يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إِنَّمَا الْعين وكاء السَّه؛ فَإِذا نَامَتْ الْعين انْطلق الوكاء (فَمن نَام فَليَتَوَضَّأ) » .
هَذَا لفظ الطَّبَرَانِيّ، وَلَفظ البَاقِينَ: «الْعين وكاء السه؛ فَإِذا نَامَتْ الْعين (اسْتطْلقَ) الوكاء» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق بَقِيَّة، عَن أبي بكر بن أبي مَرْيَم (بِهِ) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ مَرْوَان بن (جنَاح) عَن عَطِيَّة بن قيس، عَن مُعَاوِيَة «الْعين وكاء السه ... » مَوْقُوفا، قَالَ: الْوَلِيد بن مُسلم، ومروان أثبت من أبي بكر بن أبي مَرْيَم.
وَالَّذِي يعل بِهِ حَدِيث عليّ أَمْرَانِ:
الأول: أَن فِي إِسْنَاده جمَاعَة تكلم فيهم؛ أَوَّلهمْ بَقِيَّة، وَهُوَ ثِقَة فِي نَفسه، لكنه (يُدَلس عَن الْكَذَّابين) وَقد أسلفنا كَلَام الْأَئِمَّة فِيهِ فِي بَاب النَّجَاسَات فِي الحَدِيث الرَّابِع مِنْهُ وَاضحا.
ثانيهم: الْوَضِين بن عَطاء بن كنَانَة أَبُو كنَانَة الشَّامي، وَفِيه لين،(2/427)
قَالَ ابْن (حزم) : ضَعِيف. وَقَالَ السَّعْدِيّ: واهي الحَدِيث. وَقد أنكر عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث نَفسه، وَوَثَّقَهُ جماعات.
قَالَ الدَّارمِيّ، عَن دُحَيْم: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: صَالح. وَقَالَ أَحْمد: مَا كَانَ بِهِ من بَأْس. وَفِي رِوَايَة: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: سَأَلت عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم عَنهُ فَقَالَ: ثِقَة. وَقَالَ ابْن عدي: مَا أرَى بحَديثه بَأْسا.
وثالثهم: عبد الرَّحْمَن بن عَائِذ الْأَزْدِيّ الْحِمصِي، نسبه ابْن الْقطَّان إِلَى جَهَالَة الْحَال، وَهُوَ من الْعَجَائِب؛ فقد أرسل عَن معَاذ وَغَيره، وَرَوَى عَن أبي أُمَامَة وَكثير بن مرّة، وَرَوَى عَنهُ مَحْفُوظ وَنصر ابْنا عَلْقَمَة، وثور بن يزِيد، وَصَفوَان بن عَمْرو، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيّ، كَمَا أَفَادَهُ (الْمزي) ، وَذكره ابْن حبَان أَيْضا فِي «ثقاته» وَقَالَ: يُقَال إِن لَهُ صُحْبَة. وَذكره أَبُو الْحسن بن سميع فِي الطَّبَقَة الثَّالِثَة من تَابِعِيّ أهل الشَّام، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: ذكره البُخَارِيّ فِي الصَّحَابَة (و) لَا يَصح.
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: كَذَا حَكَى ابْن مَنْدَه عَن البُخَارِيّ؛ وَلم يذكرهُ فِي الصَّحَابَة فِي «التَّارِيخ» . وَقَالَ أَبُو نعيم: يُقَال إِنَّه أدْرك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ذكره البُخَارِيّ فِي الصَّحَابَة مُخْتَلف فِيهِ.
قلت: فَمن هَذِه حَالَته كَيفَ يكون مَجْهُولا، وَلابْن الْقطَّان من هَذَا الْقَبِيل نَظَائِر جمعتها فِي جُزْء مُفْرد، وَالله الْمعِين عَلَى إكماله.(2/428)
الْأَمر الثَّانِي: الِانْقِطَاع بَين عبد الرَّحْمَن وَعلي. قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «مراسيله وَعلله» : قَالَ أَبُو زرْعَة: عبد الرَّحْمَن بن عَائِذ الْأَزْدِيّ عَن عَلّي مُرْسل. وَقَالَ عبد الْحق: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِمُتَّصِل. قَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ كَمَا قَالَ لَيْسَ بِمُتَّصِل، وَلَكِن بَقِي عَلَيْهِ أَن يبين أَنه من رِوَايَة بَقِيَّة بن الْوَلِيد؛ وَهُوَ ضَعِيف، وَهُوَ دَائِما يضعف (بِهِ الْأَحَادِيث) ، عَن الْوَضِين وَهُوَ واهي الحَدِيث؛ قَالَه السَّعْدِيّ. وَمِنْهُم من يوثقه عَن مَحْفُوظ بن عَلْقَمَة وَهُوَ ثِقَة، عَن عبد الرَّحْمَن بن عَائِذ وَهُوَ مَجْهُول الْحَال، عَن عَلّي وَلم يسمع مِنْهُ.
قَالَ: فَهَذِهِ ثَلَاث علل سُوَى الْإِرْسَال؛ كل [وَاحِدَة] تمنع (من) تَصْحِيحه مُسْندًا كَانَ أَو مُرْسلا.
وَأما حَدِيث مُعَاوِيَة رَضي اللهُ عَنهُ فَالَّذِي يعل بِهِ أَيْضا أَمْرَانِ:
الأول: حَال أبي بكر بن عبد الله بن أبي مَرْيَم، وَقد اخْتلف فِي اسْمه؛ فَقيل: بكر (وَقيل: بكير) وَقيل: عبد السَّلَام، وَقيل: عمر. وَهِي حَاله واهية، وَهُوَ كثير الْغَلَط؛ ضعفه أَحْمد، وَأَبُو زرْعَة، وَأَبُو حَاتِم، وَالنَّسَائِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَكَذَا يَحْيَى بن معِين. وَقَالَ مرّة:(2/429)
صَدُوق، نَقله عَنهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» وَجزم بِأَن اسْمه (بكيرًا) وَقَالَ السَّعْدِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ من خِيَار أهل الشَّام؛ وَلكنه كَانَ رَدِيء الْحِفْظ (فَيحدث) بالشَّيْء ويهم، وَكثر ذَلِك حَتَّى اسْتحق التّرْك. وَأورد لَهُ ابْن عدي جملَة مَنَاكِير، وَأما ابْن حزم فنسبه إِلَى الْكَذِب كَمَا سَيَأْتِي، وَلم أر أحدا نسبه إِلَى ذَلِك إِلَّا مَا رُوِيَ عَن عِيسَى بن يُونُس أَنه قَالَ: لَو أردْت أَبَا بكر بن أبي مَرْيَم أَن يجمع لي فلَانا وَفُلَانًا لفعل - يَعْنِي يَقُول: عَن رَاشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، وحبِيب بن عبيد، وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة قد رَوَى أَبُو بكر بن أبي مَرْيَم (عَنْهُم) - فَانْتَفَى أَن يكون يقبل التَّلْقِين إِن كَانَ أَرَادَ ذَلِك - يَعْنِي أَنه يقبل التَّلْقِين - وَإِن كَانَ أَرَادَ بِهِ (أَنه) يروي عَن (هَؤُلَاءِ) الثَّلَاثَة فَهَذَا نوع مدح.
الثَّانِي: أَنه رُوِيَ مَوْقُوفا، وَقد أسلفنا أَن الْوَلِيد بن مُسلم رجحها عَلَى رِوَايَة الرّفْع؛ وَأعله ابْن حزم بِأَمْر ثَالِث فَقَالَ فِي «محلاه» : هَذَا حَدِيث سَاقِط؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة بَقِيَّة - وَهُوَ ضَعِيف - عَن أبي بكر بن أبي مَرْيَم، وَهُوَ مَذْكُور بِالْكَذِبِ، عَن عَطِيَّة بن قيس وَهُوَ مَجْهُول. انْتَهَى كَلَامه.
ونسبته عَطِيَّة بن قيس إِلَى الْجَهَالَة من الغرائب؛ فَهُوَ تَابِعِيّ(2/430)
مَشْهُور، أرسل عَن أبي بن كَعْب وَنَحْوه، وغزا مَعَ أبي أَيُّوب، وَرَوَى عَن مُعَاوِيَة وَطَائِفَة، وَقَرَأَ الْقُرْآن عَلَى أم الدَّرْدَاء، وَرَوَى عَنهُ سعيد بن عبد الْعَزِيز وَطَائِفَة، وَكَانُوا يصلحون مصاحفهم عَلَى قِرَاءَته، وَعمر دهرًا جَاوز الْمِائَة، وَرَوَى لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» وَأَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة» وَعلم (لَهُ الصريفيني) فِيمَا رَأَيْته بِخَطِّهِ عَلامَة البُخَارِيّ أَيْضا، وَهُوَ كَمَا علم لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتشْهد (بِهِ) . وَنقل عَن أبي مسْهر أَنه ولد فِي حَيَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَقد تعقب ابْن عبد الْحق ابْن حزم فِي رده عَلَى «محلاه» ، وَنقل عَن أبي حَاتِم أَنه قَالَ فِي حَقه: صَالح الحَدِيث.
قلت: وَوَثَّقَهُ ابْن الْقطَّان أَيْضا؛ فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة وثقوه: مُسلم، وَأَبُو حَاتِم، وَابْن الْقطَّان، وحالته كَمَا عرفتها؛ فَكيف يكون مَجْهُولا؟ ! وَله فِي «محلاه» أَيْضا من هَذَا النَّحْو عدَّة مَوَاضِع تعقبها عَلَيْهِ (غير وَاحِد مِنْهُم) شَيخنَا: قطب الدَّين عبد الْكَرِيم الْحلَبِي وَغَيره من شُيُوخنَا، وَللَّه الْحَمد. وَقد نَص عَلَى ضعف هذَيْن الْحَدِيثين أَيْضا غير من سلف: قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنْهُمَا؛ فَقَالَ: ليسَا بقويين. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «استذكاره» : وهما ضعيفان لَا حجَّة فيهمَا من جِهَة النَّقْل. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : قَالَ أَحْمد - فِيمَا بَلغنِي عَنهُ -: حَدِيث عَلّي الَّذِي يرويهِ الْوَضِين بن عَطاء أثبت من حَدِيث مُعَاوِيَة فِي هَذَا(2/431)
الْبَاب، وَنَقله عَنهُ الْمجد فِي «أَحْكَامه» أَيْضا بِلَفْظ: أثبت وَأَقْوَى، وَمرَاده أَنه أثبت عَلَى علاته، وَنقل غَيرهمَا عَن عبد الله بن أَحْمد أَنه (رَوَى) حَدِيث مُعَاوِيَة وجادة فِي كتاب أَبِيه بِخَط يَده، وَقَالَ: أَظُنهُ كَانَ فِي المحنة قد ضرب عَلَى هَذَا الحَدِيث فِي كِتَابه. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «عُلُوم الحَدِيث» : هَذَا حَدِيث مَرْوِيّ من غير وَجه، لم يذكر فِيهِ: «فَمن نَام فَليَتَوَضَّأ» غير إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الرَّازِيّ، وَهُوَ ثِقَة مَأْمُون (عَن) بَقِيَّة.
قلت: لَا؛ فقد (تَابعه) ابْن الْمُصَفَّى؛ كَمَا أخرجه ابْن مَاجَه وحيوة بن شُرَيْح فِي آخَرين؛ كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد، وَسليمَان بن (عمر) الأقطع (كَمَا رَوَاهُ) الدَّارَقُطْنِيّ كلهم عَن بَقِيَّة، (وخفف) ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» القَوْل فِي أَمر حَدِيث عَلّي وَمُعَاوِيَة فَقَالَ: فيهمَا مقَال. ونحا نَحوه الْحَافِظ زكي الدَّين الْمُنْذِرِيّ؛ فَقَالَ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» : حَدِيث عَلّي حَدِيث حسن. وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فَقَالَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (جمَاعَة) وَفِي إِسْنَاده شَيْء، وَهُوَ - إِن شَاءَ الله - حسن، وَحسنه النَّوَوِيّ أَيْضا، وَلَا يخْفَى مَا فِيهِ.
فَائِدَة: السّه الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث - بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة، وَكسر(2/432)
الْهَاء المخففة -: الدبر، وَمَعْنَاهُ: الْيَقَظَة. وكاء الدبر أَي: (حافظة) مَا فِيهِ من الْخُرُوج؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ مستيقظًا (أحس) بِمَا يخرج مِنْهُ؛ فَإِذا نَام زَالَ (ذَلِك) الضَّبْط (وَأَصله: سته، وَهُوَ العَجُزُ، وَقد يُرَاد بِهِ حَلقَة الدبر، كَذَا قَالَه الْجَوْهَرِي، وَجعل مِنْهُ هَذَا الحَدِيث. ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ «وكاء السِّت» بِحَذْف الْهَاء وبالتاء. والوكاء - بِكَسْر الْوَاو -: الْخَيط الَّذِي يرْبط بِهِ الشَّيْء) .
الحَدِيث التَّاسِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من استجمع نومًا فَعَلَيهِ الْوضُوء» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب بِهَذَا اللَّفْظ. وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ: الْبَيْهَقِيّ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من اسْتحق النّوم وَجب عَلَيْهِ الْوضُوء» ثمَّ قَالَ: وَلَا يَصح رَفعه.
وَرَوَاهُ مَوْقُوفا عَلَى أبي هُرَيْرَة، وَإِسْنَاده صَحِيح، وَكَذَا قَالَ فِي «خلافياته» فِي الْمَرْفُوع أَنه لَا يَصح. قَالَ: وَرُوِيَ من وَجه آخر ... فَذكره من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِلَفْظ: «إِذا (استحد) أحدكُم وَاسْتحق نومًا؛ وَجب عَلَيْهِ الْوضُوء» ثمَّ نقل عَن ابْن عدي أَنه قَالَ: لَا يرويهِ عَن عَوْف، عَن مُحَمَّد، عَن أبي هُرَيْرَة غير الرّبيع بن بدر.(2/433)
قلت: وَقد تَركه الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره، ونصَّ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» أَيْضا أَن وقف رِوَايَة الأول هُوَ الصَّوَاب، وَنقل الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن الْجريرِي أَنه سَأَلَ خَالِد بن غلاق الرَّاوِي، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن اسْتِحْقَاق النّوم؛ فَقَالَ: هُوَ أَن يضع جنبه.
وَاعْلَم أَن الإِمَام الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث وَالَّذِي قبله عَلَى أَن النّوم من نواقض الْوضُوء، وَقد علمت حَالهمَا. ويغني فِي الدّلَالَة عَنْهُمَا حَدِيث صَفْوَان بن عَسَّال الْآتِي فِي مسح الْخُف - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - (فَإِنَّهُ) حَدِيث صَحِيح.
الحَدِيث الْعَاشِر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا وضوء عَلَى من نَام قَاعِدا، إِنَّمَا الْوضُوء عَلَى من نَام مُضْطَجعا؛ فَإِن من نَام مُضْطَجعا استرخت مفاصله» وَرُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا وضوء عَلَى من نَام قَائِما أَو رَاكِعا أَو سَاجِدا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِنَحْوِهِ الْأَئِمَّة، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، رَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد فِي «مُسْند أَبِيه» عَن عبد الله بن مُحَمَّد، عَن عبد السَّلَام بن حَرْب، عَن يزِيد بن عبد الرَّحْمَن الدالاني - نزل فيهم فنسب إِلَيْهِم - عَن قَتَادَة، عَن أبي الْعَالِيَة، عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى من نَام سَاجِدا وضوء حَتَّى يضطجع؛ فَإِنَّهُ إِذا اضْطجع استرخت مفاصله» .(2/434)
وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» من رِوَايَة عبد الله بن أَحْمد، عَن أَبِيه، عَن عبد السَّلَام. وَالَّذِي رَأَيْته فِي «الْمسند» من رِوَايَة ابْنه (عَن) غير أَبِيه. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بالسند االمذكور بِلَفْظ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر، ونام حَتَّى غط وَنفخ وَهُوَ ساجد - أَو جَالس - ثمَّ قَامَ فَصَلى؛ فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّك قد (نمت) ! قَالَ: إِنَّمَا يجب الْوضُوء عَلَى من نَام مُضْطَجعا؛ فَإِذا اضْطجع استرخت مفاصله» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بالسند الْمَذْكُور بِلَفْظ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يسْجد وينام وينفخ، ثمَّ يقوم فَيصَلي وَلَا يتَوَضَّأ، فَقلت لَهُ: صليت وَلم تتوضأ [وَقد نمت!] فَقَالَ: إِنَّمَا الْوضُوء عَلَى من نَام مُضْطَجعا -[زَاد عُثْمَان وهناد]- فَإِنَّهُ إِذا اضْطجع استرخت مفاصله» .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بالسند الْمَذْكُور أَيْضا بِلَفْظ: «أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَام وَهُوَ ساجد حَتَّى غط أَو نفخ، ثمَّ قَامَ يُصَلِّي؛ فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّك قد نمت! قَالَ: إِن الْوضُوء لَا يجب إِلَّا عَلَى من نَام مُضْطَجعا؛ فَإِنَّهُ إِذا اضْطجع استرخت مفاصله» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلِك وَالْبَيْهَقِيّ(2/435)
بِلَفْظ: «لَا يجب الْوضُوء عَلَى من نَام جَالِسا أَو قَائِما أَو سَاجِدا حَتَّى يضع جنبه؛ فَإِذا وضع جنبه استرخت مفاصله» .
قَالَ الرَّافِعِيّ عقب الرِّوَايَة الثَّانِيَة الَّتِي أسلفناها عَنهُ: ضعفه أَئِمَّة الحَدِيث. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ تبع فِي ذَلِك إِمَام الْحَرَمَيْنِ؛ فَإِنَّهُ نقل فِي «أساليبه» إِجْمَاع أهل الحَدِيث عَلَى ضعفه، وَنقل أَيْضا الِاتِّفَاق عَلَى ضعفه: النَّوَوِيّ، وَهُوَ كَمَا قَالُوا وَمِمَّنْ صرح بضعفه من الْمُتَقَدِّمين: أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْحَرْبِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، وَغَيرهم.
قَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : قَوْله: «الْوضُوء عَلَى من نَام مُضْطَجعا» هُوَ حَدِيث مُنكر، لم يروه إِلَّا يزِيد الدالاني عَن قَتَادَة. وَرَوَى أَوله جمَاعَة عَن ابْن عَبَّاس لم يذكرُوا شَيْئا من هَذَا؛ وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَحْفُوظًا.
وَقَالَت عَائِشَة: قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «تنام عينايَ وَلَا ينَام قلبِي» قَالَ شُعْبَة: إِنَّمَا سمع قَتَادَة من أبي الْعَالِيَة أَرْبَعَة أَحَادِيث: حَدِيث يُونُس بن مَتى، وَحَدِيث ابْن عمر فِي الصَّلَاة، وَحَدِيث الْقُضَاة ثَلَاثَة، وَحَدِيث [ابْن عَبَّاس] حَدثنِي رجال مرضيون.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَسمع أَيْضا حَدِيث ابْن عَبَّاس فِيمَا يَقُول عِنْد الكرب، وَحَدِيثه فِي رُؤْيَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَيْلَة أسرِي بِهِ مُوسَى وَغَيره. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «كتاب الْعِلَل» - وَهُوَ مُجَلد مُفْرد - بعد أَن ذكره بِلَفْظِهِ فِي(2/436)
«جَامعه» إِلَّا أَنه ذكره بِلَفْظ « (نَام» ) بدل «اضْطجع» : سَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: إِنَّه لَا شَيْء، رَوَاهُ سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة، عَن ابْن عَبَّاس قَوْله، وَلم يذكر فِيهِ أَبَا الْعَالِيَة، وَلَا أعرف لأبي خَالِد الدالاني سَمَاعا من قَتَادَة. قلت: أَبُو خَالِد كَيفَ هُوَ؟ قَالَ: صَدُوق، وَإِنَّمَا يهم فِي الشَّيْء. قَالَ مُحَمَّد: وَعبد السَّلَام (بن حَرْب) صَدُوق. وَقَالَ فِي «جَامعه» : رَوَاهُ (سعيد) ، عَن قَتَادَة، عَن ابْن عَبَّاس قَوْله، وَلم يذكر فِيهِ أَبَا الْعَالِيَة وَلم يرفعهُ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» : تفرد بِهِ (أَبُو) خَالِد الدالاني، وَلَا يَصح.
قلت: لَهُ متابع لكنه ضَعِيف كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِره. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : تفرد بِهِ يزِيد بن عبد الرَّحْمَن الدالاني. ثمَّ ذكر عَن التِّرْمِذِيّ مَا نَقَلْنَاهُ عَنهُ من «علله» ثمَّ ذكر. عَن أبي دَاوُد السجسْتانِي أَن قَوْله: «الْوضُوء عَلَى من نَام مُضْطَجعا» : حَدِيث مُنكر. لم يروه إِلَّا الدالاني، عَن قَتَادَة، وَإنَّهُ ذكر هَذَا الحَدِيث لِأَحْمَد بن حَنْبَل فَقَالَ: مَا ليزِيد الدالاني يدْخل عَلَى أَصْحَاب قَتَادَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يَعْنِي أَحْمد بِهَذَا: مَا ذكره البُخَارِيّ من أَنه لَا يعرف لأبي خَالِد سَماع من قَتَادَة، وَسَيَأْتِي مثل هَذَا، عَن أبي الْقَاسِم الْبَغَوِيّ مَعَ مَا فِيهِ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : لَعَلَّ هَذِه إِشَارَة إِلَى المحكي(2/437)
عَن البُخَارِيّ (و) غَيره من اشْتِرَاط الِاتِّصَال فِي السماع وَلَو مرّة.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: هَذَا حَدِيث مُنكر. وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد: لَا يُتَابع الدالاني فِي بعض أَحَادِيثه. قَالَ: وَلَا أعلم أحدا رَوَى هَذَا الحَدِيث غير عبد السَّلَام بن حَرْب، عَن أبي خَالِد، عَن قَتَادَة.
وَلما (ذكره) الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» بِلَفْظ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نَام وَهُوَ ساجد حَتَّى غط أَو نفخ، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنَّك قد نمت! قَالَ: إِن الْوضُوء لَا يُوجب حَتَّى تنام مُضْطَجعا؛ فَإِنَّهُ إِذا اضْطجع استرخت مفاصله» . تفرد بآخر هَذَا الحَدِيث: أَبُو خَالِد الدالاني، عَن قَتَادَة؛ وَأنْكرهُ عَلَيْهِ جَمِيع (أَئِمَّة) أهل الحَدِيث، ثمَّ ذكر كَلَام أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ السالفين. وَنقل عَن شُعْبَة أَنه قَالَ: لم يسمع قَتَادَة من أبي الْعَالِيَة إِلَّا ثَلَاثَة أَشْيَاء. قَالَ يَحْيَى الْقطَّان: هِيَ قَول عَلّي فِي الْقُضَاة ثَلَاثَة، وَحَدِيث لَا صَلَاة بعد الْعَصْر، وَحَدِيث يُونُس بن مَتى (ثمَّ) نقل كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ الَّذِي أسلفناه عَنهُ وَأقرهُ، وَقد علمت مَا فِيهِ من المناقشة.
ثمَّ نقل عَن أبي حَاتِم بن حبَان أَنه قَالَ: فِي «كتاب الْمَجْرُوحين» (و) رَأَيْته فِيهِ أَيْضا: يزِيد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو خَالِد الدالاني، من أهل وَاسِط، كَانَ كثير الْخَطَأ، فَاحش الْوَهم، يُخَالف الثِّقَات فِي الرِّوَايَات، حَتَّى إِذا سَمعهَا الْمُبْتَدِئ فِي هَذِه الصِّنَاعَة علم أَنَّهَا (معمولة) أَو مَقْلُوبَة(2/438)
لَا يجوز الِاحْتِجَاج (بِهِ) إِذا وَافق الثِّقَات؛ فَكيف إِذا انْفَرد عَنْهُم بالمعضلات؟ !
وَقد غلظ أَبُو حَاتِم بن حبَان القَوْل فِيهِ وخطئ فِي ذَلِك. وَمُقَابل (هَذِه الْمقَالة) قَول الْحَاكِم أبي عبد الله فِي آخر «مُسْتَدْركه» فِي آخر كتاب الْأَهْوَال: أَبُو خَالِد الدالاني الْأَئِمَّة المتقدمون كلهم يشْهدُونَ لَهُ بِالصّدقِ والإتقان.
وَتبع فِي ذَلِك أَبَا حَاتِم؛ فَإِنَّهُ قَالَ: يجمع حَدِيثه فِي أَئِمَّة الْكُوفَة، لم (يخرجَا) لَهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» لما ذكر من انحرافه عَن السّنة فِي ذكر الصَّحَابَة. فَأَما الْأَئِمَّة المتقدمون؛ فَإِنَّهُم شهدُوا لَهُ بِالصّدقِ والإتقان. وَالْحق التَّوَسُّط فِي أمره؛ قَالَ ابْن معِين وَالنَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَكَذَا (قَالَه) أَحْمد، وَاقْتصر ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» فِي تَرْجَمته عَلَى قَول أَحْمد هَذَا (وَقَول) ابْن حبَان السالف مُخْتَصرا، وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي» ، وَذكره ابْن شاهين فِي «ثقاته» ، وَاقْتصر عَلَى (قولة) يَحْيَى بن معِين (السالفة) فِيهِ، وَسُئِلَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ عَنهُ فَقَالَ: صَدُوق ثِقَة. وَقَالَ ابْن عدي: لَهُ أَحَادِيث صَالِحَة، وَفِي حَدِيثه لين، إِلَّا أَنه مَعَ لينه يكْتب حَدِيثه.(2/439)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : فَأَما هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ قد أنكرهُ عَلَى أبي خَالِد الدالاني جَمِيع الْحفاظ. وَهَذَا قد أسلفناه عَنهُ من «خلافياته» . قَالَ: وَأنكر سَمَاعه من قَتَادَة: أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهمَا. قَالَ: وَلَعَلَّ الشَّافِعِي وقف عَلَى عِلّة هَذَا الحَدِيث حَتَّى رَجَعَ عَنهُ فِي الْجَدِيد.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَلَو فرض استقامة حَال الدالاني (جَمِيع الْحفاظ كَانَ) فِيمَا علم من انْقِطَاع (سَنَده) واضطرابه، ومخالفته الثِّقَات (مَا) يعضد قَول من ضعفه من الْأَئِمَّة.
قلت: وَمِمَّنْ ضعفه من الْمُتَأَخِّرين: ابْن حزم فِي «محلاه» فَقَالَ: هَذَا (حَدِيث) سَاقِط جملَة؛ وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : هَذَا حَدِيث مُنكر، وَلَيْسَ بِمُتَّصِل الْإِسْنَاد (وَقَالَ) أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ فَقَالَ: إِن قَتَادَة لم يسمع هَذَا الحَدِيث من أبي الْعَالِيَة، وَجزم بِهَذَا من الْفُقَهَاء القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي «شرح الرسَالَة» لَكِن ذكر صَاحب «الْكَمَال» أَنه سمع مِنْهُ، وَقَالَ ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» تفرد بِهَذَا الحَدِيث: عبد السَّلَام بن حَرْب، عَن أبي خَالِد الدالاني، لَا أعلم لَهُ غَيره.
وَخَالف الْحفاظ كلهم: ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» فرجح صِحَّته؛ فَقَالَ بعد أَن أخرجه من طَرِيق أَحْمد: وَفِيه مَا ناقشناه بِهِ مِمَّا سبق(2/440)
(مستدلاً) عَلَى أحد قولي إِمَامه؛ أَنه إِذا نَام عَلَى حَالَة من أَحْوَال الصَّلَاة نومًا يَسِيرا لم يبطل وضوءه، وَنقل عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه تفرد بِهِ يزِيد، عَن قَتَادَة، وَلَا يَصح (و) عَن ابْن حبَان: أَنه كَانَ كثير الْخَطَأ، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ، و (أَن) ابْن أبي عرُوبَة رَوَاهُ، عَن قَتَادَة مَوْقُوفا -: قد ذكرنَا أَن مَذْهَب الْمُحدثين إِيثَار من وقف الحَدِيث احْتِيَاطًا، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء. قَالَ: وَقَول الدَّارَقُطْنِيّ: لَا تصح: دَعْوَى بِلَا دَلِيل، وَقد قَالَ أَحْمد: يزِيد لَا بَأْس بِهِ (وَرِوَايَة) من وَقفه لَا يمْنَع كَونه مَرْفُوعا، فَإِن الرَّاوِي قد يسند وَقد يُفْتِي بِالْحَدِيثِ هَذَا كَلَامه، وَفِيه من التعسف مَا لَا يخْفَى، وَقد ذكر (هُوَ) فِي «ضُعَفَائِهِ» يزِيد بن خَالِد، وَنقل فِيهِ مقَالَة ابْن حبَان وَأحمد فَقَط، وَقَالَ فِي خطْبَة كِتَابه هَذَا - أَعنِي: الضُّعَفَاء -: إِنَّه قد يَقع خلاف فِي بعض الْمَجْرُوحين، فيعده بَعضهم من الثِّقَات، وترجيح أحد الْأَمريْنِ إِلَى الْمُجْتَهدين من عُلَمَاء النَّقْل، عَلَى أَن تَقْدِيم الْجرْح عَلَى التَّعْدِيل مُتَعَيّن. فقد نَاقض قَوْله بقوله، وَقَالَ أَيْضا فِي خطْبَة «تَحْقِيقه» : (ألوم) عِنْدِي (مِمَّن) (قد لمته) من الْفُقَهَاء جمَاعَة من كبار الْمُحدثين عرفُوا صَحِيح النَّقْل وسقيمه وصنفوا فِي ذَلِك، فَإِذا(2/441)
جَاءَ حَدِيث ضَعِيف يُخَالف مَذْهَبهم بينوا وَجه الطعْن فِيهِ، وَإِن كَانَ مُوَافقا لمذهبهم سكتوا عَنهُ، وَهَذَا يُنبئ (عَن) قلَّة دين وَغَلَبَة هوى. هَذَا لَفظه، وَقد وَقع هُوَ فِيمَا عابه عَلَى غَيره، فضعف جمَاعَة (فِي مَوضِع) لما كَانَ الحَدِيث يُخَالف مذْهبه، ثمَّ احْتج بهم فِي مَوضِع آخر لما كَانَ يُوَافق مذْهبه، وَهَذَا الحَدِيث نَفسه قد ضعفه هُوَ فِي كتاب «الْإِعْلَام بناسخ الحَدِيث ومنسوخه» فَقَالَ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، وَالله الْمُوفق.
قلت: وَلَا ينفع مُتَابعَة جماعات ضعفاء يزِيد بن خَالِد هَذَا؛ فَإِنَّهُ قد تَابعه مهْدي بن هِلَال الْمُتَّهم بِالْوَضْعِ فَقَالَ: ثَنَا يَعْقُوب بن عَطاء، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا: «لَيْسَ عَلَى من نَام قَاعِدا أَو قَائِما وضوء حَتَّى يُضجع جنبه عَلَى الأَرْض» .
قَالَ ابْن عدي بعد أَن رَوَاهُ من طَرِيق مهْدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَى حَدِيثه ضوء وَلَا نور!
(وَعمر) بن هَارُون الْمَتْرُوك؛ فَرَوَاهُ عَن يَعْقُوب (بن) عَطاء، عَن عَمْرو بِهِ: «من نَام جَالِسا فَلَا وضوء عَلَيْهِ، وَمن وضع جنبه فَعَلَيهِ الْوضُوء» .
وَمُقَاتِل بن سُلَيْمَان الْمُفَسّر الْكذَّاب؛ فَرَوَاهُ عَن عَمْرو بِهِ إِلَى قَوْله(2/442)
«عَلَيْهِ» ، وقرّب ابْن عدي أَمر مقَاتل وَقَالَ: هُوَ مَعَ ضعفه يكْتب حَدِيثه.
وَرَوَى ابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث حُذَيْفَة قَالَ: «كنت أخفق برأسي، فَقلت: يَا رَسُول الله، وَجب عليّ وضوء؟ فَقَالَ: لَا؛ حَتَّى تضع جَنْبك» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ بَحر بن كنيز - أَي: بنُون مَكْسُورَة بعد الْكَاف ثمَّ مثناة ثمَّ رَاء - السقاء وَهُوَ ضَعِيف، لَا يحْتَج بروايته. وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : لَا يحل رِوَايَة هَذَا الحَدِيث إِلَّا عَلَى بَيَان سُقُوطه؛ لِأَن (رَاوِيه) بَحر بن كنيز السقاء - وَهُوَ لَا خير فِيهِ - مُتَّفق عَلَى (إطراحه) . وَمن المقالات الغريبة العجيبة جَوَاب ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» : أَنه إِن صَحَّ حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور فَمَعْنَاه - وَالله أعلم - لَيْسَ عَلَى من نَام سَاجِدا وضوء حَتَّى يضطجع - يَعْنِي: فِي النَّوَافِل - قَالَ: وَيصدق هَذَا (حَدِيث) الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة، وسنذكره عَلَى الإثر فِي الحَدِيث إِثْر هَذَا الحَدِيث.
ثمَّ قَالَ: فَهَذَا يَعْنِي فِي النَّوَافِل وَصَلَاة اللَّيْل.(2/443)
الحَدِيث الْحَادِي عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا نَام العَبْد فِي صلَاته باهى الله بِهِ مَلَائكَته، يَقُول: انْظُرُوا لعبدي، روحه عِنْدِي، وَجَسَده ساجد بَين يَدي» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ تبعا للْإِمَام فِي «النِّهَايَة» ، فَإِنَّهُ قَالَ: حُكيَ عَن نَص الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم أَن النّوم قَائِما أَو رَاكِعا أَو سَاجِدا لَا ينْقض؛ وَإِن نَام فِي غير الصَّلَاة كَذَلِك ينْقض وضوءه، وَإنَّهُ اعْتمد فِي هَذَا القَوْل هَذَا الحَدِيث.
قلت: وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف؛ يرْوَى من طرق:
أَحدهَا: عَن أنس رَضي اللهُ عَنهُ مَرْفُوعا: «إِذا نَام العَبْد فِي سُجُوده باهى الله بِهِ مَلَائكَته، يَقُول: انْظُرُوا إِلَى عَبدِي؛ روحه عِنْدِي، وَجَسَده فِي طَاعَتي» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من حَدِيث دَاوُد بن الزبْرِقَان، عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن أنس، ثمَّ قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِالْقَوِيّ؛ ثمَّ لَيْسَ فِيهِ أَنه لَا يخرج بِهِ من صلَاته، وَالْقَصْد مِنْهُ - إِن صَحَّ - الثَّنَاء عَلَى العَبْد (المواظب) عَلَى الصَّلَاة حَتَّى يغلبه النّوم، وَقد أَمر فِي الرِّوَايَة الصَّحِيحَة عَن أنس بالانصراف إِذا نعس، رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيثه بِلَفْظ «إِذا نعس وَهُوَ يُصَلِّي فلينصرف فلينم؛ حَتَّى يعلم مَا يَقُول» .
(رَوَاهُ مُسلم أَيْضا) وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها محتجًّا فِي إِيجَاب الْوضُوء من النّوم، فَأمر (النَّبِي) (الناعس (فِي الصَّلَاة) بالانصراف، وَلَو بَقِي فِيهَا (تبقى) الطَّهَارَة، كَمَا زعم(2/444)
الْمُخَالف لما أَمر بالانصراف.
وَكَذَا أجَاب بِهَذَا الْجَواب: ابْن حزم فِي «محلاه» أَعنِي: أَنه لَو صَحَّ لم يكن فِيهِ دلَالَة؛ بل الْقَصْد مِنْهُ الثَّنَاء كَمَا سلف.
وَلِحَدِيث أنس هَذَا طَرِيق ثَان من حَدِيث حَمَّاد عَن أبان عَنهُ مَوْقُوفا عَلَيْهِ: «أقرب مَا يكون العَبْد من ربه وَهُوَ ساجد؛ إِن الله - عَزَّ وجَلَّ - ليباهي بِهِ مَلَائكَته إِذا كَانَ نَائِما فِي سُجُوده، يَقُول: انْظُرُوا إِلَى عَبدِي؛ روحه عِنْدِي، وَجَسَده فِي طَاعَتي» . أسْندهُ الْحَافِظ زكي الدَّين الْمُنْذِرِيّ فِي الْقطعَة الَّتِي لَهُ عَلَى «أَحَادِيث الْمُهَذّب» ثمَّ علله بِأَبَان، وَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث يرْوَى من رِوَايَة أنس وَهُوَ ضَعِيف جدًّا، وَقَالَ بعد ذَلِك بأوراق: اتَّفقُوا عَلَى ضعفه، وَسَبقه (إِلَى) ذَلِك ابْن الصّلاح فَقَالَ فِي الْقطعَة الَّتِي لَهُ عَلَى الْمُهَذّب: إِنَّه حَدِيث لَيْسَ بِثَابِت.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ (رَفعه) : «إِذا نَام العَبْد وَهُوَ ساجد؛ يَقُول الله - عَزَّ وجَلَّ -: انْظُرُوا إِلَى عَبدِي؛ روحه عِنْدِي، وبدنه ساجد لي وَجَسَده» .
رَوَاهُ ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» من حَدِيث حجاج بن نصر، ثَنَا الْمُبَارك بن فضَالة، عَن الْحسن عَنهُ، وَهُوَ مُنْقَطع؛ لِأَن الْحسن لم يسمع من أبي هُرَيْرَة، كَمَا قَالَه الْجُمْهُور، وَقَالَ يُونُس بن عبيد: مَا رَآهُ قطّ، وَذكر أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم أَن من قَالَ عَن الْحسن،(2/445)
ثَنَا أَبُو هُرَيْرَة؛ فقد أَخطَأ، وَخَالف فِي ذَلِك قَتَادَة فَقَالَ: إِنَّمَا أَخذ الْحسن عَنهُ. وَلما ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» بِلَفْظ: «إِن الله - تَعَالَى - يَقُول: انْظُرُوا إِلَى عَبدِي نَام سَاجِدا وروحه عِنْدِي» .
قَالَ: هَذَا حَدِيث يرويهِ عباد بن رَاشد، عَن الْحسن، عَن أبي هُرَيْرَة، وَقيل عَن الْحسن، بلغنَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: ... » فَذكر الحَدِيث؛ وَلَا يثبت سَماع الْحسن من أبي هُرَيْرَة.
قيل للدارقطني: قد قَالَ مُوسَى بن هَارُون، إِنَّه سمع مِنْهُ، فَقَالَ: (سَمعه الحكم) وَلم يسمع الْحسن من أبي هُرَيْرَة، وَحكي لنا عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى الذهلي أَنه قَالَ: لم يسمع مِنْهُ. وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : هَذَا حَدِيث لَا شَيْء؛ لِأَنَّهُ مُرْسل، لم يخبر الْحسن مِمَّن سَمعه.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَفعه -: «إِن الله (ليضحك) إِلَى ثَلَاثَة نفر: رجل قَامَ فِي جَوف اللَّيْل فَأحْسن الطّهُور ثمَّ صَلَّى، وَرجل نَام وَهُوَ ساجد؛ وَرجل يحمي كَتِيبَة منهزمة؛ فَهُوَ عَلَى (فرس) جواد، لَو شَاءَ أَن يذهب لذهب» . رَوَاهُ ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» من حَدِيث عِيسَى بن الْمُخْتَار، عَن مُحَمَّد بن أبي لَيْلَى،(2/446)
عَن عَطِيَّة، عَن أبي سعيد بِهِ.
وعلته: عَطِيَّة هَذَا؛ وَهُوَ ضَعِيف بِالْإِجْمَاع، وَانْفَرَدَ ابْن معِين فِي قَوْله فِيهِ: هُوَ صَالح (الحَدِيث) وَقد ظهر - بِحَمْد الله وَمِنْه - ضعف الحَدِيث من طرقه؛ فَلَا يحْتَج بِهِ إِذا، وَقد أسلفنا الْجَواب عَنهُ عَلَى تَسْلِيم صِحَّته.
فَائِدَة: المباهاة: الْمُفَاخَرَة، وَفِي حق الله - تَعَالَى -: إِظْهَار رِضَاهُ، قَالَه صَاحب «مجمع الغرائب» .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «أَصَابَت يَدي أَخْمص قدم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الصَّلَاة، فَلَمَّا فرغ من الصَّلَاة قَالَ: أَتَاك شَيْطَانك!» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم (فِي «صَحِيحه» ) من طَرِيقين بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ، وهما من أَفْرَاده.
الأول: من رِوَايَة ابْن أبي مليكَة عَنْهَا قَالَت: «افتقدت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَات لَيْلَة، فَظَنَنْت أَنه ذهب إِلَى بعض نِسَائِهِ، فتحسست ثمَّ رجعت، فَإِذا هُوَ رَاكِع - أَو ساجد - يَقُول: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِك لَا إِلَه إِلَّا أَنْت. فَقلت: بِأبي أَنْت وَأمي، إِنِّي لفي شَأْن، وَإنَّك لفي آخر!» .
الثَّانِي: عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة، عَنْهَا قَالَت: «فقدت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَيْلَة من الْفراش، فالتمسته فَوَقَعت يَدي عَلَى بطن قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي(2/447)
الْمَسْجِد وهما منصوبتان، يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عُقُوبَتك، وَأَعُوذ بك مِنْك، لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك، أَنْت كَمَا أثنيت عَلَى نَفسك» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: «فَوَقَعت يَدي عَلَى بطن قَدَمَيْهِ وهما منصوبتان، وَهُوَ ساجد يَقُول ... » فَذكره. وَأما لَفْظَة: «أَتَاك شَيْطَانك» فرواها الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب: ضم (العقبين) فِي السُّجُود، وَكَذَا الْحَاكِم فِي «صَحِيحه» وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَذكرهَا مُسلم فِي أَوَاخِر «صَحِيحه» قبيل كتاب الْجنَّة عَنْهَا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خرج من عِنْدهَا لَيْلًا، قَالَت: فغرت عَلَيْهِ، فجَاء فَرَأَى مَا أصنع، فَقَالَ: مَا لَك يَا عَائِشَة أغرت؟ فَقلت: وَمَا لي لَا يغار مثلي عَلَى مثلك؟ ! فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (لقد) جَاءَك شَيْطَانك. قَالَت: يَا رَسُول الله، أومعي شَيْطَان؟ ! قَالَ: نعم. قلت: وَمَعَ كل إِنْسَان يَا رَسُول الله؟ قَالَ: نعم. قلت: ومعك يَا رَسُول الله؟ ! قَالَ: نعم، وَلَكِن رَبِّي أعانني عَلَيْهِ حَتَّى أسلم» .
(وَأَبْدَى) الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بطرِيق مُسلم الثَّانِيَة السالفة عِلّة فِيهَا نظر فَقَالَ بعد أَن أخرجه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَعَزاهُ إِلَى مُسلم دون قَوْله «وَهُوَ ساجد» : رَوَاهُ وهيب، ومعتمر، وَابْن نمير بِدُونِ ذكر أبي هُرَيْرَة فِي إِسْنَاده. وَوجه النّظر الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِ أَن من ذكر أَبَا هُرَيْرَة(2/448)
فِيهِ لين دون من أسْقطه، وَقد قَالَ البرقاني - فِيمَا نَقله الْحميدِي فِي «جمعه» عَنهُ -: وَافق عَبدة بن سُلَيْمَان أَبَا أُسَامَة فِي رِوَايَته الحَدِيث من طَرِيق الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَمِنْهُم من قَالَ: عَن الْأَعْرَج عَنْهَا؛ قَالَ: وَرِوَايَة من رَوَى عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة، عَنْهَا أولَى؛ لِأَنَّهُ زَاد، وَزِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة، وَهِي (الَّتِي) عوّل مُسلم عَلَيْهَا؛ أَي: وخرجها من طَرِيق أبي أُسَامَة السالفة، وَلم يخرج الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
وَرُوِيَ أَيْضا من غير طَرِيق الْأَعْرَج وَأبي هُرَيْرَة عَنْهَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، قَالَ: قَالَت عَائِشَة: وَفِيه: «فَوَجَدته سَاجِدا فَوضعت يَدي عَلَى قَدَمَيْهِ - يَعْنِي: أَصَابِع قَدَمَيْهِ ... » الحَدِيث.
وَهُوَ مُنْقَطع؛ لِأَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم لم يدْرك عَائِشَة، كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» وَسَماهُ مُرْسلا، وَصرح (بِهِ) أَبُو حَاتِم بِأَنَّهُ لم يسمع مِنْهَا، وَرِوَايَة عمْرَة عَنْهَا؛ قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : خالفهم الْفرج بن فضَالة؛ فَرَوَاهُ عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن عمْرَة، عَنْهَا، وَفِيه: «فَإِذا هُوَ ساجد، فَوضعت يَدي عَلَى صُدُور قَدَمَيْهِ وَهُوَ يَقُول فِي سُجُوده ... » الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ، (وَرِوَايَة) الْجَمَاعَة أولَى بِالصِّحَّةِ.
قلت: وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» من (هَذَا) الْوَجْه وَلَفظه: «فقدت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَات لَيْلَة فَقلت: إِنَّه قَامَ إِلَى جَارِيَته مَارِيَة! فَقُمْت ألتمس الْجِدَار، فَوَجَدته قَائِما يُصَلِّي، فأدخلت يَدي فِي شعره(2/449)
لأنظر اغْتسل أم لَا، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: أخذك شَيْطَانك يَا عَائِشَة؟ قلت: ولي شَيْطَان؟ فَقَالَ: نعم وَلِجَمِيعِ بني آدم. قلت: وَلَك؟ قَالَ: نعم، وَلَكِن الله - عَزَّ وجَلَّ - أعانني عَلَيْهِ فَأسلم» . ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن يَحْيَى بن سعيد إِلَّا فرج بن فضَالة.
قلت: وَقد ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ ابْن معِين: صَالح الحَدِيث. وَقَالَ أَحْمد: إِذا حدث عَن الشاميين فَلَيْسَ بِهِ بَأْس، لَكِن إِذا حدث عَن يَحْيَى بن سعيد أَتَى (بِالْمَنَاكِيرِ) .
قلت: وَهَذَا من حَدِيثه عَنهُ، وَقَول الطَّبَرَانِيّ: لم يروه، عَن يَحْيَى إِلَّا فرج بن فضَالة لَعَلَّه أَرَادَ بِهَذِهِ السِّيَاقَة - أَعنِي: عَن عمْرَة عَن عَائِشَة - وَإِلَّا فقد رَوَاهُ، عَن يَحْيَى جَعْفَر بن عون فِي الطَّرِيق السالفة المنقطعة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَكَذَا رَوَاهُ يزِيد بن هَارُون ووهيب وَغَيرهمَا [عَن يَحْيَى عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم] عَن عَائِشَة مُرْسلا.
قلت: وَرَوَاهُ يُونُس بن خباب، عَن عِيسَى بن عمر، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا افتقدت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَإِذا هُوَ فِي الْمَسْجِد، فَوضعت يَدهَا عَلَى أَخْمص قَدَمَيْهِ وَهُوَ يَقُول: أعوذ برضاك من سخطك» . قَالَ أَبُو حَاتِم: عِيسَى هَذَا شيخ لَا أَدْرِي أدْرك عَائِشَة أم لَا!
فَائِدَة: الأخمص - فِي الرِّوَايَة السالفة -: مَا دخل من بَاطِن الْقدَم(2/450)
فَلم يصب الأَرْض فِي الْوَطْء، وأصل الخمص: الظُّهُور (وَهَذَا يُوَافق رِوَايَة هِنْد بن أبي هَالة فِي وَصفه عَلَيْهِ السَّلَام «أَنه كَانَ خمصان الأخمصين» لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «دَلَائِل النُّبُوَّة» عقيبها: إِنَّه خلاف مَا روينَا عَن أبي هُرَيْرَة فِي وَصفه عَلَيْهِ السَّلَام: «أَنه كَانَ يطَأ بقدميه جَمِيعًا لَيْسَ لَهُ أَخْمص» ) .
وَقَوله: «فأدخلت يَدي فِي شعره لأنظر اغْتسل أم لَا» هُوَ المُرَاد بِرِوَايَة النَّسَائِيّ: «فأدخلت يَدي فِي شعره، فَقَالَ: (قد) جَاءَك شَيْطَانك؟ !» وَإِن كَانَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» (فِي) ذكر الْغيرَة، قَالَ: كَذَا ضَبطه فِي الأَصْل المسموع «شعره» وَلَعَلَّه «شعاره» وَهُوَ الثَّوْب الَّذِي ينَام فِيهِ، قَالَ: (وَلَعَلَّ التَّغْيِير من النَّاسِخ أَو الرَّاوِي. ثمَّ قَالَ:) وَإِن صَحَّ كَمَا ضبط. فيريد - وَالله أعلم - شعر رَأسه من غير قصد، ثمَّ قَالَ: وَالْأول أظهر (فقد) علمت أَنه لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا كُله، وَأَن رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ مثبتة (لَهَا) .
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن بسرة بنت صَفْوَان رَضي اللهُ عَنها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ» .(2/451)
هَذَا حَدِيث صَحِيح. أخرجه الْأَئِمَّة الْأَعْلَام أهل الْحل وَالْعقد وَالنَّقْل والنقد: مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ فِي (الْأُم) ، و (الإِمَام) أَحْمد فِي «الْمسند» ، وَكَذَا الدَّارمِيّ، وَأَصْحَاب «السّنَن الْأَرْبَعَة» : أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي كتبه الثَّلَاثَة: «السّنَن الْكَبِير» و «الْمعرفَة» و «الخلافيات» ، وَإِمَام الْأَئِمَّة مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، وتلميذه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة الْمُتَّصِلَة.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ مُحَمَّد - يَعْنِي: البُخَارِيّ -: إِنَّه أصح شَيْء فِي الْبَاب. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح ثَابت عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ثَنَا(2/452)
(ابْن مخلد) ، ثَنَا أَبُو دَاوُد السجسْتانِي (ح) .
وَقَالَ الْخلال فِي «علله» : أَنا أَبُو دَاوُد، قَالَ: قلت لِأَحْمَد بن حَنْبَل: حَدِيث بسرة فِي (مس) الذّكر لَيْسَ بِصَحِيح؟ قَالَ: بل هُوَ صَحِيح. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا: هُوَ صَحِيح ثَابت. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : هَذَا الحَدِيث وَإِن لم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ فِي «كِتَابَيْهِمَا» لاخْتِلَاف وَقع فِي سَماع عُرْوَة مِنْهَا، أَو هُوَ عَن مَرْوَان، فقد احتجا بِسَائِر رُوَاة حَدِيثهمَا، وَاحْتج البُخَارِيّ بِرِوَايَة مَرْوَان بن الحكم فِي عدَّة أَحَادِيث ثمَّ سردها؛ فَهُوَ صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ (بِكُل حَال) وَإِذا ثَبت سُؤال عُرْوَة بسرة عَن هَذَا الحَدِيث كَانَ صَحِيحا عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ جَمِيعًا.
قَالَ: وَقد (اسْتَقَرَّتْ) الدّلَالَة عَلَى سُؤَاله إِيَّاهَا عَن هَذَا الحَدِيث وتصديقها مَرْوَان فِيمَا رَوَى عَنْهَا، وَذكر هَذِه الْمقَالة بِعَينهَا ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» . وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي: هَذَا حَدِيث لَا يخْتَلف فِي عَدَالَة رُوَاته. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : هُوَ حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : إِسْنَاده لَا مطْعن فِيهِ. وَقَالَ ابْن الصّلاح: هُوَ حَدِيث حسن ثَابت، أخرجه أَصْحَاب السّنَن بأسانيد عديدة.(2/453)
قلت: فَهَذِهِ أَقْوَال الْحفاظ قَدِيما وحديثًا تشهد لما قدمْنَاهُ من صِحَّته، وَعَلِيهِ اعتراضات عَنْهَا أجوبة ظَاهِرَة فنخوض فِيهَا ليظْهر وهنها.
الأول: أَن عُرْوَة لم يسمع هَذَا الحَدِيث من بسرة؛ إِنَّمَا سَمعه من مَرْوَان، يدل عَلَى ذَلِك أَن الشَّافِعِي رَوَاهُ عَن مَالك، عَن عبد الله بن أبي بكر (بن مُحَمَّد) بن عَمْرو بن حزم أَنه سمع عُرْوَة بن الزبير يَقُول: «دخلت عَلَى مَرْوَان بن الحكم فتذاكرنا مَا يكون مِنْهُ الْوضُوء، فَقَالَ مَرْوَان: وَمن مس الذّكر الْوضُوء. فَقَالَ عُرْوَة: مَا علمت ذَلِك. فَقَالَ مَرْوَان: حَدَّثتنِي بسرة بنت صَفْوَان أَنَّهَا سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: إِذا مس أحدكُم ذكره فَليَتَوَضَّأ» .
الثَّانِي: الطعْن فِي مَرْوَان بن الحكم الرَّاوِي عَنْهَا؛ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: طعن أهل الْعلم فِيهِ. وَكَذَا قَالَ الْحَاكِم: طعن فِي مَرْوَان أَئِمَّة الحَدِيث.
الثَّالِث: جَهَالَة بسرة.
الرَّابِع: أَنه يرويهِ عَنْهَا شرطي عَن شرطي. قَالَ الْحَرْبِيّ: هَذَا حَدِيث يرويهِ شرطي عَن شرطي عَن امْرَأَة. وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ قَالَ: «أرسل مَرْوَان شرطيًّا إِلَى بسرة حَتَّى ردّ إِلَيّ جوابها» .
الْخَامِس: عَن يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ: ثَلَاثَة أَحَادِيث لَا تصح: حَدِيث «مس الذّكر» ، و «لَا نِكَاح إِلَّا بولِي» ، و «كل مُسكر حرَام» .
السَّادِس: قَالَ الطَّحَاوِيّ: إِن قَالُوا: فقد رَوَى هَذَا الحَدِيث: هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، قيل لَهُم إِن هِشَام بن عُرْوَة لم يسمع هَذَا من(2/454)
أَبِيه، إِنَّمَا (أَخذه) من أبي بكر - يَعْنِي ابْن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم - (وَنسبه) فِي ذَلِك إِلَى التَّدْلِيس. وَعَن النَّسَائِيّ أَيْضا أَن هَذَا الحَدِيث لم يسمعهُ هِشَام (من) أَبِيه.
وَالْجَوَاب عَن هَذِه الاعتراضات بِفضل الله ومنته:
أما الأول: فقد صَحَّ، وَثَبت من غير شكّ وَلَا مرية سَماع عُرْوَة هَذَا الحَدِيث من بسرة أَيْضا، قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : أَنا أَحْمد بن خَالِد الْحَرَّانِي، نَا أبي، نَا شُعَيْب بن إِسْحَاق، حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، أَن مَرْوَان بن الحكم حَدثهُ، عَن بسرة بنت صَفْوَان أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا مسّ أحدكُم ذكره فَليَتَوَضَّأ» . قَالَ: فَأنْكر ذَلِك عُرْوَة فَسَأَلَ بسرة فصدقته.
قَالَ ابْن حبَان: وَأَنا مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، نَا مُحَمَّد بن رَافع، نَا ابْن أبي فديك، أَخْبرنِي ربيعَة بن عُثْمَان، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن مَرْوَان، عَن بسرة بنت صَفْوَان مَرْفُوعا: «من مسّ فرجه فَليَتَوَضَّأ» قَالَ عُرْوَة: فَسَأَلت بسرة فصدقته. ثمَّ رَوَى ابْن حبَان - أَيْضا - من حَدِيث هِشَام، عَن أَبِيه، عَن بسرة قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من مس فرجه فليعد الْوضُوء» .
وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: (وَمن صَحِيحه نقلت) أوجب الشَّافِعِي(2/455)
الْوضُوء من مس الذّكر لحَدِيث بسرة، لَا رَأيا، وَبقول الشَّافِعِي أَقُول؛ لِأَن عُرْوَة سمع حَدِيث بسرة مِنْهَا لَا كَمَا يتوهمه بعض النَّاس أَن الْخَبَر واه؛ لطعنه فِي مَرْوَان (بن الحكم) . و (قَالَ) الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : سَاق حَمَّاد بن سَلمَة هَذَا الحَدِيث، وَذكر فِيهِ سَماع عُرْوَة (من) بسرة. قَالَ: وَمِمَّا يدل عَلَى صِحَة ذَلِك أَن الْجُمْهُور من أَصْحَاب هِشَام بن عُرْوَة رَوَوْهُ عَنهُ (عَن أَبِيه) ، عَن بسرة، ثمَّ ذكر ذَلِكَ عَن نَيف وَعشْرين رجلا.
قَالَ: وَقد خالفهم فِيهِ جمَاعَة فَرَوَوْه عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن مَرْوَان، عَن بسرة، ثمَّ ذكر ذَلِك عَن عشرَة أنفس، ثمَّ قَالَ: وَقد ظهر الْخلاف فِيهِ عَلَى هِشَام بن عُرْوَة من بَين أَصْحَابه، فَنَظَرْنَا فَإِذا الْقَوْم الَّذين أثبتوا سَماع عُرْوَة من بسرة أَكثر وَبَعْضهمْ أحفظ من الَّذين جَعَلُوهُ عَن مَرْوَان، إِلَّا أَن جمَاعَة من الْأَئِمَّة الْحفاظ أَيْضا ذكرُوا فِيهِ مَرْوَان، مِنْهُم مَالك بن أنس وَالثَّوْري ونظراؤهما، فَظن جمَاعَة مِمَّن لم ينعم النّظر فِي هَذَا الِاخْتِلَاف أَن الْخَبَر واه لطعن أَئِمَّة الحَدِيث عَلَى مَرْوَان، ثمَّ نَظرنَا فَوَجَدنَا جمَاعَة من الثِّقَات الْحفاظ رووا هَذَا، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن مَرْوَان، عَن بسرة، ثمَّ ذكرُوا فِي رواياتهم أَن عُرْوَة قَالَ: ثمَّ لقِيت بعد ذَلِك بسرة فحدثتني بِالْحَدِيثِ، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَمَا حَدثنِي مَرْوَان عَنْهَا.(2/456)
قَالَ: فدلنا ذَلِك عَلَى صِحَة الحَدِيث (وثبوته) عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَزَالَ عَنهُ الْخلاف والشبهة، وَثَبت سَماع عُرْوَة من بسرة. ثمَّ سَاق (بأسانيده) شَوَاهِد لما ذكره، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا مثل هَذِه الْمقَالة فَقَالَ: كَمَا اخْتلف عَلَى هِشَام بن عُرْوَة فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، فَرَوَاهُ جمَاعَة من الرفعاء الثِّقَات، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن بسرة (وَخَالفهُم جمَاعَة من الرفعاء الثِّقَات أَيْضا فَرَوَوْه، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن مَرْوَان، عَن بسرة) فَلَمَّا ورد هَذَا الِاخْتِلَاف عَن هِشَام أشكل أَمر هَذَا الحَدِيث، وَظن كثير من النَّاس مِمَّن لم ينعم النّظر فِي الِاخْتِلَاف أَن هَذَا الحَدِيث غير ثَابت (لاختلافهم) فِيهِ؛ وَلِأَن الْوَاجِب فِي الحكم أَن نقُول: القَوْل قَول من (زَاد) فِي الْإِسْنَاد؛ لأَنهم ثِقَات فزيادتهم مَقْبُولَة، فَحكم قوم من أهل الْعلم بِضعْف الحَدِيث لطعنهم عَلَى مَرْوَان، فَلَمَّا نَظرنَا فِي ذَلِك (و) بحثنا عَنهُ، وجدنَا جمَاعَة من الثِّقَات الْحفاظ رووا هَذَا الحَدِيث، عَن أَبِيه، عَن مَرْوَان، عَن بسرة (فَذكرُوا) فِي روايتهم فِي آخر الحَدِيث أَن عُرْوَة قَالَ: ثمَّ لقِيت بسرة بعد فسألتها عَن الحَدِيث فحدثتني بِهِ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَمَا حَدثنِي مَرْوَان عَنْهَا، فَدلَّ ذَلِك من رِوَايَة هَؤُلَاءِ النَّفر عَلَى صِحَة الرِّوَايَتَيْنِ الأولتين جَمِيعًا، وَزَالَ الِاخْتِلَاف، وَالْحَمْد لله.(2/457)
(فصح) الْخَبَر وَثَبت أَن عُرْوَة سَمعه من بسرة (مشافهة) بِهِ بعد أَن أخبرهُ مَرْوَان عَنْهَا، وَبعد إرْسَاله الشرطي إِلَيْهَا، وَمِمَّا يُقَوي ذَلِك وَيدل عَلَى صِحَّته أَن هشامًا كَانَ يحدث بِهِ مرّة، عَن أَبِيه، عَن مَرْوَان، عَن بسرة، وَمرَّة، عَن أَبِيه، عَن بسرة؛ ثمَّ أوضح طرقه فِي «علله» فِي نَحْو (من) عشْرين قَائِمَة.
وَأما الْجَواب عَن الثَّانِي: فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : مَرْوَان بن الحكم قد احْتج بِهِ البُخَارِيّ فِي «الصَّحِيح» وَقَالَ الْحَازِمِي: إِن الشَّيْخَيْنِ احتجا بِهِ. وناقشه (فِي ذَلِك) الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» فَقَالَ: هُوَ مَعْدُود من مُفْرَدَات البُخَارِيّ. وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي «الْمُحَلَّى» : مَرْوَان مَا يعلم لَهُ جرحة قبل خُرُوجه عَلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الله بن الزبير، وَلم يلقه عُرْوَة قطّ إِلَّا قبل خُرُوجه عَلَى أَخِيه لَا بعد خُرُوجه، هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بعد أَن أخرج حَدِيث بسرة من طَرِيق مَالك السالف: عَائِذ بِاللَّه أَن نحتج بِخَبَر رَوَاهُ مَرْوَان بن الحكم وذووه فِي شَيْء من كتبنَا؛ لأَنا لَا نستحل الِاحْتِجَاج بِغَيْر الصَّحِيح من سَائِر الْأَخْبَار وَإِن وَافق ذَلِك مَذْهَبنَا، وَلَا نعتمد من الْمذَاهب إِلَّا عَلَى المنتزع من الْآثَار، وَإِن خَالف (فِي) ذَلِك قَول(2/458)
أَئِمَّتنَا. وَأما خبر بسرة هَذَا، فَإِن عُرْوَة بن الزبير سَمعه من مَرْوَان بن الحكم عَن بسرة، فَلم يقنعه ذَلِك حَتَّى بعث مَرْوَان شرطيًّا لَهُ إِلَى بسرة فَسَأَلَهَا، ثمَّ أَتَاهُم فَأخْبرهُم بِمثل مَا قَالَت بسرة، فَسَمعهُ ثَانِيًا عَن الشرطي، ثمَّ لم يقنعه ذَلِك حَتَّى ذهب إِلَى بسرة فَسمع مِنْهَا، فَالْخَبَر عَن عُرْوَة عَن بسرة مُتَّصِل لَيْسَ بمنقطع، وَصَارَ مَرْوَان والشرطي كَأَنَّهُمَا عاريتان يُسقطان من الْإِسْنَاد، ثمَّ سَاق شَوَاهِد لما ذكره.
وَأما الْجَواب عَن الثَّالِث: فكذب وافترى من ادَّعَى جَهَالَة بسرة؛ فَإِنَّهَا بسرة بنت صَفْوَان بن نَوْفَل بن أَسد بن عبد الْعُزَّى. قَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : هِيَ من سَادَات قُرَيْش. ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ عَن مَنْصُور بن سَلمَة الْخُزَاعِيّ أَنه قَالَ: قَالَ لنا مَالك بن أنس: أَتَدْرُونَ من بسرة بنت صَفْوَان؟ هِيَ جدة عبد الْملك بن مَرْوَان أم أمه؛ فاعرفوها. ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ عَن مُصعب بن عبد الله الزبيري قَالَ: بسرة هِيَ بنت صَفْوَان بن نَوْفَل بن أَسد، من (المبايعات) ، وورقة بن نَوْفَل عَمها، وَلَيْسَ لِصَفْوَان عقب إِلَّا من قبلهَا، وَهِي زَوْجَة مُعَاوِيَة بن الْمُغيرَة بن أبي الْعَاصِ. قَالَ الْحَاكِم: وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ عَن بسرة، مِنْهُم ابْن عمر، وَابْن عَمْرو، وَسَعِيد بن الْمسيب، (وَعمرَة) بنت عبد الرَّحْمَن الْأَنْصَارِيَّة، وَعبد الله بن أبي مليكَة، ومروان بن الحكم، وَسليمَان بن مُوسَى. قَالَ: وَقد روينَا عَن بسرة بنت(2/459)
صَفْوَان عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَمْسَة أَحَادِيث غير هَذَا الحَدِيث، (قَالَ) : فَثَبت بِمَا ذَكرْنَاهُ اشتهار بسرة بنت صَفْوَان وارتفع عَنْهَا اسْم الْجَهَالَة بِهَذِهِ الرِّوَايَات.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : بسرة هَذِه قرشية أسدية، خَالَة مَرْوَان بن الحكم، وَتبع (فِي) ذَلِك صَاحب «الْكَمَال» وَإِنَّمَا هِيَ جدته كَمَا سلف.
قَالَ: وَهِي جدة عبد الْملك بن مَرْوَان، وَبنت أخي ورقة بن نَوْفَل، وَأُخْت عقبَة بن أبي معيط.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : قيل: لَا يُنكر اشتهار بسرة بنت صَفْوَان بِصُحْبَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ومتانة حَدِيثهَا إِلَّا من جهل مَذَاهِب التحديث وَلم يحط علما بأحوال الروَاة. قَالَ: وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: قد روينَا قَوْلنَا عَن غير بسرة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَالَّذِي يعيب علينا الرِّوَايَة عَن بسرة؛ يروي عَن عَائِشَة بنت عجرد، وَأم خِدَاش، وعدة من النِّسَاء لَيْسَ بمعروفات فِي الْعَامَّة ويحتج بروايتهن، ويضعف بسرة مَعَ سابقتها وقديم هجرتهَا وصحبتها النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَقد حدثت بِهَذَا فِي دَار الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وهم متوافرون، وَلم يَدْفَعهُ أحد مِنْهُم؛ بل علمنَا بَعضهم صَار إِلَيْهِ عَن رِوَايَتهَا، مِنْهُم: عُرْوَة بن الزبير، وَقد دفع وَأنكر الْوضُوء من مس الذّكر قبل أَن يسمع الْخَبَر، فَلَمَّا علم أَن بسرة روته قَالَ بِهِ، وَترك قَوْله؛ وسمعها ابْن عمر تحدث بِهِ، فَلم يزل يتَوَضَّأ من مس الذّكر حَتَّى مَاتَ،(2/460)
وَهَذِه طَريقَة الْعلم وَالْفِقْه. هَذَا آخر كَلَام الإِمَام الشَّافِعِي رَضي اللهُ عَنهُ وَهِي من النفائس الجليلة.
وَأما الْجَواب عَن الِاعْتِرَاض الرَّابِع: فقد كفَى فِيهِ وشفى الْحَافِظ أَبُو حَاتِم بن حبَان كَمَا أسلفناه عَنهُ فِي آخر الْجَواب (عَن) الثَّانِي، وَقَول إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ السالف عَلَى تَقْدِير ثُبُوته عَنهُ لَيْسَ بجيد مِنْهُ؛ لِأَن قَوْله: عَن امْرَأَة يدل عَلَى وَهن؛ وَلَيْسَ فِي الصحابيات مغمز، وَللَّه الْحَمد.
وَأما الْجَواب عَن الِاعْتِرَاض الْخَامِس: (وَهِي) الْحِكَايَة عَن يَحْيَى بن معِين: أَنه حَدِيث لَا يَصح، فحكاية لَا تثبت عَنهُ الْبَتَّةَ كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» وَتَبعهُ الْمُنْذِرِيّ قَالَا: و (قد) كَانَ مذْهبه انْتِقَاض الْوضُوء بِمَسّ الذّكر، وَقد كَانَ يحْتَج بِحَدِيث بسرة كَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ، وَرَوَى عَنهُ عبد الْملك الْمَيْمُونِيّ أَنه قَالَ: إِنَّمَا يطعن فِي حَدِيث بسرة من لَا يذهب إِلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : رَوَى مُضَر بن مُحَمَّد قَالَ: سَأَلت يَحْيَى بن معِين عَن مس الذّكر، أَي شَيْء أصح فِيهِ من الحَدِيث؟ قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَوْلَا حَدِيث مَالك، عَن عبد الله بن أبي بكر، عَن عُرْوَة، عَن مَرْوَان، عَن بسرة؛ فَإِنَّهُ يَقُول فِيهِ: سَمِعت؛ قَالَ: سَمِعت، لَقلت: لَا يَصح شَيْء.
قلت: وَعَلَى (تَقْدِير) صِحَة الْحِكَايَة السَّالفة عَنهُ، فَأهل الْعلم(2/461)
قاطبة عَلَى خلَافهَا، فقد صَححهُ الجماهير من الْأَئِمَّة والحفاظ كَمَا أسلفناه، وَاحْتج بِهِ نُجُوم الحَدِيث، وَلَو كَانَ كَمَا ذكر لم يحتجوا (بِهِ) .
وَأما الْجَواب عَن الِاعْتِرَاض السَّادِس: وَهُوَ أَن هشامًا لم يسمعهُ من أَبِيه، إِنَّمَا أَخذ عَن أبي بكر بن مُحَمَّد (بن عَمْرو) بن حزم، وَنسبه فِي ذَلِك إِلَى التَّدْلِيس فَهُوَ أَن الطَّبَرَانِيّ رَوَى عَن عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل، قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: قَالَ شُعْبَة: لم يسمع هِشَام حَدِيث أَبِيه فِي مس الذّكر - يَعْنِي: مِنْهُ - قَالَ يَحْيَى: فَسَأَلت هشامًا فَقَالَ: أَخْبرنِي أبي، فقد صَحَّ سَماع هِشَام من أَبِيه؛ كَمَا صَحَّ سَماع عُرْوَة (من) بسرة، وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث، عَمْرو بن عَلّي، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن هِشَام قَالَ: حَدثنِي أبي.
ثمَّ اعْلَم أَن الْحَاكِم طعن فِيمَا أَشَارَ الطَّحَاوِيّ إِلَى أَنه الصَّوَاب؛ فَقَالَ: رِوَايَة هِشَام عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم لم اأت من وَجه مُعْتَمد.
قلت: لَكِن أَتَى بهَا الطَّبَرَانِيّ من وَجه مُعْتَمد؛ فَقَالَ: حَدثنَا عَلّي بن عبد الْعَزِيز، عَن حجاج بن منهال، عَن همام بن يَحْيَى، عَن هِشَام (بن) عُرْوَة، عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، عَن عُرْوَة، وكل هَؤُلَاءِ ثِقَات.(2/462)
نعم؛ هَذِه الطَّرِيقَة مرجوحة (لمُخَالفَة) الجم الْغَفِير إِيَّاهَا عَن هِشَام، وَذكر أَبُو مُحَمَّد بن حزم (فِي «محلاه» اعتراضًا آخر، فَقَالَ: إِن قيل: خبر بسرة هَذَا [رَوَاهُ] الزُّهْرِيّ، عَن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم) عَن عُرْوَة. ثمَّ أجَاب عَنهُ فَقَالَ: قُلْنَا: مرْحَبًا بِهَذَا، وَعبد الله ثِقَة، وَالزهْرِيّ لَا خلاف أَنه سمع من عُرْوَة وجالسه؛ فَرَوَاهُ عَن عُرْوَة، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن أبي بكر، عَن عُرْوَة فَهَذَا قُوَّة للْخَبَر.
قلت: فقد اتَّضَح صِحَة حَدِيث بسرة هَذَا - بِحَمْد الله وَمِنْه - وَزَالَ عَنهُ مَا طعن فِيهِ، وَلَقَد أحسن الْحَافِظ أَبُو حَامِد أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن بن الشَّرْقِي تلميذ مُسلم؛ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْحَاكِم: هُوَ صَاحب الصِّحَاح - فِيمَا حَكَى عَنهُ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد النصراباذي الْفَقِيه - قَالَ: استقبلني أَبُو حَامِد (بن) الشَّرْقِي وَأَنا مُتَوَجّه إِلَى منزلي، فَقلت: أَيهَا الشَّيْخ، مَا تَقول فِي مس الذّكر؛ أيصح من جِهَة الْإِسْنَاد؟ فَقَالَ: بلَى هُوَ حَدِيث صَحِيح. فَقلت: إِن مَشَايِخ أَصْحَابك يَقُولُونَ: لَا يَصح! قَالَ: من يَقُول هَذَا؟ قلت: أَبُو بكر بن إِسْحَاق، وَأَبُو عَلّي الْحَافِظ، فَقَالَ: أما أَبُو بكر بن إِسْحَاق فقد سبق مني أَنِّي لَا أَقُول فِي (حَدِيثه) شَيْئا؛ وَأما أَبُو عَلّي فلقيط (لَا) يدْرِي مَا الحَدِيث، وَأما أَنْت فحائك، والْحَدِيث صَحِيح.(2/463)
قلت: وَلم تنفرد بسرة أَيْضا بِهَذِهِ السّنة؛ بل رَوَاهَا جماعات من الصَّحَابَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غَيرهَا: أَبُو هُرَيْرَة، وَزيد بن خَالِد، ذكرهمَا التِّرْمِذِيّ، وَجَابِر ذكره أَيْضا، وَقَالَ الضياء فِي «أَحْكَامه» : لَا أرَى بِإِسْنَادِهِ بَأْسا. وَسَبقه إِلَى ذَلِك ابْن عبد الْبر؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إِسْنَاده صَالح؛ كل مَذْكُور فِيهِ ثِقَة. وَأم حَبِيبَة رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَذكره التِّرْمِذِيّ أَيْضا (وَقَالَ) : قَالَ أَبُو زرْعَة: (هُوَ) حَدِيث صَحِيح، وَأعله مُحَمَّد - يَعْنِي: البُخَارِيّ - بِأَن مَكْحُولًا لم يسمع من عَنْبَسَة الرَّاوِي عَن أم حَبِيبَة.
قلت: وَبِهَذَا أعله أَبُو زرْعَة - فِيمَا حَكَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي (مراسيله) عَنهُ - وَأَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ وَيَحْيَى بن معِين فِي (رِوَايَة) وَقَالَ ابْن عبد الْبر: صَحَّ عِنْد أهل الْعلم سَماع مَكْحُول مِنْهُ، ذكره دُحَيْم وَغَيره، وَذكر الْبَيْهَقِيّ عَن الْحَاكِم أَنه قَالَ: هَذَا حَدِيث (صَحِيح) حدّث بِهِ الإِمَام أَحْمد، وَيَحْيَى بن معِين، وأئمة الحَدِيث عَن أبي مسْهر، وَكَانَ يَحْيَى بن معِين يثبت سَماع مَكْحُول من عَنْبَسَة، فَإِذا ثَبت سَمَاعه فَهُوَ أصح حَدِيث فِي الْبَاب.
وَنقل الْخلال فِي «علله» عَن أَحْمد أَنه صَححهُ، وَأَبُو أَيُّوب،(2/464)
وأرْوَى بنت أنيس، وَعَائِشَة، ذكرهم التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وأعل أَبُو حَاتِم حَدِيث عَائِشَة كَمَا ذكره عَنهُ ابْنه فِي «علله» وَعبد الله بن عَمْرو، ذكره أَيْضا، وَقَالَ فِي «علله» قَالَ لي مُحَمَّد - يَعْنِي البُخَارِيّ -: إِنَّه عِنْدِي صَحِيح. وَكَذَا قَالَ الْحَازِمِي فِي (ناسخه ومنسوخه) ، وَسعد بن أبي وَقاص، وَأم سَلمَة (ذكرهمَا) الْحَاكِم، وَجَمِيع مَا (قبله) أَيْضا، وَابْن عَبَّاس (رَوَاهُ) ابْن عدي، وَابْن (عمر) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، والنعمان بن بشير، وَأبي بن كَعْب، وَأنس بن مَالك، وَمُعَاوِيَة بن حيدة، وَقبيصَة (ذكرهم) ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» فَهَؤُلَاءِ سَبْعَة عشر من الصَّحَابَة رووا مثل رِوَايَة بسرة، وَذكر التِّرْمِذِيّ مِنْهُم ثَمَانِيَة وأهمل (تِسْعَة) وَذكر الْحَاكِم مِنْهُم عشرَة وأهمل سَبْعَة؛ فاستفدهم.
وَأما الحَدِيث الْمَشْهُور فِي هَذَا الْبَاب الَّذِي يضاد حَدِيث بسرة هَذَا فَهُوَ حَدِيث قيس بن طلق بن عَلّي، عَن أَبِيه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن مس الذّكر فِي الصَّلَاة، فَقَالَ: (هَل) هُوَ إِلَّا بضعَة مِنْك - أَو مُضْغَة مِنْك» رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة،(2/465)
وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، فانقسم النَّاس فِيهِ إِلَى مضعف لَهُ ومصحح مؤول.
فَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» و «تَحْقِيقه» من طرق وضعفها كلهَا، قَالَ: وَقيس بن طلق ضعفه أَحْمد وَيَحْيَى، وَسَبقه إِلَى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» فأوضح علته، وَنقل هُوَ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن أبي حَاتِم أَنه سَأَلَ أَبَاهُ وَأَبا زرْعَة عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَا: قيس بن طلق لَيْسَ مِمَّن تقوم بِهِ حجَّة. ووهناه وَلم يثبتاه.
قَالَ الشَّافِعِي: قد سَأَلنَا عَن قيس فَلم نجد من يعرفهُ بِمَا يكون لنا فِيهِ قبُول خَبره، وَقد عَارضه من وَصفنَا ثقته ورجاحته فِي الحَدِيث وثبته - يَعْنِي: حَدِيث بسرة.
وَأما ابْن حزم؛ فَإِنَّهُ صَححهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : إِنَّه أحسن شَيْء رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب - يَعْنِي (فِي) ترك الْوضُوء مِنْهُ. وَقَالَ ابْن مَنْدَه عَن عَمْرو بن عَلّي الفلاس أَنه قَالَ: حَدِيث قيس عندنَا أثبت من حَدِيث بسرة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: هَذَا حَدِيث مُسْتَقِيم الْإِسْنَاد غير مُضْطَرب فِي إِسْنَاده وَلَا مَتنه، فَهُوَ أولَى عندنَا مِمَّا رَوَيْنَاهُ أَولا من الْآثَار(2/466)
المضطربة فِي أسانيدها، ثمَّ رَوَى عَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ أَنه قَالَ: إِنَّه أحسن من حَدِيث بسرة، وخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من طَرِيق عبد الله بن بدر عَن قيس، وَمن طَرِيق عِكْرِمَة بن عمار، عَن قيس بِهِ (ثمَّ) قَالَ: إِنَّه خبر مَنْسُوخ؛ لِأَن طلق بن عَلّي كَانَ قدومه عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أول سنة من سني الْهِجْرَة، حَيْثُ كَانَ الْمُسلمُونَ يبنون مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْمَدِينَةِ [2] .
ثمَّ سَاق كَذَلِك بِإِسْنَادِهِ، و (قد) رَوَى أَبُو هُرَيْرَة إِيجَاب الْوضُوء من مس الذّكر، وَأَبُو هُرَيْرَة أسلم سنة سبع من الْهِجْرَة، (فَدلَّ) ذَلِك(2/467)
عَلَى أَن خبر أبي هُرَيْرَة كَانَ بعد خبر طلق بن عَلّي بِسبع سِنِين، ثمَّ ذكر حَدِيثا بِإِسْنَادِهِ يدل عَلَى أَن طلق بن عَلّي رَجَعَ إِلَى بِلَاده بعد قَدمته.
ثمَّ قَالَ ابْن حبَان: وَلَا نعلم لَهُ رُجُوعا إِلَى الْمَدِينَة بعد ذَلِك، فَمن ادَّعَى رُجُوعه بعد ذَلِك فَعَلَيهِ أَن يَأْتِي بِسنة مصرحة، وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى ذَلِك.
وَهَذَا الْجَواب الَّذِي ذكره أَبُو حَاتِم مَشْهُور (ذكره الْخطابِيّ وَالْبَيْهَقِيّ) وأصحابنا فِي كتب الْمَذْهَب؛ قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «إِعْلَامه» : وَهُوَ مُحْتَمل. وَقَالَ الْحَازِمِي: (و) إِذا ثَبت أَن حَدِيث طلق مُتَقَدم، وَأَحَادِيث الْمَنْع مُتَأَخِّرَة وَجب الْمصير إِلَيْهَا، وَصَحَّ ادِّعَاء النّسخ فِي ذَلِك. قَالَ: ثمَّ نَظرنَا هَل نجد أمرا يُؤَكد مَا صرنا إِلَيْهِ، فَوَجَدنَا طلقًا رَوَى حَدِيثا فِي الْمَنْع، فدلنا ذَلِك عَلَى صِحَة النَّقْل فِي إِثْبَات النّسخ، وَأَن طلقًا شَاهد الْحَالَتَيْنِ، ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث الطَّبَرَانِيّ، نَا الْحسن بن عَلّي الْفَسَوِي، نَا حَمَّاد بن مُحَمَّد الْحَنَفِيّ، نَا أَيُّوب بن عتبَة، عَن قيس بن طلق، عَن أَبِيه، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من مس فرجه فَليَتَوَضَّأ» .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» : لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن أَيُّوب بن عتبَة إِلَّا حَمَّاد بن مُحَمَّد، وهما عِنْدِي صَحِيحَانِ - يَعْنِي: حَدِيث طلق هَذَا، وَحَدِيثه الَّذِي قبله - وَيُشبه أَن يكون سمع الحَدِيث الأول من(2/468)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل هَذَا، ثمَّ سمع هَذَا بعد، فَسمع النَّاسِخ والمنسوخ، فَوَافَقَ حَدِيث بسرة (وموافقتها) .
قلت: بل قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ: إِن بسرة أسلمت عَام الْفَتْح فَيكون نَاسِخا مَعَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
وَقد اجْتمع - بِحَمْد الله وَمِنْه - فِي الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث فَوَائِد جمة لَا تُوجد مَجْمُوعَة هَكَذَا فِي تصنيف، وَللَّه الْحَمد عَلَى ذَلِك.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا أَفْضَى أحدكُم بِيَدِهِ إِلَى فرجه، لَيْسَ دونهَا حجاب وَلَا (ستر) فقد وَجب (عَلَيْهِ) الْوضُوء» .
هَذَا (الحَدِيث) (يرْوَى) من طَرِيقين:
الأولَى: من حَدِيث يزِيد بن عبد الْملك النَّوْفَلِي، عَن المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِهِ، رَوَاهَا الشَّافِعِي، وَالْبَزَّار، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَاللَّفْظ لَهُ، وَالْبَيْهَقِيّ، وأعلت بِوَجْهَيْنِ:(2/469)
أَحدهمَا: بالضعف بِسَبَب يزِيد بن عبد الْملك وَقد ضَعَّفُوهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : تكلمُوا فِيهِ. قَالَ: وَسُئِلَ أَحْمد عَنهُ فَقَالَ: شيخ من أهل الْمَدِينَة، لَيْسَ بِهِ بَأْس.
قلت: وَكَذَا نَقله الْحَازِمِي عَنهُ، وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» عَنهُ أَنه قَالَ: عِنْده مَنَاكِير (و) قَالَ يَحْيَى وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَفِي رِوَايَة عَن يَحْيَى: مَا بِهِ بَأْس. وَقَالَ البُخَارِيّ: أَحَادِيثه شبه لَا شَيْء. وَضَعفه جدًّا، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مُنكر الحَدِيث (جدًّا. وَقَالَ السَّاجِي: ضَعِيف، مُنكر الحَدِيث) وَاخْتَلَطَ بِآخِرهِ. وَقَالَ الْبَزَّار: لين الحَدِيث. قَالَ: وَلَا نعلمهُ يرْوَى عَن أبي هُرَيْرَة (بِهَذَا) اللَّفْظ إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. كَذَا قَالَ، وستعلم مَا (يُخَالِفهُ) .
الْوَجْه الثَّانِي: الِانْقِطَاع بَين النَّوْفَلِي وَسَعِيد المَقْبُري؛ فَإِنَّهُ ذكر عَن يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ: سقط بَينهمَا رجل، وَقد رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن عبد الله بن نَافِع، عَن النَّوْفَلِي، عَن أبي مُوسَى الحنَّاط، عَن سعيد، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من جِهَة عبد الْعَزِيز بن مِقْلَاص عَن الشَّافِعِي بِهِ، قَالَ يَحْيَى بن معِين: أَبُو مُوسَى هَذَا رجل مَجْهُول، وَعبد الله(2/470)
بن نَافِع هُوَ الصَّائِغ صَاحب مَالك، أَثْنَى عَلَيْهِ غير وَاحِد من الْعلمَاء، وَأخرج لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» وَالْأَرْبَعَة، وَقَالَ أَحْمد: لم يكن يحفظ الحَدِيث، كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الرَّأْي.
قلت: فَظهر (مِمَّا) قَرَّرْنَاهُ (رد) هَذِه الطَّرِيقَة بالضعف والانقطاع، وَمَعَ تَقْدِير الِاتِّصَال فِيهَا جَهَالَة أَيْضا، لَكِن نقل الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ فِي رِوَايَة حَرْمَلَة: إِن يزِيد بن عبد الْملك سمع من سعيد المَقْبُري، فتقوى بعض الْقُوَّة (مَعَ) تليين الْبَزَّار وَالْبَيْهَقِيّ يزِيد بن عبد الْملك، (وشهرة) الحَدِيث من طَرِيق عَن سعيد (المَقْبُري) بِغَيْر وَاسِطَة. لَا جرم قَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن جمَاعَة، فِي إِسْنَاده بعض الشَّيْء، لَكِن ذكر الْبَيْهَقِيّ لَهُ طرقًا فالتحق بِمَجْمُوع ذَلِك بِنَوْع الْحسن الَّذِي يحْتَج بِهِ.
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: وَعَلَيْهَا الِاعْتِمَاد، وَكَانَ يجب تَقْدِيمهَا، وَقد صححها غير وَاحِد من الْحفاظ مِنْهُم: أَبُو حَاتِم بن حبَان؛ فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أصبغ بن الْفرج، نَا عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن يزِيد بن عبد الْملك وَنَافِع بن أبي نعيم الْقَارئ، عَن المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا أَفْضَى أحدكُم بِيَدِهِ إِلَى فرجه، وَلَيْسَ بَينهمَا ستر وَلَا حجاب فَليَتَوَضَّأ» .
ثمَّ قَالَ: احتجاجنا فِي هَذَا الْخَبَر بِنَافِع بن أبي نعيم دون يزِيد(2/471)
بن عبد الْملك النَّوْفَلِي؛ لِأَن يزِيد بن عبد الْملك تبرأنا من عهدته فِي «كتاب الضُّعَفَاء» ، وَقَالَ فِي كِتَابه «وصف الصَّلَاة بِالسنةِ» بعد أَن أخرجه: هَذَا حَدِيث صَحِيح سَنَده، عدُول نقلته. وَمِنْهُم الْحَاكِم أَبُو عبد الله؛ فَإِنَّهُ أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث أصبغ - أَيْضا - نَا عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، نَا نَافِع بن أبي نعيم، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من مس فرجه فَليَتَوَضَّأ» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح. قَالَ: وَشَاهده الحَدِيث الْمَشْهُور، عَن يزِيد بن عبد الْملك، عَن سعيد بن أبي سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة - يَعْنِي الطَّرِيقَة الأولَى - وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ كَمَا أخرجه ابْن حبَان، وَكَذَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن نَافِع إِلَّا عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم الْفَقِيه الْمصْرِيّ، وَلَا عَن عبد الرَّحْمَن إِلَّا أصبغ؛ تفرد بِهِ أَحْمد بن سعيد. وَأخرجه الْحَافِظ أَبُو عمر بن عبد الْبر من هَذِه الطَّرِيقَة ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَالح صَحِيح - إِن شَاءَ الله. قَالَ: وَقَالَ ابْن السكن: هَذَا الحَدِيث من أَجود مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب؛ لرِوَايَة ابْن الْقَاسِم صَاحب مَالك لَهُ، عَن نَافِع بن أبي نعيم. قَالَ: وَأما يزِيد بن عبد الْملك فضعيف. قَالَ أَبُو عمر: (و) حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا لَا يعرف إِلَّا بِيَزِيد بن عبد الْملك هَذَا، حَتَّى رَوَاهُ أصبغ بن الْفرج، عَن ابْن الْقَاسِم، عَن نَافِع بن أبي نعيم، وَيزِيد بن عبد الْملك النَّوْفَلِي جَمِيعًا، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة. وَأصبغ(2/472)
وَابْن الْقَاسِم ثقتان فقيهان، فصح الحَدِيث بِنَقْل الْعدْل عَن الْعدْل - عَلَى مَا ذكر ابْن السكن - إِلَّا أَن أَحْمد بن حَنْبَل لَا يرْضَى بِنَافِع بن أبي نعيم، أَي فَإِنَّهُ يَقُول فِيهِ: يُؤْخَذ عَنهُ الْقُرْآن وَلَيْسَ بِشَيْء فِي الحَدِيث، وَخَالفهُ ابْن معِين فَقَالَ: هُوَ ثِقَة.
قلت: هُوَ أحد السَّبْعَة، وَوَثَّقَهُ مَعَ يَحْيَى أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فَقَالَ: صَالح الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عدي: مُسْتَقِيم الحَدِيث. وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَأخرج لَهُ فِي «صَحِيحه» كَمَا سلف؛ فَهَذِهِ الطَّرِيقَة مُحْتَج بهَا، وَإِن (كَانَ) فِيهَا بعض لين، وَقد شهد لَهَا هَؤُلَاءِ بِالصِّحَّةِ، وَإِن نَافِعًا تَابع النَّوْفَلِي وأسقطه الْحَاكِم - أَعنِي: النَّوْفَلِي - من (رِوَايَته) كَمَا سقته لَك، وَاقْتصر عَلَى رِوَايَة نَافِع، وَاسْتشْهدَ بِرِوَايَة النَّوْفَلِي.
ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك أَن الإِمَام الرَّافِعِيّ لم يفصح بإيراد الحَدِيث كَمَا ذكرته لَك، وَإِنَّمَا قَالَ: وَإِنَّمَا ينْتَقض الْوضُوء إِذا مس بِبَطن الْكَفّ، وَالْمرَاد بالكف: الرَّاحَة وبطون الْأَصَابِع. وَقَالَ أَحْمد: تنْتَقض الطَّهَارَة سَوَاء مس بِظهْر الْكَفّ أَو بِبَطْنِهَا. لنا الْأَخْبَار الْوَارِدَة، جَرَى فِي بَعْضهَا لفظ (الْمس) وَفِي بَعْضهَا لفظ «الْإِفْضَاء» ، وَمَعْلُوم أَن المُرَاد مِنْهُمَا وَاحِد، والإفضاء فِي اللُّغَة: الْمس بِبَطن الْكَفّ هَذَا كَلَامه، فَذكرت حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي الْإِفْضَاء لإشارته إِلَيْهِ، وَأَشَارَ بِمَا ذكره أَيْضا، إِلَّا أَن الْإِفْضَاء (مُبين مُقَيّد؛ فَيحمل الْمُطلق عَلَيْهِ. لَكِن فِيمَا نَقله عَن أهل اللُّغَة(2/473)
أَن الْإِفْضَاء:) الْمس بِبَطن الْكَفّ فَقَط (نظرا) فقد قَالَ ابْن سَيّده: أَفْضَى فلَان إِلَى فلَان: وصل. والوصول أَعم (من) أَن يكون بِظَاهِر الْكَفّ أَو بَاطِنه تركنَا وَسلمنَا أَنه بِبَطن الْكَفّ؛ فالمسّ شَامِل للإفضاء وَغَيره، والإفضاء فردٌ من أَفْرَاده، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيص عَلَى الْمَشْهُور فِي الْأُصُول، نعم؛ طَرِيق الِاسْتِدْلَال أَن يُقَال: مَفْهُوم الشَّرْط يدل عَلَى أَن غير الْإِفْضَاء لَا ينْقض؛ فَيكون تَخْصِيصًا لعُمُوم الْمَنْطُوق، وَتَخْصِيص الْعُمُوم بِالْمَفْهُومِ جَائِز.
وَادَّعَى ابْن حزم فِي «محلاه» : أَن قَول الشَّافِعِي إِن الْإِفْضَاء لَا يكون إِلَّا بِبَطن الْكَفّ؛ لَا دَلِيل عَلَيْهِ من قُرْآن وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع، وَلَا قَول صَاحب وَلَا قِيَاس ورأي صَحِيح، وَأَنه لَا يَصح فِي الْآثَار «من أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى فرجه» وَلَو صَحَّ؛ فالإفضاء يكون بِظهْر (الْكَفّ) كَمَا يكون بِبَطْنِهَا.
قلت: قد صَحَّ لفظ الْإِفْضَاء - كَمَا قَرَّرْنَاهُ - وَعرفت طَرِيق الِاسْتِدْلَال، فقوي قَول الشَّافِعِي، وَللَّه الْحَمد.
(و) وَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ أَنه جَرَى فى بعض الْأَخْبَار لفظ اللَّمْس وَهَذَا لم أره بعد الْبَحْث عَنهُ، والنسخ الْمُعْتَمدَة من الرَّافِعِيّ لَيْسَ فِيهَا هَذِه الزِّيَادَة.(2/474)
الحَدِيث الْخَامِس عشر
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ويل للَّذين يمسون فروجهم ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ! قَالَت عَائِشَة: بِأبي وَأمي؛ هَذَا للرِّجَال، أَفَرَأَيْت النِّسَاء؟ ! قَالَ: إِذا مست إحداكن فرجهَا فلتتوضأ للصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عمر بن حَفْص الْعمريّ، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء، ثمَّ قَالَ: عبد الرَّحْمَن الْعمريّ: ضَعِيف. قلت: وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ عَنهُ فِي «الضُّعَفَاء» أَنه قَالَ إِنَّه مَتْرُوك. وَكَذَا قَالَ فِيهِ النَّسَائِيّ وَأَبُو زرْعَة.
قلت: وَقد صَحَّ هَذَا من قَوْلهَا، قَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : صحت الرِّوَايَة عَن عَائِشَة بنت الصّديق أَنَّهَا قَالَت: «إِذا مست الْمَرْأَة فرجهَا تَوَضَّأت» ثمَّ سَاق: من حَدِيث (إِسْحَاق) بن مُحَمَّد الْفَروِي، عَن عبيد الله بن عمر، وَمن حَدِيث الشَّافِعِي، عَن الْقَاسِم بن عبد الله، عَن أَبِيه، عَن عبيد الله بن عمر، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، عَن عَائِشَة: «إِذا مست الْمَرْأَة فرجهَا بِيَدِهَا فعلَيْهَا الْوضُوء» وَمن حَدِيث عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن عبيد الله بن (عمر) بِاللَّفْظِ الأول.(2/475)
وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث أوردهُ الرَّافِعِيّ دَلِيلا عَلَى أَن حكم فرج الْمَرْأَة فِي الْمس حكم الذّكر، ويغني عَنهُ فِي الدّلَالَة حَدِيث بسرة السالف؛ فَإِنَّهُ فِي بعض (رواياته) «من مس فرجه فَليَتَوَضَّأ» كَمَا أسلفناه عَن رِوَايَة ابْن حبَان، وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «فليعد الْوضُوء» كَمَا سلف أَيْضا.
ثمَّ قَالَ: لَو كَانَ المُرَاد مِنْهُ غسل الْيَدَيْنِ كَمَا قَالَ بعض النَّاس؛ لما قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «فليعد الْوضُوء» إِذْ الْإِعَادَة لَا تكون إِلَّا للْوُضُوء الَّذِي هُوَ للصَّلَاة، ثمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَن بسرة أَيْضا مَرْفُوعا: «من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة» وَفِي لفظ (لَهُ) : «إِذا مس أحدكُم فرجه فَليَتَوَضَّأ» وَفِي رِوَايَة (للْحَاكِم) : «من مس فرجه (فَلَا) يُصَلِّي حَتَّى يتَوَضَّأ» .
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» عَن الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن بسرة، (و) عَن مَرْوَان، عَن بسرة «أَنَّهَا سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَأْمر بِالْوضُوءِ من مس الْفرج» . (و) هَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط الصَّحِيح. وَفِي رِوَايَة للدارقطني: «إِذا مس الرجل ذكره فَليَتَوَضَّأ، وَإِذا مست الْمَرْأَة قبلهَا فلتتوضأ» رَوَاهُ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن (هِشَام)(2/476)
بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن مَرْوَان، عَن بسرة، وَرِوَايَة إِسْمَاعِيل عَن الْحِجَازِيِّينَ مستضعفة، كَمَا ستعلمه فِي بَاب الْغسْل - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - وَفِي «مُسْند أَحْمد (بن حَنْبَل) » و «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَيّمَا رجل مسّ فرجه فَليَتَوَضَّأ، وَأَيّمَا امْرَأَة مست فرجهَا فلتتوضأ» وَهُوَ حَدِيث صَحِيح كَمَا أسلفناه فِي الْكَلَام عَلَى حَدِيث بسرة، عَن البُخَارِيّ وَغَيره.
الحَدِيث السَّادِس عشر
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «من مس الْفرج الْوضُوء» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث بسرة بِنَحْوِهِ كَمَا سلف (آنِفا) بِإِسْنَاد عَلَى شَرط الصَّحِيح، والرافعي (ذكره) دَلِيلا لِلْقَوْلِ الْقَدِيم فِي النَّقْض (بِمَسّ) فرج الْبَهِيمَة فَقَالَ: لظَاهِر قَوْله: «من مس الْفرج الْوضُوء» وَقد (سلفت) لَك طرق حَدِيث بسرة وَأَنه فِي مس الذّكر أَو (فِي) مس فرجه، فَلَعَلَّ من رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، وَهَذَا سِيَاق (رِوَايَة) الطَّبَرَانِيّ (بِتَمَامِهَا) عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ:(2/477)
«تَذَاكر هُوَ ومروان الْوضُوء من مس الْفرج، فَقَالَ مَرْوَان: حَدِيث بسرة بنت صَفْوَان أَنَّهَا سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَأْمر بِالْوضُوءِ من مس الْفرج. فَكَأَن عُرْوَة لم يرجع لحديثه فَأرْسل مَرْوَان إِلَيْهَا شرطيًّا، فَرجع (فَأخْبرهُم) أَنَّهَا سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَأْمر بِالْوضُوءِ من مس الْفرج» .
الحَدِيث السَّابِع عشر
رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مسّ زبيبة الْحسن أَو الْحُسَيْن عَلَيْهِمَا السَّلَام وَصَلى وَلم (يُرو أَنه تَوَضَّأ) » .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي لَيْلَى الْأنْصَارِيّ قَالَ: «كُنَّا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فجَاء الْحسن فَأقبل يتمرغ (عَلَيْهِ) فَرفع عَن قَمِيصه (و) قبل زبيبته» .
ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ. قَالَ: وَلَيْسَ فِيهِ أَنه مسّه بِيَدِهِ ثمَّ صَلَّى وَلم يتَوَضَّأ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي (أَحْكَام النّظر) : إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْوَسِيط» : هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، رَوَيْنَاهُ فِي «السّنَن الْكَبِير» (يَعْنِي) للبيهقي عَن أبي لَيْلَى الْأنْصَارِيّ يتداوله بطُون من وَلَده، مِنْهُم من لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «تنقيحه» إِنَّه ضَعِيف مُتَّفق عَلَى ضعفه. وَضَعفه أَيْضا فِي «شَرحه» و «خلاصته» .
ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك أَن الرَّافِعِيّ تبع فِي رِوَايَة الحَدِيث الْحسن أَو(2/478)
الْحُسَيْن عَلَى التَّرَدُّد الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك فِي «وسيطه» وَالْغَزالِيّ تبع إِمَامه، فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك فِي «نهايته» ، وَأَشَارَ ابْن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْوَسِيط» إِلَى الْإِنْكَار عَلَى الْغَزالِيّ، فَقَالَ بعد أَن عزا الحَدِيث للبيهقي: وَالصَّغِير فِيهِ هُوَ الْحسن المكبر. وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فِي «تنقيحه» فَقَالَ: إِنَّه شكّ من الْغَزالِيّ، وَإِنَّمَا هُوَ الْحسن - بِفَتْح الْحَاء - مكبر، وَقد علمت أَن هَذَا الشَّك سبقه إِلَيْهِ إِمَامه؛ فَلَا إِنْكَار عَلَيْهِ.
ثمَّ مكثت دهرًا أبحث عَن رِوَايَة الْحُسَيْن - مُصَغرًا - فظفرت بهَا - بِحَمْد الله (وَمِنْه) - فِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» صَرِيحًا، فصح حِينَئِذٍ مَا وَقع فِي هَذِه الْكتب؛ فَإِنَّهُ إِشَارَة إِلَى الرِّوَايَتَيْنِ.
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: حَدثنَا الْحسن بن عَلّي الْفَسَوِي، ثَنَا خَالِد بن يزِيد، نَا جرير، عَن قَابُوس بن أبي ظبْيَان، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فرّج مَا بَين فَخذي الْحُسَيْن وَقبل زبيبته» وقابوس هَذَا قَالَ النَّسَائِيّ (وَغَيره:) لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قلت: وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث الْبَيْهَقِيّ دلَالَة عَلَى أَنه صَلَّى عقب ذَلِك؛ فَكيف يحسن استدلالهم بِهِ عَلَى عدم النَّقْض بِمَسّ (فرج) الصَّغِير؟ ! نعم؛ هُوَ دَلِيل عَلَى جَوَاز مسّه، وَأجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ من وَرَاء حَائِل.(2/479)
قَالَ الإِمَام فِي «نهايته» : مَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من تَقْبِيل زبيبة الْحسن أَو الْحُسَيْن (عَلَيْهِمَا السَّلَام مَحْمُول) عَلَى جَرَيَان ذَلِك (من) وَرَاء ثوب، وَتَبعهُ الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» فَتنبه لذَلِك.
(فَائِدَة: الزبيبة - بِضَم الزَّاي، وَفتح الْبَاء تَصْغِير -: الزب، وَهُوَ الذّكر. وألحقت الْيَاء فِيهِ كَمَا ألحقت فِي عسيلة ودهينة (قَالَه) النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» وَذكر فِي (الصِّحَاح) لهَذِهِ اللَّفْظَة مَعَاني مِنْهَا اللِّحْيَة، وَلم يذكر فِيهَا الذّكر أصلا) .
الحَدِيث الثَّامِن عشر
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «إِذا وجد أحدكُم فِي بَطْنه شَيْئا فأشكل عَلَيْهِ؛ أخرج مِنْهُ شَيْء أم لَا؟ فَلَا يخرجنَّ من الْمَسْجِد حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم كَذَلِك، وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاده. (و) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «إِذا كَانَ أحدكُم فِي الصَّلَاة فَوجدَ حَرَكَة فِي دبره، أحدث أَو لم يحدث فأشكل عَلَيْهِ، فَلَا ينْصَرف (حَتَّى(2/480)
يسمع) صَوتا أَو يجد ريحًا» (زَاد أَبُو عبيد فِي كِتَابه «الطّهُور» : «أَو يرَى بللاً» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: «إِذا كَانَ أحدكُم فِي الْمَسْجِد فَوجدَ ريحًا بَين أليتيه، فَلَا يخرج حَتَّى يسمع صَوتا، أَو يجد ريحًا» ) ثمَّ قَالَ: حسن صَحِيح.
قلت: وَمثله فِي الدّلَالَة حَدِيث عبد الله بن زيد «شكي إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الرجل يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة، قَالَ: لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا» . وَهُوَ مِمَّا اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَى إِخْرَاجه، وَفِي بعض طرق البُخَارِيّ أَن عبد الله بن زيد هُوَ الشاكي، وَفِي رِوَايَة (لَهُ) (لَا يَنْفَتِل (أَو) لَا ينْصَرف) .
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن الشَّيْطَان ليَأْتِي أحدكُم فينفخ بَين أليتيه وَيَقُول: أحدثت أحدثت؛ فَلَا ينصرفن حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك الْغَزالِيّ، وَالْغَزالِيّ تبع إِمَامه؛ فَإِنَّهُ ذكره كَذَلِك بِقصَّة، وَقَالَ: إِن الشَّافِعِي اسْتدلَّ بِهِ. وَذكره الْمَاوَرْدِيّ فِي «حاويه» فِي الصَّلَاة وَفِي الشَّك فِي الطَّلَاق (و) قَالَ الْفَقِيه(2/481)
نجم الدَّين بن الرّفْعَة فِي «مطلبه» : لم أظفر بِهِ.
قلت: قد ذكره نَاصِر مذْهبه عَنهُ (أَعنِي) الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) (بِغَيْر) إِسْنَاد، فَقَالَ فِي بَاب الشَّك فِي الطَّلَاق: قَالَ الرّبيع: قَالَ الشَّافِعِي: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن الشَّيْطَان (يَأْتِي) أحدكُم فينفخ بَين أليتيه، فَلَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا» وَكَذَا هُوَ فِي «مُخْتَصر الْمُزنِيّ» فِي بَاب الشَّك فِي الطَّلَاق، وَقَالَ: «يشم» بدل «يجد» ، وَقَالَ فِي بَاب عدَّة زَوْجَة الْمَفْقُود: وَقَالَ الشَّافِعِي: وَحَدِيث النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن الشَّيْطَان تفل عِنْد عجيزة أحدكُم حَتَّى يخيل إِلَيْهِ أَنه قد أحدث؛ فَلَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا» ثمَّ ذكر من حَدِيث عبد الله بن زيد السالف فِي الحَدِيث قبله بِلَفْظ: «إِن الشَّيْطَان ينفر عِنْد عجيزة أحدكُم حَتَّى يخيل إِلَيْهِ أَنه قد أحدث، فَلَا يتَوَضَّأ حَتَّى يجد ريحًا يعرفهُ أَو صَوتا يسمعهُ» قَالَ: وَقد مَضَى هَذَا (فِي) الحَدِيث الثَّابِت عَن عبد الله بن زيد دون ذكر الشَّيْطَان؛ أَي: فَإِن هَذِه الزِّيَادَة فِي سندها: ابْن لَهِيعَة.
قلت: وَنَحْوه حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَأنس، وَقد ذكرتهما فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الْوَسِيط» الْمُسَمَّى ب «تذكرة الأخيار بِمَا فِي الْوَسِيط من الْأَخْبَار» فَرَاجعهَا مِنْهُ.
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ فِي الرَّد عَلَى مَالك فِي تفرقته بَين الشَّك فِي(2/482)
الصَّلَاة وخارجها مَا رَوَيْنَاهُ فِي الْخَبَر حجَّة عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُطلق.
قلت: لَكِن رِوَايَة أبي دَاوُد السالفة (توافقه) فَإِنَّهَا مُقَيّدَة بِالصَّلَاةِ، فَاعْلَم ذَلِك.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ «فِي الَّذِي لَهُ مَا للرِّجَال، وَمَا للنِّسَاء: يُورث من حَيْثُ يَبُول» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْكَلْبِيّ، عَن أبي صَالح، عَن ابْن عَبَّاس: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن مولودٍ ولد لَهُ قبل وَذكر؛ من أَيْن يُورث؟ (فَقَالَ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يُورث من حَيْثُ يَبُول» .
وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف. أما الْكَلْبِيّ، وَهُوَ مُحَمَّد بن السَّائِب بن (بشر) الْكُوفِي (فواه) ، وَقد نسبه إِلَى الْكَذِب: زَائِدَة، وَلَيْث، وَابْن معِين، وَجَمَاعَة. قَالَ ابْن حبَان: وضوح الْكَذِب فِيهِ أظهر من أَن يحْتَاج إِلَى الإغراق فِي وَصفه. (وَرَوَى) عَن أبي صَالح، عَن ابْن عَبَّاس التَّفْسِير، وَأَبُو صَالح لم ير ابْن عَبَّاس (وَلَا سمع) مِنْهُ، لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ. وَأَبُو صَالح هَذَا فَلَيْسَ بِأبي صَالح ذكْوَان السمان، الْمخْرج لَهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَن أبي هُرَيْرَة؛ إِنَّمَا هُوَ: باذام - بباء مُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ ذال مُعْجمَة ثمَّ ألف ثمَّ مِيم، وَيُقَال: بنُون بدلهَا -(2/483)
مولَى أم هَانِئ بنت أبي طَالب الْكُوفِي، تكلم فِيهِ غير وَاحِد، وَترك ابْن مهْدي الرِّوَايَة عَنهُ، وَضَعفه البُخَارِيّ وَقَالَ س: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ فِي «سنَنه الْكَبِير» : (ضَعِيف) الحَدِيث.
قَالَ: وَقد رُوِيَ أَنه قَالَ فِي مَرضه: كل شَيْء حدثتكم بِهِ فَهُوَ كذب! وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَفِي رِوَايَة عَنهُ: إِذا رَوَى عَنهُ الْكَلْبِيّ فَلَيْسَ بِشَيْء. قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «الْوَهم وَالْإِيهَام» : قد أخبر ابْن معِين عَن نَفسه بِأَنَّهُ مَتى قَالَ فِي رجل: لَيْسَ بِهِ بَأْس فَهُوَ عِنْده ثِقَة، وَضعف الْكَلْبِيّ لَا يَنْبَغِي أَن يُعْدي أَبَا صَالح، وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن يمس أَبُو صَالح بكذبة الْكَلْبِيّ عَلَيْهِ (حَيْثُ) حُكيَ عَنهُ أَنه قَالَ - (أَعنِي أَن أَبَا صَالح قَالَ) للكلبي -: كل مَا حدثتك عَن ابْن عَبَّاس كذب. فَهَذَا (من) كذب الْكَلْبِيّ عَلَيْهِ، وَهُوَ عِنْدهم كَذَّاب.
وَقَالَ ابْن عدي: عامّة مَا يرويهِ تَفْسِير. وَقَالَ يَحْيَى الْقطَّان: لم أر أحدا من أَصْحَابنَا تَركه. وَمَا سَمِعت أحدا من النَّاس يَقُول فِيهِ شَيْئا، وَقَالَ حبيب بن أبي ثَابت: كُنَّا نُسَمِّيه دُرُوغرن كَذَا نَقله عَنهُ الْمُنْذِرِيّ فِي «موافقاته» وَقَالَ: مَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ: الْكذَّاب. وَنقل غَيره عَنهُ: الدُروزن، وَفِي فاصل الرامَهُرْمُزِي: الدَّروزن - بلغَة فَارس -: الْكذَّاب. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : إِنَّه ضَعِيف جدًّا. فَأنْكر عَلَيْهِ هَذِه الْعبارَة(2/484)
ابْن الْقطَّان وَقَالَ: إِنَّمَا يُقَال مثلهَا فِي الْوَاقِدِيّ وَنَحْوه من المتروكين، فَأَما أَبُو صَالح هَذَا فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَد وَلَا من هَذَا النمط، وَلَا أَقُول: إِنَّه ثِقَة، وَلَكِنِّي أَقُول: إِنَّه لَيْسَ كَمَا توهمه هَذِه الْعبارَة؛ بل قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: سَمِعت يَحْيَى بن (سعيد) الْقطَّان يَقُول: لم أر أحدا من أَصْحَابنَا تَركه، وَقد أسلفنا ذَلِك عَنهُ.
قلت: وَقد حسن التِّرْمِذِيّ حَدِيثا من رِوَايَته عَن ابْن عَبَّاس فِي لعن زائرات الْقُبُور، لكنه غير جيد، كَمَا سَيَأْتِي - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - فِي آخر الْجَنَائِز. (عَلَى أَن) عبد الْحق لم ينْفَرد بِهَذِهِ الْعبارَة الَّتِي قَالَهَا فِي أبي صَالح، فقد قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب الْكسر بِالْمَاءِ: ضَعِيف؛ لَا يحْتَج بِخَبَرِهِ. وَقَالَ فِي بَاب أصل الْقسَامَة: أَبُو صَالح، عَن ابْن عَبَّاس: ضَعِيف.
وَفِي (هَذَا) الحَدِيث وَرَاء هَذَا كُله عِلّة ثَالِثَة، وَهِي الِانْقِطَاع فِيمَا بَين أبي صَالح، وَابْن عَبَّاس كَمَا أسلفناه عَن [ابْن حبَان] وَلم يجْزم بِهِ الْمُنْذِرِيّ فِي «اختصاره للسنن» بل قَالَ قيل: إِنَّه لم يسمع مِنْهُ، ذكره فِي حَدِيث: لعن زائرات الْقُبُور.(2/485)
فتلخص أَنه حَدِيث لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ، وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» الِاتِّفَاق عَلَى ضعفه (قَالَ:) وَرُوِيَ عَن عَلّي وَسَعِيد بن الْمسيب مثله، وَمَا أقصر ابْن الْجَوْزِيّ؛ فَإِنَّهُ ذكره فِي «مَوْضُوعَاته» بِلَفْظ: «الْخُنْثَى يُورث من قبل مباله» وَقَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، وَقد اجْتمع فِيهِ كذابون: أَبُو صَالح، والكلبي، وَسليمَان بن عَمْرو النَّخعِيّ، قَالَ ابْن عدي: وَالْبَلَاء فِيهِ من الْكَلْبِيّ.
قلت: لَكِن نقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع عَلَى مُقْتَضَى هَذَا الحَدِيث، وَأَنه يُورث من حَيْثُ مباله؛ فيستغنى بِالْإِجْمَاع عَنهُ، وَللَّه الْحَمد.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا صَلَاة إِلَّا بِطَهَارَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر بلفظين:
أَحدهمَا: «لَا تقبل صَلَاة بِغَيْر طهُور، وَلَا صَدَقَة من غُلُول» .
ثَانِيهَا: بِلَفْظ: «إِلَّا بِطهُور» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث أصح شَيْء فِي الْبَاب وَأحسن.
وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الأول، وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاده، وَوَقع فِي «شرح التَّنْبِيه» للمحب الطَّبَرِيّ أَنه من الْمُتَّفق عَلَيْهِ، وَهُوَ وهم، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عَمْرو بن شمر، عَن جَابر قَالَ:(2/486)
قَالَ الشّعبِيّ: سَمِعت مَسْرُوق بن الأجدع يَقُول: قَالَت عَائِشَة: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَا تقبل صَلَاة إِلَّا بِطهُور وبالصلاة عَلّي» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (عَمْرو) بن شمر وَجَابِر ضعيفان. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده ضَعِيف. (وَرَوَاهُ) أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أُسَامَة بن (عُمَيْر) بن عَامر الْهُذلِيّ وَالِد أبي الْمليح بِلَفْظ: «لَا يقبل الله صَدَقَة من غلُول، وَلَا صَلَاة بِغَيْر طهُور» وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ أَيْضا.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
(رُوِيَ) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة؛ إِلَّا أَن الله أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَام» .
هَذَا الحَدِيث قَالَ فِيهِ ابْن الصّلاح: إِنَّه رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس بِمَعْنَاهُ، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَرُوِيَ مَوْقُوفا من قَوْله، وَالْمَوْقُوف أصح. وَكَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ وَالنَّوَوِيّ: الصَّوَاب رِوَايَة الْوَقْف؛ زَاد النَّوَوِيّ: وَرِوَايَة الرّفْع ضَعِيفَة. هَذَا كَلَامهم، وَكَأَنَّهُم تبعوا الْبَيْهَقِيّ فِي ذَلِك؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «الْمعرفَة» بعد أَن أخرجه بِلَفْظ ابْن حبَان الْآتِي، وَسَنَده: رَفعه عَطاء(2/487)
فِي رِوَايَة جمَاعَة عَنهُ، وَرَوَى (عَنهُ) مَوْقُوفا، وَالْمَوْقُوف أصح. انْتَهَى.
وتفطن أَيهَا النَّاظر لما أوردهُ لَك؛ فَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث رُوِيَ مَرْفُوعا وموقوفًا، فرفعه من أوجه:
أَحدهَا: من طَرِيق عَطاء بن السَّائِب، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الطّواف حول الْبَيْت مثل الصَّلَاة، إِلَّا (أَنكُمْ) تتكلمون فِيهِ؛ فَمن تكلم فَلَا (يتكلمن) إِلَّا بِخَير» .
رَوَاهُ كَذَلِك التِّرْمِذِيّ فِي أَوَاخِر الْحَج من حَدِيث قُتَيْبَة، ثَنَا جرير، عَن عَطاء بِهِ، وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» فِي الْحَج، فِي بَاب الْكَلَام فِي الطّواف من حَدِيث مُوسَى بن عُثْمَان - وَلَعَلَّه ابْن أعين - عَن عَطاء (بِهِ) ، لَكِن بِنَحْوِ لفظ حَدِيث فُضَيْل بن عِيَاض الْآتِي، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي كتاب الْحَج من حَدِيث عبد الصَّمد بن حسان، ثَنَا سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن عَطاء بِهِ. إِلَّا أَن لَفظه: «الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة إِلَّا أَن الله قد أحل (لكم) فِيهِ الْكَلَام؛ فَمن تكلم فَلَا يتَكَلَّم إِلَّا بِخَير» . وَبِهَذَا اللَّفْظ أخرجه ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» ثمَّ رَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِيهِ من حَدِيث الْحميدِي، نَا سُفْيَان، عَن عَطاء بِهِ؛ إِلَّا أَن لَفظه:(2/488)
«إِن الطّواف بِالْبَيْتِ مثل الصَّلَاة، إِلَّا أَنكُمْ تتكلمون؛ فَمن تكلم فَلَا يتَكَلَّم إِلَّا بِخَير» .
وسُفْيَان الْمَذْكُور فِي هَذَا السَّنَد هُوَ ابْن عُيَيْنَة كَمَا نبّه (عَلَيْهِ) الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «إِمَامه» ، ثمَّ رَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة فِي «مُسْتَدْركه» من وَجه آخر عَن عَطاء، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْوَجْه الْخَامِس، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من حَدِيث مُوسَى بن أعين (عَن) عَطاء بِهِ، وَلَفظه: «الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة، وَلَكِن الله أحلَّ لكم فِيهِ الْمنطق؛ فَمن نطق فَلَا ينْطق إِلَّا بِخَير» . وَهَذِه الطَّرِيقَة أعلت بعطاء بن السَّائِب، وَهُوَ من الثِّقَات كَمَا قَالَه أَحْمد وَغَيره وَإِن لُيِّنَ، لكنه اخْتَلَط؛ فَمن رَوَى عَنهُ قبل الِاخْتِلَاط كَانَ صَحِيحا، وَمن رَوَى عَنهُ (بعده) فَلَا، كَمَا نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَغَيره من الْحفاظ.
قَالَ أَحْمد: سمع مِنْهُ قَدِيما: شُعْبَة، وَالثَّوْري، وَسمع مِنْهُ جرير، وخَالِد بن عبد الله، وَإِسْمَاعِيل، وَعلي بن عَاصِم، وَكَانَ يرفع عَن سعيد بن جُبَير أَشْيَاء لم يكن يرفعها.
وَقَالَ ابْن معِين: جَمِيع من رَوَى عَنهُ (رَوَى) فِي الِاخْتِلَاط إِلَّا شُعْبَة وسُفْيَان، وَقَالَ مرّة: اخْتَلَط؛ فَمن سمع مِنْهُ قَدِيما فَهُوَ صَحِيح، وَمَا سمع مِنْهُ جرير وَذَوِيهِ فَلَيْسَ من صَحِيح حَدِيث عَطاء، وَقد سمع مِنْهُ(2/489)
أَبُو عوَانَة فِي الْحَالين، وَلَا يحْتَج بِهِ. وَذكر التِّرْمِذِيّ حَدِيثا «فِي الْمَشْي فِي السَّعْي» من حَدِيث ابْن فُضَيْل (عَن عَطاء) ، وَصَححهُ، وَقَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ: اسمعوا مِنْهُ حَدِيث (أَبِيه) فِي التَّسْبِيح. وَقَالَ يَحْيَى الْقطَّان: مَا سَمِعت أحدا يَقُول فِي عَطاء شَيْئا قطّ فِي حَدِيثه الْقَدِيم، وَمَا حدث عَنهُ شُعْبَة وسُفْيَان فَصَحِيح إِلَّا حديثين؛ كَانَ شُعْبَة يَقُول: سمعتهما بِآخِرهِ عَن زَاذَان، وَقَالَ شُعْبَة: نَا عَطاء، وَكَانَ (نسيًّا) وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة قديم، وَمن سمع مِنْهُ بِآخِرهِ فَهُوَ مُضْطَرب الحَدِيث مِنْهُم: هشيم، وخَالِد بن عبد الله. وَقَالَ يَحْيَى الْقطَّان: سمع مِنْهُ حَمَّاد بن زيد قبل أَن يتَغَيَّر. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم عَن حَمَّاد أَيْضا، وَخَالف الْعقيلِيّ فَقَالَ - عَلَى مَا نَقله ابْن الْقطَّان -: إِنَّه سمع مِنْهُ بعده.
قلت: وَقد حصلت الْفَائِدَة هُنَا بِرِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ الَّتِي رَوَاهَا الْحَاكِم؛ فَإِنَّهُ سمع مِنْهُ (قبل) الِاخْتِلَاط كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَكَذَا قَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» فِي كتاب الْأَقْضِيَة: سمع مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط شُعْبَة وسُفْيَان وَحَمَّاد بن زيد والأكابر المعروفون. وَعَن الدَّارَقُطْنِيّ: أَنه لَا يحْتَج من حَدِيثه إِلَّا بِمَا رَوَاهُ عَنهُ الأكابر: شُعْبَة، وَالثَّوْري، ووهيب، ونظراؤهم. لَا جرم قَالَ الْحَاكِم إِثْر رِوَايَته السالفة: هَذَا حَدِيث صَحِيح(2/490)
الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، قَالَ: وَقد (أوقفهُ) جمَاعَة. وَقَالَ ابْن عبد الْحق - فِيمَا (رده) عَلَى ابْن حزم فِي «الْمُحَلَّى» -: هَذَا حَدِيث ثَابت. وَأخرجه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي (إلمامه) وَقَالَ: أخرجه الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من حَدِيث سُفْيَان، عَن عَطاء مَرْفُوعا هَكَذَا، وَقد رُوِيَ عَنهُ غير مَرْفُوع، وَعَطَاء (هَذَا) من الثِّقَات الَّذين تغير حفظهم أخيرًا واختلطوا. ثمَّ ذكر مقَالَة يَحْيَى بن معِين السالفة، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا من رِوَايَة سُفْيَان (أَي) : فصح الحَدِيث. وَكَذَا ذكر مثل ذَلِك فِي «إِمَامه» ، وَقد أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من طَرِيق آخر عَن عَطاء، وَهُوَ طَرِيق فُضَيْل بن عِيَاض (عَن عَطاء) بِلَفْظ: «الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة، إِلَّا أَن الله أحل فِيهِ الْمنطق؛ فَمن نطق فَلَا ينْطق إِلَّا بِخَير» وَقَالَ فِي «ثقاته» : عَطاء بن السَّائِب كَانَ قد اخْتَلَط بِآخِرهِ، وَلم يفحش خَطؤُهُ حَتَّى يسْتَحق أَن يسْلك بِهِ (عَن) مَسْلَك الْعُدُول؛ بعد تقدم صِحَة ثباته فِي الرِّوَايَات، رَوَى عَنهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة وَأهل الْعرَاق. وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا اللَّفْظ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» (أَيْضا) بِلَفْظ: «الطّواف صَلَاة (إِلَّا) أَن الله أحل (لكم) الْمنطق، فَمن
نطق فَلَا(2/491)
ينْطق إِلَّا بِخَير» .
الْوَجْه الثَّانِي: (من) طَرِيق مُوسَى بن أعين، عَن لَيْث، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة، وَلَكِن الله أحل فِيهِ الْمنطق؛ فَمن نطق فَلَا ينْطق إِلَّا بِخَير» رَوَاهُ كَذَلِك الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، وأعلت (بليث) بن أبي سليم الْكُوفِي، وَقد اخْتَلَط أَيْضا بِآخِرهِ، وَقد (بسطنا) تَرْجَمته فِيمَا مَضَى فِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين من بَاب الْوضُوء، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : رجل صَالح صَدُوق استضعف، وَقد أخرج لَهُ مُسلم (فِي المتابعات) فَلَعَلَّ (اجتماعه) مَعَ عَطاء يُقَوي رفع الحَدِيث.
الْوَجْه الثَّالِث: من طَرِيق الباغندي، عَن عبد الله بن عمرَان، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ و (قَالَ) : لم يصنع شَيْئا - يُرِيد الباغندي فِي رَفعه بِهَذِهِ الرِّوَايَة - فقد رَوَاهُ ابْن جريج وَأَبُو عوَانَة عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة مَوْقُوفا.
(قلت: رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن ميسرَة) رَوَاهَا النَّسَائِيّ من حَدِيث قُتَيْبَة بن سعيد، نَا أَبُو عوَانَة، عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة، عَن طَاوس، عَن(2/492)
ابْن عَبَّاس قَالَ: «الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة؛ فأقلوا فِي الْكَلَام» لَكِن قد أخرجهَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن ميسرَة مَرْفُوعا، رَوَاهَا من حَدِيث (أَحْمد بن حَنْبَل) ، نَا مُحَمَّد بن (عبد الْوَهَّاب) الْحَارِثِيّ، ثَنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر، عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «الطّواف (بِالْبَيْتِ) صَلَاة؛ فأقلوا فِيهِ الْكَلَام» .
وَهَذَا وَجه رَابِع: فَإِن ابْن ميسرَة سمع من طَاوس، وَهُوَ ثِقَة كَمَا شهد لَهُ بذلك أَحْمد وَجَمَاعَة، وَذكر الْبَيْهَقِيّ بعد هَذَا فِي بَاب الطّواف عَلَى الطَّهَارَة أَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة وَقفه فِي الرِّوَايَات الصَّحِيحَة.
(الْوَجْه الْخَامِس) : وَهُوَ عَزِيز مُهِمّ يرحل إِلَيْهِ، لَيْسَ فِيهِ عَطاء بن السَّائِب وَلَا لَيْث، وَلم يظفر صَاحب «الإِمَام» و «الْإِلْمَام» بِهِ وَلَو ظفر بِهِ لما عدل عَنهُ؛ بل لم يظفر بِهِ أحد مِمَّن صنف فِي الْأَحْكَام فِيمَا علمت، رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي أَوَائِل تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة، عَن أبي عمر وَعُثْمَان بن أَحْمد السماك، ثَنَا الْحسن بن مكرم الْبَزَّاز، نَا يزِيد(2/493)
بن هَارُون، نَا (الْقَاسِم) بن أبي أَيُّوب، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «قَالَ الله لنَبيه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (طهر بَيْتِي للطائفين والقائمين والركع السُّجُود) فالطواف (قبل الصَّلَاة) ، وَقد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: الطّواف بِمَنْزِلَة الصَّلَاة، إِلَّا أَن الله قد أحل فِيهِ الْمنطق؛ فَمن نطق فَلَا ينْطق إِلَّا بِخَير» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ، وَإِنَّمَا يعرف هَذَا الحَدِيث بعطاء بن السَّائِب، عَن سعيد بن جُبَير. ثمَّ سَاقه من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَطاء، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس ... فَذكره كَمَا تقدم إِلَى قَوْله: «فالطواف قبل الصَّلَاة» ثمَّ قَالَ: هَذَا متابع لنصف الْمَتْن، وَالنّصف الثَّانِي من حَدِيث الْقَاسِم بن أبي أَيُّوب، أخبرناه ... فَذكره من حَدِيث فُضَيْل، عَن عَطاء، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا كَلَفْظِ ابْن حبَان السَّابِق.
وَذكر الْحَاكِم فِي المناقب (من) «مُسْتَدْركه» حَدِيثا فِي مَنَاقِب إِبْرَاهِيم من حَدِيث عَطاء عَن سعيد بن جُبَير، ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: وَحَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَطاء فِي المتابع الَّذِي ذكره الْحَاكِم إِسْنَاده جيد؛ فَإِنَّهُ سمع مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط كَمَا نَقله الْبَغَوِيّ فِي «الجعديات» عَن يَحْيَى بن معِين لَكِن رَأَيْت فِي آخر سُؤَالَات أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ لأبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ، أَن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: دخل عَطاء(2/494)
بن السَّائِب الْبَصْرَة وَجلسَ (فسماع) أَيُّوب، وَحَمَّاد بن سَلمَة فِي الرحلة الأولَى صَحِيح، والرحلة الثَّانِيَة فِيهِ اخْتِلَاط (فَيتَوَقَّف) إِذا فِي ذَلِك.
وَأما الْمَوْقُوف فقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ كَمَا تقدم، وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عمر بن أَحْمد بن يزِيد عَن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَلما خرجه الْبَيْهَقِيّ (فِي «خلافياته» ) من حَدِيث مُوسَى بن أعين عَن عَطاء مَرْفُوعا، قَالَ: تَابعه سُفْيَان الثَّوْريّ، وَجَرِير (بن) عبد الحميد، وفضيل بن عِيَاض وَغَيرهم، عَن عَطاء مُسْندًا مُتَّصِلا، وَرَوَاهُ عبد الله بن طَاوس، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر مَوْقُوفا. وَلما أخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث جرير، عَن عَطاء، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا. قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن ابْن طَاوس وَغَيره، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا، وَلَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيث عَطاء.
قلت: قد رَفعه غَيره كَمَا (أسلفنا) لَك. فتلخص مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَن جمَاعَة رَفَعُوهُ عَن عَطاء: (جرير) كَمَا رَوَاهُ (التِّرْمِذِيّ) والسفيانان (كَمَا) رَوَاهُ الْحَاكِم عَنْهُمَا، وفضيل كَمَا رَوَاهُ ابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ، وَكَذَا الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» ، وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» .(2/495)
وَلَيْث بن أبي سليم (كَمَا رَوَاهُ) الطَّبَرَانِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ. ومُوسَى بن أعين، كَمَا (ذكره) الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» ومُوسَى بن عُثْمَان كَمَا سلف عَن الدَّارمِيّ (إِن) ثَبت أَنه غير ابْن أعين فَهَؤُلَاءِ سَبْعَة اتَّفقُوا عَلَى رَفعه، وَوَقفه طَاوس، وَابْنه (وَإِبْرَاهِيم) فِي إِحْدَى روايتيه، فَحِينَئِذٍ يتَوَقَّف فِي إِطْلَاق القَوْل بِأَن الْأَصَح وَقفه.
وَأما دَعْوَى النَّوَوِيّ ضعف رِوَايَة الرّفْع؛ فَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاقه، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ رِوَايَة عَطاء المروية عَنهُ بعد الِاخْتِلَاط، وَقد قَالَ فِي «شَرحه لمُسلم» فِي الْكَلَام عَلَى الْخطْبَة: عَطاء بن السَّائِب تَابِعِيّ ثِقَة، اخْتَلَط فِي آخر عمره، قَالَ أَئِمَّة هَذَا الْفَنّ: فَمن سمع مِنْهُ قَدِيما فَهُوَ صَحِيح السماع، وَمن سمع مِنْهُ مُتَأَخِّرًا فَهُوَ مُضْطَرب الحَدِيث؛ فَمن السامعين أَولا: سُفْيَان الثَّوْريّ، وَشعْبَة، وَمن السامعين آخرا: جرير، وخَالِد بن عبد الله، وَإِسْمَاعِيل، وَعلي بن عَاصِم، كَذَا قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: سمع مِنْهُ أَبُو عوَانَة فِي الْحَالين، فَلَا يحْتَج بحَديثه.
قلت: فَيلْزمهُ عَلَى هَذَا تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث من طَرِيق سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عَطاء، كَمَا صَححهُ الْحَاكِم وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين.
قلت: وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق أُخْرَى فِي «سنَن النَّسَائِيّ» صَحِيحَة، أخرجهَا من حَدِيث طَاوس، عَن رجل أدْرك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ:(2/496)
«الطّواف صَلَاة؛ فَإِذا طفتم فأقلوا الْكَلَام» وَجَمِيع رُوَاته ثِقَات؛ فَإِنَّهُ أخرجه عَن يُوسُف بن سعيد - وَهُوَ ثِقَة حَافظ كَمَا قَالَ النَّسَائِيّ - عَن حجاج - وَهُوَ (ابْن مُحَمَّد) المصِّيصِي، كَمَا بَينه ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» وَهُوَ أحد الْحفاظ لَا يسْأَل عَنهُ، أخرج لَهُ السِّتَّة - عَن ابْن جريج - وَهُوَ أحد الْأَعْلَام. ثمَّ أخرجه عَن الْحَارِث بن مِسْكين، عَن ابْن وهب، عَن ابْن جريج، عَن الْحسن بن مُسلم - وَهُوَ ابْن ينَّاق - عَن طَاوس بِهِ. وَلَا يضر جَهَالَة الرجل الْمدْرك لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - والناقل عَنهُ؛ فَإِن الظَّاهِر صحبته، وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي «مُسْنده» عَن عبد الرَّزَّاق وروح قَالَا: ثَنَا ابْن جريج قَالَ: أَخْبرنِي الْحسن بن مُسلم، عَن طَاوس ... فَذكره ثمَّ قَالَ: وَلم يرفعهُ مُحَمَّد بن بكر. كَذَا وجدته.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا من طَرِيق آخر مَوْقُوفا عَلَى ابْن عمر، وَهِي الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» كَمَا أسلفناه عَنهُ رَوَاهُ من حَدِيث حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان، عَن طَاوس قَالَ: قَالَ عبد الله بن عمر: «أقلوا الْكَلَام فِي الطّواف؛ فَإِنَّمَا أَنْتُم فِي الصَّلَاة» .
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» وَقد سُئِلَ عَن حَدِيث طَاوس، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة؛ فأقلوا فِيهِ من الْكَلَام» فَقَالَ: اخْتلف فِيهِ عَلَى طَاوس؛ فَروِيَ عَنهُ عَن ابْن عمر مَرْفُوعا وموقوفًا، وَعَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا وموقوفًا، قَالَ: وَقَول من قَالَ: عَن ابْن عمر أشبه.(2/497)
وَهَذَا نمط آخر. وَقد اجْتمع - بِحَمْد الله وَمِنْه - فِي الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث مهمات ونفائس لَا تُوجد مَجْمُوعَة فِي غَيره، ونسأل الله زِيَادَة فِي التَّوْفِيق.
قلت: وَمِمَّا يسْتَدلّ (بِهِ) من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي لَا شكّ فِيهَا وَلَا ريب عَلَى اشْتِرَاط الطَّهَارَة للطَّواف حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا: «لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور» وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم كَمَا أسلفناه، وَحَدِيث عَائِشَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهَا وَقد حَاضَت: افعلي مَا يفعل الْحَاج غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ» وَهُوَ حَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (وحديثها) «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أول شَيْء بَدَأَ بِهِ حِين قدم مَكَّة أَنه تَوَضَّأ ثمَّ طَاف بِالْبَيْتِ» أودعاه أَيْضا فِي «صَحِيحَيْهِمَا» .
وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث جَابر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: خُذُوا عني مَنَاسِككُم؛ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لعَلي لَا أحج بعد حجتي هَذِه» .(2/498)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لحكيم بن حزَام: لَا يمس الْمُصحف إِلَّا طَاهِر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، من حَدِيث سُوَيْد (أبي) حَاتِم، ثَنَا مطر الْوراق، عَن حسان بن بِلَال، عَن حَكِيم بن حزَام أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) : «لَا تمس الْقُرْآن إِلَّا وَأَنت عَلَى طهر» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (وَأَنا) ابْن مخلد، سَمِعت جعفرًا يَقُول: سمع حسان بن بِلَال من عَائِشَة وعمار، قيل لَهُ: سمع (مطر) من حسان؟ فَقَالَ: (نعم) .
قلت: وسُويد هَذَا هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْعَطَّار صَاحب الطَّعَام، ضعفه النَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، حَدِيثه حَدِيث أهل الصدْق. وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس، (وَقَالَ) مرّة: لين.
وَعَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ: هَذَا الحَدِيث رُوَاته كلهم ثِقَات، وأسرف فِيهِ ابْن حبَان فَقَالَ: يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات، وَهُوَ صَاحب «حَدِيث البرغوث» وَرَوَاهُ أَيْضا الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» (عَن الْحَاكِم) ، عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان الْفَقِيه، عَن جَعْفَر بن أبي عُثْمَان،(2/499)
عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْمقري، عَن أَبِيه، عَن سُوَيْد أبي حَاتِم، وَقَالَ فِيهِ: صَاحب الطَّعَام كَمَا قدمنَا التَّصْرِيح بِهِ، وَذكره بلفظين؛ أَحدهمَا: كَلَفْظِ الدَّارَقُطْنِيّ (وَالثَّانِي) : «لَا تمس الْقُرْآن إِلَّا وَأَنت طَاهِر» وَرِوَايَة الْبَيْهَقِيّ هَذِه (أَعنِي رِوَايَته) عَن الْحَاكِم، رَأَيْتهَا فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة حَكِيم بن حزَام، عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان الْفَقِيه (بِهِ) إِلَى حَكِيم بن حزَام «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما بَعثه واليًا إِلَى الْيمن فَقَالَ: لَا تمس الْقُرْآن إِلَّا وَأَنت طَاهِر» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ.
وَرَوَاهُ أَيْضا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، عَن بكر بن مقبل الْبَصْرِيّ، عَن إِسْمَاعِيل بِهِ سَوَاء وَلم يقل (واليًا) وَإِنَّمَا قَالَ: «لما بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الْيمن قَالَ: لَا تمس الْقُرْآن إِلَّا وَأَنت طَاهِر» وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي: هَذَا الحَدِيث حسن غَرِيب لَا (نعرفه) مُجَوَّدًا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه.
