتَابع ضرار عَلَى ذَلِك. وَقَالَ البُخَارِيّ: فِيهِ نظر. وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد أَيْضا: لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَقَالَ (ابْن أبي حَاتِم) فِي «علله» : سُئِلَ أَبُو زرْعَة (عَنهُ) فَقَالَ: إِنَّه حَدِيث مُنكر.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان: فِيهِ أَرْبَعَة أنفس يعل بِكُل وَاحِد مِنْهُم.
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَعَلَيهِ الْجُمُعَة إِلَّا امْرَأَة أَو مُسَافر أَو عبد أَو مَرِيض» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، حَدثنِي معَاذ بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ، عَن أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا (بِهِ) إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا بدل «عبد» : «مَمْلُوك» وَهُوَ، هُوَ وَزَاد «أَو صبي فَمن اسْتَغنَى بلهو أَو تِجَارَة اسْتَغنَى الله عَنهُ، وَالله غَنِي حميد» .(4/641)
وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، ابْن لَهِيعَة قد عرفت حَاله فِيمَا مَضَى، ومعاذ هَذَا مُنكر الحَدِيث غير مَعْرُوف. (قَالَه) أَبُو أَحْمد، وَأَبُو الزبير مُدَلّس وَقد عنعن، وَأَبُو أَحْمد ذكر معَاذًا بِهَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: ابْن لَهِيعَة يحدث عَن أبي الزبير عَن جَابر (نُسْخَة) . وَلم يبين عبد الْحق مَوضِع عِلّة هَذَا الحَدِيث بل قَالَ: إِسْنَاده ضَعِيف. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الْمُهَذّب» : هَذَا حَدِيث غَرِيب جدًّا لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث ابْن لَهِيعَة بِهَذَا الْإِسْنَاد وَهُوَ ضَعِيف.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا ابتلت النِّعَال فَالصَّلَاة فِي الرّحال» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب صَلَاة الْجَمَاعَة.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلم (يصل) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (الْجُمُعَة) فِي حجَّة الْوَدَاع وَقد وَافق يَوْم عَرَفَة. وَلَا شكّ فِي ذَلِك وَلَا مرية، وستعلم (ذَلِك) فِي كتاب الْحَج.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْجُمُعَة عَلَى من سمع النداء» .(4/642)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن فَارس، نَا قبيصَة، ثَنَا سُفْيَان، عَن مُحَمَّد بن سعيد الطَّائِفِي، عَن أبي سَلمَة بن نبيه، عَن عبد الله بن هَارُون، عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن فِي إِسْنَاده جماعات تكلم فيهم بِسَبَب جَهَالَة الْعين وَالْحَال والضعف، أما أَبُو سَلمَة بن نبيه فعينه مَجْهُولَة (و) كَذَا حَاله؛ فَإِنِّي لَا أعلم رَوَى عَنهُ إِلَّا مُحَمَّد بن سعيد الطَّائِفِي، وَلَا أعلم أحدا وَثَّقَهُ وَلَا ضعفه.
قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : أَبُو سَلمَة هَذَا مَجْهُول لَا يعرف بِغَيْر هَذَا، وَلم أجد لَهُ ذكرا فِي (شَيْء من) مظان (وجوده و) وجود أَمْثَاله.
وَأما مُحَمَّد بن سعيد الطَّائِفِي فَقَالَ فِيهِ ابْن حبَان: (إِنَّه) يروي عَن الثِّقَات مَا لَيْسَ من حَدِيثهمْ، وَإنَّهُ لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ بِحَال. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهُوَ عِنْد ابْن أبي حَاتِم مَجْهُول الْحَال لم يزدْ فِي ذكره(4/643)
(إِيَّاه) ، عَلَى أَن (الثَّوْريّ) يروي عَنهُ، وَهُوَ يروي عَن طَاوس.
قلت: لَكِن وَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ (لنا) ابْن أبي دَاوُد: (و) (مُحَمَّد) بن سعيد الطَّائِفِي ثِقَة، وَهَذِه سنة تفرد بهَا أهل الطَّائِف.
وَأما عبد الله بن هَارُون (فمجهول) الْعين وَالْحَال، وَلَا يعلم رَوَى عَنهُ إِلَّا ابْن (نبيه) وَقد نَص ابْن الْقطَّان عَلَى جَهَالَة حَاله. وَأما قبيصَة فَهُوَ رجل صَالح إِلَّا أَنه كثير الْخَطَأ عَلَى الثَّوْريّ. قَالَه النَّسَائِيّ، وَكَذَا قَالَ ابْن معِين وَغَيره (و) هُوَ ثِقَة إِلَّا فِي الثَّوْريّ.
(ثَانِيهمَا) : قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَى هَذَا الحَدِيث جمَاعَة عَن سُفْيَان مَقْصُورا عَلَى عبد الله بن عمر وَلم (يرفعوه) ، وَإِنَّمَا أسْندهُ قبيصَة.(4/644)
وَقَالَ عبد الْحق: (رُوِيَ) مَوْقُوفا وَهُوَ الصَّحِيح.
قلت: وَله شَاهد بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده. ذكره الْبَيْهَقِيّ شَاهدا لَهُ وَقَالَ: إِنَّه رُوِيَ مَوْقُوفا أَيْضا) .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْأَرْبَعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعث عبد الله بن رَوَاحَة فِي سَرِيَّة فَوَافَقَ ذَلِك يَوْم الْجُمُعَة، فغدا أَصْحَابه وتخلف هُوَ ليُصَلِّي ويلحقهم، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا خَلفك؟ قَالَ: أردْت أَن أُصَلِّي مَعَك وألحقهم. فَقَالَ: (لَو) أنفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا أدْركْت (فضل) غدوتهم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَهَذَا لَفظه عَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا (بِهِ) ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا (نعرفه) إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: قَالَ يَحْيَى بن سعيد: قَالَ شُعْبَة: لم يسمع الحكم (من)(4/645)
مقسم إِلَّا خَمْسَة أَحَادِيث، وعدها شُعْبَة، وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث مِمَّا عدهَا شُعْبَة، وَكَأن هَذَا الحَدِيث لم يسمعهُ الحكم من مقسم. هَذَا آخر كَلَامه، وَجزم عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِأَن الحكم لم يسمع هَذَا الحَدِيث من مقسم.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده ضَعِيف انْفَرد بِهِ الْحجَّاج بن أَرْطَاة وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف. وَأعله بِهِ (ابْن) الْقطَّان أَيْضا.
قلت: فَالْحَدِيث ضَعِيف لهذين الْوَجْهَيْنِ.
فَائِدَة: نقل التِّرْمِذِيّ عَن شُعْبَة كَمَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ (آنِفا) أَن الحكم لم يسمع من مقسم إِلَّا خَمْسَة أَحَادِيث، وَفِي خلافيات الْبَيْهَقِيّ (أَنه) لم يسمع مِنْهُ إِلَّا أَرْبَعَة (وَكَذَلِكَ فِي «علل أَحْمد» عَنهُ) وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: الَّذِي يَصح للْحكم عَن مقسم أَرْبَعَة أَحَادِيث: حَدِيث الْوتر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُوتر» وَحَدِيث «عَزِيمَة الطَّلَاق (والفيء) الْجِمَاع» وَعَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس «أَن عمر قنت فِي الْفجْر» وَأَيْضًا عَن مقسم (رَأْيه) «فِي محرم أصَاب صيدا قَالَ: عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، فَإِن لم يكن عِنْده قوّم الْجَزَاء دَرَاهِم ثمَّ تقوم الدَّرَاهِم طَعَاما» .(4/646)
قَالَ عبد الله بن أَحْمد: قلت لأبي: فَمَا (رووا) غير هَذِه؟ قَالَ: مَا (أعلم يَقُولُونَ) هِيَ كتاب؛ أرَى (حجاج) رَوَى عَنهُ عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس نَحوا من خمسين حَدِيثا وَابْن أبي لَيْلَى (يغلط) فِي أَحَادِيث من أَحَادِيث الحكم.
قَالَ عبد الله: وَسمعت أبي مرّة يَقُول: (قَالَ) شُعْبَة: (هَذِه) الْأَرْبَعَة الَّتِي يصححها الحكم سَمَاعا من مقسم. وَنقل غَيره عَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ أَنه قَالَ ليحيى بن سعيد: مَا هِيَ؟ - (يَعْنِي) هَذِه الْأَحَادِيث الْخَمْسَة - (فعدّ) حَدِيث الْوتر، والقنوت، وعزيمة الطَّلَاق، وَجَزَاء مثل (مَا) قتل من النعم، وَالرجل يَأْتِي امْرَأَته وَهِي حَائِض، قَالَ: والحجامة للصَّائِم، وَلَيْسَ (يَصح) .
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ: من لَا عذر لَهُ إِذا صَلَّى الظّهْر قبل فَوَات الْجُمُعَة فَفِي صِحَة ظَهره قَولَانِ: الْقَدِيم: الصِّحَّة، والجديد: لَا. وَذكر(4/647)
الْأَصْحَاب أَن الْقَوْلَيْنِ مبنيان عَلَى أَن الْفَرْض الْأَصْلِيّ يَوْم الْجُمُعَة مَاذَا؟ فعلَى الْقَدِيم الْفَرْض الْأَصْلِيّ الظّهْر، وَعَلَى الْجَدِيد الْجُمُعَة للْأَخْبَار الْوَارِدَة فِيهَا. انْتَهَى.
وَمن تِلْكَ الْأَخْبَار: حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى عَن عمر بن الْخطاب قَالَ: «صَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْفطر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ، تَمام غير قصر عَلَى لِسَان نَبِيكُم مُحَمَّد» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ (النَّسَائِيّ) : لم يسمعهُ ابْن أبي لَيْلَى (من عمر) . وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لم يثبت عندنَا من جِهَة صَحِيحَة أَن ابْن أبي لَيْلَى سمع من عمر.
وَكَانَ شُعْبَة يُنكر سَمَاعه مِنْهُ، وَقَالَ ابْن معِين: لم يره، وَسُئِلَ عَن حَدِيثه هَذَا (سَمِعت) عمر يَقُول: «صَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ» فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْء.(4/648)
وَرَوَى شُعْبَة، عَن الحكم، عَن ابْن أبي لَيْلَى أَنه قَالَ: ولدت لست بَقينَ من خلَافَة عمر. لَا جرم قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن أخرجه: رَوَاهُ يَحْيَى الْقطَّان، عَن سُفْيَان، عَن زبيد، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن الثِّقَة، عَن عمر. ثمَّ أخرجه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن كَعْب بن عجْرَة، (عَن عمر) قَالَ: قَالَ عمر: «صَلَاة الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْفطر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْمُسَافِر رَكْعَتَانِ تَمام غير قصر» زَاد ابْن السكن فِي «صحاحه» : «عَلَى لِسَان نَبِيكُم، وَقد خَابَ من افتَرَى» ثمَّ أخرج الرِّوَايَة (الأولَى) أَيْضا.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْأَرْبَعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (إِذا) أَتَى أحدكُم الْجُمُعَة فليغتسل» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بِلَفْظ: «إِذا جَاءَ أحدكُم ... » إِلَى آخِره. وَلمُسلم: «إِذا أَرَادَ أحدكُم أَن يَأْتِي الْجُمُعَة فليغتسل» .
وللبيهقي بِإِسْنَاد صَحِيح: «من أَتَى الْجُمُعَة من الرِّجَال وَالنِّسَاء فليغتسل، وَمن لم يأتها فَلَيْسَ عَلَيْهِ غسل من الرِّجَال وَالنِّسَاء» .
وَلابْن حبَان الْقطعَة الأولَى من هَذِه الرِّوَايَة.(4/649)
فَائِدَة: ذكر ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» أَن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عَن نَافِع مولَى ابْن عمر عَن (ابْن) عمر، جماعات عَددهمْ فَوق الثلاثمائة وَأَن (جماعات) تابعوا أَيْضا نَافِعًا، وَأَنه رَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غير ابْن عمر أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ صحابيًّا ثمَّ ذكرهم.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْأَرْبَعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من تَوَضَّأ يَوْم الْجُمُعَة فبها ونعمت، وَمن اغْتسل فالغسل أفضل» .
هَذَا الحَدِيث (مَرْوِيّ) من طرق أحْسنهَا طَرِيق الْحسن عَن سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء، رَوَاهُ الْأَئِمَّة أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَقد قدمنَا فِي آخر بَاب كَيْفيَّة الصَّلَاة فصلا عقدناه لهَذِهِ الْمَسْأَلَة وَهِي سَماع الْحسن من سمُرة وملخصها (ثَلَاثَة) مَذَاهِب: السماع مِنْهُ مُطلقًا، ومقابلة، وَالتَّفْصِيل بَين حَدِيث الْعَقِيقَة وَغَيرهَا.
(وأسلفنا هُنَاكَ أَن البُخَارِيّ قَالَ بِالْأولِ، وَأَن التِّرْمِذِيّ صحّح حَدِيثه(4/650)
فِي مَوَاضِع) فَيكون هَذَا الحَدِيث صَحِيحا عَلَى (شَرطهمَا) وَاقْتصر التِّرْمِذِيّ هُنَا عَلَى (تحسينه) فَقَالَ عقب إِخْرَاجه: هَذَا حَدِيث حسن. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعضهم عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قلت: وَقد صحّح (الإِمَام) أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ هَذَا الحَدِيث من طريقيه - أَعنِي الِاتِّصَال والإرسال - فَذكر ابْنه عَنهُ أَنه قَالَ: هما (جَمِيعًا) صَحِيحَانِ همام ثِقَة (وَصله) وَأَبَان - يَعْنِي عَن قَتَادَة - لم (يوصله) وَنقل هَذَا عَن أبي حَاتِم الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي كِتَابه «الإِمَام» (وَأقرهُ) . وَقَالَ فِي (إلمامه) : من يحمل رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة عَلَى السماع مُطلقًا ويصححها يصحح هَذَا الحَدِيث.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «من تَوَضَّأ يَوْم الْجُمُعَة فبها ونعمت ... » الحَدِيث.
رَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث أبي بكر الْهُذلِيّ، عَن الْحسن وَمُحَمّد، عَن أبي هُرَيْرَة ثمَّ قَالَ: لَا نعلمهُ يرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَهُوَ وهم، وَالْمَحْفُوظ (من)(4/651)
حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث (أنس) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «من تَوَضَّأ يَوْم الْجُمُعَة ... » الحَدِيث. رَوَاهُ ابْن مَاجَه (فِي «سنَنه» » من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ، عَن يزِيد بن أبان الرقاشِي، عَن أنس بِهِ.
وَإِسْمَاعِيل وَيزِيد (قد) ضعفا.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن (مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن) الْمروزِي، نَا عُثْمَان بن يَحْيَى، نَا مُؤَمل بن إِسْمَاعِيل، نَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت الْبنانِيّ، عَن أنس أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «من تَوَضَّأ فبها ونعمت، وَمن (اغْتسل) فالغسل (أفضل) » .
ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن حَمَّاد إِلَّا مُؤَمل، تفرد بِهِ عُثْمَان بن يَحْيَى، ومؤمل بن إِسْمَاعِيل صَدُوق وَقد تكلم فِيهِ خَ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الرّبيع بن صبيح، عَن يزِيد الرقاشِي، عَن أنس مَرْفُوعا كَمَا سلف قبله بِزِيَادَة: «وَالْغسْل من السّنة» ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده نظر. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» بعد (سياقته) لَهُ: وَفِيه إِسْنَاد آخر(4/652)
أصح من ذَلِك. ثمَّ سَاق حَدِيث سَمُرَة، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَقد سُئِلَ عَن حَدِيث أنس هَذَا فَقَالَ: اخْتلف فِيهِ عَلَى قَتَادَة، وَرَوَاهُ عباد بن الْعَوام، عَن سعيد (بن) أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس. وَوهم فِيهِ وَخَالفهُ يزِيد بن زُرَيْع فَرَوَاهُ عَن سعيد، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن سَمُرَة، وَهُوَ الْمَحْفُوظ.
الطَّرِيق الرَّابِع: من حَدِيث عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «من تَوَضَّأ فبها ونعمت وَيُجزئ من الْفَرِيضَة، وَمن اغْتسل فالغسل أفضل» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (ثمَّ قَالَ) : وَهَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ غَرِيب من هَذَا الْوَجْه. (قَالَ) : وَإِنَّمَا يعرف من حَدِيث الْحسن وَغَيره.
الطَّرِيق الْخَامِس: من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا (بِهِ) .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالْبَزَّار وَقَالَ: لَا نعلم رَوَاهُ عَن عَوْف إِلَّا شريك، وَلَا عَن شريك إِلَّا أسيد بن زيد (قَالَ) : وَأسيد هَذَا كُوفِي قد احْتمل حَدِيثه مَعَ شِيعِيَّة شَدِيدَة كَانَت فِيهِ.
قلت: قَالَ يَحْيَى فِي حَقه: كَذَّاب وَقَالَ (السَّاجِي) : لَهُ مَنَاكِير. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الْمُنْكَرَات عَن الثِّقَات. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَمَعَ(4/653)
هَذَا (فقد) أخرج لَهُ البُخَارِيّ وَهُوَ (مِمَّن) عيب عَلَيْهِ الْإِخْرَاج عَنهُ.
قلت (وَذكره) (أَبُو عمر) بن عبد الْبر فِي «تمهيده» بِإِسْنَاد آخر أَجود من هَذَا فَقَالَ: ثَنَا عبد الْوَارِث بن سُفْيَان، نَا قَاسم بن أصبغ، نَا إِبْرَاهِيم بن (عبد الرَّحْمَن) نَا صَالح بن مَالك، نَا الرّبيع بن بدر، عَن الْجريرِي، عَن أبي نَضرة، عَن أبي سعيد بِهِ، (لَكِن) الرّبيع هَذَا تَرَكُوهُ.
الطَّرِيق السَّادِس: من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا (بِهِ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فَقَالَ: رَوَاهُ الثَّوْريّ عَمَّن حَدثهُ، عَن أبي نَضرة عَنهُ، وَرَوَاهُ إِسْحَاق عَن أبي دَاوُد الْحَفرِي، عَن سُفْيَان.
الطَّرِيق السَّابِع: من حَدِيث أبي حرَّة، عَن الْحسن، عَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة - قَالَ أَبُو حرَّة: لَا أعلمهُ إِلَّا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من تَوَضَّأ يَوْم الْجُمُعَة ... » الحَدِيث. ذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» وَرَوَاهَا قبله أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن أبي حرَّة (بِهِ) وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا ثمَّ قَالَ: رَوَاهُ بكر بن بكار، عَن أبي حرَّة بِإِسْنَادِهِ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.(4/654)
وَلم يشك، فَهَذَا مَا حَضَرنَا من طرق هَذَا الحَدِيث، وَكلهَا شاهدة لطريق الْحسن عَن سَمُرَة، وعاضدة لَهُ، فَهُوَ صَحِيح إِذن، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: وَقع فِي «شرح (التَّنْبِيه» ) لِلْحَافِظِ محب الدَّين الطَّبَرِيّ فِي آخر بَاب الْغسْل عقب هَذَا الحَدِيث: أَخْرجَاهُ. وَالْعَادَة فِي مثل ذَلِك (إِرَادَة) البُخَارِيّ (وَمُسلم) ، وَهَذَا وهم (وَقع من النَّاسِخ) ، وَقد عزاهُ فِي هَذَا الشَّرْح الْمَذْكُور فِي بَاب هَيْئَة الْجُمُعَة عَلَى الصَّوَاب، فَقَالَ: أخرجه أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ.
ثَانِيهَا: (نعمت) الْأَشْهر فِي ضَبطهَا - (كَمَا قَالَ النَّوَوِيّ) - كسر النُّون وَإِسْكَان الْعين. قَالَ الْخطابِيّ: والعوام يَرْوُونَهُ «ونَعِمت» بِفَتْح النُّون وَكسر الْعين، وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ (فِي «شرح الْمُهَذّب» : إِن هَذَا هُوَ الأَصْل فِي هَذَا اللَّفْظ. قَالَ الْخطابِيّ والقلعي: وَرَوَاهُ بَعضهم بِفَتْح النُّون وَكسر الْعين وَفتح التَّاء، أَي: نعمك الله. وَقَالَ النَّوَوِيّ) : إِن هَذَا (تَصْحِيف) . قلت: وَذكر هَذَا ابْن قُتَيْبَة فَقَالَ: وَيُقَال: «نَعِمْتَ - بِكَسْر الْعين وَسُكُون الْمِيم(4/655)
وَفتح التَّاء للمخاطب - أَي: نعَّمك الله. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي فِي «نوادره» : يُقَال: إِن (فعلهَا) كَذَا وَكَذَا فبها ونِعمت ونَعمت. وَقَالَ ابْن بري: فِي «نعمت» أَربع لُغَات مَشْهُورَة: نِعْمَت ونَعْمَت ونِعَمَتْ ونَعِمَتْ.
ثَالِثهَا: اخْتلف فِي مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «فبها ونعمت» عَلَى أَقْوَال:
أَحدهَا: فبالسنة آخذ ونعمت السّنة. (قَالَه) الْأَصْمَعِي فِيمَا حَكَاهُ الْأَزْهَرِي والخطابي، وَلَعَلَّه أَرَادَ بقوله: فبالسنة (آخذ) أَي: بِمَا جوزتهُ السّنة.
ثَانِيهَا: ونعمت الْخصْلَة أَو الفعلة أَو نَحْو ذَلِك قَالَه الْخطابِيّ، قَالَ: وَإِنَّمَا ظَهرت تَاء التَّأْنِيث (لإضمار) السُّنة أَو الْخصْلَة أَو (الفعلة) .
ثَالِثهَا: فبالرخصة آخذ، حَكَاهُ الْهَرَوِيّ فِي «غَرِيبه» عَن الْفَقِيه أبي حَامِد الشاركي قَالَ: لِأَن السّنة يَوْم الْجُمُعَة الْغسْل.
رَابِعهَا: فبالفريضة آخذ، قَالَه (صَاحب) (الشَّامِل) .
(خَامِسهَا) : ادَّعَى قوم فِيمَا حَكَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب «الْإِعْلَام (بناسخ) الحَدِيث ومنسوخه» و «مُخْتَصره» : إِن هَذَا الحَدِيث(4/656)
(نَاسخ) لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «غسل الْجُمُعَة وَاجِب عَلَى كل محتلم» . قَالَ: وَفِي هَذَا ضعف؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى من هَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا (تَأَول) قوم - مِنْهُم الْخطابِيّ - الْوُجُوب باللزوم فِي بَاب الِاسْتِحْبَاب، كَمَا تَقول: حَقك عَلّي وَاجِب. وَقَالَ فِي «تَحْقِيقه» : فِي هَذِه الدَّعْوَى بُعد؛ لِأَنَّهُ لَا تَارِيخ مَعنا، وَأَحَادِيث الْوُجُوب أصح.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْأَرْبَعين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من غسل مَيتا فليغتسل، وَمن مسّه فَليَتَوَضَّأ» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه مَبْسُوطا فِي بَاب الْغسْل فَرَاجعه مِنْهُ، وَذكر الرَّافِعِيّ هُنَا أَن الْأَخْبَار فِي غسل الْجُمُعَة أصح وَأثبت، أَي من الْأَخْبَار فِي الْغسْل من غسل الْمَيِّت وَهُوَ كَمَا قَالَ، (قَالَ) : وَهَذَا الْخَبَر إِن صَحَّ؛ مَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْأَرْبَعين
رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «لَا غسل عَلَيْكُم من غسل (ميتكم) » .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طَرِيقين: مَرْفُوعَة وموقوفة، أما المرفوعة، فأخرجها الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، (عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد، عَن(4/657)
أبي شيبَة إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن أبي شيبَة) ، عَن خَالِد بن مخلد، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَيْسَ عَلَيْكُم فِي غسل ميتكم غسل إِذا غسلتموه؛ فَإِن ميتكم لَيْسَ بِنَجس، فحسبكم أَن تغسلوا أَيْدِيكُم» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» فِي آخر كتاب الْجَنَائِز مِنْهُ، عَن (أبي عَلّي) الْحُسَيْن بن عَلّي الْحَافِظ، نَا أَحْمد بن (مُحَمَّد) ، كَمَا سَاقه الدَّارَقُطْنِيّ متْنا وإسنادًا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ، قَالَ: وَفِيه رفض لحَدِيث مُخْتَلف فِيهِ عَلَى مُحَمَّد بن (عَمْرو) بأسانيد: «من غسل مَيتا فليغتسل» .
قلت: بل يعْمل (بهما) فَيُسْتَحَب الْغسْل.
وَقَوله: «إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ» هُوَ كَمَا قَالَ، فَإِن عَمْرو بن أبي عَمْرو وخَالِد بن مخلد من فرسانه، أخرج لَهما فِي «صَحِيحه» وَأخرج لَهما مُسلم أَيْضا، كِلَاهُمَا احتجاجًا، وَاحْتج بِالْأولِ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» أَيْضا وناهيك بِهِ، وَقَالَ أَحْمد وَأَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: ثِقَة. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» أَيْضا، وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بِهِ؛ لِأَن مَالِكًا رَوَى عَنهُ، وَلَا يروي إِلَّا عَن صَدُوق ثِقَة. وَقَالَ أَبُو(4/658)
حَاتِم فِي خَالِد بن مخلد: يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن معِين: مَا بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: صَدُوق لكنه يتشيع. وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بِهِ عِنْدِي إِن شَاءَ الله.
وَأما بَاقِي رِجَاله فَثِقَاتٌ، سُلَيْمَان بن بِلَال ثِقَة من رجال الصَّحِيحَيْنِ، وَأَبُو شيبَة إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن أبي شيبَة، قَالَ أَبُو حَاتِم فِي حَقه: صَدُوق. وَلم يذكر الْمزي فِي «تهذيبه» فِي تَرْجَمته غير ذَلِك.
وَأما الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ بعد أَن رَوَاهُ مَوْقُوفا من حَدِيث سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن عَمْرو، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «لَيْسَ عَلَيْكُم فِي ميتكم غسل إِذا غسلتموه، إِن ميتكم (لمُؤْمِن) طَاهِر وَلَيْسَ بِنَجس، فحسبكم أَن تغسلوا أَيْدِيكُم» : رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعا. وَلَا يَصح (رَفعه) . ثمَّ سَاقه من طَرِيق أبي شيبَة إِبْرَاهِيم بن عبد الله، عَن خَالِد بِهِ، بِلَفْظ: «لَيْسَ عَلَيْكُم فِي غسل ميتكم غسل إِذا غسلتموه، وَإِن الْمُسلم لَيْسَ بِنَجس، فحسبكم أَن تغسلوا أَيْدِيكُم» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا ضَعِيف (وَالْحمل) فِيهِ عَلَى أبي شيبَة كَمَا أَظن.
قلت: أَبُو شيبَة هَذَا هُوَ إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن أبي (شيبَة) وَهُوَ ثِقَة كَمَا سلف، والمطعون فِيهِ الواهي هُوَ أَبُو شيبَة إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان(4/659)
الْكُوفِي قَاضِي وَاسِط، فَتنبه لذَلِك. وَأعله عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِعَمْرو وَأَنه لَا يحْتَج بِهِ. وَاعْتَرضهُ ابْن الْقطَّان وَرَأَى أَن الْحمل عَلَى أبي شيبَة فِيهِ أولَى من عَمْرو، وَقَالَ: فَإِنَّهُ ضَعِيف، وَعَمْرو مُخْتَلف فِيهِ. وَفِيه النّظر الَّذِي (أبديناه) فِي كَلَام الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. وَأعله ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» (بِعَمْرو وَأَن) يَحْيَى قَالَ: لَا يحْتَج بِهِ. وَأَن أَحْمد قَالَ: لَا بَأْس بِهِ. [وَفِيه خَالِد] بن مخلد أَيْضا. وَنقل عَن أَحْمد أَنه قَالَ فِي خَالِد: إِن لَهُ أَحَادِيث مَنَاكِير. وَأَن يَحْيَى قَالَ: لَا بَأْس بِهِ. وَقد أسلفنا أَنَّهُمَا من رجال الصَّحِيحَيْنِ (فجازا) القنطرة، وَقد كَانَ الْحَافِظ أَبُو الْحسن عَلّي بن الْمفضل (الْمَقْدِسِي) يَقُول عَمَّن أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ أَو أَحدهمَا هَذِه الْعبارَة فِي حَقه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ بعضه من وَجه آخر، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا فَذكره بِلَفْظ: «لَا تنجسوا (مَوْتَاكُم) ؛ فَإِن الْمُسلم لَيْسَ بِنَجس حيًّا وَلَا مَيتا» . ثمَّ قَالَ: وَهَكَذَا رُوِيَ من وَجه آخر غَرِيب، وَالْمَعْرُوف مَوْقُوف. وَأما الطَّرِيقَة الْمَوْقُوفَة فقد أسلفناها من طَرِيق الْبَيْهَقِيّ.(4/660)
الحَدِيث الثَّامِن وَالتَّاسِع بعد الْأَرْبَعين
«أَنه أسلم خلق كثير وَلم يَأْمُرهُم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالاغتسال، وَأمر بِهِ قيس بن عَاصِم وثمامة بن أَثَال لما أسلما» .
هُوَ كَمَا قَالَ، أما حَدِيث قيس (بن عَاصِم) فَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث سُفْيَان، عَن الْأَغَر، عَن خَليفَة بن حُصَيْن، عَن جده قيس بن عَاصِم قَالَ: «أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أُرِيد الْإِسْلَام، فَأمرنِي أَن أَغْتَسِل بِمَاء وَسدر» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن.
قلت: وصحيح، فَإِن أَبَا حَاتِم بن حبَان أخرجه فِي «صَحِيحه» بالسند الْمَذْكُور بِلَفْظ: عَن قيس «أَنه أسلم فَأمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يغْتَسل بِمَاء وَسدر» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك، وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» كَذَلِك سَوَاء، كَمَا أَفَادَهُ صَاحب «الإِمَام» ، وَفِي رِوَايَة لَهُ « (أَنه) أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاستخلاه (فَأمره) أَن يغْتَسل بِمَاء وَسدر» .(4/661)
وَرَوَاهُ أَبُو عَلّي بن السكن - فِيمَا حَكَى أَبُو الْحسن بن الْقطَّان - من حَدِيث وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن الْأَغَر، عَن خَليفَة بن (حُصَيْن) ، عَن أَبِيه، عَن جده قيس بن عَاصِم أَنه قَالَ: «أسلمت فَأمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أَغْتَسِل بِمَاء وَسدر» .
قَالَ ابْن الْقطَّان: فقد (تبين) لَك أَن رِوَايَة يَحْيَى وَمُحَمّد بن كثير الْمُتَقَدّمَة عَن سُفْيَان مُنْقَطِعَة، فَإِنَّهَا كَانَت معنعنة، فجَاء وَكِيع - وَهُوَ من الْحِفْظ (من هُوَ) - فَزَاد: «عَن أَبِيه» فارتفع الْإِشْكَال وَتبين الِانْقِطَاع. قَالَ: ثمَّ نقُول: (فَإذْ) لَا بُد للإسناد من زِيَادَة «حُصَيْن» [بَين خَليفَة وَقيس] فَالْحَدِيث ضَعِيف؛ فَإِنَّهَا زِيَادَة عَادَتْ بِنَقص؛ فَإِنَّهُ ارْتَفع بهَا الِانْقِطَاع (وَتحقّق ضعف الْخَبَر؛ فَإِن حَاله مَجْهُول بل هُوَ فِي نَفسه غير مَذْكُور، فَلم يجر) ذكره فِي كتاب البُخَارِيّ وَابْن أبي حَاتِم إِلَّا (غير) مَقْصُود برسم يَخُصُّهُ. انْتَهَى كَلَامه.
وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» ، عَن أَبِيه: أَن من قَالَ عَن خَليفَة بن حُصَيْن، عَن أَبِيه، عَن جده فقد أَخطَأ؛ وَصَوَابه عَن خَليفَة، عَن جده. أَي كَمَا أخرجه الْأَئِمَّة (الماضون) .(4/662)
وَفِي «علل الْخلال» كَمَا نَقله عَنهُ صَاحب «الإِمَام» : قَالَ عِيسَى بن جَعْفَر: قَالَ وَكِيع: عَن خَليفَة، عَن أَبِيه، عَن جده [وَالنَّاس كلهم: عَن خَليفَة بن حُصَيْن عَن جده] وَهَكَذَا قَالَ يَحْيَى الْقطَّان (وَغَيره) .
قَالَ صَاحب «الإِمَام» : وَقد وَقع لنا من حَدِيث قبيصَة بن عقبَة، عَن سُفْيَان، (عَن) الْأَغَر، عَن خَليفَة بن حُصَيْن، عَن أَبِيه «أَن» جده أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[فَأسلم] فَأمره أَن يغْتَسل بِمَاء وَسدر» . رَوَاهُ يَعْقُوب بن سُفْيَان الْحَافِظ، عَن قبيصَة. وَرَوَاهُ أَبُو عبد الله الْحَافِظ من وَجه آخر، عَن قبيصَة. قَالَ: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق قيس بن الرّبيع، عَن الْأَغَر، عَن خَليفَة بِزِيَادَة غَرِيبَة، فَأخْرجهُ البرقي (فِي) «تَارِيخه» كَذَلِك عَن قيس «أَنه أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[فَأسلم] فَأمره أَن يغْتَسل بِمَاء وَسدر، وَأَن يقوم بَين أبي بكر وَعمر فيعلمانه» .
قلت: رَوَاهَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من الْوَجْه الْمَذْكُور، لَكِن فِي رِوَايَته أَنه قَامَ بَينهمَا من غير أَمر لَهُ بذلك.
وَأما حَدِيث ثُمَامَة بن أَثَال فَهُوَ حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث عبيد الله بن عمر - بِالتَّصْغِيرِ - عَن سعيد(4/663)
المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة (أَن ثُمَامَة بن أَثَال أسلم فَأمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يغْتَسل بِمَاء وَسدر» .
قَالَ الْبَزَّار: وَهَذَا الحَدِيث لَا نَعْرِف رَوَاهُ عَن عبيد الله (إِلَّا عبد الرَّزَّاق. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث عبد الله) بن عمر - المكبر - عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة وَفِيه: «اذْهَبُوا بِهِ إِلَى حَائِط بني فلَان فَمُرُوهُ أَن يغْتَسل» .
وَرَوَاهُ الْخلال فِي «علله» ، عَن عبد الله بن أَحْمد، عَن أَبِيه، عَن سُرَيج، عَن عبد الله بن عمر، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة «أَن ثُمَامَة بن أَثَال الْحَنَفِيّ أسلم، فَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُنطلق بِهِ إِلَى حَائِط أبي طَلْحَة فيغتسل، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: حسن إِسْلَام أخيكم» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» فَجمع بَين الطَّرِيقَيْنِ، أخرجه (عَن أبي) عرُوبَة، نَا سَلمَة بن شبيب، نَا عبد الرَّزَّاق، أَنبأَنَا عبد الله بن عمر وَعبيد الله بن عمر، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة: «أَن ثُمَامَة الْحَنَفِيّ أسر ... » فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: «فَمر بِهِ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْمًا فَأسلم، فَبعث بِهِ إِلَى حَائِط أبي طَلْحَة، فَأمره أَن يغْتَسل، فاغتسل وَصَلى رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لقد حسن إِسْلَام صَاحبكُم» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة، وَفِيه: «وَأمره أَن يغْتَسل» .(4/664)
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن عبد الله وَعبيد الله، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة ... فَذكره كَمَا ذكر ابْن حبَان سَوَاء، وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ: هَذَا الحَدِيث (عَن) سُفْيَان (عَن) عبد الله وَعبيد الله جَمِيعًا.
وَقَالَ الْخَطِيب: رَوَاهُ عبد الله الْأَشْجَعِيّ، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن عبد الله بن عمر. وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق، عَن (عبد الله وَعبيد الله) جَمِيعًا عَن سعيد المَقْبُري.
قلت: وَأخرجه (أَبُو) يعْلى الْموصِلِي فِي «مُسْنده» من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن رجل، عَن سعيد المَقْبُري [عَن أَبِيه] عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «لما أسلم ثُمَامَة أمره رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يغْتَسل وَيُصلي رَكْعَتَيْنِ» .