قلت: وَإِذا تقرر لَك حَال هَذَا الحَدِيث، وَمن أخرجه من الْأَئِمَّة تعجبت من قَول النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «شَرحه للمهذب» وَقد أورد الشَّيْخ هَذَا الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه -: كَذَا رَوَاهُ المُصَنّف وَالشَّيْخ أَبُو حَامِد عَن حَكِيم بن حزَام، وَالْمَعْرُوف فِي كتب الحَدِيث وَالْفِقْه أَنه عَن عَمْرو بن حزم عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْكتاب الَّذِي كتبه لما وَجهه إِلَى الْيمن.(2/500)
قَالَ: وَإِسْنَاده ضَعِيف، وَجزم أَيْضا فِي «خلاصته» بضعفه وبضعف حَدِيث حَكِيم أَيْضا، وَحكمه عَلَيْهِ بالضعف قَاض بمعرفته، وَهُوَ خلاف مَا ذكره فِي «شَرحه» وَقد علمت أَنه حَدِيث مَعْرُوف فِي كتب الْمُحدثين، وَأَن الْحَاكِم صحّح إِسْنَاده، وَأَن (الْحَازِمِي) حَسَّنَه، وَأَن الدَّارَقُطْنِيّ وثق رُوَاته؛ فَلَا يَنْبَغِي الحكم عَلَيْهِ بالضعف أَيْضا.
(ثمَّ جزمه بِضعْف حَدِيث عَمْرو بن حزم لَيْسَ بجيد أَيْضا) فقد أخرجه الْحَاكِم وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَسَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي الدِّيات - إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقدره - وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان الْحَافِظ: لَا أعلم فِي جَمِيع الْكتب المنقولة أصح من كتاب عَمْرو بن حزم، وَصَححهُ أَيْضا أَبُو عمر بن عبد الْبر، وَرَوَاهُ مَالك فِي «موطئِهِ» عَن عبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم أَن فِي الْكتاب الَّذِي (كتبه) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لعَمْرو بن حزم: «أَلا تمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِرا» . وَهَذَا مُرْسل.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «غرائب مَالك» عَن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيه قَالَ: «كَانَ فِي الْكتاب الَّذِي (كتبه) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لجدي عَمْرو بن حزم: أَن لَا تمس الْقُرْآن إِلَّا وَأَنت طَاهِر» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ فِيهِ عَن جده؛ وَهُوَ الصَّوَاب عَن مَالك، ثمَّ سَاقه عَن(2/501)
مَالك بِزِيَادَة: عَن جده، وَقَالَ: (تفرد) بِهِ أَبُو ثَوْر عَن مُبشر. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» (بِزِيَادَة) عَن جده أَيْضا.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى أَنه قَالَ: «لَا تحمل الْمُصحف وَلَا تمسه إِلَّا طَاهِرا» .
قلت: هَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة؛ لَا أعلم من رَوَاهَا عَلَى هَذَا الْوَجْه بجملته؛ ولابلفظ الْحمل مَعَ أَنه ورد فِي الْبَاب أَحَادِيث غير حَدِيث حَكِيم بن حزَام، وَحَدِيث عَمْرو بن حزم السالفين
أَحدهمَا: عَن (ابْن) عمر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي، ثَنَا سعيد بن مُحَمَّد بن (ثَوَاب) ، نَا أَبُو عَاصِم - هُوَ النَّبِيل - أَنا ابْن جريج، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى قَالَ: سَمِعت سالما يحدث عَن أَبِيه ... فَذكره.
قَالَ (الجوزقاني) فِي «كِتَابه» : هَذَا حَدِيث حسن مَشْهُور. وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» : لم يروه عَن سُلَيْمَان إِلَّا ابْن جريج؛ وَلَا عَنهُ إِلَّا أَبُو عَاصِم، تفرد بِهِ سعيد.(2/502)
قلت: وَحَدِيثه صَححهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي مَوضِع - كَمَا ستعلمه - وَقَالَ ابْن عبد الْحق فِي كِتَابه الَّذِي وَضعه فِي الرَّد عَلَى أبي مُحَمَّد بن حزم - عقب قَوْله: (إِن) الْآثَار الَّتِي احْتج بهَا مس لم يجز للْجنب من الْمُصحف، لَا يَصح مِنْهَا شَيْء؛ لِأَنَّهَا إِمَّا مُرْسلَة وَإِمَّا صحيفَة لَا تسند -: قد صَحَّ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَذَا الحَدِيث، ثمَّ سَاقه، وَقَالَ إثره: هَذَا حَدِيث صَحِيح، رِجَاله ثِقَات: الْمحَامِلِي ثِقَة إِمَام، وَسَعِيد بن مُحَمَّد بن ثَوَاب قد خرج الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ حَدِيث عَائِشَة «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقصر فِي السّفر وَيتم وَيفْطر ويصوم» ثمَّ قَالَ: (هَذَا) (إِسْنَاد صَحِيح) . فَإِن اعْترض معترض بِمَا قيل فِي سُلَيْمَان بن مُوسَى قيل لَهُ: ابْن حزم يصحح حَدِيثه ويحتج بِهِ، وَقد احْتج بحَديثه فِي كتاب النِّكَاح، حَدِيث عَائِشَة: «أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا وشاهدي عدل ... » .
ثمَّ قَالَ ابْن حزم فِيهِ: لَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب غير هَذَا السَّنَد، وَفِي هَذَا كِفَايَة لصِحَّته، وَبَاقِي السَّنَد أشهر من أَن يحْتَاج إِلَى تَبْيِين أَمرهم. قَالَ: فَبَطل قَول ابْن حزم أَنه لَا يَصح فِي ذَلِك حَدِيث، وألان الْبَيْهَقِيّ القَوْل فِيهِ؛ فَقَالَ بعد أَن رَوَاهُ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن ثَوْبَان رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يمس(2/503)
الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر، وَالْعمْرَة الْحَج الْأَصْغَر، وَعمرَة خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَحجَّة أفضل من عمْرَة» رَوَاهُ عَلّي بن عبد الْعَزِيز فِي «منتخبه» كَمَا عزاهُ إِلَيْهِ عبد الْحق. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: إِسْنَاده فِي غَايَة الضعْف، ثمَّ بَين ذَلِك.
الحَدِيث الثَّالِث: عَن الْقَاسِم بن أبي بزَّة، عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ قَالَ: «كَانَ فِيمَا عهد إليّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تمسّ الْمُصحف وَأَنت غير طَاهِر» رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي دَاوُد فِي «كتاب الْمَصَاحِف» وَهُوَ مُنْقَطع؛ لِأَن الْقَاسِم لم يدْرك عُثْمَان. وَضَعِيف؛ لِأَن فِي إِسْنَاده: إِسْمَاعِيل بن مُسلم المكِّي، وَقد ضَعَّفُوهُ وَتَركه جمَاعَة.
وَفِيه (أثر رَابِع) عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد، قَالَ: «كُنَّا مَعَ سلمَان، فَانْطَلق إِلَى حَاجته فتوارى عَنَّا، ثمَّ خرج إِلَيْنَا وَلَيْسَ بَيْننَا وَبَينه مَاء قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا عبد الله، لَو تَوَضَّأت فسألناك عَن أَشْيَاء من الْقُرْآن. قَالَ: فَقَالَ: سلوا فَإِنِّي لست أمسه، (إِنَّمَا يمسهُ) الْمُطهرُونَ، ثمَّ تَلا (إِنَّه لقرآن كريم فِي كتاب مَكْنُون لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ هُنَا، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح(2/504)
عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم.
فَهَذِهِ أَحَادِيث و (أثر) كلهَا بِلَفْظ الْمس، مَعَ أَن تَحْرِيم الْحمل مستنبط من بَاب أولَى.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كتب كتابا إِلَى هِرقل، وَكَانَ فِيهِ: (تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم (الْآيَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» : من حَدِيث أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كتب إِلَيْهِ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من مُحَمَّد عبد الله وَرَسُوله إِلَى هِرقل عَظِيم الرّوم، سَلام عَلَى من اتبع الْهدى، أما بعد؛ فَإِنِّي أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام، أسلم تسلم، وَأسلم يؤتك الله أجرك مرَّتَيْنِ؛ فَإِن توليت فَإِن عَلَيْك إِثْم الأريسيين و (يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَن لَا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا اشْهَدُوا بِأَنا مُسلمُونَ» .
فساقا الحَدِيث بِطُولِهِ وَلَيْسَ لأبي سُفْيَان فِي «الصَّحِيحَيْنِ» غَيره، وَهُوَ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَنهُ.
فَائِدَة: هِرَقْل، بِكَسْر الْهَاء، وَفتح الرَّاء، وَإِسْكَان الْقَاف هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَيُقَال: بِكَسْر الْهَاء وَإِسْكَان الرَّاء وَكسر الْقَاف، حَكَاهُ(2/505)
الْجَوْهَرِي فِي «صحاحه» (وَلم يذكر الْقَزاز غَيره) . وَهُوَ أول من ضرب الدَّنَانِير، وَأول من أحدث الْبيعَة (قَالَه) الجواليقي، وَهُوَ عجمي مُعرب، وَهُوَ اسْم علم لَهُ، ولقبه: قَيْصر، وَكَذَلِكَ كل من ملك الرّوم يُقَال لَهُ: قَيْصر.
فَائِدَة ثَانِيَة: الدِّعاية بِكَسْر الدَّال، أَي: يَدعُونَهُ، وَهِي كلمة التَّوْحِيد، وَلَفظ مُسلم: «بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام» أَي: بِالْكَلِمَةِ الداعية إِلَى الْإِسْلَام.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَيجوز أَن يكون دَاعِيَة بِمَعْنى دَعْوَة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: (لَيْسَ لَهَا من دون الله كاشفة) أَي: كشف.
وَقَوله: «وَعَلَيْك إِثْم الأريسيين» كَذَا هُوَ فِي «صَحِيح مُسلم» ؛ بِهَمْزَة مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء مُهْملَة مَكْسُورَة ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ سين مُهْملَة ثمَّ مثناة تَحت ثمَّ أُخْرَى مثلهَا - وَفِي رِوَايَة حذف هَذِه - ثمَّ نون. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «غَرِيب الحَدِيث» وَمن خطه نقلت: (هَكَذَا) يرويهِ أهل اللُّغَة، وَوَقع فِيهِ (و) فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» اليريسيين بياء فِي أَوله، وبيائين بعد السِّين وَالأَصَح أَنهم الأكارون؛ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ فِي «دَلَائِل النُّبُوَّة» أَي: الفلاحون والزراعون، وَفِي رِوَايَة البرقاني يَعْنِي: الحراثين، وَمَعْنَاهُ: أَن عَلَيْك إِثْم رعاياك الَّذين يتبعونك وينقادون بانقيادك، وَنبهَ بهؤلاء عَلَى جَمِيع الرعايا؛ لأَنهم الْأَغْلَب،(2/506)
وَلِأَنَّهُم أسْرع انقيادًا؛ فَإِذا (أسلم) أَسْلمُوا، وَإِذا امْتنع امْتَنعُوا.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فَذكر فِيهِ (أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانُوا ينتظرون الْعشَاء فينامون قعُودا ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ) وَهَذَا أثر صَحِيح، رَوَاهُ الإِمَام الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن الثِّقَة، عَن حميد عَن أنس قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينتظرون الصَّلَاة - أَحْسبهُ قَالَ: قعُودا - حَتَّى تخفق رُءُوسهم، ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» - بعد أَن رَوَاهُ -: قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: إِذا قَالَ الشَّافِعِي: أخبرنَا الثِّقَة، حَدثنَا حميد الطَّوِيل؛ فَإِنَّهُ يكني بالثقة عَن إِسْمَاعِيل ابْن علية، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم؛ فَقَالَ: أَنا بعض أَصْحَابنَا، عَن الدستوَائي، عَن قَتَادَة، عَن أنس «أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانُوا ينتظرون الْعشَاء حَتَّى تخفق رُءُوسهم، ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» . وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث خَالِد بن الْحَارِث، عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينامون ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» .
(وَرَوَاهُ) أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث هِشَام الدستوَائي، عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينتظرون الْعشَاء الْآخِرَة حَتَّى تخفق رُءُوسهم، ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» زَاد فِيهِ شُعْبَة، عَن قَتَادَة(2/507)
قَالَ: «كَانَ عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » وَهَذَا إِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن سعيد، عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس (قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينامون ثمَّ يقومُونَ وَيصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» . ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن الْمُبَارك، ثَنَا معمر، عَن قَتَادَة، عَن أنس) قَالَ: «لقد رَأَيْت أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يوقظون للصَّلَاة حَتَّى إِنِّي لأسْمع لأَحَدهم غطيطًا، ثمَّ يقومُونَ فيصلون وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» . قَالَ ابْن الْمُبَارك: هَذَا عندنَا وهم جُلُوس. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَعَلَى هَذَا حمله عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، وَالشَّافِعِيّ. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي «الإِمَام» : (هَكَذَا أَوله) كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ؛ لِأَن اللَّفْظ مُحْتَمل، وَالْحَاجة إِلَى هَذَا التَّأْوِيل فِي هَذِه الرِّوَايَة أَشد لذكر الغطيط. وَأما رِوَايَة مُسلم الْمُتَقَدّمَة فمحتملة لذَلِك أَيْضا، لَكِن وَردت زِيَادَة تمنع هَذَا التَّأْوِيل، قَالَ ابْن الْقطَّان: هَذَا الحَدِيث بسياقته فِي مُسلم يحْتَمل أَن ينزل عَلَى نوم الْجَالِس، وَعَلَى ذَلِك (ينزله) أَكثر النَّاس، وَفِيه زِيَادَة تمنع من ذَلِك، رَوَاهَا يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان، عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينتظرون الصَّلَاة فيضعون جنُوبهم، فَمنهمْ من ينَام ثمَّ يقوم إِلَى الصَّلَاة» .(2/508)
قَالَ قَاسم بن أصبغ: نَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي، ثَنَا مُحَمَّد بن بشار، نَا يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان، (نَا شُعْبَة ... فَذكره. قَالَ: وَهَذَا كَمَا ترَى صَحِيح من رِوَايَة الإِمَام عَن شُعْبَة) قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: وَمن اعْتبر حَالَة النّوم فَلهُ أَن يحمل هَذَا عَلَى النّوم الْخَفِيف (أَو الْقصير) ويعارضه رِوَايَة (الغطيط) الْمُتَقَدّمَة.
قَالَ: وَرَوَى أَحْمد بن عبيد هَذَا الحَدِيث من جِهَة يَحْيَى بن سعيد، عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينامون ثمَّ يقومُونَ فيصلون وَلَا يَتَوَضَّئُونَ عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» ، وَهَذِه هِيَ الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا ابْن الْقطَّان، وَلَيْسَ فِيهَا «فيضعون جنُوبهم» .
قَالَ الشَّيْخ: وَقَرِيب مِمَّا (ذكره) ابْن الْقطَّان رِوَايَة يَحْيَى بن سعيد، عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس «أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانُوا يشبعون جنُوبهم؛ فَمنهمْ من يتَوَضَّأ، وَمِنْهُم من لَا يتَوَضَّأ» وَرَوَى ابْن عدي من حَدِيث (أبي هِلَال مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي) ، عَن(2/509)
قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: «كُنَّا ننام فِي مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ فَلَا نُحدث لذَلِك وضُوءًا» . وَمُحَمّد هَذَا وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وَضَعفه أَحْمد، وَأخرج لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن عدي: فِي بعض رواياته مَا لَا يُوَافقهُ الثِّقَات عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه.
وَذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا فِيهِ عِنْد قَوْله تَعَالَى: (أَو لامستم النِّسَاء) أَن اللَّمْس المُرَاد بِهِ الجس بِالْيَدِ (كَذَلِك. و) رُوِيَ عَن ابْن عمر وَغَيره. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد رَوَى مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم، عَن أَبِيه، وَهُوَ ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «قبْلَة الرجل امْرَأَته وجسها (بِيَدِهِ) من الْمُلَامسَة؛ فَمن قبل امْرَأَته (أَو) جسها بِيَدِهِ فَعَلَيهِ الْوضُوء» وَفِي رِوَايَة ابْن بكير عَن مَالك: «فقد وَجب عَلَيْهِ الْوضُوء» .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» عَن ابْن عمر، عَن(2/510)
عمر أَنه قَالَ: «إِن الْقبْلَة من (اللَّمْس) فَتَوضئُوا مِنْهَا» وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا عِنْدهم خطأ؛ لِأَن حفاظ أَصْحَاب ابْن شهَاب يجعلونه عَن (ابْن) عمر لَا عَن عمر، وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي «سنَنه» و «خلافياته» عَن أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله - يَعْنِي: ابْن مَسْعُود - قَالَ: «الْقبْلَة من اللَّمْس، وفيهَا الْوضُوء، واللمس مَا دون الْجِمَاع» ثمَّ قَالَ: وَفِيه إرْسَال؛ أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه، قَالَ: وَقد رَوَيْنَاهُ بِإِسْنَاد آخر صَحِيح مَوْصُول، ثمَّ أخرجه من طَرِيق طَارق بن شهَاب «أَن عبد الله قَالَ فِي قَوْله: (أَو لامستم النِّسَاء) قولا مَعْنَاهُ مَا دون الْجِمَاع» .
وَلما ذكر الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» قَول عمر السالف قَالَ: قد اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَى إِخْرَاج أَحَادِيث فِي «صَحِيحَيْهِمَا» يسْتَدلّ بهَا عَلَى أَن اللَّمْس مَا دون الْجِمَاع، مِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة «فاليد زنَاهَا اللَّمْس» وَحَدِيث (ابْن عَبَّاس) : «لَعَلَّك لمست» وَحَدِيث ابْن مَسْعُود (وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار) وَبَقِي عَلَيْهِمَا أَحَادِيث صَحِيحَة فِي التَّفْسِير وَغَيره، مِنْهَا حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها «مَا كَانَ - أَو قل - يَوْم إِلَّا وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يأتينا) فَيقبل ويلمس ... » الحَدِيث. وَمِنْهَا(2/511)
حَدِيث أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله «فِي قَوْله تَعَالَى: (أَو لامستم النِّسَاء) قَالَ: هُوَ مَا دون الوقاع؛ وَمِنْه الْوضُوء» وَمِنْهَا عَن عمر، وَقد قدمْنَاهُ، وَمِنْهَا حَدِيث معَاذ بِنَحْوِ حَدِيث ابْن مَسْعُود، وأسندها كلهَا. ثمَّ قَالَ: هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرتها أَن الشَّيْخَيْنِ اتفقَا عَلَيْهَا، غير أَنَّهَا مخرجة فِي الْكِتَابَيْنِ بالتفاريق، وَكلهَا صَحِيحَة دَالَّة عَلَى أَن اللَّمْس الَّذِي يُوجب الْوضُوء دون الْجِمَاع.(2/512)
بَاب الْغسْل
ذكر فِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَمْسَة وَعشْرين حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لفاطمة بنت أبي حُبَيْش: إِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة، وَإِذا أَدْبَرت فاغتسلي وَصلي» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَن عَائِشَة قَالَت: «جَاءَت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي امْرَأَة أسْتَحَاض وَلَا أطهر؛ أفأدع الصَّلَاة؟ فَقَالَ: لَا؛ إِنَّمَا ذَلِك عرق (وَلَيْسَ بالحيضة) ، فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة وَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي» .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «إِن ذَلِك عرق، وَلَكِن دعِي الصَّلَاة قدر الْأَيَّام الَّتِي كنت تحيضين فِيهَا ثمَّ اغْتَسِلِي وَصلي» (وَفِي رِوَايَة لَهُ) : «فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فاتركي الصَّلَاة؛ فَإِذا ذهب قدرهَا فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ السراج فِي «مُسْنده» ، والإسماعيلي فِي «صَحِيحه» : «فلتغتسل ولتصل» وَكَذَا رَوَاهُ ابْن مَنْدَه، وَرَوَاهُ بعض الروَاة عَن ابْن عُيَيْنَة، وَفِي الشَّك فِي الْغسْل.
فَائِدَة: (أَبُو) حُبَيْش: بحاء مُهْملَة (مَضْمُومَة) ثمَّ بَاء مُوَحدَة،(2/513)
ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ شين مُعْجمَة، وَاسم أبي حُبَيْش هَذَا قيس بن الْمطلب، وَوَقع فِي أَكثر نسخ مُسلم: عبد الْمطلب - وَهُوَ غلط - بن أَسد بن عبد الْعُزَّى.
والحَيْضَةُ - بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا فِي قَوْله: «فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة» وَالْفَتْح مُتَعَيّن فِي قَوْله: «وَلَيْسَت بالحيضة» أَي: الْحيض. فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ إِثْبَات الْحيض وَنفي الِاسْتِحَاضَة، وَاخْتَارَ الْخطابِيّ الْكسر، أَي: الْحَالة، بعد أَن نقل عَن أَكثر الْمُحدثين أَو كلهم الْفَتْح.
وفاطمةُ هَذِه قرشية أسدية، وَوَقع فِي (مبهمات) الْخَطِيب أَنَّهَا أنصارية، وَهل كَانَت مُمَيزَة أَو مُعْتَادَة، الَّذِي فهمه الْبَيْهَقِيّ: الأول، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: «دعِي الصَّلَاة قدر الْأَيَّام الَّتِي كنت تحيضين فِيهَا» قد يسْتَدلّ بِهِ (عَلَى) من يرَى الرَّد (إِلَى) أَيَّام الْعَادة سَوَاء كَانَت مُمَيزَة (أَو غير مُمَيزَة) لِأَن ترك الاستفصال فِي قضايا الْأَحْوَال مَعَ قيام (الِاحْتِمَال) (يتنزل) منزلَة الْعُمُوم فِي الْمقَال؛ فَلَمَّا لم يستفصلها عَلَيْهِ السَّلَام عَن كَونهَا مُمَيزَة أَو لَا، كَانَ ذَلِك دَلِيلا عَلَى أَن الحكم عَام فيهمَا.
وَيحمل عَلَى هَذَا: إقبال الْحَيْضَة عَلَى وجود الدَّم فِي (أول)(2/514)
أَيَّام الْعَادة (وإدبارها عَلَى انْقِضَاء أَيَّام الْعَادة) وَفِي قَوْله: «إِذا ذهب قدرهَا» إِشَارَة إِلَى ذَلِك؛ إِذْ الْأَشْبَه أَنه يُرِيد قدر أَيَّامهَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَيحْتَمل أَنه كَانَ لَهَا حالتان: حَالَة تَمْيِيز، وَحَالَة لَا تميز، فَأمرهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْعَادة.
الحَدِيث الثَّانِي
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «إِنَّمَا المَاء من المَاء» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح ثَابت من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «إِنَّمَا (المَاء) من المَاء» وَذكره مطولا أَيْضا، وَأَن (سَببه) قصَّة (عتْبَان) فِي إعجاله، وَاقْتصر البُخَارِيّ عَلَيْهَا دون اللَّفْظ الْمَذْكُور، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِلَفْظ الرَّافِعِيّ (وَفِي رِوَايَة لِابْنِ) خُزَيْمَة: «إِنَّمَا(2/515)
المَاء من الإمناء» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث أبي أَيُّوب (الْأنْصَارِيّ) رَضي اللهُ عَنهُ بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سنَنَيْهِمَا» بِإِسْنَاد جيد.
ثَالِثهَا: من حَدِيث رَافع بن خديج قَالَ: «ناداني رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنا عَلَى بطن امْرَأَتي، فَقُمْت وَلم أنزل، فاغتسلت وَخرجت، فَأخْبرت فَقَالَ: لَا عَلَيْك؛ المَاء من المَاء» . قَالَ رَافع: «ثمَّ أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعد ذَلِك بِالْغسْلِ» رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَقَالَ الْحَازِمِي: حَدِيث حسن.
وَله طَرِيق رَابِع: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِقصَّة وَلَفظه: «المَاء من المَاء، وَالْغسْل عَلَى من أنزل» . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، وَعَزاهُ إِلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» وَسكت عَنهُ.
وَطَرِيق خَامِس: من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: «المَاء من المَاء» رَوَاهُ ابْن شاهين من حَدِيث أَحْمد بن عَمْرو بن جَابر، ثَنَا عبد الله بن أُسَامَة الْحلَبِي، نَا يَعْقُوب بن كَعْب، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة، عَن الْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن أنس.(2/516)
طَرِيق سادس: من حَدِيث عتْبَان - أَو ابْن عتْبَان - الْأنْصَارِيّ قَالَ: «قلت: أَي نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِنِّي) كنت مَعَ أَهلِي، فَلَمَّا سَمِعت صَوْتك أقلعت فاغتسلت! فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: المَاء من المَاء» رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك من حَدِيث كثير بن زيد، عَن الْمطلب بن عبد الله (عَن) عتْبَان (بِهِ) .
وَحَدِيث رَافع (بن خديج لم يَصح) وَذكر فِيهِ النَّاسِخ وَكَانَ ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام، وَقد أوضح نسخه: (ابْن) شاهين وَابْن الْجَوْزِيّ والحازمي فِي تواليفهم فِي ذَلِك.
الحَدِيث الثَّالِث
قَالَت عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها: «إِذا التقَى الختانان (فقد) وَجب الْغسْل؛ فعلته أَنا وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاغتسلنا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن الثِّقَة، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه - أَو عَن يَحْيَى بن سعيد - عَن الْقَاسِم، عَن عَائِشَة ... فَذَكرته بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : كَذَا رَوَاهُ الرّبيع عَن الشَّافِعِي عَلَى الشَّك، وَرَوَاهُ الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي عَن الثِّقَة، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عبد(2/517)
الرَّحْمَن (بن) الْقَاسِم من غير شكّ، والثقة فِي كَلَام الشَّافِعِي هَذَا قد بَينه (فِي) حَرْمَلَة فَقَالَ: أَنا الشَّافِعِي، عَن الْوَلِيد بن مُسلم، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن ... فَذكره بِلَا شكّ؛ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ غَيره عَن الْوَلِيد بن مُسلم (والوليد بن يزِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن عبد الرَّحْمَن.
قلت: رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد أَيْضا عَن الْوَلِيد بن مُسلم) ثَنَا الْأَوْزَاعِيّ، حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل؛ فعلته أَنا وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاغتسلنا» .
(وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الدِّمَشْقِي، نَا الْوَلِيد بن مُسلم، نَا الْأَوْزَاعِيّ، حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، حَدثنِي الْقَاسِم بن مُحَمَّد، عَن عَائِشَة قَالَت: «إِذا التقَى الختانان فقد وَجب الْغسْل؛ فعلته أَنا وَرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم فاغتسلنا) .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» فِي عشرَة النِّسَاء، عَن (عبيد الله بن سعيد) نَا الْوَلِيد ... فَذكره، لكنه قَالَ: «إِذا جَاوز الْخِتَان (الْخِتَان(2/518)
فقد) وَجب الْغسْل؛ فعلته أَنا وَرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم فاغتسلنا» . وَرَوَاهُ أَيْضا التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمثنى، ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: «إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان وَجب الْغسْل؛ فعلته أَنا وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاغتسلنا» ثمَّ أورد حَدِيثا آخر (عَنْهَا) .
ثمَّ قَالَ: حَدِيث عَائِشَة حَدِيث حسن صَحِيح. اه.
وَاعْترض عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» عَلَيْهِ بِأَن قَالَ: قد قَالَ (هُوَ) فِي «علله» : قَالَ البُخَارِيّ: هَذَا خطأ؛ إِنَّمَا يرويهِ الْأَوْزَاعِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم مُرْسلا. وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد: (سَأَلت) الْقَاسِم بن مُحَمَّد: سَمِعت فِي هَذَا الْبَاب شَيْئا؟ قَالَ: لَا.
وَأجَاب ابْن الْقطَّان عَن هَذَا فَقَالَ فِي كِتَابه «الْوَهم وَالْإِيهَام» : لم يصب فِيمَا اعْترض بِهِ؛ لِأَن اعتلال البُخَارِيّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يروي مُرْسلا لَيْسَ بعلة فِيهِ، وَلَا أَيْضا قَول الْقَاسِم أَنه لم يسمع فِي هَذَا الْبَاب شَيْئا فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ شَيْئا يُنَاقض هَذَا الَّذِي رويت. لَا بُد من حمله عَلَى هَذَا التَّأْوِيل؛ لصِحَّة الحَدِيث الْمَذْكُور كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيّ.
قلت: هَذَا الْجَواب لَا يَخْلُو من نظر، وَقد صَححهُ مَعَ التِّرْمِذِيّ(2/519)
أَيْضا أَبُو حَاتِم بن حبَان؛ فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» (بِلَفْظِهِ) .
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث ذكره أَيْضا الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» وَلم يظفر بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي «مشكله» وَإِنَّمَا قَالَ: هُوَ ثَابت فِي «الصَّحِيح» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَعَائِشَة، وَأما بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور فَغير مَذْكُور فيهمَا. وَتَبعهُ النَّوَوِيّ، فَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى مَوَاضِع مِنْهُ: هَذَا الحَدِيث مَشْهُور مخرج (فِي) «الصَّحِيحَيْنِ» بِمَعْنَاهُ لَا بِلَفْظِهِ.
(قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا المُصَنّف لَا دلَالَة فِيهَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يحْتَج بغَيْرهَا) وَقَالَ فِي «تنقيحه» : هَذَا الحَدِيث أَصله صَحِيح، وَلَكِن فِيهِ تَغْيِير. (قلت) قد علمت (أَنه) لَا تَغْيِير فِيهِ، وَأَنه صَحِيح بِلَفْظِهِ، وَللَّه الْحَمد.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا التقَى الختانان وَجب الْغسْل» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ (مَالك كَمَا سَيَأْتِي، وَرَوَاهُ) الشَّافِعِي كَمَا سلف (وَرَوَاهُ) ابْن حبَان أَيْضا فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، وَرَوَاهُ أَيْضا(2/520)
من طَرِيقين آخَرين بِلَفْظ: «إِذا جَاوز» (بدل) «التقَى» وَكَذَا أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ثمَّ قَالَ: (حَدِيث عَائِشَة) حَدِيث حسن صَحِيح. وَأَصله فِي «صَحِيح مُسلم» بِلَفْظ: قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع وَمَسّ الْخِتَان الْخِتَان؛ فقد وَجب الْغسْل» .
وَله شَاهد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِيهِ أَيْضا: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع ثمَّ جهدها؛ فقد وَجب (عَلَيْهِ) الْغسْل» وَفِي رِوَايَة لَهُ «وَإِن لم ينزل» وَفِي رِوَايَة (للنسائي) : «وألزق الْخِتَان الْخِتَان؛ فقد وَجب الْغسْل» . وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «أنزل أَو لم ينزل» وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «إِذا التقَى الختانان، وَجب الْغسْل أنزل أَو لم ينزل» .
وَلِحَدِيث عَائِشَة طَرِيق آخر، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب «غرائب مَالك» من حَدِيث أبي قُرَّة مُوسَى بن طَارق الزبِيدِي - بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء - وَهُوَ ثِقَة، عَن مَالك، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي مُوسَى، عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان وَجب الْغسْل» .(2/521)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (لم يروه) عَن مَالك (غير) أبي قُرَّة.
الحَدِيث الْخَامِس
«أَن أم سليم جَاءَت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: إِن الله لَا يستحيي من الْحق! هَل عَلَى الْمَرْأَة من غسل إِذا هِيَ احْتَلَمت؟ قَالَ: نعم، إِذا رَأَتْ المَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث أم سَلمَة قَالَت: «جَاءَت أم سليم إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن الله لَا يستحيي من الْحق! فَهَل عَلَى الْمَرْأَة من غسل إِذا (هِيَ) احْتَلَمت؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: نعم، إِذا رَأَتْ المَاء. فَقَالَت أم (سَلمَة) : يَا رَسُول الله، وتحتلم الْمَرْأَة؟ ! فَقَالَ: تربت يداك، فَبِمَ يشبهها وَلَدهَا؟ ! هَذَا لفظ مُسلم، وَفِي لفظ لَهُ: «قلت: فضحت النِّسَاء» وَلَفظ البُخَارِيّ مثله، وَقَالَ: «إِذا رَأَتْ المَاء» وَلم يذكر لَفْظَة: «نعم» وَزَاد: «فغطت أم سَلمَة - يَعْنِي: وَجههَا - وَقَالَت: يَا رَسُول الله، وتحتلم الْمَرْأَة؟ ! قَالَ: نعم تربت يَمِينك؛ فَبِمَ يشبهها وَلَدهَا؟ !» .
خرجه فِي كتاب الْعلم، فِي بَاب الْحيَاء (فِيهِ) (وَذكره) فِي الطَّهَارَة بِلَفْظ الرَّافِعِيّ (سَوَاء) وَفِي رِوَايَة لَهُ فِي بَاب التبسم(2/522)
والضحك: «فَضَحكت أم سَلمَة (فَقَالَت: أتحتلم) الْمَرْأَة؟ ! فَقَالَ: «فَبِمَ يشبه الْوَلَد؟ !» .
وَانْفَرَدَ مُسلم بِإِخْرَاجِهِ من حَدِيث أنس، عَن أم سليم بِنَحْوِهِ، وَمن حَدِيث عَائِشَة «أَن امْرَأَة سَأَلت ... » فَذكره.
وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» حَدِيث أم سَلمَة، وَذكر الِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده قَالَ: وَرُوِيَ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة وَلَا يَصح. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة (أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْمَرْأَة تحتلم، فَقَالَ: تَجِد شَهْوَة؟ قَالَت: نعم. قَالَ: فلتغتسل» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: (عَن) عبد الله بن (طرفَة) عَن أم سَلمَة قَالَ: «قَالَت أم سليم: يَا رَسُول الله، الْمَرْأَة تحتلم؟ قَالَ: إِذا رَأَتْ المَاء الْأَصْفَر فلتغتسل» .
فَائِدَة: أم سليم اسْمهَا: سهلة (عَلَى) أحد الْأَقْوَال، وَهِي أم أنس، وَوَقع فِي كَلَام الصيدلاني، ثمَّ إِمَام الْحَرَمَيْنِ (ثمَّ) الْغَزالِيّ، ثمَّ الرَّوْيَانِيّ، ثمَّ مُحَمَّد بن يَحْيَى أَنَّهَا جدته، وغلطهم ابْن الصّلاح، ثمَّ النَّوَوِيّ فِي ذَلِك، وَقد أبديت وَجهه فِي كتابي «تذكرة الأخيار بِمَا فِي الْوَسِيط من الْأَخْبَار» فسارع إِلَيْهِ.(2/523)
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من غسل مَيتا فليغتسل» .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق كَثِيرَة، يَدُور - فِيمَا حصرنا مِنْهَا - عَلَى سِتَّة من الصَّحَابَة أبي هُرَيْرَة، وَعَائِشَة، وَعلي، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان، والمغيرة رَضي اللهُ عَنهم.
أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فيحضرنا من (طرقه) ثَلَاثَة عشر طَرِيقا:
الأول: عَن سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه عَنهُ مَرْفُوعا: «من غسله الْغسْل، وَمن حمله الْوضُوء - يَعْنِي: الْمَيِّت» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَاللَّفْظ لَهُ، وَابْن مَاجَه وَلَفظه كَلَفْظِ الرَّافِعِيّ سَوَاء؛ روياه من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار، عَن سُهَيْل (بِهِ) .
الثَّانِي: (عَن سُهَيْل) أَيْضا عَن أَبِيه، عَن إِسْحَاق مولَى زَائِدَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِمَعْنَاهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن حَامِد بن يَحْيَى، عَن سُفْيَان، عَن سُهَيْل بِهِ.
الثَّالِث: عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن صَالح مولَى التوءمة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل، وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» . رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» .(2/524)
الرَّابِع: عَن عَمْرو بن عُمَيْر، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل الْمَيِّت (فليغتسل) وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب، عَن الْقَاسِم بن عَبَّاس، عَن عَمْرو بِهِ.
الْخَامِس: عَن زُهَيْر، عَن الْعَلَاء، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِمثل الَّذِي قبله. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» .
السَّادِس: عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «من غسل جَنَازَة - يَعْنِي: مَيتا - فليغتسل، وَمن حملهَا فَليَتَوَضَّأ» . رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» .
السَّابِع: عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل، وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» . رَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا.
الثَّامِن: عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن رجل يُقَال لَهُ: أَبُو إِسْحَاق، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل» . رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» .
التَّاسِع: عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا مثل الَّذِي قبله. رَوَاهُ ابْن حزم فِي «محلاه» هَكَذَا، وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من حَدِيث مُحَمَّد بن شُجَاع، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل» .(2/525)
الْعَاشِر: عَن أبي بَحر البكراوي، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة (مَرْفُوعا) بِنَحْوِ مِمَّا قبله. رَوَاهُ الْبَزَّار عَن يَحْيَى بن حَكِيم (بِهِ) .
الْحَادِي عشر: عَن صَفْوَان بن سليم عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل الْمَيِّت الْغسْل، وَمن حمله الْوضُوء» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من غسل مَيتا فليغتسل» لم يزدْ.
الثَّانِي عشر: عَن مُحَمَّد بن عجلَان، عَن الْقَعْقَاع بن حَكِيم، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل، وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» .
الثَّالِث عشر: عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة، ذكر هَذَا الطَّرِيق وَالَّذِي قبله الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي «كتاب الإِمَام» .
هَذَا مَجْمُوع مَا حصرنا من طَرِيق حَدِيث أبي هُرَيْرَة، ولنذكر أَولا مقالات الْحفاظ فِيهِ، ثمَّ نبين بعد ذَلِك مَا يَقْتَضِيهِ النّظر والبحث عَلَى وَجه الْإِنْصَاف؛ فَنَقُول: ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (جَمِيع) مَا عزيناه مِمَّا قدمْنَاهُ عَنهُ وَضَعفه، ثمَّ قَالَ: وَالصَّحِيح فِيهِ أَنه مَوْقُوف عَلَى أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ البُخَارِيّ: الْأَشْبَه أَنه مَوْقُوف. (قَالَ:) وَقَالَ أَحْمد وَعلي(2/526)
بن الْمَدِينِيّ: لَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب شَيْء قَالَ: وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول - وَقد سُئِلَ عَن الْغسْل من غسل الْمَيِّت، فَقَالَ -: يُجزئهُ الْوضُوء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إِن أَحْمد وَعلي بن الْمَدِينِيّ قَالَا: لم يَصح فِي هَذَا الْبَاب شَيْء، لَيْسَ بِذَاكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِي: إِنَّمَا مَنَعَنِي من إِيجَاب الْغسْل من غسل الْمَيِّت (أَن) فِي إِسْنَاده رجلا لم أَقف عَلَى معرفَة ثَبت حَدِيثه إِلَى يومي هَذَا عَلَى مَا يَقْتَضِي؛ فَإِن وجدت مَا يقنعني أوجبته وأوجبت الْوضُوء من مس الْمَيِّت مفضيًا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُمَا فِي حَدِيث وَاحِد.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقَالَ مُحَمَّد بن يَحْيَى - يَعْنِي: الذهلي - شيخ البُخَارِيّ: لَا أعلم فِيمَن غسل مَيتا فليغتسل حَدِيثا ثَابتا (وَلَو ثَبت) لزمنا اسْتِعْمَاله. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالرِّوَايَات المرفوعة فِي هَذَا الْبَاب غير قَوِيَّة؛ لجَهَالَة بعض رواتها وَضعف بَعضهم، وَالصَّحِيح من قَوْله مَوْقُوفا غير مَرْفُوع.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن رَفعه فَقَالَ: خطأ؛ لَا يرفعهُ الثِّقَات؛ إِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف عَلَى أبي هُرَيْرَة. قَالَ: وَسَأَلته عَن الرجل - يَعْنِي: الَّذِي فِي الطَّرِيق الثَّامِن - من هُوَ، وَهل يُسمى؟ فَقَالَ: لَا.(2/527)
وَنقل أَصْحَابنَا عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ فِي الْبُوَيْطِيّ: إِن صَحَّ الحَدِيث قلت بِوُجُوبِهِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث يرويهِ ابْن أبي ذِئْب، عَن المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة، وَاخْتلف عَنهُ، فَرَوَاهُ حبَان بن عَلّي، عَن ابْن أبي ذِئْب بِهِ. وَخَالفهُ يَحْيَى الْقطَّان وَيَحْيَى بن أَيُّوب والدراوردي وحجاج بن مُحَمَّد وَعبد الصَّمد بن النُّعْمَان وَابْن أبي فديك، رَوَوْهُ عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن صَالح مولَى التوءمة، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: وَأغْرب ابْن أبي فديك فِيهِ بِإِسْنَادَيْنِ آخَرين: أَحدهمَا: عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة. وَالْآخر: عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن الْقَاسِم بن عَبَّاس، عَن عَمْرو بن عُمَيْر، عَن أبي هُرَيْرَة.
قَالَ: وَحَدِيث المَقْبُري أصح.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي آخر الْجَنَائِز: هَذَا الحَدِيث مُخْتَلف فِيهِ عَلَى مُحَمَّد بن (عَمْرو) وَهُوَ مرفوض.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَن الْمَحْفُوظ فِي الطَّرِيق الأول وَقفه عَلَى أبي هُرَيْرَة، وَفِي الطَّرِيق الثَّانِي صَالح مولَى التوءمة، قَالَ مَالك: لَيْسَ بِثِقَة. وَكَانَ شُعْبَة ينْهَى أَن يُؤْخَذ عَنهُ، وَلَا يروي (عَنهُ) وَفِي الثَّالِث - وَهُوَ فِيمَا قدمْنَاهُ التَّاسِع - مُحَمَّد بن عَمْرو، قَالَ يَحْيَى: مَا زَالَ النَّاس يَتَّقُونَ حَدِيثه. وَفِي الرَّابِع - وَهُوَ فِيمَا قدمْنَاهُ الثَّامِن - رجل مَجْهُول، قَالَ: (وَقد) رَوَاهُ ابْن لَهِيعَة من(2/528)
حَدِيث صَفْوَان عَن أبي سَلمَة، وَابْن لَهِيعَة لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «شرح مُسْند الشَّافِعِي» : عُلَمَاء الحَدِيث لم يصححوا فِي هَذَا الْبَاب شَيْئا مَرْفُوعا (وصححوه) عَن أبي هُرَيْرَة مَوْقُوفا، وَقَالَ فِي هَذَا الْكتاب - أَعنِي «شرح الْوَجِيز» -: والْحَدِيث إِن ثَبت مَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب. وَنقل النَّوَوِيّ عَن الْجُمْهُور تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث، وَأنكر عَلَى التِّرْمِذِيّ تحسينه.
هَذَا مَا حَضَرنَا من كَلَام الْحفاظ قَدِيما وحديثًا عَلَيْهِ، وَحَاصِله تَضْعِيف رَفعه وَتَصْحِيح وَقفه، وَلَا بُد من النّظر فِي ذَلِك عَلَى سَبِيل التَّفْصِيل دون الِاكْتِفَاء بالتقليد، وَقد قَامَ بذلك صَاحب «الإِمَام» وَحَاصِل مَا يعتل بِهِ فِي ذَلِك وَجْهَان:
أَحدهمَا: من جِهَة رجال الْإِسْنَاد، فَأَما رِوَايَة صَالح مولَى التوءمة - وَهِي الطَّرِيق الثَّالِث - (فقد) سلف قَول مَالك وَشعْبَة فِيهِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : اخْتَلَط فِي آخر عمره، فَخرج عَن (حد) الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَأما رِوَايَة عَمْرو بن عُمَيْر - وَهِي الطَّرِيق الرَّابِع - فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ (فِيهِ) : إِنَّمَا (يعرف) بِهَذَا الحَدِيث، وَلَيْسَ بالمشهور. وَقَالَ(2/529)
ابْن الْقطَّان: إِنَّه مَجْهُول الْحَال لَا يعرف بِغَيْر هَذَا، (وَهَذَا) الحَدِيث من غير مزِيد ذكره (ابْن أبي حَاتِم) . قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا عِلّة الْخَبَر.
وَأما زُهَيْر الْمَذْكُور فِي الطَّرِيق الْخَامِس فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: رَوَى عَنهُ أهل الشَّام أَحَادِيث مَنَاكِير. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَأما حَدِيث الْعَلَاء - وَهُوَ السَّادِس - فَقَالَ ابْن الْقطَّان: لَيْسَ بِمَعْرُوف.
وَأما السَّابِع: فَفِي إِسْنَاده أَبُو (وَاقد) واسْمه: صَالح بن مُحَمَّد بن زَائِدَة. قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ حَدِيثه بِذَاكَ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَجَمَاعَة: ضَعِيف. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
وَأما الثَّامِن: فَفِيهِ أَبُو إِسْحَاق، وَهُوَ مَجْهُول، كَمَا سلف عَن أبي حَاتِم الرَّازِيّ.
وَأما التَّاسِع: فمحمد بن (عَمْرو) قَالَ يَحْيَى: مَا زَالَ النَّاس يَتَّقُونَ حَدِيثه.
وَأما الْعَاشِر: فالبكراوي، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان، طرح النَّاس حَدِيثه، كَمَا قَالَه أَحْمد، وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: ذهب حَدِيثه.(2/530)
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِقَوي، يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ يَحْيَى وَالنَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي المقلوبات عَن الْأَثْبَات، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَأما الْحَادِي عشر: فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة (وحنين) بن أبي حَكِيم، وَلَا يحْتَج بهما.
الْوَجْه الثَّانِي: التَّعْلِيل؛ فَأَما رِوَايَة سُهَيْل فقد قَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّه رُوِيَ مَوْقُوفا. وَأَيْضًا؛ فقد رَوَاهُ سُفْيَان، عَن سُهَيْل، عَن أَبِيه، عَن إِسْحَاق مولَى زَائِدَة، عَن أبي هُرَيْرَة - كَمَا سلف - فَأدْخل (رجلا) بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة، وَهَذَا اخْتِلَاف.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : وَإِنَّمَا لم يقو عِنْدِي أَنه يرْوَى عَن سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة، وَيدخل بعض الْحفاظ بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة «إِسْحَاق مولَى زَائِدَة» . قَالَ: فَيدل عَلَى (أَن) أَبَا صَالح لم يسمعهُ من أبي هُرَيْرَة، وَلَيْسَت معرفتي [بِإسْحَاق] مولَى زَائِدَة مثل معرفتي بِأبي صَالح، وَلَعَلَّه أَن يكون ثِقَة.
(وَأما) رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب؛ فقد أسلفنا (روايتنا) لَهُ عَن(2/531)
صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، وَعَن الْقَاسِم بن عَبَّاس، عَن عَمْرو بن عُمَيْر، عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ عقب (رِوَايَة) ابْن أبي ذِئْب: وَصَالح مولَى التوءمة لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو فقد رَوَاهَا عبد الْوَهَّاب عَنهُ مَوْقُوفَة عَلَى أبي هُرَيْرَة، وَرجحه بَعضهم عَلَى الرّفْع. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ. وَرَوَاهُ مُعْتَمر (أَيْضا) عَن مُحَمَّد فَوَقفهُ، وَقد أسلفنا عَن أبي حَاتِم أَن الرّفْع خطأ. ثمَّ شرع الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين يُجيب عَن ذَلِك فَقَالَ: لقَائِل أَن يَقُول: أما الْكَلَام عَلَى صَالح مولَى التوءمة فَهُوَ وَإِن كَانَ مَالك قَالَ فِيهِ: إِنَّه لَيْسَ بِثِقَة - كَمَا قدمْنَاهُ - واستضعفه غَيره (فقد قَالَ) يَحْيَى فِيهِ: إِنَّه ثِقَة حجَّة. قيل لَهُ: إِن مَالِكًا (ترك) السماع مِنْهُ! فَقَالَ: (إِن) مَالِكًا إِنَّمَا أدْركهُ بعد أَن خرف، وَلَكِن ابْن أبي ذِئْب سمع مِنْهُ قبل أَن يخرف.
وَقَالَ السَّعْدِيّ: تغير جدًّا، وَحَدِيث ابْن أبي ذِئْب (مَقْبُول) مِنْهُ لقدم سَمَاعه. قَالَ الشَّيْخ: فَهَذَا يَقْتَضِي أَن كَلَام مَالك فِيهِ بعد تغيره وَأَن رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب قديمَة مَقْبُولَة، وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عَنهُ. قَالَ: وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَن قَول الْبَيْهَقِيّ فِيهِ «إِنَّه اخْتَلَط فِي آخر(2/532)
عمره؛ فَخرج عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ» لِأَنَّهُ قد تبين بِشَهَادَة من تقدم بقدم سَماع ابْن أبي ذِئْب وَأَنه مَقْبُول.
قلت: وَبِه يُجَاب (أَيْضا) عَن إعلال ابْن الْجَوْزِيّ الحَدِيث بِهِ كَمَا أسلفناه عَنهُ. قَالَ الشَّيْخ: وَأما رِوَايَة سُهَيْل، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة فسندها عِنْد التِّرْمِذِيّ من شَرط الصَّحِيح، وَقَالَ فِيهَا التِّرْمِذِيّ: إِنَّه حَدِيث حسن، وَعبد الْعَزِيز (بن) الْمُخْتَار وَأَبُو صَالح مُتَّفق عَلَيْهِمَا، وَمُحَمّد بن عبد الْملك و (سُهَيْل) أخرج لَهما مُسلم. وَقَالَ الشَّيْخ فِي (الْإِلْمَام) أَيْضا: رِجَاله رجال مُسلم. وَقد أخرجهَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج الشَّامي، حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن سُهَيْل، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل، وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» وَفِي هَذِه الرِّوَايَة فَائِدَة أُخْرَى؛ وَهِي مُتَابعَة حمادٍ عبدَ الْعَزِيز.
وَأما رِوَايَة سُفْيَان وَإِدْخَال إِسْحَاق بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة، فَكَمَا قَالَ الشَّافِعِي يدل عَلَى أَن أَبَا صَالح لم يسمعهُ من أبي هُرَيْرَة، وَلَكِن إِسْحَاق مولَى زَائِدَة موثق أخرج لَهُ مُسلم، وَقَالَ يَحْيَى: ثِقَة. وَإِذا كَانَ ثِقَة، فكيفما كَانَ الحَدِيث عَنهُ أَو عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، لم يخرج عَن ثِقَة.
قلت: وَقَول الشَّافِعِي السالف إِن فِي إِسْنَاده رجلا لم أَقف (عَلَى(2/533)
معرفَة) ثَبت حَدِيثه إِلَى يومي عَلَى مَا يقنعني. الظَّاهِر أَنه أَرَادَ إِسْحَاق هَذَا وَقد وضح لَك ثقته، وَقد قَالَ فِيهِ مرّة أُخْرَى: لَعَلَّه أَن يكون ثِقَة. كَمَا أسلفناه عَنهُ.
وَأما طَرِيق أبي دَاوُد الَّذِي زيد فِيهِ «إِسْحَاق» فَلَا أرَى لَهُ عِلّة لصِحَّة إِسْنَاده واتصاله. حَامِد بن يَحْيَى الْمَذْكُور فِي أول إِسْنَاده مَشْهُور، قَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق. وَذكر جَعْفَر الْفرْيَابِيّ أَنه سَأَلَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ عَنهُ فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ الله، أُبْقِي حَامِد إلىأن يحْتَاج يسْأَل عَنهُ؟ ! وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ: كَانَ أعلم زَمَانه وَمن بعده مخرج لَهُ فِي «الصَّحِيح» . وَقد جنح ابْن حزم الظَّاهِرِيّ (إِلَى تَصْحِيحه) فَإِنَّهُ احْتج بِهِ فِي الْمَسْأَلَة وَقَالَ: إِسْحَاق مولَى زَائِدَة ثِقَة مدنِي، وَثَّقَهُ أَحْمد بن صَالح الْكُوفِي وَغَيره.
وَأما زُهَيْر فقد أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة. وَقَالَ يَحْيَى: ثِقَة. وَقَالَ أَحْمد: مقارب الحَدِيث. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ الْعجلِيّ: جَائِز الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَحَله الصدْق، فِي حفظه سوء (وَقَالَ: حَدِيثه) بِالشَّام، أنكر من حَدِيثه بالعراق لسوء حفظه، وَمَا (حدث) بِهِ من حفظه فَهُوَ أغاليط.(2/534)
قلت: وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة أهل الشَّام عَنهُ (الَّتِي) قَالَ البُخَارِيّ فِيهَا مَا سلف، لَكِن رَوَى البُخَارِيّ (أَيْضا) عَن أَحْمد أَنه قَالَ: كأنَّ (زهيرًا) الَّذِي رَوَى عَنهُ أهل الشَّام (زُهَيْر) آخر.
وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو (فقد) احْتج بهَا ابْن حزم حَيْثُ رَوَاهَا من جِهَة حَمَّاد بن سَلمَة، وَمُحَمّد بن عَمْرو رَوَى عَنهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ وتابع (بِهِ) مُسلم، وَقد رفع هَذَا الحَدِيث حَمَّاد، وَتَابعه أَبُو (بَحر) وَفِي قَول أبي حَاتِم: يكْتب حَدِيثه. مَا يَقْتَضِي أَن يَجْعَل تَأْكِيدًا فِي رَفعه، وَرِوَايَة الْوَقْف لم يَعْتَبِرهَا ابْن حزم تَقْدِيمًا للرفع عَلَيْهَا، وَقَالَ (عَلّي) بن الْمَدِينِيّ: كَانَ يَحْيَى بن سعيد حسن الرَّأْي فِي أبي بَحر.
وَأما ابْن لَهِيعَة فقد (سلفت) تَرْجَمته فِيمَا مَضَى، وَأما حنين بن أبي حَكِيم فقد وَثَّقَهُ ابْن حبَان.
وَأما الِاخْتِلَاف عَلَى ابْن أبي ذِئْب فقد يُقَال: إنَّهُمَا إسنادان مُخْتَلِفَانِ لِابْنِ أبي ذِئْب لَا يُعلل أَحدهمَا بِالْآخرِ؛ لاخْتِلَاف رجالهما.(2/535)
وَأما قَول ابْن الْقطَّان فِي حَدِيث الْعَلَاء: إِنَّه لَيْسَ بِمَعْرُوف. إِن أَرَادَ أَنه لَا يعرف مخرجه فَلَيْسَ كَذَلِك، فقد خرجه الْبَزَّار كَمَا أسلفناه، وَإِن أَرَادَ (مَعَ) (معرفَة طَرِيقه) أَنه غير مَشْهُور؛ فَلَا (يُنَاسِبه) ذَلِك، وَإِنَّمَا (يُنَاسِبه) النّظر فِي رجال إِسْنَاده.
وَأما أَبُو وَاقد فقد قَالَ أَحْمد فِيهِ: مَا أرَى بِهِ بَأْسا. فَلَعَلَّ ذَلِك يَقْتَضِي أَن يُتَابع بروايته، وَأما (جَهَالَة) بعض رُوَاته فَلَا يقْدَح فِيمَا صَحَّ مِنْهُمَا؛ فقد ظهر صِحَة بعض طرقه وَحسن بَعْضهَا ومتابعة الْبَاقِي لَهَا، فَلَا يخْفَى إِذا مَا فِي إِطْلَاق الضعْف عَلَيْهَا، وَإِن الْأَصَح الْوَقْف، وَقد علم أَيْضا مَا يعْمل عِنْد اجْتِمَاع الرّفْع وَالْوَقْف وشهرة الْخلاف (فِيهِ) ، وَقد نقل الإِمَام أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي «حاويه» عَن بعض أَصْحَاب الحَدِيث أَنه خرج لصِحَّة هَذَا الحَدِيث مائَة وَعشْرين طَرِيقا، فَأَقل أَحْوَاله (إِذا) أَن يكون حسنا.
تَنْبِيه: اعْلَم أَن الرَّافِعِيّ أورد هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ «الْمس» دون «الْحمل» فَقَالَ: رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من غسل مَيتا فليغتسل، وَمن مَسّه فَليَتَوَضَّأ» . وَلم أَقف عَلَى لفظ «الْمس» فِي رِوَايَة بعد الفحص عَنهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِلَفْظ «الْحمل» بدله، وَكَذَا أوردهُ هُوَ - أَعنِي: الرَّافِعِيّ - فِي كِتَابه «الأمالي الشارحة لمفردات الْفَاتِحَة» نعم كَلَام الشَّافِعِي السالف(2/536)
(دَال) عَلَى وُرُوده فِيهِ؛ إِذْ قَالَ: فَإِن وجدت مَا يقنعني (أوجبته) وأوجبت الْوضُوء من مس الْمَيِّت؛ فَإِنَّهُمَا فِي حَدِيث وَاحِد. وَكَذَا قَول الْمُزنِيّ أَيْضا: الْغسْل من غسل الْمَيِّت غير مَشْرُوع، وَكَذَا الْوضُوء من مس الْمَيِّت وَحمله؛ لِأَنَّهُ لم يَصح فِيهَا شَيْء دَال عَلَى ذَلِك.
وَقد آن لنا أَن نعود إِلَى الْكَلَام عَلَى بَقِيَّة الْأَحَادِيث؛ فَنَقُول: وَأما حَدِيث عَائِشَة فَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث مُصعب بن شيبَة، عَن طلق بن حبيب، عَن عبد الله بن الزبير، عَن عَائِشَة (رَضي اللهُ عَنها أَنَّهَا حدثته) «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يغْتَسل من أَربع: من الْجَنَابَة، وَيَوْم الْجُمُعَة (وَمن) الْحجامَة، وَمن غسل الْمَيِّت» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ: «الْغسْل من أَرْبَعَة (من) الْجَنَابَة، وَالْجُمُعَة، والحجامة، وَغسل الْمَيِّت» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «الْغسْل من خَمْسَة: من الْجَنَابَة، والحجامة، وَغسل يَوْم الْجُمُعَة، وَالْمَيِّت، وَمن مَاء الْحمام» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» (بِثَلَاثَة أَلْفَاظ) «كَانَ يغْتَسل» ، «يُغتَسل» «الغُسل» وَأعله الْأَثْرَم بعلل:
أَحدهَا: أَنه سمع أَبَا (عبد الله) - يَعْنِي: أَحْمد بن حَنْبَل - يتَكَلَّم فِي مُصعب بن شيبَة، وَذكر (أَن) لَهُ أَحَادِيث (مَنَاكِير قَالَ: وسمعته(2/537)
يتَكَلَّم عَلَى هَذَا الحَدِيث) بِعَيْنِه.
ثَانِيهَا: أَن عَائِشَة كَانَت ترخص فِي غسل الْجُمُعَة؛ فَكيف تذكر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بِهِ؟ !
ثَالِثهَا: أَنه صَحَّ عَنْهَا إِنْكَار الْغسْل من غسل الْمَيِّت، فَكيف ترويه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وتنكر (عَلَى من) فعله.
رَابِعهَا: أَن فِيهِ الْغسْل من الْحجامَة، وَهُوَ مُنكر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لإِجْمَاع الْأمة عَلَى أَنه لَا يجب، زَاد ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ناسخه ومنسوخه» : وَلَا يسْتَحبّ إِجْمَاعًا. وَقَالَ فِي «علله» - أَعنِي ابْن الْجَوْزِيّ -: هَذَا حَدِيث لَا يَصح. ثمَّ ذكر عَن أَحْمد أَنه قَالَ فِي مُصعب بن شيبَة: أَحَادِيثه مَنَاكِير. قَالَ: وَلَا يثبت فِي هَذَا حَدِيث.
وَقَالَ الْخطابِيّ: فِي إِسْنَاده مقَال. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أَبَا زرْعَة عَن الْغسْل من الْحجامَة فَقلت: يرْوَى مَرْفُوعا «الْغسْل من أَربع ... » فَقَالَ: لَا يَصح هَذَا، رَوَاهُ مُصعب بن شيبَة، وَلَيْسَ بِقَوي. فَقلت لَهُ: لم (يرو عَن) عَائِشَة من غير حَدِيث مُصعب؟ قَالَ: لَا. وَحَكَى الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» تَضْعِيفه عَن أَحْمد أَيْضا، وَعَن(2/538)
التِّرْمِذِيّ أَنه نقل عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ فِي «سنَنه» : مَا أرَى مُسلما تَركه إِلَّا لطعن بعض الْحفاظ فِيهِ. وَجزم بضعفه من الْمُتَأَخِّرين: النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» فَقَالَ: إِسْنَاده ضَعِيف.
وَالْجَوَاب عَن الْعلَّة الأولَى أَن مُصعب بن شيبَة أخرج لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» محتجًّا بِهِ، وَكَذَا بَاقِي السّنَن الْأَرْبَعَة، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : رُوَاة هَذَا الحَدِيث كلهم ثِقَات؛ فَإِن طلق بن حبيب وَمصْعَب بن شيبَة قد أخرج مُسلم بن الْحجَّاج وَجَمَاعَة حَدِيثهمَا فِي الصَّحِيح، وَرُوِيَ عَن (أبي كريب، عَن يَحْيَى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة) عَن أَبِيه بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه حَدِيث «عشر من الْفطْرَة» وَسَائِر رُوَاته مُتَّفق عَلَيْهِم. قَالَ: وَشَاهده حَدِيث أبي هُرَيْرَة ... فَذكره من حَدِيث إِسْحَاق مولَى زَائِدَة، وَعَمْرو بن عُمَيْر (عَنهُ) . وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَجزم الْمجد فِي «أَحْكَامه» بِأَنَّهُ عَلَى شَرط مُسلم، وَكَذَا الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «اقتراحه» أَي: لِأَن مصعبًا وطلقًا انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنْهُمَا مُسلم، وَرَوَاهُ إِمَام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» (عَن عَبدة) عَن عبد الله الْخُزَاعِيّ، عَن(2/539)
مُحَمَّد بن بشر، عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن مُصعب بِهِ.
وَأما مَا ذكره بعد ذَلِك من «الْعِلَل» فَفِيهِ مَا لَيْسَ من صناعَة الْإِسْنَاد، كَمَا نبه عَلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين، وَنَقله الْإِجْمَاع عَلَى عدم (الْوُجُوب) لَا يَقْتَضِي تَضْعِيف الحَدِيث (لجَوَاز أَن) يحمل عَلَى الِاسْتِحْبَاب، وَأما نقل ابْن الْجَوْزِيّ الْإِجْمَاع عَلَى أَنه لَا يسْتَحبّ الْغسْل من الْحجامَة فَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ فَإِن الشَّافِعِي (نَص) عَلَى اسْتِحْبَابه؛ كَمَا نَقله النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» (عَن) نَصه فِي الْقَدِيم، وَعَن حِكَايَة الْقفال عَن النَّص وَهَذَا نَص قديم لَا معَارض لَهُ فِي الْجَدِيد؛ فَيكون مذْهبه.
وَأما حَدِيث عَلّي فَسَيَأْتِي فِي الْجَنَائِز حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ.
وَأما حَدِيث أبي سعيد فَرَوَاهُ حَرْمَلَة بن يَحْيَى، عَن ابْن وهب، عَن أُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الْغسْل من الْغسْل، وَالْوُضُوء من الْحمل» . وَأُسَامَة هَذَا صَدُوق فِيهِ (لين يسير) وَقد أخرج لَهُ م 4.
وَأما حَدِيث حُذَيْفَة فَرَوَاهُ معمر، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أَبِيه عَنهُ مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل» (ذكره) ابْن أبي حَاتِم فِي «علله»(2/540)
وَقَالَ: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: حَدِيث غلط. وَلم يبين غلطه، وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ فِي «علله» : إِنَّه لَا يثبت. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : إِسْنَاده سَاقِط. (وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» و «ناسخه ومنسوخه» ) وَقَالَ فِي «علله» : لَا يَصح. قَالَ: وَأَبُو إِسْحَاق تغير بِأخرَة، وَأَبوهُ لَيْسَ بِمَعْرُوف فِي النَّقْل.
وَأما حَدِيث الْمُغيرَة، فَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» فَقَالَ: ثَنَا يَعْقُوب، ثَنَا أبي، عَن ابْن إِسْحَاق قَالَ: (وَقد) كنت حفظت (من) كثير من عُلَمَائِنَا بِالْمَدِينَةِ أَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم كَانَ يروي عَن (ابْن) الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَحَادِيث مِنْهَا أَنه حَدثهُ (أَبوهُ) أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «من غسل مَيتا فليغتسل» .
خَاتِمَة: لما ذكر أَبُو دَاوُد حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: إِنَّه مَنْسُوخ. وَقَالَ مثله أَبُو حَفْص بن شاهين قَالَ: وناسخه حَدِيث ابْن عَبَّاس: «لَيْسَ عَلَيْكُم فِي ميتكم غسل إِذا غسلتموه، وحسبكم أَن تغسلوا أَيْدِيكُم»(2/541)
وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث فِي بَاب الْجُمُعَة حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ - إِن شَاءَ الله - وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ناسخه ومنسوخه» الْمُسَمَّى ب «الْإِعْلَام» فَذكر حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف، وَكَذَا حَدِيث عَائِشَة وَحَدِيثه، ثمَّ ذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «لَيْسَ عَلَيْكُم فِي ميتكم غسل إِذا غسلتموه إِن ميتكم لَيْسَ بِنَجس» وَرَوَاهُ مَوْقُوفا عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي أرَاهُ أَن أَحَادِيث الْغسْل من غسل الْمَيِّت لَا تثبت، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: «وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» وَذَلِكَ مَتْرُوك بِالْإِجْمَاع؛ فَكَذَلِك الْغسْل. قَالَ: وَكَذَلِكَ من الْحجامَة مُنكر؛ فَإِنَّهُ لَا يجب وَلَا يسْتَحبّ إِجْمَاعًا، وَقد (أسلفت) لَك مَا فِي هَذَا، وَأول غَيره قَوْله: «وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» عَلَى: من أَرَادَ حمله ومتابعته فَليَتَوَضَّأ من أجل الصَّلَاة عَلَيْهِ. ذكره الْحَاكِم فِي «تَارِيخه» عَن أبي بكر الضبعِي حَيْثُ قَالَ: سمعته. وَقد سُئِلَ عَنهُ، فَقَالَ: إِن صَحَّ هَذَا الْخَبَر فَمَعْنَاه أَن يتَوَضَّأ قبل حمله شَفَقَة أَن تفوته الصَّلَاة بعد الْحمل، كَمَا (قَالَ) عَلَيْهِ السَّلَام: «من رَاح إِلَى الْجُمُعَة فليغتسل» أَي: قبل الرواح. وَلما ذكر أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف قَالَ: أُضمر فِي الْخَبَر قَوْله: إِذا لم يكن بَينهمَا حَائِل.
فَائِدَة: ذكر الشَّيْخ أَبُو عَلّي السنجي فِي «شرح التَّلْخِيص» فِي بَاب(2/542)
الْجُمُعَة أَن أَصْحَابنَا اخْتلفُوا فِي قَوْله: «وَمن مَسّه فَليَتَوَضَّأ» عَلَى وُجُوه مِنْهَا أَنه عَلَى ظَاهره وَيجْعَل الْوضُوء وَاجِبا عَلَيْهِ، قَالُوا: لِأَن بدنه بِالْمَوْتِ صَار عَورَة (وَقيل) : إِن النّظر إِلَى بدنه حرَام إِلَّا لضَرُورَة فَصَارَ كبدن الْمَرْأَة كَذَا ذكره، وَهُوَ غَرِيب، وَجزم ابْن يُونُس أَيْضا فِي «شرح التَّعْجِيز» بِأَن بدنه عَورَة، وَيحرم النّظر إِلَى جَمِيع بدنه، وَلَا أعلم من ذكر ذَلِك غَيرهمَا.
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يقْرَأ الْجنب وَلَا الْحَائِض شَيْئا من الْقُرْآن» .
هَذَا الحَدِيث فِيهِ مقَال رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش - بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة تَحت، ثمَّ شين مُعْجمَة - الْعَنسِي - بالنُّون - (الْحِمصِي، عَالم أهل الشَّام) عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِهِ. وَقد وَقع لنا بعلو كَمَا ذكرته بإسنادي فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الْمُهَذّب» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نَعْرِف هَذَا الحَدِيث إِلَّا من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن مُوسَى بن عقبَة. قَالَ: وَسمعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل -(2/543)
يَعْنِي: البُخَارِيّ - يَقُول: إِن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش يروي عَن أهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق أَحَادِيث مَنَاكِير. كَأَنَّهُ ضعف رِوَايَته عَنْهُم فِيمَا ينْفَرد بِهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا (حَدِيثه) عَن أهل الشَّام - أَي وَحَدِيثه هَذَا عَن أهل الْحجاز، كَمَا صرح بِهِ عبد الْحق (فِي «أَحْكَامه» ) - وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: إِسْمَاعِيل أصلح من بَقِيَّة.
قَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث لَا نعلم رَوَاهُ عَن مُوسَى بن عقبَة إِلَّا إِسْمَاعِيل، وَلَا نعلم يرْوَى عَن ابْن عمر من وَجه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَلَا يرْوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْحَائِض إِلَّا من هَذَا الْوَجْه.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» : لَيْسَ هَذَا بِالْقَوِيّ، وَاسْتشْهدَ بِهِ فِي «الْمعرفَة» وَقَالَ: إِن سلم (من) إِسْمَاعِيل وَمن تَابعه.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن مُحَمَّد بن حَمْدَوَيْه، نَا عبد الله بن حَمَّاد الآملي، عَن عبد الْملك بن (مسلمة) عَن الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن مُوسَى بن عقبَة، وَلم يذكر الْحَائِض، وَمن حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الحساني، عَن رجل، عَن أبي معشر، عَن مُوسَى بِهِ بِذكر الْحَائِض، وَمن حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن مُوسَى بن عقبَة(2/544)
و (عبيد الله) بن (عمر) ، عَن نَافِع بِهِ، و (فيهمَا) رد عَلَى قَول الْبَزَّار أَنه (لَا نعلم رَوَاهُ عَن مُوسَى بن عقبَة إِلَّا إِسْمَاعِيل؛ فقد تَابعه الْمُغيرَة وَأَبُو معشر) وَصحح شَيخنَا الْحَافِظ فتح الدَّين الْيَعْمرِي فِي «شَرحه لِلتِّرْمِذِي» طَرِيق الْمُغيرَة، وَنقل تَوْثِيق رواتها مُحَمَّد بن حَمْدَوَيْه، ذكره الْخَطِيب فِي «تَارِيخه» وَقَالَ: ثِقَة. والآملي أخرج لَهُ البُخَارِيّ، وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان، والمغيرة هُوَ الْحزَامِي مُتَّفق عَلَيْهِ، قَالَ: فَالْحَدِيث إِذا صَحِيح الْإِسْنَاد؛ لِأَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش لم ينْفَرد بِهِ عَن مُوسَى بن عقبَة.
قلت: لَكِن فَاتَ شَيخنَا ذكر حَال عبد الْملك بن مسلمة الَّذِي يرويهِ عَن الْمُغيرَة، وَهُوَ ضَعِيف؛ فقد قَالَ ابْن حبَان: يروي مَنَاكِير كَثِيرَة. وَقَالَ ابْن يُونُس: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: (مُضْطَرب) لَيْسَ بِقَوي، حَدثنِي بِحَدِيث فِي الْكَرم عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن جِبْرِيل مَوْضُوع. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: عبد الْملك هَذَا كَانَ بِمصْر، وَهَذَا غَرِيب عَن مُغيرَة(2/545)
بن عبد الرَّحْمَن وَهُوَ ثِقَة. وَضَعفه الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» أَيْضا.
قلت: فَلَو سلم الْإِسْنَاد من هَذَا الرجل لصَحَّ. وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فأعل هَذِه الطَّرِيقَة فِي «تَحْقِيقه» بمغيرة بن عبد الرَّحْمَن وَقَالَ: إِنَّه مَجْرُوح ضَعِيف. وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ؛ فمغيرة هَذَا أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَة، وَهُوَ ثِقَة، قَالَ أَحْمد: مَا بحَديثه بَأْس. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رجل صَالح. نعم؛ وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ عَبَّاس (الدوري) عَن ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَأوردهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» لأجل هَذِه (المقولة) فِيهِ، وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ؛ فقد قَالَ أَبُو دَاوُد: غلط عَبَّاس (عَلَى) ابْن معِين.
وَأما الطَّرِيقَة الثَّالِثَة الَّتِي أخرجناها عَن الدَّارَقُطْنِيّ، فَقَالَ ابْن عدي: لَيْسَ للْحَدِيث أصل من حَدِيث عبيد الله - يَعْنِي: الْعمريّ - وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِيهِ أَيْضا: إِنَّه حَدِيث ينْفَرد بِهِ إِسْمَاعِيل بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَإِسْمَاعِيل فِيمَا يروي (عَن) أهل (الْحجاز وَأهل) الْعرَاق غَيره أوثق مِنْهُ. ثمَّ نقل عَن يَحْيَى بن معِين أَن إِسْمَاعِيل كَانَ ثِقَة فِيمَا يروي عَن أَصْحَابه أهل الشَّام، وَمَا رَوَى عَن غَيرهم فخلط فِيهَا. وَقَالَ: (وَبَلغنِي) عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ أَنه قَالَ: إِنَّمَا يروي هَذَا: إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن مُوسَى بن عقبَة، وَلَا أعرفهُ من حَدِيث غَيره،(2/546)
وَإِسْمَاعِيل مُنكر الحَدِيث عَن أهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق.
قلت: وَفِي كَلَام البُخَارِيّ هَذَا مَا أسفلناه (عَلَى) كَلَام الْبَزَّار.
وَأما الطَّرِيقَة الثَّانِيَة فَهِيَ معلولة من وَجْهَيْن: جَهَالَة الرجل وَضعف أبي معشر - وَهُوَ نجيح السندي - قَالَ ابْن نمير: كَانَ لَا يحفظ الْأَسَانِيد. وأجمل عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» القَوْل فِي ضعف (هَذَا الطَّرِيق) فَقَالَ: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من غير طَرِيق إِسْمَاعِيل وَلَا يَصح أَيْضا. ثمَّ قَالَ: وَأحسن مَا (فِيهِ) حَدِيث سُلَيْمَان (بن مُوسَى) الْآتِي.
(قلت:) (ذَاك) فِي مس الْمُصحف لَا فِي قِرَاءَة الْجنب، كَمَا ذكره هُوَ بعد، وَقد أسلفناه (فِي الْبَاب) قبله فِي أثْنَاء الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَمِعت أبي وَذكر حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش ... فَذكره من طَرِيق التِّرْمِذِيّ وَمن تَابعه، فَقَالَ أبي: هَذَا خطأ؛ إِنَّمَا هُوَ عَن ابْن عمر قَوْله. وَفِي كتاب «الْخلال» و «ضعفاء الْعقيلِيّ» عَن عبد الله - يَعْنِي: ابْن أَحْمد بن حَنْبَل - وَذكر هَذَا الحَدِيث؛ قَالَ (أبي) : هَذَا بَاطِل أنكر عَلَى إِسْمَاعِيل. يَعْنِي: أَنه وهم مِنْهُ.(2/547)
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» أَن فِيهِ (نظرا) وَرَوَى عَن البُخَارِيّ نَحوا مِمَّا سلف. وَقَالَ الضياء الْمَقْدِسِي فِي «أَحْكَامه» : إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش تكلم فِيهِ غير وَاحِد من أهل الْعلم، غير أَن بعض الْحفاظ قَالَ: قد رُوِيَ من غير طَرِيقه بِإِسْنَاد لَا بَأْس (بِهِ) وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى الطَّرِيقَة الَّتِي صححت (وَبينا وهنها) (و) أَشَارَ إِلَى قَول ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» : قد رَوَاهُ عبد الله بن حَمَّاد الآملي، عَن القعْنبِي، عَن الْمُغيرَة، عَن مُوسَى بن عقبَة. لَكِن قَوْله عَن القعْنبِي الظَّاهِر وهمه فِيهِ؛ فَإِن عبد الله بن حَمَّاد إِنَّمَا رَوَاهُ عَن عبد الْملك بن مسلمة عَن الْمُغيرَة كَمَا تقدم، وَهُوَ ضَعِيف كَمَا سلف أَيْضا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» بعد (ذكر) رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش: وَرُوِيَ أَيْضا عَن غَيره، عَن مُوسَى بن عقبَة - وَهُوَ ضَعِيف - ثمَّ سَاق مُتَابعَة الْمُغيرَة وَأبي معشر السالفتين.
وَأما الْمُنْذِرِيّ؛ فَإِنَّهُ حسن الحَدِيث، فَقَالَ فِي (الْقطعَة) الَّتِي خرجها من أَحَادِيث (الْمُهَذّب) بِالْإِسْنَادِ: هَذَا حَدِيث حسن، وَإِسْمَاعِيل تكلم فِيهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ جمَاعَة من الْأَئِمَّة.
قلت: وَحَاصِل مقالات الْحفاظ فِي إِسْمَاعِيل ثَلَاث:(2/548)
أَحدهَا: ضعفه مُطلقًا. ثَانِيهَا: ثقته مُطلقًا. ثَالِثهَا: أَنه ضَعِيف فِي غير الشاميين، و (عَلَيْهِ) الْأَكْثَرُونَ.
قَالَ الْفَسَوِي: تكلم قوم فِيهِ، وَهُوَ ثِقَة عدل أعلم النَّاس بِحَدِيث الشَّام، أَكثر مَا تكلمُوا فِيهِ قَالُوا: يغرب عَن ثِقَات الْحجاز. وَقَالَ عَبَّاس عَن يَحْيَى: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة عَنهُ: لَيْسَ بِهِ بَأْس فِي أهل الشَّام. وَقَالَ دُحَيْم: هُوَ فِي الشاميين غَايَة وخلط عَن الْمَدَنِيين. وَقد أسلفنا قَول البُخَارِيّ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لين، مَا أعلم (أحدا) كف عَنهُ إِلَّا أَبُو إِسْحَاق (الْفَزارِيّ) . أَي: فَإِنَّهُ قَالَ: ذَا رجل لَا يدْرِي مَا يخرج من رَأسه! وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: كثير الْخَطَأ فِي حَدِيثه؛ فَخرج عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: مَا كَانَ أحد أعلم بِحَدِيث أهل الشَّام مِنْهُ لَو ثَبت عَلَى حَدِيث أهل الشَّام، وَلكنه خلط فِي حَدِيثه عَن أهل الْعرَاق. وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» فِي حَدِيث «إِذا قاء أحدكُم» : هُوَ سَاقِط؛ لَا سِيمَا عَن الْحِجَازِيِّينَ. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: لَا يحْتَج بِهِ. وَعبارَة الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِيهِ: وَثَّقَهُ أَحْمد وَيَحْيَى بن معِين مُطلقًا. وَأَثْنَى يزِيد بن هَارُون عَلَى حفظه ثَنَاء بليغًا (أَي) فَقَالَ: مَا رَأَيْت أحفظ مِنْهُ، مَا أَدْرِي (مَا) الثَّوْريّ؟ !
قلت: وَصحح لَهُ التِّرْمِذِيّ غير مَا (حَدِيث) من رِوَايَته عَن أهل(2/549)
بَلَده خَاصَّة، مِنْهَا حَدِيث: «لَا وَصِيَّة لوَارث» وَحَدِيث « (بِحَسب) ابْن آدم أكلات يقمن صلبه» وَحَدِيثه هَذَا - أَعنِي: الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ - قد علمت أَنه لم ينْفَرد بِهِ، وتوبع عَلَيْهِ، وَله شَاهد أَيْضا من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا: «لَا تقْرَأ الْحَائِض وَلَا النُّفَسَاء شَيْئا من الْقُرْآن» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ قبل الزَّكَاة فِي «سنَنه» من حَدِيث مُحَمَّد بن الْفضل، عَن أَبِيه، عَن طَاوس، عَن جَابر بِهِ، وَمُحَمّد هَذَا مَتْرُوك وَنسب إِلَى الْوَضع، ووالده ثِقَة.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَوْقُوفا عَلَيْهِ من حَدِيث يَحْيَى بن أبي أنيسَة، عَن أبي الزبير، عَن جَابر، وَقَالَ: «لَا يقْرَأ الْجنب وَلَا الْحَائِض وَلَا النُّفَسَاء شَيْئا من الْقُرْآن» وَيَحْيَى هَذَا مَتْرُوك؛ كَمَا (قَالَه) أَحْمد وَغَيره، وَأَبُو الزبير يحْتَاج إِلَى دعامة، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الْأَثر لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَصَحَّ عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه كَانَ يكره أَن يقْرَأ الْقُرْآن وَهُوَ جنب» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» بعد أَن سَاقه بِإِسْنَادِهِ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح.(2/550)
فَائِدَة: يجوز لَك فِي قِرَاءَة قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا « (يقْرَأ» ) (كسر) الْهمزَة عَلَى النَّهْي، وَضمّهَا (عَلَى) الْخَبَر الَّذِي يُرَاد بِهِ النَّهْي، وهما صَحِيحَانِ.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن عَلّي بن أبي طَالب رَضي اللهُ عَنهُ (أَنه) قَالَ: «لم يكن يحجب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْقُرْآن شَيْء سُوَى الْجَنَابَة» وَرُوِيَ «يحجزه» .
هَذَا الحَدِيث جيد رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار فِي «مسنديهما» ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» و (ابْن) الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَالدَّارَقُطْنِيّ(2/551)
وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من رِوَايَة شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة، عَن عبد الله بن سَلمَة - بِكَسْر اللَّام - قَالَ: «دَخَلنَا عَلَى عَلّي أَنا ورجلان: رجل منا، وَرجل من بني أَسد، أَحسب قَالَ: فبعثهما لِحَاجَتِهِ، وَقَالَ: إنَّكُمَا عِلْجَانِ، فعالجا عَن دينكما. ثمَّ دخل الْمخْرج، ثمَّ خرج فَدَعَا بِمَاء فَأخذ مِنْهُ حفْنَة فتمسح بهَا، ثمَّ جعل يقْرَأ الْقُرْآن فأنكروا ذَلِك، فَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخرج من الْخَلَاء (فيقرئنا) الْقُرْآن وَيَأْكُل مَعنا (اللَّحْم) وَلم يكن يَحْجُبهُ - أَو قَالَ: يحجزه - عَن الْقُرْآن شَيْء لَيْسَ الْجَنَابَة» هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَلَفظ ابْن مَاجَه: «كَانَ يَأْتِي الْخَلَاء فَيَقْضِي (الْحَاجة) ثمَّ يخرج فيأكل مَعنا الْخبز وَاللَّحم، وَيقْرَأ الْقُرْآن لَا(2/552)
يَحْجُبهُ - وَرُبمَا قَالَ: لَا يحجزه - عَن الْقُرْآن شَيْء إِلَّا الْجَنَابَة» وَلَفظ النَّسَائِيّ: «كَانَ يخرج من الْخَلَاء فَيقْرَأ الْقُرْآن وَيَأْكُل مَعنا اللَّحْم، وَلم يكن يَحْجُبهُ من الْقُرْآن شَيْء لَيْسَ الْجَنَابَة» . وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن عَمْرو بن مرّة، عَن عبد الله بن سَلمَة، عَن عَلّي: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ الْقُرْآن عَلَى كل حَال، إِلَّا الْجَنَابَة» وَلَفظ الْبَزَّار كهذين اللَّفْظَيْنِ، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «كَانَ يقرئنا الْقُرْآن عَلَى كل حَال مَا لم يكن جنبا» وَلَفظ أَحْمد: «أتيت (عَلَى) عَلّي أَنا ورجلان، فَقَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْضِي حَاجته ثمَّ يخرج فَيقْرَأ الْقُرْآن وَيَأْكُل (مَعنا) اللَّحْم وَلَا يحجزه - وَرُبمَا قَالَ: يَحْجُبهُ - من الْقُرْآن شَيْء، لَيْسَ الْجَنَابَة» وَلَفظ ابْن حبَان: «كَانَ لَا يَحْجُبهُ عَن قِرَاءَة الْقُرْآن شَيْء مَا خلا الْجَنَابَة» وَفِي رِوَايَة لَهُ «لم يكن يَحْجُبهُ من قِرَاءَة الْقُرْآن شَيْء إِلَّا أَن يكون جنبا» وَلَفظ الْحَاكِم: «سُوَى الْجَنَابَة - أَو إِلَّا الْجَنَابَة» وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ: «كَانَ لَا يَحْجُبهُ عَن قِرَاءَة الْقُرْآن شَيْء إِلَّا أَن يكون جنبا» وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ بِنَحْوِهِ، وَذكره فِي «خلافياته» من طَرِيق أبي دَاوُد وَالْحَاكِم. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَبِه قَالَ غير وَاحِد من الصَّحَابَة(2/553)
وَالتَّابِعِينَ، قَالُوا: يقْرَأ الرجل الْقُرْآن عَلَى غير وضوء، وَلَا يقْرَأ فِي الْمُصحف إِلَّا وَهُوَ طَاهِر. وَبِه يَقُول سُفْيَان الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق.
قلت: وَصَححهُ أَيْضا أَبُو حَاتِم بن حبَان، فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» كَمَا أسلفناه، وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: والشيخان لم يحْتَجَّا بِعَبْد الله بن سَلمَة، ومدار الحَدِيث عَلَيْهِ. قَالَ: وَعبد الله بن سَلمَة غير مطعون فِيهِ. و (أقره) الْبَيْهَقِيّ عَلَى ذَلِك فِي «خلافياته» وَذكره ابْن السكن (أَيْضا) فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» ، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَأخرجه الْحَافِظ أَبُو بكر بن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» وَقَالَ: سَمِعت أَحْمد بن الْمِقْدَام الْعجلِيّ يَقُول: ثَنَا (سعيد) بن الرّبيع، عَن شُعْبَة (بِهَذَا الحَدِيث) قَالَ شُعْبَة: هَذَا ثلث رَأس مَالِي. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (قَالَ سُفْيَان) : مَا أحدث بِحَدِيث أحسن مِنْهُ. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : إِنَّه حَدِيث صَحِيح. ثمَّ نقل عَن ابْن صَخْر أَنه قَالَ فِي «فَوَائده» : إِنَّه حَدِيث مَشْهُور. وَقَالَ الْبَزَّار: إِنَّه لَا يرْوَى عَن عَلّي إِلَّا من حَدِيث عَمْرو بن مرّة، عَن عبد الله بن سَلمَة.
قلت: قد رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن عَمْرو بن مرّة، عَن أبي البخْترِي، عَن(2/554)
عَلّي، وَقيل: عَن عَمْرو بن مرّة عَن عَلّي مَوْقُوفا مُرْسلا، ذكر ذَلِك الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» (ثمَّ) قَالَ: القَوْل قَول من قَالَ: عَن عَمْرو بن (مرّة) عَن (عبد الله) بن سَلمَة، عَن عَلّي. وَحَكَى البُخَارِيّ عَن عَمْرو بن مرّة (قَالَ) : كَانَ عبد الله بن سَلمَة يحدثنا فنعرف وننكر، وَكَانَ قد كبر لَا يُتَابع فِي حَدِيثه. وَقَالَ ابْن الْجَارُود - بَعْدَمَا أخرجه -: قَالَ يَحْيَى بن سعيد: وَكَانَ شُعْبَة يَقُول فِي هَذَا الحَدِيث: نَعْرِف وننكر - يَعْنِي: عبد الله بن سَلمَة - كَانَ (كبر حَيْثُ) أدْركهُ عَمْرو. وَرَوَى هَذَا الحَدِيث الإِمَام الشَّافِعِي فِي «سنَن حَرْمَلَة» ، ثمَّ قَالَ: إِن كَانَ ثَابتا فَفِيهِ دلَالَة عَلَى تَحْرِيم الْقُرْآن عَلَى الْجنب. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي جماع كتاب الطّهُور وَقَالَ: وَإِن لم يكن أهل الحَدِيث يثبتونه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : إِنَّمَا توقف الشَّافِعِي فِي ثُبُوته؛ لِأَن مَدَاره عَلَى عبد الله بن سَلمَة، وَكَانَ قد كبر وَأنكر من (عقله وَفِي حَدِيثه) بعض (النكرَة) وَإِنَّمَا رَوَى هَذَا الحَدِيث بَعْدَمَا كبر، قَالَه شُعْبَة. ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَصَحَّ عَن عمر أَنه كره الْقُرْآن للْجنب. ثمَّ سَاقه كَمَا أسلفناه،(2/555)
وَذكر الْخطابِيّ أَن أَحْمد بن حَنْبَل كَانَ يوهن حَدِيث عَلّي هَذَا، ويضعف أَمر عبد الله بن سَلمَة. وَذكر شَيخنَا فتح الدَّين الْيَعْمرِي فِي «شَرحه لِلتِّرْمِذِي» عَن الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: لم يرو هَذَا الحَدِيث (أحد) عَن عَمْرو غير شُعْبَة. ثمَّ ناقشه فِي ذَلِك فَقَالَ: ذكر ابْن عدي أَنه رَوَاهُ عَن عَمْرو: الْأَعْمَش، وَشعْبَة، ومسعر، وَابْن أبي لَيْلَى، وَيَحْيَى بن سعيد، ورقبة أَو بَقِيَّة؛ لست (أَدْرِي) (أَيهمَا) هُوَ.
قلت: وَأَبَان بن تغلب أَيْضا فِيمَا ذكره الْخَطِيب فِي (كِتَابه) «موضح أَوْهَام الْجمع والتفريق» وَمن خطه نقلت، ثمَّ قَالَ: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث أبان بن تغلب، عَن عَمْرو بن مرّة، عَن عبد الله بن سَلمَة، عَن عَلّي، تفرد بِهِ أَبُو عبد الله (الْجعْفِيّ) وَهُوَ مُعلى بن هِلَال عَنهُ.
قلت: وَأَبَان صَدُوق (و) شيعي غال، وَمعلى وَضاع هَالك. وَاعْترض من الْمُتَأَخِّرين: النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» عَلَى التِّرْمِذِيّ؛ فَقَالَ: إِن غَيره من الْحفاظ الْمُحَقِّقين قَالُوا: إِنَّه حَدِيث ضَعِيف. وَقَالَ فِي «خلاصته» : خَالف التِّرْمِذِيّ (الْأَكْثَرُونَ) فضعفوه.(2/556)
قلت: لَا قدح فِي إِسْنَاده إِلَّا من جِهَة عبد الله بن سَلمَة (فَإِن) مَا عداهُ من رجال إِسْنَاده مُتَّفق عَلَى الِاحْتِجَاج (بِهِ) وَقد أسلفنا مَا حَكَاهُ البُخَارِيّ فِيهِ، وَقَالَ النَّسَائِيّ أَيْضا: يُعرف ويُنكر. وَلَكِن قدمنَا عَن الْحَاكِم أَنه قَالَ فِيهِ إِنَّه غير مطعون فِيهِ. وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة. وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَأخرج لَهُ مُسلم 4 فَهُوَ عَلَى شرطهم، وَقَول من قَالَ فِيهِ: يعرف وينكر، لَيْسَ فِيهِ كَبِير جرح، وَإِن أوردهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» بِسَبَب هَذِه المقولة فِيهِ، وَلم ينْفَرد التِّرْمِذِيّ بِتَصْحِيحِهِ؛ بل تَابعه عَلَيْهِ جماعات كَمَا (أسلفناه) وَحَدِيث ابْن عمر السالف قبل هَذَا يشْهد لَهُ، وَكَذَا أثر عمر أَيْضا السالف، وَكَذَا أثر عَلّي «اقْرَءُوا الْقُرْآن مالم يصب أحدكُم جَنَابَة، فَإِن أَصَابَته فَلَا وَلَا حرفا وَاحِدًا» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: صَحِيح عَنهُ. وَرَوَاهُ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» من حَدِيث أبي إِسْحَاق عَنهُ مَرْفُوعا: «لَا يقْرَأ الْجنب من الْقُرْآن وَلَا حرفا» ثمَّ قَالَ: أَبُو إِسْحَاق رَأَى عليًّا. وَلم يزدْ عَلَى ذَلِك، وَكَذَا قصَّة عبد الله بن رَوَاحَة فِي «الدَّارَقُطْنِيّ» وَغَيره (من) حَدِيث زَمعَة عَن سَلمَة بن وهرام، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : وَوَصله لَيْسَ بِالْقَوِيّ.(2/557)
الحَدِيث التَّاسِع
رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «لَا أحل الْمَسْجِد لحائض وَلَا جنب» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، نَا أفلت بن خَليفَة قَالَ: حَدَّثتنِي جسرة بنت دجَاجَة قَالَت: سَمِعت عَائِشَة تَقول: «جَاءَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ووجوه بيُوت أَصْحَابه شارعة فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: وجهوا هَذِه الْبيُوت عَن الْمَسْجِد، ثمَّ دخل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يصنع الْقَوْم شَيْئا رَجَاء أَن ينزل فيهم رخصَة، فَخرج إِلَيْهِم بعد فَقَالَ: وجهوا (هَذِه) الْبيُوت عَن الْمَسْجِد فَإِنِّي لَا أحل الْمَسْجِد لحائض وَلَا جنب» قَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ فليت العامري.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن أبي غنية، عَن أبي الْخطاب الهجري، عَن محدوج الذهلي، عَن جسرة (قَالَت) : أَخْبَرتنِي أم سَلمَة، قَالَت: «دخل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صرحة هَذَا الْمَسْجِد فَنَادَى بِأَعْلَى صَوته: إِن الْمَسْجِد لَا يحل لجنب وَلَا لحائض» .
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه الْكَبِير» وَفِيه زِيَادَة، وَذكر بعده حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها: «سدوا هَذِه الْأَبْوَاب إِلَّا بَاب أبي بكر» ثمَّ قَالَ: وَهَذَا أصح.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : قَالَ أَبُو زرْعَة: الصَّحِيح حَدِيث جسرة عَن عَائِشَة.(2/558)
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِزِيَادَة فِيهِ، وَهَذَا لَفظه عَن جسرة، عَن أم سَلمَة قَالَت: «خرج النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (إِلَى) الْمَسْجِد فَنَادَى بِأَعْلَى صَوته: أَلا إِن هَذَا الْمَسْجِد لَا يحل لجنب وَلَا لحائض، إِلَّا للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأزواجه وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد وَعلي، أَلا بيّنت [لكم] أَن تضلوا» .
وأعلت الطَّرِيقَة الأولَى بأفلت وَنسب إِلَى الْجَهَالَة، قَالَ الْخطابِيّ: ضعف جمَاعَة هَذَا الحَدِيث وَقَالُوا: إِن أفلت مَجْهُول لَا يصلح الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ ابْن حزم فِي محلاه: هَذَا حَدِيث بَاطِل، وأفلت غير مَشْهُور وَلَا مَعْرُوف بالثقة.
قلت: هَذَا عَجِيب مِنْهُ فَهُوَ مَشْهُور ثِقَة؛ فَإِنَّهُ أفلت - بِالْفَاءِ، وَيُقَال: فليت. كَمَا قدمْنَاهُ، وَوهم من قَالَ: هما اثْنَان كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن خلفون - ابْن خَليفَة عامري كُوفِي كنيته أَبُو حسان، رَوَى عَن: جسرة بنت دجَاجَة ودهيمة، وَعنهُ: سُفْيَان الثَّوْريّ، وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد، وَأَبُو بكر بن عَيَّاش. كَمَا أَفَادَ ذَلِك الْمزي فِي «تهذيبه» .
وَأخرج لَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِيهِ: صَالح. وَسُئِلَ عَنهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فَقَالَ: شيخ. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: مَا أرَى بِهِ بَأْسا. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وتعجبت من قَول الْفَقِيه نجم الدَّين بن الرّفْعَة(2/559)
فِي آخر شُرُوط الصَّلَاة من «مطلبه» : أفلت - كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره - ضَعِيف مَتْرُوك. فَإِنِّي لم أر هَذِه الْعبارَة فِيهِ لأحد من أهل هَذَا الشَّأْن وَعبارَة الْبَيْهَقِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: إِنَّه لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وأعلت هَذِه الطَّرِيقَة أَيْضا بجسرة - بِفَتْح الْجِيم وَإِسْكَان السِّين الْمُهْملَة - بنت دجَاجَة - بِكَسْر الدَّال - لَا كواحدة الدَّجَاج، كَمَا أَفَادَهُ ابْن الْقطَّان فِي حَاشِيَة كِتَابه «الْوَهم وَالْإِيهَام» ، وَفِي «المؤتلف والمختلف» للدارقطني عَن ابْن حبيب أَنه قَالَ: كل اسْم فِي الْعَرَب دجَاجَة مكسور الدَّال.
(قلت) : لَكِن فِي «الْعباب» للصغاني وَمن خطه نقلت: (و) قد سموا دَجاجة. كَذَا هُوَ بِخَطِّهِ بِفَتْح الدَّال، وَكَذَا قَالَ الْأَزْهَرِي وَصَاحب «الْمُحكم» : دَجاجة - يَعْنِي بِالْفَتْح - اسْم امْرَأَة فاستفده.
قَالَ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» : عِنْدهَا عجائب. وَقد خالفها غَيرهَا فِي سد الْأَبْوَاب، وَقَالَ الْعجلِيّ: هِيَ تابعية ثِقَة. قلت: وَفِي «معرفَة الصَّحَابَة» لأبي نعيم نقلا عَن ابْن مَنْدَه أَن جسرة بنت دجَاجَة أدْركْت وَفَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَا ذَلِك بعد أَن ذكرهَا فِي الصَّحَابَة. وَفِي النَّسَائِيّ عَنْهَا حَدِيث ترديد النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك) من رِوَايَة قدامَة(2/560)
بن عبد الله بن عَبدة، كَذَا رَأَيْته مضبوطًا بِخَط الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي: العامري الْهُذلِيّ الْكُوفِي. وَقَالَ الْبَزَّار: لَا نعلم حدث عَن جسرة غير قدامَة.
قلت: (قد حدث عَنْهَا أفلت) ومحدوج الذهلي (كَمَا ستعلمه) و (عَمْرو) بن عُمَيْر بن محدوج.
وَذكرهَا ابْن حبَان فِي «ثقاته» فِي التَّابِعين وَقَالَ: تروي عَن عَائِشَة، وعنها أفلت بن خَليفَة وَقُدَامَة العامري، وَنقل أَبُو الْعَبَّاس الْبنانِيّ، عَن ابْن حبَان أَنه قَالَ فِي حَقّهَا: عِنْدهَا عجائب. وَلم أره فِي «ثقاته» نعم هُوَ قَول البُخَارِيّ - كَمَا سلف - وأجمل عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» القَوْل فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ بعد أَن عزاهُ إِلَى أبي دَاوُد وأبرز إِسْنَاده: لَا يثبت من قبل إِسْنَاده. وَضَعفه من الْمُتَأَخِّرين النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» وَكَأَنَّهُ تبعه، وَأما ابْن الْقطَّان فَإِنَّهُ حسنه، وَقَالَ: قَول البُخَارِيّ فِي جسرة «أَن عِنْدهَا عجائب» لَا يَكْفِي فِي رد أَخْبَارهَا.
قلت: وَهَذَا القَوْل هُوَ الصَّوَاب فَالْحَدِيث من هَذَا (الْوَجْه) حسن لثقة رُوَاته، وَحَدِيث أم سَلمَة شَاهد لَهُ، وَقَول ابْن حزم فِيهِ «أَنه بَاطِل» جسارة مِنْهُ، (وَهُوَ أعل) حَدِيث أم سَلمَة بِأَمْر لَا ننازعه فِيهِ، فَإِنَّهُ(2/561)
قَالَ: فِيهِ محدوج الذهلي وَهُوَ سَاقِط يروي المعضلات عَن جسرة، وَأَبُو الْخطاب الهجري مَجْهُول. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِن رَوَى عَن أبي الْخطاب جمَاعَة، وَفِي «الْمُغنِي» للذهبي: محدوج الذهلي عَن جسرة قَالَ البُخَارِيّ: فِيهِ نظر. وأعل ابْن حزم رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ (السالفة) الَّتِي فِيهَا تِلْكَ الزِّيَادَة الغريبة، فَقَالَ بعد أَن رَوَاهَا من حَدِيث عبد الْوَهَّاب بن عَطاء الْخفاف، عَن ابْن أبي غنية، عَن إِسْمَاعِيل، عَن جسرة، عَن أم سَلمَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هَذَا الْمَسْجِد حرَام عَلَى كل جنب من الرِّجَال وَالنِّسَاء إِلَّا مُحَمَّد وأزواجه (و) عَلّي (وَفَاطِمَة) : أما عبد الْوَهَّاب فَهُوَ ابْن عَطاء بن مُسلم مُنكر الحَدِيث، وَأما إِسْمَاعِيل فمجهول. هَذَا كَلَامه، فَأَما عبد الْوَهَّاب فوثقه ابْن معِين من طرق عَنهُ، وَقَالَ أَحْمد: كَانَ يَحْيَى بن سعيد حسن الرَّأْي فِيهِ، وَكَانَ يعرفهُ معرفَة (قديمَة) . نعم أَنْكَرُوا عَلَيْهِ حَدِيثا فِي فضل الْعَبَّاس فَكَانَ يَحْيَى يَقُول: (هُوَ) مَوْضُوع وَلَعَلَّه دلّس، وَكَانَ ثِقَة، وَوَثَّقَهُ أَيْضا ابْن حبَان وَالْعجلِي والذهلي، وَاحْتج بِهِ مُسلم، وَأخرج (لَهُ) الْأَرْبَعَة أَيْضا - أَعنِي أَصْحَاب السّنَن - نعم قَالَ أَحْمد: ضَعِيف الحَدِيث مُضْطَرب. وَقَالَ(2/562)
(الرَّازِيّ) : لَيْسَ بِقَوي الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِقَوي.
وَأما إِسْمَاعِيل فَذكر فِي تَرْجَمَة عبد الْملك بن أبي غنية أَنه رَوَى عَن إِسْمَاعِيل بن رَجَاء بن سعد الْكُوفِي وَلم يذكر غَيره مِمَّن اسْمه إِسْمَاعِيل. وَإِسْمَاعِيل هَذَا وَثَّقَهُ يَحْيَى وَأَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ، وَأخرج لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة، قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : وَقَالَ الْأَزْدِيّ وَحده: مُنكر الحَدِيث.
قلت: قد قَالَ ابْن حبَان أَيْضا: مُنكر الحَدِيث، يَأْتِي عَن الثِّقَات بِمَا لَا يشبه حَدِيث الْأَثْبَات. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» : وَجُمْلَة من يَأْتِي فِي الحَدِيث إِسْمَاعِيل بن رَجَاء ثَلَاثَة لم يطعن إِلَّا فِي هَذَا.
قلت: قد طعن فِي إِسْمَاعِيل بن رَجَاء الْجَزرِي الرَّاوِي عَن مُوسَى بن أعين الدَّارَقُطْنِيّ وَضَعفه، والغريب أَن الذَّهَبِيّ لم يذكر فِي كِتَابه «الْمُغنِي فِي الضُّعَفَاء» سواهُ، وَحذف الأول، عَلَى أَنِّي لَا أحسن هَذِه الزِّيَادَة بِمَا ذكرت وَإِنَّمَا ذكرت ذَلِك عَلَى سَبِيل الْبَحْث مَعَه.(2/563)
فَائِدَة: قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : إِن صَحَّ هَذَا الحَدِيث - يَعْنِي حَدِيث جسرة - فَهُوَ مَحْمُول فِي الْجنب عَلَى الْمكْث فِيهِ دون العبور.
قلت: وَكَذَا فِي الْحَائِض إِلَّا أَن العبور إِنَّمَا يحرم عَلَيْهَا إِذا خَافت التلويث.
ووجوه الْبيُوت الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث المُرَاد بِهِ أَبْوَابهَا (قَالَه) الْخطابِيّ (قَالَ) : وَمَعْنى وجهوها عَن الْمَسْجِد: اصرفوا وجوهها عَنهُ.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كنت أَغْتَسِل أَنا وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من إِنَاء وَاحِد، تخْتَلف أَيْدِينَا فِيهِ من الْجَنَابَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه من هَذَا الْوَجْه (بِاللَّفْظِ) الْمَذْكُور، واتفقا عَلَى مثله أَيْضا من حَدِيث أم سَلمَة ومَيْمُونَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يغْتَسل مَعَ كل مِنْهُمَا من إِنَاء وَاحِد» .
وَأما حَدِيث (النَّهْي) عَن غسل الرجل بِفضل الْمَرْأَة وَعَكسه فَعَنْهُ أجوبة ذكرتها فِي «شرح الْعُمْدَة» فَليُرَاجع مِنْهُ.(2/564)
تَنْبِيه: نقل الرَّافِعِيّ عقب إِيرَاده هَذَا الحَدِيث عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَنه قَالَ: لَو فسر فضل مَاء الْجنب وَالْحَائِض بِمَا لم يمساه من المَاء فَلَا يتخيل امْتنَاع اسْتِعْمَاله، وَالَّذِي يتَوَهَّم فِيهِ الْخلاف - أَي بَيْننَا وَبَين الإِمَام أَحْمد - مَا مَسّه بدن الْجنب أَو الْحَائِض عَلَى وَجه لَا يصير المَاء بِهِ مُسْتَعْملا، وَلِهَذَا اسْتدلَّ الشَّافِعِي بأخبار تدل عَلَى طَهَارَة بدنهما. هَذَا آخر كَلَامه، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَقد ترْجم الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَلَى ذَلِك حَيْثُ قَالَ: بَاب الدَّلِيل عَلَى طَهَارَة عرق الْجنب وَالْحَائِض. ثمَّ سَاق حَدِيث عَائِشَة الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» «كنت أرجله (وَأَنا حَائِض» . ثمَّ قَالَ: وَاحْتج الشَّافِعِي فِي ذَلِك أَيْضا بِمَا ثَبت من أَمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْحَائِض أَن تغسل دم الْحيض من ثوبها وَلم يأمرها بِغسْل الثَّوْب كُله، وَلَا شكّ فِي كَثْرَة الْعرق فِيهِ، ثمَّ ذكر حَدِيث عَائِشَة «ناوليني الْخمْرَة. قَالَت: إِنِّي حَائِض. قَالَ: إِن حيضتك لَيست فِي يدك. فناولتها إِيَّاه» . وَعَزاهُ إِلَى أبي دَاوُد وَإِن فِي رِوَايَة لمُسلم «ناوليني الْخمْرَة من الْمَسْجِد» ثمَّ ذكر حَدِيث عَائِشَة السالف فِي غسلهَا مَعَه من إِنَاء وَاحِد تخْتَلف أَيْدِيهِمَا فِيهِ من الْجَنَابَة، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ وهب «وتلتقي» ثمَّ ذكر حَدِيثهَا أَيْضا «أَنَّهَا سُئِلت عَن رجل يدْخل يَده الْإِنَاء وَهُوَ جنب قبل أَن يغْتَسل، فَقَالَت: إِن المَاء لَا (يُنجسهُ)(2/565)
شَيْء وَلَكِن ليبدأ فَيغسل يَده، قد كنت أَنا وَرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نغتسل من إِنَاء وَاحِد» ثمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن عمر أَنه كَانَ يعرق فِي الثَّوْب وَهُوَ جنب ثمَّ يُصَلِّي فِيهِ» . وَإِلَى ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «لَا بَأْس بعرق الْجنب وَالْحَائِض فِي الثَّوْب» . وَإِلَى عَائِشَة «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يغْتَسل من الْجَنَابَة ثمَّ يأتيني وَأَنا جنب فيستدفئ بِي» ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ حُرَيْث بن أبي مطر وَفِيه نظر.
قلت: هُوَ قَول البُخَارِيّ فِيهِ مرّة، وَقَالَ أُخْرَى: لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك (الحَدِيث) . ثمَّ ترْجم الْبَيْهَقِيّ تَرْجَمَة أُخْرَى فَقَالَ: لَيست الْحَيْضَة فِي الْيَد وَلَا الْمُؤمن ينجس. ثمَّ ذكر حَدِيث عَائِشَة السالف وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة «سُبْحَانَ الله إِن الْمُؤمن لَا ينجس» . وَحَدِيث حُذَيْفَة مثله.
الحَدِيث (الْحَادِي عشر)
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا أَرَادَ أَن يَأْكُل أَو ينَام وَهُوَ جنب تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَلَفظ البُخَارِيّ عَنْهَا «كَانَ إِذا أَرَادَ أَن ينَام وَهُوَ جنب غسل فرجه وَتَوَضَّأ(2/566)
للصَّلَاة» . وَلَفظ مُسلم: «كَانَ إِذا كَانَ جنبا فَأَرَادَ أَن يَأْكُل أَو ينَام (تَوَضَّأ وضوءه [للصَّلَاة] » . وَفِي لفظ «كَانَ إِذا أَرَادَ أَن ينَام) وَهُوَ جنب تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة قبل أَن ينَام» . فَزَاد عَلَى البُخَارِيّ الْأكل.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: « (كَانَ) إِذا أَرَادَ أَن يَأْكُل أَو ينَام تَوَضَّأ - تَعْنِي وَهُوَ جنب» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ المُصَنّف إِلَى قَوْله: «تَوَضَّأ» . وَفِي رِوَايَة لَهُ وَلابْن حبَان فِي «صَحِيحه» «كَانَ إِذا أَرَادَ أَن ينَام وَهُوَ جنب لم ينم حَتَّى يتَوَضَّأ، وَإِذا أَرَادَ أَن يَأْكُل غسل يَدَيْهِ» وَفِي رِوَايَة (للنسائي) أَيْضا «وَإِذا أرد أَن يَأْكُل أَو يشرب» .
(وَفِي رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة: «كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يطعم وَهُوَ جنب) غسل يَدَيْهِ ثمَّ طعم» . وَهَذِه الرِّوَايَات (ترد) عَلَى قَول(2/567)
الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي النِّكَاح فِي بَاب غسل الْيَد قبل الطَّعَام و (بعده) : لم يثبت فِي غسل الْيَد قبل الطَّعَام حَدِيث. فَإِن قلت: مَا الْجَواب عَن حَدِيث سُفْيَان، عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي - بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة - عَن الْأسود، عَن عَائِشَة «أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ ينَام وَهُوَ جنب وَلَا يمس مَاء» رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة؟
قلت: عَنهُ جوابان أَحدهمَا: الطعْن فِيهِ، قَالَ أَبُو دَاوُد عَن يزِيد بن هَارُون: وهم السبيعِي فِي هَذَا - يَعْنِي فِي قَوْله: «وَلَا يمس مَاء» - وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: يرَوْنَ أَن هَذَا غلط مِنْهُ. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: ذكرت هَذَا الحَدِيث يَوْمًا فَقَالَ لي إِسْمَاعِيل: يَا فَتى، سَنَد (هَذَا الحَدِيث سيئ. وَقَالَ أَحْمد) : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح. ثَانِيهمَا: تَصْحِيحه مَعَ تَأْوِيله. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: طعن الْحفاظ فِي هَذِه اللَّفْظَة وتوهموها مَأْخُوذَة عَن غير الْأسود، وَأَن السبيعِي دلّس. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَحَدِيث السبيعِي بِهَذِهِ الزِّيَادَة صَحِيح من جِهَة الرِّوَايَة؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ سَمَاعه من الْأسود، والمدلس إِذا بَيَّنَ سَمَاعه مِمَّن رَوَى عَنهُ وَكَانَ ثِقَة فَلَا وَجه لرده. وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : إِن قيل أَخطَأ فِيهِ سُفْيَان؛ لِأَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة خَالف. قُلْنَا: بل أَخطَأ بِلَا شكّ من خطأ سُفْيَان بِالدَّعْوَى بِلَا دَلِيل. وسُفْيَان(2/568)
أحفظ من زُهَيْر بِلَا شكّ، وَتَبعهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي (الْإِلْمَام) فَقَالَ: رِجَاله ثِقَات. وَحِينَئِذٍ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحدهمَا: أَن المُرَاد لَا يمس مَاء للْغسْل؛ ليجمع بَينه وَبَين حَدِيثهَا الآخر، وَهَذَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن شُرَيْح وَاسْتَحْسنهُ.
وَالثَّانِي: أَنه كَانَ يتْرك الْوضُوء فِي بعض الأحيان (لبَيَان) الْجَوَاز إِذْ (لَو واظب) عَلَيْهِ لاعتقد وُجُوبه، وَهُوَ حسن أَيْضا، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن ابْن عمر «أَنه سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَيَنَامُ أَحَدنَا وَهُوَ جنب؟ فَقَالَ: نعم، وَيتَوَضَّأ إِن شَاءَ» .
وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَرْفُوع: «لَا أحب أَن يبيت الْمُسلم وَهُوَ جنب؛ أَخَاف أَن يَمُوت فَلَا تحضره الْمَلَائِكَة» فَفِي إِسْنَاده يزِيد بن عِيَاض وَلَيْسَ هُوَ بِشَيْء كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «إِعْلَامه» وَسُئِلَ مَالك عَن ابْن سمْعَان، فَقَالَ: (كَذَّاب) . قيل: (فيزيد) بن عِيَاض؟ قَالَ: أكذب وأكذب.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «إِذا أَتَى أحدكُم أَهله ثمَّ بدا لَهُ أَن يعاود فَليَتَوَضَّأ بَينهمَا وضُوءًا» .(2/569)
هَذَا الحَدِيث ضعفه الشَّافِعِي رَضي اللهُ عَنهُ فَقَالَ - عَلَى مَا نَقله الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي كتاب النِّكَاح -: قد رُوِيَ فِيهِ حَدِيث وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يثبت مثله.
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جمَاعَة عَن عَاصِم، عَن أبي المتَوَكل، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا أَتَى أحدكُم أَهله ثمَّ أَرَادَ أَن يعود فَليَتَوَضَّأ» . وَفِي لفظ «بَينهمَا وضُوءًا. وَقَالَ ثمَّ أَرَادَ أَن يعاود» . وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاده دون البُخَارِيّ.
(و) رَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ «إِذا غشي أحدكُم أَهله ثمَّ أَرَادَ أَن يعود فَليَتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة» زَاد أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعد رِوَايَة مُسلم (السالفة) : « (بَينهمَا) وضُوءًا» : «فَإِنَّهُ أنشط للعود» .
(و) قَالَ ابْن حبَان: تفرد بِهَذِهِ الزِّيَادَة مُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَترْجم عَلَيْهِ فَقَالَ: ذكر الْعلَّة الَّتِي من أجلهَا أَمر بِهَذَا الْوضُوء. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا(2/570)
اللَّفْظ، إِنَّمَا أَخْرجَاهُ إِلَى قَوْله «فَليَتَوَضَّأ» فَقَط، وَلم يذكرَا فِيهِ «فَإِنَّهُ أنشط للعود» . قلت: قَوْله: «إِنَّمَا أَخْرجَاهُ» إِلَى قَوْله: «فَليَتَوَضَّأ» وهم مِنْهُ؛ فَالْحَدِيث من أَصله من أَفْرَاد مُسلم كَمَا قدمْنَاهُ، ثمَّ قَالَ - أَعنِي الْحَاكِم -: وَهَذِه (لَفْظَة) تفرد بهَا شُعْبَة عَن عَاصِم، والتفرد من مثله مَقْبُول عِنْدهمَا. وَأخرجه أَيْضا ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَترْجم عَلَيْهِ مَا يدل عَلَى النشاط الْمَذْكُور للعود.
(تَنْبِيهَات) : (أَحدهَا) : ثَبت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث (أنس) «أَنه صَلَّى كَانَ يطوف عَلَى نِسَائِهِ بِغسْل وَاحِد» . وَفِي رِوَايَة (البُخَارِيّ) عَن قَتَادَة، عَن أنس «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَدُور عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة من اللَّيْل وَالنَّهَار وَهن إِحْدَى عشرَة. قلت لأنس: أوكان يطيقه؟ قَالَ: كُنَّا (نتحدث) أَنه أعطي قُوَّة ثَلَاثِينَ» . وَفِي رِوَايَة لَهُ «كَانَ يطوف عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَة الْوَاحِدَة وَله يَوْمئِذٍ تسع نسْوَة» .
وَقَالَ مُجَاهِد - فِيمَا (أسْندهُ) أَبُو نعيم -: «أعطي رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قُوَّة أَرْبَعِينَ رجلا كل رجل من أهل الْجنَّة» . وَثَبت فِي الصَّحِيح «أَن(2/571)
طول كل رجل من أهل الْجنَّة سِتُّونَ ذِرَاعا عَلَى قدر آدم» «وَأَن أحدهم يُعطى قُوَّة مائَة رجل فِي الْمطعم وَالْمشْرَب والشهوة وَالْجِمَاع» فَيحْتَمل أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تَوَضَّأ بَينهمَا وَيحْتَمل أَنه تَركه لبَيَان الْجَوَاز.
وَأما حَدِيث أبي رَافع «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام طَاف عَلَى نِسَائِهِ ذَات لَيْلَة يغْتَسل عِنْد هَذِه وَعند هَذِه، فَقيل: يَا رَسُول الله، أَلا تَجْعَلهُ غسلا وَاحِدًا؟ فَقَالَ: هَذَا أَزْكَى وَأطيب وأطهر» .
رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فَفِيهِ جوابان: أَحدهمَا: أَنه حَدِيث لَا يَصح. قَالَه ابْن الْقطَّان، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدِيث أنس أصح مِنْهُ.
ثَانِيهمَا: أَنه عَلَى (تَقْدِير) صِحَّته مَحْمُول عَلَى أَنه كَانَ فِي وَقت وَذَاكَ فِي آخر، كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» قَالَ: وَالْحَدِيثَانِ محمولان عَلَى أَنه كَانَ برضاهن إِن قُلْنَا بالأصح، وَقَول الْأَكْثَرين أَن الْقسم كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ فِي الدَّوَام فَإِن الْقسم لَا يجوز (أَن يكون) أقل(2/572)
من لَيْلَة لَيْلَة إِلَّا برضاهن.
فَائِدَة: اخْتلف فِي عدد النسْوَة، فَقيل: تسع. كَمَا سلف، وَقيل: إِحْدَى عشرَة. (كَمَا) سلف أَيْضا، وَجمع بَينهمَا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِأَن هَذَا كَانَ فِي آخر قدومه الْمَدِينَة، وَالْأول كَانَ فِي (أول) قدومه. قَالَ: وَهَذَا الْفِعْل وَقع مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرَارًا كَثِيرَة لَا مرّة وَاحِدَة.
وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي كتاب الْقسم من «أَحْكَامه» : الْمَشْهُور عشر نسْوَة معروفات فِي الْقسم: عَائِشَة، وَحَفْصَة، وَأم سَلمَة و (أم) حَبِيبَة، وَسَوْدَة، وَزَيْنَب بنت جحش، وَزَيْنَب بنت خُزَيْمَة، ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث، وَجُوَيْرِية بنت الْحَارِث، وَصفِيَّة بنت حييّ. والحادية عشرَة: يجوز أَن تكون إِحْدَى ثَلَاث نسْوَة ثَبت أَنه دخل بِهن: فَاطِمَة بنت الضَّحَّاك، وعالية بنت ظبْيَان - الكلابيتان - وَرَيْحَانَة بنت شَمْعُون.
التَّنْبِيه الثَّانِي: قد علمت الْحِكْمَة فِي اسْتِحْبَاب الْوضُوء بَينهمَا وَأَنَّهَا (للنشاط) إِلَى الْعود (وَمثله الْغسْل) ، وَنقل ابْن الصّلاح، عَن أبي (عبد الله) الفراوي خلافًا فِي الْحِكْمَة، فَقَالَ: (قيل) للتقذر. وَقيل: لِأَن تَركه يُورث الْعَدَاوَة. وَجزم الرَّافِعِيّ بِالْأولِ حَيْثُ قَالَ: وَالْمَقْصُود مِنْهُ التنظف وَدفع الْأَذَى.
الثَّالِث: عِنْد ابْن حزم مصححًا «فَلَا يعود حَتَّى يتَوَضَّأ» . ثمَّ(2/573)
قَالَ: لم نجد لهَذَا الْخَبَر مَا يخصصه وَلَا مَا يُخرجهُ إِلَى النّدب إِلَّا خَبرا ضَعِيفا رَوَاهُ يَحْيَى بن أَيُّوب عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْأسود، عَن عَائِشَة «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُجَامع، ثمَّ (لَا) يعود وَلَا يتَوَضَّأ، وينام وَلَا يغْتَسل» . قَالَ: وبإيجاب الْوضُوء يَقُول عَطاء وَإِبْرَاهِيم وَعِكْرِمَة وَابْن سِيرِين وَالْحسن.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
رُوِيَ عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «يَا رَسُول الله، أيرقد أَحَدنَا وَهُوَ جنب؟ قَالَ: نعم، إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليرقد» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث وَلَده عبد الله (عَنهُ) كَذَلِك، والسياق للْبُخَارِيّ وَزَاد «وَهُوَ جنب» . وَفِي لفظ لمُسلم: « (نعم، ليتوضأ) ثمَّ لينم حَتَّى يغْتَسل إِذا شَاءَ» بعد قَوْله «فليرقد» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» «قَالَ: نعم، وَيتَوَضَّأ إِن شَاءَ» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقد يرْوَى أَنه قَالَ: «اغسل فرجك وَتَوَضَّأ ثمَّ نم» .(2/574)
قلت: مُتَّفق عَلَى صِحَّته أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر قَالَ: «ذكر عمر لرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنه (تصيبه) الْجَنَابَة من اللَّيْل، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: تَوَضَّأ واغسل ذكرك ثمَّ نم» فيستغرب إِذن من الرَّافِعِيّ فِي قَوْله: قد يرْوَى فِي حَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «تَحت كل شَعْرَة جَنَابَة، فبلوا الشّعْر وأنقوا الْبشرَة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه فِي (سُنَنهمَا) ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي كتبه الثَّلَاثَة «السّنَن» ، و «الْمعرفَة» ، و «الخلافيات» ، والعقيلي فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ، (كاللفظ الْمَذْكُور) وَلَفظ د، ت: «فَاغْسِلُوا» (بدل «بلوا» ) ، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، وَسبب ضعفه أَن مَدَاره عَلَى الْحَارِث بن وجيه، وَيُقَال: ابْن وجيه الرَّاسِبِي الْبَصْرِيّ وَهُوَ لَيْسَ(2/575)
بِشَيْء كَمَا قَالَه ابْن معِين وَغَيره، وَقَالَ البُخَارِيّ: فِي حَدِيثه بعض الْمَنَاكِير. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: (حَدِيثه) مُنكر وَهُوَ ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: ينْفَرد بِالْمَنَاكِيرِ عَن الْمَشَاهِير. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» ، عَن أَبِيه: هَذَا حَدِيث مُنكر، والْحَارث ضَعِيف (الحَدِيث) . وَقَالَ الْعقيلِيّ: الْحَارِث هَذَا لَهُ غير حَدِيث مُنكر وَلَا يُتَابع عَلَى هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَله إِسْنَاد آخر فِيهِ لين أَيْضا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِنَّمَا (رُوِيَ) عَن الْحسن مُرْسلا، وَلَا يَصح مُسْندًا والْحَارث ضَعِيف.
قلت: وَكَذَا أخرجه مُرْسلا أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن فِي كتاب الصَّلَاة، وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِثَابِت. و (ذكره) بِلَفْظ «بلوا» بدل «اغسلوا» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : هُوَ كَمَا قَالَ. وَقَالَ فِي «سنَنه» : هَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ مَوْصُولا الْحَارِث بن وجيه، وَقد تكلمُوا فِيهِ. قَالَ: وَسُئِلَ يَحْيَى بن معِين عَنهُ فَقَالَ: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء. قَالَ: وَأنْكرهُ غَيره من أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ: البُخَارِيّ، وَأَبُو دَاوُد السجسْتانِي، وَغَيرهمَا. قَالَ: وَإِنَّمَا يرْوَى عَن الْحسن عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُرْسلا، وَعَن الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة مَوْقُوفا.
قَالَ فِي «الْمعرفَة» و «الخلافيات» : وَلَا يثبت سَماع الْحسن(2/576)
من أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث الْحَارِث بن وجيه وَهُوَ شيخ لَيْسَ بِذَاكَ، وَقد رَوَى عَنهُ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة، وَقد تفرد بِهَذَا الحَدِيث عَن مَالك بن دِينَار. وَكَذَا قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : تفرد بِهِ الْحَارِث عَن مَالك مَرْفُوعا، وَإِنَّمَا يرْوَى هَذَا عَن أبي هُرَيْرَة قَوْله.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : وروينا هَذَا الحَدِيث أَيْضا عَن عَائِشَة وَأنس مَرْفُوعا بِإِسْنَادَيْنِ لَا يتساويان ذكرهمَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن [عَلّي و] أنس أَيْضا.
قلت: و (فِيهِ) عَن أبي أَيُّوب أَيْضا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عتبَة بن أبي حَكِيم، حَدثنِي طَلْحَة بن نَافِع، حَدثنِي أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «الصَّلَوَات الْخمس وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة وَأَدَاء الْأَمَانَة كَفَّارَة لما بَينهمَا. قلت: وَمَا أَدَاء الْأَمَانَة؟ قَالَ: غسل الْجَنَابَة فَإِن تَحت كل شَعْرَة جَنَابَة» .
عزاهُ إِلَى ابْن مَاجَه ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» وَكَذَا صَاحب «الإِمَام» ورأيته أَنا فِي نُسْخَة من «سنَنه» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَعتبَة فِيهِ لين، وَكَذَا طَلْحَة وَإِن أخرج لَهُ مُسلم وَالْبُخَارِيّ مَقْرُونا.(2/577)
الحَدِيث الْخَامِس عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ فسروا قَول الشَّافِعِي «ثمَّ يغسل مَا بِهِ من الْأَذَى» بِموضع الِاسْتِنْجَاء إِذا كَانَ قد استنجى بِالْحجرِ، وَكَذَا فسروا لفظ الْأَذَى فِي الْخَبَر. ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: وَمِنْهُم من فسَّرهُ (فِي كَلَام الشَّافِعِي) وَنَحْوه (مِمَّا) يستقذر. وَهَذَا الْخَبَر الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُوَ ثَابت فِي حَدِيث عَائِشَة الْآتِي عَلَى الإثر، وَفِي حَدِيث مَيْمُونَة أخرجه البُخَارِيّ عَنْهَا قَالَت: «تَوَضَّأ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وضوءه للصَّلَاة غير رجلَيْهِ، وَغسل فرجه وَمَا أَصَابَهُ من الْأَذَى، ثمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ (المَاء) ثمَّ (ينحي) رجلَيْهِ فغسلهما، هَذَا غسله من الْجَنَابَة» .
الحَدِيث السَّادِس عشر
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (إِذا اغْتسل) من الْجَنَابَة بَدَأَ فَغسل يَدَيْهِ، ثمَّ يتَوَضَّأ كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة، ثمَّ يدْخل أَصَابِعه فِي المَاء فيخلل بهَا أصُول شعره، ثمَّ يفِيض المَاء عَلَى جلده كُله» .(2/578)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن هِشَام بن عُرْوَة (عَن أَبِيه) عَن عَائِشَة بِهِ إِلَّا أَنه قَالَ: «أصُول الشّعْر» بدل «أصُول شعره» . وَزَاد «ثمَّ يصب عَلَى رَأسه ثَلَاث غرف بِيَدِهِ» (ثمَّ ذكر الْإِفَاضَة بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور (فِيهِ) ، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ كَذَلِك إِسْنَادًا ومتنًا.
وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي مُعَاوِيَة، عَن هِشَام، عَن أَبِيه) ، عَنْهَا قَالَت: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة يبْدَأ فَيغسل يَدَيْهِ، ثمَّ يفرغ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَاله فَيغسل فرجه، ثمَّ يتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة، ثمَّ يَأْخُذ المَاء فَيدْخل أَصَابِعه فِي أصُول الشّعْر حَتَّى إِذا رَأَى أَن (قد) اسْتَبْرَأَ، حفن عَلَى رَأسه ثَلَاث حفنات، ثمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِر جسده، ثمَّ غسل رجلَيْهِ» . وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث وَكِيع عَن هِشَام بِهِ « (فَبَدَأَ) فَغسل كفيه ثَلَاثًا» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ من غير حَدِيث مَالك «حَتَّى إِذا ظن (أَنه) قد أروى بَشرته أَفَاضَ عَلَيْهِ المَاء ثَلَاث مَرَّات» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَنْهَا: « (كَانَ إِذا(2/579)
اغْتسل) بَدَأَ بِيَمِينِهِ فصب عَلَيْهَا (من) المَاء فغسلها ثمَّ صب المَاء (عَلَى الْأَذَى) الَّذِي (بِهِ) بِيَمِينِهِ وَغسل عَنهُ بِشمَالِهِ حَتَّى إِذا فرغ من ذَلِك صب عَلَى رَأسه» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» بعد قَوْله «ثَلَاث حثيات» : «وَأفضل فِي الْإِنَاء فضلا فَصَبَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَمَا فرغ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقَوله فِي آخر الحَدِيث الْمُتَقَدّم «ثمَّ غسل رجلَيْهِ» غَرِيب صَحِيح، حفظه أَبُو مُعَاوِيَة دون غَيره من أَصْحَاب هِشَام من الثِّقَات وَذَلِكَ للتنظيف - إِن شَاءَ الله.
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن مَيْمُونَة رَضي اللهُ عَنها «أَنَّهَا (وصفت) غسل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَت: ثمَّ تمضمض واستنشق وَغسل وَجهه وذراعيه، ثمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِر جسده، ثمَّ تنحى فَغسل رجلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيثهَا قَالَت: «أدنيت لرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غسله من الْجَنَابَة فَغسل كفيه مرَّتَيْنِ أَو(2/580)
ثَلَاثًا، ثمَّ أَدخل يَده فِي الْإِنَاء، ثمَّ أفرغ بِهِ عَلَى (فرجه) وغسله بِشمَالِهِ، ثمَّ ضرب بِشمَالِهِ الأَرْض فدلكهما دلكا شَدِيدا، ثمَّ تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة، ثمَّ أفرغ عَلَى رَأسه ثَلَاث حفنات ملْء كَفه، ثمَّ غسل سَائِر جسده، ثمَّ تنحى عَن مقَامه ذَلِك فَغسل رجلَيْهِ، ثمَّ أَتَيْته بالمنديل فَرده» .
(قَالَ مُسلم: وَفِي حَدِيث وَكِيع وصف الْوضُوء، فَذكر الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق) وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة غير رجلَيْهِ» وَقد أسلفناها فِي الحَدِيث الْخَامِس بِطُولِهَا، وَفِي رِوَايَة لَهُ فِي صفة (وضوئِهِ) «غسل راسه ثَلَاثًا» .
فَائِدَة: (قَوْلهَا) : «غسله» ضَبطه النَّوَوِيّ فِي «شرح مُسلم» - بِضَم الْغَيْن - قَالَ: (وَهُوَ) المَاء الَّذِي يغسل بِهِ، وَضَبطه ابْن باطيش - بِكَسْرِهَا.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَمَال الْغسْل يحصل بِأُمُور ...(2/581)
فَذكرهَا إِلَى أَن قَالَ: وَالرَّابِع يفِيض المَاء عَلَى رَأسه، ثمَّ عَلَى الشق الْأَيْمن، ثمَّ عَلَى الشق الْأَيْسَر (ورد) كَذَلِك فِي غسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. انْتَهَى.
الَّذِي ألفيته فِي (ذَلِك) حَدِيث عَائِشَة (الثَّابِت فِي الصَّحِيحَيْنِ) «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ كَانَ إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة دَعَا بِشَيْء نَحْو الحِلابِ، فَأخذ بكفه بَدَأَ بشق رَأسه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر، ثمَّ أَخذ (بكفيه) فَقَالَ بهما عَلَى رَأسه» . هَذَا لفظ مُسلم وَقَالَ البُخَارِيّ: «فَبَدَأَ» بدل «بَدَأَ» وَقَالَ: «عَلَى وسط رَأسه» بدل «رَأسه» .
وَفِي رِوَايَة لأبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي «مستخرجه عَلَى صَحِيح البُخَارِيّ» : «كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يغْتَسل من الْجَنَابَة دَعَا بِشَيْء دون الحلاب فَأخذ بكفه فَبَدَأَ بشقه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر، ثمَّ أَخذ (بكفيه) مَاء فأفرغ عَلَى رَأسه» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه كَانَ يغْتَسل من حلاب، ثمَّ يصب عَلَى شقّ رَأسه الْأَيْمن، ثمَّ يصب عَلَى شقّ رَأسه الْأَيْسَر، ثمَّ يَأْخُذ بكفيه فَيصب وسط رَأسه» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة (من) حَدِيث الْقَاسِم أَنه سمع عَائِشَة تَقول: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يغْتَسل من حلاب فَيَأْخُذ بكفيه فَيَجْعَلهُ عَلَى(2/582)
شقَّه الْأَيْمن (و) يَأْخُذ بكفيه فَيَجْعَلهُ عَلَى (شقَّه) الْأَيْسَر، ثمَّ يَأْخُذ بكفيه فَيَجْعَلهُ عَلَى وسط رَأسه» . وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بالسند الْمَذْكُور وَلَفظه: «كَانَ يغْتَسل من حلاب مثل (هَذَا) - وَأَشَارَ أَبُو عَاصِم بكفيه - يصب عَلَى (شقّ) الْأَيْمن، ثمَّ يَأْخُذ (بكفيه فَيصب) عَلَى (شقَّه) الْأَيْسَر، ثمَّ يَأْخُذ (بكفيه) فَيصب عَلَى سَائِر جسده» ترْجم لَهُ: ذكر وصف الغرفات الثَّلَاث الَّتِي وصفناها للمغتسل من [جنابته] .
وَرَوَى قبل ذَلِك فِي حَدِيث عَائِشَة (بعد قَوْلهَا «ثمَّ يتَوَضَّأ كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة) ، ثمَّ يدْخل أَصَابِعه فِي المَاء فيخلل بهَا أصُول شعره، ثمَّ يصب عَلَى رَأسه ثَلَاث غرفات بِيَدِهِ، ثمَّ يفِيض المَاء عَلَى سَائِر جسده» .
وَفِي رِوَايَة للإسماعيلي عَن حَنْظَلَة، عَن الْقَاسِم «أَنه سُئِلَ: كم يَكْفِي من غسل الْجَنَابَة؟ قَالَ: سَمِعت عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها تَقول: كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يغْتَسل بقدح مثل هَذَا - وَأَشَارَ حَنْظَلَة بِيَدِهِ - كَانَ يغسل (يَدَيْهِ،(2/583)
ثمَّ يغسل) وَجهه، ثمَّ يَقُول بِيَدِهِ ثَلَاث غرفات مرّة عَن يَمِينه، وَمرَّة عَن شقَّه الْأَيْسَر، وَمرَّة بَينهمَا، وَكَانَ كثير الشّعْر» .
هَذَا مَا رَأَيْته فِي الْبَاب، وَأقرب الرِّوَايَات إِلَى مَا سَاقه الرَّافِعِيّ رِوَايَة أبي حَاتِم بن حبَان. وَفِي البُخَارِيّ عَن عَائِشَة قَالَت: كُنَّا إِذا أصَاب إحدانا جَنَابَة أخذت (بِيَدِهَا) ثَلَاثًا فَوق رَأسهَا، ثمَّ تَأْخُذ بِيَدِهَا عَلَى شقها الْأَيْمن، وبيدها الْأُخْرَى عَلَى شقها الْأَيْسَر» .
فَائِدَة: الحلاب الْمَذْكُور هُوَ - بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف (اللَّام) وَآخره بَاء مُوَحدَة -: الْإِنَاء الَّذِي يحلب فِيهِ. قَالَ القَاضِي: هُوَ إِنَاء يملؤه حلب النَّاقة، وَيُقَال لَهُ: المحلب أَيْضا. وَكَذَا قَالَه الْخطابِيّ وَالْبَيْهَقِيّ أَنه إِنَاء يسع قدر حلبة نَاقَة. قَالَ - أَعنِي: الْبَيْهَقِيّ -: وَقد جَاءَ (عَن) أبي عَاصِم الضَّحَّاك أَنه قدر كوز يسع ثَمَانِيَة أَرْطَال. ثمَّ سَاقه عَنهُ بِإِسْنَادِهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور الْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَة، وَأما البُخَارِيّ فَإِنَّهُ ترْجم عَلَى هَذَا الحَدِيث: بَاب من بدأَ بالحلاب وَالطّيب قبل الْغسْل، وَهَذَا يدل عَلَى أَنه عِنْده ضرب من الطّيب، وَهُوَ غير مَعْرُوف كَمَا قَالَه القَاضِي؛ إِنَّمَا الْمَعْرُوف حب المحلب - بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام - نوع من العقاقير الْهِنْدِيَّة تُوضَع فِي الطّيب، وَقد رَوَاهُ بَعضهم فِي غير(2/584)
«الصَّحِيحَيْنِ» بِشَيْء نَحْو الجُلاَّب - بِالْجِيم المضمومة وَتَشْديد اللَّام - وَنَقله الْهَرَوِيّ عَن الْأَزْهَرِي قَالَ: فَأَرَادَ بِهِ مَاء الْورْد، فَارسي مُعرب، وَأنكر الْهَرَوِيّ (هَذَا) وَقَالَ: (أرَاهُ) الحلاب.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: مَا توهمه البُخَارِيّ غلط، وَمَا ذكره الْأَزْهَرِي وَغَيره تَصْحِيف. وَكَذَا (قَالَ) صَاحب «الْمطَالع» : إِن مَا دلّ عَلَيْهِ إِيرَاد البُخَارِيّ عَلَى أَنه ضرب من الطّيب لَا يعرف. وَادَّعَى ابْن الْأَثِير أَنه رُوِيَ بِالْجِيم، ثمَّ قَالَ: وَيحْتَمل أَن البُخَارِيّ مَا أَرَادَ إِلَّا هُوَ، لَكِن الَّذِي يرْوَى فِي كِتَابه، إِنَّمَا هُوَ بِالْحَاء وَهُوَ بهَا أشبه؛ لِأَن الطّيب لمن يغْتَسل بعد الْغسْل أليق بِهِ من قبله وَأولَى؛ لِأَنَّهُ إِذا بَدَأَ بِهِ ثمَّ اغْتسل أذهبه المَاء.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: هَل يسْتَحبّ تَجْدِيد الْغسْل؟ فِيهِ وَجْهَان.
أَحدهمَا: نعم كَالْوضُوءِ. وأظهرهما: لَا؛ لِأَن التَّرْغِيب فِي التَّجْدِيد إِنَّمَا ورد فِي الْوضُوء وَالْغسْل لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ. انْتَهَى.
وَأَشَارَ بذلك إِلَى حَدِيث أبي غطيف (الْهُذلِيّ) قَالَ: «كنت عِنْد عبد الله بن عمر فَلَمَّا نُودي بِالظّهْرِ تَوَضَّأ وَصَلى، فَلَمَّا نُودي بالعصر تَوَضَّأ فَقلت لَهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُول: من تَوَضَّأ عَلَى طهر كتب لَهُ عشر حَسَنَات» .(2/585)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: إِسْنَاده ضَعِيف. وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان: ذكر لهشام بن عُرْوَة هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: هَذَا إِسْنَاد مشرقي. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد أبي دَاوُد ثمَّ قَالَ: فِيهِ عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد الأفريقي وَهُوَ غير قوي، وَقد أسلفنا فِي فُصُول السِّوَاك حَدِيث عبد الله بن حَنْظَلَة وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي ذَلِك. وَفِي الْإِحْيَاء للغزالي: «وضوء عَلَى وضوء نور عَلَى نور» وَلَا يحضرني.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «أما أَنا فأحثي عَلَى رَأْسِي ثَلَاث حثيات، فَإِذا أَنا قد طهرت» .
هَذَا الحَدِيث قدمنَا الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي بَاب الْوضُوء.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها «أَن امْرَأَة جَاءَت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تسأله عَن الْغسْل من الْحيض فَقَالَ: خذي فرْصَة من مسك فتطهري بهَا. فَلم تعرف مَا أَرَادَ، فاجتذبتها وَقلت: تتبعي بهَا أثر الدَّم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان، عَن مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن الحَجبي، عَن أمه صَفِيَّة بنت شيبَة، عَن عَائِشَة قَالَت:(2/586)
«جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسأله عَن الْغسْل من (الْمَحِيض) فَقَالَ: خذي فرْصَة من مسك (فتطهري) بهَا. قَالَت: كَيفَ أتطهر بهَا؟ قَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: سُبْحَانَ الله، سُبْحَانَ الله! - واستتر بِثَوْبِهِ - (تطهري) بهَا. فاجتذبتها - وَعرفت الَّذِي أَرَادَ - فَقلت لَهَا: تتبعي بهَا أثر الدَّم - يَعْنِي الْفرج» .
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ (من) حَدِيث ابْن عُيَيْنَة أَيْضا عَن مَنْصُور [بن] صَفِيَّة، عَن أمه، عَن عَائِشَة «أَن امْرَأَة سَأَلت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [عَن] غسلهَا [من] الْحيض فَأمرهَا كَيفَ تَغْتَسِل قَالَ: خذي فرْصَة من مسك فتطهرين بهَا. قَالَت: كَيفَ أتطهر بهَا؟ قَالَ: تطهري بهَا. قَالَت: كَيفَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ الله! تطهري بهَا. فاجتذبتها إِلَيّ فَقلت: تتبعي بهَا أثر الدَّم» ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث وهيب عَن مَنْصُور، عَن أمه، عَن عَائِشَة «أَن امْرَأَة من الْأَنْصَار قَالَت للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كَيفَ أَغْتَسِل من الْمَحِيض؟ قَالَ: خذي فرْصَة ممسكة فتوضئي ثَلَاثًا. ثمَّ إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام استحيى فَأَعْرض بِوَجْهِهِ وَقَالَ: توضئي بهَا. فأخذتها فجذبتها فَأَخْبَرتهَا بِمَا يُرِيد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وَمن(2/587)
تراجمه عَلَى هَذَا الحَدِيث بَاب الْأَحْكَام الَّتِي تعرف بالدلائل.
وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة أَيْضا، عَن مَنْصُور، عَن أمه، عَن عَائِشَة قَالَت: «سَأَلت امْرَأَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: كَيفَ تَغْتَسِل من حَيْضَتهَا؟ قَالَت: فَذكرت أَنه علمهَا كَيفَ تَغْتَسِل ثمَّ تَأْخُذ فرْصَة من مسك فَتطهر بهَا فَقَالَت: كَيفَ أتطهر (بهَا) ؟ قَالَ: تطهري (بهَا) سُبْحَانَ الله. واستتر - وَأَشَارَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِيَدِهِ عَلَى وَجهه - قَالَت عَائِشَة: فاجتذبتها إِلَيّ وَعرفت مَا أَرَادَ، فَقلت: تتبعي أثر الدَّم بهَا» . وَفِي لفظ: «تتبعي بهَا (آثَار) الدَّم» ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث وهيب، عَن مَنْصُور، عَن أمه، عَن عَائِشَة «أَن امْرَأَة سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَيفَ أَغْتَسِل عِنْد الطّهُور؟ فَقَالَ: خذي فرْصَة ممسكة فتوضئي بهَا ... » ثمَّ ذكر نَحْو حَدِيث سُفْيَان (ثمَّ) رَوَاهُ مطولا (مُنْفَردا بِهِ) من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن المُهَاجر، عَن صَفِيَّة، عَن عَائِشَة «أَن أَسمَاء - وَهِي بنت شكل - سَأَلت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن غسل الْمَحِيض فَقَالَ: تَأْخُذ إحداكن ماءها وسدرتها فَتطهر فتحسن الطّهُور، ثمَّ تصب عَلَى رَأسهَا فتدلكه دلكا شَدِيدا حَتَّى تبلغ شئون رَأسهَا - يَعْنِي: أصل الشّعْر - ثمَّ تصب عَلَيْهَا المَاء، ثمَّ تَأْخُذ فرْصَة ممسكة فَتطهر بهَا. فَقَالَت أَسمَاء: وَكَيف أتطهر بهَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ الله! تطهرين بهَا. فَقَالَت عَائِشَة - كَأَنَّهَا تخفي ذَلِك -: تتبعين بهَا أثر الدَّم. وَسَأَلته عَن(2/588)
غسل الْجَنَابَة فَقَالَ: تَأْخُذ مَاء فَتطهر فتحسن الطّهُور (أَو تبلغ الطّهُور) (ثمَّ) تصب عَلَى رَأسهَا فتدلكه حَتَّى تبلغ شئون رَأسهَا، ثمَّ تفيض عَلَيْهَا المَاء. قَالَت عَائِشَة: نعم النِّسَاء نسَاء الْأَنْصَار؛ لم يكن يمنعهن الْحيَاء أَن يتفقهن فِي الدَّين» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ «خذي فرْصَة ممسكة» .
قلت: قد أخرجهَا الشَّيْخَانِ كَمَا عَلمته.
فَوَائِد: الأولَى: أبعد ابْن حزم فطعن فِي «محلاه» فِي رِوَايَة «فتطهري (بهَا) » وَفِي رِوَايَة: «فتوضئي (بهَا) » بِأَن قَالَ: لم تسند هَذِه اللَّفْظَة إِلَّا من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن مهَاجر، وَهُوَ ضَعِيف، وَمن طَرِيق مَنْصُور ابْن صَفِيَّة، وَقد ضعف وَلَيْسَ مِمَّن يحْتَج بروايته. هَذَا لَفظه، وَهُوَ عَجِيب من (وُجُوه) : (أَولهَا قَوْله: لم تسند هَذِه اللَّفْظَة إِلَّا من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن مهَاجر جهل مِنْهُ؛ فقد أسندها ابْن عُيَيْنَة كَمَا أخرجهَا الشَّافِعِي والشيخان، ووهيب كَمَا أخرجه الشَّيْخَانِ.(2/589)
ثَانِيهَا:) جرمه بتضعيفه (إِبْرَاهِيم) وَقد احْتج بِهِ مُسلم، وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقه، وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالْعجلِي، وَتكلم فِيهِ ابْن معِين بِحَضْرَة عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف. فَغَضب عبد الرَّحْمَن فكره مَا قَالَه، وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد: لم يكن بِالْقَوِيّ. وَلَعَلَّه الْتبس عَلَى ابْن حزم بإبراهيم بن مهَاجر بن مِسْمَار فَإِنَّهُ مُنكر الحَدِيث، كَمَا قَالَه البُخَارِيّ، وَضَعِيف كَمَا قَالَه النَّسَائِيّ، وَإِن كَانَ يَحْيَى قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْس فِي رِوَايَة عُثْمَان بن سعيد عَنهُ.
(ثَالِثهَا:) تَضْعِيفه مَنْصُور ابْن صَفِيَّة من أَفْرَاده، وَلَا يحضرني سلفه فِي ذَلِك، وَقد أخرج الشَّيْخَانِ (لَهُ) هَذَا الحَدِيث من طَرِيقه، وَوَثَّقَهُ النَّاس: أَحْمد وَابْن عُيَيْنَة وَغَيرهمَا.
الْفَائِدَة الثَّانِيَة: السائلة فِي رِوَايَة الشَّافِعِي وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم هِيَ أَسمَاء، كَمَا صرح بِهِ مُسلم فِي رِوَايَته الْأُخْرَى، وَهِي أَسمَاء بنت يزِيد بن السكن خطيبة النِّسَاء، كَمَا ذكره الْخَطِيب فِي «مبهماته» وَرَوَى حَدِيثا فِيهِ تَسْمِيَتهَا بذلك، وَتَبعهُ الْمُنْذِرِيّ فِي الْقطعَة (الَّتِي) لَهُ عَلَى «أَحَادِيث الْمُهَذّب» وَوَقع فِي رِوَايَة لمُسلم أَنَّهَا أَسمَاء بنت شكل، كَمَا أسلفناها - بالشين الْمُعْجَمَة وَالْكَاف المفتوحتين - وَحَكَى صَاحب «الْمطَالع» إسكان الْكَاف أَيْضا، قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» : فَيجوز أَن تكون الْقِصَّة جرت(2/590)
فِي مجْلِس أَو مجلسين. وَأما الْحَافِظ شرف الدَّين الدمياطي فَقَالَ: هَذِه الرِّوَايَة تَصْحِيف. وَجزم ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» بِمَا أسلفناه عَن الْخَطِيب ثمَّ قَالَ: وَهِي أنصارية أحد نسَاء بني عبد الْأَشْهَل، تكنى أم عَامر، وَقيل: أم سَلمَة. (قَالَ:) وَقيل: اسْمهَا: فكيهة، وَهِي مَدَنِيَّة من (المبايعات) وَيُقَال إِنَّهَا بنت عَم معَاذ بن جبل، أَو بنت عمته، وَكَانَت من ذَوَات الْعقل وَالدّين، شهِدت اليرموك، وَقتلت تِسْعَة من الْكفَّار بعمود فسطاط.
الْفَائِدَة الثَّالِثَة: فِي ضبط مَا وَقع فِي الحَدِيث من الْأَلْفَاظ: الفرصة - بِكَسْر الْفَاء وَإِسْكَان الرَّاء وبالصاد الْمُهْملَة - الْقطعَة من كل شَيْء، ذكره ثَعْلَب وَغَيره، وَاقْتصر الرَّافِعِيّ عَلَى حكايته عَن ثَعْلَب، وَحَكَى عَن الغريبين أَنَّهَا الْقطعَة من الصُّوف (أَو) الْقطن، وَقَالَ ابْن سَيّده: الفرصة: الْقطعَة من الْقطن أَو الصُّوف مُثَلّثَة الْفَاء. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ أَيْضا فِي «غَرِيبه» : هِيَ الْقطعَة من الصُّوف أَو الْقطن، يُقَال: فرصت الشَّيْء إِذا قطعته بالمقراض؛ أَي: شَيْئا يَسِيرا، مثل الْقَرْض بِطرف الأصبعين. (وَفِي أبي دَاوُد، عَن أبي الْأَحْوَص أَنه كَانَ يَقُول: قرصة -(2/591)
أَي: بِالْقَافِ - كَمَا ضَبطه الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» ) وَقَالَ أَبُو عبيد وَابْن قُتَيْبَة: إِنَّمَا هُوَ قرضة - بِالْقَافِ المضمومة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة - وَيدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة السالفة «قرضة ممسكة» - بِضَم الْمِيم الأولَى وَفتح الثَّانِيَة وَفتح السِّين الْمُشَدّدَة وَكسرهَا (أَيْضا) - أَي: قِطْعَة من قطن أَو صوف أَو خرقَة مطيبة بالمسك.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَلم يكن للْقَوْم وسع فِي المَال بِحَيْثُ يستعملون الطّيب فِي مثل هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: ممسكة أَي: خلقا، فَإِنَّهُ أصلح لذَلِك (فَلَا) يسْتَعْمل جَدِيد الْقطن وَالصُّوف للارتفاق بِهِ فِي المغزل وَغَيره، وَالْمَشْهُور الأول.
والمسك - بِكَسْر الْمِيم - قَالَ النَّوَوِيّ: وَعَلِيهِ الْفُقَهَاء وَغَيرهم من (أهل) الْعلم، وَادَّعَى القَاضِي عِيَاض أَن الْفَتْح فِيهِ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَهُوَ الْجلد أَي: قِطْعَة من جلد فِيهِ شعر، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ إِنَّه الْمَشْهُور، وَبِه جزم ابْن قُتَيْبَة قَالَ: وَمَعْنَاهُ الْإِمْسَاك. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لقد أحسن من قَالَ فِي ابْن قُتَيْبَة هجوم ولاح عَلَى مَا لَا يحسن. هَا هُوَ قد أنكر مَا صَحَّ فِي الرِّوَايَة من «فرْصَة» وَجَهل مَا صحّح (لَفظه) أَئِمَّة اللُّغَة وَاخْتَارَ (مَا لَا يلتئم) الْكَلَام مَعَه؛ فَإِنَّهُ لَا يَصح أَن يُقَال: حد قِطْعَة من أمساك(2/592)
وَسوى بَين الصَّحَابَة كلهم فِي الْفقر، والمعلوم من حَالَة أهل الْحجاز كَثْرَة الْمسك عِنْدهم؛ فَلَا الْتِفَات إِلَى قَوْله.
والمسك يذكر وَيُؤَنث (كَالْعَيْنِ) ذكره صَاحب «الواعي» ، وَقيل: من ذَكَّر أَرَادَ الْمسك، وَمن أَنَّث أَرَادَ الرَّائِحَة. وَفِي الفصيح: الْمسك (ضرب من) الطّيب (وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن طَلْحَة وَقَالَ: صَوَابه: المسَك) أَي (كَمَا) قَالَه ابْن السّكيت، قَالَ ابْن سَيّده: وَحَكَى ابْن الْأَعرَابِي: مسك إدفر - بِالدَّال الْمُهْملَة - وَلم يحكها أحد سواهُ، إِنَّمَا هِيَ الْمُعْجَمَة.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
«أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يتَوَضَّأ بِالْمدِّ ويغتسل بالصاع» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح وَله طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث سفينة - بِفَتْح أَوله وَكسر ثَانِيه - رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُغَسِّلُهُ (الصَّاع) من المَاء (من) الْجَنَابَة ويوضئه الْمَدّ» وَفِي لفظ: «يغْتَسل بالصاع ويتطهر بِالْمدِّ» (أَو قَالَ: « [يطهره] الْمَدّ» ) .
رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ، بل لم يخرج البُخَارِيّ فِي كِتَابه عَن سفينة شَيْئا كَمَا نبه عَلَيْهِ عبد الْحق فِي «جَامعه» .(2/593)
ثَانِيهَا: من حَدِيث أنس رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يتَوَضَّأ بِالْمدِّ ويغتسل بالصاع إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد» .
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَفِي رِوَايَة (لَهما) «كَانَ يغْتَسل بِخمْس مكاكيك وَيتَوَضَّأ بمكوك» وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ بدل «مكاكيك» : «مكاكي» . قَالَ ابْن خُزَيْمَة: المكوك هُوَ الْمَدّ نَفسه. وَسَبقه إِلَى ذَلِك أَبُو خَيْثَمَة وَوَقع فِي «جَامع المسانيد» لِابْنِ الْجَوْزِيّ أَن المكوك مكيال لَهُ مَعْرُوف، وَأَنه لَيْسَ (بالمعلوم) الْقدر عندنَا. وَهُوَ غَرِيب مِنْهُ؛ فقد قَالَ هُوَ نَفسه فِي كِتَابه «غَرِيب الحَدِيث» - وَمن خطه نقلت - قَوْله: (كَانَ يغْتَسل (بِخَمْسَة) مكاكيك) لَا زلت أستهول هَذَا؛ لِأَن المكوك الْمَعْرُوف صَاع وَنصف، وَقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يغْتَسل بالصاع الْوَاحِد، إِلَى أَن رَأَيْت الْأَزْهَرِي قد حَكَى عَن اللَّيْث أَنه قَالَ: المكوك طاس يشرب بِهِ. فَزَالَ (الْإِشْكَال) قَالَ: وَقَالَ غَيره: (المكوك) إِنَاء يسع (نَحْو الْمَدّ مَعْرُوف عِنْدهم.
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد «كَانَ يتَوَضَّأ بِإِنَاء يسع) رطلين ويغتسل بالصاع» . وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد «يَكْفِي أحدكُم مد (فِي) الْوضُوء» .(2/594)
ثَالِثهَا: من حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها «أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يغْتَسل بالصاع وَيتَوَضَّأ بِالْمدِّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي الْقطعَة الَّتِي لَهُ عَلَى (الْمُهَذّب» : حَدِيث حسن وَرِجَاله كلهم ثِقَات، وَهُوَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْهَا «أَنَّهَا لما سُئِلت عَن غسله من الْجَنَابَة دعت بِإِنَاء قدر الصَّاع فأفرغته عَلَى رَأسهَا» .
رَابِعهَا: من حَدِيث جَابر رَضي اللهُ عَنهُ مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَابْن السكن، وَصَححهُ ابْن الْقطَّان عَلَى رَأْي عبد الْحق، وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «يُجزئ من الْوضُوء الْمَدّ، وَمن الْجَنَابَة الصَّاع» .
وَفِي البُخَارِيّ عَن جَابر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَكْفِيهِ الصَّاع فِي الْغسْل» ذكره بِقِصَّتِهِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» من حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَأَبُو أَحْمد من حَدِيث ابْن عمر، وَفِيهِمَا ضعف، وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد - وَهُوَ (صَدُوق) سَاءَ حفظه - عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل بن أبي طَالب - وَفِيه(2/595)
لين - عَن أَبِيه، عَن جده - رَفعه -: «يُجزئ من الْوضُوء مد وَمن الْغسْل صَاع. فَقَالَ رجل: لَا يكفينا. فَقَالَ: كَانَ يَكْفِي من هُوَ خير مِنْك وَأكْثر شعرًا - يَعْنِي: النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) وَفِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» و «تَارِيخ الْعقيلِيّ» نَحوه وَضَعفه من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث عَائِشَة «كنت أَغْتَسِل أَنا وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من إِنَاء وَاحِد من قدح يُقَال لَهُ: الْفرق» . هَذَا لفظ البُخَارِيّ وَلَفظ مُسلم: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يغْتَسل (فِي) الْقدح وَهُوَ الْفرق، وَكنت أَغْتَسِل أَنا وَهُوَ فِي الْإِنَاء الْوَاحِد. قَالَ سُفْيَان: وَالْفرق ثَلَاثَة آصَع» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كَانَ يغْتَسل فِي إِنَاء - هُوَ الْفرق - من الْجَنَابَة» وَيجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث بِأَنَّهَا كَانَت (أحوالاً) لَهُ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وحد فِيهَا أَكثر مَا اسْتَعْملهُ وَأقله، وَهُوَ دَال عَلَى أَنه لَا حد فِي قدر مَاء الطَّهَارَة يجب اسْتِيفَاؤهُ، وَهُوَ مَا جمع بِهِ إمامنا الشَّافِعِي وَغَيره من الْعلمَاء.
فَائِدَة: لَا خلاف عِنْد أهل الْحجاز - والمرجع إِلَيْهِم - أَن الْمَدّ (رَطْل) وَثلث، وَأَن الصَّاع خَمْسَة أَرْطَال وَثلث، وَأَن الْمَدّ ربع الصَّاع، وَخَالف الْعِرَاقِيُّونَ فَجعلُوا الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال وَالْمدّ رطلين،(2/596)
وَاحْتَجُّوا لذَلِك بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن أنس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يتَوَضَّأ برطلين، ويغتسل بالصاع ثَمَانِيَة أَرْطَال» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «يتَوَضَّأ بِمد - رطلين - ويغتسل بالصاع - ثَمَانِيَة أَرْطَال» وَعَن عَائِشَة (قَالَت) : «جرت السّنة من رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي الْغسْل من الْجَنَابَة صَاع، وَالْوُضُوء رطلين، والصاع ثَمَانِيَة أَرْطَال» وَأجَاب الْحفاظ بضعفها، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (إِسْنَاده) ضَعِيف. ثمَّ أوضحه، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ أَيْضا: لَا يصحان. ثمَّ بَين ذَلِك، لَكِن فِي «سنَن النَّسَائِيّ» بِإِسْنَاد حسن عَن مُوسَى الْجُهَنِيّ قَالَ: «أُتِي مُجَاهِد بقدح حزرته ثَمَانِيَة أَرْطَال، فَقَالَ: حَدَّثتنِي عَائِشَة أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يغْتَسل بِمثل هَذَا» وَأوردهُ ابْن حزم بِلَفْظ «يسع ثَمَانِيَة أَرْطَال، تِسْعَة أَرْطَال، عشرَة» ثمَّ رده بِهَذَا الشَّك، وَرَوَى ابْن حزم عَن أنس - رَفعه -: «يُجزئ فِي الْوضُوء رطلان» ثمَّ قَالَ: لَا حجَّة فِيهِ؛ لِأَن فِيهِ شريك بن عبد الله القَاضِي، وَهُوَ مَعْرُوف بتدليس الْمُنْكَرَات عَن الثِّقَات، وَقد أسقط حَدِيثه الإمامان يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان وَابْن الْمُبَارك، وتالله لَا أَفْلح من شهد عَلَيْهِ بالجرحة. انْتَهَى.
حَدِيث أنس هَذَا عزاهُ ابْن عَسَاكِر والضياء الْمَقْدِسِي و (الْمزي)(2/597)
إِلَى التِّرْمِذِيّ بِهَذَا اللَّفْظ وَإِن لم أره (فِي) «جَامعه» وَشريك هَذَا قد رَوَى النَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن الْمُبَارك عَنهُ، وَقد رَوَى عَنهُ يَحْيَى الْقطَّان أَيْضا. وَمن الْأَقَاوِيل العجيبة فِي الْمَدّ أَنه الصَّاع. حَكَاهُ صَاحب «مجمع الغرائب» حَيْثُ قَالَ: الْمَدّ (ربع) وَيُقَال: هُوَ الصَّاع.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «سَيَأْتِي أَقوام يستقلون هَذَا؛ فَمن رغب فِي سنتي وَتمسك بهَا بعث معي فِي حَظِيرَة الْقُدس» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا أعلم من خرجه من أَصْحَاب الْكتب (الْمُعْتَمدَة) وَلَا غَيرهَا (ورأيته) فِي كتاب «الِانْتِصَار لأَصْحَاب الحَدِيث» لِلْحَافِظِ أبي المظفر مَنْصُور بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن السَّمْعَانِيّ فِي أثْنَاء الْجُزْء الثَّانِي مِنْهُ من حَدِيث عَنْبَسَة بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي، عَن مُحَمَّد بن (زَاذَان) عَن أم سعد - رفعته -: «الْوضُوء وَالْغسْل صَاع، وَسَيَأْتِي أَقوام من بعدِي يستقلون ذَلِك، أُولَئِكَ خلاف أهل سنتي، والآخذ بِسنتي معي فِي حَظِيرَة الْقُدس» وَهُوَ فِي بعض الْأَجْزَاء الحديثية بِلَفْظ: «الْوضُوء مد وَالْغسْل صَاع» وَفِي آخِره: «فِي حَظِيرَة الْقُدس، وَهُوَ مصير أهل الْجنَّة» وعنبسة هَذَا مُتَّهم مَتْرُوك، وَمُحَمّد قَالَ البُخَارِيّ: لَا يكْتب حَدِيثه. ويغني عَنهُ فِي الدّلَالَة حَدِيث(2/598)
صَحِيح رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ (من) حَدِيث عبد الله بن مُغفل «أَنه سمع ابْنه يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك الْقصر الْأَبْيَض عَن يَمِين الْجنَّة إِذْ دَخَلتهَا. فَقَالَ: يَا بني، سل الله الْجنَّة وتعوذ بِهِ من النَّار؛ فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُول: إِنَّه سَيكون فِي هَذِه الْأمة قوم يعتدون فِي (الطّهُور) وَالدُّعَاء» قَالَ الْحَاكِم: إِسْنَاده صَحِيح. وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان: مَحْفُوظ من طريقيه.
وَجَاء فِي كَرَاهَة الْإِسْرَاف فِي الْوضُوء أَحَادِيث (صَحِيحه) :
إِحْدَاهَا: عَن أبي بن كَعْب رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «إِن للْوُضُوء (شَيْطَانا) يُقَال لَهُ الولهان فَاتَّقُوا وسواس المَاء» رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: فِي إِسْنَاده خَارِجَة بن مُصعب وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْد أَصْحَابنَا، وَضَعفه ابْن الْمُبَارك، وَهُوَ حَدِيث غَرِيب، وَلَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيّ عِنْد أهل الحَدِيث؛ لأَنا لَا نعلم أحدا أسْندهُ(2/599)
(غير) خَارِجَة. قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا (الحَدِيث عَن) الْحسن من غير وَجه قَوْله، وَلَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شَيْء.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث مَعْلُول بِرِوَايَة الثَّوْريّ عَن، بَيَان، عَن الْحسن، بعضه من قَوْله غير مَرْفُوع، وَبَاقِيه عَن يُونُس بن عبيد من قَوْله غير مَرْفُوع، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : قَالَ أبي: كَذَا رَوَاهُ خَارِجَة، وَأَخْطَأ (فِيهِ) وَإِنَّمَا يرْوَى عَن الْحسن قَوْله، وَعَن الْحسن، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (مُرْسل) قَالَ ابْن أبي حَاتِم: وَسُئِلَ أَبُو زرْعَة عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: رَفعه إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُنكر. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ أَيْضا فِي «علله» وَضَعفه، وَخَالف ابْن خُزَيْمَة فَأوردهُ فِي «صَحِيحه» من جِهَة خَارِجَة، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ، فكلهم ضعف خَارِجَة، وَنسبه إِلَى الْكَذِب يَحْيَى، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده وَلَا أعلم فِيهِ أحسن من قَول ابْن عدي: إِنَّه يكْتب حَدِيثه.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن عبد الله بن (عَمْرو) : «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مر بِسَعْد وَهُوَ يتَوَضَّأ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرف؟ قَالَ: أَفِي الْوضُوء إِسْرَاف؟ ! قَالَ: نعم؛ وَإِن كنت عَلَى نهر جَار» .(2/600)
رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه وَفِي إِسْنَاده: ابْن لَهِيعَة، وحالته مَعْلُومَة سلفت لَك فِيمَا مر.
الحَدِيث الثَّالِث: عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ (قَالَ: «رَأَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلا يتَوَضَّأ، فَقَالَ: لَا تسرف» رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَفِي إِسْنَاده) مُحَمَّد بن الْفضل بن عَطِيَّة وَهُوَ مَتْرُوك، وَرَوَاهُ ابْن عدي من جِهَة مُحَمَّد هَذَا، عَن أَبِيه، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَنه كَانَ يتَعَوَّذ بِاللَّه من وَسْوَسَة الْوضُوء» فَخَالف فِي هَذِه الرِّوَايَة فِي الْإِسْنَاد وَاللَّفْظ.
الحَدِيث (الرَّابِع) بعد الْعشْرين
رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تَوَضَّأ بِنصْف مد» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة أبي أُمَامَة رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي إِسْنَاده الصَّلْت بن دِينَار، وَهُوَ مَتْرُوك.
وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «بقسط من مَاء» .
فِي رِوَايَة لَهُ: «بِأَقَلّ من مد» .(2/601)
الحَدِيث (الْخَامِس) بعد الْعشْرين
رُوِيَ «أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تَوَضَّأ بِثلث مد» .
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من خرجه (مَعَ) شدَّة الْبَحْث عَنهُ من كتب السّنَن وَالْمَسَانِيد وَالْأَحْكَام، وَلَعَلَّه كَانَ «بِثُلثي مد» فأسقط الْكَاتِب الْيَاء، فَإِنَّهُ كَذَلِك مَشْهُور (فِي) كتب الحَدِيث، رَوَاهُ كَذَلِك أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث أم عمَارَة نسيبة بنت كَعْب الْأَنْصَارِيَّة «أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تَوَضَّأ بِإِنَاء فِيهِ مَاء قدر ثُلثي الْمَدّ» .
وَرَوَاهُ أَيْضا الْأَئِمَّة: ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من رِوَايَة عبد الله بن زيد رَضي اللهُ عَنهُ «أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تَوَضَّأ بِنَحْوِ من ثُلثي الْمَدّ» هَذَا لفظ الْبَيْهَقِيّ، وَلَفظ البَاقِينَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أُتِي بِثُلثي مد مَاء فَتَوَضَّأ، فَجعل يدلك ذِرَاعَيْهِ» قَالَ(2/602)
الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : قَالَ أَبُو زرْعَة: الصَّحِيح عِنْدِي حَدِيث أم عمَارَة - يَعْنِي: الأول.
آخر الْجُزْء الثَّالِث عشر (يتلوه فِي الرَّابِع عشر بَاب التَّيَمُّم) .(2/603)
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا)
بَاب التَّيَمُّم
ذكر فِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فثمانية عشر حَدِيثا.
(الحَدِيث) الأول «أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُئِلَ: أَي الْأَعْمَال أفضل؟ فَقَالَ: الصَّلَاة لأوّل وَقتهَا» .
هَذَا الحَدِيث أَصله فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث شُعْبَة عَن الْوَلِيد بن الْعيزَار، عَن (أبي) عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «قلت: يَا نَبِي الله، أَي الْأَعْمَال أحب إِلَى الله - تَعَالَى؟ (قَالَ) : الصَّلَاة عَلَى (وَقتهَا) . قلت: ثمَّ أَي؟ قَالَ: بر الْوَالِدين. قلت: ثمَّ أَي؟ قَالَ: الْجِهَاد فِي سَبِيل الله. قَالَ: حَدَّثَني بِهن وَلَو استزدته لزادني» . وَفِي لفظ: «أَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ: الصَّلَاة (لوَقْتهَا» وَفِي لفظ: «يَا(2/605)
نَبِي الله، أَي الْأَعْمَال أقرب إِلَى الْجنَّة؟ قَالَ: الصَّلَاة) عَلَى مواقيتها ... » الحَدِيث.
وَرَوَاهُ بِلَفْظ المُصَنّف (من هَذَا الْوَجْه) الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» و «عُلُوم الحَدِيث» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» (وَغَيرهمَا) بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة الَّتِي لَا مطْعن لأحد فِيهَا، قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان: تفرد بِهَذِهِ اللَّفْظَة عُثْمَان بن (عمر) يَعْنِي (رَاوِيه) عَن مَالك (بن مغول، عَن الْوَلِيد) .
قلت: قد أخرجهَا الْحَاكِم من طَرِيق عَلّي بن حَفْص الْمَدَائِنِي، عَن شُعْبَة، عَن أبي الْعيزَار، عَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، عَن أبي مَسْعُود كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : وَرِوَايَة عُثْمَان بن عمر، عَن مَالك بن مغول، عَن الْوَلِيد بن الْعيزَار مَقْبُولَة، فقد اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَى الِاحْتِجَاج بِهِ، وَهُوَ مِمَّن لَا يشك حَدَّثَني فِي ثقته. قَالَ: وَقد تَابعه عَلّي بن حَفْص، عَن شُعْبَة (فَذكره) وَلَفظه: «الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا» وَفِي(2/606)
آخر: «الصَّلَاة أول وَقتهَا» ثمَّ قَالَ: رُوَاة هَذَا الحَدِيث كلهم ثِقَات؛ فَإِن حجاج بن الشَّاعِر حَافظ ثِقَة. وَاحْتج مُسلم بعلي بن حَفْص، وَالْبَاقُونَ مُتَّفق (عَلَى) ثقتهم، قَالَ: وَرَوَاهُ غنْدر، عَن شُعْبَة، عَن عبيد الْمكتب، عَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ يحدث عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثله، وَهُوَ عبد الله بن مَسْعُود بِلَا شكّ فِيهِ، ثمَّ سَاقه بِلَفْظ: «الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا» وَفِي لفظ: «أَي الْعَمَل أفضل؟» قَالَ شُعْبَة: أَو قَالَ: «أفضل الْعَمَل الصَّلَاة عَلَى وَقتهَا» .
قَالَ: وَرَوَاهُ عَن عُثْمَان بن عمر الْحسن بن مكرم الْبَزَّار، وَتَابعه مُحَمَّد بن بشار فِي هَذِه اللَّفْظَة، وَهُوَ صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم؛ لِأَن رُوَاته مُتَّفق عَلَى عدالتهم، وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة عِنْدهمَا وَعند الْفُقَهَاء إِذا انْضَمَّ إِلَى رِوَايَته مَا (يؤكدها) وَإِن كَانَ الَّذِي لم يَأْتِ بِهِ أَكثر عددا.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي «عُلُوم الحَدِيث» : هَذ حَدِيث صَحِيح مَحْفُوظ، رَوَاهُ جمَاعَة من أَئِمَّة الْمُسلمين عَن مَالك بن مغول، وَكَذَلِكَ عَن عُثْمَان (بن عمر) وَلم يذكر أول الْوَقْت فِيهِ غير بنْدَار مُحَمَّد بن بشار وَالْحسن بن مكرم، وهما ثقتان.
قلت: قد ذكره غَيرهمَا كَمَا مَضَى و (كَمَا) ستعلمه من كَلَامه، وَقَالَ فِي «الْأَرْبَعين الَّتِي خرجها فِي شعار أهل الحَدِيث» : هَذِه الزِّيَادَة ذكرهَا عُثْمَان بن عمر، عَن مَالك بن مغول، وَهِي مَقْبُولَة مِنْهُ، وَإِن لم(2/607)
(يخرجَاهُ) - يَعْنِي: البُخَارِيّ (وَمُسلمًا) - فَإِن مَذْهَبهمَا أَن الزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة، وَقَالَ فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث يعرف (بِهَذَا اللَّفْظ) بِمُحَمد بن بشار بنْدَار عَن عُثْمَان بن عمر، وَبُنْدَار من الْحفاظ المتقنين الْأَثْبَات. ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ (عَنْهُمَا) ثمَّ قَالَ: فقد صحت هَذِه اللَّفْظَة بِاتِّفَاق (الثقتين) بنْدَار وَالْحسن بن مكرم عَلَى روايتهما عَن عُثْمَان بن عمر، وَهُوَ صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ.
قَالَ: وَلِهَذَا الحَدِيث شَوَاهِد مِنْهَا مَا رَوَاهُ (الْحجَّاج بن الشَّاعِر. ثمَّ سَاقه عَنهُ ثمَّ قَالَ: رَوَى هَذَا الحَدِيث جمَاعَة عَن شُعْبَة [وَلم يذكر هَذِه اللَّفْظَة] غير حجاج. و) حجاج حَافظ ثِقَة، وَقد احْتج مُسلم بعلي بن حَفْص الْمَدَائِنِي. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ... الحَدِيث، وَهَذَا الرجل هُوَ عبد الله بن مَسْعُود لإِجْمَاع الروَاة فِيهِ عَلَى أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ يَعْقُوب بن الْوَلِيد، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «خير الْأَعْمَال الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا» (ثمَّ) قَالَ: يَعْقُوب هَذَا شيخ من أهل الْمَدِينَة، سكن بَغْدَاد، وَلَيْسَ من شَرط هَذَا الْكتاب، إِلَّا أَن لَهُ شَاهدا عَن(2/608)
(عبيد الله بن عمر الْعمريّ) عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُئِلَ: أَي الْعَمَل أفضل؟ قَالَ: الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا» وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ (عبد الله) بن عمر الْعمريّ، عَن الْقَاسِم بن غَنَّام، عَن جدته أم أَبِيه الدُّنْيَا، عَن جدته أم فَرْوَة - وَكَانَت مِمَّن بَايَعت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَمن الْمُهَاجِرَات الأول - «أَنَّهَا سَمِعت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَسُئِلَ عَن أفضل (الْأَعْمَال) فَقَالَ: الصَّلَاة لوَقْتهَا» .
ثمَّ قَالَ: (هَذَا) حَدِيث رَوَاهُ اللَّيْث بن سعد ومعتمر بن سُلَيْمَان وقزعة بن سُوَيْد وَمُحَمّد بن بشر الْعَبْدي، عَن (عبيد الله) بن عمر، عَن الْقَاسِم بن غَنَّام. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ: قد رَوَى عبد الله بن عمر عَن الْقَاسِم بن غَنَّام وَلم يرو عَنهُ أَخُوهُ عبيد الله بن عمر.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر. قَالَ ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» : وَرَوَاهُ ابْن عَبَّاس وَجَابِر أَيْضا.
قلت: فقد صَحَّ الحَدِيث بشواهده وَللَّه الْحَمد، وَسمعت كثيرا من فُقَهَاء زَمَاننَا يُطلق الضعْف عَلَى هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُم، وَكَأَنَّهُ اسْتَقر فِي ذهنهم تَضْعِيف التِّرْمِذِيّ لَهُ من حَدِيث أم فَرْوَة الَّذِي اسْتشْهد بِهِ الْحَاكِم، وَهُوَ عَجِيب؛ فَإِن الضَّعِيف لَا يقْدَح فِي(2/609)
الصَّحِيح، فَإِنَّهُ لما رَوَاهُ قَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يرْوَى إِلَّا من حَدِيث عبد الله بن عمر الْعمريّ وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ (عِنْد) أهل الحَدِيث، واضطربوا فِي هَذَا الحَدِيث، وَقد تكلم فِيهِ يَحْيَى بن سعيد من قبل حفظه.
قلت: وَقَوله (إِنَّه) لَا يرْوَى إِلَّا من حَدِيث عبد الله بن عمر الْعمريّ، لَيْسَ بجيد مِنْهُ؛ فقد رُوِيَ من حَدِيث أَخِيه عبيد الله أَيْضا كَمَا أسلفناه من رِوَايَة الْحَاكِم. وَقَالَ الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين فِي «الْأَحَادِيث المختارة» إِن الدَّارَقُطْنِيّ أخرجه من هَذَا الْوَجْه أَيْضا، وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ: إِنَّه مَحْفُوظ عَنْهُمَا. وَأخرج الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم حَدِيث أم فَرْوَة أَيْضا، وَكَذَا أَبُو دَاوُد، وَأغْرب ابْن السكن فَأخْرجهُ فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» وَوَقع لأبي الْقَاسِم الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» أَن هَذَا الحَدِيث لم يروه عَن عبد الله إِلَّا قزعة بن سُوَيْد، وَقد تقدم من رِوَايَة غَيره؛ عَنهُ فاستفده.
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ أَمر عليًّا أَن يمسح عَلَى الجبائر» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ(2/610)
فِي (سُنَنهمْ) من رِوَايَة عَمْرو بن (خَالِد) الوَاسِطِيّ، عَن زيد بن عَلّي، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «انْكَسَرَ إِحْدَى زندي فَسَأَلت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأمرنِي أَن أَمسَح عَلَى الجبائر» . وَذكره الإِمَام الشَّافِعِي فِي «الْأُم» و «الْمُخْتَصر» فَقَالَ: رُوِيَ عَن عَلّي «أَنه انْكَسَرَ إِحْدَى زنديه فَأمره النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن يمسح عَلَى الجبائر» . فَقَالَ الشَّافِعِي: وَلَو عرفت إِسْنَاده بِالصِّحَّةِ لَقلت بِهِ وَهَذَا مِمَّا أستخير الله فِيهِ.
قلت: وَإِنَّمَا ضعفه الشَّافِعِي؛ لِأَن رَاوِيه (عَمْرو) بن خَالِد السالف فِي إِسْنَاده أحد الْكَذَّابين، كذبه أَحْمد وَيَحْيَى وَالنَّاس. وَقَالَ وَكِيع: كَانَ فِي جوارنا يضع الحَدِيث فَلَمَّا فُطن لَهُ تحول إِلَى وَاسِط. وَقَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو زرْعَة: كَانَ يضع الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يروي مَوْضُوعَات. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: هَذَا حَدِيث بَاطِل لَا أصل لَهُ، وَعَمْرو بن خَالِد مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد: هَذَا حَدِيث يرويهِ عَمْرو بن خَالِد وَلَا يُسَاوِي حَدِيثه شَيْئا. وَقَالَ الْعقيلِيّ: هَذَا حَدِيث لَا يُتَابع عَلَيْهِ وَلَا يعرف إِلَّا (بِعَمْرو) بن خَالِد الوَاسِطِيّ.
قلت: بل تَابعه عَلَيْهِ شَرّ مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : عَمْرو بن خَالِد هَذَا مَعْرُوف بِوَضْع الحَدِيث، كذبه أَحْمد(2/611)
وَيَحْيَى وَغَيرهمَا من أَئِمَّة الحَدِيث، وَنسبه وَكِيع إِلَى الْوَضع، وَقَالَ: كَانَ فِي جوارنا فَلَمَّا فطن لَهُ تحول إِلَى وَاسِط.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَتَابعه عَلَى ذَلِك (عمر) بن مُوسَى بن وجيه فَرَوَاهُ عَن زيد بن عَلّي مثله. قَالَ: و (عمر) بن مُوسَى مَتْرُوك مَنْسُوب إِلَى الْوَضع، ونعوذ بِاللَّه من الخذلان.
وَقَالَ فِي «خلافياته» : إِن (عمر) بن مُوسَى سَرقه فَرَوَاهُ عَن زيد بن عَلّي، عَن أَبِيه، عَن جده، و (عمر) مَتْرُوك. وَقَالَ فِي «سنَنه» : وَرُوِيَ بِإِسْنَاد آخر مَجْهُول (عَن زيد بن عَلّي) وَلَيْسَ بِشَيْء. وَلم يبين فِي «سنَنه» من هُوَ الْمَجْهُول فِي الْإِسْنَاد، وَبَينه فِي «خلافياته» فَقَالَ: إِنَّه عبد الله بن مُحَمَّد البلوي. قَالَ: وَهُوَ مَجْهُول (رَأينَا) فِي حَدِيثه(2/612)
الْمَنَاكِير. قَالَ فِي «سنَنه» و «خلافياته» : وَرَوَاهُ أَبُو الْوَلِيد خَالِد بن يزِيد الْمَكِّيّ بِإِسْنَاد آخر عَن زيد بن عَلّي، عَن عَلّي مُرْسلا، وَأَبُو الْوَلِيد ضَعِيف، ونقلاه عَن الدَّارَقُطْنِيّ وَكَذَا هُوَ فِي «سنَنه» .
قلت: وَهُوَ مُنْقَطع أَيْضا كَمَا نبه عَلَيْهِ «صَاحب الإِمَام» وَذكر الْخلال فِي «علله» عَن الْمَرْوذِيّ قَالَ: سَأَلت أَبَا عبد الله عَن حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنه مسح عَلَى الجبائر» . فَقَالَ: بَاطِل لَيْسَ (فِي) هَذَا شَيْء، من حدث (بِهَذَا) ؟ قلت: ذَكرُوهُ عَن صَاحب الزُّهْرِيّ فَتكلم فِيهِ بِكَلَام غليظ. قَالَ الْخلال: وقُرئ عَلَى عبد الله بن أَحْمد قَالَ: سَمِعت رجلا يَقُول: يَحْيَى يحفظ: عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَاصِم بن ضَمرَة، عَن عَلّي، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَنه مسح عَلَى الجبائر» . فَقَالَ: بَاطِل، مَا حدث (بِهِ) معمر قطّ. فَسمِعت يَحْيَى يَقُول: عليَّ بَدَنَة مُجَللَة مقلدة إِن كَانَ معمر حدث بِهَذَا، هَذَا بَاطِل، وَلَو حدث بِهَذَا عبد الرَّزَّاق كَانَ حَلَال الدَّم، من حدث بِهَذَا عَن عبد الرَّزَّاق؟ (قَالَ) : مُحَمَّد بن يَحْيَى. قَالَ: لَا وَالله مَا حدث بِهِ معمر، وَعَلِيهِ حجَّة من هُنَا - يَعْنِي الْمَشْي إِلَى مَكَّة - إِن كَانَ معمر حدث بِهَذَا قطّ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُجَاهِد عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ(2/613)
يمسح عَلَى الجبائر» . ثمَّ قَالَ: لَا يَصح مَرْفُوعا، وَأَبُو عمَارَة مُحَمَّد بن أَحْمد - يَعْنِي الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - ضَعِيف جدًّا.
قلت: يتلخص من هَذَا كُله ضعف حَدِيث الْمسْح عَلَى الجبائر، وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» اتِّفَاق (الْحفاظ) عَلَى ضعف حَدِيث (عَلّي) وتضعيف رِوَايَة عَمْرو بن خَالِد، وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» فَخفف أمره وَأقر حَدِيث ابْن عمر أَولا فَقَالَ: اسْتدلَّ بهما أَصْحَابنَا وَفِيهِمَا مقَال ثمَّ ضعفهما بعد ذَلِك، وَلَقَد أحسن الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فِي قَوْله فِي «سنَنه» بعد أَن ذكر مَا أسلفناه عَنهُ: لَا يثبت عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي هَذَا الْبَاب شَيْء.
قَالَ: وَأَصَح مَا فِيهِ حَدِيث عَطاء بن أبي رَبَاح؛ أَي: الَّذِي سأذكره عَلَى الإثر بعد. قَالَ: وَإِنَّمَا (فِي) الْمسْح عَلَى الْجَبِيرَة قَول الْفُقَهَاء من التَّابِعين فَمن بعدهمْ، مَعَ مَا صَحَّ عَن ابْن عمر «أَنه تَوَضَّأ وكفه معصوبة فَمسح عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِصَابَة وَغسل مَا سُوَى ذَلِك» ثمَّ قَالَ: وَهَذَا عَن ابْن عمر صَحِيح. ثمَّ رَوَى الْمسْح عَلَى الجبائر وعصائب الْجِرَاحَات بأسانيده عَن أَئِمَّة التَّابِعين.
فَائِدَة: قصَّة عَلّي هَذِه (كَانَت) فِي وقْعَة محاربة عَمْرو بن عبد ود، كَمَا نبه عَلَيْهِ صَاحب (التنقيب) .(2/614)
الحَدِيث الثَّالِث
حَدِيث جَابر رَضي اللهُ عَنهُ فِي المشجوج الَّذِي احْتَلَمَ واغتسل فَدخل المَاء شجته وَمَات أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «إِنَّمَا يَكْفِيهِ أَن يتَيَمَّم ويعصب عَلَى رَأسه خرقَة ثمَّ يمسح عَلَيْهَا وَيغسل سَائِر جسده» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن الْأَنْطَاكِي، ثَنَا مُحَمَّد بن سَلمَة، عَن الزبير بن خُريق - بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة، ثمَّ رَاء مُهْملَة، ثمَّ مثناة تَحت ثمَّ قَاف - عَن عَطاء، عَن جَابر قَالَ: «خرجنَا فِي سفر فَأصَاب رجلا مَعنا حجر فَشَجَّهُ فِي رَأسه فَاحْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابه هَل يَجدونَ لَهُ رخصَة فِي التَّيَمُّم؟ فَقَالُوا: مَا نجد (لَك) رخصَة وَأَنت تقدر عَلَى المَاء. فاغتسل فَمَاتَ، فَلَمَّا قدمنَا عَلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبر بذلك فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله! أَلا سَأَلُوا إِذا لم يعلمُوا؟ ! فَإِنَّمَا شِفَاء العي السُّؤَال؛ إِنَّمَا يَكْفِيهِ أَن يتَيَمَّم (أَو) يعصب - شكّ مُوسَى - عَلَى جرحه خرقَة ثمَّ يمسح عَلَيْهَا وَيغسل سَائِر جسده» .
وَهَذَا إِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات، الْأَنْطَاكِي ثِقَة، وَمُحَمّد بن سَلمَة هُوَ الْحَرَّانِي احْتج بِهِ مُسلم، وَقَالَ ابْن سعد: ثِقَة فَاضل عَالم، وَله فضل وَرِوَايَة وفتوى. وَالزبير ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَعَطَاء لَا يسْأَل عَنهُ، لَا جرم أخرجه ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح(2/615)
المأثورة» ، وَاحْتج بِهِ ابْن الْجَوْزِيّ (وَأما الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ: (إِنَّه) أصح شَيْء فِي الْبَاب وَإنَّهُ لَيْسَ بِقَوي. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ) : قَالَ أَبُو بكر بن أبي دَاوُد: هَذِه سنة تفرد بهَا أهل مَكَّة، وَحملهَا أهل الجزيرة، لم يروه عَن عَطاء عَن جَابر غير الزبير بن خريق وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَخَالفهُ الْأَوْزَاعِيّ فَرَوَاهُ عَن عَطاء، عَن (ابْن) عَبَّاس، وَهُوَ الصَّوَاب.
رَوَاهُ من هَذَا الْوَجْه أَحْمد والدارمي فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» (وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا بعده) من حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ أَنه (بلغه) عَن عَطاء بن أبي رَبَاح أَنه سمع عبد الله بن عَبَّاس قَالَ: «أصَاب رجلا جرح فِي عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمَّ احْتَلَمَ فَأمر بالاغتسال، فاغتسل فَمَاتَ فَبلغ ذَلِك رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله! ألم يكن شِفَاء العي السُّؤَال؟ !» . وَهَذَا مُنْقَطع فِيمَا بَين الْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء، وَقد وَصله ابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الحميد بن أبي الْعشْرين، ثَنَا الْأَوْزَاعِيّ، عَن عَطاء - كَمَا سلف - وَقَالَ فِي آخِره: «قَالَ عَطاء: وبلغنا(2/616)
أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: لَو غسل جسده وَترك رَأسه حَيْثُ أَصَابَهُ الْجراح!» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَاخْتلف عَن الْأَوْزَاعِيّ فَقيل عَنهُ عَن عَطاء، وَقيل: بَلغنِي عَن عَطاء، وَأرْسل الْأَوْزَاعِيّ (آخِره) عَن عَطاء عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهُوَ الصَّوَاب.
قلت: وَهَذِه هِيَ طَريقَة ابْن مَاجَه الَّتِي أسلفناها، وَذكر أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة - فِيمَا سَأَلَهُمَا ابْن أبي حَاتِم عَن هَذَا الحَدِيث - فَقَالَا: رَوَاهُ ابْن أبي الْعشْرين، عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس، وأفسد الحَدِيث. يُرِيد أَنه أَدخل إِسْمَاعِيل فِيهِ، وَتبين أَن الْأَوْزَاعِيّ أَخذه عَن إِسْمَاعِيل.
قلت: وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من طَرِيق آخر لَيْسَ فِيهَا الْأَوْزَاعِيّ رَأْسا، روياها من حَدِيث مُحَمَّد بن يَحْيَى الذهلي، ثَنَا عمر بن حَفْص بن غياث، أَنا أبي، أَخْبرنِي الْوَلِيد بن [عبيد الله] بن أبي رَبَاح، أَن عَطاء عَمه حَدثهُ عَن ابْن عَبَّاس «أَن رجلا أجنب فِي شتاء، فَسَأَلَ فَأمر بِالْغسْلِ فَمَاتَ، فَذكر ذَلِك للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: مَا لَهُم (قَتَلُوهُ) قَتلهمْ الله؟ ! - ثَلَاثًا - قد جعل الله الصَّعِيد - أَو التَّيَمُّم - طهُورا» قَالَ: شكّ ابْن عَبَّاس ثمَّ أَتَيْته بعدُ.(2/617)
قلت: والوليد هَذَا ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ، وَسكت عَنهُ الْبَيْهَقِيّ هُنَا وَضَعفه فِي بَاب النَّهْي عَن ثمن الْكَلْب (من) «سنَنه» ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث السّري بن خُزَيْمَة، ثَنَا عمر بن حَفْص بن غياث، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح. قَالَ: الْوَلِيد بن عبيد الله هَذَا قَلِيل الحَدِيث (جدًّا) قَالَ: وَله شَاهد عَن ابْن عَبَّاس ... فَذكره (و) رَوَاهُ بعد هَذَا الْموضع بأوراق من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ، وَصرح فِيهِ بِسَمَاع الْأَوْزَاعِيّ من عَطاء، فَزَالَ ذَلِك الْمَحْذُور السالف (و) رَوَاهُ الْحَاكِم عَن الْأَصَم، عَن أبي عُثْمَان سعيد بن عُثْمَان التنوخي، ثَنَا بشر بن بكر، حَدَّثَني الْأَوْزَاعِيّ، نَا عَطاء بن أبي رَبَاح أَنه سمع عبد الله بن عَبَّاس يخبر «أَن رجلا أَصَابَهُ جرح عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمَّ أَصَابَهُ احْتِلَام فاغتسل فَمَاتَ، فَبلغ ذَلِك النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله! ألم يكن شِفَاء العي السُّؤَال؟ !» .
قَالَ الْحَاكِم: بشر بن بكر ثِقَة مَأْمُون، وَقد أَقَامَ إِسْنَاده، وَهُوَ صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. قَالَ: وَرَوَاهُ الْوَلِيد بن مزِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ وَقَالَ: بَلغنِي عَن عَطاء والهقل بن زِيَاد، وَهُوَ من أثبت(2/618)
أَصْحَاب الْأَوْزَاعِيّ، وَلم يذكر سَماع الْأَوْزَاعِيّ من عَطاء، ثمَّ ذكر ذَلِك عَنْهُمَا بِإِسْنَادِهِ.
فَائِدَة: لما ذكر عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» حَدِيث جَابر السالف عقبه بقوله: لم يروه عَن عَطاء غير الزبير بن خريق، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ: وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس. وَاخْتلف عَن الْأَوْزَاعِيّ؛ فَقيل: عَنهُ عَن عَطاء، وَقيل عَنهُ: بَلغنِي عَن عَطاء. وَلَا يرْوَى الحَدِيث من وَجه قوي. هَذَا كَلَامه، وَعَلِيهِ فِيهِ اعتراضان:
أَحدهمَا: لي، وَهُوَ قَوْله (إِنَّه) لَا يرْوَى الحَدِيث من وَجه قوي، فقد علمت رِوَايَة الْحَاكِم الْأَخِيرَة وَأَنَّهَا جَيِّدَة لَا مطْعن فِيهَا، وَيقرب مِنْهَا رِوَايَته الْأُخْرَى قبلهَا، وَقد صححها مَعَه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان.
الثَّانِي: لِابْنِ الْقطَّان وَوهم فِيهِ (فَإِنَّهُ) قَالَ: قَوْله: وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، يَقْتَضِي أَن التَّيَمُّم فِي حق الْمَرِيض ورد من رِوَايَة ابْن عَبَّاس أَيْضا كَمَا هُوَ من رِوَايَة جَابر. قَالَ: وَذَلِكَ كُله بَاطِل؛ وَإِنَّمَا اعتراه هَذَا من (كتاب) الدَّارَقُطْنِيّ الَّذِي نَقله مِنْهُ، فَإِنَّهُ أجمل القَوْل كَمَا ذكر، ثمَّ فسره بإيراد الْأَحَادِيث (فتخلص) فَكتب أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق الْإِجْمَال وَلم يكْتب التَّفْصِيل فَوَقع فِي الْخَطَأ، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس لَا ذكر فِيهِ للتيمم وَلَا يعرف ذكر التَّيَمُّم فِيهِ إِلَّا من رِوَايَة الزبير(2/619)
بن خريق عَن عَطاء عَن جَابر، أَو من رِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ بِإِسْنَاد بَالغ إِلَى الْغَايَة فِي الضعْف من حَدِيث عَمْرو بن شمر - وَهُوَ أحد الهالكين - عَن عَمْرو بن أنس، عَن عَطِيَّة، عَن أبي سعيد قَالَ: «أجنب رجل مَرِيض فِي يَوْم بَارِد عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: مَا لَهُم قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله؟ ! إِنَّمَا كَانَ يُجزئ من ذَلِك التَّيَمُّم» ، هَذَا آخر كَلَامه. وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ مَعَ جلالته؛ فَذكر التَّيَمُّم فِيهِ ثَابت من حَدِيث ابْن عَبَّاس كَمَا سلف عَن «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» و «ابْن حبَان» و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» وَسبب إِنْكَاره ذَلِك اقْتِصَاره عَلَى «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» الَّذِي نقل عبد الْحق عَنهُ، وَلَو فتش حق التفتيش لوجده فِي هَذِه المؤلفات (الجليلة) .
الحَدِيث الرَّابِع
عَن حُذَيْفَة رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فضلنَا عَلَى النَّاس بِثَلَاث: جعلت لنا الأَرْض مَسْجِدا، وَجعل ترابها طهُورا ... » .
هَذَا الحَدِيث ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ دَلِيلا لنا عَلَى اعْتِبَار التُّرَاب فِي التَّيَمُّم، ثمَّ بَين وَجه الدّلَالَة مِنْهُ فَقَالَ: عدل إِلَى ذكر التُّرَاب بعد ذكر الأَرْض فلولا اخْتِصَاص الطّهُور بِهِ بِالتُّرَابِ لقَالَ: جعلت الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا. هَذَا لَفظه، وَهُوَ عَجِيب؛ فقد ثَبت ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث صَحِيحَة كَمَا ستعلمه، وَأما الحَدِيث بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي عوَانَة، عَن أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ، عَن ربعي بن حِرَاش - بحاء مُهْملَة، ثمَّ رَاء، ثمَّ ألف، ثمَّ شين مُعْجمَة - عَن حُذَيْفَة(2/620)
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «جعلت لنا الأَرْض كلهَا مَسْجِدا، وَجعلت تربَتهَا لنا طهُورا، وَجعلت صُفُوفنَا مثل صُفُوف الْمَلَائِكَة» .
ثمَّ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (أَيْضا) من حَدِيث سعيد بن مسلمة، حَدَّثَني أَبُو مَالك الْأَشْجَعِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد مثله، وَقَالَ: «جعلت الأَرْض كلهَا لنا مَسْجِدا وترابها لنا طهُورا (إِن) لم نجد المَاء» .
وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي عوَانَة بِهِ بِلَفْظ: «فضلنَا عَلَى النَّاس بِثَلَاث: جعلت لنا الأَرْض مَسْجِدا، وَجعل ترابها لنا طهُورا إِذا لم نجد المَاء، وَجعلت صُفُوفنَا كَصُفُوف الْمَلَائِكَة» .
قلت: والْحَدِيث فِي «صَحِيح مُسلم» عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، حَدثنَا مُحَمَّد بن فُضَيْل، عَن أبي مَالك، عَن ربعي، عَن حُذَيْفَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: « (فضلت) عَلَى النَّاس بِثَلَاث: جعلت صُفُوفنَا كَصُفُوف الْمَلَائِكَة، وَجعلت لنا الأَرْض مَسْجِدا، وَجعلت تربَتهَا لنا طهُورا إِذا لم نجد المَاء» . وَذكر خصْلَة أُخْرَى (ثمَّ قَالَ مُسلم) وَأَنا أَبُو كريب، عَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء (ثَنَا) بن أبي زَائِدَة، عَن (سعد) بن طَارق، حَدَّثَني ربعي، عَن حُذَيْفَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فضلنَا(2/621)
عَلَى النَّاس بِثَلَاث ... » . وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث مُسَدّد، عَن أبي عوَانَة، عَن أبي مَالك، عَن ربعي، عَن حُذَيْفَة (بِهِ) وَزَاد: «وَأُوتِيت هَؤُلَاءِ الْآيَات من آخر سُورَة الْبَقَرَة من كنز تَحت الْعَرْش، لم يُعْطه أحد قبلي وَلَا أحد بعدِي» وَهَذِه هِيَ الْخصْلَة الَّتِي لم يذكرهَا مُسلم.
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن فُضَيْل، عَن أبي مَالك بِهِ بِلَفْظ: «فضلنَا عَلَى النَّاس بِثَلَاث جعلت لنا الأَرْض كلهَا مَسْجِدا، و (جعلت) ترابها لنا طهُورا إِذا لم نجد المَاء، وَجعلت صُفُوفنَا كَصُفُوف الْمَلَائِكَة، وَأُوتِيت هَذِه الْكَلِمَات من آخر سُورَة الْبَقَرَة من بَيت تَحت الْعَرْش لم يُعْط مِنْهُ أحد قبلي وَلَا أحد بعدِي» .
وَوَقع لِابْنِ حزم فِي كِتَابه «الإيصال» وهم فَاحش فِي سَنَد هَذَا الحَدِيث، فَجمع بَين الإسنادين اللَّذين أخرجهُمَا مُسلم، وَقَالَ: سعد بن طَارق الَّذِي رَوَى عَنهُ ابْن أبي زَائِدَة غير أبي مَالك الَّذِي رَوَى عَنهُ ابْن فُضَيْل. ثمَّ أخرج بِسَنَدِهِ إِلَى مُسلم: نَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَأَبُو كريب، قَالَ ابْن أبي شيبَة: نَا مُحَمَّد بن فُضَيْل، عَن أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ، وَقَالَ أَبُو كريب: نَا ابْن أبي زَائِدَة - وَهُوَ زَكَرِيَّا - عَن سعد بن طَارق (ثمَّ اتّفق أَبُو مَالك وَسعد كِلَاهُمَا عَن ربعي، عَن حُذَيْفَة. وَهَذَا عَجِيب فَأَبُو مَالك هُوَ سعد بن طَارق) بِعَيْنِه، كناه ابْن فُضَيْل فِي(2/622)
الْإِسْنَاد، وَسَماهُ ابْن أبي زَائِدَة، لَا خلاف فِيمَا ذكرته بَين العارفين بأوائل هَذِه الصَّنْعَة، لَا جرم اعْترض عَلَيْهِ فِي ذَلِك ابْن دحْيَة فِي (كِتَابه) «التَّنْوِير» وَقَالَ: ابْن حزم أحفظ أهل زَمَانه (لَكِن) غفل عَن حفظ المولد والوفاة والأسماء والكنى؛ فَفِي تواليفه من الفضائح القبائح مَا لَا غطاء عَلَيْهِ، مِنْهَا هَذَا الْموضع فِي كتاب «الإيصال» وَهُوَ خَمْسَة و (ثَلَاثُونَ) مجلدًا، استوعب أَبْوَاب الشَّرَائِع. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر بن مفوز الْمعَافِرِي: لم يَأْتِ فِي (إِسْنَاد) هَذَا الحَدِيث بِهَذِهِ السوءة وَإِلَّا و (هُوَ) قد جهلهم كل الْجَهَالَة ثمَّ حط عَلَيْهِ، ثمَّ (إِن) ابْن حزم أتبع هَذِه الفضيحة بِأُخْرَى فَقَالَ: ابْن أبي زَائِدَة الَّذِي رَوَى عَنهُ أَبُو كريب هُوَ زَكَرِيَّا. وَإِنَّمَا هُوَ ابْنه يَحْيَى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة - نسبه إِلَى جده فَتنبه لذَلِك.
وَأما حَدِيث «جعلت لنا الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا» فَلهُ طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث جَابر بِلَفْظ: «أَعْطَيْت خمْسا لم يُعْطهنَّ أحد من الْأَنْبِيَاء قبلي» فعد مِنْهَا «وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا» أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» .
ثَانِيهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: «فضلت عَلَى الْأَنْبِيَاء بست: أَعْطَيْت جَوَامِع الْكَلم، ونصرت بِالرُّعْبِ، وَأحلت لي الْغَنَائِم، وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا، وَأرْسلت إِلَى الْخلق كَافَّة، وَختم بِي(2/623)
النَّبِيُّونَ» فأودعه مُسلم فِي «صَحِيحه» .
ثَالِثهَا: من حَدِيث عَوْف بن مَالك بِلَفْظ: «أَعْطَيْت أَرْبعا لم (يُعْطهنَّ) أحد كَانَ قبلنَا، وَسَأَلت رَبِّي الْخَامِسَة فَأَعْطَانِيهَا: كَانَ النَّبِي يبْعَث إِلَى قومه فَلَا يعدوها، و (بعثت) كَافَّة إِلَى النَّاس، وأرهب منا عدونا مسيرَة شهر، وَجعلت لي الأَرْض طهُورا ومساجد، وَأحل لنا الْخمس وَلم يحل (لأحد كَانَ) قبلنَا، وَسَأَلت رَبِّي الْخَامِسَة فَسَأَلته أَن لَا يلقاه عبد من أمتِي يوحده إِلَّا أدخلهُ الْجنَّة فَأَعْطَانِيهَا» أودعهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَهُوَ حَدِيث عَظِيم.
وَفِي مُسْند أَحْمد و «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن مُحَمَّد بن عَلّي أَنه سمع عَلّي بن أبي طَالب يَقُول: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَعْطَيْت مَا لم يُعْط أحد من الْأَنْبِيَاء» فَقُلْنَا: مَا هُوَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: نصرت بِالرُّعْبِ، وَأعْطيت مَفَاتِيح الأَرْض، وَسميت: أَحْمد، وَجعل لي التُّرَاب طهُورا، وَجعلت أمتِي خير [الْأُمَم] » وَرَوَى الْحَافِظ أَبُو بكر الجوزقي من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: «جعلت لي (كل أَرض) طيبَة مَسْجِدا وَطهُورًا» .
وَفِي فَوَائِد أبي عبد الله الثَّقَفِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي أُمَامَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن(2/624)
نَبِي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «إِن الله فضلني عَلَى الْأَنْبِيَاء - أَو قَالَ: أمتِي عَلَى الْأُمَم - بِأَرْبَع: أَرْسلنِي إِلَى النَّاس كَافَّة، و (جعل) الأَرْض كلهَا لي ولأمتي طهُورا ومسجدًا؛ فأينما أدْركْت الرجل من أمتِي الصَّلَاة فَعنده مَسْجده وَطهُوره، ونصرت بِالرُّعْبِ - يسير بَين يَدي - مسيرَة شهر (يقذف) فِي قُلُوب أعدائي، وَأحلت لي الْغَنَائِم» .
وَذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «إلمامه» (عَنهُ) وَقَالَ: رَوَاهُ عَن قوم مُوثقِينَ (وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» من حَدِيث أبي ذَر: «أَعْطَيْت خمْسا لم يُعْطهنَّ أحد قبلي) : بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود، وَأحلت لي الْغَنَائِم وَلم تحل لأحد قبلي، ونصرت بِالرُّعْبِ فيرعب الْعَدو مسيرَة شهر، وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا، وَقيل لي: سل تعطه، فاختبأت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة، وَهِي نائلة إِن شَاءَ الله - تَعَالَى - لمن لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا» .
وَنقل أَحْمد فِي «مُسْنده» عقب رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن مُجَاهِد أَنه كَانَ يرَى أَن الْأَحْمَر: الْإِنْس، وَالْأسود: الْجِنّ. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» : (وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ) أَن الْأَحْمَر الْعَجم، وَالْأسود الْعَرَب، وَالْغَالِب عَلَى ألوان الْعَرَب السمرَة، وَعَلَى ألوان الْعَجم الْبيَاض. قَالَ أَبُو عمر: المُرَاد بالأحمر: الْأَبْيَض، وَمِنْه قَوْله لعَائِشَة: «يَا حميراء» .(2/625)
فَائِدَة: رَوَى الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي «مُعْجَمه» من حَدِيث أنس رَفعه: «فضلت عَلَى النَّاس بِأَرْبَع: (بالسخاء) والشجاعة، وَكَثْرَة الْجِمَاع، وَشدَّة الْبَطْش» وروينا من حَدِيث السَّائِب ابْن أُخْت النمر «فضلت عَلَى الْأَنْبِيَاء بِخمْس ... ) فَذكر مِنْهَا: (ونصرت بِالرُّعْبِ شهرا أَمَامِي وشهرًا خَلْفي» .
الحَدِيث الْخَامِس
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ تيَمّم بِتُرَاب الْمَدِينَة وأرضها سبخَة» .
هَذَا حَدِيث صَحِيح، فَأَما تيَمّمه بترابها فَلَا شكّ فِيهِ، وَآيَة التَّيَمُّم نزلت بهَا أَيْضا (إِمَّا سنة أَربع أَو سنة سِتّ) وَلَا خلاف أَن أَرض مَدِينَة (سيدنَا) رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سبخَة. وَمن الْأَحَادِيث المصرحة بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ تيَمّم بترابها مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي الْجُهَيْم - بِضَم الْجِيم (وَالْيَاء) ، كَمَا قَالَه أَبُو مَسْعُود وَخلف، وَيُقَال لَهُ (أَيْضا) : أَبُو الجهم. كَمَا حَكَاهُ (غَيرهمَا) ابْن الْحَارِث الْأنْصَارِيّ قَالَ: «أقبل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من نَحْو بِئْر جمل فَلَقِيَهُ رجل فَسلم عَلَيْهِ، فَلم يرد عَلَيْهِ (النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) حتَّى أقبل عَلَى الْجِدَار(2/626)
فَمسح بِوَجْهِهِ وَيَديه ثمَّ رد عَلَيْهِ السَّلَام» وَأوردهُ مُسلم تَعْلِيقا، وَهُوَ أحد الْأَحَادِيث المقطوعة فِي كِتَابه، وَقد وجدت كلهَا مَوْصُولَة فِي غَيره، كَمَا قرر الْحَافِظ رشيد الدَّين الْعَطَّار فِي «مُصَنفه» فِي ذَلِك، وبئر جمل مَوضِع بِالْمَدِينَةِ فِيهِ مَال من أموالها فَثَبت بِهَذَا الحَدِيث وَبِغَيْرِهِ من الْأَحَادِيث الْآتِي بَعْضهَا فِي الْبَاب «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ تيَمّم بِتُرَاب الْمَدِينَة» وَلَا يُقَال إِن ذَلِك الْموضع الْمُتَيَمم (مِنْهُ) يحْتَمل أَن يكون غير سبخ؛ فقد قَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» : جَمِيع أَرض الْمَدِينَة سبخَة. وَاسْتدلَّ - أَعنِي: ابْن خُزَيْمَة - فِي «صَحِيحه» عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم بالسباخ بِحَدِيث عَائِشَة الطَّوِيل الَّذِي فِيهِ: «فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للْمُسلمين: قد أريت دَار هجرتكم؛ أريت سبخَة ذَات النّخل بَين (لابتين) وهما الحرتان» فَجَمِيع الْمَدِينَة سبخَة، وَقد أَمر الله - تَعَالَى - بِالتَّيَمُّمِ بالصعيد الطّيب» وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أعلم أَن الْمَدِينَة طيبَة أَو (طابة) مَعَ إِعْلَامه (إيَّاهُم) بِأَنَّهَا سبخَة. ثمَّ قَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي آخر كَلَامه: وَفِي هَذَا مَا بَان وَثَبت أَن التَّيَمُّم بالسباخ جَائِز: هَذَا لَفظه وَمن «صَحِيحه» فِي رحلتي إِلَى الْقُدس الشريف نقلته.(2/627)
الحَدِيث السَّادِس
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «لَيْسَ للمرء من عمله إِلَّا مَا نَوَاه» .
هَذَا الحَدِيث أوردهُ هَكَذَا الإِمَام الرَّافِعِيّ بِصِيغَة الْجَزْم وَلم أر من خرجه كَذَلِك عوضا عَن صِحَّته، وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ مَعْنَاهُ من حَدِيث عبد الله بن الْمثنى الْأنْصَارِيّ قَالَ: حَدَّثَني بعض أهل بَيْتِي عَن أنس بن مَالك «أَن رجلا من بني عَمْرو بن عَوْف قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنَّك رغبتنا فِي السِّوَاك فَهَل دون ذَلِك من شَيْء؟ قَالَ: أصبعك سواكك عِنْد وضوئك تمر بهَا عَلَى أسنانك إِنَّه لَا عمل لمن لَا نِيَّة لَهُ، وَلَا أجر لمن لَا [حسبَة] لَهُ» .
وَرَوَى الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر فِي الْمجْلس الأول من أَمَالِيهِ، وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» من حَدِيث بَقِيَّة، عَن إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ، عَن أبان، عَن أنس - رَفعه -: «لَا يقبل قَول إِلَّا بِعَمَل، ولايقبل قَول وَعمل إِلَّا بنية، وَلَا يقبل قَول وَعمل وَنِيَّة إِلَّا بِإِصَابَة السّنة» .
قَالَ ابْن عَسَاكِر: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب.
قلت: بل هُوَ حَدِيث ضَعِيف؛ فأبان هَذَا هُوَ ابْن أبي عَيَّاش وَهُوَ مَتْرُوك (واه) وَرَاوِيه عَن بَقِيَّة هُوَ أَبُو عتبَة أَحْمد بن الْفرج الْحِمصِي وَقد ضعفه مُحَمَّد بن عَوْف الطَّائِي وَابْن جوصاء وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ(2/628)
وسيط لَيْسَ مِمَّن يحْتَج بِهِ أَو يتدين بِهِ إِلَّا أَنه يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: كتبنَا عَنهُ وَمحله عندنَا مَحل الصدْق. وَوَقع فِي «التَّحْقِيق» لِابْنِ الْجَوْزِيّ: «إِيَاس» بدل «أبان» وَهُوَ تَحْرِيف؛ فاحذره، وَبَقِيَّة حَالَته مَعْلُومَة، وَرَوَى الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم هبة الله (اللالكائي) فِي «سنَنه» عَن أَحْمد بن أبي طَاهِر الْفَقِيه، أَنا عمر بن أَحْمد، نَا عَلّي بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن (يزِيد) الريَاحي (نَا أبي) نَا يَحْيَى بن سليم، نَا أَبُو حَيَّان الْبَصْرِيّ (قَالَ: سَمِعت الْحسن يَقُول: «لَا يصلح قَول إِلَّا بِعَمَل، وَلَا يصلح قَول وَعمل إِلَّا بنية) وَلَا يصلح قَول وَعمل وَنِيَّة إِلَّا بِالسنةِ» .
قلت: وَحَدِيث «إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ... » السالف فِي أول بَاب الْوضُوء كَاف فِي الدّلَالَة عَن هَذَا الحَدِيث، فَإِن الرَّافِعِيّ (اسْتدلَّ) بِهِ عَلَى إِيجَاب النِّيَّة للتيمم.
الحَدِيث السَّابِع
أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَا صَلَاة إِلَّا بِطَهَارَة» .
(هَذَا) الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب الْأَحْدَاث وَاضحا.(2/629)
الحَدِيث الثَّامِن
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ لعَمْرو بن الْعَاصِ - وَقد تيَمّم عَن الْجَنَابَة من شدَّة الْبرد -: يَا عَمْرو، صليت بِأَصْحَابِك وَأَنت جنب؟ ! فَقَالَ عَمْرو: إِنِّي سَمِعت الله تَعَالَى يَقُول: (وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم إِن الله كَانَ بكم رحِيما) فَضَحِك النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَلم يُنكر عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» تَعْلِيقا فَقَالَ: «وَيذكر أَن عَمْرو بن الْعَاصِ أجنب فِي لَيْلَة بَارِدَة (فَتَيَمم) وتلا: (وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم إِن الله كَانَ بكم رحِيما) فَذكر ذَلِك للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَلم يعنفه» .
وأسنده أَبُو دَاوُد عَن ابْن الْمثنى، نَا وهب بن جرير، نَا أبي، قَالَ: سَمِعت يَحْيَى بن أَيُّوب يحدث، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن عمرَان بن أبي أنس، عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير، عَن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: «احْتَلَمت فِي لَيْلَة بَارِدَة فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل فَأَشْفَقت إِن اغْتَسَلت أَن أهلك، فَتَيَمَّمت ثمَّ صليت بِأَصْحَابِي الصُّبْح، فَذكرُوا ذَلِك للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: يَا عَمْرو، صليت بِأَصْحَابِك وَأَنت جنب؟ ! فَأَخْبَرته بِالَّذِي مَنَعَنِي من الِاغْتِسَال وَقلت: إِنِّي سَمِعت الله - تَعَالَى - يَقُول: (وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم إِن الله كَانَ بكم رحِيما) فَضَحِك نَبِي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَلم يقل شَيْئا» .(2/630)
وأسنده أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب بِهِ سَوَاء، قَالَ أَبُو دَاوُد: وثنا مُحَمَّد بن سَلمَة، نَا ابْن وهب، عَن ابْن لَهِيعَة وَعَمْرو بن الْحَارِث، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن عمرَان بن أبي أنس، عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير، عَن أبي قيس مولَى عَمْرو بن الْعَاصِ «أَن عَمْرو بن الْعَاصِ كَانَ عَلَى سَرِيَّة ... » فَذكر الحَدِيث نَحوه قَالَ: «فَغسل مغابنه وَتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة، ثمَّ صَلَّى بهم ... » فَذكر نَحوه وَلم يذكر التَّيَمُّم، قَالَ أَبُو دَاوُد - وَرَوَى هَذِه الْقِصَّة عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن حسان بن عَطِيَّة -: قَالَ فِيهِ: «فَتَيَمم» .
وأسنده الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» عَن أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب، أَنا مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، أَنا (ابْن) وهب، حَدَّثَني عَمْرو بن الْحَارِث وَرجل آخر، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن عمرَان بن أبي أنس، عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير، عَن أبي قيس مولَى عَمْرو بن الْعَاصِ « (أَن عَمْرو بن الْعَاصِ) كَانَ عَلَى سَرِيَّة وَأَنَّهُمْ أَصَابَهُم برد شَدِيد لم ير مثله، فَخرج لصَلَاة الصُّبْح فَقَالَ: وَالله لقد احْتَلَمت البارحة، وَلَكِنِّي وَالله مَا رَأَيْت بردا مثل هَذَا، هَل مر عَلَى وُجُوهكُم مثله؟ قَالُوا: لَا. فَغسل مغابنه وَتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة ثمَّ صَلَّى بهم، فَلَمَّا قدم عَلَى رَسُول، سَأَلَ رسولُ الله: كَيفَ وجدْتُم عمرا وصحابته؟ فَأَثْنوا عَلَيْهِ خيرا، وَقَالُوا: يَا رَسُول الله، صَلَّى بِنَا وَهُوَ جنب.(2/631)
فَأرْسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى عَمْرو فَسَأَلَهُ، فَأخْبرهُ بذلك وَبِالَّذِي لَقِي من الْبرد، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن الله قَالَ: (وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم (وَلَو اغْتَسَلت مِنْهُ لهلكت، فَضَحِك رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلَى عَمْرو» .
وأسنده أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن سلم، نَا حَرْمَلَة بن يَحْيَى، نَا ابْن وهب بِهِ سَوَاء، إِلَّا أَنه لم يذكر الرجل الآخر فِي سَنَده، قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. قَالَ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُمَا لم يخرجَاهُ. لحَدِيث جرير بن حَازِم، عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن يزِيد بن أبي حبيب. ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ الرِّوَايَة الأولَى الَّتِي سقناها من طَرِيق أبي دَاوُد ثمَّ قَالَ: حَدِيث جرير هَذَا لَا يُعلل حَدِيث عَمْرو بن الْحَارِث الَّذِي وَصله بِذكر أبي قيس؛ فَإِن أهل مصر أعرف بِحَدِيثِهِمْ من أهل الْبَصْرَة - يَعْنِي: أَن رِوَايَة الْوضُوء يَرْوِيهَا مصري عَن مصري، وَرِوَايَة التَّيَمُّم يَرْوِيهَا بَصرِي عَن مصري - وَجمع الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِجمع حسن فَقَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون فعل مَا (نقل) فِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا، فَغسل مَا أمكنه وَتيَمّم للْبَاقِي.
قلت: (لَكِن) رِوَايَة التَّيَمُّم مُنْقَطِعَة؛ لِأَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير لم يسمع الحَدِيث من عَمْرو بن الْعَاصِ، كَمَا نَص عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» لَا جرم جَاءَ فِي الطَّرِيق الثَّانِي مَوْصُولا بِذكر أبي قيس مولَى عَمْرو بن الْعَاصِ (بَين) عبد الرَّحْمَن وَعَمْرو.(2/632)
وَصَححهُ الْحَاكِم وَابْن حبَان من هَذَا الْوَجْه كَمَا سلف، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ من طرق، مِنْهَا عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «أَن عمرا ... » فَذكره، وَلم يذكر فِيهِ غسلا وَلَا تيممًا، وَكَذَا من طَرِيق (أبي) أُمَامَة عَنهُ، ثمَّ ذكر طَرِيقا آخر فِي غسل المغابن كَمَا سلف، وطريقًا آخر فِي التَّيَمُّم، قَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : وَمن مَرَاسِيل اللَّيْث: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ (لَهُ) : يَا عَمْرو، مَا أحب أَنَّك تركت مَا فعلت وَفعلت مَا تركت» .
فَوَائِد:
الأولَى: فِي ضبط مَا وَقع فِي الحَدِيث من (أَلْفَاظ) وَبَيَان مَعْنَاهَا: مَعْنَى أشفقت: خفت. وَأهْلك - بِكَسْر اللَّام - وقُرئ شاذًّا بِفَتْحِهَا. والمغابن - بغين مُعْجمَة وباء مُوَحدَة قبل النُّون -: الآباط وأصول الفخذين، وكل مَا يتَعَلَّق بِهِ الْوَسخ من الْجَسَد. قَالَه عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» وَهُوَ كَذَلِك فِي «الصِّحَاح» (و) قَالَ فِي (غبن) : المغابن الأرفاغ. وَقَالَ فِي (رفغ) : الأرفاغ: المغابن من الآباط وأصول الفخذين (الْوَاحِد) رَفْغ ورُفْغ. والعاصي - بِإِثْبَات الْيَاء - أفْصح من حذفهَا.
الثَّانِيَة: يُؤْخَذ من الحَدِيث جَوَاز التَّيَمُّم لخوف التّلف مَعَ وجود المَاء، وجوازه للْجنب، ولشدة الْبرد فِي السّفر، وَسُقُوط الْإِعَادَة،(2/633)
وَصِحَّة اقْتِدَاء الْمُتَوَضِّئ بالمتيمم، وَأَن التَّيَمُّم لَا يرفع الْحَدث، واستحباب الْجَمَاعَة للمسافرين، وَأَن صَاحب الْولَايَة أَحَق بِالْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاة وَإِن كَانَ غَيره أكمل طَهَارَة أَو حَالا مِنْهُ، وَأَن التَّمَسُّك بالعمومات حجَّة صَحِيحَة، وَجَوَاز قَول الإِنسان سَمِعت الله - تَعَالَى - يَقُول، وَالله يَقُول كَذَا (وَقد كرهه بِهَذِهِ) الصِّيغَة مطرف بن عبد الله بن الشخير التَّابِعِيّ قَالَ: وَإِنَّمَا يُقَال: قَالَ الله - بِصِيغَة الْمَاضِي - وَهَذَا شَاذ؛ فقد قَالَ الله - تَعَالَى -: (وَالله يَقُول الْحق) .
الْفَائِدَة الثَّالِثَة: ذَات السلَاسِل الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث: مَوضِع مَعْرُوف بِنَاحِيَة الشَّام فِي أَرض بني عذرة من وَرَاء وَادي الْقرى (بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة عشرَة أَيَّام) وَهِي غَزْوَة من غزوات الشَّام، وَهِي بِفَتْح السِّين الأولَى وَكسر الثَّانِيَة، كَمَا ضَبطه الْبكْرِيّ فِي «مُعْجَمه» وَهُوَ الْمَشْهُور، كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ وَغَيره، وَاقْتصر ابْن الْأَثِير فِي «نهايته» عَلَى ضم السِّين الأولَى. وَكَانَت هَذِه الْغَزْوَة فِي السّنة (الثَّامِنَة) من سني الْهِجْرَة فِي جُمَادَى الأولَى، وَعَمْرو بن الْعَاصِ كَانَ أميرها (قَالَ) ابْن هِشَام: سميت بذلك باسم مَاء بِأَرْض جذام يُقَال لَهُ: السلسل.(2/634)
قَالَ ابْن عَسَاكِر فِي «تَارِيخ دمشق» : كَانَت غَزْوَة ذَات السلَاسِل بعد مُؤْتَة فِيمَا ذكره أَصْحَاب الْمَغَازِي إِلَّا ابْن إِسْحَاق فَإِنَّهُ (ذكره) قبلهَا.
الْفَائِدَة الرَّابِعَة: عَمْرو بن الْعَاصِ أسلم عَلَى يَد النَّجَاشِيّ، كَمَا أخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، نَا أبي، عَن ابْن إِسْحَاق قَالَ: حَدَّثَني يزِيد بن أبي حبيب ... فَذكره بِطُولِهِ، وَذكره أَيْضا الطَّبَرَانِيّ فِي « (أكبر معاجمه» فِي تَرْجَمته، وتذكر هَذَا فِي المطارحات، فَيُقَال: صَحَابِيّ طَوِيل الصُّحْبَة كثير الرِّوَايَة، أسلم عَلَى يَد تَابِعِيّ لَا صُحْبَة لَهُ، وَذكره الطَّبَرَانِيّ فِي) «مُعْجَمه» الْمَذْكُور أَيْضا عَن (ابْن) إِسْحَاق (أَيْضا) قَالَ: (كَانَ) إِسْلَام عَمْرو بن الْعَاصِ وخَالِد بن الْوَلِيد وَعُثْمَان بن طَلْحَة عِنْد النَّجَاشِيّ، فقدموا الْمَدِينَة فِي صفر سنة ثَمَان من الْهِجْرَة. اه.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ تيَمّم، فَمسح وَجهه وَيَديه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد سلف فِي الحَدِيث الْخَامِس من حَدِيث أبي الْجُهَيْم، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب من حَدِيث عمار بن يَاسر أَيْضا.(2/635)
الحَدِيث الْعَاشِر
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تيَمّم بضربتين؛ مسح (بِإِحْدَاهُمَا) وَجهه» .
هَذَا (الحَدِيث) رَوَاهُ ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ كَمَا ستقف عَلَيْهِ وَاضحا فِي الحَدِيث الْآتِي بعده.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: يجب اسْتِيعَاب الْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين بِالْمَسْحِ كَمَا فِي الْوضُوء؛ لما رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تيَمّم فَمسح وَجهه وذراعيه» والذراع اسْم للساعد إِلَى الْمرْفق.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، ثَنَا مُحَمَّد بن ثَابت الْعَبْدي، نَا نَافِع قَالَ: «انْطَلَقت مَعَ ابْن عمر فِي (حَاجَة) إِلَى ابْن عَبَّاس، فَقَضَى ابْن عمر حَاجته، وَكَانَ من حَدِيثه يَوْمئِذٍ أَن قَالَ: مر رجل عَلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي سكَّة من السكَك وَقد خرج من غَائِط أَو بَوْل، فَسلم عَلَيْهِ فَلم يرد عَلَيْهِ، حتَّى كَاد الرجل يتَوَارَى فِي السكَك ضرب (بيدَيْهِ) عَلَى الْحَائِط وَمسح (بهَا) وَجهه، ثمَّ ضرب ضَرْبَة أُخْرَى فَمسح ذِرَاعَيْهِ، ثمَّ رد عَلَى الرجل السَّلَام، وَقَالَ:(2/636)
إِنَّه لم يَمْنعنِي أَن أرد (عَلَيْك) السَّلَام إِلَّا أَنِّي لم أكن عَلَى طهر» . وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد بن عبيد الصفار من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة «ثمَّ ضرب بكفه الثَّانِيَة فَمسح ذِرَاعَيْهِ إِلَى الْمرْفقين» .
وَمُحَمّد بن ثَابت هَذَا ضعفه ابْن معِين فَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ مرّة: ضَعِيف. نعم رَوَى صَالح عَنهُ أَنه قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْس، يُنكر عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عمر فِي التَّيَمُّم لَا غير، وَالصَّوَاب مَوْقُوف. وَنقل الْبَيْهَقِيّ عَن الدَّارمِيّ عَنهُ: لَا بَأْس بِهِ. وَسَيَأْتِي ذَلِك عَنهُ، وَفِي «الضُّعَفَاء» لِابْنِ الْجَوْزِيّ عَن لوين أَنه قَالَ فِيهِ: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بالمتين (أكتب) حَدِيثه، وَهُوَ أحب إليّ من أُميَّة بن يعْلى وَصَالح المري، رَوَى حَدِيثا مُنْكرا. وَقَالَ البُخَارِيّ: خَالف فِي بعض حَدِيثه فَقَالَ: عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا فِي التَّيَمُّم، وَخَالف أَبُو أَيُّوب وَعبيد الله وَالنَّاس فَقَالُوا: عَن نَافِع عَن ابْن عمر فِعْله. وَقَالَ النَّسَائِيّ: (إِنَّه) لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن عدي: لَهُ غير مَا ذكرت (وَلَيْسَ) بالكثير وَعَامة (حَدِيثه) لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن هَانِئ: (عرضت) هَذَا الحَدِيث عَلَى أَحْمد فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر، لَيْسَ هُوَ بِثَابِت مَرْفُوعا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي كتاب «التفرد» : لم يُتَابع أحد مُحَمَّد بن ثَابت فِي(2/637)
هَذِه الْقِصَّة عَلَى ضربتين عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَرَوَوْهُ عَن فعل ابْن عمر. قَالَ: وَرَوَى أَبُو أَيُّوب وَمَالك وَعبيد الله وَقيس بن سعد وَيُونُس الْأَيْلِي وَابْن أبي رواد، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه تيَمّم ضربتين للْوَجْه وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: وجعلوه فعل ابْن عمر. قَالَ: وَسمعت أَحْمد بن حَنْبَل (يَقُول) : رَوَى مُحَمَّد بن ثَابت حَدِيثا مُنْكرا فِي التَّيَمُّم. وَنقل هَذَا عَن أبي دَاوُد الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «أَطْرَافه» وَأقرهُ عَلَيْهِ، لَكِن فِي قَوْله: رَوَاهُ ابْن أبي رواد، عَن نَافِع (مَوْقُوفا) فِي كتاب «الألقاب» للشيرازي مَا يُخَالِفهُ؛ فَإِنَّهُ رَفعه عَنهُ بِلَفْظ: «التَّيَمُّم ضربتان: ضَرْبَة للْوَجْه، وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين» .
وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا الحَدِيث لَا يَصح لأجل مُحَمَّد بن ثَابت الْعَبْدي؛ فَإِنَّهُ ضَعِيف جدًّا لَا يحْتَج بحَديثه.
قلت: وَأما الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فَإِنَّهُ ذكر لَهُ أَشْيَاء تقويه فَقَالَ: أنكر بعض (الْحفاظ) رفع هَذَا الحَدِيث عَلَى مُحَمَّد بن ثَابت الْعَبْدي، فَقَالَ: قد رَوَاهُ جمَاعَة عَن نَافِع من فعل ابْن عمر، وَالَّذِي رَوَاهُ غَيره عَن نَافِع من فعل ابْن عمر إِنَّمَا هُوَ التَّيَمُّم فَقَط، فَأَما هَذِه الْقِصَّة فَهِيَ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَشْهُورَة بِرِوَايَة أبي الْجُهَيْم بن الْحَارِث بن الصمَّة وَغَيره - أَي: بِدُونِ ذِرَاعَيْهِ - وَهَذَا من الْبَيْهَقِيّ دَال عَلَى أَن الْمُنكر من حَدِيثه إِنَّمَا(2/638)
هُوَ رفع الْمسْح إِلَى الْمرْفقين لَا أصل الْقِصَّة (وَلَا رِوَايَتهَا من حَدِيث ابْن عمر) وَبِه صرح فِي كتاب «الْمعرفَة» فَقَالَ: وَإِنَّمَا تفرد مُحَمَّد بن ثَابت (فِي) هَذَا الحَدِيث بِذكر الذراعين فِيهِ دون غَيره. وَالظَّاهِر أَن هَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فِيمَا أسلفناه من كَلَامه: «رَوَى حَدِيثا مُنْكرا» .
قلت: ولروايته شَاهد من حَدِيث أبي (عصمَة) عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن الْأَعْرَج، عَن (أبي) [جهيم] قَالَ: «أقبل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من بِئْر جمل إِمَّا من غَائِط أَو من بَوْل، فَسلمت عَلَيْهِ فَلم يرد عَلّي السَّلَام، فَضرب الْحَائِط بِيَدِهِ ضَرْبَة فَمسح بهَا وَجهه، ثمَّ ضرب أُخْرَى فَمسح بهَا ذِرَاعَيْهِ إِلَى الْمرْفقين، ثمَّ رد عَلّي السَّلَام» .
ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث خَارِجَة عَن عبد الله بن عَطاء، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي جهيم، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِمثلِهِ. وَأَبُو عصمَة السالف هُوَ نوح بن أبي مَرْيَم ضَعِيف جدًّا (وَكَذَا خَارِجَة، والأعرج لم يسمع الحَدِيث من أبي جهيم بَينهمَا عُمَيْر مولَى ابْن عَبَّاس، وَذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «إِمَامه» هَذَا الحَدِيث وَلم يتبعهُ بِتَضْعِيف، وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ) .(2/639)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وثابت عَن الضَّحَّاك بن عُثْمَان، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن رجلا مر وَرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَبُول، فَسلم عَلَيْهِ فَلم يرد عَلَيْهِ السَّلَام» . (إِلَّا أَنه قصر) فِي رِوَايَته، قَالَ: وَرِوَايَة يزِيد بن الْهَاد، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، أتم من ذَلِك. ثمَّ سَاقهَا بِإِسْنَادِهِ بِنَحْوِ (الَّذِي) قبله وَفِيه «وَمسح وَجهه وَيَديه» . ثمَّ قَالَ: هَذِه الرِّوَايَة شاهدة لرِوَايَة مُحَمَّد بن ثَابت الْعَبْدي إِلَّا أَنه حفظ فِيهَا الذراعين. قَالَ: وَفعل ابْن عمر التَّيَمُّم عَلَى الْوَجْه والذراعين إِلَى الْمرْفقين شَاهد لصِحَّة رِوَايَة مُحَمَّد بن ثَابت غير منافٍ لَهَا. ثمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيّ عَن الدَّارمِيّ أَنه سَأَلَ يَحْيَى بن معِين، عَن (مُحَمَّد بن) ثَابت الْعَبْدي فَقَالَ: لَا بَأْس بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا قَالَ فِي رِوَايَة الدَّارمِيّ وَهُوَ فِي (هَذَا) (الحَدِيث) غير مُسْتَحقّ للنكر بالدلائل الَّتِي ذَكرنَاهَا. قَالَ: وَقد رَوَاهُ جمَاعَة من الْأَئِمَّة عَن مُحَمَّد بن ثَابت: يَحْيَى بن يَحْيَى، ويعلى بن مَنْصُور، وَسَعِيد بن مَنْصُور، وَغَيرهم، وَأَثْنَى عَلَيْهِ مُسلم بن إِبْرَاهِيم (وَرَوَاهُ) عَنهُ، وَهُوَ عَن ابْن عمر مَشْهُور.
وناقش الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْبَيْهَقِيّ فِيمَا ذكره فَقَالَ فِي كِتَابه «الإِمَام» : ولنذكر مَا يُمكن أَن يَقُوله مخالفه مَعَ الْبَرَاءَة والاستعاذة بِاللَّه من تَقْوِيَة بَاطِل وتضعيف حق فَنَقُول -: مَا أنكرهُ بعض الْحفاظ الَّذِي ذكره الْبَيْهَقِيّ عَنهُ (هَل) هُوَ أصل الْقِصَّة أم رِوَايَتهَا من حَدِيث(2/640)
ابْن عمر، أَو رفع مُحَمَّد بن ثَابت الْمسْح إِلَى الْمرْفقين؟ قَالَ: وَقد أَشَارَ الْبَيْهَقِيّ إِلَى أَن جِهَة الْإِنْكَار كَونه رَوَاهُ جمَاعَة عَن نَافِع من فعل ابْن عمر، وَقَالَ بعد ذَلِك: وَالَّذِي رَوَاهُ غَيره عَن نَافِع من فعل ابْن عمر إِنَّمَا هُوَ التَّيَمُّم فَقَط. وَهَذَا يدلك عَلَى أَن الْمُنكر إِنَّمَا أنكر رفع الْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين لَا أصل الْقِصَّة، وَلَا رِوَايَتهَا من حَدِيث ابْن عمر، فاضبط هَذَا فَإِنَّهُ (مَبْنِيّ) عَلَيْهِ كثير مِمَّا يَأْتِي، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ الْمَشْهُور أصل الْقِصَّة من رِوَايَة أبي الْجُهَيْم وَلَيْسَ فِيهَا ذكر الْمرْفقين، فَلَيْسَ ينفع ذَلِك فِي تَقْوِيَة رِوَايَة مُحَمَّد بن ثَابت، بل قد عده خصومه (سَببا) للتضعيف، وَأَن الَّذِي فِي الصَّحِيح فِي قصَّة أبي (الْجُهَيْم) (وَيَديه) وَلَيْسَ فِيهِ (وذراعيه) .
وَقَالَ فِي قَول الْبَيْهَقِيّ: وثابت عَن الضَّحَّاك ... إِلَى آخِره كَمَا سلف: الضَّحَّاك بن عُثْمَان لم يذكر الْقِصَّة بِتَمَامِهَا، وَإِنَّمَا يثبت بهَا تَقْوِيَة لرِوَايَة مُحَمَّد بن ثَابت إِذا كَانَ الْمُنكر أصل رِوَايَته عَن نَافِع عَن ابْن عمر الْقِصَّة فِي الْجُمْلَة، وَقد يُقَال حِينَئِذٍ إِن رِوَايَة الضَّحَّاك وَإِن قصرت فَهِيَ تدل عَلَى أَن (الْقِصَّة) فِي الْجُمْلَة صَحِيحَة من رِوَايَة ابْن عمر، فَأَما إِذا كَانَ الْمُنكر عَلَى مُحَمَّد بن ثَابت رفع الْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين لم تفد رِوَايَة الضَّحَّاك تَقْوِيَة لذَلِك.
قَالَ: وَقَوله: وَرِوَايَة يزِيد بن الْهَاد، عَن نَافِع أتم من ذَلِك فِيهِ من الْبَحْث مَا قبله.(2/641)
قَالَ: وَقَوله: إِلَّا أَنه حفظ فِيهَا الذراعين. هُوَ الَّذِي خَالفه فِيهِ غَيره، وَلَو قَالَ إِلَّا أَنه ذكر الذراعين لَكَانَ أسلم وَأقرب إِلَى الْخَلَاص؛ فَإِن هَذِه الصِّيغَة تذكر كثيرا عِنْد تَصْحِيح مَا رَوَاهُ الرَّاوِي إِذا خُولِفَ.
قَالَ: وَقَوله: وَفعل ابْن عمر التَّيَمُّم عَلَى الْوَجْه والذراعين إِلَى الْمرْفقين شَاهد لصِحَّة رِوَايَة مُحَمَّد بن ثَابت غير منافٍ لَهَا. أما أَنه غير منَاف فَصَحِيح، وَأما أَنه شَاهد لصِحَّة رِوَايَة مُحَمَّد بن ثَابت فَفِيهِ نظر؛ لِأَنَّهُ لم يُوَافق مُحَمَّد بن ثَابت فِي رفع الذراعين إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بل هُوَ الْعلَّة الَّتِي علل بهَا من علل رِوَايَة مُحَمَّد بن ثَابت وَهُوَ الْوَقْف عَلَى فعل ابْن عمر، فَكيف يكون الْمُقْتَضِي للتَّعْلِيل مقتضيًا للتصحيح؟ !
قَالَ: وَمَا نَقله عَن يَحْيَى بن معِين من طَرِيق الدَّارمِيّ فِي حق مُحَمَّد بن ثَابت الْعَبْدي قد خَالف غَيره (عَنهُ) كَمَا سلف.
قَالَ: وَقَوله: وَهُوَ فِي هَذَا (الحَدِيث) غير مُسْتَحقّ للنكر بالدلائل الَّتِي ذكرتها. قد أَشَرنَا إِلَيْهَا وَمَا ننبه عَلَيْهِ فِيهِ. قَالَ: وَقصد بِذكر من رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن ثَابت من الْأَئِمَّة تَقْوِيَة أمره، وَقَوله: وَأَثْنَى عَلَيْهِ مُسلم بن إِبْرَاهِيم، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم لما رَوَى عَنهُ قَالَ: ثَنَا مُحَمَّد بن ثَابت الْعَبْدي وَكَانَ صَدُوقًا، وَصدقه لَا يمْنَع أَن يُنكر عَلَيْهِ مُنكر رفع هَذَا الحَدِيث عَلَى حكم الْغَلَط عِنْده لمُخَالفَة غَيره لَهُ عَلَى مَا هُوَ عَادَة كثير من أهل الحَدِيث أَو أَكْثَرهم.
قَالَ: وَقَوله: (وَهُوَ) عَن ابْن عمر مَشْهُور. قد توهم من لم(2/642)
يفهم الصِّنَاعَة أَن الحَدِيث مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن ثَابت عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا مَشْهُور، وَلَيْسَ الْمَشْهُور إِلَّا (رِوَايَته) عَن ابْن عمر فعله، نعم هَا هُنَا شَيْء ننبه عَلَيْهِ وَهُوَ أَنه (إِنَّمَا) يقوى تَعْلِيل رِوَايَة مُحَمَّد بن ثَابت المرفوعة بِرِوَايَة من رَوَى مَوْقُوفا عَلَى ابْن عمر إِذا لم يفترقا إِلَّا فِي الرّفْع وَالْوَقْف، فَأَما إِذا ذكر مَوْقُوفا ثمَّ ذكر الْقِصَّة مَرْفُوعا فَلَا يقوى تِلْكَ الْقُوَّة فِي التَّعْلِيل عِنْدِي، وَإِنَّمَا قد يُمكن أَن يُعلل بِرِوَايَة من رَوَى الْقِصَّة من غير ذكر الْمرْفقين عَلَى مَذْهَب بعض أهل الحَدِيث أَو أَكْثَرهم إِذا كَانَ الْمُخَالف للرواي للقصة أحفظ وَأكْثر. انْتَهَى كَلَامه.
وَنقل الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَن الإِمَام الشَّافِعِي أَنه قَالَ: إِنَّمَا منعنَا أَن نَأْخُذ بِرِوَايَة عمار فِي الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ ثُبُوت الحَدِيث عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَنه مسح وَجهه وذراعيه» وَإِن هَذَا أشبه (بِالْقُرْآنِ) وَالْقِيَاس أَن يكون الْبَدَل من الشَّيْء مثله. ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: حَدِيث عمار (هَذَا) أثبت من حَدِيث الذراعين إِلَّا أَن حَدِيث الذراعين جيد لشواهده.
قَالَ الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ: وأخذنا بِحَدِيث مسح الذراعين؛ لِأَنَّهُ مُوَافق لظَاهِر [الْكتاب] . وَالْقِيَاس أحوط. وَقَالَ الْخطابِيّ: الِاقْتِصَار(2/643)
عَلَى الْكَفَّيْنِ أصح فِي الرِّوَايَة وَوُجُوب الذراعين أشبه فِي الْأُصُول وَأَصَح فِي الْقيَاس.
قلت: فَهَذَا مُرَجّح آخر للأخذ بِهِ.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «التَّيَمُّم ضربتان: ضَرْبَة للْوَجْه، وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق أَحدهَا: رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن أبي عبد الله الْفَارِسِي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، ثَنَا عبد الله بن الْحُسَيْن بن جَابر، ثَنَا عبد الرَّحِيم بن مطرف، نَا عَلّي بن ظبْيَان، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «التَّيَمُّم ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه، وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين» . ثمَّ قَالَ: كَذَا رَوَاهُ عَلّي بن ظبْيَان مَرْفُوعا، وَوَقفه يَحْيَى الْقطَّان وهشيم وَغَيرهمَا، وَهُوَ الصَّوَاب (وَكَذَا قَالَ فِي «علله» : إِن الصَّوَاب وَقفه عَلَيْهِ) . ثمَّ رَوَاهُ (فِي سنَنه) بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِمَا عَن عبيد الله بن عمر وَيُونُس، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يَقُول: «التَّيَمُّم ضربتان: ضَرْبَة للْوَجْه، وضربة للكفين (إِلَى الْمرْفقين) » .
ثمَّ رَوَى من طَرِيق مَالك، عَن نَافِع «أَن ابْن عمر كَانَ يتَيَمَّم إِلَى الْمرْفقين» .(2/644)
ثمَّ رَوَى من حَدِيث سُلَيْمَان بن أَرقم، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه قَالَ: «تيممنا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فضربنا بِأَيْدِينَا عَلَى الصَّعِيد الطّيب، ثمَّ نفضنا أَيْدِينَا فمسحنا بهَا وُجُوهنَا، ثمَّ ضربنا ضَرْبَة أُخْرَى الصَّعِيد الطّيب، ثمَّ نفضنا أَيْدِينَا فمسحنا بِأَيْدِينَا من الْمرَافِق إِلَى الأكف عَلَى منابت الشّعْر من ظَاهر وباطنٍ» .
ثمَّ رَوَى بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور: «تيممنا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بضربتين: ضَرْبَة للْوَجْه (وَالْكَفَّيْنِ) وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين» .
ثمَّ رَوَى من حَدِيث سُلَيْمَان بن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي، عَن سَالم وَنَافِع، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فِي التَّيَمُّم ضربتين: ضَرْبَة للْوَجْه، وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى (الْمرْفقين) » . قَالَ: وَسليمَان (بن أَرقم وَسليمَان) بن أبي دَاوُد ضعيفان.
قلت: (وَكَذَا) نَص غير وَاحِد من الْحفاظ عَلَى ضعف رِوَايَة الرّفْع، وَسَببه أَن (عبد الله) بن الْحُسَيْن بن جَابر الْمَذْكُور فِيهَا وهاه ابْن حبَان. وَعلي بن ظبْيَان - بِكَسْر الظَّاء - قَالَ أَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ والأزدي: مَتْرُوك. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: واه جدًّا. وَقَالَ ابْن (نمير) : ضَعِيف، يُخطئ فِي حَدِيثه كُله. وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد وَابْن معِين(2/645)
وَأَبُو دَاوُد: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن حبَان: سقط الِاحْتِجَاج بأخباره.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : رفع هَذَا الحَدِيث عَلّي بن ظبْيَان وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب وَقفه عَلَى ابْن عمر. قَالَ: وَقد رَوَاهُ سُلَيْمَان بن أبي دَاوُد وَسليمَان بن أَرقم أَيْضا مَرْفُوعا، وَلَا يحْتَج بروايتهما.
قَالَ: وَالصَّحِيح رِوَايَة معمر وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن ابْن عمر من فعله.
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْحق فِي « (أَحْكَامه» ) : عَلّي بن ظبْيَان ضَعِيف عِنْدهم، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الثِّقَات (مَوْقُوفا) عَلَى ابْن عمر.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : رَوَاهُ عَلّي بن ظبْيَان مَرْفُوعا. ثمَّ نقل كَلَام الْأَئِمَّة فِي تَضْعِيف عَلّي - كَمَا أسلفناه - ثمَّ ضعف سُلَيْمَان بن أبي دَاوُد وَسليمَان بن أَرقم، وَخَالف الْحَاكِم فروَى الحَدِيث فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عَلّي بن ظبْيَان مَرْفُوعا - كَمَا سلف - ثمَّ قَالَ: قد اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى حَدِيث الحكم، عَن ذَر، عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى، عَن أَبِيه، عَن عمر فِي التَّيَمُّم، وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ، وَلَا أعلم أحدا أسْندهُ عَن عبيد الله غير عَلّي بن ظبْيَان، وَهُوَ صَدُوق.
قلت: (بل) واه - كَمَا سلف - ثمَّ قَالَ: وَقد أوقفهُ يَحْيَى بن سعيد وهشيم وَغَيرهمَا. قَالَ: وَقد أوقفهُ مَالك عَن نَافِع فِي «الْمُوَطَّأ»(2/646)
بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ، غير أَن شرطي فِي سَنَد الصدوق الحَدِيث إِذا (وَقفه) غَيره ثمَّ رَوَى حَدِيث سُلَيْمَان بن أَرقم الأول. ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث مُفَسّر (وَإِنَّمَا أوردته شَاهدا) لِأَن سُلَيْمَان بن أَرقم لَيْسَ من شَرط هَذَا الْكتاب، وَقد اشترطنا إِخْرَاج مثله فِي الشواهد. ثمَّ رَوَى حَدِيث سُلَيْمَان بن أبي دَاوُد السالف (ثمَّ) قَالَ: سُلَيْمَان بن أبي دَاوُد (أَيْضا) لم يخرجَاهُ، وَإِنَّمَا ذَكرْنَاهُ فِي الشواهد.
قَالَ: وَقد روينَا مَعْنَى هَذَا الحَدِيث عَن جَابر بن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِإِسْنَاد صَحِيح. ثمَّ (سَاقه عَن أبي) بكر بن بَالَوَيْهِ وَغَيره، عَن إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق الْحَرْبِيّ، ثَنَا (إِبْرَاهِيم) (ثَنَا) عزْرَة بن ثَابت، عَن أبي الزبير (عَن) جَابر قَالَ: «جَاءَ رجل (فَقَالَ) : أصابتني جَنَابَة وَإِنِّي تمعكت فِي التُّرَاب. فَقَالَ: اضْرِب. فَضرب بِيَدِهِ الأَرْض فَمسح وَجهه، ثمَّ ضرب يَدَيْهِ فَمسح بهما يَدَيْهِ إِلَى الْمرْفقين» وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ مُحَمَّد بن ثَابت عَن نَافِع، عَن(2/647)
ابْن عمر مَرْفُوعا «فِي التَّيَمُّم ضربتين» فَقَالَ: هَذَا خطأ، إِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف. قَالَ: وَسَأَلته عَن حَدِيث رَوَاهُ قُرَّة بن سُلَيْمَان، عَن سُلَيْمَان بن أبي دَاوُد، عَن سَالم (و) نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا «فِي التَّيَمُّم ضربتين» فَقَالَ: هَذَا حَدِيث بَاطِل، وَسليمَان ضَعِيف (الحَدِيث) . قَالَ ابْن أبي حَاتِم: وَرَوَى الرّبيع بن بدر، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن الأسلع قَالَ: «كنت أخدم النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ... » فَذكر التَّيَمُّم ضربتين. قَالَ أبي: الرّبيع هَذَا مَتْرُوك الحَدِيث.
الطَّرِيق الثَّانِي: وَهُوَ عِنْدِي أَجود من الأول عَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم قَالَ: «التَّيَمُّم ضَرْبَة للْوَجْه، وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عُثْمَان بن مُحَمَّد الْأنمَاطِي، عَن حرمي بن عمَارَة، عَن عزْرَة بن ثَابت، عَن أبي الزبير، عَن جَابر بِهِ. وَسكت عَلَيْهِ وَضَعفه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» بعثمان بن مُحَمَّد وَقَالَ: إِنَّه مُتَكَلم فِيهِ. وَلم يبين من تكلم فِيهِ وَلَا ذكره فِي «ضُعَفَائِهِ» وَنَقله الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» عَنهُ وَأقرهُ عَلَيْهِ، وَعُثْمَان الْمَذْكُور لَا أعلم من وَثَّقَهُ وَلَا من جَرحه، وَقد ذكره ابْن أبي حَاتِم وَلم يذكر فِيهِ جرحا وَلَا تعديلاً.(2/648)
قلت: وَقد رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق الْحَرْبِيّ، عَن (إِبْرَاهِيم) عَن (عزْرَة) كَمَا أسلفنا ذَلِك عَن رِوَايَة الْحَاكِم وتصحيحه (فَلم) ينْفَرد عُثْمَان بِهِ.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث أبي أُمَامَة، وَقد ذكرته فِي (تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب) من طَرِيق الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَلم يظفر بِهِ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه للمهذب» وَقَالَ: إِنَّه مُنكر لَا أصل لَهُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فراجع ذَلِك مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
رُوِيَ أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم قَالَ لعمَّار: «يَكْفِيك ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للكفين» هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» عَنهُ بِلَفْظ «تمسح وَجهك وكفيك بِالتُّرَابِ ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للكفين» ثمَّ (قَالَ) : لم يروه عَن أبي عُمَيْس - يَعْنِي عَن سَلمَة بن كهيل عَن سعيد بن أَبْزَى (عَنهُ) - إِلَّا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْأَسْلَمِيّ.(2/649)
قلت: وحالته مكشوفة قد (علمتها) فِي الطَّهَارَة وَفِي «المعجم الْكَبِير» لَهُ: «وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ ظهرا وبطنًا» وَفِي لفظ «إِلَى المناكب والآباط» قَالَ أَبُو عمر فِي «تمهيده» : كل مَا يرْوَى عَن عمار فِي هَذَا مُضْطَرب مُخْتَلف فِيهِ، وَأكْثر الْآثَار المرفوعة عَنهُ: «ضَرْبَة وَاحِدَة للْوَجْه وَالْيَدَيْنِ» (وَقَالَهُ) أَيْضا أَحْمد بن حَنْبَل فِي سُؤَالَات أَحْمد بن عُبَيْدَة.
قلت: وَصرح الشَّافِعِي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا بِأَن التَّيَمُّم إِلَى الآباط مَنْسُوخ بِرِوَايَاتِهِ الثَّابِتَة فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِالْأَمر بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ (لأبي) ذَر: «إِذا وجدت المَاء فأمسه جِلْدك» .
هَذَا الحَدِيث فرقه المُصَنّف فَذكر بعضه هُنَا - كَمَا ترَى - وَبَعضه آخر الْبَاب فَقَالَ: وَفِي مثله: «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأبي ذَر، وَكَانَ يُقيم بالربذة ويفقد المَاء أَيَّامًا، فَسَأَلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: التُّرَاب كافيك وَلَو لم تَجِد المَاء عشر حجج» .
وَهُوَ حَدِيث جيد رَوَاهُ بِطُولِهِ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أبي قلَابَة عَن عَمْرو بن بجدان - بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، ثمَّ جِيم(2/650)
سَاكِنة، ثمَّ دَال مُهْملَة، ثمَّ نون - عَن أبي ذَر أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «إِن الصَّعِيد الطّيب طهُور الْمُسلم، وَإِن لم يجد المَاء عشر سِنِين، فَإِذا وجد المَاء فليمسه بَشرته، فَإِن ذَلِك خير» . (هَذَا) لفظ التِّرْمِذِيّ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «الصَّعِيد وضوء» بدل «طهُور» . رَوَاهُ من حَدِيث (أبي) أَحْمد الزبيري، عَن سُفْيَان، عَن خَالِد الْحذاء، عَن أبي قلَابَة بِهِ. وَلَفظ أبي دَاوُد: عَن خَالِد الْحذاء، عَن أبي قلَابَة، عَن عَمْرو بن بجدان، عَن أبي ذَر قَالَ: «اجْتمعت غنيمَة - وَفِي لفظ: من الصَّدَقَة - عِنْد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَر، ابد فِيهَا. فبدوت (فِيهَا) إِلَى الربذَة وَكَانَت تصيبني (الْجَنَابَة) فأمكث الْخمس والست، فَأتيت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: أَبُو ذَر. فسكنت. فَقَالَ: ثكلتك أمك أَبَا ذَر، لأمك الويل. فَدَعَا لي بِجَارِيَة سَوْدَاء فَجَاءَت بعُسٍّ فِيهِ مَاء، فسترني بِثَوْب، (واستترت) بالراحلة وَاغْتَسَلت، فَكَأَنِّي ألقيت عني جبلا، فَقَالَ: الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم وَلَو إِلَى عشر سِنِين، فَإِذا وجدت المَاء فأمسه جِلْدك فَإِن ذَلِك خير» .
ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث حَمَّاد عَن أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة، عَن رجل من بني عَامر قَالَ: «دخلت فِي الْإِسْلَام، فهمني ديني، فَأتيت أَبَا ذَر فَقَالَ أَبُو ذَر: إِنِّي اجتويت الْمَدِينَة، فَأمر لي رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذود وبغنم، فَقَالَ لي: اشرب من أَلْبَانهَا - قَالَ حَمَّاد: و (أَشك) فِي: «أبوالها - فَقَالَ(2/651)
أَبُو ذَر: فَكنت أعزب عَن المَاء وَمَعِي أَهلِي فتصيبني الْجَنَابَة فأصلي بِغَيْر طهُور، فَأتيت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِنصْف النَّهَار - وَهُوَ فِي رَهْط من أَصْحَابه وَهُوَ فِي ظلّ الْمَسْجِد - فَقَالَ: أَبُو ذَر. فَقلت: نعم، هلكتُ يَا رَسُول الله. قَالَ: وَمَا أهْلكك؟ قلت: إِنِّي كنت أعزب عَن المَاء وَمَعِي أَهلِي فتصيبني الْجَنَابَة، فأصلي بِغَيْر طهُور. فَأمر لي رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِمَاء، فَجَاءَت بِهِ جَارِيَة سَوْدَاء الْعَينَيْنِ يتخضخض مَا هُوَ بملآن، فتسترت إِلَى بعير فاغتسلت، ثمَّ جِئْت فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يَا أَبَا ذَر، إِن الصَّعِيد الطّيب طهُور وَإِن لم تَجِد المَاء إِلَى عشر سِنِين، فَإِذا وجدت المَاء فأمسه جِلْدك» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب لم يذكر «أبوالها» قَالَ: و «أبوالها» لَيْسَ بِصَحِيح فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَيْسَ فِي أبوالها إِلَّا حَدِيث أنس تفرد بِهِ أهل الْبَصْرَة. وَلَفظ النَّسَائِيّ عَن سُفْيَان عَن أَيُّوب بِهِ: «الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم وَإِن لم يجد المَاء عشر سِنِين» . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة، عَن رجل من بني عَامر «بعث إِلَى أبي ذَر ... » فَذكره، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طرق من حَدِيث أَيُّوب وخَالِد، عَن أبي قلَابَة، عَن عَمْرو مُخْتَصرا كَلَفْظِ النَّسَائِيّ، وَمن حَدِيث أَيُّوب عَن أبي قلَابَة، عَن رجل من بني عَامر قَالَ: «بعث إِلَى أبي ذَر (فَذكره) مطولا بِنَحْوِ رِوَايَة أبي دَاوُد الثَّابِتَة، وَمن حَدِيث أَيُّوب عَن أبي قلَابَة، عَن عَمه أبي الْمُهلب، عَن أبي ذَر بِنَحْوِ رِوَايَة التِّرْمِذِيّ،(2/652)
وَمن حَدِيث خَالِد، عَن أبي قلَابَة، عَن عَمْرو (بِهِ) بنحوها (أَيْضا) . وَمن حَدِيث خَالِد، عَن أبي قلَابَة، عَن محجن أَو أبي محجن، عَن أبي ذَر مثله. وَمن حَدِيث قَتَادَة عَن أبي قلَابَة، عَن رَجَاء بن عَامر، عَن أبي ذَر مثله، ثمَّ قَالَ: كَذَا قَالَ: رَجَاء بن عَامر. وَالصَّوَاب: رجل من بني عَامر. كَمَا قَالَ ابْن علية عَن أَيُّوب.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ (عقيب) إِخْرَاجه الحَدِيث: هَكَذَا رَوَى غير وَاحِد عَن خَالِد الْحذاء، عَن أبي قلَابَة، عَن عَمْرو بن بجدان، عَن أبي ذَر. وَرَوَاهُ أَيُّوب عَن أبي قلَابَة، عَن رجل من بني عَامر، عَن أبي ذَر وَلم يسمه. قَالَ: وَهَذَا حَدِيث حسن. وَفِي بَعْضهَا: صَحِيح. وَعَلَيْهَا اقْتصر صَاحب «الإِمَام» ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه» (من) حَدِيث مُسَدّد، نَا خَالِد، عَن خَالِد الْحذاء، عَن أبي قلَابَة، عَن عَمْرو بن بجدان، عَن أبي ذَر بِمثل لفظ أبي دَاوُد الأول سَوَاء، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ؛ إِذْ لم نجد لعَمْرو بن بجدان رَاوِيا غير أبي قلَابَة الْجرْمِي. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا شرطت فِيهِ وبينت أَنَّهُمَا قد أخرجَا مثل هَذَا فِي مَوَاضِع من الْكِتَابَيْنِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : عَمْرو بن بجدان لَيْسَ لَهُ راوٍ غير(2/653)
أبي قلَابَة، وَهُوَ مَقْبُول عِنْد أَكْثَرهم؛ لِأَن أَبَا قلَابَة ثِقَة، وَإِن كَانَ بِخِلَاف شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم فِي خُرُوجه عَن حد الْجَهَالَة بِأَن يروي عَنهُ اثْنَان. قلت: فِي اشْتِرَاط ذَلِك (فِي الْخُرُوج) عَنْهُمَا نظر، وَهُوَ منقوض بمواضع فِي «صَحِيحَيْهِمَا» أخرجَا أَحَادِيث عَن رُوَاة لَيْسَ لَهُم رِوَايَة غير وَاحِد، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث وهب بن بَقِيَّة، أَنا خَالِد، عَن خَالِد، عَن أبي قلَابَة، عَن عَمْرو، عَن أبي ذَر كَلَفْظِ الْحَاكِم، (ثمَّ) من حَدِيث يزِيد بن زُرَيْع، نَا خَالِد الْحذاء، عَن أبي قلَابَة، عَن عَمْرو بِنَحْوِهِ. ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن هَذَا الْخَبَر تفرد بِهِ خَالِد الْحذاء. ثمَّ سَاقه من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن أَيُّوب (السّخْتِيَانِيّ) ، وخَالِد الْحذاء، عَن أبي قلَابَة، عَن عَمْرو، عَن أبي ذَر بِلَفْظ النَّسَائِيّ. وَخَالف ابْن الْقطَّان فَزعم أَنه لَا يعرف لعَمْرو بن بجدان حَال - وَأَخْطَأ فَإِن الْعجلِيّ قَالَ: إِنَّه بَصرِي تَابِعِيّ ثِقَة - وَإِنَّمَا رَوَى عَنهُ أَبُو قلَابَة - قلت: لَا يضر تفرده عَنهُ -(2/654)
وَاخْتلف عَنهُ فَيَقُول عَنهُ خالدُ الْحذاء، عَن عَمْرو بن بجدان. وَلَا يخْتَلف فِي ذَلِك عَلَى خَالِد. وَأما أَيُّوب فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن أبي قلَابَة، وَاخْتلف عَلَيْهِ فَمنهمْ من يَقُول: عَنهُ عَن رجل من بني عَامر، وَمِنْهُم من يَقُول: عَن رجل فَقَط، وَمِنْهُم من يَقُول: عَن رَجَاء بن عَامر، وَمِنْهُم من يَقُول: عَن عَمْرو بن بجدان كَقَوْل خَالِد، وَمِنْهُم من يَقُول: عَن أبي الْمُهلب. وَمِنْهُم من لَا يَجْعَل بَينهمَا أحدا فَيَجْعَلهُ عَن أبي قلَابَة، عَن أبي ذَر، وَمِنْهُم من يَقُول: عَن أبي قلَابَة «أَن رجلا من بني قُشَيْر قَالَ: يَا نَبِي الله» . هَذَا كُله خلاف عَلَى أَيُّوب فِي رِوَايَته إِيَّاه عَن أبي قلَابَة وجميعه فِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» وَفِي «سنَنه» ، وَأجَاب الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين عَن هَذَا فَقَالَ فِي «الإِمَام» : يَنْبَغِي عَلَى طَرِيقَته وَطَرِيقَة الْفِقْه أَن ينظر فِي ذَلِك إِذْ لَا تعَارض بَين قَوْلنَا: عَن رجل من بني عَامر، وَبَين قَوْلنَا: عَن عَمْرو بن بجدان، كَيفَ وَقد قَالَ شَيخنَا - يَعْنِي الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ -: إِن الشَّيْخ من بني عَامر هُوَ عَمْرو بن بجدان سَمَّاهُ خَالِد الْحذاء، عَن أبي قلَابَة، وَسَماهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن أَيُّوب، وَأما من أسقط ذكر هَذَا الرجل فَيُؤْخَذ بِالزِّيَادَةِ وَيحكم بهَا. وَأما من قَالَ: عَن أبي الْمُهلب. فَإِن كَانَ كنية لعَمْرو فَلَا اخْتِلَاف، وَإِلَّا فَهِيَ رِوَايَة وَاحِدَة مُخَالفَة احْتِمَالا لَا يَقِينا، وَأما من قَالَ: «إِن رجلا من بني قُشَيْر قَالَ: يَا نَبِي الله» . فَهِيَ مُخَالفَة فَكَانَ يجب أَن ينظر فِي إسنادها عَلَى طَرِيقَته، فَإِن لم تكن ثَابِتَة فَلَا تعلل بهَا. ثمَّ قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف لَا شكّ فِيهِ.(2/655)
قلت: عَجِيب! بل هُوَ حَدِيث صَحِيح - إِن شَاءَ الله - لَا شكّ فِيهِ كَمَا عَرفته. قَالَ: وَبِهَذَا الْمَعْنى إِسْنَاد صَحِيح ذكره الْبَزَّار عَن مقدم بن (مُحَمَّد) الْمقدمِي، نَا عمي الْقَاسِم بن يَحْيَى بن عَطاء بن مقدم، نَا هِشَام بن حسان، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الصَّعِيد وضوء الْمُسلم وَإِن لم يجد المَاء عشر سِنِين، فَإِذا وجد المَاء فليتق الله وليمسه بَشرته فَإِن ذَلِك خير» .
قَالَ الْبَزَّار: هَذَا (الحَدِيث) لَا نعلمهُ (يرْوَى) عَن أبي هُرَيْرَة إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَلم يسمعهُ مقدم إِلَّا من عَمه، وَكَانَ مقدم ثِقَة مَعْرُوف النّسَب. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَأخرج البُخَارِيّ للقاسم بن يَحْيَى مُعْتَمدًا عَلَيْهِ، وَرَوَى عَنهُ أَحْمد وَجَمَاعَة عَددهمْ.
قلت: وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» حَدِيث أبي هُرَيْرَة (هَذَا) ثمَّ قَالَ: إرْسَاله هُوَ الصَّوَاب. وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ - أَعنِي الحَدِيث - وَبحث الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين مَعَ ابْن الْقطَّان فِي تَضْعِيفه لحَدِيث أبي ذَر فَقَالَ: (إِن) كَانَ رَوَى من كَلَام التِّرْمِذِيّ (قَوْله: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. فَمن الْعجب كَونه لم يكتف بتصحيح التِّرْمِذِيّ) فِي معرفَة حَال عَمْرو(2/656)
بن بجدان مَعَ تفرده بِالْحَدِيثِ، وَأي فرق بَين أَن يَقُول: هُوَ ثِقَة. أَو يصحح لَهُ حَدِيثا تفرد بِهِ.
قلت: وَقد صرح بتوثيق عَمْرو الْعجلِيّ كَمَا سلف (وَوَثَّقَهُ أَيْضا أَبُو حَاتِم بن حبَان وَقد صحّح حَدِيثه أَيْضا الْحَاكِم وَابْن حبَان كَمَا سلف) وَتَصْحِيح الْحَاكِم لَهُ مَعَ قَوْله: إِن البُخَارِيّ و (مُسلما) لم يخرجَاهُ إِذْ لم يجدا لعَمْرو رَاوِيا غير أبي قلَابَة (تَوْثِيق) لَهُ، وَلَوْلَا قيام الْمُقْتَضِي (عِنْده) لتصحيح حَدِيث لما أقدم عَلَيْهِ مَعَ اعترافه بِمَا يشبه الْجَهَالَة من التفرد الْمَذْكُور، وَإِن كَانَ توقف ابْن الْقطَّان عَن تَصْحِيحه؛ لكَونه لم يرو عَنهُ إِلَّا (أَبُو) قلَابَة فَلَيْسَ هَذَا (لمُقْتَضى) مذْهبه؛ فَإِنَّهُ لَا يلْتَفت إِلَى كَثْرَة الروَاة فِي نفي جَهَالَة الْحَال، فَلذَلِك لَا يُوجب جَهَالَة الْحَال (انْفِرَاد راو) وَاحِد عَنهُ (بعد) وجود مَا يَقْتَضِي تعديله، وَقد ظهر الْحق وَهُوَ أَحَق بالاتباع، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
فَائِدَتَانِ: الأولَى: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو بكر الْأَثْرَم بِلَفْظ غَرِيب وَهُوَ: «يَا أَبَا ذَر، إِن الصَّعِيد طهُور لمن لم يجد المَاء عشْرين سنة، فَإِذا وجدت المَاء فأمسه (بشرتك) » .
(الثَّانِيَة) : لما ذكر ابْن السكن فِي (صحاحه) حَدِيث أبي ذَر قَالَ: وَرُوِيَ مثله عَن جَابر، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهُوَ وَارِد عَلَى قَول(2/657)
التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة، وَعبد الله بن عَمْرو، وَعمْرَان بن حُصَيْن.
(ثَالِثَة: الربذَة - برَاء مُهْملَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة مفتوحتين، ثمَّ ذال مُعْجمَة - عَلَى ثَلَاث مراحل من الْمَدِينَة (وبقبر) أبي ذَر الْغِفَارِيّ) .
الحَدِيث (الْخَامِس) عشر
«أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ فِي الْفَائِتَة: فليصلها إِذا ذكرهَا فَإِن ذَلِك وَقتهَا» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته بِدُونِ قَوْله: «فَإِن ذَلِك وَقتهَا» . من حَدِيث أنس رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «من نسي صَلَاة فليصلها إِذا ذكرهَا، لَا كَفَّارَة لَهَا إِلَّا ذَلِك. قَالَ قَتَادَة: (أقِم الصَّلَاة لذكري» ) وَفِي لفظ: «من نسي صَلَاة أَو نَام عَنْهَا فكفارتها أَن يُصليهَا إِذا ذكرهَا (لَا كَفَّارَة لَهَا إِلَّا ذَلِك» وَفِي لفظ: «إِذا رقد أحدكُم عَن الصَّلَاة أَو غفل عَنْهَا فليصلها إِذا ذكرهَا؛ فَإِن الله - تَعَالَى - يَقُول: (أقِم الصَّلَاة لذكري» ) هَذِه رِوَايَات مُسلم، وَرِوَايَة خَ: «من نسي صَلَاة فَليصل إِذا (ذكر) لَا كَفَّارَة لَهَا إِلَّا ذَلِك (وأقم الصَّلَاة(2/658)
لذكري» ) . وَانْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: «من نسي صَلَاة فليصلها إِذا ذكرهَا (فَإِن الله يَقُول) (أقِم الصَّلَاة لذكري» ) . قَالَ يُونُس: وَكَانَ ابْن شهَاب يقْرؤهَا «للذِّكْرَى» . وَهُوَ حَدِيث طَوِيل هَذِه الْقطعَة فِي آخِره، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره المُصَنّف من رِوَايَة حَفْص بن أبي العطاف، عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: «من نسي صَلَاة فوقتها إِذا ذكرهَا» .
لَكِن إسنادها ضَعِيف، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: حَفْص لَا يحْتَج بِهِ. ويغني عَن هَذِه الرِّوَايَة مَا أسلفناه من لفظ الصَّحِيح.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أَن رجلَيْنِ خرجا فِي سفر فَحَضَرت الصَّلَاة وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاء، فتيمما صَعِيدا طيبا، فَصَليَا، ثمَّ وجدا المَاء فِي الْوَقْت، وَأعَاد أَحدهمَا الْوضُوء وَالصَّلَاة وَلم يعد الآخر، ثمَّ أَتَيَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكرا ذَلِك لَهُ فَقَالَ للَّذي لم يعد: أصبت السّنة وأجزأتك صَلَاتك. وَقَالَ للَّذي أعَاد: لَك الْأجر مرَّتَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمسَيبِي(2/659)
(حَدثنَا) عبد الله بن نَافِع، عَن اللَّيْث بن سعد، عَن بكر بن سوَادَة، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «خرج رجلَانِ فِي سفر ... » الحَدِيث - كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء - ثمَّ قَالَ: غير ابْن نَافِع يرويهِ عَن اللَّيْث، عَن [عميرَة] بن أبي نَاجِية، عَن بكر بن سوَادَة، عَن عَطاء بن يسَار. عَن أبي عبد الله مولَى إِسْمَاعِيل بن (عبيد) ، عَن عَطاء بن يسَار «أَن رجلَيْنِ من أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ... » بِمَعْنَاهُ.
وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق مُسْندًا، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مُسْندًا ومرسلاً، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» مُسْندًا، ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ عبد الله بن نَافِع، عَن اللَّيْث بِهَذَا الْإِسْنَاد مُتَّصِلا، وَخَالفهُ ابْن الْمُبَارك وَغَيره. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن الْمُبَارك عَن اللَّيْث، عَن(2/660)
بكر بن سوَادَة، عَن عَطاء «أَن رجلَيْنِ أصابتهما جَنَابَة فتيمما» نَحوه، وَلم يذكر أَبَا سعيد.
وَكَذَا قَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي «الْأَوْسَط» : لم يروه مُتَّصِلا إِلَّا ابْن نَافِع، تفرد بِهِ الْمسَيبِي. وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عبد الله بن نَافِع مُسْندًا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم؛ فَإِن عبد الله بن نَافِع ثِقَة، وَقد وصل هَذَا (الْإِسْنَاد) عَن اللَّيْث، وَقد أرْسلهُ غَيره. ثمَّ رَوَاهُ مُرْسلا، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : لَعَلَّ الباحث الفطن يَقُول إِن الْحَاكِم صحّح الحَدِيث لاعتماده عَلَى وصل عبد الله بن نَافِع (لحكمه) بِكَوْنِهِ ثِقَة، وَلم يلْتَفت (إِلَى إرْسَال) غَيره، وَلَكِن (بقيت) عِلّة أُخْرَى وَهِي أَن أَبَا (دَاوُد) قد ذكر أَن غير ابْن نَافِع يرويهِ عَن اللَّيْث، عَن عميرَة بن أبي نَاجِية، عَن بكر، (فَمُقْتَضَى) عَادَة الْمُحدثين [تبين] بِإِدْخَال عميرَة بَين اللَّيْث و (بكر) أَنه مُنْقَطع فِيمَا بَينهمَا وَيحْتَاج إِلَى معرفَة حَال عميرَة هَذَا، وَقد قَالَ ابْن الْقطَّان: إِنَّه مَجْهُول الْحَال. وَأَيْضًا فَإِن رِوَايَة(2/661)
ابْن لَهِيعَة تَقْتَضِي انْقِطَاعًا فِيمَا بَين بكر وَعَطَاء بن يسَار، فَإِنَّهُ أَدخل بَينهمَا أَبَا عبد الله مولَى إِسْمَاعِيل - يَعْنِي السالف - فَهَذَا انْقِطَاع (ثانٍ) .
فَنَقُول - وَبِاللَّهِ الْعِصْمَة -: أما مَا يتَعَلَّق بعميرة بن أبي نَاجِية فَالْجَوَاب عَن التَّعْلِيل بروايته من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن عميرَة غير مَجْهُول، بل هُوَ مَذْكُور بِالْفَضْلِ، والحافظ أَبُو الْحسن بن الْقطَّان لم يمعن النّظر فِي أمره وَلَعَلَّه وقف عَلَى ذكره فِي «تَارِيخ البُخَارِيّ» و (ابْن أبي خَيْثَمَة) من غير بَيَان حَاله فَقَالَ فِيهِ مَا قَالَ، فقد قَالَ النَّسَائِيّ: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ ابْن بكر: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ أَحْمد بن صَالح لما سُئِلَ عَنهُ وَعَن (أبي) شُرَيْح: هما متقاربان فِي الْفضل. وَقَالَ ابْن يُونُس فِي «تَارِيخ مصر» : رَوَى عَنهُ عبد الرَّحْمَن بن شُرَيْح وَاللَّيْث وَابْن وهب و (رشدين) وَكَانَت لَهُ عبَادَة وَفضل.
قلت: وَذكره أَيْضا (ابْن حبَان) فِي «ثقاته» (فِي) أَتبَاع التَّابِعين فَقَالَ: عميرَة بن أبي نَاجِية من أهل مصر يروي عَن يزِيد بن أبي حبيب رَوَى عَنهُ ابْن وهب.
الْوَجْه الثَّانِي: أَنه رُوِيَ من طَرِيق أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، عَن اللَّيْث بن سعد، عَن عَمْرو بن الْحَارِث وعميرة بن أبي نَاجِية، عَن بكر، (عَن) عَطاء، عَن أبي سعيد «أَن رجلَيْنِ من أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ... »(2/662)
الحَدِيث (ذكره) ابْن السكن - فِيمَا حَكَاهُ ابْن الْقطَّان - فَهَذَا اتِّصَال فِيمَا بَين اللَّيْث وَبكر بِعَمْرو بن الْحَارِث وعميرة بن أبي نَاجِية مَعًا، وَفِيه ذكر أبي سعيد، وَعَمْرو بن الْحَارِث من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» إِمَام فِي بَلَده. وَأما الِانْقِطَاع بِسَبَب ابْن لَهِيعَة فِيمَا بَين بكر وَعَطَاء فَقَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يلْتَفت إِلَيْهِ لضعف رِوَايَة ابْن لَهِيعَة. وَلم يذكر النَّوَوِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «شرح الْمُهَذّب» تَصْحِيح وصل هَذَا الحَدِيث كَمَا نَقَلْنَاهُ وقررناه، وَإِنَّمَا نقل مقَالَة أبي دَاوُد (السالفة) أَن الْمَحْفُوظ إرْسَاله، ثمَّ قَالَ عَقِيبه: وَمثل هَذَا الْمُرْسل يحْتَج بِهِ الشَّافِعِي وَغَيره؛ لِأَنَّهُ يحْتَج بمرسل كبار التَّابِعين إِذا أسْند، أَو أرسل من جِهَة أُخْرَى، أَو قَالَ (بِهِ) بعض الصَّحَابَة، أَو عوام الْعلمَاء.