قلت: و (أصل) حَدِيث ثُمَامَة هَذَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» كَمَا سلف فِي أَوَاخِر شُرُوط الصَّلَاة، لَكِن الْمَذْكُور فِي روايتهما «أَنه اغْتسل» وَلَيْسَ فِيهَا أَمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (لَهُ) بذلك، وَلَيْسَ تَركه فِيهَا الْأَمر بِالْغسْلِ مُعَارضا لِلْأَمْرِ بِهِ عَلَى مَا عرف من قبُول الزِّيَادَة.
فَائِدَة: ثُمَامَة بن أَثَال - بِالْمُثَلثَةِ فيهمَا والهمزة مَضْمُومَة - فِي بني حنيفَة، وَقيس بن عَاصِم من سَادَات الْعَرَب، قدم عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي وَفد(4/665)
(من) بني تَمِيم سنة تسع من الْهِجْرَة فَأسلم، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «هَذَا سيد أهل الْوَبر» . كَمَا رَوَاهُ الْبَغَوِيّ وَابْن قَانِع وَغَيرهمَا، وَكَانَ رجلا حَلِيمًا عَاقِلا، قيل للأحنف بن قيس: (مِمَّن) تعلمت الْحلم؟ قَالَ: من قيس بن عَاصِم.
فَائِدَة ثَانِيَة: أَمر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بِالْغسْلِ عِنْد الْإِسْلَام غَيرهمَا، فَمنهمْ وَاثِلَة بن الْأَسْقَع، كَمَا رَوَاهُ (الطَّبَرَانِيّ) فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث مَعْرُوف (أبي الْخطاب) عَنهُ قَالَ: «لما) أسلمت أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ لي: اذْهَبْ فاغتسل بِمَاء وَسدر وألق عَنْك (شعر) الْكفْر» .
ومعروف هَذَا، قَالَ ابْن عدي: أَحَادِيثه مُنكرَة جدًّا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَتكلم بعض البغداديين (فِي سليم) بن مَنْصُور بن عمار الَّذِي وَالِده (رَوَى) هَذَا الحَدِيث عَن مَعْرُوف، وَلم يَأْتِ هَذَا الْمُتَكَلّم بِحجَّة، وَمِنْهُم قَتَادَة كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا عَن مُحَمَّد بن النَّضر الْأَزْدِيّ، ثَنَا أَحْمد بن عبد(4/666)
الْملك (بن) وَاقد الْحَرَّانِي، ثَنَا قَتَادَة بن الْفضل بن قَتَادَة الرهاوي، عَن أَبِيه [حَدَّثَني (عَم أبي هَاشم) بن قَتَادَة الرهاوي، عَن أَبِيه] ، قَالَ: أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ لي: يَا قَتَادَة، اغْتسل بِمَاء وَسدر و (احْلق) عَنْك شعر الْكفْر. وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَأْمر من أسلم أَن (يختتن) وَإِن كَانَ ابْن ثَمَانِينَ سنة» . وَمِنْهُم عقيل، كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «تَارِيخ نيسابور» من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن أَبِيه، عَن جده «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أمره لما أسلم بالاغتسال» .
الحَدِيث الْخَمْسُونَ
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (أَمر) قيسا وثمامة بِالْغسْلِ بعد الْإِسْلَام» .
(هُوَ كَمَا قَالَ) ، وَقد عَلمته وَاضحا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي رِوَايَة «الصَّحِيحَيْنِ» فِي حَدِيث ثُمَامَة السالفة فِي «بَاب شُرُوط الصَّلَاة» -(4/667)
والمشار إِلَيْهَا هُنَا الَّتِي ظَاهرهَا وُقُوع الْإِسْلَام بعده -: يحْتَمل أَن يكون أسلم عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ اغْتسل وَدخل الْمَسْجِد فأظهر الشَّهَادَة ثَانِيًا جمعا بَين الرِّوَايَتَيْنِ.
الحَدِيث الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ
عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة غسل الْجَنَابَة ثمَّ رَاح فَكَأَنَّمَا قرب بَدَنَة، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّانِيَة فَكَأَنَّمَا قرب (بقرة) وَمن رَاح فِي السَّاعَة (الثَّالِثَة) فَكَأَنَّمَا قرب كَبْشًا (أقرن) وَمن رَاح فِي السَّاعَة الرَّابِعَة فَكَأَنَّمَا قرب (دجَاجَة) ، وَمن رَاح فِي السَّاعَة (الْخَامِسَة فَكَأَنَّمَا) قرب بَيْضَة، فَإِذا خرج الإِمَام حضرت الْمَلَائِكَة يَسْتَمِعُون الذّكر» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَذَلِك.
وَأَخْرَجَا أَيْضا عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة(4/668)
وقفت الْمَلَائِكَة عَلَى بَاب الْمَسْجِد يَكْتُبُونَ الأول فَالْأول، وَمثل المهجر كَالَّذي يهدي بَدَنَة، ثمَّ كَالَّذي يهدي بقرة، ثمَّ كَبْشًا، ثمَّ دجَاجَة، ثمَّ بَيْضَة، فَإِذا خرج (الإِمَام) طَوَوْا صُحُفهمْ ويستمعون الذّكر» .
وَفِي (رِوَايَة للنسائي) بِإِسْنَاد صَحِيح: قَالَ فِي السَّاعَة الْخَامِسَة: «كَالَّذي يهدي عصفورًا» وَفِي السَّادِسَة «بَيْضَة» .
وَفِي رِوَايَة (لَهُ) بِإِسْنَاد صَحِيح قَالَ فِي الرَّابِعَة: «كالمهدي بطة، ثمَّ كالمهدي دجَاجَة، ثمَّ كالمهدي بَيْضَة» .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «مَجْمُوعه» و «خلاصته» : وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ وَإِن صَحَّ (إسنادهما) فقد يُقَال: هما شاذتان لمخالفتهما سَائِر الرِّوَايَات.
قلت: قد أخرج رِوَايَة العصفور أَحْمد فِي «مُسْنده» بِإِسْنَاد جيد من رِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ فَلَا مُخَالفَة إِذا.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْخمسين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة واستن وَمَسّ من (طيب) إِن كَانَ عِنْده، وَلبس أحسن ثِيَابه، ثمَّ جَاءَ إِلَى الْمَسْجِد وَلم يتخط رِقَاب النَّاس، ثمَّ ركع مَا شَاءَ الله أَن يرْكَع، ثمَّ أنصت إِذا خرج إِمَامه(4/669)
حَتَّى يُصَلِّي، كَانَت لَهُ كَفَّارَة لما بَينهَا وَبَين الْجُمُعَة الَّتِي كَانَت قبلهَا) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد فِي آخر الطَّهَارَة من «سنَنه» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي هَذَا الْبَاب، من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور زادوا - خلا ابْن حبَان -: «يَقُول أَبُو هُرَيْرَة: وَثَلَاثَة أَيَّام زِيَادَة، إِن الله (قد) جعل الْحَسَنَة (بِعشر) أَمْثَالهَا) . وَفِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عنعنة ابْن إِسْحَاق، لَكِن رَوَاهُ ابْن حبَان بِدُونِهَا، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» (بِدُونِهَا) وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. أَي فِي ابْن إِسْحَاق مُتَابعَة (لَا اسْتِقْلَالا) .
فَائِدَة: قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» : قد يتَوَهَّم من لم يَسْبُرْ صناعَة الحَدِيث أَن الْجُمُعَة إِلَى (الْجُمُعَة) ثَمَانِيَة (أَيَّام)(4/670)
وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام [لم يقل] «غفر لَهُ من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة» فوقت الْجُمُعَة زَوَال الشَّمْس، فَمن زَوَال الشَّمْس يَوْم الْجُمُعَة إِلَى مثله من الْأُخْرَى سَبْعَة أَيَّام، وَقَوله: «ثَلَاثَة أَيَّام زِيَادَة» تَمام (الْعشْر) ، قَالَ الله تَعَالَى: (من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا) وَهَذَا مِمَّا نقُول فِي (كتبنَا) : إِن الْمَرْء قد يعْمل طَاعَة الله فَيغْفر لَهُ بهَا (ذنوبًا لم يكسبها) بعد.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْخمسين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «البسوا الْبيَاض فَإِنَّهَا خير ثيابكم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَأحمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، وَابْن حبَان،(4/671)
وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ، من حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «البسوا من ثيابكم الْبيَاض فَإِنَّهَا من خير ثيابكم، وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم» .
وَلَفظ الشَّافِعِي: «من خير ثيابكم الْبيَاض (فليلبسها) أحياؤكم، وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم» .
وَلَفظ أَحْمد كَمَا سقناه، وَفِي لفظ لَهُ كَلَفْظِ الشَّاهِد الَّذِي سَيذكرُهُ الْحَاكِم. (قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَلَفظ الْحَاكِم: «خير ثيابكم الْبيَاض فألبسوها أحياءكم، وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم» .
وَقَالَ ابْن الْقطَّان أَيْضا: إِنَّه حَدِيث صَحِيح.
قَالَ الْحَاكِم: وَلِهَذَا الحَدِيث شَاهد صَحِيح: عَن سَمُرَة بن جُنْدُب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «البسوا الثِّيَاب الْبيض وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم، فَإِنَّهَا أطهر وَأطيب» .
وَهَذَا الشَّاهِد صَحِيح كَمَا ذكر، وَقد أخرجه أَيْضا التِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه من رِوَايَة [مَيْمُون] بن أبي [شبيب](4/672)
الْكُوفِي، عَن سَمُرَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح) .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث أبي قلَابَة، (عَن سَمُرَة) رَفعه: «عَلَيْكُم (بِهَذِهِ) الْبيَاض (فيلبسها) أحياؤكم وكفنوا فِيهِ مَوْتَاكُم، فَإِنَّهَا من خير ثيابكم) . (وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» أَيْضا فِي كتاب اللبَاس بِلَفْظ: «عَلَيْكُم بِهَذَا الثِّيَاب الْبيض [فليلبسه] أحياؤكم وكفنوا فِيهِ مَوْتَاكُم، فَإِنَّهُ من خير ثيابكم) . أَو قَالَ: من خير لباسكم) .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ؛ لِأَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَإِسْمَاعِيل ابْن علية أَرْسلَاهُ عَن أَيُّوب. ثمَّ ذكر ذَلِك عَنْهُمَا بِإِسْنَادِهِ.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث، وَذكره بِلَفْظ الْحَاكِم فَقَالَ: لم (يُتَابع) معمر عَلَى وصل هَذَا الحَدِيث - (حَيْثُ رَوَوْهُ عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة، عَن أبي الْمُهلب، عَن(4/673)
سَمُرَة) وَإِنَّمَا يرويهِ عَن أبي قلَابَة، عَن سَمُرَة مَرْفُوعا.
قَالَ الْحَاكِم: وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَسمرَة بن جُنْدُب بِزِيَادَة فِيهِ، أما حَدِيث ابْن عَبَّاس فلفظه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خير ثيابكم الْبيَاض، فألبسوها أحياءكم وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم، وَإِن من خير أكحالكم الإثمد، (فَإِنَّهُ) يجلو الْبَصَر وينبت الشّعْر» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ.
وَأما حَدِيث سَمُرَة (فقد تقدم، قَالَ: وَله إِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ [وَلم يخرجَاهُ] فَذكر حَدِيث سَمُرَة) بِلَفْظ: «البسوا من الثِّيَاب (الْبيَاض) فَإِنَّهَا أطهر وَأطيب، وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم» .
ثمَّ (قَالَ) : هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ [وَلم يخرجَاهُ] .
قلت: وَله شَاهد من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، أخرجه الطَّبَرَانِيّ (مَعَ) حَدِيث سَمُرَة؛ وَشَاهد آخر من حَدِيث أنس، لكنه واهٍ، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت (أبي) عَن حَدِيث رَوَاهُ حسن(4/674)
بن (حكم) بن طهْمَان، عَن هِشَام الدستوَائي، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو [عِصَام] عَن أنس مَرْفُوعا: «خير ثيابكم الْبيَاض فليلبسها أحياؤكم، وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم» . فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر جدًّا، بَاطِل بِهَذَا الْإِسْنَاد.
قلت: وَفِي سنَن ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات - (حَتَّى) عبد الْمجِيد بن أبي رواد، وَإِن لينه أَبُو حَاتِم - من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء: (رَفعه) «إِن أحسن مَا زرتم الله [بِهِ] فِي قبوركم ومساجدكم الْبيَاض» .
فَائِدَتَانِ:
الأولَى: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «البسوا الْبيَاض» (هُوَ) بِفَتْح الْبَاء.
الثَّانِيَة: قَالَ الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (نقلا عَن) أَصْحَابنَا (الْعِرَاقِيّين) أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يلبس مَا صبغ (غزله بعد) النسج. وَهُوَ كَمَا نَقله عَنْهُم، وَقد ترْجم الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فَقَالَ: بَاب مَا يسْتَحبّ من ثِيَاب الْحبرَة وَمَا يصْبغ غزله لَا يصْبغ بَعْدَمَا ينسج. ثمَّ رَوَى من حَدِيث(4/675)
قَتَادَة: (سَأَلت أنسا: أَي اللبَاس كَانَ أحب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَو أعجبه؟ قَالَ: الْحبرَة» رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، ثمَّ رَوَى من حَدِيث خَالِد بن معدان أَن جُبَير بن نفير حَدثهُ أَن عبد الله بن عَمْرو حَدثهُ قَالَ: «رَأَى) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عليّ ثَوْبَيْنِ معصفرين، فَقَالَ: يَا عبد الله بن عَمْرو، إِن هَذِه ثِيَاب الْكفَّار فَلَا تلبسها» رَوَاهُ مُسلم.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْخمسين
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يتعمم يَوْم الْجُمُعَة» .
هَذَا الحَدِيث فِي «صَحِيح مُسلم» نَحوه من حَدِيث عَمْرو بن حُرَيْث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خطب النَّاس وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء» .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْخمسين
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ (يتردى) يَوْم الْجُمُعَة) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من (حَدِيث) جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَهُ برد أَحْمَر يلْبسهُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَة» . وَفِي «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» عَنهُ أَيْضا قَالَ: «كَانَت للنَّبِي «حلَّة) يلبسهَا فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَة» .(4/676)
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث أبي مُعَاوِيَة، عَن هِلَال بن عَامر، عَن أَبِيه قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بمنى يخْطب عَلَى بغلة وَعَلِيهِ برد أَحْمَر، وعليّ أَمَامه يُعبر عَنهُ» .
إِسْنَاده حسن، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: انْفَرد بحَديثه أَبُو مُعَاوِيَة و (يُقَال) : أَخطَأ فِيهِ.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْخمسين
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا ركب فِي عيد وَلَا جَنَازَة» .
هَذَا الحَدِيث بيض لَهُ الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» بَيَاضًا.
وَقد ذكره الشَّافِعِي فِي «الْأُم» مُنْقَطِعًا ومرسلاً فَقَالَ: بلغنَا أَن الزُّهْرِيّ قَالَ: «مَا ركب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي عيد وَلَا جَنَازَة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّافِعِي هَكَذَا، قَالَ الْأَئِمَّة: وَلم يذكر الْجُمُعَة فِي هَذَا الحَدِيث؛ لِأَن بَاب حجرته كَانَ فِي الْمَسْجِد، فَلَا يَتَأَتَّى الرّكُوب.
وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث ابْن عمر وَأبي رَافع وَسعد الْقرظ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخرج إِلَى الْعِيد مَاشِيا وَيرجع مَاشِيا» . وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي رَافع: «وَيرجع مَاشِيا» وأسانيد الْكل(4/677)
(ضَعِيفَة) بَيِّنَة الضعْف.
وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» من حَدِيث الْحَارِث الْأَعْوَر، عَن عَلّي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «من السّنة أَن تخرج إِلَى الْعِيد مَاشِيا» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن.
قلت (لَكِن) الْحَارِث الْأَعْوَر استضعف، وَنسبه الشّعبِيّ وَغَيره إِلَى الْكَذِب، وَفِي «علل ابْن الْجَوْزِيّ» من حَدِيث أبي بكر الصّديق وَعمْرَان بن الْحصين مَرْفُوعا: «الْمَشْي إِلَى الْجُمُعَة كَفَّارَة عشْرين سنة، فَإِذا فرغ من الْجُمُعَة أُجِيز بِعَمَل مِائَتي سنة» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، فِي إِسْنَاده الضَّحَّاك بن حَمْزَة. قَالَ يَحْيَى فِيهِ: لَيْسَ بِشَيْء.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْخمسين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أتيتم الصَّلَاة فائتوها تمشون وَلَا تأتوها تسعون، وَعَلَيْكُم السكينَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سبق (بَيَانه) فِي صَلَاة الْجَمَاعَة.
الحَدِيث الثَّامِن بعد (الْخمسين)
عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: (كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولَى من صَلَاة الْجُمُعَة سُورَة (الْجُمُعَة) ، وَفِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة الْمُنَافِقين» .(4/678)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة «عبيد الله» بن أبي رَافع قَالَ: «اسْتخْلف مَرْوَان أَبَا هُرَيْرَة عَلَى الْمَدِينَة وَخرج إِلَى مَكَّة، فَصَلى لنا أَبُو هُرَيْرَة الْجُمُعَة، (فَقَرَأَ بعد الْحَمد سُورَة الْجُمُعَة فِي الأولَى، و (إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ (فِي الثَّانِيَة) قَالَ: فأدركت أَبَا هُرَيْرَة حِين انْصَرف، فَقلت لَهُ: إِنَّك قَرَأت بسورتين كَانَ عَلّي بن أبي طَالب يقْرَأ بهما فِي الْكُوفَة. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَإِنِّي سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ بهما» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ ذَلِك من فعل عَلّي وَأبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، فقد صَحَّ ذَلِك عَنْهُمَا كَمَا ذَكرْنَاهُ إِذا.
وَرَوَى مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْخمسين
عَن النُّعْمَان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي يَوْم الْجُمُعَة (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (، و (هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية (. قَالَ: وَإِذا اجْتمع الْعِيد وَالْجُمُعَة فِي يَوْم وَاحِد يقْرَأ بهما أَيْضا فِي الصَّلَاتَيْنِ» .(4/679)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك بِهَذِهِ الْحُرُوف.
وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ مثله من حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب مَرْفُوعا فِي الْجُمُعَة فَقَط.
الحَدِيث السِّتُّونَ
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَمن مندوبات الْجُمُعَة أَن يحْتَرز عَن تخطي رِقَاب النَّاس إِذا حضر الْمَسْجِد؛ فقد ورد الْخَبَر بذلك.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد صَحَّ ذَلِك فِي حديثين:
أَحدهمَا: عَن أبي الزَّاهِرِيَّة - واسْمه حدير بن كريب الْحَضْرَمِيّ، وَيُقَال: الْحِمْيَرِي - قَالَ: كُنَّا مَعَ عبد الله بن بسر صَاحب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم الْجُمُعَة، فجَاء رجل يتخطى رِقَاب النَّاس (فَقَالَ عبد الله بن بسر: جَاءَ رجل يتخطى رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة) وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخْطب، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اجْلِسْ فقد آذيت» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: بِإِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم كل رِجَاله احْتج بهم فِي «صَحِيحه» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات لَا نعلم فيهم جرحا،(4/680)
لَا جرم أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» واستدركه (الْحَاكِم) بِزِيَادَة: «فقد آذيت وآنيت» . وَهَذَا لفظ ابْن حبَان: عَن عبد الله بن بسر قَالَ: «كنت جَالِسا إِلَى جنب الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة، فجَاء رجل يتخطى رِقَاب النَّاس وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يخْطب فَقَالَ) : اجْلِسْ فقد آذيت وآنيت» .
وَلَفظ الْحَاكِم عَن أبي الزَّاهِرِيَّة قَالَ: «كنت جَالِسا مَعَ عبد الله بن بسر يَوْم الْجُمُعَة فَمَا زَالَ يحدثنا حَتَّى خرج الإِمَام، فجَاء رجل يتخطى ... » الحَدِيث، كَمَا سَاقه ابْن حبَان سَوَاء، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ.
وَكَذَا أخرجه أَحْمد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ، وَأما ابْن حزم فَخَالف فِي تَصْحِيحه، فَقَالَ فِي «محلاه» : وَاحْتج من (منع) بِخَبَر ضَعِيف، (رَوَيْنَاهُ) من طَرِيق مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن أبي الزَّاهِرِيَّة ...(4/681)
فَذكره، ثمَّ قَالَ: لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ من طَرِيق مُعَاوِيَة بن صَالح، لم يروه غَيره وَهُوَ ضَعِيف. انْتَهَى.
وَمُعَاوِيَة هَذَا قَاضِي الأندلس، وَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن مهْدي، وَقَالَ ابْن سعد: ثِقَة كثير الحَدِيث. وَقَالَ الْعجلِيّ وَالنَّسَائِيّ: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: ثِقَة مُحدث. وَكَانَ يَحْيَى بن سعيد لَا يرضاه، وَعَن مُوسَى بن سَلمَة قَالَ: أتيت مُعَاوِيَة بن صَالح لأكتب عَنهُ فَرَأَيْت - أرَاهُ قَالَ - الملاهي: فَقلت: مَا هَذَا؟ قَالَ: شَيْء (نهديه) صَاحب الأندلس. قَالَ: فتركته، وَلم أكتب عَنهُ. فَإِن كَانَ ابْن حزم تَركه لهَذَا، فَتكون الملاهي عِنْده مُحرمَة، ومذهبه عَلَى مَا هُوَ مَنْقُول عَنهُ الْإِبَاحَة.
فَائِدَة: «آنيت» ، بِهَمْزَة ممدودة أَي: تَأَخَّرت وأبطأت. قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامعه» وَالنَّوَوِيّ فِي «خلاصته» ، وَالْمُنْذِرِي فِي «حَوَاشِيه» قَالَ: وَمِنْه (قيل) : (المستمكث) فِي الْأُمُور متأنٍّ. قَالَ: (وآنيت) وأنيت بِمَعْنى وَاحِد. وَوَقع فِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» : «آذيت وأوذيت» . كَذَا رَأَيْته.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يحضر الْجُمُعَة ثَلَاثَة نفر: رجل حضرها يَلْغُو وَهُوَ حَظه مِنْهَا،(4/682)
وَرجل حضرها يَدْعُو فَهُوَ رجل دَعَا الله - عَزَّ وَجَلَّ - إِن (شَاءَ) أعطَاهُ وَإِن (شَاءَ) مَنعه، وَرجل حضرها بإنصات وَسُكُون وَلم يتخط رَقَبَة مُسلم، وَلم يؤذ أحدا فَهِيَ كَفَّارَة إِلَى الْجُمُعَة الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَة ثَلَاثَة أَيَّام، وَذَلِكَ بِأَن الله - تَعَالَى - يَقُول: (من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا» ) رَوَاهُ ( ... ) بِإِسْنَاد صَحِيح، وَأما حَدِيث معَاذ بن أنس مَرْفُوعا: «من تخطى (رِقَاب) النَّاس يَوْم الْجُمُعَة اتخذ جِسْرًا إِلَى جَهَنَّم» . فَرَوَاهُ (أَبُو دَاوُد) وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف. قَالَ التِّرْمِذِيّ: غَرِيب (لَا نعرفه) إِلَّا من (حَدِيث) رشدين وَهُوَ ضَعِيف.
قلت: وَأخرجه أَحْمد من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن زبان بن فائد، عَن سهل بن معَاذ عَنهُ بِهِ.(4/683)
الحَدِيث الْحَادِي بعد السِّتين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَمن مندوبات الْجُمُعَة أَلا يصل صَلَاة الْجُمُعَة بنافلة بعْدهَا (لَا) الرَّاتِبَة، وَلَا غَيرهَا، ويفصل بَينهَا وَبَين الرَّاتِبَة بِالرُّجُوعِ إِلَى منزله، أَو بالتحويل إِلَى مَوضِع آخر أَو بِكَلَام وَنَحْوه، ذكره فِي «التَّتِمَّة» وَثَبت فِي الْخَبَر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هَذَا لَفظه وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي (بعد) الْجُمُعَة رَكْعَتَيْنِ فِي بَيته» . وَفِي «صَحِيح مُسلم» عَن السَّائِب ابْن أُخْت نمر قَالَ: «صليت مَعَ مُعَاوِيَة فِي الْمَقْصُورَة الْجُمُعَة فَلَمَّا سلم الإِمَام قُمْت فِي مقَامي فَصليت، فَلَمَّا (دخل) أرسل إليَّ فَقَالَ: لَا تعد لما فعلت، إِذا صليت الْجُمُعَة فَلَا تصلها بِصَلَاة حَتَّى تكلم أَو تخرج؛ فَإِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أمرنَا) بذلك أَن لَا توصل صَلَاة بِصَلَاة حَتَّى نتكلم أَو نخرج» . وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَطاء «أَنه رَأَى ابْن عمر يُصَلِّي بعد الْجُمُعَة فينماز عَن مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْجُمُعَة قَلِيلا غير كثير(4/684)
(فيركع) رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يمشي أنفس من ذَلِك فيركع أَربع رَكْعَات» وَأما حَدِيث عصمَة الْمَرْفُوع «إِذا صَلَّى أحدكُم الْجُمُعَة فَلَا يُصَلِّي بعْدهَا شَيْئا حَتَّى يتَكَلَّم أَو يخرج» فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بإسنادٍ ضَعِيف لأجل الْفضل بن الْمُخْتَار الواهي.
وَمن الْأَحَادِيث الْمُنَاسبَة فِي هَذَا الْبَاب، وَذكرهَا الرَّافِعِيّ فِي أَوَائِل «كتاب الْوَصِيَّة» حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «حق لله عَلَى كل مُسلم أَن يغْتَسل فِي كل سَبْعَة أَيَّام، يغسل رَأسه وَجَسَده» وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» . وَرَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث طَاوس، عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بِلَفْظ: «عَلَى كل مُسلم فِي كل سَبْعَة أَيَّام غسل وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح من رِوَايَة جَابر مَرْفُوعا « (عَلَى) رجل مُسلم فِي كل سَبْعَة أَيَّام غسل يَوْم، وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة» .
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت (أبي) عَن حَدِيث جَابر هَذَا فَقَالَ: إِنَّه خطأ، وَالصَّوَاب وَقفه عَلَى أبي هُرَيْرَة.(4/685)
(هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب) .
وَأما آثاره فستة:
الأول: «أَن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَقَامَ الْجُمُعَة، وَعُثْمَان مَحْصُور» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ فِي «الْأُم» بإسنادهما الصَّحِيح، قَالَ الْبَيْهَقِيّ نقلا عَن الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، أَنه قَالَ: وَلَا نعلم أَن عُثْمَان أمره بذلك. وَعبارَة الشَّافِعِي فِي «الْأُم» و «الْمُخْتَصر» قد تُعْطِي أَنه صَلَّى الْجُمُعَة وَعُثْمَان مَحْصُور، فَإِنَّهُ قَالَ: تصح الْجُمُعَة خلف كل إِمَام صلاهَا من أَمِير ومأمور ومتغلب، وَغير أَمِير. قَالَ الْأَصْحَاب: أَرَادَ بالأمير السُّلْطَان، وبالمأمور نَائِبه، وبالمتغلب الْخَارِجِي، وَبِغير الْأَمِير آحَاد الرّعية فَتَصِح الْجُمُعَة خلف جَمِيعهم. ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي بعد هَذَا صَلَّى عليّ وَعُثْمَان مَحْصُور. هَذَا لَفظه، وَمثل الشَّافِعِي بذلك (يسْتَدلّ لصِحَّة) الْجُمُعَة خلف غير الْأَمِير والمأمور؛ لِأَن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لم يكن أَمِيرا فِي حَيَاة عُثْمَان لَا أَنه متغلب كَمَا اعْترض بِهِ بعض الحاسدين عَلَى الشَّافِعِي فاجتنبه.
الْأَثر الثَّانِي: عَن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَنه قَالَ: (إِذا زحم أحدكُم فِي صلَاته فليسجد عَلَى ظهر أَخِيه» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد صَحِيح من رِوَايَة أبي دَاوُد - يَعْنِي الطَّيَالِسِيّ - وَهُوَ فِي «مُسْنده» : ثَنَا سَلام - يَعْنِي(4/686)
(أَبَا) الْأَحْوَص - عَن سماك بن حَرْب، عَن سيار بن الْمَعْرُور قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب يخْطب وَهُوَ يَقُول: «يَا أَيهَا النَّاس، إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بنى هَذَا الْمَسْجِد وَنحن مَعَه والمهاجرون وَالْأَنْصَار، فَإِذا اشْتَدَّ الزحام فليسجد (الرجل) عَلَى ظهر أَخِيه» . ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث سُفْيَان عَن الْأَعْمَش، عَن الْمسيب، عَن زيد بن وهب، أَن عمر قَالَ: «إِذا اشْتَدَّ الْحر فليسجد عَلَى ثَوْبه، وَإِذا اشْتَدَّ الزحام، فليسجد أحدكُم عَلَى ظهر أَخِيه» .
وَذكره (فِي) «مُسْند الفردوس» مَرْفُوعا بِلَفْظ: «إِذا اشْتَدَّ الزحام ... » إِلَى آخِره، وَعَزاهُ إِلَى أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ.
وَقد أسلفت لَك رِوَايَته و (لَيست) ظَاهِرَة فِي الرّفْع، فَتنبه لذَلِك.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : الصَّحِيح فِي هَذَا عَن زيد بن وهب، عَن عمر (لَا خَرشَة بن الْحر عَن عمر) .
قلت: وَله طَرِيق رَابِع من حَدِيث الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: قَالَ عمر: «أَرَاكُم قد كثرتم فِي الْجمع، فليسجد الرجل عَلَى ظهر أَخِيه» .
ذكره ابْن عَسَاكِر فِي «تَخْرِيجه لأحاديث الْمُهَذّب» من حَدِيث مسعر، عَن الْقَاسِم بِهِ.(4/687)
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن [مُصعب] بن ثَابت، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «صَلَّى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَرَأَ النَّجْم فَسجدَ بِنَا فَأطَال السُّجُود، وَكثر النَّاس فَصَلى بَعضهم عَلَى ظهر بعض» .
قلت: ويعضد هَذَا كُله الحَدِيث الصَّحِيح السالف: «وَإِذا أَمرتكُم بِأَمْر فائتوا (مِنْهُ) مَا اسْتَطَعْتُم» .
الْأَثر الثَّالِث:
عَن عمر وَغَيره أَنهم قَالُوا: «إِن الصَّلَاة إِنَّمَا قصرت لأجل الْخطْبَة» وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد بن حزم من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن (عَمْرو) بن شُعَيْب: أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: «الْخطْبَة مَوضِع الرَّكْعَتَيْنِ، فَمن فَاتَتْهُ الْخطْبَة صَلَّى أَرْبعا» .
وَذكره أَبُو بكر الرَّازِيّ (عَن عمر) أَيْضا بِلَفْظ: «قصرت (صَلَاة) الْجُمُعَة لأجل الْخطْبَة» .
(وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ) فِي «سنَنه» من حَدِيث سعيد بن جُبَير قَالَ: «كَانَت الْجُمُعَة أَرْبعا فَجعلت الْخطْبَة مَكَان الرَّكْعَتَيْنِ» .(4/688)
وَرَوَى أَيْضا عَن مَكْحُول أَنه قَالَ: «فِي الْجُمُعَة خطبتان بَينهمَا جلْسَة، فَإِن لم يخْطب فِي الْجُمُعَة فَالصَّلَاة أَربع» .
الْأَثر الرَّابِع:
عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: «خُرُوج الإِمَام يقطع الصَّلَاة، وَكَلَامه يقطع الْكَلَام» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، عَن ابْن شهَاب قَالَ: قَالَ (ثَعْلَبَة) بن أبي مَالك الْقرظِيّ: «أَنهم كَانُوا فِي زمن عمر بن الْخطاب يصلونَ يَوْم الْجُمُعَة حَتَّى يخرج عمر، فَإِذا خرج عمر وَجلسَ عَلَى الْمِنْبَر (وَأذن الْمُؤَذّن) . قَالَ ثَعْلَبَة وَجَلَسْنَا نتحدث فَإِذا سكت (الْمُؤَذّن) وَقَامَ عمر يخْطب؛ أنصتنا فَلم يتَكَلَّم منا أحد» . قَالَ ابْن شهَاب: فخروج الإِمَام يقطع الصَّلَاة، وَكَلَامه يقطع الْكَلَام.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي (فِي «مُسْنده» ) عَن (ابْن) أبي فديك، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن ابْن شهَاب قَالَ: حَدثنِي ثَعْلَبَة بن [أبي] مَالك أَن(4/689)
قعُود الإِمَام يقطع السبحة و (أَن) كَلَامه يقطع الْكَلَام، وَأَنَّهُمْ (كَانُوا) يتحدثون يَوْم الْجُمُعَة وَعمر جَالس عَلَى الْمِنْبَر، فَإِذا سكت الْمُؤَذّن قَامَ عمر فَلم يتَكَلَّم أحد حَتَّى (قطع الْخطْبَتَيْنِ) كلتيهما، فَإِذا قَامَت الصَّلَاة وَنزل عمر تكلمُوا» .
والسبحة - بِضَم السِّين -: صَلَاة النَّافِلَة.
وثعلبة هَذَا صَحَابِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَرَوَى بَعضهم عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خُرُوج الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة يقطع الصَّلَاة، وَكَلَامه يقطع الْكَلَام» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا خطأ فَاحش، إِن هَذَا من كَلَام الزُّهْرِيّ. (وَمن) كَلَام (ثَعْلَبَة) كَمَا سبق.
وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» : قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: قد أخبر (ثَعْلَبَة) عَن عَامَّة أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي دَار الْهِجْرَة أَنهم كَانُوا يصلونَ نصف النَّهَار يَوْم الْجُمُعَة ويتكلمون وَالْإِمَام عَلَى الْمِنْبَر.
وَيروَى عَن (ابْن) عمر مَرْفُوعا: «إِذا خطب الإِمَام فَلَا صَلَاة وَلَا كَلَام» . وَهُوَ غَرِيب ضَعِيف.(4/690)
الْأَثر الْخَامِس:
«أَن ابْن عمر تطيب للْجُمُعَة، فَأخْبر أَن سعيد بن زيد منزول بِهِ وَكَانَ قَرِيبا لَهُ، فَأَتَاهُ وَترك الْجُمُعَة» .
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة قُتَيْبَة، عَن لَيْث، عَن يَحْيَى، عَن نَافِع «أَن ابْن عمر ذكر لَهُ أَن سعيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل - وَكَانَ بدريًّا - مَرِيض فِي يَوْم جُمُعَة، فَركب إِلَيْهِ بعد أَن تَعَالَى النَّهَار واقتربت الْجُمُعَة، وَترك الْجُمُعَة» . ذكر ذَلِك البُخَارِيّ فِي الْبَاب الثَّانِي فِي فضل من شهد بَدْرًا.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن (ابْن) أبي نجيح، عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن ذُؤَيْب «أَنه) دعِي وَهُوَ (يستحم للْجُمُعَة) لسَعِيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل وَهُوَ يَمُوت، فَأَتَاهُ وَترك الْجُمُعَة» .
قَالَ الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَكَانَ سعيد بن زيد قَرِيبا (لعمر) .
قلت: هُوَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ سعيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى بن رَبَاح، وَعبد الله بن عمر بن الْخطاب بن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى بن رَبَاح، يَجْتَمِعَانِ فِي نفَيْل.(4/691)
وَقَالَ صَاحب (الْمُهَذّب) : هُوَ ابْن عَمه يَعْنِي مجَازًا فَإِنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي نفَيْل كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الْأَثر السَّادِس:
قَالَ الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَذكر صَاحب (التَّهْذِيب) أَن فِي غسل الْحجامَة أثرا.
وَهُوَ كَمَا قَالَ وَهُوَ: عَن عبد الله بن (عَمْرو) بن العَاصِي، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى (أبي) مُعَاوِيَة، عَن الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد، عَنهُ (أَنه) قَالَ: كُنَّا نغتسل من خمس من الْحجامَة، وَالْحمام، ونتف الْإِبِط، وَمن الْجَنَابَة، وَيَوْم الْجُمُعَة. قَالَ الْأَعْمَش: فَذكرت ذَلِك لإِبْرَاهِيم فَقَالَ: مَا كَانُوا يرَوْنَ غسلا وَاجِبا إِلَّا من الْجَنَابَة، وَإِن كَانُوا يستحبون أَن يغتسلوا يَوْم الْجُمُعَة. (ثمَّ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ إِلَى الْأَعْمَش، حَدثنِي مُجَاهِد، عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: «اغْتسل من الْحمام وَالْجُمُعَة) ، والجنابة، والحجامة، والموسى» . وَقد تقدم فِي الْغسْل رَفعه من حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فَرَاجعه من ثمَّ.
خَاتِمَة رَأَيْت أَن أختم بهَا الْبَاب، فِيمَا جَاءَ فِيمَن فَاتَتْهُ الْجُمُعَة مَاذَا يفعل فِيهِ؟
عَن سَمُرَة بن جُنْدُب وَعَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.(4/692)
أما حَدِيث سَمُرَة، فَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عَفَّان، نَا همام، عَن قَتَادَة، قَالَ: حَدثنِي قدامَة بن وبرة، عَن سَمُرَة بن جُنْدُب، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من ترك جُمُعَة من غير عذر فليتصدق بِدِينَار، فَإِن لم يجد فَنصف دِينَار» .
ثمَّ أخرجه عَن وَكِيع، ثَنَا همام بِهِ بِلَفْظ: «من فَاتَتْهُ الْجُمُعَة فليتصدق بِدِينَار أَو نصف دِينَار» .
واستدركه الْحَاكِم، فَأخْرجهُ من حَدِيث يزِيد بن هَارُون، عَن همام ... فَذكره، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرج بِخِلَاف فِيهِ لسَعِيد بن بشير وَأَيوب بن الْعَلَاء، فَإِنَّهُمَا قَالَا عَن قَتَادَة، عَن قدامَة بن وبرة، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا، وَلَفظه: «من (ترك) الْجُمُعَة [من غير عذر] فليتصدق (بدرهم) أَو بِنصْف [دِرْهَم] أَو صَاع حِنْطَة أَو نصف صَاع) ثمَّ ذكر الْحَاكِم بِإِسْنَادِهِ عَن أَحْمد أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث همام (عَن) قَتَادَة، وخِلاف أبي الْعَلَاء فِيهِ إِيَّاه فَقَالَ: همام عندنَا أحفظ من أَيُّوب بن الْعَلَاء.
قلت: وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «من فَاتَتْهُ الْجُمُعَة فليتصدق بِدِينَار، فَإِن لم يجد (فَنصف) دِينَار» . وَفِي لفظ(4/693)
لَهُ: «من ترك الْجُمُعَة من غير عذر فليتصدق بِدِينَار» .
وَأعله ابْن الْجَوْزِيّ بِالْإِرْسَال فَقَالَ: قَالَ البُخَارِيّ: لَا يَصح سَماع قدامَة من سَمُرَة. وَقَالَ أَحْمد: قدامَة لَا يعرف.
قلت: قد قيل ليحيى بن معِين: قدامَة بن وبرة مَا حَاله؟ فَقَالَ: ثِقَة.
وَأخرج هَذَا الحَدِيث أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه كَمَا سلف.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث قدامَة مَرْفُوعا مُرْسلا كَمَا سلف عَن لفظ الْحَاكِم ثمَّ قَالَ: هَذَا مُرْسل. قَالَ: وَرَوَاهُ سعيد بن بشير هَكَذَا، إِلَّا أَنه قَالَ: مدًّا أَو نصف مد، وَقَالَ: عَن سَمُرَة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه من حَدِيث الْحسن، عَن سَمُرَة، وَالْخلاف فِي سَمَاعه مِنْهُ قد عَلمته فِيمَا مَضَى فِي آخر بَاب صفة الصَّلَاة.
وَرَأَيْت فِي «الْعِلَل» لعبد الله بن أَحْمد: سَأَلت أبي: هَل يَصح حَدِيث سَمُرَة هَذَا؟ فَقَالَ: قدامَة لَا يعرف، رَوَاهُ أَيُّوب أَبُو الْعَلَاء فَلم(4/694)
يصل إِسْنَاده كَمَا وَصله همام قَالَ: «نصف دِرْهَم أَو دِرْهَم» خَالفه فِي الحكم وَقصر فِي الْإِسْنَاد.
قلت: وَأما ابْن السكن فَذكر فِي «صحاحه» حَدِيث سَمُرَة وَحَدِيث قدامَة. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ من أَصْحَابنَا بِمُقْتَضَى الحَدِيث حَيْثُ قَالَ: يسْتَحبّ لمن ترك الْجُمُعَة بِلَا عذر أَن يتَصَدَّق بِدِينَار أَو نصف دِينَار؛ لهَذَا الحَدِيث. ثمَّ قَالَ: وَلَا يلْزم ذَلِك؛ لِأَن الحَدِيث ضَعِيف.
وَأما حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فَأخْرجهُ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ من حَدِيثهَا مَرْفُوعا: «من فَاتَتْهُ صَلَاة الْجُمُعَة فليتصدق بِنصْف دِينَار» . أعله ابْن الْجَوْزِيّ فَقَالَ فِي «علله» : لَا يَصح، فِيهِ رجل مَنْسُوب إِلَى الْكَذِب.(4/695)
كتاب صَلَاة الْخَوْف
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا؛ أما الْأَحَادِيث فسبعة:
الحَدِيث الأول
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يصل صَلَاة الْخَوْف فِي حَرْب الخَنْدَق» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي بَاب الْأَذَان مَعَ الْجَواب عَنهُ.
الحَدِيث الثَّانِي
صلَاته (بِبَطن نخل، وَهِي أَن تصلى مرَّتَيْنِ كل مرّة بفرقة. رَوَاهَا جَابر وَأَبُو (بكرَة) .
هُوَ كَمَا قَالَ، أما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنهُ، أما البُخَارِيّ فَرَوَاهُ فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع من كتاب الْمَغَازِي وَلَفظه عَنهُ: «كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِنَخْل فَصَلى الْخَوْف» . وَلما أخرج حَدِيث صَالح بن خَوات الْآتِي، قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِنَخْل ... ) فَذكر صَلَاة الْخَوْف.(5/7)
وَأما مُسلم (فَرَوَاهُ) هُنَا وَلَفظه عَنهُ: «أَنه صَلَّى مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَاة الْخَوْف، فَصَلى (رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صَلَّى بالطائفة الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، (فَصَلى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَربع رَكْعَات وَصَلى بِكُل طَائِفَة رَكْعَتَيْنِ) » .
وَأما حَدِيث أبي (بكرَة) فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد (وَالنَّسَائِيّ) بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ قَالَ: «صَلَّى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي خوف الظّهْر، فَصف بَعضهم خَلفه وَبَعْضهمْ بِإِزَاءِ الْعَدو، فَصَلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سلم، فَانْطَلق الَّذين صلوا مَعَه فوقفوا موقف أَصْحَابهم، ثمَّ جَاءَ أُولَئِكَ فصلوا خَلفه، فَصَلى بهم رَكْعَتَيْنِ [ثمَّ سلم] فَكَانَت للنَّبِي (أَرْبعا (وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ) » .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بقريب من هَذَا اللَّفْظ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» لَكِن بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى بالقوم فِي الْخَوْف صَلَاة الْمغرب ثَلَاث رَكْعَات ثمَّ انْصَرف، وَجَاء الْآخرُونَ فَصَلى بهم ثَلَاث رَكْعَات» . قَالَ الْحَاكِم:(5/8)
سَمِعت أَبَا عَلّي الْحَافِظ يَقُول: هَذَا حَدِيث غَرِيب. ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هُوَ صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
فَائِدَتَانِ:
الأولَى: أبدى ابْن الْقطَّان لحَدِيث أبي بكرَة (هَذَا عِلّة فَقَالَ فِي كتاب «الْوَهم وَالْإِيهَام» : عِنْدِي أَن هذَيْن الْحَدِيثين - يَعْنِي حَدِيث أبي بكرَة) من طريقيه - غير متصلين، فَإِن أَبَا بكرَة لم يصل مَعَه صَلَاة الْخَوْف، وَإِن كَانَ قد قَالَ فِي حَدِيث أبي دَاوُد «أَنه صلاهَا مَعَه» وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك؛ لِأَن من المتقرر عِنْد أهل السّير (والأخباريين) - وَهُوَ أَيْضا صَحِيح (الْإِسْنَاد الْموصل) عِنْد الْمُحدثين - أَنه أسلم حِين حِصَار الطَّائِف، نزل من سورها ببكرة وَبهَا كني أَبَا بكرَة، وحصار الطَّائِف كَانَ بعد الِانْصِرَاف من حنين، وَقيل: قسم غنائمها بالجعرانة، وَلما انْتقل عَنْهَا إِنَّمَا انْتقل (إِلَى) الْجِعِرَّانَة فقسم بهَا غَنَائِم حنين، ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة فَأَقَامَ بهَا مَا بَين ذِي الْحجَّة إِلَى رَجَب، ثمَّ خرج إِلَى تَبُوك غازيًا للروم، فَأَقَامَ بتبوك بضع عشرَة لَيْلَة لم يجاوزها وَلم يكن بهَا حَرْب تصلى لَهَا صَلَاة الْخَوْف، وَهِي آخر غَزْوَة غَزَاهَا بِنَفسِهِ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام، فعلَى هَذَا لَا أَدْرِي لصَلَاة أبي (بكرَة) مَعَه موطنًا، وَقد جَاءَت عَنهُ فِي هَذَا رِوَايَات لَا توهم أَنه شَهِدَهَا كَرِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ(5/9)
عَن أبي حرَّة، عَن الْحسن، عَن أبي بكرَة (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْخَوْف فصفهم صفّين صف بِإِزَاءِ الْعَدو ... » الحَدِيث. ذكره الْبَزَّار، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُنكر، فَإِنَّهُ لم يقل أَنه صلاهَا مَعَه، وَكَذَلِكَ [رِوَايَة] أَشْعَث، عَن الْحسن، عَن أبي (بكرَة) ذكرهَا الْبَزَّار أَيْضا، فَاعْلَم ذَلِك.
الْفَائِدَة الثَّانِيَة: بطن نخل مَكَان من نجد من أَرض غطفان، هَكَذَا قَالَ صَاحب «الْمطَالع» وَالْجُمْهُور.
وَقَالَ الْحَازِمِي: بطن نخل قَرْيَة بالحجاز.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : وَلَا مُخَالفَة بَينهمَا. قَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَاعْلَم أَن بطن نخل مَوضِع من أَرض نجد من أَرض غطفان، فَهِيَ وَذَات الرّقاع من أَرض غطفان ولكنهما صلاتان فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلفين.
وَفِي كتاب الْمَغَازِي من «صَحِيح البُخَارِيّ» عَن جَابر قَالَ: «خرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى ذَات الرّقاع من أَرض نخل فلقي (جمعا من) غطفان فَلم يكن قتال وأخاف النَّاس بَعضهم بَعْضًا، فَصَلى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَكْعَتي (الْخَوْف)) .(5/10)
الحَدِيث الثَّالِث
صلَاته عَلَيْهِ السَّلَام بعسفان.
وَهِي (صَحِيحَة) وَقد أخرجهَا البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث سهل بن أبي (حثْمَة) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْخَوْف فصفهم خَلفه صفّين، فَصَلى بالذين يلونه رَكْعَة، ثمَّ قَامَ فَلم يزل قَائِما حَتَّى صَلَّى الَّذين (خَلفه) رَكْعَة، ثمَّ تقدمُوا وَتَأَخر الَّذين كَانُوا (قدامه) فَصَلى بهم رَكْعَة، ثمَّ قعد حَتَّى صَلَّى الَّذين (تخلفوا) رَكْعَة ثمَّ سلم» .
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث جَابر مطولا.
وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي(5/11)
«مُسْتَدْركه» بِإِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ من حَدِيث أبي عَيَّاش الزرقي مطولا. قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: (إِسْنَاده) صَحِيح إِلَّا أَن بعض أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ يشك فِي سَماع مُجَاهِد من أبي عَيَّاش. ثمَّ ذكر الحَدِيث بِإِسْنَاد جيد عَن مُجَاهِد قَالَ: نَا أَبُو عَيَّاش. وَقَالَ: بَين فِيهِ سَماع مُجَاهِد من أبي عَيَّاش. وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بعد أَن أخرج الحَدِيث: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن مُجَاهدًا لم يسمع هَذَا الْخَبَر من أبي عَيَّاش وَلَا لأبي عَيَّاش الزرقي صُحْبَة فِيمَا زعم.
ثمَّ أخرجه من حَدِيث مُجَاهِد، نَا أَبُو عَيَّاش الزرقي قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعسفان» ثمَّ (سَاق) الحَدِيث، قَالَ الْمُنْذِرِيّ: سَمَاعه مِنْهُ مُتَوَجّه فَإِنَّهُ ذكر مَا يدل عَلَى أَن مولد مُجَاهِد سنة عشْرين، وعاش أَبُو عَيَّاش إِلَى بعد الْأَرْبَعين وَقيل إِلَى بعد الْخمسين. قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» : وَأَبُو عَيَّاش هَذَا اخْتلف فِي اسْمه، فَمنهمْ من قَالَ: هُوَ زيد بن النُّعْمَان، وَمِنْهُم من قَالَ: زيد بن الصَّامِت، وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ عبيد بن مُعَاوِيَة بن الصَّامِت، وَمِنْهُم من قَالَ: عبيد بن معَاذ بن الصَّامِت.(5/12)
وَرَوَى النَّسَائِيّ وَالْحَاكِم نَحْو هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة ابْن عَبَّاس.
قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط (البُخَارِيّ) .
قلت: وَأخرجه البُخَارِيّ بِلَفْظ: «قَامَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَامَ النَّاس مَعَه فَكبر وَكَبرُوا مَعَه، وَركع وَركع نَاس (مِنْهُم) ، وَسجد وسجدوا مَعَه، ثمَّ قَامَ ثَانِيَة فَقَامَ الَّذين سجدوا وحرسوا إخْوَانهمْ، وَأَتَتْ الطَّائِفَة الْأُخْرَى [فركعوا وسجدوا] مَعَه وَالنَّاس كلهم فِي صَلَاة وَلَكِن يحرس بَعضهم بَعْضًا) .
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: لما ذكر الرَّافِعِيّ الْكَيْفِيَّة الَّتِي ذكرهَا الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر أَن أهل الصَّفّ الثَّانِي يَسْجُدُونَ مَعَه فِي الرَّكْعَة الأولَى وَالْأول فِي الثَّانِيَة.
ثمَّ ذكر الرَّافِعِيّ اخْتِلَاف الْأَصْحَاب فِي ذَلِك وَأَن مِنْهُم من قَالَ: «إِن هَذِه الْكَيْفِيَّة منقولة عَن فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَمِنْهُم من قَالَ: هَذَا خلاف التَّرْتِيب فِي السّنة، فَإِن الثَّابِت فِي السّنة أَن أهل الصَّفّ الأول يَسْجُدُونَ مَعَه فِي الرَّكْعَة الأولَى، وَأهل الصَّفّ الثَّانِي يَسْجُدُونَ مَعَه فِي الثَّانِيَة، وَالشَّافِعِيّ عكس ذَلِك. وَقَالُوا: الْمَذْهَب مَا ورد بِهِ الْخَبَر؛ لِأَن(5/13)
الشَّافِعِي قَالَ: إِذا رَأَيْتُمْ قولي مُخَالفا (للسّنة) فاطرحوه.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَاعْلَم أَن مُسلما وَأَبا دَاوُد وَابْن مَاجَه وَغَيرهم من أَصْحَاب المسانيد لم يرووا إِلَّا الثَّانِي نعم فِي بعض الرِّوَايَات أَن طَائِفَة سجدت مَعَه، ثمَّ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة سجد مَعَه الَّذين كَانُوا قيَاما، وَهَذَا يحْتَمل الترتيبين جَمِيعًا، وَلم يقل الشَّافِعِي إِن الْكَيْفِيَّة الَّتِي ذكرتها صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعسفان، وَلَكِن قَالَ: وَهَذَا نَحْوهَا.
قلت: وَهَذِه الرِّوَايَة الَّتِي قَالَ الرَّافِعِيّ أَنَّهَا مُحْتَملَة الترتيبين جَمِيعًا أخرجهَا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، حَدثنِي دَاوُد بن الْحصين، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «مَا كَانَت صَلَاة الْخَوْف إِلَّا كَصَلَاة أحراسكم (هَؤُلَاءِ الْيَوْم خلف أئمتكم إِلَّا أَنَّهَا كَانَت أَظُنهُ) قَالَ عقبه: قَامَت الطَّائِفَة وهم جَمِيع مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وسجدت مَعَه طَائِفَة، ثمَّ قَامَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَسجد الَّذين (كَانُوا) قيَاما (لأَنْفُسِهِمْ) ثمَّ قَامَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَامُوا مَعَه جَمِيعًا، ثمَّ ركع وركعوا مَعَه جَمِيعًا، ثمَّ سجد (فَسجدَ) مَعَه الَّذين كَانُوا قيَاما أول مرّة، وَقَامَ الْآخرُونَ الَّذين(5/14)
كَانُوا سجدوا مَعَه أول مرّة، فَلَمَّا جلس رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالَّذين سجدوا مَعَه فِي آخر صلَاتهم سجد الَّذين كَانُوا قيَاما لأَنْفُسِهِمْ ثمَّ (جَلَسُوا) فَجَمعهُمْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالسَّلَامِ» .
ثَانِيهَا: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَحَكَى أَبُو الْفضل بن عَبْدَانِ أَن من أَصْحَابنَا من قَالَ يَحْرُسُونَ فِي الرُّكُوع أَيْضا. قَالَ: وَفِي بعض الرِّوَايَات مَا يدل عَلَيْهِ.
قلت: هُوَ ظَاهر رِوَايَة البُخَارِيّ السالفة.
ثَالِثهَا: قَالَ الرَّافِعِيّ: واشتهر فِي (البُخَارِيّ) أَن (الصَّفّ الثَّانِي يَحْرُسُونَ فِي الرَّكْعَة الأولَى، وَفِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة يتَقَدَّم أهل الصَّفّ الثَّانِي ويتأخر أهل الصَّفّ الأول، فَتكون الحراسة فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِمَّن خلف الصَّفّ الأول) لَا من الصَّفّ الأول، كَذَلِك ورد فِي الْخَبَر.
قلت: حَدِيث أبي عَيَّاش الزرقي الَّذِي (سقناه صَرِيح) فِي ذَلِك.
فَائِدَة: عسفان - بِعَين مَضْمُومَة ثمَّ سين سَاكِنة - مهملتين - قَرْيَة جَامِعَة بهَا مِنْبَر وَهِي بَين مَكَّة وَالْمَدينَة.
وَقَالَ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» : بَين عسفان وَمَكَّة أَرْبَعَة برد. وَهُوَ صَحِيح فالأربعة برد ثَمَانِيَة و (أَرْبَعُونَ) ميلًا وَذَلِكَ مرحلتان.
و (وَقع) فِي «الْمطَالع» أَن بَينهمَا سِتَّة وَثَلَاثِينَ ميلًا.(5/15)
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» بعد أَن حَكَاهُ عَنهُ: غير مَقْبُول مِنْهُ. وَتبع الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» صَاحب (الْمطَالع) وَأفَاد أَنَّهَا سميت بعسفان لعسف السُّيُول (بهَا) .
الحَدِيث الرَّابِع
«صلَاته عَلَيْهِ السَّلَام بِذَات الرّقاع» رَوَاهُ مَالك عَن يزِيد بن رُومَان، عَن صَالح بن خَوات بن جُبَير، عَمَّن صَلَّى مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم ذَات الرّقاع.
وَرَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن صَالح، عَن سهل بن أبي (حثْمَة) ، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَرَوَاهَا ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
هَذَا آخر مَا ذكره الرَّافِعِيّ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
أما حَدِيث صَالح فمتفق عَلَيْهِ من حَدِيث عَمَّن صَلَّى مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم ذَات الرّقاع صَلَاة الْخَوْف «أَن طَائِفَة (صفت) مَعَه وَطَائِفَة وجاه الْعَدو، فَصَلى بالذين مَعَه رَكْعَة، ثمَّ ثَبت قَائِما وَأَتمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثمَّ انصرفوا (وصفوا) وجاه الْعَدو، وَجَاءَت الطَّائِفَة الْأُخْرَى فَصَلى الرَّكْعَة الَّتِي بقيت، ثمَّ ثَبت جَالِسا وَأَتمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثمَّ سلم بهم» .(5/16)
وَرَوَاهُ مَالك بلفظين:
أَحدهمَا هَذَا.
وَثَانِيهمَا: عَن صَالح أَن سهل بن أبي حثْمَة حَدثهُ «أَن صَلَاة الْخَوْف أَن يقوم الإِمَام وَمَعَهُ طَائِفَة من أَصْحَابه وَطَائِفَة مُوَاجهَة الْعَدو، فيركع الإِمَام رَكْعَة، وَيسْجد بالذين مَعَه، ثمَّ يقوم، فَإِذا اسْتَوَى قَائِما ثَبت وَأَتمُّوا لأَنْفُسِهِمْ الرَّكْعَة الْبَاقِيَة، ثمَّ يسلمُونَ وينصرفون، وَالْإِمَام قَائِم، فيكونون وجاه الْعَدو، ثمَّ يقبل الْآخرُونَ الَّذين لم (يسلمُوا) فيكبرون وَرَاء الإِمَام، فيركع بهم وَيسْجد ثمَّ يسلم، فَيقومُونَ فيركعون لأَنْفُسِهِمْ الرَّكْعَة (الثَّانِيَة) ثمَّ يسلمُونَ» .
وَأما رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ لَهُ، عَن صَالح، عَن سهل بن أبي حثْمَة، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَصَحِيح كَمَا عزاهُ الرَّافِعِيّ إِلَيْهِمَا.
قَالَ عبد الْحق: وَمُرَاد صَالح بن خَوات بِمن صَلَّى مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هُوَ سهل بن أبي حثْمَة.
وَتوقف ابْن الْقطَّان فِي ذَلِك؛ لِأَن ذَات الرّقاع كَانَت بعد بني النَّضِير فِي صدر السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة، وَسَهل توفّي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين. قَالَه جماعات. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم إِنَّه بَايع تَحت الشَّجَرَة وَشهد الْمشَاهد كلهَا إِلَّا بَدْرًا، وَكَانَ دَلِيل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يَصح؛ إِنَّمَا كَانَ الدَّلِيل أَبوهُ عَامر بن سَاعِدَة، وَهُوَ الَّذِي بَعثه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(5/17)
خارصًا، وَأَبُو بكر وَعمر بعده. وَتُوفِّي فِي خلَافَة مُعَاوِيَة؛ فسهل كَانَ سنه فِي زمن ذَات الرّقاع سنتَيْن أَو نَحْوهَا. ثمَّ أوضح ذَلِك بدلائله.
وَأما حَدِيث ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فمتفقٌ عَلَيْهِ من حَدِيثه، قَالَ: «صَلَّى) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَاة الْخَوْف بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَة، والطائفة الْأُخْرَى مُوَاجهَة الْعَدو، ثمَّ انصرفوا، وَقَامُوا فِي مقَام أَصْحَابهم مُقْبِلين عَلَى الْعَدو، وَجَاء أُولَئِكَ، ثمَّ صَلَّى بهم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ سلم (بهم) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَة وَهَؤُلَاء رَكْعَة) .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عَائِشَة.
(فَائِدَة: خوَّات - بخاء مُعْجمَة مَفْتُوحَة ثمَّ وَاو مُشَدّدَة، ثمَّ مثناة فَوق - وَهُوَ فِي اللُّغَة: الرجل الجريء. كَمَا قَالَه الْجَوْهَرِي. وحثمة بمثلثة بعد الْمُهْملَة، والحثمة هِيَ الأكمة الْحَمْرَاء، وَبهَا سميت الْمَرْأَة حثْمَة. قَالَه الْجَوْهَرِي. قَالَ: وَتقول حثمْتُ بِمَعْنى أَعْطَيْت، وَبِمَعْنى دلكت) .
فَائِدَة: - ذَات الرّقاع بِكَسْر الرَّاء -: مَوضِع قبل نجد من أَرض غطفان، وَاخْتلف فِي سَبَب تَسْمِيَتهَا بذلك عَلَى أَقْوَال، أَصَحهَا كَمَا قَالَه(5/18)
أَبُو عبيد الْبكْرِيّ وَالنَّوَوِيّ مَا ثَبت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنه قَالَ فِيهَا: (نقبت أقدامنا فَكُنَّا نلف عَلَى أَرْجُلنَا الخِرق؛ فسميت غَزْوَة ذَات الرّقاع؛ لما كُنَّا نعصب عَلَى أَرْجُلنَا من الْخرق» .
ونقبت - بِفَتْح النُّون، وَضمّهَا - أَي: تقرحت وتقطعت جلودها. (وَعبارَة الرَّافِعِيّ، قيل: كَانَ الْقِتَال فِي سفح جبل فِيهِ جدد بيض وحمر كالرقاع. انْتَهَى.
وسفح الْجَبَل: أَسْفَله، حَيْثُ يسفح فِيهِ المَاء، أَي يُراق.
والجُدد: الطّرق، جمع جُدد، بِضَم الْجِيم فيهمَا، فالجبل الْمَذْكُور كَانَت فِيهِ طرائق تخَالف لون الْجَبَل) .
وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى «الْمُهَذّب» : الْأَصَح أَنه اسْم مَوضِع؛ لقَوْله فِي «صَحِيح مُسلم» : «حَتَّى إِذا كُنَّا بِذَات الرّقاع» . وَهَذَا يدل عَلَى أَنه مَوضِع، قَالَ: وَذَات الرّقاع، قيل: إِنَّه اسْم شَجَرَة هُنَاكَ سميت بِهِ الْغَزْوَة، وَقيل: (إِنَّه) اسْم جبل هُنَالك بِنَجْد من أَرض غطفان فِيهِ بَيَاض وَحُمرَة وَسَوَاد يُقَال لَهَا الرّقاع، فسميت الْغَزْوَة بِهِ. وَيحْتَمل أَن هَذِه الْأُمُور كلهَا وجدت فِيهَا. وَجمع أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي «أَمَالِيهِ» أقوالاً فِي اسْمهَا، فَقَالَ: قَالَ بعض أهل الْعلم: التقَى الْقَوْم فِي أَسْفَل أكمة ذَات ألوان، فَهِيَ ذَات الرّقاع. وَقَالَ ابْن (جرير) : ذَات الرّقاع من نخل.(5/19)
قَالَ: و (الْجَبَل) الَّذِي سميت بِهِ ذَات الرّقاع، هُوَ جبل فِيهِ بَيَاض وَسَوَاد.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَيُقَال: ذَات الرّقاع لشَجَرَة بذلك الْموضع. وَقيل: بل تقطعت راياتهم فرقعت، فَلذَلِك سميت ذَات الرّقاع. قَالَ غَيره: وَقيل: بل كَانَت راياتهم ملونة الرّقاع.
وَكَانَت غَزْوَة ذَات الرّقاع سنة أَربع من الْهِجْرَة. وَذكر البُخَارِيّ أَنَّهَا بعد خَيْبَر؛ لِأَن أَبَا مُوسَى (الْأَشْعَرِيّ) جَاءَ بعد خَيْبَر.
فَائِدَة (ثَالِثَة) : جَاءَت صَلَاة الْخَوْف عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى سِتَّة عشر نوعا، وَهِي مفصلة فِي «صَحِيح مُسلم» ، ومعظمها فِي «سنَن أبي دَاوُد» وَاخْتَارَ الشَّافِعِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهَا هَذِه الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، أَعنِي: صلَاته بِبَطن نخل، وبذات الرّقاع، وبعسفان، وَذكر الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» مِنْهَا ثَمَانِيَة أَنْوَاع، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» مِنْهَا تِسْعَة، ثمَّ قَالَ: هَذِه الْأَخْبَار لَيْسَ بَينهَا تضَاد وَلَا تهاتر، وَلَكِن الْمُصْطَفَى (صَلَّى صَلَاة الْخَوْف مرَارًا فِي أَحْوَال مُخْتَلفَة بأنواع متباينة عَلَى حسب مَا ذَكرنَاهَا، أَرَادَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام تَعْلِيم أمته صَلَاة الْخَوْف، أَنه مُبَاح لَهُم أَن يصلوها أَي نوع من الْأَنْوَاع التِّسْعَة (الَّتِي صلاهَا فِي الْخَوْف عَلَى حسب الْحَاجة إِلَيْهَا، والمرء مُبَاح لَهُ أَن يُصَلِّي مَا شَاءَ) عِنْد الْخَوْف من هَذِه الْأَنْوَاع الَّتِي ذَكرنَاهَا، إِذْ هِيَ من الِاخْتِلَاف الْمُبَاح من غير أَن يكون بَينهَا تضَاد وَلَا تهاتر.(5/20)
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم: قد جَاءَ فِيهَا نَحْو أَرْبَعَة عشر نوعا. و (نقل) ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» عَن الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: مَا أعلم فِي هَذَا الْبَاب إِلَّا حَدِيثا صَحِيحا. وَاخْتَارَ حَدِيث سهل بن أبي حثْمَة.
وَقَالَ دَاوُد الظَّاهِرِيّ: جَمِيع مَا ورد عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فِي صَلَاة الْخَوْف) جَائِز لَا يرجح بعضه عَلَى بعض.
قَالَ أهل الحَدِيث وَالسير عَلَى مَا نَقله عَنْهُم النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَأول صَلَاة صلاهَا الشَّارِع للخوف صَلَاة بِذَات الرّقاع.
وَقَول الْغَزالِيّ فِي «الْوَسِيط» والرافعي فِي الْكتاب أَنَّهَا آخر غَزَوَاته غير صَحِيح، بل آخرهَا غَزْوَة تَبُوك كَمَا هُوَ الْمَشْهُور من أهل الْمَغَازِي وَالسير.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - (أَنه قَالَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: (فَإِن خِفْتُمْ فرجالاً أَو ركبانًا) قَالَ ابْن عمر: أَي مستقبلي الْقبْلَة، وَغير مستقبليها. قَالَ نَافِع: لَا أرَاهُ ذكر ذَلِك إِلَّا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي بَاب اسْتِقْبَال الْقبْلَة.(5/21)
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث ابْن [عَمْرو]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وَرَوَاهُ أَيْضا مَعَ الشَّيْخَيْنِ الشَّافِعِي وَأحمد فِي «مسنديهما» ، وَأَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن (صَحِيح) .
وَفِي أبي دَاوُد بعد ذَلِك: «وَمن قتل دون أَهله أَو دون مَاله، أَو دون دينه فَهُوَ شَهِيد» .
وَفِي رِوَايَة للنسائي: «من قَاتل دون مَاله فَقتل فَهُوَ شَهِيد، (وَمن قَاتل دون دَمه فَقتل فَهُوَ شَهِيد) ، وَمن قَاتل دون أَهله فَقتل فَهُوَ شَهِيد» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَمن قَاتل دون دينه فَهُوَ شَهِيد» .(5/22)
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (سُئِلَ عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن والودك (فَقَالَ) : استصبحوا بِهِ وَلَا تأكلوه» .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق: أنسبها رِوَايَة عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «سُئِلَ عَن فَأْرَة وَقعت فِي سمن فَقَالَ: إِن كَانَ جَامِدا فخذوها، وَمَا حولهَا فألقوه، وَإِن كَانَ ذائبًا أَو مَائِعا فاستصبحوا بِهِ - أَو فانتفعوا بِهِ» .
ذكره الطَّحَاوِيّ فِي «بَيَان الْمُشكل» و (اخْتِلَاف الْعلمَاء) عَن فَهد بن سُلَيْمَان، ثَنَا الْحسن بن الرّبيع، ثَنَا عبد الْوَاحِد ... فَذكره، وَذكره أَيْضا ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» وَعبد الْوَاحِد هَذَا من رجال الصَّحِيحَيْنِ وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة، وَهُوَ ثِقَة (لَهُ) أَوْهَام كَغَيْرِهِ، مَشاهُ ابْن عدي، وَتكلم فِيهِ ابْن معِين وَيَحْيَى الْقطَّان وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: إِنَّه ثِقَة إِذا انْفَرد بِحَدِيث قبل حَدِيثه، وَكَذَلِكَ إِذا انْفَرد بِزِيَادَة قبلت زِيَادَته.
الطَّرِيق الثَّانِي:
من حَدِيث ابْن عمر: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن(5/23)
والودك، فَقَالَ: اطرحوها واطرحوا مَا حولهَا إِن كَانَ جَامِدا، وَإِن كَانَ مَائِعا فانتفعوا بِهِ، وَلَا تأكلوه» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث شُعَيْب بن يَحْيَى، عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن ابْن جريج، عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم بن عبد الله، عَن أَبِيه. وَشُعَيْب بن يَحْيَى هَذَا ثِقَة عَابِد من رجال النَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم فِي حَقه إِنَّه لَيْسَ بِمَعْرُوف. فَإِن أَرَادَ بِهِ (أَنه لَيْسَ مَعْرُوف) الْحَال، فقد عرف، أَو الْعين، فقد رَوَى عَن حَيْوَة بن شُرَيْح، وَاللَّيْث، وَعنهُ: الْحَارِث بن مِسْكين، وَبكر بن سهل.
وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» لأجل مقَالَة (أبي) حَاتِم هَذِه، وَقد عرفت مَا فِيهَا، وَأعله عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِيَحْيَى بن أَيُّوب، وَقَالَ: إِنَّه لَا يحْتَج بِهِ. وَيَحْيَى هَذَا من رجال الصَّحِيحَيْنِ وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة وَهُوَ ثِقَة يعرف، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَحَله الصدْق وَلَا يحْتَج بِهِ. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» لأجل هَذَا.(5/24)
الطَّرِيق الثَّالِث:
من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن وَالزَّيْت، فَقَالَ: استصبحوا بِهِ، وَلَا تأكلوه» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا من حَدِيث أبي هَارُون الْعَبْدي، عَن أبي سعيد بِهِ. وَأَبُو هَارُون الْعَبْدي: عمَارَة بن جُوَيْن واه بِالْإِجْمَاع، وَقَالَ حَمَّاد بن زيد: كَذَّاب. وَقَالَ شُعْبَة: لِأَن أقدم فَيضْرب عنقِي أحب إليّ من (أَن) أحدث عَنهُ.
الطَّرِيق الرَّابِع:
(من) حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن أبي جَابر البياضي، عَن ابْن الْمسيب «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: إِن كَانَ جَامِدا أَخذ مَا حولهَا قدر الْكَفّ، وَإِذا وَقع فِي الزَّيْت، (استصبح) » .
(رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق) فِي «مُصَنفه» عَن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَهَذَا مَعَ إرْسَاله مُشْتَمل عَلَى إِبْرَاهِيم هَذَا، وَقد عرفت حَاله فِي كتاب الطَّهَارَة، وَأبي جَابر البياضي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، وَقد تَرَكُوهُ، قَالَ الشَّافِعِي: من حدث عَن أبي جَابر البياضي بيض الله عَيْنَيْهِ.(5/25)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الْجَبَّار بن عمر، عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم، عَن أَبِيه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن فَأْرَة وَقعت فِي سمن، فَقَالَ: ألقوها وَمَا حولهَا، وكلوا مَا بَقِي. فَقيل: يَا نَبِي الله، أَفَرَأَيْت إِن كَانَ السّمن مَائِعا؟ فَقَالَ: انتفعوا بِهِ وَلَا تأكلوه) ثمَّ قَالَ: عبد الْجَبَّار هَذَا غير مُحْتَج بِهِ. قَالَ: وَرَوَى ابْن جريج عَن ابْن شهَاب هَكَذَا، وَالطَّرِيق إِلَيْهِ غير قوي. ثمَّ رَوَى حَدِيث يَحْيَى بن أَيُّوب السالف ثمَّ قَالَ: وَالصَّحِيح عَن ابْن عمر مَوْقُوفا من قَوْله غير مَرْفُوع. ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق يعْلى بن عبيد، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «فِي فَأْرَة وَقعت فِي زَيْت، قَالَ: استصبحوا بِهِ، وادهنوا بِهِ (أدمكم) » ثمَّ رَوَى حَدِيث أبي سعيد السالف مَرْفُوعا ثمَّ مَوْقُوفا، وَقَالَ: إِنَّه الْمَحْفُوظ.
ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك أَن حَدِيث الْفَأْرَة هَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث مَيْمُونَة وَلم يفرق فِيهِ بَين الْمَائِع والجامد، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهمَا من حَدِيث معمر، عَن الزُّهْرِيّ (عَن ابْن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة) بالتفرقة، وَضَعفه التِّرْمِذِيّ. وَقَالَ: إِنَّه غير مَحْفُوظ، سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ يَقُول: حَدِيث معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة - فِي هَذَا - خطأ، وَالصَّحِيح حَدِيث(5/26)
الزُّهْرِيّ، عَن عبيد الله، عَن ابْن عَبَّاس، عَن مَيْمُونَة. وسيكون لنا عودة إِلَيْهِ فِي كتاب البيع حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ هُنَاكَ إِن شَاءَ الله - تَعَالَى - ذَلِك وَقدره. هَذَا آخر أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فخمسة:
أَولهَا وَثَانِيها وَثَالِثهَا: «أَن عليًّا وَأَبا مُوسَى وَحُذَيْفَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وَغَيرهم صلوا صَلَاة الْخَوْف بعد وَفَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
هُوَ كَمَا قَالَ (فقد) صَحَّ ذَلِك عَنْهُم كَمَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن سعيد بن أبي وَقاص، وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة، وَسَعِيد بن العَاصِي، وَغَيرهم، رَوَى أَحَادِيثهم الْبَيْهَقِيّ وَبَعضهَا فِي «سنَن أبي دَاوُد» و «النَّسَائِيّ» و «صَحِيح الْحَاكِم» وَغَيرهم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالصَّحَابَة الَّذين رووا صَلَاة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْخَوْف لم يحملهَا أحد مِنْهُم عَلَى تخصيصها بِالنَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلَا بزمنه بل رَوَاهَا كل وَاحِد وَهُوَ يعتقدها مَشْرُوعَة عَلَى الصّفة الَّتِي رَوَاهَا.
الْأَثر الرَّابِع:
«أَن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - صَلَّى الْمغرب صَلَاة الْخَوْف لَيْلَة الهرير بالطائفة الأولَى رَكْعَة، وبالثانية رَكْعَتَيْنِ) .(5/27)
وَهَذَا الْأَثر ذكره عَلَى هَذَا الْوَجْه الصيدلاني، وَالْإِمَام، وَالْغَزالِيّ وَذكره (الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِنَحْوِهِ) بِغَيْر إِسْنَاد، وَأَشَارَ إِلَى ضعفه، فَقَالَ: وَيذكر عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه أَن عليًّا صَلَّى الْمغرب صَلَاة الْخَوْف (لَيْلَة) الهرير.
وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» بِإِسْنَادِهِ إِلَى الشَّافِعِي قَالَ: وَحفظ عَن عَلّي بن أبي طَالب أَنه صَلَّى صَلَاة الْخَوْف لَيْلَة الهرير. كَمَا رَوَى صَالح بن خَوات، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
فَائِدَة: الهرير - بِفَتْح الْهَاء وَكسر الرَّاء، ثمَّ يَاء (مثناة تَحت) ثمَّ رَاء أُخْرَى - تَقول الْعَرَب: هر فلَان الْحَرْب هريرًا أَي كرهها. كَذَا قَالَه الْجَوْهَرِي، وَكَأَنَّهَا سميت بذلك لكراهتهم الْحَرْب فِي تِلْكَ اللَّيْلَة لِكَثْرَة مَا وَقع فِيهَا من الْقَتْل) . قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : هِيَ حَرْب بَين عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَبَين الْخَوَارِج، وَكَانَ بَعضهم يهر عَلَى بعض، فسميت بذلك. قَالَ: وَقيل: هِيَ لَيْلَة صفّين بَين عَلّي وَمُعَاوِيَة. وَجزم بِهَذِهِ الْمقَالة فِي «شَرحه الْمُهَذّب» فَقَالَ: هِيَ لَيْلَة من ليَالِي صفّين، سميت بذلك(5/28)
لِأَنَّهُ كَانَ لَهُم هرير عِنْد حمل بَعضهم عَلَى بعض. وَعبارَة صَاحب «التنقيب عَلَى الْمُهَذّب» : إِنَّهَا لَيْلَة صفّين بَين عَلّي وَأهل الشَّام، سميت بذلك لأَنهم لما عجزوا عَن الْقِتَال كَانَ بَعضهم يهر عَلَى بعض. قَالَ: وَكَانَ أَصْحَاب عَلّي تسعين ألفا، وَأَصْحَاب مُعَاوِيَة مائَة و (عشْرين) ألفا، وَقيل بِالْعَكْسِ. قَالَ: وَبَقِي الْقِتَال بَينهم مائَة وَعشرَة أَيَّام، وَقتل من أَصْحَاب عَلّي خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا، مِنْهُم من الصَّحَابَة والبدريين خَمْسَة وَعِشْرُونَ، وَقتل من أَصْحَاب مُعَاوِيَة خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ألفا.
الْأَثر الْخَامِس:
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأما تسميد الأَرْض بالزبل فَجَائِز. قَالَ الإِمَام: وَلم يمْنَع مِنْهُ أحد للْحَاجة الْقَرِيبَة من الضَّرُورَة، وَقد نَقله الْأَثْبَات عَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: ترْجم الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» «بَاب مَا جَاءَ فِي طرح السرجين والعذرة فِي الأَرْض» فِي أثْنَاء كتاب الْمُزَارعَة ثمَّ رَوَى (عَن) سعد بن أبي وَقاص «أَنه كَانَ يحمل مكتل عُرّة إِلَى أَرض لَهُ» وَفِي لفظ لَهُ «مكتل عُرّة مكتل بر» قَالَ أَبُو عبيد، عَن الْأَصْمَعِي: (العُرّة هِيَ) عذرة النَّاس. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ عَن ابْن عمر خلاف ذَلِك فِي الْعذرَة خَاصَّة، ثمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يشْتَرط عَلَى الَّذِي يكريه أرضه أَن لَا يَعُرّها، وَذَلِكَ قبل أَن يدع عبد الله الْكِرَاء» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد(5/29)
رُوِيَ فِيهِ حَدِيث ضَعِيف. ثمَّ أسْندهُ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «كُنَّا نكرِي أَرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ونشترط عَلَيْهِم أَن لَا (يدملوها) بعذرة (النَّاس) » .
ثمَّ رَوَى عَن ابْن عمر «أَن رجلا أَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي كنت أكنس حَتَّى تزوجت وعتقت وَحَجَجْت. فَقَالَ: مَا كنت تكنس؟ قَالَ: الْعذرَة. قَالَ: أَنْت خَبِيث (وعتقك) خَبِيث وحجك خَبِيث، اخْرُج مِنْهُ كَمَا دخلت فِيهِ» .(5/30)
كتاب صَلَاة الْعِيدَيْنِ(5/31)
كتاب صَلَاة الْعِيدَيْنِ
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فخمسة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
يرْوَى «أَن أول عيد صَلَّى فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عيد الْفطر من السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة، وَلم يزل يواظب عَلَى صَلَاة الْعِيدَيْنِ حَتَّى فَارق الدُّنْيَا» .
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد اشْتهر فِي السّير أَن أول عيد شرع عيد الْفطر، وَأَنه فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة، وَأما الْمُوَاظبَة عَلَى صلَاته (فمستفيض) فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلم يصلها بمنى؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسَافِرًا، كَمَا لم يصل الْجُمُعَة. أَي بِعَرَفَة أَو فِي سَفَره، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
الحَدِيث الثَّانِي
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَاسْتحْسن فِي «الْأُم» أَن نقُول بعد التَّكْبِير مَا نقل عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ عَلَى الصَّفَا «الله أكبر كَبِيرا، وَالْحَمْد لله كثيرا، وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا، لَا إِلَه إِلَّا الله، وَلَا نعْبد إِلَّا إِيَّاه، مُخلصين لَهُ(5/33)
الدَّين وَلَو كره الْكَافِرُونَ، لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده، صدق وعده، وَنصر عَبده، وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده، لَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِنَحْوِهِ وَهَذَا لَفظه: عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه قَالَ: «دَخَلنَا عَلَى جَابر ... » فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: «فَبَدَأَ بالصفا فرقى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْت، فَاسْتقْبل الْبَيْت فَوحد الله وَكبره، وَقَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد، وَهُوَ عَلَى كل شَيْء قدير، لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده، أنْجز وعده، وَنصر عَبده، وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده ... » ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث بِطُولِهِ، وسأذكره بِطُولِهِ فِي الْحَج إِن شَاءَ الله - تَعَالَى - ذَلِك وَقدره.
الحَدِيث الثَّالِث
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخرج يَوْم الْفطر والأضحى رَافعا صَوته بالتهليل وَالتَّكْبِير حَتَّى يَأْتِي الْمُصَلى» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن خُزَيْمَة، عَن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن وهب، عَن عَمه، عَن عبد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن عبد الله «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخرج فِي الْعِيدَيْنِ مَعَ الْفضل بن الْعَبَّاس، وَعبد الله، وَالْعَبَّاس، وَعلي وجعفر، وَالْحسن وَالْحُسَيْن، وَأُسَامَة بن زيد، وَزيد بن حَارِثَة، وأيمن بن أم أَيمن، رَافعا صَوته بِالتَّكْبِيرِ والتهليل (حَتَّى يَأْخُذ) طَرِيق الحدادين حَتَّى يَأْتِي الْمُصَلى،(5/34)
وَإِذا فرغ رَجَعَ عَلَى الحدادين حَتَّى يَأْتِي منزله» .
الحدادين: بِالْحَاء (الْمُهْملَة) ، وَقيل بِالْجِيم. ذكرهمَا ابْن البزري وَغَيره فِي أَلْفَاظ (الْمُهَذّب) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن رَوَى عَن ابْن عمر مَوْقُوفا «أَنه كَانَ يكبر لَيْلَة الْفطر حَتَّى يَغْدُو إِلَى الْمُصَلى» قَالَ: وَذكر اللَّيْلَة فِيهِ غَرِيب. وَعَن ابْن عمر أَيْضا: «أَنه كَانَ يَغْدُو إِلَى الْعِيد من الْمَسْجِد، وَكَانَ يرفع صَوته بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَأْتِي الْمُصَلى، وَيكبر حَتَّى يَأْتِي الإِمَام» . وَفِي لفظ «يَوْم الْفطر والأضحى» هَذَا هُوَ الصَّحِيح مَوْقُوف، وَقد رُوِيَ من وَجْهَيْن ضعيفين مَرْفُوعا، أما أمثلهما فَذكر الْمَرْفُوع الَّذِي قدمْنَاهُ، وَأما أضعفهما؛ فأسند من حَدِيث عبيد الله بن مُحَمَّد بن خُنَيْس الدِّمَشْقِي، نَا مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَطاء، أَنا الْوَلِيد بن مُحَمَّد - هُوَ الموقري - ثَنَا الزُّهْرِيّ، أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله، أَن عبد الله بن عمر أخبرهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر يَوْم الْفطر من حِين يخرج من بَيته (حَتَّى) يَأْتِي الْمُصَلى» . مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَطاء مُنكر الحَدِيث ضَعِيف، والوليد بن مُحَمَّد الموقري ضَعِيف لَا يحْتَج (بِرِوَايَة) أمثالهما، والْحَدِيث الْمَحْفُوظ عَن ابْن عمر من قَوْله. قَالَ: وَرُوِيَ عَن عَلّي وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة مثله.(5/35)
قلت: وَعبيد الله بن مُحَمَّد بن خُنَيْس. قَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يعرف حَاله. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث غَرِيب الْإِسْنَاد والمتن، غير أَن الشَّيْخَيْنِ لم يحْتَجَّا بالوليد بن مُحَمَّد الموقري وَلَا بمُوسَى بن عَطاء الْبُلْقَاوِيُّ.
قلت: مَا أقصرا فِي ذَلِك (فهما كذابان) . قَالَ: وَهَذِه سنة تداولها (أَئِمَّة) أهل الحَدِيث، وَقد صحت بِهِ الرِّوَايَة عَن ابْن عمر وَغَيره من الصَّحَابَة. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يخرج فِي الْعِيدَيْنِ من الْمَسْجِد فيكبر حَتَّى يَأْتِي الْمُصَلى» ، وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن أبي عبد الرَّحْمَن (قَالَ: «كَانُوا) فِي التَّكْبِير فِي الْفطر أَشد مِنْهُم فِي الْأَضْحَى» .
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر فِي الْعِيد حَتَّى يَأْتِي الْمُصَلى، وَيَقْضِي الصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب بِهَذِهِ الزِّيَادَة فِي آخِره، وَرَوَى الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، حَدثنِي (مُحَمَّد بن عجلَان) عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يَغْدُو إِلَى الْمُصَلى يَوْم الْفطر إِذا طلعت الشَّمْس، فيكبر حَتَّى(5/36)
يَأْتِي الْمُصَلى (يَوْم الْعِيد) ثمَّ يكبر بالمصلى، حَتَّى إِذا جلس الإِمَام ترك التَّكْبِير» .
وَإِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى قد عرفت حَاله فِي كتاب الطَّهَارَة، وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث لأحد الْأَقْوَال أَنه يكبر إِلَى أَن يفرغ الإِمَام من الصَّلَاة. ثمَّ قَالَ: وَهَذَا القَوْل إِنَّمَا يَجِيء فِي حق من لَا يُصَلِّي مَعَ الإِمَام. فَتَأمل ذَلِك.
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَحْيَا لَيْلَتي الْعِيد لم يمت قلبه يَوْم تَمُوت الْقُلُوب» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» وَقد سُئِلَ عَن حَدِيث أَبَى أُمَامَة مَرْفُوعا: «من أَحْيَا لَيْلَة الْفطر أَو لَيْلَة الْأَضْحَى لم يمت قلبه إِذا مَاتَت الْقُلُوب» . فَقَالَ: يرويهِ ثَوْر بن يزِيد، وَاخْتلف عَنهُ؛ فَرَوَاهُ جرير بن عبد الحميد، عَن ثَوْر، عَن مَكْحُول، عَن أبي أُمَامَة. قَالَه ابْن قدامَة وَغَيره عَن جرير، وَرَوَاهُ عَمْرو بن هَارُون، عَن جرير، عَن ثَوْر، عَن مَكْحُول، قَالَ: وأسنده معَاذ بن جبل، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: وَالْمَحْفُوظ أَنه مَوْقُوف عَن مَكْحُول. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن أبي أَحْمد المرِّار بن حَمويه، ثَنَا مُحَمَّد بن المُصَفّى، نَا بَقِيَّة بن الْوَلِيد، عَن ثَوْر بن يزِيد، عَن خَالِد بن معدان، عَن أبي أُمَامَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من قَامَ (لَيْلَة) الْعِيدَيْنِ محتسبًا لم يمت قلبه يَوْم تَمُوت الْقُلُوب» .(5/37)
وَبَقِيَّة قد عرفت حَاله فِيمَا مَضَى لَا سِيمَا وَقد عنعن.
وَذكره الشَّافِعِي بِهَذَا اللَّفْظ مَوْقُوفا عَلَى أبي الدَّرْدَاء، (رَوَاهُ) عَن شَيْخه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ ثَوْر بن يزِيد: عَن خَالِد بن معدان، عَن أبي الدَّرْدَاء: «من قَامَ لَيْلَة (الْعِيدَيْنِ لله) محتسبًا لم يمت قلبه حِين تَمُوت الْقُلُوب» .
وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من حَدِيث جرير بن عبد الحميد، عَن مَكْحُول، عَن أبي أُمَامَة: «من أَحْيَا لَيْلَة الْفطر أَو لَيْلَة الْأَضْحَى، لم يمت قلبه يَوْم تَمُوت الْقُلُوب» . ثمَّ ذكر مقَالَة الدَّارَقُطْنِيّ السالفة، ثمَّ ذكره من حَدِيث عِيسَى بن إِبْرَاهِيم (الْقرشِي) عَن سَلمَة بن سُلَيْمَان الْجَزرِي، عَن مَرْوَان بن سَالم، عَن (ابْن) كرْدُوس، عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «من أَحْيَا لَيْلَتي الْعِيد وَلَيْلَة النّصْف من شعْبَان لم يمت قلبه يَوْم تَمُوت فِيهِ الْقُلُوب» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ فِي إِسْنَاده آفَات:
أَحدهَا: مَرْوَان بن سَالم، قَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ و (الرَّازِيّ) : مَتْرُوك.
ثَانِيهَا: سَلمَة بن سُلَيْمَان، قَالَ الْأَزْدِيّ: ضَعِيف. ثَالِثهَا: عِيسَى بن إِبْرَاهِيم الْقرشِي، قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ أَيْضا(5/38)
فِي الْكتاب الْمَذْكُور من حَدِيث معَاذ بن جبل مَرْفُوعا: «من أَحْيَا اللَّيَالِي الْأَرْبَع، وَجَبت لَهُ الْجنَّة: لَيْلَة التَّرويَة، وَلَيْلَة عَرَفَة، وَلَيْلَة النَّحْر، وَلَيْلَة الْفطر» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ فِي إِسْنَاده عبد الرَّحِيم بن زيد الْعمي قَالَ يَحْيَى: كَذَّاب. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «تذنيبه» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي مَوْقُوفا (عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: قَالَ ثَوْر ... فَذكره كَمَا أسلفناه، هَكَذَا رَوَاهُ مَوْقُوفا) وَأَشَارَ بَعضهم إِلَى تفرد الشَّافِعِي بروايته عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، وَيروَى عَن (عمر) بن هَارُون، عَن ثَوْر بن يزِيد (عَن) خَالِد بن معدان، عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ: «من قَامَ لَيْلَتي الْعِيد إِيمَانًا واحتسابًا لم يمت قلبه يَوْم تَمُوت الْقُلُوب» . رَوَاهُ بَعضهم هَكَذَا، وَآخَرُونَ مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ بَعضهم عَن (عَمْرو) ، عَن ثَوْر، عَن خَالِد، عَن عبَادَة بن الصَّامِت، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من صَلَّى (لَيْلَتي) الْفطر والأضحى لم يمت قلبه يَوْم تَمُوت الْقُلُوب» .
قَالَ: وَالِاحْتِيَاط فِي مثل هَذَا أَن يُقَال: لما رُوِيَ. وَلَا يُقَال: لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام. (وَلَا: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام) .
قلت: وَعبارَته فِي «شَرحه» «أَحْيَا لَيْلَتي الْعِيدَيْنِ» محثوث عَلَيْهِ للْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ الْغَزالِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثمَّ ذكره، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن لَا يُورِدهُ(5/39)
بِهَذِهِ الصِّيغَة بل بِصِيغَة التمريض، عَلَى مَا نبه عَلَيْهِ (هُوَ) فِي «تذنيبه» وَأما الْحَافِظ أَبُو مَنْصُور فَذكره فِي «جَامع الدُّعَاء الصَّحِيح» ، فِي أثْنَاء حَدِيث طَوِيل فِي صفة صَلَاة لَيْلَة عيد الْفطر، ذكره عَنهُ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» ، وَأقرهُ عَلَيْهِ، وَنقل الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: بلغنَا أَن الدُّعَاء يُسْتَجَاب فِي خمس لَيَال: فِي لَيْلَة الْجُمُعَة، وَلَيْلَة الْأَضْحَى، وَلَيْلَة الْفطر، وَأول لَيْلَة من رَجَب، وَلَيْلَة النّصْف من شعْبَان.
قَالَ الشَّافِعِي: وَأَنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد قَالَ: رَأَيْت مشيخة من خِيَار أهل الْمَدِينَة يظهرون عَلَى مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَيْلَة الْعِيدَيْنِ فَيدعونَ ويذكرون الله - تَعَالَى - حَتَّى تذْهب سَاعَة من اللَّيْل. قَالَ الشَّافِعِي: وبلغنا أَن ابْن عمر كَانَ يحيي لَيْلَة النَّحْر. قَالَ الشَّافِعِي: وَأَنا أستحب كل مَا (حكيت) فِي هَذِه اللَّيَالِي من غير أَن يكون فرضا.
قلت: وَفِي «غنية الملتمس فِي إِيضَاح الملتبس» للخطيب الْبَغْدَادِيّ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز «أَنه كتب إِلَى عدي بن أَرْطَاة إِن عَلَيْك بِأَرْبَع لَيَال فِي السّنة، فَإِن الله - تَعَالَى - يفرغ فِيهِنَّ الرَّحْمَة إفراغة: أول لَيْلَة من رَجَب، وَلَيْلَة النّصْف من شعْبَان، وَلَيْلَة الْفطر، وَلَيْلَة النَّحْر» . وَرَوَى الْخلال فِي جُزْء جمعه فِي فَضَائِل رَجَب عَن خَالِد بن معدان قَالَ: «خمس لَيَال فِي السّنة من واظب عَلَيْهِنَّ رَجَاء ثوابهن وَتَصْدِيقًا بوعدهن أدخلهُ الله الْجنَّة: أول لَيْلَة من رَجَب يقوم لَيْلهَا ويصوم نَهَارهَا، وَلَيْلَة الْفطر يقوم لَيْلهَا وَيفْطر نَهَارهَا، وَلَيْلَة الْأَضْحَى يقوم لَيْلهَا وَيفْطر نَهَارهَا، وَلَيْلَة عَاشُورَاء يقوم لَيْلهَا ويصوم نَهَارهَا» .(5/40)
فَائِدَة: (يَوْم تَمُوت الْقُلُوب) هُوَ يَوْم الْقِيَامَة إِذا غمرها الْخَوْف لعظم الهول. قَالَ الصيدلاني: لم يرد فِي شَيْء من الْفَضَائِل مثل هَذَا؛ لِأَن موت الْقلب إِمَّا الْكفْر فِي الدَّين، وَإِمَّا الْفَزع فِي الْقِيَامَة، وَمَا أضيف إِلَى الْقلب فَهُوَ أعظم؛ لقَوْله تَعَالَى: (فَإِنَّهُ آثم قلبه) وَقيل: المُرَاد لم يشغف قلبه بحب (الدُّنْيَا) لِأَن من شغف قلبه من حبها مَاتَ قلبه، وَيروَى فِي بعض الْأَحَادِيث: «لَا تدْخلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَوْتَى؛ قيل: وَمن هم؟ قَالَ: الْأَغْنِيَاء» . قيل: المُرَاد أَن الله يحفظه من الشّرك فَلَا يخْتم لَهُ، قَالَ تَعَالَى: (أومن كَانَ مَيتا فأحييناه) أَي كَافِرًا فهديناه، وَقيل: المُرَاد لم (يرع) يَوْم الْقِيَامَة. حكاهن ابْن الرّفْعَة.
الحَدِيث السَّادِس
«رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يغْتَسل للعيدين» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
(أَحدهَا) : عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يغْتَسل يَوْم الْفطر وَيَوْم الْأَضْحَى» . رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن جبارَة بن الْمُغلس، نَا حجاج بن تَمِيم، عَن مَيْمُون بن مهْرَان، عَن ابْن عَبَّاس (بِهِ) .(5/41)
وَهَذَا ضَعِيف، جبارَة هَذَا قَالَ البُخَارِيّ: مُضْطَرب الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى: كَذَّاب. (وَقَالَ) عبد الله بن أَحْمد: عرضت عَلَى أبي أَحَادِيث سَمعتهَا مِنْهُ (فَأنْكر) وَقَالَ: هَذِه مَوْضُوعَة أَو كذب. وَقَالَ ابْن نمير: صَدُوق كَانَ يوضع لَهُ الحَدِيث فَيحدث بِهِ. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يقلب الْأَسَانِيد و (يرفع) الْمَرَاسِيل. وَقَالَ ابْن عدي: جبارَة لَا بَأْس بِهِ، وَأَحَادِيث حجاج عَن مَيْمُون لَيست بمستقيمة. وَكَذَا قَالَ الْعقيلِيّ. (قلت) : وَضعف الْأَزْدِيّ حجاج بن تَمِيم أَيْضا.
ثَانِيهَا: عَن عبد الرَّحْمَن بن (عقبَة) بن الْفَاكِه بن سعد (عَن جده الْفَاكِه بن سعد) و (كَانَت) لَهُ صُحْبَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ (يغْتَسل) يَوْم الْفطر، وَيَوْم النَّحْر، وَيَوْم عَرَفَة، وَكَانَ الْفَاكِه (يَأْمر(5/42)
أَهله) بِالْغسْلِ فِي هَذِه الْأَيَّام» . رَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا عَن نصر بن عَلّي الْجَهْضَمِي، ثَنَا يُوسُف بن خَالِد، نَا أَبُو جَعْفَر الخطمي، عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ. وَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ وَابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» ، (وَزَادا) : (و) يَوْم الْجُمُعَة، وَكَذَا أخرجه عبد الله بن أَحْمد فِي «مُسْند أَبِيه» ، وَهَذَا ضَعِيف، يُوسُف بن خَالِد هَذَا هُوَ (السَّمْتِي) كَذَّاب وَضاع، وَنسبه ابْن معِين إِلَى الزندقة.
ثَالِثهَا: عَن منْدَل، عَن مُحَمَّد بن عبيد الله، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اغْتسل للعيدين» وَذكر: «وَجَاء إِلَى الْعِيدَيْنِ مَاشِيا» . رَوَاهُ الْبَزَّار، وَهَذَا ضَعِيف، منْدَل ضعفه أَحْمد، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيرهمَا، وَمُحَمّد بن (عبيد الله) قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ضَعِيف الحَدِيث جدًّا. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: حَال منْدَل أحسن من حَال مُحَمَّد هَذَا وَإِن اشْتَركَا فِي الضعْف.(5/43)
قلت: وَفِيه مَعَ ذَلِك آثَار عَن الصَّحَابَة:
فَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه: «أَن عليًّا كَانَ يغْتَسل يَوْم الْعِيدَيْنِ، وَيَوْم الْجُمُعَة، وَيَوْم عَرَفَة، وَإِذا أَرَادَ أَن يحرم» . رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم عَن جَعْفَر (بِهِ) وَرَوَى أَيْضا اغتسال سَلمَة بن الْأَكْوَع للعيد، وَأَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: إِنَّه السّنة. وَرَوَى مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ عَن نَافِع « (أَن) ابْن عمر كَانَ يغْتَسل يَوْم الْفطر قبل أَن يَغْدُو إِلَى الْمُصَلى» قَالَ الشَّافِعِي - فِيمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» -: كَانَ مَذْهَب سعيد وَعُرْوَة فِي أَنه سنة أَنه أحسن وَأعرف و (أنظف) وَأَن (قد فعله قوم) صَالِحُونَ (لَا) أَنه حتم بِأَنَّهُ سنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ بمنى مُسَافِرًا يَوْم النَّحْر فَلم يصل الْعِيد» .
هُوَ كَمَا قَالَ كَمَا سلف أول الْبَاب، وَهُوَ صَحِيح مَعْرُوف، وَأغْرب(5/44)
الْحَافِظ محب الدَّين الطَّبَرِيّ فَنقل فِي شَرحه «للتّنْبِيه» عَن شَيْخه أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْفضل السّلمِيّ أَن ابْن حزم ذكر فِي صفة حجَّة الْوَدَاع الْكُبْرَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صلاهَا بمنى، وراجعت الْكتاب الْمَذْكُور فَلم أر ذَلِك فِيهِ.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن الْحسن بن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نتطيب بأجود مَا نجد فِي الْعِيد» . هَذَا الحَدِيث ذكره تبعا لصَاحب «الْمُهَذّب» ، وبيض لَهُ الْمُنْذِرِيّ فِي تَخْرِيجه لأحاديثه بَيَاضًا، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» : إِنَّه حَدِيث غَرِيب. وَقد ظَفرت بِهِ - بِحَمْد الله ومَنِّه - فِي كتابين شهيرين، أَحدهمَا: «المعجم الْكَبِير» للطبراني فَإِنَّهُ أخرجه من حَدِيث عبد الله بن صَالح، حَدثنِي اللَّيْث، حَدثنِي إِسْحَاق بن بَزُرْج، عَن الْحسن بن عَلّي قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نلبس أَجود مَا نجد، وَأَن نتطيب بأجود مَا نجد، وَأَن نضحي بأسمن مَا نجد، الْبَقَرَة عَن سَبْعَة، وَالْجَزُور عَن عشرَة، وَأَن نظهر التَّكْبِير، وعلينا السكينَة وَالْوَقار» .
الثَّانِي: «صَحِيح الْحَاكِم أبي عبد الله» فَإِنَّهُ أخرجه فِي كتاب الْأَضَاحِي (مِنْهُ) بالسند الْمَذْكُور (لكنه) قَالَ: حَدثنِي إِسْحَاق(5/45)
بن بَزُرْج، عَن زيد بن الْحسن، عَن أَبِيه قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْعِيدَيْنِ أَن نلبس [أَجود] ... » كَمَا ذكر الطَّبَرَانِيّ (أَي) سَوَاء. ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: لَوْلَا جَهَالَة إِسْحَاق بن بَزُرْج لحكمت للْحَدِيث بِالصِّحَّةِ.
قلت: لَيْسَ هُوَ بِمَجْهُول؛ فقد ضعفه الْأَزْدِيّ وَمَشاهُ ابْن حبَان ورأيته بعد ذَلِك فِي كتاب «فَضَائِل الْأَوْقَات» للبيهقي كَمَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ سَوَاء، فَللَّه الْحَمد.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تمنعوا إِمَاء الله مَسَاجِد الله وليخرجن تفلات» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ كَذَلِك أَبُو دَاوُد من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، وَصَححهُ ابْن حبَان (وإسنادها) عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، والقطعة الأولَى (مِنْهُ) ثَابِتَة فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من هَذَا الْوَجْه (أَيْضا) . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من(5/46)
حَدِيث زيد بن خَالِد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَيْضا) ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» (و) من حَدِيث (أبي عبيد فِي «غَرِيبه» عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، عَن مُحَمَّد) بن (عَمْرو) بن عَلْقَمَة، عَن أبي سَلمَة مَرْفُوعا (وَرَوَاهَا أَيْضا الشَّافِعِي فِي «السّنَن المأثورة» الَّتِي رَوَاهَا عَنهُ الْمُزنِيّ، وَأحمد فِي «مُسْنده» أَيْضا) .
فَائِدَة: (تَفِلات) بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة وَكسر الْفَاء (أَي) غير عطرات، أَي: تاركات للطيب، أَرَادَ ليخرجن بِمَنْزِلَة التفلات و (هُن المنتنات) الرّيح.(5/47)
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «لَو أدْرك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا أحدث النِّسَاء بعده لمنعهن الْمَسَاجِد (كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل» .
هَذَا الحَدِيث) مُتَّفق عَلَى صِحَّته من هَذَا الْوَجْه كَذَلِك.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج يَوْمًا وَفِي يَمِينه قِطْعَة حَرِير وَفِي شِمَاله قِطْعَة ذهب فَقَالَ: هَذَانِ حرامان عَلَى ذُكُور أمتِي حل لإناثها» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب الْآنِية، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «حرم (لِبَاس) الْحَرِير وَالذَّهَب عَلَى ذُكُور أمتِي» . قلت: (تقدّمت) أَيْضا فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَهُ جُبَّة مَكْفُوفَة الجيب والكمين والفرجين بالديباج» هَذَا (الحَدِيث رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور أَبُو دَاوُد) فِي «سنَنه» من رِوَايَة(5/48)
عبد الله (بن) (أبي) عمر مولَى أَسمَاء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «رَأَيْت ابْن عمر فِي السُّوق اشْتَرَى ثوبا شاميًّا فَرَأَى فِيهِ خيطًا أَحْمَر فَرده، فَأتيت أَسمَاء فَذكرت ذَلِك لَهَا فَقَالَت: يَا جَارِيَة، ناوليني جُبَّة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأخرجت جُبَّة (طيالسة) ، مَكْفُوفَة الجيب والكمين والفرجين بالديباج» . وَإِسْنَاده صَحِيح إِلَّا الْمُغيرَة بن (زِيَاد) الْموصِلِي أحد رِجَاله، فَاخْتلف فِي توثيقه، ضعفه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى فِي رِوَايَة، وَقَالَ وَكِيع: كَانَ ثِقَة. وَوَثَّقَهُ أَيْضا الْأَزْدِيّ، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» فِي كتاب اللبَاس بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور وَلَفظه: عَن (ابْن) أبي عمر مولَى أَسمَاء قَالَ: (رَأَيْت ابْن عمر اشْتَرَى عِمَامَة (لَهَا) علم، فَدَعَا (بالقَلَمين) (فقصه) فَدخلت عَلَى أَسمَاء فَذكرت (ذَلِك لَهَا) فَقَالَت: بؤسًا لعبد الله! يَا(5/49)
جَارِيَة، (هَاتِي) جُبَّة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَجَاءَت بجبة مَكْفُوفَة (الكمين والجيب) والفرجين بالديباج» .
القَلَم: بِفَتْح - الْقَاف وَاللَّام -: المقص، قَالَه الْجَوْهَرِي (الجيب: هُوَ الطوق) .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» بِدُونِ هَذَا الرجل عَن قُتَيْبَة بن سعيد، عَن يَحْيَى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة، عَن عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان، عَن عبد الله مولَى أَسمَاء قَالَ: (أخرجت (إِلَيّ) أَسمَاء جُبَّة من طيالسة لَهَا لبنة من ديباج (كسرواني) شبر وفرجاها - يَعْنِي (حَرِيرًا) - مكفوفان، فَقَالَت: هَذِه جُبَّة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا قبض كَانَت عِنْد عَائِشَة) قَالَ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه الْكُبْرَى» : خَالفه هشيم فَرَوَاهُ عَن عبد الْملك، عَن عَطاء، عَن [أبي أَسمَاء، عَن أم سَلمَة] فَذكره ثمَّ قَالَ: وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ، وَالَّذِي قبله الصَّوَاب. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيق أُخْرَى فِي(5/50)
أثْنَاء الْجِهَاد من «سنَنه» رَوَاهُ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، نَا عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان، عَن حجاج، (عَن) أبي عمر مولَى أَسمَاء (عَن أَسمَاء) بنت أبي بكر أَنَّهَا أخرجت جُبَّة (مزرة) بالديباج فَقَالَت: كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يلبس هَذِه إِذا لَقِي الْعَدو» . وَرَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه «عَن أَسمَاء أَنَّهَا أخرجت جُبَّة طيالسة (كسروانية لَهَا لِبْنة) من ديباج وفرجاها مكفوفان بالديباج، فَقَالَت: هَذِه جُبَّة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يلبسهَا» .
اللِّبْنة بِكَسْر اللَّام وَإِسْكَان (الْبَاء الْمُوَحدَة) رقْعَة فِي جيب الْقَمِيص. قلت: وَهَذَا كُله يضعف مَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ عَن النَّسَائِيّ، أَنا [أَبُو] الْمعَافى مُحَمَّد بن وهب، نَا مُحَمَّد بن سَلمَة الْحَرَّانِي، عَن أبي [عبد الرَّحِيم] خَالِد بن أبي يزِيد، عَن [زيد] بن أبي أنيسَة،(5/51)
عَن مُحَمَّد بن جحادة، عَن أبي صَالح، عَن عبيد بن عُمَيْر، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «نهاني رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن المعصفر والقسي وَخَاتم الذَّهَب، وَعَن (المكفف) بالديباج» . قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يروه عَن (ابْن) حجادة إِلَّا ابْن أبي أنيسَة، تفرد بِهِ خَالِد، وَلَا يرْوَى عَن عبيد بن عُمَيْر عَن عَلّي إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «نهَى نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْحَرِير إِلَّا فِي مَوضِع إِصْبَع أَو إِصْبَعَيْنِ أَو ثَلَاث أَو أَربع» .