قَالَ: وَقد وجد فِي هَذَا الحَدِيث شَيْئَانِ فَمن ذَلِك (أَحدهمَا) : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «مُسْنده» بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح عَن نَافِع «أَن ابْن عمر أقبل من الجرف حتَّى إِذا كَانَ بالمربد تيَمّم وَصَلى الْعَصْر، ثمَّ دخل الْمَدِينَة وَالشَّمْس مُرْتَفعَة فَلم يعد الصَّلَاة» .
ثَانِيهمَا: رَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي الزِّنَاد قَالَ: كَانَ من أدْركْت من فقهائنا الَّذين ينتهى إِلَى قَوْلهم مِنْهُم سعيد بن الْمسيب - وَذكر(2/663)
تَمام الْفُقَهَاء السَّبْعَة - يَقُولُونَ: من تيَمّم وَصَلى ثمَّ وجد المَاء (وَهُوَ) فِي الْوَقْت أَو بعده لَا إِعَادَة عَلَيْهِ.
الحَدِيث السَّابِع (عشر)
رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «لَا ظهران فِي يَوْم» .
هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ لم أَقف عَلَيْهِ بعد الْبَحْث عَنهُ، نعم رُوِيَ مَعْنَاهُ من حَدِيث حُسَيْن الْمعلم، عَن عَمْرو بن شُعَيْب قَالَ: حَدَّثَني سُلَيْمَان مولَى مَيْمُونَة (أَنه سمع) ابْن عمر يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُول: «لَا تصلى صَلَاة فِي يَوْم (وَاحِد) مرَّتَيْنِ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (فِي سنَنه) كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن حُسَيْن، عَن عَمْرو أَيْضا، عَن سُلَيْمَان مولَى مَيْمُونَة قَالَ: «أتيت ابْن عمر عَلَى البلاط وهم يصلونَ، فَقلت: أَلا تصلي (مَعَهم) قَالَ: قد صليت، إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُول: لَا تصلوا صَلَاة فِي يَوْم مرَّتَيْنِ» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تفرد بِهِ حُسَيْن بن ذكْوَان الْمعلم.
قلت: لَا يضرّهُ؛ لِأَنَّهُ ثِقَة مَشْهُور احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ فَجَاز القنطرة، وَإِن لينه الْعقيلِيّ بِلَا حجَّة، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة رَوَاهَا أَحْمد فِي «مُسْنده»(2/664)
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَرَوَاهَا أَيْضا ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» (بِلَفْظ) «إِن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَهَانَا أَن نعيد صَلَاة فِي يَوْم مرَّتَيْنِ» . وَعَزاهَا غير وَاحِد إِلَى «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» أَيْضا، ورأيتها فِي صِحَاح (ابْن) السكن (بِلَفْظ) : «لَا تصلى ... » إِلَى آخِره ثمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْن دَاوُد: هَذِه سنة تفرد بهَا أهل الْمَدِينَة.
فَائِدَة: مَعْنَى الحَدِيث: لَا تجب الصَّلَاة فِي الْيَوْم مرَّتَيْنِ، حتَّى لَا يكون مُخَالفا للأحاديث (الْآتِيَة) فِي بَاب صَلَاة الْجَمَاعَة أَن من صَلَّى مُنْفَردا وَأدْركَ جمَاعَة، (اسْتحبَّ لَهُ إِعَادَتهَا مَعَهم، وَأما ابْن عمر فَلم يعدها لِأَنَّهُ صلاهَا جمَاعَة) ومذهبه إِعَادَة الْمُنْفَرد فَقَط كَمَا هُوَ مَشْهُور عَنهُ، وَترْجم أَبُو دَاوُد عَلَى الحَدِيث: بَاب إِذا صَلَّى ثمَّ أدْرك جمَاعَة يُعِيد.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فائتوا (مِنْهُ) مَا اسْتَطَعْتُم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح جليل مُتَّفق عَلَى صِحَّته وَعظم موقعه وَإنَّهُ(2/665)
قَاعِدَة عَظِيمَة من قَوَاعِد الْإِسْلَام، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَغَيرهمَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إِذا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَاجْتَنبُوهُ، وَإِذا أَمرتكُم بِأَمْر فائتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم» . زَاد أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» : «وَمَا أَخْبَرتكُم أَنه من عِنْد الله فَهُوَ الَّذِي لَا شكّ فِيهِ» .
هَذَا (آخر) الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَأما آثاره فخمسة: الأول: عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه أقبل من الجرف حتَّى إِذا كَانَ بالمربد تيَمّم وَصَلى الْعَصْر، فَقيل لَهُ: (أتتيمم) وجدران الْمَدِينَة تنظر إِلَيْك؟ فَقَالَ: أَو أَحْيَا حتَّى أدخلها. ثمَّ دخل الْمَدِينَة وَالشَّمْس مُرْتَفعَة وَلم يعد الصَّلَاة» . وَهَذَا الْأَثر تبع فِي (إِيرَاده الْغَزالِيّ هَكَذَا) فِي «وسيطه» ، وَهُوَ تبع إِمَامه فِيهِ (وَهُوَ) أثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» عَن نَافِع «أَنه أقبل هُوَ وَعبد الله بن عمر من الجرف، حتَّى إِذا كَانَ بالمربد نزل عبد الله فَتَيَمم صَعِيدا طيبا فَمسح وَجهه وَيَديه إِلَى الْمرْفقين ثمَّ صَلَّى» وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن ابْن عجلَان، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه أقبل من الجرف حتَّى إِذا كَانَ بالمربد تيَمّم فَمسح وَجهه وَيَديه وَصَلى الْعَصْر(2/666)
ثمَّ دخل الْمَدِينَة وَالشَّمْس مُرْتَفعَة فَلم يعد الصَّلَاة» وَفِي رِوَايَة لَهُ بالسند الْمَذْكُور «أَن ابْن عمر تيَمّم بمربد النعم» وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «الْغنم (وَصَلى) الظّهْر ثمَّ دخل الْمَدِينَة وَالشَّمْس مُرْتَفعَة فَلم يعد الصَّلَاة» وَرِوَايَة الشَّافِعِي لهَذَا الْأَثر عَن ابْن عُيَيْنَة مخرجة فِي «مُسْنده» أَيْضا، وَرِوَايَة مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» مخرجة عَنهُ فِي غير الْمسند، وَذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِغَيْر إِسْنَاد فَقَالَ: «وَأَقْبل ابْن عمر من أَرض بالجرف، فَحَضَرت الصَّلَاة بمربد النعم فَصَلى، ثمَّ دخل الْمَدِينَة وَالشَّمْس مُرْتَفعَة فَلم يعد» .
ذكره بعد أَن ترْجم بَاب التَّيَمُّم فِي الْحَضَر إِذا لم يجد المَاء وَخَافَ فَوَات الصَّلَاة. (وَرَوَاهُ) الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث فُضَيْل بن عِيَاض، عَن مُحَمَّد بن عجلَان، عَن نَافِع « (أَن) ابْن عمر تيَمّم بمربد النعم وَصَلى وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَة أَمْيَال من الْمَدِينَة، ثمَّ دخل الْمَدِينَة وَالشَّمْس مُرْتَفعَة فَلم يعد» .
ثمَّ رَوَاهُ عَن حَدِيث يَحْيَى بن سعيد، عَن ابْن عجلَان وَقَالَ بِإِسْنَادِهِ مثله. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث يَحْيَى بن سعيد، عَن نَافِع قَالَ: «تيَمّم عبد الله بن عمر عَلَى رَأس ميل أَو ميلين من الْمَدِينَة فَصَلى الْعَصْر، فَقدم وَالشَّمْس مُرْتَفعَة فَلم يعد الصَّلَاة» .(2/667)
قلت: وَقد رُوِيَ هَذَا الْفِعْل أَيْضا عَن سيدنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَمْرو بن مُحَمَّد بن أبي رزين، عَن هِشَام بن حسان، عَن (عبيد الله بن عمر، عَن) نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتَيَمَّم (بِموضع) يُقَال لَهُ: مربد النعم وَهُوَ يرَى بيُوت الْمَدِينَة» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث تفرد بِرَفْعِهِ عَمْرو بن مُحَمَّد بن أبي رزين وَهُوَ صَدُوق (و) لم يخرجَاهُ. قَالَ: وَقد أوقفهُ يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَغَيره، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر ... فَذكره، وَخَالفهُ فِي ذَلِك تِلْمِيذه الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ: رفع هَذَا الحَدِيث غير مَحْفُوظ. وَصحح فِي «خلافياته» رِوَايَة الشَّافِعِي السالفة فَقَالَ فِيهَا: هَذَا عَن ابْن عمر ثَابت. ذكره بعد أَن رَوَاهُ مَرْفُوعا عَن شَيْخه الْحَاكِم مَوْقُوفا. وَقَالَ ابْن حبَان: رُبمَا أَخطَأ عَمْرو بن مُحَمَّد بن أبي رزين. وَقَالَ ابْن قَانِع: صَالح.
تَنْبِيهَات: أَحدهَا: هَذَا الْأَثر أوردهُ الرَّافِعِيّ أَيْضا فِي أَوَاخِر الْبَاب دَلِيلا عَلَى أَنه لَا يشْتَرط لعدم الْقَضَاء كَون السّفر طَويلا، وَوَقع فِي بعض نسخه «أَنه تيَمّم دَاخل الْمَدِينَة» وَهُوَ من (الْكَاتِب) وَصَوَابه «تيَمّم(2/668)
ثمَّ دخل الْمَدِينَة» كَمَا سلف، فَإِن المربد خَارِجهَا - كَمَا سَيَأْتِي.
ثَانِيهَا: الجرف - بِضَم الْجِيم وَالرَّاء بعدهمَا فَاء (وتسكن أَيْضا -: مَا أكلت السُّيُول من الأَرْض) . قَالَ الشَّافِعِي بعد رِوَايَته للأثر: وَهُوَ مَوضِع قريب من الْمَدِينَة. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : إِنَّه مِنْهَا عَلَى ثَلَاثَة أَمْيَال. وَتبع فِي ذَلِك ابْن قرقول فَإِنَّهُ قَالَ فِي «مطالعه» : إِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَة أَمْيَال إِلَى (جِهَة) الشَّام. وَزعم الزبير أَنَّهَا عَلَى ميل، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: عَلَى فَرسَخ. قَالَ ابْن قرقول: وَبهَا مَال عمر وأموال أهل الْمَدِينَة، وتعرف ببئر جُشم وبئر جمل.
ثَالِثهَا: المربد - بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الرَّاء الْمُهْملَة ثمَّ بَاء مَفْتُوحَة ثمَّ دَال -: مَوضِع بِقرب الْمَدِينَة.
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الْمَذْكُور: هُوَ كل مَوضِع يحبس فِيهِ الْإِبِل. قَالَ: وَقد يُسمى الْموضع الَّذِي يجفف فِيهِ التَّمْر مربدًا أَيْضا، وَهُوَ من قَوْلهم: ربد بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ. قَالَ: والمربد الْمَذْكُور فِي هَذَا الْأَثر مَوضِع بِقرب الْمَدِينَة عَلَى ميلين. وَكَذَا ذكره ابْن قرقول أَيْضا فَقَالَ فِي «مطالعه» : إِنَّه بِقرب الْمَدِينَة عَلَى ميلين (وَإنَّهُ) كل مَوضِع يحبس فِيهِ الْإِبِل. قَالَ: وَهُوَ مَوضِع أَيْضا خَارج الْبَصْرَة سوق الْإِبِل. قَالَ: وَاخْتلف هَل هُوَ فِي الأَصْل اسْم (لموْضِع) الْإِبِل أَو للعصا الَّتِي تجْعَل عَلَى بَابه مُعَارضَة. قَالَ: وَأهل الْبَصْرَة يسمون الْموضع الَّذِي يجفف فِيهِ التَّمْر مربدًا، فأصله من ربد بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ. وَقَالَ الْحَازِمِي فِي «الْمُخْتَلف(2/669)
والمؤتلف» (فِي) أَسمَاء الْأَمَاكِن: المربد - بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالدَّال -: محلّة بِالْبَصْرَةِ من أشهر محالها وأطيبها.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ دَار كَانَ يحبس فِيهِ (إبل) الصَّدَقَة، وَفِي الحَدِيث: «حتَّى إِذا كُنَّا بمربد النعم» وَالْمرَاد كلهَا محابس، وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْن التِّين فِي «شرح البُخَارِيّ» : رَوَيْنَاهُ بِفَتْح الْمِيم وَهُوَ فِي اللُّغَة بِكَسْرِهَا. وَقَالَ صَاحب «الْمُحكم» : المربد: محبس الْإِبِل، وَقيل: هِيَ خَشَبَة أَو عَصا تعترض صُدُور الْإِبِل فتمنعها من الْخُرُوج. والمربد: فضاء وَرَاء الْبيُوت (يرتفق بِهِ) (ومربد الْبَصْرَة من ذَلِك لأَنهم كَانُوا يحبسون فِيهِ الْإِبِل) والمربد كالحجرة فِي الدَّار، ومربد التَّمْر: جرينه الَّذِي يوضع فِيهِ بعد الجداد لييبس. وَقَالَ السُّهيْلي: المربد والجرين و (المسطح) والبيدر والأنْدَر و (الجَوخان) لُغَات بِمَعْنى وَاحِد.
الْأَثر الثَّانِي: قَالَ الرَّافِعِيّ: الْمَرَض مُبِيح فِي الْجُمْلَة قَالَ تَعَالَى: (وَإِن كُنْتُم مرضى أَو عَلَى سفر (إِلَى قَوْله: (فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا) نقل عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما أَن الْمَعْنى: وَإِن كُنْتُم مرضى فَتَيَمَّمُوا أَو كُنْتُم عَلَى سفر فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا. وَنقل عَنهُ أَيْضا فِي تَفْسِير الْآيَة: إِذا كَانَت بِالرجلِ جِرَاحَة فِي سَبِيل الله أَو قُرُوح جدري فيجنب وَيخَاف أَن يغْتَسل فَيَمُوت فيتيمم بالصعيد.(2/670)
أما الْأَثر الأول: فَرَوَاهُ بِدُونِ السّفر الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث عَاصِم الْأَحول، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «رخص للْمَرِيض التَّيَمُّم بالصعيد» . وَأما الثَّانِي: فروياه أَيْضا وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث جرير، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ «فِي قَوْله تَعَالَى: (وَإِن كُنْتُم مرضى أَو عَلَى سفر) قَالَ: إِذا كَانَت بِالرجلِ الْجراحَة فِي سَبِيل الله أَو القروح أَو الجدري فأجنب فخاف أَن يَمُوت إِن اغْتسل فليتيمم هَكَذَا» رَوَوْهُ مَرْفُوعا إِلَّا الدَّارَقُطْنِيّ فَإِنَّهُ وَقفه عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جرير بِهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَرَوَاهُ عَلّي بن عَاصِم، عَن عَطاء وَرَفعه إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَوَقفه وَرْقَاء وَأَبُو عوَانَة وَغَيرهمَا وَهُوَ الصَّوَاب.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا بعد أَن رَوَاهُ مَرْفُوعا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان وَغَيره (أَيْضا) عَن عَطاء مَوْقُوفا و (كَذَلِك) رَوَاهُ [عزْرَة] عَن سعيد بن جُبَير مَوْقُوفا.(2/671)
قلت: وَعَطَاء قد أسلفنا فِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين (من بَاب الْأَحْدَاث) أَنه من الثِّقَات وَأَنه اخْتَلَط، فَمن رَوَى عَنهُ قبله كَانَ صَحِيحا، وَمن رَوَى عَنهُ بعده فَلَا، وأسلفنا هُنَاكَ أَن جَرِيرًا رَوَى عَنهُ بعد الِاخْتِلَاط.
قَالَ يَحْيَى بن معِين - فِيمَا ذكره ابْن عدي -: لم يرو جرير عَن عَطاء إِلَّا بعد اخْتِلَاطه. وَقد رَفعه عَن عَطاء هُنَا وَقد اخْتلف عَلَيْهِ - أَعنِي عَلَى عَطاء - فَرَوَاهُ (إِبْرَاهِيم) بن طهْمَان وَغَيره عَنهُ مَوْقُوفا كَمَا سلف.
وَأما عَلّي بن عَاصِم الَّذِي رَفعه أَيْضا فقد أسلفنا هُنَاكَ عَن الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: سمع من عَطاء قَدِيما شُعْبَة وَالثَّوْري، وَسمع مِنْهُ جرير، وخَالِد بن عبد الله، وَإِسْمَاعِيل، وَعلي بن عَاصِم، وَكَانَ يرفع عَن سعيد بن جُبَير أَشْيَاء لم يكن يرفعها. قلت: لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا. قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَن حَدِيث رَوَاهُ عَلّي بن عَاصِم عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فِي المجدور وَالْمَرِيض إِذا خَافَ عَلَى نَفسه تيَمّم» قَالَ أَبُو زرْعَة: وَرَوَاهُ جرير أَيْضا فَقَالَ: عَن عَطاء، عَن سعيد، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه فِي المجدور، قَالَ: إِن هَذَا خطأ أَخطَأ فِيهِ عَلّي بن عَاصِم، وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة وورقاء وَغَيرهمَا، عَن عَطاء بن السَّائِب [عَن سعيد] عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوف وَهُوَ الصَّحِيح. وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي كتاب الصَّلَاة عَن سُفْيَان، عَن (عَاصِم) الْأَحول، عَن قَتَادَة، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس(2/672)
قَالَ: «رخص للْمَرِيض التَّيَمُّم أَرَأَيْت إِن كَانَ مجدورًا كَأَنَّهُ (صمعه) كَيفَ يصنع» .
فَائِدَة: القروح: الجروح وَنَحْوهَا، وَاحِدهَا قرح - بِفَتْح الْقَاف وَضمّهَا وَبِفَتْحِهَا مَعَ الرَّاء وَضمّهَا - وَقَالَ الرَّاغِب فِي «مفرداته» : الْقرح: الْأَثر من (الْجراح) من (شَيْء) يُصِيبهُ من خَارج، والقرح: أَثَرهَا من دَاخل كالبثرة وَنَحْوهَا. والجدري بِضَم الْجِيم وَفتحهَا لُغَتَانِ فصيحتان وَالدَّال مَفْتُوحَة فيهمَا.
الْأَثر الثَّالِث: عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما «أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا (أَي: تُرَابا طَاهِرا» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيقين بِنَحْوِهِ أَحدهمَا: من حَدِيث ابْن إِدْرِيس، عَن قَابُوس بن أبي ظبْيَان - بِكَسْر الظَّاء - عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «الصَّعِيد: الْحَرْث حرث (الأَرْض) » .
ثَانِيهمَا: من حَدِيث جرير عَن قَابُوس، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «أطيب الصَّعِيد حرث الأَرْض» .
الْأَثر الرَّابِع: قَالَ الرَّافِعِيّ وَرُوِيَ عَن ابْن عمر مثله.
وَهَذَا لم (أر) من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ.(2/673)
الْأَثر الْخَامِس: عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما قَالَ: «من السّنة أَن لَا يصلى بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا مَكْتُوبَة وَاحِدَة ثمَّ يتَيَمَّم لِلْأُخْرَى» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحسن بن عمَارَة - بِضَم الْعين - عَن (الحكم) ، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «من السّنة أَن لَا يُصَلِّي الرجل بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا صَلَاة وَاحِدَة ثمَّ يتَيَمَّم للصَّلَاة الْأُخْرَى» . ثمَّ قَالَ: (الْحسن) بن عمَارَة ضَعِيف. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث أبي يَحْيَى الْحمانِي، عَن الْحسن بن عمَارَة أَيْضا، عَن الحكم، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «لَا يصلى بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا صَلَاة وَاحِدَة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : أَبُو يَحْيَى الْحمانِي، وَالْحسن بن عمَارَة مَتْرُوكَانِ. قلت: أما إِطْلَاق التّرْك عَلَى الْحسن بن عمَارَة فَهُوَ كَمَا قَالَ فِي حَقه، وَأما إِطْلَاقه (عَلَى) أبي يَحْيَى الْحمانِي عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن فَلَا أعلم لَهُ سلفا فِي ذَلِك، وَقد أخرج لَهُ مُسلم فِي مُقَدّمَة (صَحِيحه) وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَقَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ دَاعِيَة إِلَى الإرجاء. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ وَابْنه مِمَّن يكْتب حَدِيثهمَا. وَأما ذكره هُوَ - أَعنِي ابْن الْجَوْزِيّ - فِي «ضُعَفَائِهِ» قَالَ: ضعفه أَحْمد وَوَثَّقَهُ(2/674)
يَحْيَى. وَلم يزدْ عَلَى ذَلِك، نعم أطلق الْكَذِب عَلَى ابْنه أحمدُ وَابْن نمير، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى وَغَيره، وَقَالَ الْجوزجَاني: ترك حَدِيثه. وَقَالَ ابْن عدي: صنف الْمسند وَلم (أر) فِي مُسْنده وَلَا فِي أَحَادِيثه أَحَادِيث مَنَاكِير وَأَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ.
قلت: وَرَوَى نَحْو مَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس ثَلَاثَة من الصَّحَابَة أَيْضا: عَلّي بن أبي طَالب، و (عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ) ، وَعبد الله بن عمر.
أما أثر عَلّي فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث حجاج، عَن أبي إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عَلّي قَالَ: «يتَيَمَّم لكل صَلَاة» . حجاج (هُوَ) ابْن أَرْطَاة النَّخعِيّ الْفَقِيه ضَعِيف. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: لَا أحتج بِهِ إِلَّا فِيمَا قَالَ: أَنا وَسمعت. قلت: وَقد عُدِمَا فِي هَذِه الرِّوَايَة، والْحَارث هُوَ الْأَعْوَر وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، وَنسبه ابْن الْمَدِينِيّ إِلَى الْكَذِب.
وَأما أثر (عبد الله) فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن قَتَادَة (أَن) عَمْرو بن الْعَاصِ كَانَ يتَيَمَّم لكل(2/675)
صَلَاة» وَبِه كَانَ يُفْتِي قَتَادَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا مُرْسل. ثمَّ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث همام عَن (عَامر) الْأَحول «أَن عَمْرو بن الْعَاصِ (كَانَ) يتَيَمَّم لكل صَلَاة» (وَأما أثر عبد الله بن عمر فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الْوَارِث، عَن عَامر بن عبد الْوَاحِد الْأَحول، عَن نَافِع «أَن ابْن عمر كَانَ يتَيَمَّم لكل صَلَاة» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن الْحَاكِم، عَن أبي بكر بن إِسْحَاق - وَهُوَ ابْن خُزَيْمَة - عَن عبد الله بن مُحَمَّد، عَن الْحسن بن عِيسَى، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن عبد الْوَارِث، عَن عَامر - يَعْنِي الْأَحول - عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «تيَمّم لكل صَلَاة وَإِن لم تحدث» ثمَّ قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح (قَالَ: وَهُوَ أصح حَدِيث فِي الْبَاب) . وَقَالَ فِي «خلافياته» وَقد سَاقه من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ السالف: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح. قَالَ: وَهُوَ أصح حَدِيث فِي الْبَاب وَبِه تقع الْكِفَايَة إِذْ لَا يعرف لَهُ مُخَالف من الصَّحَابَة فِيهِ.
قلت: وعامر الْأَحول وَإِن ضعفه ابْن عُيَيْنَة وَأحمد فقد وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَأخرج لَهُ مُسلم فَجَاز القنطرة.(2/676)
وَقَول ابْن حزم: الرِّوَايَة عَن ابْن عمر لَا تصح. لَيْسَ بجيد مِنْهُ؛ لما علمت إِذْ عرفت هَذِه الْآثَار، فليت الرَّافِعِيّ اقْتصر مِنْهَا عَلَى أثر ابْن عمر دون مَا رَوَاهُ عَن ابْن عَبَّاس أَو ذكره أَولا، ثمَّ ذكر مَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس بعده، ثمَّ ذكر الرَّافِعِيّ (بعده) : أَن السّنة فِي كَلَام الصَّحَابِيّ ينْصَرف إِلَى سنة رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَهُوَ كَمَا قَالَ كَمَا هُوَ مُقَرر فِي عُلُوم الحَدِيث.
خاتمتان: الأولَى: قَالَ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اخْتلفت الصَّحَابَة فِي تيَمّم الْجنب، وَلم يَخْتَلِفُوا فِي تيَمّم الْحَائِض (انْتَهَى) ، أما اخْتلَافهمْ فِي الأول فمشهور عَن عمر وَابْن مَسْعُود كَمَا ثَبت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْهُمَا، ففيهما عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ: قَالَ عبد الله بن مَسْعُود: « (لَو) أَن جنبا لم يجد المَاء شهرا لَا يتَيَمَّم. قَالَ أبوموسى لَهُ: فَكيف تصنع بِهَذِهِ الْآيَة (فَلم تَجدوا (فَقَالَ عبد الله: لَو رخص لَهُم (لأوشكوا) إِذا بَرد عَلَيْهِم المَاء أَن يتيمموا بالصعيد. فَذكر أَبُو مُوسَى لعبد الله قصَّة عمار، فَقَالَ عبد الله: ألم تَرَ عمر لم (يقنع) بقول عمار» وَفِيهِمَا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى «أَن رجلا أَتَى(2/677)
عمر فَقَالَ: (إِنِّي) أجنبت فَلم أجد (مَاء) . فَقَالَ عمر: لَا تصل. فَقَالَ عمار: أما تذكر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِذْ أَنا وَأَنت فِي سَرِيَّة فأجنبنا فَلم نجد مَاء، فَأَما أَنْت فَلم تصل، وَأما أَنا فتمعكت فِي التُّرَاب وَصليت فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَن تضرب بيديك الأَرْض ثمَّ تمسح بهما وَجهك وكفيك؟ فَقَالَ عمر: اتَّقِ الله يَا عمار. قَالَ: إِن شِئْت لم أحدث بِهِ» .
لم يذكر البُخَارِيّ قَول (عمر) للرجل «لَا تصل» قَالَ ابْن الصّباغ وَغَيره: وَقيل: إِن عمر وَابْن مَسْعُود رجعا. (قَالَ) : وَأما اتِّفَاقهم عَلَى تيَمّم الْحَائِض فَظَاهر إِيرَاد النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» يُخَالِفهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: التَّيَمُّم عَن الْحَدث الْأَكْبَر جَائِز، وَبِه قَالَ الْعلمَاء كَافَّة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ إِلَّا عمر بن الْخطاب وَابْن مَسْعُود وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فَإِنَّهُم منعُوهُ.
(الخاتمة) الثَّانِيَة: لما ذكر الرَّافِعِيّ الْكَيْفِيَّة الْمَشْهُورَة فِي التَّيَمُّم قَالَ: زعم بَعضهم أَنَّهَا منقولة عَن فعل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهَذَا الزاعم أَظُنهُ الْمَاوَرْدِيّ (فَإِنَّهُ قَالَ) فِي «حاويه» : إِنَّمَا ذكرهَا الشَّافِعِي لأمرين(2/678)
أَحدهمَا: أَنه اتبع فِيهِ الرِّوَايَة عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَهَذَا لم أَقف عَلَيْهِ بعد الْبَحْث عَنهُ، ونفاه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فَقَالَ: إِنَّه لم يرد بهَا خبر وَلَا أثر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي الْقطعَة الَّتِي لَهُ عَلَى «الْوَسِيط» (الْمُسَمَّاة) «بالتنقيح» لَا يَصح فِي هَذِه الكفية شَيْء، وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الَّذِي قَالَه هَذَا الزاعم لَيْسَ بِشَيْء، فَإِن قلت: قد اسْتدلَّ صَاحب «الْمُهَذّب» لهَذِهِ الْكَيْفِيَّة بِحَدِيث أسلع رَضي اللهُ عَنهُ وَهُوَ فِي الدَّارَقُطْنِيّ قلتُ: لَا دَلِيل فِيهِ (لَهَا) لعدم الْمُطَابقَة للكيفية الَّتِي فِي الرَّافِعِيّ، فَتَأمل ذَلِك. ثمَّ إِن الحَدِيث ضعفه الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ: الرّبيع بن بدر رَاوِيه، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن الأسلع ضَعِيف إِلَّا أَنه غير مُنْفَرد (آخر الْجُزْء الرَّابِع فِي تجزئة المُصَنّف غفر الله لَهُ ويتلوه فِي الْخَامِس عشر بَاب الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ) .(2/679)
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا)
بَاب الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ
ذكر (فِيهِ) رَحِمَهُ اللَّهُ ثَمَانِيَة أَحَادِيث وأثرًا وَاحِدًا.
الحَدِيث الأول
عَن أبي بكرَة رَضي اللهُ عَنهُ « (أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) أرخص للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن، وللمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة إِذا تطهر فَلبس خفيه أَن يمسح عَلَيْهِمَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الْأَئِمَّة.
رَوَاهُ الشَّافِعِي (فِي «الْأُم» ) فَقَالَ: أخبرنَا (عبد الْوَهَّاب) الثَّقَفِيّ، عَن المُهَاجر أبي مخلد، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة، عَن أَبِيه بِهِ إِلَى قَوْله «وَلَيْلَة» .
قَالَ الشَّافِعِي: إِذا تطهر ... إِلَى آخِره، وَكَذَا هُوَ فِي «الْمُخْتَصر» أَيْضا.
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أرخص للْمُسَافِر أَن يمسح عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَة أَيَّام(3/5)
ولياليهن، وللمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة» وَهِي مخرجة فِي «الْمسند» .
وَرَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» ، عَن زيد بن الْحباب، ثَنَا عبد الْوَهَّاب، ثَنَا المُهَاجر مولَى البكرات، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة، عَن أَبِيه: «أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جعل للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن وللمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، من حَدِيث عبد الْوَهَّاب أَيْضا بِلَفْظ: «أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رخص للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن، وللمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة إِذا تطهر، وَلبس خفيه أَن يمسح عَلَيْهِمَا» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «يمسح الْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن والمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بالسند الْمَذْكُور، إِلَّا أَنه أبدل المُهَاجر بِخَالِد الْحذاء، وَلَفظه: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَ: للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن، وللمقيم يَوْم وَلَيْلَة. وَكَانَ [أبي] ينْزع خفيه وَيغسل رجلَيْهِ» .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَهَذَا الْإِسْنَاد أجل من الأول - يَعْنِي: إِسْنَاد الدَّارَقُطْنِيّ وموافقته - لمَكَان خَالِد الْحذاء بدل المُهَاجر، فَإِن خَالِدا مُتَّفق عَلَيْهِ، إِلَّا أَن الْبَيْهَقِيّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ(3/6)
جمَاعَة عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن المُهَاجر. وَرَوَاهُ زيد بن الْحباب عَنهُ عَن خَالِد الْحذاء، فإمَّا أَن يكون غَلطا مِنْهُ أَو من الْحسن بن عَفَّان - يَعْنِي الَّذِي رَوَاهُ عَن زيد بن الْحباب - وَإِمَّا أَن يكون رَوَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَرِوَايَة الْجَمَاعَة أولَى أَن تكون مَحْفُوظَة. وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ لما سُئِلَ عَنهُ أَن الصَّحِيح حَدِيث المُهَاجر، فَإِنَّهُ قَالَ: رَوَاهُ مهَاجر بن خَالِد مولَى آل أبي بكرَة، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة، عَن أَبِيه، حدث بِهِ وهيب بن خَالِد (و) عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وَاخْتلف عَن عبد الْوَهَّاب فَرَوَاهُ عَنهُ ابْنه عُثْمَان [بن] عبد الْوَهَّاب، ومسدد، وَبُنْدَار، وَأَبُو الْأَشْعَث فَقَالُوا: عَن مهَاجر، عَن ابْن أبي بكرَة، عَن أَبِيه، وَخَالفهُم زيد بن الْحباب فَرَوَاهُ عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، عَن خَالِد، عَن ابْن أبي بكرَة، عَن أَبِيه، وَالصَّحِيح حَدِيث مهَاجر.
قلت: قد رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَن زيد بن الْحباب، عَن عبد الْوَهَّاب، عَن المُهَاجر (عَن ابْن أبي بكرَة، عَن أَبِيه) كَمَا أسلفناه، فَكَأَنَّهُ اخْتلف عَنهُ أَيْضا.(3/7)
(قلت) : وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان من حَدِيث عبد الْوَهَّاب، عَن مهَاجر، أخرجه ابْن خُزَيْمَة عَن بنْدَار وَبشر بن معَاذ الْعَقدي وَمُحَمّد بن أبان، عَن عبد الْوَهَّاب، عَن المُهَاجر، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنه رخص للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن، وللمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة إِذا تطهر فَلبس خفيه أَن يمسح عَلَيْهِمَا» . وَهَذِه الرِّوَايَة مُوَافقَة لرِوَايَة الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب.
وَأخرجه ابْن حبَان بلفظين أَحدهمَا: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أرخص للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن، وللمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة إِذا تطهر وَلبس خفيه فليمسح عَلَيْهِمَا» .
ثَانِيهمَا: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام وَقت فِي الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن للْمُسَافِر، وللمقيم (يَوْمًا) وَلَيْلَة» ، وَرَوَاهُ ابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» من حَدِيث يَحْيَى بن معِين، عَن عبد الْوَهَّاب، عَن مهَاجر بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جعل للمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة، وللمسافر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن فِي الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ» .
وَصحح الحَدِيث أَيْضا إمامنا فِي رِوَايَة حَرْمَلَة، كَمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» حَيْثُ قَالَ عَنهُ إِنَّه قَالَ فِي رِوَايَة حَرْمَلَة: أَخذنَا فِي التَّوْقِيت بِحَدِيث المُهَاجر وَكَانَ إِسْنَادًا صَحِيحا. قَالَ: وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَهَذَا رَأَيْته فِي «علل التِّرْمِذِيّ(3/8)
الْكَبِير» وَهُوَ كتاب مُفْرد، وَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: ولين بَعضهم المُهَاجر، قَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: لين الحَدِيث لَيْسَ بِذَاكَ، وَلَيْسَ بالمتقن، شيخ يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن معِين: صَالح.
فَائِدَة: اسْم أبي بكرَة (بِالْبَاء الْمُوَحدَة أَوله، وهاء التَّأْنِيث فِي آخِره) نفيع بن الْحَارِث، وَقيل: مسروح، كني بذلك لِأَنَّهُ تدلى ببكرة من حصن الطَّائِف إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكناه بذلك لما أخبرهُ بِفِعْلِهِ، كَمَا رَوَاهُ عبد الْغَنِيّ فِي كتاب «أَسبَاب الْأَسْمَاء» وَهُوَ أحد الصَّحَابَة (الَّذين لم يموتوا حتَّى رَأَى كل وَاحِد من صلبه مائَة ولد ذكر، وهم ثَلَاثَة ذكرتهم فِي تخريجي) لأحاديث (الْمُهَذّب» فاستفدهم مِنْهُ، (مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة إِحْدَى وَخمسين) .
الحَدِيث الثَّانِي
عَن صَفْوَان بن عَسَّال الْمرَادِي رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا كُنَّا مسافرين - أَو سفرا - أَن لَا ننزع خفافنا ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن إِلَّا من جَنَابَة لَكِن من غَائِط أَو بَوْل أَو نوم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْأَئِمَّة: الشَّافِعِي، وَأحمد فِي «مسنديهما» ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ،(3/9)
وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، من رِوَايَة عَاصِم بن أبي النجُود - بنُون مَفْتُوحَة، ثمَّ جِيم، (ثمَّ وَاو) ، ثمَّ دَال مُهْملَة، واسْمه بَهْدَلَة - الْمُقْرِئ، عَن زر، عَن صَفْوَان، وَهُوَ بِكَمَالِهِ يتَضَمَّن قصَّة الْمسْح، وَفضل طلب الْعلم، وَأمر التَّوْبَة، وَبَعض هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين طوله، وَبَعْضهمْ اخْتَصَرَهُ، وَذكر أَنه رَوَاهُ عَن عَاصِم أَكثر من ثَلَاثِينَ من الْأَئِمَّة، حَكَاهُ صَاحب «الإِمَام» وَقَالَ ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» : رَوَاهُ عَن عَاصِم جماعات، وعددهم فَوق الْأَرْبَعين.
وَرَوَاهُ جماعات عَن زر مِنْهُم عبد الْوَهَّاب (بن) بخت، وَالْحسن بن عبد الرَّحْمَن الْكَاتِب الْكُوفِي، وَعبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق، وَطَلْحَة بن مصرف، وَبشر بن عَطِيَّة، وَإِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، والمنهال بن عَمْرو، وَعِيسَى بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، وَأَبُو (سعد) سعيد بن الْمَرْزُبَان الْبَقَّال، وَمُحَمّد بن سوقة، وَأَبُو عِيسَى حبيب بن أبي ثَابت.
قَالَ: وَرَوَاهُ عَن صَفْوَان جمَاعَة مِنْهُم: أَبُو الغريف عبيد الله بن خَليفَة، وَحُذَيْفَة بن أبي حُذَيْفَة الْأَزْدِيّ، وَأَبُو الجوزاء أَوْس بن عبد الله الربعِي، وَقيل أَبُو الجوزاء الَّذِي رَوَاهُ: ربيعَة بن شَيبَان، وَالْحسن الْبَصْرِيّ.(3/10)
قَالَ التِّرْمِذِيّ: (هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح) . وَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ البُخَارِيّ فِيمَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنهُ فِي «علله» : إِنَّه أصح حَدِيث فِي التَّوْقِيت. وَفِي الْجَامِع (عَنهُ) (أَنه حسن) ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : عَاصِم وَإِن تكلم فِي حفظه فقد خرّج عَنهُ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) .
قلت: أخرجَا لَهُ مَقْرُونا لَا اسْتِقْلَالا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» فِي مَسْأَلَة النّوم: عَاصِم بن بَهْدَلَة قَارِئ أهل الْكُوفَة وَإِن لم يخرج الشَّيْخَانِ حَدِيثه فِي الصَّحِيح لسوء حفظه، فَلَيْسَ (بساقط) إِذا وَافق (فِيمَا) يرويهِ الثِّقَات وَلم يُخَالِفهُ الْأَثْبَات، وَقد رَوَى أول هَذَا الحَدِيث - وَهُوَ (حَدِيث) طلب الْعلم - عبد الْوَهَّاب بن بخت - وَهُوَ من ثِقَات الْبَصرِيين - عَن زر نَحْو حَدِيث عَاصِم بن بَهْدَلَة. وَقَالَ الْحَاكِم فِي أَوَائِل كتاب الْإِيمَان من «مُسْتَدْركه» : لم يذكر الشَّيْخَانِ لِصَفْوَان بن عَسَّال حَدِيثا وَاحِدًا. قَالَ: وَسمعت أَبَا عبد الله الْحَافِظ مُحَمَّد بن يَعْقُوب وَسَأَلَهُ مُحَمَّد بن عبيد فَقَالَ: لم ترك الشَّيْخَانِ حَدِيث صَفْوَان(3/11)
بن عَسَّال أصلا؟ فَقَالَ: لفساد الطَّرِيق إِلَيْهِ.
قَالَ الْحَاكِم: وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو عبد الله بِهَذَا حَدِيث عَاصِم عَن زر، فَإِنَّهُمَا تركاه.
قلت: وَلِحَدِيث صَفْوَان هَذَا متابع فِي الْمسْح من جِهَة عبد الْكَرِيم بن (أبي) الْمخَارِق، عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن زر، رَوَاهَا الطَّبَرَانِيّ وَهِي مُتَابعَة غَرِيبَة.
قَالَ صَاحب «الإِمَام» : إِلَّا أَن عبد الْكَرِيم ضَعَّفُوهُ. وَقَالَ الْحسن وَأَبُو عَلّي بن السكن: وَقَالَ الصَّعق بن حزن، عَن عَلّي بن الحكم، عَن الْمنْهَال بن (عَمْرو) ، عَن زر، عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ: «جَاءَ رجل من مُرَاد يُقَال لَهُ صَفْوَان» ، وَلم يُتَابع (عَلَيْهِ) ، وَهَذِه مُتَابعَة ثَانِيَة.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي روق (عَطِيَّة بن الْحَارِث) ، نَا أَبُو الغريف - بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَكسر الرَّاء، وَآخره فَاء - واسْمه (عبيد الله) بن خَليفَة، عَن صَفْوَان بن عَسَّال، قَالَ: «بعثنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي سَرِيَّة وَقَالَ: ليمسح أحدكُم إِذا كَانَ مُسَافِرًا عَلَى خفيه إِذا أدخلهما طاهرتين ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن، وليمسح الْمُقِيم يَوْمًا وَلَيْلَة» .
وَرَوَاهُ أَبُو يعْلى بِنَحْوِهِ، وَهَذِه مُتَابعَة ثَالِثَة.(3/12)
قَالَ أَبُو حَاتِم: (أَبُو) الغريف لَيْسَ بالمشهور. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ (من) حَدِيث يَحْيَى بن فُضَيْل، عَن الْحسن بن صَالح، عَن أبي جناب (الْكَلْبِيّ) ، عَن طَلْحَة بن مصرف، عَن زر بن حُبَيْش، عَن صَفْوَان بن عَسَّال الْمرَادِي قَالَ: «سَأَلت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَمسَح عَلَى الْخُفَّيْنِ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: نعم، ثَلَاثَة أَيَّام للْمُسَافِر لَا ينْزع من غَائِط، وَلَا بَوْل (وَلَا نوم) ، وَيَوْم وَلَيْلَة للمقيم» ثمَّ قَالَ: لم يروه إِلَّا أَبُو جناب، تفرد بِهِ يَحْيَى بن فُضَيْل.
قلت: وَهَذِه مُتَابعَة رَابِعَة، وَقد أَشَارَ التِّرْمِذِيّ إِلَى بعض المتابعات فَإِنَّهُ قَالَ فِي «جَامعه» : وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن صَفْوَان من غير حَدِيث عَاصِم.
وَأخرج أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» (رِوَايَة) عَاصِم من طرق مِنْهَا عَن معمر عَنهُ، فَقَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة بِخَبَر غَرِيب، ثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى، وَمُحَمّد بن رَافع، قَالَا: ثَنَا عبد الرَّزَّاق، أَنا معمر، عَن عَاصِم، عَن زر، قَالَ: أتيت صَفْوَان بن عَسَّال الْمرَادِي(3/13)
فَقَالَ: مَا جَاءَ بك؟ قلت: جِئْت أنبط الْعلم. قَالَ: فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُول: «مَا من خَارج (يخرج) من بَيته يطْلب الْعلم إِلَّا وضعت لَهُ الْمَلَائِكَة أَجْنِحَتهَا رضَا بِمَا يصنع. قَالَ: جِئْت أَسأَلك عَن الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: نعم، كُنَّا فِي الْجَيْش الَّذين بَعثهمْ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأمرنَا أَن نمسح عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذا نَحن (أدخلناهما) عَلَى طهُور ثَلَاثًا إِذا سافرنا، وَلَا نخلعهما من غَائِط وَلَا بَوْل» .
وَمِنْهَا: عَن معمر أَيْضا (عَنهُ) : «أمرنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن نمسح ثَلَاثًا إِذا سافرنا، وَيَوْما وَلَيْلَة إِذا أَقَمْنَا، وَلَا ننزعهما من غَائِط، وَلَا بَوْل (وَلَا نوم) ، (وَلَكِن) من الْجَنَابَة» .
وَمِنْهَا: عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَنهُ «أمرنَا إِذا كُنَّا مسافرين - أَو سفرا - أَن لَا ننزع (أَو نخلع خفافنا) ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن من غَائِط وبَوْل إِلَّا من (الْجَنَابَة) » .
وَمِنْهَا: عَن سُفْيَان عَنهُ «كَانَ يَأْمُرنَا إِذا كُنَّا (سفرا أَو)(3/14)
مسافرين أَن لَا ننزع خفافنا ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن إِلَّا من جَنَابَة، لَكِن من غَائِط وَبَوْل ونوم» .
وَلما رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن معمر بِلَفْظ: «كنت فِي الْجَيْش الَّذين بَعثهمْ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأمرنَا أَن نمسح عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذا نَحن أدخلناهما عَلَى طهر ثَلَاثًا إِذا سافرنا، وَيَوْما وَلَيْلَة إِذا أَقَمْنَا، وَلَا نخعلهما من بَوْل وَلَا غَائِط وَلَا نوم إِلَّا من جَنَابَة» .
قَالَ: ثَنَا عَلّي بن إِبْرَاهِيم بن عِيسَى قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر بن خُزَيْمَة النَّيْسَابُورِي يَقُول: ذكرت للمزني خبر عبد الرَّزَّاق هَذَا (فَقَالَ) : حدث بِهِ أَصْحَابنَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ للشَّافِعِيّ حجَّة أَقْوَى من هَذَا، يَعْنِي قَوْله: «إِذا نَحن (أدخلناهما) عَلَى طهر» .
تَنْبِيهَات: (أَحدهَا) فِي الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ زِيَادَة (فِي) هَذَا الحَدِيث بعد قَوْله: «أَو نوم» وَهِي: «أَو ريح» قَالَا: وَلم يقل هَذِه اللَّفْظَة فِي هَذَا الحَدِيث غير وَكِيع، عَن مسعر. وَفِي رِوَايَة لِلْحَافِظِ المطرزي فِي آخر الحَدِيث: «من الْحَدث إِلَى الْحَدث» ، وَهِي غَرِيبَة جدًّا.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَغير ثَابِتَة أَيْضا (و) فِي(3/15)
«الْمُهَذّب» للشَّيْخ أبي إِسْحَاق فِي آخر الحَدِيث زِيَادَة غَرِيبَة وَهِي: «ثمَّ نُحدث بعد ذَلِك وضُوءًا» .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» : وَهَذِه زِيَادَة بَاطِلَة لَا تعرف.
ثَانِيهَا: وهم صَاحب «التنقيب عَلَى الْمُهَذّب» وهما (فظيعًا) حَيْثُ عزا حَدِيث صَفْوَان (هَذَا) إِلَى الشَّيْخَيْنِ وَأَصْحَاب السّنَن، وَهَذَا من أقبح أَوْهَامه فِي هَذَا الْكتاب يجب إِصْلَاحه.
فالشيخان لم يخرجَاهُ أصلا، وَأَبُو دَاوُد (لم) يُخرجهُ أَيْضا وَهُوَ من أَصْحَاب السّنَن، وَقد أسلفت عَن الْحَاكِم أَن الشَّيْخَيْنِ لم يخرجَا لِصَفْوَان حَدِيثا.
ثَالِثهَا: عَسَّال وَالِد صَفْوَان بِعَين مُهْملَة ثمَّ سين مُهْملَة أَيْضا فاعلمه، فقد يصحفه من لَا أنس لَهُ بالفن (وَهُوَ صفة للرمح يُقَال: عسل الرمْح عسلاً - بِالْفَتْح - إِذا اهتز واضطرب فَهُوَ عَسَّال) ، وَصَفوَان من كبار الصَّحَابَة غزا مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثِنْتَيْ (عشرَة) غَزْوَة، سكن الْكُوفَة، وَمن مناقبه أَن عبد الله بن مَسْعُود رَوَى عَنهُ (وَصَفوَان - بالصَّاد الْمُهْملَة - أَصله الْحجر) .
رَابِعهَا: قَوْله: «إِلَّا من جَنَابَة» هَكَذَا هُوَ فِي كتب الحَدِيث الْمَشْهُورَة: «إِلَّا» وَهِي الَّتِي للاستثناء، وَقَالَ صَاحب «الْبَحْر» فِي بَاب مَا ينْقض الْوضُوء: (رُوِيَ) أَيْضا «لَا من جَنَابَة» بِحرف «لَا» وَكِلَاهُمَا(3/16)
صَحِيح الْمَعْنى، (لَكِن) الْمَشْهُور: «إِلَّا» .
وَقَوله: «لَكِن من غَائِط أَو بَوْل أَو نوم» كَذَا وَقع فِي الْكتاب و «الْمُهَذّب» أَيْضا بِحرف «أَو» ، وَأفَاد الْفَقِيه نجم الدَّين بن الرّفْعَة فِي «مطلبه» أَن ذَلِك رِوَايَة، وَالْمَشْهُور فِي كتب الحَدِيث وَالْفِقْه بِالْوَاو فَقَط.
وَقَوله: «لَكِن من غَائِط ... » إِلَى آخِره، قَالَ أهل اللُّغَة: لَفْظَة «لَكِن» للاستدراك تعطف فِي النَّفْي مُفردا عَلَى مُفْرد، وَتثبت للثَّانِي (مَا) نفته عَن الأول.
تَقول: مَا قَامَ زيد لَكِن عَمْرو، فَإِن دخلت مثبتة احْتِيجَ بعْدهَا (إِلَى) جملَة، تَقول: قَامَ زيد لَكِن عَمْرو لم يقم، فَقَوله: «لَا تنزعها إِلَّا من جَنَابَة لَكِن من غَائِط وَبَوْل ونوم» مَعْنَاهُ: أرخص لنا فِي الْمسْح مَعَ هَذِه الثَّلَاثَة، وَلم نؤمر بنزعها (إِلَّا فِي حَال الْجَنَابَة، وَفِيه مَحْذُوف تَقْدِيره: لَكِن لَا ننزع من غَائِط وَبَوْل ونوم) لِأَن التَّقْدِير الأول: أمرنَا (بنزعها) من الْجَنَابَة، وَرِوَايَة عبد الرَّزَّاق السالفة صَرِيحَة فِي ذَلِك، مغنية عَن التَّقْدِير، وَفَائِدَة هَذَا الِاسْتِدْرَاك بَيَان الْأَحْوَال الَّتِي يجوز فِيهَا الْمسْح، وَنبهَ بالغائط وَالْبَوْل وَالنَّوْم عَلَى مَا فِي (مَعْنَاهَا) من بَاقِي أَنْوَاع الْحَدث الْأَصْغَر، وَهِي: زَوَال الْعقل بجنون وَغَيره، واللمس والمس، (و) نبه بالجنابة عَلَى مَا فِي مَعْنَاهَا من (الْحَدث) الْأَكْبَر، فَدخل فِيهِ الْحيض وَالنّفاس، وَقد يُؤْخَذ من الْأَحْوَال الثَّلَاثَة أَنه لَا يجوز الْمسْح عَلَى الْخُف من النَّجَاسَة.(3/17)
وَقَوله: «مسافرين أَو سفرا» شكّ من الرَّاوِي، هَل قَالَ الأول أَو الثَّانِي وهما بِمَعْنى، وَلَكِن لما شكّ الرَّاوِي أَيهمَا قَالَ (احتاط) فتردد (و) لم يجْزم بِأَحَدِهِمَا، وَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ لَا شكّ فِيهَا وَجزم بقوله: «سفرا» - برَاء منونة وَيكْتب بعْدهَا ألف وَلَا يجوز غير هَذَا.
قَالَ ابْن الصّلاح، ثمَّ النَّوَوِيّ: وَرُبمَا غلط فِيهِ، فَقيل: سَفَرِي - بِالْيَاءِ - وَقَالَ صَاحب «المستعذب عَلَى الْمُهَذّب» : «سفرا» أَي (بِالتَّنْوِينِ) جمع مُسَافر. (وَقد: يرْوَى) بِغَيْر تَنْوِين، وَلَيْسَ بِشَيْء.
وَقَوله: إِنَّه جمع مُسَافر. هُوَ مَا (قَالَه) ، كراكِب ورَكْب، وصاحِب وصَحْب، وَقيل: إِنَّه لم ينْطق (بواحده) الَّذِي هُوَ سفر، بل (قدروه) ، وَقيل: نطق بِهِ، وَمِنْه: «يَا أهل مَكَّة أَتموا فَإنَّا قوم سَفْر» .
تَنْبِيه: اعْترض ابْن الرّفْعَة فِي «كِفَايَته» عَلَى الرَّافِعِيّ فِي استدلاله بِحَدِيث صَفْوَان هَذَا عَلَى انْقِطَاع الْمدَّة بالجنابة، فَإِنَّهُ يدل عَلَى أَن الْمسْح عَلَى الْخُف لَا يقوم مقَام الْغسْل لَا الِانْقِطَاع، وَلَك أَن تَقول (بل) هُوَ دَال عَلَى وجوب النزع وَيلْزم مِنْهُ انقضاؤها.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «سكبت لرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الْوضُوء، فَلَمَّا انْتَهَيْت إِلَى (رجلَيْهِ) أهويت إِلَى الْخُفَّيْنِ لأنزعهما فَقَالَ: دع(3/18)
الْخُفَّيْنِ فَإِنِّي أدخلتهما وهما (طاهرتان) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أصل من أصُول الْبَاب، وَله عَن الْمُغيرَة طرق، ذكره ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» من خَمْسَة وَأَرْبَعين طَرِيقا عَنهُ، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين (فِي «الإِمَام» ) : بَلغنِي عَن أبي بكر الْبَزَّار أَنه يرْوَى عَنهُ من نَحْو سِتِّينَ طَرِيقا. وَاتفقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث عُرْوَة بن الْمُغيرَة، عَن أَبِيه قَالَ: «كنت مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي سفر فَأَهْوَيْت لأنزع خفيه فَقَالَ: دعهما فَإِنِّي أدخلتهما طاهرتين. فَمسح عَلَيْهِمَا» ، هَذَا لفظ البُخَارِيّ، وَترْجم عَلَيْهِ: إِذا أَدخل رجلَيْهِ وهما طاهرتان، وَلَفظ مُسلم: «أَنه وضأ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَتَوَضَّأ وَمسح عَلَى خفيه فَقَالَ لَهُ: [إِنِّي] أدخلتهما طاهرتين» ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كنت مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذَات لَيْلَة فِي مسير فَقَالَ لي: أَمَعَك مَاء ... » الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: «ثمَّ أهويت لأنزع خفيه فَقَالَ: دعهما فَإِنِّي أدخلتهما طاهرتين. وَمسح عَلَيْهِمَا» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن (حُسَيْن) وزَكَرِيا، وَيُونُس، عَن الشّعبِيّ، عَن عُرْوَة بن الْمُغيرَة، عَن أَبِيه قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، أتمسح عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ ! قَالَ: نعم، إِنِّي أدخلتهما وهما طاهرتان» .(3/19)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «ثمَّ أهويت إِلَى الْخُفَّيْنِ لأنزعهما، فَقَالَ: دع الْخُفَّيْنِ فَإِنِّي أدخلت الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ وهما طاهرتان. فَمسح عَلَيْهِمَا» .
(فَائِدَة: الْوضُوء بِفَتْح الْوَاو عَلَى أشهر اللُّغَات فِيهِ؛ لِأَن المُرَاد بِهِ المَاء) .
الحَدِيث الرَّابِع
عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضي اللهُ عَنهُ: «أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مسح أَعلَى الْخُف وأسفله» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد (وَالتِّرْمِذِيّ) وَابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم، عَن ثَوْر بن يزِيد، عَن رَجَاء بن حَيْوَة، عَن كَاتب الْمُغيرَة، عَن الْمُغيرَة بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء، إِلَّا أَن لفظ رِوَايَة أبي دَاوُد: «وضأت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي غَزْوَة تَبُوك فَمسح أَعلَى الْخُف وأسفله» . وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» عَن ابْن أبي يَحْيَى، عَن ثَوْر بِهِ.
وأعل هَذَا الحَدِيث بأوجه:(3/20)
أَولهَا: أَن ثورًا لم يسمعهُ من رَجَاء بن حَيْوَة، وَقَالَ الْأَثْرَم: سَمِعت أَبَا عبد الله - يَعْنِي: أَحْمد بن حَنْبَل - يُضعف هَذَا الحَدِيث، وَيَقُول: إِنَّه ذكره لعبد الرَّحْمَن بن مهْدي، فَذكره عَن ابْن الْمُبَارك، عَن ثَوْر، قَالَ: حدثت عَن رَجَاء بن حَيْوَة، عَن كَاتب الْمُغيرَة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام ... » وَلَيْسَ فِيهِ (ذكر) الْمُغيرَة؛ فأفسده من وَجْهَيْن حَيْثُ قَالَ: حدثت عَن رَجَاء. وأرسله وَلم يسْندهُ، وَقد كَانَ نعيم بن حَمَّاد حَدَّثَني بِهَذَا عَن ابْن الْمُبَارك كَمَا حدث بِهِ الْوَلِيد فَقَالَ: عَن ثَوْر، عَن رَجَاء، عَن كَاتب الْمُغيرَة، عَن الْمُغيرَة، فَقلت لَهُ: إِنَّمَا (يَقُوله) الْوَلِيد، فَأَما ابْن الْمُبَارك فَيَقُول: «حدثت عَن رَجَاء» وَلَا يذكر الْمُغيرَة. فَقَالَ: هَذَا حَدِيثي الَّذِي أسأَل عَنهُ. فَأخْرج إليَّ كِتَابه الْقَدِيم بِخَط عَتيق، فَإِذا فِيهِ مُلْحق بَين السطرين بِخَط لَيْسَ بالقديم «عَن الْمُغيرَة» فأوقفته عَلَيْهِ، وأخبرته أَن هَذِه زِيَادَة فِي الْإِسْنَاد لَا أصل لَهَا، فَجعل يَقُول للنَّاس بعد وَأَنا أسمع: اضربوا عَلَى هَذَا الحَدِيث. هَذَا مَعْنَاهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : هَذَا حَدِيث مَعْلُول لم يُسنده عَن ثَوْر غير الْوَلِيد بن مُسلم.
قلت: قد أسْندهُ عَنهُ ابْن أبي يَحْيَى - كَمَا سلف - وَمُحَمّد بن عِيسَى بن سميع - كَمَا سَيَأْتِي - عَن الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ: وَسَأَلت أَبَا زرْعَة ومحمدًا - يَعْنِي: البُخَارِيّ - عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَا: لَيْسَ بِصَحِيح؛ لِأَن ابْن الْمُبَارك رَوَى هَذَا عَن ثَوْر، عَن رَجَاء، قَالَ: حدثت عَن كَاتب الْمُغيرَة، مُرْسل عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَلم يذكر فِيهِ الْمُغيرَة. وَقَالَ فِي(3/21)
«علله» (عَنْهُمَا) نَحوه، وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : لم يسمع هَذَا الحَدِيث ثَوْر من رَجَاء. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ - وَقد سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث -: يرويهِ ثَوْر بن يزِيد وَاخْتلف عَنهُ، فَرَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم وَمُحَمّد بن عِيسَى بن سميع، عَن ثَوْر، عَن رَجَاء، عَن كَاتب الْمُغيرَة، عَن الْمُغيرَة، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن بعض أَصْحَابه، عَن ثَوْر، وَرَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن ثَوْر، قَالَ: حدثت عَن رَجَاء بن حَيْوَة، عَن كَاتب الْمُغيرَة، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُرْسلا.
قَالَ: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث (عَن) عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن (وراد) ، عَن الْمُغيرَة. وَلم يذكر فِيهِ أَسْفَل الْخُف، وَرَوَاهُ الحكم بن هِشَام وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن المُهَاجر، عَن عبد الْملك قَالَ: وَحَدِيث رَجَاء بن حَيْوَة الَّذِي فِيهِ ذكر أَعلَى الْخُف وأسفله لَا يثبت؛ لِأَن ابْن الْمُبَارك رَوَاهُ عَن ثَوْر مُرْسلا. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَن حَدِيث رَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم، عَن ثَوْر، عَن رَجَاء، عَن كَاتب الْمُغيرَة (عَن الْمُغيرَة) مَرْفُوعا فَقَالَا: رَوَاهُ الْوَلِيد(3/22)
هَكَذَا، وَرَوَاهُ غَيره بِإِسْقَاط الْمُغيرَة وأفسده، وَحَدِيث الْوَلِيد أشبه. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر مِنْهَا: سَمِعت أبي، و (ذكر) حَدِيث الْوَلِيد، عَن ثَوْر، عَن رَجَاء، عَن كَاتب الْمُغيرَة، عَن الْمُغيرَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مسح أَعلَى الْخُف وأسفله» فَقَالَ: لَيْسَ (بِمَحْفُوظ) ، وَسَائِر الْأَحَادِيث عَن الْمُغيرَة أصح.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : الْحفاظ يَقُولُونَ: لم يسمع ثَوْر هَذَا الحَدِيث من رَجَاء، رَوَاهُ عبد الله بن الْمُبَارك، عَن ثَوْر قَالَ: حدثت عَن رَجَاء بن حَيْوَة، عَن كَاتب الْمُغيرَة. وَلم يذكر الْمُغيرَة.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي «محلاه» - وَقد ذكره من حَدِيث الْوَلِيد، عَن ثَوْر، عَن رَجَاء، عَن كَاتب الْمُغيرَة، عَن الْمُغيرَة -: أَخطَأ فِيهِ الْوَلِيد بن مُسلم فِي موضِعين. ثمَّ أخرجه من حَدِيث أَحْمد، عَن ابْن مهْدي، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن ثَوْر، حدثت عَن رَجَاء عَن كَاتب الْمُغيرَة. قَالَ: فصح أَن ثورًا لم يسمعهُ من رَجَاء، وَأَنه مُرْسل لم يذكر فِيهِ الْمُغيرَة. قَالَ: وَعلة ثَالِثَة: وَهِي أَنه لم يسم فِيهِ كَاتب الْمُغيرَة فَسقط.
الْعلَّة (الثَّانِيَة) أَن رَجَاء بن حَيْوَة لم يسمع كَاتب الْمُغيرَة (قَالَه الإِمَام الشَّافِعِي كَمَا أَفَادَ عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» .
الْعلَّة الثَّالِثَة: أَنه لم يسم فِيهِ كَاتب الْمُغيرَة) بن شُعْبَة أَي فَيكون مَجْهُولا، وَهَذِه أسلفت عَن ابْن حزم.(3/23)
الْعلَّة الرَّابِعَة: أَن الْوَلِيد بن مُسلم دلّس فِيهِ، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» و «تَحْقِيقه» بعد أَن ذكر الحَدِيث: كَانَ الْوَلِيد يروي عَن الْأَوْزَاعِيّ أَحَادِيث هِيَ عِنْد الْأَوْزَاعِيّ عَن شُيُوخ ضعفاء، عَن شُيُوخ قد أدركهم الْأَوْزَاعِيّ مثل: نَافِع وَالزهْرِيّ (فَيسْقط) أَسمَاء الضُّعَفَاء ويجعلها عَن الْأَوْزَاعِيّ عَنْهُم. وَنقل مثل هَذِه الْمقَالة فِي الْوَلِيد فِي «ضُعَفَائِهِ» عَن عُلَمَاء النَّقْل.
وَشرع الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي «إِمَامه» يُجيب عَن الْعِلَل الْمَذْكُورَة خلا الثَّانِيَة (فَإِنَّهُ) لم يذكرهَا، فَقَالَ بعد أَن نقل كَلَام أَحْمد السالف: وَقَول الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِنَّه حَدِيث لَا يثبت؛ لِأَن ابْن الْمُبَارك رَوَاهُ عَن ثَوْر مُرْسلا. وَمَعَ هَذَا كُله فقد رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز، عَن دَاوُد بن رشيد، عَن الْوَلِيد بن مُسلم، عَن ثَوْر بن يزِيد قَالَ: ثَنَا رَجَاء بن حَيْوَة، عَن كَاتب الْمُغيرَة بن شُعْبَة، عَن الْمُغيرَة، فقد صرح فِي هَذِه الرِّوَايَة عَن ثَوْر بِأَن رَجَاء حَدثهُ، وَقد رَوَاهُ أَحْمد بن عبيد الصفار، عَن أَحْمد بن يَحْيَى بن إِسْحَاق الْحلْوانِي، عَن دَاوُد بن رشيد، فَقَالَ: (عَن) رَجَاء. وَلم يقل: ثَنَا رَجَاء. فقد اخْتلف عَلَى دَاوُد بن رشيد فِي هَذِه اللَّفْظَة.
قلت: وَزِيَادَة الوليدِ المغيرةَ لم ينْفَرد بهَا، بل توبع عَلَيْهَا كَمَا عَلمته(3/24)
فِيمَا سلف.
قَالَ: وَأما الْعلَّة الثَّالِثَة: وَهِي أَنه لم يسم فِيهِ كَاتب الْمُغيرَة، فالمعروف بكاتب الْمُغيرَة هُوَ مَوْلَاهُ وراد، وَهُوَ مخرج لَهُ فِي الصَّحِيح. قَالَ: لم يعرف لَهُ مشارك فِي هَذِه الصّفة، فَالظَّاهِر انصراف الرِّوَايَة إِلَيْهِ، وَقد أدرج بعض الْحفاظ هَذَا الحَدِيث فِي تَرْجَمَة رَجَاء بن حَيْوَة، عَن وراد.
قلت: وَذكره الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي تَرْجَمَة وراد، عَن الْمُغيرَة، وَقَالَ: وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، عَن وراد، عَن الْمُغيرَة. وَأَعْلَى من هَذَا وأفصح أَن ابْن مَاجَه خرج الحَدِيث فِي «سنَنه» فَقَالَ: عَن رَجَاء بن حَيْوَة، عَن ورَّاد كَاتب الْمُغيرَة (فأفصح باسمه وَكَذَا وَقع فِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» أَنه سُئِلَ عَن حَدِيث وراد كَاتب الْمُغيرَة) عَن الْمُغيرَة ... الحَدِيث.
(قَالَ) : وَأما الْعلَّة الرَّابِعَة: وَهِي تَدْلِيس الْوَلِيد، فَلَيْسَ بِشَيْء (قد أَمن) تدليسه فِي هَذِه الرِّوَايَة (بِمَا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فَقَالَ: أَخْبرنِي ثَوْر.
قلت: وَفِي هَذَا نظر أبداه شَيخنَا الْحَافِظ فتح الدَّين الْيَعْمرِي، فَقَالَ(3/25)
فِي الْقطعَة الَّتِي لَهُ عَلَى التِّرْمِذِيّ: قَوْله فِي رد هَذَا الْوَجْه: لَيْسَ بِشَيْء. (لَيْسَ بِشَيْء) ، بل هُوَ وَجه من التَّعْلِيل صَحِيح لم يَأْتِ عَنهُ بِجَوَاب، وَجَوَابه عَنهُ بِأَنَّهُ قد أَمن تَدْلِيس الْوَلِيد بقوله: «أَخْبرنِي» - فِي رِوَايَة من رَوَى ذَلِك - دَلِيل عَلَى أَنه لم يَأْتِ عَلَى المُرَاد (فِي) هَذَا التَّعْلِيل؛ لِأَن التَّصْرِيح بذلك الْإِخْبَار لَا يسْقطهُ، وَبَيَانه أَن النَّوْع الَّذِي رمي بِهِ الْوَلِيد بن مُسلم من التَّدْلِيس هُوَ نوع يُسمى (عِنْدهم) التَّسْوِيَة، وَهُوَ يخْتَص بالتدليس فِي شيخ شَيْخه لَا فِي شَيْخه، وَذَلِكَ أَنه يعمد لأحاديث - مثلا - رَوَاهَا هُوَ عَن الْأَوْزَاعِيّ، وَهِي عِنْد الْأَوْزَاعِيّ عَن شُيُوخ لَهُ ضعفاء رووها عَن الثِّقَات فِي شُيُوخ الْأَوْزَاعِيّ نَفسه، كَحَدِيث يكون فِيهِ بَين الْأَوْزَاعِيّ وَالزهْرِيّ، أَو بَين الْأَوْزَاعِيّ وَنَافِع (أَو بَين الْأَوْزَاعِيّ) وَعَطَاء (رجل) ضَعِيف، (فَيسْقط الْوَلِيد الْوَاسِطَة الضَّعِيف، ويروي الحَدِيث عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ أَو عَطاء) أَو نَافِع كَيْفَمَا كَانَ وَكلهمْ شُيُوخ الْأَوْزَاعِيّ (فيروج بذلك الْخَبَر عَنهُ سامعه، لعلمه أَن الْأَوْزَاعِيّ رَوَى عَن أُولَئِكَ الشُّيُوخ) وَكَذَلِكَ مثله ابْن الْجَوْزِيّ (مِثَالا) مُسْتَقِيمًا، والوليد مَوْصُوف عِنْدهم بِهَذَا النَّوْع من التَّدْلِيس، وَمن هَذَا الضَّرْب مَا يخْشَى وُقُوعه هَا هُنَا فَإِنَّهُ قَالَ: أَخْبرنِي ثَوْر، عَن رَجَاء، فَأَتَى (فِيهِ) بِصِيغَة(3/26)
العنعنة، وَهِي لَا تدل عَلَى الِاتِّصَال من (مثله) ، فَبَقيَ التَّدْلِيس غير مَأْمُون، وقلما يرتكب التَّدْلِيس وَيسْقط الْوَاسِطَة إِلَّا لمُقْتَضى لإسقاطه، فقد كَانَت مثل هَذِه العنعنة (من) الْوَلِيد فِي مثل هَذَا الْموضع كَافِيَة فِي التَّعْلِيل، لَا سِيمَا وَقد صَحَّ عَن ابْن الْمُبَارك وَهُوَ من عرف مَحَله قَوْله فِي هَذَا الحَدِيث: عَن ثَوْر، حدثت عَن رَجَاء بن حَيْوَة. فنبه عَلَى ثُبُوت وَاسِطَة مَجْهُول، فَاقْتَضَى مَا هُوَ الْمَعْهُود من تَسْوِيَة الْوَلِيد الضعْف أَو الْجَهَالَة فِي ذَلِك الْوَاسِطَة المطوي الذّكر، وتصريح الْوَلِيد بن مُسلم (بقوله) أبنا ثَوْر، عَن رد هَذَا التَّعْلِيل بمعزل، وَمثل هَذَا من الْوَلِيد إِن كَانَ بعد صِحَة الْخَبَر الْمَرْوِيّ (لذَلِك) عِنْده من خَارج أَو مَعَ حسن ظَنّه (بِمن) طوى ذكره فكلاهما قريب، وَإِن كَانَ مَعَ الْجَهَالَة بِحَالهِ وَقبل ثُبُوت الْخَبَر عِنْده (فقد دخل الْخلَل عَلَيْهِ من حَيْثُ لَا يعلم، وبعيد أَن يكون ذَلِك مِنْهُ مَعَ ضعف الرَّاوِي عِنْده) وَعدم علمه بِصِحَّة الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ من طَرِيقه، فَفِي ذَلِك انحطاط يرْتَفع حَال مثل الْوَلِيد بن مُسلم عَنهُ.
فَالْحَدِيث عَلَى هَذَا مُعَلل بالانقطاع بَين ثَوْر ورجاء، وَهُوَ الَّذِي يخْشَى من تَسْوِيَة الْوَلِيد، وَالظَّاهِر تَرْجِيح الْإِرْسَال عَلَى الْإِسْنَاد كَمَا رَجحه ابْن الْمُبَارك وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي.
وَنقل الْحَازِمِي عَن الشَّافِعِي أَنه ضعف هَذَا الحَدِيث فِي الْقَدِيم، وَهُوَ مُحْتَمل لِأَن يكون ضعفه لما نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ كَمَا أسلفناه عَنهُ،(3/27)
وَبِغَيْرِهِ من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، وأجمل القَوْل عبد الْحق فِي تَضْعِيف الحَدِيث، فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنْقَطع الْإِسْنَاد. وَقَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا حَدِيث ضَعِيف عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ، ضعفه الشَّافِعِي وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو زرْعَة وَالتِّرْمِذِيّ، وَغَيرهم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: واعتماد الشَّافِعِي فِي هَذَا الحكم عَلَى مَا رَوَاهُ فِي الْقَدِيم عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه كَانَ يمسح أَعلَى الْخُف وأسفله» .
قلت: وَرَوَاهُ الْمُزنِيّ فِي مُخْتَصره أَيْضا وَهُوَ من (الْجَدِيد) .
الحَدِيث الْخَامِس
قَالَ الرَّافِعِيّ: اسْتِيعَاب الْكل لَيْسَ بِسنة «مسح رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلَى خفيه خُطُوطًا من المَاء» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» ، فَإِنَّهُ قَالَ: قصد الِاسْتِيعَاب لَيْسَ بِسنة؛ إِذْ لم ينْقل عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلَّا «أَنه مسح عَلَى الْخُف خُطُوطًا» (وَتبع فِي ذَلِك إِمَامه، فَإِنَّهُ قَالَ فِي «نهايته» : فِي الحَدِيث الصَّحِيح «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مسح عَلَى خفيه خُطُوطًا» ) ، والخطوط إِنَّمَا تكون بالأصابع. وَتبع فِي ذَلِك القَاضِي (حُسَيْنًا) ، فَإِنَّهُ قَالَ: رَوَى حَدِيث عَلّي أَي الَّذِي فِي أبي دَاوُد «كنت أرَى أَن بَاطِن الْقَدَمَيْنِ أَحَق بِالْمَسْحِ من ظاهرهما ... » الحَدِيث، فَحَكَى عَنهُ أَنه قَالَ: وَلَكِنِّي رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يمسح عَلَى (ظهر) الْخُف خُطُوطًا بالأصابع» .(3/28)
وَاعْترض ابْن الصّلاح (عَلَى الإِمَام) فَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : لَيْسَ مَا (ذكره) من الْمسْح خُطُوطًا ثَابتا (فِي الرِّوَايَة) - فِيمَا علمناه - وَلَا وجدنَا لَهُ أصلا فِي كتب الحَدِيث. قَالَ: وَقَول إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح (غير صَحِيح) . وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، رُوِيَ عَن عَلّي مَرْفُوعا، وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: «من السّنة أَن يمسح عَلَى الْخُفَّيْنِ خُطُوطًا بالأصابع» قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِحجَّة؛ لِأَن قَول التَّابِعِيّ: من السّنة (كَذَا) لَا يكون مَرْفُوعا بل (هُوَ) مَوْقُوف عَلَى الصَّحِيح، وَقيل إِنَّه مَرْفُوع مُرْسل. وَقَالَ فِي «تنقيحه» : هَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكره الْغَزالِيّ مَرْوِيّ من حَدِيث عَلّي، وَهُوَ حَدِيث مُنكر لَا يعرف. وَأما قَول إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح. فغلط فَاحش.
(قلت) : انْتَهَى مَا (ذكره) . وَقد ظَفرت بِالْحَدِيثِ من ثَلَاث طرق - بِفضل الله ومنته - الأولَى: من حَدِيث جَابر بن عبد الله (أَنه) قَالَ: «مر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِرَجُل يتَوَضَّأ فَغسل خفيه فنخسه (بِرجلِهِ) وَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا السّنة، أمرنَا بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ هَكَذَا. وأمَرَّ بيدَيْهِ عَلَى خفيه» وَفِي لفظ: «مر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِرَجُل يتَوَضَّأ وَهُوَ يغسل خفيه(3/29)
فنخسه بِيَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أمرنَا بِهَذَا. ثمَّ أرَاهُ بِيَدِهِ من مقدم الْخُفَّيْنِ إِلَى أصل السَّاق مرّة وَفرج بَين أَصَابِعه» .
رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» من حَدِيث بَقِيَّة، عَن جرير بن يزِيد، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر، ثمَّ قَالَ: لَا يرْوَى هَذَا الحَدِيث عَن جَابر إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد.
(قلت: وَجَرِير) هَذَا لَيْسَ بالمشهور، لم يرو عَنهُ غير بَقِيَّة - فِيمَا أعلم.
وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : لَا يعْتَمد عَلَيْهِ لجهالته.
وَرَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» (وَعَزاهُ) إِلَى ابْن مَاجَه، وَلم أره فِي «سنَنه» عَن مُحَمَّد بن (المصفي) ، ثَنَا بَقِيَّة، عَن جرير بن يزِيد، قَالَ: حَدَّثَني مُنْذر، قَالَ: حَدَّثَني مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر قَالَ: «مرّ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِرَجُل يتَوَضَّأ وَيغسل خفيه فَقَالَ بِيَدِهِ - كَأَنَّهُ دَفعه -: إِنَّمَا أمرت بِالْمَسْحِ هَكَذَا (بأطراف) الْأَصَابِع إِلَى أصل السَّاق. وخطط بالأصابع» ، وَلم يعقبه بتصحيح وَلَا تَضْعِيف، وَقَالَ فِي «إِعْلَامه» : إِنَّه حَدِيث الْعَمَل عَلَيْهِ.(3/30)
قلت: وَمُنْذِر هَذَا كَأَنَّهُ ابْن زِيَاد الطَّائِي، وَقد كذبه الفلاس، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك.
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: من حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بَال، ثمَّ جَاءَ حتَّى تَوَضَّأ وَمسح عَلَى خفيه، وَوضع يَده الْيُمْنَى عَلَى خفه الْأَيْمن وَيَده اليُسرى عَلَى خفه الْأَيْسَر، ثمَّ مسح أعلاهما مسحة وَاحِدَة حتَّى (كَأَنِّي) أنظر إِلَى أَصَابِع رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلَى الْخُفَّيْنِ» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «إِمَامه» : رَوَاهُ (أَبُو أُسَامَة) ، عَن الْأَشْعَث، عَن الْحسن، عَن الْمُغيرَة (بِهِ) . قَالَ: وَبَلغنِي (عَن) أبي عَامر الخزاز، عَن الْحسن، عَن الْمُغيرَة: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مسح مَوضِع يَده الْيُمْنَى عَلَى خفه الْأَيْمن وَيَده الْيُسْرَى عَلَى خفه الْأَيْسَر، ثمَّ مسح أعلاهما مسحة وَاحِدَة» .
الطَّرِيقَة الثَّالِثَة: من حَدِيث ابْن عمر، سُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن حَدِيث رَوَاهُ زيد بن أسلم، عَن ابْن عمر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تَوَضَّأ مرّة وَغسل هَكَذَا - قَالَ عبد الله: كَأَنَّهُ يَعْنِي الْمسْح - (يَأْخُذ) مَاء من قبل (عَقِبَيْهِ فَيردهُ) إِلَى أَطْرَاف رجلَيْهِ مَعَ ظهر قَدَمَيْهِ» فَقَالَ فِي «علله» : اخْتلف فِيهِ عَلَى زيد بن أسلم فَرَوَاهُ مرّة عَن ابْن عمر، وَمرَّة عَن أَبِيه، عَن عمر مَرْفُوعا، وَالصَّوَاب: عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن ابْن عَبَّاس.(3/31)
قَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن عمر بن الْخطاب «أَنه مسح عَلَى خفيه (حتَّى) (رئي) آثَار أَصَابِعه عَلَى خفيه خُطُوطًا. قَالَ: و (رئي) آثَار أَصَابِع قيس بن سعد عَلَى الْخُف» .
فَائِدَة أردْت ذكرهَا هُنَا: (رَأَيْت) فِي «أَسمَاء (رُوَاة) الْكتب السِّتَّة وَغَيرهَا» لِابْنِ نقطة الْحَافِظ، بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي دَاوُد، ثَنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن ابْن أبي نجيح، عَن مُجَاهِد، عَن أبي ذَر، قَالَ: «سَأَلت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن كل شَيْء، حتَّى مسح الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: وَاحِدَة» . وَقَالَ سُفْيَان: عَن الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن أبي ذَر مَرْفُوعا نَحوه. قَالَ ابْن أبي حَاتِم: رَاوِيه عَن يُونُس بن أبي حبيب، عَن أبي دَاوُد، سَمِعت ابْن الْجُنَيْد يَقُول: هَذَا أغرب حَدِيث فِي الدُّنْيَا.
الحَدِيث السَّادِس
عَن خُزَيْمَة بن ثَابت رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «رخص رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للْمُسَافِر أَن يمسح ثَلَاثَة (أَيَّام) ولياليهن، وَلَو استزدناه لزادنا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن أبي (عبد الله) الجدلي، عَن خُزَيْمَة بن ثَابت، عَن النَّبِي(3/32)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام وللمقيم يَوْم وَلَيْلَة» . قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ مَنْصُور بن (الْمُعْتَمِر) ، عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ بِإِسْنَادِهِ «وَلَو (استزدناه) لزادنا» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ (أَيْضا) عَن عَمْرو بن مَيْمُون، عَن خُزَيْمَة بن ثَابت قَالَ: «جعل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للْمُسَافِر ثَلَاثَة (أَيَّام) وَلَو مَضَى السَّائِل عَلَى مَسْأَلته لجعلها خمْسا» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث إِبْرَاهِيم أَيْضا، عَن عَمْرو بن مَيْمُون، عَن أبي عبد الله الجدلي، عَن خُزَيْمَة بن ثَابت قَالَ: «جعل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَة أَيَّام للْمُسَافِر وَيَوْما وَلَيْلَة للمقيم، وَلَو مَضَى السَّائِل عَلَى مَسْأَلته لجعلها خمْسا» ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: رخص لنا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن نمسح ثَلَاثًا، وَلَو استزدناه لزادنا» .
وَرُوِيَ أَيْضا هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن عَمْرو، عَن الجدلي، عَن خُزَيْمَة، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَنه سُئِلَ عَن الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: للْمُسَافِر (ثَلَاث) وللمقيم يَوْم(3/33)
(وَلَيْلَة) » ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، قَالَ: وَذكر عَن يَحْيَى بن معِين أَنه صحّح حَدِيث خُزَيْمَة فِي الْمسْح.
قَالَ: وَأَبُو عبد الله الجدلي اسْمه عبد بن عبد، وَيُقَال: عبد الرَّحْمَن بن عبد. قَالَ: وَرَوَى الحكم بن عتيبة وَحَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، عَن أبي عبد الله الجدلي، عَن خُزَيْمَة بن ثَابت، وَلَا يَصح. قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: قَالَ يَحْيَى بن سعيد: قَالَ شُعْبَة: لم يسمع إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ من أبي عبد الله الجدلي حَدِيث الْمسْح، وَقَالَ زَائِدَة، عَن مَنْصُور: كُنَّا فِي حجرَة إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ ومعنا إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، فحدثنا إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن عَمْرو بن مَيْمُون، عَن أبي عبد الله الجدلي، عَن خُزَيْمَة بن ثَابت، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث سَلمَة بن كهيل قَالَ: سَمِعت إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يحدث عَن الْحَارِث بن سُوَيْد، عَن عَمْرو بن مَيْمُون، عَن خُزَيْمَة بن ثَابت، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «ثَلَاثَة أَيَّام - أَحْسبهُ قَالَ: ولياليهن - للْمُسَافِر فِي الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن أبي عبد الله الجدلي، عَن خُزَيْمَة، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَنه سُئِلَ عَن الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَ: ثَلَاثًا للْمُسَافِر، وللمقيم يَوْمًا» (ثمَّ) رَوَاهُ بِزِيَادَة «عَمْرو بن مَيْمُون» بَين التَّيْمِيّ والجدلي، عَن خُزَيْمَة: «أَن(3/34)
أعرابيًّا سَأَلَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن الْمسْح، فَقَالَ: للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن، وللمقيم يَوْم وَلَيْلَة» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بإسقاطه كَمَا أخرجه ابْن حبَان أَولا.
وأعلت هَذِه الطَّرِيقَة وَالَّتِي قبلهَا بعلل:
الأولَى: الِاضْطِرَاب إِسْنَادًا ومتنًا - كَمَا عَلمته - قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب) «السّنَن» و «الْمعرفَة» : إِسْنَاده مُضْطَرب. قَالَ: وَمَعَ ذَلِك فَمَا لم يرد لَا يصير سنة. قَالَ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، فَقَالَ: زعم رجل عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن عَمْرو بن مَيْمُون الأودي، عَن الجدلي، عَن خُزَيْمَة ... فَذكره، ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم فِي قَوْله: «وَلَو سألناه أَن يزيدنا لزادنا) : عَلَى (مَعْنَى) لَو سألناه أَكثر من ذَلِك لقَالَ نعم، (وَإِنَّمَا) الْجَواب عَلَى الْمَسْأَلَة.
وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد: قَالَ أبي: هَذَا الحَدِيث خطأ. قَالَ ذَلِك بعد أَن رَوَاهُ عَن وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن حَمَّاد وَمَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم، عَن الجدلي، عَن خُزَيْمَة فِي مسح الْمُسَافِر والمقيم.
الثَّانِيَة: الِانْقِطَاع، وَذَلِكَ فِي مَوَاضِع: أَحدهَا: بَين إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأبي عبد الله الجدلي، كَمَا أسلفناه عَن شُعْبَة. وَثَانِيها: بَين أبي عبد الله الجدلي وَخُزَيْمَة بن ثَابت، كَمَا سَيَأْتِي عَن البُخَارِيّ. وَثَالِثهَا: بَين إِبْرَاهِيم(3/35)
التَّيْمِيّ وَأبي عبد الله الجدلي، كَمَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن حبَان فَإِنَّهُ سقط بَينهمَا مَا سلف لَك. وَرَابِعهَا: بَين عَمْرو بن مَيْمُون وَخُزَيْمَة، كَمَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه فَإِنَّهُ (أسقط بَينهمَا) الجدلي. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعد أَن نقل عَن شُعْبَة مَا سلف: قَالَ البُخَارِيّ: لَا يعرف للجدلي سَماع من خُزَيْمَة. (و) قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لَا يَصح. وَهُوَ كَمَا نَقله عَنهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي «علله» - وَمِنْهَا نقلت -: سَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ، فَقَالَ: لَا يَصح عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ لَا يعرف لأبي عبد الله الجدلي سَماع من خُزَيْمَة، وَكَانَ شُعْبَة يَقُول: لم يسمع إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ من أبي عبد الله الجدلي حَدِيث الْمسْح، وَحَدِيث عَمْرو بن مَيْمُون عَن أبي عبد الله الجدلي هُوَ أصح وَأحسن. وَذكر عَن يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ: حَدِيث خُزَيْمَة عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَدِيث صَحِيح. ثمَّ سَاقه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الشّعبِيّ عَنهُ، فَقَالَ: نَا الْقَاسِم بن دِينَار، نَا مَالك بن إِسْمَاعِيل، نَا ذوّاد بن عُلبة - بِالْبَاء الْمُوَحدَة - عَن مطرف، عَن الشّعبِيّ، عَن أبي عبد الله الجدلي، عَن خُزَيْمَة بن ثَابت، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ فِي الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ: «ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن (للْمُسَافِر) وَيَوْم للمقيم» ، ثمَّ قَالَ: سَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا رَوَاهُ ذوّاد بن عُلبة، عَن مطرف، عَن الشّعبِيّ، وَلَا أرَى هَذَا الحَدِيث مَحْفُوظًا. و (لم) نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه.(3/36)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وذوّاد بن عُلبة ضَعِيف.
قلت: وَضَعفه أَيْضا ابْن معِين، وَقَالَ البُخَارِيّ: يُخَالف فِي بعض حَدِيثه. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بالمتين ذهب حَدِيثه. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن نمير: كَانَ شَيخا صَالحا (صَدُوقًا) وَقَالَ مُوسَى بن دَاوُد الضَّبِّيّ: (نَا ذواد) وَأَثْنَى عَلَيْهِ خيرا. قَالَ ابْن عدي: وَهُوَ فِي جملَة الضُّعَفَاء مِمَّن يكْتب حَدِيثه.
الْعلَّة الثَّالِثَة: الطعْن فِي أبي عبد الله الجدلي نَفسه، قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد بن حزم الظَّاهِرِيّ فِي «محلاه» : رُوِيَ عَن مَالك إجَازَة الْمسْح للمقيم، وَلَا (يرَى) التَّوْقِيت لَا للمقيم وَلَا للْمُسَافِر، وَإِنَّمَا يمسحان أبدا مَا لم يجنبا، وَتعلق (مقلدوه) فِي ذَلِك بأخبار سَاقِطَة وَلَا تصح. ثمَّ ذكر هَذَا الحَدِيث مِنْهَا، وَقَالَ أَبُو عبد الله الجدلي: صَاحب (راية) الْمُخْتَار الْكَافِر، لَا يعْتَمد عَلَى رِوَايَته.
وَشرع الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي يُجيب فِي (إِمَامه) عَن هَذِه الْعِلَل فَقَالَ: قد صحّح التِّرْمِذِيّ طَرِيق إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن (عَمْرو) ،(3/37)
عَن الجدلي، عَن خُزَيْمَة، وَنقل عَن يَحْيَى بن معِين أَنه صحّح حَدِيث خُزَيْمَة فِي الْمسْح، قَالَ: وَطَرِيق هَذَا أَن يُعلل طَرِيق إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ بالانقطاع كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيّ: إِن الحكم وَحَمَّاد روياه عَن النَّخعِيّ، عَن الجدلي، عَن خُزَيْمَة ... إِلَى آخر الْحِكَايَة السالفة.
(قَالَ:) وَالرِّوَايَات متظافرة (متكاثرة) بِرِوَايَة التَّيْمِيّ (لَهُ) ، عَن عَمْرو بن مَيْمُون، عَن الجدلي، عَن خُزَيْمَة (بِهِ) وَأما من أسقط عمرا من الْإِسْنَاد فَالْحكم لمن زَاده؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة عدل، لَا سِيمَا وَقد انْضَمَّ إِلَيْهِ الْكَثْرَة من (الروَاة) (واتفاقهم) عَلَى هَذَا دون من (أسْقطه) ، وَأما زِيَادَة الْحَارِث بن سُوَيْد، وَإِسْقَاط الجدلي، (فَيُقَال) فِي إِسْقَاطه مَا سلف فِي الَّذِي قبله، وَأما زِيَادَة الْحَارِث، فَمُقْتَضَى الْمَشْهُور من أَفعَال الْمُحدثين، وَالْأَكْثَر أَن يحكم بهَا [وَيجْعَل] مُنْقَطِعًا فِيمَا بَين إِبْرَاهِيم وَعَمْرو بن مَيْمُون؛ لِأَن الظَّاهِر أَن الْإِنْسَان لَا يروي حَدِيثا عَن رجل عَن ثَالِث، وَقد رَوَاهُ هُوَ عَن ذَلِك الثَّالِث لقدرته عَلَى إِسْقَاط الْوَاسِطَة، لَكِن إِذا عَارض هَذَا الظَّاهِر دَلِيل أَقْوَى مِنْهُ عمل بِهِ، كَمَا فعل فِي أَحَادِيث (حكم) فِيهَا بِأَن الرَّاوِي علا وَنزل فِي الحَدِيث(3/38)
الْوَاحِد، فَرَوَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَلَعَلَّ إِبْرَاهِيم سَمعه من عَمْرو وَمن الْحَارِث - فَإِنَّهُ صرح فِي الْحِكَايَة السالفة أَنه حدث عَن عَمْرو، وَصرح فِي إِسْنَاد ابْن مَاجَه أَنه حدث عَن الْحَارِث - وَوجه آخر عَلَى طَريقَة الْفِقْه: وَهُوَ أَن يُقَال: إِن كَانَ مُتَّصِلا فِيمَا بَين التَّيْمِيّ وَعَمْرو بن مَيْمُون فَذَاك، وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا فقد بَين أَن الْوَاسِطَة بَينهمَا الْحَارِث بن سُوَيْد وَهُوَ من أكَابِر الثِّقَات. وَأما الْجَواب عَن قَول البُخَارِيّ: (إِنَّه) لَا يعرف لأبي عبد الله الجدلي سَماع من خُزَيْمَة. فَلَعَلَّ هَذَا بِنَاء عَلَى مَا حُكيَ عَن بَعضهم أَنه يشْتَرط فِي الِاتِّصَال أَن يثبت السماع للرواي (من) الْمَرْوِيّ عَنهُ وَلَو مرّة. هَذَا أَو مَعْنَاهُ، وَقيل: إِنَّه مَذْهَب البُخَارِيّ، وَقد أطنب مُسلم فِي الرَّد لهَذِهِ الْمقَالة، وَاكْتَفَى بِإِمْكَان اللِّقَاء، وَذكر فِي ذَلِك شَوَاهِد. وَأما الْجَواب عَن قَول ابْن حزم فِي أبي عبد الله الجدلي فَلم يقْدَح (فِيهِ) أحد من الْمُتَقَدِّمين، وَلَا قَالَ فِيهِ مَا قَالَ ابْن حزم - فِيمَا علمناه - وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَيَحْيَى، وهما هما، وَصحح التِّرْمِذِيّ وَكَذَا ابْن حبَان حَدِيثه. وَمَا اعتل بِهِ من كَونه صَاحب راية الْمُخْتَار الْكَافِر، فقد ذكر مثل ذَلِك فِي أبي الطُّفَيْل، وَقد رَأَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَأجِيب عَنهُ بِأَن الْمُخْتَار أظهر أَولا فِي خُرُوجه الْقيام بثأر الْحُسَيْن فَكَانَ مَعَه من كَانَ، وَمَا كَانَ يَقُوله من غير هَذَا فَلَعَلَّهُ لم يطلع عَلَيْهِ أَبُو الطُّفَيْل وَلَا علمه، وَهَذَا مطرد فِي الجدلي.
قلت: وَقد تَابعه عَمْرو بن مَيْمُون كَمَا سلف عَن رِوَايَة ابْن مَاجَه إِن لم يكن سقط بَينهمَا الجدلي.(3/39)
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة، عَن حَدِيث رَوَاهُ سعيد بن مَسْرُوق وَسَلَمَة بن كهيل وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر و (الْحسن بن عبيد الله) ، كلهم يروي عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن عَمْرو بن مَيْمُون، عَن الجدلي، عَن خُزَيْمَة، عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَرَوَاهُ الحكم بن عتيبة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَبُو معشر وَشُعَيْب بن الحبحاب والْحَارث العكلي، عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، عَن أبي عبد الله الجدلي، (عَن خُزَيْمَة، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لَا يَقُولُونَ عَمْرو بن مَيْمُون. قَالَ أَبُو زرْعَة) : الصَّحِيح من حَدِيث التَّيْمِيّ، عَن عَمْرو الجدلي، عَن خُزَيْمَة مَرْفُوعا، وَالصَّحِيح من حَدِيث النَّخعِيّ، عَن الجدلي بِلَا عَمْرو بن مَيْمُون. قَالَ أبي: عَن مَنْصُور مُخْتَلف (جرير) الضَّبِّيّ وَأَبُو عبد الصَّمد يحدثان بِهِ، يَقُولَانِ: عَن التَّيْمِيّ، عَن عَمْرو، عَن الجدلي، عَن خُزَيْمَة، وَأَبُو الْأَحْوَص يحدث بِهِ، لَا يَقُول فِيهِ: عَمْرو بن مَيْمُون. هَذَا آخر كَلَامه.
وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : الِاتِّفَاق عَلَى ضعف الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَضَعفه من الِاضْطِرَاب والانقطاع. وَقد عرفت ذَلِك(3/40)
وَمَا أُجِيب بِهِ مَعَ تَصْحِيح ابْن حبَان لَهُ وَتَصْحِيح التِّرْمِذِيّ الرِّوَايَة المختصرة، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
الحَدِيث السَّابِع
عَن (أبي بن) عمَارَة رَضي اللهُ عَنهُ - وَكَانَ مِمَّن صَلَّى إِلَى الْقبْلَتَيْنِ - قلت: «يَا رَسُول الله، أَمسَح عَلَى الْخُف؟ قَالَ: نعم. قلت: يَوْمًا. قَالَ: نعم ويومين. قلت: وَثَلَاثَة؟ قَالَ: نعم وَمَا شِئْت» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمَا» .
أما أَبُو دَاوُد فَرَوَاهُ من حَدِيث يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عبد الرَّحْمَن بن رزين، عَن مُحَمَّد بن يزِيد، عَن أَيُّوب (بن) قطن، عَن أبي بن عمَارَة - وَكَانَ قد صَلَّى مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الْقبْلَتَيْنِ - أَنه قَالَ: «يَا رَسُول الله، أَمسَح عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: يَوْمًا؟ قَالَ: ويومين. قَالَ: وَثَلَاثَة؟ قَالَ: نعم وَمَا شِئْت» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ ابْن أبي مَرْيَم الْمصْرِيّ، عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عبد الرَّحْمَن بن (يزِيد) ، عَن مُحَمَّد بن يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن عبَادَة بن نسي، عَن أبي بن (عمَارَة) قَالَ فِيهِ: «حتَّى بلغ سبعا، قَالَ(3/41)
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: نعم، وَمَا بدا لَك» .
وَأما ابْن مَاجَه فَرَوَاهُ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد ثَانِيًا، وَاللَّفْظ أَيْضا، وَمن هَذَا الْوَجْه (رَوَاهُ) الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، بِشَهَادَة غير وَاحِد من الْحفاظ لَهُ بذلك.
قَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : هَذَا الحَدِيث اخْتلف فِي إِسْنَاده وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (وَبِمَعْنَاهُ) قَالَ البُخَارِيّ، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: رِجَاله لايعرفون. نَقله عَنهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» (وَعلله) وَصَاحب «الإِمَام» ، وَنَقله عَنهُ أَيْضا أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي، فَقَالَ: سَأَلت أَحْمد عَنهُ: أَتُحِبُّ الْعَمَل بِهِ؟ فَقَالَ: رِجَاله لَا يعْرفُونَ. وَقَالَ: لست أعْتَمد عَلَى إِسْنَاد خَبره. وَسَيَأْتِي مناظرته مَعَه فِي ذَلِك، وَقَالَ الْأَزْدِيّ: فِيهِ نظر متْنا وإسنادًا، وَهُوَ حَدِيث لَيْسَ بالقائم.
وَقَالَ ابْن حبَان فِي «ثقاته» : أبي بن عمَارَة الْأنْصَارِيّ لست أعْتَمد عَلَى إِسْنَاد خَبره. ثمَّ سَاقه من حَدِيث يَحْيَى، عَن (عبد الله) بن رزين، عَن مُحَمَّد بن يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن أَيُّوب بن قطن، عَن عبَادَة، عَن أبي: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى فِي بَيته قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله، أَمسَح(3/42)
عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: نعم. قلت: يَوْمًا؟ قَالَ: ويومين. قلت: وَثَلَاثَة؟ قَالَ: نعم، وَمَا بدا لَك» .
قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي «محلاه» : فِيهِ يَحْيَى بن أَيُّوب، وَآخر كُوفِي، وأُخر مَجْهُولُونَ.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان أَيْضا: علته أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة مَجْهُولُونَ، (قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ) . قَالَ: وَقَالَ الْموصِلِي أَيْضا: أَيُّوب بن قطن مَجْهُول، وَذكر حَدِيثه هَذَا وَالِاخْتِلَاف فِيهِ، وَقَالَ: كل لَا يَصح.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَمُحَمّد بن يزِيد هُوَ ابْن أبي زِيَاد صَاحب حَدِيث الصُّور، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم: مَجْهُول. وَعبد الرَّحْمَن بن رزين أَيْضا لَا يعرف لَهُ حَال فَهُوَ مَجْهُول. قَالَ: وَيَحْيَى بن أَيُّوب مُخْتَلف فِيهِ، وَهُوَ مِمَّن عيب عَلَى مُسلم إِخْرَاج حَدِيثه.
قلت: أما يَحْيَى بن أَيُّوب، فدعوى جهالته لَيست (بجيدة) فقد احْتج بِهِ مُسلم، وقرنه البُخَارِيّ، وَرَوَى عَنهُ جمَاعَة من الْأَئِمَّة: كالليث وَأَشْهَب وَغَيرهمَا، قَالَ ابْن معِين: ثِقَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَول ابْن حزم إِنَّه كُوفِي، (وهم) فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ مصري قَاضِي مصر.(3/43)
وَأما عبد الرَّحْمَن بن رزين: فروَى عَن جمَاعَة، وَعنهُ العطاف بن خَالِد، وَيَحْيَى بن أَيُّوب الْبَصْرِيّ، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ خَارج الصَّحِيح فِي الْأَدَب، وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وَعَن ابْن حبَان أَنه قَالَ فِي «ثقاته» فِي حَقه: عداده فِي أهل الشَّام.
وَأما مُحَمَّد بن يزِيد فروَى عَنهُ جمَاعَة، وَقَالَ ابْن يُونُس: كُوفِي قدم مصر، وَكَانَ يُجَالس يزِيد بن أبي حبيب، رَوَى لَهُ (د ت ق) .
وَأما أَيُّوب بن قطن فَلَا أعلم لَهُ حَالا، وأعل الحَدِيث بِوَجْه آخر، وَهُوَ الِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا الْإِسْنَاد لَا يثبت، وَقد اخْتلف فِيهِ عَلَى يَحْيَى بن أَيُّوب اخْتِلَافا كثيرا قد (بَينته) فِي مَوضِع آخر، قَالَ: وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد، وَأَيوب بن قطن مَجْهُولُونَ كلهم.
قَالَ ابْن الْقطَّان (ثمَّ) صَاحب «الإِمَام» : وَهَذَا الِاخْتِلَاف الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُوَ أَنه ورد عَن يَحْيَى بن أَيُّوب عَلَى وُجُوه: مِنْهَا: عَنهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن رزين،(3/44)
عَن مُحَمَّد بن يزِيد، عَن أَيُّوب (بن) قطن، عَن أبي بن عمَارَة. وَمِنْهَا: (عَنهُ) عَن عبد الرَّحْمَن بن رزين، عَن مُحَمَّد بن يزِيد، عَن عبَادَة بن نسي، عَن أبي بن عمَارَة. وَمِنْهَا: عَن عبد الرَّحْمَن بن (زرين) ، عَن مُحَمَّد (بن) يزِيد، عَن أَيُّوب بن قطن، عَن عبَادَة بن نسي، عَن أبي بن عمَارَة (وَمِنْهَا: عَنهُ هَكَذَا إِلَى عبَادَة بن نُسي من غير ذكر أبي بن عمَارَة) وَلَكِن يُرْسِلهُ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَمِنْهَا: عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عبد الرَّحْمَن، (عَن) مُحَمَّد، عَن وهب بن قطن، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ذكر ابْن الْقطَّان أَن ابْن السكن أَشَارَ إِلَيْهِ، وَلم يُوصل بِهِ إِسْنَادًا، وَإِنَّمَا قَالَ: وَيُقَال عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عبد الرَّحْمَن، عَن مُحَمَّد (عَن وهب) بن قطن، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وَبَين بعضه ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «الْإِعْلَام فِي نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه» : هَذَا حَدِيث مُضْطَرب، اخْتلف فِيهِ عَلَى يَحْيَى بن أَيُّوب، وَبَعْضهمْ يَقُول: عَن (ابْن) عمَارَة، وَبَعْضهمْ يَقُول: عَن أبي بن عمَارَة.
وَقَالَ أَبُو زرْعَة عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الدِّمَشْقِي النصري - بالنُّون - (فِي «تَارِيخه» ) : سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: حَدِيث أبي بن عمَارَة لَيْسَ بِمَعْرُوف الْإِسْنَاد. ثمَّ قَالَ أَبُو زرْعَة: فناظرت أَبَا عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل فِي حَدِيثه عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْنِي حَدِيث (أبي بن) عمَارَة - فَلم (يقنع) بِهِ.(3/45)
قلت (لَهُ) : فَحَدِيث عَطاء بن يسَار، عَن مَيْمُونَة حدثت بِهِ أَبَا عبد الله - أَعنِي فِي الْمسْح أَيْضا - قَالَ: ذَلِك من كتاب. قَالَ أَبُو زرْعَة: قلت لأبي عبد الله: (فَإلَى) أَي شَيْء ذهب أهل الْمَدِينَة فِي الْمسْح أَكثر من ثَلَاث وَيَوْم وَلَيْلَة؟ قَالَ: لَهُم فِيهِ أثر. وَقَالَ لي أَبُو عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل: حَدِيث خُزَيْمَة (مِمَّا لَعَلَّه) يدل عَلَى مَعْنَى حجَّة لَهُم قَوْله: «وَلَو استزدته لزادني» .
و (ضعف) هَذَا الحَدِيث من الْمُتَأَخِّرين الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي فَقَالَ: رَوَى مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة التَّمِيمِي عَن البُخَارِيّ قَالَ: يُقَال: لأبي بن عمَارَة صُحْبَة، لَا يَصح حَدِيثه فِي الْمسْح، إِسْنَاده مَجْهُول، وَلَيْسَ يرْوَى عَنهُ غير هَذَا الحَدِيث.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا (حَدِيث) لَا يَصح. وَقَالَ فِي «الْإِعْلَام» : مُضْطَرب - كَمَا أسلفناه - وَضَعفه أَيْضا فِي «تَحْقِيقه» وَقَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا حَدِيث ضَعِيف. وَأبي بن عمَارَة قيل: لم يثبت لَهُ ذكر فِي الصَّحَابَة، وَلذَلِك لم يذكرهُ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه الْكَبِير» ، و (نقل) النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَغَيره الِاتِّفَاق عَلَى ضعفه واضطرابه، وَأَنه لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَخَالف هَؤُلَاءِ كلهم الْحَاكِم أَبُو عبد الله فَأخْرج الحَدِيث فِي(3/46)
«مُسْتَدْركه» بِسَنَد أبي دَاوُد الثَّانِي وَلَفظه الأول، لكنه قَالَ: «عبد الرَّحْمَن بن رزين» بدل «يزِيد» ثمَّ قَالَ: أبي بن عمَارَة صَحَابِيّ مَعْرُوف، وَهَذَا إِسْنَاد مصري لم ينْسب وَاحِد مِنْهُم إِلَى جرح.
قلت: لَكِن نسبوا إِلَى الْجَهَالَة كَمَا مرّ لَك، قَالَ: وَإِلَى هَذَا ذهب مَالك، وَلم يخرجَاهُ.
قلت: (عُذْرهمَا) لائح فِي عدم تَخْرِيجه، وَهُوَ الْجَهَالَة السالفة، وغلا ابْن بدر الْموصِلِي فَذكر هَذَا الحَدِيث فِي «مَوْضُوعَاته» وَهَذَا تبَاين عَظِيم بَينه وَبَين الْحَاكِم، ثمَّ رَأَيْت لَهُ فِي ذَلِك سلفا وَهُوَ الجورقاني فَإِنَّهُ ذكره فِي «مَوْضُوعَاته» وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث مُنكر. ثمَّ أعله بِجَهَالَة من سلف، وَالصَّوَاب (أَن) لَا يذكر هَذَا فِي الموضوعات بل فِي الضُّعَفَاء.
وَقَالَ الْحَاكِم: إِن أبي بن عمَارَة صَحَابِيّ مَعْرُوف، قد (أنكرهُ) بعض الْعلمَاء.
قَالَ أَبُو عمر: واضطرب حَدِيثه، وَلم يذكرهُ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه الْكَبِير» لأَنهم يَقُولُونَ إِنَّه خطأ، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو أبي بن أم حرَام و (اسْمه) عبد الله.
وَقَالَ (أَبُو) حَاتِم: من قَالَ أبي بن عمَارَة أَخطَأ، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو أبي واسْمه: عبد الله بن عَمْرو بن أم حرَام.(3/47)
قلت: وَعمارَة (أَيْضا) اخْتلف فِي (صحبته) ، وَالْأَشْهر كسر عينه، وَبِه جزم ابْن مَاكُولَا وَآخَرُونَ، وَقَالَ صَاحب «الإِمَام» : إِنَّه الْمَعْرُوف فِيهِ. وَحَكَى أَبُو عمر، وَالْبَيْهَقِيّ، وَعبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي الضَّم أَيْضا، وكل من حَكَاهُ قَالَ: الْكسر أشهر وَأكْثر، إِلَّا أَن أَبَا عمر قَالَ: (الْأَكْثَرُونَ عَلَى الضَّم) ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنه لَيْسَ فِي الْأَسْمَاء (عمَارَة - بِالْكَسْرِ - غَيره) .
الحَدِيث الثَّامِن
عَن عَلّي بن أبي طَالب رَضي اللهُ عَنهُ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنه جعل الْمسْح ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن للْمُسَافِر وَيَوْما وَلَيْلَة للمقيم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ، من حَدِيث شُرَيْح بن هَانِئ، قَالَ: «أتيت عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها أسألها عَن الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَت: عَلَيْك بِابْن أبي طَالب فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافر مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: جعل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن للْمُسَافِر وَيَوْما وَلَيْلَة للمقيم» .(3/48)
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِأَلْفَاظ:
أَحدهَا: عَن شُرَيْح، عَن عَلّي، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ قَالَ: «للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن وللمقيم (يَوْم) وَلَيْلَة» .
(ثَانِيهَا بِهِ) : «رخص لنا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَة أَيَّام للْمُسَافِر وَيَوْما وَلَيْلَة (للحاضر) » .
ثَالِثهَا: عَن شُرَيْح قَالَ: « (سَأَلت) عليًّا عَن الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: رخص لنا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَر يَوْمًا وَلَيْلَة، وللمسافر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن» .
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثرا وَاحِدًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كَيْفيَّة الْمسْح: وَالْأولَى أَن يضع كَفه الْيُسْرَى تَحت الْعقب واليمنى عَلَى ظُهُور الْأَصَابِع، و (يُمر) الْيُسْرَى (إِلَى) أَطْرَاف الْأَصَابِع من أَسْفَل واليمنى إِلَى السَّاق، وتروى هَذِه الْكَيْفِيَّة عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ وَلَا يحضرني من رَوَاهُ عَنهُ(3/49)
هَكَذَا، وَالَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ عَنهُ «أَنه كَانَ يمسح أَعلَى الْخُف وأسفله» كَمَا (أسلفته) فِي آخر الحَدِيث الرَّابِع.
خَاتِمَة رَأَيْت أَن أختم بهَا الْبَاب: اعْلَم أَن الرَّافِعِيّ لما صدر الْبَاب بِحَدِيث أبي بكرَة، وَصَفوَان قَالَ: وَالْأَحَادِيث فِي بَاب (الْمسْح) كَثِيرَة. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد رَوَاهُ (الجم) الْغَفِير مِنْهُم.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَيْسَ فِي قلبِي مِنْهُ شَيْء فَفِيهِ أَرْبَعُونَ حَدِيثا عَن أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (مَا رفعوا) إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَمَا وقفُوا.
وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ عَنهُ: فِيهِ سَبْعَة وَثَلَاثُونَ صحابيًّا. وَرَوَى الْحسن بن مُحَمَّد عَنهُ كَالْأولِ، وَكَذَا قَالَ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» .
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: فِيهِ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ.
وَقَالَ أَبُو عمر: (وَرَوَاهُ) عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَحْو أَرْبَعِينَ مِنْهُم، وَأَنه استفاض وتواتر.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَني سَبْعُونَ من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يمسح عَلَى الْخُفَّيْنِ» وَعبارَة الْمَاوَرْدِيّ: حَدَّثَني سَبْعُونَ بدريًّا. قَالَ: وَأَرَادَ أَنه سمع ذَلِك عَن بَعضهم؛ لِأَنَّهُ لم يدْرك سبعين بدريًّا.(3/50)
وَذكر (ذَلِك) إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش قَالَ: ثَنَا سُفْيَان الثَّوْريّ، قَالَ: مسح رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَأَبُو بكر الصّديق، وَعمر بن الْخطاب، وَعُثْمَان بن عَفَّان، وَعلي بن أبي طَالب، وَسعد بن أبي وَقاص، وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح، وَأَبُو الدَّرْدَاء، وَزيد بن ثَابت، وَقيس بن سعد بن عبَادَة، وَابْن عَبَّاس، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان، وَعبد الله بن مَسْعُود، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَأَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ، وَخُزَيْمَة بن ثَابت، والبراء بن عَازِب، وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، وَأنس بن مَالك، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، والمغيرة بن شُعْبَة، وَصَفوَان بن عَسَّال، وفضالة بن عبيد الْأنْصَارِيّ، وَجَرِير بن عبد الله البَجلِيّ.
وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: وَمِمَّنْ روينَا عَنهُ الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنه أَمر بِالْمَسْحِ عَلَيْهِمَا فِي السّفر والحضر بالطرق الحسان فِي مصنفي بن أبي شيبَة وَعبد الرَّزَّاق. فَذكر جمَاعَة مِمَّن ذكرنَا (عَن سُفْيَان) ، وَزَاد وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف (وَابْن عمر، وسلمان، وبلال، وَعَمْرو بن أُميَّة، وَعبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء الزبيدِيّ) وعمار، وَسَهل بن سعد، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَلم يرو عَن غَيرهم مِنْهُم خلاف إِلَّا الشَّيْء الَّذِي لَا يثبت عَن عَائِشَة، وَابْن عَبَّاس، وَأبي هُرَيْرَة. قلت: قَالَ أَحْمد فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: إِنَّه بَاطِل لَا يَصح. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: فِي الْبَاب (عَن) جماعات، فَذكر جمَاعَة مِمَّن ذكرهم سُفْيَان وَأَبُو عمر، وَزَاد:(3/51)
وَبُرَيْدَة، ويعلى بن مرّة، وَعبادَة بن الصَّامِت، وَأُسَامَة بن (شريك) وَأَبا أُمَامَة، وجابرًا يَعْنِي ابْن عبد الله، وَأُسَامَة بن زيد.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : روينَا جَوَاز الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ عَن جماعات. فعددهم، وتداخل بَعضهم فِيمَا ذَكرْنَاهُ عَن سُفْيَان، وَالتِّرْمِذِيّ، وَأبي عمر، وَزَاد: وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَجَابِر بن سَمُرَة، وَأَبا زيد الْأنْصَارِيّ.
قلت: وَرَوَاهُ أَيْضا أبي بن عمَارَة كَمَا سلف قَرِيبا، وثوبان رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَعبد الله بن رَوَاحَة رَوَاهُ تَمام الرَّازِيّ فِي «فَوَائده» وَمُسلم [أَبُو] عَوْسَجَة رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» ، وَعَائِشَة رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَأم سعد الْأَنْصَارِيَّة، رَوَاهُ ابْن مَنْدَه فِي «معرفَة الصَّحَابَة» ، وَبُدَيْل بن وَرْقَاء، رَوَاهُ العسكري فِي «الصَّحَابَة» و [أَبُو] طَلْحَة رَوَاهُ الخرائطي فِي «مَكَارِم الْأَخْلَاق» ، وَمَالك بن سعد رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «الْمعرفَة» أَيْضا، وَقَالَ: مَجْهُول. وَأَوْس بن أَوْس رَوَاهُ أَحْمد، وَطَلْحَة بن عبيد الله، وَالزبير بن الْعَوام، وَسَعِيد بن زيد، وَعبد الله بن (مُغفل) ، وعامر بن ربيعَة، وعَوْف بن مَالك، وَعَمْرو بن حزم،(3/52)
وعصمة بن مَالك، و (أَبُو) ذَر الْغِفَارِيّ، (و) ربيعَة بن كَعْب، وَرَافِع بن خديج، وخَالِد بن عرفطة، و (أَبُو) سعيد الْخُدْرِيّ، وَأبي بن كَعْب، وَسمرَة بن جُنْدُب، وَالْعَبِيد، وشبيب بن غَالب (الْكِنْدِيّ) ، وفروة بن مسيك، وَمَالك بن قهطم، وَمَالك بن ربيعَة، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، ومعاذ بن جبل، وَبشر بن سعيد، و (أَبُو) بكرَة، و (أَبُو) ثَوْر، و (أَبُو) جُحَيْفَة، ويسار، ومَيْمُونَة، أَفَادَ ذَلِك ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» ، فَاجْتمع من كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة (وَمِمَّا زِدْته) أَنه رَوَاهُ ثَمَانُون صحابيًّا، وَللَّه الْحَمد عَلَى ذَلِك وَعَلَى جَمِيع نعمه فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات.
وَيُسْتَفَاد مِمَّا ذكرنَا فَائِدَة جليلة: وَهِي أَن الْمسْح رَوَاهُ من جملَة الصَّحَابَة الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، وَقد اجْتمع ذَلِك أَيْضا فِي رفع الْيَدَيْنِ كَمَا ستعلمه فِي بَابه، وَنقل النَّوَوِيّ فِي أَوَائِل «شَرحه لمُسلم» فِي كَلَامه عَلَى حَدِيث: «من كذب عَلّي مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار» أَن بَعضهم ذكر أَنه رُوِيَ عَن اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ صحابيًّا وَمِنْهُم الْعشْرَة، وَأَنه لَا يعرف حَدِيث اجْتمع عَلَى رِوَايَته إِلَّا هَذَا، (وَلَا حَدِيث رَوَاهُ أَكثر من سِتِّينَ صحابيًّا إِلَّا هَذَا) ، وَقد علمت أَن حَدِيث الْمسْح رَوَاهُ أَكثر من(3/53)
هَذَا الْعدَد مَعَ الْعشْرَة، وستعلم مَا فِي (حَدِيث) رفع الْيَدَيْنِ (فِي بَابه) إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(آخر الْجُزْء الْخَامِس عشر يتلوه: بَاب الْحيض، والجزء السَّادِس عشر) .(3/54)
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا)
بَاب الْحيض
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا. أما الْأَحَادِيث فستة (وَعِشْرُونَ) حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «تمكث إحداكن شطر دهرها لَا تصلي» .
هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ غَرِيب جدًّا، وَقد نَص غير وَاحِد من الْحفاظ عَلَى أَنه لَا يعرف لَهُ أصل.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه - فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ صَاحب (الإِمَام) -: ذكر بَعضهم عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنه قَالَ: «تمكث نصف (دهرها) لَا تصلي» وَلَا يثبت هَذَا بِوَجْه من الْوُجُوه عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : الَّذِي يذكرهُ بعض فقهائنا فِي هَذِه(3/55)
الرِّوَايَة: «شطر عمرها - أَو شطر دهرها - لَا تصلي» فقد طلبته كثيرا فَلم أَجِدهُ فِي شَيْء من كتب أَصْحَاب الحَدِيث، (وَلم) أجد لَهُ إِسْنَادًا بِحَال.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : هَذَا لفظ ذكره أَصْحَابنَا وَلَا أعرفهُ.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي الْقطعَة الَّتِي لَهُ عَلَى الْمُهَذّب: هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ لم يُوجد لَهُ إِسْنَاد بِحَال.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي «مهذبه» : لم أَجِدهُ بِهَذَا اللَّفْظ إِلَّا فِي كتب الْفُقَهَاء.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» لَهُ: هَذَا حَدِيث بَاطِل لَا يعرف. وَقَالَ فِي «خلاصته» : إِنَّه بَاطِل لَا أصل لَهُ.
قلت: وَأما مَا ذكره ابْن تَيْمِية فِي «شرح الْهِدَايَة» لأبي الْخطاب عَن القَاضِي أبي يعْلى: ذكر عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم البستي فِي «سنَنه» أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «تمكث إِحْدَاهُنَّ شطر دهرها لَا تصلي» . (و) عبد الرَّحْمَن لَيْسَ (لَهُ سنَن) وسننه الَّتِي عزاهُ إِلَيْهَا لم نقف عَلَيْهَا بل وَلَا سمعنَا بهَا، فَالله أعلم.
وَلَفظ الحَدِيث فِي الصَّحِيح: «أَلَيْسَ إِذا حَاضَت لم تصلِّ وَلم تصم فَذَلِك من نُقْصَان دينهَا» رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أبي سعيد، وَرَوَاهُ(3/56)
مُسلم من (حَدِيثه وَحَدِيث ابْن عمر وَلَفظه فِي) حَدِيث ابْن عمر: «وتمكث اللَّيَالِي مَا تصلي وتفطر فِي (شهر) رَمَضَان فَهَذَا نُقْصَان الدَّين» .
رَوَاهُ مُسلم أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِمثلِهِ، وَانْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ من طَرِيقه وَمن طَرِيق ابْن عمر.
وَوَقع فِي «جَامع المسانيد» لِلْحَافِظِ أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ أَن البُخَارِيّ انْفَرد بِإِخْرَاج حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَهُوَ من طغيان الْقَلَم، وَصَوَابه: أَن مُسلما انْفَرد بِهِ، وَمِمَّا يُؤَكد هَذَا أَنه سَاقه بِسَنَد مُسلم.
الحَدِيث الثَّانِي
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تحيضي فِي علم الله سِتا أَو سبعا كَمَا تحيض النِّسَاء ويطهرن» .
هَذَا الحَدِيث أصل عَظِيم فِي الْبَاب، وَعَلِيهِ مَدَاره، وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل، وَقد ذكر مِنْهُ قِطْعَة الرَّافِعِيّ بعد هَذَا، فنذكره بِتَمَامِهِ، فَنَقُول: رَوَى الْأَئِمَّة الشَّافِعِي وَأحمد فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَالْحَاكِم(3/57)
أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» وَالْبَيْهَقِيّ فِي (كِتَابيه) «الْمعرفَة» و «السّنَن» من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عَقيل - بِفَتْح الْعين - عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة، عَن عَمه عمرَان بن طَلْحَة، عَن أمه حمْنَة بنت جحش رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كنت أسْتَحَاض حَيْضَة كَبِيرَة شَدِيدَة، فَأتيت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أستفتيه وَأخْبرهُ، فَوَجَدته فِي بَيت أُخْتِي زَيْنَب بنت جحش، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسْتَحَاض حَيْضَة كَثِيرَة (شَدِيدَة) فَمَا تَأْمُرنِي فِيهَا؟ قد منعتني الصَّوْم وَالصَّلَاة. قَالَ: أَنعَت لَك الكرسف، فَإِنَّهُ يذهب الدَّم. قَالَت: هُوَ أَكثر من ذَلِك؟ (قَالَ: فتلجمي. قَالَت: هُوَ أَكثر من ذَلِك؟ قَالَ: فاتخذي خرقًا. قَالَت: هُوَ أَكثر من ذَلِك) إِنَّمَا أثج ثجًّا. فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: سآمرك بأمرين، أَيهمَا صنعت أَجْزَأَ عَنْك، فَإِن قويت عَلَيْهِمَا فَأَنت أعلم، فَقَالَ: إِنَّمَا (هِيَ) ركضة من الشَّيْطَان فتحيضي سِتَّة أَيَّام أَو سَبْعَة أَيَّام فِي علم الله، ثمَّ اغْتَسِلِي، فَإِذا رَأَيْت أَنَّك قد طهرت واستنقأت فَصلي (أَرْبعا) وَعشْرين لَيْلَة أَو ثَلَاثًا وَعشْرين لَيْلَة وأيامها فصومي وَصلي فَإِن ذَلِك يجزئك، وَكَذَلِكَ فافعلي كَمَا تحيض النِّسَاء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن، وَإِن(3/58)
قويت عَلَى أَن تؤخري الظّهْر و (تعجلِي) الْعَصْر ثمَّ تغتسلين حتَّى تطهرين، وتصلين الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا، ثمَّ تؤخرين الْمغرب وتعجلين الْعشَاء، ثمَّ تغتسلين وتجمعين بَين الصَّلَاتَيْنِ فافعلي، ثمَّ تغتسلين مَعَ الصُّبْح وتصلين، وَكَذَلِكَ فافعلي وصومي إِن قويت عَلَى ذَلِك، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: « (هُوَ) أعجب الْأَمريْنِ إليّ» هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ.
وَلَفظ البَاقِينَ بِنَحْوِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث (حسن) . قَالَ: وَرَوَاهُ عبيد الله بن (عَمْرو) الرقي وَابْن جريج وَشريك، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة، عَن عَمه عمرَان، عَن أمه حمْنَة إِلَّا أَن ابْن جريج يَقُول: عمر بن طَلْحَة. وَالصَّحِيح: عمرَان بن طَلْحَة. قَالَ: وسالت مُحَمَّدًا - يَعْنِي البُخَارِيّ - عَنهُ فَقَالَ: (هُوَ) حَدِيث (حسن) . قَالَ: وَهَكَذَا قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هُوَ حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : قد اتّفق الشَّيْخَانِ - يَعْنِي البُخَارِيّ وَمُسلمًا - عَلَى إِخْرَاج حَدِيث الْمُسْتَحَاضَة من حَدِيث الزُّهْرِيّ وَهِشَام بن عُرْوَة عَن عَائِشَة «أَن فَاطِمَة بنت جحش سَأَلت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وَلَيْسَ فِيهِ(3/59)
هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي فِي حَدِيث حمْنَة بنت جحش.
قَالَ: وَرِوَايَة عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل وَهُوَ من أَشْرَاف قُرَيْش وَأَكْثَرهم رِوَايَة، غير أَن الشَّيْخَيْنِ لم يحْتَجَّا بِهِ، قَالَ: وَله شَوَاهِد فَذكرهَا.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : اخْتلف عَلَى عبد الله بن عقيل فِيهِ، فَرَوَاهُ أَبُو أَيُّوب الأفريقي عبد الله بن [عَلّي] عَنهُ عَن جَابر وَوهم فِيهِ، وَخَالفهُ (عبيد الله) بن عمر، وَابْن جُرَيْج وعَمرو بن أبي ثَابت وزُهير بن مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى فَرَوَوْه عَن ابْن (عَقيل) ، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة، عَن عمرَان بن طَلْحَة، عَن أمه حمْنَة (قَالَ) وَهُوَ الصَّحِيح.
قلت: وَخَالف هَؤُلَاءِ (جمَاعَة) فضعفوه، قَالَ الْخطابِيّ: ترك بعض الْعلمَاء الِاحْتِجَاج بِهِ؛ لِأَن (رَاوِيه) ابْن عقيل لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» و «الْمعرفَة» : تفرد بِهِ ابْن عقيل وَهُوَ مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ عَمْرو بن ثَابت، عَن ابْن عقيل فَقَالَ: «قَالَت حمْنَة: و (هُوَ) أعجب الْأَمريْنِ» وَلم يَجعله قَول النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(3/60)
قَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ عَمْرو بن ثَابت رَافِضِيًّا. وَذكره عَن يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «علله» وَمِنْهَا نقلت: سَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: هُوَ حَدِيث حسن إِلَّا أَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة هُوَ (قديم) لَا أَدْرِي سمع مِنْهُ عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل أم لَا، وَكَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: هُوَ حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ ابْن مَنْدَه الْحَافِظ: هَذَا الحَدِيث لَا يَصح عِنْدهم بِوَجْه من الْوُجُوه؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة ابْن عقيل وَقد أَجمعُوا عَلَى ترك حَدِيثه. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ، فوهنه وَلم يقو إِسْنَاده. (ورده) أَبُو مُحَمَّد بن حزم بِوُجُوه:
أَحدهَا: الِانْقِطَاع بَين ابْن جريج وَابْن عقيل، وَزعم أَن ابْن جريج لم (يسمعهُ) من ابْن عقيل، بَينهمَا فِيهِ النُّعْمَان بن رَاشد، وَذكره بِسَنَدِهِ وَضعف النُّعْمَان هَذَا.
ثَانِيهَا: (أَنه رَوَاهُ) عَن ابْن عقيل: شريك وَزُهَيْر بن مُحَمَّد، وَكِلَاهُمَا ضَعِيف.
ثَالِثهَا: أَن عمر بن طَلْحَة غير مَخْلُوق وَلَا يعرف لطلْحَة (ابْن اسْمه) عمر، قَالَ: وَرُوِيَ من طَرِيق ابْن أبي أُسَامَة، وَقد ترك حَدِيثه فَسقط الْخَبَر جملَة، وَعَن أبي دَاوُد عَن أَحْمد أَنه قَالَ: فِي هَذَا(3/61)
الْبَاب حديثان وثالث فِي النَّفس مِنْهُ شَيْء. وَفسّر أَبُو دَاوُد الثَّالِث بِأَنَّهُ حَدِيث حمْنَة هَذَا.
قلت: وَلَك أَن تجيب عَمَّا طعنوا فِيهِ، وَأما ترك بعض الْعلمَاء الِاحْتِجَاج بِهِ فمعارض بتصحيح غَيره لَهُ.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل لَا يقبل؛ فَإِن أَئِمَّة الحَدِيث صححوه، وَهَذَا الرَّاوِي وَإِن كَانَ مُخْتَلفا فِي توثيقه وجرحه فقد صحّح الْحفاظ حَدِيثه هَذَا، وهم أهل هَذَا الْفَنّ، وَقد علم من قاعدتهم فِي حد الحَدِيث الصَّحِيح وَالْحسن أَنه إِذا كَانَ فِي الرَّاوِي بعض الضعْف يجْبر حَدِيثه بشواهد (لَهُ) أَو متابعات وَهَذَا من (ذَلِك) .
وَأما مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ من تفرد ابْن عقيل بِهِ فَجَوَابه أَنه إِذا كَانَ الرَّاجِح توثيقه فَلَا يضر تفرده بِهِ؛ لِأَن تفرد الثِّقَة بِالْحَدِيثِ لَا يضر، وَقد عرفت حَاله فِي بَاب الْوضُوء، وَقد ذكرنَا آنِفا تَحْسِين أَحْمد وَالْبُخَارِيّ حَدِيثه هَذَا، وَزَاد أَحْمد تَصْحِيحه.
وَأما مَا ذكره أَبُو دَاوُد من أَن عَمْرو بن ثَابت رَوَاهُ عَن ابْن عقيل فَقَالَ: «قَالَت حمْنَة: هَذَا أعجب الْأَمريْنِ (إليَّ) » فَجعله من قَوْلهَا وَلم يَجعله قَول النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فَلَا يقْدَح فِيمَا تقدم؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنَّهَا قَالَت ذَلِك بعد قَول النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلَى أَن هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَأحمد وَغَيرهمَا من جِهَة زُهَيْر عَن ابْن عقيل، لَا من جِهَة عَمْرو بن ثَابت.(3/62)
وَأما قَول يَحْيَى بن معِين أَن عَمْرو بن ثَابت كَانَ رَافِضِيًّا، فمسلّم، لَكِن لم ينْقل أحد أَنه كَانَ دَاعِيَة، نعم هُوَ مَتْرُوك.
وَأما مَا ذكره التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ من توقفه فِي سَماع ابْن عقيل من إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة لقدم إِبْرَاهِيم؛ فَجَوَابه أَن إِبْرَاهِيم هَذَا مَاتَ سنة عشر وَمِائَة فِي قَول أبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام وَعلي بن الْمَدِينِيّ، وَخَلِيفَة بن خياط، وَهُوَ تَابِعِيّ سمع عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَأَبا أسيد السَّاعِدِيّ، و (أَبَا) هُرَيْرَة، وَعَائِشَة.
وَابْن عقيل سمع: عبد الله بن عمر، وَجَابِر بن عبد الله، و (أنسا) وَالربيع بنت معوذ فَلَا يُنكر (إِذا) سَمَاعه من إِبْرَاهِيم لقدمه، وَابْن أبي طَلْحَة من هَؤُلَاءِ فِي الْقدَم، وهم نظراء، وَلَو توقف البُخَارِيّ عَن ذَلِك غير مُعَلل بعلة أَو بعلة أُخْرَى لما توجه الْإِنْكَار عَلَيْهِ عَلَى أَنِّي رَأَيْت بعض (مَشَايِخنَا) يَقُول: إِن فِي صِحَة هَذَا عَن البُخَارِيّ نظرا، لَكِن قد نَقله عَنهُ مثل هَذَا الإِمَام. وَجَوَابه مَا سلف.
وَأما قَول ابْن مَنْدَه فِي ابْن عقيل، فقولة (عَجِيبَة) مِنْهُ، وَقد أنكرها عَلَيْهِ صَاحب «الإِمَام» وَقَالَ: لَيْسَ الْأَمر (كَمَا) ذكره وَإِن(3/63)
كَانَ بحرًا من بحور هَذِه (الصِّنَاعَة) ، فقد ذكر التِّرْمِذِيّ أَن الْحميدِي وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق كَانُوا يحتجون بِحَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل وَقَالَ البُخَارِيّ فِيهِ: أَنه مقارب الحَدِيث.
قلت: وَحسن حَدِيثه هَذَا وَصَححهُ كَمَا سلف.
وَأما مَا ذكره ابْن أبي حَاتِم فَلم يبين سَبَب وهنه حتَّى يبْحَث مَعَه (عَنهُ) ، وَلَعَلَّه أَرَادَ (بعض) مَا مَضَى أَو مَا يَأْتِي، وَقد أجبنا عَنهُ.
وَأما رد ابْن حزم بالانقطاع بَين ابْن جريج وَابْن عقيل وَضعف الْوَاسِطَة بَينهمَا، فَجَوَابه أَن التِّرْمِذِيّ وَأَبا دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم رَوَوْهُ من غير طَرِيق ابْن جرير، (فليتصل) طَرِيق ابْن جريج أَو لينقطع، ولتكن الْوَاسِطَة بَينه وَبَين ابْن عقيل ضَعِيفا إِن شَاءَ أَو قويًّا، وَعَلَى تَقْدِير الْوَاسِطَة وَهُوَ النُّعْمَان بن رَاشد، فقد أخرج لَهُ مُسلم وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ وَقَالَ: فِي حَدِيثه وهمٌ كثير وَهُوَ صَدُوق فِي الأَصْل. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: أدخلهُ البُخَارِيّ فِي الضُّعَفَاء، فَسمِعت أبي يَقُول: يحول اسْمه مِنْهُ.
وَأما (تَضْعِيفه) لِشَرِيك فَلَيْسَ بجيد مِنْهُ، لِأَنَّهُ مخرج لَهُ فِي الصَّحِيح، وَقد انْفَرد بِهَذَا الطَّرِيق ابْن مَاجَه فأخرجها فِي «سنَنه» عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، عَن يزِيد بن هَارُون، عَن شريك، عَن ابْن عقيل بِهِ كَمَا تقدم.(3/64)
وَأما (تَضْعِيفه زهيرًا) وَهُوَ الَّذِي سَاقه من قدمْنَاهُ من طَرِيقه خلا ابْن مَاجَه، فقد أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» محتجًا بِهِ، وَمُسلم فِي الشواهد، وَقَالَ أَحْمد: هُوَ مُسْتَقِيم الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَحَله الصدْق وَفِي حفظه شَيْء، وَحَدِيثه بِالشَّام أنكر من حَدِيثه بالعراق. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه الصَّغِير» : مَا رَوَى عَنهُ أهل الشَّام فَإِنَّهُ مَنَاكِير، وَمَا (رَوَى) عَنهُ أهل الْبَصْرَة فَإِنَّهُ صَحِيح الحَدِيث. قَالَ الإِمَام أَحْمد: كَأَن الَّذِي رَوَى عَنهُ أهل الشَّام زهيرًا آخر؛ فَقلب اسْمه. وَقَالَ الدَّارمِيّ: ثِقَة صَدُوق وَله أغاليط. وَقَالَ يَحْيَى: ثِقَة. وَقَالَ ابْن عدي: لَعَلَّ أهل الشَّام حَيْثُ رووا عَنهُ أخطأوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ إِذا حدّث عَنهُ أهل الْعرَاق فروايتهم عَنهُ شَبيهَة بالمستقيمة، وَأَرْجُو (أَنه) لَا بَأْس بِهِ.
قلت: وَحَدِيثه هَذَا من رِوَايَة أبي عَامر الْعَقدي عَنهُ، وَهُوَ بَصرِي، فَهَذَا من حَدِيث أهل الْعرَاق وَلَيْسَ من حَدِيث أهل الشَّام.
وَأما إِنْكَاره عمر بن طَلْحَة فقد أسلفنا عَن التِّرْمِذِيّ أَنه لَا يَقُوله فِي هَذَا الْإِسْنَاد إِلَّا ابْن جريج، وَغَيره يَقُول: عمرَان. وَهُوَ مَا سَاقه التِّرْمِذِيّ وَغَيره مِمَّن (أسلفنا) .
وَأما تَضْعِيفه لِلْحَارِثِ بن أبي أُسَامَة الْحَافِظ صَاحب «الْمسند» فَلَيْسَ بجيد مِنْهُ، وَقد تكلم فِيهِ الْأَزْدِيّ (بِلَا) حجَّة، والأزدي مُتَكَلم(3/65)
فِيهِ، وَلينه بعض البغاددة لكَونه يَأْخُذ عَلَى الرِّوَايَة (أَي أجرا) ، قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قد اخْتلف فِيهِ وَهُوَ عِنْدِي صَدُوق. وَقَالَ البرقاني: أَمرنِي الدَّارَقُطْنِيّ أَن أخرج عَنهُ فِي الصَّحِيح. وَخرج عَنهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» .
وَأما تَفْسِير أبي دَاوُد الحَدِيث الثَّالِث - الَّذِي قَالَ فِيهِ أَحْمد مَا أسلفناه عَنهُ - بِأَنَّهُ حَدِيث حمْنَة، فَهُوَ معَارض بِنَقْل التِّرْمِذِيّ عَنهُ أَنه صَححهُ.
فَائِدَة: فِي ضبط أَلْفَاظه ومعانيه، مَعْنَى «أَنعَت (لَك) الكرسف» : أصف (لَك) قيل: النَّعْت وصف الشَّيْء بِمَا فِيهِ من حسن، وَلَا يُقَال فِي الْقبْح إِلَّا أَن يتَكَلَّف متكلف فَيَقُول: نعت سوء.
والكرسف - بِضَم الْكَاف وَالسِّين - الْقطن، وَقد جعل وَصفا فِي حَدِيث «كفن فِي (ثَلَاثَة) أَثوَاب يَمَانِية كُرْسُف» و (هُوَ) من بَاب إبل مائَة (وجبة) ذِرَاع، مِمَّا جعل وَصفا وَإِن لم يكن مشتقًّا.
وَقَوله: «تلجمي» اللجام مَا تشده الْحَائِض. قَالَه الْجَوْهَرِي، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: قَالَ (الْخَلِيل) : اللجام مَعْرُوف، فَإِن أخذناه من هَذَا كَانَ مَعْنَاهُ افعلي فعلا يمْنَع سيلان الدَّم واسترساله كَمَا يمْنَع اللجام استرسال الدَّابَّة. ثمَّ نقل عَن بَعضهم أَن اللجمة فِيمَا يُقَال فوهة النَّهر(3/66)
(قَالَ) : فَإِن صَحَّ هَذَا فَيكون مَعْنَاهُ شدّ اللجمة وَهِي الفوهة الَّتِي ينهر مِنْهَا الدَّم. (قَالَ) وَهَذَا بديع غَرِيب. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب: وَورد فِي هَذَا الحَدِيث «تلجمي واستثفري» - قلت: لم أَقف عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ الثَّانِي - ثمَّ ذكر عَن الْهَرَوِيّ احْتِمَالَيْنِ فِي الاستثفار، ثمَّ قَالَ: وَالْمرَاد بالتلجم والاستثفار شَيْء وَاحِد. قَالَ: (وَسَماهُ) الشَّافِعِي التَّعْصِيب أَيْضا.
والثج: السيلان، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: (ثجاجًا) أَي سيّالاً، وَمِنْه الحَدِيث « (أفضل) الْحَج العج والثج» .
والركض: أَصله الضَّرْب بِالرجلِ والإصابة بهَا، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بقوله: «ركضة الشَّيْطَان» الْإِضْرَار بِالْمَرْأَةِ والأذى (لَهَا) بِمَعْنى أَن الشَّيْطَان وجد بذلك سَبِيلا إِلَى (التلبيس) عَلَيْهَا فِي أَمر دينهَا وطهرها وصلاتها حتَّى أَنْسَاهَا بذلك عَادَتهَا، فَصَارَ فِي التَّقْدِير كَأَنَّهُ ركضة (يَا لَهُ) من ركضاته، وَإِضَافَة ذَلِك إِلَى الشَّيْطَان كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: (فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه) وَقيل: هُوَ حَقِيقَة وَأَن الشَّيْطَان ضربهَا حتَّى انْقَطع عرقها.
وَقَوْلها: «تحيضي فِي علم الله» أَي: الزمي الْحيض وَأَحْكَامه فِيمَا(3/67)
أعلمك الله من عَادَة النِّسَاء، كَذَا (قَالَ) أَصْحَابنَا فِي كتبهمْ، وَالْعلم هُنَا بِمَعْنى (الْمَعْلُوم) .
وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: فِيمَا (علم) الله من أَمرك من سِتَّة أَو سَبْعَة.
وَقَوله: «كَمَا تحيض النِّسَاء» المُرَاد غَالب النِّسَاء، لِاسْتِحَالَة إِرَادَة النِّسَاء (كُلهنَّ) لاختلافهم.
وَقَوله: «مِيقَات حيضهن» هُوَ (بِنصب التَّاء) عَلَى الظّرْف أَي فِي وَقت حيضهن.
فَائِدَة ثَانِيَة: حمْنَة هَذِه (هِيَ) بنت جحش أُخْت زَيْنَب بنت جحش أم الْمُؤمنِينَ كَمَا تقدم فِي الحَدِيث، كَانَت تَحت مُصعب بن عُمَيْر، فاستشهد عَنْهَا يَوْم أحد فَتَزَوجهَا طَلْحَة بن عبيد الله فَولدت لَهُ مُحَمَّدًا وَعمْرَان، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ فِيمَا حَكَاهُ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «أَطْرَافه» : بَعضهم يغلط فيروي أَن الْمُسْتَحَاضَة حمْنَة بنت جحش، ويظن أَن كنيتها أم حَبِيبَة وَهُوَ يَعْنِي الْمُسْتَحَاضَة حَبِيبَة أم حبيب. وَكَذَا نقل الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْحَرْبِيّ أَن الصَّوَاب أم حبيب بِغَيْر هَاء وَأَن اسْمهَا حَبِيبَة، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَهَذَا صَحِيح، وَكَانَ من أعلم النَّاس بِهَذَا الْبَاب.
وَذكر (الزبير) بن بكار وشباب الْعُصْفُرِي أَنَّهَا حمْنَة، وكناها ابْن الْكَلْبِيّ وَابْن حزم فِي «جمهرتهما» وَابْن عَسَاكِر والمزي: أم حَبِيبَة،(3/68)
وَذكر الْمزي أَن أَبَا دَاوُد أخرجه من أحد الْوَجْهَيْنِ عَن حَبِيبَة وَهِي حمْنَة، وَأَن ابْن مَاجَه أخرجه من وَجْهَيْن أَحدهمَا عَن حمْنَة، وَالْأُخْرَى عَن أم حَبِيبَة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : حمْنَة بنت جحش، قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: هِيَ أم حَبِيبَة. وَخَالفهُ يَحْيَى بن معِين فَزعم أَن الْمُسْتَحَاضَة أم حَبِيبَة بنت جحش تَحت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف لَيست بحمنة.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَحَدِيث ابْن عقيل يدل عَلَى أَنَّهَا غَيرهَا كَمَا قَالَ يَحْيَى، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أم حَبِيبَة بنت جحش كَانَت تَحت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَكَانَت تستحاض، وَقيل: إِن الْمُسْتَحَاضَة (كَانَت حمْنَة) أُخْتهَا، وَالصَّحِيح عِنْد أهل الحَدِيث أَنَّهُمَا كِلَاهُمَا مستحاضتان، قَالَ: وَبَنَات جحش الثَّلَاث استحضن، زَيْنَب وَأم حَبِيبَة وَحمْنَة.
فَائِدَة ثَالِثَة: اخْتلف الْعلمَاء فِي حمْنَة هَذِه؛ هَل كَانَت مُسْتَحَاضَة مُبتَدأَة أَو مُعْتَادَة؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتَارَ الْخطابِيّ وجماعات من أَصْحَابنَا أَنَّهَا كَانَت مُبتَدأَة فَردَّتْ إِلَى غَالب عَادَة النِّسَاء، قَالَ الْخطابِيّ: وَيدل لَهُ قَوْله: «كَمَا تحيض النِّسَاء و (يطهرن) » ، وَاخْتَارَ الشَّافِعِي (فِي «الْأُم» أَنَّهَا كَانَت مُعْتَادَة وأوضح دَلِيله، وَقَالَ: هَذَا أشبه مَعَانِيه وَرجحه الْبَيْهَقِيّ) فِي «الْمعرفَة» وَقَالَ فِي «خلافياته» : إِنَّه الظَّاهِر.(3/69)
وَلم يرجح فِي «سنَنه» شَيْئا.
قَالَ صَاحب «التَّتِمَّة» : من قَالَ: كَانَت مُعْتَادَة، ذكرُوا فِي ردهَا إِلَى السِّتَّة (أَو) السَّبْعَة ثَلَاث تأويلات، أَحدهَا: مَعْنَاهُ سِتَّة إِن كَانَت عادتك سِتا، أَو سبعا إِن كَانَت عادتك سبعا.
ثَانِيهَا: (لَعَلَّهَا) شكت؛ هَل عَادَتهَا سِتَّة أَو سَبْعَة، فَقَالَ: تحيضي سِتَّة إِن لم تذكري عادتك أَو سبعا إِن ذكرت أَنَّهَا عادتك.
ثَالِثهَا: لَعَلَّ عَادَتهَا كَانَت تخْتَلف، فَفِي بعض الشُّهُور سِتَّة وَفِي بَعْضهَا سَبْعَة، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام سِتَّة فِي شهر (السِّتَّة) وَسَبْعَة فِي شهر السَّبْعَة، فَتكون لَفْظَة «أَو» للتقسيم.
الحَدِيث الثَّالِث
قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «إِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الْغسْل.
الحَدِيث الرَّابِع
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ لعَائِشَة - وَقد حَاضَت وَهِي مُحرمَة -: «أصنعي مَا يصنع الْحَاج غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» مطولا.(3/70)
الحَدِيث الْخَامِس
رَوَى أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «لَا أحل الْمَسْجِد لحائض وَلَا جنب» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه وَاضحا فِي بَاب الْغسْل.
الحَدِيث السَّادِس
رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «لَا يقْرَأ الْجنب وَلَا الْحَائِض شَيْئا من الْقُرْآن» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي بَاب الْغسْل أَيْضا.
الحَدِيث السَّابِع
قَالَت عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها: «كُنَّا نؤمر بِقَضَاء (الصَّوْم) وَلَا نؤمر بِقَضَاء الصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث معَاذَة «أَن امْرَأَة قَالَت لعَائِشَة: أتجزئ إحدانا صلَاتهَا إِذا طهرت؟ فَقَالَت: أحرورية أَنْت؟ ! (قد كُنَّا نحيض مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَلَا يَأْمُرنَا بِهِ - أَو قَالَت: فَلَا نفعله» .
هَذَا لفظ البُخَارِيّ وَلَفظ مُسلم عَن معَاذَة قَالَت: «سَأَلت عَائِشَة: مَا بَال الْحَائِض تقضي الصَّوْم وَلَا تقضي الصَّلَاة؟ فَقَالَت: أحرورية أَنْت) فَقلت: لست بحرورية وَلَكِنِّي أسأَل. فَقَالَت: كَانَ يصيبنا ذَلِك فنؤمر بِقَضَاء الصَّوْم وَلَا نؤمر بِقَضَاء الصَّلَاة» .
وَفِي رِوَايَة: «قد (كَانَت إحدانا تحيض عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمَّ(3/71)
لَا نؤمر بِقَضَاء» . وَفِي رِوَايَة) : «كن نسَاء النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحضن أفأمرهن أَن (يجزين) » .
وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «قد حضن (نسَاء) رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمرهن (يجزين) قَالَ عبد الله (مَعْنَاهُ: أَن لَا يقضين.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَكَانَت إحدانا تحيض وتطهر فَلَا يَأْمُرنَا بِقَضَاء وَلَا نقضيه» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد «بِلَفْظ لقد كُنَّا نحيض عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَلَا نقضي وَلَا نؤمر بِالْقضَاءِ» وَفِي لفظ زِيَادَة: «فنؤمر بِقَضَاء الصَّوْم وَلَا نؤمر بِقَضَاء الصَّلَاة» .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ «قد كَانَت إحدانا تحيض فَلَا تُؤمر بِقَضَاء» ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح) وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ: «كُنَّا نحيض عِنْد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَلَا نقضي وَلَا نؤمر بِقَضَاء» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ.
وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: «فيأمرنا. .» إِلَى آخِره كَلَفْظِ أبي دَاوُد(3/72)
وَالتِّرْمِذِيّ، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه بِلَفْظ: « (قد) كُنَّا نحيض عِنْد النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمَّ نطهر وَلم يَأْمُرنَا بِقَضَاء الصَّلَاة» .
وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» كَمَا مَضَى (وبلفظ) النَّسَائِيّ الأول دون قَوْله: «فَلَا تقضي» وَفِي رِوَايَة لَهُ: « (كُنَّا نقضي» دون قَوْله: «فَلَا تقضي» وَفِي رِوَايَة لَهُ) : «كُنَّا نحيض عِنْد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَمَا يَأْمر امْرَأَة منا بِقَضَاء الصَّلَاة» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَلَا نؤمر بِقَضَاء» . (وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَكَانَت إحدانا تحيض فَلَا يَأْمُرنَا بِالْقضَاءِ» ) هَذَا مَا وقفت عَلَيْهِ من أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث، وَلم أره بِلَفْظ «كُنَّا نؤمر بِقَضَاء الصَّوْم وَلَا نؤمر بِقَضَاء الصَّلَاة» كَمَا أوردهُ الرَّافِعِيّ، وَقد أوردهُ هُوَ بعد ذَلِك بسياقة أُخْرَى فَقَالَ: رُوِيَ أَن معَاذَة العدوية قَالَت لعَائِشَة: «مَا بَال الْحَائِض تقضي الصَّوْم وَلَا تقضي الصَّلَاة؟ فَقَالَت: أحرورية أَنْت؟ ! كُنَّا نَدع الصَّلَاة وَالصَّوْم عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنقضي الصَّوْم وَلَا نقضي الصَّلَاة» ، وَلم أَقف عَلَى (هَذِه السِّيَاقَة) أَيْضا.
(والحرورية: الْخَوَارِج، نسبوا إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا: حروراء. بِالْمدِّ وَالْقصر، كَانَ أول اجْتِمَاعهم بهَا حِين طعنهم عَلَى عَلّي فِي التَّحْكِيم(3/73)
وخروجهم عَلَيْهِ، وَكَانُوا يبالغون فِي التَّشْدِيد فِيمَا لَا أصل لَهُ) .
الحَدِيث الثَّامِن
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «إِذا حَاضَت الْمَرْأَة لم تصل وَلم تصم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ كَمَا أسلفته فِي الحَدِيث الأول من هَذَا الْبَاب.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن معَاذَة العدوية قَالَت لعَائِشَة: «مَا بَال الْحَائِض ... » الحَدِيث.
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الحَدِيث السَّابِع كَمَا ترَاهُ.
الحَدِيث الْعَاشِر
قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي تَفْسِيره قَوْله تَعَالَى: (فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض) : «افعلوا كل شَيْء إِلَّا الْجِمَاع» .
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) كَرَّرَه المُصَنّف فِي الْبَاب، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل من حَدِيث أنس: «أَن الْيَهُود كَانُوا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة لم يؤاكلوها وَلم يجامعوها فِي الْبيُوت (فَسَأَلَ) أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) : فَأنْزل(3/74)
الله - تَعَالَى -: (ويسألونك عَن الْمَحِيض) إِلَى آخر الْآيَة، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اصنعوا كل شَيْء إِلَّا النِّكَاح» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «غير» بدل «إِلَّا» . وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «فَأَمرهمْ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن يؤاكلوهن ويشاربوهن و (أَن) يكن مَعَهم فِي الْبيُوت، وَأَن يصنعوا كل شَيْء مَا خلا النِّكَاح» . وَرَوَاهَا النَّسَائِيّ (أَيْضا) بِلَفْظ: «ويجامعوهن فِي الْبيُوت وَأَن يصنعوا كل شَيْء مَا خلا النِّكَاح» .
فَائِدَة: مَعْنَى المجامعة هُنَا: المخالطة. وروينا عَن الْوَاقِدِيّ أَن السَّائِل هُوَ أَبُو الدحداح.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «من أَتَى امْرَأَته حَائِضًا فليتصدق بِدِينَار وَمن أَتَاهَا وَقد أدبر الدَّم فليتصدق بِنصْف دِينَار» وَفِي رِوَايَة: «إِذا وَطئهَا فِي إقبال الدَّم فدينار، وَإِن وَطئهَا فِي إدبار الدَّم بعد انْقِطَاعه وَقبل الغسيل فَعَلَيهِ نصف دِينَار» وَفِي رِوَايَة: «إِذا وَقع بأَهْله وَهِي حَائِض (إِن) كَانَ دَمًا أَحْمَر فليتصدق بِدِينَار، وَإِن كَانَ أصفر فليتصدق(3/75)
بِنصْف دِينَار» وَفِي رِوَايَة: «من أَتَى حَائِضًا تصدق بدينارٍ أَو نصف دِينَار» .
هَذَا الحَدِيث مدون بِكُل هَذِه الرِّوَايَات.
أما الرِّوَايَة الأولَى فرواها الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث (ابْن) جريج عَن أبي أُميَّة الْبَصْرِيّ، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «إِذا أَتَى أحدكُم امْرَأَته فِي الدَّم فليتصدق بِدِينَار، وَإِذا وَطئهَا وَقد رَأَتْ الطُّهْر وَلم تَغْتَسِل فليتصدق بِنصْف دِينَار» .
(وَرَوَاهَا) أَيْضا من حَدِيث ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا: «فِي الرجل يَأْتِي امْرَأَته وَهِي حَائِض، قَالَ: إِن أَتَاهَا فِي الدَّم تصدق بِدِينَار، وَإِذا أَتَاهَا فِي غير الدَّم تصدق بِنصْف دِينَار» .
وَأما الرِّوَايَة الثَّانِيَة: فرواها الْبَيْهَقِيّ أَيْضا لَكِن (من) تَفْسِير مقسم الرَّاوِي، عَن ابْن عَبَّاس رَوَاهَا (من حَدِيث) روح بن عبَادَة، عَن (سعيد بن) أبي عرُوبَة، عَن عبد الْكَرِيم بن (أبي) أُميَّة، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس «أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (أمره أَن يتَصَدَّق) بِدِينَار أَو نصف دِينَار» وَفسّر ذَلِك مقسم فَقَالَ: «إِن غشيها فِي الدَّم فدينار، وَإِن غشيها بعد انْقِطَاع الدَّم قبل أَن تَغْتَسِل فَنصف دِينَار» .(3/76)
وَرَوَاهُ (الدَّارمِيّ) من حَدِيث سُفْيَان، عَن ابْن جريج، عَن عبد الْكَرِيم، عَن رجل، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «إِذا أَتَاهَا فِي دم فدينار، وَإِذا أَتَاهَا وَقد انْقَطع الدَّم فَنصف دِينَار» .
وَأما الرِّوَايَة الثَّالِثَة: فرواها التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الْكَرِيم عَن مقسم أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «إِذا كَانَ دَمًا أَحْمَر فدينار و (إِذا) كَانَ دَمًا أصفر فَنصف دِينَار» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: «إِن كَانَ الدَّم عبيطًا فليتصدق بِدِينَار، وَإِن كَانَ الدَّم أصفر فليتصدق بِنصْف دِينَار» .
وَرَوَاهُ ابْن (الْجَارُود) فِي «الْمُنْتَقَى» مُخْتَصرا بِلَفْظ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «فليتصدق بِدِينَار أَو نصف دِينَار» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: «من أَتَى امْرَأَته وَهِي حَائِض فَعَلَيهِ دِينَار، وَمن أَتَاهَا فِي الصُّفْرَة فَنصف دِينَار» .
رَوَاهُ من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن عبد الْكَرِيم وَعلي بن بذيمة وخصيف، عَن مقسم بِهِ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «من أَتَى امْرَأَته فِي الدَّم فَعَلَيهِ دِينَار، وَفِي الصُّفْرَة نصف دِينَار» .(3/77)
و (رَوَاهُ) أَبُو يعْلى فِي «مُسْنده» عَن عَلّي بن الْجَعْد، عَن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ، عَن عبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه «فِي رجل جَامع امْرَأَته وَهِي حَائِض، فَقَالَ: إِن كَانَ دَمًا عبيطًا فليتصدق بِدِينَار، وَإِن كَانَ فِيهِ صفرَة فَنصف دِينَار» .
رَوَاهُ (الدَّارمِيّ) فِي «مُسْنده» عَن عبيد الله بن مُوسَى، عَن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ، عَن عبد الْكَرِيم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «إِذا أَتَى الرجل امْرَأَته وَهِي حَائِض فَإِن كَانَ الدَّم عبيطًا فليتصدق بِدِينَار، وَإِن (كَانَ) صفرَة فليتصدق بِنصْف دِينَار» .
وَأما الرِّوَايَة الرَّابِعَة فقد اسلفناها عَن رِوَايَة ابْن الْجَارُود وَلها طرق أُخْرَى:
إِحْدَاهَا - وَهِي أَقْوَى طرق الحَدِيث -: عَن شُعْبَة، عَن الحكم، عَن عبد الحميد (بن عبد الرَّحْمَن) ، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فِي الَّذِي (أَتَى) امْرَأَته وَهِي حَائِض قَالَ: يتَصَدَّق بِدِينَار أَو نصف دِينَار» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ،(3/78)
وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» وَرَوَاهُ (الدَّارمِيّ) مَوْقُوفا، ثمَّ قَالَ: قَالَ شُعْبَة: أما حفظي فَهُوَ مَرْفُوع، وَأما فلَان وَفُلَان [فَقَالَا] غير مَرْفُوع، فَقَالَ بعض الْقَوْم: حَدثنَا بحفظك و [دع] مَا قَالَ فلَان وَفُلَان) قَالَ: وَالله مَا أحب أَنِّي عمرت فِي الدُّنْيَا عمر نوح وَأَنِّي حدثت بِهَذَا أَو سكت عَن هَذَا.
ثَانِيهَا: عَن المكفوف، عَن أَيُّوب بن خوط - بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة - عَن قَتَادَة، عَن ابْن عَبَّاس، رَفعه: «فليتصدق بِدِينَار (أَو بِنصْف دِينَار) » .
رَوَاهُ عبد الْملك بن حبيب الْمَالِكِي فِيمَا حَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي (الإِمَام) عَنهُ.
ثَالِثهَا: عَن يَعْقُوب بن عَطاء، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «فِي الَّذِي يَقع عَلَى امْرَأَته وَهِي حَائِض يتَصَدَّق بِدِينَار أَو نصف دِينَار» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ.(3/79)
رَابِعهَا: عَن شريك، عَن خصيف، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «فِي الرجل يَقع عَلَى امْرَأَته وَهِي حَائِض قَالَ: يتَصَدَّق بِنصْف دِينَار» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، عَن عَلّي بن حُجر، عَن شريك بِهِ، وَفِي بعض نسخه: «دِينَار أَو نصف دِينَار» ، وَعَلَيْهَا اعْتمد صَاحب الإِمَام. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، عَن شريك بِهِ بِلَفْظ: «إِذا وَقع الرجل بأَهْله وَهِي حَائِض فليتصدق بِنصْف دِينَار» . (و) رَوَاهُ الدَّارمِيّ عَن أبي الْوَلِيد وَغَيره عَن شريك بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث شريك، عَن خصيف، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، وَمن حَدِيث شريك، عَن خصيف، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس، وَمن حَدِيث الْحجَّاج عَن خصيف، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس.
قلت: وَرُوِيَ أَيْضا (عَلَى) نمط آخر رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث عَطاء الْعَطَّار، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَته وَهِي حَائِض: يتَصَدَّق بِدِينَار، فَإِن لم يجد فبنصف دِينَار» .(3/80)
وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي كتاب «الصَّلَاة» عَن سُفْيَان، عَن عَلّي بن بذيمة بِهِ، عَن مقسم، عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فِي الَّذِي يَقع عَلَى امْرَأَته وَهِي حَائِض قَالَ: نصف دِينَار» ثمَّ قَالَ: وحَدَّثَنَا سُفْيَان، عَن خصيف، عَن مقسم، عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثله.
إِذا عرفت هَذِه الطّرق فقد أعلت الرِّوَايَة الأولَى بمقسم. (قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم الظَّاهِرِيّ: مقسم) لَيْسَ بِالْقَوِيّ فَسقط الِاحْتِجَاج بِهِ.
قلت: وَأَبُو أُميَّة الْبَصْرِيّ الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده هُوَ عبد الْكَرِيم الْمَذْكُور فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة وستعلم مَا فِيهِ، وأعلت أَيْضا بالاختلاف كَمَا سَيَأْتِي، وَأما الرِّوَايَة الثَّانِيَة (وَالثَّالِثَة) فقد (أعلتا) بِعَبْد الْكَرِيم، رَوَاهُ عَن مقسم وَاخْتلف فِيهِ، فَقيل: إِنَّه ابْن أبي الْمخَارِق. وَبِه صرح أَبُو يعْلى فِي «مُسْنده» كَمَا سلف، وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ فَإِنَّهُ صرح بِأَنَّهُ أَبُو أُميَّة، و (نَقله) عَن الْحَاكِم عَن الْفَقِيه أبي بكر بن إِسْحَاق كَمَا سَيَأْتِي، وَجزم (بِهِ أَيْضا) ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» و «جَامع المسانيد» وَقد أخرج لَهُ البُخَارِيّ تَعْلِيقا فِي بَاب التَّهَجُّد من «صَحِيحه» فَقَالَ: قَالَ سُفْيَان. وَزَاد: عبد الْكَرِيم أَبُو أُميَّة. وَأخرج لَهُ مُسلم مُتَابعَة، وَقَالَ صَاحب «الْكَمَال» : اسْتِقْلَالا. وَأما (أَبُو) أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ فَإِنَّهُ كذبه، وَضرب أَحْمد عَلَى حَدِيثه، وَقَالَ: إِنَّه شَبيه بالمتروك. وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ السَّعْدِيّ: غير ثِقَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن حبَان:(3/81)
كثير الْوَهم فَاحش الْخَطَأ، فَلَمَّا كثر ذَلِك مِنْهُ (بَطل) الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقيل: (إِنَّه) ابْن مَالك الْجَزرِي. قَالَ صَاحب «الإِمَام» : بَلغنِي عَن الوقشي أَنه قَالَ: عبد الْكَرِيم هَذَا هُوَ ابْن مَالك أَبُو سعيد الْجَزرِي. قَالَ: وَرِوَايَة الْبَيْهَقِيّ (يَعْنِي الَّتِي قدمناها تضعف قَول الوقشي فَإِن فِيهَا التَّصْرِيح بِأَنَّهُ أَبُو أُميَّة، قلت: لَا) وَرِوَايَة أبي يعْلى الَّتِي أسلفناها أصرح مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: فِيهَا عبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق، وَلَو صحت هَذِه الْمقَالة لَكَانَ الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه صَحِيحا؛ لِأَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي من الثِّقَات الْحفاظ المكثرين، خرج حَدِيثه فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة، وَلَا يضر توقف ابْن حبَان فِيهِ، وَإِن كَانَ لَهُ مَا يُنكر، فقد احْتج بِمن هُوَ دونه، ثمَّ رَأَيْت الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي جزم بِهَذِهِ الْمقَالة فَذكر هَذَا الحَدِيث فِي «أَطْرَافه» فِي تَرْجَمَة عبد الْكَرِيم الْجَزرِي، فَقَوِيت هَذِه الْمقَالة، فَلَعَلَّ الحَدِيث عَنْهَا وَالله أعلم بِالصَّوَابِ، وَالْقلب إِلَى الأول أميل، وأعلتا أَيْضا بالاختلاف حَيْثُ رَوَاهُ هِشَام الدستوَائي عَن عبد الْكَرِيم فَوَقفهُ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس «فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَته وَهِي حَائِض قَالَ: يتَصَدَّق بِدِينَار أَو بِنصْف دِينَار» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا أشبه بِالصَّوَابِ، وَعبد الْكَرِيم غير مُحْتَج بِهِ.
قَالَ: وَرَوَاهُ ابْن أبي عرُوبَة عَن عبد الْكَرِيم. فَجعل التَّفْسِير من قَول مقسم، قَالَ: وَقيل: عَن سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن عبد الْكَرِيم، (عَن(3/82)
عِكْرِمَة) ، عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ، عَن عبد الْكَرِيم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا. قَالَ: وَرُوِيَ هَذَا مَوْقُوفا عَلَى ابْن عَبَّاس.
وَفِي «علل» أَحْمد، عَن عبد الله قَالَ: حَدَّثَني أبي، حَدثنَا سُفْيَان، عَن عبد الْكَرِيم [أبي] أُميَّة، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس: «إِذا أَتَى امْرَأَته وَهِي حَائِض» قيل لِسُفْيَان: يَا أَبَا مُحَمَّد، هَذَا مَرْفُوع. فَأَبَى أَن يرفعهُ، وَقَالَ: أَنا أعلم بِهِ (يَعْنِي أَبَا أُميَّة) . وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : لَيْسَ لَهُم مَا يعتلون بِهِ عَلَى رِوَايَة عبد الْكَرِيم، غير أَن مِنْهُم من يرفعهُ كَمَا (نقل) الثَّوْريّ عَنهُ، وَمِنْهُم من يقفه كَمَا فعل ابْن جريج عَنهُ، وَعِنْدِي أَنه غير قَادِح.
وَأما الرِّوَايَة الرَّابِعَة فَفِيهَا مَا فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة.
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: فأعلت بالمكفوف، وَقيل: لَا يعرف من هُوَ. كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» .
وَأَيوب بن خوط أَبُو أُميَّة الْبَصْرِيّ تَرَكُوهُ، قَالَ يَحْيَى: ضَعِيف لَا يكْتب حَدِيثه. وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيّ بِزِيَادَة: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ الفلاس: لم يكن(3/83)
من أهل الحَدِيث، كَانَ كثير الْغَلَط كثير الْوَهم، يَقُول بِالْقدرِ، مَتْرُوك الحَدِيث.
وَأما الطَّرِيقَة الثَّالِثَة مِنْهَا؛ فأعلها الْبَيْهَقِيّ بِيَعْقُوب بن عَطاء فَقَالَ عقب إِخْرَاجه لَهُ: يَعْقُوب هَذَا لَا يحْتَج بحَديثه. قَالَ الشَّيْخ (تَقِيّ) الدَّين فِي «الإِمَام» : قد قَالَ ابْن عدي: ليعقوب هَذَا أَحَادِيث صَالِحَة، وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه، وَعِنْده غرائب. قلت: وَأخرج لَهُ ابْن حبَان (وَالْحَاكِم) فِي «صَحِيحَيْهِمَا» .
وَأما الطَّرِيقَة الرَّابِعَة: فأعلت بِأُمُور: أَحدهَا بِشريك، وَهُوَ القَاضِي، قَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : شريك رَوَاهُ عَن خصيف، وَكِلَاهُمَا ضَعِيف، فَسقط الِاحْتِجَاج بِهِ.
قلت: شريك هَذَا وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة حسن الحَدِيث. وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، وَرَوَى لَهُ مُسلم مُتَابعَة، وَأخرج لَهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، نعم قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ الْقطَّان: مَا زَالَ مخلطًا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم لَهُ (أغاليط) .
ثَانِيهَا: خصيف بن عبد الرَّحْمَن الْجَزرِي الَّذِي ضعفه ابْن حزم وَهُوَ مقارب الْأَمر، ضعفه أَحْمد فَقَالَ: لَيْسَ بِقَوي فِي الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة عَنهُ: ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى الْقطَّان: كُنَّا نجتنبه. وَقَالَ(3/84)
أَبُو حَاتِم: تكلم فِي سوء حفظه وَهُوَ صَالح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: غير مُحْتَج بِهِ. وَقَالَ فِي كتاب الْحَج: إِنَّه غير قوي. وَقَالَ النَّسَائِيّ مرّة: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ مرّة: صَالح. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : ضَعِيف (وَإِن) كَانَ يخلط فِي محفوظه.
(وَوَثَّقَهُ) جماعات، قَالَ يَحْيَى بن معِين: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ مرّة: صَالح. وَقَالَ مرّة: لَا بَأْس (بِهِ) . وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة. وَكَذَا قَالَ أَبُو زرْعَة أَيْضا، وَقَالَ ابْن عدي: إِذا حدث عَنهُ ثِقَة فَلَا بَأْس بحَديثه. وَصحح الْحَاكِم حَدِيثه فِي «الْمُسْتَدْرك» وَلما نقل (النَّوَوِيّ) فِي «شرح الْمُهَذّب» فِي كتاب الْحَج عَن الْبَيْهَقِيّ تَضْعِيفه خصيف قَالَ: قد قَالَه غَيره، وَلَكِن قد خَالفه فِيهِ كَثِيرُونَ من الْحفاظ وَالْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين فِي هَذَا الشَّأْن، ثمَّ نقل توثيقه عَن ابْن معِين وَابْن سعد وَالنَّسَائِيّ.
وَالْأَمر الثَّالِث: الِاخْتِلَاف، قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن رَوَاهُ فِي «سنَنه» فِي (هَذِه) الطَّرِيق: رَوَاهُ شريك مرّة فَشك فِي رَفعه، وَرَوَاهُ (الثَّوري) عَن عَلّي بن (بذيمة) (وخصيف) لَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ ابْن الْقطَّان(3/85)
فِي «علله» : (يُزَاد) إِلَى تَضْعِيف خصيف اضْطِرَاب متن هَذَا الحَدِيث الَّذِي من رِوَايَته، وَبَيَان اضطرابه هُوَ أَن ابْن جريج وَأَبا خَيْثَمَة وَغَيرهمَا روياه عَن خصيف فَقَالَا فِيهِ: «بِنصْف دِينَار» وَرَوَاهُ شريك وَغَيره عَنهُ فَقَالَ فِيهِ «بِدِينَار» وَكَذَا قَالَ عَنهُ الثَّوْريّ إِلَّا أَنه أرْسلهُ فَلم يذكر ابْن عَبَّاس، وَعَن شريك فِيهِ رِوَايَة أُخْرَى قَالَ فِيهِ: عَن خصيف، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ فِيهِ: «بِنصْف دِينَار» أَيْضا هَكَذَا جعله فِي هَذِه الرِّوَايَة عَن عِكْرِمَة لَا عَن مقسم، والْحَدِيث إِنَّمَا هُوَ عَن مقسم وَحمل فِيهِ النَّسَائِيّ عَلَى شريك وَخطأ قَوْله عَن عِكْرِمَة. قَالَ: وَهَذَا الِاضْطِرَاب عِنْدِي مُمكن أَن يكون من خصيف لَا من أَصْحَابه (لما) عهد من سوء حفظه.
وَأما الطَّرِيقَة الَّتِي أوردناها من طَرِيق أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ فاحتج بهَا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» لما أوردهُ من مُسْند الإِمَام أَحْمد (وأعلها) الْبَيْهَقِيّ بعطاء وَقَالَ: هُوَ ابْن عجلَان وَهُوَ ضَعِيف مَتْرُوك (وَقَالَ) وَقد قيل عَنهُ عَن عَطاء وَعِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس وَلَيْسَ بِشَيْء. قَالَ: وَرُوِيَ عَن عَطاء (وَعِكْرِمَة أَنَّهُمَا قَالَا: «لَا شَيْء عَلَيْهِ ويستغفر الله» قَالَ: وَقد قيل: عَن ابْن جريج، عَن عَطاء) ، عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا، فَإِن كَانَ(3/86)
مَحْفُوظًا (فَهُوَ) من قَول ابْن عَبَّاس يَصح. ثمَّ سَاقهَا - وَقد ذَكرنَاهَا فِي آخر الرِّوَايَة الأولَى - قَالَ: وَرُوِيَ عَن عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء قَالَ: «لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء إِلَّا أَن يسْتَغْفر الله» قَالَ (الْبَيْهَقِيّ) : وَالْمَشْهُور عَن ابْن جريج، عَن عبد الْكَرِيم أبي أُميَّة، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس كَمَا سلف. هَذَا آخر كَلَامه، وَاعْترض الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فَقَالَ فِي «الإِمَام» : قَوْله فِي الْمَوْقُوف عَن ابْن عَبَّاس «إِن كَانَ مَحْفُوظًا» تمريض عَجِيب؛ فَإِن رُوَاته عَن آخِرهم ثِقَات. قَالَ: وَقَوله: رُوِيَ عَن عبد الرَّزَّاق، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء قَالَ: «لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا أَن يسْتَغْفر الله» . لَعَلَّه يُشِير إِلَى الاستضعاف بمخالفة الرَّاوِي، وَذَلِكَ مفتقر إِلَى تَصْحِيح الرِّوَايَة عَن عبد الرَّزَّاق وَبعد صِحَّته، فقد علم مَا فِي مُخَالفَة الرَّاوِي. قَالَ: وَقَوله: «وَالْمَشْهُور ... » إِلَى آخِره. كَأَنَّهُ يقْصد بِهِ أَيْضا الاستضعاف، وَلَيْسَ تتعارض (تِلْكَ) الرِّوَايَة مَعَ هَذِه.
وَأما الطَّرِيقَة الأولَى من طرق الرِّوَايَة الرَّابِعَة وَهِي طَريقَة شُعْبَة عَن الحكم (فإسنادها) صَحِيح من غير شكّ وَلَا مرية، وكل رُوَاته مخرج لَهُم فِي «الصَّحِيحَيْنِ» خلا مقسم بن بجرة (بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم كشجرة، وَقيل: ابْن بجوة) وَقيل: ابْن نجدة. فَانْفَرد بِإِخْرَاج حَدِيثه البُخَارِيّ، وَهُوَ كَمَا قَالَ أَبُو حَاتِم فِي حَقه: صَالح الحَدِيث لَا بَأْس بِهِ.(3/87)
و (لَا أسلم) لِابْنِ حزم قَوْله فِيهِ فِي «محلاه» إِثْر هَذَا الحَدِيث: (مقسم) لَيْسَ (هُوَ) بِالْقَوِيّ (فَسقط) الِاحْتِجَاج بِهِ. فَإِنَّهُ من أَفْرَاده، فَهَذَا الْإِسْنَاد إِذن عَلَى شَرط «الصَّحِيح» لَا جرم أَن الْحَاكِم لما (خرج) الحَدِيث فِي «مُسْتَدْركه» ) من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح. (فَقَالَ) : فقد احتجا بمقسم بن نجدة.
قلت: لَا، بل البُخَارِيّ (فَقَط) ، وَقد عده جمَاعَة من أَفْرَاده كَابْن طَاهِر وَصَاحب «الإِمَام» والمزي والذهبي.
قَالَ الْحَاكِم: فَأَما عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن فَإِنَّهُ ثِقَة مَأْمُون. قَالَ: وَشَاهده وَدَلِيله مَا حدّثنَاهُ، فَذكر من حَدِيث أبي الْحسن الْجَزرِي، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «إِذا أَصَابَهَا فِي الدَّم فدينار، وَإِذا أَصَابَهَا فِي انْقِطَاع الدَّم فَنصف دِينَار» ثمَّ قَالَ: قد أرسل هَذَا الحَدِيث وأوقف أَيْضا. قَالَ: وَنحن عَلَى أصلنَا (الَّذِي أصلناه) وَأَن القَوْل قَول الَّذِي يسند ويصل إِذا كَانَ ثِقَة.
قلت: وَهَذَا الشَّاهِد الَّذِي اسْتشْهد بِهِ قد أخرجه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فِي موضِعين مِنْهُ، وَصحح الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه أَيْضا الْحَافِظ أَبُو الْحسن ابْن الْقطَّان كَمَا سَيَأْتِي، وَكَذَلِكَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين(3/88)
الْقشيرِي فِي «الإِمَام» فَقَالَ: هَذِه الطَّرِيقَة هِيَ أَقْوَى طرقه. ثمَّ سَاقهَا بِإِسْنَادِهِ (وَعَزاهَا) قَالَ: وَعبد الحميد الْمَذْكُور، قَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ: وكل من فِي الْإِسْنَاد قبله من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» .
قلت: وَهُوَ أَيْضا كَمَا تقدم. قَالَ: ومقسم أخرج لَهُ البُخَارِيّ. وَقَالَ: وَمن هَذَا الْوَجْه صحّح الحَدِيث من صَححهُ. قَالَ: وَذكر الْخلال، عَن أبي دَاوُد أَن أَحْمد قَالَ: مَا أحسن حَدِيث عبد الحميد فِيهِ. قيل لَهُ: (أتذهب) إِلَيْهِ؟ قَالَ: نعم إِنَّمَا هُوَ (كَفَّارَة) .
قلت: وَيَنْبَغِي أَن يعلم أَن أَحَادِيث الحكم عَن مقسم كتاب إِلَّا خَمْسَة أَحَادِيث، هَذَا أَحدهَا، وَحَدِيث الْوتر والقنوت، وعزمة الطَّلَاق، وَجَزَاء مثل مَا قتل من النعم، كَمَا ذكره الْبَغَوِيّ عَن شُعْبَة. (ثمَّ) من أعل هَذَا الحَدِيث أعله بِوُجُوه (كَمَا نبه عَلَيْهَا صَاحب «الإِمَام» ) أَحدهَا: الِاخْتِلَاف فِي رَفعه وَوَقفه، فرفعه يَحْيَى بن سعيد وَمُحَمّد بن جَعْفَر وَابْن أبي عدي، عَن شُعْبَة، وَمن (جهتهم) أخرجه ابْن مَاجَه (وَرَفعه) أَيْضا وهب بن جرير وَسَعِيد بن عَامر عَن شُعْبَة، وَمن جهتهما أخرجه ابْن الْجَارُود، وَكَذَلِكَ النَّضر بن شُمَيْل، وَمن جِهَته أخرجه الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ عقبه: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان وَعبد الْوَهَّاب بن عَطاء، عَن شُعْبَة، وَلم يرفعهُ عبد الرَّحْمَن وَلَا بهز عَن شُعْبَة،(3/89)
فِيمَا ذكره الإِمَام أَحْمد. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن حَدِيث مقسم هَذَا؟ فَقَالَ: اخْتلفت الروَاة فِيهِ، فَمنهمْ من يرويهِ عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا، وَمِنْهُم من يرويهِ عَن مقسم عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُرْسلا، وَأما من حَدِيث شُعْبَة، فَإِن يَحْيَى بن سعيد أسْندهُ، وَحَكَى أَن شُعْبَة قَالَ: أسْندهُ الحكم لي مرّة وَوَقفه مرّة. وَقَالَ أبي: لم يسمع الحكم من مقسم هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن ذكر الِاخْتِلَاف عَلَى شُعْبَة: إِن شُعْبَة رَجَعَ [عَن] رَفعه. قَالَ: وَقد بَين عبد الرَّحْمَن بن مهْدي (رُجُوعه عَنهُ بَعْدَمَا كَانَ يرفعهُ ثمَّ ذكره بِإِسْنَادِهِ كَذَلِك، قَالَ ابْن مهْدي) قيل لشعبة: إِنَّك كنت ترفعه؟ قَالَ: إِنِّي كنت مَجْنُونا فصححت. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فقد رَجَعَ شُعْبَة عَن رَفعه وَجعله من قَول ابْن عَبَّاس.
الْوَجْه الثَّانِي: الِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده فَرَوَاهُ (إِبْرَاهِيم) بن طهْمَان، عَن مطر الْوراق، عَن الحكم بن (عتيبة) عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَكَذَا رَوَاهُ جمَاعَة، وَفِي رِوَايَة (شُعْبَة: عَن الحكم، عَن عبد الحميد) ، عَن مقسم، دلَالَة عَلَى أَن الحكم لم يسمعهُ من مقسم إِنَّمَا سَمعه من عبد الحميد عَن مقسم. قَالَ: وَرَوَاهُ عبد الْوَهَّاب (بن) عَطاء، عَن (سعيد) عَن قَتَادَة، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام(3/90)
أمره أَن يتَصَدَّق بِدِينَار (أَو) نصف دِينَار» ففسره قَتَادَة قَالَ: «إِن كَانَ واجدًا فدينار، وَإِن لم يجد فَنصف دِينَار» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلم يسمعهُ قَتَادَة من مقسم، وَرَوَاهُ قَتَادَة، عَن عبد الحميد، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس: «أَن رجلا غشي امْرَأَته وَهِي حَائِض، فَسَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن ذَلِك؟ فَأمره أَن يتَصَدَّق بِدِينَار أَو (نصف) دِينَار» قَالَ: وَلم يسمعهُ أَيْضا قَتَادَة من عبد الحميد (وَرَوَاهُ حَمَّاد بن الْجَعْد عَن قَتَادَة قَالَ: حَدَّثَني الحكم بن عتيبة أَن عبد الحميد) بن عبد الرَّحْمَن حَدثهُ أَن مقسمًا حَدثهُ، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رجلا أَتَى نَبِي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَزعم أَنه أَتَى - يَعْنِي امْرَأَته - وَهِي حَائِض، فَأمره نَبِي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن يتَصَدَّق بِدِينَار، فَإِن لم يجد فَنصف دِينَار» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا رَوَاهُ حَمَّاد بن الْجَعْد، عَن قَتَادَة، عَن الحكم مَرْفُوعا، قَالَ: وَفِي رِوَايَة شُعْبَة، عَن الحكم دلَالَة عَلَى أَن ذَلِك مَوْقُوف. قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو عبد الله الشقري مَوْقُوفا إِلَّا أَنه أسقط عبد الحميد من إِسْنَاده. قَالَ: وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَى الْأَوْزَاعِيّ، عَن يزِيد بن أبي مَالك، عَن عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن أَظُنهُ عَن عمر بن الْخطاب عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «أمره أَن يتَصَدَّق بخمسي دِينَار» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا اخْتِلَاف ثَالِث فِي إِسْنَاده وَمَتنه. قَالَ: وَرُوِيَ هَذَا أَيْضا بِإِسْنَاد مُنْقَطع.
(قلت) : (الْوَجْه) الثَّالِث: الطعْن الْمُطلق؛ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ(3/91)
الشَّافِعِي فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» فِيمَن أَتَى امْرَأَته حَائِضًا أَو بعد تَوْلِيَة الدَّم وَلم تَغْتَسِل؛ يسْتَغْفر الله - تَعَالَى - وَلَا يعود حتَّى تطهر وَتحل لَهَا الصَّلَاة.
قَالَ: وَرُوِيَ فِيهِ شَيْء لَو كَانَ ثَابتا أَخذنَا بِهِ، وَلكنه لَا يثبت مثله.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأَنا أَبُو عبد الله الْحَافِظ قَالَ: (قَالَ) أَبُو بكر بن إِسْحَاق الْفَقِيه: جملَة هَذِه الْأَخْبَار مرفوعها وموقوفها يرجع إِلَى عَطاء الْعَطَّار وَعبد الحميد وَعبد الْكَرِيم (ابْن) أبي أُميَّة، وَفِيهِمْ نظر.
وَقَالَ الْخطابِيّ: قَالَ أَكثر الْعلمَاء: لَا شَيْء عَلَيْهِ ويستغفر الله، وَزَعَمُوا أَن هَذَا الحَدِيث مُرْسل وَمَوْقُوف عَلَى ابْن عَبَّاس و (لَا يَصح) مُتَّصِلا وَمَرْفُوعًا، والذمم بريئة إِلَّا أَن تقوم الْحجَّة بشغلها.
وَقَالَ أَبُو عمر: حجَّة من لم يُوجب الْكَفَّارَة (اضْطِرَاب) هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس وَأَن مثله لَا تقوم بِهِ حجَّة، وَأَن الذِّمَّة عَلَى الْبَرَاءَة، وَلَا يجب أَن يثبت فِيهَا شَيْء لمسكين وَلَا غَيره إِلَّا بِدَلِيل لَا مدفع فِيهِ وَلَا مطْعن عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَعْدُوم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَلما ذكر الْحَافِظ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» (رِوَايَة) التِّرْمِذِيّ لَهُ من طريقيه، ثمَّ حَكَى(3/92)
(عَن) التِّرْمِذِيّ أَنه رُوِيَ مَوْقُوفا، قَالَ: وَلم يذكر ضعف الْإِسْنَاد. قَالَ: وَلَا يرْوَى بِإِسْنَاد يحْتَج بِهِ، وَقد رُوِيَ فِيهِ: «يتَصَدَّق بخمسي دِينَار» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُرْسلا، وَرَوَى فِيهِ: «يعْتق نسمَة» (قَالَ) وَقِيمَة النَّسمَة يَوْمئِذٍ دِينَار. وَلم (يخص) فِي إتْيَان الْحَائِض دَمًا (من) دم، ذكره النَّسَائِيّ عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا وَلَا يَصح فِي إتْيَان الْحَائِض إِلَّا التَّحْرِيم. وَقد تعقبه الْحَافِظ أَبُو الْحسن ابْن الْقطَّان فَقَالَ: لَيْسَ لَهُم مَا يعتلون بِهِ عَلَى رِوَايَة عبد الْكَرِيم غير أَنه رُوِيَ مَرْفُوعا وموقوفًا، وَعِنْدِي أَنه غير قَادِح، وَلَكنهُمْ يَزْعمُونَ أَن متن الحَدِيث بِالْجُمْلَةِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِوَايَة راوٍ بِعَيْنِه مُضْطَرب، وَذَلِكَ عِنْدِي خطأ من الاعتلال، وَالصَّوَاب أَن ينظر رِوَايَة كل راو بحسبها، وَيعلم مَا خرج (عَنهُ) فِيهَا، فَإِن صَحَّ من طَرِيق قُبل وَلَو كَانَت لَهُ طَرِيق آخر ضَعِيفَة، وهم إِذا قَالُوا: هَذَا رُوِيَ فِيهِ «بِدِينَار» ، وَرُوِيَ «نصف دِينَار» وَرَوَى بِاعْتِبَار صِفَات الدَّم (وَرُوِيَ) دون اعْتِبَارهَا، وَرُوِيَ بِاعْتِبَار أول الْحيض وَآخره، وَرُوِيَ غير ذَلِك، وَرُوِيَ «بخمسي دِينَار» وَرُوِيَ بِعِتْق نسمَة، قَامَت من هَذَا (فِي الزهن) صُورَة سوء هُوَ عِنْد التَّبْيِين وَالتَّحْقِيق لَا تضره، وَنحن نذكرهُ الْآن كَيفَ هُوَ(3/93)
صَحِيح بعد أَن تقدم أَن نقُول يحْتَمل قَوْله: «دِينَار أَو نصف دِينَار» ثَلَاثَة أُمُور، أَحدهَا: أَن يكون (حكمهَا) للتَّخْيِير، وَبَطل هَذَا بِأَن يُقَال (إِنَّمَا يَصح) التَّخْيِير بَين شَيْئَيْنِ أَو أَشْيَاء حكمهَا وَاحِد، فَإِذا (خَيَّر) بَين الشَّيْء وَبَعضه كَانَ بعض أَحدهمَا متروكًا بِغَيْر بدل. ثَانِيهَا: أَن يكون شكا من الرَّاوِي. ثَالِثهَا: أَن يكون بِاعْتِبَار حَالين. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يتَعَيَّن مِنْهَا، ونبينه الْآن فَنَقُول: لما رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «دِينَار أَو بِنصْف دِينَار» قَالَ: كَذَا الرِّوَايَة الصحيحية « (بِدِينَار) أَو بِنصْف دِينَار» وَرُبمَا لم يرفعهُ شُعْبَة توهين لَهُ، لاحْتِمَال أَن يكون عِنْده فِيهِ الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف، وَيكون ابْن عَبَّاس قد رَوَاهُ وَرَآهُ فَحَمله وَأَفْتَى بِهِ، وَكَذَا مَذْهَب التِّرْمِذِيّ فِي رِوَايَة خصيف فَإِنَّهُ لم يعبها بِأَكْثَرَ من أَنَّهَا رويت مَوْقُوفَة، وَطَرِيق خصيف ضَعِيفَة كَمَا بَيناهُ، فَأَما طَرِيق أبي دَاوُد فَصَحِيح، فَإِن عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب (الْكُوفِي) ، اعْتَمدهُ أهل الصَّحِيح مِنْهُم البُخَارِيّ وَمُسلم، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيّ (والكوفي) ، ويحق لَهُ فقد كَانَ مَحْمُود السِّيرَة فِي إمارته عَلَى الْكُوفَة لعمر بن عبد الْعَزِيز ضابطًا لما يرويهِ، وَمن دونه فِي الْإِسْنَاد لَا يسْأَل عَنْهُم (وسيتكرر) عَلَى سَمعك من بعض الْمُحدثين أَن هَذَا الحَدِيث فِي كَفَّارَة من أَتَى حَائِضًا لَا يَصح،(3/94)
فَليعلم أَنه لَا (عيب) لَهُ عِنْدهم إِلَّا الِاضْطِرَاب - زَعَمُوا - فَمِمَّنْ صرح بذلك: أَبُو عَلّي بن السكن قَالَ: (هَذَا) حَدِيث مُخْتَلف فِي إِسْنَاده وَلَفظه وَلَا يَصح مَرْفُوعا، لم يُصَحِّحهُ البُخَارِيّ، وَهُوَ صَحِيح من كَلَام ابْن عَبَّاس. انْتَهَى كَلَامه.
فَنَقُول لَهُ الرِّجَال الَّذين رَوَوْهُ مَرْفُوعا ثِقَات، وَشعْبَة إِمَام أهل الحَدِيث قد تثبت فِي رَفعه إِيَّاه، فَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنهُ مَرْفُوعا يَحْيَى الْقطَّان، وناهيك بِهِ، وغندر وَهُوَ أخص النَّاس بشعبة مَعَ ثقته. وَرَوَاهُ سعيد بن عَامر، عَن شُعْبَة فَقَالَ فِيهِ: عَن الحكم، عَن عبد الحميد، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس من قَوْله (وَقفه) عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ شُعْبَة: أما حفظي فمرفوع. وَقَالَ فلَان وَفُلَان أَنه كَانَ لَا يرفعهُ. فَقَالَ لَهُ بعض الْقَوْم: يَا أَبَا بسطَام حَدثنَا حفظك وَدعنَا من فلَان وَفُلَان. فَقَالَ: وَالله مَا أحب أَنِّي حدثت بِهَذَا - وَسكت - أَو أَنِّي عمرت فِي الدُّنْيَا عمر نوح عَلَيْهِ السَّلَام فِي قومه. فَهَذَا غَايَة التثبت فِيهِ، وهبك أَن أوثق أهل الأَرْض خَالفه فِيهِ، فَوَقفهُ عَلَى ابْن عَبَّاس كَانَ مَاذَا؟ أَلَيْسَ إِذا رَوَى (الصَّحَابِيّ) حَدِيثا عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجوز لَهُ بل يجب عَلَيْهِ أَن ينْقل مُقْتَضَاهُ فيفتي بِهِ، هَذَا قُوَّة للْخَبَر لَا توهين لَهُ، فَإِن قلت فَكيف بِمَا ذكر ابْن السكن، ثَنَا يَحْيَى وَعبد الله بن سُلَيْمَان وَإِبْرَاهِيم قَالُوا: ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، نَا شُعْبَة بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم مثله مَوْقُوفا، فَقَالَ لَهُ رجل: إِنَّك كنت ترفعه؟ فَقَالَ: إِنِّي كنت مَجْنُونا(3/95)
فصححت. (قلت: فَظن أَنه لما) أَكثر عَلَيْهِ فِي رَفعه إِيَّاه توقي رَفعه، لَا لِأَنَّهُ مَوْقُوف، لَكِن إبعاد (الظنة) عَن نَفسه، وَأبْعد من هَذَا الِاحْتِمَال أَن يكون شكّ فِي رَفعه فِي ثَانِي حَال فَوَقفهُ، فَإِن كَانَ هَذَا فَلَا يبالى بذلك أَيْضا، بل لَو نسي (الحَدِيث) بعد أَن حدث بِهِ لم يضرّهُ، فَإِن أَبيت إِلَّا أَن يكون شُعْبَة رَجَعَ عَن رَفعه، فَاعْلَم أَن غَيره من أهل (النَّقْد) وَالْأَمَانَة (قد) رَوَاهُ عَن الحكم مَرْفُوعا كَمَا رَوَاهُ شُعْبَة (فِيمَا تقدم، وَهُوَ عَمْرو بن قيس الْملَائي وَهُوَ ثِقَة، قَالَ فِيهِ عَن الحكم مَا قَالَه شُعْبَة) (من رَفعه) إِيَّاه، إِلَّا أَن لَفظه: «فَأمره أَن يتَصَدَّق بِنصْف دِينَار» وَلم يذكر (دِينَارا) وَذَلِكَ لَا يضرّهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا حَكَى قَضِيَّة مُعينَة، قَالَ فِيهِ: «وَاقع رجل امْرَأَته وَهِي حَائِض فَأمره عَلَيْهِ السَّلَام أَن يتَصَدَّق بِنصْف دِينَار» ذكره النَّسَائِيّ، فَهَذِهِ حَال يجب فِيهَا نصف دِينَار، وَهُوَ مُؤَكد لما قُلْنَاهُ من أَن دِينَارا و (نصفا) إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار (حالتين) لَا تَخْيِير وَلَا شكّ.
ووراه أَيْضا مَرْفُوعا هَكَذَا عَن عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور، قَتَادَة وَهُوَ من (هُوَ) رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيثه بِلَفْظ: «بِدِينَار أَو نصف دِينَار» إِلَّا أَن الْأَظْهر فِي هَذَا أَنه شكّ من الرَّاوِي فِي هَذِه (الْقِصَّة) بِعَينهَا فَهَذَا (شَأْن حَدِيث) مقسم وَإِن تقدم عَنهُ فِيهِ وَقفا(3/96)
وإرسالا وألفاظًا أخر لَا يَصح (مِنْهَا) شَيْء غير مَا ذَكرْنَاهُ، وَأما مَا رُوِيَ فِيهِ من «خمسي دِينَار» أَو «عتق نسمَة» فَمَا مِنْهَا شَيْء يعول عَلَيْهِ، فَلَا يعْتَمد فِي نَفسه، وَلَا يطعن بِهِ عَلَى حَدِيث مقسم فَاعْلَم ذَلِك. هَذَا آخر كَلَامه، وَهُوَ حفيل جليل، وَوَقع فِي أَوَائِل كَلَامه أَن ابْن جريج وَقفه عَن ابْن عَبَّاس، وَقد أسلفت لَك (من رَوَاهُ) عَنهُ، رَفعه من طَرِيق الْبَيْهَقِيّ، وحذا حذوه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فَقَالَ فِي «الإِمَام» : قد حكم الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ بِصِحَّة حَدِيث مقسم عَن ابْن عَبَّاس، وَأخرجه فِي «مُسْتَدْركه» وَكَذَلِكَ الْحَافِظ أَبُو الْحسن بن الْقطَّان حكم بِصِحَّتِهِ - أَعنِي من طَرِيق أبي دَاوُد أَي كَمَا (أسلفناه) ثمَّ نقل كَلَامه كَمَا أسلفناه وَبحث مَعَه فِي بعضه، ثمَّ قَالَ: وَإِذا تنبهت لهَذِهِ الدقائق الْمَذْكُورَة ظهر لَك احْتِيَاج هَذَا الْفَنّ إِلَى جودة التفكر (وَالنَّظَر) وَأَن الْأَمر لَيْسَ بالهين (لَا) كَمَا يَظُنّهُ قوم أَنه مُجَرّد [حفظ] وَنقل لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى غَيرهمَا. ثمَّ أجَاب عَن الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ الِاخْتِلَاف فَقَالَ: رِوَايَة مطر عَن الحكم عَن مقسم تُؤْخَذ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا فِي رِوَايَة شُعْبَة وَغَيره، وَهِي إِثْبَات عبد الحميد بَينهمَا، وَكَذَلِكَ الرِّوَايَات عَن قَتَادَة يحكم فِيهَا بِالزَّائِدِ، (فَإِنَّهُ) كَانَ يُرْسل وَيقطع ويسند، فَإِذا تبين بِالْأُخْرَى أَن الحكم لم(3/97)
يسمع من مقسم وسَمعه من عبد الحميد أَخذ بهَا، وَقد أَتَى حَمَّاد بن الْجَعْد بِالْأَمر يَقِينا، وَصرح بِالتَّحْدِيثِ فِيمَا بَين الْقَوْم كَمَا سلف، وَأما مَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ فِي الرِّوَايَة عَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه اخْتِلَاف ثَالِث فِي إِسْنَاده وَمَتنه فضعيف لوَجْهَيْنِ، أَحدهمَا: أَنَّهَا رِوَايَة لَو سلم راويها من الْكَلَام لم يجْزم بهَا الرَّاوِي، إِنَّمَا قَالَ: «أَظُنهُ عَن عمر» فَلَا يعْتَرض بهَا عَلَى الْمُتَيَقن. الثَّانِي: مَا (أجَاب بِهِ) ابْن الْقطَّان من أَنَّهَا ضَعِيفَة، وَأَنه لَا يطعن بهَا عَلَى حَدِيث مقسم.
ثمَّ أجَاب عَن الْوَجْه الثَّالِث بِأَن مَا قَالَه الشَّافِعِي من كَونه لم يثبت، لَعَلَّه يُشِير بِهِ إِلَى رِوَايَة خصيف وَعبد الْكَرِيم، قَالَ: وَهَذَا كَلَام مُجمل، وَمن صحّح فقد فصل وَبَين مَا عِنْده، وَالْإِثْبَات مقدم عَلَى النَّفْي - قلت: وَقد حَكَى الْمَاوَرْدِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ فِي الْقَدِيم: إِن صَحَّ قلت بِهِ - وَأما قَول أبي بكر بن أبي إِسْحَاق فِي عَطاء الْعَطَّار وَعبد الْكَرِيم وَعبد الحميد أَن فيهم نظرا؛ فَلَا نعترضه فِي عَطاء وَعبد الْكَرِيم، وَلَكِن أَي نظر (لَهُ) فِي عبد الحميد؟ ! وَقد احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيح، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيّ (والكوفي) وَذكره ابْن حبَان فِي [ثِقَات] أَتبَاع التَّابِعين قَالَ: وَأي دَلِيل عَلَى الْعَدَالَة أعظم من (ولَايَة) أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن عبد الْعَزِيز لَهُ، و (تَقْدِيمه) لَهُ عَلَى الحكم فِي أُمُور الْمُسلمين قَالَ: وَلم(3/98)
يبلغنَا (شَيْء) يكدر هَذَا إلاما ذكر الْخلاف بعد مَا تقدم من رِوَايَته عَن الْمَيْمُونِيّ عَنهُ فَقَالَ: وَقَالَ غير الْمَيْمُونِيّ عَنهُ، عَن أَحْمد: لَو صَحَّ الحَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كُنَّا نرَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَة. قيل لَهُ: هَل فِي نَفسك مِنْهُ شي؟ قَالَ: نعم، لِأَنَّهُ من حَدِيث (فلَان) أَظُنهُ عبد الحميد.
قَالَ الشَّيْخ: وَهَذَا لَا يلْزم الرُّجُوع إِلَيْهِ لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن ذَلِك الْغَيْر مَجْهُول، وَقد رَوَى أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد أَنه قَالَ: مَا أحسن حَدِيث عبد الحميد فِيهِ. قيل لَهُ: أنذهب إِلَيْهِ؟ قَالَ: نعم، إِنَّمَا هُوَ كَفَّارَة.
وَالثَّانِي: أَن ذَلِك الْغَيْر لم يجْزم بِأَن فلَانا هُوَ عبد الحميد، بل قَالَ: أَظُنهُ. و (الظَّن) لَا يقْدَح فِيمَن تَيَقّن تعديله. هَذَا آخر كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «إِمَامه» وَأخرج الحَدِيث فِي «إلمامه» .
وَأخرجه أَيْضا ابْن السكن فِي صحاحه بِلَفْظ الْجَزْم «بِنصْف دِينَار» وبلفظ الشَّك قَالَ: وَرِوَايَة قَتَادَة عَن ابْن عَبَّاس رَفعه عَلَى الشَّك.
قلت: بَين قَتَادَة وَابْن عَبَّاس عبد الحميد ومقسم. قَالَ: فَكَانَ قَتَادَة يَقُول: «إِن كَانَ وَاحِدًا فدينار وَإِلَّا (فنصفه» ثمَّ رَوَاهُ كَذَلِك مَرْفُوعا «أَنه أمره أَن يتَصَدَّق بِدِينَار فَإِن لم يجد) فَنصف دِينَار» .
وَلما ذكر الطَّحَاوِيّ فِي «مشكله» حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا قَالَ:(3/99)
رُوِيَ عَن عمر «أَنه كَانَت لَهُ امْرَأَة تكرهُ الْجِمَاع، فَوَقع عَلَيْهَا وَهِي حَائِض، فَسَأَلَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن ذَلِك؟ فَأمره أَن يتَصَدَّق بخمسي دِينَار» . قَالَ: وَالْأَحَادِيث الأول أولَى من هَذَا لتثبت رواتها ولتجاوزهم فِي الْمِقْدَار.
قلت: وَضعف (هَذَا) الحَدِيث من الْفُقَهَاء بعد الشَّافِعِي: إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ، وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي «مشكله» : إِنَّه حَدِيث ضَعِيف من أَصله لَا يَصح رَفعه، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف عَلَى ابْن عَبَّاس من قَوْله. قَالَ: وَقد حكم الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ النَّيْسَابُورِي بِأَنَّهُ حَدِيث صَحِيح وَلَا الْتِفَات إِلَى ذَلِك مِنْهُ فَإِنَّهُ خلاف (قَول غَيره من أَئِمَّة الحَدِيث) (وَالْحَاكِم) مَعْرُوف بالتساهل فِي مثل ذَلِك.
قلت: لم يتساهل فِي ذَلِك بل الْحق مَعَه كَمَا (قَرَّرْنَاهُ) وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك النَّوَوِيّ كعادته فَقَالَ فِي «خلاصته» بعد أَن ذكره فِي فصل الضَّعِيف: لَا يعْتد بقول الْحَاكِم أَنه حَدِيث صَحِيح، فَإِنَّهُ مَعْرُوف بالتساهل فِي التَّصْحِيح. قَالَ: وَاتفقَ الْحفاظ عَلَى ضعف هَذَا الحَدِيث واضطرابه وتلونه. وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» أَيْضا: اتّفق المحدثون عَلَى ضعفه واضطرابه، وَرُوِيَ مَوْقُوفا ومرسلاً وألوانًا كَثِيرَة، وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَلَا يَجعله ذَلِك صَحِيحا. قَالَ: وَأما قَول الْحَاكِم أَنه صَحِيح فخلاف مَا قَالَه أَئِمَّة الحَدِيث. قَالَ: وَهُوَ عِنْدهم(3/100)
مَعْرُوف بالتساهل. وَقَالَ فِي «تنقيحه» : هَذَا (حَدِيث) ضَعِيف بِاتِّفَاق الْحفاظ، وأنكروا عَلَى الْحَاكِم تَصْحِيحه، وَإِنَّمَا هُوَ من قَول ابْن عَبَّاس مَوْقُوف عَلَيْهِ هَذَا آخر كَلَامه.
وَالْحق عدم الْإِنْكَار عَلَى الْحَاكِم و (تَصْحِيحه) من (طَرِيقه) كَمَا سبق تَقْرِيره وَاضحا وَالله (الملهم للصَّوَاب) .
وأختم الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث، وَلَا يسأم من طوله؛ فقد حصل فِيهِ مهمات يرحل إِلَيْهَا، وجواهر يُعَامل عَلَيْهَا بقولة (غَرِيبَة) حَكَاهَا الْفَقِيه نجم الدَّين بن الرّفْعَة فِي «كِفَايَته» فِي كتاب حد الزِّنَا، وَهِي أَن بَعضهم ادَّعَى نسخ هَذَا الحَدِيث (وَقَالَ إِنَّه ورد فِي أول الْإِسْلَام وَكَانَت الْعقُوبَة بِالْمَالِ، ثمَّ ورد مَا نسخه، وَهُوَ حَدِيث «لَيْسَ فِي المَال حق سُوَى الزَّكَاة» . وَهَذَا الحَدِيث) لَا يصلح أَن يكون نَاسِخا لضَعْفه الشَّديد كَمَا سأبينه فِي كتاب الزَّكَاة، حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ إِن شَاءَ الله (وَبِه التَّوْفِيق) .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن معَاذ رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «سَأَلت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَمَّا يحل للرجل من امْرَأَته وَهِي حَائِض، فَقَالَ: مَا فَوق الْإِزَار» .
هَذَا الحَدِيث مَدَاره عَلَى طَرِيقين:
إِحْدَاهمَا: عَن هِشَام بن عبد الْملك الْيَزنِي، عَن بَقِيَّة، عَن(3/101)
(سعيد) بن عبد الله الْأَغْطَش، عَن عبد الرَّحْمَن بن عَائِذ، عَن معَاذ مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فِي بَاب الْمَذْي، وَزَاد: «وَالتَّعَفُّف عَن ذَلِك أفضل» ، وَهَذَا الطَّرِيق مَعْلُول بِبَقِيَّة و (بِسَعِيد) الْأَغْطَش.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم: (هَذَا الحَدِيث) لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ عَن بَقِيَّة، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ عَن سعيد الْأَغْطَش وَهُوَ مَجْهُول.
وَكَذَا قَالَ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» : إِن فِي إِسْنَاده بَقِيَّة و (سعيد) الْأَغْطَش وهما ضعيفان.
قلت: وَلم أر من وصف سعيد بن عبد الله (الْأَغْطَش) بالضعف، نعم هُوَ مَجْهُول الْحَال، كَمَا قَالَ ابْن حزم وَإِن كَانَ رَوَى عَنهُ جمَاعَة فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بالضعف الْجَهَالَة، وأجمل أَبُو دَاوُد القَوْل فِي (ضعف) هَذَا الحَدِيث فَقَالَ فِي «سنَنه» عقب رِوَايَته لَهُ: إِنَّه لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش قَالَ: حَدَّثَني سعيد بن عبد الله(3/102)
الْخُزَاعِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن عَائِذ «أَن رجلا سَأَلَ معَاذ بن جبل عَمَّا يُوجب الْغسْل من الْجِمَاع، وَعَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد، وَعَما يحل للحائض من زَوجهَا، فَقَالَ معَاذ: سَأَلت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: إِذا جَاوَزت الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل، وَأما الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد فتوشح بِهِ، وَأما مَا يحل من الْحَائِض فَيحل مِنْهَا مَا فَوق الْإِزَار و (استعفاف) عَن ذَلِك أفضل» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَذَلِك، وَإِسْمَاعِيل قد عرفت حَاله فِي الحَدِيث السَّابِع (فِي) بَاب الْغسْل، وَابْن عَائِذ تقدم فِي الحَدِيث الثَّامِن من بَاب الْأَحْدَاث.
قلت: وَرُوِيَ مثل حَدِيث (معَاذ من حَدِيث) عمر وَعبد الله بن سعد وَعَائِشَة، وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَيْهَا فِي تخريجي لأحاديث (الْمُهَذّب) ، فسارع إِلَيْهِ.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «من رتع حول الْحمى يُوشك أَن يواقعه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مُتَّفق عَلَى صِحَّته وَعظم موقعه، وَأَنه أحد الْأَحَادِيث الَّتِي عَلَيْهَا مدَار الْإِسْلَام.
قَالَ جمَاعَة: هُوَ ثلث الْإِسْلَام. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: ربعه. أَخْرجَاهُ(3/103)
من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُول - وأهوى النُّعْمَان بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ -: «إِن (الْحَلَال) بَين، و (إِن) الْحَرَام بَين، وَبَينهمَا أُمُور مُشْتَبهَات لَا يعلمهُنَّ كثير من النَّاس، فَمن اتَّقَى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لدينِهِ وَعرضه، وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام، كَالرَّاعِي يرْعَى حول الْحمى يُوشك أَن يَقع فِيهِ، أَلا وَإِن لكل ملك حمى، أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه، أَلا وَإِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله، أَلا وَهِي الْقلب» . هَذَا لفظ مُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ فِي «الْإِيمَان» فِي بَاب فضل من اسْتَبْرَأَ [لدينِهِ] نَحوه، وَقَالَ: «أَلا وَإِن حمى الله فِي أرضه مَحَارمه» ، وَلَفظه فِي الْبيُوع: «الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين وَبَينهمَا أُمُور مشتبهة، فَمن ترك مَا شبه عَلَيْهِ من الْإِثْم (كَانَ لما استبان أترك، وَمن اجترأ عَلَى مَا يشك فِيهِ من الْإِثْم) أوشك أَن يواقع مَا استبان، والمعاصي حمى الله من يرتع حول الْحمى يُوشك أَن يَقع فِيهِ» (وَفِي نُسْخَة «يَقع فِيهِ» ) وَعَلَيْهَا اقْتصر عبد الْحق فِي «جمعه بَين الصَّحِيحَيْنِ» .(3/104)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كنت مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي الخميلة، فانسللت، فَقَالَ: أنفست؟ فَقلت: نعم. (فَقَالَ) : خذي ثِيَاب حيضتك وعودي إِلَى مضجعك. ونال مني مَا ينَال الرجل من امْرَأَته إِلَّا مَا تَحت الْإِزَار» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» ، وَهُوَ تبع إِمَامه، فَإِنَّهُ ذكره كَذَلِك فِي «نهايته» وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور إِلَّا آخِره، وَهُوَ: «ونال مني ... » إِلَى آخِره، فَلم أعثر عَلَيْهَا وَلم يعثر عَلَيْهَا قبلي ابْن الصّلاح، ثمَّ النَّوَوِيّ، وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» يُنكر عَلَى الْغَزالِيّ فِي «الْوَسِيط» كَونه رَوَاهَا، قَالَ: وَهِي زِيَادَة غير مَعْرُوفَة فِي كتب الحَدِيث الْمُعْتَمدَة.
قلت: وَلَفظ حَدِيثهمَا فِي «الصَّحِيح» : «كَانَت إحدانا إِذا كَانَت حَائِضًا أمرهَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن تأتزر فِي فَور (حَيْضَتهَا) ثمَّ يُبَاشِرهَا، قَالَت: وَأَيكُمْ يملك إربه كَمَا كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يملك إربه» .
وَفِي لفظ: «كَانَت إحدانا إِذا كَانَت حَائِضًا أمرهَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتأتزر بإزارها ثمَّ يُبَاشِرهَا» .
(رَوَاهُمَا) مُسلم فِي «صَحِيحه» وَلَفظ البُخَارِيّ عَن عَائِشَة: «كَانَ يَأْمُرنِي فأتزر فيباشرني وَأَنا حَائِض» .(3/105)
وَرِوَايَة «الْمُوَطَّأ» قريبَة من رِوَايَة المُصَنّف، وَمن سبقه إِلَى قَوْله: «مضجعك» فَإِنَّهُ رَوَى الحَدِيث عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن «أَن عَائِشَة زوج النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَت مُضْطَجِعَة مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي ثوب وَاحِد وَإِنَّهَا وَثَبت وثبة شَدِيدَة، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَا لَك لَعَلَّك نفست؟ - يَعْنِي الْحَيْضَة - قَالَت: نعم. قَالَ: شدي عَلَى نَفسك إزارك، ثمَّ عودي إِلَى مضجعك» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا رَوَاهُ مَالك مُرْسلا. وَأخرجه قبل ذَلِك - أَعنِي الْبَيْهَقِيّ - من حَدِيث شريك بن عبد الله - هُوَ ابْن أبي (نمر) - عَن عَطاء بن يسَار، عَن عَائِشَة قَالَت: «كنت مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي لِحَاف وَاحِد، فانسللت، فَقَالَ: مَا شَأْنك؟ فَقلت: حِضْت، فَقَالَ: شدي عَلَيْك إزارك، ثمَّ ادخلي» .
فَائِدَة: الخَمِيلة - فِي رِوَايَة المُصَنّف - بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة، وَكسر الْمِيم، قَالَ أهل اللُّغَة: هِيَ القطيفة، وَهِي كل ثوب لَهُ خمل من أَي شَيْء كَانَ. وَقيل: هِيَ الْأسود من الثِّيَاب. (وَعبارَة الْجَوْهَرِي: الخمل: الهُدب والطِّنفسة أَيْضا) . وفور حَيْضَتهَا - بِفَتْح الْحَاء، وَإِسْكَان الْوَاو - وَمَعْنَاهُ: معظمها وَوقت كثرتها. وَالْمرَاد بِالْمُبَاشرَةِ: التقاء البشرتين عَلَى أَي وَجه كَانَ. وحيضتها: بِفَتْح (الْحَاء) أَي الْحيض، (قَالَه) النَّوَوِيّ(3/106)
فِي (شَرحه لمُسلم) ، وَفِي (الْمُحكم) : الْحَيْضَة - يَعْنِي بِفَتْح الْحَاء - الْمرة الْوَاحِدَة. والحِيضة - يَعْنِي بِكَسْر الْحَاء (الِاسْم. قَالَ: وَقيل: الْحَيْضَة - يَعْنِي بِالْكَسْرِ) الدَّم (نَفسه) وَفِي «الصِّحَاح» : الحَيضة: الْمرة الْوَاحِدَة. والحِيضة بِالْكَسْرِ: الِاسْم. (إربه) - بِكَسْر الْهمزَة، وَإِسْكَان الرَّاء -: الْحَاجة، وَرُوِيَ (بِفَتْحِهَا) .
وَمَعْنى تأتزر: تشد إزَارهَا تستر سرتها وَمَا تحتهَا إِلَى الرّكْبَة فَمَا تحتهَا.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ من حَدِيث أم سَلمَة مثل حَدِيث عَائِشَة الْمُتَقَدّم.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، لَكِن بِدُونِ تِلْكَ الزِّيَادَة (الْمُتَقَدّمَة الْمُنكرَة) فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، عَنْهَا قَالَت: «بَينا أَنا مُضْطَجِعَة مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي الخميصة إِذْ حِضْت، فانسللت، فَأخذت ثِيَاب حيضتي، فَقَالَ(3/107)
رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنفست؟ قلت: نعم. فدعاني (فاضطجعت) مَعَه فِي الخميلة» .
فَائِدَة: مَعْنَى انسللت: ذهبت فِي خُفْيَة.
وحيضتي - بِكَسْر الْحَاء - وَهِي حَالَة الْحيض (أَي أخذت) الثِّيَاب الْمعدة لَهُ من الْحيض. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَيحْتَمل فتح الْحَاء: الثِّيَاب الَّتِي ألبسها فِي حَال حيضتي، فَإِن الْحَيْضَة - بِالْفَتْح - هِيَ الْحيض.
وأنفست: - بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء - أَي حضتِ. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: يُقَال فِي الْولادَة بِضَم النُّون وَفتحهَا، وَفِي الْحيض بِالْفَتْح لَا غير، وَنقل أَبُو حَاتِم عَن الْأَصْمَعِي الْوَجْهَيْنِ فِيهَا.
الحَدِيث السَّادِس عشر
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ لفاطمة بنت أبي حُبَيْش: «توضئي لكل صَلَاة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: « (جَاءَت) فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي امْرَأَة أسْتَحَاض فَلَا أطهر، أفأدع الصَّلَاة؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا ذَلِك عرق، وَلَيْسَت بالحيضة، فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة، فَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك(3/108)
الدَّم وَصلي» .
قَالَ أَبُو مُعَاوِيَة فِي حَدِيثه: «وتوضئي لكل صَلَاة، حتَّى يَجِيء ذَلِك الْوَقْت» .
رَوَاهُ كَذَلِك التِّرْمِذِيّ من حَدِيث وَكِيع وَعَبدَة وَأبي مُعَاوِيَة، عَن هَاشم بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَنْهَا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث وَكِيع، عَن الْأَعْمَش، عَن حبيب بن أبي ثَابت، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة قَالَت: (جَاءَت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ... » فَذكر خَبَرهَا قَالَ: «ثمَّ اغْتَسِلِي، ثمَّ توضئي لكل صَلَاة وَصلي» .
(وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث وَكِيع، عَن الْأَعْمَش (إِلَى عَائِشَة) قَالَت: «جَاءَت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسْتَحَاض فَلَا أطهر، أفأدع الصَّلَاة؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا ذَلِك عرق وَلَيْسَ بالحيضة، اجتنبي الصَّلَاة أَيَّام محيضك، ثمَّ اغْتَسِلِي، وتوضئي لكل صَلَاة، وَإِن قطر الدَّم عَلَى الْحَصِير» ) .
(و) رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث حَمَّاد، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَنْهَا قَالَت: «استحيضت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش (فَسَأَلت) النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(3/109)
فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسْتَحَاض فَلَا أطهر، أفأدع الصَّلَاة؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِك عرق وَلَيْسَت بالحيضة (فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة، وَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم وتوضئي وَصلي، فَإِنَّمَا ذَلِك عرق وَلَيْسَت الْحَيْضَة» و) قيل لَهُ: فالغسل، قَالَ: وَذَلِكَ لَا يشك فِيهِ أحد» .
وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» من هَذَا الْوَجْه بِنَحْوِهِ، وَفِي آخِره: «قَالَ هِشَام: وَكَانَ أبي يَقُول: تَغْتَسِل غسل الأول، ثمَّ مَا يكون بعد ذَلِك (فَإِنَّهَا) تطهر وَتصلي» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان من حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو (عَن) ابْن شهَاب، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة « (أَن) فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش كَانَت تستحاض، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِن دم الْحيض أسود يعرف، فَإِذا كَانَ ذَلِك فأمسكي عَن الصَّلَاة، فَإِذا كَانَ الآخر فتوضئي وَصلي» .
وَضعف أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث (بِمَا لَيْسَ) فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ بِأَن قَالَ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف. قَالَ: وَدلّ عَلَى ضعفه أَن حفصًا أوقفهُ وَأنكر رَفعه، وَأَوْقفهُ أَيْضا أَسْبَاط عَن الْأَعْمَش مَوْقُوفا عَلَى عَائِشَة.(3/110)
قَالَ: وَرَوَاهُ (ابْن) دَاوُد عَن الْأَعْمَش مَرْفُوعا أَوله. وَأنكر أَن يكون فِيهِ الْوضُوء عِنْد كل صَلَاة، ثمَّ أوضح ضعفه. وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «إِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك أثر الدَّم وتوضئي وَصلي» (قَالَ: رَوَاهُ مُسلم) فِي «الصَّحِيح» عَن خلف بن هِشَام، عَن حَمَّاد دون قَوْله: «وتوضئي» ثمَّ قَالَ مُسلم: وَفِي حَدِيث حَمَّاد بن زيد حرف تركنَا ذكره. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا لِأَن هَذِه الزِّيَادَة غير مَحْفُوظَة، إِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة وَغَيره عَن هِشَام بن عُرْوَة هَذَا الحَدِيث وَفِي آخِره: «قَالَ هِشَام: قَالَ أبي: ثمَّ توضئي لكل صَلَاة حتَّى يَجِيء ذَلِك الْوَقْت» . وَكَأَنَّهُ ضعفه بمخالفة سَائِر الروَاة عَن هِشَام، ونازعه صَاحب «الإِمَام» فِي ذَلِك (فَقَالَ: قد) عرف أَكثر مَذْهَب الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء فِي قبُول زِيَادَة الْعدْل، وَحَمَّاد بن زيد من أكابرهم.
قلت: وَلم ينْفَرد حَمَّاد بذلك عَن هِشَام، بل رَوَاهُ عَنهُ أَبُو عوَانَة كَمَا أخرجه الطَّحَاوِيّ فِي كتاب «الرَّد عَلَى الْكَرَابِيسِي» من طَرِيقه بِإِسْنَاد جيد، وَرَوَاهُ (عَنهُ) أَيْضا حَمَّاد بن سَلمَة.
كَمَا أخرجه الدَّارمِيّ فِيمَا سلف، وَرَوَاهُ عَنهُ أَيْضا أَبُو حنيفَة كَمَا ذكره الْبَيْهَقِيّ و (الطَّحَاوِيّ) .(3/111)
وَرَوَاهُ عَنهُ أَيْضا وَكِيع وَعَبدَة وَمُعَاوِيَة كَمَا سلف من طَرِيق التِّرْمِذِيّ مصححًا لَهُ، وَأَبُو حَمْزَة كَمَا أخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيثه عَنهُ، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة: «أَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش أَتَت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسْتَحَاض الشَّهْر والشهرين؟ قَالَ: لَيْسَ ذَلِك بحيض، وَلكنه عرق، فَإِذا أقبل الْحيض فدعي الصَّلَاة عدد أيامك الَّتِي كنت تحيضين فِيهِ، فَإِذا أَدْبَرت فاغتسلي وتوضئي لكل صَلَاة» .
ثمَّ قَالَ: (ذكر) الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن هَذِه اللَّفْظَة تفرد بهَا أَبُو حَمْزَة وَأَبُو حنيفَة. ثمَّ رَوَى من حَدِيث أبي عوَانَة، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن الْمُسْتَحَاضَة، فَقَالَ: تدع الصَّلَاة أَيَّامهَا، ثمَّ تَغْتَسِل غسلا وَاحِدًا، ثمَّ تتوضأ (عِنْد كل) صَلَاة» . ثمَّ قَالَ صَاحب «الإِمَام» : كَأَن الْبَيْهَقِيّ اسْتدلَّ بِرِوَايَة (أبي) مُعَاوِيَة وَمَا وَقع فِيهَا من انْفِصَال قَول عُرْوَة من الحَدِيث عَلَى أَنه من قَول عُرْوَة لَا مُسْندًا فِي الحَدِيث (وَفِي) ذَلِك نظر.
قلت: قد وَصلهَا غَيره كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
تَنْبِيه: قَول عُرْوَة أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَنقل(3/112)
ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» (عَن) اللالكائي عزوه إِلَى (الصَّحِيحَيْنِ) وَأقرهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك إِنَّمَا هُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ فَقَط.
(فَائِدَة) : (فَاطِمَة) هَذِه، هَل كَانَت مُمَيزَة أَو مُعْتَادَة؟ (بحث) قَدمته فِي (أول) بَاب الْغسْل فَرَاجعه من ثمَّ.
الحَدِيث السَّابِع عشر
« (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لحمنة بنت جحش: أَنعَت لَك الكرسف؟ قَالَت: هُوَ [أَكثر] من ذَلِك. قَالَ: فاتخذي ثوبا. .» الحَدِيث.
هَذَا الحَدِيث هُوَ طرف من الحَدِيث الثَّانِي من أَحَادِيث الْبَاب، وَقد سلف الْكَلَام عَلَيْهِ بِطُولِهِ وفوائده.
الحَدِيث الثَّامِن عشر)
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «جَاءَت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي امْرَأَة أسْتَحَاض فَلَا أطهر أفأدع الصَّلَاة؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا ذَلِك عرق وَلَيْسَت بالحيضة، فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة، وَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي» .(3/113)
قَالَ الرَّافِعِيّ: أَخْرجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد تقدم بَيَانه وَاضحا فِي أول بَاب الْغسْل، وَذكر بعضه المُصَنّف فِي أَوَائِل الْبَاب وَهُوَ الحَدِيث الثَّالِث مِنْهُ.
وَذكر فِي أثْنَاء الْبَاب أَنه رُوِيَ: «فَإِذا أَدْبَرت فاغتسلي وَصلي» وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أخرجهَا البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن عَائِشَة «أَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش كَانَت تستحاض فَسَأَلت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: ذَلِك عرق وَلَيْسَت بالحيضة، فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة، وَإِذا أَدْبَرت فاغتسلي وَصلي» .
فَائِدَة: الْعرق بِكَسْر الْعين وَإِسْكَان الرَّاء، هَذَا الْعرق يُقَال لَهُ العاذل - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة - قَالَه الْأَزْهَرِي.
وَحَكَى ابْن سَيّده إهمالها وَبدل اللَّام رَاء، وَهَذَا الْعرق (فَمه) فِي أدنَى الرَّحِم، وَمَعْنى «إِنَّمَا ذَلِك عرق» : أَي دم عرق.
(الحَدِيث) التَّاسِع عشر
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهَا: «إِن دم الْحيض أسود يعرف، وَإِن لَهُ رَائِحَة، فَإِذا كَانَ ذَلِك فدعي الصَّلَاة، وَإِذا كَانَ الآخر فاغتسلي وَصلي» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» من(3/114)
حَدِيث عُرْوَة بن الزبير، عَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش «أَنَّهَا كَانَت تستحاض فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِذا كَانَ دم الْحيض فَإِنَّهُ دم أسود يعرف، فَإِذا كَانَ ذَلِك فأمسكي عَن الصَّلَاة، فَإِذا كَانَ الآخر فتوضئي وَصلي» .
هَذَا لفظ أبي دَاوُد، وَلَفظ النَّسَائِيّ مثله إِلَّا أَنه قَالَ بعد «فتوضئي» : «فَإِنَّمَا هُوَ عرق» وَلم يذكر: «وَصلي» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِن دم الْحيض أسود يعرف، فَإِذا كَانَ ذَلِك فأمسكي عَن الصَّلَاة، فَإِذا كَانَ الآخر فتوضئي وَصلي» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرُوِيَ عَن الْعَلَاء بن الْمسيب وَشعْبَة، عَن الحكم، عَن أبي جَعْفَر، قَالَ الْعَلَاء: عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَأَوْقفهُ شُعْبَة « (تَوَضَّأ) لكل صَلَاة» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ أبي دَاوُد سَوَاء، وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» بِزِيَادَة (بعد) «وَصلي» : «فَإِنَّمَا ذَلِك عرق» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي «محلاه» فِي كتاب النِّكَاح: إِنَّه حَدِيث صَحِيح.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: حَدِيث (مُحْتَج) بِهِ.(3/115)
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «إلمامه» بعد أَن عزاهُ إِلَى رِوَايَة النَّسَائِيّ: رِجَاله رجال مُسلم.
وَخَالف ابْن الْقطَّان فَقَالَ فِي «الْوَهم وَالْإِيهَام» لَهُ: هُوَ فِيمَا أرَى مُنْقَطع، لِأَنَّهُ يرْوَى عَن عُرْوَة، عَن فَاطِمَة. وَعَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة، عَن فَاطِمَة. قَالَ: وَلَو صَحَّ أَن عُرْوَة سمع من فَاطِمَة لم (يَقع) ذَلِك فِي الأول لإدخال عُرْوَة (بَينهَا) وَبَينه (فِيهِ) عَائِشَة.
قَالَ: وَزعم ابْن حزم أَن عُرْوَة أدْرك فَاطِمَة وَلم يستبعد أَن (يسمعهُ) من خَالَته وَمن ابْنة عَمه. قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي غير صَحِيح. قَالَ: وَقد يظنّ السماع مِنْهَا لحَدِيث الْمُنْذر بن الْمُغيرَة عَن عُرْوَة أَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش حدثته «أَنَّهَا سَأَلت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فشكت إِلَيْهِ الدَّم فَقَالَ لَهَا: إِنَّمَا ذَلِك عرق، فانظري ... » الحَدِيث.
وَهَذَا لَا يَصح (مِنْهُ) سَمَاعه مِنْهَا للْجَهْل بِحَال الْمُنْذر بن الْمُغيرَة، قَالَ أَبُو حَاتِم: مَجْهُول لَيْسَ بالمشهور. وَفِي حَدِيث آخر سَمَاعه مِنْهَا عَلَى الشَّك. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن فَاطِمَة أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ لَهَا: «إِذا رَأَيْت الدَّم الْأسود فأمسكي عَن الصَّلَاة، وَإِذا كَانَ الْأَحْمَر(3/116)
فتوضئي» فَقَالَ: لم يُتَابع مُحَمَّد بن عَمْرو عَلَى هَذِه الرِّوَايَة وَهُوَ مُنكر. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أغرب مُحَمَّد بن عَمْرو عَن الزُّهْرِيّ بِهَذِهِ اللَّفْظَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَاسد الْإِسْنَاد لم يروه إِلَّا ابْن (عَمْرو) ، وَقد أَنْكَرُوا عَلَيْهِ.
وَأما رِوَايَة الإِمَام الرَّافِعِيّ بعد قَوْله «يعرف» : «وَأَن لَهُ رَائِحَة» فَلم أرها فِي شَيْء من كتب الحَدِيث، وَذكرهَا فِي أثْنَاء الْبَاب بِلَفْظ: «لَهُ رَائِحَة (تعرف) » ، وَهَذَا هَكَذَا لَا يعرف.
قَالَ: وَورد فِي صفته أَنه أسود محتدم بحراني ذُو دفعات.
قلت: (وَتبع) فِي إِيرَاد هَذَا الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ ذكره فِي «وسيطه» وَتبع فِي ذَلِك الإِمَام فِي «نهايته» ، وَفِي «تَارِيخ الْعقيلِيّ» نَحوه من حَدِيث عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «دم الْحيض أَحْمَر بحراني، وَدم الِاسْتِحَاضَة كغسالة اللَّحْم» .
قَالَ البُخَارِيّ: لَا يَصح وَلَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الصّلاح عَن رِوَايَة الْغَزالِيّ وإمامه: إِنَّهَا ضَعِيفَة لَا تعرف. وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي كَلَامه عَلَى الْوَسِيط أَيْضا قَالَ - وَيَعْنِي حَدِيث فَاطِمَة، ثمَّ سَاق الحَدِيث السالف عَن رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَعَزاهُ (إِلَى) ابْن مَاجَه أَيْضا، وَإِنَّهُم رَوَوْهُ بأسانيد صَحِيحَة -: وَذكر الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» تبعا للْإِمَام زِيَادَة فِي حَدِيث فَاطِمَة وَهِي: «عرق انْقَطع» وَأنكر وجود هَذِه الزِّيَادَة وَهِي «انْقَطع»(3/117)
ابنُ الصّلاح، ثمَّ النَّوَوِيّ وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة فِي «مطلبه» وَهُوَ غَرِيب مِنْهُم، فَهَذِهِ اللَّفْظَة صَحِيحَة مَوْجُودَة فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» وَالْبَيْهَقِيّ وصحيح الْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. و «خلافيات» الْبَيْهَقِيّ أَيْضا لكنه لينه، وَقد أوضحت ذَلِك كُله فِي تخريجي لأحاديث «الْوَسِيط» (فارحل إِلَيْهِ فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات، قَالَ الرَّافِعِيّ: وَورد فِي دم الِاسْتِحَاضَة) أَنه أَحْمَر رَقِيق مشرق. قلت: الَّذِي أعلمهُ فِي صفة دم الِاسْتِحَاضَة مَا أسلفته عَن عَائِشَة، وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث (عبد الْملك) ، عَن الْعَلَاء قَالَ: سَمِعت مَكْحُولًا يَقُول: عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «دم الْحيض أسود خاثر تعلوه حمرَة، وَدم الِاسْتِحَاضَة أصفر رَقِيق» .
وَفِي رِوَايَة للدارقطني: «دم الْحيض لَا يكون إِلَّا دَمًا أسود عبيطًا يعلوه حمرَة، وَدم الِاسْتِحَاضَة رَقِيق يعلوه صفرَة» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: عبد الْملك هَذَا مَجْهُول، والْعَلَاء هُوَ ابْن كثير ضَعِيف فِي الحَدِيث، وَمَكْحُول لم يسمع من أبي أُمَامَة شَيْئا، أَنا بذلك(3/118)
أَبُو بكر الْفَقِيه عَن الدَّارَقُطْنِيّ (قلت: الْعَلَاء لم ينْسب فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَقَول الدَّارَقُطْنِيّ) «هُوَ ابْن كثير» وَإِقْرَار الْبَيْهَقِيّ لَهُ عَلَى ذَلِك يُعَارضهُ أَن الطَّبَرَانِيّ رَوَى هَذَا الحَدِيث وَفِيه الْعَلَاء بن الْحَارِث.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن الْعَلَاء بن الْحَارِث فَقَالَ: ثِقَة لَا أعلم أحدا من أَصْحَاب مَكْحُول أوثق مِنْهُ. قَالَ: وحَدَّثَني أبي سَمِعت دحيمًا وَذكر الْعَلَاء بن الْحَارِث فقدمه وَعظم شَأْنه. وَقَالَ: رَوَى الْأَوْزَاعِيّ عَنهُ ثَلَاثَة أَحَادِيث، وَأخرج لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» نعم كَانَ يرَى الْقدر.
وَأما ابْن طَاهِر الْحَافِظ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «تَذكرته» عقب هَذَا الحَدِيث: الْعَلَاء هَذَا يروي الموضوعات. قَالَ: وَمن أَصْحَابنَا من زعم أَنه الْعَلَاء بن الْحَارِث، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن الْعَلَاء بن الْحَارِث حضرمي من الْيمن، وَهَذَا مولَى بني أُميَّة، وَذَاكَ صَدُوق، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء فِي الحَدِيث.
قلت: يُقَوي هَذَا مَا ذكره الحافظان وَالله أعلم.
تَنْبِيه: وهم صَاحب (التنقيب عَلَى الْمُهَذّب) فَادَّعَى أَن حَدِيث فَاطِمَة الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ أَولا وَهُوَ «أَن دم الْحيض (أسود) يعرف» أخرجه مُسلم (من) حَدِيث فَاطِمَة (فِيهِ) وَفِي البُخَارِيّ (بِغَيْر) هَذَا(3/119)
اللَّفْظ كَمَا أسلفناه قبل ذَلِك.
فَائِدَة: الْأسود، قد فسره الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب بِأَنَّهُ الَّذِي يعلوه حمرَة متراكبة فَيضْرب من ذَلِك إِلَى السوَاد.
والمحتدم - بِالْحَاء وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ - كَمَا (قَيده) النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» (قَالَ) وَهُوَ مَأْخُوذ من احتدام النَّهَار، وَهُوَ اشتداد حره. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: هُوَ الَّذِي يلْدغ الْبشرَة، ويحرقها لحدته، وَيخْتَص برائحة كريهة. قَالَ: وَقيل: هُوَ الضَّارِب إِلَى السوَاد. قَالَ: وَدم الِاسْتِحَاضَة رَقِيق (لَا احتدام) فِيهِ يضْرب إِلَى الشقرة أَو الصُّفْرَة، وَلذَلِك سمي مشرقًا، (وَالْمَشْهُور فِي كتب اللُّغَة أَن المحدوم هُوَ الَّذِي اشتدت حمرته حتَّى اسود، الْفِعْل مِنْهُ احتدم) .
وَقَوله: «ذُو دفعات» هُوَ بِضَم الدَّال وَفتحهَا، وَالضَّم أَجود، وَهُوَ اسْم للمدفوع، وبالفتح اسْم للمرة الْوَاحِدَة.
والبحراني: هُوَ (الشَّديد) الْحمرَة، ( [قَالَه] الرَّافِعِيّ ثمَّ حَكَى عَن صَاحب «الغريبين» أَنه يُقَال (بحراني وباحراني) أَي شَدِيد الْحمرَة أَي نِسْبَة إِلَى الْبَحْر لصفاء لَونه، بِخِلَاف دم الْفساد) .(3/120)
وَقَالَ الإِمَام فِي «نهايته» : إِنَّه الصَّحِيح. وَلم يبين مَا يُقَابله، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّه الدَّم الْكثير الغليظ الَّذِي يخرج من قَعْر الرَّحِم، ينْسب إِلَى الْبَحْر لكثرته وسعته.
قَالَ أهل اللُّغَة: والبحراني مَنْسُوب إِلَى الْبَحْر، وَهُوَ قَعْر الرَّحِم (كَمَا يخرج المَاء من قَعْر الْبَحْر) ، وزادوه الْألف وَالنُّون فِي النّسَب مُبَالغَة، (وَقيل: لِأَنَّهُ يخرج بسعة تدفق كَمَاء الْبَحْر) .
الحَدِيث الْعشْرُونَ
عَن أم سَلمَة رَضي اللهُ عَنها «أَن امْرَأَة كَانَت تهراق الدَّم عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاستفتيت لَهَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: لتنظر عدد الْأَيَّام والليالي الَّتِي (كَانَت) تحيضهن من الشَّهْر قبل أَن يُصِيبهَا الَّذِي أَصَابَهَا، فلتترك الصَّلَاة قدر ذَلِك (من) الشَّهْر، فَإِذا خلفت ذَلِك فلتغتسل، ثمَّ لتستثفر بِثَوْب، ثمَّ لتصل» .
هَذَا الحَدِيث عَلَى شَرط الصَّحِيح رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور الْأَئِمَّة: مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ فِي «الْأُم» وَأحمد والدارمي فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه(3/121)
وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» من رِوَايَة سُلَيْمَان بن يسَار، عَن أم سَلمَة رَضي اللهُ عَنها بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَغَيره: إِسْنَاده عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم.
قلت: وَأعله جمَاعَة بالانقطاع، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث مَشْهُور إِلَّا أَن سُلَيْمَان بن يسَار لم يسمعهُ من أم سَلمَة، وَكَذَا (قَالَ) فِي «خلافياته» أَن سُلَيْمَان لم (يسمعهُ) مِنْهَا، إِنَّمَا سَمعه من رجل عَنْهَا، كَذَلِك رَوَاهُ اللَّيْث بن سعد وَعبيد الله بن (عمر) وصخر بن جوَيْرِية، عَن نَافِع، عَن سُلَيْمَان، عَن رجل عَنْهَا. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «الْوَهم وَالْإِيهَام» : هَذَا حَدِيث مُرْسل فِيمَا أرَى. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» : إِنَّه مُرْسل. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ: لم يسمعهُ سُلَيْمَان مِنْهَا، وَرَوَاهُ مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن سُلَيْمَان، عَن مرْجَانَة، عَن أم سَلمَة. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : (قد) اخْتلف فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، فَرَوَاهُ مَالك، عَن نَافِع، عَن سُلَيْمَان، عَن أم سَلمَة. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَسد بن مُوسَى، عَن اللَّيْث، عَن نَافِع. وَرَوَاهُ(3/122)
كَذَلِك أَسد أَيْضا، عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر، عَن الْحجَّاج، عَن نَافِع بِهِ.
قَالَ: وَقيل بِإِدْخَال رجل بَين سُلَيْمَان، وَأم سَلمَة، فَرَوَاهُ اللَّيْث، عَن نَافِع، عَن سُلَيْمَان أَن رجلا أخبرهُ عَن أم سَلمَة ... الحَدِيث.
(رَوَاهُ) أَبُو دَاوُد من غير سِيَاقَة أَلْفَاظه كلهَا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ صَخْر بن جوَيْرِية، عَن نَافِع، ذكره أَبُو دَاوُد محيلاً عَلَى رِوَايَة اللَّيْث، وَسَاقه الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن الْجَارُود بِتَمَامِهِ من حَدِيث صَخْر، عَن نَافِع، عَن سُلَيْمَان: أَنه حَدثهُ رجل عَن أم سَلمَة، وَكَذَلِكَ ذكر عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن سُلَيْمَان، عَن رجل، عَن أم سَلمَة. ورأيته فِي «مُسْند السراج» لَيْسَ بَين سُلَيْمَان وَأم سَلمَة أحد.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد، عَن نَافِع، عَن سُلَيْمَان، عَن رجل من الْأَنْصَار: «أَن امْرَأَة كَانَت تهراق الدَّم» .
وَذكر المُصَنّف - أَعنِي الرَّافِعِيّ - فِي شَرحه للمسند مقَالَة الْبَيْهَقِيّ السالفة، وَأجَاب عَنْهَا فَقَالَ: ذكر الْبَيْهَقِيّ أَن سُلَيْمَان لم يسمع هَذَا الحَدِيث من أم سَلمَة مستدلاً بِأَن اللَّيْث رَوَاهُ عَن نَافِع عَن سُلَيْمَان، عَن رجل (عَنْهَا) ، وَكَذَلِكَ (رَوَاهُ) جوَيْرِية بن أَسمَاء وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة، وَعبيد الله بن (عمر) عَن نَافِع، لَكِن يُمكن أَن يكون سَمعه سُلَيْمَان من رجل (عَن) أم سَلمَة ثمَّ سَمعه مِنْهَا، فروَى تَارَة هَكَذَا وَتارَة هَكَذَا. قَالَ: وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي «التَّارِيخ» أَن سُلَيْمَان(3/123)
بن يسَار سمع ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة وَأم سَلمَة. هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ.
وَهُوَ جمع حسن وَبِه يتَّفق الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور وَقد (جزم) صَاحب «الْكَمَال» بِأَن سُلَيْمَان سمع مِنْهَا، وَتَبعهُ (الْمزي) والذهبي.
فَائِدَة: يهراق، كَذَا جَاءَ عَلَى مالم يسم فَاعله - بِضَم الْيَاء وَفتح الْهَاء - أَي يصب. وَالدَّم مَنْصُوب عَلَى (التَّشْبِيه) بالمفعول، أَو عَلَى التَّمْيِيز عَلَى مَذْهَب الْكُوفِيّين. قَالَه صَاحب «الْمطَالع» وَيجوز أَن يكون منعوتًا بيهراق، و (قَالَ) الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» : الدَّم مَنْصُوب عَلَى التَّمْيِيز وَإِن كَانَ معرفه وَله نَظَائِر أَو يكون أجري مجْرى: نفست الْمَرْأَة (غُلَاما) . وَيجوز رفع الدَّم عَلَى (تَقْدِير) (إهراق) دماؤها، وَيكون الْألف وَاللَّام بَدَلا من الْإِضَافَة كَقَوْلِه تَعَالَى: (أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح) أَي عقدَة نِكَاحه أَو نِكَاحهَا.
وَالدَّم مخفف اللَّام عَلَى اللُّغَة الْمَشْهُورَة، وَفِي لُغَة شَاذَّة بتشديدها.
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: «فلتترك» يجوز فِي هَذِه اللَّام - وَشبههَا فِي لامات الْأَمر الَّتِي يتقدمها فَاء، أَو رَاء أَو ثمَّ - ثَلَاثَة أوجه: كسرهَا، وإسكانها، وَيجوز فتحهَا عَلَى غرابة. وَقد تقدم مَعْنَى الاستثفار فِي حَدِيث حمْنَة الْمُتَقَدّم أول الْبَاب.(3/124)
وخلفت - بتَشْديد اللَّام - أَي: جَاوَزت ذَلِك وَجَعَلته خلفهَا.
فَائِدَة ثَانِيَة: (هَذِه) الْمَرْأَة الَّتِي سَأَلت لَهَا أم سَلمَة رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (هِيَ) فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش، كَذَا صرح بهَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب فِي هَذَا الحَدِيث.
قَالَه أَبُو دَاوُد وَالله أعلم.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «دعِي الصَّلَاة أَيَّام أَقْرَائِك» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ بِهَذَا اللَّفْظ من طرق (أَرْبَعَة)
أَولهَا: من حَدِيث أم حَبِيبَة رَضي اللهُ عَنها، رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة «أَن أم حَبِيبَة كَانَت تستحاض، فَسَأَلت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأمرهَا أَن تتْرك الصَّلَاة قدر أقرائها وحيضها» .
وَهَذَا من بَاب الْعَطف إِذا تغايرت الْأَلْفَاظ كَقَوْلِه: وَألقَى قَوْلهَا كذبا ومينًا.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ - أَيْضا بِسَنَد كل رِجَاله ثِقَات - عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة «أَن أم حَبِيبَة استحيضت، فَذكرت شَأْنهَا لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: لتنظر قدر قرئها الَّتِي كَانَت تحيض لَهَا ... » الحَدِيث.
ثَانِيهَا: من حَدِيث فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش «أَنَّهَا شكت إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الدَّم فَقَالَ: إِذا أَتَاك قرؤك فَلَا تصلي، فَإِذا مرّ قرؤك فتطهري، ثمَّ(3/125)
صلي مَا بَين الْقُرْء إِلَى الْقُرْء» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِسَنَد كل رِجَاله ثِقَات.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم: ثَبت أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للمستحاضة: «إِذا أَتَاك قرؤك فَلَا تصلي» وَأَنه أمرهَا (أَن) تتْرك الصَّلَاة قدر أقرائها وحيضها، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الحَدِيث الَّذِي قبله.
ثَالِثهَا: من حَدِيث أم سَلمَة، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي «مُسْنده» عَن يزِيد بن هَارُون، أَنا حجاج، عَن نَافِع، عَن سُلَيْمَان بن يسَار «أَن امْرَأَة أَتَت أم سَلمَة تسْأَل لَهَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن الْمُسْتَحَاضَة؟ فَقَالَ: تدع الصَّلَاة أَيَّام أقرائها» وَهَذِه الْمَرْأَة هِيَ فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش كَمَا سبق وَصرح بِهِ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» فَإِنَّهُ رَوَى من حَدِيث سُلَيْمَان بن يسَار عَنْهَا «أَنَّهَا استفتت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لفاطمة بنت أبي حُبَيْش فَقَالَ: تدع الصَّلَاة قدر أقرائها، ثمَّ تَغْتَسِل وَتصلي» ثمَّ قَالَ: - أَعنِي الدَّارَقُطْنِيّ - و (رَوَاهُ) وهيب، عَن أَيُّوب، عَن سُلَيْمَان، عَن أم سَلمَة بِهَذَا، وَقَالَ: «تنْتَظر أَيَّام حَيْضهَا وَتَدَع الصَّلَاة» .
ثمَّ رَوَى من حَدِيث سُلَيْمَان «أَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش استحيضت حتَّى كَانَ (المركن) ينْقل من تحتهَا وَأَعلاهُ الدَّم، قَالَ: فَأمرت أم سَلمَة تسْأَل لَهَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: تدع الصَّلَاة أَيَّام أقرائها،(3/126)
ثمَّ تَغْتَسِل وتستثفر بِثَوْب وَتصلي» .
ثمَّ رَوَى من حَدِيث سُلَيْمَان بن [يسَار] أَيْضا «أَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش استحيضت فَسَأَلت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (أَو سُئِلَ لَهَا النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم) فَأمرهَا أَن تدع الصَّلَاة أَيَّام أقرائها، وَأَن تَغْتَسِل فِيمَا سُوَى ذَلِك وتستذفر (بِثَوْب) وَتصلي، فَقيل لِسُلَيْمَان: أيغشاها زَوجهَا؟ فَقَالَ: إِنَّمَا نقُول فِيمَا سمعنَا» .
وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» (فِي) الْعدَد من حَدِيث أَيُّوب، عَن سُلَيْمَان بن يسَار «أَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش استحيضت فَسَأَلت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأمرهَا أَن تدع الصَّلَاة أَيَّام أقرائها، وَأَن تَغْتَسِل فِيمَا سُوَى ذَلِك وتستذفر بِثَوْب وَتصلي، فَقيل لِسُلَيْمَان ... » إِلَى آخِره، قَالَ: كَذَا رَوَاهُ عبد الْوَارِث وَحَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، إِلَّا أَنَّهُمَا ذكرا أَن أم سَلمَة استفتت لَهَا، وَاحْتج إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل ابْن علية بِهَذِهِ الرِّوَايَة، وَزعم أَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة رَوَاهُ عَن أَيُّوب هَكَذَا، قَالَ الشَّافِعِي: مَا حدث سُفْيَان بِهَذَا قطّ إِنَّمَا قَالَ: سُفْيَان، عَن أَيُّوب، عَن سُلَيْمَان، عَن أم سَلمَة، أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «تدع الصَّلَاة عدد اللَّيَالِي وَالْأَيَّام الَّتِي كَانَت (تحيض) » أَو قَالَ: «أَيَّام أقرائها» الشَّك من أَيُّوب لَا يدْرِي قَالَ هَذَا أَو هَذَا، فَجعله (هُوَ)(3/127)
أَحدهمَا عَلَى (نَاحيَة) مِمَّا يُرِيد لَيْسَ هَذَا بِصدق.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي رِوَايَة عَن سُفْيَان، عَن أَيُّوب، عَن سُلَيْمَان، عَن أم سَلمَة «أَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش استحيضت فَسَأَلت لَهَا أم سَلمَة رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لَيست بالحيضة إِنَّمَا هُوَ عرق. فَأمرهَا (رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم) أَن تدع الصَّلَاة أَيَّام أقرائها وَأَيَّام حَيْضهَا، ثمَّ تَغْتَسِل وَتصلي، فَإِن غلبها الدَّم استذفرت» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا (وجدت) وَالصَّوَاب «أَيَّام أقرائها أَو أَيَّام حَيْضهَا» بِالشَّكِّ. قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ وهيب، عَن أَيُّوب، و (رَوَاهُ) أَبُو (عبد) الله المَخْزُومِي، عَن سُفْيَان فَقَالَ: «لتنظر عدَّة اللَّيَالِي وَالْأَيَّام الَّتِي كَانَت تحيضهن وقدرهن من الشَّهْر (فلتترك) الصَّلَاة» كَذَلِك كَمَا رَوَاهُ نَافِع، عَن سُلَيْمَان بن يسَار، قَالَ الشَّافِعِي: نَافِع أحفظ عَن سُلَيْمَان من أَيُّوب. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد(3/128)
رُوِيَ هَذَا اللَّفْظ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ فِي أَحَادِيث ذَكرنَاهَا فِي كتاب الْحيض، وَتلك الْأَحَادِيث فِي نَفسهَا مُخْتَلف فِيهَا، فبعض الروَاة قَالَ فِيهَا: «أَيَّام أقرائها» وَبَعْضهمْ قَالَ (فِيهَا) : «أَيَّام حَيْضهَا» أَو فِي مَعْنَاهُ، وكل ذَلِك من جِهَة الروَاة (كل وَاحِد مِنْهُم) يعبر عَنهُ بِمَا يَقع لَهُ.
قَالَ: وَالْأَحَادِيث الصِّحَاح متفقة عَلَى (الْعبارَة) عَنهُ بأيام الْحيض دون لفظ الْأَقْرَاء.
الطَّرِيق الرَّابِع: من حَدِيث عدي بن ثَابت، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنه قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَة: «تدع الصَّلَاة أَيَّام أقرائها الَّتِي كَانَت تحيض فِيهَا، ثمَّ تَغْتَسِل وتتوضأ عِنْد كل صَلَاة وتصوم وَتصلي» .
رَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» من حَدِيث شريك، عَن أبي الْيَقظَان، عَن عدي بِهِ إِلَّا أَن الدَّارمِيّ قَالَ: «أَيَّام حَيْضهَا» بدل «أقرائها» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث قد تفرد بِهِ شريك، عَن أبي الْيَقظَان. قَالَ: وسَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذَا الحَدِيث، فَقلت: عدي بن ثَابت، عَن أَبِيه، عَن جده، جد عدي بن ثَابت مَا اسْمه؟ فَلم يعرف مُحَمَّد اسْمه، وَذكرت لمُحَمد قَول يَحْيَى بن معِين أَن اسْمه: دِينَار، فَلم يعبأ بِهِ. قلت: وَقَالَ أَحْمد بن زُهَيْر: اسْمه: قيس. حَكَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى فِي «معرفَة الصَّحَابَة» قَالَ: وَقَالَ أَكْثَرهم: اسْمه عبد الله بن (يزِيد) الخطمي.(3/129)
قَالَ: وَقيل: إِن عبد الله بن (يزِيد) اسْم جده من قبل الْأُم. انْتَهَى.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يَصح من هَذَا كُله شَيْء. وَقَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «تهذيبه» : الصَّحِيح القَوْل الْأَخير. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هُوَ عدي بن ثَابت بن عبيد بن عَازِب فجده هَذَا هُوَ (أَخُو) الْبَراء بن عَازِب الْأنْصَارِيّ. وَحَكَى الْمزي عَن بَعضهم أَنه عدي بن أبان بن ثَابت بن قيس بن (الخطيم) (الظفري) (الْأنْصَارِيّ) وَصوب هَذَا القَوْل الْحَافِظ شرف الدَّين الدمياطي فِي كِتَابه «قبائل الْأَوْس والخزرج» .
قلت: وَأَبُو الْيَقظَان الْمَذْكُور فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث اسْمه عُثْمَان بن (عُمَيْر) الْكُوفِي، وَيُقَال لَهُ ابْن قيس، وَابْن أبي حميد، وَابْن أبي زرْعَة (أَعْمَى) وأعشى ثَقِيف، (وَقد) ضعفه غير وَاحِد، قَالَ أَحْمد: ضَعِيف الحَدِيث، وَقَالَ يَحْيَى: حَدِيثه لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: اخْتَلَط حتَّى لَا يدْرِي مَا يَقُول لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم:(3/130)
ضَعِيف الحَدِيث مُنكر، كَانَ شُعْبَة لَا يرضاه. وَذكر أَنه حَضَره فروَى عَن شيخ فَقَالَ لَهُ شُعْبَة: كم سنك؟ قَالَ: كَذَا، وَإِذا الشَّيْخ قد مَاتَ وَهُوَ ابْن سنتَيْن. وَقَالَ الدولابي فِي «كِتَابه» : حَدَّثَني عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: ترك عبد الرَّحْمَن بن مهْدي حَدِيث أبي الْيَقظَان هَذَا. وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «كناه» : لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم. لَا جرم أَن أَبَا دَاوُد قَالَ فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث ضَعِيف لَا يَصح. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «علله» وَمِنْهَا نقلت: سَأَلت مُحَمَّدًا - يَعْنِي البُخَارِيّ - عَن هَذَا الحَدِيث فَلم يعرفهُ إِلَّا من هَذَا الْوَجْه (وَالله أعلم بِالصَّوَابِ) .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كُنَّا نعد الصُّفْرَة والكدرة حيضا» .
قَالَ الرَّافِعِيّ: (وَهَذَا) إِخْبَار عَمَّا عهدته فِي زمن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
هَذَا الحَدِيث غَرِيب بِهَذَا اللَّفْظ، وَقَالَ النَّوَوِيّ أَيْضا فِي «شرح الْمُهَذّب» : لَا أعلم من رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ. وَخَالف فِي «خلاصته» فَذكره فِي فصل الضَّعِيف، وَهُوَ فرع مَعْرفَته.(3/131)
قلت: لَكِن فِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث (مُحَمَّد) بن إِسْحَاق، عَن عبد الله بن أبي بكر، عَن (عمْرَة) عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها «أَنَّهَا كَانَت تنْهَى النِّسَاء أَن ينظرن إِلَى أَنْفسهنَّ لَيْلًا فِي الْحيض، وَتقول: إِنَّهَا قد تكون الصُّفْرَة والكدرة» .
وَفِي «موطأ» مَالك، عَن عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة، عَن أمه مولاة عَائِشَة قَالَت: «كَانَ النِّسَاء يبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها بالدرجة فِيهَا الكرسف فِيهِ الصُّفْرَة من دم الْحيض، فيسألنها عَن الصَّلَاة؟ فَتَقول لَهُنَّ: لَا تعجلن حتَّى تَرين الْقِصَّة الْبَيْضَاء - تُرِيدُ الطُّهْر من الْحَيْضَة» .
وَرَوَى (هَذَا) عَن عَائِشَة: البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» تَعْلِيقا بِصِيغَة جزم، وَخَالف أَبُو مُحَمَّد بن حزم فَقَالَ: خولفت أم عَلْقَمَة بِمَا هُوَ أَقْوَى من رِوَايَتهَا.
قلت: وَأم عَلْقَمَة اسْمهَا مرْجَانَة سَمَّاهَا ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، ووثقها الْعجلِيّ أَيْضا، وَهَذَانِ الأثران عَنْهَا (بِمَعْنى) يقربان مِمَّا أوردهُ الرَّافِعِيّ، وَأما حَدِيثهَا الآخر: «مَا كُنَّا نعد الصُّفْرَة والكدرة شَيْئا وَنحن مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فضعيف بِمرَّة.(3/132)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: إِسْنَاده ضَعِيف، لَا (يسوى) ذكره. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : (هُوَ) وهم، وَإِنَّمَا هُوَ عَن أم عَطِيَّة. قَالَ: وَرُوِيَ أَيْضا عَن أم سَلمَة وَهُوَ وهم.
فَائِدَة: الدُرْجة فِي رِوَايَة «الْمُوَطَّأ» السالفة - بِضَم الدَّال وَإِسْكَان الرَّاء وبالجيم، وبكسر الدَّال وَفتح الرَّاء، وَمن فتحهَا فقد أبعد عَن الصَّوَاب - وَهِي خرقَة أَو قطنة أَو نَحْو ذَلِك تدخله الْمَرْأَة فرجهَا ثمَّ تخرجه لتنظر هَل بَقِي شَيْء من أثر الْحيض أم لَا.
والكرسف: الْقطن. والقَصَّة - بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الصَّاد (الْمُهْملَة) - وأصل القص الجص، وَمِنْه الحَدِيث: «نهَى عَن تقصيص الْقُبُور» قيل مَعْنَاهُ: أَن تخرج القطنة أَو الْخِرْقَة الَّتِي تحشي بهَا كَأَنَّهَا قصَّة لَا تخالطها صفرَة. وَقيل: إِن الْقِصَّة كالجص الْأَبْيَض يخرج بعد انْقِطَاع الدَّم كُله. وَقيل: هُوَ مَاء أَبيض يخرج فِي آخر الْحيض. حَكَى هَذِه الْأَقْوَال الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» قَالَ: وَشبه ذَلِك بالقص وَهُوَ الجص. وَوَقع فِي «كِفَايَة» الْفَقِيه ابْن الرّفْعَة تَفْسِير الْقِصَّة الْبَيْضَاء بِأَنَّهُ شَيْء كالحيض الْأَبْيَض يخرج عِنْد انْقِطَاع الدَّم، وَصَوَابه كالجص الْأَبْيَض وَالله أعلم.(3/133)
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن أم عَطِيَّة رَضي اللهُ عَنها (و) كَانَت مِمَّن بَايع النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَت: «كُنَّا لَا نعد الصُّفْرَة والكدرة (شَيْئا) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ. وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد عَلَى شَرط الصَّحِيح «كُنَّا لَا نعد الصُّفْرَة والكدرة بعد الطُّهْر شَيْئا» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط (الشَّيْخَيْنِ) . وَوَقع فِي «الْعُمْدَة الْكُبْرَى» عزوه إِلَى «الصَّحِيحَيْنِ» وَهُوَ غلط مِنْهُ فِي مُسلم، وَذكره بِلَفْظ أبي دَاوُد، وَقد علمت أَن لَفْظَة: «بعد الطُّهْر» لَيست فِي البُخَارِيّ فَاعْلَم ذَلِك. وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ بِلَفْظ: «كُنَّا لَا نعد الصُّفْرَة والكدرة (شَيْئا) - يَعْنِي فِي الْحيض» .
قَالَ ابْن عَسَاكِر: هَذَا مَوْقُوف.
قلت: هُوَ أحد الْمذَاهب فِي الْمَسْأَلَة، وَالْمُخْتَار أَنه مَرْفُوع مُطلقًا إِضَافَة إِلَى زمن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أَو لم نضفه كَمَا ذكرته فِي «الْمقنع فِي عُلُوم الحَدِيث» وَلذَلِك ذكرت حَدِيث أم عَطِيَّة هَذَا فِي الْأَحَادِيث دون الْآثَار، وَصحح ابْن الصّلاح التَّفْصِيل، فَإِن أَضَافَهُ فمرفوع وَإِلَّا فَلَا.(3/134)
وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «كُنَّا لَا (نعتد) بالصفرة والكدرة بعد الْغسْل شَيْئا» . وَالدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ: « (كُنَّا لَا نرَى) التريّه بعد الطُّهْر شَيْئا - وَهِي الصُّفْرَة والكدرة» .
وَذكرهَا ابْن السكن فِي «صحاحه» .
والتَّرِيّه: بِفَتْح الْمُثَنَّاة فَوق، ثمَّ رَاء مُهْملَة مَكْسُورَة، ثمَّ مثناة تَحت مُشَدّدَة، ثمَّ هَاء، قَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ الشَّيْء (الْخَفي) الْيَسِير من الصُّفْرَة والكدرة، (ترَاهَا) الْمَرْأَة بعد الِاغْتِسَال من الْحيض، فَأَما مَا كَانَ فِي أَيَّام الْحيض فَهُوَ حيض وَلَيْسَ بترية. ذكره فِي بَاب «رَأَى» فَهُوَ دَلِيل عَلَى أَن الْيَاء زَائِدَة، وَأَن أصل الْكَلِمَة ترية، و (ذكر) الْفَارِسِي فِي «مجمعه» : الْيَاء بدل من الْوَاو وَأَصلهَا من لفظ «وَرى» لِأَنَّهُ يرَى وَرَاء الْحيض أَو من ورت الزند، لِأَنَّهَا تسْقط سُقُوط النَّار من الزند
تَنْبِيه: وَقع فِي أَكثر نسخ «الْوَسِيط» للْإِمَام أبي حَامِد الْغَزالِيّ بدل «أم عَطِيَّة» : «بنت جحش» وَفِي بَعْضهَا: «زَيْنَب بنت جحش» (وَوَقع فِي «نِهَايَة» إِمَام الْحَرَمَيْنِ: حمْنَة بنت جحش) وكل ذَلِك مُنكر لَا يعرف.(3/135)
وَالصَّوَاب لقَوْل أم عَطِيَّة كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّاس، وَوَقع فِيهِ - أَعنِي فِي «الْوَسِيط» تبعا لشيخه فِي «نهايته» - زِيَادَة فِيهِ، وَهِي: «كُنَّا لَا نعتد بالصفرة وَرَاء الْعَادة شَيْئا» وَلَفظه: «وَرَاء الْعَادة» مُنكر لَا يعرف (وَالله أعلم) .
الحَدِيث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
« (أَن) سهلة بنت سُهَيْل استحيضت فَأَتَت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأمرهَا بِالْغسْلِ عِنْد كل صَلَاة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة «أَن سهلة ... » فَذَكرته سَوَاء، وَزَاد: «فَلَمَّا جهدها ذَلِك، أمرهَا أَن تجمع بَين الظّهْر وَالْعصر بِغسْل، وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء بِغسْل، وتغتسل للصبح» قَالَ أَبُو دَاوُد: (وَرَوَاهُ) ابْن عُيَيْنَة، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه: «أَن امْرَأَة استحيضت فَسَأَلت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَأمرهَا» ، بِمَعْنَاهُ، ترْجم عَلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : من زعم أَن الْأَمر بِالْغسْلِ لكل صَلَاة مَنْسُوخ.(3/136)
وَورد أَيْضا (الْأَمر) بِالْغسْلِ لكل صَلَاة لأم حَبِيبَة لكنه ضَعِيف.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي «سنَن أبي دَاوُد» وَالْبَيْهَقِيّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أمرهَا بِالْغسْلِ لكل صَلَاة» ضَعِيفَة لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِشَيْء مِنْهَا. قَالَ: وَإِنَّمَا صَحَّ فِي هَذَا مَا أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أمرهَا أَن تَغْتَسِل فَكَانَت تَغْتَسِل عِنْد كل صَلَاة» .
قَالَ الشَّافِعِي: إِنَّمَا أمرهَا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن تَغْتَسِل وَتصلي، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه أمرهَا أَن تَغْتَسِل لكل صَلَاة، وَلَا أَشك أَن غسلهَا كَانَ تَطَوّعا غير مَا أمرت بِهِ، وَذَلِكَ وَاسع لَهَا ... هَذَا لفظ الشَّافِعِي، وَكَذَا قَالَ شَيْخه سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَاللَّيْث بن سعد، وَغَيرهمَا.
الحَدِيث الْخَامِس وَالْعشْرُونَ
عَن أم سَلمَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كَانَت النُّفَسَاء تجْلِس عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» .
هَذَا الحَدِيث جيد، رَوَاهُ أَحْمد والدارمي فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ، (وَالْبَيْهَقِيّ) فِي(3/137)
«سُنَنهمْ» من حَدِيث عَلّي بن عبد الْأَعْلَى عَن أبي سهل عَن مُسَّة - بِضَم الْمِيم وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة - الْأَزْدِيَّة، وكنيتها: أم بُسَة - بِضَم الْبَاء وَفتح السِّين - كَمَا قيدها الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» وبخط ابْن المهندس فِي «تَهْذِيب الْكَمَال» للمزي بِفَتْحِهَا خطأ عَن أم سَلمَة بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، إِلَّا أَن لفظ أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَإِحْدَى روايتي الإِمَام أَحْمد: «كَانَت النُّفَسَاء عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تقعد بعد نفَاسهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَو أَرْبَعِينَ لَيْلَة» وَهُوَ لفظ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» زَاد أَبُو دَاوُد (والدارمي) وَالتِّرْمِذِيّ: «وَكُنَّا نطلي عَلَى وُجُوهنَا بالورس من الكلف» وَهَذِه الزِّيَادَة رَوَاهَا أَيْضا أَحْمد وَابْن مَاجَه.
وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ: «كَانَت النُّفَسَاء عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تقعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكُنَّا نطلي وُجُوهنَا بالورس من الكلف» .
وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» كَلَفْظِ التِّرْمِذِيّ وَمن تَابعه، إِلَّا (أَنه) قَالَ فِيهِ: «وَكُنَّا نطلي وُجُوهنَا بالورس والزعفران» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِزِيَادَة عدم قَضَاء الصَّلَاة عَلَيْهَا، وَهَذَا لَفظه: عَن كثير بن زِيَاد قَالَ: حَدَّثتنِي الْأَزْدِيَّة قَالَت: « [حججْت] فَدخلت عَلَى أم سَلمَة فَقلت: يَا أم الْمُؤمنِينَ، إِن سَمُرَة بن جُنْدُب يَأْمر (النِّسَاء) يقضين(3/138)
صَلَاة الْمَحِيض؟ فَقَالَت: لَا يقضين، كَانَت الْمَرْأَة من نسَاء النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تقعد فِي النّفاس أَرْبَعِينَ لَيْلَة لَا يأمرها النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِقَضَاء صَلَاة النّفاس» .
(وَرَوَاهُ) الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» أَيْضا، وَذكر اللَّفْظ الأول شَاهدا لَهُ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من وَجه آخر عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْعَرْزَمِي، عَن أَبِيه، عَن الحكم بن عُتيبة، عَن مَسة، عَن أم سَلمَة، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَنَّهَا سَأَلته: كم تجْلِس الْمَرْأَة إِذا ولدت؟ (قَالَ) : تجْلِس أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا أَن ترَى الطُّهْر قبل ذَلِك» وَهَذِه الرِّوَايَة (مبينَة) للروايات السالفة إِذْ لَا يُمكن أَن تتفق عَادَة (نسَاء) عصر فِي نِفَاس أَو حيض، (وَالْمعْنَى) : كَانَت تُؤمر النُّفَسَاء أَن تجْلِس إِلَى الْأَرْبَعين. وأعل هَذَا الحَدِيث بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: بالطعن فِي أبي سهل (رَاوِيه) عَن مسَّة، واسْمه كثير بن زِيَاد، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : كثير بن زِيَاد لَيْسَ لَهُ ذكر فِي «الصَّحِيحَيْنِ» . وَذكره أَبُو حَاتِم فِي «كتاب الْمَجْرُوحين» وَاسْتحبَّ مجانبة مَا انْفَرد بِهِ. قلت: وَذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد(3/139)
وَثَّقَهُ البُخَارِيّ من رِوَايَة أبي عِيسَى عَنهُ، وَذكر أَنه لَيْسَ لمسة إِلَّا هَذَا الحَدِيث.
ثَانِيهَا: أَن مسَّة هَذِه مَجْهُولَة، قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كتاب «الْوَهم وَالْإِيهَام» : عِلّة هَذَا الْخَبَر، مَسّه الْمَذْكُورَة، وَهِي تكنى أم بسة، وَلَا يعرف حَالهَا وَلَا عينهَا، وَلَا تعرف فِي غير هَذَا الحَدِيث. (قَالَه) التِّرْمِذِيّ فِي «علله» . (قَالَ) : فخبرها هَذَا ضَعِيف الْإِسْنَاد ومنكر الْمَتْن، فَإِن أَزوَاج النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَا مِنْهُنَّ من كَانَت نفسَاء (أَيَّام) كَونهَا مَعَه إِلَّا خَدِيجَة، فَإِن تَزْوِيجهَا كَانَ قبل الْهِجْرَة، فَإِذن لَا مَعْنَى لقولها: «قد كَانَت الْمَرْأَة من نسَاء النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تقعد فِي النّفاس أَرْبَعِينَ لَيْلَة» إلاأن تُرِيدُ بنسائه غير أَزوَاجه من قَرَابَات وَبَنَات وسريته مَارِيَة. وَكَأَنَّهُ تبع فِي ذَلِك أَبَا مُحَمَّد بن حزم فَإِنَّهُ قَالَ: مسَّة مَجْهُولَة.
وَالْجَوَاب عَن الْعلَّة الأولَى: أَن أَبَا سهل قد وَثَّقَهُ أَئِمَّة هَذَا الْفَنّ: البُخَارِيّ وَيَحْيَى بن معِين وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَقَوْلهمْ مقدم عَلَى تَضْعِيف ابْن حبَان (لَهُ) .
قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : هَذَا حَدِيث لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث أبي سهل، عَن مسَّة، عَن أم سَلمَة. قَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل - يَعْنِي:(3/140)
البُخَارِيّ -: عَلّي بن عبد الْأَعْلَى ثِقَة. وَأَبُو سهل ثِقَة، وَلم يعرف (مُحَمَّد) هَذَا الحَدِيث إِلَّا من حَدِيث أبي سهل.
وَقَالَ الْخطابِيّ: حَدِيث مسَّة هَذَا (أَثْنَى) عَلَيْهِ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، وَقَالَ: مسَّة هَذِه (أزدية) ، وَاسم أبي سهل: كثير بن زِيَاد، وَعلي بن عبد الْأَعْلَى ثِقَة.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَلَا أعرف فِي مَعْنَاهُ غير هَذَا. ثمَّ ذكر الشَّاهِد الَّذِي أسلفناه عَنهُ.
قلت: وتوثيق البُخَارِيّ لَهُ لَا يُعَارضهُ عدم ذكره فِي «الصَّحِيحَيْنِ» .
وَأما الْجَواب عَن الْعلَّة الثَّانِيَة فَلَا نسلم لِابْنِ حزم وَابْن الْقطَّان دَعْوَى جَهَالَة عين مسَّة، فَإِنَّهُ قد رَوَى عَنْهَا جماعات: (كثير بن) زِيَاد وَالْحكم بن عتيبة - كَمَا أسلفاه - وَزيد بن عَلّي بن الْحُسَيْن، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن الْحَاكِم، وَرَوَى (أَيْضا) مُحَمَّد بن كناسَة، عَن مُحَمَّد بن عبيد الله الْعَرْزَمِي، عَن الْحسن، عَن مسَّة أَيْضا، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَة رووا عَنْهَا فارتفعت جَهَالَة عينهَا.
وَأما جَهَالَة حَالهَا، فَهِيَ مُرْتَفعَة بِبِنَاء البُخَارِيّ عَلَى حَدِيثهَا وَتَصْحِيح الْحَاكِم لإسناده، فَأَقل أَحْوَاله أَن يكون حسنا (لَا جرم) قَالَ(3/141)
النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» : قَول جمَاعَة من مصنفي الْفُقَهَاء أَن هَذَا الحَدِيث ضَعِيف؛ مَرْدُود عَلَيْهِم.
قلت: ولعلهم أَرَادوا طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ الَّتِي فِيهَا الْعَرْزَمِي فَإِنَّهُ ضَعِيف جدًّا، بل قَالَ الْبَيْهَقِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» عقب ذكر رِوَايَة أبي دَاوُد الْأَخِيرَة: قد رُوِيَ فِي هَذَا عَن أنس وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (فِي النُّفَسَاء) «أَنَّهَا تقعد أَرْبَعِينَ لَيْلَة» وَفِي بَعْضهَا: «إِلَّا أَن ترَى الطُّهْر قبل ذَلِك» وَهِي أَحَادِيث معتلة بأسانيد متروكة، وأحسنها حَدِيث أبي دَاوُد
الحَدِيث السَّادِس وَالْعشْرُونَ
أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «لَا تُوطأ حَامِل حتَّى تضع، ولاحائل حتَّى تحيض» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من رِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاس: «لَا تُوطأ حَامِل حتَّى تضع، وَلَا غير ذَات حمل حتَّى تحيض حَيْضَة» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
وَقَالَ عبد الْحق: فِي إِسْنَاده أَبُو الوداك، وَقد وَثَّقَهُ ابْن معِين،(3/142)
وَهُوَ عِنْد غَيره دون (ذَلِك) .
قَالَ ابْن الْقطَّان: ترك عبد الْحق مَا هُوَ أولَى أَن (يعل) بِهِ الْخَبَر وَهُوَ شريك بن عبد الله، فَإِنَّهُ (يرويهِ) عَن قيس بن وهب عَن أبي الوداك، وَشريك مُخْتَلف فِيهِ، وَهُوَ مُدَلّس. قلت: قد وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وَأخرج لَهُ مُسلم مُتَابعَة.
وَذكر الشَّافِعِي هَذَا الحَدِيث مُعَلّقا وَقَالَ: إِنَّه أصل الِاسْتِبْرَاء. وَقَالَ فِي «الْمُخْتَصر» : «نهَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَام سبي أَوْطَاس أَن تُوطأ حَامِل حتَّى تضع وَلَا حَائِل حتَّى تحيض» وَهَذَا هُوَ عين مَا أوردهُ الرَّافِعِيّ، وَاعْترض القَاضِي عَلَى الشَّافِعِي، فَقَالَ: ذكر أول الْخَبَر بِالْمَعْنَى وَآخره بِاللَّفْظِ، وَلَو كَانَ أَتَى بِالْمَعْنَى لقَالَ: أَو حَائِل حتَّى تحيض. وَلَو أَتَى بِأول اللَّفْظ لقَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَا تُوطأ حَامِل حتَّى تضع» . قَالَ: وَكَانَ الأولَى بَعْدَمَا عمد إِلَى الْمَعْنى أَن ينْقل آخر الحَدِيث بِالْمَعْنَى، وَإِن كَانَ مَا فعله سائغًا فِي كَلَامهم، وَيُسمى تلوين الْكَلَام.
قلت: قد علمت أَن آخِره لم نجده بِهَذَا اللَّفْظ، فَإِذا هُوَ بِالْمَعْنَى، وَلِهَذَا الحَدِيث شَاهد من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث(3/143)
ابْن صاعد، ثَنَا عبد الله بن عمرَان العائذي، ثَنَا ابْن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن مُسلم (الجندي) ، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «نهَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن تُوطأ حَامِل حتَّى تضع أَو حَائِل حتَّى تحيض» ثمَّ قَالَ: قَالَ لنا ابْن صاعد: مَا قَالُوا لنا فِي هَذَا الْإِسْنَاد أحدا عَن ابْن عَبَّاس إِلَّا العائذي. وَله شَاهد ثَالِث أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة لَكِن بِإِسْنَاد ضَعِيف رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» من حَدِيث بَقِيَّة، عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن الشّعبِيّ، عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ: «أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهَى فِي وقْعَة أَوْطَاس أَن يَقع الرجل عَلَى حَامِل حتَّى تضع» ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن دَاوُد إِلَّا الْحجَّاج تفرد بِهِ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، وَلَا رَوَاهُ عَن إِسْمَاعِيل إِلَّا بَقِيَّة.
فَائِدَة: أَوْطَاس - بِفَتْح أَوله وبالطاء وَالسِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ - وادٍ فِي بِلَاد هوَازن، وَبِه كَانَت غَزْوَة النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هوَازن.
قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» فِي كَلَامه عَلَى نِكَاح الْمُتْعَة: عَام أَوْطَاس وعام الْفَتْح وَاحِد، قَالَ ابْن دحْيَة فِي كتاب «الْآيَات الْبَينَات» : وَكَانَت بعد فتح مَكَّة بِيَوْم.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب، وَأما آثاره فَثَلَاثَة:(3/144)
(أَولهَا) عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ: «إِن أقل الْحيض يَوْم وَلَيْلَة» .
ثَانِيهَا: عَنهُ (أَيْضا) أَنه قَالَ: «مَا زَاد عَلَى خَمْسَة عشر فَهُوَ اسْتِحَاضَة» وَلَا يحضرني من خرجها.