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من خرجه من طَرِيق عَلّي، والرافعي تبع فِي إِيرَاده من طَرِيقه صَاحب «الْمُهَذّب» وَهُوَ ثَابت فِي «صَحِيح مُسلم» وَغَيره من طَرِيق عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِلَفْظ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن لبس الْحَرِير إِلَّا فِي مَوضِع إِصْبَعَيْنِ (أَو ثَلَاث أَو أَربع» رَوَاهُ البُخَارِيّ إِلَى قَوْله: «إِصْبَعَيْنِ» ) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: «ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة» وَيصِح عَلَى تَأْوِيل الإصبع بالعضو.(5/52)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
عَن حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «نَهَانَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن لبس الْحَرِير وَأَن نجلس عَلَيْهِ» . هَذَا (الحَدِيث) مُتَّفق عَلَى صِحَّته أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» إِلَّا قَوْله: «وَأَن نجلس عَلَيْهِ» فللبخاري وَحده (ونجلس) بِفَتْح النُّون. وَمن الْعجب عزو ابْن الْجَوْزِيّ (فِي (تَحْقِيقه)) هَذَا الحَدِيث إِلَى (رِوَايَة) أَصْحَابهم وَهُوَ فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» كَمَا ترَاهُ.
الحَدِيث الْخَامِس (عشر)
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رخص لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَالزبير بن الْعَوام فِي لبس الْحَرِير (لحكة) كَانَت بهما» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَفِي رِوَايَة لمُسلم (أرخص ذَلِك فِي السّفر) وَعَزاهَا ابْن الصّلاح فِي «مشكله» ثمَّ النَّوَوِيّ فِي «مَجْمُوعه» إِلَى البُخَارِيّ أَيْضا، وَكَذَا عبد الْحق فِي(5/53)
«أَحْكَامه» وَادَّعَى الْحَافِظ محب الدَّين الطَّبَرِيّ فِي «شرح التَّنْبِيه» انْفِرَاد مُسلم بهَا، وراجعت البُخَارِيّ فِي اللبَاس وَالْجهَاد من «صَحِيحه» فَلم أرها فِيهِ، وَوَقع فِي «وسيط الْغَزالِيّ» أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رخص ذَلِك لِحَمْزَة، وَهُوَ غلط لَا يعرف.
والحِكة - بِكَسْر الْحَاء -: الجرب.
الحَدِيث السَّادِس عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيجوز لبس الْحَرِير لدفع الْقمل أَيْضا؛ لِأَن فِي بعض الرِّوَايَات أَن الزبير وَعبد الرَّحْمَن شكيا الْقمل فِي بعض الْأَسْفَار فَرخص لَهما.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أنس أَيْضا (وَفِي رِوَايَة) أَحْمد (وَابْن حبَان) «فَرَأَيْت عَلَى كل (وَاحِد) مِنْهُمَا قَمِيصًا من حَرِير» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» أَيْضا بِلَفْظ: إِن نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ:(5/54)
«التَّكْبِير فِي الْفطر سبع فِي الأولَى وَخمْس فِي (الْآخِرَة) ، وَالْقِرَاءَة بعدهمَا كلتيهما» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا بِلَفْظ: « (إِن نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) كبر فِي (صَلَاة) (الْعِيدَيْنِ) سبعا وخمسًا) . ومدار الحَدِيث عَلَى عبد الله الطرائفي م د ت ق الْمَذْكُور (وَنسب) بالطرائفي لاستطرافهم طرائف يَأْتِيهم بهَا. (قَالَه) ابْن الْقطَّان فِي «علله» .
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الطَّائِفِي. وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ وَهُوَ (من) فرسَان مُسلم، كَمَا أطلقهُ الْمزي والذهبي (بِالْأولِ فِيهِ) .
وَقَالَ صَاحب «الْكَمَال» : أخرج لَهُ فِي «المتابعات» وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي «كتاب الْأَدَب» .
وَقَالَ ابْن معِين فِي حَقه: صَالح. وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيره: لَيْسَ(5/55)
بِالْقَوِيّ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَغَيره: قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «علله» : سَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: هُوَ حَدِيث صَحِيح.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: أَنا ذَاهِب إِلَى هَذَا. نَقله عَنهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» ، (ثمَّ قَالَ) : هَذَا (أصلح) أَحَادِيث الْبَاب. وَقَالَ عبد الْحق: صحّح البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث. وَأنكر ابْن الْقطَّان هَذَا عَلَى عبد الْحق، وَقَالَ: البُخَارِيّ لم يُصَحِّحهُ؛ فَإِن الْمَنْقُول عَنهُ فِي ذَلِك مَا ذكره (التِّرْمِذِيّ) عَنهُ فِي كتاب «الْعِلَل» : سَأَلت مُحَمَّدًا عَن (كثير السالف) فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْبَاب أصح من هَذَا، وَبِه أَقُول، وَحَدِيث عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الطرائفي، عَن (عَمْرو) بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده فِي هَذَا الْبَاب هُوَ صَحِيح أَيْضا. هَذَا نَص مَا ذكره وَلَيْسَ فِيهِ تَصْحِيح البُخَارِيّ لوَاحِد مِنْهُمَا.
قَالَ: وَلَعَلَّ قَوْله: وَحَدِيث [عبد الله بن] عبد الرَّحْمَن ... إِلَى آخِره من كَلَام التِّرْمِذِيّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي عهد فصحح هَذِه النُّسْخَة.
وَأما (أَبُو مُحَمَّد) بن حزم فَذكره فِي «محلاه» بِلَفْظ أبي(5/56)
دَاوُد، وَقَالَ: هَذَا لَا يَصح. فَدفعهُ بِالْقُوَّةِ، وَجَاء فِي رِوَايَة غَرِيبَة لأبي دَاوُد فِي هَذَا الحَدِيث «كبر فِي الأولَى سبعا وَفِي (الثَّانِيَة) أَرْبعا) وَحكم الْبَيْهَقِيّ بخطئها.
(الطَّرِيق الثَّالِث)
عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر فِي الْعِيدَيْنِ سبعا وخمسًا قبل الْقِرَاءَة» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، عَن أبي سعيد مولَى بني (هَاشم) ، نَا ابْن لَهِيعَة، عَن عقيل، عَن ابْن شهَاب، عَن عُرْوَة، عَنْهَا بِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه بِلَفْظ: «كَانَ يكبر فِي الْفطر والأضحى فِي الأولَى سبع تَكْبِيرَات، وَفِي الثَّانِيَة خمس تَكْبِيرَات» وَابْن لَهِيعَة قد عرفت حَاله فِيمَا مَضَى، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَإِسْنَاده مُضْطَرب، وَالِاضْطِرَاب فِيهَا من ابْن لَهِيعَة.
(الطَّرِيق الرَّابِع)
عَن عبد الرَّحْمَن بن سعد بن (عمار) بن سعد مُؤذن رَسُول الله(5/57)
(، نَا أبي، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يكبر فِي الْعِيدَيْنِ: فِي الأولَى سبعا قبل الْقِرَاءَة، وَفِي (الْآخِرَة) خمْسا قبل الْقِرَاءَة» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه كَذَلِك، وَعبد الرَّحْمَن هَذَا مُنكر الحَدِيث.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سعد بن عمار، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عمار، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يكبر فِي الْعِيدَيْنِ فِي الأولَى سبعا وَفِي (الْأُخْرَى) خمْسا» وَعبد الله هَذَا ضعفه ابْن معِين.
قَالَ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» : قَالَ عُثْمَان بن سعيد: قلت ليحيى بن معِين: عبد الله بن مُحَمَّد بن عمار بن سعد، وعمار وَعمر (ابْني) حَفْص بن عمر بن سعد، عَن آبَائِهِم عَن أجدادهم، كَيفَ حَال هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: لَيْسُوا بِشَيْء.
(الطَّرِيق الْخَامِس)
عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ قَالَ: «شهِدت (الْعِيد) مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَكبر فِي الأولَى سبعا وَفِي الثَّانِيَة خمْسا) . ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» وَقَالَ: سَأَلت أبي عَنهُ. فَقَالَ: بَاطِل.(5/58)
(الطَّرِيق السَّادِس)
عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه: « (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) كَانَ يكبر فِي الْعِيدَيْنِ ثِنْتَيْ عشرَة تَكْبِيرَة» .
سُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ؛ فَأجَاب فِي «علله» (بِأَنَّهُ) رُوِيَ مَوْصُولا هَكَذَا، ومرسلاً بِإِسْقَاط (أَبِيه) وَأَن الْمُرْسل (أصح) .
(وَرَوَاهُ) الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث الْحسن البَجلِيّ، عَن سعد بن إِبْرَاهِيم، عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تخرج لَهُ العنزة (فِي الْعِيدَيْنِ) ، وَكَانَ يكبر ثَلَاث عشرَة تَكْبِيرَة، وَكَانَ أَبُو بكر وَعمر يفْعَلَانِ ذَلِك» . ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ يرْوَى عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف إِلَّا من هَذَا الْوَجْه (بِهَذَا الْإِسْنَاد) ، قَالَ: وَالْحسن هَذَا [فلين] الحَدِيث، وَقد (سكت النَّاس) عَن حَدِيثه وَأَحْسبهُ الْحسن بن (عمَارَة) .(5/59)
(الطَّرِيق السَّابِع)
عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر فِي الْعِيدَيْنِ ثِنْتَيْ عشرَة: فِي الأولَى سبعا، وَفِي الْآخِرَة (خمْسا) وَيذْهب فِي طَرِيق وَيرجع (من) آخر» . فِيهِ سُلَيْمَان بن أَرقم وَقد تَرَكُوهُ، وَسَيَأْتِي كَلَام الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» فِيهِ قَرِيبا.
(الطَّرِيق الثَّامِن)
عَن ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -.
رَوَاهُ الْبَزَّار كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبا.
فَهَذِهِ (طرق) الحَدِيث مَجْمُوعَة وأقواها - عِنْدِي - الطَّرِيق الثَّانِي، وَالْبَاقِي شَوَاهِد (لَهُ) ، وَقد ورد أَيْضا من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام. رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» قَالَ: أَنا يَحْيَى، نَا ابْن لَهِيعَة، نَا الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «التَّكْبِير فِي الْعِيدَيْنِ سبع قبل الْقِرَاءَة، (وَخمْس قبل الْقِرَاءَة) » .
وَابْن لَهِيعَة قد عرفت حَاله فِيمَا مَضَى.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : لَا شكّ فِي صِحَّته مَوْقُوفا عَلَى(5/60)
(أبي) هُرَيْرَة. (قَالَ) : وَعَن ابْن عَبَّاس مثله، و (رُوَاته) ثِقَات. وَكَذَا قَالَ (الدَّارَقُطْنِيّ) فِي «علله» فِيهِ - أَعنِي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة - فَإِنَّهُ (قَالَ) لما سُئِلَ عَنهُ: رُوِيَ مَرْفُوعا (وموقوفًا) وَالصَّحِيح الْمَوْقُوف.
وَأما حَدِيث ابْن عمر فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث فرج بن فضَالة، عَن يَحْيَى بن سعيد، (عَن نَافِع) ، عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «التَّكْبِير فِي الْعِيدَيْنِ، فِي الرَّكْعَة الأولَى سبع تَكْبِيرَات، وَفِي الْآخِرَة خمس تَكْبِيرَات» . وَفرج (د ت ق) هَذَا ضَعَّفُوهُ، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
وَفِي «علل (ابْن) أبي حَاتِم» : سَالَتْ أبي عَن حَدِيث ابْن عمر «أَنه كَانَ يكبر فِي الْعِيدَيْنِ: سبعا فِي الأولَى، وخمسًا فِي الثَّانِيَة» . فَقَالَ: هَذَا خطأ، يرْوَى هَذَا الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة «أَنه كَانَ يكبر» .
وَاعْلَم أَن عبد الْحق عزا فِي «أَحْكَامه» حَدِيث ابْن عمر إِلَى الْبَزَّار، وَأعله بفرج بن فضَالة، وَتعقبه ابْن الْقطَّان فَقَالَ: (إِنِّي)(5/61)
قد جهدت أَن أجد هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند (ابْن) عمر عِنْد الْبَزَّار، فَمَا [قدرت عَلَيْهِ] وَقد (رَجَوْت) أَن يكون فِي بعض «أَمَالِيهِ» وَالَّذِي فِي «مُسْند الْبَزَّار» إِنَّمَا هُوَ الْفِعْل دون القَوْل، وَمن غير رِوَايَة فرج بن فضَالة (وَهَذَا هُوَ) : (نَا) عَبدة بن عبد الله، نَا عمر بن حبيب، نَا عبد الله بن [عَامر] ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر فِي (صَلَاة) الْعِيدَيْنِ ثِنْتَيْ عشرَة (تَكْبِيرَة) : سبعا فِي الأولَى، وخمسًا فِي الْآخِرَة» .
قلت: (وَفِي الْجُمْلَة) فأحاديث الْبَاب كلهَا مُتَكَلم فِيهَا.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَيْسَ يرْوَى فِي التَّكْبِير فِي الْعِيدَيْنِ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَدِيث صَحِيح. نَقله الْعقيلِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» عَنهُ.
وَقَالَ ابْن رشد: إِنَّمَا (صَارُوا) إِلَى الْأَخْذ بأقاويل الصَّحَابَة(5/62)
فِي هَذِه الْمَسْأَلَة؛ لِأَنَّهُ لم يثبت فِيهَا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْء. وَنقل ذَلِك عَن أَحْمد، وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : فِي الْبَاب عَن عَائِشَة وَابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة وَعبد الله بن (عَمْرو) و (الطَّرِيق) إِلَيْهِم فَاسِدَة.
قَالَ (ابْن) الْجَوْزِيّ فِي «إِعْلَامه بناسخ الحَدِيث ومنسوخه) : وَفِي الْبَاب عَن جَابر أَيْضا. قَالَ: وَأما حَدِيث أبي مُوسَى وَحُذَيْفَة «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر فِي الْعِيدَيْنِ أَرْبعا» فَلَا يثبت؛ فِي إِسْنَاده عبد الرَّحْمَن بن ثَابت (د ت ق) قَالَ أَحْمد: أَحَادِيثه مَنَاكِير.
قلت: هُوَ فِي «سنَن أبي دَاوُد» وَأعله ابْن حزم بِعَبْد الرَّحْمَن هَذَا وَهُوَ ابْن ثَوْبَان - وَقَالَ أَحْمد وَغَيره: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. ووثق أَيْضا - وبأبي عَائِشَة، وَقَالَ: هُوَ مَجْهُول لَا نَدْرِي من هُوَ وَلَا يعرفهُ أحد.
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أَصَابَنَا مطر فِي يَوْم عيد فَصَلى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَاة الْعِيد فِي الْمَسْجِد» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : عَن هِشَام بن عمار، نَا الْوَلِيد. قَالَ أَبُو دَاوُد: ونا الرّبيع بن سُلَيْمَان، نَا عبد الله بن يُوسُف، نَا الْوَلِيد بن مُسلم، ثَنَا رجل من الفَرْويين - وَسَماهُ الرّبيع فِي حَدِيثه عِيسَى(5/63)
بن عبد الْأَعْلَى بن أبي (فَرْوَة) - سمع أَبَا يَحْيَى عبيد الله التَّيْمِيّ يحدث، عَن أبي هُرَيْرَة «أَنهم أَصَابَهُم مطر فِي يَوْم عيد فَصَلى بهم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَاة الْعِيد فِي الْمَسْجِد» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، عَن الْعَبَّاس بن عُثْمَان الدِّمَشْقِي، نَا الْوَلِيد، نَا عِيسَى بن عبد الْأَعْلَى بن أبي فَرْوَة، قَالَ: سَمِعت أَبَا يَحْيَى (فَذكر مثله وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَن الْأَصَم، نَا الرّبيع بن سُلَيْمَان، نَا عبد الله بن يُوسُف، نَا الْوَلِيد بن مُسلم، حَدثنِي عِيسَى بن عبد الْأَعْلَى (بن) أبي فَرْوَة، أَنه سمع أَبَا يَحْيَى) عبيد الله التَّيْمِيّ يحدث، عَن أبي هُرَيْرَة «أَنهم أَصَابَهُم مطر فِي يَوْم عيد فَصَلى بهم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْعِيد فِي الْمَسْجِد» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَأَبُو يَحْيَى التَّيْمِيّ صَدُوق، إِنَّمَا (الْمَجْرُوح) يَحْيَى بن عبيد الله ابْنه. وَقَالَ عبد الْحق: وَقع فِي بعض النّسخ من كتابي فِي آخر هَذَا الحَدِيث عبيد الله ضَعِيف عِنْدهم، وَكَانَ ذَلِك وهما مني، وَإِنَّمَا الْمُتَكَلّم فِيهِ ابْن أَخِيه عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن - قلت: وَمَا قَالَه هُوَ وَالْحَاكِم (صَحِيح) وهما ضعيفان، يَحْيَى بن عبيد الله قَالَ أَحْمد: أَحَادِيثه مَنَاكِير، لَا يعرف هُوَ(5/64)
وَلَا أَبوهُ. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِثِقَة. وَضَعفه أَيْضا النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْن حبَان. و (عبيد الله) - قَالَ يَحْيَى: ضَعِيف. وَوَثَّقَهُ مرّة أُخْرَى، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح الحَدِيث. عَلَى أَن الحَدِيث الْمَذْكُور لَيْسَ فِي إِسْنَاده وَاحِد من هذَيْن الرجلَيْن، قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا الْكَلَام من عبد الْحق يُعْطي إِعْطَاء بَينا صِحَة الحَدِيث عِنْده، وَمَا مثله يَصح للْجَهَالَة بِحَال عبيد الله بن عبد الله بن موهب (وَالِد) يَحْيَى بن عبيد الله (بن عبد الله) بن موهب المكنى بِهِ، وللجهل بِحَال عِيسَى بن عبد الْأَعْلَى الْفَروِي رِوَايَة عَنهُ فِي كتاب أبي دَاوُد، بل لَا أعلمهُ مَذْكُورا فِي شَيْء من كتب الرِّجَال وَلَا فِي غير هَذَا الْإِسْنَاد، وَلما رَوَى الْوَلِيد بن مُسلم هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا قَالَ فِيهِ: ثَنَا رجل من الفرويين - و (سَمَّاهُ) الرّبيع بن سُلَيْمَان، عَن عبد الله بن يُوسُف عَنهُ فَقَالَ: «عِيسَى بن عبد الْأَعْلَى بن أبي فَرْوَة» - وَلَا (يعلم) رَوَى عَن عبيد الله الْمَذْكُور - سُوَى ابْنه يَحْيَى - غير هَذَا(5/65)
الْفَروِي - الَّذِي هُوَ فِي حكم الْمَعْدُوم - وَغير ابْن أَخِيه عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن، فَالْحَدِيث لَا يَصح.
هَذَا آخر كَلَامه، وَفِيه نظر من وُجُوه:
أَحدهَا: تجهيله عبيد الله بن عبد الله بن موهب، فقد رَوَى عَن جمَاعَة، و (عَنهُ ابْنه) يَحْيَى، قَالَ التِّرْمِذِيّ: ضَعِيف تكلم فِيهِ شُعْبَة، كَذَا رَأَيْته بِخَط الصريفيني فِي كِتَابه، وَقد تبع الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه «الْمُغنِي» ابْن الْقطَّان فِي تجهيله.
ثَانِيهَا: تجهيله عِيسَى بن عبد الْأَعْلَى، فقد قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصر السّنَن» : عِيسَى بن عبد الْأَعْلَى بن أبي فَرْوَة الْفَروِي هَذَا لَا يحْتَج بِهِ، هَذَا لَفظه، نعم لم أر ذَلِك لغيره، وَلم يذكر الْمزي والذهبي فِي تَرْجَمته فِي كِتَابَيْهِمَا شَيْئا فِي حَقه، وَيبعد أَن يكون الْتبس عَلَيْهِ بِعِيسَى بن عبد الرَّحْمَن بن فَرْوَة الْمَتْرُوك.
ثَالِثهَا: قَوْله: وَلَا يعلم رَوَى عَن يَحْيَى (هَذَا غير) الْفَروِي، وَعبيد الله بن عبد الرَّحْمَن، قد رَوَى عَنهُ أَيْضا ابْن الْمُبَارك ويعلى بن (عبيد) .(5/66)
الحَدِيث الثَّامِن عشر
(رُوِيَ) «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يركب فِي عيد وَلَا جَنَازَة» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي كتاب الْجُمُعَة (فَرَاجعه) مِنْهُ.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كتب إِلَى عَمْرو بن حزم (حِين) ولاه الْبَحْرين أَن عجل الْأَضْحَى، وَأخر الْفطر، وَذكر النَّاس» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، (عَن أبي) الْحُوَيْرِث: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كتب إِلَى عَمْرو بن حزم وَهُوَ بِنَجْرَان أَن (أخر الْفطر وَعجل الْأَضْحَى) وَذكر النَّاس» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَنهُ، ثمَّ قَالَ: هَذَا (مُرْسل) ، قَالَ: وَقد (طلبته) فِي سَائِر (الرِّوَايَات) بكتابه إِلَى عَمْرو بن حزم فَلم أَجِدهُ.(5/67)
قلت: وَإِبْرَاهِيم قد عرفت حَاله فِي الطَّهَارَة وَغَيرهَا فأغنى عَن إِعَادَته.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (كَانَ) يخرج فِي الْعِيد إِلَى (الْمُصَلى) وَلَا يَبْتَدِئ إِلَّا بِالصَّلَاةِ) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مطولا.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يتَنَفَّل قبل (الْعِيد وَلَا بعْدهَا) » .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى يَوْم الْفطر رَكْعَتَيْنِ لم (يصل) (قبلهَا وَلَا بعْدهَا)
» الحَدِيث.(5/68)
لَكِن فِي سنَن ابْن مَاجَه، من حَدِيث (أبي) سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كَانَ (رَسُول الله) (لَا يُصَلِّي قبل الْعِيد شَيْئا، فَإِذا رَجَعَ إِلَى منزله صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . وَإِسْنَاده جيد، لَا جرم ذكره الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: (هَذِه) سنة (غَرِيبَة) بِإِسْنَاد صَحِيح.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «كَانَ (رَسُول الله) (يفْطر قبل (أَن يخرج) إِلَى الْفطر، وَلَا يُصَلِّي قبل الصَّلَاة، فَإِذا قَضَى صلَاته صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» .
وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» من حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى قبل الْخطْبَة فِي يَوْم عيد» . ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
عَن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يَغْدُو يَوْم (الْفطر) حَتَّى يَأْكُل تمرات (ويأكلهن) وترا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ مُسْندًا (إِلَّا)(5/69)
قَوْله: (ويأكلهن وترا» فَإِنَّهُ أخرجهَا تَعْلِيقا، وأسندها الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي «صَحِيحه» .
وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ: «كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ (إِذا كَانَ يَوْم الْفطر لم يخرج حَتَّى يَأْكُل تمرات يأكلهن وترا) » .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ: «كَانَ يفْطر يَوْم الْفطر عَلَى تمرات قبل أَن يَغْدُو» . قَالَ: وَهُوَ عَلَى شَرط مُسلم. قَالَ: وَله شَاهد صَحِيح عَلَى شَرطه. فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَى أنس أَيْضا قَالَ: «مَا خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم الْفطر حَتَّى يَأْكُل تمرات ثَلَاثًا أَو سبعا أَو خمْسا، أَو أقل من ذَلِك، أَو أَكثر من ذَلِك وترا» . وَرَوَاهَا أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» .
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن بُرَيْدَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يخرج يَوْم الْفطر حَتَّى يطعم، وَلَا يطعم يَوْم الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّي» .
هَذَا الحَدِيث حسن (صَحِيح) .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ، وَابْن مَاجَه (وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي(5/70)
«صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالْبَيْهَقِيّ) فِي «سنَنه» بأسانيد صَحِيحَة من رِوَايَة ثوّاب - بتَشْديد الْوَاو - ابْن عتبَة الْمهرِي، عَن عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لفظ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه.
وَلَفظ أَحْمد: «كَانَ إِذا كَانَ يَوْم الْفطر (لم) يخرج حَتَّى يَأْكُل، وَإِذا كَانَ يَوْم النَّحْر لم يَأْكُل حَتَّى يذبح» .
وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ: «لَا يَأْكُل يَوْم النَّحْر حَتَّى يرجع فيأكل من أضحيته» .
وَلَفظ ابْن حبَان: «كَانَ لَا يخرج يَوْم الْفطر حَتَّى (يفْطر) وَلَا يطعم يَوْم النَّحْر حَتَّى ينْحَر» وَلَفظ الْحَاكِم «حَتَّى يرجع» وَفِي رِوَايَة (للبيهقي) : «كَانَ إِذا رَجَعَ أكل من كبد أضحيته» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب. قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَلّي وَأنس. قَالَ: وَقَالَ مُحَمَّد - يَعْنِي البُخَارِيّ -: لَا أعرف لثوّاب بن عتبَة غير هَذَا الحَدِيث.
وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وثوّاب هَذَا قَلِيل الحَدِيث (وَلم يجرح) بِنَوْع يسْقط بِهِ حَدِيثه، وَهَذِه(5/71)
(سنة عزيزة) من طَرِيق الرِّوَايَة مستفيضة فِي بِلَاد الْمُسلمين.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان: هَذَا الحَدِيث عِنْدِي صَحِيح؛ لِأَن ثوّابًا هَذَا بَصرِي ثِقَة، وَثَّقَهُ ابْن معِين رَوَاهُ عَنهُ عَبَّاس وَإِسْحَاق بن مَنْصُور. قَالَ: وَزِيَادَة الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا صَحِيحَة (إِلَى) ثوّاب الْمَذْكُور وَيَرْوِيه عَن عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه.
قلت: وثواب أنكر أَبُو حَاتِم (وَأَبُو زرْعَة) توثيقه كَمَا حَكَاهُ صَاحب (التَّهْذِيب) عَنْهُمَا، (لَكِن) قَالَ ابْن معِين: صَدُوق. قَالَ عَبَّاس الدوري: إِن كنت قد كتبت عَنهُ الضعْف (فَهَذَا) آخر قوليه. وَرَوَى هَذَا الحَدِيث عَن ثوّاب أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، وَتَابعه أَبُو عُبَيْدَة الْحداد، وَرَوَاهُ عقبَة عَن (ابْن) بُرَيْدَة.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيسْتَحب فِي عيد الْفطر أَن يطعم شَيْئا قبل الْخُرُوج إِلَى الصَّلَاة، وَلَا يطعم فِي عيد الْأَضْحَى حَتَّى يرجع. رَوَاهُ أنس وَبُرَيْدَة وَغَيرهمَا (من فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هُوَ كَمَا قَالَ، أما حَدِيث أنس وَبُرَيْدَة فقد فَرغْنَا مِنْهُمَا آنِفا، وَأما(5/72)
غَيرهمَا) فقد قدمْنَاهُ عَن التِّرْمِذِيّ أَن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - رَوَاهُ فِي «جَامعه» من حَدِيث أبي إِسْحَاق السبيعِي، عَن الْحَارِث، عَن عَلّي « (إِن) من السّنة أَن تخرج إِلَى الْعِيد مَاشِيا وَأَن تَأْكُل قبل أَن تخرج» ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن.
وَفِي «تَارِيخ الْعقيلِيّ» عَن عَلّي «- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - (أَنه) عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن يخرج يَوْم الْفطر حَتَّى يطعم» ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده غير مَحْفُوظ، وَمَتنه يرْوَى من وَجه أصلح من هَذَا.
وَرَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ابْن عمر أَيْضا رَوَاهُ الْعقيلِيّ من طَرِيقه بِلَفْظ: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَغْدُو يَوْم الْفطر حَتَّى يغدّي أَصْحَابه من صَدَقَة الْفطر» .
وَفِي إِسْنَاده عمر بن صهْبَان خَال إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى، قَالَ ابْن معِين: حَدِيثه لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. قَالَ الْعقيلِيّ: وَرَوَى مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمر بِزَكَاة الْفطر أَن تُؤَدَّى قبل خُرُوج الإِمَام» . وَهَذِه الرِّوَايَة أولَى.
وَرَوَاهُ أَيْضا جَابر بن سَمُرَة، رَوَاهُ أَبُو نعيم عَلَى مَا عزاهُ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» إِلَيْهِ بِلَفْظ: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَغْدُو يَوْم الْفطر حَتَّى يَأْكُل (سبع) تمرات أَو سبع زبيبات» .
وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» وَأَبُو(5/73)
يعْلى فِي «مُعْجَمه» من حَدِيث عبد الله بن عقيل، (عَن) عَطاء بن يسَار (عَنهُ قَالَ: «كَانَ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام) لَا يخرج يَوْم الْفطر حَتَّى يطعم» .
وَرَوَاهُ أَيْضا صَفْوَان بن سليم، رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد قَالَ: حَدثنِي صَفْوَان بن سليم «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يطعم قبل أَن يخرج إِلَى الجبان يَوْم الْفطر وَيَأْمُر بِهِ» . قَالَ الشَّافِعِي: وَأَنا إِبْرَاهِيم بن سعد (بن إِبْرَاهِيم) عَن ابْن شهَاب عَن ابْن الْمسيب قَالَ: «كَانَ الْمُسلمُونَ يَأْكُلُون يَوْم الْفطر قبل الصَّلَاة وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِك يَوْم النَّحْر» . قَالَ: وَأَنا مَالك، عَن ابْن شهَاب، عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «كَانَ النَّاس يؤمرون بِالْأَكْلِ قبل الغدو يَوْم الْفطر» وَأَنا مَالك، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه « (أَنه) كَانَ يَأْكُل قبل الغدو يَوْم الْفطر» . وأَنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه «أَنه كَانَ يَأْمر بِالْأَكْلِ قبل الْخُرُوج إِلَى الْمُصَلى يَوْم الْفطر» .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى الْعِيدَيْنِ ثمَّ خطب (بِغَيْر) أَذَان وَلَا إِقَامَة» .(5/74)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِهَذَا اللَّفْظ بِإِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَزِيَادَة: «وَأبي بكر وَعمر (أَو) عُثْمَان» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة وَبِدُون قَوْله: «ثمَّ خطب» .
وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى الْعِيد بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «شهِدت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْعِيد وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فكلهم صَلَّى قبل الْخطْبَة بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة» .
وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنهُ، وَعَن جَابر بن عبد الله قَالَا: «لم يكن يُؤذن يَوْم الْفطر وَلَا يَوْم الْأَضْحَى» .
وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة قَالَ: «صليت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْعِيدَيْنِ غير مرّة وَلَا مرَّتَيْنِ بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة» .
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
قَالَ الرَّافِعِيّ: يكبر فِي الأولَى سبع تَكْبِيرَات سُوَى تَكْبِيرَة(5/75)
الِافْتِتَاح و (الهَوِيّ) إِلَى الرُّكُوع، وَفِي الثَّانِيَة خمس تَكْبِيرَات سُوَى (تَكْبِيرَة) الْقيام [من السُّجُود] والهوي إِلَى [الرُّكُوع. لنا] مَا رُوِيَ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر فِي الْفطر والأضحى فِي (الأولَى) سبعا وَفِي الثَّانِيَة خمْسا» .
هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ لَيْسَ مطابقًا لما اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِذْ يجوز أَن يكون دَلِيلا لِأَحْمَد فِيمَا ذهب إِلَيْهِ فِي (إِحْدَى) الرِّوَايَتَيْنِ من أَن (التَّكْبِير) فِي الأولَى سبع تَكْبِيرَات بتكبيرة الِافْتِتَاح، نعم الحَدِيث الْآتِي نَص فِيمَا ذكره، وَكَذَا الطَّرِيق الثَّانِي من طرق (هَذَا) الحَدِيث الَّذِي نَحن فِيهِ كَمَا ستعلمه، وَهَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ هُنَا مَرْوِيّ من طرق أَحدهَا: عَن كثير بن عبد الله (بن عَمْرو) بن عَوْف، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كبر فِي الْعِيدَيْنِ فِي الأولَى سبعا قبل الْقِرَاءَة، وَفِي الثَّانِيَة خمْسا قبل الْقِرَاءَة» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمَا» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. قَالَ: وَهُوَ أحسن شَيْء فِي(5/76)
هَذَا الْبَاب. وَنقل الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَغَيره أَن التِّرْمِذِيّ قَالَ فِي «علله» : سَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَاب شَيْء أصح مِنْهُ وَبِه أَقُول.
وَاعْلَم أَن فِي تَحْسِين التِّرْمِذِيّ لهَذَا الحَدِيث نظرا، وَقَول البُخَارِيّ أَنه لَيْسَ فِي الْبَاب أصح مِنْهُ. لَا يلْزم مِنْهُ تَصْحِيحه بل مُرَاده أَنه لَيْسَ فِي الْبَاب أصح مِنْهُ (عَلَى) علاته وَسبب ذَلِك ضعف كثير بن عبد الله رَاوِيه.
قَالَ الشَّافِعِي - كَمَا نَقله عَنهُ السَّاجِي وَابْن حبَان -: كثير ركن من أَرْكَان الْكَذِب.
وَقَالَ أَحْمد: لَا يحدث عَنهُ. وَقَالَ مرّة: مُنكر الحَدِيث لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ مرّة: لَا يُسَاوِي شَيْئا. وَضرب عَلَى (حَدِيثه) فِي الْمسند وَلم يحدث بِهِ. وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء وَلَا يكْتب حَدِيثه. وَكَذَا قَالَ يَحْيَى، وَتَركه النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، ووهاه أَبُو زرْعَة، وَقَالَ ابْن حبَان: رَوَى عَن أَبِيه عَن جده نُسْخَة مَوْضُوعَة لَا يحل ذكرهَا فِي الْكتب وَلَا الرِّوَايَة عَنهُ إلاّ عَلَى جِهَة التَّعَجُّب. وَقَالَ مطرف بن عبد الله: رَأَيْته وَكَانَ كثير الْخُصُومَة فَقَالَ لَهُ ابْن [عمرَان] : أَنْت رجل بطال تخاصم (فِيمَا) لَا تعرف وتدعي مَا لَيْسَ لَك بِلَا بَيِّنَة، فَلَا تقربني إلاّ أَن(5/77)
تراني قد تفرغت لأهل البطالة.
وَأورد لَهُ ابْن عدي أَحَادِيث مِمَّا يُنكر عَلَيْهِ مِنْهَا (هَذَا) الحَدِيث ثمَّ قَالَ: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وجده عَمْرو بن عَوْف صَحَابِيّ يروي عَنهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد أَحَادِيث، قَالَ ابْن السكن: فِيهَا نظر. وَقَالَ (الْبَزَّار) لم يرو عَنهُ إِلَّا ابْنه. وَقد أنكر جماعات عَلَى التِّرْمِذِيّ تحسينه أَيْضا، قَالَ ابْن دحْيَة فِي كتاب «الْعلم الْمَشْهُور» : قَول التِّرْمِذِيّ إِن هَذَا الحَدِيث أحسن شَيْء فِي هَذَا الْبَاب لَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ (أقبح) حَدِيث فِي ذَلِك (الْبَاب) لِأَن كثير بن عبد الله الْمَذْكُور لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ بتخريج الْأَئِمَّة (لَهُ) وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : أَنا أتعجب من قَول التِّرْمِذِيّ هَذَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» : فِي قَوْله هَذَا نظر؛ لِأَن (كثيرا) هَذَا ضَعِيف جدًّا فَلَعَلَّهُ اعتضد عِنْده بشواهد (وَغَيرهَا) .