ثَالِثهَا: مَذْهَب عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «من جَامع فِي الْحيض فَعَلَيهِ عتق رَقَبَة» وَهَذَا ورد فِي خبر مَرْفُوع لكنه ضَعِيف، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: «جَاءَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أصبت امْرَأَتي وَهِي حَائِض. فَأمره رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن يعْتق النَّسمَة، وَقِيمَة النَّسمَة يومئذٍ دِينَار» .
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث مُنكر، تفرد بروايته عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن تَمِيم. قَالَ أَحْمد: قلب أَحَادِيث شهر بن حَوْشَب فَجَعلهَا حَدِيث الزُّهْرِيّ وَجعل يُضعفهُ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث.
قلت: وَهَذَا عَجِيب إِذْ يروي لَهُ فِي «سنَنه» وَيَقُول: هُوَ مَتْرُوك! وَقَالَ صَاحب «الإِمَام» : عبد الرَّحْمَن هَذَا قَالَ فِيهِ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم: ضَعِيف الحَدِيث. وَضَعفه الإِمَام أَحْمد أَيْضا، وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَلَا يَصح فِي إتْيَان الْحَائِض إِلَّا التَّحْرِيم. وَهَذَا قد أسلفناه عَنهُ فِي أثْنَاء الْكَلَام عَلَى الحَدِيث الْحَادِي عشر من هَذَا الْبَاب.(3/145)
وأسلفنا هُنَاكَ عَن ابْن الْقطَّان أَنه قَالَ: لَا يعول عَلَى هَذَا. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم الظَّاهِرِيّ: رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق آخر، وَفِي إِسْنَاده مُوسَى بن أَيُّوب وَهُوَ ضَعِيف.
قلت: لَا، قد وَثَّقَهُ الْعجلِيّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق.
(آخر الْجُزْء السَّادِس عشر من تَحْرِير المُصَنّف غفر الله لَهُ بِحَمْد الله وَمِنْه وَكَرمه.
يتلوه: كتاب الصَّلَاة) .(3/146)
كتاب الصَّلَاة(3/147)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا)
كتاب الصَّلَاة
بَاب أَوْقَات الصَّلَاة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ خمسين حَدِيثا
الحَدِيث الأول
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) : «أمَّني جِبْرِيل (عَلَيْهِ السَّلَام) عِنْد بَاب الْبَيْت مرَّتَيْنِ فَصَلى بِي الظّهْر حِين زَالَت الشَّمْس - وَيروَى: حِين كَانَ الْفَيْء مثل الشَّراك - وَصَلى بِي الْعَصْر حِين كَانَ كل شَيْء بِقدر ظله، وَصَلى بِي الْمغرب حِين أفطر الصَّائِم، وَصَلى بِي الْعشَاء حِين غَابَ الشَّفق، وَصَلى بِي الْفجْر حِين حرم الطَّعَام وَالشرَاب عَلَى الصَّائِم، فَلَمَّا كَانَ الْغَد صَلَّى بِي الظّهْر (حِين) كَانَ كل شَيْء بِقدر ظله، وَصَلى بِي الْعَصْر حِين صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَصَلى بِي الْمغرب للقدر الأول لم يؤخرها، وَصَلى بِي الْعشَاء حِين ذهب ثلث اللَّيْل، وَصَلى بِي(3/149)
الْفجْر حِين أَسْفر، ثمَّ الْتفت وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، هَذَا وَقت الْأَنْبِيَاء من قبلك، وَالْوَقْت فِيمَا بَين هذَيْن الْوَقْتَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث أصلٌ أصيل فِي هَذَا الْبَاب، وَرَوَاهُ الْأَئِمَّة الشَّافِعِي فِي «الْأُم» (وخرجه) فِي «الْمسند» أَيْضا، وَأحمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، فِي «سُنَنهمْ» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن أبي ربيعَة، عَن حَكِيم بن حَكِيم بن عباد بن (حنيف) ، عَن نَافِع بن جُبَير بن مطعم، عَن ابْن عَبَّاس، وَأَلْفَاظهمْ مُتَقَارِبَة.
وَهَذَا اللَّفْظ الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ قريب من رِوَايَة الشَّافِعِي (و) لَيْسَ فِي روايتهم قَوْله: «عِنْد بَاب الْبَيْت» إِنَّمَا فِيهَا «عِنْد الْبَيْت» نعم ذَلِك فِي رِوَايَة الشَّافِعِي كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» عَنهُ. قَالَ(3/150)
التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، وَعبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بِطُولِهِ. ثمَّ سَاقه بِإِسْنَادِهِ كَمَا تقدم. قَالَ: وَاخْتَصَرَهُ سُلَيْمَان بن بِلَال، فَأخْرجهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، وَمُحَمّد بن عمر، عَن حَكِيم بن حَكِيم، عَن نَافِع، عَن ابْن عَبَّاس: «أَن جِبْرِيل أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَصَلى بِهِ الصَّلَوَات لوقتين، إِلَّا الْمغرب» وَهَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. قَالَ: وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث هُوَ ابْن عبد الله بن عَيَّاش بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي من أَشْرَاف قُرَيْش، والمقبولين فِي الراوية، قَالَ: وَحَكِيم بن حَكِيم هُوَ ابْن عباد بن حنيف الْأنْصَارِيّ، وَكِلَاهُمَا مدنيان.
قلت: لَكِن عبد الرَّحْمَن قد اختُلف فِيهِ، قَالَ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم: صَالح، وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة، وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ من أهل الْعلم، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» وَنقل عَن أَحْمد أَنه قَالَ فِي حَقه: مَتْرُوك الحَدِيث (و) عَن ابْن نمير أَنه قَالَ: لَا أقدم عَلَى ترك حَدِيثه.(3/151)
وَأما حَكِيم فَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وحسَّن لَهُ التِّرْمِذِيّ حَدِيث: «الْخَال وَارِث» ، وَخَالف ابْن سعد فَقَالَ: قَلِيل الحَدِيث (و) لَا يحتجون بحَديثه (وَأَخُوهُ) عُثْمَان بن حَكِيم كَانَ ثِقَة.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عمر فِي «تمهيده» : تكلم بعض النَّاس فِي إِسْنَاد (حَدِيث) ابْن عَبَّاس هَذَا بِمَا لَا وَجه لَهُ من الْكَلَام، وَرُوَاته كلهم معروفو النّسَب (مَشْهُورُونَ) فِي الْعلم، وَقد خرجه أَبُو دَاوُد وَغَيره، وَذكره عبد الرَّزَّاق، (عَن الثَّوْريّ) وَابْن أبي (سُبْرَة) عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث (بِإِسْنَادِهِ) ، مثل رِوَايَة وَكِيع (وَأبي نعيم - يَعْنِي: عَن الثَّوْريّ - وَذكره عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن الْعمريّ، عَن عمر) (بن) نَافِع بن جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس نَحوه.
قَالَ صَاحب «الإِمَام» : وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى بالشهرة فِي حمل الْعلم مَعَ عدم الجرحة الثَّابِتَة وَهُوَ مُقْتَضَى رَأْيه، وَذكر أَيْضا مَا يَقْتَضِي تَأْكِيد الرِّوَايَة(3/152)
بمتابعة ابْن أبي (سُبْرَة) عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، وَكَذَلِكَ ذكر أَيْضا مُتَابعَة الْعمريّ، عَن عمر (بن) نَافِع، (وَهَذِه) مُتَابعَة حَسَنَة.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا اجتنبه قدماء النَّاس، وَمَا (حَقه أَن) يجْتَنب؛ فَإِن طَرِيقه صَحِيحَة، وَلَيْسَ ترك الْجعْفِيّ والقشيري (لَهُ) - يَعْنِي: البُخَارِيّ وَمُسلمًا - دَلِيلا عَلَى عدم صِحَّته؛ لِأَنَّهُمَا لم يخرجَا كل صَحِيح. قَالَ: وَقد رَوَى البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث ثمَّ سَاق بِإِسْنَادِهِ إِلَى البُخَارِيّ، ثَنَا أَيُّوب بن سُلَيْمَان، ثَنَا أَبُو بكر بن أبي أويس، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث وَمُحَمّد بن عمر، عَن حَكِيم (بن حَكِيم) ، عَن نَافِع، عَن ابْن عَبَّاس ... فَذكره. قَالَ: ورواة حَدِيث ابْن عَبَّاس (هَذَا) كلهم ثِقَات مشاهير.
قلت: قد علمت مَا فِي عبد الرَّحْمَن وَحَكِيم، وَرَوَى هَذَا الحَدِيث أَيْضا أَبُو بكر بن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» وَمِنْه نقلت من جِهَة مُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن ووكيع، عَن سُفْيَان، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث الْمَذْكُور فِيهِ «وَصَلى بِي الظّهْر حِين صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ» ، وَفِي(3/153)
آخِره: «وَصَلى بِي الْغَدَاة (عِنْدَمَا) أَسْفر، ثمَّ الْتفت إِلَيّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، الْوَقْت مَا بَين هذَيْن الْوَقْتَيْنِ، هَذَا وقتك وَوقت الْأَنْبِيَاء من قبلك» .
تَنْبِيهَانِ: الأول: قَالَ الْحَافِظ أَبُو عمر بعد أَن (خرج) حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا من رِوَايَة أبي نعيم عَن سُفْيَان: لَا تُوجد هَذِه اللَّفْظَة وَهِي: «وَوقت الْأَنْبِيَاء من قبلك» إِلَّا فِي هَذَا الْإِسْنَاد
قلت: قد رَوَاهَا التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، عَن حَكِيم بن حَكِيم، عَن نَافِع بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس ... فَذكره. وَقَالَ فِي آخِره: «ثمَّ الْتفت إِلَيّ جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، هَذَا وَقت الْأَنْبِيَاء من قبلك، وَالْوَقْت (فِيمَا بَين هذَيْن) الْوَقْتَيْنِ» وَحسنه كَمَا سلف.
الثَّانِي: قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : مدَار هَذَا الحَدِيث عَلَى حَكِيم بن حَكِيم - بِفَتْح الحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ - بن عباد - بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة - بن حنيف - بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون.
قلت: قد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من طَرِيقين آخَرين؛ أَحدهمَا: من حَدِيث عبيد الله بن مقسم، عَن نَافِع بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا.(3/154)
ثَانِيهمَا: من حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن نَافِع بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا أَيْضا، وَقد قَالَ هُوَ بعد هَذَا الْموضع بأسطر: ومتابعة الْعمريّ، عَن عمر بن نَافِع بن جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه مُتَابعَة حَسَنَة، وَقد أسلفنا ذَلِك عَنهُ أَيْضا.
وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَن حَدِيث رَوَاهُ [عُبَيْس] بن مَرْحُوم، عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل، عَن ابْن عجلَان، عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: (أمني جِبْرِيل عِنْد الْبَيْت مرَّتَيْنِ ... ) الحَدِيث، فَقَالَ أَبُو زرْعَة: وهم [عُبَيْس] فِي هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ أبي: أخْشَى أَن يكون وهم فِيهِ [عُبَيْس] ، فَقلت لَهما: فَمَا (علته؟) قَالَا: رَوَاهُ عدَّة من الْحفاظ عَن حَاتِم، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، عَن حَكِيم بن حَكِيم، عَن نَافِع، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح.
تَنْبِيه ثَالِث: اعْترض النَّوَوِيّ فِي «تنقيحه عَلَى الْوَسِيط» فِي إِيرَاده فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث «عِنْد بَاب الْكَعْبَة» (فَقَالَ إِنَّه ذكره فِي «الْبَسِيط» )(3/155)
تبعا للنِّهَايَة، وَهُوَ مُنكر لَا يعرف فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث؛ إِنَّمَا فِيهِ: «عِنْد الْبَيْت» من غير ذكر الْكَعْبَة. وَهَذَا لَيْسَ بجيد مِنْهُ؛ فقد علمت أَن الشَّافِعِي رَوَاهُ كَذَلِك، ثمَّ اعْترض عَلَيْهِ فِي مَوضِع آخر - سبقه إِلَيْهِ ابْن الصّلاح - وَقد ذكرته فِي تخرج (أَحَادِيثه) الْمُسَمَّى: «تذكرة الأخيار بِمَا فِي الْوَسِيط (من) الْأَخْبَار» .
(فَائِدَة: الشرَاك - بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة - هُوَ أحد سيور النَّعْل الَّتِي يكون عَلَى وَجههَا) .
الحَدِيث الثَّانِي
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى مثل حَدِيث ابْن عَبَّاس، عَن ابْن عمر.
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن عتبَة بن مُسلم، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «لمَّا فرضت (الصَّلَاة) نزل جِبْرِيل (عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) فَصَلى بِهِ الظّهْر، (وَذكر) الْمَوَاقِيت، وَقَالَ: «فَصَلى بِهِ الْمغرب حِين غَابَتْ الشَّمْس» وَقَالَ فِي الْيَوْم الثَّانِي: «فَصَلى بِهِ الْمغرب حِين غَابَتْ الشَّمْس» .
وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث حميد بن الرّبيع، عَن مَحْبُوب بن الجهم (بن) وَاقد مولَى حُذَيْفَة بن الْيَمَان، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع،(3/156)
عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَتَانِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين طلع الْفجْر ... » (وَذكر) الحَدِيث - وَقَالَ فِي وَقت الْمغرب: «ثمَّ أَتَاهُ (جِبْرِيل) حِين سقط القرص فَقَالَ: قُم فصل. فَصليت الْمغرب ثَلَاث رَكْعَات، (ثمَّ أَتَانِي من الْغَد حِين سقط القرص، فَقَالَ: قُم فصل. فَصليت الْمغرب ثَلَاث رَكْعَات)
» وَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ، وَالطَّرِيق (الأولَى) جَيِّدَة، وَلَيْسَ (فِيهَا) إِلَّا عنعنة ابْن إِسْحَاق. وَأما هَذِه فَفِيهَا حميد بن الرّبيع نسبه يَحْيَى بن معِين إِلَى الْكَذِب، وَقَالَ مرّة: أَخْزَاهُ الله وَمن (يسْأَل) عَنهُ؟ ! وَقَالَ النسائى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن عدي: يسرق الحَدِيث وَيرْفَع الْمَوْقُوف. وَحسن أَحْمد القَوْل فِيهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تكلمُوا فِيهِ بلاحجة. وَقَالَ عُثْمَان بن أبي شيبَة: هُوَ ثِقَة، لكنه (شرة) يُدَلس.
وفيهَا أَيْضا مَحْبُوب بن الجهم وَهُوَ لين. وَقَالَ ابْن حبَان: (يروي) عَن عبيد الله بن عمر الْأَشْيَاء الَّتِي لَيست من حَدِيثه، وَلينه ابْن عدي أَيْضا.(3/157)
الحَدِيث الثَّالِث
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى مثله أَيْضا، عَن أبي هُرَيْرَة.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن الْحُسَيْن بن حُرَيْث، عَن الْفضل بن مُوسَى، عَن مُحَمَّد بن [عَمْرو] عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «هَذَا جِبْرِيل جَاءَكُم يعلمكم أَمر دينكُمْ. فَصَلى لَهُ الصُّبْح حِين أَسْفر قَلِيلا، ثمَّ صَلَّى لَهُ الظّهْر (حِين) كَانَ الظل مثله، ثمَّ صَلَّى لَهُ الْعَصْر حِين كَانَ الظل (مثلَيْهِ) ، ثمَّ صَلَّى الْمغرب بِوَقْت وَاحِد حِين غربت الشَّمْس وَحل فطر الصَّائِم، وَصَلى لَهُ الْعشَاء حِين ذهب (سَاعَة من اللَّيْل) ، ثمَّ (جَاءَهُ) الْغَد فَصَلى الصُّبْح حِين طلع الْفجْر، وَصَلى الظّهْر حِين زاغت الشَّمْس، (ثمَّ) صَلَّى الْعَصْر حِين رَأَى الظل مثله، ثمَّ صَلَّى الْمغرب حِين غربت الشَّمْس وَحل فطر الصَّائِم، ثمَّ صَلَّى الْعشَاء حِين ذهب (شفق اللَّيْل) ثمَّ قَالَ: الصَّلَاة مَا بَين صَلَاتك أمس وَصَلَاة الْيَوْم» كَذَا (رَأَيْته) فِي «سنَن النَّسَائِيّ»(3/158)
و «ذكره» ابْن السكن فِي «صحاحه» (أَيْضا) وَعَزاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» إِلَى رِوَايَة النَّسَائِيّ، وَفِيه تَقْدِيم الْقطعَة الْأَخِيرَة من الحَدِيث عَلَى (الأولَى) - أَعنِي: فعل صلَاته فِي الْيَوْم الثَّانِي - وَهُوَ مُوَافق لبَقيَّة الْأَحَادِيث فِي صفة صَلَاة جِبْرِيل، ثمَّ قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين وَرِجَال إِسْنَاده أخرج لَهُم مُسلم فِي «صَحِيحه» وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقد سبقه إِلَى ذَلِك الْحَاكِم؛ فَإِنَّهُ لما أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث يُوسُف، عَن الْفضل بن مُوسَى، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «هَذَا جِبْرِيل يعلمكم دينكُمْ» . ثمَّ ذكر مَوَاقِيت الصَّلَاة، ثمَّ ذكر «أَنه صَلَّى الْمغرب حِين غربت الشَّمْس، ثمَّ لما جَاءَهُ من الْغَد صَلَّى الْمغرب حِين غربت الشَّمْس فِي وَقت وَاحِد» قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، ذكره شَاهدا لحَدِيث أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن، عَن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن (أسيد) عَن مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر الْمُؤَذّن أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يخبر، أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَدثهمْ: «أَن جِبْرِيل أَتَاهُ فَصَلى بِهِ الصَّلَوَات فِي وَقْتَيْنِ وَقْتَيْنِ إِلَّا الْمغرب، قَالَ: فَجَاءَنِي فَصَلى بِي سَاعَة غَابَتْ الشَّمْس، ثمَّ جَاءَنِي من الْغَد فَصَلى بِي سَاعَة غَابَتْ الشَّمْس لم يُغَيِّرهُ» وَقَالَ فِي حَقه: هَذَا حَدِيث(3/159)
صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ (فَإِنَّهُمَا لم يخرجَا) عَن مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر. قَالَ: [وَقد قدمت لَهُ شَاهِدين، وَوجدت لَهُ شَاهدا آخر صَحِيحا عَلَى شَرط مُسلم] .
وَرَأَيْت فِي «علل التِّرْمِذِيّ» (عَن البُخَارِيّ) أَنه قَالَ: حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة فِي الْمَوَاقِيت حسن.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» حَدِيث مُحَمَّد بن الْفضل، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن للصَّلَاة أَولا وآخرًا، وَإِن أول وَقت صَلَاة الظّهْر حِين تَزُول الشَّمْس، وَآخر وَقتهَا حِين يدْخل وَقت الْعَصْر، وَأول وَقت الْعَصْر حِين يدْخل وَقتهَا، وَإِن آخر وَقتهَا حِين تصفر الشَّمْس، وَإِن أول وَقت الْمغرب حِين تغرب الشَّمْس، وَإِن آخر وَقتهَا حِين يغيب الْأُفق، وَإِن أول وَقت الْعشَاء الْآخِرَة حِين يغيب الْأُفق، وَإِن آخر وَقتهَا حِين ينتصف اللَّيْل، وَإِن أول وَقت الْفجْر حِين يطلع الْفجْر، وَإِن آخر وَقتهَا حِين تطلع الشَّمْس» ثمَّ قَالَ: سَمِعت مُحَمَّدًا - يَعْنِي البُخَارِيّ - يَقُول: حَدِيث الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد فِي الْمَوَاقِيت أصح من حَدِيث مُحَمَّد بن فُضَيْل، عَن الْأَعْمَش، وَحَدِيث مُحَمَّد بن فُضَيْل خطأ؛ أَخطَأ فِيهِ مُحَمَّد بن فُضَيْل، ثمَّ رَوَى من حَدِيث الْفَزارِيّ، عَن الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد قَالَ: «كَانَ يُقَال: إِن للصَّلَاة(3/160)
أَولا وآخرًا ... » فَذكر (نَحْو) حَدِيث مُحَمَّد بن فُضَيْل، عَن الْأَعْمَش بِمَعْنَاهُ.
قلت: وَحَاصِل هَذَا أَن البُخَارِيّ خطَّأ رِوَايَة الرّفْع، وَصحح رِوَايَة الْإِرْسَال، وَكَذَا قَالَه يَحْيَى بن معِين، وَابْن أبي حَاتِم، و (أما) ابْن الْقطَّان فصحح فِي كِتَابه «الْوَهم وَالْإِيهَام» رِوَايَة الرّفْع، وَقَالَ: لَا (يبعد) عِنْدِي فِي أَن يكون عِنْد الْأَعْمَش فِي هَذَا عَن مُجَاهِد وَغَيره مثل الحَدِيث الْمَرْفُوع، وَإِنَّمَا الشَّأْن فِي رافعه وَهُوَ مُحَمَّد بن فُضَيْل وَهُوَ صَدُوق من أهل الْعلم، وَقد وَثَّقَهُ ابْن معِين.
الحَدِيث الرَّابِع
قَالَ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيروَى مثله عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أخرجه مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا (بِهِ عَنهُ) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه أَتَاهُ سَائل يسْأَله عَن مَوَاقِيت الصَّلَاة، فَلم يرد عَلَيْهِ شَيْئا، قَالَ: فَأَقَامَ الْفجْر حِين انْشَقَّ الْفجْر وَالنَّاس لَا يكَاد يعرف بَعضهم بَعْضًا، ثمَّ أمره فَأَقَامَ (الظّهْر) حِين زَالَت الشَّمْس وَالْقَائِل يَقُول: قد انتصف النَّهَار، وَهُوَ كَانَ أعلم مِنْهُم، ثمَّ أمره فَأَقَامَ (الْعَصْر)(3/161)
وَالشَّمْس مُرْتَفعَة، ثمَّ أمره فَأَقَامَ (الْمغرب) حِين (وَقعت) الشَّمْس، ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْعشَاء حِين غَابَ الشَّفق، ثمَّ أخر الْفجْر من الْغَد حَتَّى انْصَرف مِنْهَا وَالْقَائِل يَقُول: قد طلعت الشَّمْس أَو كَادَت، ثمَّ أخر الظّهْر حَتَّى (كَانَ) قَرِيبا من وَقت الْعَصْر (بالْأَمْس، ثمَّ أخر الْعَصْر) حَتَّى انْصَرف مِنْهَا وَالْقَائِل يَقُول: قد احْمَرَّتْ الشَّمْس، ثمَّ أخر الْمغرب حَتَّى كَانَ عِنْد سُقُوط الشَّفق، ثمَّ أخر الْعشَاء حَتَّى كَانَ قَرِيبا من ثلث اللَّيْل (الأول) ، ثمَّ أصبح فَدَعَا السَّائِل فَقَالَ: الْوَقْت مَا بَين هذَيْن. وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَصَلى الْمغرب قبل أَن يغيب الشَّفق فِي الْيَوْم الثَّانِي» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «وَأقَام الظّهْر فِي وَقت الْعَصْر الَّذِي كَانَ قبله، وَصَلى الْعَصْر وَقد اصْفَرَّتْ الشَّمْس - أَو قَالَ: أَمْسَى - وَصَلى الْمغرب قبل أَن يغيب الشَّفق، وَصَلى الْعشَاء إِلَى ثلث اللَّيْل» .
وَرَأَيْت فِي «علل التِّرْمِذِيّ» عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: حَدِيث أبي مُوسَى هَذَا حَدِيث حسن. وَنَقله الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن «علله» أَيْضا.
الحَدِيث الْخَامِس
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى مثله عَن جَابر أَيْضا.(3/162)
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ، عَن يُوسُف بن وَاضح، حَدثنَا قدامَة - يَعْنِي ابْن شهَاب - عَن برد، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن جِبْرِيل أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُعلمهُ مَوَاقِيت الصَّلَاة (فَتقدم) جِبْرِيل وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَلفه وَالنَّاس خلف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَصَلى الظّهْر حِين زَالَت الشَّمْس، وَأَتَاهُ حِين كَانَ الظل مثل شخصه فَصنعَ كَمَا صنع، فَتقدم جِبْرِيل وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَلفه وَالنَّاس خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَصَلى الْعَصْر، ثمَّ أَتَاهُ حِين وَجَبت الشَّمْس، فَتقدم جِبْرِيل وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَلفه وَالنَّاس خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) فَصَلى الْمغرب، ثمَّ أَتَاهُ حِين غَابَ (الشَّفق) فَتقدم جِبْرِيل وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَلفه وَالنَّاس خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَصَلى الْعشَاء، ثمَّ أَتَاهُ حِين (أَسْفر) الْفجْر فَتقدم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَلفه وَالنَّاس خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) فَصَلى الْغَدَاة، ثمَّ أَتَاهُ الْيَوْم الثَّانِي حِين كَانَ ظلّ الرجل مثل شخصه، فَصنعَ مثل مَا صنع بالْأَمْس، فَصَلى الظّهْر، ثمَّ أَتَاهُ حِين (كَانَ) ظلّ الرجل (مثل) (شخصيه) فَصنعَ كَمَا صنع بالْأَمْس، فَصَلى الْعَصْر، ثمَّ أَتَاهُ حِين وَجَبت الشَّمْس فَصنعَ كَمَا صنع بالْأَمْس، (فَصَلى الْمغرب فنمنا ثمَّ قمنا ثمَّ نمنا ثمَّ قمنا فَأَتَاهُ فَصنعَ كَمَا صنع بالْأَمْس) فَصَلى الْعشَاء، ثمَّ أَتَاهُ(3/163)
حِين امْتَدَّ الْفجْر وَأصْبح والنجوم بادية مشتبكة، فَصنعَ كَمَا صنع بالْأَمْس، فَصَلى الْغَدَاة، ثمَّ قَالَ: مَا بَين هَاتين الصَّلَاتَيْنِ وَقت» .
وَهَذَا الْإِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات، حَتَّى برد بن سِنَان، وَإِن ضعفه عَلّي بن الْمَدِينِيّ. (و) قَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بالمتين، و (قَالَ) مرّة: كَانَ صَدُوقًا قدريًّا، فقد وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا بَأْس بِهِ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن سُوَيْد بن نصر، عَن عبد الله - هُوَ ابْن الْمُبَارك - عَن حُسَيْن بن عَلّي بن حُسَيْن، عَن وهب بن كيسَان، عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين مَالَتْ الشَّمْس (فَقَالَ) : قُم يَا مُحَمَّد فصل الظّهْر حِين مَالَتْ الشَّمْس، ثمَّ مكث حَتَّى إِذا كَانَ فَيْء الرجل مثله جَاءَهُ للعصر فَقَالَ: قُم يَا مُحَمَّد فصل الْعَصْر، ثمَّ مكث حَتَّى إِذا (غربت) الشَّمْس جَاءَهُ فَقَالَ: قُم فصل (الْمغرب، فَقَامَ فَصلاهَا حِين غَابَتْ الشَّمْس سَوَاء، ثمَّ مكث حَتَّى إِذا ذهب) الشَّفق جَاءَهُ فَقَالَ: قُم يَا مُحَمَّد فصل الْعشَاء، فَقَامَ فَصلاهَا، ثمَّ جَاءَهُ حِين سَطَعَ الْفجْر (فِي الصُّبْح) فَقَالَ: قُم يَا مُحَمَّد فصل، فَقَامَ فَصَلى الصُّبْح، ثمَّ جَاءَهُ من الْغَد حِين كَانَ فَيْء الرجل مثله فَقَالَ: قُم يَا مُحَمَّد فصلِ (فَقَامَ فَصَلى الظّهْر، ثمَّ جَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين كَانَ فَيْء الرجل مثلَيْهِ فَقَالَ: قُم(3/164)
يَا مُحَمَّد فصل، فَقَامَ) فَصَلى الْعَصْر، ثمَّ جَاءَهُ الْمغرب حِين غَابَتْ الشَّمْس وقتا وَاحِدًا (لم يزل عَنهُ، فَقَالَ: قُم فصلِ فَصَلى) [الْمغرب، ثمَّ جَاءَهُ للعشاء حِين ذهب ثلث اللَّيْل الأول فَقَالَ: قُم فصلِ، فَصَلى] الْعشَاء، ثمَّ جَاءَهُ للصبح حِين أَسْفر جدًّا فَقَالَ: قُم فصلِ فَصَلى الصُّبْح (فَقَالَ) مَا بَين هذَيْن وَقت كُله» وَهَذَا إِسْنَاد أَيْضا كل رِجَاله ثِقَات.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مُخْتَصرا عَن أَحْمد بن مُوسَى، عَن عبد الله بن الْمُبَارك بِهِ بِلَفْظ: «أمني جِبْرِيل ... » فَذكر نَحْو حَدِيث ابْن عَبَّاس بِمَعْنَاهُ، وَلم يذكر فِيهِ: «لوقت الْعَصْر بالْأَمْس» ثمَّ قَالَ: قَالَ البُخَارِيّ: أصح شَيْء فِي الْمَوَاقِيت حَدِيث جَابر هَذَا (قَالَ) وَقد رَوَاهُ عَطاء بن أبي رَبَاح، وَعَمْرو بن دِينَار، وَأَبُو الزبير، عَن جَابر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَنقل ابْن الْعَرَبِيّ، عَن البُخَارِيّ أَنه صحّح هَذَا الحَدِيث.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عبد الله بن الْمُبَارك بِمثل الرِّوَايَة الثَّانِيَة الَّتِي أخرجهَا النَّسَائِيّ مَعَ تفَاوت فِي (اللَّفْظ) ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح مَشْهُور من حَدِيث عبد الله بن الْمُبَارك. قَالَ: والشيخان لم يخرجَاهُ لعِلَّة حَدِيث الْحُسَيْن بن عَلّي الْأَصْغَر، وَقد [رَوَى عَنهُ] عبد الرَّحْمَن بن أبي الموال وَغَيره، قَالَ:(3/165)
[وَقد أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن أبي مُحَمَّد بن يَحْيَى] العتيقي [أَخْبرنِي أبي، عَن جدي] ، ثَنَا مُوسَى بن عبد الله بن الْحسن، حَدثنِي أبي وَغير وَاحِد من أهل بيتنا قَالُوا: كَانَ الْحُسَيْن بن عَلّي بن الْحُسَيْن أشبه ولد عَلّي بن الْحُسَيْن فِي التأله والتعبد، قَالَ: وَله أَيْضا شَاهِدَانِ بِمثل (أَلْفَاظه) عَن جَابر ... . فذكرهما.
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن الْحسن بن سُفْيَان، عَن حبَان بن مُوسَى، عَن عبد الله، عَن حُسَيْن ... . الحَدِيث، بِمثل رِوَايَة النَّسَائِيّ الثَّانِيَة.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» مطولا من حَدِيث وهب بن كيسَان، عَن جَابر، ومختصرًا من حَدِيث ثَوْر بن يزِيد، عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عَن عَطاء، عَنهُ.
وَسليمَان هَذَا وَثَّقَهُ دُحَيْم وَابْن معِين، وَقَالَ خَ: عِنْده مَنَاكِير، وَقَالَ (س) : لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وطرقه الدَّارَقُطْنِيّ بِأَلْفَاظ مِنْهَا لفظ النَّسَائِيّ السالف، فتلخص صِحَة حَدِيث جَابر هَذَا بِمَا لَهُ من شَاهد عَلَيْهِ، وَأما(3/166)
ابْن الْقطَّان فأعله بِمَا لَيْسَ فِي الْعرف عِلّة وَذَلِكَ أَنه قَالَ: يجب أَن يكون مُرْسلا إِذْ لم يذكر جَابر بن عبد الله من حَدثهُ بذلك، وَهُوَ لم يُشَاهد ذَلِك صَبِيحَة (الْإِسْرَاء) لما علم أَنه أَنْصَارِي إِنَّمَا صحب بِالْمَدِينَةِ.
وَأما ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة (اللَّذَان) رويا قصَّة إِمَامَة جِبْرِيل فَلَيْسَ (يلْزم من) حَدِيثهمَا من الْإِرْسَال مَا فِي رِوَايَة جَابر؛ لِأَنَّهُمَا قَالَا: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ ذَلِك، وقصه عَلَيْهِم. انْتَهَى (كَلَامه) .
وَحَاصِله أَنه مُرْسل صَحَابِيّ وَذَلِكَ مَقْبُول حكمه حكم الْمسند عِنْد الْجُمْهُور؛ إِلَّا (من) شَذَّ، والجهالة لعين من أرسل عَنهُ غير ضارة، وَمن الْبعيد أَن يكون جَابر سمع ذَلِك من تَابِعِيّ غير صَحَابِيّ، وَقد جَاءَ عَن جَابر أَيْضا بِلَفْظ: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ ذَلِك، كَمَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة، فَفِي التِّرْمِذِيّ عَن جَابر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أمني جِبْرِيل ... » الحَدِيث.
وَفِي إِحْدَى رِوَايَات الْحَاكِم، والدراقطني عَن جَابر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أمني جِبْرِيل بِمَكَّة مرَّتَيْنِ» فَزَالَ مَا أعل الحَدِيث بِهِ، وَظهر أَن ذَلِك لَيْسَ مَخْصُوصًا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.(3/167)
الحَدِيث السَّادِس
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى مثله عَن أنس أَيْضا.
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ، وَرَوَاهُ الدارقطني فِي «سنَنه» عَن أبي طَالب أَحْمد بن نصر بن طَالب، نَا أَبُو حَمْزَة إِدْرِيس بن يُونُس بن (يناق) الْفراء، ثَنَا مُحَمَّد بن سعيد بن جِدَار، نَا جرير بن حَازِم، عَن قَتَادَة، عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن جِبْرِيل أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَكَّة حِين زَالَت الشَّمْس فَأمره أَن يُؤذن النَّاس بِالصَّلَاةِ حِين فرضت عَلَيْهِم فَقَامَ جِبْرِيل أَمَام النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقَامَ النَّاس خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: فَصَلى أَربع رَكْعَات لَا يجْهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ (يأتم) النَّاس برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يأتم بِجِبْرِيل) عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ أمْهل حَتَّى إِذا دخل وَقت الْعَصْر صَلَّى بهم أَربع رَكْعَات لَا يجْهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، يأتم الْمُسلمُونَ برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ويأتم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِجِبْرِيل، ثمَّ أمْهل حَتَّى إِذا وَجَبت الشَّمْس صَلَّى بهم ثَلَاث رَكْعَات يجْهر فِي رَكْعَتَيْنِ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَا يجْهر فِي الثَّالِثَة، ثمَّ (أمهله) حَتَّى إِذا ذهب ثلث اللَّيْل صَلَّى بهم أَربع رَكْعَات يجْهر فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأولتين (بِالْقِرَاءَةِ) ، وَلَا يجْهر فِي الآخرتين بِالْقِرَاءَةِ، (ثمَّ أمهله حَتَّى إِذا طلع الْفجْر صَلَّى بهم رَكْعَتَيْنِ يجْهر فيهمَا بِالْقِرَاءَةِ) » .(3/168)
وَأَبُو طَالب ذكره أَبُو أَحْمد فِي «كناه» وَقَالَ: أدركناه وَهُوَ حسن الْمعرفَة بِحَدِيث أهل الْمَدِينَة، وَأَبُو حَمْزَة الْفراء ذكره أَيْضا فِي «كناه» ، سكت عَنهُ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يعرف حَاله. وَمُحَمّد بن سعيد بن جِدَار لَا أعلم حَاله، وَقَالَ ابْن الْقطَّان أَيْضا: إِنَّه مَجْهُول وَبَاقِي (الْإِسْنَاد) لَا يسْأَل عَنهُ.
(وَذكره) ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» كَمَا سَاقه الدَّارَقُطْنِيّ سَوَاء.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وأبنا ابْن مخلد، نَا أَبُو دَاوُد، نَا ابْن الْمثنى، نَا ابْن أبي عدي، عَن (سعيد) عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِنَحْوِهِ مُرْسلا.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي «مُعْجَمه» ، ثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم - صَدُوق - ثَنَا أَحْمد بن عَلّي بن عمرَان، ثَنَا عَمْرو بن الرّبيع بن طَارق (الْمصْرِيّ) ، نَا عِكْرِمَة بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة، (حَدثنِي) أنس بن مَالك قَالَ: قَالَ رَسُول(3/169)
الله (: (لما زَالَت الشَّمْس عَن كبد السَّمَاء نزل جِبْرِيل فِي صف من الْمَلَائِكَة فَصَلى (بِهِ) وَأمر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَصْحَابه (فصلوا) خَلفه، فَأَتمَّ بِجِبْرِيل، وَأتم أَصْحَابه (بِهِ) فَصَلى بهم أَرْبعا وخافت فِيهِنَّ الْقِرَاءَة، ثمَّ تَركهم حَتَّى إِذا تضويت الشَّمْس وَهِي بَيْضَاء نقية نزل جِبْرِيل، فَصَلى بهم أَرْبعا يُخَافت فِيهِنَّ الْقِرَاءَة، فَأَتمَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِجِبْرِيل، (وَأتم) أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِهِ، حَتَّى إِذا غَابَتْ الشَّمْس نزل (جِبْرِيل) فَصَلى بهم ثَلَاث رَكْعَات يجْهر فِي رَكْعَتَيْنِ، ويخافت فِي (وَاحِدَة) ، فَأَتمَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِجِبْرِيل، وَأتم (أَصْحَاب) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِهِ، ثمَّ تَركه حَتَّى إِذا غَابَ الشَّفق نزل فَصَلى بهم أَربع رَكْعَات يجْهر فِي رَكْعَتَيْنِ، ويخافت فِي رَكْعَتَيْنِ، فَأَتمَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِجِبْرِيل، وَأتم (أَصْحَاب) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِهِ، فَبَاتُوا (حَتَّى) إِذا أَصْبحُوا نزل جِبْرِيل فَصَلى بهم رَكْعَتَيْنِ يُطِيل فيهمَا الْقِرَاءَة) .
(قلت) : وَعِكْرِمَة هَذَا أَظُنهُ الْأَزْدِيّ القَاضِي، وَقد ضَعَّفُوهُ.
خاتمتان: الأولَى: رَوَى أَيْضا مثل حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَمن بعده أَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ البدري، وَهُوَ مِمَّا اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه،(3/170)
وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ (رَوَاهُ) أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَعبد الله بن مَسْعُود رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ.
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي «سباعياته» : صَحَّ عَنهُ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: (و) فِي الْبَاب أَيْضا عَن (بُرَيْدَة) (209 وَعَمْرو بن حزم والبراء.
الثَّانِيَة: وَهِي من الْمُهِمَّات (الغريبة) قَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة: ثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَيُّوب، نَا إِبْرَاهِيم، عَن ابْن إِسْحَاق، عَن عتبَة بن مُسلم، عَن نَافِع بن جُبَير - وَكَانَ نَافِع كثير الرِّوَايَة - عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (لما فرضت الصَّلَاة عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَاهُ جِبْرِيل فَصَلى بِهِ الصُّبْح حِين طلع (الْفجْر)
.) ثمَّ ذكر الحَدِيث، وَهَذَا (حَدِيث) غَرِيب؛ فَإِن الْمَشْهُور أَن (أول) إِمَامَة جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِالنَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِنَّمَا هِيَ فِي صَلَاة الظّهْر، وَقد سلف أَيْضا، وَكَانَ الْإِسْرَاء وَفرض الصَّلَوَات الْخمس قبل الْهِجْرَة بعام، وَقيل: وَنصف، وَقيل: كَانَ الْإِسْرَاء بعد النُّبُوَّة بِخَمْسَة أَعْوَام.
الحَدِيث السَّابِع
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (وَقت الظّهْر مَا لم يدْخل وَقت الْعَصْر) .(3/171)
هَذَا الحَدِيث لَا يحضرني من رَوَاهُ عَن ابْن عمر (و) إِنَّمَا هُوَ عَن ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ وَالظَّاهِر أَن الْوَاو مِمَّا أسقطها النساخ، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: (وَقت الظّهْر إِذا زَالَت الشَّمْس، وَكَانَ ظلّ الرجل لطوله مَا لم يحضر الْعَصْر) ، (وَفِي لفظ آخر لَهُ «وَقت الظّهْر إِذا زَالَت الشَّمْس عَن بطن السَّمَاء مَا لم يحضر الْعَصْر» وَفِي لفظ لَهُ (إِذا صليتم الظّهْر، فَإِنَّهُ وَقت إِلَى أَن يحضر الْعَصْر ... ...) وَهُوَ حَدِيث طَوِيل (مُشْتَمل) عَلَى بَقِيَّة الْأَوْقَات الْخَمْسَة، وَقد ذكر الرَّافِعِيّ قِطْعَة مِنْهُ مُفْردَة فِي الْبَاب كَمَا ستعمله، وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم، وَلم يخرج البُخَارِيّ فِي الْأَوْقَات عَن عبد الله بن عَمْرو شَيْئا، وَذكر مُسلم بعده عَن يَحْيَى بن أبي كثير: «لَا يُسْتَطَاع الْعلم براحة (الْجِسْم) » .
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (من أدْرك رَكْعَة من الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح، وَمن أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك الْعَصْر) .(3/172)
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِهَذَا اللَّفْظ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن (تغيب) الشَّمْس فليتم صلَاته، وَإِذا أدْرك سَجْدَة من (صَلَاة الصُّبْح) قبل أَن تطلع الشَّمْس فليتم صلَاته» .
وَالْمرَاد بِالسَّجْدَةِ: الرَّكْعَة، كَمَا ستعلم من رِوَايَة عَائِشَة، وَفِي رِوَايَة (النَّسَائِيّ) : (إِذا أدْرك أحدكُم أول السَّجْدَة ... .) إِلَى آخر رِوَايَة البُخَارِيّ.
وَفِي رِوَايَة (ابْن) حبَان فِي «صَحِيحه» : «من صَلَّى من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن (تطلع) الشَّمْس لم تفته الصَّلَاة (وَمن صَلَّى من الْعَصْر رَكْعَة قبل أَن تغرب الشَّمْس لم تفته الصَّلَاة) » .
وَرَوَاهَا السراج فِي «مُسْنده» بنحوها وَلَفظه: «من صَلَّى سَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس، (و) صَلَّى مَا بَقِي بعد غرُوب الشَّمْس فَلم يفته الْعَصْر» ، وَذكر مثله فِي الصُّبْح.
وَأخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِلَفْظ آخر من حَدِيث(3/173)
أبي هُرَيْرَة أَيْضا، وَذَا لَفْظهمَا: «من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (فقد أدْرك الصَّلَاة كلهَا) وَفِي رِوَايَة لَهُ فردة عَن جَمِيع الرِّوَايَات: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة مَعَ الإِمَام) وَلم يُخرجهَا البُخَارِيّ وَلَا الَّتِي قبلهَا؛ وَإِنَّمَا (هما) من أَفْرَاد مُسلم.
وَفِي رِوَايَة (للنسائي) : (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة كلهَا، إِلَّا أَنه يقْضِي مَا فَاتَهُ) .
وَفِي رِوَايَة لأبي حَاتِم بن حبَان: «من أدْرك من صلَاته رَكْعَة فقد أدْركهَا، وليتم مَا بَقِي» وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «فقد أدْرك الصَّلَاة كلهَا» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من أدْرك رَكْعَة من الْفجْر قبل أَن تطلع الشَّمْس، وركعة بعد مَا تطلع فقد أدْركهَا» .
وَانْفَرَدَ مُسلم بِإِخْرَاجِهِ من حَدِيث عَائِشَة بِلَفْظ: «من أدْرك من الْعَصْر سَجْدَة قبل أَن تغرب الشَّمْس، أَو من الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْركهَا، والسجدة إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَة» .(3/174)
فَائِدَة: هَذِه اللَّفْظَة وَهِي: « (و) السَّجْدَة إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَة» الظَّاهِر أَنَّهَا من قَول عَائِشَة أَو من دونهَا، وَقَالَ الْمُحب فِي «أَحْكَامه» : يحْتَمل إدراجها، وَالظَّاهِر خِلَافه، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِالسَّجْدَةِ (السَّجْدَة) نَفسهَا تَنْبِيها عَلَى (أَن) الْإِدْرَاك يحصل (بِجُزْء حَتَّى) يكون مدْركا (بتكبيرة) .
(الحَدِيث التَّاسِع)
قَالَ الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ (و) عَلَى ظَاهر الْمَذْهَب وَقت الِاخْتِيَار إِلَى مصير الظل مثلَيْهِ، وَبعده وَقت الْجَوَاز بِلَا كَرَاهَة إِلَى الاصفرار وَمِنْه إِلَى الْغُرُوب. وَقت كَرَاهَة وَمَعْنَاهُ (أَنه) يكره تَأْخِيرهَا إِلَيْهِ رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: (تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِقين يجلس يرقب الشَّمْس حَتَّى إِذا كَانَت بَين قَرْني الشَّيْطَان قَامَ فنقرها أَرْبعا، لَا يذكر الله فِيهَا إِلَّا قَلِيلا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ م مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث أبي الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن «أَنه دخل عَلَى أنس بن مَالك فِي دَاره بِالْبَصْرَةِ حِين انْصَرف من الظّهْر، قَالَ: فصلوا الْعَصْر، فقمنا فصلينا، فَلَمَّا انصرفنا(3/175)
قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِقين ... » فَذكره بِحُرُوفِهِ سَوَاء.
الحَدِيث الْعَاشِر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (إِذا أقبل الظلام من هَا هُنَا - وَأَشَارَ إِلَى الْمشرق - وَأدبر النَّهَار من هَا هُنَا - وَأَشَارَ إِلَى الْمغرب - فقد أفطر الصَّائِم) .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده هَكَذَا الْغَزالِيّ وَهُوَ تبع إِمَامه وَقَالَ: إِنَّه صَحَّ. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أخرجه الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من طَرِيقين:
الأولَى: عَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (إِذا أقبل اللَّيْل، وَأدبر النَّهَار، وَغَابَتْ الشَّمْس فقد أفطر الصَّائِم) هَذَا لفظ مُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ (إِذا أقبل اللَّيْل من هَا هُنَا، وَأدبر النَّهَار من هَا هُنَا، وغربت الشَّمْس، فقد أفطر الصَّائِم) .
الثَّانِيَة: عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى فِي قصَّة قَالَ: (قَالَ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (إِذا غَابَتْ الشَّمْس من هَا هُنَا، وَجَاء اللَّيْل من هَا هُنَا، فقد أفطر الصَّائِم) هَذَا لفظ مُسلم، وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : (إِذا رَأَيْتُمْ اللَّيْل قد أقبل من هَا هُنَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْو الْمشرق - فقد أفطر الصَّائِم) . وَلَفظ(3/176)
البُخَارِيّ: (إِذا رَأَيْتُمْ اللَّيْل قد أقبل من هَا هُنَا، فقد أفطر الصَّائِم) .
الحَدِيث الْحَادِي عشر
عَن بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن وَقت الصَّلَاة؟ فَقَالَ: (صل) مَعنا (هذَيْن - يَعْنِي) الْيَوْمَيْنِ - ... » إِلَى أَن قَالَ: «وَصَلى) بِي الْمغرب فِي الْيَوْم الثَّانِي قبل أَن يغيب الشَّفق) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ عَن البُخَارِيّ، وَهَذَا [سِيَاقه] عَن بُرَيْدَة بن الْحصيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَن رجلا سَأَلَهُ عَن وَقت الصَّلَاة فَقَالَ لَهُ: صل مَعنا هذَيْن - (يَعْنِي) الْيَوْمَيْنِ - فَلَمَّا زَالَت الشَّمْس أَمر بِلَالًا فَأذن، ثمَّ أمره فَأَقَامَ الظّهْر، ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْعَصْر وَالشَّمْس مُرْتَفعَة بَيْضَاء نقية، ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْمغرب (حِين) غَابَتْ الشَّمْس، ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْعشَاء حِين غَابَ الشَّفق، ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْفجْر حِين طلع الْفجْر، فَلَمَّا أَن كَانَ فِي الْيَوْم الثَّانِي أمره فأبرد بِالظّهْرِ، فأنعم أَن يبرد بهَا، وَصَلى الْعَصْر وَالشَّمْس مُرْتَفعَة أَخّرهَا فَوق الَّذِي(3/177)
كَانَ، وَصَلى الْمغرب قبل أَن يغيب الشَّفق، وَصَلى الْعشَاء بَعْدَمَا ذهب ثلث اللَّيْل، وَصَلى الْفجْر فأسفر بهَا، ثمَّ قَالَ: أَيْن السَّائِل عَن وَقت الصَّلَاة؟ فَقَالَ السَّائِل: أَنا يَا رَسُول الله. قَالَ: وَقت صَلَاتكُمْ (بَين) مَا رَأَيْتُمْ» وَفِي رِوَايَة لَهُ: (أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلَهُ عَن مَوَاقِيت الصَّلَاة، فَقَالَ: اشْهَدْ مَعنا الصَّلَاة (فَأمر بِلَالًا) فَأذن بِغَلَس فَصَلى الصُّبْح حِين طلع الْفجْر، ثمَّ أمره بِالظّهْرِ حِين زَالَت الشَّمْس عَن بطن السَّمَاء، ثمَّ أمره بالعصر وَالشَّمْس مُرْتَفعَة، ثمَّ أمره بالمغرب حِين وَجَبت الشَّمْس، ثمَّ أمره بالعشاء حِين وَقع الشَّفق، ثمَّ أمره (بالغد فنور الصُّبْح) ، ثمَّ أمره بِالظّهْرِ فأبرد بهَا، ثمَّ أمره بالعصر وَالشَّمْس بَيْضَاء نقية لم يخالطها (صفرَة)
.) . وَذكر الحَدِيث.
وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم وَغَيره من رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن عَلْقَمَة، عَن سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه: قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : وَرَوَاهُ شُعْبَة عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد أَيْضا.
قلت: وَرَوَاهُ بنْدَار، عَن حرمي بن عمَارَة، عَن شُعْبَة بِهِ، وَأنْكرهُ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ حَتَّى محاه بنْدَار من كِتَابه (فَإِن) بنْدَار قَالَ: (ذكرته) لأبي دَاوُد فَقَالَ: صَاحب هَذَا الحَدِيث يَنْبَغِي أَن(3/178)
[يكبر] عَلَيْهِ. قَالَ بنْدَار: فمحوته من كتابي (لَكِن) قَالَ ابْن خُزَيْمَة: يَنْبَغِي أَن [يكبر] عَلَى أبي دَاوُد حَيْثُ غلط، وَأَن يضْرب بنْدَار عشرَة، حَيْثُ محا هَذَا الحَدِيث من كِتَابه؛ (لِأَنَّهُ) حَدِيث صَحِيح عَلَى مَا رَوَاهُ الثَّوْريّ أَيْضا عَن عَلْقَمَة.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي حَدِيث الثَّوْريّ: حَدِيث حسن غَرِيب صَحِيح. وَقَالَ فِي «علله» : سَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ فَقَالَ: حَدِيث حسن وَلم يعرفهُ إِلَّا من حَدِيث سُفْيَان - يَعْنِي: الثَّوْريّ.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رُوِيَ فِي الصَّحِيح أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (وَقت صَلَاة الْمغرب مَا لم يغب الشَّفق) .
هُوَ كَمَا قَالَ: فقد رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي لفظ آخر لَهُ: (وَوقت صَلَاة الْمغرب إِذا غَابَتْ الشَّمْس، مَا لم يسْقط الشَّفق)(3/179)
وَفِي لفظ آخر (لَهُ) : (وَوقت الْمغرب مَا لم يسْقط (ثَوْر) الشَّفق) وَفِي لفظ آخر لَهُ: (فَإِذا صليتم الْمغرب؛ فَإِنَّهُ وَقت إِلَى أَن يسْقط الشَّفق) وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاد مُسلم كَمَا سلف فِي الحَدِيث السَّابِع، وَهُوَ طرف مِنْهُ.
و (ثَوْر) الشَّفق - بالثاء الْمُثَلَّثَة - مَعْنَاهُ: ثورانه وانتشار حمرته، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: فَور الشَّفق - بِالْفَاءِ - وَهُوَ مَعْنَى ثَوْر، وصحفه بَعضهم بالنُّون، وَلَو صحت (بِهِ) الرِّوَايَة لَكَانَ لَهُ وَجه.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَرَأَ سُورَة الْأَعْرَاف فِي الْمغرب) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا (بِهِ) من حَدِيث ابْن جريح، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن عُرْوَة بن الزبير، عَن مَرْوَان بن الحكم قَالَ: (قَالَ لي زيد بن ثَابت: مَا لَك تقْرَأ فِي الْمغرب بقصار الْمفصل؟ ! وَقد سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِيهَا بطولى الطولتين) .(3/180)
(و) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من هَذَا الْوَجْه (وَفِيه) عَن مَرْوَان قَالَ: (قَالَ زيد بن ثَابت: مَا لَك تقْرَأ فِي صَلَاة الْمغرب بقصار الْمفصل؟ ! وَلَقَد رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِي الْمغرب (بطولى الطولتين) قَالَ: قلت: (فَمَا) طولى الطولتين؟ قَالَ: الْأَعْرَاف) . وَقَالَ ابْن أبي مليكَة من (قِبَلِ) نَفسه: الْمَائِدَة والأعراف.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه أَيْضا وَفِيه: أَن مَرْوَان بن الحكم أخبرهُ أَن زيد بن ثَابت قَالَ: «مَالِي أَرَاك تقْرَأ فِي الْمغرب بقصار السُّور؟ ! وَقد رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِيهَا بأطول الطوليين، قلت: يَا أَبَا عبد الله، مَا طول الطوليين؟ قَالَ: الْأَعْرَاف» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَن زيدا قَالَ لمروان: أَتَقْرَأُ فِي الْمغرب ب (قل هُوَ الله أحد) و (إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر) ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فمحلوفة؛ لقد رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِيهَا بأطول الطوليين: (المص) .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن - وَهُوَ أَبُو الْأسود أحد الثِّقَات - سمع عُرْوَة «قَالَ زيد لمروان: أَبَا عبد الله تقْرَأ فِي الْمغرب: ب (قل هُوَ الله أحد (و (إِنَّا(3/181)
اعطيناك الْكَوْثَر (؟ قَالَ زيد: فَحَلَفت بِاللَّه لقد رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِيهَا بأطول [الطويلتين (المص (] » .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن زيد بن ثَابت: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقْرَأ فِي الْمغرب بِسُورَة الْأَعْرَاف فِي الرَّكْعَتَيْنِ كلتيهما) ثمَّ (قَالَ) : هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم إِن لم يكن فِيهِ إرْسَال، وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ، إِنَّمَا اتفقَا عَلَى حَدِيث ابْن جريج، عَن (ابْن) أبي مليكَة، عَن عُرْوَة، عَن مَرْوَان، عَن زيد بن ثَابت: (كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِي صَلَاة الْمغرب (بطولى الطوليين)) قَالَ: وَحَدِيث محَاضِر هَذَا مُفَسّر (ملخص) وَقد اتفقَا عَلَى الِاحْتِجَاج بمحاضر، وَهَذَا آخر كَلَامه.
وَقَوله: (إِنَّمَا) اتفقَا عَلَى حَدِيث ابْن جريج ... إِلَى (آخِره) لَيْسَ كَمَا قَالَ من الِاتِّفَاق، وَإِنَّمَا هُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ كَمَا (كشفت) لَك أَولا.
وَرَوَاهُ ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» مُخْتَصرا بِلَفْظ: عَن زيد قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِي الْمغرب بأطول (الطوليين) (المص ( ... ) . ثمَّ رَوَاهُ بِلَفْظ البُخَارِيّ.(3/182)
وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق ثَان من حَدِيث عَائِشَة (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (قَرَأَ فِي) صَلَاة الْمغرب بِسُورَة الْأَعْرَاف، (فرقها) فِي الرَّكْعَتَيْنِ) .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن عَمْرو بن عُثْمَان، نَا بَقِيَّة (وَأَبُو حَيْوَة) ، عَن (ابْن) أبي حَمْزَة، نَا هِشَام (ابْن) عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَنْهَا.
(قلت) : إِسْنَاد حسن، وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» وَقَالَ: هُوَ حَدِيث مُخْتَلف فِيهِ.
(قلت) وَله طَرِيق ثَالِث من حَدِيث أبي أَيُّوب قَالَ: (كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رُبمَا قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأولتين من الْمغرب بالأعراف ... » ذكرهَا كَذَلِك ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» .
وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد عَلَى الشَّك؛ فَقَالَ: نَا يَحْيَى بن سعيد، عَن هِشَام، أَن أَبَا أَيُّوب - أَو زيد بن ثَابت - قَالَ لمروان: « (ألم) أرك قصرت سَجْدَتي الْمغرب! رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِيهَا بالأعراف» .
(وَأخرج التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» هَذَا الحَدِيث بِغَيْر إِسْنَاد، فَقَالَ: رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (أَنه قَرَأَ فِي الْمغرب بالأعراف فِي الرَّكْعَتَيْنِ كلتيهما)) .(3/183)
وَفِي «علل التِّرْمِذِيّ» : سَأَلت مُحَمَّدًا عَن حَدِيث مُحَمَّد بن (عبد الرَّحْمَن) الطفَاوِي، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن أبي أَيُّوب، وَزيد بن ثَابت قَالَا: (كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ (الْأَوليين) من الْمغرب بالأعراف) (فَقَالَ) : الصَّحِيح عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن أبي أَيُّوب أَو زيد، (هِشَام) (يشك) فِي هَذَا الحَدِيث، (قَالَ) : وَصحح هَذَا الحَدِيث عَن زيد بن ثَابت، رَوَاهُ ابْن أبي مليكَة، عَن عُرْوَة، عَن مَرْوَان، عَن زيد.
(وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن الرّبيع (الجيزي) نَا أَبُو زرْعَة، نَا حَيْوَة، نَا أَبُو الْأسود أَنه سمع عُرْوَة بن الزبير يَقُول: أَخْبرنِي زيد بن ثَابت (أَنه قَالَ لمروان بن الحكم (يَا أَبَا عبد الْملك) : مَا يحملك أَن تقْرَأ فِي صَلَاة الْمغرب ب (قل هُوَ الله أحد (سُورَة أُخْرَى صَغِيرَة! قَالَ زيد: فو الله لقد سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِي صَلَاة الْمغرب بأطول (الطوليين) وَهِي (المص.
قَالَ أَبُو الْحسن بن الْقطَّان: فَفِي هَذَا أَن عُرْوَة سَمعه من زيد بن ثَابت وَوَقع فِي «سنَن أبي دَاوُد» بَينهمَا مَرْوَان أَي، وَكَذَا فِي البُخَارِيّ(3/184)
وَغَيره كَمَا سلف، وَمَا مثله يَصح؛ لِأَنَّهُ قد علل حَدِيث بسرة بذلك مَعَ أَنه قد زَاد فِيهِ كَمَا زَاد هُنَا فَيكون سَمعه مِنْهُ بعد أَن حَدثهُ مَرْوَان عَنهُ أَو حَدثهُ بِهِ زيدا، وَلَا سَمعه أَيْضا من مَرْوَان، فَصَارَ يحدث بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ) ، وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» سَمِعت أبي، ونا (عَن) هِشَام بن عمار، عَن الدَّرَاورْدِي، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة: (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَرَأَ فِي [رَكْعَتي] الْمغرب «المص) (قَالَ: هَذَا خطأ، إِنَّمَا هُوَ عَن أَبِيه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسل، وَتعقبه صَاحب الإِمَام فَقَالَ: فِيمَا قَالَه ابْن أبي حَاتِم نظر؛ فقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ مَوْصُولا من غير جِهَة هِشَام، والدراوردي رَوَاهُ من حَدِيث ابْن وهب، عَن عَمْرو بن الْحَارِث، عَن أبي الْأسود أَنه سمع عُرْوَة بن الزبير يحدث عَن زيد بن ثَابت أَنه قَالَ لمروان: « [يَا أَبَا عبد الْملك] أَتَقْرَأُ فِي الْمغرب ب (قل هُوَ الله أحد (و (إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر (؟ قَالَ: نعم، قَالَ: (فمحلوفة) لقد رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِيهَا بأطول (الطوليين) «المص) (قلت: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قِرَاءَة النَّبِي(3/185)
«فِيهَا) بِالطورِ، وقراءته فِيهَا بالمرسلات.
فَائِدَة: الطُّولَى وزن (فعلَى) تَأْنِيث أطول، و (الطولين) تَثْنِيَة: الطُّولَى، وطولى (الطوليين) (بِكَسْر الطَّاء) يُرِيد أطول السورتين.
قَالَ الْخطابِيّ: وَبَعض الْمُحدثين يَقُول (بطول الطوليين) - بِكَسْر الطَّاء وَفتح الْوَاو - وَهُوَ خطأ فَاحش إِنَّمَا: (الطول الْحَبل) وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه. وَكَذَا قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: أَصْحَاب الحَدِيث يَرْوُونَهُ بطول، وَهُوَ غلط؛ إِنَّمَا هُوَ بطولى عَلَى وزن فعلَى، وَهُوَ تَأْنِيث أطول، وَالْمعْنَى بأطول السورتين، قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا من طَرِيق آخر عَن زيد مُفَسرًا: «رَأَيْته (يقْرَأ بأطول (الطوليين) » .
وَوَقع فِي «كِفَايَة» الْفَقِيه ابْن الرّفْعَة: (طولى الطويلتين) فِي (الْمَوْضِعَيْنِ) (وَهُوَ تَحْرِيف غَرِيب) فاحذره.
وَكَيف يتَصَوَّر أَن (يكون) فِي السورتين الطويلتين سور طوال (وَقَول ابْن مليكَة طولى الطوليين: الْأَعْرَاف والمائدة، هُوَ إِحْدَى الرِّوَايَات عَنهُ وَفِي الْبَيْهَقِيّ: (أَنه قيل: لَهُ مَا طولى الطوليين؟ قَالَ:(3/186)
الْأَنْعَام والأعراف)) . وَرَأَيْت من ادَّعى أَنه لمشهور، وَفِي أَطْرَاف ابْن عَسَاكِر: قيل لعروة مَا طولى (الطوليين) ؟ قَالَ: الْأَعْرَاف وَيُونُس.
فَإِن قلت: لَعَلَّه أَرَادَ الْبَقَرَة؛ لِأَنَّهَا أطول السَّبع (الطوَال) وَأجِيب عَنهُ: بِأَنَّهُ لَو أَرَادَ ذَلِك لقَالَ: بطولى الطول. فَلَمَّا لم يقلها دلّ عَلَى أَنه أَرَادَ الْأَعْرَاف، وَهِي من أطول السُّور، يعضده وُرُودهَا مُعينَة من طرق.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (الشَّفق: الْحمرَة؛ فَإِذا غَابَ الشَّفق وَجَبت الصَّلَاة) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» غير موصل الْإِسْنَاد إِلَى أَحْمد بن عَمْرو بن جَابر، فَقَالَ: قَرَأت فِي أصل [كتاب] أَحْمد بن عَمْرو بن جَابر، ثَنَا عَلّي بن عبد الصَّمد الطَّيَالِسِيّ، ثَنَا هَارُون بن سُفْيَان، ثَنَا (عَتيق) بن يَعْقُوب، نَا مَالك بن أنس، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء.
ثمَّ رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن مخلد، (ثَنَا) الحساني، ثَنَا وَكِيع، نَا(3/187)
الْعمريّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «الشَّفق (الْأَحْمَر: الْحمرَة) » .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب «الغرائب» (هَكَذَا) عَلَى مَا نَقله صَاحب الإِمَام (عَنهُ وَأَنه قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَرُوَاته كلهم ثِقَات. قَالَ صَاحب الْأَمَام) : وَقد رَوَيْنَاهُ من طَرِيق الْحَافِظ أبي (الْقَاسِم) بن عَسَاكِر مُتَّصِل الْإِسْنَاد، فَرَوَاهُ عَن زَاهِر بن طَاهِر، عَن الْبَيْهَقِيّ، أَنا الْحَاكِم، أَنا أَبُو بكر بن إِسْحَاق الْفَقِيه، أَنا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، ثَنَا عَلّي بن عبد الصَّمد ... . فَذكره، وَصحح الْبَيْهَقِيّ وَقفه فَقَالَ: الصَّحِيح أَنه مَوْقُوف.
قَالَ ابْن عَسَاكِر: رَوَاهُ مَوْقُوفا عَلَى ابْن عمر، عبيد الله (بن عمر) بن حَفْص الْعمريّ، وَعبد الله بن نَافِع (مولَى) ابْن عمر، (جَمِيعًا، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر) ، ثمَّ رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر من حَدِيث عَلّي بن جندل، نَا الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل، نَا أَبُو حذافة، ثَنَا مَالك بن أنس، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الشَّفق: الْحمرَة» .(3/188)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم: تفرد بِهِ عَلّي بن جندل الْوراق، عَن أبي عبد الله الْمحَامِلِي، عَن أبي حذافة أَحْمد بن إِسْمَاعِيل السَّهْمِي قَالَ: وَقد رَوَاهُ عَتيق بن يَعْقُوب، عَن مَالك وَزَاد فِيهِ زِيَادَة: وَكِلَاهُمَا غَرِيب، وَحَدِيث عَتيق (أمثل) إِسْنَادًا.
قلت: وَذكر (الْحَافِظ) الْخلال بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: (الشَّفق: الْحمرَة) وَسَأَلَ أَحْمد عَنهُ فضعفه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وروينا عَن عمر وَعلي و [أَبُو هُرَيْرَة أَنهم] قَالُوا: «الشَّفق (الْحمرَة) » وَمَا (أسلفناه) عَن الْبَيْهَقِيّ من تَصْحِيح وَقفه عَلَى ابْن عمر سبقه شَيْخه الْحَاكِم إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «مدخله» و (الطَّبَقَة) الرَّابِعَة: (قوم) من الْمَجْرُوحين: عَمدُوا إِلَى أَحَادِيث صَحِيحَة عَن الصَّحَابَة رفعوها إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، كَأبي حذافة أَحْمد بن إِسْمَاعِيل السَّهْمِي، رَوَى عَن مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (الشَّفق: الْحمرَة) قَالَ: (وَهُوَ) فِي «الْمُوَطَّأ» عَن نَافِع، عَن ابْن عمر.
قَوْله: وَاعْلَم أَنه (جَاءَت) زِيَادَة فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ السالف، لَوْلَا غرابتها لأغنت عَن جَمِيع هَذِه الرِّوَايَات مرفوعها وموقوفها، ولكانت نصًّا صَرِيحًا فِي أَن الشَّفق: الْحمرَة، رَوَاهَا(3/189)
ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» عَن عمار بن خَالِد الوَاسِطِيّ، عَن مُحَمَّد بن يزِيد - هُوَ الوَاسِطِيّ - عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن أبي أَيُّوب عَن عبد الله بن (عَمْرو) قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «وَقت الظّهْر إِلَى الْعَصْر، وَوقت الْعَصْر إِلَى اصفرار الشَّمْس، وَوقت (صَلَاة) الْمغرب إِلَى أَن تذْهب حمرَة الشَّفق، وَوقت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل، وَوقت صَلَاة الصُّبْح إِلَى طُلُوع الشَّمْس» قَالَ ابْن خُزَيْمَة: لَو صحت هَذِه اللَّفْظَة [فِي هَذَا الْخَبَر، لَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَر بَيَان أَن الشَّفق الْحمرَة، إِلَّا أَن هَذِه اللَّفْظَة] تفرد بهَا مُحَمَّد بن يزِيد إِن كَانَت حفظت عَنهُ، وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَاب شُعْبَة فِيهِ: (فَور) الشَّفق (مَكَان) مَا قَالَ مُحَمَّد بن يزِيد: حمرَة الشَّفق.
قلت: وَلم يقف الْمُنْذِرِيّ وَلَا النَّوَوِيّ فِي كَلَامهمَا عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب عَلَى من أخرج هَذِه اللَّفْظَة فِي هَذَا الحَدِيث؛ فاستفدها أَنْت (وَالله أعلم) .
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَوْلَا أَن أشق عَلَى أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة، ولأخرت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل) .(3/190)
هَذَا الحَدِيث سلف الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي أثْنَاء بَاب الْوضُوء، مَعَ بَيَان مَا وَقع لِابْنِ الصّلاح، ثمَّ النَّوَوِيّ فِيهِ؛ فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث السَّادِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وَقت) الْعشَاء مَا بَيْنك وَبَين نصف اللَّيْل) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِأَلْفَاظ:
أَحدهَا: «وَوقت) الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل) .
(و) ثَانِيهَا: (وَوقت [صَلَاة] الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل الْأَوْسَط) .
ثالثهما: (فَإِذا صليتم الْعشَاء فَإِنَّهُ وَقت إِلَى نصف اللَّيْل) .
وَهُوَ طرف من الحَدِيث السَّابِع وَمن الثَّانِي عشر.
الحَدِيث السَّابِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى؛ فَإِذا خشِي (أحدكُم) الصُّبْح فليوتر بِوَاحِدَة) .(3/191)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للَّذي سَأَلَهُ عَن صَلَاة اللَّيْل؟ صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى؛ فَإِذا خشيت ... » وَفِي لفظ «فَإِذا خفت الصُّبْح فأوتر بِوَاحِدَة» وَفِي رِوَايَة لَهما: «فَإِذا
خشِي أحدكُم الصُّبْح صَلَّى رَكْعَة وَاحِدَة (توتر) لَهُ مَا قد صَلَّى» وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «فَإِذا) أردْت أَن تَنْصَرِف فاركع رَكْعَة توتر لَك (مَا صليت) » وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ عَلَى الْمِنْبَر يخْطب ... » وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «صَلَاة (اللَّيْل والنَّهَار) مثنى مثنى» وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى هَذِه الرِّوَايَة وَاضحا فِي بَاب صَلَاة التَّطَوُّع - إِن شَاءَ الله ذَلِك وَقدره.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَيْسَ فِي النّوم تَفْرِيط، إِنَّمَا التَّفْرِيط فِي الْيَقَظَة أَن تُؤخر صَلَاة حَتَّى يدْخل وَقت أُخْرَى) .(3/192)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِإِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «لَا تَفْرِيط فِي النّوم، إِنَّمَا التَّفْرِيط فِي الْيَقَظَة؛ فَإِذا سهى أحدكُم عَن (صَلَاة) فليصلها حِين ذكرهَا وَمن الْغَد للْوَقْت» .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (أَيْضا) بِلَفْظ: (لَيْسَ فِي النّوم تَفْرِيط، إِنَّمَا التَّفْرِيط فِي الْيَقَظَة، فَإِذا نسي أحدكُم صَلَاة (أَو نَام) عَنْهَا، فليصلها إِذا ذكرهَا ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: (لَا تَفْرِيط فِي النّوم، إِنَّمَا التَّفْرِيط فِي الْيَقَظَة؛ فَإِذا كَانَ ذَلِك فصلوها، وَمن الْغَد وَقتهَا) .
وَرَوَاهُ (مُسلم) أَيْضا فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ عَن البُخَارِيّ بِلَفْظ: (أما إِنَّه لَيْسَ فِي النّوم تَفْرِيط، وَإِنَّمَا التَّفْرِيط عَلَى من لم يصل الصَّلَاة حَتَّى يَجِيء وَقت الْأُخْرَى؛ فَمن فعل ذَلِك (فليصلها) حِين ينتبه لَهَا، فَإِذا كَانَ الْغَد فليصلها عِنْد وَقتهَا) .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه بِلَفْظ «لَيْسَ فِي النّوم تَفْرِيط، إِنَّمَا التَّفْرِيط فِي(3/193)
الْيَقَظَة؛ فَإِذا نسي أحدكُم صَلَاة أَو نَام عَنْهَا، فليصلها إِذا ذكرهَا ولوقتها من الْغَد» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: (لَيْسَ فِي النّوم تَفْرِيط، (وَإِنَّمَا) التَّفْرِيط عَلَى من لم يصل الصَّلَاة حَتَّى يَجِيء وَقت الْأُخْرَى؛ فَإِذا كَانَ ذَلِك فليصلها حِين يَسْتَيْقِظ، فَإِذا كَانَ من الْغَد فليصلها عِنْد وَقتهَا) .
فَائِدَة: الْيَقَظَة بِفَتْح الْقَاف.
فَائِدَة ثَانِيَة: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «فَإِذا) كَانَ الْغَد فليصلها عِنْد وَقتهَا) ظَاهره يشْعر بِإِعَادَة قَضَائهَا فِي الْوَقْت من يَوْم فَوَاتهَا وَاسْتَشْكَلَهُ النَّاس؛ فَمن قَائِل أَنه وهم من (عبد الله) بن رَبَاح رَاوِيه عَن (أبي) قَتَادَة، أَو من أحد الروَاة فِي إِسْنَاد حَدِيثه، وَعَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: لَا (يُتَابع) فِي هَذَا القَوْل، وَمن مُجيب عَنهُ بِأَن المُرَاد - وَالله أعلم - أَن وَقتهَا لم يتَحَوَّل إِلَى مَا بعد طُلُوع الشَّمْس بنومهم عَنْهَا، وقضائهم لَهَا بعد الطُّلُوع [فَإِذا كَانَ الْغَد] فليصلها عِنْد وَقتهَا - يَعْنِي: (صَلَاة الْغَدَاة) - وَهَذَا جَوَاب الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه «الْمعرفَة» وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان(3/194)
فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث الْحسن، عَن عمرَان «أَنهم (لما صلوا الْفجْر) قَالُوا: يَا رَسُول الله فرطنا [أَفلا نعيدها] لوَقْتهَا من الْغَد؟ قَالَ: (إِن الله) يَنْهَاكُم عَن الرِّبَا ويقبله مِنْكُم؟ ! إِنَّمَا التَّفْرِيط فِي الْيَقَظَة» .
قَالَ صَاحب (الإِمَام: وَرَوَاهُ) ابْن أبي شيبَة فِي «مُسْنده» والطَّحَاوِي وَالطَّبَرَانِيّ (قَالَ) وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات، وَلَا عِلّة فِيهِ إِلَّا الْكَلَام فِي سَماع الْحسن (من) عمرَان.
قلت: وَسَيَأْتِي وَاضحا فِي النّذر - إِن شَاءَ الله.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَا يغرنَّكم الْفجْر المستطيل؛ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يطلع الْفجْر المستطير) .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك الإِمَام فِي «تهذيبه» ، وَالْغَزالِيّ فِي و «سيطه» ، وَله طرق أَحدهَا: عَن سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (لَا يغرنَّكم من سحوركم أَذَان بِلَال، وَلَا بَيَاض الْفجْر المستطيل هَكَذَا، حَتَّى يستطير هَكَذَا) وَحَكَاهُ حَمَّاد بن زيد رَاوِيه بيدَيْهِ قَالَ: - يعْنى: مُعْتَرضًا - وَفِي لفظ: (وَلَا هَذَا الْبيَاض لعمود الصُّبْح ... )(3/195)
وَفِي آخر وَلَا هَذَا الْبيَاض حَتَّى يَبْدُو الْفجْر - أَو قَالَ: حَتَّى ينفجر الْفجْر ... ) وَفِي آخر: (لَا يغرنَّ أحدكُم نِدَاء بِلَال من السّحُور، وَلَا هَذَا الْبيَاض حَتَّى يستطير) . رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» (بِكُل هَذِه الْأَلْفَاظ، وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاده، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: (لايغرنَّكم من سحوركم أَذَان بِلَال، وَلَا الْفجْر المستطيل، وَلَكِن الْفجْر المستطير فِي الْأُفق) ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» كَذَلِك، لكنه قَالَ: «لَا يمنعكم» بدل «يغرنَّكم» وَفِي رِوَايَة: (لَا يغرنَّكم نداءُ فلَان؛ فَإِن فِي بَصَره شَيْئا وَلَا بَيَاض يرُى عَلَى السحر) .
ثَانِيهَا: عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يمنعن أحدا مِنْكُم نِدَاء بِلَال من سحوره؛ فَإِنَّهُ يُؤذن - أَو قَالَ: يُنَادي - ليرْجع قائمكم، ويوقظ نائمكم. وَقَالَ: لَيْسَ أَن يَقُول هَكَذَا وَهَكَذَا - وَصوب بِيَدِهِ ورفعها - حَتَّى يَقُول هَكَذَا - وَفرج بَين أَصَابِعه) وَفِي لفظ آخر: (إِن الْفجْر لَيْسَ الَّذِي يَقُول هَكَذَا - وَجمع أَصَابِعه ثمَّ نكسها إِلَى الأَرْض - وَلَكِن الذى يَقُول هَكَذَا - وَوضع المسبحة عَلَى المسبحة وَمد يَده) مُتَّفق عَلَيْهِ، زَاد البُخَارِيّ: (عَن يَمِينه وشماله) وَفِي لفظ: (وَمد يَحْيَى بن سعيد بالسبابتين) وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (وَلَيْسَ أَن يَقُول هَكَذَا،(3/196)
وَلَكِن يَقُول هَكَذَا - يعْنى: الْفجْر - هُوَ الْمُعْتَرض وَلَيْسَ بالمستطيل)
ثَالِثهَا: عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: الْفجْر فجران: فجر يحرم فِيهِ الصَّلَاة وَيحل فِيهِ الطَّعَام، وفجر يحرم فِيهِ الطَّعَام وَيحل فِيهِ الصَّلَاة) حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» فِي كتاب الصَّوْم ثمَّ قَالَ: لم يرفعهُ غير أبي أَحْمد الزبيري، عَن الثَّوْريّ، وَوَقفه الْفرْيَابِيّ وَغَيره عَن الثَّوْريّ، وَوَقفه أَصْحَاب ابْن جريج عَنهُ أَيْضا، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي هَذَا الْبَاب بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ فِي عَدَالَة الروَاة، وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وأظن أَنِّي قد رويته عَن عبد الله بن الْوَلِيد، عَن الثَّوْريّ مَوْقُوفا قَالَ: وَله شَاهد بِلَفْظِهِ وَإِسْنَاده صَحِيح ... فَذكر حَدِيث جَابر الْآتِي، وَرَوَاهُ فِي كتاب الصَّوْم من حَدِيث ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: (الْفجْر فجران: فَأَما الأول فَإِنَّهُ لَا يحرم فِيهِ الطَّعَام وَلَا يحل الصَّلَاة، وَأما الثَّانِي فَإِنَّهُ يحرم الطَّعَام وَيحل الصَّلَاة) ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَشَاهده حَدِيث سَمُرَة مَرْفُوعا «لَا يغرنَّكم أَذَان بِلَال، وَلَا هَذَا الْبيَاض لعمود الصُّبْح حَتَّى يستطير) وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم.
رَابِعهَا: عَن قيس بن طلق بن عَلّي، عَن أَبِيه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(3/197)
قَالَ: (كلوا وَاشْرَبُوا وَلَا يهيدنَّكم الساطع المصعد، وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يعْتَرض لكم الْأَحْمَر) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن غَرِيب.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: (وَلَا يغرنَّكم) بدل «وَلَا يهيدنَّكم» ثمَّ قَالَ: قيس بن طلق لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَرِوَايَة أَحْمد بِلَفْظ: (لَيْسَ الْفجْر المستطيل فِي الْأُفق، وَلكنه الْمُعْتَرض الْأَحْمَر) .
خَامِسهَا: عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (الْفجْر فجران: فَأَما الْفجْر الَّذِي يكون كذنب السرحان فَلَا يحل الصَّلَاة وَلَا يحرم الطَّعَام، وَأما الَّذِي يذهب مستطيلًا فِي الْأُفق؛ فَإِنَّهُ يحل الصَّلَاة وَيحرم الطَّعَام) . رَوَاهُ الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالا: إِسْنَاده صَحِيح، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: رُوِيَ مَوْصُولا ومرسلًا، والمرسل أصح.
سادسها: عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان أَنه بلغه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (الْفجْر فجران: فَأَما الَّذِي كَأَنَّهُ ذَنْب السرحان فَإِنَّهُ لَا يحل شَيْئا وَلَا يحرمه، وَأما المستطيل الَّذِي عَارض الْأُفق فَفِيهِ تحل الصَّلَاة وَيحرم الطَّعَام) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: هَذَا مُرْسل. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي(3/198)
«مراسيله» إِلَّا أَنه قَالَ: «المستطير» بالراء. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ مُسْندًا وموقوفًا وَقَالَ: الْمَوْقُوف أصح.
سابعها: عَن ربيعَة بن يزِيد قَالَ: سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن عائش - هُوَ الْحَضْرَمِيّ - صَاحب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: (الْفجْر فجران: فَأَما المستطيل فِي السَّمَاء فَلَا يمنعنَّ السّحُور وَلَا يحل فِيهِ الصَّلَاة؛ فَإِذا اعْترض) . فقد حرم الطَّعَام [فصل صَلَاة الْغَدَاة] ) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح.
(ثامنها) : عَن أنس مَرْفُوعا: (لَا يغرنَّكم أَذَان بِلَال؛ فَإِن فِي بَصَره شَيْئا) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِسَنَد جيد.
فَائِدَة: لما ترْجم التِّرْمِذِيّ (بَاب) مَا جَاءَ فِي بَيَان الْفجْر، ذكر الحَدِيث من حَدِيث طلق بن عَلّي وَسمرَة ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عدي بن حَاتِم وَأبي ذَر وَلم يزدْ عَلَى ذَلِك، وَقد سقناه لَك من طرق أُخْرَى غير مَا ذكر فاستفدها.(3/199)
الحَدِيث الْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (من أدْرك رَكْعَة من الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته كَمَا سلف فِي الحَدِيث الثَّامِن من أَحَادِيث الْبَاب.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى (يُنَادي) ابْن أم مَكْتُوم) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ بِزِيَادَة: «وَكَانَ ابْن مَكْتُوم (رجلا) أَعْمَى لَا يُنَادي حَتَّى يُقَال لَهُ: أَصبَحت أَصبَحت» ، خرجه فِي كتاب الصَّلَاة وَفِي الشَّهَادَات فِي بَاب شَهَادَة الْأَعْمَى.
وخرجه مُسلم فِي الصَّوْم بِلَفْظ: (إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل؛ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تسمعوا (تأذين) ابْن أم مَكْتُوم) وَفِي لفظ: «حَتَّى(3/200)
يُؤذن» بدل «حَتَّى تسمعوا تأذين» قَالَ: (وَلم يكن بَينهمَا إِلَّا أَن ينزل هَذَا ويرقى هَذَا) .
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه «الْفَصْل للوصل المدرج فِي النَّقْل» . قَوْله (وَكَانَ ... ) إِلَى آخِره مدرجة، جعلهَا بَعضهم من قَول ابْن شهَاب، (وَآخره) من قَول سَالم.
فَائِدَة: لهَذَا الحَدِيث طَرِيق ثانٍ مُتَّفق عَلَيْهِ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة رضى الله عَنْهَا (أَن بِلَالًا كَانَ يُؤذن بلَيْل، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: كلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤذن حَتَّى يطلع الْفجْر) قَالَ الْقَاسِم: «وَلم يكن بَين أذانيهما إِلَّا أَن ينزل (ذَا) ويرقى ذَا، وَهَذَا السِّيَاق للْبُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة لَهُ من طَرِيق الْحَمَوِيّ «أَن بِلَالًا (يُؤذن) بلَيْل» وَسِيَاق مُسلم كسياق الرِّوَايَة الثَّانِيَة الَّتِي أخرجناها عَنهُ من طَرِيق ابْن عمر.
فَائِدَة ثَانِيَة: لما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عمر قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن ابْن مَسْعُود، وَعَائِشَة، وأنيسة، وَأنس، وَأبي ذَر، وَسمرَة.
قلت: وَعقبَة بن أنيس كَمَا ذكره ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» وَحَدِيث(3/201)
أنيسَة بنت خبيب قد رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد، وَابْن حبَان عَلَى عكس حَدِيث عَائِشَة السالف، وَهُوَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: (إِن ابْن (أم) مَكْتُوم يُؤذن بلَيْل؛ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن بِلَال) .
وَرَوَى ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عَائِشَة مثلهَا قَالَت: (وَكَانَ بِلَال لَا يُؤذن حَتَّى يطلع الْفجْر) .
(وعنهما) جوابان: أَحدهمَا: مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ، عَن الْحَاكِم، عَن ابْن خُزَيْمَة أَنه قَالَ: إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة - يَعْنِي: رِوَايَة عَائِشَة - فَيجوز أَن يكون بَين (ابْن) أم مَكْتُوم وَبَين بِلَال نوب، وَكَانَ بِلَال إِذا كَانَت نوبَته أذن بلَيْل، وَكَانَ ابْن أم مَكْتُوم إِذا كَانَت نوبَته يُؤذن بلَيْل، وَهَذَا [جَائِز] صَحِيح، وَإِن لم يَصح؛ فقد صَحَّ خبر ابْن عمر، وَابْن مَسْعُود، وَسمرَة، وَعَائِشَة، أَن بِلَالًا كَانَ يُؤذن بلَيْل، وَلما رَوَى ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» حَدِيث أنيسَة جمع بَينهمَا بِهَذَا الْجمع.
الْجَواب الثَّانِي: قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» عقب حَدِيث أنيسَة: هَكَذَا رَوَوْهُ كَأَنَّهُ مقلوب؛ إِنَّمَا هُوَ « (إِن) بِلَالًا يُنَادي بلَيْل» .(3/202)
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: اخْتلف فِي حَدِيث أنيسَة عَلَى شُعْبَة، وَالْمَحْفُوظ وَالصَّوَاب - إِن شَاءَ الله - (رِوَايَة) : (إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل) . وَتَبعهُ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
عَن سعد الْقرظ قَالَ: (كَانَ الْأَذَان عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الشتَاء لسبُع بَقِي من اللَّيْل، وَفِي الصَّيف لنصف سُبع) .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ، وَلَا أعرفهُ عَلَى هَذَا الْوَجْه، نعم فِي «الْمعرفَة» للبيهقي نقلا، عَن الزَّعْفَرَانِي. قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: أبنا (بعض) أَصْحَابنَا، عَن الْأَعْرَج إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عمَارَة، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن سعد الْقرظ قَالَ: «أذنا فِي زمن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بقباء، وَفِي زمن عمر بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ أذاننا للصبح (لوقت) وَاحِد، وَفِي الشتَاء لسبع وَنصف يَبْقَى، وَفِي الصَّيف لسبع يَبْقَى مِنْهُ» .
وَكَذَا أوردهُ صَاحب التَّقْرِيب، قَالَ ابْن الصّلاح عقب إِيرَاد لفظ الْغَزالِيّ للْحَدِيث: هَذَا الحَدِيث غَرِيب (و) ضَعِيف، غير مَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث.(3/203)
وَقد رَوَاهُ الشَّافِعِي بِإِسْنَاد لَا يقوى فِي كِتَابه الْقَدِيم عَن سعد الْقرظ ... فَذكره كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: فَهَذَا الْوَاقِع فِي الْكتاب - يَعْنِي: الْوَسِيط - وَغَيره فِيهِ تَغْيِير، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى علاته «سبع وَنصف سبع» وَكَذَلِكَ ذكره صَاحب التَّقْرِيب، وَذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ من غير تعرض لما نبهنا عَلَيْهِ، وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «تنقيحه عَلَى الْوَسِيط» : هَذَا حَدِيث ضَعِيف مُنكر، وَقد رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم (بِإِسْنَاد) ضَعِيف عَن سعد الْقرظ. (فَذكره) كَمَا قَدمته. وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث بَاطِل غير مَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث.
(وَقد) رَوَاهُ الشَّافِعِي بِإِسْنَاد ضَعِيف ... فَذكره (وَقَالَ فِي الرَّوْضَة: حَدِيث بَاطِل محرف) وَهَذَا الْمَنْقُول مَعَ ضعفه مُخَالف لما اسْتدلَّ بِهِ (فَإِنَّهُ اسْتدلَّ بِهِ) عَلَى أَنه فِي الشتَاء يُؤذن لسُبع تبقى، وَفِي الصَّيف لنصف سبُع (وَهَذَا هُوَ التحريف) ، والْحَدِيث لَا يطابقه فَظهر ضعف دَلِيل هَذَا الْوَجْه، وَإِن رَجحه الرَّافِعِيّ فِي كتبه.
فَائِدَة: سعد الْقرظ، مُضَاف إِلَى الْقرظ - بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء وَهُوَ الَّذِي يدبغ بِهِ، وَهُوَ ورق السّلم - كَمَا قَالَه الْجَوْهَرِي: لقب بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إِذا اتّجر فِي شَيْء خسر فِيهِ؛ فاتجر فِي (الْقرظ) فربح فِيهِ بِأَمْر(3/204)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَمَا رَوَاهُ ابْن قَانِع فَلَزِمَ التِّجَارَة فِيهِ فأضيف إِلَيْهِ، وَيَقَع فِي بعض نسخ الْكتاب وَكثير من نسخ «الْوَسِيط» : الْقرظِيّ بِضَم الْقَاف (وبالراء) وبالياء (آخِره) وَهُوَ تَصْحِيف، قَالَ ابْن الصّلاح: كثير من الْفُقَهَاء صحفوه كَذَلِك اعتقادًا لكَونه (مَنْسُوبا) إِلَى بني قُرَيْظَة، وَهُوَ غلط.
فَائِدَة ثَانِيَة: سعد هَذَا جعله (النَّبِي) (مُؤذنًا بقباء، فَلَمَّا ولي الصّديق وَترك بِلَال الْأَذَان نَقله إِلَى مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ليؤذن فِيهِ، وَقيل: إِنَّمَا نَقله الْفَارُوق فَلم يزل يُؤذن فِيهِ حَتَّى مَاتَ فِي أَيَّام الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ، وتوارث بنوه الْأَذَان.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
(أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لمسجده مؤذنان، يُؤذن أَحدهمَا قبل الْفجْر وَالْآخر بعده) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: (كَانَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مؤذنان: بِلَال وَابْن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل؛ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم (قَالَ) : وَلم يكن بَينهمَا إِلَّا أَن ينزل هَذَا، ويرقى هَذَا) .
وَعَن عَائِشَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثله، وَقد أسلفت (لَك) رِوَايَة(3/205)
البُخَارِيّ لهذين الْحَدِيثين وسياقه وَلَفظه.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغيب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَإِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فليتم صلَاته) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، كَمَا (أسلفناه) فِي الْكَلَام عَلَى الحَدِيث الثَّامِن.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: (الصَّلَاة أول الْوَقْت رضوَان الله، وَآخر الْوَقْت عَفْو الله) .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي «الْبُوَيْطِيّ» و «الْمُخْتَصر» ، هَكَذَا بِغَيْر إِسْنَاد؛ لَكِن بِصِيغَة جزم
وَذكره أَيْضا كَذَلِك ابْن السكن فِي «صحاحه» وَهُوَ مَرْوِيّ من طرق كلهَا ضَعِيفَة.
أَحدهَا: من طَرِيق ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (الْوَقْت الأول من الصَّلَاة رضوَان الله، وَالْوَقْت الآخر عَفْو الله) .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث يَعْقُوب بن الْوَلِيد(3/206)
الْمدنِي، عَن عبد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. وَيَعْقُوب هَذَا أحد الهلكى، قَالَ أَحْمد: (كَانَ) من الْكَذَّابين الْكِبَار يضع الحَدِيث، وَقَالَ يَحْيَى: لم يكن بِشَيْء كَذَّاب. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: غير ثِقَة وَلَا مَأْمُون، وَفِي رِوَايَة: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مُنكر الحَدِيث ضَعِيف الحَدِيث، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة (و) الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ (مَوْضُوع) . وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَيْسَ بِمَحْفُوظ، وَهُوَ بَين الْأَمر فِي الضُّعَفَاء. وَقَالَ ابْن حبَان: مَا رَوَى هَذَا الحَدِيث إِلَّا يَعْقُوب، وَهُوَ يضع الحَدِيث عَلَى الثِّقَات، لَا يحل كتب حَدِيثه إِلَّا عَلَى جِهَة التَّعَجُّب.
قلت: وَقد نَص غير وَاحِد من الْحفاظ عَلَى ضعف هَذَا الحَدِيث قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: الْحمل فِي هَذَا الحَدِيث عَلَى يَعْقُوب بن الْوَلِيد؛ فَإِنَّهُ شيخ من أهل الْمَدِينَة قدم عَلَيْهِم بَغْدَاد، فَنزل الرصافة، وَحدث عَن هِشَام بن عُرْوَة ومُوسَى بن عقبَة وَمَالك بن أنس وَغَيرهم من أَئِمَّة الْمُسلمين بِأَحَادِيث (كَثِيرَة) مَنَاكِير.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث يعرف بِيَعْقُوب بن الْوَلِيد الْمدنِي، وَيَعْقُوب مُنكر الحَدِيث، ضعفه يَحْيَى بن معِين، وَكذبه أَحْمد بن حَنْبَل (وَسَائِر الْحفاظ) ، ونسبوه إِلَى الْوَضع، ونعوذ بِاللَّه من الخذلان.(3/207)
قَالَ ابْن عدي: وَكَانَ ابْن حميد يَقُول لنا فِي هَذَا الْإِسْنَاد «عبيد الله» بدل «عبد الله» ، وَالصَّوَاب الثَّانِي، قَالَ: عَلَى أَن هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد بَاطِل إِن قيل فِيهِ عبد الله (أَو) عبيد الله.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح. وَأعله عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِأَن قَالَ: يرويهِ عبد الله بن عمر الْعمريّ، وَقد تكلمُوا فِيهِ، وَتعقبه ابْن الْقطَّان فَقَالَ فِي بَاب ذكر أَحَادِيث أعلها عبد الْحق بِرِجَال: وفيهَا من هُوَ مثلهم، أَو أَضْعَف مِنْهُم، أَو مَجْهُول لَا يعرف، (إِنَّمَا) الْعجب أَن يكون هَذَا هُوَ عبد الله بن عمر الْعمريّ، وَهُوَ رجل صَالح قد وَثَّقَهُ قوم وأثنوا عَلَيْهِ، وَضَعفه آخَرُونَ من أجل (حفظه) لَا من أجل صدقه وأمانته، وَيَرْوِيه عَنهُ يَعْقُوب بن الْوَلِيد الْمدنِي وَهُوَ كَذَّاب، فَلَعَلَّهُ كذب عَلَيْهِ، ثمَّ شرع بعد ذَلِك فعلله بِهِ - أَعنِي: يَعْقُوب - كَمَا أسلفناه.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن جرير بن عبد الله مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ سَوَاء.
رَوَاهُ الدارقطني من حَدِيث الْحُسَيْن بن حميد بن الرّبيع، عَن [فرج] بن عبيد المهلبي، عَن عبيد بن الْقَاسِم، عَن إِسْمَاعِيل(3/208)
بن أبي خَالِد، (عَن) قيس بن أبي حَازِم، عَن جرير بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : إِسْنَاده لَيْسَ بِشَيْء.
قلت: لِأَن إِسْنَاده اشْتَمَل عَلَى مَجْهُول وَضَعِيف، أما الْمَجْهُول: فَفرج بن عبيد، وَأما الضَّعِيف فحسين بن حميد بن الرّبيع، قَالَ ابْن عدي: هُوَ مُتَّهم فِي كل مَا يرويهِ كَمَا قَالَه (مطين) وَقَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد بن سعيد قَالَ: سَمِعت (مطينًا) يَقُول وَمر عَلَيْهِ أَبُو عَلّي الْحُسَيْن بن حميد بن الرّبيع فَقَالَ: (هَذَا) كَذَّاب بن كَذَّاب بن كَذَّاب. وَذكره ابْن عدي أَيْضا واتهمه.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن إِبْرَاهِيم - يَعْنِي ابْن عبد الْملك بن أبي مَحْذُورَة من أهل مَكَّة - قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن جدي قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (أول الْوَقْت رضوَان الله، ووسط الْوَقْت رَحْمَة الله، وَآخر الْوَقْت عَفْو الله) .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا، عَن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور (بِهِ) .
وَإِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا هُوَ (أَبُو) إِسْحَاق الْعجلِيّ الْبَصْرِيّ الضَّرِير(3/209)
الْمعلم العبدسي الوَاسِطِيّ، مُتَّهم.
قَالَ أَبُو حَاتِم: مَجْهُول، وَحَدِيثه مُنكر. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: كَأَن حَدِيثه مَوْضُوع لَا يشبه حَدِيث النَّاس. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: يَأْتِي عَن مَالك بِأَحَادِيث مَوْضُوعَة. وَقَالَ ابْن عدي: حدث عَن الثِّقَات بِالْبَوَاطِيل، (وَهُوَ) فِي جملَة الضُّعَفَاء (لَا جرم) (قَالَ) الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا الحَدِيث شَاذ لَا تقوم بِمثلِهِ الْحجَّة، وَقَالَ فِي «سنَنه» - بعد أَن نقل كَلَام ابْن عدي السالف -: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ضَعِيف.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن أنس رَفعه: (أول الْوَقْت رضوَان الله، وَآخر الْوَقْت عَفْو الله) .
رَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث بَقِيَّة، عَن عبد الله مولَى عُثْمَان بن عَفَّان قَالَ: حَدثنِي عبد الْعَزِيز (قَالَ) : حَدثنِي مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أنس بِهِ، ثمَّ قَالَ: لَا يرويهِ بِهَذَا الْإِسْنَاد إِلَّا بَقِيَّة، وَهُوَ من الْأَحَادِيث الَّتِي يَرْوِيهَا بَقِيَّة عَن المجهولين؛ لِأَن عبد الله مولَى عُثْمَان وَعبد الْعَزِيز لَا يعرفان.
قلت: لَا جرم قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» و «خلافياته» : إِنَّه حَدِيث لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : لَا يَصح.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: (أول الْوَقْت رضوَان الله،(3/210)
وَآخره عَفْو الله) .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من حَدِيث نَافِع مولَى يُوسُف السّلمِيّ الْبَصْرِيّ، عَن عَطاء، عَنهُ بِهِ، ثمَّ قَالَ: نَافِع هَذَا أَبُو هُرْمُز، ضعفه يَحْيَى بن معِين وَابْن حَنْبَل وَغَيرهمَا.
قلت: أَبُو هُرْمُز هَذَا يروي عَن أنس، وَالْوَاقِع فِي الْإِسْنَاد يروي عَن عَطاء، وَقد فرق ابْن الْجَوْزِيّ بَينهمَا؛ فجعلهما ترجمتين، وَنقل (تَضْعِيف) أَحْمد (وَيَحْيَى) لنافع أبي هُرْمُز الْبَصْرِيّ، وَنقل تَضْعِيفه عَن غَيرهمَا أَيْضا، ثمَّ ذكر نَافِعًا مولَى يُوسُف السّلمِيّ وَقَالَ: قَالَ أَبُو حَاتِم: مَتْرُوك الحَدِيث. وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فِي التَّفْرِقَة بَينهمَا فِي كِتَابه «الْمُغنِي» وأجمل الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» القَوْل فِي تَضْعِيفه فَقَالَ: رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا مَرْفُوعا وَلَيْسَ بِشَيْء، قَالَ فِيهَا: (وَرُوِيَ) أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا وَهُوَ مَعْلُول. (قَالَ) : وَله أصل من قَول أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلّي الباقر كَذَلِك رَوَاهُ أَبُو أويس، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه قَالَ: (أول الْوَقْت رضوَان الله، وَآخر الْوَقْت عَفْو الله) قَالَ: وَرُوِيَ عَن مُوسَى بن جَعْفَر، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عَلّي مَرْفُوعا قَالَ: وَإِسْنَاده - فِيمَا أَظن - أصح مَا رُوِيَ فِي الْبَاب، وَنقل فِي «خلافياته» عَن الْحَاكِم أَنه قَالَ: أما الَّذِي رُوِيَ فِي أول الْوَقْت وَآخره؛(3/211)
فَإِنِّي لَا (أحفظه) عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من وَجه يَصح، وَلَا عَن أحد من (أَصْحَابه) ، إِنَّمَا الرِّوَايَة فِيهِ عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلّي الباقر، وَنقل الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» عَن الْخلال، أَنا الْمَيْمُونِيّ قَالَ: سَمِعت أَبَا عبد الله - يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: لَا أعرف شَيْئا يثبت فِي أَوْقَات الصَّلَاة أَولهَا كَذَا، وأوسطها كَذَا، وَآخِرهَا كَذَا يَعْنِي مغْفرَة ورضوانًا - وَقَالَ لَهُ رجل: مَا (يرْوَى) أول الْوَقْت كَذَا (و) أوسطه كَذَا، (رضوَان) ومغفرة؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو عبد الله: من يروي هَذَا؟ لَيْسَ هَذَا يثبت.
قلت: ويغني عَن هَذَا كُله فِي الدّلَالَة حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود السالف فِي أول التَّيَمُّم «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (سُئِلَ) أَي الْأَعْمَال أفضل؟ فَقَالَ: الصَّلَاة لأوّل وَقتهَا» وَهُوَ حَدِيث صَحِيح كَمَا أسلفناه (ثمَّ) . وَقد ذكره الرَّافِعِيّ إِثْر هَذَا الحَدِيث، وَكَانَ يتَعَيَّن عَلَيْهِ تَقْدِيمه عَلَيْهِ.
فَائِدَة: الرضْوَان بِكَسْر الرَّاء وَضمّهَا لُغَتَانِ، قرئَ بهما فِي السَّبع. قَالَ الشَّافِعِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْمُخْتَصر» : رضوَان الله إِنَّمَا يكون للمحسنين، وَالْعَفو يشبه أَن يكون للمقصرين.
قَالَ أَصْحَابنَا: قَوْله «للمقصرين» قد (يسْتَشْكل) من حَيْثُ أَن التَّأْخِير لَا إِثْم فِيهِ، فَكيف يكون فَاعله (مقصرًا) ، وَأَجَابُوا بِوَجْهَيْنِ:(3/212)
أَحدهمَا: (أَنه مقصر بِالنِّسْبَةِ) إِلَى من صَلَّى أول الْوَقْت (وَإِن) كَانَ لَا إِثْم عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنه مقصر بتفويت الأَصْل كَمَا يُقَال: من ترك صَلَاة الضُّحَى؛ فَهُوَ مقصر. وَإِن لم يَأْثَم.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (أفضل الْأَعْمَال الصَّلَاة لأوّل وَقتهَا) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا تقدم (الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي أول التَّيَمُّم) وَكَانَ يَنْبَغِي للْإِمَام الرَّافِعِيّ أَن يقدمهُ عَلَى الحَدِيث قبله، كَمَا نبهنا عَلَيْهِ، و (أَن) يرويهِ بِصِيغَة الْجَزْم، وينكر عَلَى النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَيفَ أدخلهُ فِي كِتَابه «الْخُلَاصَة» فِي فصل الضَّعِيف، وَلَعَلَّه أَرَادَ حَدِيث أم فَرْوَة كَمَا أسلفناه فِي التَّيَمُّم.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (إِذا اشْتَدَّ الْحر فأبردوا بِالصَّلَاةِ؛ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم) .
هَذَا الحَدِيث (صَحِيح) لَهُ طرق: إِحْدَاهَا: من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة(3/213)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول (قَالَ: (إِذا اشْتَدَّ الْحر فأبردوا بِالصَّلَاةِ؛ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم، واشتكت النَّار إِلَى رَبهَا فَقَالَت: أكل بَعْضِي بَعْضًا! فَأذن (لَهَا) بنفسين: نَفْس فِي الشتَاء وَنَفس فِي الصَّيف، فَهُوَ (أَشد مَا تجدونه من الْحر) ، وَأَشد مَا تجدونه من الزَّمْهَرِير) مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَة فِي الصَّحِيح أَيْضا: (إِذا كَانَ الْيَوْم الْحَار فأبردوا بِالصَّلَاةِ) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «أبردوا) عَن الحَر فِي الصَّلَاة ... ) . الحَدِيث
ثَانِيهَا: من رِوَايَة أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر، فَأَرَادَ الْمُؤَذّن أَن يُؤذن (لِلظهْرِ) فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أبرد. ثمَّ أَرَادَ أَن يُؤذن، فَقَالَ (لَهُ) : أبرد حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: إِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم؛ فَإِذا اشْتَدَّ الْحر فأبردوا بِالصَّلَاةِ» . مُتَّفق عَلَيْهِ أَيْضا.
وَفِي لفظ: «أبرد أبرد» أَو قَالَ: «انْتظر انْتظر» وَفِي لفظ(3/214)
للْبُخَارِيّ: ( ... ثمَّ أَرَادَ أَن يُؤذن فَقَالَ لَهُ: أبرد. وَقَالَ: حَتَّى (سَاوَى) الظل التلول - وَقَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: يتفيأ: (يتميل) » .
وَفِي رِوَايَة (لأبي) عوَانَة فِي «صَحِيحه» : بعد قَوْله: «رَأينَا فَيْء التلول، ثمَّ أمره فَأذن وَأقَام فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: إِن شدَّة الْحر ... » الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «مَه يَا بِلَال» بدل «أبرد» .
ثالثهما: من رِوَايَة ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: (إِذا اشْتَدَّ الْحر فأبردوا عَن الصَّلَاة؛ فَإِن شدَّة الحرَّ من فيح جَهَنَّم) .
رَوَاهُ البُخَارِيّ (مُنْفَردا بِهِ) من حَدِيث صَالح بن كيسَان، ثَنَا الْأَعْرَج وَغَيره، عَن أبي هُرَيْرَة. وَنَافِع مولَى عبد الله، عَن ابْن عمر، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: (إِذا اشْتَدَّ الْحر ... ) الحَدِيث، (و) رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عمر بِلَفْظ: (أبردوا بِالظّهْرِ) .
رَابِعهَا: من رِوَايَة وَالِده الْفَارُوق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(3/215)
(يَقُول) : «أبردوا بِالصَّلَاةِ) إِذا اشْتَدَّ الْحر ... ) الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا نعلم (يرْوَى) عَن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. قَالَ: وَهُوَ من رِوَايَة مُحَمَّد بن الْحسن المَخْزُومِي، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث، وَقد احْتمل النَّاس حَدِيثه. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : رُوِيَ عَن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[فِي هَذَا] وَلَا يَصح.
خَامِسهَا: من رِوَايَة الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (كُنَّا نصلي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (صَلَاة الظّهْر) بالهاجرة، فَقَالَ لنا: أبردوا بِالصَّلَاةِ؛ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم) .
رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد، وَابْن مَاجَه، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَقَالَ: تفرد بِهِ إِسْحَاق الْأَزْرَق، وَذكر الْخلال عَن الْمَيْمُونِيّ (أَنهم ذاكروا) أَبَا عبد الله - يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل - حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة فَقَالَ: (أسانيده) جِيَاد، ثمَّ قَالَ: خباب يَقُول: «شَكَوْنَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم يشكنا ... » والمغيرة كَمَا ترَى رَوَى الْقصَّتَيْنِ جَمِيعًا، قَالَ: وَفِي غير رِوَايَة الْمَيْمُونِيّ «كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله(3/216)
(الْإِبْرَاد» ، وَقَالَ (التِّرْمِذِيّ) : سَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ؟ فعده مَحْفُوظًا، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: رَوَاهُ أَبُو عوَانَة، عَن طَارق، عَن قيس قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب قَوْله: (أبردوا بِالصَّلَاةِ) قَالَ: إِنِّي أَخَاف أَن يكون هَذَا الحَدِيث يدْفع ذَلِك [الحَدِيث] . قلت: فَأَيّهمَا (أثبت) ؟ قَالَ: كَأَنَّهُ [هَذَا] يَعْنِي: حَدِيث عمر، قَالَ: وَلَو كَانَ عِنْد قيس، عَن الْمُغيرَة مَرْفُوعا لم (يحْتَج أَن) يفْتَقر إِلَى أَن (يحدث بِهِ) عَن عمر مَوْقُوفا. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: سَمِعت أبي [يَقُول] سَأَلت يَحْيَى بن معِين، فَقلت لَهُ: ثَنَا أَحْمد بن حَنْبَل (بِحَدِيث) إِسْحَاق الْأَزْرَق ... فَذكر حَدِيث الْمُغيرَة، وذكرته لِلْحسنِ بن شَاذان فحدثنا بِهِ، وثنا أَيْضا عَن إِسْحَاق، عَن شريك عَن عمَارَة بن الْقَعْقَاع، عَن أبي زرْعَة، عَن أبي هُرَيْرَة مثله مَرْفُوعا، فَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ لَهُ أصل أَنا نظرت فِي كتاب إِسْحَاق (وَلم) أر فِيهِ هَذَا، قلت لأبي: فَمَا قَوْلك فِي حَدِيث عمَارَة(3/217)
[بن الْقَعْقَاع، عَن أبي زرْعَة، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] الَّذِي أنكرهُ يَحْيَى؟ فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي صَحِيح (فحدثنا) أَحْمد بن حَنْبَل بِالْحَدِيثين جَمِيعًا عَن [إِسْحَاق] الْأَزْرَق، قلت [لأبي] : فَمَا بَال يَحْيَى نظر فِي كتاب إِسْحَاق فَلم يجده! فَقَالَ: كَيفَ نظر فِي كتبه كلهَا؛ إِنَّمَا نظر فِي بعض، (وَرُبمَا) كَانَ فِي مَوضِع آخر! .
سادسها: من رِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يرفعهُ: (أبردوا (بِالظّهْرِ) فَإِن الَّذِي (تَجِدُونَ) [من الْحر] من فيح جَهَنَّم) .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
سابعها: (من حَدِيث) عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (رفعته) : (أبردوا بِالظّهْرِ فِي الْحر) .
رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» .
ثامنها: من رِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: (أبردوا بِالظّهْرِ - وَفِي لفظ: بِالصَّلَاةِ - فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم) .(3/218)
رَوَاهُ البُخَارِيّ مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث عمر بن حَفْص، ثَنَا أبي، ثَنَا الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح عَنهُ بِهِ، ثمَّ قَالَ: تَابعه سُفْيَان وَيَحْيَى وَأَبُو عوَانَة، عَن الْأَعْمَش.
قلت: أما حَدِيث سُفْيَان فَأخْرجهُ البُخَارِيّ فِي صفة الصَّلَاة، وَأما حَدِيث يَحْيَى فَأخْرجهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَأما حَدِيث أبي عوَانَة فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه.
قلت: وَتَابعه أَيْضا أَبُو (خَالِد) كَمَا أخرجه أَبُو نعيم والإسماعيلي.
تاسعها: من رِوَايَة عَمْرو بن عبسة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: (أبردوا بِصَلَاة الظّهْر؛ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم) .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ.
عَاشرهَا: من رِوَايَة الْقَاسِم بن صَفْوَان، عَن أَبِيه مَرْفُوعا: (إِذا اشْتَدَّ الْحر فأبردوا بِالصَّلَاةِ - يَعْنِي: صَلَاة الظّهْر - فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم) .(3/219)
رَوَاهُ الْبَغَوِيّ فِي «مُعْجَمه» قَالَ: ولأبيه صُحْبَة، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي تَرْجَمته من «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ: (أبردوا بِصَلَاة الظّهْر ... ) إِلَى آخِره.
وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي «مُسْنده» أَيْضا، وَكَذَا أَبُو نعيم فِي كتاب الصَّلَاة، وَلَفظه: (من فَور جَهَنَّم) .
وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن الْقَاسِم بن صَفْوَان، عَن أَبِيه.
الْحَادِي عشر: من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن عَلْقَمَة الثَّقَفِيّ، رَوَاهُ أَبُو نعيم.
الثَّانِي عشر: من رِوَايَة أنس.
الثَّالِث عشر: من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، ذكرهمَا التِّرْمِذِيّ.
الرَّابِع عشر: من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن حَارِثَة مَرْفُوعا: (أبردوا بِالظّهْرِ) .
الْخَامِس عشر: من حَدِيث صَحَابِيّ يُرى أَنه ابْن مَسْعُود، رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» (وأهملهما) التِّرْمِذِيّ، وَكَذَا الطَّرِيق التَّاسِع وَالسَّابِع وَالْحَادِي عشر.
وَرَوَاهُ مَالك عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (إِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم؛ فَإِذا اشْتَدَّ الْحر فأبردوا عَن الصَّلَاة) . (و) هَذَا مُرْسل يعتضد بِمَا سلف.(3/220)
فَائِدَة: فيح جَهَنَّم - بِفَتْح الْفَاء، ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ حاء مُهْملَة -: غليانها وانتشار لهبها ووهجها، أعاذنا الله (مِنْهَا) .
قَالَ الْخطابِيّ فِي كِتَابه «تصاحيف الروَاة» : يرْوَى: (من فيح جَهَنَّم) بِفَتْح الْفَاء وَكسرهَا، قَالَ: وَالْمعْنَى لَا يخْتَلف.
قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الفيح بِالْحَاء وَالْخَاء وَالْجِيم لَا يخْتَلف.
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : وَيروَى: (من فوح جَهَنَّم) بِالْوَاو بدل (الْيَاء) وهما بِمَعْنى.
قلت: رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي سعيد مَرْفُوعا: (أبردوا بِالظّهْرِ فِي الْحر، (فَإِن) شدَّة الْحر من فوح جَهَنَّم) وَذكره الْخلال عَن الْمَيْمُونِيّ، عَن أَحْمد، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن الْأَعْمَش بِهِ بِلَفْظ: (أبردوا بِالصَّلَاةِ؛ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم) قَالَ أَحْمد: لَا أعلم أحدا قَالَ: «فوح» غير الْأَعْمَش.
وَقَوله: «أبردوا بِالصَّلَاةِ» قد سلفت رِوَايَة أخري «عَن الصَّلَاة» وَعَن تَأتي بِمَعْنى الْبَاء، وَقيل: إِن عَن هُنَا زَائِدَة؛ أَي: أبردوا (الصَّلَاة) .
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: (لَوْلَا أَن أشق عَلَى أمتِي لأمرتهم(3/221)
بِتَأْخِير الْعشَاء إِلَى ثلث اللَّيْل أَو نصفه) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي الحَدِيث الْخَامِس عشر من بَاب الْوضُوء، و (فِي) الْبَاب أَيْضا.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: (كَانَ النِّسَاء ينصرفن من صَلَاة الصُّبْح مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهن متلفعات بمروطهن مَا يعرفن من الْغَلَس) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيثهَا قَالَت: (لقد كَانَ نسَاء من الْمُؤْمِنَات (يشهدن) الْفجْر مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - متلفعات بمروطهن، ثمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتهنَّ وَمَا يعرفن من تغليس رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالصَّلَاةِ) . هَذَا لفظ مُسلم. وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِن) كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ليُصَلِّي الصُّبْح فتنصرف النِّسَاء متلفعات بمروطهن مَا يعرفن من الْغَلَس) .
وَلَفظ البُخَارِيّ: «كن نسَاء الْمُؤْمِنَات يشهدن مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَاة الْفجْر متلفعات بمروطهن، ثمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتهنَّ (حِين يقضين) الصَّلَاة لَا يعرفهن أحد من الْغَلَس) .(3/222)
وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُصَلِّي الصُّبْح بِغَلَس [فينصرفن] نسَاء الْمُؤمنِينَ لَا يعرفن من الْغَلَس [أَو] لَا يعرف بَعضهنَّ بَعْضًا) . وَفِي رِوَايَة: متلفعات.
فَائِدَة: متلفعات - بِالْعينِ بعد الْفَاء؛ أَي (متلفحات) و (متلففات) بتكرار الْفَاء، وَمَعْنَاهَا مُتَقَارب إِلَّا أَن التلفع لَا يسْتَعْمل إِلَّا مَعَ تَغْطِيَة الرَّأْس (والمروط وَاحِدهَا: مرط - بِالْكَسْرِ -: أكسية من صوف) .
الحَدِيث الثَّلَاثِينَ
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام (المؤذنون أُمَنَاء النَّاس عَلَى صلَاتهم) .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق أَحدهَا: من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن عبد الْعَزِيز بن عبد الْملك بن أبي مَحْذُورَة، عَن أَبِيه، عَن جده أبي مَحْذُورَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أُمَنَاء النَّاس عَلَى صلَاتهم وسحورهم المؤذنون) .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث يَحْيَى بن عبد الحميد(3/223)
(هُوَ) الْحمانِي، وَيَحْيَى هَذَا حَافظ شيعي جلد، وَثَّقَهُ ابْن معِين (وَغَيره) . وَقَالَ ابْن عدي: صنف الْمسند وَلم أر فِي «مُسْنده» وَلَا فِي أَحَادِيثه (أَحَادِيث) مَنَاكِير، وَأَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. وَضَعفه
الْجُمْهُور، وَمِنْهُم النَّسَائِيّ وَأحمد. وَقَالَ أَحْمد: (كَانَ) يكذب جهارًا، مازلنا نعرفه يسرق الْأَحَادِيث. وَقَالَ السَّعْدِيّ: سَاقِط. وَقَالَ ابْن نمير: كَذَّاب.
الطَّرِيق الثَّانِي: من رِوَايَة ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما رَفعه: (خصلتان معلقتان فِي أَعْنَاق المؤذنين للْمُسلمين: صلَاتهم وصيامهم) .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَفِي إِسْنَاده: مَرْوَان بن سَالم الْجَزرِي ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ أَحْمد وَغَيره: لَيْسَ بِثِقَة.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن الْحسن أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (المؤذنون أُمَنَاء النَّاس عَلَى صلَاتهم، وَذكر مَعهَا غَيرهَا) .
رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن عبد الْوَهَّاب، عَن يُونُس، عَن الْحسن بِهِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: (المؤذنون أُمَنَاء النَّاس عَلَى صلَاتهم(3/224)
وحاجتهم - أَو حاجاتهم) .
قلت: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ المُرَاد بقوله: وَذكر مَعهَا غَيرهَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : حَدِيث الْحسن هَذَا هُوَ الصَّحِيح خلاف رِوَايَته لَهُ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا.
الطَّرِيق الرَّابِع: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَقد ذَكرنَاهَا آنِفا من كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ.
الطَّرِيق الْخَامِس: من حَدِيث جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ذكره الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ عقب: حَدِيث الْحسن: وَرُوِيَ ذَلِك عَن جَابر وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ، قَالَ: وَرُوِيَ (فِي) ذَلِك عَن أبي أُمَامَة (أَنه) قَالَ: (المؤذنون أُمَنَاء الْمُسلمين، وَالْأَئِمَّة ضمناء» . قَالَ: وَالْأَذَان أحب إِلَيّ من الْإِمَامَة.
قلت: فَحَدِيث الْحسن (يحْتَج بِهِ) . وَهُوَ الْعُمْدَة: إِذا؛ فَإِنَّهُ انْضَمَّ إِلَى إرْسَاله (اتِّصَاله) من وُجُوه أخر.
الحَدِيث الْحَادِي (بعد الثَّلَاثِينَ)
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (رفع الْقَلَم عَن (ثَلَاثَة) : عَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق) .
هَذَا الحَدِيث قَاعِدَة من قَوَاعِد الْإِسْلَام يدْخل فِيهَا مَا لَا يُحْصَى من(3/225)
الْأَحْكَام، لَهُ طرق أقواها طَرِيق عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها رَوَاهُ إِبْرَاهِيم، عَن الْأسود عَنْهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الْمُبْتَلَى حَتَّى يبرأ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يكبر) وَفِي لفظ: «يَحْتَلِم» ، وَفِي لفظ: «يبلغ» .
رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فِي (الْحُدُود) وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمَا» فِي (الطَّلَاق) وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي الْبيُوع، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» بِإِسْنَاد حسن، بل (صَحِيح) مُتَّصِل كلهم عُلَمَاء.
قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَفِي سؤلات ابْن الْجُنَيْد قَالَ رجل ليحيى بن معِين: هَذَا الحَدِيث عنْدك (واه) ؟ فَقَالَ: لَيْسَ يروي هَذَا إِلَّا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن حَمَّاد - يَعْنِي: ابْن أبي سُلَيْمَان.
قلت: هُوَ الْفَقِيه أخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين وَغَيره، وَتكلم فِيهِ الْأَعْمَش وَابْن سعد.(3/226)
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : حَدِيث عَائِشَة هَذَا أَقْوَى إِسْنَادًا من حَدِيث عَلّي.
قلت: لَا شكّ فِي ذَلِك، وَلَا فرق (وَلَا مرية) لما ستعلمه.
الطَّرِيق الثَّانِي: طَرِيق أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من رِوَايَة قَتَادَة، عَن عبد الله بن أبي رَبَاح عَنهُ (أَنه كَانَ مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر ... ) فَذكر قصَّة، وَقَالَ: (فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنَّه يرفع الْقَلَم عَن ثَلَاث: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الْمَعْتُوه حَتَّى يَصح، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم) .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي الْحُدُود، عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، نَا هَاشم بن مرْثَد (الطَّبَرَانِيّ) نَا عَمْرو بن الرّبيع بن طَارق، نَا عِكْرِمَة بن إِبْرَاهِيم، حَدثنِي سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة (بِهِ) ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.
قلت: وَهَذِه طَريقَة عزيزة الْوُجُود جَيِّدَة لَو سلمت من عِكْرِمَة بن إِبْرَاهِيم؛ فَإِنَّهُ ضَعِيف. قَالَ ابْن حبَان: وهَاشِم بن مرْثَد لَيْسَ بِشَيْء، وَابْنه صَدُوق.
الطَّرِيق الثَّالِث: طَرِيق عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَهُوَ مَرْوِيّ عَنهُ من وُجُوه، أَحدهَا: من حَدِيث أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح - بِضَم الصَّاد - عَنهُ مَرْفُوعا: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يعقل) .(3/227)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فِي الْحُدُود هَكَذَا، وَهُوَ مُنْقَطع، أَبُو الضُّحَى لم يدْرك عليًّا.
قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «مراسيله» : قَالَ أَبُو زرْعَة: مُسلم بن صبيح عَن عَلّي مُرْسل.
الْوَجْه الثَّانِي: من حَدِيث الْقَاسِم بن يزِيد عَنهُ: (رفع الْقَلَم عَن الصَّغِير، وَعَن الْمَجْنُون، وَعَن النَّائِم) .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه هَكَذَا فِي كتاب الطَّلَاق، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْحُدُود تَعْلِيقا من غير ذكر إِسْنَاد إِلَى الْقَاسِم، فَقَالَ: (رَوَاهُ) ابْن جريج، عَن الْقَاسِم بن يزِيد، عَن عَلّي، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - زَاد فِيهِ «والخَرِفِ» . وَهَذَا مُنْقَطع أَيْضا، الْقَاسِم بن يزِيد لم يدْرك عليًّا. قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «مراسيله» : قَالَ أَبُو زرْعَة: الْقَاسِم بن يزِيد بن مُعَاوِيَة، عَن عَلّي مُرْسل، وَأغْرب الذَّهَبِيّ فَذكره فِي «ضُعَفَائِهِ» فَقَالَ: الْقَاسِم بن يزِيد، عَن عَلّي، وَمَا أدْركهُ فَهُوَ مُنْقَطع، هَذَا لَفظه.
الْوَجْه الثَّالِث: من حَدِيث جرير، عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن (أبي) ظبْيَان - وَهُوَ حُصَيْن بن جُنْدُب - الجنبَّي قَالَ: «أُتِي عمر بِامْرَأَة قد فجرت فَأمر برجمها، فَمر عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَأَخذهَا فخلى سَبِيلهَا، فَأخْبر عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالَ: ادعوا لي عليًّا، فجَاء عَلّي فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لقد علمت(3/228)
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (رفع) الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ، وَعَن النَّائِم حَتَّى (يَسْتَيْقِظ) وَعَن (الْمَعْتُوه) حَتَّى يبرأ، وَإِن هَذِه معتوهة بني فلَان لَعَلَّ الَّذِي أَتَاهَا (أَتَاهَا) وَهِي فِي بلائها. قَالَ: فَقَالَ عمر: لَا أَدْرِي! فَقَالَ عَلّي: وَأَنا لَا أَدْرِي» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِهَذَا اللَّفْظ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا، وَعَطَاء «هَذَا» قد (أسلفنا) فِي بَاب الْأَحْدَاث أَنه من الثِّقَات الَّذين اختلطوا بِأخرَة؛ فَمن سمع مِنْهُ قَدِيما فَهُوَ صَحِيح، وَمن سمع مِنْهُ حَدِيثا فَلَا، (وَإِن) جَرِيرًا سمع حَدِيثا، كَمَا نَص عَلَيْهِ أَحْمد وَيَحْيَى بن معِين، وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة جرير عَنهُ.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: (وَرَوَاهُ) النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي (الْحصين) عُثْمَان بن عَاصِم الْأَسدي، عَن أبي ظبْيَان، عَن عَلّي قَوْله. قَالَ: وَهَذَا أولَى بِالصَّوَابِ من حَدِيث عَطاء، وَلم يذكر الْمُنْذِرِيّ (مُتَابعًا لجرير) عَن عَطاء، وَقد تَابعه أَبُو الْأَحْوَص وَحَمَّاد بن سَلمَة(3/229)
وَعبد الْعَزِيز بن عبد الصَّمد وَغَيرهم كَمَا ستعلمه من كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ، وَأخرج الأول أَبُو دَاوُد، وَالثَّانِي أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالثَّالِث ابْن أبي عمر فِي «مُسْنده» كَمَا أَفَادَهُ صَاحب «الإِمَام» ثمَّ قَالَ: فَهَؤُلَاءِ جمَاعَة رَوَوْهُ عَن عَطاء مَرْفُوعا، فَينْظر فِي حَال سَماع هَؤُلَاءِ من عَطاء، هَل كَانَ قبل الِاخْتِلَاط أَو بعده.
قلت: أما حَمَّاد بن سَلمَة فقد قدمت فِي بَاب الْأَحْدَاث عَن يَحْيَى بن معِين أَنه سمع مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط، ونقلت عَن الدَّارَقُطْنِيّ مَا يتَوَقَّف فِيهِ فَرَاجعه من ثمَّ، وَأما أَبُو الْأَحْوَص وَعبد الْعَزِيز فَلم يتحرر (لي) الْآن حَال (روايتهما) عَنهُ، ثمَّ قَالَ (لَكِن) بعد صِحَّته عَن عَطاء: فِيهِ أَمر آخر، وَهُوَ أَن فِي أَلْفَاظ الحَدِيث من رِوَايَة أبي ظبْيَان مَا يتَوَقَّف اتِّصَاله وَعدم انْقِطَاعه عَلَى لِقَائِه لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَإِنَّهُ حَكَى وَاقعَة مُعينَة بأحوالها، وَأمر عمر ولقاء عَلّي (لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) وَقَوله، وَقَول عمر لَهُ؛ فَإِن لم يكن مشاهدًا للواقعة مُحْتملا للسماع من عمر فَهُوَ مُنْقَطع، وَقد تقع (رِوَايَته) لهَذَا الحَدِيث عَن عَلّي من غير ذكر صُورَة الْوَاقِعَة فَيَسْبق إِلَى (ذهن) السَّامع اتصالها وَلَو لم يكن فِي هَذَا إِلَّا مَا سَيَأْتِي من رِوَايَة الْأَعْمَش لَهُ عَن أبي ظبْيَان، عَن ابْن عَبَّاس لكفى.
قلت: لَكِن قد ثَبت لقِيه لَهُ فَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» قيل: لَقِي أَبُو(3/230)
ظبْيَان عليًّا وَعمر؟ قَالَ: نعم. وَأما أَبُو حَاتِم فَقَالَ: لَا يتَبَيَّن لي سَمَاعه من عَلّي.
الْوَجْه الرَّابِع: من حَدِيث جرير، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي ظبْيَان، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (أُتي عمر بمجنونة قد زنت، فَاسْتَشَارَ فِيهَا أُنَاسًا، فَأمر بهَا عمر أَن ترْجم، فَمر بهَا عَلّي بن أبي طَالب فَقَالَ: مَا شَأْن هَذِه؟ ! قَالُوا: مَجْنُونَة بني فلَان زنت، فَأمر بهَا أَن ترْجم، قَالَ: فَقَالَ: ارْجعُوا بهَا، ثمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أما علمت أَن الْقَلَم (رفع) عَن ثَلَاثَة: عَن الْمَجْنُون حَتَّى يبرأ، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يعقل؟ قَالَ: (بلَى) قَالَ: فَمَا بَال هَذِه ترْجم؟ ! قَالَ: لَا شَيْء، قَالَ: فأرسلها! [قَالَ: فأرسلها] ! فَجعل عمر يكبر) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فِي الْحُدُود، هَكَذَا. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث وَكِيع، عَن الْأَعْمَش نَحوه، وَقَالَ أَيْضا: «حَتَّى يعقل» وَقَالَ: «وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق» . (و) رَوَاهُ من حَدِيث جرير، عَن سُلَيْمَان بن مهْرَان - هُوَ الْأَعْمَش - عَن أبي ظبْيَان، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «مرّ (عَلّي) بن أبي طَالب ... » بِمَعْنى مَا قبله «وَقَالَ: أَو مَا تذكر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن الْمَجْنُون المغلوب عَلَى عقله، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم؟ قَالَ: صدقت. قَالَ: فخلي عَنْهَا» .(3/231)
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الرَّجْم من حَدِيث جرير، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي ظبْيَان، كَمَا مر أَولا.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» فِي بَاب صَلَاة الْجَمَاعَة بِاللَّفْظِ (الآخر) ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ، وَرَوَاهُ أَيْضا كَذَلِك فِي الْبيُوع وَسكت عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ فِي الْحُدُود فِي أَوَاخِر «مُسْتَدْركه» من حَدِيث جَعْفَر بن عون، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي ظبْيَان، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «أُتِي عمر بمبتلاة قد فَجَرَتَ، فَأمر برجمها، فَمر بهَا عَلّي بن أبي طَالب وَمَعَهَا الصّبيان يتبعونها، (فَقَالَ) : مَا هَذِه؟ قَالُوا: أَمر بهَا عمر أَن ترْجم، قَالَ: فَردهَا (وَذهب) مَعهَا إِلَى عمر وَقَالَ: [ألم تعلم] أَن الْقَلَم رفع عَن (ثَلَاث) : عَن الْمَجْنُون حَتَّى يعقل، وَعَن الْمُبْتَلَى حَتَّى يفِيق، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم؟ ... » هَكَذَا وَقع فِي الرِّوَايَة ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ: وَرَوَاهُ شُعْبَة، عَن الْأَعْمَش بِزِيَادَة أَلْفَاظ، ثمَّ (ذكره) بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ عَن أبي ظبْيَان، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (أُتِي عمر بمجنونة حُبْلَى فَأَرَادَ أَن يرجمها.(3/232)
فَقَالَ لَهُ عَلّي: أَو مَا علمت أَن الْقَلَم قد (رفع) عَن ثَلَاث: عَن الْمَجْنُون حَتَّى يعقل، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، فخلى عَنْهَا» .
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن شَيْخه ابْن خُزَيْمَة، نَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، أبنا ابْن وهب (أَخْبرنِي» جرير بن حَازِم، عَن سُلَيْمَان بن مهْرَان، كَمَا سَاقه أَبُو دَاوُد أخيرًا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : رُوَاته ثِقَات إِلَّا أَن جَرِيرًا (تفرد) بِرَفْعِهِ عَن سُلَيْمَان.
وَرَوَاهُ الْجَمَاعَة عَن الْأَعْمَش مَوْقُوفا عَلَى عَلّي. وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس، عَن عَلّي مَرْفُوعا: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن الْمَجْنُون، والنائم، وَالصَّبِيّ) فَقَالَ: هُوَ حَدِيث يرويهِ أَبُو ظبْيَان، وَاخْتلف عَنهُ؛ فَرَوَاهُ سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَاخْتلف عَنهُ فَقَالَ: جرير بن حَازِم، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي ظبْيَان، عَن ابْن عَبَّاس، عَن عَلّي فرفعه إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن عَلّي وَعَن عمر، تفرد بذلك عبد الله بن وهب، عَن جرير بن حَازِم، وَخَالفهُ ابْن فُضَيْل ووكيع؛ فروياه عَن الْأَعْمَش، عَن أبي ظبْيَان، عَن ابْن عَبَّاس، عَن عَلّي وَعمر مَوْقُوفا، (و) رَوَاهُ عمار بن زُرَيْق، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي ظبْيَان، عَن عَلّي وَعمر مَوْقُوفا، وَلم يذكر فِيهِ ابْن عَبَّاس، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ (سعد) بن عُبَيْدَة (عَن أبي ظبْيَان(3/233)
مَوْقُوفا وَلم يذكر ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ أَبُو حُصَيْن، عَن أبي ظبْيَان) عَن ابْن عَبَّاس، عَن عَلّي وَعَن عمر مَوْقُوفا، وَاخْتلف
(فِيهِ) فَقيل: عَن أبي ظبْيَان، عَن عَلّي مَوْقُوفا. (قَالَه) أَبُو بكر بن عَيَّاش وَشريك، عَن أبي حُصَيْن، وَرَوَاهُ عَطاء بن السَّائِب، عَن أبي ظبْيَان، عَن عَلّي وَعمر (مَرْفُوعا) وَحدث (بِهِ) عَنهُ حَمَّاد بن سَلمَة وَأَبُو الْأَحْوَص وَجَرِير بن عبد الحميد وَعبد الْعَزِيز بن عبد الصَّمد [الْعمي] وَغَيرهم، وَقَول وَكِيع (و) ابْن فُضَيْل أشبه بِالصَّوَابِ، وَالله أعلم، قيل: لَقِي أَبُو ظبْيَان عليًّا وَعمر؟ قَالَ: نعم.
الْوَجْه الْخَامِس: من حَدِيث همام، عَن قَتَادَة، عَن الْحسن، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي (حَتَّى) يشب، وَعَن الْمَعْتُوه حَتَّى يعقل) .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ كَذَلِك فِي الْحُدُود من «جَامعه» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الرَّجْم مَرْفُوعا وموقوفًا عَلَى عَلّي، وَقَالَ: إِن الْوَقْف أولَى بِالصَّوَابِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ) فِي الْحُدُود أَيْضا عَن ابْن خُزَيْمَة، عَن عَلّي بن عبد الْعَزِيز، (نَا عَفَّان) ، نَا همام ...(3/234)
فساقه كَمَا ذكره التِّرْمِذِيّ قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَقد رُوِيَ من غير وَجه عَن عَلّي، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[و] ذكر بَعضهم «وَعَن الْغُلَام حَتَّى يَحْتَلِم» قَالَ: وَلَا يعرف لِلْحسنِ سَمَاعا من عَلّي بن أبي طَالب. وَقد كَانَ فِي زَمَنه وأدركه، وَقَالَ الْحَاكِم: إِسْنَاده صَحِيح مُرْسل. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «مراسيله» : سُئِلَ أَبُو زرْعَة عَن الْحسن الْبَصْرِيّ هَل لَقِي أحدا من الْبَدْرِيِّينَ؟ قَالَ: رَآهُمْ وَقد رَأَى عليًّا. قلت: سمع مِنْهُ حَدِيثا؟ قَالَ: لَا.
(و) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث أسْندهُ عَلّي بن عَاصِم، عَن حميد الطَّوِيل، وأسنده (غَيره) عَن يُونُس بن عبيد، وَكِلَاهُمَا عَن الْحسن، عَن عَلّي مَرْفُوعا، وَوَقفه غَيرهمَا، وَهُوَ أشبه بِالصَّوَابِ.
قلت: لَا جرم، أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» مُعَلّقا مَوْقُوفا فِي مَوْضُوعَيْنِ: أَحدهمَا: فِي الطَّلَاق، وَلَفظه: «وَقَالَ عَلّي بن أبي طَالب: ألم تعلم أَن الْقَلَم رفع عَن ثَلَاثَة: عَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يدْرك، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ» .
ثَانِيهمَا: فِي بَاب لَا ترْجم الْمَجْنُونَة وَالْمَجْنُون، وَبَين فِيهِ الْمَقُول لَهُ وَهَذَا لَفظه: «وَقَالَ عَلّي لعمر: أما علمت أَن الْقَلَم رفع عَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يدْرك، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ» .(3/235)
الطَّرِيق الرَّابِع: (من) طَرِيق ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَالْمَعْتُوه حَتَّى يفِيق، وَالصَّبِيّ حَتَّى يعقل - أَو يَحْتَلِم) .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن الْحسن بن جرير الصُّورِي، ثَنَا أَبُو (الْجمَاهِر) ، نَا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن عبد الْعَزِيز بن عبيد الله، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ. (و) عبد الْعَزِيز هَذَا ضعفه ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم وَابْن الْمَدِينِيّ، وَمَا رَوَى عَنهُ غير إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش.
الطَّرِيق الْخَامِس وَالسَّادِس: طَرِيق مَكْحُول، عَن أبي إِدْرِيس قَالَ: أَخْبرنِي غير وَاحِد من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (مِنْهُم) شَدَّاد بن أَوْس وثوبان: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (رفع الْقَلَم فِي الْحَد: عَن الصَّغِير حَتَّى يكبر، وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق، وَعَن الْمَعْتُوه الْهَالِك) .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث برد بن سِنَان، عَن مَكْحُول بِهِ، وَبرد هَذَا دمشقي مَشْهُور أخرج لَهُ أَصْحَاب السّنَن(3/236)
الْأَرْبَعَة. وَضَعفه ابْن الْمَدِينِيّ وَأَبُو حَاتِم فِي أحد قوليه. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: يرَى الْقدر. وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو زرْعَة.
وَإِذا فزغنا من الْكَلَام عَلَى إِيضَاح طرقه وتبينها وَللَّه الْحَمد عَلَى ذَلِك وَعَلَى جَمِيع مننه فلنختمه بفوائد:
الأولَى: هُوَ بِلَفْظ: «رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة» بِإِثْبَات الْهَاء، وَوَقع فِي الرَّافِعِيّ وَبَعض كتب الْفُقَهَاء بحذفها (وَكَذَا) فِي بعض الرِّوَايَات عَلَى مَا ألفيته فِي حَدِيث أبي قَتَادَة وَغَيره مِمَّا سلف.
الثَّانِيَة: الرّفْع لَا يَسْتَدْعِي تَقْدِيم وضع؛ فَإِن الْقَلَم لم يوضع عَلَى الصَّبِي، كَمَا أَن التّرْك لَا يَسْتَدْعِي سبق فعل قَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن يُوسُف الصّديق (إِنِّي تركت مِلَّة قوم لَا (يُؤمنُونَ) .) الْآيَة، وَمن الْمَعْلُوم أَنه لم يكن عَلَى تِلْكَ الْملَّة قطّ، وَقَالَ شُعَيْب لما قَالَ لَهُ قومه: (لنخرجنك يَا شُعَيْب وَالَّذين آمنُوا مَعَك من قريتنا أَو لتعودُن فِي ملتنا قَالَ أَو لَو كُنَّا كارهين. .) الْآيَة، وَمن الْمَعْلُوم أَن شعيبًا لم يكن فِي تِلْكَ الْملَّة.
الثَّالِثَة: هَذَا الرّفْع الظَّاهِر أَنه مجَاز عَن عدم التَّكْلِيف لَا حَقِيقَة قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان: يُرِيد (أَنه) لَا يكْتب عَلَيْهِم الشَّرّ بل الْخَيْر لحَدِيث: (أَلِهَذَا حج؟ قَالَ: نعم وَلَك أجر) .
الرَّابِعَة: «الخَرِف» فِي رِوَايَة أبي دَاوُد السالفة المُرَاد بِهِ: الشَّيْخ الْكَبِير الَّذِي زَالَ عقله من الْكبر وَورد فِيهِ حَدِيث مَوْضُوع يَقْتَضِي ارْتِفَاع(3/237)
التَّكْلِيف عَنهُ، وَهُوَ بَاطِل لَا أصل لَهُ.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (مروا أَوْلَادكُم بِالصَّلَاةِ وهم أَبنَاء سبع سِنِين، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وهم أَبنَاء عشر وَفرقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» كَذَلِك من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، وَقد أسلفنا مَا فِي هَذِه التَّرْجَمَة وَأَن الْأَكْثَر عَلَى الِاحْتِجَاج بهَا، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ: (مروا الصّبيان بِالصَّلَاةِ لسبع سِنِين، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا فِي عشر سِنِين، وَفرقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع) .
وَله طَرِيق آخر من حَدِيث عبد الْملك بن الرّبيع بن سُبْرَة الْجُهَنِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (مروا الصَّبِي بِالصَّلَاةِ إِذا بلغ سبع سِنِين، وَإِذا بلغ عشر سِنِين فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا) .(3/238)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ (قَالَ التِّرْمِذِيّ: صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ) فِي «خلافياته» : احْتج مُسلم بِعَبْد الْملك هَذَا وَأَبِيهِ وجده، رَوَى (لَهُم) فِي الصَّحِيح.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْحَاكِم بِلَفْظ آخر وَهُوَ: (إِذا بلغ أَوْلَادكُم مبلغ سبع سِنِين ففرقوا بَين فرشهن، وَإِذا بلغُوا عشر سِنِين فاضربوهم عَلَى الصَّلَاة) . قَالَ الْحَاكِم أَيْضا: وَهَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، فقد احْتج بِعَبْد الْملك عَن آبَائِهِ، ثمَّ اسْتشْهد لَهُ بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب السالف، ذكر هَذَا فِي بَاب فضل الصَّلَوَات الْخمس والموضع الأول (فِي أَوَاخِر) بَاب الْإِمَامَة، وعزى هَذَا الحَدِيث الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» إِلَى «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» ، ثمَّ نقل عَن ابْن أبي خَيْثَمَة أَنه قَالَ: سُئِلَ يَحْيَى بن معِين عَن أَحَادِيث عبد الْملك بن الرّبيع بن سُبْرَة، عَن أَبِيه، عَن جده؟ فَقَالَ: ضِعَاف. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : هَذَا الحَدِيث أصح مَا فِي الْبَاب، وَقَالَ ابْن عبد الْحق فِيمَا رده عَلَى(3/239)
الْمُحَلَّى: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، ثمَّ ذكر مقَالَة يَحْيَى هَذِه فِي عبد الْملك.
(وَلِهَذَا) الحَدِيث طَرِيق ثَالِث رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» من حَدِيث مُحَمَّد بن الْحسن بن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (إِذا بلغ أَوْلَادكُم سبع سِنِين فعلموهم الصَّلَاة، (وَإِذا) بلغُوا عشرا فاضربوهم عَلَيْهَا، وَفرقُوا بَينهمَا فِي الْمضَاجِع) ، ثمَّ قَالَ: مُحَمَّد هَذَا مُضْطَرب الْحِفْظ، قَالَ: وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَحوه، وَهَذَا أولَى، قَالَ: وَالرِّوَايَة فِي هَذَا الْبَاب فِيهَا لين.
قلت: وَلِلْحَدِيثِ طَرِيق رَابِع رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة عبد الله (أبي مَالك) الْخَثْعَمِي من حَدِيث عَلّي بن غراب، عَن مُحَمَّد بن عبيد الله، ثَنَا أَبُو يَحْيَى، عَن عَمْرو بن عبد الله، عَن أَبِيه مَرْفُوعا: (مروا صِبْيَانكُمْ بِالصَّلَاةِ إِذا بلغُوا سَبْعَة ... ) الحَدِيث، وَعلي هَذَا وَثَّقَهُ ابْن معِين وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَأما أَبُو دَاوُد فَقَالَ: كَذَّاب.
فَائِدَة: فِي سنَن الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: (مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لسبع سِنِين، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لثلاث عشرَة) ، وَفِي إِسْنَاده دَاوُد بن المحبر - بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة، ثمَّ بَاء مُوَحدَة مُشَدّدَة -(3/240)
صَاحب كتاب «الْعقل» وَهُوَ ضَعِيف جدًّا، قَالَ أَحْمد: شبه لَا شَيْء. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: ذهب حَدِيثه. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث شبه لَا شَيْء. وَقَالَ ابْن حبَان: يضع الحَدِيث عَلَى الثِّقَات.
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث امْرَأَة معَاذ بن عبد الله الْجُهَنِيّ، عَن رجل، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (إِذا عرف يَمِينه (من) شِمَاله فَمُرُوهُ بِالصَّلَاةِ) .
قَالَ ابْن الْقطَّان: (وَهَذِه الْمَرْأَة) لَا نَعْرِف حَالهَا، وَلَا هَذَا الرجل الَّذِي رَوَت عَنهُ وَلَا صحت لَهُ صُحْبَة.
وَقَالَ صَاحب الإِمَام: الرجل الْمَجْهُول إِن كَانَ صحابيًا فَلَا تضر جهالته عِنْد أهل الحَدِيث وَالْأُصُول.
قلت: فِي طَرِيق ابْن داسة عَن أبي دَاوُد، عَن معَاذ: «دَخَلنَا عَلَيْهِ فَقَالَ: لامْرَأَته ... »
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَمِعت أَبَا زرْعَة (و) ذكر حَدِيث الزُّهْرِيّ [عَن أنس] عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (إِذا عرف الْغُلَام يَمِينه من شِمَاله فَمُرُوهُ بِالصَّلَاةِ) فَقَالَ: الصَّحِيح عَن الزُّهْرِيّ قَوْله.(3/241)
قلت: وَرَوَاهُ ابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» من حَدِيث عبد الله بن (نَافِع) ، عَن هِشَام بن سعد، عَن معَاذ بن عبد الله الْجُهَنِيّ، عَن أَبِيه، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (إِذا عرف الْغُلَام يَمِينه من شِمَاله فَمُرُوهُ بِالصَّلَاةِ) .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لَا يرْوَى [هَذَا الحَدِيث] عَن عبد الله بن حبيب - وَله صُحْبَة - إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد، تفرد بِهِ عبد الله بن نَافِع.
قلت: هُوَ ثِقَة وَإِن لينه بَعضهم، أخرج لَهُ (م 4 وَالله الْمُوفق للصَّوَاب) .
الحَدِيث الثَّالِث (بعد الثَّلَاثِينَ)
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا نسي أحدكُم صَلَاة أَو نَام عَنْهَا فليصلها إِذا ذكرهَا) .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الْبَاب (فِي الحَدِيث) الثَّامِن عشر مِنْهُ، وَفِي بَاب التَّيَمُّم فِي الحَدِيث الْخَامِس عشر (مِنْهُ) أَيْضا.(3/242)
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَا صَلَاة بعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس وَلَا صَلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح اتفقَا عَلَيْهِ من طرق.
أَحدهَا: من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (لَا صَلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَلَا صَلَاة بعد (صَلَاة) الْفجْر حَتَّى تطلع الشَّمْس) . وَفِي بعض طرق البُخَارِيّ (حَتَّى ترْتَفع الشَّمْس) .
ثَانِيهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَعَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس» ، وَفِي بعض طرق البُخَارِيّ: «حَتَّى ترْتَفع» ، وَوهم ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» ؛ فَادَّعَى أَن هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد مُسلم (فاجتنبه) .
ثَالِثهَا: من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: شهد عِنْدِي رجال مرضيون وأرضاهم عِنْدِي عمر: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح حَتَّى تشرق الشَّمْس، وَبعد الْعَصْر حَتَّى تغرب) .(3/243)
وَرَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: (بعد صَلَاة الْعَصْر) ، وتشرق - بِفَتْح أَوله -: تطلع، (- وَبِضَمِّهَا) : تضيء مُرْتَفعَة، وَالْأول أشهر وَهَذَا أصح.
رَابِعهَا: من حَدِيث ابْن عمر (بِمَعْنَاهُ) وَسَيَأْتِي بِلَفْظِهِ، وَانْفَرَدَ مُسلم بِإِخْرَاجِهِ من حَدِيث عقبَة بن عَامر بِزِيَادَة: «وَقت الاسْتوَاء» وَمن حَدِيث عَمْرو بن عبسة ايضًا وَمن حَدِيث عَائِشَة بِدُونِ «وَقت الاسْتوَاء» ، (وَفِي أَفْرَاد البُخَارِيّ: عَن مُعَاوِيَة) .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (إِن الشَّمْس تطلع وَمَعَهَا قرن (الشَّيْطَان) ، فَإِذا ارْتَفَعت فَارقهَا، ثمَّ إِذا اسْتَوَت قارنها، فَإِذا زَالَت (فَارقهَا) ، فَإِذا دنت للغروب قارنها، فَإِذا غربت فَارقهَا، وَنَهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الصَّلَاة فِي تِلْكَ السَّاعَات) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ فِي «الْأُم»(3/244)
عَنهُ، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن عبد الله الصنَابحِي عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِاللَّفْظِ الَّذِي سقناه.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» عَن قُتَيْبَة بن سعيد، عَن مَالك بِهِ سَوَاء، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «الْمسند» ، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن زيد بِهِ إِلَّا أَنه قَالَ: (تطلع بَين قَرْني الشَّيْطَان) ، وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» و «الْمعرفَة» : كَذَا رَوَاهُ مَالك بن أنس، عَن عبد الله الصنَابحِي، (وَرَوَاهُ معمر بن رَاشد، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء، عَن أبي عبد الله الصنَابحِي) . وَمن هَذَا الْوَجْه أخرجه ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالصَّحِيح (رِوَايَة) معمر. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: (وَافق مَالِكًا) من الثِّقَات مُحَمَّد بن مطرف، وَزُهَيْر بن مُحَمَّد، وَحَفْص بن ميسرَة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رَوَاهُ يَحْيَى، عَن مَالك هَكَذَا، وَتَابعه فِي قَوْله: عَن عبد الله الصنَابحِي جُمْهُور الروَاة، مِنْهُم القعْنبِي وَغَيره، وَقَالَ: فِيهِ مطرف، عَن مَالك بِسَنَدِهِ عَن أبي عبد الله الصنَابحِي، وَتَابعه إِسْحَاق بن عِيسَى الطباع وَجَمَاعَة، وَهُوَ الصَّوَاب، واسْمه عبد الرَّحْمَن بن عسيلة من كبار(3/245)
التَّابِعين، وَلَا صُحْبَة لَهُ، قصد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتوفي وَهُوَ فِي الطَّرِيق قبل لِقَائِه (إِيَّاه) بأيام يسيرَة. وَنقل الرَّافِعِيّ فِي «شرح (الْمسند) » عَن البُخَارِيّ وَغَيره أَنَّهَا خَمْسَة أَيَّام. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: نَص حَفْص بن ميسرَة عَلَى سَمَاعه من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَترْجم ابْن السكن باسمه فِي الصَّحَابَة، وَقَالَ: يُقَال لَهُ صُحْبَة، (مَعْدُود) فِي الْمَدَنِيين، قَالَ: وَأَبُو عبد الله (الصنَابحِي) أَيْضا مَشْهُور (لَيست) لَهُ صُحْبَة. قَالَ: وَيُقَال أَن عبد الله الصنَابحِي غير مَعْرُوف فِي الصَّحَابَة، وَسَأَلَ عَبَّاس الدوري يَحْيَى بن معِين (عَن) هَذَا فَقَالَ: عبد الله الصنَابحِي رَوَى عَنهُ المدنيون (يشبه) أَن يكون لَهُ صُحْبَة. قَالَ ابْن الْقطَّان: والمتحصل من هَذَا أَنَّهُمَا رجلَانِ، أَحدهمَا: أَبُو عبد الله عبد الرَّحْمَن بن عسيلة الصنَابحِي لَيست لَهُ صُحْبَة، والأخر: عبد الله الصنَابحِي وَالظَّاهِر مِنْهُ أَن لَهُ صُحْبَة، قَالَ: وَلَا أثبت ذَلِك، وَلَا أَيْضا أجعله أَبَا عبد الله عبد الرَّحْمَن بن عسيلة، فَإِن توهيم أَرْبَعَة من الثِّقَات فِي ذَلِك لَا يَصح، قَالَ: وَكِلَاهُمَا (يروي) عَن أبي بكر وَعبادَة.
وَاعْلَم أَنه يُغني عَن هَذَا الحَدِيث فِي الدّلَالَة، حَدِيث عَمْرو بن عبسة الثَّابِت فِي «صَحِيح مُسلم» فَإِنَّهُ صَحِيح مُتَّصِل من غير شكّ وَلَا مرية، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل وَفِيه: «قلت: يَا نَبِي الله أَخْبرنِي عَن(3/246)
الصَّلَاة؟ قَالَ: صلي صَلَاة الصُّبْح، ثمَّ أقصر عَن الصَّلَاة حَتَّى تطلع الشَّمْس حَتَّى ترْتَفع؛ فَإِنَّهَا تطلع حِين تطلع بَين قَرْني شَيْطَان؛ (فَحِينَئِذٍ) يسْجد لَهَا الْكفَّار، ثمَّ صلَّ فَإِن الصَّلَاة مَشْهُودَة محضورة حَتَّى يسْتَقلّ الظل بِالرُّمْحِ، ثمَّ أقصر عَن الصَّلَاة (فَإِنَّهُ) حِينَئِذٍ تسجر جَهَنَّم، فَإِذا أقبل الْفَيْء فصلِّ، فَإِن الصَّلَاة حِينَئِذٍ مَشْهُودَة محضورة حَتَّى تصلي الْعَصْر، ثمَّ أقصر عَن الصَّلَاة حَتَّى تغرب الشَّمْس؛ فَإِنَّهَا تغرب بَين قَرْني شَيْطَان، وَحِينَئِذٍ يسْجد لَهَا الْكفَّار» .
ويغني عَنهُ أَيْضا حَدِيث أبي هُرَيْرَة (قَالَ) : «سَأَلَ صَفْوَان بن الْمُعَطل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَقَالَ) يَا نَبِي الله إِنِّي سَائِلك عَن أَمر أَنْت بِهِ عَالم وَأَنا بِهِ جَاهِل. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: هَل من سَاعَات اللَّيْل وَالنَّهَار سَاعَة يكره فِيهَا الصَّلَاة؟ قَالَ: نعم، إِذا صليت الصُّبْح فدع الصَّلَاة حَتَّى تطلع الشَّمْس لقرن الشَّيْطَان، ثمَّ (صلِّ) وَالصَّلَاة (مَشْهُودَة) متقبلة حَتَّى تستوي الشَّمْس عَلَى رَأسك كالرمح، فَإِذا كَانَت عَلَى رَأسك كالرمح (فدع الصَّلَاة) فَإِنَّهَا (السَّاعَة) الَّتِي تسجر فِيهَا جَهَنَّم حَتَّى (تزِيغ) ، فَإِذا زاغت؛ فَالصَّلَاة (محضورة متقبلة) حَتَّى تصلي الْعَصْر، ثمَّ دع الصَّلَاة حَتَّى تغرب الشَّمْس» .(3/247)
رَوَاهُ الْأَئِمَّة أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَأحمد فِي «مُسْنده» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة صَفْوَان رَاوِيه وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ: (إِن الشَّمْس إِذا طلعت قارنها الشَّيْطَان، (وَإِذا) انبسطت فَارقهَا، وَإِذا دنت للزوال قارنها، وَإِذا زَالَت فَارقهَا، وَإِذا دنت (للغروب) قارنها فَإِذا (غَابَتْ) فَارقهَا فَنَهَى عَن الصَّلَاة فِي تِلْكَ السَّاعَات) .
وَمثل هَذَا الحَدِيث أَيْضا حَدِيث مرّة بن كَعْب بن مرّة (الْبَهْزِي) قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله أَي اللَّيْل أسمع؟ قَالَ: جَوف اللَّيْل الآخر، ثمَّ الصَّلَاة مَقْبُولَة حَتَّى يطلع الْفجْر، ثمَّ لَا صَلَاة حَتَّى تكون الشَّمْس قيد رمح أَو رُمْحَيْنِ، ثمَّ الصَّلَاة مَقْبُولَة حَتَّى يقوم الظل مقَام الرمْح، ثمَّ لَا صَلَاة حَتَّى تَزُول الشَّمْس، (ثمَّ الصَّلَاة مَقْبُولَة حَتَّى تكون الشَّمْس قيد رمح أَو رُمْحَيْنِ ثمَّ لَا صَلَاة حَتَّى تغرب الشَّمْس)) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث سَالم بن أبي الْجَعْد، عَن رجل من أهل الشَّام، عَن مرّة بِهِ.(3/248)
قَالَ ابْن عبد الْبر: لمرة هَذَا أَحَادِيث عَن أهل الْكُوفَة مخرجة عَن شُرَحْبِيل بن السمط، وَهِي بِعَينهَا عِنْد أهل الشَّام مخرجة عَن شُرَحْبِيل، عَن (أبي أُمَامَة) .
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا، فَإِن ذَلِك وَقتهَا، لَا وَقت لَهَا غَيره) .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام (عَلَيْهِ) فِي الحَدِيث الْخَامِس عشر من بَاب التَّيَمُّم.
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «يَا عَلّي لَا تُؤخر أَرْبعا، وَذكر (مِنْهَا) الْجِنَازَة إِذا حضرت) .
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من خرجه عَلَى هَذَا الْوَجْه بعد الْبَحْث التَّام عَنهُ، وَالْمَعْرُوف فِي كتب الحَدِيث: (لَا تُؤخر ثَلَاثًا: الصَّلَاة إِذا أَتَت، والجنازة إِذا حضرت، والأيم إِذا وجدت لَهَا كُفؤًا) .
وَقد (ذكره كَذَلِك) الرَّافِعِيّ فِي كتاب النِّكَاح فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ مِنْهُ.(3/249)
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة (والجنائز) من «جَامعه» من حَدِيث عبد الله بن وهب، عَن سعيد بن عبد الله الْجُهَنِيّ، عَن مُحَمَّد بن عمر بن عَلّي، عَن أَبِيه، عَن عَلّي مَرْفُوعا (بِهِ) ، وَسكت عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة، وَقَالَ فِي الْجَنَائِز: أَنه غَرِيب، وَمَا أرَى إِسْنَاده (بِمُتَّصِل) وَبَين الْحَافِظ عبد الْحق ذَلِك، فَقَالَ فِي «أَحْكَامه» : رَاوِيه عمر بن عَلّي بن أبي طَالب عَن أَبِيه، وَيُقَال: أَن عمر بن عَلّي لم يسمع من أَبِيه لصغره، إِلَّا أَن أَبَا حَاتِم قَالَ: عمر بن عَلّي بن أبي طَالب سمع أَبَاهُ، وَسمع مِنْهُ مُحَمَّد.
قلت: فاتصل إِسْنَاده عَلَى هَذَا لَكِن (أُعلَّ) بعلة أُخْرَى، وَهِي جَهَالَة سعيد بن عبد الله الْجُهَنِيّ كَمَا نَص عَلَيْهِ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، أعله بذلك عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» ، لَكِن ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَاقْتصر ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَلَى ذكر الْجِنَازَة فَقَط وَهَذَا لَفظه: (لَا تؤخروا الْجِنَازَة إِذا حضرت) .
وَرَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد فِي «مُسْند» أَبِيه، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عبد الله بن وهب أَيْضا لَكِن عَن سعيد بن عبد(3/250)
الرَّحْمَن الجُمَحِي أَن مُحَمَّد بن عمر بن أبي طَالب حَدثهُ عَن أَبِيه، عَن جده عَلّي بن أبي طَالب أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاث يَا عَلّي لَا تؤخرهن: الصَّلَاة إِذا أَتَت، والجنازة إِذا حضرت، والأيم إِذا وجدت كُفؤًا) .
وَسَعِيد هَذَا قَاضِي بَغْدَاد، أخرج لَهُ م (د) س ق، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره.
وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن عدي: لَهُ غرائب حسان، وَأَرْجُو أَنَّهَا مُسْتَقِيمَة، وَإِنَّمَا يهم فيرفع مَوْقُوفا، ويوصل مُرْسلا لَا عَن تعمد. وَقَالَ السَّاجِي: يروي [عَن هِشَام وَسُهيْل] أَحَادِيث لَا يُتَابع عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ أَيْضا: صَالح. وَلينه الْفَسَوِي. وَأما ابْن حبَان (فينصفه) بِأَن قَالَ: يروي عَن الثِّقَات أَشْيَاء مَوْضُوعَة يتخايل إِلَى من يسْمعهَا أَنه كالمتعمد لَهَا. ثمَّ سَاق لَهُ أَحَادِيث من جُمْلَتهَا هَذَا الحَدِيث، وَتَبعهُ ابْن طَاهِر فَقَالَ فِي «تَذكرته» بعد أَن أورد (لَهُ) هَذَا الحَدِيث: يروي الموضوعات.
وَأما الْحَاكِم فَقَالَ بعد أَن أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث صَحِيح غَرِيب، وَكَأَنَّهُ الصَّوَاب. وَقد أنكر الضياء الْمَقْدِسِي فِي «أَحْكَامه»(3/251)
عَلَى ابْن حبَان مقَالَته فِي سعيد فَقَالَ: سعيد (هَذَا) يروي عَنهُ مُسلم. وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين قَالَ: وَلَا يلْتَفت إِلَى كَلَام ابْن حبَان مَعَ تَعْدِيل من هُوَ أعلم مِنْهُ وَأثبت، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي كتاب النِّكَاح فِي بَاب اعْتِبَار الْكَفَاءَة: وَفِي اعْتِبَار الْكَفَاءَة أَحَادِيث لَا تقوم بأكثرها الْحجَّة، مِنْهَا وَهُوَ أمثلها حَدِيث: (يَا عَلّي ثَلَاثَة لَا تؤخرها) ، وَحَدِيث: (تخَيرُوا لنُطَفِكُمْ) .
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فَلَا (يجلس) حَتَّى يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مُتَّفق عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَفِي لفظ: (فليركع (رَكْعَتَيْنِ) قبل أَن يجلس) .
قَالَ الْعقيلِيّ: وَهَذَا الحَدِيث ثَابت من حَدِيث أبي قَتَادَة، قَالَ: وَرُوِيَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِزِيَادَة: ( [وَإِذا دخل أحدكُم بَيته فَلَا يجلس حَتَّى يرْكَع رَكْعَتَيْنِ] فَإِن الله جَاعل (بركعتيه) فِي (بَيته) خيرا) قَالَ: وَهَذَا حَدِيث لَا أصل لَهُ.(3/252)
وَرَوَاهُ ابْن عدي من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَيْضا بِهَذِهِ الزِّيَادَة، وَأعله بِأَن قَالَ: رَاوِيه عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة وَإِبْرَاهِيم بن [يزِيد] بن قديد [هَذَا] وَلَا (يحضرني) لَهُ غير هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ بِهَذَا الْإِسْنَاد مُنكر. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَرَاوِيه عَن إِبْرَاهِيم، سعد بن عبد الحميد بن جَعْفَر، مَجْهُول الْحَال.
قلت: لَا بل (معلومها) قَالَ ابْن معِين: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: (ثِقَة) صَدُوق. وَتكلم فِيهِ الثَّوْريّ وَأحمد وَغَيرهمَا. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ (مِمَّن) فحش خَطؤُهُ، فَلَا يحْتَج بِهِ.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَا يتَحَرَّى أحدكُم بِصَلَاتِهِ طُلُوع الشَّمْس وَلَا غُرُوبهَا) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مُتَّفق عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَا يتَحَرَّى أحدكُم فَيصَلي عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَلَا عِنْد غُرُوبهَا) وَفِي لفظ: (لَا تحروا بصلاتكم طُلُوع(3/253)
الشَّمْس وَلَا غُرُوبهَا؛ فَإِنَّهَا تطلع بقرني الشَّيْطَان) وَفِي لفظ البُخَارِيّ: (بَين قَرْني شَيْطَان - أَو الشَّيْطَان) وَله: (سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينْهَى عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا) وَلمُسلم من حَدِيث عَائِشَة: (لَا تحروا (بصلاتكم طُلُوع) الشَّمْس وَلَا غُرُوبهَا؛ فتصلوا عِنْد ذَلِك) .
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لِبلَال: حَدثنِي بأرجى عمل عملته فِي الْإِسْلَام؛ فَإِنِّي سَمِعت دف نعليك بَين يَدي فِي الْجنَّة؟ ! فَقَالَ: مَا عملت عملا أَرْجَى عِنْدِي من أَنِّي لم أتطهر (طهُورا) فِي سَاعَة من ليل أَو نَهَار إِلَّا صليت بذلك الطّهُور مَا كتب لي أَن أُصَلِّي) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مُتَّفق عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ، وَلَفظ مُسلم: (خشف نعليك) .
وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أصبح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْمًا فَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ: (يَا) بِلَال (بِمَا(3/254)
سبقتني) إِلَى الْجنَّة، إِنِّي دخلت البارحة الْجنَّة فَسمِعت خشخشتك أَمَامِي؟ ! فَقَالَ (بِلَال) : يَا رَسُول الله، مَا أَذِنت قطّ إِلَّا صليت رَكْعَتَيْنِ، وَمَا أصابني حدث قطّ إِلَّا تَوَضَّأت عِنْده. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: بِهَذَا!) .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا (حَدِيث) صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ.
وَأخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» مطولا، وَهَذَا لَفظه عَن ابْن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه قَالَ: (قَالَ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا دخلت الْجنَّة إِلَّا وَسمعت خشخشة، فَقلت: من هَذَا؟ ! فَقَالُوا: بِلَال. ثمَّ مَرَرْت بقصر مشيد بديع فَقلت: لمن هَذَا الْقصر؟ ! قَالُوا: لرجل من أمة مُحَمَّد. فَقلت: أَنا مُحَمَّد لمن هَذَا الْقصر؟ قَالُوا: لرجل من الْعَرَب. فَقلت: أَنا عَرَبِيّ لمن هَذَا الْقصر؟ قَالُوا: لعمر بن الْخطاب. فَقَالَ لِبلَال: بِمَ سبقتني إِلَى الْجنَّة؟ فَقَالَ: مَا أحدثت إِلَّا تَوَضَّأت، وَمَا تَوَضَّأت إِلَّا صليت. وَقَالَ لعمر: لَوْلَا غيرتك لدخلت الْقصر. فَقَالَ: يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم) أكن أغار عَلَيْك» وَفِي رِوَايَة: (مَا أحدثت إِلَّا تَوَضَّأت، وَلَا تَوَضَّأت إِلَّا رَأَيْت أَن لله عَلّي رَكْعَتَيْنِ أصليهما. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (بهما)) .
فَائِدَة: دف نعليك - بِالْفَاءِ - صوتهما وحركتهما عَلَى الأَرْض. قَالَ القَاضِي فِي «مشارقه» : دف نعليك - بِالْفَتْح - أَي: صَوت (مشيتك)(3/255)
فيهمَا قَالَ: (وَفِي) رِوَايَة ابْن السكن: «دوِي نعليك» وَهُوَ قريب من مَعْنَاهُ، وَفِي «أَحْكَام الْمُحب الطَّبَرِيّ» فِي بَاب ذكر الصَّلَاة بعد الْوضُوء قبل الْكَلَام عَلَى تَحِيَّة الْمَسْجِد: الذف - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَيروَى بِالْمُهْمَلَةِ - وَمَعْنَاهُ: حَرَكَة (نعليك وسيرهما) .
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل بَيت أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بعد صَلَاة الْعَصْر (وَصَلى) رَكْعَتَيْنِ، فَسَأَلته عَنْهُمَا فَقَالَ: أَتَانِي نَاس من عبد الْقَيْس فشغلوني عَن الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بعد الظّهْر؛ فهما هَاتَانِ) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» هُنَا تَعْلِيقا بِصِيغَة جزم، وَهَذَا لَفظه: وَقَالَ كريب عَن أم سَلمَة: (صَلَّى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعد الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: شغلني نَاس من عبد الْقَيْس عَن الرَّكْعَتَيْنِ) .
وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مُسْندًا مُتَّصِلا عَن حَرْمَلَة بن يَحْيَى، ثَنَا عبد الله بن وهب، أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث، عَن بكير، عَن كريب مولَى ابْن عَبَّاس «أَن عبد الله بن عَبَّاس وَعبد الرَّحْمَن بن أَزْهَر والمسور بن مخرمَة (أَرْسلُوهُ) إِلَى عَائِشَة زوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: اقْرَأ عَلَيْهَا السَّلَام منا جَمِيعًا وسلها عَن الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر [وَقل: إِنَّا أخبرنَا أَنَّك(3/256)
تصلينهما] وَقد بلغنَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى (عَنْهُمَا) . قَالَ ابْن عَبَّاس: وَكنت أصرف مَعَ عمر بن الْخطاب النَّاس عَنْهَا. قَالَ كريب: فَدخلت عَلَيْهَا وبلغتها مَا أرسلوني بِهِ، فَقَالَت: سل أم سَلمَة فَخرجت إِلَيْهِم فَأَخْبَرتهمْ بقولِهَا، فردوني إِلَى أم سَلمَة، بِمثل مَا أرسلوني بِهِ إِلَى عَائِشَة. فَقَالَت أم سَلمَة: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينْهَى عَنْهَا، ثمَّ رَأَيْته يُصليهَا، أما حِين (صلاهما) فَإِنَّهُ صَلَّى الْعَصْر، ثمَّ دخل وَعِنْدِي نسْوَة من بني حرَام من الْأَنْصَار فصلاهما، فَأرْسلت إِلَيْهِ الْجَارِيَة فَقلت: قومِي (بجنبه) فَقولِي لَهُ: تَقول أم سَلمَة: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسمعك تنْهَى عَن هَاتين الرَّكْعَتَيْنِ وأراك تصليهما، فَإِن أَشَارَ بِيَدِهِ فاستأخري عَنهُ. قَالَت: فَفعلت الْجَارِيَة فَأَشَارَ بِيَدِهِ، فاستأخرت عَنهُ، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: يَا بنت أبي أُميَّة، سَأَلْتِ عَن الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر؛ إِنَّه أَتَانِي نَاس من عبد الْقَيْس بِالْإِسْلَامِ من قَومهمْ، فشغلوني عَن الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بعد الظّهْر؛ فهما هَاتَانِ» .
وَكَذَا أخرجه البُخَارِيّ مُسْندًا فِي السَّهْو، وَفِي عبد الْقَيْس،(3/257)
عَن يَحْيَى بن سُلَيْمَان، عَن ابْن وهب، عَن عَمْرو بِهِ وَقَالَ: «كنت أضْرب» بِالْبَاء.
وَفِي رِوَايَة غَرِيبَة للطبراني من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة بن نشيط، عَن [ثَابت] مولَى أم سَلمَة (عَنْهَا) : (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام انْصَرف إِلَى بَيتهَا فَصَلى [فِيهِ] رَكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر، فَأرْسلت عَائِشَة إِلَى أم سَلمَة: [مَا هَذِه الصَّلَاة الَّتِي صلاهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي بَيْتك] فَقَالَت: إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُصَلِّي بعد الظّهْر رَكْعَتَيْنِ، فَقدم عَلَيْهِ وَفد بني المصطلق فِي شَأْن مَا صنع بهم عاملهم الْوَلِيد بن عقبَة، فَلم يزَالُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذّن يَدعُوهُ إِلَى صَلَاة الْعَصْر فَصَلى الْمَكْتُوبَة، ثمَّ صَلَّى [عِنْدِي] فِي بَيْتِي تِلْكَ الرَّكْعَتَيْنِ مَا صلاهما قبل وَلَا بعد» .
ومُوسَى هَذَا ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ أَحْمد: لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مَا تَركهمَا قطّ عِنْدهَا» .(3/258)
وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» عَنْهَا: «وَالَّذِي ذهب بِهِ مَا تَركهمَا حَتَّى لَقِي الله، وَمَا لَقِي الله حَتَّى ثقل [عَن] الصَّلَاة، وَكَانَ يُصَلِّي كثيرا من صلَاته قَاعِدا - يَعْنِي: الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر -، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام (يُصَلِّيهمَا و) لَا يُصَلِّيهمَا فِي الْمَسْجِد مَخَافَة أَن يثقل عَلَى أمته، وَكَانَ يحب مَا يُخَفف عَلَيْهِم» .
فَائِدَة: وَقد أسلفنا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام شغله عَن الرَّكْعَتَيْنِ بعد الظّهْر نَاس من عبد الْقَيْس بِالْإِسْلَامِ من قَومهمْ وَأَن الطَّبَرَانِيّ رَوَى أَنه شغله عَنْهُمَا وَفد بني المصطلق فِي شَأْن عاملهم، وَفِي «مُسْند أَحْمد» أَنه شغله عَنْهُمَا الإ فتاء.
قَالَ أَحْمد فِي «مُسْنده» : ثَنَا حسن بن مُوسَى، ثَنَا ابْن لَهِيعَة، ثَنَا عبد الله بن هُبَيْرَة قَالَ: سَمِعت قبيصَة بن ذُؤَيْب يَقُول: (أَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أخْبرت آل الزبير أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى عِنْدهَا رَكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر فَكَانُوا يصلونها، قَالَ قبيصَة: فَقَالَ زيد: يغْفر الله لعَائِشَة، نَحن أعلم برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من عَائِشَة، إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِأَن نَاسا من الْأَعْرَاب أَتَوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بهجير، فقعدوا يسألونه ويفتيهم حَتَّى صَلَّى [الظّهْر وَلم يصل رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قعد يفتيهم حَتَّى صَلَّى] الْعَصْر، فَانْصَرف إِلَى بَيته فَذكر أَنه لم (يصل) بعد الظّهْر شَيْئا فصلاهما بعد الْعَصْر، يغْفر الله لعَائِشَة نَحن(3/259)
أعلم برَسُول الله مِنْهَا، نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر» .
وَفِي الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أم سَلمَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قدم عَلَيْهِ وَفد بني تَمِيم، أَو صَدَقَة (شغلوه عَنْهُمَا ... » وَفِي «مُسْند أَحْمد» «قدم عليَّ مَال فشغلني عَنْهُمَا قلت: يَا رَسُول الله أفنقضيهما إِذا فاتتنا؟ قَالَ: لَا» وَأَرَادَ) شغله عَنْهُمَا بقسمته. كَمَا أخرجه ابْن مَاجَه.
وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَطاء بن السَّائِب، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: « (إِنَّمَا) صَلَّى عَلَيْهِ السَّلَام الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر؛ لِأَنَّهُ أَتَاهُ مَال (شغله) عَن (الرَّكْعَتَيْنِ) بعد الظّهْر فصلاهما بعد الْعَصْر، ثمَّ لم يعد لَهما» قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن.
وَصَححهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان؛ فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أُتِي بِمَال بعد الظّهْر، فَقَسمهُ حَتَّى صَلَّى الْعَصْر، ثمَّ دخل منزل عَائِشَة فَصَلى (الرَّكْعَتَيْنِ) بعد الْعَصْر، وَقَالَ: شغلني هَذَا المَال عَن الرَّكْعَتَيْنِ بعد الظّهْر؛ فَلم أَصلهمَا حَتَّى [كَانَ] الْآن» .(3/260)
قلت: فَلَعَلَّ (مَجْمُوع هَذِه) الْأَشْيَاء كَانَ (عِلّة) فِي التّرْك (وَتَكون الْقِصَّة وَاحِدَة) .
وَلَكِن فِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث مَيْمُونَة «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُجهز بعثًا وَلم يكن عِنْده ظهر، فَجَاءَهُ ظهر من الصَّدَقَة، فَجعل يقسمهُ بَينهم (فحبسوه) حَتَّى أرهق الْعَصْر، وَكَانَ يُصَلِّي قبل الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ أَو مَا شَاءَ الله، (وَصَلى) الْعَصْر ثمَّ رَجَعَ فَصَلى مَا كَانَ يُصَلِّي قبلهَا، وَكَانَ إِذا صَلَّى صَلَاة أَو فعل شَيْئا أحب أَن يداوم عَلَيْهِ» وَظَاهر هَذَا تعددها.
وَفِي أَفْرَاد مُسلم مثله من حَدِيث (أبي) سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن «أَنه سَأَلَ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عَن السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُول الله يُصَلِّيهمَا بعد الْعَصْر؟ فَقَالَت: كَانَ يُصَلِّيهمَا قبل الْعَصْر، ثمَّ أَنه شغل عَنْهُمَا أَو نسيهما، فصلاهما بعد الْعَصْر، ثمَّ أثبتهما، وَكَانَ إِذا صَلَّى صَلَاة أثبتها» . [قَالَ يَحْيَى بن أَيُّوب] : (قَالَ إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أحد رُوَاته) : «تَعْنِي داوم عَلَيْهَا» .
وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ عَنْهَا: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام دخل عَلَيْهَا بعد الْعَصْر فَصَلى(3/261)
رَكْعَتَيْنِ فَقلت: يَا رَسُول الله، أحدث بِالنَّاسِ شَيْء؟ ! قَالَ: لَا (إِلَّا) أَن بِلَالًا عجل بِالْإِقَامَةِ فَلم (أصل) الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْعَصْر، فَأَنا أقضيهما الْآن. قلت: يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أنقضيهما) إِذا (فاتتنا) ؟ قَالَ: لَا» .
وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عَبَّاس السَّابِق قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة ومَيْمُونَة وَأبي مُوسَى قَالَ: وَقد رَوَى غير وَاحِد عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه صَلَّى بعد الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ» وَهَذَا خلاف مَا رُوِيَ «أَنه نهَى عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس» وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أصح حَيْثُ قَالَ: لم يعد لَهما» ، وَقد رُوِيَ عَن زيد بن ثَابت نَحْو حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة فِي هَذَا الْبَاب رِوَايَات رُوِيَ عَنْهَا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مَا دخل عَلَيْهَا بعد الْعَصْر إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» .
وَرَوَى عَنْهَا عَن أم سَلمَة مَرْفُوعا «أَنه نهَى عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، [وَبعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس] » .
والذى أجمع عَلَيْهِ أَكثر أهل الْعلم عَلَى (كَرَاهِيَة) الصَّلَاة حِينَئِذٍ إِلَّا مَا اسْتثْنى من ذَلِك (مثل) الصَّلَاة بِمَكَّة (بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَبعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس) بعد الطّواف، فقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رخصَة فِي ذَلِك.(3/262)
فَائِدَة (ثَانِيَة) : من غرائب الْأَحَادِيث رِوَايَة أَرْبَعَة من الصَّحَابَة بَعضهم عَن بعض صلَاته عَلَيْهِ السَّلَام رَكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر، وَهُوَ رِوَايَة عبد الله بن الزبير «أَنه كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر، وَقَالَ: أَخْبرنِي بهما أَبُو هُرَيْرَة عَن عَائِشَة، وَقَالَت عَائِشَة: أَخْبَرتنِي أم سَلمَة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُصَلِّيهمَا» .
قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ الْأَصْبَهَانِيّ فِي جُزْء لَهُ فِي رباعي الصَّحَابَة (وخماستهم) : هَذَا (الحَدِيث) لَهُ عِلّة طَوِيلَة أعيى الْحفاظ الْوُقُوف عَلَى حَقِيقَتهَا من كَثْرَة اخْتِلَاف رُوَاته لَا أعلم ذكر فِي إِسْنَاده رِوَايَة ابْن الزبير، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن عَائِشَة عَن أم سَلمَة، إِلَّا من هَذَا الْوَجْه.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رَأَى قيس بن قهد يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بعد الصُّبْح فَقَالَ: مَا هَاتَانِ الركعتان؟ ! قَالَ: إِنِّي لم أكن صليت رَكْعَتي الْفجْر، فَسكت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يُنكر عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَئِمَّة الشَّافِعِي، وَأحمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه.(3/263)
أما الشَّافِعِي فَرَوَاهُ فِي «الْأُم» عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن أبي قيس، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن جده قيس قَالَ: «رَآنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنا أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بعد الصُّبْح فَقَالَ: مَا هَاتَانِ الركعتان يَا قيس؟ ! (فَقلت) : إِنِّي لم أكن صليت رَكْعَتي الْفجْر فَسكت عَنهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من جِهَة الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن سعد بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، عَن قيس.
وَأما أَبُو دَاوُد فَرَوَاهُ من حَدِيث عبد الله بن نمير، عَن سعد بن سعيد وَقَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، عَن قيس بن عَمْرو قَالَ: «رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجلا يُصَلِّي بعد صَلَاة الصُّبْح رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: صَلَاة الصُّبْح رَكْعَتَانِ. فَقَالَ الرجل: إِنِّي لم أكن صليت الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قبلهمَا فصليتهما الْآن. فَسكت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
وَكَذَا أخرجه (أَحْمد) فِي «الْمسند» (إِلَّا) أَنه قَالَ: «أصلاة (الصُّبْح) مرَّتَيْنِ ... » الحَدِيث.
قَالَ أَبُو دَاوُد: نَا حَامِد بن يَحْيَى قَالَ: قَالَ سُفْيَان: كَانَ عَطاء بن (أبي) رَبَاح يحدث بِهَذَا الحَدِيث عَن سعد بن سعيد.(3/264)
قَالَ أَبُو دَاوُد: (و) رَوَى عبد ربه وَيَحْيَى (ابْنا) سعيد هَذَا الحَدِيث مُرْسلا «أَن [جدهم] صَلَّى مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... ) بِهَذِهِ الْقِصَّة مُرْسلا.
وَأما التِّرْمِذِيّ فَإِنَّهُ رَوَاهُ من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن سعد بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، عَن جده قيس قَالَ: «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأقيمت الصَّلَاة، فَصليت مَعَه الصُّبْح، ثمَّ انْصَرف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فوجدني أُصَلِّي قَالَ: مهلا يَا قيس، أصلاتان مَعًا؟ ! قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي لم أكن ركعت رَكْعَتي الْفجْر. قَالَ: فَلَا إِذا» . ثمَّ قَالَ: حَدِيث مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم لَا يعرف إِلَّا من حَدِيث سعد بن سعيد.
وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: سمع عَطاء بن أبي رَبَاح من سعد بن سعيد هَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا يرْوَى هَذَا الحَدِيث مُرْسلا.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَسعد بن سعيد هُوَ (أَخُو) يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَقيس هُوَ جد يَحْيَى بن سعيد، وَيُقَال: هُوَ قيس بن عَمْرو، وَيُقَال: (قيس) بن قهد. قَالَ: وَإسْنَاد هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِمُتَّصِل، (مُحَمَّد) بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ لم يسمع من قيس.
وَرَوَى بَعضهم هَذَا الحَدِيث عَن سعد بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خرج فَرَأَى قيسا ... » .(3/265)
(وَأما) ابْن مَاجَه فَرَوَاهُ من حَدِيث ابْن نمير؛ كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد إِلَّا أَنه قَالَ: (أصلاة الصُّبْح مرَّتَيْنِ) بدل: «صَلَاة الصُّبْح رَكْعَتَانِ» .
إِذا تقرر لَك طرق الحَدِيث؛ فقد أعل بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: (بالانقطاع) بَين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ وَقيس (كَمَا) أسلفناه عَن التِّرْمِذِيّ، وَتَبعهُ فِيهِ الْحَافِظ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» .
ثَانِيهمَا: (بالطعن) فِي سعد بن سعيد رَاوِيه، قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «الْوَهم وَالْإِيهَام» : (فَإِن) سعد بن سعيد مُخْتَلف فِيهِ. وَقد قَالَ فِيهِ أَحْمد بن حَنْبَل: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مؤد. قَالَ: وَقد اخْتلف فِي ضبط هَذِه اللَّفْظَة؛ فَمنهمْ من خففها - أَي: هَالك - وَمِنْهُم من شددها؛ أَي: حسن الْأَدَاء. قَالَ: والْحَدِيث من أَصله مُخْتَلف فِيهِ، لَا يُقَال فِيهِ: صَحِيح؛ بل حسن. هَذَا كَلَامه.
وَضَعفه بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ من الْمُتَأَخِّرين: النَّوَوِيّ أَيْضا؛ فَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ضَعِيف عِنْد أهل الحَدِيث،(3/266)
وَفِيه انْقِطَاع. وَكَذَا قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي «كِفَايَته» أَنه ضَعِيف مُنْقَطع أَو مُرْسل.
وَأَقُول: أما الطعْن فِيهِ من جِهَة سعد بن سعيد (رَاوِيه) فَلَيْسَ بجيد؛ فَإِنَّهُ وَإِن تكلم فِيهِ، فقد أخرج لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» محتجًّا بِهِ، وَأخرج لَهُ حَدِيث «من صَامَ رَمَضَان، ثمَّ أتبعه بِسِتَّة من شَوَّال كَانَ كصيام الدَّهْر» وَوَثَّقَهُ ابْن معِين، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَوهم ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» حَيْثُ نقل عَن ابْن حبَان توهِينه وَأَنه لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ فقد ذكر فِي «ثقاته» وَقَالَ: كَانَ يُخطئ لم يفحش خَطؤُهُ فَلذَلِك (سلكناه) مَسْلَك الْعُدُول، وَاحْتج بِهِ فِي «صَحِيحه» . نعم ذكر ابْن حبَان ذَلِك فِي سعد بن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، (وَقد وَقع لَهُ هَذَا الْوَهم فِي «الضُّعَفَاء» أَيْضا، لكنه ذكر كَلَامه فِيهِ وَفِي المَقْبُري) .
وَأما الطعْن فِيهِ من جِهَة الِانْقِطَاع فقد ثَبت اتِّصَاله من طَرِيق صَحِيحَة رَوَاهَا أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن ابْن خُزَيْمَة وَغَيره، نَا الرّبيع بن سُلَيْمَان، نَا أَسد بن مُوسَى، نَا اللَّيْث بن سعد، نَا يَحْيَى بن سعيد، عَن أَبِيه، عَن جده قيس بن قهد «أَنه صَلَّى مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الصُّبْح وَلم يكن (ركع) رَكْعَتي الْفجْر، فَلَمَّا سلم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[سلم(3/267)
مَعَه، ثمَّ] قَامَ يرْكَع رَكْعَتي الْفجْر وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينظر إِلَيْهِ فَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ» .
وَرَوَاهَا الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث الْأَصَم عَن الرّبيع بِهِ، وَلَفظه: (أَنه جَاءَ وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي صَلَاة الْفجْر فَصَلى مَعَه، فَلَمَّا سلم قَامَ فَصَلى رَكْعَتي الْفجْر، فَقَالَ [لَهُ] النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا هَاتَانِ الركعتان؟ ! فَقَالَ: لم أكن صليتهما قبل الْفجْر. فَسكت وَلم يقل شَيْئا) .
قَالَ الْحَاكِم: إِسْنَاده صَحِيح ذكره (شَاهدا لحَدِيث عمرَان) بن حُصَيْن فِي قصَّة الْوَادي. قَالَ: وَقيس بن (قهد) الْأنْصَارِيّ صَحَابِيّ وَالطَّرِيق إِلَيْهِ صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، قَالَ: وَقد رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن قيس بن قهد ثمَّ رَوَاهُ بِلَفْظ ابْن مَاجَه السالف.
تَنْبِيهَات: الأول: قد ظهر من الرِّوَايَات الَّتِي سقناها الِاخْتِلَاف فِي اسْم وَالِد قيس عَلَى قَوْلَيْنِ؛ وَقد ذكرهمَا التِّرْمِذِيّ كَمَا سلف، أَحدهمَا: قهد، الثَّانِي: عَمْرو، وَعَزاهُ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» إِلَى رِوَايَة الْأَكْثَرين وَأَنه الصَّحِيح عِنْد الْحفاظ، وَعَن العسكري: أَن قهدًا لقب، وَأَن اسْمه عَمْرو.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان: فصل ابْن السكن بَينهمَا فجعلهما رجلَيْنِ، وَذكر الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» عَن أبي مُوسَى الْحَافِظ: أَن(3/268)
العسكري رَوَاهُ من حَدِيث قيس بن شماس. (وَرَوَاهُ ابْن جريج) عَن عَطاء، عَن قيس بن سهل، وَهُوَ الصَّحِيح. قَالَ الْمُحب: كَذَا وَقع قيس بن سهل، وَلَعَلَّه غلط من نَاسخ؛ بل هُوَ قيس بن عَمْرو أَو ابْن قهد.
الثَّانِي: وَقع فِي «أَحْكَام» الْمُحب الطَّبَرِيّ: أَن التِّرْمِذِيّ حَّسن حَدِيث قيس هَذَا. وَلم أر ذَلِك فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ تَضْعِيفه كَمَا ذكره هُوَ بعد عَنهُ، وَذكر أَن لَفظه: (أصلاتان فِي يَوْم) ، وَالَّذِي رَأَيْته فِيهِ: (أصلاتان مَعًا) كَمَا قَدمته.
الثَّالِث: قهد وَالِد قيس بِفَتْح الْقَاف، ثمَّ هَاء سَاكِنة ثمَّ دَال - ضبطته لِئَلَّا يصحفه من لَا أنس لَهُ بِهَذَا الْفَنّ بفهد - بِالْفَاءِ - والقهد فِي اللُّغَة: الْأَبْيَض الأكدر.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْأَرْبَعين
رَوَى أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (نهَى عَن الصَّلَاة نصف النَّهَار حَتَّى تَزُول الشَّمْس، إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن إِسْحَاق بن عبد الله، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا بِهِ، وَهُوَ مخرج فِي «مُسْنده» .
وَإِبْرَاهِيم هَذَا قد عرفت حَاله فِي الطَّهَارَة. قَالَ ابْن عبد الْبر فِي(3/269)
«تمهيده» : إِبْرَاهِيم هَذَا هُوَ ابْن أبي يَحْيَى الْمدنِي، مَتْرُوك الحَدِيث. وَإِسْحَاق بعده فِي الْإِسْنَاد: هُوَ ابْن أبي فَرْوَة، ضَعِيف أَيْضا.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي خَالِد الْأَحْمَر، عَن شيخ من أهل الْمَدِينَة يُقَال لَهُ: عبد الله، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (تحرم - يَعْنِي الصَّلَاة - إِذا انتصف النَّهَار كل يَوْم، إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة) .
وَهَذَا الشَّيْخ يحْتَاج إِلَى معرفَة عينه وحاله. وَذكره الْأَثْرَم فِي «ناسخه ومنسوخه» من حَدِيث الْوَاقِدِيّ، عَن سعيد بن سَلمَة، عَن المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا كَمَا سلف، والواقدي حَالَته مَعْلُومَة.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث بشر بن عون، عَن بكار بن تَمِيم، عَن مَكْحُول، عَن وَاثِلَة [قَالَ] : «سَأَلَ سَائل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا بَال يَوْم الْجُمُعَة يُؤذن فِيهَا بِالصَّلَاةِ (فِي) نصف النَّهَار، وَقد نهيت عَن سَائِر الْأَيَّام؟ فَقَالَ: إِن الله يسعر جَهَنَّم كل يَوْم فِي نصف النَّهَار (ويحبسها) فِي يَوْم الْجُمُعَة» .
وَبشر هَذَا قَالَ (الْأَزْدِيّ) : مَجْهُول. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي عَن (بكار) بن تَمِيم، عَن مَكْحُول، عَن وَاثِلَة نُسْخَة (فِيهَا) مائَة(3/270)
حَدِيث كلهَا مَوْضُوعَة، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ بِحَال.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه «الْمعرفَة» من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي هُرَيْرَة قَالَا: (كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينْهَى عَن الصَّلَاة وسط النَّهَار إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة) ثمَّ قَالَ: فِي إسنادهما من لَا يحْتَج بِهِ، قَالَ: ولكنهما إِذا ضما إِلَى حَدِيث أبي قَتَادَة - يَعْنِي: الْآتِي بعد هَذَا - اكْتسب بعض الْقُوَّة، وَقَالَ فِي «سنَنه» : رُوِيَ فِي ذَلِك عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعَمْرو بن (عبسة) وَابْن عمر مَرْفُوعا.
قلت: وواثلة كَمَا سلف. قَالَ: والاعتماد عَلَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام اسْتحبَّ التبكير إِلَى الْجُمُعَة، ثمَّ رغب فِي الصَّلَاة إِلَى خُرُوج الإِمَام من غير تَخْصِيص وَلَا (اسْتثِْنَاء) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَاحْتج الشَّافِعِي لذَلِك بِمَا رَوَاهُ عَن ثَعْلَبَة عَن عَامَّة أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي دَار الْهِجْرَة «أَنهم كَانُوا يصلونَ نصف النَّهَار يَوْم الْجُمُعَة» .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْأَرْبَعين
«رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كره الصَّلَاة نصف النَّهَار، إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة وَقَالَ: إِن جَهَنَّم تسجر إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة» .(3/271)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث حسان بن إِبْرَاهِيم، عَن لَيْث - وَهُوَ ابْن أبي سليم - عَن مُجَاهِد، عَن أبي الْخَلِيل عبد الله بن الْخَلِيل، عَن أبي قَتَادَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه كره الصَّلَاة نصف النَّهَار إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة، وَقَالَ: [إِن] جَهَنَّم تسجر إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة» .
وَذكره الْأَثْرَم فِي «ناسخه (ومنسوخه) » وَقَالَ: (فَإِن جَهَنَّم تسجر كل يَوْم نصف النَّهَار، إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة) .
وَهَذَا حَدِيث مَعْلُول من أوجه:
أَحدهَا: انْقِطَاعه فِيمَا بَين أبي الْخَلِيل وَأبي قَتَادَة، نَص عَلَيْهِ غير وَاحِد. قَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ مُرْسل أَبُو الْخَلِيل لم يسمع من أبي قَتَادَة، وَمُجاهد (أكبر) من أبي الْخَلِيل. وَقَالَ الْأَثْرَم فِي «ناسخه ومنسوخه» : إِنَّه مَعْلُول بأوجه؛ مِنْهَا أَن أَبَا الْخَلِيل لم يلق (أَبَا) قَتَادَة (ورده) أَيْضا بِالْإِرْسَال عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» والرافعي فِي «شرح الْمسند» .
ثَانِيهَا: الطعْن فِي (رَاوِيه) وَهُوَ لَيْث بن أبي سليم، وَقد أسلفنا كَلَام الْحفاظ فِيهِ فِي بَاب الْوضُوء فِي الْكَلَام عَلَى حَدِيث الْفَصْل بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، وَأعله بِهِ الْأَثْرَم فِي «ناسخه ومنسوخه» وَقَالَ: أخْبرت عَن أبي عبد الله - يَعْنِي: أَحْمد بن حَنْبَل - أَنه قدم جَابر الْجعْفِيّ عَلَيْهِ فِي صِحَة الحَدِيث.(3/272)
ثَالِثهَا: أَن مِنْهُم من (يوقفه) ذكره ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» حاكيًا (لَهُ) عَن بَعضهم.
رَابِعهَا: ذكره الْأَثْرَم أَيْضا حَيْثُ قَالَ: إِنَّه لم يروه غير حسان بن إِبْرَاهِيم.
قلت: هُوَ (الْكرْمَانِي) قَاضِي كرمان من رجال الصَّحِيحَيْنِ، وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَأَبُو زرْعَة وَابْن معِين. (وَقَالَ) ابْن عدي: قد حدث بإفرادات كَثِيرَة، وَهُوَ عِنْدِي من أهل الصدْق، إِلَّا أَنه يغلط فِي الشَّيْء، وَلَيْسَ (مِمَّن) يظنّ بِهِ أَنه يتَعَمَّد فِي بَاب الرِّوَايَة إِسْنَادًا ومتنًا؛ وَإِنَّمَا هُوَ وهم مِنْهُ، وَهُوَ عِنْدِي لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ ابْن حبَان: رُبمَا أَخطَأ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
(فَائِدَة: تسجر - بِالسِّين الْمُهْملَة وَالْجِيم - توقد، قَالَ الْجَوْهَرِي: سجرت التَّنور أسجره سجرًا إِذا أحميته، وَمِنْه: (وَإِذا الْبحار سجرت) .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْأَرْبَعين
عَن مُجَاهِد، عَن أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَا صَلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَلَا صَلَاة بعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس، إِلَّا بِمَكَّة) .(3/273)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن عبد الله بن المؤمل، عَن حميد مولَى عفراء، عَن قيس بن سعد، عَن مُجَاهِد، عَن أبي ذَر «أنَّه (قَامَ) فَأخذ بِحَلقَة بَاب الْكَعْبَة، ثمَّ قَالَ: من عرفني فقد عرفني (وَمن لم يعرفنِي) فَأَنا جُنْدُب صَاحب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا صَلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَلَا صَلَاة بعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس، إِلَّا بِمَكَّة، إِلَّا بِمَكَّة، إِلَّا بِمَكَّة) .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن يزِيد، ثَنَا عبد الله بن المؤمل، عَن قيس بن سعد، عَن مُجَاهِد، عَن أبي ذَر (أَنه أَخذ بِحَلقَة بَاب الْكَعْبَة فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا صَلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَلَا بعد الْفجْر حَتَّى تطلع الشَّمْس، إِلَّا بِمَكَّة إِلَّا بِمَكَّة) .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ السَّابِق إِلَّا أَنه قَالَ: «قدم [أَبُو ذَر] مَكَّة، فَأخذ بِعضَادَتَيْ الْبَاب وَقَالَ: إِلَّا بِمَكَّة - مرَّتَيْنِ» كَرِوَايَة أَحْمد.
وأعل هَذَا الحَدِيث بِوُجُوه:
أَحدهَا: الطعْن فِي عبد الله بن المؤمل المَخْزُومِي قَاضِي مَكَّة، وَقد ضَعَّفُوهُ. قَالَ أَحْمد: أَحَادِيثه مَنَاكِير. وَقَالَ يَحْيَى: ضَعِيف الحَدِيث.(3/274)
وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِهِ بَأْس يُنكر عَلَيْهِ حَدِيثه. قَالَ ابْن الْقطَّان: إِن كَانَ قد وَثَّقَهُ ابْن معِين فَفِي بعض الرِّوَايَات عَنهُ (ضعفه وعلته شَيْئَانِ) أَحدهمَا: سوء الْحِفْظ، وَالْآخر: نَكَارَة الحَدِيث. (ونكارة الحَدِيث) كَافِيَة فِي إِسْقَاط الثِّقَة (بِمن) جربت عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ عَلّي بن الْجُنَيْد: (شبه) الْمَتْرُوك. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ قَلِيل الحَدِيث مُنكر الرِّوَايَة لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا انْفَرد، (ثمَّ) ذكر لَهُ مَا يُنكر عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة (حَدِيثه الضعْف) عَلَيْهِ بَين. وَذكر من جملَة مَا يُنكر عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث، قَالَ: وَبِه يعرف. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» : هُوَ سيئ الْحِفْظ فَلذَلِك اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَة عَنهُ، وَمَا علمنَا لَهُ (جرحة) تسْقط عَدَالَته، وَقد رَوَى عَنهُ جمَاعَة من (جلة) الْعلمَاء، وَفِي ذَلِك مَا (يرفع) من حَاله، (وَالِاضْطِرَاب) عَنهُ لَا يسْقط حَدِيثه، وَلم يقْدَح ذَلِك فِي روايتهم، وَقد اتّفق شَاهِدَانِ عَدْلَانِ عَلَيْهِ وهما الشَّافِعِي وَأَبُو نعيم وَلَيْسَ من لم يحفظ وَلم يقم، حجَّة عَلَى من أَقَامَ وَحفظ. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا كَلَام (أَوله) يُنَاقض آخِره. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث يعد فِي أَفْرَاد عبد الله بن المؤمل، وَعبد الله بن المؤمل ضَعِيف. قَالَ: إِلَّا أَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان قد تَابعه فِي ذَلِك عَن(3/275)
حميد وَأقَام إِسْنَاده ثمَّ ذكر ذَلِك بِإِسْنَادِهِ، وَاقْتصر عَلَى هَذَا الْوَجْه ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» فَقَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، ثمَّ نقل قَول أَحْمد وَيَحْيَى فِي عبد الله.
ثَانِيهَا: الطعْن فِي حميد مولَى عفراء، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: حميد الْأَعْرَج لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قلت: حميد هَذَا هُوَ ابْن قيس الْمَكِّيّ الْمُقْرِئ الْأَعْرَج أَبُو صَفْوَان، أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة، رَوَى عَنهُ الْأَئِمَّة: مَالك، والسفيانان، وَغَيرهمَا. قَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث قَارِئ أهل مَكَّة. وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بحَديثه؛ إِنَّمَا يَقع الْإِنْكَار (عَلَيْهِ) فِي حَدِيثه من قبل من يروي عَنهُ. وَاخْتلف قَول أَحْمد فِيهِ (فَمرَّة) قَالَ: ثِقَة وَعَلَيْهَا اقْتصر الْمزي فِي «تهذيبه» وَقَالَ مرّة: لَيْسَ (بِالْقَوِيّ) فِي الحَدِيث نقلهَا الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» .
وَاعْلَم أَن بعض شُيُوخنَا الْتبس عَلَيْهِ حميد بن قيس الْأَعْرَج هَذَا، (بحميد) بن عمار أَو عَلّي أَو عبيد أَو عَطاء (أَقْوَال) . الْأَعْرَج الْمَتْرُوك انْفَرد بِإِخْرَاج حَدِيثه التِّرْمِذِيّ؛ فَاعْترضَ (عَلَى) الْبَيْهَقِيّ فِي(3/276)
قَوْله: حميد الْأَعْرَج لَيْسَ بِالْقَوِيّ، فَقَالَ: تساهل فِي أمره، وَالَّذِي فِي الْكتب أَنه واهي الحَدِيث، وَقيل: ضَعِيف، وَقيل: مُنكر الحَدِيث، وَقيل: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن حبَان: رَوَى عَن عبد الله بن الْحَارِث (عَن ابْن مَسْعُود) نُسْخَة كَأَنَّهَا مَوْضُوعَة. وَهَذَا عَجِيب من هَذَا الْمُعْتَرض فطبقتهما مُخْتَلفَة؛ فَإِن هَذَا الْمَتْرُوك لم يرو (إِلَّا) عَن عبد الله بن الْحَارِث الْمُؤَذّن، وَحميد الآخر رَوَى عَن قيس بن سعد وَجَمَاعَة.
ثَالِثهَا: الِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده؛ فَرَوَاهُ سعيد بن سَالم، عَن عبد الله بن المؤمل، عَن حميد مولَى عفراء، عَن مُجَاهِد، عَن أبي ذَر وَلم يذكر قيس بن سعد.
أخرجه ابْن عدي فِي «كَامِله» من هَذَا الْوَجْه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عبد الله بن مُحَمَّد [الشَّافِعِي] عَن عبد الله بن المؤمل، عَن حميد الْأَعْرَج، عَن مُجَاهِد.
قلت: وَقد أسلفنا رِوَايَة أَحْمد لَهُ، عَن يزِيد، عَن ابْن المؤمل، عَن قيس، عَن مُجَاهِد وَلم أر فِيهِ حميد [عَن] قيس.
رَابِعهَا: الِانْقِطَاع فِيمَا بَين مُجَاهِد وَأبي ذَر، (نَص) عَلَى ذَلِك الْحفاظ. قَالَ أَبُو حَاتِم: مُجَاهِد عَن أبي ذَر مُرْسل. وَقَالَ ابْن عبد(3/277)
الْبر: مُجَاهِد لم يسمع مِنْهُ، (وَكَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا الْخَبَر مُنْقَطع) وَفِي ثُبُوته نظر، وَمُجاهد لَا يثبت لَهُ سَماع من أبي ذَر قَالَ صَاحب «الإِمَام» : مِمَّا يُؤَيّد هَذَا أَن ابْن عدي رَوَى هَذَا الحَدِيث فِي «كَامِله» من حَدِيث اليسع بن طَلْحَة الْقرشِي قَالَ: سَمِعت مُجَاهدًا يَقُول: بلغنَا أَن أَبَا ذَر قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَخذ بحلقتي (الْكَعْبَة) يَقُول ثَلَاثًا: لَا صَلَاة بعد الْعَصْر إِلَّا بِمَكَّة» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: اليسع بن طَلْحَة قد ضَعَّفُوهُ، والْحَدِيث مُنْقَطع، مُجَاهِد لم يدْرك أَبَا ذَر بِحَال. قَالَ ابْن عبد الْبر (عقب) ذكر حَدِيث حميد السالف: هَذَا حَدِيث وَإِن لم يكن بِالْقَوِيّ؛ لضعف حميد مولَى عفراء، وَلِأَن (مُجَاهدًا) لم يسمع من أبي ذَر فَفِي حَدِيث جُبَير بن مطعم (مِمَّا) يقويه وَهُوَ كَمَا قَالَ، وستعلم طرقه عَلَى الإثر.
تَنْبِيه: وَقع فِي «الْمعرفَة» للبيهقي إِطْلَاق دَعْوَى الْإِرْسَال عَلَى حَدِيث أبي ذَر هَذَا، وَهُوَ مُوَافق لقَوْل الْفُقَهَاء، والأصوليين، وَجَمَاعَة من الْمُحدثين، أَن الْمُرْسل مَا انْقَطع إِسْنَاده عَلَى أَي وَجه كَانَ انْقِطَاعه، فَهُوَ عِنْدهم بِمَعْنى الْمُنْقَطع، وَجُمْهُور الْمُحدثين قَالُوا: لَا يُسمى الحَدِيث مُرْسلا إِلَّا إِذا أخبر بِهِ التَّابِعِيّ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.(3/278)
الحَدِيث السَّادِس بعد الْأَرْبَعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (يَا بني عبد منَاف، من ولي مِنْكُم من أُمُور (النَّاس) شَيْئا فَلَا يمنعن أحدا طَاف بِالْبَيْتِ، وَصَلى أَيَّة سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الْأَئِمَّة: الشَّافِعِي وَأحمد فِي «مسنديهما» وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة من حَدِيث جُبَير بن مطعم رضى الله عَنهُ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة.
أما الشَّافِعِي فَأخْرجهُ عَن سُفْيَان، عَن أبي الزبير الْمَكِّيّ، عَن عبد الله بن باباه، عَن جُبَير مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء.
وَأما أَحْمد فَأخْرجهُ عَن مُحَمَّد بن بكر، نَا ابْن جريج، أَنا أَبُو الزبير، أَنه سمع عبد الله بن (بابيه) عَن جُبَير بن مطعم بِلَفْظ: (يَا بني عبد منَاف، وَيَا بني عبد الْمطلب، إِن كَانَ (لكم) من الْأَمر شَيْء (فَلَا اعرفن) مَا منعتم أحدا (أَن) يطوف بِهَذَا الْبَيْت (أَيَّة) سَاعَة شَاءَ(3/279)
من ليل أَو نَهَار» .
وَأما أَبُو دَاوُد فَأخْرجهُ فِي الْحَج، عَن ابْن السَّرْح، عَن سُفْيَان إِلَى جُبَير يبلغ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا تمنعوا أحدا يطوف بِهَذَا الْبَيْت، وَيُصلي أَي سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار» . (وَترْجم عَلَيْهِ بَاب الطّواف بعد الْعَصْر) .
وَأما التِّرْمِذِيّ فَأخْرجهُ فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي عمار وَعلي بن خشرم، عَن سُفْيَان بِهِ بِلَفْظ: (يَا بني عبد منَاف، لَا تمنعوا أحدا طَاف بِهَذَا الْبَيْت وَصَلى ... ) الحَدِيث.
وَأما (النَّسَائِيّ) فَأخْرجهُ فِي الْحَج أَيْضا عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن سُفْيَان (قَالَ) : «لَا يمنعن ... » وَفِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ سَوَاء.
وَأما ابْن مَاجَه فَأخْرجهُ فِي الصَّلَاة عَن يَحْيَى بن حَكِيم عَن سُفْيَان بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَقد رَوَاهُ عبد الله بن أبي نجيح، عَن عبد الله بن باباه أَيْضا.
وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن شَيْخه ابْن خُزَيْمَة(3/280)
(وَعمر) بن مُحَمَّد بن بجير قَالَا: ثَنَا عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء، ثَنَا سُفْيَان بِهِ بِلَفْظ: (يَا بني عبد الْمطلب، إِن كَانَ إِلَيْكُم من الْأَمر شَيْء فَلَا أَعرفن أحدا (مِنْكُم) أَن يمْنَع من يُصَلِّي عِنْد الْبَيْت أَيَّة سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار» .
قَالَ: وَأَنا عبد الله بن مُحَمَّد بن سلم، ثَنَا حَرْمَلَة بن يَحْيَى، (نَا) ابْن وهب، أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث، أَن أَبَا الزبير حَدثهُ، عَن ابْن باباه (أَنه) سمع جُبَير بن مطعم يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «يَا بني عبد منَاف، لَا تمنعوا أحدا طَاف (بِهَذَا الْبَيْت) وَصَلى (أَيَّة) سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار» .
قَالَ: وَأَنا أَبُو يعْلى، نَا هَارُون بن مَعْرُوف وَأَبُو خَيْثَمَة، نَا سُفْيَان، عَن (أبي) الزبير بِهِ. قَالَ ابْن حبَان: وَهَذَا الحَدِيث بِطرقِهِ دَال عَلَى أَن الزّجر الْمُطلق فِي حَدِيث عقبَة - يَعْنِي: السالف - عَام، وَيُرَاد بِهِ خَاص.
وَأخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي الْحَج عَن أبي بكر بن إِسْحَاق (و) هُوَ ابْن خُزَيْمَة، نَا بشر بن مُوسَى، نَا الْحميدِي نَا(3/281)
سُفْيَان بِهِ إِلَّا أَنه قَالَ: «أَيَّة سَاعَة أحب» بدل «أَيَّة سَاعَة شَاءَ» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عَمْرو بن عَلّي، عَن سُفْيَان بِهِ بِلَفْظ: «يَا بني عبد منَاف، إِن وليتم من هَذَا الْأَمر شَيْئا فَلَا تمنعن طَائِفًا طَاف بِهَذَا الْبَيْت وَصَلى أَيَّة سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار» .
وَمن حَدِيث الْجراح بن الْمنْهَال، عَن أبي الزبير، عَن نَافِع بن جُبَير، سمع أَبَاهُ جُبَير بن مطعم يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (يَا بني عبد منَاف - أَو يَا بني قصي - لَا تمنعوا أحدا أَن يطوف بِالْبَيْتِ وَيُصلي أَيَّة سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار» .
وَمن حَدِيث عمر بن قيس، عَن عِكْرِمَة بن خَالِد، عَن نَافِع، عَن أَبِيه رَفعه: «يَا بني عبد منَاف، لَا (تمنعن) أحدا يُصَلِّي عِنْد هَذَا الْبَيْت (أَيَّة) سَاعَة من ليل أَو نَهَار» .
وَمن حَدِيث عبد الْوَهَّاب بن مُجَاهِد، عَن عَطاء، عَن نَافِع، عَن أَبِيه رَفعه: «يَا بني عبد الْمطلب، لَا تمنعن مُصَليا عِنْد هَذَا الْبَيْت فِي سَاعَة من ليل أَو نَهَار» .
وَمن حَدِيث عَمْرو بن دِينَار، عَن نَافِع، عَن أَبِيه رَفعه: (يَا بني عبد منَاف، يَا بني هَاشم، إِن وليتم هَذَا الْأَمر يَوْمًا فَلَا يمنعن طَائِفًا بِهَذَا الْبَيْت أَو مُصَليا أَي سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار» .(3/282)
(و) قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعد إِيرَاد حَدِيث سُفْيَان أَقَامَ ابْن عُيَيْنَة إِسْنَاده وَمن خَالفه فِي الْإِسْنَاد لَا يقاومه؛ فرواية ابْن عُيَيْنَة أولَى أَن تكون مَحْفُوظَة، وَكَذَا قَالَ فِي «الْمعرفَة» أَن سُفْيَان رَوَاهُ، وَهُوَ حَافظ ثِقَة، وَالَّذين خالفوه دونه فِي الْحِفْظ والمعرفة.
تَنْبِيهَات: أَحدهَا: رُوِيَ من حَدِيث جَابر بن عبد الله وَابْن عَبَّاس مثل حَدِيث جُبَير بن مطعم، أما حَدِيث جَابر (فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث معقل بن عبيد الله، عَن أبي الزبير، عَن جَابر) قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يَا بني عبد منَاف، أَلا لَا تمنعوا أحدا صَلَّى عِنْد هَذَا الْبَيْت أَيَّة سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار» .
وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، نَا أَيُّوب، عَن أبي الزبير - أَظُنهُ عَن جَابر - أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا بني عبد منَاف، لَا تمنعوا أحدا (يطوف) بِهَذَا الْبَيْت أَيَّة سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار» .
وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث. شُرَيْح بن النُّعْمَان، نَا أَبُو الْوَلِيد الْعَدنِي، نَا رَجَاء أَبُو سعيد، أَنا مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا بني عبد الْمطلب - أَو يَا بني عبد منَاف - لَا تمنعوا أحدا يطوف بِالْبَيْتِ وَيُصلي؛ فَإِنَّهُ لَا صَلَاة بعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَلَا صَلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس إِلَّا [بِمَكَّة] عِنْد (هَذَا) الْبَيْت يطوفون وَيصلونَ» .(3/283)
قَالَ الضياء الْمَقْدِسِي: أَبُو الْوَلِيد (الْعَدنِي) لم أر لَهُ (ذكرا) فِي «الكنى» لأبي أَحْمد الْحَاكِم، ورجاء هُوَ ابْن الْحَارِث ضعفه ابْن معِين.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي «أَصْغَر معاجمه» عَن أَحْمد بن زَكَرِيَّا العابدي، نَا عبد الْوَهَّاب بن فليح (الْمَكِّيّ) ، نَا سليم بن مُسلم الخشاب، نَا ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا بني عبد منَاف، يَا بني عبد الْمطلب، إِن وليتم هَذَا الْأَمر فَلَا تمنعوا أحدا طَاف بِهَذَا الْبَيْت أَن يُصَلِّي أَيَّة سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار» .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: يَعْنِي رَكْعَتَيْنِ بعد طواف السَّبع (و) يُصَلِّي بعد الصُّبْح قبل طُلُوع الشَّمْس، وَبعد الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس، وَفِي كل النَّهَار، قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث لم يروه عَن ابْن جريج إِلَّا سليم بن مُسلم. وَرَوَاهُ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث إِبْرَاهِيم الصَّائِغ، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا بني عبد منَاف، إِن وليتم من هَذَا الْأَمر بعدِي فَلَا تمنعوا أحدا طَاف بِهَذَا الْبَيْت أَو صَلَّى أَيَّة سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار» .
وَفِي «كَامِل ابْن عدي» من حَدِيث سعيد بن أبي رَاشد، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَا صَلَاة بعد الْفجْر حَتَّى تطلع(3/284)
الشَّمْس، وَلَا (صَلَاة) بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، من طَاف فَليصل أَي حينٍ طَاف» .
وَقَالَ ابْن عدي: وَهَذَا يرويهِ عَن عَطاء سعيد، وَزَاد فِي مَتنه: «من طَاف فَليصل أَي حِين طَاف» قَالَ: (وَهُوَ يحدث) عَن عَطاء وغَيره بِمَا لَا يُتَابع عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: ذكره (البُخَارِيّ فِي «التَّارِيخ» ) وَقَالَ: لَا يُتَابع عَلَيْهِ.
التَّنْبِيه الثَّانِي: وهم صَاحب «الْمُنْتَقَى» فعزى هَذَا الحَدِيث إِلَى «صَحِيح مُسلم» فَقَالَ: رَوَاهُ الْجَمَاعَة إِلَّا البُخَارِيّ، وَهُوَ غلط (فَاحش) ، وَتَبعهُ عَلَى هَذَا الْوَهم الْمُحب فِي «أَحْكَامه» فَقَالَ: رَوَاهُ السَّبْعَة إِلَّا البُخَارِيّ فاحذر التَّقْلِيد، وَقد عثر فِي ذَلِك الشَّيْخ نجم الدَّين بن الرّفْعَة فِي «مطلبه» فَقَالَ: رَوَاهُ مُسلم وَلَفظه: (لَا تمنعوا أحدا طَاف بِهَذَا الْبَيْت وَصَلى (أَي) سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار) وليت شعري من أَيْن أَخذ هَذَا اللَّفْظ، وَكَأَنَّهُ وَالله أعلم لما رَأَى صَاحب «الْمُنْتَقَى» وَهُوَ الْمجد ابْن تَيْمِية عزاهُ إِلَى الْجَمَاعَة دون البُخَارِيّ اقتطع مُسلما من بَينهم، وَاكْتَفَى بِهِ عَنْهُم ثمَّ ذكره بِلَفْظِهِ وَفِي جَوَاز فعل مثل ذَلِك نظر.
التَّنْبِيه الثَّالِث: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِالصَّلَاةِ الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الحَدِيث صَلَاة الطّواف خَاصَّة، قَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَه بالآثار، وَيحْتَمل جَمِيع الصَّلَوَات.(3/285)
قَالَ ابْن الصّلاح فِي «مُشكل الْوَسِيط» : وَالْأول قوي، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أبي دَاوُد: «لَا تمنعوا أحدا يطوف بِهَذَا الْبَيْت، وَيُصلي أَي سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار» .
قلت: وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ، وَالطَّبَرَانِيّ لحَدِيث ابْن عَبَّاس وَغير ذَلِك مِمَّا سلف من رِوَايَات (حَدِيث) جُبَير بن مطعم، وَرِوَايَة ابْن حبَان السالفة تقَوِّي الثَّانِي، (وَأَنَّهَا تشرع وَإِن لم يطف) .
التَّنْبِيه الرَّابِع: عبد الله بن باباه يُقَال هَكَذَا، وَيُقَال: ابْن بابيه - وَقد سلفا - وَيُقَال: ابْن بَابي، وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: هَؤُلَاءِ ثَلَاثَة مُخْتَلفُونَ، قَالَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْبَراء: وَالْقَوْل عِنْدِي (مَا قَالَ) البُخَارِيّ وَابْن الْمَدِينِيّ أَن الْكل وَاحِد لَا مَا قَالَ يَحْيَى.
الحَدِيث السَّابِع بعد الْأَرْبَعين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَا صَلَاة بعد طُلُوع الْفجْر إِلَّا رَكعَتَا الْفجْر) .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق أشهرها من طَرِيق عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ الْأَئِمَّة أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ.(3/286)
أما أَحْمد فَأخْرجهُ عَن عَفَّان، نَا وهيب، نَا قدامَة بن مُوسَى، نَا أَيُّوب بن حُصَيْن التَّمِيمِي، عَن أبي عَلْقَمَة مولَى عبد الله بن عَبَّاس، عَن يسَار مولَى عبد الله بن عمر قَالَ: «رَآنِي ابْن عمر وَأَنا أُصَلِّي بعد مَا طلع الْفجْر، فَقَالَ: يَا يسَار (كم صليت) ؟ قلت: لَا أَدْرِي. قَالَ: (لَا دَريت) ! إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج علينا وَنحن نصلي هَذِه الصَّلَاة فَقَالَ: أَلا ليبلغ شاهدكم غائبكم (أَن) لَا صَلَاة بعد (الصُّبْح) إِلَّا سَجْدَتَانِ» .
وَأما أَبُو دَاوُد فَأخْرجهُ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا وهيب، ثَنَا قدامَة بِهِ إِلَى قَوْله: (بعد طُلُوع الْفجْر) وَلَفظه فِي (الْبَاقِي) : فَقَالَ: «يَا يسَار، إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج علينا وَنحن نصلي هَذِه الصَّلَاة، فَقَالَ: ليبلغ شاهدكم غائبكم، لَا تصلوا بعد الْفجْر إِلَّا سَجْدَتَيْنِ» .
وَأما التِّرْمِذِيّ فَأخْرجهُ عَن أَحْمد بن بن (عَبدة) الضَّبِّيّ، نَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد (عَن) قدامَة بن مُوسَى، عَن مُحَمَّد بن الْحصين، عَن أبي (عَلْقَمَة) عَن يسَار، عَن ابْن عمر رَفعه: (لَا صَلَاة بعد الْفجْر إِلَّا سَجْدَتَيْنِ) .
وَأما الدَّارَقُطْنِيّ فَأخْرجهُ عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن مرداس، عَن أبي دَاوُد كَمَا سلف.
وَعَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان (الْمَالِكِي) عَن أَحْمد بن عَبدة كَمَا(3/287)
سلف لَكِن بِلَفْظ: عَن يسَار مولَى ابْن عمر قَالَ: «رَآنِي ابْن عمر أُصَلِّي بعد الْفجْر فحصبني (وَقَالَ) : يَا يسَار كم صليت؟ قلت: لَا أَدْرِي، قَالَ: لَا دَريت! إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج علينا (وَنحن نصلى هَذِه الصَّلَاة فتغيظ علينا) (تغيظًا) شَدِيدا ثمَّ قَالَ: ليبلغ شاهدكم [غائبكم] (أَن لَا) صَلَاة بعد طُلُوع الْفجْر إِلَّا سَجْدَتَيْنِ) .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث قدامَة بن مُوسَى، وَرَوَى (عَنهُ) غير وَاحِد وَهُوَ مِمَّا أجمع عَلَيْهِ أهل الْعلم، كَرهُوا أَن (يُصَلِّي الرجل) بعد طُلُوع الْفجْر (إِلَّا رَكْعَتي الْفجْر، وَمَعْنى هَذَا الحَدِيث: (لَا صَلَاة بعد طُلُوع الْفجْر إِلَّا رَكْعَتي الْفجْر) هَذَا (آخر) كَلَامه) .
وَقد عرفنَا هَذَا الحَدِيث من غير حَدِيث قدامَة (رَوَاهُ) الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع عَن (ابْن) عمر مَرْفُوعا: (لَا صَلَاة بعد طُلُوع الْفجْر إِلَّا رَكْعَتي الْفجْر) .
وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن مُحَمَّد بن النّيل، عَن أبي بكر بن يزِيد (بن) سرجس، عَن ابْن عمر «رَأَى مولَى لَهُ يُقَال لَهُ:(3/288)
يسَار يُصَلِّي بعد طُلُوع (الْفجْر) فَقَالَ: مَا هَذِه الصَّلَاة؟ ! فَقَالَ: شَيْء بَقِي عَلّي من حزبي. فَقَالَ ابْن عمر: خرج علينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِذا طلع الْفجْر (فَلَا) صَلَاة إِلَّا رَكْعَتَيْنِ؛ فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب) .
وَرَوَاهُ أَبُو يعْلى فِي «مُسْنده» عَن هَارُون بن مَعْرُوف، نَا ابْن (وهب) نَا يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عبيد الله بن زحر، عَن مُحَمَّد بن (أبي) أَيُّوب [عَن] أبي عَلْقَمَة مولَى بني هَاشم، عَن عبد الله بن عمر «أَنه رَأَى مولَى لَهُ يُقَال لَهُ: يسَار يُصَلِّي بعد الْفجْر فَنَهَاهُ، فَقَالَ (إِنَّه) بَقِي من حزبي. فَقَالَ لَهُ عبد الله: أَفلا أخَّرْتَهُ حَتَّى يكون ذَلِك من النَّهَار؟ ثمَّ قَالَ عبد الله: خرج علينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَالنَّاس يصلونَ بعد طُلُوع الْفجْر، فَقَالَ: إِنَّه لَا صَلَاة بعد الْفجْر إِلَّا رَكْعَتَانِ» .
وَرَوَاهُ ابْن عدي فِي تَرْجَمَة مُحَمَّد بن الْحَارِث الْحَارِثِيّ، عَن عمر ان بن مُوسَى بن فضَالة، نَا بنْدَار، نَا مُحَمَّد بن الْحَارِث، حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر رَفعه: (إِذا طلع الْفجْر فَلَا صَلَاة إِلَّا (الرَّكْعَتَيْنِ) قبل الْمَكْتُوبَة) .(3/289)
وَمُحَمّد بن الْحَارِث وَمُحَمّد بن [عبد الرَّحْمَن بن الْبَيْلَمَانِي] ضعيفان.
وَأما دَعْوَاهُ الْإِجْمَاع عَلَى كَرَاهِيَة الصَّلَاة بعد طُلُوع الْفجْر غير رَكْعَتي الْفجْر فَغَرِيب؛ فَالْخِلَاف فِيهِ مَشْهُور حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر وَغَيره حتي فِي مَذْهَبنَا؛ بل الرَّاجِح عندنَا أَن الْكَرَاهَة لَا تدخل وَقتهَا إِلَّا بِفعل الْفَرْض فَلهُ أَن يُصَلِّي قبله مَا شَاءَ.
قَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلفُوا فِي التَّطَوُّع بعد طُلُوع الْفجْر [سُوَى رَكْعَتي الْفجْر] (فَكرِهت) طَائِفَة ذَلِك، وَمِمَّنْ رَوَى عَنهُ أَنه كره (ذَلِك) عبد الله بن عمر، وَعبد الله بن عَمْرو، وَفِي (إسنادهما) مقَال. وَكره ذَلِك الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَالَ: مَا سَمِعت فِيهَا بِشَيْء. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانُوا يكْرهُونَ ذَلِك وَكره ذَلِك سعيد بن الْمسيب، والْعَلَاء بن زِيَاد، وَحميد بن عبد الرَّحْمَن.
وَمِمَّنْ قَالَ: لَا بَأْس أَن يتَطَوَّع الرجل بعد الْفجْر: الْحسن الْبَصْرِيّ، وَكَانَ مَالك يرَى أَن يفعل (ذَلِك) من فَاتَتْهُ صَلَاة (بِاللَّيْلِ) : وَفِي «أَحْكَام» الْمُحب الطَّبَرِيّ مَا نَصه: ذكر التَّوسعَة فِي التَّنَفُّل بعد رَكْعَتي الْفجْر، ثمَّ سَاق حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: (كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قَضَى (صلَاته) من آخر اللَّيْل نظر؛ فَإِن كنت مستيقظة حَدثنِي، وَإِن كنت نَائِمَة أيقظني وَصَلى رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ اضْطجع حَتَّى يَأْتِيهِ الْمُؤَذّن، فيؤذنه(3/290)
(بِالصَّلَاةِ) فَيصَلي رَكْعَتَيْنِ خفيفتين، ثمَّ يخرج إِلَى الصَّلَاة) .
أَخْرجَاهُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ قَالَ: ووَجه الدّلَالَة أَن الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اضْطجع (عقبهما) هما رَكعَتَا الْفجْر كَمَا (دلّ) عَلَيْهِ الْأَحَادِيث المصرحة بذلك. انْتَهَى مَا ذكره.
وَأعله ابْن الْقطَّان بِوَجْه آخر؛ فَقَالَ بعد أَن سَاقه من طَرِيق التِّرْمِذِيّ كل من فِي إِسْنَاده مَعْرُوف مَشْهُور إِلَّا مُحَمَّد بن الْحصين؛ (فَإِنَّهُ) مُخْتَلف فِيهِ ومجهول الْحَال، وَمَعَ ذَلِك كَانَ (عمر) بن عَلّي الْمقدمِي وَعبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي يَقُولَانِ: (عَن قدامَة بن مُوسَى، عَن مُحَمَّد بن الْحصين وَكَانَ وهيب وَحميد بن الْأسود يَقُولَانِ) : عَن أَيُّوب بن حُصَيْن.
وَقَالَ عُثْمَان بن عمر: ثَنَا قدامَة بن مُوسَى قَالَ: أَخْبرنِي رجل من بني حَنْظَلَة ذكر (هَذَا) الْخلاف فِيهِ البُخَارِيّ، وَلم يعرف هُوَ وَلَا ابْن أبي حَاتِم من حَاله بِشَيْء (فَهُوَ) عِنْدهمَا (مَجْهُول) .
وَذكر أَبُو دَاوُد رِوَايَة (وهيب) عَن قدامَة عَن أَيُّوب بن حُصَيْن(3/291)
كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ.
قلت: (أما) هَذَا الِاخْتِلَاف فقد رجح أَبُو حَاتِم مِنْهُ قَول من قَالَ مُحَمَّد بن الْحصين (وَكَذَا) وَابْن عَسَاكِر، لَكِن خَالف الدَّارَقُطْنِيّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «علله» وَقد سُئِلَ عَنهُ: هَذَا الحَدِيث يرويهِ الدَّرَاورْدِي، عَن قدامَة بن مُوسَى، عَن مُحَمَّد بن الْحصين، عَن أبي عَلْقَمَة مولَى ابْن عَبَّاس، عَن يسَار، مولَى ابْن عمر، عَن ابْن عمر، وَتَابعه (عَلَيْهِ) عمر بن عَلّي الْمقدمِي، وَخَالَفَهُمَا سُلَيْمَان بن بِلَال ووهيب (فروياه) عَن قدامَة بن مُوسَى، عَن أَيُّوب بن الْحصين، عَن أبي عَلْقَمَة، عَن يسَار (عَن) ابْن عمر. قَالَ: وَيُشبه أَن يكون القَوْل قَول سُلَيْمَان ووهيب؛ لِأَنَّهُمَا ثقتان.
وَأما قَوْله مَجْهُول الْحَال فَكَذَا نقل عَن الدَّارَقُطْنِيّ (أَيْضا) أَنه مَجْهُول لَكِن ذكره أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «ثقاته» فِي أَتبَاع التَّابِعين فَقَالَ: مُحَمَّد بن حُصَيْن يروي عَن أبي عَلْقَمَة مولَى ابْن عَبَّاس، وَكَانَ (أَبُو) عَلْقَمَة قَاضِيا بإفريقية (رَوَى) عَنهُ قدامَة بن مُوسَى.
قلت: وَسليمَان بن بِلَال والدراوردي أَيْضا، وَأعله ابْن حزم بِوَجْه آخر؛ فَقَالَ: يسَار مولَى ابْن عمر مَجْهُول. وَلَيْسَ كَمَا ذكر؛ فقد قَالَ(3/292)
فِي حَقه أَبُو زرْعَة: ثِقَة. وَقَالَ: النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث إِسْنَاده حسن، إِلَّا أَن فِي إِسْنَاده رجلا مَسْتُورا وَالظَّاهِر أَنه عَنى بالمستور مُحَمَّد بن الْحصين، وَقد عرفت عينه وحاله، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» بعد احتجاجه لمذهبه: أَن النَّوَافِل تحرم بِطُلُوع الْفجْر إِلَّا سنة الصُّبْح؛ إِن قَالُوا قد قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا (يعرف) إِلَّا من حَدِيث قدامَة. قُلْنَا: قدامَة مَعْرُوف، ذكره البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» وَأخرج عَنهُ (مُسلم) فِي «صَحِيحه» .
قلت: وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين وَأَبُو زرْعَة الرَّازِيّ.
الطَّرِيق الثَّانِي: من طرق الحَدِيث: عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (لَا صَلَاة بعد طُلُوع الْفجْر إِلَّا رَكْعَتَيْنِ) .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث وَكِيع، نَا سُفْيَان، نَا عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد بن أنعم، عَن عبد الله بن يزِيد، عَن عبد الله بن عَمْرو بِهِ، وَعبد الرَّحْمَن هَذَا (مُخْتَلف فِيهِ) ضعفه ابْن معِين فِي أحد قوليه، وَالنَّسَائِيّ. وَقَالَ أَحْمد: نَحن لَا نروي عَنهُ شَيْئا. وَقَالَ ابْن خراس: هَالك (مُخْتَلف فِيهِ) وَقَالَ يَحْيَى الْقطَّان: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قلت لِأَحْمَد بن صَالح: يحْتَج بِهِ؟ قَالَ: نعم. قلت: صَحِيح الْكتاب؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ أَحْمد بن صَالح: ثِقَة وينكر عَلَى من(3/293)
(تكلم) فِيهِ، وَقَالَ: من يتَكَلَّم فِيهِ (فَلَيْسَ بمقبول) ابْن أنعم من الثِّقَات. (وَكَانَ) ابْن وهب يطريه. وَكَانَ الثَّوْريّ يعظمه. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رَأَيْت البُخَارِيّ (يُقَوي أمره وَيَقُول) هُوَ مقارب الحَدِيث. وسنستوفي تَرْجَمته (فى) أَوَاخِر بَاب الْأَذَان - إِن شَاءَ الله - تَعَالَى وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» وَنقل كَلَام الْأَئِمَّة فِي تَضْعِيفه، وَقَالَ فِي «تَحْقِيقه» بعد استدلاله بِهِ: إِن قيل الأفريقي هَذَا (قَالَ) الدَّارَقُطْنِيّ (فِيهِ) : لَيْسَ بِقَوي. قُلْنَا: قد قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَا يسْقط حَدِيثه. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: فِي إِسْنَاده مقَال.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ جَعْفَر بن عون، عَن عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد، عَن عبد الله بن يزِيد، عَن عبد الله بن عَمْرو مَوْقُوفا عَلَيْهِ. قَالَ: وَالثَّوْري أحفظ من غَيره إِلَّا أَن عبد الرَّحْمَن الأفريقي غير مُحْتَج بقوله. قَالَ: وَله شَاهد من حَدِيث ابْن الْمسيب مُرْسلا وَسَيَأْتِي بعد هَذَا.
قلت: وَلِحَدِيث عبد الله بن (عَمْرو) هَذَا طَرِيق آخر بِدُونِ عبد الرَّحْمَن هَذَا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن قُتَيْبَة(3/294)
الْعَسْقَلَانِي، عَن مُحَمَّد بن خلف الْعَسْقَلَانِي، عَن (رواد) بن الْجراح، عَن سعيد بن بشير، عَن مطر الْوراق، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَا صَلَاة إِذا طلع الْفجْر إِلَّا رَكْعَتَيْنِ) .
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَا صَلَاة بعد الْفجْر إِلَّا سَجْدَتَيْنِ) .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَابْن عدي من حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَنهُ (بِهِ) وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن سعيد بن الْمسيب مُرْسلا، ثمَّ قَالَ: (وَقد رُوِيَ مَوْصُولا بِذكر أبي هُرَيْرَة فِيهِ، وَلَا يَصح وَصله.
وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بعد ذكر طَرِيق التِّرْمِذِيّ: رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من (طرق) فِيهَا جمَاعَة ضعفاء، وَلَا يَصح مِنْهَا كلهَا شَيْء (وأحسنها) حَدِيث التِّرْمِذِيّ، وَكَأَنَّهُ تبع ابْن حزم فِي التَّضْعِيف؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «محلاه» : الرِّوَايَة فِي أَن « (لَا) صَلَاة بعد طُلُوع الْفجْر إِلَّا رَكْعَتي الْفجْر» سَاقِطَة مطروحة مكذوبة كلهَا لم يروها أحد إِلَّا من طَرِيق (عبد الرَّحْمَن) بن زِيَاد بن أنعم، وَهُوَ هَالك.
قلت: قد عرفت حَاله فِيمَا مَضَى، قَالَ ابْن حزم: أَو من طَرِيق أبي(3/295)
بكر بن مُحَمَّد، وَهُوَ مَجْهُول لَا يُدْرَى (من) هُوَ، وَلَيْسَ هُوَ ابْن حزم.
قلت: الظَّاهِر أَنه ابْن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب أَخُو زيد بن مُحَمَّد رَوَى عَن جمَاعَة، وَعنهُ جمَاعَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ثِقَة لَا بَأْس بِهِ. قَالَ: أَو من طَرِيق (أبي) هَارُون الْعَبْدي، وَهُوَ سَاقِط، أَو من طَرِيق يسَار مولَى ابْن عمر، وَهُوَ مَجْهُول ومدلس عَن كَعْب بن مَرْوَان، لَا نَدْرِي من هُوَ، وَقد أسلفنا الْجَواب عَن قَوْله فِي يسَار.
تَنْبِيه: وَقع فِي كَلَام الْحَافِظ زكي الدَّين الْمُنْذِرِيّ عزو حَدِيث ابْن عمر السالف إِلَى ابْن مَاجَه، وَلَيْسَ هُوَ فِيهِ كَذَلِك؛ إِنَّمَا لَفظه: «ليبلغ شاهدكم غائبكم» فَحسب، وَقد قَالَ هُوَ فِي كَلَامه عَلَى «مُخْتَصر سنَن أبي دَاوُد» أخرجه ابْن مَاجَه مُخْتَصرا؛ فَأصَاب، وَوَقع فِي ذَلِك (أَيْضا) شَيخنَا قطب الدَّين عبد الْكَرِيم الْحلَبِي فِي كَلَامه عَلَى بعض أَحَادِيث الْمُحَلَّى وَكَأَنَّهُ قَلّدهُ فِيهِ، وَيُجَاب بِأَنَّهُمَا أَرَادَا أصل الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْأَرْبَعين
عَن أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: (كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يداوم عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر) .
هَذَا الحَدِيث سلف فِي الْبَاب بِنَحْوِهِ فِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ مَعَ مَا يُخَالِفهُ فَرَاجعه.(3/296)
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْأَرْبَعين
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: (مَا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يأتيني فِي يَوْم بعد الْعَصْر إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الْأسود ومسروق قَالَا: (نشْهد عَلَى عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: مَا كَانَ (يكون) يَوْمه الَّذِي كَانَ يكون (فِيهِ) عِنْدِي (إِلَّا) صلاهما رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي بَيْتِي - يَعْنِي: الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر) . وَرَوَى هُوَ وَالْبُخَارِيّ عَنْهَا قَالَت: (مَا ترك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر عِنْدِي قطّ) . وَقد سلف، وعنها: (صلاتان مَا تَركهمَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي بَيْتِي قطّ سرًّا وَعَلَانِيَة رَكْعَتَانِ (قبل) الْفجْر، وركعتان بعد الْعَصْر) وَقد سلف قَرِيبا حَدِيث أبي سَلمَة عَن عَائِشَة. وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي «صَحِيحه» عَنْهَا: «مَا من يَوْم كَانَ يَأْتِي عَلّي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا صَلَّى بعد الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ» .
الحَدِيث الْخَمْسُونَ
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي بعد الْعَصْر وَينْهَى عَنْهَا) .(3/297)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث (ابْن) إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن (عَمْرو) بن عَطاء، عَن ذكْوَان مولَى عَائِشَة أَنَّهَا حدثته «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي بعد الْعَصْر وَينْهَى عَنْهَا، ويواصل وَينْهَى عَن الْوِصَال» . وَابْن إِسْحَاق هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار (أَبُو) بكر، وَيُقَال: أَبُو عبد الله المطلبي، مَوْلَاهُم الْمدنِي الإِمَام صَاحب الْمَغَازِي، رَأَى أنسا، وَرَوَى عَن عَطاء وطبقته، وَعنهُ الْأَئِمَّة وَكَانَ مِمَّن يحوز (الْعلم) وَله غرائب فِي سَعَة مَا (رَوَى) وَهُوَ صَدُوق، وَحَدِيثه فَوق الْحسن، وَقد صَححهُ جمَاعَة. قَالَ أَحْمد: حسن الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة عَنهُ: كثير التَّدْلِيس. وَقَالَ ابْن (الْمَدِينِيّ: حَدِيث) حسن صَحِيح. وَأَثْنَى عَلَيْهِ أَيْضا مُحَمَّد بن (شهَاب) وَشعْبَة وَابْن عُيَيْنَة وَأَبُو زرْعَة وَالْبُخَارِيّ، ووثقة الْعجلِيّ وَابْن سعد. وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: حَدِيثه صَحِيح. وَقَالَ ابْن معِين فِي رِوَايَة الدوري والساجي: ثِقَة. وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ تَعْلِيقا وَاسْتشْهدَ بِهِ مُسلم فِي خَمْسَة أَحَادِيث.
وأفظع (مَالك القَوْل فِيهِ) فَقَالَ: هُوَ دجال من الدجاجلة، وَقد أنكر ذَلِك عَلَيْهِ غير وَاحِد حَتَّى قَالَ الْخَطِيب: أطلق مَالك لِسَانه فِي قوم(3/298)
معروفين بالثقة وَالصَّلَاح، وَقَالَ ابْن نمير: لم يعرفهُ مَالك وَلم يجالسه. وَقَالَ أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي: ذاكرت دحيمًا قَول مَالك فَرَأَى أَن ذَلِك لَيْسَ للْحَدِيث، إِنَّمَا ذَلِك؛ لِأَنَّهُ اتهمه (بِالْقدرِ) قَالَ ابْن نمير: وَقد كَانَ أبعد النَّاس (مِنْهُ - أَي) من الْقدر - وَذكر ابْن حبَان شبه (مقَالَته) هَذِه فِيهِ فَقَالَ فِي «ثقاته» : فِي أَتبَاع التَّابِعين: تكلم فِيهِ) رجلَانِ، هِشَام بن عُرْوَة وَمَالك بن أنس؛ أما هِشَام فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان: إِن ابْن إِسْحَاق حدث عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر؟ قَالَ: وَهل كَانَ يصل إِلَيْهَا؟ ! قَالَ ابْن حبَان: وَهَذَا لَيْسَ (مِمَّا) يجرح بِهِ الْإِنْسَان، وَذَلِكَ أَن التَّابِعين مثل الْأسود وعلقمة من أهل الْعرَاق، وَأبي سَلمَة وَعَطَاء ودونهما من أهل الْحجاز قد سمعُوا من عَائِشَة من غير أَن ينْظرُوا إِلَيْهَا، سمعُوا صَوتهَا، وَقبل النَّاس أخبارهم من غير أَن يصل إِلَيْهَا حَتَّى ينظر إِلَيْهَا عيَانًا، وَكَذَلِكَ ابْن إِسْحَاق كَانَ يسمع من فَاطِمَة والسّتْر من بَينهمَا مُسْبَل أَو بَينهمَا (حَائِل) بِحَيْثُ يسمع كَلَامهَا، فَهَذَا سَماع صَحِيح، والقادح فِيهِ بِهَذَا غير منصف.
وَأما مَالك؛ فَإِنَّهُ كَانَ ذَلِك مِنْهُ مرّة، ثمَّ عَاد إِلَى مَا يحب، وَذَلِكَ أَنه لم يكن بالحجاز أحد أعلم بأنساب الْعَرَب وأيامهم من مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَكَانَ يزْعم أَن مَالِكًا من موَالِي ذِي أصبح وَكَانَ مَالك يزْعم أَنه من أنفسهم، فَوَقع بَينهمَا (لهَذَا) مُعَارضَة، فَلَمَّا صنف مَالك(3/299)
«الْمُوَطَّأ» قَالَ (ابْن إسحاق) : ائْتُونِي بِهِ فَإِنِّي بيطاره، فَنقل ذَلِك إِلَى مَالك، فَقَالَ: (هُوَ) دجال من الدجاجلة يروي عَن الْيَهُود، وَكَانَ بَينهم مَا يكون بَين النَّاس، حَتَّى عزم مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَلَى الْخُرُوج إِلَى الْعرَاق فتصالحا حِينَئِذٍ، فَأعْطَاهُ مَالك عِنْد ذَلِك (الْوَدَاع) خمسين دِينَارا نصف ثَمَرَته تِلْكَ السّنة، وَلم يكن يقْدَح فِيهِ مَالك من أجل الحَدِيث، إِنَّمَا كَانَ يُنكر عَلَيْهِ تتبعه غزوات النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن أَوْلَاد الْيَهُود الَّذين أَسْلمُوا وحفظوا قصَّة خَيْبَر وَقُرَيْظَة وَالنضير وَمَا أشبههَا من الْغَزَوَات عَن أسلافهم، وَكَانَ ابْن إِسْحَاق يتتبع هَذَا عَنْهُم (ليَعْلَمَ، من غير أَن يحْتَج بهم، وَكَانَ مَالك لَا [يرَى] الرِّوَايَة إِلَّا عَن متقن صَدُوق فَاضل) يحسن مَا يروي، ويروي مَا يحدث.
قَالَ عَلّي بن الْحُسَيْن بن وَاقد: دخلت عَلَى ابْن الْمُبَارك وَإِذا هُوَ وَحده، فَقلت: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، كنت أشتهي أَن أَلْقَاك عَلَى هَذِه الْحَالة. قَالَ: هَات. قلت: مَا تَقول فِي مُحَمَّد بن إِسْحَاق؟ قَالَ: أما إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَدُوقًا - ثَلَاث مَرَّات.
وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: كَانَ (مُحَمَّد) بن إِسْحَاق ثبتًا فِي الحَدِيث. قَالَ ابْن حبَان: لم يكن أحد بِالْمَدِينَةِ يُقَارب ابْن إِسْحَاق فِي علمه وَلَا يوازيه فِي جمعه. وَكَانَ شُعْبَة سُفْيَان يَقُولَانِ: مُحَمَّد بن إِسْحَاق أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث، وَهُوَ من أحسن النَّاس سياقًا للْأَخْبَار، وَأَحْسَنهمْ حفظا لمتونها، وَإِنَّمَا أُذي؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُدَلس عَلَى الضُّعَفَاء؛ فَوَقع الْمَنَاكِير(3/300)
فِي رِوَايَته من قبل أُولَئِكَ، فَأَما إِذا بَين السماع فِيمَا يرويهِ فَهُوَ ثَبت يحْتَج بروايته.
قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَدُوق، وَالدَّلِيل عَلَى صدقه أَنه مَا رَوَى عَن أحد من الجلة إِلَّا وَرَوَى عَن رجل عَنهُ؛ فَهَذَا يدل عَلَى صدقه. وَفِي رِوَايَة أَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ سُئِلَ عَنهُ أَيْضا، فَقَالَ: ثِقَة قد أدْرك نَافِعًا (وَرَوَى) عَنهُ وَرَوَى (عَن رجل) عَنهُ، وَعَن رجل (عَن رجل) عَنهُ هَل يدل (ذَلِك) إِلَّا عَلَى الصدْق.
قَالَ ابْن حبَان: كَانَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق يكْتب عَن من فَوْقه وَمثله ودونه لرغبته فِي الْعلم وحرصه عَلَيْهِ (فَرُبمَا) يروي عَن رجل قد رَآهُ، ويروي عَن آخر عَنهُ فِي مَوضِع آخر، ويروي عَن رجل، عَن رجل عَنهُ، فَلَو كَانَ مِمَّن يسْتَحل الْكَذِب لم يحْتَج إِلَى الْإِنْزَال؛ بل كَانَ يحدث عَمَّن يرَاهُ ويقتصر عَلَيْهِ، فَهَذَا مِمَّا يدلك عَلَى صدقه وشهرة عَدَالَته فِي الرِّوَايَات. قَالَ يَحْيَى بن يَحْيَى وَذكر (عِنْده) مُحَمَّد بن إِسْحَاق: فوثقه. هَذَا آخر كَلَام ابْن حبَان، وَقد أوضح تَرْجَمته وأجاد.
وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الْقطَّان - وَهُوَ المدقق فِي النّظر -: (المتحصل) من أَمر ابْن إِسْحَاق الثِّقَة وَالْحِفْظ، وَلَا سِيمَا السّير (وَلم) يَصح عَلَيْهِ قَادِح.(3/301)
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله (ومنته) وَذكر فِيهِ من الْآثَار عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعبد الله بن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْحَائِض: تطهر قبل (طُلُوع) الْفجْر بِرَكْعَة يلْزمهَا الْمغرب وَالْعشَاء» وَهُوَ أثر مَشْهُور عَنْهُمَا (رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيّ) .
أما الأول (فَرَوَاهُ) من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن يَرْبُوع، عَن جده عبد الرَّحْمَن، عَن مولَى لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَالَ: (إِذا طهرت الْحَائِض قبل أَن تغرب الشَّمْس صلت الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا، وَإِذا طهرت (الْحَائِض) قبل أَن يطلع الْفجْر صلت الْمغرب وَالْعشَاء جَمِيعًا.
قَالَ الْخلال: (كَانَ) أَبُو عبد الله - يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل - (يَقُول) مُحَمَّد بن عُثْمَان (هَذَا) (كَانَ) ثِقَة، فِي إِسْنَاده مولَى لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف - لَعَلَّه - يَعْنِي أَنه مَجْهُول - قَالَ: وَكَانَ ابْن عُيَيْنَة يهم فِيهِ فَيَقُول: سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن يَرْبُوع وَإِنَّمَا هُوَ عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن يَرْبُوع، قيل لأبي عبد الله: رَوَاهُ حَاتِم والدراوردي - يَعْنِي عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان - (فَأَيّهمَا) أحب إِلَيْك؟ قَالَ: حَاتِم، وَحمل عَلَى الدَّرَاورْدِي يحدث أَحَادِيث مَنَاكِير.(3/302)
وَأما أثر ابْن عَبَّاس - وَهُوَ الثَّانِي - فَرَوَاهُ من حَدِيث زَائِدَة، عَن يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (إِذا طهرت الْمَرْأَة (فِي) وَقت صَلَاة الْعَصْر فلتبدأ بِالظّهْرِ (فلتصلها) ثمَّ (لتصل) الْعَصْر، وَإِذا طهرت فِي وَقت الْعشَاء الْآخِرَة فلتبدأ (فلتصل) الْمغرب وَالْعشَاء» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ لَيْث بن أبي سليم، عَن طَاوس وَعَطَاء، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (وَإِذا طهرت قبل الْفجْر صلت الْمغرب وَالْعشَاء) .
قَالَ: وَقيل (عَنهُ) عَنْهُمَا من قَوْلهمَا.
قَالَ: ورويناه عَن جمَاعَة من التَّابِعين سواهُمَا، وَعَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة من الْمَدِينَة، وَقَالَ فِي «خلافياته» قَالَ أَبُو بكر بن إِسْحَاق: وَلَا أعلم أحدا من الصَّحَابَة خالفهما فِي ذَلِك - يَعْنِي ابْن عَوْف وَابْن عَبَّاس.
قلت: وَفِي الْكتاب الْمُسَمَّى ب (بالموضح أَوْهَام الْجمع والتفريق) . لِلْحَافِظِ أبي بكر الْخَطِيب من حَدِيث عبَادَة بن نسي، عَن ابْن غنم «أَنه سَأَلَ معَاذ بن جبل عَن الْمَرْأَة تطهر قبل غرُوب الشَّمْس؛ قَالَ: تصلي الْعَصْر. (قَالَ) : قبل ذهَاب الشَّفق؟ قَالَ: تصلي الْمغرب.(3/303)
قَالَ: قبل طُلُوع الشَّمْس؟ قَالَ: تصلي الْفجْر. ثمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعلمنَا ويأمرنا أَن نعلم نِسَاءَنَا» .(3/304)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا)
بَاب الْأَذَان
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث فَأَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جمع بَين الصَّلَاتَيْنِ وَأسْقط الْأَذَان من الثَّانِيَة) .
هَذَا حَدِيث صَحِيح؛ فَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل فِي صفة حجه عَلَيْهِ السَّلَام: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام (فَأجَاز حَتَّى أَتَى (عَرَفَة)
» وسَاق الحَدِيث إِلَى أَن ذكر خطْبَة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثمَّ أذن، ثمَّ أَقَامَ فَصَلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ فَصَلى الْعَصْر، وَلم يصل بَينهمَا ... » وسنسوق الحَدِيث بِكَمَالِهِ فِي كتاب الْحَج إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَفِيه أَيْضا: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى الْمزْدَلِفَة فَصَلى (بهَا) الْمغرب وَالْعشَاء بِأَذَان وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ لم (يسبح) بَينهمَا شَيْئا» .(3/305)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ واللَّفْظ للْبُخَارِيّ (من حَدِيث ابْن) عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «جمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَين الْمغرب وَالْعشَاء بِجمع كل وَاحِدَة مِنْهُمَا بِإِقَامَة، وَلم يسبح بَينهمَا وَلَا عَلَى إِثْر وَاحِدَة مِنْهُمَا» .
مَعْنَى لم يسبح: لم (يصل) نَافِلَة، وَجمع: هِيَ الْمزْدَلِفَة.
وَلَفظ مُسلم: «جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بِجمع، صَلَّى الْمغرب ثَلَاثًا، وَالْعشَاء رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَة وَاحِدَة» .
وَفِي رِوَايَة للنسائي (صَلَّى كل وَاحِدَة مِنْهُمَا بِإِقَامَة وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: بِإِقَامَة وَاحِدَة) لكل صَلَاة، وَلم يناد فِي الأولَى» وَهِي مفسرة لرِوَايَة مُسلم، وَرِوَايَة البُخَارِيّ توضحها، وَهِي قصَّة وَاحِدَة.
وَفِي رِوَايَة (للشَّافِعِيّ: «لم (يناد) فِي وَاحِدَة مِنْهُمَا إِلَّا (بِإِقَامَة) ، وَفِي رِوَايَة (لَهُ) أُخْرَى نقلهَا ابْن عبد الْبر: «لم يناد بَينهمَا وَلَا عَلَى أثر (وَاحِدَة) مِنْهُمَا إِلَّا بِالْإِقَامَةِ» (وَفِي الصَّحِيحَيْنِ(3/306)
أَيْضا من حَدِيث أُسَامَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جمع بَين العشائين بِمُزْدَلِفَة بإقامتين) » .
قَالَ الْأَئِمَّة: وَرِوَايَة جَابر فِي إِثْبَات الْأَذَان مُقَدّمَة عَلَى رِوَايَة ابْن عمر؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة (ثِقَة لَا يعارضها شَيْء، وَلِأَنَّهُ أعرفهم بِأَمْر حجَّة الْوَدَاع، وَأَحْسَنهمْ سِيَاقَة لَهُ، وأشدهم مُحَافظَة عَلَى الاعتناء بِهِ، واستيعابه. وَذكر الطَّبَرِيّ فِي «تَهْذِيب الْآثَار» : «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صلاهما بِإِقَامَة وَاحِدَة» من حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَابْن عمر، وَأبي بن كَعْب، وَخُزَيْمَة بن ثَابت، وَأُسَامَة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وَمَا قدمْنَاهُ يُخَالِفهُ وَالْأَخْذ بِهِ أولَى (وَالله أعلم) .
الحَدِيث الثَّانِي
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذا حضرت الصَّلَاة فليؤذن لكم أحدكُم) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى أَصله من حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَنحن (شببة) متقاربون فَأَقَمْنَا عِنْده عشْرين لَيْلَة، وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رحِيما رَقِيقا فَظن أنَّا قد اشتقنا أهلنا، فسألنا عَمَّن تَرَكْنَاهُ من أهالنا فَأَخْبَرنَاهُ فَقَالَ: ارْجعُوا إِلَى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم، فَإِذا حضرت الصَّلَاة فليؤذن لكم أحدكُم، وليؤمكم أكبركم) .(3/307)
وَفِي رِوَايَة لَهما: (إِذا حضرت الصَّلَاة فأذنا ثمَّ أقيما، وليؤمكما أكبركما) .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (مُرُوهُمْ فليصلوا صَلَاة كَذَا فِي حِين كَذَا، (وَصَلَاة) كَذَا فِي حِين كَذَا) .
وَفِي رِوَايَة لَهُ وَهِي من أَفْرَاده: (وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) .
وَفِي مُسلم قَالَ خَالِد الْحذاء: (وَكُنَّا متقاربين فِي الْقِرَاءَة) .
وَفِي رِوَايَة لأبي حَاتِم بن حبَان: (وَكَانَا متقاربين) قَالَ: وَهَذِه اللَّفْظَة من كَلَام أبي قلَابَة أدرجها خَالِد الطَّحَّان. ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ، وَفِيه: قَالَ خَالِد: (فَقلت لأبي قلَابَة فَأَيْنَ الْقِرَاءَة؟ قَالَ: إنَّهُمَا كَانَا متقاربين) .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: (إِذا خرجتما فليؤذن أَحَدكُمَا وليقم وليؤمكما أكبركما) ، قَالَ: وَفِي هَذَا بَيَان عَلَى أَن قَوْله «فأذنا وأقيما» أَرَادَ بِهِ أَحدهمَا لَا كِلَاهُمَا.(3/308)
قلت: وَكَذَا ترْجم البُخَارِيّ عَلَيْهِ بَاب من قَالَ ليؤذن فِي السّفر مُؤذن وَاحِد، وَترْجم عَلَيْهِ بتراجم أخر مِنْهَا: الْأَذَان للْمُسَافِر إِذا كَانُوا جمَاعَة، (وَمِنْهَا رَحْمَة النَّاس والبهائم من كتاب الْأَدَب) وَمِنْهَا إجَازَة خبر الْوَاحِد.
فَائِدَة: قَوْله «رَقِيقا» - هُوَ بقافين - وَفِي بعض رِوَايَات البُخَارِيّ (بفاء وقاف) قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم، «ورأيتموني» مَعْنَاهُ: علمتموني، «والشببة» جمع شَاب مثل: كَاتب وكتبة، وسافر وسفرة، وَيجمع أَيْضا عَلَى شباب، قَالَه الْهَرَوِيّ. قَالَ: وَلَا يجمع فَاعل عَلَى فعال (غَيره) وَفِي حد الشَّبَاب اخْتِلَاف ذكرته فِي شرح الْعُمْدَة فِي كتاب النِّكَاح فَرَاجعه مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأبي سعيد الْخُدْرِيّ: «إِنَّك رجل تحب الْغنم والبادية، فَإِذا دخل وَقت الصَّلَاة فَأذن وارفع صَوْتك؛ فَإِنَّهُ لَا يسمع صَوْتك (حجر) وَلَا شجر وَلَا مدر إِلَّا شهد لَك يَوْم الْقِيَامَة» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» ، وَالْغَزالِيّ تبع إِمَامه إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْإِمَام تبع (القَاضِي) الْحُسَيْن، وَكَذَا هُوَ(3/309)
مَذْكُور فِي شرح ابْن دَاوُد (للمختصر) وَهُوَ من مُتَقَدِّمي الْأَصْحَاب، وَكَذَا هُوَ فِي الْحَاوِي (للماوردي) وَهُوَ (تَغْيِير) للْحَدِيث، وَصَوَابه مَا ثَبت فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» وَغَيره، عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ (أَنه) قَالَ لَهُ: «إِنِّي أَرَاك تحب الْغنم والبادية، فَإِذا كنت فِي غنمك [أَو] باديتك فَأَذنت بِالصَّلَاةِ فارفع صَوْتك بالنداء؛ فَإِنَّهُ لَا يسمع مدى صَوت الْمُؤَذّن جن وَلَا إنس (وَلَا شَيْء) إِلَّا شهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة» . قَالَ أَبُو سعيد: (سمعته) من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَذَا لَفظه وَهُوَ مَعْدُود من أَفْرَاده، وَكَذَا أخرجه مَالك فِي موطئِهِ وَأخرجه الشَّافِعِي عَنهُ كَذَلِك، غير أَنه لم يذكر فِيهِ «بالنداء» وَلم يذكر فِيهِ الْمُؤَذّن، بل قَالَ: «مدى صَوْتك» فصوابه أَن الْقَائِل لذَلِك (هُوَ) أَبُو سعيد للراوي عَنهُ، لَا جرم اعْترض ابْن الصّلاح فَقَالَ: أصل هَذَا الحَدِيث ثَابت، رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك، وَأخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن (ابْن) أبي أويس، عَن مَالك، لَكِن (قَول)(3/310)
صَاحب الْكتاب - يَعْنِي الْغَزالِيّ - وَشَيْخه: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لأبي سعيد: «إِنَّك رجل تحب الْغنم والبادية» وهم وتحريف (إِنَّمَا) الْقَائِل لذَلِك أَبُو سعيد للراوي عَنهُ، وَهُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة. وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «تنقيحه» : هَذَا الحَدِيث مِمَّا غَيره المُصَنّف وَشَيْخه وَالْمَاوَرْدِيّ وَالْقَاضِي حُسَيْن والرافعي وَغَيرهم من الْفُقَهَاء، فَجعلُوا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هُوَ قَائِل هَذَا الْكَلَام لأبي سعيد، وغيروا لَفظه أَيْضا، فَالصَّوَاب مَا ثَبت فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «الْمُوَطَّأ» وَجَمِيع كتب الحَدِيث، ثمَّ سَاق رِوَايَة البُخَارِيّ السالفة وَقَالَ: هَذَا لفظ رِوَايَة البُخَارِيّ وَسَائِر الْمُحدثين وَغَيرهم، وَأَبْدَى الشَّيْخ نجم الدَّين بن الرّفْعَة فِي «مطلبه» عذرا حسنا لهَؤُلَاء الْجَمَاعَة فَقَالَ: لَعَلَّ الْحَامِل للْقَاضِي عَلَى ذَلِك جعل قَول أبي سعيد: (سمعته) من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. عَائِدًا إِلَى كل مَا ذكره أَبُو سعيد للرواي عَنهُ، وَيكون تَقْدِيره: سَمِعت مثل مَا ذكرت لَك من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ كَذَلِك صَحَّ مَعَه مَا ذكره المُصَنّف وَمن (تبعه) بِاعْتِبَار الْمَعْنى لَا بِصُورَة اللَّفْظ، قَالَ: وَقد رَأَيْت فِي شرح ابْن دَاوُد (للمختصر) - وَهُوَ من مُتَقَدِّمي الْأَصْحَاب قبل الشَّيْخ أبي حَامِد وَأَتْبَاعه - مَا أودعهُ الْغَزالِيّ غير أَنه لم يقل فِيهِ: «فَأذن» وَلَكِن قَالَ فِيهِ: «فَأَذنت» - كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ - وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِيهِ أَمر بِالْأَذَانِ بل الْمَأْمُور فِيهِ رفع الصَّوْت إِن وجد الْأَذَان، وَلِهَذَا اسْتدلَّ بِهِ القَاضِي عَلَى رفع الصَّوْت فَقَط وَلَعَلَّه (المسموع) من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا (هَذَا القيل) ، وَلَقَد أوردهُ البُخَارِيّ فروَى عَنهُ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: ((3/311)
لَا يسمع مدى صَوت الْمُؤَذّن جن وَلَا إنس وَلَا شَيْء إِلَّا شهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة) .
فَائِدَة: المدى - بِفَتْح الْمِيم - مَقْصُور (وَيكْتب) بِالْيَاءِ، وَهُوَ الْغَايَة، وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين - إِن شَاءَ الله تعالي.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا كَانَ أحدكُم بِأَرْض فلاة فَدخل عَلَيْهِ وَقت صَلَاة، فَإِن صَلَّى بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة صَلَّى وَحده، وَإِن صَلَّى بِإِقَامَة صَلَّى بِصَلَاتِهِ ملكا، وَإِن صَلَّى بِأَذَان وَإِقَامَة صَلَّى خَلفه من الْمَلَائِكَة صف أَوَّلهمْ بالمشرق وَآخرهمْ بالمغرب» .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك القَاضِي وَغَيره وَهُوَ حَدِيث رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق، وَمَالك، وَالنَّسَائِيّ، وَالطَّبَرَانِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، وَغَيرهم مطولا ومختصرًا وَبَعْضهمْ رَوَاهُ مَرْفُوعا (وَبَعْضهمْ مَوْقُوفا) .
أما عبد الرَّزَّاق بن همام فَأخْرجهُ فِي كتاب الصَّلَاة عَلَى مَا نَقله الضياء فِي «أَحْكَامه» من حَدِيث سلمَان الْفَارِسِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا كَانَ الرجل بِأَرْض (قِيّ) (أَي قفر) فحانت الصَّلَاة، فَليَتَوَضَّأ، فَإِن لم يجد مَاء فليتيمم، فَإِن أَقَامَ صَلَّى مَعَه ملكاه، وَإِن أذّن(3/312)
وَأقَام صَلَّى خَلفه من جنود الله - تَعَالَى - مَا لَا يُرى طرفاه» .
وَأخرجه أَبُو مُحَمَّد بن حبَان - عَلَى مَا عزاهُ إِلَيْهِ صَاحب «الإِمَام» - عَن إِسْحَاق بن (حَكِيم) ، عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن (ابْن) التَّيْمِيّ، عَن أَبِيه، عَن أبي عُثْمَان، عَن سلمَان مَرْفُوعا بِهِ.
وَأما مَالك فَأخْرجهُ فِي «الْمُوَطَّأ» عَن يَحْيَى بن (سعيد) ، عَن سعيد بن الْمسيب أَنه كَانَ يَقُول: «من صَلَّى بِأَرْض فلاة صَلَّى عَن يَمِينه ملك، وَعَن شِمَاله ملك، (وَإِن) أذن وَأقَام الصَّلَاة صَلَّى وَرَاءه من الْمَلَائِكَة أَمْثَال الْجبَال» .
وَقيل: إِن (فِي) رِوَايَة القعْنبِي: «أذن وَأقَام» حَكَاهُ صَاحب «الإِمَام» .
قَالَ الدارقطني فِي «علله» : وَهَذَا حَدِيث يرويهِ يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَاخْتلف عَنهُ فَرَوَاهُ اللَّيْث، عَن يَحْيَى، (عَن) ابْن الْمسيب، عَن معَاذ. وَخَالفهُ مَالك فَرَوَاهُ عَن يَحْيَى، عَن ابْن الْمسيب قَوْله. وَقَول اللَّيْث أصح، قَالَ: وَمن عَادَة مَالك إرْسَال الْأَحَادِيث وَإِسْقَاط رجل.(3/313)
وَأما النَّسَائِيّ (فَأخْرجهُ) فِي كتاب المواعظ من «سنَنه» عَن سُوَيْد بن نصر، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن مل - وَهُوَ أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ - عَن سلمَان مَرْفُوعا: «إِذا كَانَ الرجل فِي أَرض فَتَوَضَّأ فَإِن لم يجد المَاء تيَمّم، ثمَّ يُنَادي بِالصَّلَاةِ، ثمَّ يقيمها (و) يُصليهَا إِلَّا أم من جنود الله صفًّا» قَالَ عبد الله: وَزَادَنِي سُفْيَان، عَن دَاوُد، عَن أبي عُثْمَان، عَن سلمَان: (يَرْكَعُونَ بركوعه، ويسجدون بسجوده، ويؤمنون عَلَى دُعَائِهِ) وَكتاب المواعظ من النَّسَائِيّ مَوْجُود فِي رِوَايَة حَمْزَة بن عَمْرو الْكِنَانِي فَحَذفهُ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر كَمَا نبه عَلَيْهِ (الْمزي) فِي «أَطْرَافه» .
وَأما الطَّبَرَانِيّ (فَإِنَّهُ أخرجه) فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث أبي نعيم، نَا عِيسَى بن قرطاس، حَدثنِي الْمسيب بن (رَافع) لَا أعلمهُ إِلَّا عَن زر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (إِذا كَانَ الرجل بِأَرْض قي فحانت الصَّلَاة فَليَتَوَضَّأ، فَإِن لم يجد مَاء فليتيمم، فَإِن أَقَامَ صَلَّى مَعَه ملكاه، وَإِن أذن وَأقَام صَلَّى (خَلفه) من جنود الله من لَا يرَى طرفاه) .
وَأما الْبَيْهَقِيّ فَإِنَّهُ أخرجه من حَدِيث عبد الْوَهَّاب بن عَطاء، نَا(3/314)
سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ، عَن سلمَان قَالَ: «لَا يكون (رجل) بِأَرْض قي فيتوضأ أَو يتَيَمَّم صَعِيدا طيبا فينادي بِالصَّلَاةِ، ثمَّ يقيمها (فَيصَلي) » وَفِي رِوَايَة: « (فيقيمها) إِلَّا أم من جنود الله (من) لَا يرَى (قطراه) أَو قَالَ: طرفاه» شكّ التَّيْمِيّ.
ثمَّ أخرجه من حَدِيث (يزِيد) بن هَارُون، نَا سُلَيْمَان، عَن أبي عُثْمَان، عَن سلمَان قَالَ: (لَا يكون رجل بِأَرْض قي فيتوضأ إِن وجد مَاء، (وَإِلَّا) (يتَيَمَّم) فينادي بِالصَّلَاةِ، ثمَّ يقيمها إِلَّا أَمَّ من جنود الله مَا لَا يرَى طرفاه - أَو قَالَ: طرفه) . ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيح مَوْقُوف، قَالَ: وَقد (رَوَى) مَرْفُوعا (قَالَ) : وَلَا يَصح رَفعه، ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ، عَن سلمَان مَرْفُوعا: (مَا من رجل يكون بِأَرْض قيًّ فَيُؤذن بِحَضْرَة الصَّلَاة، وَيُقِيم الصَّلَاة (فَيصَلي) ، إِلَّا (صَلَّى) خَلفه من الْمَلَائِكَة مَا لَا يرَى (قطراه) يَرْكَعُونَ بركوعه، ويسجدون بسجوده، ويؤمنون عَلَى دُعَائِهِ) .(3/315)
وَرَوَاهُ ابْن طَاهِر فِي «تَذكرته» من حَدِيث يزِيد بن سُفْيَان، عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن أبي عُثْمَان، عَن سلمَان وَلَفظه: (من كَانَ بفلاة من الأَرْض، ثمَّ أذن وَأقَام، صَلَّى مَعَه من جنود الله مَا لَا يرَى طرفاه) . قَالَ: وَيزِيد هَذَا لَيْسَ بِحجَّة.
قلت: وَيروَى أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة مَرْفُوعا: (إِذا كَانَ الرجل بِأَرْض فلاة فَحَضَرَ وَقت (الصَّلَاة) ، فَأذن ثمَّ أَقَامَ وَرفع صَوته، ثمَّ صَلَّى صَلَّى خَلفه أَمْثَال الْجبَال من الْمَلَائِكَة، وَإِذا صَلَّى وَلم يُؤذن لم (يصل) مَعَه إِلَّا (ملكاه)) .
وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «حلية الْأَوْلِيَاء» من حَدِيث (ضَمرَة) عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عَطاء، عَن كَعْب الْأَحْبَار: (إِذا صَلَّى الرجل بِأَذَان وَإِقَامَة، صَلَّى مَعَه من الْمَلَائِكَة مَا يسد الْأُفق، وَإِذا صَلَّى بِإِقَامَة، صَلَّى مَعَه ملكاه) .
قلت: فَحَدِيث سلمَان الْمَوْقُوف هُوَ الْعُمْدَة، وَالْبَاقِي شَوَاهِد لَهُ، وَلَا يخْفَى التسامح فِي بَاب الْفَضَائِل.
فَائِدَة: قَوْله: «أَرض قيًّ - هُوَ بِالْقَافِ - أَي قفر كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن الصّلاح.
ثمَّ قيل: المُرَاد بِالْحَدِيثِ إِذا كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَنَحْوهَا؛ لِأَن الْمَدِينَة عَلَى يسَار الْكَعْبَة فَيصير (هُنَا صف) أَوله الْمشرق وَآخره الْمغرب،(3/316)
وَعَلَى مثل هَذَا حمل الحَدِيث السائر: (مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة) . وَقيل: المُرَاد التَّقْدِير بِمَعْنى لَو فعل هَكَذَا صَلَّى (و) مَعَه صف من الْمَلَائِكَة يبلغ هَذَا الْمِقْدَار، حَكَاهُمَا ابْن الرّفْعَة فِي «مطلبه» ، قَالَ: وَلَعَلَّ المُرَاد بالملكين فِي خبر سعيد بن الْمسيب السَّابِق «الْحفظَة» ؛ لِأَنَّهُمَا حاضران مَعَه فَلَا يحتاجان إِلَى نِدَاء.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (حبسنا عَن الصَّلَاة يَوْم الخَنْدَق حَتَّى كَانَ بعد الْمغرب وهويًا من اللَّيْل، فَدَعَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِلَالًا فَأَقَامَ الظّهْر فَصلاهَا، ثمَّ أَقَامَ الْعَصْر فَصلاهَا، ثمَّ أَقَامَ الْمغرب فَصلاهَا، ثمَّ أَقَامَ الْعشَاء فَصلاهَا، وَلم يُؤذن لَهَا مَعَ الْإِقَامَة) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن ابْن أبي فديك، (عَن ابْن أبي ذِئْب) عَن المَقْبُري، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، عَن أبي سعيد قَالَ: (حبسنا يَوْم الخَنْدَق عَن الصَّلَاة، حَتَّى كَانَ بعد الْمغرب بهوي من اللَّيْل حَتَّى كفيناه، وَذَلِكَ قَول الله - تَعَالَى -: (وَكَفَى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَكَانَ الله قويًّا عَزِيزًا) فَدَعَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِلَالًا فَأمره فَأَقَامَ الظّهْر فَصلاهَا فَأحْسن صلَاتهَا كَمَا كَانَ يُصليهَا فِي وَقتهَا، ثمَّ أَقَامَ الْعَصْر فَصلاهَا كَذَلِك، ثمَّ أَقَامَ الْمغرب فَصلاهَا كَذَلِك (ثمَّ أَقَامَ الْعشَاء فَصلاهَا كَذَلِك) أَيْضا، قَالَ: وَذَلِكَ(3/317)
قبل أَن ينزل فِي صَلَاة الْخَوْف (فرجالًا أَو ركبانًا) وَهُوَ مخرج فِي «مُسْند الشَّافِعِي» ، و «السّنَن المأثورة» وَالَّتِي رَوَاهَا الْمُزنِيّ عَنهُ أَيْضا.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» (أَيْضا بقريب من هَذَا اللَّفْظ وَبِنَحْوِ من رِوَايَة الرَّافِعِيّ وَرِوَايَة النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» ) عَن عَمْرو بن عَلّي، عَن يَحْيَى، (عَن) ابْن أبي ذِئْب بِالْإِسْنَادِ قَالَ: (شغلنا الْمُشْركُونَ يَوْم الخَنْدَق عَن صَلَاة الظّهْر حَتَّى غربت الشَّمْس، وَذَلِكَ قبل أَن ينزل فِي الْقِتَال، فَأنْزل الله - تَعَالَى -: (وَكَفَى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال (فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِلَالًا فَأذن لِلظهْرِ فَصلاهَا فِي وَقتهَا، ثمَّ أذن للعصر فَصلاهَا فِي وَقتهَا، ثمَّ أذن للمغرب فَصلاهَا فِي وَقتهَا) ، كَذَا نقلته من أصل أصيل (لكتاب) النَّسَائِيّ، وَوَقع لعبد الْحق والنَّوَوِيّ اخْتِلَاف فِي النَّقْل عَنهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : ورواة هَذَا الحَدِيث كلهم ثِقَات؛ فقد احْتج مُسلم بِعَبْد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وسائرهم مُتَّفق عَلَى عدالتهم.(3/318)
قلت: لَا جرم أخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن شَيْخه ابْن خُزَيْمَة، نَا مُحَمَّد بن بشار، نَا يَحْيَى بن سعيد، عَن ابْن أبي ذِئْب، نَا سعيد المَقْبُري، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، عَن أَبِيه قَالَ: (حبسنا يَوْم الخَنْدَق حَتَّى كَانَ بعد الْمغرب وَذَلِكَ قبل أَن ينزل الْقِتَال، فَلَمَّا كفينا [فِي] الْقِتَال - وَذَلِكَ قَول الله - تَعَالَى -: (وَكَفَى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَكَانَ الله قويًّا عَزِيزًا) - أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِلَالًا فَأَقَامَ الظّهْر (فَصَلى) كَمَا كَانَ يُصليهَا فِي وَقتهَا، ثمَّ أَقَامَ الْعَصْر (فَصَلى) كَمَا كَانَ يُصليهَا فِي وَقتهَا، ثمَّ أَقَامَ الْمغرب (فَصَلى) كَمَا كَانَ يُصليهَا فِي وَقتهَا» وَذكره ابْن السكن أَيْضا (فِي «صحاحه» .
قَالَ الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : وَرَوَى أَبُو عَلّي الزَّعْفَرَانِي، عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ) فِي كِتَابه الْقَدِيم: أَنا غير وَاحِد، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن المَقْبُري ... وَذكر الحَدِيث، لَكِن قَالَ: (بعد الْعشَاء بهوي من اللَّيْل، فَأمر بِلَالًا فَأذن فَأَقَامَ فَصَلى الظّهْر، ثمَّ أمره فَأَقَامَ فَصَلى الْعَصْر ... ) وَذكر بَاقِي الحَدِيث. قَالَ: فقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَن ابْن أبي ذِئْب فِي الْأَذَان لِلظهْرِ، والأثبت (عَنهُ) مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» .(3/319)
قلت: لَكِن لَهُ شَاهد عَلَى الْأَذَان رَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث مُؤَمل، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق، عَن مُجَاهِد، عَن جَابر بن عبد الله: (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شغل يَوْم الخَنْدَق عَن صَلَاة الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء، فَأمر بِلَالًا فَأذن وَأقَام فَصَلى الظّهْر، ثمَّ (أمره) فَأَقَامَ فَصَلى الْعَصْر، ثمَّ أمره (فَأذن وَأقَام) فَصَلى الْمغرب، ثمَّ أمره فَأذن وَأقَام فَصَلى الْعشَاء، ثمَّ قَالَ: مَا عَلَى وَجه الأَرْض قوم يذكرُونَ الله هَذِه السَّاعَة غَيْركُمْ) (ثمَّ)) قَالَ الْبَزَّار: هَذَا حَدِيث لَا نعلمهُ يرْوَى عَن جَابر بِهَذَا اللَّفْظ إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَقد اخْتلف عَن مُجَاهِد فَرَوَاهُ مُؤَمل من حَدِيث عبد الْكَرِيم عَنهُ، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن عبد الله، وَهَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ رَوَاهُ عَن حَمَّاد بن سَلمَة بِهَذَا الْإِسْنَاد إِلَّا مُؤَمل.