قلت: وَالتِّرْمِذِيّ رَوَى لَهُ حَدِيثا فِي «كتاب الْأَحْكَام» من «جَامعه» وَصَححهُ (مَعَ) الْحسن، وَالْإِنْكَار عَلَيْهِ أَشد، وسترى الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الصُّلْح إِن شَاءَ الله - تَعَالَى - وَلما ذكر عبد الْحق(5/78)
فِي «أَحْكَامه» هَذَا الحَدِيث قَالَ: صَححهُ البُخَارِيّ. فاعترضه ابْن الْقطَّان بِأَنَّهُ لم يُصَحِّحهُ إِنَّمَا قَالَ: لَيْسَ فِي الْبَاب أصح مِنْهُ. وَبِه أَقُول، وَلَيْسَ هَذَا بِنَصّ فِي (تَصْحِيحه) إِيَّاه إِذْ قد يَقُول هَذَا [لأشبه] مَا فِي الْبَاب وَإِن كَانَ (كُله) ضَعِيفا، فَإِن قيل: يُؤَكد مَفْهُوم عبد الْحق قَوْله: وَبِه أَقُول. (فَالْجَوَاب) إِن هَذِه اللَّفْظَة لَا أَدْرِي هَل هِيَ من كَلَام البُخَارِيّ أَو التِّرْمِذِيّ، وَهِي إِذا كَانَت من البُخَارِيّ كَانَ مَعْنَاهَا: وَبِه أَقُول وأفتي فِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ، وَإِلَيْهِ أذهب فِي عدد التَّكْبِير، وَإِن كَانَت من التِّرْمِذِيّ فمعناها: وَبِه أَقُول أَي إِن الحَدِيث الْمَذْكُور أشبه مَا فِي الْبَاب وأصحه. فَإِن قيل: (وَهَذَا) الْقَرار عَن ظَاهر (الْكَلَام) الْمَذْكُور مَا أوجبه؟ (فَالْجَوَاب) أَن تَقول: أوجبه أَن عبد الله بن عَمْرو وَالِد كثير هَذَا لَا يعرف حَاله، وَلَا يعلم رَوَى عَنهُ (غير) ابْنه كثير، وَكثير عِنْدهم مَتْرُوك الحَدِيث.(5/79)
قلت: عبد الله (هَذَا) قد ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» .
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن (عَمْرو) بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كبر فِي عيد ثِنْتَيْ عشرَة تَكْبِيرَة، سبعا فِي الأولَى وخمسًا فِي (الْآخِرَة) وَلم يصل قبلهَا وَلَا بعْدهَا» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الطَّائِفِي عَن عَمْرو بِهِ سَوَاء، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بلفظين: أَحدهمَا: «كبر فِي الْعِيدَيْنِ الْأَضْحَى وَالْفطر ثِنْتَيْ عشرَة تَكْبِيرَة، فِي الأولَى سبعا وَفِي (الْآخِرَة) خمْسا سُوَى تَكْبِيرَة (الصَّلَاة) » (وَثَانِيهمَا) «كبر فِي الْعِيد يَوْم الْفطر سبعا فِي الأولَى وَفِي الْآخِرَة خمْسا سُوَى تَكْبِيرَة الصَّلَاة» .
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
(قَالَ الرَّافِعِيّ) : (وَيروَى) «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كبر (اثْنَتَيْ) عشرَة(5/80)
تَكْبِيرَة سُوَى (تَكْبِيرَة) الِافْتِتَاح و (تَكْبِيرَة) الرُّكُوع» .
هَذَا (الحَدِيث) رَوَاهُ (أَبُو) دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر فِي الْعِيدَيْنِ ثِنْتَيْ عشرَة تَكْبِيرَة سُوَى (تَكْبِير) الِافْتِتَاح وَيقْرَأ ب (ق وَالْقُرْآن الْمجِيد (و (اقْتَرَبت السَّاعَة. هَذَا لفظ الْحَاكِم و (إِحْدَى) (رِوَايَات) الدَّارَقُطْنِيّ: (وَلَفظ أبي دَاوُد وَإِحْدَى رِوَايَات الدارقطني) «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كبر فِي الْفطر والأضحى سبعا وخمسًا سُوَى (تكبيرتي) الرُّكُوع) .
وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ: «كَانَ يكبر فِي الْعِيدَيْنِ سبعا فِي الأولَى، وخمسًا فِي (الْآخِرَة) سُوَى (تكبيرتي) الرُّكُوع» .(5/81)
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه بِلَفْظ أبي دَاوُد ومداره عَلَى ابْن لَهِيعَة. قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ ابْن لَهِيعَة، وَقد اسْتشْهد بِهِ مُسلم فِي موضِعين من «صَحِيحه» .
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
(قَالَ الرَّافِعِيّ لنا - أَي عَلَى أَن التَّكْبِير قبل الْقِرَاءَة - مَا) رُوِيَ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر فِي الْفطر والأضحى: فِي الأولَى سبع تَكْبِيرَات قبل الْقِرَاءَة، وَفِي الثَّانِيَة خمس تَكْبِيرَات قبل الْقِرَاءَة» .
(هَذَا الحَدِيث سلف قَرِيبا من حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقْرَأ فِي الْأَضْحَى وَالْفطر ب (ق وَالْقُرْآن الْمجِيد) و (اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم، مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث عبيد الله بن عبد الله « (أَن) عمر بن الْخطاب سَأَلَ (أَبَا) وَاقد اللَّيْثِيّ: مَا كَانَ(5/82)
(يَقْرَؤُهُ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْأَضْحَى وَالْفطر، قَالَ: كَانَ (يقْرَأ) ب (ق وَالْقُرْآن الْمجِيد) و (اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر) » .
قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا ثَابت إِن كَانَ عبيد الله لَقِي أَبَا وَاقد. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا لِأَن (عبيد الله) لم يدْرك أَيَّام عمر، ومسألته (إِيَّاه، و) بِهَذِهِ الْعلَّة ترك البُخَارِيّ إِخْرَاج هَذَا الحَدِيث، وَأخرجه مُسلم لِأَن فليحًا رَوَاهُ عَن ضَمرَة، عَن عبيد الله، عَن أبي وَاقد فَصَارَ الحَدِيث بذلك مَوْصُولا.
قلت: عبيد الله سمع أَبَا وَاقد بِلَا خلاف، فَالْحَدِيث ثَابت وَقد حسنه التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ (الْحَافِظ جمال الدَّين) الْمزي فِي «أَطْرَافه» فِي مُسْند أبي وَاقد، وَسَمَاع عبيد الله من أبي وَاقد كافٍ فِي اتِّصَال الحَدِيث، ودع لَا يدْرك أَيَّام عمر؛ لِأَن الْجُمْهُور عَلَى أَن الشَّخْص إِذا لم (يكن) مدلسًا وَرَوَى عَن شخص لقِيه (أَو) أمكن لقاؤه لَهُ عَلَى (هَذَا) الْخلاف الْمَعْرُوف (فَحَدِيثه) مُتَّصِل كَيْفَمَا كَانَ اللَّفْظ، وَلَا نسلم أَن البُخَارِيّ تَركه لهَذِهِ الْعلَّة كَمَا ادَّعَاهُ الْبَيْهَقِيّ؛(5/83)
لِأَن هَذِه عِلّة مفقودة فِي رِوَايَة فليح، نعم الْعلَّة عِنْده (فِي ترك) ضَمرَة بن سعيد (فَإِنَّهُ) لم يخرج لَهُ شَيْئا.
فَائِدَة: اسْم أبي وَاقد: الْحَارِث بن عَوْف وَقيل عَكسه، وَوهم من قَالَ أَنه بَدْرِي، نعم شهد الْفَتْح وَنزل فِي الآخر بِمَكَّة، وَمَات سنة ثَمَان وَسِتِّينَ (وَلَعَلَّ) الَّذِي شهد بَدْرًا سمي لَهُ، وَفِي الصَّحَابَة اثْنَان أَيْضا أَبُو وَاقد مولَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَبُو وَاقد (النميري) وَلَا رَابِع لَهُم.
فَائِدَة ثَانِيَة: ثَبت فِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقْرَأ فِي الْعِيدَيْنِ (وَالْجُمُعَة) ب (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (، و (هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية وَهُوَ من أَفْرَاده، لَا كَمَا زعم ابْن الْجَوْزِيّ أَنه من الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي أحد طريقيه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَيْسَ (بَين) الْحَدِيثين (اخْتِلَاف) فَإِنَّهُمَا محمولان عَلَى أَنَّهُمَا واقعين فَحَكَى كل مِنْهُمَا مَا رَأَى.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خطب عَلَى رَاحِلَته يَوْم الْعِيد» .(5/84)
هَذَا الحَدِيث ذكره صَاحب «الْمُهَذّب» ، وبيض لَهُ الْمُنْذِرِيّ، وَهُوَ حَدِيث ثَابت فِي «سنَن النَّسَائِيّ» وَابْن مَاجَه، والسياق لَهُ من حَدِيث دَاوُد بن قيس، عَن عِيَاض بن عبد الله، أَخْبرنِي أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخرج (يَوْم) الْعِيد فَيصَلي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يسلم فيقف عَلَى (رَاحِلَته) فيستقبل النَّاس وهم جُلُوس، فَيَقُول: تصدقوا تصدقوا. فَأكْثر من يتَصَدَّق النِّسَاء بالقرط والخاتم وَالشَّيْء، فَإِن كَانَت حَاجَة يُرِيد أَن يبْعَث (بعثًا ذكره) لَهُم وَإِلَّا انْصَرف» . وَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَقد أخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بالسند الْمَذْكُور وَلَفظه: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (خطب يَوْم الْعِيد عَلَى رَاحِلَته» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن وَكِيع، عَن دَاوُد بِهِ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خطب) قَائِما عَلَى (رَاحِلَته) » .
وَله طَرِيق ثَان، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه» من حَدِيث عَطاء بن السَّائِب، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (خرجت مَعَ(5/85)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم الْفطر فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة، ثمَّ ركب رَاحِلَته فَخَطب عَلَيْهَا، ثمَّ أَتَى النِّسَاء فخطبهن وحضهن عَلَى الصَّدَقَة، فَقَالَ: تصدقن يَا معشر النِّسَاء ... »
الحَدِيث.
وَله طَرِيق ثَالِث من حَدِيث أبي كَاهِل الأحمسي قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخْطب النَّاس يَوْم عيد عَلَى (نَاقَة) خرماء، وَحبشِي مُمْسك بخطامها» .
رَوَاهُ أَحْمد، وَالْبَيْهَقِيّ كَذَلِك، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ: «رَأَيْته يخْطب عَلَى (نَاقَة) وَحبشِي آخذ بِخِطَام النَّاقة» . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا، وَأَبُو كَاهِل هَذَا لَهُ رُؤْيَة وَمَات زمن الْحجَّاج، وَهُوَ قيس بن عَائِذ ذكره (ابْن مَنْدَه) وَفِي «الصَّحَابَة» أَيْضا أَبُو كَاهِل لَهُ حَدِيث طَوِيل مَوْضُوع، سَاقه أَبُو أَحْمد الْحَاكِم بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، وَلم أر فِي الصَّحَابَة من يكنى بِهَذِهِ الكنية (غَيرهمَا) .
وَله طَرِيق رَابِع من حَدِيث عَاصِم بن عَلّي: حَدثنَا عِكْرِمَة بن عمار، عَن الهرماس بن زِيَاد قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخْطب عَلَى رَاحِلَته (العضباء) يَوْم الْأَضْحَى وَأَنا مرتدف خلف أبي» .(5/86)
رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة زِيَاد الْبَاهِلِيّ من هَذَا الْوَجْه، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» أَيْضا. وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي بكرَة: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خطب عَلَى رَاحِلَته يَوْم النَّحْر» .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الثَّلَاثِينَ
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَإِنَّمَا أَخذ كَون هَذِه الْخطْبَة بعد الصَّلَاة من فعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وخلفائه الرَّاشِدين.
هُوَ كَمَا (قَالَ) ، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قَالَ: «شهِدت صَلَاة الْفطر مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فكلهم يُصليهَا قبل الْخطْبَة ثمَّ يخْطب» .
وَفِيهِمَا من حَدِيث ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَبُو بكر وَعمر يصلونَ الْعِيد قبل الْخطْبَة» .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَغْدُو يَوْم الْفطر والأضحى فِي طَرِيق وَيرجع فِي (آخر)) .(5/87)
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق:
أَحدهَا: عَن جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا كَانَ يَوْم عيد خَالف الطَّرِيق» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ.
ثَانِيهَا: عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا خرج إِلَى الْعِيدَيْنِ رَجَعَ (فِي) غير الطَّرِيق الَّذِي (خرج فِيهِ) » .
رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث غَرِيب. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ، وَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي «تلخيصه» بِلَفْظ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان إِذا خَرجُوا إِلَى الْعِيد فِي طَرِيق رجعُوا فِي طَرِيق آخر أبعد مِنْهُ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: حَدِيث جَابر أصح من هَذَا. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد ذكر ذَلِك فِي «صَحِيحه» . قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» : انْفَرد البُخَارِيّ بِإِخْرَاج هَذَا الحَدِيث تَعْلِيقا. وَعَزاهُ الْبَيْهَقِيّ (إِلَى) بعض نسخ البُخَارِيّ.(5/88)
ثَالِثهَا: عَن ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَخذ يَوْم الْعِيد فِي طَرِيق ثمَّ رَجَعَ فِي طَرِيق آخر» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمَا» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، (وَالْبَيْهَقِيّ) .
رَابِعهَا: عَن مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي رَافع، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا بِهِ.
خَامِسهَا: عَن سعد الْقرظ مَرْفُوعا (بِهِ) رَوَاهُمَا «ابْن مَاجَه» .
سادسها: عَن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْعِيد يذهب فِي طَرِيق وَيرجع فِي (آخر) » .
رَوَاهُ ابْن قَانِع وَأَبُو نعيم فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» .
سابعها: عَن سعد بن أبي وَقاص مَرْفُوعا بِهِ. رَوَاهُ الْبَزَّار.(5/89)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كبر بعد صَلَاة الصُّبْح يَوْم عَرَفَة وَمد التَّكْبِير إِلَى الْعَصْر آخر أَيَّام التَّشْرِيق» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طَرِيقين: أَحدهمَا عَن (عَمْرو) بن شمر - أحد الهلكى - عَن جَابر - وَهُوَ الْجعْفِيّ، شيعي غال وثق وَترك - عَن عبد الرَّحْمَن بن سابط عَن جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يكبر يَوْم عَرَفَة من صَلَاة (الْغَدَاة) إِلَى (صَلَاة) الْعَصْر آخر أَيَّام التَّشْرِيق» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» وَهَذَا إِسْنَاد (واه) ؛ (عَمْرو) مَتْرُوك زائغ كَذَّاب، كَمَا شهد لَهُ الْأَئِمَّة بذلك، وَجَابِر قد عرفت حَاله، لَا جرم قَالَ الْبَيْهَقِيّ إثره: هَذَا (حَدِيث) لَا يحْتَج بِمثلِهِ. قَالَ: وَعَمْرو بن شمر وَجَابِر (الْجعْفِيّ) لَا يحْتَج بهما. قَالَ: وَفِي رِوَايَة الثِّقَات كِفَايَة.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : إِنَّه حَدِيث لَا يثبت. ثمَّ نقل أَقْوَال الْأَئِمَّة فيهمَا.(5/90)
قلت: وَرَوَاهُ عَن عَمْرو بن شمر جماعات (مِنْهُم) مُصعب بن سَلام، عَنهُ، عَن جَابر، عَن أبي جَعْفَر، عَن عَلّي بن حُسَيْن، عَن جَابر: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يكبر فِي صَلَاة الْفجْر يَوْم عَرَفَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر من آخر أَيَّام التَّشْرِيق حِين يسلم من المكتوبات» . وَمصْعَب هَذَا كَأَنَّهُ التَّمِيمِي الْكُوفِي تكلم فِيهِ ابْن حبَان وَصحح الْحَاكِم (حَدِيثه) .
ثانيهم: مَحْفُوظ بن نصر الْهَمدَانِي عَنهُ، عَن جَابر (عَن مُحَمَّد بن عَلّي، عَن جَابر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كبر يَوْم عَرَفَة وَقطع فِي آخر أَيَّام التَّشْرِيق» . ومحفوظ هَذَا لَا أعلم حَاله.
ثالثهم: نائل بن نجيح عَنهُ عَن جَابر) عَن أبي جَعْفَر وَعبد الرَّحْمَن بن سابط، عَن جَابر: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا صَلَّى الصُّبْح من غَدَاة عَرَفَة أقبل عَلَى (أَصْحَابه) وَيَقُول: عَلَى مَكَانكُمْ. وَيَقُول: الله أكبر (الله أكبر) لَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر الله أكبر وَللَّه الْحَمد (فيكبر) من غَدَاة عَرَفَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر من آخر أَيَّام التَّشْرِيق» .
و (نائل) هَذَا أَحَادِيثه مظْلمَة جدًّا، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ فِي ذَلِك عَن عمر وَعلي وَابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ثمَّ ذكره عَنْهُم (بأسانيده)(5/91)
و «أَنهم كَانُوا يكبرُونَ من الصُّبْح يَوْم عَرَفَة إِلَى الْعَصْر من آخر أَيَّام التَّشْرِيق» .
الطَّرِيق الثَّانِي:
عَن عَمْرو بن شمر عَن جَابر أَيْضا، عَن أبي الطُّفَيْل، عَن عَلّي وعمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أَنَّهُمَا سمعا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يجْهر فِي المكتوبات: بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي فَاتِحَة الْقُرْآن، ويقنت فِي صَلَاة الْفجْر وَالْوتر، وَيكبر فِي دبر الصَّلَوَات المكتوبات من صَلَاة الْفجْر غَدَاة عَرَفَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر آخر أَيَّام التَّشْرِيق يَوْم دفْعَة النَّاس الْعُظْمَى» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْحسن (بن) مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد، ثَنَا سعيد بن عُثْمَان، أنبأني عَمْرو بن شمر، عَن جَابر، عَن أبي الطُّفَيْل (بِهِ) . وَهَذَا إِسْنَاد كَالَّذي قبله و (أعله) عبد الْحق بجابر الْجعْفِيّ، وَأنكر عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي تعصيب الْجِنَايَة فِي هَذَا الحَدِيث بِرَأْس جَابر الْجعْفِيّ، فَإِن عَمْرو بن شمر مَا فِي الْمُسلمين من يقبل حَدِيثه، وَسَعِيد بن عُثْمَان الرَّاوِي لهَذَا الحَدِيث لَا أعرفهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث أسيد بن زيد، نَا عَمْرو بن شمر، عَن جَابر، عَن أبي الطُّفَيْل، عَن عَلّي وعمار «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يجْهر فِي المكتوبات بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَكَانَ يقنت فِي الْفجْر، وَكَانَ يكبر يَوْم عَرَفَة صَلَاة الْغَدَاة ويقطعها صَلَاة الْعَصْر(5/92)
آخر أَيَّام التَّشْرِيق» وَأسيد هَذَا أخرج لَهُ البُخَارِيّ مَقْرُونا بآخر، وَقد كذبه ابْن معِين وَتَركه غَيره، ثمَّ ظَفرت (بعد) ذَلِك بطرِيق آخر لَيْسَ فِيهِ عَمْرو بن شمر وَلَا جَابر بن (يزِيد) .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَن أبي الْحسن عَلّي بن مُحَمَّد بن عقبَة الشَّيْبَانِيّ، نَا إِبْرَاهِيم بن أبي العنبس القَاضِي، نَا سعيد بن عُثْمَان (الخراز) ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن سعد الْمُؤَذّن، نَا فطر بن خَليفَة، عَن أبي الطُّفَيْل، عَن عِكْرِمَة (عَن عَلّي) وعمار (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يجْهر فِي المكتوبات بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَكَانَ يقنت فِي صَلَاة الْفجْر، وَكَانَ يكبر يَوْم عَرَفَة من صَلَاة الصُّبْح ويقطعها صَلَاة الْعَصْر آخر أَيَّام التَّشْرِيق» . ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، لَا أعلم فِي رُوَاته مَنْسُوبا إِلَى الْجرْح.
قَالَ: وَقد رُوِيَ فِي الْبَاب عَن جَابر بن عبد الله وَغَيره، فَأَما من فعل عمر وَعلي وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن مَسْعُود فَصَحِيح عَنْهُم التَّكْبِير من غَدَاة عَرَفَة إِلَى آخر أَيَّام التَّشْرِيق.
أما حَدِيث عمر فَرَوَاهُ عَنهُ [عبيد] بن عُمَيْر قَالَ: «كَانَ عمر بن الْخطاب يكبر بعد صَلَاة الْفجْر من يَوْم عَرَفَة لَا يقطع إِلَى صَلَاة(5/93)
الظّهْر من آخر أَيَّام التَّشْرِيق) .
وَأما حَدِيث عَلّي فَرَوَاهُ عَنهُ شَقِيق «أَنه كَانَ يكبر بعد صَلَاة الْفجْر غَدَاة عَرَفَة ثمَّ لَا يقطع حَتَّى يُصَلِّي الإِمَام من آخر أَيَّام التَّشْرِيق، ثمَّ يكبر بعد الْعَصْر» .
وَأما حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس فَرَوَاهُ عِكْرِمَة عَنهُ «أَنه كَانَ يكبر من غَدَاة يَوْم عَرَفَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر من آخر أَيَّام التَّشْرِيق» (وَأما عبد الله بن مَسْعُود فَرَوَاهُ عَنهُ عُمَيْر بن سعيد قَالَ: «قدم علينا ابْن مَسْعُود فَكَانَ يكبر من صَلَاة الصُّبْح يَوْم عَرَفَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر من آخر أَيَّام التَّشْرِيق» . وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيّ عَن التَّكْبِير يَوْم عَرَفَة فَقَالَ: يكبر من غَدَاة عَرَفَة إِلَى آخر أَيَّام التَّشْرِيق) .
كَمَا كبر عَلّي وَعبد الله. وَذكر (الْحَاكِم) ذَلِك عَنْهُم (بأسانيده) ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» طَريقَة الْحَاكِم السالفة (بِإِسْنَاد) الْحَاكِم، ثمَّ نقل تَصْحِيحه لَهُ وَأقرهُ عَلَيْهِ، وَخَالف فِي كِتَابه «الْمعرفَة» فَقَالَ (عقب) ذَلِك: هَذَا حَدِيث مَشْهُور بِعَمْرو بن شمر، عَن جَابر الْجعْفِيّ، عَن أبي الطُّفَيْل، وكلا الإسنادين ضَعِيف، وَهَذَا أمثلهما.
قلت: وَمَعَ ذَلِك فعبد الرَّحْمَن بن سعد الْمُؤَذّن ضعفه ابْن معِين(5/94)
وَانْفَرَدَ بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ ابْن مَاجَه، وَسَعِيد بن عُثْمَان لَا أعلم حَاله، وَقد أنكر جماعات عَلَى الْحَاكِم، تَصْحِيحه لَهُ (قَالَ) النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» عقيب قولة الْحَاكِم السالفة: الْبَيْهَقِيّ أتقن من شَيْخه الْحَاكِم وَأَشد تحريًا. وَقَالَ فِي «الْخُلَاصَة» : قَول الْحَاكِم إِن رِوَايَة عَلّي وعمار صَحِيحَة، مَرْدُود قد أنكرهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره من الْمُحَقِّقين وضعفوها.
وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مُخْتَصر الْمُسْتَدْرك» عقيب قَول الْحَاكِم: صَحِيح. قلت: بل خبر واه كَأَنَّهُ مَوْضُوع؛ لِأَن عبد الرَّحْمَن صَاحب مَنَاكِير.
(قَالَ) وَسَعِيد إِن كَانَ هُوَ الكريزي فَهُوَ ضَعِيف.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
«أَن ركبًا جَاءُوا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يشْهدُونَ أَنهم رَأَوْا الْهلَال بالْأَمْس، فَأَمرهمْ أَن يفطروا وَإِذا أَصْبحُوا أَن يغدوا إِلَى مصلاهم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» بِإِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات من(5/95)
حَدِيث (عبد الله) أبي عُمَيْر بن أنس بن مَالك، عَن عمومة لَهُ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - « (أَن ركبًا جَاءُوا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) يشْهدُونَ أَنهم رَأَوْا الْهلَال بالْأَمْس فَأَمرهمْ ... » الحَدِيث.
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: عَن أنس بن مَالك «أَن عمومة لَهُ شهدُوا عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى (رُؤْيَة) الْهلَال فَأَمرهمْ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يخرجُوا لعيدهم من (الْغَد) » وَقد شهد غير وَاحِد من الْأَئِمَّة بِصِحَّة هَذَا الحَدِيث، قَالَ (ابْن الْمُنْذر:) هُوَ حَدِيث ثَابت يجب الْعَمَل بِهِ، أَفَادَهُ عَنهُ ابْن الْقطَّان فِي «علله» (وَقَالَ الْخطابِيّ: سنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أولَى) وَحَدِيث [أبي] عُمَيْر صَحِيح والمصير إِلَيْهِ وَاجِب.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي الصَّوْم: إِسْنَاده حسن، وَأَبُو عُمَيْر رَوَاهُ عَن عمومة لَهُ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كلهم ثِقَات(5/96)
سَوَاء سموا أَو لم يسموا. وَقَالَ فِي هَذَا الْبَاب: إِسْنَاده صَحِيح. قَالَ: وعمومة أبي عُمَيْر صحابة لَا يكونُونَ إِلَّا ثِقَات - أَي لَا يضر جَهَالَة أعيانهم؛ لِأَن الصَّحَابَة كلهم عدُول - وَقد قَالَ الشَّافِعِي: لَو ثَبت ذَلِك قُلْنَا بِهِ. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» هُنَا بعد أَن قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح: ظَاهر هَذَا أَنه أَمرهم بِالْخرُوجِ من الْغَد ليصلوا صَلَاة الْعِيد، وَذَلِكَ بيّن فِي رِوَايَة هشيم، وَلَا يجوز حمله عَلَى أَن ذَلِك كَانَ (لكَي) يجتمعوا فيدعوا ولترى كثرتهم من غير أَن يصلوا صَلَاة الْعِيد (كَمَا أَمر الْحيض أَن تخرجن وَلَا تصلين صَلَاة الْعِيد) لِأَن الْحيض يشهدنه عَلَى طَرِيق التبع لغيرهن، ثمَّ بَين [النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] أَنَّهُنَّ يعتزلن الْمُصَلى ويشهدن الْخَيْر ودعوة الْمُسلمين، وَهَا هُنَا أَمرهم أَن يخرجُوا لعيدهم من الْغَد وَلم يَأْمُرهُم باعتزال الصَّلَاة، فَكَانَ هَذَا أولَى بِالْبَيَانِ لكَوْنهم من أهل سَائِر (الصَّلَوَات) وَكَون الْحيض (بمعزل) من سَائِر الصَّلَوَات، وَقد اسْتعْمل عمر بن عبد الْعَزِيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - هَذِه السّنة بعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمر مثل مَا أَمر بِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم: سَنَده صَحِيح. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي(5/97)
«علله» : قَالَ (أبي) : رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من حَدِيث قَتَادَة عَن أنس وَهُوَ خطأ. وَالصَّوَاب كَمَا تقدم.
وَخَالف ابْن الْقطَّان فَقَالَ فِي كِتَابه «الْوَهم وَالْإِيهَام» : سكت عبد الْحق عَلَى هَذَا الحَدِيث مصححًا لَهُ وَإنَّهُ [لحريّ] بِأَن لَا يُقَال فِيهِ صَحِيح؛ لِأَن أَبَا عُمَيْر لَا يعرف حَاله، وعمومة أبي عُمَيْر لم يسموا. قلت: وَكَذَا قَالَ ابْن عبد الْبر إِن أَبَا عُمَيْر مَجْهُول.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
«أَنه اجْتمع عيدَان عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي يَوْم وَاحِد فَصَلى الْعِيد (فِي) أول النَّهَار وَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، إِن هَذَا يَوْم قد اجْتمع لكم فِيهِ عيدَان، فَمن أحب أَن يشْهد مَعنا الْجُمُعَة فَلْيفْعَل، وَمن أحب أَن ينْصَرف فَلْيفْعَل» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
(أَحدهَا) من طَرِيق زيد بن أَرقم، رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الثَّلَاثَة أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» من حَدِيث إِيَاس بن أبي(5/98)
رَملَة الشَّامي - وَلَيْسَ لَهُ فِي «السّنَن» غَيره - قَالَ: « (شهِدت) مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَهُوَ يسْأَل زيد بن أَرقم قَالَ: «هَل) شهِدت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (عيدين) اجْتمعَا فِي يَوْم؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَكيف صنع؟ قَالَ: صَلَّى الْعِيد ثمَّ رخص فِي الْجُمُعَة، ثمَّ قَالَ: من شَاءَ أَن (يُصَلِّي) فَليصل» هَذَا لفظ أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه.
وَلَفظ النَّسَائِيّ: (قَالَ: نعم، صَلَّى الْعِيد من أول النَّهَار وَرخّص فِي الْجُمُعَة) .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ الْأَوَّلين، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» أَيْضا وَقَالَ فِي (رِوَايَته: ثمَّ) رخص فِي الْجُمُعَة، وَقَالَ: من شَاءَ أَن يجمع فليجمع» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، قَالَ: وَله شَاهد عَلَى شَرط مُسلم. فَذكره من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة وَسَيَأْتِي بعد.
وَقَالَ الْأَثْرَم: سُئِلَ أَبُو عبد الله - يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل - عَن الْعِيدَيْنِ يَجْتَمِعَانِ فِي يَوْم (وَاحِد) فَذكر هَذَا الحَدِيث. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : هَذَا حَدِيث يعْتَمد عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي «علله» : إِنَّه أصح(5/99)
مَا فِي الْبَاب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِسْنَاده حسن. وَخَالف ابْن الْقطَّان: فأعله بإياس بن أبي رَملَة، وَقَالَ: إِنَّه مَجْهُول الْحَال. قَالَ: وَلما ذكر ابْن الْمُنْذر هَذَا الحَدِيث قَالَ: إِنَّه لَا يثبت، وَإِن إِيَاس بن أبي رَملَة مَجْهُول. قَالَ: وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَأعله ابْن حزم فِي «محلاه» بإسرائيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي (رَاوِيه) عَن عُثْمَان بن الْمُغيرَة، عَن إِيَاس. وَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَلَا يَصح. وَإِسْرَائِيل هَذَا من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة، وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَأَبُو حَاتِم وَغَيرهمَا وَعَن ابْن الْمَدِينِيّ تَضْعِيفه.
الطَّرِيق الثَّانِي:
من طَرِيق أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - (عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «قد اجْتمع فِي يومكم هَذَا عيدَان) فَمن شَاءَ أَجزَأَهُ عَن الْجُمُعَة، وَإِنَّا مجمعون» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمَا» وَابْن السكن فِي (صحاحه) وَلم يعزه ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» إِلَى ابْن مَاجَه، وَعَزاهُ إِلَى النَّسَائِيّ وَلم أره فِيهِ.(5/100)
وَرَوَاهُ الْخلال فِي «علله» بِلَفْظ: فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «قد أصبْتُم خيرا (فَمن) أحب أَن (يُقيم) فَليقمْ، وَمن أحب أَن ينْصَرف فلينصرف» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِاللَّفْظِ الأول، وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
قلت: وَهُوَ من رِوَايَة بَقِيَّة بن الْوَلِيد، عَن شُعْبَة (عَن مُغيرَة (الضَّبِّيّ) عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع الْمَكِّيّ، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، وَبَقِيَّة هَذَا قد علمت حَاله) فِي بَاب النَّجَاسَات من كتَابنَا هَذَا، وَذكرنَا أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ. قَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : بَقِيَّة بن الْوَلِيد لم يخْتَلف فِي صدقه إِذا رَوَى عَن الْمَشْهُورين.
وَهَذَا (حَدِيث) غَرِيب من حَدِيث شُعْبَة، والمغيرة وَعبد الْعَزِيز كلهم مِمَّن يجمع حَدِيثه.
وَقَالَ الْبَزَّار: لَا نعلم رِوَايَة عَن شُعْبَة إِلَّا بَقِيَّة، يرويهِ بَقِيَّة (قَالَ) : أَنا شُعْبَة عَن الْمُغيرَة الضَّبِّيّ، عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد رَوَاهُ عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع زِيَاد بن عبد الله البكائي، وَذكره الْبَزَّار. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف وَمِنْهُم من يكذبهُ.(5/101)
قلت: قد رَوَاهُ غير زِيَاد أَيْضا. ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث مُغيرَة وَلم يرفعهُ (عَنهُ غير شُعْبَة) وَهُوَ أَيْضا غَرِيب عَن شُعْبَة لم يروه عَنهُ غير بَقِيَّة، وَقد رَوَاهُ زِيَاد البكائي وَصَالح بن مُوسَى الطلحي عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع مُتَّصِلا.
وَرَوَاهُ [جمَاعَة] عَن عبد الْعَزِيز، عَن أبي صَالح، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (مُرْسلا) وَلم (يذكرُوا) أَبَا هُرَيْرَة - قَالَ فِي «علله» : وَهُوَ الصَّحِيح - وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: إِنَّمَا رَوَاهُ النَّاس عَن [أبي] صَالح مُرْسلا، وتعجب من بَقِيَّة كَيفَ رَفعه وَقد كَانَ بَقِيَّة يروي عَن ضعفاء وَيُدَلس.
قلت: قد صرح بَقِيَّة بِالتَّحْدِيثِ فَقَالَ: نَا شُعْبَة. لَكِن لَا يَنْفَعهُ ذَلِك فَإِنَّهُ مَعْرُوف بتدليس التَّسْوِيَة.
(قلت: وَأَبُو صَالح) هَذَا هُوَ السمان الثِّقَة كَمَا صرح بِهِ الْبَيْهَقِيّ.(5/102)
وَرَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الْعَزِيز مَوْصُولا مُقَيّدا بِأَهْل العوالي، وَفِي إِسْنَاده ضعف، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر بن عبد الْعَزِيز عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُقَيّدا بِأَهْل الْعَالِيَة إِلَّا أَنه مُنْقَطع.
الطَّرِيق الثَّالِث:
من طَرِيق نَافِع، عَن ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قَالَ: «اجْتمع عيدَان عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَصَلى بِالنَّاسِ، ثمَّ قَالَ: من شَاءَ أَن يَأْتِي الْجُمُعَة فليأتها، وَمن شَاءَ أَن يتَخَلَّف فليتخلف» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَفِي إِسْنَاده جبارَة بن الْمُغلس، قَالَ البُخَارِيّ: مُضْطَرب الحَدِيث. ومندل بن عَلّي قد ضعف، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث سعيد بن رَاشد (السماك) نَا عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن ابْن عمر قَالَ: «اجْتمع عيدَان عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[يَوْم] فطر وجمعة فَصَلى بهم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَاة الْعِيد، ثمَّ أقبل عَلَيْهِم بِوَجْهِهِ فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، إِنَّكُم قد أصبْتُم خيرا وَأَجرا وَإِنَّا مجمعون، فَمن أَرَادَ أَن يجمع مَعنا فليجمع، و (من) أَرَادَ أَن يرجع إِلَى أَهله فَليرْجع» .(5/103)
وَسَعِيد هَذَا قَالَ البُخَارِيّ فِي حَقه: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح.
الطَّرِيق الرَّابِع:
من طَرِيق ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: اجْتمع عيدَان فِي يومكم هَذَا، فَمن شَاءَ أَجزَأَهُ من الْجُمُعَة، وَإِنَّا مجمعون - إِن شَاءَ الله تَعَالَى» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث (بَقِيَّة) نَا شُعْبَة، نَا مُغيرَة الضَّبِّيّ، عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع، [عَن أبي صَالح] عَن ابْن عَبَّاس فَذكره، وَهَذَا إِسْنَاد جيد لَوْلَا بَقِيَّة، وَسَيَأْتِي لَهُ طَرِيق (آخر) جيد، وَبِالْجُمْلَةِ (فأصح) هَذِه الطّرق الطَّرِيقَة الأولَى عَلَى مَا فِيهَا - كَمَا سلف، وَنقل عبد الْحق عَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ أَنه قَالَ: فِي هَذَا (الْبَاب) غير مَا (حَدِيث) بِإِسْنَاد جيد.(5/104)
قلت: وَقد رُوِيَ هَذَا الْفِعْل أَيْضا عَن عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أما الأول فَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي جملَة حَدِيث طَوِيل عَن عُثْمَان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - « (أَنه) خطب يَوْم عيد فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، إِن هَذَا يَوْم قد اجْتمع لكم فِيهِ عيدَان، فَمن أحب أَن ينْتَظر الْجُمُعَة من أهل العوالي (فلينتظر) وَمن أحب أَن يرجع فقد [أَذِنت لَهُ] » وَهَذَا الْأَثر ذكره صَاحب «الْمُهَذّب» وَأما الثَّانِي فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» عَلَى (الصَّحِيحَيْنِ) بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَطاء قَالَ: «صَلَّى ابْن الزبير فِي يَوْم عيد [فِي] يَوْم جُمُعَة أول النَّهَار ثمَّ (رحنا) إِلَى الْجُمُعَة فَلم يخرج إِلَيْنَا فصلينا وحدانًا، وَكَانَ ابْن عَبَّاس بِالطَّائِف، فَلَمَّا قدم ذكرنَا ذَلِك لَهُ فَقَالَ: أصَاب السّنة» .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «الْخُلَاصَة» : إِسْنَاده عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الحميد، عَن وهب بن كيسَان، عَن ابْن(5/105)
عَبَّاس نَحوه مُخْتَصرا، وَأعله ابْن حزم فِي «محلاه» بِعَبْد الحميد فَإِنَّهُ قَالَ: «وَإِذا اجْتمع عيد فِي يَوْم جُمُعَة صلي الْعِيد ثمَّ الْجُمُعَة» وَلَا يَصح أثر بِخِلَاف ذَلِك؛ لِأَن فِي رُوَاته إِسْرَائِيل وَعبد الحميد بن جَعْفَر وليسا بالقويين. فَأَما إِسْرَائِيل فقد أسلفنا الْجَواب عَنهُ فِي حَدِيث زيد بن أَرقم السالف قَرِيبا، وَأما عبد الحميد فوثقه أَحْمد وجماعات وَهُوَ من رجال مُسلم، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، نعم ضعفه (يَحْيَى) الْقطَّان، وَضَعفه أَيْضا سُفْيَان لأجل الْقدر.
وَلما رَوَاهُ الْحَاكِم من طَرِيق وهب بن كيسَان قَالَ: «شهِدت ابْن الزبير (بِمَكَّة) فَوَافَقَ يَوْم فطر أَو أَضْحَى يَوْم الْجُمُعَة، فَأخر الْخُرُوج حَتَّى ارْتَفع النَّهَار، فَخرج وَصعد الْمِنْبَر فَخَطب فَأطَال، ثمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَلم (يصل) الْجُمُعَة (فَعَاتَبَهُ) عَلَيْهِ نَاس من بني أُميَّة بن عبد شمس، فَبلغ ذَلِك ابْن عَبَّاس فَقَالَ: أصَاب (ابْن) الزبير السّنة. فَبلغ ابْن الزبير فَقَالَ: رَأَيْت عمر بن الْخطاب إِذا اجْتمع عيدَان صنع مثل هَذَا» . قَالَ: هَذَا حَدِيث عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ.
(هَذَا آخر كَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب) .(5/106)
وَأما آثاره فعشرة:
أَولهَا: عَن جَابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَنه كبر ثَلَاثًا» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث سعيد بن أبي هِنْد عَنهُ «أَنه سَمعه يكبر فِي الصَّلَوَات أَيَّام التَّشْرِيق: الله أكبر الله أكبر الله أكبر - ثَلَاثًا» .
وَقد أسلفناه مَرْفُوعا أَيْضا فِي أثْنَاء الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ.
ثَانِيهَا: عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أَنه كَانَ يكبر ثَلَاثًا» .
وَهَذَا (الْأَثر رَوَاهُ) الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث سُلَيْمَان بن دَاوُد بن الْحصين، عَن أَبِيه، عَن عِكْرِمَة عَنهُ بِمثل حَدِيث جَابر السالف.
وَدَاوُد هَذَا ثِقَة من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَبَاقِي السِّتَّة، لكنه قدري، وَلينه أَبُو زرْعَة، ووهاه ابْن حبَان، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث يَحْيَى بن سعيد، عَن الحكم، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «يكبر (من) غَدَاة (يَوْم) عَرَفَة إِلَى آخر أَيَّام النَّفر، لَا يكبر فِي الْمغرب: الله أكبر الله أكبر الله أكبر (وَللَّه الْحَمد، الله أكبر وَأجل، الله أكبر عَلَى مَا هدَانَا» ) كَذَا أخبرنَا من كِتَابه ثَلَاثًا نسقًا.(5/107)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيّ [عَنهُ] عَن جَابر بن عبد الله، وَبِه قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ.
ثَالِثهَا: عَن ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَنه (ورد) عَنهُ التَّغْلِيظ فِي لبس الصّبيان الْحَرِير.
وَهَذَا الْأَثر لَا يحضرني من خرجه (عَنهُ، بل) رُوِيَ عَنهُ الْجَوَاز فِي نَحْو ذَلِك، نعم هُوَ عَن أَبِيه وَهُوَ مَا فِي نسخ الرَّافِعِيّ الصَّحِيحَة، وَفِي كتاب «تَحْرِيم الذَّهَب وَالْحَرِير» تأليف القَاضِي أبي بكر جَعْفَر بن مُحَمَّد الْفرْيَابِيّ، عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، نَا ابْن عون عَن مُحَمَّد قَالَ: «دخل ابْن عَامر عَلَى ابْن عمر فَرَأَى عَلَى ابْنة لِابْنِ عمر قَمِيصًا من حَرِير قَالَ: فَقَالَ ابْن عمر: إِن عَبدك (لرجل) بَصِير بالسنن، إِنَّا لنَرْجُو من رَحْمَة الله مَا (هُوَ) أفضل من قَمِيص بِثَلَاثَة دَرَاهِم - أَو قَالَ بأَرْبعَة دَرَاهِم - قَالَ: وَلَا عَلَيْكُم أَن تخلعوه عَنْهَا» .
وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن حسان قَالَ: «رَأَى عليّ (ابْن) عمر أوضاح فضَّة فَقَالَ: إِنَّك قد بلغت - أَو كَبرت - فَأَلْقِهَا (عَنْك) » وَفِي الْكتاب السالف عَن (ابْن) رَاهَوَيْه،(5/108)
نَا سُفْيَان، عَن ابْن طَاوس، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة «أَنه قَالَ لابنته: يَا (بنية) قولي إِن أبي لَا يحليني الذَّهَب يخْشَى عليّ من حر (اللهب) » .
وَعَن قُتَيْبَة، نَا حَمَّاد بن زيد، عَن أَيُّوب، عَن مُحَمَّد، عَن أبي هُرَيْرَة «أَنه كَانَ يَقُول لابنته: لَا تلبسي الذَّهَب فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْك اللهب» وَفِيه عَن مُحَمَّد بن عون، عَن ابْن سِيرِين، عَنهُ كَذَلِك.
الْأَثر الرَّابِع:
قَالَ الرَّافِعِيّ: «وَيقف بَين كل تكبيرتين بِقدر قِرَاءَة آيَة لَا طَوِيلَة (وَلَا قَصِيرَة) ، يهلل الله ويكبره ويمجده» . هَذَا لفظ الشَّافِعِي، وَقد رُوِيَ مثل ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود قولا وفعلاً.
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن ترْجم: بَاب يَأْتِي بِدُعَاء الِافْتِتَاح (عقيب) تَكْبِيرَة (الِافْتِتَاح) ثمَّ يقف بَين كل تكبيرتين يهلل الله ويكبره وَيَحْمَدهُ وَيُصلي عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . من حَدِيث هِشَام، نَا حَمَّاد [عَن إِبْرَاهِيم عَن] عَلْقَمَة «أَن ابْن مَسْعُود وَأَبا مُوسَى وَحُذَيْفَة خرج إِلَيْهِم الْوَلِيد بن عقبَة قبل الْعِيد (فَقَالَ لَهُم) : إِن هَذَا الْعِيد قد دنا فَكيف التَّكْبِير فِيهِ؟ فَقَالَ عبد الله: تبدأ فتكبر تَكْبِيرَة تفتتح بهَا الصَّلَاة، وتحمد رَبك وَتصلي(5/109)
عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ تَدْعُو ثمَّ تكبر، وَتفعل مثل ذَلِك، ثمَّ تكبر (وَتفعل مثل ذَلِك، ثمَّ تكبر وَتفعل مثل ذَلِك، ثمَّ تكبر وَتفعل مثل ذَلِك) (ثمَّ تقْرَأ وتركع، ثمَّ تقوم فتكبر وتحمد رَبك وَتصلي عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ تَدْعُو ثمَّ تكبر وَتفعل مثل ذَلِك، ثمَّ تكبر و) تفعل مثل ذَلِك، ثمَّ تكبر وَتفعل ذَلِك، ثمَّ تكبر وَتفعل مثل ذَلِك» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا من قَول ابْن مَسْعُود مَوْقُوف عَلَيْهِ، فنتابعه فِي (الذّكر) بَين كل تكبيرتين إِذْ لم يرو خِلَافه عَن غَيره، ونخالفه فِي عدد التَّكْبِيرَات وتقديمهن عَلَى الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا؛ بِحَدِيث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ فعل أهل الْحَرَمَيْنِ وَعمل الْمُسلمين إِلَى يَوْمنَا هَذَا. ثمَّ رَوَى من حَدِيث عَلّي بن عَاصِم، عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن الشّعبِيّ، عَن جَابر قَالَ: «مَضَت السّنة أَن يكبر للصَّلَاة فِي الْعِيدَيْنِ سبعا وخمسًا، يذكر الله مَا بَين كل تكبيرتين» .
قلت: قد عرفت قَول ابْن مَسْعُود وَبَقِي فعله، وَقد أخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم «أَن الْوَلِيد بن عقبَة دخل الْمَسْجِد وَابْن مَسْعُود يَقُول: الله أكبر. ويحمد الله ويثني عَلَيْهِ، وَيُصلي عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَيَدْعُو الله، ثمَّ يكبر ويحمد الله ويثني عَلَيْهِ، وَيُصلي عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَيَدْعُو الله، (ثمَّ) يكبر ويحمد الله ويثني عَلَيْهِ وَيُصلي عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَيَدْعُو الله ثمَّ كبر) وَقَرَأَ فَاتِحَة الْكتاب(5/110)
وَسورَة، ثمَّ (كبر و) ركع و (سجد) ثمَّ (قَامَ وَقَرَأَ) بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة، ثمَّ كبر و (حمد) الله و (أَثْنَى) عَلَيْهِ وَصَلى عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - و (ركع وَسجد) فَقَالَ حُذَيْفَة وَأَبُو مُوسَى: أصَاب» وَفِيه أَيْضا عَنهُ: «أَن بَين (التكبيرتين) قدر كلمة» .
وأسنده ابْن عَسَاكِر من حَدِيث حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة «أَن ابْن مَسْعُود وَأَبا مُوسَى وَحُذَيْفَة خرج عَلَيْهِم الْوَلِيد بن عقبَة قبل الْعِيد يَوْمًا فَقَالَ (لَهُم) : إِن الْعِيد قد دنا فَكيف التَّكْبِير فِيهِ؟ قَالَ عبد الله: (تبدأ فتكبر) تَكْبِيرَة تفتتح بهَا الصَّلَاة وتحمد رَبك وَتصلي عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ تَدْعُو وتكبر وَتفعل مثل ذَلِك، ثمَّ تكبر وَتفعل مثل ذَلِك، ثمَّ تكبر وَتفعل مثل (ذَلِك) ثمَّ تركع. فَقَالَ أَبُو مُوسَى وَحُذَيْفَة: صدق (عبد الله) » .(5/111)
(الْأَثر الْخَامِس:
عَن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَات» ) .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ (الْبَيْهَقِيّ) فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي زَكَرِيَّا فِي الْجِنَازَة وَالْعِيدَيْنِ، ثمَّ قَالَ: هُوَ مُنْقَطع. قلت: وَضَعِيف لأجل ابْن لَهِيعَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن بكر بن سوَادَة، عَن أبي زرْعَة اللَّخْمِيّ «أَن عمر. .» فَذكره فِي صَلَاة (الْعِيدَيْنِ) .
الْأَثر السَّادِس:
عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود قَالَ: «السّنة أَن تبتدئ (الْخطْبَة) بتسع تَكْبِيرَات تترى (ثمَّ تخْطب ثمَّ تجْلِس، ثمَّ تقوم فتفتتح الثَّانِيَة بِسبع تَكْبِيرَات تترى) » .
وَهَذَا الْأَثر ذكره هَكَذَا صَاحب «جمع الْجَوَامِع» بِزِيَادَة: قَالَ الشَّافِعِي: وَيَقُول عبيد الله: نقُول. قلت: و (رَوَاهُ) الشَّافِعِي (أَنا) إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبدٍ (الْقَارِي) عَن إِبْرَاهِيم بن (عبد الله، عَن عبيد الله بن عبد الله) بن عتبَة: «السّنة أَن(5/112)
يخْطب الإِمَام فِي الْعِيدَيْنِ خطبتين يفصل بَينهمَا بجلوس، وَالسّنة فِي التَّكْبِير فِي يَوْم الْأَضْحَى وَالْفطر عَلَى الْمِنْبَر قبل الْخطْبَة (أَن يَبْتَدِئ الإِمَام قبل الْخطْبَة) وَهُوَ قَائِم عَلَى الْمِنْبَر بتسع تَكْبِيرَات تترى لَا يفصل بَينهمَا بِكَلَام، ثمَّ يخْطب (ثمَّ يجلس جلْسَة (ثمَّ يقوم) فِي الْخطْبَة الثَّانِيَة فيفتتحها بِسبع تَكْبِيرَات تترى لَا يفصل بَينهمَا بِكَلَام ثمَّ يخْطب)) .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الدَّرَاورْدِي، عَن عبد الرَّحْمَن بن عبدٍ الْقَارِي، (أَن) إِبْرَاهِيم بن عبد الله حَدثهُ، عَن عبيد الله (بن عبد الله) بن (عتبَة) بن مَسْعُود أَنه قَالَ: «السّنة (فِي) تَكْبِير الإِمَام يَوْم الْفطر وَيَوْم الْأَضْحَى حِين يجلس عَلَى الْمِنْبَر قبل (الْخطْبَة) تسع تَكْبِيرَات وَسبعا حِين يقوم ثمَّ يَدْعُو وَيكبر بَعْدَمَا بدا لَهُ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ غَيره عَن إِبْرَاهِيم، عَن عبيد الله «تسعا تترى إِذا قَامَ فِي الأولَى، وَسبعا تترى إِذا قَامَ فِي الْخطْبَة (الثَّانِيَة) » ثمَّ سَاق رِوَايَة الشَّافِعِي السالفة. وَإِبْرَاهِيم هَذَا قد علمت أَقْوَال أهل الْفَنّ فِيهِ فِي كتاب الطَّهَارَة من كتَابنَا هَذَا، وَعبيد الله هَذَا تَابِعِيّ، وَإِذا قَالَ التَّابِعِيّ:(5/113)
من (السّنة) كَذَا. فَالْأَصَحّ وَقفه، وَقيل: إِنَّه مَرْفُوع مُرْسل. وَلَا حجَّة فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، أما عَلَى هَذَا فلإرساله، وَأما عَلَى الأول فَلِأَنَّهُ لم يثبت (إِسْنَاده) وَلَا حجَّة فِيهِ إِذن عَلَى الصَّحِيح.
الْأَثر السَّابِع:
«أَن عُثْمَان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كَانَ يكبر من ظهر يَوْم النَّحْر إِلَى صبح الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام التَّشْرِيق» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «كبر بِنَا عُثْمَان وَهُوَ مَحْصُور فِي الظّهْر يَوْم النَّحْر إِلَى أَن صَلَّى (الظّهْر) من آخر أَيَّام التَّشْرِيق وَكبر فِي الصُّبْح وَلم يكبر فِي الظّهْر» .
الْأَثر الثَّامِن وَالتَّاسِع:
«أَن ابْن عمر وَزيد بن ثَابت كَانَا (يفْعَلَانِ) كَفعل عُثْمَان» .
(وَهَذَانِ) رَوَاهُمَا (الدَّارَقُطْنِيّ و) الْبَيْهَقِيّ فِي (سُنَنهمَا) قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيّ بأسانيده عَن عُثْمَان [وَابْن عمر و] زيد بن ثَابت وَأبي سعيد نَحْو مَا روينَا عَن ابْن عمر.(5/114)
الْعَاشِر:
عَن ابْن عَبَّاس مثل ذَلِك.
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «كتاب عَلّي وَعبد الله» كَمَا عزاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» إِلَيْهِ قَالَ: وَالرِّوَايَة عَن ابْن عَبَّاس مُخْتَلفَة فَروِيَ عَنهُ «أَنه كَانَ يكبر من (صَلَاة الظّهْر يَوْم النَّحْر) إِلَى صَلَاة الْعَصْر آخر أَيَّام التَّشْرِيق» وَذكر فِي «سنَنه» عَنهُ هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ فِي بَابَيْنِ.
قلت: وَقد اخْتلفت الرِّوَايَة أَيْضا عَن ابْن عمر فَفِي «مُصَنف ابْن أبي شيبَة» (عَنهُ) (أَنه كَانَ يكبر من ظهر يَوْم النَّحْر إِلَى صَلَاة الْعَصْر يَوْم النَّفر يَعْنِي الأول» وَقد اخْتلف أَيْضا عَن زيد فَفِي «المُصَنّف» الْمَذْكُور عَنهُ «أَنه كَانَ يكبر من ظهر يَوْم النَّحْر إِلَى صَلَاة الْعَصْر من آخر أَيَّام التَّشْرِيق» .(5/115)
كتاب صَلَاة الْكُسُوف(5/117)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا
كتاب صَلَاة الْكُسُوف
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ سِتَّة عشر حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
عَن أبي بكرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كُنَّا عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فانكسفتِ الشمسُ، فَقَامَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دخل الْمَسْجِد، فَدَخَلْنَا، فَصَلى بِنَا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انجلت الشَّمْس، فَقَالَ: إِن الشَّمْس وَالْقَمَر لَا ينكسفان لمَوْت أحد، فَإِذا (رأيتموهما) فصلوا وَادعوا حَتَّى ينْكَشف مَا بكم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ، وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاده، بل لم يخرج مُسلم عَن أبي بكرَة فِي الْكُسُوف شَيْئا، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي «صَحِيحه» : «فَإِذا انكسف (أَحدهمَا) فافزعوا إِلَى الْمَسَاجِد» ، وَفِي رِوَايَة للبيهقي بِإِسْنَاد حسن: «فَإِذا كُسف وَاحِد مِنْهُمَا فَادعوا واذْكُرُوا الله» .(5/119)
تَنْبِيه:
وَقع فِي كَلَام الشَّيْخ محيي الدَّين مَا يُوهم أَن هَذَا الحَدِيث خرَّجه مُسلم أَيْضا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي «خلاصته» : فِي «الصَّحِيحَيْنِ» نَحْو حَدِيث الْمُغيرَة من حَدِيث ابْن عمر وَأبي مَسْعُود وَأبي بكرَة. وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة جمَاعَة من الصَّحَابَة، مِنْهُم: جَابر، وَأَبُو بكرَة. وَقد علمت أَنه من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَقد شهد بِانْفِرَادِهِ (بِهِ) عبد الْحق فِي «جَمْعه» ، وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» ، وَقد عزاهُ فِي «أذكاره» إِلَى البُخَارِيّ وَحده فَأصَاب، وَقد انْفَرد مُسلم أَيْضا بِإِخْرَاجِهِ من حَدِيث جَابر، (لَا) كَمَا زعم أَنه (من) الْمُتَّفق عَلَيْهِ، فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ركع أَربع ركوعات فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، رَوَاهُ مُسلم مُخْتَصرا مُنْفَردا(5/120)
بِهِ من حَدِيث حبيب بن أبي ثَابت عَن طَاوس عَنهُ بِلَفْظ: «صَلَّى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين كسفت الشَّمْس ثَمَانِي رَكْعَات فِي أَربع سَجدَات» وَعَن عَلّي مثل ذَلِك. وَفِي لفظ آخر لَهُ من هَذَا الْوَجْه «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صلَّى فِي كسوفٍ، قَرَأَ ثمَّ ركع، ثمَّ قَرَأَ ثمَّ ركع، ثمَّ قَرَأَ ثمَّ ركع، ثمَّ قَرَأَ ثمَّ ركع، ثمَّ سجد، وَالْأُخْرَى مثلهَا» . وَفِي لفظ آخر لَهُ من وَجه آخر عَنهُ: «صَلَّى أَربع رَكْعَات فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات» وَرَوَاهُ هُوَ وَالْبُخَارِيّ مطولا بِقصَّة. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقد اشتهرت الرِّوَايَة (من) فعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيهِ، يَعْنِي عَلَى أَن فِي كل (رَكْعَتَيْنِ) ركوعين. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد ثَبت ذَلِك فِي حَدِيث عَائِشَة، وَأَسْمَاء، وَابْن عَبَّاس، وَجَابِر بن عبد الله، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة، وَغَيرهَا من الْأَحَادِيث.
الحَدِيث الثَّالِث
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فِي كل رَكْعَة أَربع ركوعات» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم كَمَا سلف (قَرِيبا، وَطعن فِيهِ ابْن حبَان فِي(5/121)
«صَحِيحه» ) ، فَقَالَ فِي «صَحِيحه» : هَذَا الْخَبَر لَيْسَ بِصَحِيح؛ لِأَنَّهُ خبر يرويهِ حبيب بن أبي ثَابت، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس، وحبِيب لم يسمع من طَاوس هَذَا الْخَبَر. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : هَذَا الحَدِيث مِمَّا ينْفَرد بِهِ حبيب هَذَا، وَهُوَ وَإِن كَانَ ثِقَة (فَهُوَ) يُدَلس، (وَلم) يبيِّن فِيهِ سَمَاعه عَن طَاوس، فَيُشبه لِأَن يكون حمله عَن غير موثوق بِهِ، وَقد خَالفه فِي رَفعه وَمَتنه سُلَيْمَان الْأَحول (فَرَوَاهُ عَن ابْن عَبَّاس) من فعله ثَلَاث رَكْعَات فِي رَكْعَة، وَلذَلِك لم يخرج البُخَارِيّ هَذِه الرِّوَايَة فِي (صَحِيحه) . وَقَالَ فِي «سنَنه» : حبيب بن أبي ثَابت وَإِن كَانَ من الثِّقَات فقد كَانَ يُدَلس، وَلم أجد ذكر سَمَاعه عَن طَاوس، وَيحْتَمل أَن يكون حمله عَن غير موثوق بِهِ عَن طَاوس. انْتَهَى كَلَامه، وَلَك أَن تَقول: حبيب هَذَا من الْأَثْبَات الأجلاء، فَلَعَلَّ إِخْرَاج مُسلم لَهُ لكَونه ثَبت عِنْده سَمَاعه من طَاوس، وَهَذَا هُوَ عذر التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي كَونه صَححهُ فِي «جَامعه» .
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فِي كل رَكْعَة خمس ركوعات» .(5/122)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث (عمر) بن شَقِيق، نَا أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ، عَن الرّبيع ابْن أنس، عَن أبي الْعَالِيَة، عَن أبي بن كَعْب قَالَ: «انكسفت الشَّمْس عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَإِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى بهم، فَقَرَأَ بِسُورَة من الطول، ثمَّ ركع خمس رَكْعَات وسجدتين، ثمَّ قَامَ الثَّانِيَة فَقَرَأَ بِسُورَة من الطول، وَركع خمس رَكْعَات وسجدتين، ثمَّ جلس كَمَا هُوَ مُسْتَقْبل الْقبْلَة يَدْعُو، حَتَّى انجلى كسوفها» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، (وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ) من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ، حَدثنِي أبي، عَن أَبِيه، عَن الرّبيع بن أنس، عَن أبي الْعَالِيَة، عَن أبيًّ بِهِ.
وَأَبُو جَعْفَر هَذَا قد علمت حَاله فِي حَدِيث الْقُنُوت فِي بَاب صفة الصَّلَاة، قَالَ الْحَاكِم: الشَّيْخَانِ قد هجراه وَلم يخرجَا عَنهُ، وحاله عِنْد سَائِر الْأَئِمَّة أحسن الْحَال، وَهَذَا الحَدِيث فِيهِ أَلْفَاظ، وَرُوَاته صَادِقُونَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا إِسْنَاد لم يحْتَج صاحبا «الصَّحِيح» بِمثلِهِ، وَلَكِن أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «السّنَن» .
قلت: وَنقل الْبَيْهَقِيّ عَن الْحَاكِم تَصْحِيحه لحَدِيث الْقُنُوت وَأقرهُ عَلَيْهِ. قلت: وَلِهَذَا الحَدِيث إِسْنَاد آخر من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها(5/123)
رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث قَتَادَة، عَن عَطاء، عَن عبيد بن عُمَيْر، عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى عشر رَكْعَات فِي أَربع سَجدَات» . لَكِن قَالَ ابْن عبد الْبر: سَماع قَتَادَة من عَطاء عِنْدهم غير صَحِيح. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَذهب جمَاعَة من أهل الحَدِيث إِلَى (تَصْحِيح) الرِّوَايَات فِي عدد الرَّكْعَات، وَحملُوهَا عَلَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام فعلهَا مَرَّات، وَأَن الْجَمِيع جَائِز، (فَمِمَّنْ) ذهب إِلَيْهِ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَابْن خُزَيْمَة، والضبعيُّ، والخطابيُّ، وَاسْتَحْسنهُ ابْن الْمُنْذر، قَالَ: وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي ثمَّ البُخَارِيّ من تَرْجِيح الْأَخْبَار أولَى لما ذكرنَا من رُجُوع الْأَخْبَار إِلَى حِكَايَة صلَاته فِي يَوْم توفّي ابْنه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام.
الحَدِيث الْخَامِس
رَوَى الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «خسفت الشَّمْس عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَصَلى وَالنَّاس مَعَه، فَقَامَ قيَاما طَويلا قَرَأَ نَحوا من سُورَة الْبَقَرَة، ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا، ثمَّ رفع فَقَامَ قيَاما طَويلا(5/124)
(وَهُوَ دون الْقيام الأول [ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا وَهُوَ دون الرُّكُوع الأول] ثمَّ سجد، ثمَّ قَامَ قيَاما طَويلا وَهُوَ دون الْقيام الأول ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا) وَهُوَ دون الرُّكُوع الأول، ثمَّ رفع فَقَامَ قيَاما طَويلا وَهُوَ دون الْقيام الأول، ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا وَهُوَ دون الرُّكُوع الأول ثمَّ سجد ثمَّ انْصَرف» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي، كَمَا عزاهُ إِلَيْهِ، وَسَنَده فِيهِ: أَنا مَالك، عَن زيد بن أسلم (عَن عَطاء بن يسَار، عَن ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ عَن القعْنبِي، عَن مَالك، وَمُسلم عَن مُحَمَّد بن رَافع، عَن إِسْحَاق بن عِيسَى، عَن مَالك) .
الحَدِيث السَّادِس
قَالَ الرَّافِعِيّ: تَطْوِيل السُّجُود مَنْقُول فِي بعض الرِّوَايَات مَعَ تَطْوِيل الرُّكُوع، أوردهُ مُسلم فِي «الصَّحِيح» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أخرجه مَعَه البُخَارِيّ أَيْضا (من طَرِيقين:(5/125)
أَحدهمَا: من طَرِيق أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَثَانِيهمَا) : من طَرِيق عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِإِخْرَاجِهِ من حَدِيث عَائِشَة، وَأَسْمَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وَمُسلم من حَدِيث جَابر، وَأَبُو دَاوُد، وَالْحَاكِم، وَصَححهُ من حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وَأغْرب صَاحب «الْمُهَذّب» فَقَالَ: إِن تَطْوِيل السُّجُود لم ينْقل فِي خبر. وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ مَعَ جلالته، ثمَّ ادَّعَى أَن الشَّافِعِي لم يذكرهُ، وَقد نَص عَلَيْهِ فِي «الْبُوَيْطِيّ» فِي موضِعين مِنْهُ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَنهُ.
الحَدِيث السَّابِع
قَالَ الرَّافِعِيّ: تسْتَحب الْجَمَاعَة فِي صَلَاة (الخسوفين) ، أما فِي كسوف الشَّمْس فقد اشْتهر إِقَامَتهَا بِالْجَمَاعَة من فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -،(5/126)
وَكَانَ يُنَادَى لَهَا: الصَّلَاة (جَامِعَة) .
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «خسفت الشَّمْس عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَبعث مناديًا يُنَادي: الصَّلَاة جَامِعَة. فَاجْتمعُوا، وَتقدم فَكبر وَصَلى أَربع رَكْعَات فِي رَكْعَتَيْنِ» .
الحَدِيث الثَّامِن
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَأما فِي خُسُوف الْقَمَر فقد رُوي عَن الْحسن البصرى قَالَ: «خسف الْقَمَر وَابْن عَبَّاس بِالْبَصْرَةِ، فَصَلى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، فِي كل رَكْعَة رَكْعَتَانِ، فَلَمَّا فرغ ركب وخطبنا وَقَالَ: صليت بكم كَمَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي بِنَا» .
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَاهُ الشَّافِعِي: عَن إِبْرَاهِيم (بن) مُحَمَّد، حَدثنِي عبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، عَن الْحسن، (عَن) ابْن عَبَّاس «أَن الْقَمَر كسف وَابْن عَبَّاس بِالْبَصْرَةِ، فَخرج ابْن عَبَّاس فَصَلى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، فِي كل رَكْعَة [رَكْعَتَانِ] ، ثمَّ ركب فَخَطَبنَا فَقَالَ: إِنَّمَا صليت كَمَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي. وَقَالَ: إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله، لَا يخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذا رَأَيْتُمْ شَيْئا مِنْهَا خاسفًا فَلْيَكُن فزعكم إِلَى الله - عَزَّ وَجَلَّ» . وَإِبْرَاهِيم هَذَا قد علمت (حَاله) فِي أول الْكتاب فِي حَدِيث المشمس، كَمَا سلف التَّنْبِيه(5/127)
عَلَيْهِ غير مرّة. وَفِي «الدَّارَقُطْنِيّ» من حَدِيث عَائِشَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُصَلِّي فِي كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر أَربع رَكْعَات وَأَرْبع سَجدَات» . وَذكر الْقَمَر غَرِيب كَمَا نبه عَلَيْهِ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» .
الحَدِيث التَّاسِع
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما خسفت الشَّمْس صَلَّى» فوصفت صلَاته، ثمَّ قَالَت: «فَلَمَّا انجلت انْصَرف فَخَطب النَّاس، وَذكر الله - تَعَالَى - وَأَثْنَى عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أَخْرجَاهُ كَذَلِك.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنه حَكَى صَلَاة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي صَلَاة خُسُوف الشَّمْس، فَقَالَ: قَرَأَ نَحوا من سُورَة الْبَقَرَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد تقدم قَرِيبا، وَهُوَ الحَدِيث الْخَامِس.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: « (كنت) إِلَى جنب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي صَلَاة الْكُسُوف، فَمَا سَمِعت مِنْهُ حرفا» .(5/128)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، نَا يزِيد بن أبي حبيب، عَن عِكْرِمَة عَنهُ قَالَ: «صليت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْكُسُوف، فَلم أسمع مِنْهُ فِيهَا حرفا من الْقُرْآن» . وَابْن لَهِيعَة قد (علمت) حَاله فِيمَا مَضَى. وَفِي «مُسْند أَحْمد» و «السّنَن الْأَرْبَعَة» من حَدِيث ثَعْلَبَة بن عباد، عَن سَمُرَة قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي كسوف لَا نسْمع لَهُ صَوتا» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَقَالَ: كَانَ سَمُرَة فِي أخريات النَّاس؛ فَلذَلِك لم يسمع صَوته، وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وَأما أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَقَالَ: لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ لم يروه إِلَّا ثَعْلَبَة بن عباد الْعَبْدي، وَهُوَ مَجْهُول، وَكَأَنَّهُ تبع فِي ذَلِك ابْن الْمَدِينِيّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: الْأسود بن قيس يروي عَن مَجَاهِيل. وَهُوَ رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَنهُ، وَلَا يحضرني رَوَى عَنهُ غَيره، لَكِن ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَتَصْحِيح الْأَئِمَّة الماضين لحديثه يرفع عَنهُ الْجَهَالَة.(5/129)
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى بهم فِي كسوف الشَّمْس، وجهر بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، وَلَفظ مُسلم: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جهر فِي صَلَاة الخسوف بقرَاءَته، فَصَلى أَربع رَكْعَات فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات» . وَلَفظ البُخَارِيّ نَحوه، وَقَالَ: تَابع مُحَمَّد بن مهْرَان - يَعْنِي شَيْخه وَشَيخ مُسلم - فِي هَذَا الحَدِيث شَقِيق بن حُسَيْن وَسليمَان بن كثير عَن الزُّهْرِيّ فِي الْجَهْر. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث الزُّهْرِيّ قَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَة، عَن عَائِشَة: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَرَأَ قِرَاءَة طَوِيلَة يجْهر بهَا» يَعْنِي فِي صَلَاة الْكُسُوف. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «كسفت الشَّمْس عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَصَلى بهم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَربع رَكْعَات فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات، وجهر بِالْقِرَاءَةِ» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: عَلَى شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: حَدِيث عَائِشَة فِي الْجَهْر ينْفَرد بِهِ الزُّهْرِيّ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : قَالَ البُخَارِيّ: حَدِيث عَائِشَة (فِي الْجَهْر) أصح من حَدِيث سَمُرَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لكنه لَيْسَ بأصح من حَدِيث(5/130)
ابْن عَبَّاس، أَنه قَالَ فِي قِرَاءَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «بِنَحْوِ من سُورَة الْبَقَرَة» . قَالَ الشَّافِعِي: فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنه لم يسمع مَا (قَرَأَ إِذْ) أَنه لَو سَمعه لم يقدره بِغَيْرِهِ. قَالَ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «قُمْت إِلَى جنب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي خُسُوف الشَّمْس، فَمَا سَمِعت مِنْهُ حرفا» . رَوَاهُ ابْن لَهِيعَة والواقدي وَالْحكم، وَهَؤُلَاء وَإِن كَانُوا لَا يحْتَج بهم فهم عدد، وروايتهم هَذِه توَافق الرِّوَايَة الصَّحِيحَة عَن ابْن عَبَّاس، وتوافق حَدِيث عَائِشَة فِي الصَّلَاة مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي كسوف الشَّمْس، وَفِيه: «فحزرت قِرَاءَته، فَرَأَيْت أَنه قَرَأَ بِسُورَة الْبَقَرَة ... » وسَاق الحَدِيث، وَرُوَاته كلهم ثِقَات، وتوافق رِوَايَة سَمُرَة بن جُنْدُب، وَإِنَّمَا الْجَهْر عَن الزُّهْرِيّ فَقَط، وَهُوَ وَإِن كَانَ حَافِظًا فَيُشبه أَن يكون الْعدَد أولَى بِالْحِفْظِ من الْوَاحِد.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فصلوا حَتَّى تنجلي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر بِلَفْظ: «فَإِذا خسفا فصلوا حَتَّى تنجلي» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَإِذا رَأَيْتُمْ شَيْئا من ذَلِك فصلوا حَتَّى تنجلي» وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة بِلَفْظ: « (فَإِذا (رأيتموهما) فَادعوا الله وصلوا حَتَّى تنكشف» . وروياه أَيْضا(5/131)
من حَدِيث عَائِشَة بِلَفْظ:) «فَإِذا (رأيتموها فصلوا) حَتَّى تنفرج عَنْكُم» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «فَإِذا رَأَيْتُمْ كسوفًا فاذكروا الله حَتَّى (ينجليا) » .
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - استسقى فِي خطبَته للْجُمُعَة، ثمَّ صَلَّى الْجُمُعَة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أنس، أَخْرجَاهُ مطولا، ولعلنا نذكرهُ بِكَمَالِهِ فِي بَاب صَلَاة الاسْتِسْقَاء إِن شَاءَ الله.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «مَا هبت ريح قطّ إِلَّا جثا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَة وَلَا تجعلها عذَابا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رياحًا وَلَا تجعلها ريحًا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) فَقَالَ: أَخْبرنِي من لَا أتهم، نَا الْعَلَاء بن رَاشد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ، قَالَ(5/132)
ابْن عَبَّاس: فِي كتاب الله تَعَالَى: [[ [إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم ريحًا صَرْصَرًا]] ] ، [[ [إِذْ أرسلنَا عَلَيْهِم الرّيح الْعَقِيم]] ] وَقَالَ تَعَالَى [[ [وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاح لَوَاقِح]] ، (أَن يُرْسل الرِّيَاح مُبَشِّرَات) قَالَ الرَّافِعِيّ وَمَا سُوَى كسوف (النيرين) من الْآيَات كالزلازل وَالصَّوَاعِق والرِّيَاح الشَّدِيدَة لَا يصلى لَهَا بِالْجَمَاعَة؛ إِذْ لم يثبت ذَلِك عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. ثمَّ ذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا.
قلت: سَيَأْتِي كَلَام الشَّافِعِي عَلَى ذَلِك وَأَنه [علق القَوْل بِهِ عَلَى ثُبُوته] .
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى يَوْم كسفت الشَّمْس فِي يَوْم موت إِبْرَاهِيم ابْنه» .
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أخرجه الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) من حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَأبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ وَاسم أم إِبْرَاهِيم مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَلدته فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان من الْهِجْرَة وَتُوفِّي سنة عشر، وَفِي(5/133)
البُخَارِيّ أَنه توفّي وَله سَبْعَة عشر شهرا أَو ثَمَانِيَة عشر شهرا، كَذَا فِيهِ عَلَى الشَّك، وَفِي «الْمعرفَة» لأبي نعيم (الْأَصْبَهَانِيّ) أَنه مَاتَ يَوْم الثُّلَاثَاء لأَرْبَع خلون من ربيع الأول سنة عشر.
قَالَ الْوَاقِدِيّ وَغَيره: مَاتَ يَوْم الثُّلَاثَاء لعشر خلون من ربيع الأول سنة عشر، وَسَيَأْتِي عَن غَيره أَيْضا، وَدفن بِالبَقِيعِ. وَقَول بعض الْمُتَقَدِّمين فِي إِبْرَاهِيم أَنه لَو عَاشَ لَكَانَ نَبيا فجسارة مِنْهُ، وَقد نبه النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» عَلَى بُطْلَانه، ووهنه.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَذكر فِيهِ عَن الزبير بن بكار أَنه قَالَ فِي كتاب «الْأَنْسَاب» : إِن إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - توفّي فِي الْعَاشِر من ربيع الأول.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد عزاهُ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ وَأَنه كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء ثمَّ قَالَ - أَعنِي الْبَيْهَقِيّ -: فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا فوفاة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعده بِسنة سنة إِحْدَى عشرَة.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ مثله عَن الْوَاقِدِيّ بِإِسْنَادِهِ.
هُوَ كَمَا قَالَ فقد ذكره كَذَلِك فِي (سنَنه) .
(وَذكر) أَيْضا أَنه اشْتهر قتل الْحسن بن عَلّي يَوْم عَاشُورَاء.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَن أبي قبيل وَغَيره(5/134)
أَن الشَّمْس كسفت يَوْم قتل الْحُسَيْن بن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وَكَانَ قتل يَوْم عَاشُورَاء وَرَوَى - أَعنِي الْبَيْهَقِيّ - عَن قَتَادَة، أَنه قَالَ: قتل الْحُسَيْن بن عَلّي يَوْم الْجُمُعَة، يَوْم عَاشُورَاء لعشر مضين من الْمحرم سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْن أَربع وَخمسين سنة وَسِتَّة أشهر وَنصف. وَرَأَيْت فِي «التَّهْذِيب» للنووي أَن قَتله كَانَ يَوْم السبت سنة إِحْدَى وَخمسين بكربلاء من أَرض الْعرَاق، وقبره مَشْهُور يزار ويتبرك بِهِ، كَذَا رَأَيْته سنة إِحْدَى وَخمسين، وَلَعَلَّه من تَغْيِير النَّاسِخ.
وَذكر أَن الْبَيْهَقِيّ رَوَى عَن أبي قبيل أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (لما قتل الْحُسَيْن كسفت الشَّمْس (كسفة) بَدَت الْكَوَاكِب نصف النَّهَار حَتَّى ظننا أَنَّهَا هِيَ» .
وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أخرجه كَذَلِك فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن أبي قبيل بِهِ (وقبيل بقاف مَفْتُوحَة، ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَكْسُورَة، ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ لَام كَذَا ضَبطه ابْن مَاكُولَا وَغَيره، قَالَ الذَّهَبِيّ:(5/135)
واسْمه حييّ - مُصَغرًا، وَقيل: حييّ مكبرًا - ابْن هَانِئ بن ناضر الْمعَافِرِي الْمصْرِيّ، وَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن معِين، مَاتَ بالبرلس سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة) .
وَذكر فِيهِ أَيْضا أَن الشَّافِعِي رَوَى عَن عَلّي «أَنه صَلَّى فِي زَلْزَلَة جمَاعَة» ثمَّ قَالَ: إِن صَحَّ قلت بِهِ.
وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» و «الْمعرفَة» عَنهُ بِلَفْظ: قَالَ الشَّافِعِي (فِيمَا بلغه عَن عباد، عَن عَاصِم الْأَحول، عَن قزعة، عَن عَلّي «أَنه صَلَّى فِي) زَلْزَلَة سِتّ رَكْعَات فِي أَربع سَجدَات، خمس رَكْعَات وسجدتين فِي رَكْعَة، وركعة، وسجدتين فِي رَكْعَة» قَالَ الشَّافِعِي: وَلَو ثَبت هَذَا الحَدِيث عندنَا عَن عَلّي لقلنا بِهِ وهم يثبتونه وَلَا يَأْخُذُونَ بِهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) : هُوَ (عَن) ابْن عَبَّاس ثَابت ... فَذكره بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» قَالَ الْمُزنِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: لَا أرَى أَن تجمع (بِهِ صَلَاة) عِنْدِي من الْآيَات غير الْكُسُوف، وَقد كَانَت آيَات فَمَا علمنَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بِالصَّلَاةِ عِنْد شَيْء مِنْهَا، وَلَا أحد من خلفائه، وَقد زلزلت الأَرْض فِي (زمن) عمر بن الْخطاب فَمَا علمناه صَلَّى، وَقد قَامَ خَطِيبًا فحض عَلَى الصَّدَقَة، وَأمر بِالتَّوْبَةِ (وَأَنا أحب للنَّاس أَن يُصَلِّي كل رجل مِنْهُم) مُنْفَردا عِنْد الظلمَة، والزلزلة، وَشدَّة(5/136)
الرّيح، والخسف، وانتثار النُّجُوم، وَغير ذَلِك من الْآيَات، وَقد رَوَى البصريون «أَن ابْن عَبَّاس صَلَّى بهم فِي زَلْزَلَة» وَإِنَّمَا تركنَا ذَلِك لما وَصفنَا من أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يَأْمر بِجمع الصَّلَاة إِلَّا عِنْد الْكُسُوف، وَأَنه لم يحفظ أَن عمر صَلَّى عِنْد زَلْزَلَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من رِوَايَة ابْن عَبَّاس: «إِذا (رَأَيْتُمْ آيَة) فاسجدوا» قَالَ: وَذَلِكَ يرجع إِلَى مَا (استحبه) الشَّافِعِي من الصَّلَاة عَلَى الِانْفِرَاد، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: «إِذا سَمِعْتُمْ هادًّا من السَّمَاء فافزعوا إِلَى الصَّلَاة» .(5/137)
كتاب صَلَاة الاسْتِسْقَاء(5/139)
كتاب صَلَاة الاسْتِسْقَاء
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا
أما الْأَحَادِيث: فثمانية عشر حَدِيثا:
(الحَدِيث) الأوَّل
عَن عباد بن تَمِيم عَن عَمه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي، فَصَلى بهم رَكْعَتَيْنِ جهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، وحول رِدَاءَهُ، ودعا (وَرفع يَدَيْهِ) ، واستسقى، واستقبل الْقبْلَة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته إِلَّا الْجَهْر فللبخاري، وَإِلَّا رفع الْيَد فللبيهقي، وَهَذَا لفظ مُسلم عَن عبد الله بن زيد - وَهُوَ عَم عباد - قَالَ: «خرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْمُصَلى، فَاسْتَسْقَى، واستقبل الْقبْلَة، وقلب رِدَاءَهُ، وَصَلى رَكْعَتَيْنِ» . وَفِي لفظ لَهُ: «أَنه خرج إِلَى الْمُصَلى (فَاسْتَسْقَى) ، وَأَنه لما أَرَادَ أَن يَدْعُو (اسْتقْبل) الْقبْلَة، وحوَّل رِدَاءَهُ» . وَفِي لفظ لَهُ: «خرج يَسْتَسْقِي، فَجعل إِلَى النَّاس ظَهره يَدْعُو الله،(5/141)
واستقبل الْقبْلَة، وحول رِدَاءَهُ، ثمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» .
وَلَفظ البُخَارِيّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خرج إِلَى المصلَّى يُصَلِّي، وَأَنه لما دَعَا - أَو أَرَادَ أَن يَدْعُو - اسْتقْبل الْقبْلَة، وحوَّل رِدَاءَهُ» . وَفِي لفظ لَهُ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم خرج يَسْتَسْقِي، قَالَ: فحول إِلَى النَّاس ظَهره واستقبل الْقبْلَة يَدْعُو، ثمَّ حول رِدَاءَهُ، فَصَلى بِنَا رَكْعَتَيْنِ جهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ» . وَفِي لفظ لَهُ: «أَنه خرج يَسْتَسْقِي بهم، فَقَامَ (فَدَعَا الله) قَائِما، ثمَّ توجه قبل الْقبْلَة، وحول رِدَاءَهُ، فأُسقوا» . وَعَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم قَالَ: «جعل الْيَمين عَلَى الشمَال» .
وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «وَرفع يَدَيْهِ يَدْعُو، فَدَعَا واستسقى» .
فَائِدَة: عَم عباد بن تَمِيم: هُوَ عبد الله بن زيد، كَمَا أسلفنا التَّصْرِيح بِهِ، وَهُوَ غير صَاحب الْأَذَان، لَا كَمَا وهم فِيهِ ابْن عُيَيْنَة فَقَالَ: إِنَّه هُوَ. كَمَا نبه عَلَيْهِ البُخَارِيّ وَغَيره، وَإِن كَانَ أَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» رَوَاهُ من حَدِيث عَلّي بن الْمَدِينِيّ عَنهُ، عَن عبد الله بن أبي بكر قَالَ: سَمِعت عباد بن تَمِيم يحدث، عَن عبد الله بن زيد الَّذِي أرِي النداء: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج ... » الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: كَانَ ابْن عُيَيْنَة يَقُول:(5/142)
هُوَ صَاحب الْأَذَان عبد الله بن زيد. قَالَ البُخَارِيّ: وَلكنه وهم؛ لِأَن هَذَا عبد الله بن زيد بن عَاصِم الْمَازِني مَازِن الْأَنْصَار. قَالَ فِي «التَّارِيخ» : قتل يَوْم الْحرَّة، وَعبد الله بن زيد بن عبد ربه الْأنْصَارِيّ الخزرجي (مدنِي) ، صَاحب الْأَذَان. وَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا غلط من ابْن عُيَيْنَة.
فَائِدَة ثَانِيَة: هَذِه العمومة الْمَذْكُورَة لَيست من النَّسَب، وَإِنَّمَا هُوَ زوج أمه، فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج إِلَى المصلَّى مُبْتَذِلا، فَصَلى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي العَبْد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «الْمسند» ، وَأَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة» ، وَأَبُو عوَانَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ (وَالْبَيْهَقِيّ) فِي «سُنَنهمَا» بأسانيد صَحِيحَة، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ(5/143)
الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث رُوَاته مصريون ومدنيون، وَلَا أعلم أحدا مِنْهُم مَنْسُوبا إِلَى نوع من الْجرْح، وَلم يخرجَاهُ.
وَلَفظ أَحْمد: عَن هِشَام (بن إِسْحَاق) بن عبد الله بن كنَانَة، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج متخشعًا متضرعًا متواضعًا مبتذلا، فَصَلى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا صَلَّى فِي الْعِيد، لم يخْطب (كخطبتكم) هَذِه» .
وَلَفظ أبي دَاوُد: عَن هِشَام أَنا أبي، قَالَ: (أَرْسلنِي الْوَلِيد بن عتبَة - وَكَانَ أَمِير الْمَدِينَة - إِلَى ابْن عَبَّاس أسأله عَن صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الاسْتِسْقَاء (قَالَ: خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) مبتذلاً متواضعًا متضرعًا، حَتَّى أَتَى (الْمُصَلى) ، فرقى عَلَى الْمِنْبَر وَلم يخْطب خطبتكم هَذِه، وَلَكِن لم يزل فِي الدُّعَاء والتضرع و (التَّكْبِير) ثمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيد» . وَلَفظ التِّرْمِذِيّ مثله إِلَّا أَنه زَاد فِي إِحْدَى روايتيه: «متخشعًا» .
وَلَفظ النَّسَائِيّ: «خرج متواضعًا مبتذلاً، [لم يخْطب] نَحْو خطبتكم هَذِه، فَصَلى رَكْعَتَيْنِ» . وَفِي لفظ لَهُ: «متواضعًا، متذللاً متخشعًا متضرعًا فَصَلى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ، وَلم يخْطب خطبتكم» .
وَلَفظ الْحَاكِم: «متخشعًا متذللاً مبتذلاً فَصنعَ فِيهِ كَمَا صنع فِي الفِطْر(5/144)
والأضحى» وَفِي لفظ لَهُ كَلَفْظِ النَّسَائِيّ الثَّانِي، وَزَاد فِيهِ: «مترسلاً» .
وَلَفظ ابْن حبَان: «خرج متبذلاً (متمسكنًا) متضرعًا متواضعًا، لم يخْطب خطبتكم هَذِه، فَصَلى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيد» . رَوَاهُ من حَدِيث [هِشَام بن] عبد الله بن كنَانَة، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس. وَلَفظ ابْن مَاجَه كَلَفْظِ رِوَايَة النَّسَائِيّ الثَّانِيَة.
وَلَفظ أبي عوَانَة: «خرج متخشعًا مبتذلاً يصنع فِيهِ كَمَا يصنع فِي الفطْر والأضحى» . رَوَاهُ عَن إِسْمَاعِيل بن ربيعَة بن هِشَام بن إِسْحَاق أَنه سمع جدَّه هِشَام بن إِسْحَاق يحدِّث عَن أَبِيه إِسْحَاق «أَن الْوَلِيد بن عتبَة أرْسلهُ إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ: يَا ابْن أخي، سَله كَيفَ صنع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الاسْتِسْقَاء يَوْم استسقى بِالنَّاسِ؟ قَالَ إِسْحَاق: فدعي ابْن عَبَّاس فَقَالَ: يَا ابْن عَبَّاس، كَيفَ صنع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الاسْتِسْقَاء يَوْم استسقى بِالنَّاسِ؟ قَالَ: نعم خرج ... » فَذكره.
وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ كَرِوَايَة الْحَاكِم الأولَى، وَفِي لفظ لَهُ كَرِوَايَة(5/145)
النَّسَائِيّ الثَّانِيَة، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز، عَن أَبِيه، عَن طَلْحَة قَالَ: «أَرْسلنِي مَرْوَان إِلَى ابْن عَبَّاس أسأله عَن سنة الاسْتِسْقَاء، فَقَالَ: سنة الاسْتِسْقَاء سنة الصَّلَاة فِي الْعِيدَيْنِ، إِلَّا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قلب رِدَاءَهُ فَجعل يَمِينه عَلَى يسَاره ويساره عَلَى يَمِينه، وَصَلى رَكْعَتَيْنِ، كبر فِي الأولَى سبع تَكْبِيرَات وقرا (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى) وَقَرَأَ فِي الثَّانِيَة: (هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية) وَكبر فِيهَا خمس تَكْبِيرَات» . وأعل عبد الْحق هَذِه الرِّوَايَة بِأَن قَالَ: مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف ضَعِيف الحَدِيث. قَالَ أَبُو حَاتِم: هم ثَلَاثَة إخْوَة ضعفاء، لَيْسَ لَهُم حَدِيث مُسْتَقِيم: مُحَمَّد وَعبد الله وَعمْرَان بَنو عبد الْعَزِيز، (وبمشورة مُحَمَّد (هَذَا) جُلِد مَالك فِيمَا قَالَ البُخَارِيّ) . قَالَ ابْن الْقطَّان: وَعبد الْعَزِيز هَذَا مَجْهُول الْحَال، يعل بِهِ الْخَبَر.
قلت: وَأما الْحَاكِم فَإِنَّهُ أخرج هَذِه الرِّوَايَة فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. لكنه قَالَ: فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن عبد الْملك عَن أَبِيه. وَكَأَنَّهُ وهم، وَالْمَعْرُوف عبد الْعَزِيز بن عبد الرَّحْمَن، وَلم يُنَبه الذَّهَبِيّ فِي «اختصاره للمستدرك» عَلَى هَذَا، بل قَالَ: فِيهِ عبد الْعَزِيز بن عبد الْملك وَقد ضُعِّف. وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يعْتَرض عَلَيْهِ من الْوَجْه الَّذِي ذكرته، فَتنبه لذَلِك. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز هَذَا غير قوي، وَهُوَ بِمَا قبله من الشواهد يقوى.(5/146)
بَقِي أَمر آخر مُهِمّ وَهُوَ أَن عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم ذكر فِي (كِتَابه) أَن إِسْحَاق بن عبد الله بن كنَانَة عَن ابْن عَبَّاس مُرْسل. وَكَذَا فِي «التَّهْذِيب» للمزي أَنه أرسل عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَكَذَا (عَن) ابْن عَبَّاس أَيْضا؛ فَإِنَّهُ لم يُدْرِكهُ. وَهَذَا غَرِيب، فالروايات الَّتِي أوردناها صَرِيحَة فِي (مشافهته) لَهُ عوضا عَن إِدْرَاكه، وَقد أسلفنا رِوَايَة أبي دَاوُد فِي ذَلِك. وَلَفظ النَّسَائِيّ: «أَرْسلنِي فلَان إِلَى ابْن عَبَّاس أسأله عَن صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الاسْتِسْقَاء، فَقَالَ: خرج ... » الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَرْسلنِي أَمِير من الْأُمَرَاء إِلَى ابْن عَبَّاس أسأله عَن الاسْتِسْقَاء، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَا مَنعه أَن يسألني؟ ! خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - متواضعًا ... » الحَدِيث كَمَا سلف. وَلَفظ الْحَاكِم «أَن الْوَلِيد أرسل إِسْحَاق بن عبد الله إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ: يَا ابْن أخي، كَيفَ صنع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الاسْتِسْقَاء يَوْم استسقى بِالنَّاسِ؟ فَقَالَ: خرج ... » الحَدِيث. (وَلَفظ ابْن حبَان: عَن [هِشَام بن] عبد الله بن كنَانَة، عَن أَبِيه قَالَ: «أَرْسلنِي أَمِير من الْأُمَرَاء إِلَى ابْن عَبَّاس أسأله عَن صَلَاة الاسْتِسْقَاء، فَقَالَ: خرج ... » الحَدِيث) . فَهَذِهِ الرِّوَايَات صَرِيحَة فِي مشافهته لَهُ، فاستفد ذَلِك.(5/147)
وَاعْترض ابْن الْقطَّان عَلَى عبد الْحق حَيْثُ ذكر الحَدِيث من طَرِيق عبد الله بن كنَانَة عَن الْوَلِيد، وَقَالَ: إِنَّه خطأ فَاحش؛ فعبد الله لَا مدْخل لَهُ فِي الْإِسْنَاد، وَإِنَّمَا صَاحب الْقِصَّة ابْنه إِسْحَاق، وَعبد الله لَيْسَ من رُوَاة الْأَخْبَار، وَلَا مِمَّن يعرف لَهُ حَال. وَلَيْسَ كَمَا ذكر، فقد رَوَى عَن ابْن عَبَّاس، وَعنهُ ابْنه هِشَام، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَأخرج الحَدِيث فِي «صَحِيحه» من جِهَته كَمَا أسلفناه.
تَنْبِيه: وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: «فرقى عَلَى الْمِنْبَر» وَالْمَعْرُوف كَمَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِيهِ: «فَرَقي عَلَى الْمِنْبَر» . بِكَسْر الْقَاف، وَرَوَاهُ بَعضهم بِفَتْحِهَا، وَقيل: إِن فتحهَا مَعَ الْهمزَة لُغَة طَيئ، وَالْمَشْهُور الأول.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَرْجَى الدُّعَاء دُعَاء الْأَخ للْأَخ بِظهْر الْغَيْب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِن (أسْرع) الدُّعَاء إِجَابَة: دَعْوَة غَائِب لغَائِب» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ(5/148)
وَابْن مَاجَه من رِوَايَة عبد الله بن (عَمْرو) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمثلِهِ سَوَاء. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَفِي إِسْنَاده الأفريقي، وَهُوَ يضعف فِي الحَدِيث.
وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن الْوَلِيد، وَقَالَ: حَدِيث حسن من رِوَايَة ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «خمس دعوات لَا ترد: دَعْوَة الْحَاج (حِين) يصدر، ودعوة الْغَازِي (حَتَّى) يرجع، ودعوة الْمَظْلُوم حَتَّى ينتصر، ودعوة الْمَرِيض حَتَّى يبرأ، ودعوة الْأَخ لِأَخِيهِ بِالْغَيْبِ، أسْرع هَؤُلَاءِ الدَّعْوَات إِجَابَة دَعْوَة الْأَخ لِأَخِيهِ بِالْغَيْبِ» . وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أم الدَّرْدَاء قَالَت: حَدثنِي سَيِّدي أَبُو الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «دَعْوَة الْمَرْء الْمُسلم لِأَخِيهِ بِظهْر الْغَيْب مستجابة، عِنْد رَأسه ملك مُوكل كلما دَعَا لِأَخِيهِ قَالَ الْملك الْمُوكل بِهِ: آمين، وَلَك بِمثل» . قَالَ الْحميدِي: ذكر خلف الوَاسِطِيّ هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أم الدَّرْدَاء، وَقد أخرجه مُسلم كَمَا ذكر من حَدِيث صَفْوَان فِي كتاب الدُّعَاء، وَلَكِن فِي الحَدِيث نَفسه أَن أَبَا الدَّرْدَاء أخْبرهَا بذلك. قَالَ البرقاني: وَأم الدَّرْدَاء هَذِه هِيَ الصُّغْرَى، وَلَيْسَ لَهَا صُحْبَة وَلَا سَماع من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -،(5/149)
وَإِنَّمَا هُوَ (من) مُسْند أبي الدَّرْدَاء، وَأما أم الدَّرْدَاء الْكُبْرَى فلهَا صُحْبَة، وَلَيْسَ لَهَا فِي الْكِتَابَيْنِ حَدِيث. قَالَ (الْحَافِظ) محب الدَّين الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» : وَلَو قيل: إِن الحَدِيث (عَنْهُمَا فرواية الْكُبْرَى) عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (وَرِوَايَة) الصُّغْرَى عَن أبي الدَّرْدَاء. لم يبعد ذَلِك بل هُوَ الأولَى. قَالَ: وَقَوله: «بِمثل» هُوَ بِكَسْر الْمِيم وَإِسْكَان الثَّاء، وَقيل: بِفَتْحِهَا، ومعناهما وَاحِد.
فَائِدَة:
هَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهِ عَلَى أَنه إِذا انْقَطع الْمِيَاه عَن طَائِفَة من الْمُسلمين اسْتحبَّ لغَيرهم أَن يصلوا ويستسقوا لَهُم، ويسألوا الزِّيَادَة لأَنْفُسِهِمْ، وَاسْتدلَّ لذَلِك الْبَيْهَقِيّ بِحَدِيث أبي الدَّرْدَاء الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَبِحَدِيث النُّعْمَان بن بشير الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤمنِينَ فِي توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مَثَلُ الْجَسَد، إِذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْو تداعى سَائِر الْجَسَد بالسهر والحمى» .
الحَدِيث الرَّابِع
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يصل صَلَاة الاسْتِسْقَاء إِلَّا عِنْد الْحَاجة» .(5/150)
هُوَ كَمَا قَالَ، وَمن استحضر (الْأَحَادِيث) الصَّحِيحَة (وجده) كَذَلِك.
الحَدِيث الْخَامِس
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخرج فِي صَلَاة الاسْتِسْقَاء إِلَى الصَّحرَاء» .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد استفاض ذَلِك فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن زيد، وَقد (سلف) أول الْبَاب، وَمِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس السالف قَرِيبا، وَمِنْهَا حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «شكا النَّاس إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قُحُوط الْمَطَر، فَأمر بمنبر يوضع لَهُ فِي الْمُصَلى، ووعد الناسَ يَوْمًا يخرجُون فِيهِ، فَخرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين بدا حاجبُ الشَّمْس، (فَقعدَ عَلَى) الْمِنْبَر وَكبر وَحمد الله - عَزَّ وَجَلَّ - وَقَالَ: إِنَّكُم شكوتم (جَدب) دِيَاركُمْ واستئخار الْمَطَر عَن إبان زَمَانه عَنْكُم، وَقد أَمركُم الله - سُبْحَانَهُ - أَن تَدعُوهُ، ووعدكم أَن يستجيب لكم. ثمَّ قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين، الرَّحْمَن الرَّحِيم، (ملك) يَوْم الدَّين، لَا إِلَه إِلَّا الله يفعلُ مَا يُرِيد، اللَّهُمَّ أَنْت الله لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، الْغَنِيّ وَنحن الْفُقَرَاء، أنزل علينا الْغَيْث، وَاجعَل مَا أنزلت لنا قُوَّة وبلاغًا إِلَى حينٍ. ثمَّ رفع يَدَيْهِ، فَلم يزل فِي الرّفْع حَتَّى بدا بَيَاض إبطَيْهِ، ثمَّ حول إِلَى النَّاس ظَهره، وقلب - أَو حول - رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافع يَدَيْهِ، ثمَّ أقبل عَلَى النَّاس،(5/151)
وَنزل فَصَلى رَكْعَتَيْنِ فَأَنْشَأَ الله - سُبْحَانَهُ (وَتَعَالَى - سَحَابَة) فَرعدَت، وأبرقت، ثمَّ أمْطرت بِإِذن الله، فَلم يَأْتِ مَسْجده حَتَّى سَالَتْ السُّيُول، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتهمْ إِلَى الكِنِّ ضحك حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه، فَقَالَ: أشهد أَن الله عَلَى كل شَيْء قدير، وَأَنِّي عبد الله وَرَسُوله» . حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَكَذَا أَبُو عوَانَة فِي «مستخرجه عَلَى مُسلم» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» بأسانيد صَحِيحَة، قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَإِسْنَاده جيد. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَصَححهُ ابْن السكن أَيْضا.
الحَدِيث السَّادِس
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاثَة لَا ترد دعوتهم: الصَّائِم حَتَّى يفْطر، وَالْإِمَام الْعَادِل، والمظلوم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَقَالَ: حسن. وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، زَاد ابْن مَاجَه: «ودعوة الْمَظْلُوم يرفعها الله - عَزَّ وَجَلَّ - دون الْغَمَام يَوْم(5/152)
الْقِيَامَة، وَيفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء، وَيَقُول: وَعِزَّتِي (وَجَلَالِي) لأنصرنك وَلَو بعد حِين» . (وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِهَذَا اللَّفْظ وَفِيه «تحمل - يَعْنِي: دَعْوَة الْمَظْلُوم - عَلَى الْغَمَام، وتفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء، وَيَقُول الرب: وَعِزَّتِي لأنصرنك وَلَو بعد حِين» ) . وَأخرج ابْن حبَان هَذِه وَحدهَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا، وأخرجها قبل هَؤُلَاءِ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَرَوَاهَا أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «ثَلَاث دعواتٍ مستجابات لَا شكّ فِيهِنَّ: دَعْوَة الْوَالِد، ودعوة الْمُسَافِر، ودعوة الْمَظْلُوم» . وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ أَيْضا، وَأعله ابْن الْقطَّان بِأبي جَعْفَر الْمُؤَذّن وَقَالَ: لَا يعرف حَاله، وَلَا لَهُ غير راو وَاحِد. وَقَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: وَقيل: إِنَّه مُحَمَّد بن عَلّي بن الْحُسَيْن، فَإِن صَحَّ ذَلِك فَلَيْسَ بِأَنْصَارِيِّ. قلت: وَقد جزم بِهِ أَبُو حَاتِم بن حبَان، فَإِنَّهُ لما أخرج الحَدِيث فِي «صَحِيحه» من جِهَته قَالَ فِي آخِره: أَبُو جَعْفَر هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن عَلّي بن حُسَيْن، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وَلَفظه: «ثَلَاث دعوات لَا ترد: دَعْوَة(5/153)
الْوَالِد، ودعوة الصَّائِم، ودعوة الْمُسَافِر» . قَوْله فِيمَا مَضَى: «الصَّائِم حَتَّى يفْطر» هُوَ (بِالْمُثَنَّاةِ) فَوق؛ كَمَا ضَبطه النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» ، قَالَ: وَإِنَّمَا ضَبطه لِئَلَّا يُصَحَّف فَيُقَال: (حِين) بِالْمُثَنَّاةِ تَحت مَعَ النُّون.
وَاعْلَم: أَن هَذَا الحَدِيث لم يذكرهُ الرَّافِعِيّ لفظا، وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلكُل وَاحِد من هَذِه الْأُمُور أثر فِي الْإِجَابَة للدُّعَاء، عَلَى مَا ورد فِي الْأَخْبَار وعنى بِهَذِهِ الْأُمُور: الصّيام، وَالْخُرُوج عَن الْمَظَالِم، والتقرب إِلَى الله - تَعَالَى - بِمَا يُسْتَطَاع من (الْخَيْر) .
الحَدِيث السَّابِع
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن الله طيب لَا يقبل إِلَّا طيِّبًا، وَإِن الله - تَعَالَى - أَمر الْمُؤمنِينَ بِمَا أَمر بِهِ الْمُرْسلين، فَقَالَ تَعَالَى: [[ [يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم]] ] ، وَقَالَ تَعَالَى: [[ [يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم]] ] ، ثمَّ ذكر الرجل يُطِيل السّفر أَشْعَث أغبر، يمد يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء: يَا رب. يَا رب. ومطعمه حرَام، ومشربه حرَام، وملبسه حرَام، وغذي بالحرام، فأنَّى يُسْتَجَاب لذَلِك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ،(5/154)
وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث ابْن عمر رَفعه: «لم ينقص قوم الْمِكْيَال وَالْمِيزَان إِلَّا أخذُوا بِالسِّنِينَ وَشدَّة الْمُؤْنَة وجور السُّلْطَان عَلَيْهِم، وَلم يمنعوا زَكَاة أَمْوَالهم إِلَّا منعُوا الْقطر من السَّمَاء، وَلَوْلَا الْبَهَائِم لم يُمطروا» . وَفِي «الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث أبي حَاتِم الرَّازِيّ، نَا عبيد الله بن مُوسَى، نَا بشير بن مهَاجر، عَن ابْن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا نقض قوم الْعَهْد قطّ إِلَّا كَانَ الْقَتْل بَينهم، وَمَا ظَهرت فَاحِشَة فِي قوم قطّ إِلَّا سلط الله عَلَيْهِم الْمَوْت، وَلَا يمْنَع قوم الزَّكَاة إِلَّا حبس الله عَنْهُم الْقطر» . كَذَا رَوَاهُ بشير بن المُهَاجر، وَرَوَاهُ الْحُسَيْن بن وَاقد، عَن [عبد الله] بن بُرَيْدَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «مَا نقض قوم الْعَهْد إِلَّا سلط الله عَلَيْهِم عدوهم، وَلَا فَشَتْ الْفَاحِشَة فِي قوم إِلَّا أَخذهم الله بِالْمَوْتِ، وَمَا طفف قوم الْمِيزَان إِلَّا أَخذهم (الله) بِالسِّنِينَ، وَمَا منع قوم الزَّكَاة إِلَّا مَنعهم الله الْقطر من السَّمَاء، وَمَا جَار قوم فِي حكم إِلَّا كَانَ الْبَأْس بَينهم - أظنُّه قَالَ: وَالْقَتْل» . وَرَوَى الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» حَدِيث بُرَيْدَة، ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تعرض الْأَعْمَال فِي كل(5/155)
اثْنَيْنِ وخميس، فَيغْفر الله لكل امْرِئ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا، إِلَّا امْرأ كَانَ بَينه وَبَين (أَخِيه) شَحْنَاء، فَيَقُول: اتْرُكُوا هذَيْن حَتَّى يصطلحا»
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَهَذَا الحَدِيث وَالَّذِي قبله أَشَارَ إِلَيْهِمَا الرَّافِعِيّ كَمَا أسلفناه.
الحَدِيث التَّاسِع
قَالَ الرَّافِعِيّ: والتقرب إِلَى الله - تَعَالَى - بِمَا يُسْتَطَاع من الْخَيْر؛ فَإِن لَهُ (أثرا) فِي الْإِجَابَة عَلَى مَا ورد فِي الْخَبَر.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَهُوَ مَعْلُوم (من قصَّة الثَّلَاثَة الَّذين انطبق عَلَيْهِم فَم الْغَار وَذكر كل وَاحِد مِنْهُم مَا ذكره) من خير، وَجعله شافعًا، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح مَشْهُور.
الحَدِيث الْعَاشِر
رُوِيَ: «أَن) الْبَهَائِم تستسقي» .
هُوَ كَمَا قَالَ، فقد رَوَى الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» والدراقطني فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «خرج نَبِي من الْأَنْبِيَاء يَسْتَسْقِي، فَإِذا هُوَ بنملة رَافِعَة بعض قَوَائِمهَا إِلَى السَّمَاء،(5/156)
فَقَالَ: ارْجعُوا؛ فقد اسْتُجِيبَ لكم من أجل شَأْن النملة» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَفِي «الْبَيَان» للعمراني - من أَصْحَابنَا - تَسْمِيَة النَّبِي بِسُلَيْمَان (وَأَن النملة وَقعت عَلَى ظهرهَا وَرفعت يَديهَا، و (قَالَت) : اللَّهُمَّ أَنْت خلقتنا فَإِن رزقتنا وَإِلَّا (هلكنا) - قَالَ: وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَت: «اللَّهُمَّ إِنَّا خلق من خلقك، لَا غنى لنا عَن رزقك، فَلَا (تُهْلِكنَا بذنوب) بني آدم - فَقَالَ سُلَيْمَان لِقَوْمِهِ: ارْجعُوا؛ فقد كفيتم بغيركم، وَسقوا» .
(وَهَذَا رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مَنْصُور فِي كِتَابه «جَامع الدُّعَاء الصَّحِيح» بِسَنَدِهِ إِلَى أبي الصّديق النَّاجِي قَالَ: «خرج (النَّبِي) سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام يَسْتَسْقِي، فَمر بنملة (مستلقية) رَافِعَة قَوَائِمهَا إِلَى السَّمَاء تَقول: اللَّهُمَّ إِنَّا خلق من خلقك) (لَيْسَ لنا غنى عَن) سقياك ورزقك، فإمَّا أَن (تسقنا) وترزقنا، وَإِمَّا أَن تُهْلِكنَا. فَقَالَ: ارْجعُوا فقد سقيتم بدعوة غَيْركُمْ» . وَرَوَاهُ ابْن عَسَاكِر فِي كِتَابه «تَخْرِيج أَحَادِيث الْمُهَذّب» بِإِسْنَادِهِ إِلَى زيد الْعمي عَن أبي الصّديق أَيْضا قَالَ: «خرج سُلَيْمَان يَسْتَسْقِي، فَمر بنملة (مستلقية) رَافِعَة قَوَائِمهَا إِلَى السَّمَاء وَهِي تَقول: اللَّهُمَّ إِنَّا خلق من خلقك، لَيْسَ بِنَا غنى عَن رزقك، فإمَّا أَن ترزقنا وَإِمَّا أَن تُهْلِكنَا. قَالَ سُلَيْمَان ... » فَذكره.(5/157)