قلت: وَقد ضعفه أَبُو حَاتِم، وَعبد الْكَرِيم كذب وَترك، وَأخرج لَهُ (خَ) تَعْلِيقا، و (م) مُتَابعَة، و (ت، ق) وَله (شَاهد ثَانِي) من(3/320)
حَدِيث أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، عَن ابْن مَسْعُود (قَالَ) : (شغل الْمُشْركُونَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم الخَنْدَق عَن الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء، (فَأمر) بِلَالًا فَأذن وَأقَام فَصَلى الظّهْر، وَأذن وَأقَام فَصَلى الْعَصْر، وَأذن وَأقَام فَصَلى الْمغرب) . وَذكر الْعشَاء أَيْضا.
وَرَوَاهُ أَحْمد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أبي عُبَيْدَة (بن) مَسْعُود، عَن أَبِيه: «أَن (الْمُشْركين) شغلوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن أَربع صلوَات حَتَّى ذهب من اللَّيْل مَا شَاءَ الله، فَأمر بِلَالًا فَأذن (و) أَقَامَ فَصَلى الظّهْر، ثمَّ أَقَامَ فَصَلى الْعَصْر، ثمَّ أَقَامَ فَصَلى الْمغرب، ثمَّ أَقَامَ فَصَلى الْعشَاء» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْس إِلَّا أَن أَبَا عُبَيْدَة لم يسمع من عبد الله - يَعْنِي فَيكون مُنْقَطِعًا.
تَنْبِيهَات: أَحدهَا: (يجمع) بَين هَذَا الِاخْتِلَاف فِي حَدِيث أبي سعيد وَابْن مَسْعُود بِتَعَدُّد الْوَاقِعَة؛ فَإِن أَيَّام الخَنْدَق كَانَت خَمْسَة عشر يَوْمًا كَمَا سَيَأْتِي.
ثَانِيهَا: كَانَ فَوَات هَذِه الصَّلَوَات (الِاشْتِغَال) بِالْقِتَالِ، وَذَلِكَ قبل نزُول آيَة الْخَوْف كَمَا سلف، وَالْمرَاد بشغله عَن صَلَاة الْعشَاء كَمَا(3/321)
سلف: عَن وَقتهَا الَّذِي كَانَ يُصليهَا فِيهِ غَالِبا.
ثَالِثهَا: قَوْله: «حَتَّى ذهب هوي من اللَّيْل» هُوَ بِفَتْح الْهَاء وَكسر الْوَاو وَتَشْديد الْيَاء، وَيُقَال أَيْضا: بِضَم الْهَاء (حَكَاهُمَا) صَاحب الْمطَالع وَغَيره، وَالْفَتْح أفْصح وَأشهر، وَمَعْنَاهُ: طَائِفَة مِنْهُ. وَجزم الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» بِأَنَّهُ بِفَتْح الْهَاء وَأَنه الْحِين الطَّوِيل من الزَّمن، ثمَّ قَالَ: وَقيل إِنَّه (يخْتَص) بِاللَّيْلِ.
رَابِعهَا: يَوْم الخَنْدَق (و) هُوَ يَوْم الْأَحْزَاب، وَكَانَ فِي سنة أَربع من الْهِجْرَة، كَمَا نَقله البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَن مُوسَى بن عقبَة وَقيل: سنة خمس، وَسمي يَوْم الْأَحْزَاب؛ لِأَن الْكفَّار تحزبوا من كل قَبيلَة حَتَّى بلغُوا عشرَة آلَاف، فَلَمَّا بلغ خبرهم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شاور الْمُسلمين فِي أَمرهم، فَأَشَارَ سلمَان الْفَارِسِي (بِحَفر) الخَنْدَق، فَاسْتَحْسَنَهُ الْمُسلمُونَ وتقاسموا الخَنْدَق، وَكَانُوا ثَلَاثَة آلَاف، فحفروه فِي سِتَّة أَيَّام، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ يحْفر مَعَهم وَيَقُول: اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْت مَا اهتدينا ... إِلَى آخِره وَكَانَ مُدَّة حصارهم خَمْسَة عشر يَوْمًا، ثمَّ أرسل الله (تَعَالَى) عَلَى الْكفَّار ريحًا وجنودًا لم يرهَا الْمُسلمُونَ فَهَزَمَهُمْ (الله) بهَا وَللَّه الْحَمد (والْمنَّة) .
الحَدِيث السَّادِس
«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ فِي سفر فَقَالَ: احْفَظُوا علينا صَلَاتنَا - يَعْنِي رَكْعَتي(3/322)
الْفجْر - فَضرب عَلَى آذانهم فَمَا أيقظهم إِلَّا حر الشَّمْس، فَقَامُوا فَسَارُوا هنيَّة، ثمَّ نزلُوا فَتَوضئُوا وَأذن بِلَال فصلوا رَكْعَتي الْفجْر وركبوا) .
هَذَا (حَدِيث) مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من طَرِيقين: أَحدهمَا: من طَرِيق أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «سرنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَيْلَة فَقَالَ بعض الْقَوْم: لَو عرَّست يَا رَسُول الله قَالَ: أَخَاف أَن تناموا عَن الصَّلَاة. قَالَ بِلَال: أَنا أوقظكم (فاضطجعوا) وَأسْندَ بِلَال ظَهره إِلَى رَاحِلَته فغلبته عَيناهُ فَنَامَ، واستيقظ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد طلع حَاجِب الشَّمْس فَقَالَ: يَا بِلَال أَيْن مَا قلت؟ ! قَالَ: مَا ألقيت عليّ نومَة مثلهَا قطّ. قَالَ: إِن الله قبض أرواحكم حِين شَاءَ وردهَا عَلَيْكُم حِين شَاءَ، يَا (بِلَال) قُم فَأذن (بِالنَّاسِ) بِالصَّلَاةِ. فَتَوَضَّأ، فَلَمَّا ارْتَفَعت الشَّمْس وابياضت قَامَ فَصَلى» هَذَا لفظ البُخَارِيّ.
وَرَوَاهُ مُسلم مطولا، وَفِيه: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: (احْفَظُوا علينا صَلَاتنَا. فَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالشَّمْس فِي ظَهره (قَالَ) فقمنا فزعين، ثمَّ قَالَ: اركبوا. (فَرَكبُوا) فسرنا حَتَّى إِذا ارْتَفَعت الشَّمْس (ثمَّ نزل فَدَعَا) بميضأة كَانَت معي فِيهَا شَيْء من مَاء، (قَالَ) : فَتَوَضَّأ(3/323)
مِنْهَا وضُوءًا دون وضوءٍ، ثمَّ أذن بِلَال بِالصَّلَاةِ فَصَلى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صَلَّى الْغَدَاة كَمَا كَانَ يصنع كل يَوْم» وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد: (ثمَّ أذن بِلَال (فصلوا) الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر، ثمَّ صلوا الْفجْر) .
الطَّرِيق الثَّانِي: (من) طَرِيق عمرَان بن حُصَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نَام فِي مسير لَهُ عَن صَلَاة الصُّبْح، فَلَمَّا رفع رَأسه وَرَأَى الشَّمْس قد بزغت قَالَ: ارتحلوا. فَسَار بِنَا حَتَّى ابْيَضَّتْ الشَّمْس نزل فَصَلى بِنَا، هَذَا لفظ مُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ: (ارتحلوا، فَسَار غير بعيد، ثمَّ نزل فَدَعَا بِالْوضُوءِ فَتَوَضَّأ، وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَلى بِالنَّاسِ ... ) الحَدِيث، وخرجا فِيهِ قصَّة.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث الْحسن عَن عمرَان بِلَفْظ: (فَأمر الْمُؤَذّن فَأذن ثمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر، ثمَّ أَقَامَ الْمُؤَذّن فَصَلى الْفجْر) ، ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى مَا قدمنَا ذكره من صِحَة سَماع الْحسن من عمرَان وإعادته الرَّكْعَتَيْنِ. لم يخرجَاهُ و (لَهُ) .
طَرِيق ثَالِث: انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين قفل من غَزْوَة خَيْبَر سَار لَيْلَة حَتَّى إِذا أدْركهُ الْكرَى عرَّس وَقَالَ لِبلَال: إكلًا لنا اللَّيْل. فَصَلى بِلَال مَا قدر لَهُ، ونام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَصْحَابه، فَلَمَّا تقَارب الْفجْر (اسْتندَ) بِلَال إِلَى رَاحِلَته(3/324)
مواجه الْفجْر فَغلبَتْ (بِلَالًا) عَيناهُ وَهُوَ مُسْتَند إِلَى رَاحِلَته (فَلم) يَسْتَيْقِظ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا بِلَال وَلَا أحد من أَصْحَابه حَتَّى ضربتهم الشَّمْس (فَكَانَ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَوَّلهمْ استيقاظًا فَفَزعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: أَي بِلَال فَقَالَ بِلَال: أَخذ بنفسي الَّذِي أَخذ - بِأبي [وَأمي] أَنْت يَا رَسُول الله - بِنَفْسِك فَقَالَ: اقتادوا. فاقتادوا رواحلهم شَيْئا، ثمَّ تَوَضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأمر بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاة (فَصَلى) بهم الصُّبْح فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاة قَالَ: من نسي الصَّلَاة فليصلها إِذا ذكرهَا فَإِن الله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: (أقِم الصَّلَاة لذكري) ، قَالَ يُونُس: وَكَانَ ابْن شهَاب يقْرؤهَا للذِّكْرَى.
وَفِي لفظ آخر: «عرسنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلم نستيقظ حَتَّى طلعت الشَّمْس، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ليَأْخُذ كل (رجل) بِرَأْس رَاحِلَته؛ فَإِن هَذَا منزل حَضَرنَا فِيهِ الشَّيْطَان. قَالَ: فَفَعَلْنَا، ثمَّ دَعَا بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأ، ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ (ثمَّ أُقِيمَت) الصَّلَاة (فَصَلى) الْغَدَاة» وَفِي لفظ: (ثمَّ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ) .(3/325)
وَفِي رِوَايَة غَرِيبَة لمُحَمد بن إِسْحَاق السراج فِي «مُسْنده» «أَنه صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي مَكَانَهُ بِأَصْحَابِهِ، ثمَّ قَالَ: اقتادوا (بِنَا) من هَذَا الْمَكَان، وصلوا الصُّبْح فِي مَكَان آخر) .
رَوَاهَا عَن عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء، عَن سُفْيَان، نَا الزُّهْرِيّ، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة (بِهِ) . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي (الإِمَام) : وَهَذَا فِيهِ زِيَادَة إِن كَانَ مَحْفُوظًا.
وَفِي رِوَايَة «للطبراني» فِي أكبر «معاجمه» من حَدِيث سعيد بن الْمسيب، عَن بِلَال قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر، فَنَامُوا حَتَّى طلعت الشَّمْس، فَأمر بِلَالًا (فَأذن) ، ثمَّ صلوا رَكْعَتي الْفجْر، ثمَّ صلوا الْغَدَاة» .
ينظر فِي سَماع سعيد من أبي هُرَيْرَة (وبلال) ، وَفِي هَذِه الرِّوَايَة أَيْضا أَبُو جَعْفَر عِيسَى بن (أبي عِيسَى)) ماهان (الرَّازِيّ) ، وستعرف كَلَام الْأَئِمَّة فِيهِ فِي بَاب صفة الصَّلَاة إِن شَاءَ الله (ذَلِك) وَقدره.
وَلِلْحَدِيثِ طَرِيق رَابِع.
من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه هُوَ الَّذِي حرسهم، وَفِيه: «فَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَصنعَ كَمَا يصنع من الْوضُوء وركعتي الْفجْر ثمَّ صَلَّى بِنَا(3/326)
الصُّبْح، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: إِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - لَو أَرَادَ (أَلا) تناموا عَنْهَا لم تناموا، وَلَكِن أَرَادَ لمن بعدكم فَهَكَذَا لمن نَام أَو نسي» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَله طَرِيق خَامِس من حَدِيث جُبَير ابْن مطعم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن نَافِع بن جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه وَلَفظه: ثمَّ (توضئوا) وَأذن بِلَال، ثمَّ صلوا رَكْعَتي الْفجْر [ثمَّ صلوا الْفجْر] .
وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا بالسند الْمَذْكُور وَاللَّفْظ إِلَّا أَنه قَالَ: «فصلوا الرَّكْعَتَيْنِ، ثمَّ صلوا الْفجْر» وَالْمعْنَى وَاحِد.
فَائِدَة: لَا تنَافِي بَين نَومه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْوَادي عَن صَلَاة الصُّبْح حَتَّى طلعت الشَّمْس، وَبَين قَوْله: (إِن عَيْني تنامان وَلَا ينَام قلبِي) لِأَن الْقلب يقظان يحس (بِالْحَدَثِ) وَغَيره مِمَّا يتَعَلَّق بِالْبدنِ ويشعر بِهِ الْقلب، وَلَيْسَ طُلُوع الْفجْر من ذَلِك وَلَا هُوَ مِمَّا يدْرك بِالْقَلْبِ، وَإِنَّمَا يدْرك بِالْعينِ وَهِي نَائِمَة، وَأبْعد من قَالَ: إِن لنومه عَلَيْهِ السَّلَام حَالَة ينَام فِيهَا الْقلب، وصادف هَذَا الْموضع وَحَالَة [لَا ينَام فِيهَا] (وَأَنه) الْغَالِب من حَاله فَإِن فِيهِ ارْتِكَاب أَمر لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِيهِ.(3/327)
الحَدِيث السَّابِع
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جمع بَين الظّهْر وَالْعصر بِعَرَفَة فِي وَقت الظّهْر بِأَذَان وَإِقَامَتَيْنِ (من غير أَذَان) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث جَابر الطَّوِيل كَمَا أسلفناه (فِي) أول الْبَاب.
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء (بِالْمُزْدَلِفَةِ) فِي وَقت الْعشَاء بإقامتين (من غير أَذَان) » .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي أول الْبَاب مَعَ مَا عَارضه فَرَاجعه من ثَمَّ.
الحَدِيث التَّاسِع
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: (كَانَ الْأَذَان عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثنى (مثنى) وَالْإِقَامَة فُرَادَى إِلَّا أَن الْمُؤَذّن كَانَ يَقُول: قد قَامَت الصَّلَاة مرَّتَيْنِ) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْأَئِمَّة أَحْمد، و (الدارمى) فِي(3/328)
مُسْنده، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنهمْ، وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث شُعْبَة، عَن أبي جَعْفَر الْمَدَائِنِي مُؤذن مَسْجِد الْعُرْيَان عَن مُسلم أبي الْمثنى مُؤذن مَسْجِد الْأَكْبَر عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (قَالَ) إِنَّمَا كَانَ الْأَذَان عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مرَّتَيْنِ وَالْإِقَامَة مرّة مرّة غير أَنه يَقُول قد قَامَت الصَّلَاة قد قَامَت الصَّلَاة، فَإِذا سمعنَا الْإِقَامَة توضأنا، ثمَّ خرجنَا إِلَى الصَّلَاة.
قَالَ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ: قَالَ شُعْبَة: لَا يحفظ عَن أبي جَعْفَر غير هَذَا الحَدِيث.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه: (هُوَ) إِمَام مَسْجِد الْأَنْصَار بِالْكُوفَةِ اسْمه مُحَمَّد بن مُسلم بن مهْرَان بن الْمثنى، وَأَبُو الْمثنى اسْمه مُسلم بن الْمثنى.
وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد فَإِن أَبَا جَعْفَر هَذَا هُوَ عُمَيْر بن يزِيد بن حبيب (الخطمي) ، وَقد رَوَى عَن سعيد بن الْمسيب وَعمارَة بن خُزَيْمَة بن ثَابت، وَقد رَوَى عَنهُ سُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة وَحَمَّاد بن سَلمَة وَغَيرهم من أَئِمَّة الْمُسلمين.(3/329)
(قَالَ) وَأما أَبُو الْمثنى الْقَارِي فَإِنَّهُ من أستاذى نَافِع بن أبي نعيم واسْمه مُسلم بن الْمثنى، رَوَى عَنهُ إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، وَسليمَان التَّيْمِيّ وَغَيرهمَا من التَّابِعين، هَذَا آخر كَلَام الْحَاكِم.
وَلَا أعلم من ولفقه عَلَى (تَسْمِيَة أبي جَعْفَر بعمير) بن أبي حبيب وَقد أسلفنا عَن أبي حَاتِم بن حبَان أَن اسْمه مُحَمَّد بن مُسلم ين مهْرَان وَمِنْهُم من يَقُول فِيهِ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُسلم بن مهْرَان، وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى جده فَيَقُول هُوَ ابْن مهْرَان.
قَالَ ابْن عبد الْبر: وَأَبُو الْمثنى هَذَا عِنْدهم كُوفِي ثِقَة، وَأما أَبُو جَعْفَر فَإِن أَبَا زرْعَة قَالَ: هُوَ كُوفِي لَا أعرفهُ إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: قلت لأبي: رَوَى عِيسَى بن يُونُس هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة، عَن أبي جَعْفَر الْقَارئ (قَالَ: غلط عِيسَى؛ ابو جَعْفَر الْقَارِي هُوَ مدنِي وَهُوَ كُوفِي.
قلت: لَا يقْدَح هَذَا فِي الرِّوَايَات السالفة، فَإِنَّهُم لم يخرجوه من حَدِيث عِيسَى بن يُونُس، عَن شُعْبَة، إِنَّمَا أخرجه أَحْمد، عَن شُعْبَة، والدارمي، عَن سهل بن حَمَّاد، عَن شُعْبَة، وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث مُحَمَّد بن جَعْفَر وَأبي عَامر عبد الْملك بن عَمْرو عَن شُعْبَة وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث حجاج وَيَحْيَى، عَن شُعْبَة وَابْن حبَان من حَدِيث مُحَمَّد بن جَعْفَر، عَن شُعْبَة، وَمن حَدِيث آدم، عَن شُعْبَة. وَالْحَاكِم من حَدِيث عبد الله بن خيران، عَن شُعْبَة. وَمن حَدِيث مُحَمَّد بن جَعْفَر، عَن شُعْبَة.(3/330)
وَالدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن جَعْفَر، عَن شُعْبَة. وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» عَلَى مَا نَقله صَاحب «الإِمَام» من حَدِيث مُحَمَّد بن جَعْفَر، عَن شُعْبَة. وأتبع بِرِوَايَة يَحْيَى بن سعيد عَنهُ، وَقَالَ مثله سَوَاء.
قلت: وَرَوَاهُ عِيسَى بن يُونُس، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر (قَالَ) : «كَانَ الْأَذَان عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مرَّتَيْنِ وَالْإِقَامَة مرّة مرّة» .
(رَوَاهُ) الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك، وَأَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «الْأَذَان مثنى وَالْإِقَامَة فُرَادَى» رَوَاهُ عَن عِيسَى (سعيد) وبن الْمُغيرَة الصياد وَهُوَ ثِقَة كَمَا قَالَه أَبُو حَاتِم وَغَيره.
الحَدِيث الْعَاشِر
أَن أَبَا مَحْذُورَة لما حَكَى الْأَذَان عَن تلقين رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَذكر التَّكْبِير فِي أَوله أَرْبعا.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد رَوَاهُ (مُسلم) من حَدِيث عبد الله(3/331)
بن محيريز، عَن أبي مَحْذُورَة: «أَن (نَبِي) الله (علمه (هَذَا) الْأَذَان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله. ثمَّ يعود فَيَقُول: أشهد أَن لَا اله إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حى عَلَى الصَّلَاة - مرَّتَيْنِ - حَيّ عَلَى الْفَلاح - مرَّتَيْنِ - الله أكبر الله أكبر (لَا إِلَه إِلَّا الله) » هَذَا لَفظه، وَهُوَ من أَفْرَاده، (بل لم يخرج) البُخَارِيّ عَن أبي مَحْذُورَة فِي صَحِيحه شَيْئا. وَفِي أَوله تَثْنِيَة التَّكْبِير دون تربيعه كَمَا هُوَ الْمَوْجُود فِي نسخه، وَإِن رُوِيَ فِيهِ تربيعه كَمَا سَيَأْتِي.
نعم رَوَى تربيعه الشَّافِعِي، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة، وَابْن حبَان.
رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مُسلم بن (خَالِد عَن ابْن جريج، عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الْملك، بن أَبَى مَحْذُورَة، عَن عبد الله بن محيريز) عَن أبي مَحْذُورَة. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث همام، عَن عَامر الْأَحول، عَن مَكْحُول، عَن ابْن محيريز، عَن أبي مَحْذُورَة، وَمن حَدِيث الْحَارِث بن عبيد، عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أبي مَحْذُورَة، عَن أَبِيه، عَن(3/332)
جده. وَمن طرق أخر. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ (من حَدِيث معَاذ بن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَامر، وَمن طَرِيقين آخَرين.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه) من حَدِيث همام بِهِ، وَمن حَدِيث أبي عَاصِم عَن ابْن جريج بِهِ. وَرَوَاهُ ابْن حبَان من ثَلَاث طرق، وَرَوَاهُ أَحْمد من طَرِيقين كَذَلِك، وَمن طَرِيقين بتثنية التَّكْبِير.
قَالَ أَبُو الْحسن بن الْقطَّان: الصَّحِيح فِي هَذَا الحَدِيث عَن عَامر تربيع التَّكْبِير، كَذَلِك رَوَاهُ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم عَفَّان وَسَعِيد بن عَامر وحجاج، وَرَوَاهُ عَن هَؤُلَاءِ الْحسن بن عَلّي ذكر ذَلِك أَبُو دَاوُد عَنهُ، وَبِذَلِك يَصح كَون الْأَذَان تسع عشرَة كلمة، وَقد قَيده بذلك فِي نَفْس الحَدِيث - يَعْنِي الحَدِيث الثَّالِث عشر من هَذَا الْبَاب - كَمَا قيد فِيهِ الْإِقَامَة بِسبع عشرَة كلمة يزِيد (عَلَيْهَا) الْأَذَان بالترجيع فِي الشَّهَادَتَيْنِ، قَالَ: وَقد يَقع فِي بعض رِوَايَات (كتاب) مُسلم هَذَا الحَدِيث مربعًا فِيهِ التَّكْبِير وَهِي الَّتِي يَنْبَغِي أَن يعد فِيهِ الصَّحِيح، وَقد سَاقه الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه من رِوَايَة إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، (عَن معَاذ ين هِشَام، عَن أَبِيه: بِالتَّكْبِيرِ(3/333)
مربعًا، ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أخرجه مُسلم فِي «الصَّحِيح» وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم) أحد من رَوَاهُ عَنهُ مُسلم فَهُوَ إِذن (مربع) فِيهِ التَّكْبِير فَاعْلَم ذَلِك. انْتَهَى كَلَامه.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: قَالَ الشَّافِعِي: تربيع التَّكْبِير فِي أول الْأَذَان مَحْفُوظ من رِوَايَة الْحفاظ الثِّقَات فِي حَدِيث عبد الله بن زيد وَأبي مَحْذُورَة، وَهِي زِيَادَة يجب قبُولهَا، وَالْعَمَل (عِنْدهم) بِمَكَّة فِي آل أبي مَحْذُورَة بذلك إِلَى زَمَانه.
فَائِدَة: اخْتلف فِي اسْم أبي مَحْذُورَة ووالده، فَاخْتَارَ التِّرْمِذِيّ أَنه سَمُرَة بن (معير) ، وَقَالَ غَيره: (ابْن) عُمَيْر، وَقيل: أَوْس بن (معير) ، وَقيل غير ذَلِك، أسلم يَوْم الْفَتْح وَكَانَ من أحسن النَّاس صَوتا كَمَا سَيَأْتِي. وَالله أعلم.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أَن تربيع التَّكْبِير فِي أول الْأَذَان مَذْكُور فِي قصَّة رُؤْيا عبد الله بن زيد فِي الْأَذَان وَهِي مَشْهُورَة.
هُوَ كَمَا قَالَ، وَهِي قصَّة جليلة ركن من أَرْكَان الْبَاب، وَادَّعَى(3/334)
ابْن دحْيَة فِي (تنويره) تَوَاتر طرقها فلنذكرها بكمالها، فَنَقُول: رَوَاهَا أَحْمد فِي «مُسْنده» من طرق: أَحدهَا: عَن يَعْقُوب، نَا أبي، عَن ابْن إِسْحَاق قَالَ: ذكر الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قَالَ: «لما أجمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يضْرب بالناقوس (يجمع النَّاس للصَّلَاة) وَهُوَ لَهُ كَارِه (لموافقته) النَّصَارَى! طَاف بِي من اللَّيْل طائف وَأَنا نَائِم رجل عَلَيْهِ ثَوْبَان أخضران وَفِي يَده ناقوس يحملهُ، (فَقلت) لَهُ: يَا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قَالَ: وَمَا تصنع بِهِ؟ قلت: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاة. قَالَ: أَفلا أدلك عَلَى خير من ذَلِك؟ (قَالَ) ، (فَقلت: بلَى. قَالَ:) تَقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر (الله أكبر) أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله مرَّتَيْنِ حَيّ عَلَى الصَّلَاة، حَيّ عَلَى الصَّلَاة، حَيّ عَلَى الْفَلاح، حَيّ عَلَى الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله. ثمَّ اسْتَأْخَرَ عني غير بعيد قَالَ: ثمَّ تَقول إِذا أَقمت الصَّلَاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حَيّ عَلَى الصَّلَاة، حَيّ عَلَى الْفَلاح [قد قَامَت الصَّلَاة قد قَامَت الصَّلَاة] الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله. فَلَمَّا أَصبَحت أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَخْبَرته بِمَا رَأَيْت [قَالَ] فَقَالَ: إِنَّهَا لرؤيا حق إِن شَاءَ الله. ثمَّ أَمر بِالتَّأْذِينِ، فَكَانَ بِلَال(3/335)
مولَى أبي بكر يُؤذن بذلك (وَيَدْعُو) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى الصَّلَاة. قَالَ: فَجَاءَهُ فَدَعَاهُ ذَات (غَدَاة) إِلَى صَلَاة الْفجْر، فَقيل لَهُ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَائِم، قَالَ: فَصَرَخَ بِلَال بِأَعْلَى صَوته: الصَّلَاة خير من النّوم» . قَالَ سعيد بن الْمسيب: فأدخلت هَذِه الْكَلِمَة فِي التأذين إِلَى صَلَاة الْفجْر.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن يَعْقُوب، عَن أَبِيه، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، حَدثنِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ (كَمَا سَيَأْتِي) من طَرِيق أبي دَاوُد سَوَاء.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن زيد بن الْحباب، (ثَنَا أَبُو سهل مُحَمَّد بن عَمْرو) أَخْبرنِي عبد الله ابْن مُحَمَّد بن زيد، عَن عَمه عبد الله بن زيد «أَنه (أرِي) الْأَذَان ... » فَذكره مُخْتَصرا كَمَا سَيَأْتِي فِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ من أَحَادِيث الْبَاب.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث يَعْقُوب، عَن أَبِيه، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، حَدثنِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ، عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن زيد (بن عبد ربه) حَدثنِي أبي عبد الله بن زيد قَالَ: «لما أَمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالناقوس يعْمل ليضْرب بِهِ للنَّاس لجمع الصَّلَاة(3/336)
طَاف بِي وَأَنا نَائِم رجل يحمل ناقوسًا فِي يَده، فَقلت: يَا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ فَقَالَ: وَمَا تصنع بِهِ؟ فَقلت: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاة، قَالَ: (أَفلا) أدلك عَلَى مَا هُوَ خير من ذَلِك؟ فَقلت: بلَى. فَقَالَ: تَقول: الله أكبر ... » الحَدِيث. كَمَا سلف عَن (رِوَايَة) أَحْمد إِلَى قَوْله: (إِن شَاءَ الله (تَعَالَى قَالَ) فَقُمْ مَعَ بِلَال فألق عَلَيْهِ مَا رَأَيْت فليؤذن بِهِ فَإِنَّهُ أندى (صَوتا مِنْك) . فَقُمْت مَعَ بِلَال فَجعلت ألقيه عَلَيْهِ وَيُؤذن بِهِ، فَسمع بذلك عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَهُوَ فِي بَيته فَخرج يجر رِدَاءَهُ (وَهُوَ) يَقُول: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ يَا رَسُول الله لقد رَأَيْت مثل مَا رَأَى. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَللَّه الْحَمد) .
(و) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن سعيد الْأمَوِي عَن ابْن إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ - كَمَا سلف - عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن زيد، عَن أَبِيه قَالَ: (لما أَصْبَحْنَا (أتيت) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَخْبَرته بالرؤيا فَقَالَ: إِن هَذِه لرؤيا حَتَّى، فَقُمْ مَعَ بِلَال فَإِنَّهُ أندى - أَو أمد - صَوتا مِنْك، فألق عَلَيْهِ مَا قيل لَك (وليناد) بذلك (قَالَ) فَلَمَّا سمع عمر ابْن الْخطاب نِدَاء بِلَال بِالصَّلَاةِ خرج إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يجر إزَاره وَهُوَ يَقُول: يَا رَسُول الله، وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لقد رَأَيْت مثل الَّذِي قَالَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَللَّه الْحَمد فَذَلِك أثبت) .(3/337)
(و) رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث مُحَمَّد بن سَلمَة الْحَرَّانِي، (نَا) مُحَمَّد بن إِسْحَاق، ثَنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن زيد، عَن أَبِيه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد هَمَّ بالبوق، وَأمر بالناقوس فنحت، فأري عبد الله بن زيد فِي الْمَنَام قَالَ: رَأَيْت رجلا عَلَيْهِ ثَوْبَان أخضران يحمل ناقوسًا، فَقلت (لَهُ) : يَا عبد الله، تبيع الناقوس؟ قَالَ: وَمَا تصنع بِهِ؟ قلت: أنادي بِهِ إِلَى الصَّلَاة. قَالَ: أَفلا أدلك عَلَى خير من ذَلِك؟ (قلت: وَمَا تَقول) قَالَ: تَقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حَيّ عَلَى الصَّلَاة، حَيّ عَلَى الصَّلَاة، حَيّ عَلَى الْفَلاح، حَيّ عَلَى الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله. (قَالَ) فَخرج عبد الله ابْن زيد حَتَّى أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخْبرهُ بِمَا رَأَى، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، رَأَيْت رجلا عَلَيْهِ ثَوْبَان أخضران يحمل ناقوسًا. فَقص عَلَيْهِ الْخَبَر فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن صَاحبكُم قد رَأَى رُؤْيا، فَاخْرُج [مَعَ] (بِلَال) إِلَى الْمَسْجِد فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ (وليناد) بِلَال فَإِنَّهُ أندى صَوتا مِنْك. قَالَ: فَخرجت مَعَ بِلَال إِلَى الْمَسْجِد فَجعلت ألقيها عَلَيْهِ وَهُوَ يُنَادي بهَا، فَسمع عمر بن الْخطاب(3/338)
بالصوت فَخرج فَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَالله لقد رَأَيْت مثل الَّذِي رَأَى) .
قَالَ ابْن ماجة: قَالَ أَبُو عبيد مُحَمَّد بن عبيد بن مَيْمُون: فَأَخْبرنِي أَبُو بكر الْحكمِي أَن عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ قَالَ فِي ذَلِك:
رام حمْدًا عَلَى الْأَذَان كثيرا
هـ فَأكْرم بِهِ لديَّ بشيرًا
كلما جَاءَ زادني توقيرًا
أَحْمد الله ذَا الْجلَال وَذَا الإك
إِذْ أَتَانِي (بِهِ) البشير من الل
فِي ليالٍ والى بِهن (ثَلَاثًا)
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، عَن أَبِيه، عَن ابْن إِسْحَاق، نَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم كَمَا سَاقه أَبُو دَاوُد.
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» كَمَا سَاقه التِّرْمِذِيّ.
ولهذه الْقِصَّة طرق أُخْرَى فِي أبي دَاوُد وَغَيره حذفناها اختصارًا، وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث عقبه بِأَن قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. قَالَ: وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث إِبْرَاهِيم بن سعد، عَن مُحَمَّد (بن إِسْحَاق) أتم من هَذَا (الحَدِيث) وأطول وَذكر فِيهِ قصَّة الْأَذَان مثنى مثنى وَالْإِقَامَة مرّة مرّة. وَهَذِه الرِّوَايَة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا التِّرْمِذِيّ من هَذَا الْوَجْه هِيَ الَّتِي قدمناها عَن أبي دَاوُد وَمن تبعه.(3/339)
وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» : هَذَا حَدِيث صَحِيح ثَابت من جِهَة النَّقْل؛ لِأَن مُحَمَّد ابْن عبد الله بن زيد بن عبد ربه سَمعه من أَبِيه، وَمُحَمّد بن إِسْحَاق قد سَمعه من مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم [ابْن الْحَارِث] التَّيْمِيّ وَلَيْسَ (هَذَا) مِمَّا دلسه ابْن إِسْحَاق (قَالَ) : (فَأَما) مَا رَوَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ عَن عبد الله بن زيد (فَغير ثَابت) من جِهَة النَّقْل وَقد خلطوا فِي أسانيدهم الَّتِي رووها عَنهُ فِي تَثْنِيَة الْأَذَان وَالْإِقَامَة جَمِيعًا.
سَمِعت مُحَمَّد بن يَحْيَى يَقُول: ابْن أبي لَيْلَى لم يدْرك عبد الله بن زيد، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى لم يسمع من معَاذ وَلَا من عبد الله بن زيد صَاحب الْأَذَان، فَغير جَائِز أَن يحْتَج بِخَبَر (غير) ثَابت عَلَى أَخْبَار ثَابِتَة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كتبه الثَّلَاثَة «السّنَن» و «الْمعرفَة» و «الخلافيات» : قَالَ مُحَمَّد بن يحيي: لَيْسَ فِي أَخْبَار عبد الله بن زيد (خبر) أصح من هَذَا - يَعْنِي حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد(3/340)
بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن زيد؛ لِأَن مُحَمَّدًا سمع من أَبِيه، وَابْن أبي لَيْلَى لم يسمع من عبد الله بن زيد.
قَالَ: وَفِي «كتاب الْعِلَل» لأبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَن هَذَا الحَدِيث - يَعْنِي حَدِيث مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ فَقَالَ: حَدِيث صَحِيح.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة عبد الله بن زيد رَاوِي هَذَا الحَدِيث: إِنَّمَا لم يخرج الشَّيْخَانِ هَذَا الحَدِيث فِي «صَحِيحَيْهِمَا» لاخْتِلَاف الناقلين فِي أسانيده، وأمثل الرِّوَايَات فِيهِ رِوَايَة سعيد بن الْمسيب، وَقد (توهم) بعض أَئِمَّتنَا فَادَّعَى أَن (سعيدًا) لم يلْحق عبد الله ابْن زيد، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ فَإِن سعيد كَانَ (فِيمَن) يدْخل بَين عَلّي وَعُثْمَان فِي التَّوَسُّط، وَإِنَّمَا توفّي عبد الله بن زيد (فِي آخر خلَافَة عُثْمَان) .
قَالَ الْحَاكِم: وَحَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب مَشْهُور رَوَاهُ يُونُس بن يزِيد وَمعمر بن رَاشد وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة وَمُحَمّد بن إِسْحَاق قَالَ: واشتهر عبد الله بن زيد بِحَدِيث الْأَذَان الَّذِي تداوله فُقَهَاء الْإِسْلَام بِالْقبُولِ.
قَالَ: وَأما أَخْبَار الْكُوفِيّين فِي هَذَا الْبَاب فمدارها عَلَى حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى فَمنهمْ من قَالَ: عَن معَاذ بن جبل (عَن) عبد الله(3/341)
بن زيد، وَمِنْهُم من قَالَ: عَن عبد الرَّحْمَن، عَن عبد الله بن زيد، وَأما ولد عبد الله بن زيد، عَن آبَائِهِ عَنهُ فَإِنَّهَا غير مُسْتَقِيمَة الْإِسْنَاد.
فَائِدَتَانِ: الأولَى: عبد الله بن زيد رَاوِي هَذَا الحَدِيث هُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن زيد بن عبد ربه الْأنْصَارِيّ العقبي البدري. وَكَانَ [بداية] الْأَذَان فِي السّنة الأولَى من الْهِجْرَة بعد بِنَاء النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَسْجده، وَتقدم فِي بَاب الْوضُوء فِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين مِنْهُ الْفرق بَين عبد الله بن زيد هَذَا وَعبد الله بن زيد رَاوِي حَدِيث صَلَاة الاسْتِسْقَاء وَغَيره إِلَى غير ذَلِك من الْفَوَائِد.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَمِعت البُخَارِيّ يَقُول: لَا يعرف لعبد الله بن زيد بن عبد ربه إِلَّا حَدِيث الْأَذَان. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا (نَعْرِف) لَهُ شَيْئا يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد فِي الْأَذَان.
قلت: لَهُ غير ذَلِك من الْأَحَادِيث.
قَالَ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي تَرْجَمَة عبد الله بن زيد: قد أسْند عبد الله بن زيد عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَذَا الحَدِيث. ثمَّ سَاق من حَدِيث الْحميدِي، نَا سُفْيَان، عَن عَمْرو بن دِينَار وَعبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، عَن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الَّذِي أُري (الْأَذَان) : (أَنه أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ:(3/342)
يَا رَسُول الله، حائطي هَذَا صَدَقَة وَهُوَ إِلَى الله وَإِلَى رَسُوله. فجَاء أَبَوَاهُ فَقَالَا: يَا رَسُول الله، كَانَ قوام (عيشنا) فَرده رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَيْهِمَا، ثمَّ مَاتَا فورثهما ابنهما بعد.
وَأخرجه بِنَحْوِهِ أَبُو نعيم فِي تَرْجَمته فِي «معرفَة الصَّحَابَة» .
وَرَوَاهُ أَبُو يعْلى فِي «مُسْنده» من حَدِيث عبد الْوَهَّاب، عَن عبيد الله، عَن بشير بن مُحَمَّد، عَن عبد الله بن زيد بن عبد ربه (أَنه تصدق عَلَى أَبَوَيْهِ، ثمَّ توفيا فَرده إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِيرَاثا) .
(وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْفَرَائِض عَن ابْن عبد الْأَعْلَى، [ثَنَا] ابْن وهب، عَن عَمْرو بن الْحَارِث، عَن سعيد بن أبي هِلَال، عَن أبي بكر بن حزم، عَن عبد الله بِهِ) .
وَله حَدِيث آخر فِي «مُسْند أَحْمد» قَالَ أَحْمد: نَا عبد الصمد بن عبد الْوَارِث، نَا أبان - يَعْنِي: الْعَطَّار - نَا يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن زيد أَن أَبَاهُ حَدثهُ «أَنه شهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (عِنْد) النَّحْر وَرجل من قُرَيْش وَهُوَ يقسم أضاحي، فَلم يصبهُ شَيْء وَلَا صَاحبه، فحلق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شعره فِي ثَوْبه (فَأعْطَاهُ) فقسم مِنْهُ عَلَى رجال، وقلم أَظْفَاره فَأعْطَاهُ صَاحبه، قَالَ: فَإِنَّهُ لعندنا (مخضوب) بِالْحِنَّاءِ والكتم - يَعْنِي: شعره) .(3/343)
وَرَوَاهُ ابْن سعد فِي «طبقاته» وَابْن عَسَاكِر فِي «تَارِيخ دمشق» أَيْضا، فقد عرفت لَهُ (إِذا) ثَلَاثَة أَحَادِيث، فاستفد ذَلِك؛ فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات.
(و) فِي «سنَن النَّسَائِيّ» عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور، أَنا سُفْيَان، عَن عَمْرو بن يَحْيَى، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن زيد - الَّذِي أرِي النداء - قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ، فَغسل وَجهه ثَلَاثًا وَيَديه مرَّتَيْنِ، وَغسل رجلَيْهِ مرَّتَيْنِ (وَمسح بِرَأْسِهِ مرَّتَيْنِ» . وَقيل إِنَّه من أَوْهَام سُفْيَان.
الْفَائِدَة الثَّانِيَة: (مَا) قدمنَا ذكره من طرق حَدِيث عبد الله بن زيد صَرِيح فِي أَنه أول (مَا ابتدأه برؤيا) الْأَذَان (وَأخذ) عَنهُ، وَهُوَ يضعف مَا رُوِيَ أَن ابتداءه كَانَ لَيْلَة الْإِسْرَاء وَقد رَوَاهُ كَذَلِك أَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد فِي «ترغيبه وترهيبه» وَقَالَ: إِنَّه غَرِيب لَا أعرفهُ إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَمن (ضَعِيف) هَذَا الْبَاب أَن عبد الله بن زيد هُوَ أذن أَولا، وَأَنه رَأَى الْأَذَان مَعَه بضعَة عشر صحابيًّا كَمَا نبه عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» وَقد أوضحته فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الْوَسِيط» بِزِيَادَة فَوَائِد، فَرَاجعهَا مِنْهُ.(3/344)
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن بِلَال: (أَنه أَمر أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث أبي قلَابَة، عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (أَمر بِلَال أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة إِلَّا الْإِقَامَة) ، وَقد غلط من ادَّعَى أَن هَذِه اللَّفْظَة وَهِي: (إِلَّا الْإِقَامَة) لَيست فِي مُسلم، فَهِيَ فِي بعض طرقه وَمَعْنَاهُ إِلَّا قَوْله: قد قَامَت الصَّلَاة فَإِنَّهَا مرَّتَيْنِ، وَاعْلَم أَن قَول الصَّحَابِيّ: أمرنَا، أَو أَمر بِكَذَا مَرْفُوع إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى الْمُخْتَار عِنْد الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء، بل ادَّعَى الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» الِاتِّفَاق عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: هَذَا حَدِيث مُسْند إِذْ لَا خلاف بَين أهل النَّقْل أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ: أَمر أَو نهي أَو من السّنة كَذَا (أَنه) يكون مُسْندًا.
قلت: فعلَى هَذَا (يكون) قَوْله: «أَمر بِلَال» مَعْنَاهُ: (أمره) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَقد ورد مُصَرحًا بذلك، فارتفع الْخلاف.
رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سنَنه من حَدِيث أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة، عَن أنس: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بِلَالًا أَن يشفع الْأَذَان و (أَن) يُوتر الْإِقَامَة) .
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث خَالِد الْحذاء، عَن أبي(3/345)
قلَابَة، عَن أنس: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بِلَالًا أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة) . ثمَّ قَالَ: هَذَا فِيهِ الْبَيَان بِأَن قَول أنس: (أَمر بِلَال) أَرَادَ بِهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دون غَيره.
قَالَ: وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِك مَا أنبأ ابْن خُزَيْمَة، نَا ابْن عبد الْأَعْلَى، نَا مُعْتَمر قَالَ: سَمِعت خَالِد الْحذاء، عَن أبي قلَابَة، عَن أنس أَنه حدث «أَنهم التمسوا شَيْئا يُؤذنُونَ بِهِ علما للصَّلَاة، فَأمر بِلَال. أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة) ثمَّ قَالَ: (وَمن) ذَلِك الْخَبَر الْمُصَرّح بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ الَّذِي أَمر بِلَالًا بذلك لَا مُعَاوِيَة - كَمَا توهم من جهل صناعَة الحَدِيث فحرف الْخَبَر عَن جِهَته - حَدِيث عبد الله بن زيد حَيْثُ (قَالَ) : قُم فألق عَلَى بِلَال (مَا رَأَيْت) فليؤذن يَعْنِي: وَكَانَت فِي (الرُّؤْيَا) شفع الْأَذَان (ووتر) الْإِقَامَة كَمَا قدمْنَاهُ.
(وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة، عَن أنس: (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بِلَالًا أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة) وَمن حَدِيث سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن أبي قلَابَة (بِهِ) .
قلت: وَيرد عَلَيْهِ أَيْضا (أَن) الْمَنْقُول أَن بِلَالًا لم يُؤذن لأحد بعد(3/346)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا مرّة وَاحِدَة بِالشَّام لعمر وَلم يتم أَذَانه، وَقيل: إِنَّه أذن للصديق) .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث يَحْيَى بن معِين، عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، عَن أَيُّوب - كَمَا سلف - (و) قَالَ: هَذَا حَدِيث أسْندهُ إِمَام أهل الحَدِيث ومزكى الروَاة بِلَا مدافعة، وَقد تَابعه عَلَيْهِ الثِّقَة الْمَأْمُون قُتَيْبَة بن سعيد، ثمَّ سَاقه كَذَلِك، ثمَّ قَالَ: الشَّيْخَانِ لم يخرجَاهُ (بِهَذَا السِّيَاق) وَهُوَ صَحِيح عَلَى شَرطهمَا.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من طرق، عَن أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة، عَن أنس كَمَا سلف، وَمن حَدِيث (خَالِد) عَن أبي قلَابَة، عَن أنس.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» أَيْضا من حَدِيث سُفْيَان، عَن وَكِيع، عَن عبد الْوَهَّاب، عَن أَيُّوب بِهِ، وَمن حَدِيث (وهب) ، عَن خَالِد وَأَيوب بِهِ.
وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق آخر مُنكر؛ قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سُئِلَ أَبُو زرْعَة عَن حَدِيث رَوَاهُ عُثْمَان بن أبي صَالح الْمصْرِيّ، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بِلَالًا أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة) ؟ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر.(3/347)
قلت: وَهَذِه (الطَّرِيقَة) لَا تقدح فِي (الطَّرِيق) السالفة الصَّحِيحَة، وَمرَاده بقوله: هَذَا حَدِيث مُنكر بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِه الطَّرِيقَة الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا فَقَط.
فَائِدَة: حَدِيث أنس هَذَا رَوَاهُ جماعات من الصَّحَابَة غَيره وَقد عددتهم فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الْمُهَذّب» فراجعهم مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن أبي مَحْذُورَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - علمه الْأَذَان تسع عشرَة كلمة وَالْإِقَامَة سبع عشرَة كلمة) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ مُخْتَصرا كَذَلِك الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي إِحْدَى روايتيه قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (مطولا) بِزِيَادَة، بَيَان ذَلِك:(3/348)
(الله أكبر - أَربع مَرَّات - أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله - مرَّتَيْنِ - أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله - كَذَلِك - ثمَّ يعود فَيَقُول: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله - كَذَلِك - أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله - كَذَلِك - حَيّ عَلَى الصَّلَاة - مرَّتَيْنِ - حَيّ عَلَى الْفَلاح - مرَّتَيْنِ - الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله) .
هَذَا لفظ النَّسَائِيّ (و) زَاد الدَّارَقُطْنِيّ وَالْإِقَامَة هَكَذَا: مثنى مثنى؛ لَا يعود من ذَلِك الْموضع. وَزَاد أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه: وَالْإِقَامَة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حَيّ عَلَى الصَّلَاة، حَيّ عَلَى الْفَلاح، قد قَامَت الصَّلَاة قد قَامَت الصَّلَاة، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الْإِلْمَام» : وَرِجَال ابْن مَاجَه رجال الصَّحِيح.
قلت: (وَحَدِيث) أبي مَحْذُورَة قد سلف فِي الحَدِيث الْعَاشِر أَن مُسلما (تفرد) بِإِخْرَاجِهِ بِإِثْبَات الترجيع وَعدد كَلِمَاته (تسع) عشرَة كلمة، وَالله أعلم.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (إِذا أَذِنت فترسل (وَإِذا) أَقمت فاحدر) .(3/349)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث (الْمُعَلَّى بن أَسد) ثَنَا عبد الْمُنعم - وَهُوَ صَاحب السقاء - نَا يَحْيَى بن مُسلم، عَن الْحسن وَعَطَاء، عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لِبلَال: يَا بِلَال، إِذا أَذِنت فترسل [فِي أذانك] وَإِذا أَقمت فاحدر، وَاجعَل بَين أذانك وإقامتك قدر مَا يفرغ الْآكِل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إِذا دخل لقَضَاء حَاجته، وَلَا تقوموا حَتَّى تروني» .
ثمَّ قَالَ: ونا عبد بن حميد، نَا يُونُس بن مُحَمَّد، عَن عبد الْمُنعم نَحوه، قَالَ: وَحَدِيث جَابر هَذَا لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه من حَدِيث عبد الْمُنعم، وَهُوَ إِسْنَاد مَجْهُول.
قلت: رده التِّرْمِذِيّ بالجهالة، وَلَعَلَّه يَحْيَى بن مُسلم (الرَّاوِي) عَن الْحسن؛ فَإِن أَبَا زرْعَة قَالَ: لَا أعرفهُ. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الضُّعَفَاء» : (فَلَعَلَّهُ) الْبكاء الْمجمع عَلَى ضعفه.
قلت: قد قَالَ فِيهِ (ابْن) سعد: ثِقَة إِن شَاءَ الله. حَكَاهُ الْمزي وَتَبعهُ هُوَ فِي (تذهيبه) وَقَالَ الْحَاكِم: لَا طعن (فِيهِ) وَقد جزم بِأَنَّهُ الْبكاء: الْبَيْهَقِيّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «سنَنه» بعد أَن ذكره من هَذِه الطَّرِيق:(3/350)
يَحْيَى بن مُسلم الْبكاء الْكُوفِي، ضعفه يَحْيَى بن معِين.
وَفِي إِسْنَاده مَعَ ذَلِك: عبد الْمُنعم بن (نعيم) (الريَاحي) الْبَصْرِيّ الواهي.
قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ (فِيهِ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ (البُخَارِيّ) وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. قَالَ ابْن حبَان: مُنكر الحَدِيث جدًّا) لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابِعه عَلَيْهِ إِلَّا دونه.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : (هَكَذَا) رَوَاهُ جمَاعَة عَن (عبد الْمُنعم بن نعيم عَن يَحْيَى بن مُسلم.
قَالَ (البُخَارِيّ) : عبد الْمُنعم بن نعيم، عَن يَحْيَى بن مُسلم: مُنكر الحَدِيث. ثمَّ ذكر كَلَامه السالف فِي يَحْيَى الْبكاء، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر من «سنَنه» : فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث نظر.
وَقَالَ أَبُو بكر الْمعَافِرِي: هَذَا حَدِيث ضَعِيف الْإِسْنَاد وَهُوَ فِي بَاب الْأَذَان حسن، وَادَّعَى بعض محدثي بَغْدَاد من أهل الْعَصْر فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث وَقعت فِي «المصابيح» : هَذَا الحَدِيث عِنْدِي مَوْضُوع خلا قَوْله: (إِذا أَذِنت فترسل، وَإِذا أَقمت فاحدر) ، وَلم يبرهن عَلَى ذَلِك وَلَا نسلم لَهُ.(3/351)
وَرَوَى هَذَا الحَدِيث ابْن عدي من جِهَة يَحْيَى بن مُسلم أَيْضا، وَفِيه: (وَإِذا أَقمت فاخذم) . وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة أبي الشَّيْخ الْحَافِظ، وَالْبَيْهَقِيّ من جِهَة مُعلى بن مهْدي، عَن عبد الْمُنعم الْبَصْرِيّ. قَالَ أَبُو حَاتِم: (مُعلى) هَذَا شيخ موصلي أَدْرَكته وَلم أسمع مِنْهُ، يحدث أَحْيَانًا بِالْحَدِيثِ الْمُنكر.
وَأغْرب الْحَاكِم أَبُو عبد الله فَأخْرج هَذَا الحَدِيث فِي «مُسْتَدْركه» بِزِيَادَة ضَعِيف آخر (وَهُوَ) عَمْرو بن فائد الأسواري الْمَتْرُوك بَين عبد الْمُنعم وَيَحْيَى بن مُسلم، وَهِي تورث رِيبَة (فِي رمي) رِوَايَة التِّرْمِذِيّ بالانقطاع أَو الِاخْتِلَاف فِي الْإِسْنَاد؛ فَقَالَ: ثَنَا أَبُو بكر أَحْمد بن إِسْحَاق، أَنا عَلّي بن عبد الْعَزِيز، ثَنَا عَلّي بن حَمَّاد بن أبي طَالب، ثَنَا عبد الْمُنعم بن نعيم الريَاحي، نَا عَمْرو بن فائد الأسواري، نَا يَحْيَى بن مُسلم، عَن الْحسن وَعَطَاء، عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ [لِبلَال] : «إِذا أَذِنت (فترسل) فِي أذانك ... » الحَدِيث إِلَى قَوْله: «لقَضَاء حَاجته» ثمَّ قَالَ: هَذَا (حَدِيث) لَيْسَ فِي إِسْنَاده مطعون فِيهِ غير عَمْرو بن فائد (الأسواري) وَالْبَاقُونَ شُيُوخ الْبَصْرَة. قَالَ: وَهَذِه سنة غَرِيبَة لَا أعرف لَهَا إِسْنَادًا غير هَذَا، وَلم يخرجَاهُ.
هَذَا كَلَامه؛ وَفِيه نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: فِي دَعْوَاهُ أَنه لَيْسَ فِي(3/352)
إِسْنَاده مطعون فِيهِ غير عَمْرو بن فائد، وَفِيه اثْنَان (ضعيفان) بِمرَّة عبد الْمُنعم وَيَحْيَى بن مُسلم، كَمَا سلف.
وَأما عَمْرو بن فائد الْمَزِيد فِي الْإِسْنَاد، فَإِنَّهُ واه بِمرَّة، نسبه عَلّي بن الْمَدِينِيّ إِلَى الْوَضع، وَتَركه الدارقطني.
ثَانِيهمَا: دَعْوَاهُ أَن هَذِه السّنة لَيْسَ لَهَا إِلَّا هَذَا الْإِسْنَاد؛ فَإِن لَهَا إِسْنَاد ثَان وثالث، أسندها الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْقَاسِم بن الحكم، ثَنَا عَمْرو بن شمر، حَدثنَا عمرَان بن مُسلم، قَالَ: سَمِعت سُوَيْد بن غَفلَة قَالَ: سَمِعت عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَقُول: (كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَأْمُرنَا أَن نرتل الْأَذَان، ونحذف الْإِقَامَة) ، وَعَمْرو هَذَا رَافِضِي مَتْرُوك، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم فِي «الْأَوْسَط» : لم يروه عَن (عَمْرو بن شمر) إِلَّا أَبُو مُعَاوِيَة.
قلت: قد رَوَاهُ الْقَاسِم بن الحكم وَهُوَ أَبُو أَحْمد (العرني) - فِيمَا أَظن - وَهُوَ ثِقَة وَإِن لينه الْعقيلِيّ حَيْثُ قَالَ: فِي حَدِيثه مَنَاكِير لَا يُتَابع عَلَى كثير من حَدِيثه.
وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «كناه» : سَمِعت أَبَا (الْحسن) الْقَارئ(3/353)
يَقُول: سَمِعت أَبَا حَفْص - يَعْنِي: عَمْرو بن عَلّي - يَقُول: رجل يُقَال لَهُ يُوسُف بن عَطِيَّة كُوفِي أكذب من هَذَا قدم علينا، نزل المربد (سمعته) يَقُول: نَا عَمْرو بن شمر، عَن عمرَان بن مُسلم، عَن سُوَيْد بن غَفلَة، عَن عَلّي قَالَ: (قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (لِبلَال) : إِذا أَذِنت فترسل، وَإِذا أَقمت (فاحذم)) وَحدث أَحَادِيث مُنكرَة عَن قوم معروفين.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه لما أخرجه من حَدِيث جَابر وَضَعفه: وَقد رُوِيَ بِإِسْنَاد آخر عَن الْحسن وَعَطَاء، عَن أبي هُرَيْرَة؛ وَلَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ. ثمَّ (ذكره) بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ بِلَفْظ قَالَ: (قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لِبلَال ... ) فَذكره إِلَى قَوْله: (لقَضَاء حَاجته) ثمَّ قَالَ: الْإِسْنَاد (الأول أشهر) من هَذَا.
قَالَ الدارقطني: وأنبأنا مُحَمَّد بن مخلد، ثَنَا الْحسن بن عَرَفَة، نَا مَرْحُوم بن عبد الْعَزِيز، عَن أَبِيه، عَن أبي الزبير مُؤذن بَيت الْمُقَدّس - وَهُوَ (مِمَّن) لَا يعرف اسْمه عَلَى مَا قَالَه الْحَاكِم أَبُو أَحْمد - قَالَ: (جَاءَنَا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (فَقَالَ) : إِذا أَذِنت فترسل، وَإِذا أَقمت (فاحذم)) وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «فاحدر» .
فَائِدَة: الترسل: التأني وَترك العجلة، قَالَ الْأَزْهَرِي: (الترسل: التمهل) فِي تأذينه وتبيين كَلَامه تبيينًا يفهمهُ كل من (يسمعهُ.(3/354)
قَالَ) : وَهُوَ من قَوْلك: جَاءَ فلَان عَلَى رسله أَي: عَلَى هينته غير عجل وَلَا مُتْعب نَفسه. (وَكَذَا) قَالَ الرَّافِعِيّ فِي «الْكتاب» : الترسل هُوَ الترتيل، والحدر - بِالْحَاء وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ -: الْإِسْرَاع وَترك التَّطْوِيل. وَقَوله: (فاحدر) يجوز لَك أَن تَقْرَأهُ بِكَسْر الدَّال وَضمّهَا.
قَالَ ابْن سَيّده: حدر الشَّيْء يحدُره ويحدِره حدرًا (أَو) حدورًا فانحدر: حطه من علو إِلَى سفل.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «دقائق الرَّوْضَة» : يحدر - بِضَم الدَّال مَعَ فتح الْيَاء - أَي: يسْرع.
قَالَ أهل اللُّغَة: حدرت الْقِرَاءَة وَالْأَذَان (وَنَحْوهمَا) أحدره حدرًا إِذا أسرعت بِهِ.
وَقَوله فِي رِوَايَة ابْن عدي وَمن تبعه: (فاحذم) رُوِيَ بأوجه: أَحدهَا: بحاء مُهْملَة، ثمَّ ذال مُعْجمَة مَكْسُورَة وَبعدهَا مِيم (وهمزته) همزَة وصل، وَعَلِيهِ اقْتصر الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» قَالَ صَاحب «الْمُحكم» : الحذم: الْإِسْرَاع فِي الشَّيْء. قَالَ: وَمِنْه قَول عمر ... فَذكر الْأَثر السالف، وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ نقلا عَن أبي عبيد، عَن الْأَصْمَعِي: إِن الحذم الحدر فِي الْإِقَامَة، وَقطع التَّطْوِيل. قَالَ ابْن فَارس: كل شَيْء أسرعت فِيهِ فقد حذمته.
ثَانِيهَا: بِالْجِيم والذال الْمُعْجَمَة، أَي: اقْطَعْ التَّطْوِيل.(3/355)
ثَالِثهَا: بِالْخَاءِ والذال المعجمتين، وَهُوَ من الخذم، أَي: السرعة، حَكَى هَذَا الْوَجْه وَالَّذِي قبله أَبُو الْقَاسِم بن البزري.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «تهذيبه» : وَالْأول هُوَ الصَّوَاب الْمَشْهُور الْمَعْرُوف، والوجهان (الْآخرَانِ) صَحِيحَانِ فِي اللُّغَة أَيْضا، وَذكره الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْخَاء الْمُعْجَمَة، وَهُوَ اخْتِيَار أبي عبيد، وَعَن خطّ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح عَلَى (حَاشِيَة سنَن) الْبَيْهَقِيّ أَن الصَّوَاب الْمَحْفُوظ فِي هَذَا الْحَرْف بِالْحَاء الْمُهْملَة (قَالَ) : وأخبرت قِرَاءَة عَن عبد الغافر بن إِسْمَاعِيل صَاحب «مجمع الغرائب» قَالَ: - وَقد أورد هَذَا الحَدِيث (بالحرف) الْمَذْكُور - أصل الحذم: الْإِسْرَاع فِي الشَّيْء أمره بِالتَّخْفِيفِ فِي الْإِقَامَة، وَأما (الخذم) والجذم (بِالْخَاءِ) وَالْجِيم فهما من الْقطع وليسا من (هَذَا) الحَدِيث.
والاعتصار: ارتجاع الْعَطِيَّة، واعتصر من الشَّيْء: أَخذ، والاعتصار أَن يَأْخُذ من الْإِنْسَان مَالا بغرم أَو بِشَيْء غَيره، وَكَأن الْكِنَايَة عَن الدَّاخِل لقَضَاء الْحَاجة بالمعتصر من ذَلِك.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
عَن أبي مَحْذُورَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (ألْقَى عليَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - التأذين بِنَفسِهِ، فَقَالَ: قل: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله،(3/356)
أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله بالترجيع) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي الْبَاب فِي الحَدِيث الْعَاشِر مِنْهُ.
الحَدِيث السَّادِس عشر
ورد الْخَبَر بالتثويب فِي أَذَان الصُّبْح.
هُوَ كَمَا قَالَ. وَقد ورد ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (من السّنة إِذا قَالَ الْمُؤَذّن فِي أَذَان الْفجْر: حَيّ عَلَى الْفَلاح قَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله) .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح. وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ تَثْنِيَة التثويب.
وَرَوَاهُ ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» المأثورة بِلَفْظ: عَن أنس قَالَ: (كَانَ التثويب فِي صَلَاة الْغَدَاة: إِذا قَالَ الْمُؤَذّن حَيّ عَلَى الْفَلاح فَلْيقل: الصَّلَاة خير من النّوم) .
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» : وَقد سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث رِوَايَته هَكَذَا (هُوَ) الْمَحْفُوظ، وَأما من رَوَاهُ عَنهُ: (كَانَ التثويب عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: الصَّلَاة خير من النّوم) فَلَيْسَ بِمَحْفُوظ.(3/357)
قلت: (وَلَفْظَة) «من السّنة» يُعْطي (هَذَا أَيْضا) عَلَى الصَّحِيح فِيهِ، وَمِنْهَا حَدِيث سعيد (بن الْمسيب) عَن بِلَال: (أَنه أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُؤذنهُ بِصَلَاة الْفجْر، فَقيل: هُوَ نَائِم (فَقَالَ) الصَّلَاة خير من النّوم مرَّتَيْنِ، فأقرت فِي تأذين الْفجْر فَثَبت الْأَمر عَلَى ذَلِك.
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن (عَمْرو) بن رَافع، نَا عبد الله بن الْمُبَارك، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بِهِ. وَهَذَا إِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات أَئِمَّة أَعْلَام مخرج حَدِيثهمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ، إِلَّا (عَمْرو) بن رَافع شيخ ابْن مَاجَه، وَهُوَ حَافظ.
قَالَ أَبُو حَاتِم: قل من كتبنَا عَنهُ أصدق لهجة وَأَصَح حَدِيثا مِنْهُ (لَكِن) أعله النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» بالانقطاع. قَالَ (لِأَن) سعيدًا لم يسمع من بِلَال وَهُوَ الظَّاهِر؛ فَإِنَّهُ كَانَ صَغِيرا عِنْد موت بِلَال؛ فَإِن مولد سعيد سنة خمس عشرَة (من الْهِجْرَة) وَقيل: (سنة) سبع عشرَة، وَمَات بِلَال سنة عشْرين أَو إِحْدَى وَعشْرين، فَيكون سنّ سعيد (إِذْ(3/358)
ذَاك خمس) سِنِين (أَو أَربع سِنِين) عَلَى الأول، وَثَلَاث أَو أَربع عَلَى الثَّانِي.
وَرُوِيَ من طَرِيق آخر مُتَّصِل (رَوَاهُ) ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» المأثورة من حَدِيث عبد الله بن زيد، عَن بِلَال أَيْضا.
وَمِنْهَا حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (اسْتَشَارَ النَّاس) لما يهمهم إِلَى الصَّلَاة، فَذكرُوا البوق فكرهه من أجل الْيَهُود، ثمَّ ذكرُوا الناقوس (فكرهه) من أجل النَّصَارَى، فأري النداء تِلْكَ اللَّيْلَة رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: عبد الله بن زيد، وَعمر بن الْخطاب فطرق الْأنْصَارِيّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَيْلًا، فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِلَالًا فَأذن بِهِ) قَالَ الزُّهْرِيّ: وَزَاد بِلَال فِي نِدَاء صَلَاة الْغَدَاة: «الصَّلَاة خير من النّوم، فأقرها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ عمر: يَا رَسُول الله، قد (رَأَيْت) مثل الَّذِي رَأَى وَلكنه سبقني) .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن مُحَمَّد بن خَالِد بن عبد الله الوَاسِطِيّ، نَا أبي، عَن عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ (بِهِ) وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد كلهم فِي (الصِّحَاح) إِلَّا الوَاسِطِيّ الْمَذْكُور(3/359)
فَفِيهِ مقَال، ضعفه أَبُو زرْعَة وَغَيره، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ عَلَى (يَدي) عدل.
وَرَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاس السراج فِي (مُسْنده) عَن الْحسن بن سَلام، وَأبي عَوْف قَالَا: حَدثنَا أَبُو نعيم، نَا سُفْيَان، عَن ابْن عجلَان، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: (كَانَ فِي الْأَذَان الأول بعد حَيّ عَلَى الصَّلَاة حَيّ عَلَى الْفَلاح: الصَّلَاة خير من النّوم (الصَّلَاة خير من النّوم)) .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن عَلّي بن عبد الْعَزِيز، عَن أبي نعيم، وَمن جِهَته أخرجه (الْبَيْهَقِيّ) .
وَمِنْهَا عَن أبي مَحْذُورَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (كنت أؤذن للنَّبِي (فَكنت أَقُول فِي أَذَان الْفجْر الأول: حَيّ عَلَى الصَّلَاة، حَيّ عَلَى الْفَلاح، الصَّلَاة خير من النّوم، الصَّلَاة خير من النّوم، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله) .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث سُفْيَان، عَن أبي جَعْفَر، عَن أبي (سلمَان) عَن أبي مَحْذُورَة بِهِ، ثمَّ قَالَ: أَبُو جَعْفَر هَذَا لَيْسَ بِأبي جَعْفَر الْفراء، وَسَتَأْتِي رِوَايَة أبي دَاوُد أَيْضا لَهُ فِي الحَدِيث الثَّامِن عشر، وَفِي الْبَاب غير ذَلِك من الْأَحَادِيث كَحَدِيث عَائِشَة وَغَيرهَا حذفتها اختصارًا.(3/360)
(وَذكره) الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» عَن بِلَال وَعلي، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وهما منقطعان.
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن بِلَال رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تثوبن فِي شَيْء من أصلح إِلَّا (فِي) صَلَاة الْفجْر) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي إِسْرَائِيل، عَن الحكم، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن بِلَال بِهِ.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن أبي إِسْرَائِيل، عَن الحكم، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن بِلَال (قَالَ) : أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أثوب فِي الْفجْر، ونهاني أَن أثوب فِي الْعشَاء) .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث (أبي) إِسْرَائِيل بِهِ بِلَفْظ: (أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن لَا أثوب فِي شَيْء من الصَّلَاة إِلَّا (فِي) صَلَاة الْفجْر) .
وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» من هَذَا الْوَجْه أَيْضا، وَمن حَدِيث(3/361)
الحكم (أَو) الْحسن بن عمَارَة بِهِ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث أبي إِسْرَائِيل الْملَائي واسْمه: إِسْمَاعِيل ابْن أبي إِسْحَاق، وَلَيْسَ بذلك الْقوي عِنْد أهل الحَدِيث، وَأَبُو إِسْرَائِيل لم يسمع هَذَا الحَدِيث من الحكم بن (عتيبة) (قَالَ) إِنَّمَا رَوَاهُ عَن (الْحسن) بن عمَارَة، عَن الحكم بن (عتيبة) .
قلت: ووراء ذَلِك كُله عِلّة أُخْرَى، وَهِي الِانْقِطَاع؛ فَإِن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى لم يدْرك بِلَالًا، كَمَا نَص عَلَيْهِ غير وَاحِد من الْحفاظ، قَالَ الشَّافِعِي: لَا نعلم عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى رَأَى بِلَالًا قطّ؛ عبد الرَّحْمَن بِالْكُوفَةِ، وبلال بِالشَّام! .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : عبد الرَّحْمَن لم يسمع من بِلَال وَلَا أدْرك أَذَانه. وَسَبقه إِلَى ذَلِك يَحْيَى بن معِين أَيْضا.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم لما سُئِلَ: هَل سمع مِنْهُ؟ (قَالَ) : كَانَ بِلَال خرج إِلَى الشَّام فِي خلَافَة عمر قَدِيما؛ فَإِن كَانَ رَآهُ كَانَ صَغِيرا.
وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فَإِن مولد عبد الرَّحْمَن لستًّ (بَقينَ) من خلَافَة(3/362)
عمر كَمَا حَكَاهُ شُعْبَة عَن الحكم عَنهُ. وَقَالَ ابْن معِين إِنَّه لم ير عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقد أسلفنا فِي الحَدِيث قبله وَفَاة بِلَال، (فَحصل) تَعْلِيل الحَدِيث بالضعف والانقطاع، أما الضعْف (فبسبب أبي) إِسْرَائِيل، واسْمه: إِسْمَاعِيل بن أبي إِسْحَاق، واسْمه: خَليفَة - أَو عبد الْعَزِيز، قَولَانِ - الْملَائي الْعَبْسِي الْكُوفِي، ضَعَّفُوهُ، قَالَ يَحْيَى: أَصْحَاب الحَدِيث لَا يَكْتُبُونَ حَدِيثه. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَتَركه ابْن مهْدي، وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ يُخَالف فِيهِ الثِّقَات. وَقَالَ الْعقيلِيّ: فِي حَدِيثه وهم واضطراب وَله مَعَ ذَلِك مَذْهَب سوء خَبِيث.
وَأما الِانْقِطَاع فَفِي موضِعين:
أَحدهمَا: (بَين) ابْن أبي لَيْلَى وبلال، وَهُوَ وَاضح كَمَا سلف.
الثَّانِي: بَين أبي إِسْرَائِيل وَالْحكم كَمَا قَالَه التِّرْمِذِيّ، وَفِيه وَقْفَة؛ فَإِن الإِمَام أَحْمد قد قَالَ فِي رِوَايَته: نَا حسن بن الرّبيع، نَا أَبُو إِسْرَائِيل، نَا الحكم. لَكِن قد رَوَاهُ الْعقيلِيّ من حَدِيث الحكم (أَو) الْحسن بن عمَارَة - عَلَى الشَّك كَمَا سلف - ثمَّ قَالَ: رَأَيْت فِي كتاب مُحَمَّد بن مُسلم (بن وارة) أخرجه إِلَى (أَبِيه) (بِالريِّ) قَالَ (لي) أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ: مَرَرْت يَوْمًا عَلَى بَاب أبي إِسْرَائِيل فَإِذا ريَاح قَاعد، فَقلت: مَا أقعدك هَا هُنَا؟ ! فَقَالَ: بَلغنِي حَدِيث عَن هَذَا، فَلم أتمالك -(3/363)
وَإِذا هُوَ قد ذكر حَدِيث بِلَال فِي التثويب - فاستأذنت عَلَى أبي إِسْرَائِيل فَأذن (لنا) فَلم أزل ألطف بِهِ فَلَمَّا قمنا قلت لَهُ: شَيْئا (اخْتَلَفْنَا) فِيهِ فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ فَذكرت ذَلِك، فَقَالَ: نَا الحكم، عَن (ابْن) أبي لَيْلَى - أَو الْحسن بن عمَارَة -: (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِبلَال ... » الحَدِيث.
قَالَ الْعقيلِيّ: وحَدثني آدم بن مُوسَى قَالَ: سَمِعت البُخَارِيّ قَالَ: (نَا) إِسْمَاعِيل بن أبي إِسْحَاق أَبُو إِسْرَائِيل الْعَبْسِي الْملَائي الْكُوفِي، عَن الحكم، وعطية ضعفه أَبُو الْوَلِيد، قَالَ: سَأَلته عَن حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى، عَن بِلَال، وَكَانَ يرويهِ عَن الحكم فِي الْأَذَان فَقَالَ سمعته من الحكم وَالْحسن بن عمَارَة.
قلت: وَالْحسن بن عمَارَة (أحد) الهلكى، قَالَ زَكَرِيَّا السَّاجِي: أَجمعُوا عَلَى ترك حَدِيثه. فتقرر إِذا ضعف هَذَا الحَدِيث بشواهده. وَخَالف ابْن الْجَوْزِيّ (فَذكر) هَذَا الحَدِيث فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» من طريق الإِمَام (أَحْمد) محتجًّا بِهِ، ثمَّ قَالَ: إِن قيل: أَبُو إِسْحَاق ضَعِيف، ثمَّ لم يسمعهُ من الحكم، إِنَّمَا رَوَاهُ عَن الْحسن بن عمَارَة، عَن الحكم. قُلْنَا: مُجَرّد التَّضْعِيف لَا يقبل حَتَّى يبين سَببه، وَقد رَوَاهُ أَحْمد عَنهُ فَقَالَ: ثَنَا الحكم: (و) هَذَا لَيْسَ بجيد مِنْهُ، وَعَلَى تَقْدِير تَسْلِيم ذَلِك لَهُ فَكيف يعْمل بالانقطاع (بَين) ابْن أبي لَيْلَى(3/364)
وبلال وأجمل ابْن السكن القَوْل فِي تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث فَقَالَ بعد أَن ذكره فِي «صحاحه» : لَا يَصح إِسْنَاده.
فَائِدَة: قَول التِّرْمِذِيّ السالف هَذَا حَدِيث لَا (نعرفه) إِلَّا من حَدِيث أبي إِسْرَائِيل الْملَائي، قد عرفنَا لَهُ بِفضل الله (وَمِنْه) طَرِيقا آخر غَيره رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن الْحسن الزجاجي، عَن أبي سعيد، وَهُوَ (الْبَقَّال) عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن بِلَال قَالَ: «أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أثوب فِي الْفجْر، ونهاني أَن أثوب فِي الْعشَاء» وَعبد الرَّحْمَن هَذَا إِن (يكن) الرَّاوِي عَن معمر وطبقته، فقد قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فِي حَقه: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ غَيره: صَالح الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّامِن عشر
ثَبت عَن أبي مَحْذُورَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْأَذَان وَقَالَ: (إِذا) كنت فِي أَذَان الصُّبْح فَقلت: حَيّ عَلَى (الْفَلاح) (فَقل) الصَّلَاة خير من النّوم مرَّتَيْنِ) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من حَدِيث الْحَارِث(3/365)
بن عبيد، عَن مُحَمَّد بن (عبد الْملك) بن أبي مَحْذُورَة، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله، عَلمنِي سنة الْأَذَان، قَالَ: فَمسح مقدم رَأسه قَالَ: تَقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، ترفع بهَا صَوْتك، ثمَّ تَقول: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، تخْفض بهَا (صَوْتك) ثمَّ ترفع صَوْتك بِالشَّهَادَةِ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حَيّ عَلَى الصَّلَاة، حَيّ عَلَى الصَّلَاة، حَيّ عَلَى الْفَلاح، حَيّ عَلَى الْفَلاح (فَإِن) كَانَ صَلَاة الصُّبْح قلت: الصَّلَاة خير من النّوم، الصَّلَاة خير من النّوم، الله أكبر (الله أكبر) لَا إِلَه إِلَّا الله) .
وَلما ذكر عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» هَذَا الحَدِيث بالسند الْمَذْكُور قَالَ: لَا يحْتَج بِهَذَا الْإِسْنَاد.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلم يبين علته، وَهِي (الْجَهْل) بِحَال مُحَمَّد بن عبد الْملك (بن) أبي مَحْذُورَة، وَلَا نعلم رَوَى عَنهُ إِلَّا أَبُو قدامَة الْحَارِث بن عبيد، وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف (قَالَه) ابْن معِين، وَقَالَ فِيهِ أَيْضا: مُضْطَرب الحَدِيث. وَكَذَا قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي: سَمِعت ابْن مهْدي(3/366)
يحدث عَنهُ، وَقَالَ: كَانَ من شُيُوخنَا، وَمَا رَأَيْت إِلَّا خيرا، فَأَما عبد الْملك بن أبي مَحْذُورَة (فقد) رَوَى عَنهُ جمَاعَة (و) سَاق التِّرْمِذِيّ حَدِيثا فِي الْأَذَان من رِوَايَته وَرِوَايَة ابْنه عبد الْعَزِيز جَمِيعًا وَصَححهُ.
قلت: أما الْحَارِث بن عبيد؛ فَأخْرج لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» محتجًّا (بِهِ، وَالْبُخَارِيّ) تَعْلِيقا، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» (و) قَالَ السَّاجِي صَدُوق. وَأما مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أبي مَحْذُورَة فروَى عَنهُ سُفْيَان (الثَّوْريّ) أَيْضا، كَمَا أَفَادَهُ الْمزي فِي «تهذيبه» وَأخرج (لَهُ) .
وَأخرج أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» الحَدِيث من طريقهما، فَقَالَ: أَنا الْفضل بن الْحباب الجُمَحِي، نَا مُسَدّد بن مسرهد، ثَنَا الْحَارِث بن عبيد، عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أبي مَحْذُورَة، عَن أَبِيه، عَن جده ... كَمَا ذكره) أَبُو دَاوُد، فصح إِذا قَول الرَّافِعِيّ إِنَّه حَدِيث ثَابت، وَكَذَا قَول صَاحب «الْمُهَذّب» و «الْوَسِيط» إِنَّه قد صَحَّ التثويب فِي خبر أبي مَحْذُورَة، وَقد سكت عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد (فَهُوَ) مُحْتَج بِهِ عِنْده.(3/367)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من غير طَرِيقه من حَدِيث عُثْمَان (بن) السَّائِب قَالَ: أَخْبرنِي أبي وَأم عبد الْملك بن أبي مَحْذُورَة ... فَذكر حَدِيث الْأَذَان (وَفِيه) : (الصَّلَاة خير من النّوم) فِي صَلَاة الصُّبْح وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة، ثمَّ ذكره أَبُو دَاوُد من طَرِيقين آخَرين - أَيْضا - عَن أبي مَحْذُورَة، وَقد أسلفنا لَهُ طَرِيقا آخر عَن النَّسَائِيّ فِي الحَدِيث السَّادِس عشر أَيْضا
الحَدِيث التَّاسِع عشر
(أَن الْملك الَّذِي رَآهُ عبد الله بن زيد (فِي الْمَنَام) كَانَ قَائِما) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث شُعْبَة، عَن عَمْرو بن مرّة، عَن ابْن أبي لَيْلَى قَالَ: (أحيلت الصَّلَاة ثَلَاثَة أَحْوَال، قَالَ: ونا أَصْحَابنَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: لقد أعجبني أَن تكون صَلَاة الْمُسلمين - أَو الْمُؤمنِينَ - وَاحِدَة، حَتَّى لقد هَمَمْت أَن أبث رجَالًا فِي الدّور ينادون النَّاس بِحِين الصَّلَاة، وَحَتَّى هَمَمْت أَن آمُر [رجَالًا] يقومُونَ عَلَى (الْآطَام) ينادون الْمُسلمين بِحِين الصَّلَاة حَتَّى نقسوا - أَو كَادُوا أَن (ينقسوا) - قَالَ: فجَاء رجل من الْأَنْصَار قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي(3/368)
(لما) رجعت لما رَأَيْت من اهتمامك رَأَيْت رجلا (كَأَن) عَلَيْهِ (ثَوْبَيْنِ أخضرين) فَقَامَ عَلَى الْمَسْجِد فَأذن، ثمَّ قعد (قعدة) ثمَّ قَامَ فَقَالَ مثلهَا، إِلَّا أَنه يَقُول: قد قَامَت الصَّلَاة. وَلَوْلَا (أَن يَقُول النَّاس - قَالَ ابْن الْمثنى) أَن تَقولُوا - لَقلت إِنِّي كنت يقظانًا غير نَائِم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لقد أَرَاك الله خيرا؛ فَمر بِلَالًا فليؤذن. قَالَ: فَقَالَ عمر: أما إِنِّي قد رَأَيْت مثل الَّذِي رَأَى، وَلَكِنِّي لما سبقت استحييت ... ) . وَذكر بَاقِي الحَدِيث.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث وَكِيع عَن الْأَعْمَش، عَن عَمْرو بن مرّة، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى قَالَ: ثَنَا أَصْحَاب مُحَمَّد «أَن عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، رَأَيْت فِي الْمَنَام رجلا قَامَ عَلَى جذم حَائِط فَأذن مثنى، وَأقَام (مثنى) وَقعد قعدة، وَعَلِيهِ (بردَان) أخضران) .
(و) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي بكر بن عَيَّاش، عَن الْأَعْمَش، عَن عَمْرو ابْن مرّة، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن معَاذ بن جبل قَالَ: (قَامَ رجل من الْأَنْصَار - عبد الله بن زيد يَعْنِي - (إِلَى) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي رَأَيْت فِي(3/369)
(الْمَنَام) كَأَن رجلا نزل من السَّمَاء عَلَيْهِ بردَان أخضران، نزل عَلَى جذم حَائِط من الْمَدِينَة، فَأذن مثنى مثنى (ثمَّ) جلس، ثمَّ قَامَ فَقَالَ مثنى مثنى (ثمَّ) جلس - قَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش: عَلَى نَحْو من أذاننا الْيَوْم - قَالَ: علمهَا بِلَالًا (فَقَالَ) عمر: قد رَأَيْت مثل الَّذِي رَأَى، وَلكنه سبقني) .
وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ أَيْضا من هَذِه الطَّرِيق وَلَفظه: أَن عبد الله بن زيد قَالَ: (يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِنِّي) لم أكن نَائِما بَين النَّائِم وَالْيَقظَان، رَأَيْت شخصا عَلَيْهِ ثَوْبَان أخضران، قَامَ فَاسْتقْبل الْقبْلَة فَقَالَ: الله أكبر الله أكبر، حَتَّى فرغ من الْأَذَان - مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ - قَالَ فِي آخر أَذَانه: الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله، ثمَّ أمْهل شَيْئا، ثمَّ قَالَ مثل الَّذِي قَالَ، غير أَنه قَالَ: قد قَامَت الصَّلَاة - مرَّتَيْنِ - فَقَالَ: علمهَا بِلَالًا. فَكَانَ أول من أذن بهَا، فجَاء عمر فَقَالَ: (يَا رَسُول الله، قد أطاف بِي اللَّيْلَة مثل الَّذِي أطاف بِعَبْد الله بن زيد غير أَنه) سبقني إِلَيْك) .
وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن عبد الله ابْن زيد الْأنْصَارِيّ أَنه قَالَ: (لما كَانَ اللَّيْل قبل الْفجْر غشيني النعاس، فَرَأَيْت رجلا عَلَيْهِ (ثَوْبَان أخضران وَأَنا بَين النَّائِم وَالْيَقظَان، فَقَامَ عَلَى سطح الْمَسْجِد، فَجعل أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ ونادى ... ) الحَدِيث بِطُولِهِ.(3/370)
وَرِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ وَأبي الشَّيْخ الأولَى مُنْقَطِعَة؛ فَإِن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى لم يسمع من معَاذ، كَمَا نَص عَلَيْهِ التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَة.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَهُوَ ظَاهر؛ فَإِن ابْن (أبي) لَيْلَى قَالَ: ولدت لست بَقينَ من خلَافَة عمر ( ... ) كَمَا سلف فَيكون مولده سنة سبع عشرَة من الْهِجْرَة، ومعاذ توفّي سنة سبع عشرَة أَو ثَمَان عشرَة، وَقيل إِن مولده لست مضين من خلَافَة عمر، فَيكون مولده عَلَى هَذَا بعد موت معَاذ.
قلت: وينكر حِينَئِذٍ عَلَى الْحَاكِم؛ فَإِنَّهُ أخرج حَدِيثا فِي كتاب التَّفْسِير من (مُسْتَدْركه) من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن معَاذ، ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَرِوَايَة أبي الشَّيْخ الثَّانِيَة مُنْقَطِعَة أَيْضا؛ فَإِن ابْن أبي لَيْلَى لم يسمع من عبد الله بن زيد أَيْضا كَمَا نَص عَلَيْهِ التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي حَدِيث آخر، لَكِن يُمكن سَمَاعه مِنْهُ فَإِن عبد الله بن زيد توفّي سنة اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَابْن أبي لَيْلَى ولد سنة سبع عشرَة كَمَا سلف.
وَقَول ابْن أبي لَيْلَى فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (ثَنَا أَصْحَابنَا، قَالَ الْمُنْذِرِيّ:) إِن أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَة فَيكون الحَدِيث مُسْندًا؛ وَإِلَّا فَهُوَ مُرْسل، وَقد سمع من جمَاعَة من الصَّحَابَة.
قلت: المُرَاد هُنَا الأول، يُؤَيّدهُ رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: ثَنَا أَصْحَاب مُحَمَّد (. فَهِيَ مُتَّصِلَة من غير شكّ؛ لما عرفه من مَذَاهِب أهل السّنة فِي عَدَالَة الصَّحَابَة، وَأَن جَهَالَة الِاسْم فيهم غير ضارة، لَا جرم قَالَ ابْن حزم:(3/371)
إسنادها فِي غَايَة من الصِّحَّة. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : رجالها رجال الصَّحِيحَيْنِ.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
(أَن (بِلَالًا) وَغَيره من مؤذني رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانُوا يُؤذنُونَ قيَاما) .
حَدِيث بِلَال فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (كَانَ الْمُسلمُونَ حِين قدمُوا الْمَدِينَة يَجْتَمعُونَ يتحينون الصَّلَاة، وَلَيْسَ يُنَادي بهَا أحد، فتكلموا يَوْمًا فِي ذَلِك، فَقَالَ بَعضهم: اتَّخذُوا ناقوسًا مثل ناقوس النَّصَارَى وَقَالَ بَعضهم: قرنا مثل قرن الْيَهُود. فَقَالَ عمر: أَولا تبعثون رجلا يُنَادي بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا بِلَال، قُم فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) .
لَكِن قد يُقَال: هَذَا النداء الْمَأْمُور هُوَ الْإِعْلَام لَا الْأَذَان الْخَاص؛ فَإِن ذَلِك قبل مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان، وَأَيْضًا فقد يكون المُرَاد قُم واذهب إِلَى مَوضِع بارز فَنَادِ فِيهِ بِالصَّلَاةِ ليسمعك النَّاس من الْبعد، وَلَيْسَ فِيهِ معرض الْقيام فِي حَال الْأَذَان.
فِي «خلافيات» الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْحسن (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر بِلَالًا فِي سفر فَأذن عَلَى رَاحِلَته، ثمَّ نزلُوا فصلوا رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ أمره فَأَقَامَ فَصَلى بهم الصُّبْح) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا مُرْسل. قَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع كل من نَحْفَظ عَنهُ من أهل الْعلم عَلَى أَن السّنة أَن يُؤذن الْمُؤَذّن قَائِما. قَالَ: وَقد(3/372)
روينَا عَن أبي زيد صَاحب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَكَانَت رجله أُصِيبَت فِي سَبِيل الله - أَنه أذن وَهُوَ قَاعد، قَالَ: وَثَبت أَن ابْن عمر كَانَ يُؤذن عَلَى الْبَعِير وَينزل فيقيم، وَأما [غَيره] من مؤذني رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَهُوَ الظَّاهِر من فعلهم) .
وَفِي النَّسَائِيّ عَن أبي مَحْذُورَة قَالَ: (خرجت فِي سفر وَكُنَّا فِي بعض طَرِيق حنين مقفل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من حنين ... ) الحَدِيث، وَفِيه: «فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَيّكُم الَّذِي سَمِعت صَوته أرفع؟ فَأَشَارَ الْقَوْم إِلَيّ وَصَدقُوا، فأرسلهم كلهم وحبسني، قَالَ: قُم فَأذن بِالصَّلَاةِ. فَألْقَى عَلّي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - التأذين هُوَ بِنَفسِهِ) قَالَ [ابْن] عبد الْحق فِيمَا رده عَلَى «الْمُحَلَّى» : وَكَذَلِكَ تَلقاهُ الْمُسلمُونَ. قَالَ: وَلم يرو عَن أحد مِنْهُم أَنه أذن قَاعِدا لغير عذر.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
عَن أبي جُحَيْفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا خرج إِلَى الأبطح، فَلَمَّا بلغ: حَيّ على الصلاة، حَيّ عَلَى الْفَلاح لوى عُنُقه يَمِينا وَشمَالًا وَلم يستدبر) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من حَدِيث وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن عون بن أبي جُحَيْفَة، عَن أبي جُحَيْفَة قَالَ: (رَأَيْت(3/373)
بِلَالًا ... ) فَذكره كَذَلِك سَوَاء؛ إِلَّا أَنه قَالَ: (وَلم [يستدر] بدل وَلم يستدبر) .
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة الْأَخِيرَة، رَوَاهُ البُخَارِيّ [عَن] مُحَمَّد بن يُوسُف، عَن سُفْيَان، عَن عون، عَن أَبِيه (أَنه رَأَى بِلَالًا يُؤذن، فَجعلت أتتبع فَاه هَاهُنَا وَهَاهُنَا بِالْأَذَانِ) .
وَرَوَاهُ مُسلم مطولا من حَدِيث وَكِيع بِهِ بِلَفْظ: (أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[بِمَكَّة] وَهُوَ بِالْأَبْطح فِي قبَّة حَمْرَاء من أَدَم، قَالَ: فَخرج بِلَال بوضوئه فَمن نَاضِح ونائل قَالَ: فَخرج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَيْهِ حلَّة حَمْرَاء كَأَنِّي أنظر إِلَى بَيَاض سَاقيه. قَالَ: فَتَوَضَّأ وَأذن بِلَال فَجعلت أتتبع [فَاه] هَاهُنَا وَهَاهُنَا يَقُول يَمِينا وَشمَالًا: حَيّ عَلَى الصَّلَاة حَيّ عَلَى الْفَلاح. قَالَ: ثمَّ ركزت لَهُ عنزة، فَتقدم فَصَلى الظّهْر رَكْعَتَيْنِ يمر بَين يَدَيْهِ الْكَلْب وَالْحمار وَلَا يمْنَع، ثمَّ صَلَّى الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ لم يزل يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة) .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بالاستدارة من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن سُفْيَان، عَن عون، عَن أَبِيه قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا يُؤذن ويدور وَيتبع فَاه هَاهُنَا(3/374)
وَهَاهُنَا، وأصبعاه فِي أُذُنَيْهِ وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي قبَّة لَهُ حَمْرَاء - أُراه قَالَ: من أَدَم - فَخرج بِلَال بَين يَدَيْهِ بالعنزة فركزها بالبطحاء، فَصَلى إِلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (ثمَّ مر) بَين يَدَيْهِ الْكَلْب وَالْحمار وَعَلِيهِ حلَّة حَمْرَاء كَأَنِّي أنظر إِلَى بريق سَاقيه) قَالَ سُفْيَان: نرَاهُ حبرَة.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن عون، عَن أَبِيه قَالَ: (أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَخرج بِلَال فَأذن، فَجعل يَقُول فِي أَذَانه هَكَذَا - ينحرف يَمِينا وَشمَالًا) .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، عَن حجاج بن أَرْطَاة، عَن عون، عَن أَبِيه قَالَ: (أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[بِالْأَبْطح] وَهُوَ فِي قبَّة حَمْرَاء فَخرج بِلَال، فَأذن فَاسْتَدَارَ فِي أَذَانه وَجعل أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ (أَن بِلَالًا ركز العنزة، ثمَّ أذن وَرفع أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ فرأيته يَدُور فِي أَذَانه) .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من حَدِيث أَحْمد بن حَنْبَل، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن سُفْيَان، عَن عون، عَن أَبِيه قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا يُؤذن ويدور يتبع فَاه هَا هُنَا وَهَا هُنَا وأصبعيه فِي أُذُنَيْهِ، وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي قبَّة حَمْرَاء من أَدَم، فَخرج بِلَال بَين يَدَيْهِ بالعنزة فركزها بالبطحاء، فَصَلى إِلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يمر بَين يَدَيْهِ الْكَلْب وَالْحمار، وَعَلِيهِ حلَّة حَمْرَاء كَأَنِّي أنظر إِلَى بريق سَاقيه) .(3/375)
ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن بشار، عَن (سُفْيَان بن عُيَيْنَة) عَن الثَّوْريّ وَمَالك بن مغول، عَن عون، عَن أَبِيه قَالَ: (رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نزل بِالْأَبْطح ... ) فَذكر الحَدِيث بِنَحْوِهِ.
قَالَ الْحَاكِم: قد اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاج حَدِيث عون غير أَنَّهُمَا لم يذكرَا فِيهِ إِدْخَال الْأصْبع فِي الْأُذُنَيْنِ والاستدارة فِي الْأَذَان، وَهُوَ صَحِيح عَلَى شَرطهمَا جَمِيعًا، وهما سنتَانِ مشهورتان.
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان أَيْضا بِسَنَدِهِ، وَفِيه: (رَأَيْت بِلَالًا يُؤذن يتبع بِفِيهِ - وصف سُفْيَان - يمِيل بِرَأْسِهِ يَمِينا وَشمَالًا.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث يَحْيَى الْحمانِي، عَن قيس بن الرّبيع، عَن عون، عَن أَبِيه قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا خرج بالهاجرة وَمَعَهُ عنزة فركزها، ثمَّ قَامَ يُؤذن، فَجعل أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ وَجعل يَقُول بِرَأْسِهِ هَكَذَا يَمِينا وَشمَالًا حَتَّى فرغ من أَذَانه) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : فِي إِسْنَاده مقَال.
قلت: لَعَلَّه بِسَبَب الطعْن فِي قيس بن الرّبيع؛ فَإِن النَّسَائِيّ تَركه، وَقَالَ السَّعْدِيّ: سَاقِط. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب من زرع أَرض(3/376)
غَيره بِغَيْر إِذْنه: هُوَ ضَعِيف عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ. وَأسْندَ الْأَزْدِيّ أَن أَبَا جَعْفَر اسْتَعْملهُ عَلَى الْمَدَائِن فَكَانَ يعلق النِّسَاء بثديهن وَيُرْسل عَلَيْهِنَّ الزنابير. وَقَالَ الْحُسَيْن بن إِدْرِيس فِي الْفُصُول الَّتِي علقها عَن ابْن عمار: قَالَ ابْن عمار: كَانَ قيس عَالما بِالْحَدِيثِ والكتب، فَلَمَّا ولي الْمَدَائِن قتل رجلا - فِيمَا بَلغنِي - فنفر النَّاس عَنهُ.
وَيَحْيَى الْحمانِي حَافظ تكلم فِيهِ أَيْضا، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وَحط عَلَيْهِ أَحْمد [و] ابْن نمير.
وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» من حَدِيث مُؤَمل، عَن سُفْيَان، عَن عون، عَن أَبِيه بِهِ، وَفِيه: (وضع الأصبعين فِي الْأُذُنَيْنِ) .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث يَحْيَى بن [آدم] عَن سُفْيَان، عَن عون، عَن أَبِيه قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا أذن، فأتبع فَاه هَا هُنَا هَا هُنَا - والتفت سُفْيَان يَمِينا وَشمَالًا) .
قَالَ يَحْيَى: قَالَ سُفْيَان: (كَانَ الْحجَّاج ... ) . فَذكر عَن عون أَنه قَالَ: (واستدار فِي أَذَانه، فَلَمَّا لَقينَا عونًا لم يذكر فِيهِ استدارة) .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث إِدْرِيس الأودي، عَن عون، عَن أَبِيه وَفِيه: (فَجعل أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ، وَجعل يستدير) .(3/377)
وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ من حَدِيث حَمَّاد وهشيم جَمِيعًا، عَن عون، عَن أَبِيه (أَن بِلَالًا أذن لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالبطحاء، فَوضع أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ وَجعل يستدير يَمِينا وَشمَالًا) .
وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «الْمُسْتَخْرج عَلَى البُخَارِيّ» من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، نَا سُفْيَان، عَن عون، عَن أَبِيه «أَنه رَأَى بِلَالًا يُؤذن ويدور، فَيتبع فَاه هَا هُنَا وَهَا هُنَا وأصبعاه فِي أُذُنَيْهِ» .
وَرَوَاهُ أبو عوانة فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن (عون، عَن) أَبِيه (أَن بِلَالًا أذن لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: فرأيته اسْتَدَارَ فِي أَذَانه وَوضع أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ) .
(وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» بالسند الْمَذْكُور بِلَفْظ (أذن بِلَال فَجعل أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ) وَكَانَ يَدُور فِي أَذَانه» وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» بالسند الْمَذْكُور بِلَفْظ: (رَأَيْت بِلَالًا يُؤذن وَقد جعل أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ، وَهُوَ يلتوي فِي أَذَانه يَمِينا وَشمَالًا وَترْجم عَلَيْهِ إِدْخَال الأصبعين فِي الْأُذُنَيْنِ عِنْد الْأَذَان، إِن صَحَّ الْخَبَر، فَإِنِّي لَا أحفظ هَذِه اللَّفْظَة عَن حجاج، وَلست أفهم أسَمِعَ الْحجَّاج من عون أم لَا؟ فأشك فِي صِحَة هَذَا الْخَبَر؛ لهَذِهِ الْعلَّة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : الْحجَّاج مُدَلّس فِي الرِّوَايَة؛ فَلذَلِك قَالَ ابْن خُزَيْمَة مَا قَالَ. قَالَ وننبه لما سلف فِي رِوَايَة يَحْيَى(3/378)
بن آدم، عَن سُفْيَان أَنه رَوَى الحَدِيث عَن حجاج وَلما فِي رِوَايَة (أبي) الْوَلِيد، عَن سُفْيَان (حَدثنِي من سمع من عون؛ فَإِن هَذِه شَهَادَة لمن حَدثهُ أَنه سَمعه من عون، فَإِذا كَانَ الَّذِي حدث (عَن) سُفْيَان) هُوَ حجاج، وَالَّذِي حدث سُفْيَان سمع من عون، فالحجاج سَمعه من عون. قَالَ: وَأما قَول ابْن خُزَيْمَة (إِنَّه) لَا تحفظ هَذِه اللَّفْظَة إِلَّا عَن حجاج فقد جَاءَت من جِهَة قيس بن الرّبيع وَإِدْرِيس الأودي وهشيم عَن عون كَمَا سلف.
وَاعْترض الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ عَلَى رِوَايَة الاستدارة فِي الْأَذَان فَقَالَ: إِنَّهَا لَيست فِي حَدِيث أبي جُحَيْفَة من الطّرق المخرجة فِي الصَّحِيح، قَالَ: وسُفْيَان إِنَّمَا رَوَى الاستدارة فِي هَذَا الحَدِيث عَن رجل، عَن عون (وَنحن نتوهمه) سمع من الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن عون وَالْحجاج غير مُحْتَج بِهِ، وَعبد الرَّزَّاق وهم فِي إدراجه فِي الحَدِيث، ثمَّ اسْتدلَّ بِأَن رَوَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى سُفْيَان، حَدثنِي عون بن أبي جُحَيْفَة، عَن أَبِيه ... فَذكر شَيْئا لَيْسَ فِيهِ الاستدارة، وَقَالَ عقبه وَبِالْإِسْنَادِ: نَا سُفْيَان، حَدثنِي من سمع من عون: (أَنه كَانَ يَدُور وَيَضَع يَدَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ - يَعْنِي: بِلَالًا) قَالَ: وَهَذِه رِوَايَة الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن عون وَذكرهَا بِإِسْنَادِهِ قَالَ: وَقد روينَا من (حَدِيث) قيس بن الرّبيع، عَن عون: (وَلم يستدر) . هَذَا آخر كَلَامه. وَبينا حجَّة الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فَقَالَ فِي «الإِمَام» : أما التَّعْلِيل بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الطّرق المخرجة فِي الصَّحِيح فضعيف، وَقد صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَهُوَ من أَئِمَّة النَّقْل.(3/379)
قلت: وَالْحَاكِم أَيْضا كَمَا سلف.
وَأما (الحكم) بِأَن عبد الرَّزَّاق قد وهم (فِي إدراجه) فَفِيهِ نظر؛ لِأَنَّهُ قد وَقعت مُتَابعَة لروايته عَن سُفْيَان من جِهَة مُؤَمل، عَن سُفْيَان - كَمَا (أسلفناه) - من جِهَة أبي عوَانَة.
وَأما قَوْله: نَحن نتوهمه سمع من الْحجَّاج وَأَن هَذِه رِوَايَة الْحجَّاج؛ فقد وَقع ذَلِك مُصَرحًا بِهِ خَارِجا عَن دَرَجَة الْوَهم، كَمَا أسلفناه عَن رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ، وَأَيْضًا فقد جَاءَت الاستدارة من غير جِهَة الْحجَّاج، كَمَا سلفت من (حَدِيث) إِدْرِيس الأودي، عَن عون من جِهَة الطَّبَرَانِيّ.
فَائِدَة: أَبُو جُحَيْفَة - رَاوِي الحَدِيث (و) هُوَ بجيم مَضْمُومَة، ثمَّ حاء مُهْملَة مَفْتُوحَة - صَحَابِيّ مَشْهُور، واسْمه: عبد الله بن وهب السوَائِي - بِضَم السِّين الْمُهْملَة (و) بِالْمدِّ - قَبيلَة نسب إِلَيْهَا - توفّي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ لم يبلغ الْحلم. والأبطح مَوضِع بَين مَكَّة وَمنى يُضَاف إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا وَهُوَ الْبَطْحَاء.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (يغْفر للمؤذن مدى صَوته) .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق:
أَحدهَا: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه سَمعه من فَم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول:(3/380)
(الْمُؤَذّن يغْفر لَهُ (مدى) صَوته، وَيشْهد لَهُ كل رطب ويابس) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه من حَدِيث شُعْبَة، عَن مُوسَى بن أبي عُثْمَان، عَن أبي يَحْيَى غير (مَنْسُوب) عَن أبي هُرَيْرَة (بِهِ) وَاللَّفْظ للنسائي، وَلَفظ أبي دَاوُد: (الْمُؤَذّن يغْفر لَهُ مدى صَوته، وَيشْهد لَهُ كل رطب ويابس، وَشَاهد الصَّلَاة يكْتب لَهُ خمس وَعِشْرُونَ صَلَاة وَيكفر عَنهُ مَا بَينهمَا) .
(ثَانِيهمَا) : وَلَفظ ابْن مَاجَه: (الْمُؤَذّن يغْفر لَهُ مد صَوته ويستغفر لَهُ كل رطب ويابس) وَالْبَاقِي كَلَفْظِ أبي دَاوُد (إِلَّا) أَنه قَالَ: «حَسَنَة» بدل «صَلَاة» .
قَالَ ابْن الْقطَّان: أَبُو يَحْيَى هَذَا لَا يعرف. قَالَ: وَقد ذكره ابْن الْجَارُود فَلم يزدْ عَلَى مَا أَخذ من هَذَا الْإِسْنَاد من رِوَايَته عَن أبي هُرَيْرَة وَرِوَايَة مُوسَى عَنهُ. قَالَ: وَثمّ جمَاعَة يروون عَن أبي هُرَيْرَة كل وَاحِد مِنْهُم يُقَال لَهُ: أَبُو يَحْيَى، مِنْهُم مولَى جعدة ثِقَة، وَآخر اسْمه: قيس، رَوَى عَنهُ بكير بن الْأَشَج، وَآخر لَا يُسمى رَوَى عَنهُ (صَفْوَان) بن سليم ثِقَة (من) أهل الْمَدِينَة (و) ذكره ابْن أبي حَاتِم.
قَالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم فِي «كناه» : خليقًا أَن يكون هَذَا (قيسا)(3/381)
الَّذِي رَوَى عَنهُ ابْن بكير وَضَعفه بالجهالة أَيْضا الْمُنْذِرِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَبُو يَحْيَى هَذَا لم ينْسب فَيعرف حَاله - يَعْنِي فَيكون مَجْهُولا ويضعف الحَدِيث من أَجله (وَكَذَا) .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : فِي إِسْنَاده مَجْهُول. وَضَعفه فِي «خلاصته» أَيْضا لَكِن قد عرفه غَيرهم. وَوَثَّقَهُ (قَالَ) ابْن حبَان فِي «ثقاته» : أَبُو يَحْيَى هَذَا اسْمه: سمْعَان الْأَسْلَمِيّ (وَنَقله) عَنهُ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «تهذيبه» (وَأقرهُ) .
و (قد) أخرج ابْن حبَان الحَدِيث فِي «صَحِيحه» من جِهَته فَذكره (من حَدِيث) (أبي) الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، نَا شُعْبَة، عَن مُوسَى بن أبي عُثْمَان سَمِعت أَبَا يَحْيَى يَقُول: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكره بِلَفْظ أبي دَاوُد (إِلَّا) أَنه قَالَ: «حسَنة» بدل: «صَلَاة» كَمَا ذكره ابْن مَاجَه، ثمَّ قَالَ: أَبُو يَحْيَى هَذَا اسْمه سمْعَان مولَى أسلم من أهل الْمَدِينَة وَالِد أنيس وَمُحَمّد (ابْني) أبي يَحْيَى الْأَسْلَمِيّ من جلة التَّابِعين (وَابْن ابْنه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أبي يَحْيَى تَالِف فِي(3/382)
الرِّوَايَات) ومُوسَى بن أبي عُثْمَان من سَادَات أهل الْكُوفَة وعبادهم، وَاسم أَبِيه عمرَان.
وَأخرجه أَيْضا شَيْخه ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» عَن (بنْدَار (عَن) مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن،) عَن شُعْبَة بِلَفْظ أبي دَاوُد.
وَذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» أَيْضا فصح الحَدِيث إِذا - وَللَّه الْحَمد - وزالت الْجَهَالَة (عَنهُ) .
وَله (طرق) أُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا.
وَله طَرِيق ثَان رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الْمُؤَذّن يغْفر لَهُ (مد) صَوته، وَيشْهد لَهُ كل رطب ويابس سَمعه) .
وَطَرِيق ثَالِث: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (يغْفر للمؤذن مدى صَوته، وَيشْهد لَهُ كل رطب ويابس سَمعه) .(3/383)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : وَالْأَشْبَه (بِهِ) عَن مُجَاهِد مُرْسل.
وَله طَرِيق رَابِع (رَوَاهُ أَحْمد) من حَدِيث معمر، عَن مَنْصُور، عَن [عباد] بن أنيس، عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: (إِن الْمُؤَذّن يغْفر لَهُ مدى صَوته، ويصدقه كل رطب ويابس سمع صَوته، وَالشَّاهِد عَلَيْهِ خمس وَعِشْرُونَ دَرَجَة) .
وَله طَرِيق خَامِس: رَوَاهُ ابْن أبي (أُسَامَة) من حَدِيث شيخ من الْأَنْصَار، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِلَفْظ الْبَيْهَقِيّ.
وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» سُئِلَ أَبُو زرْعَة عَن حَدِيث رَوَاهُ (أَبُو) أُسَامَة، عَن الْحسن بن الحكم عَن أبي (هُبَيْرَة) يَحْيَى بن عباد الْأنْصَارِيّ، عَن شيخ من الْأَنْصَار، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِن الْمُؤَذّن يغْفر لَهُ مدى صَوته، ويصدقه كل رطب ويابس) .
وَرَوَاهُ وهيب، عَن مَنْصُور، عَن يَحْيَى بن عباد، عَن عَطاء، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا (وَكَذَلِكَ) رَوَاهُ جرير، عَن (مَنْصُور) عَن يَحْيَى بن عباد، عَن عَطاء رجل من أهل الْمَدِينَة، عَن أبي (هُرَيْرَة) مَوْقُوفا(3/384)
وَلم يرفعهُ، فَقَالَ أَبُو زرْعَة: الصَّحِيح حَدِيث مَنْصُور، قيل لأبي زرْعَة: قَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر، عَن مَنْصُور، عَن عباد بن أنيس، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا (فَقَالَ:) [حَدِيث معمر وهم] .
أَنا أَبُو مُحَمَّد، ثَنَا أبي، عَن الْمُعَلَّى بن أسيد، عَن وهيب أَنه قَالَ لمنصور: [من] عَطاء هَذَا؛ أهوَ ابْن (أبي) رَبَاح؟ قَالَ: لَا. قلت: فَهُوَ عَطاء بن يسَار؟ قَالَ: (لَا) قلت: من هُوَ؟ قَالَ: (وَهُوَ) رجل.
(الطَّرِيق الثَّانِي) : عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ عَلَى الصَّفّ الْمُقدم، والمؤذن يغْفر لَهُ (مد) صَوته، ويصدقه من سَمعه من رطب ويابس، وَله مثل أجر من صَلَّى مَعَه) .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عَلّي بن عبد الله، وَالنَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى (قَالَا) : ثَنَا معَاذ بن هِشَام، حَدثنِي أبي، عَن قَتَادَة، عَن أبي إِسْحَاق الْكُوفِي، عَن الْبَراء بِهِ، وَهَذَا إِسْنَاد جيد. وَذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» أَيْضا.
(الطَّرِيق الثَّالِث) عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -:(3/385)
(يغْفر للمؤذن مُنْتَهى أَذَانه، ويستغفر لَهُ كل رطب ويابس (سمع) صَوته) ، وَفِي لفظ: (يغْفر للمؤذن (مد) صَوته، وَيشْهد لَهُ كل رطب ويابس سمع صَوته) رَوَى الأول: أَحْمد، وَالثَّانِي: الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عمار بن رُزَيْق، عَن الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عمر. قَالَ (الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ ابْن طهْمَان، عَن الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عمر أَنه قَالَ) : (الْمُؤَذّن يغفر له (مد) صَوته، ويصدقه كل رطب ويابس) وسمعته يَقُول: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (الإِمَام ضَامِن، والمؤذن مؤتمن، اللَّهُمَّ أرشد الْأَئِمَّة واغفر للمؤذنين) .
(و) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : اخْتلف فِي هَذَا الحَدِيث فَقيل: عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عمر، وَقيل: عَن رجل، عَن ابْن عمر، وَقيل: عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس. وَالصَّحِيح الأول.
(الطَّرِيق الرَّابِع) عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (قَالَ) : رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (يَد الله - تبَارك وَتَعَالَى - عَلَى رَأس الْمُؤَذّن حَتَّى يفرغ من أَذَانه (وَإنَّهُ) ليغفر لَهُ مد صَوته وَأَيْنَ بلغ) .
رَوَاهُ ابْن عدي فِي (كَامِله) من حَدِيث أبي حَفْص الْعَبْدي، (عَن ثَابت الْبنانِيّ، عَن أنس، ثمَّ قَالَ: قَالَ عبد الله بن أَحْمد: سَأَلت أبي عَن(3/386)
أبي حَفْص الْعَبْدي،) فَقَالَ: تركت حَدِيثه وخرقناه. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ البُخَارِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث.
(الطَّرِيق الْخَامِس) : عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله: (يغْفر للمؤذن (مد) صَوته، وَيشْهد لَهُ كل رطب ويابس سَمعه) (و) سُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ، فَقَالَ فِي «علله» : يرويهِ عَطاء، عَن أبي سعيد مَرْفُوعا مُتَّصِلا، وَيَرْوِيه أَيْضا عَطاء مُرْسلا، وَهُوَ الصَّحِيح.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (قَالَ) قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (يغْفر للمؤذن (مد) صَوته وَيشْهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة كل من سمع صَوته من شجر أَو حجر أَو بشر أَو رطب أَو يَابِس، وَيكْتب لَهُ مثل أجر من صَلَّى بأذانه ... ) الحَدِيث، وَهُوَ طَوِيل نَحْو ورقة، رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه «موضح أَوْهَام الْجمع والتفريق» (فِيمَا رَأَيْته) بِخَطِّهِ من حَدِيث عَلّي بن حَرْب، نَا يَحْيَى بن عبد الحميد، نَا عَلّي بن سُوَيْد، عَن نفيع ابْن دَاوُد، عَن جَابر (بِهِ) .
فَائِدَة: المدى - بِفَتْح الْمِيم - مَقْصُور يكْتب بِالْيَاءِ، وَهُوَ غَايَة الشَّيْء، وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الظّرْف، وَرِوَايَة «مد صَوته» مَرْفُوع عَلَى الفاعلين - كَمَا نبه عَلَيْهِ (المطرزي) فِي «الْمغرب» - وَالْمعْنَى: أَن(3/387)
ذنُوبه لَو كَانَت أجسامًا غفر لَهُ مِنْهَا قدر مَا (مَلأ) الْمسَافَة الَّتِي (بَينه) وَبَين مُنْتَهى صَوته، وَقيل: تمد لَهُ الرَّحْمَة بِقدر مد الْأَذَان.
وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّه يستكمل مغْفرَة الله - تَعَالَى - إِذا اسْتَوْفَى وَسعه فِي رفع الصَّوْت (فَيبلغ الْغَايَة) من الْمَغْفِرَة إِذا بلغ الْغَايَة من الصَّوْت.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - علَّم الْأَذَان مُرَتبا) .
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أسلفنا ذَلِك فِي الحَدِيث الْعَاشِر (من رِوَايَة أبي مَحْذُورَة) .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (حق وَسنة (أَن) لَا يُؤذن الرجل إِلَّا وَهُوَ طَاهِر) .
هَذَا الحَدِيث تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك صَاحب «الشَّامِل» ، و «الْمُهَذّب» ، وَأَبُو الطّيب فِي تَعْلِيقه، وَلَا يحضرني من رَوَاهُ كَذَلِك فِي كتاب حَدِيث، وَإِنَّمَا هُوَ من فعل بعض الْفُقَهَاء؛ كَمَا نبه عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» نعم هُوَ مَوْقُوف.(3/388)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره من حَدِيث عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه قَالَ: (حق وَسنة مسنونة أَن لَا يُؤذن إِلَّا وَهُوَ طَاهِر وَلَا يُؤذن إِلَّا وَهُوَ قَائِم) .
قَالَ الْخَطِيب فِي «تلخيصه» : أَنا الْقطيعِي، قَالَ: قَالَ لنا الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه، تفرد بِهِ الْحَارِث بن عتبَة عَنهُ، وَتفرد بِهِ (عُمَيْر) بن عمرَان عَن الْحَارِث بن عتبَة.
قلت: وَمَعَ غرابته (وَوَقفه فَفِيهِ) (أَيْضا) إرْسَال؛ لِأَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل لم يسمع من أَبِيه شَيْئا - كَمَا ذكره النَّسَائِيّ وَغَيره - قَالَ يَحْيَى بن معِين: عبد الْجَبَّار ثَبت، وَلم يسمع من أَبِيه شَيْئا. وَنقل النَّوَوِيّ اتِّفَاق أَئِمَّة الحَدِيث عَلَى ذَلِك. ثمَّ نقل عَن جمَاعَة أَنه إِنَّمَا ولد بعد وَفَاة أَبِيه بِسِتَّة أشهر، وَهَذَا القَوْل بعيد (فَإِن) فِي «صَحِيح مُسلم» عَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل (قَالَ: «كنت غُلَاما لَا أَعقل صَلَاة أبي ... » الحَدِيث، وَهَذَا يبطل قَول من قَالَ إِنَّه ولد) بعد موت أَبِيه،(3/389)
وَقد نبه عَلَى ذَلِك الْمزي فِي «أَطْرَافه» بعد أَن نقل هَذَا القَوْل عَن التِّرْمِذِيّ، وَنبهَ عَلَيْهِ أَيْضا غَيره من شُيُوخنَا (لَكِن لم يعز مَا أسلفناه إِلَى مُسلم؛ بل عزاهُ إِلَى الطَّبَرَانِيّ، وَأَنه رَوَاهُ عَن [عبد الله بن] أَحْمد بن حَنْبَل) ثَنَا مُحَمَّد بن عبيد بن حِسَاب، ثَنَا عبد الْوَارِث، نَا مُحَمَّد بن جحادة، عَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل قَالَ: «كنت غُلَاما لَا أَعقل صَلَاة، أبي، فَحَدثني عَلْقَمَة بن وَائِل، عَن أبي وَائِل ... فَذكره.
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَا يُؤذن إِلَّا متوضئ) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن عَلّي بن حجر، ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، عَن مُعَاوِيَة بن يَحْيَى هُوَ - (الصَّدَفِي) - عَن الزُّهْرِيّ، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِهِ.
ثمَّ قَالَ: ونا يَحْيَى بن مُوسَى، نَا عبد الله بن (وهب) عَن يُونُس، عَن ابْن شهَاب قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: (لَا يُنَادي بِالصَّلَاةِ إِلَّا متوضئ) قَالَ: وَهَذَا أصح من [الحَدِيث] (الأول) قَالَ: وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة لم يرفعهُ ابْن وهب، وَهُوَ أصح من (حَدِيث) الْوَلِيد(3/390)
بن مُسلم، وَالزهْرِيّ لم يسمع من أبي هُرَيْرَة، وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بعد أَن رَوَاهُ مَرْفُوعا: هَكَذَا رَوَاهُ مُعَاوِيَة بن يَحْيَى الصَّدَفِي وَهُوَ ضَعِيف، وَالصَّحِيح رِوَايَة يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة ... فَذكره - كَمَا سلف - فتقرر أَن رِوَايَة الْوَقْف أصح، وَجَمِيع رجالها رجال الصَّحِيحَيْنِ خلا شيخ التِّرْمِذِيّ؛ فَإِن البُخَارِيّ رَوَى لَهُ وَحده وَهُوَ من الثِّقَات.
وَقَول النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» : رُوِيَ هَذَا الحَدِيث مَرْفُوعا وموقوفًا، وَهُوَ ضَعِيف، لَا يسلم لَهُ فِي رِوَايَة الْوَقْف كَمَا قَرّرته لَك.
فَائِدَة: هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا، رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ - عَلَى مَا عزاهُ إِلَيْهِ صَاحب «الإِمَام» عَن - الطبركي، نَا عبد الله بن هَارُون الْفَروِي، حَدثنِي أبي، عَن جدي أبي عَلْقَمَة، عَن مُحَمَّد بن مَالك قَالَ: (أَذِنت يَوْمًا فِي مَسْجِد عَلّي بن عبد الله بن عَبَّاس الصُّبْح، قَالَ: لَا تؤذن إِلَّا وَأَنت طَاهِر) قَالَ أبي: حَدثنِي (يَعْنِي) عبد الله بن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (يَا ابْن عَبَّاس، إِن الْأَذَان مُتَّصِل بِالصَّلَاةِ؛ فَلَا يُؤذن أحدكُم إِلَّا وَهُوَ طَاهِر) .
(وَعبد الله) هَذَا قَالَ ابْن عدي: لَهُ مَنَاكِير.(3/391)
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي قصَّة عبد الله بن زيد: ألقه عَلَى بِلَال، فَإِنَّهُ أندى مِنْك صَوتا) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي أَوَائِل الْبَاب، وَقد سقناه هُنَاكَ بِطُولِهِ.
وَفِي مَعْنَى «أندى» ثَلَاثَة أَقْوَال؛ حكاهن ابْن الْأَثِير فِي «نهايته» .
أَحدهَا: أرفع (وأعلا) وَبِه جزم الْهَرَوِيّ فِي «غَرِيبه» فَإِنَّهُ قَالَ: أَي: أرفع صَوتا. ثَانِيهمَا: أحسن وأعذب، ثَالِثهَا: أبعد. وَقَالَ صَاحب «الْمطَالع» : أَي: أمد وَأبْعد غَايَة. وَقَالَ المطرزي: أَي: أرفع وَأبْعد. (وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الأندى بعد مدى الصَّوْت. وَقَالَ الرَّاغِب فِي «مفرداته» : أصل النداء من الندى أَي: الرُّطُوبَة، يُقَال: صَوت ند أَي: رفيع، واستعارة الندى للصوت من حَيْثُ أَن (من) تكْثر رُطُوبَة فَمه يحسن كَلَامه، وَلِهَذَا يُوصف الفصيح (بِكَثْرَة) الرِّيق، يُقَال: ندى وأندى، أندية، وَذَلِكَ (كتسمية) الْمُسَبّب باسم سَببه.(3/392)
الحَدِيث السَّابِع بعد الْعشْرين
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اخْتَار أَبَا مَحْذُورَة لحسن صَوته) .
هَذَا (حَدِيث) صَحِيح؛ فقد رَوَى الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد (عبد الرَّحْمَن) الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» عَن سعيد بن عَامر، عَن همام، عَن عَامر، عَن مَكْحُول، عَن عبد الله بن محيريز، عَن أبي مَحْذُورَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر (نَحوا من) عشْرين رجلا فأذنوا، فأعجبه صَوت أبي مَحْذُورَة، فَعلمه الْأَذَان الله أكبر الله أكبر، الله أكبر (الله أكبر) ، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا ال، لَهُ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حَيّ عَلَى الصَّلَاة، حَيّ عَلَى الصَّلَاة، حَيّ عَلَى الْفَلاح، حَيّ عَلَى الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله) وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ مُخْتَصرا إِلَى قَوْله: (فَعلمه الْأَذَان) كَمَا عزاهُ إِلَيْهِ صَاحب «الإِمَام» .
وَأخرجه الْحَافِظ أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» مطولا، كَمَا أخرجه الدَّارمِيّ، ومن صَحِيحه (نقلته) وَفِي رِوَايَة (ابْن خُزَيْمَة) لَهُ عَن أبي مَحْذُورَة (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لما خرج من (حنين) خرجت عَاشر عشرَة من مَكَّة نطلبهم ... ) الحَدِيث، وَفِيه «فَقَالَ(3/393)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لقد سَمِعت فِي هَؤُلَاءِ تأذين إِنْسَان حسن الصَّوْت، فَأرْسل (إِلَيْنَا) » ، وَقَالَ الزبير بن بكار: كَانَ أَبُو مَحْذُورَة أحسن النَّاس وأنداهم صَوتا ولبعض (الشُّعَرَاء) من قُرَيْش فِي أَذَان أبي مَحْذُورَة:
وَمَا تَلا مُحَمَّد من سُورَة
لَأَفْعَلَنَّ فعلة مَذْكُورَة
أما وَرب الْكَعْبَة المستورة
والنغمات من أبي مَحْذُورَة
تَنْبِيه: ذكر الرَّافِعِيّ هُنَا مواظبة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى (الْإِمَامَة) دون الْأَذَان، وَهَذَا مَشْهُور من فعله - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - يزِيد عَلَى التَّوَاتُر (وَالله سُبْحَانَهُ أعلم بغيبه) .
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (الْأَئِمَّة ضمناء، والمؤذنون أُمَنَاء؛ فأرشد الله الْأَئِمَّة (واغفر) للمؤذنين) .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إِسْنَاد هَكَذَا وأسنده فِي «الْأُم» عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة كَذَلِك، وَهُوَ مخرج فِي «الْمسند» أَيْضا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِإِسْنَادِهِ إِلَى الشَّافِعِي.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عبد الرَّزَّاق، ثَنَا معمر، عَن(3/394)
الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه بِلَفْظ أبي دَاوُد (الْآتِي) .
(و) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن أَحْمد بن حَنْبَل، نَا مُحَمَّد بن فُضَيْل، نَا الْأَعْمَش، عَن رجل، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (الإِمَام ضَامِن، والمؤذن مؤتمن، اللَّهُمَّ أرشد الْأَئِمَّة واغفر للمؤذنين) .
قَالَ: وثنا الْحسن بن عَلّي، نَا ابْن نمير، عَن الْأَعْمَش قَالَ: نبئت عَن أبي صَالح وَلَا (أَرَانِي) إِلَّا قد (سمعته) مِنْهُ، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِمثلِهِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» عَن هناد، نَا أَبُو الْأَحْوَص، وَأَبُو مُعَاوِيَة، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح مَرْفُوعا بِلَفْظ أبي دَاوُد، (و) قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ وَحَفْص بن غياث وَغير وَاحِد عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة. وَرَوَى أَسْبَاط بن مُحَمَّد، عَن الْأَعْمَش قَالَ: حدثت عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا قَالَ: وَرَوَى نَافِع بن سُلَيْمَان، عَن مُحَمَّد بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَسمعت أَبَا زرْعَة يَقُول: حَدِيث أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة أصح من (حَدِيث) أبي صَالح(3/395)
(عَن عَائِشَة) . قَالَ: وَسمعت مُحَمَّدًا يَقُول: حَدِيث أبي صَالح عَن عَائِشَة أصح، (و) ذكر عَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ أَنه لم يثبت حَدِيث أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَا حَدِيث (أبي) صَالح عَن عَائِشَة (فِي هَذَا) هَذَا آخر كَلَام التِّرْمِذِيّ وَنَقله.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل - فِيمَا نَقله عَنهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : لَيْسَ لهَذَا الحَدِيث أصل - يَعْنِي: حَدِيث الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح (عَن أبي هُرَيْرَة: لَيْسَ يَقُول فِيهِ أحد: عَن الْأَعْمَش أَنه قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالح) وَالْأَعْمَش يحدث عَن ضِعَاف.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : بَلغنِي عَن أبي بكر بن مغور الْحَافِظ الأندلسي قَالَ عَن ابْن الْمَدِينِيّ: رَوَاهُ أَبُو صَالح عَن عَائِشَة بِإِسْنَاد جيد، وطرق أبي هُرَيْرَة معلولة (وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ) : لم يسمع هَذَا الحَدِيث سُهَيْل من أَبِيه؛ إِنَّمَا سَمعه من الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، وَالْأَعْمَش لم يسمعهُ يَقِينا من أبي صَالح؛ إِنَّمَا يَقُول فِيهِ: نبئت عَن أبي صَالح، وَلَا أرَى إِلَّا قد (سمعته) مِنْهُ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «الْوَهم وَالْإِيهَام» : خَفِي عَلَى عبد الْحق انْقِطَاعه، ومعنعن الْأَعْمَش عرضه لتبيين الِانْقِطَاع، فَإِنَّهُ مُدَلّس (ثمَّ) ذكر رِوَايَة أبي دَاوُد السالفة(3/396)
المصرحة بالانقطاع، ثمَّ قَالَ: وَفِي كتاب عَبَّاس الدوري عَن ابْن معِين أَنه قَالَ: قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: لم يسمع الْأَعْمَش (هَذَا الحَدِيث) من أبي صَالح. وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» عَن ابْن الْمَدِينِيّ أَنه قَالَ: لَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب مَرْفُوعا إِلَّا حَدِيث رَوَاهُ الْحسن عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا. وَقَالَ الْعقيلِيّ فِي (تَارِيخه) : الحَدِيث حَدِيث أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة وَسَائِر ذَلِك أَوْهَام. وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : حَدِيث أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا هُوَ الصَّوَاب. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ إِنَّه أصح لما سَأَلَهُ ابْنه عَن ذَلِك.
فتحصلنا عَلَى ثَلَاث مقالات فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَعَائِشَة (إِحْدَاهَا: أَنَّهُمَا لَا يصحان) وَهُوَ قَول عَلّي ابْن الْمَدِينِيّ، إِنَّمَا صَحَّ مُرْسلا.
ثَانِيهَا: أَن حَدِيث عَائِشَة أصح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة - وَهُوَ قَول البُخَارِيّ.
ثَالِثهَا: عَكسه وَهُوَ قَول أبي زرْعَة وجماعات - كَمَا سلف - وَأما أَبُو حَاتِم بن حبَان، فَإِنَّهُ صححهما، فَإِنَّهُ أخرجهُمَا فِي «صَحِيحه» وَهَذِه مقَالَة رَابِعَة، رَوَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة من حَدِيث قُتَيْبَة بن سعيد، نَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا:(3/397)
(الإِمَام ضَامِن، والمؤذن مؤتمن، فأرشد الله الْأَئِمَّة (واغفر) للمؤذنين) .
وَرَوَى حَدِيثه عَائِشَة (من) حَدِيث ابْن وهب، عَن حَيْوَة بن شُرَيْح، عَن نَافِع بن سُلَيْمَان (أَن) مُحَمَّد بن أبي صَالح أخبرهُ عَن أَبِيه، أَنه سمع عَائِشَة تَقول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: (الإِمَام ضَامِن، والمؤذن مؤتمن؛ فأرشد الله الْأَئِمَّة وَعَفا عَن المؤذنين) ثمَّ قَالَ: قد سمع هَذَا الْخَبَر أَبُو صَالح السمان، عَن عَائِشَة عَلَى حسب مَا ذَكرْنَاهُ وسَمعه من أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا؛ فَمرَّة حدث (بِهِ) عَن عَائِشَة، وَأُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة، وَتارَة وَقفه عَلَيْهِ وَلم يرفعهُ، وَأما الْأَعْمَش؛ فَإِنَّهُ سَمعه من أبي صَالح عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا قَالَ: وَقد وهم من أَدخل بَين سُهَيْل وَأَبِيهِ فِيهِ الْأَعْمَش؛ لِأَن الْأَعْمَش سَمعه من سُهَيْل لَا أَن سهيلًا سَمعه من الْأَعْمَش. هَذَا آخر كَلَامه.
(وَذكره) ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» أَيْضا قَالَ: وَله طرق عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقَالَ الْحَافِظ مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الْمَقْدِسِي: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، عَن قُتَيْبَة، عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد (عَن سُهَيْل) عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة. وَقد رَوَى مُسلم بِهَذَا الْإِسْنَاد نَحْو أَرْبَعَة عشر حَدِيثا.(3/398)
انْتَهَى. يُرِيد بذلك أَنه عَلَى شَرط مُسلم.
قلت: وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق ثَالِث؛ رَوَاهُ السراج فِي «مُسْنده» عَن أَحْمد بن حَفْص بن عبد الله قَالَ: حَدثنِي أبي (قَالَ) حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، ثَنَا سُلَيْمَان الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (الإِمَام ضَامِن، والمؤذن مؤتمن، اللَّهُمَّ أرشد الْأَئِمَّة واغفر للمؤذنين) .
وَله طَرِيق رَابِع واه رَوَاهُ أَحْمد، وَالدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي غَالب، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: (الإِمَام ضَامِن، والمؤذن مؤتمن) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رُوِيَ مَرْفُوعا هَكَذَا وموقوفًا عَلَى أبي أُمَامَة: (الإِمَام ضَامِن، وَالْأَذَان أحب إِلَيّ من الْإِمَامَة، المؤذنون أُمَنَاء النَّاس، يفضلون النَّاس لطول أَعْنَاقهم) .
قَالَ ابْن حبَان: لَا يجوز الِاحْتِجَاج (بغالب) إِلَّا إِذا وَافق الثِّقَات.
وَله طَرِيق خَامِس من (حَدِيث) جَابر ذكرهَا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» وَضعف إِسْنَاده، وَجَاءَت رِوَايَة غَرِيبَة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف رَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَالْبَزَّار من حَدِيث أبي حَمْزَة السكرِي، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الإِمَام ضَامِن، والمؤذن مؤتمن، اللَّهُمَّ أرشد الْأَئِمَّة واغفر للمؤذنين. قَالُوا: يَا(3/399)
رَسُول الله، لقد تركتنا نتنافس فِي الْأَذَان بعْدك. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنَّه يكون بعدِي - أَو بعدكم - قوم (سفلتهم) مؤذنوهم) . (رَوَاهُ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» ) وَقَالَ: هَذِه الزِّيَادَة لَا تَجِيء إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَهُوَ إِسْنَاد رِجَاله ثِقَات معروفون إِلَّا أَن أَحْمد بن حَنْبَل ضعف الحَدِيث كُله. ثمَّ أَشَارَ إِلَى مَا سلف من عِلّة الِانْقِطَاع فِيمَا بَين الْأَعْمَش وَأبي صَالح.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلَا عيب للإسناد إِلَّا هَذَا (قَالَ) : وَلَا مبالاة بقول الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» إِنَّهَا لَيست مَحْفُوظَة لثقة أبي حَمْزَة مُحَمَّد بن مَيْمُون الرَّاوِي عَن الْأَعْمَش، وَكَذَا بَاقِي رجالها.
فَائِدَة: الضَّمَان فِي اللُّغَة هُوَ (الْكِفَايَة) وَالْحِفْظ وَالرِّعَايَة (قَالَه) الْهَرَوِيّ وَغَيره، وَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ هُنَا عَلَى خَمْسَة أوجه، أَحدهَا: أَنهم ضمناء لما غَابُوا (عَلَيْهِ) من الْقِرَاءَة والإسرار بِالْقِرَاءَةِ وَالذكر، قَالَه الشَّافِعِي فِي «الْأُم»
ثَانِيهَا: المُرَاد ضَمَان الدُّعَاء أَن يعم الْقَوْم بِهِ وَلَا يخص نَفسه.
ثَالِثهَا: لِأَنَّهُ يتَحَمَّل الْقِرَاءَة وَالْقِيَام عَن الْمَسْبُوق، حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ فِي «شرح السّنة» .
رَابِعهَا: أَنه يحفظ عَلَى الْقَوْم صلَاتهم، وَلَيْسَ هُوَ من الضَّمَان(3/400)
الْمُوجب للغرامة (قَالَه) الْخطابِيّ، وَكَذَا قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي «شرح التِّرْمِذِيّ» أَن مَعْنَى ذَلِك الْتِزَام (شُرُوطهَا) وَحفظ (صلَاته) فِي نَفسه؛ لِأَن صَلَاة (الْمَأْمُوم) تبنى عَلَيْهِ.
خَامِسهَا: (مَعْنَاهُ) أَنهم إِذا قَامُوا بِالصَّلَاةِ جمَاعَة سقط فرض الْكِفَايَة (عَن) سَائِر البَاقِينَ بفعلهم، وَفِي (أَمَانَة) المؤذنين ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنهم أُمَنَاء عَلَى مَوَاقِيت الصَّلَاة. ثَانِيهَا: أَنهم أُمَنَاء عَلَى حرم النَّاس؛ لأَنهم يشرفون عَلَى الْمَوَاضِع الْعَالِيَة. ثَالِثهَا: أَنهم أُمَنَاء فِي تبرعهم بِالْأَذَانِ.
قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» : وَالْعَفو يكون لمن اسْتوْجبَ النَّار من عباده، والغفران هُوَ الرِّضَا نَفسه؛ فَلَا يكون لمن اسْتوْجبَ النيرَان، ونازعه الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» فَقَالَ: فِيمَا ذكره نظر؛ فَإِن صفة الرِّضَا أبلغ من صفة الْمَغْفِرَة؛ لِأَن الْمَغْفِرَة تَسْتَلْزِم ذَنبا يغْفر، وَالرِّضَا قد لَا (يستلزمه) بل قد ينشأ لكَمَال حَال المرضي عَنهُ وَعدم تَقْصِيره بذنب، فالمغايرة بَينهمَا ثَابِتَة إِذا، وَأما الغفران وَالْعَفو فَالْوَجْه أَن يُقَال إنَّهُمَا - وَإِن تَغَيَّرت حقيقتهما - يرجعان إِلَى مَعْنَى وَاحِد، وَلذَلِك (تواردا) فِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَن الْعَفو فِي الأَصْل إِمَّا(3/401)
الْفضل وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: (ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو) وَإِمَّا المحو وَالْمَغْفِرَة من الغفر وَهُوَ السّتْر وَمن محا ذَنبه، أَو تفضل عَلَيْهِ بالتجاوز، فقد ستر عَلَيْهِ، وَمن ستر عَلَيْهِ فقد محا ذَنبه، وتفضل عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ (ستر) لَا ينْكَشف وستره لَا يَزُول.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (من أذن سبع سِنِين محتسبًا كتبت لَهُ بَرَاءَة من النَّار) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي تُمَيْلة يَحْيَى بن وَاضح، ثَنَا أَبُو حَمْزَة السكرِي، عَن جَابر (عَن) مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي حَمْزَة (وَحَفْص) بن عمر الْأَزْرَق، عَن جَابر بِهِ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب. قَالَ: وَجَابِر بن (يزِيد) الْجعْفِيّ ضَعَّفُوهُ، تَركه يَحْيَى بن سعيد، وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي. قَالَ: وَسمعت الْجَارُود يَقُول: [سَمِعت وكيعًا يَقُول] : لَوْلَا جَابر(3/402)
لَكَانَ أهل الْكُوفَة بِغَيْر حَدِيث، وَلَوْلَا (حَمَّاد) لَكَانَ أهل الْكُوفَة بِغَيْر فقه.
قلت: وَقَالَ ابْن معِين: إِنَّه صَدُوق. وَعنهُ: لَا يكْتب حَدِيثه (لَيْسَ بِشَيْء) وَعَلَيْهَا اقْتصر ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» وَقَالَ وَكِيع: إِن شَكَكْتُمْ فِي (شَيْء) فَلَا تَشكوا فِي أَن جَابِرا ثِقَة، نَا عَنهُ مسعر وسُفْيَان وَشعْبَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: بلغ سُفْيَان أَن شُعْبَة تكلم فِي جَابر الْجعْفِيّ، فَبعث إِلَيْهِ: لَئِن تَكَلَّمت فِيهِ لأتكلمن فِيك، ورماه بِالْكَذِبِ فِي رِوَايَة. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، وَجَابِر الْجعْفِيّ كَانَ كذابا. وَقَالَ فِي «الضُّعَفَاء» : كذبه أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وزائدة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: مَا لقِيت أكذب مِنْهُ. وَقَالَ جرير: لَا أستحل (أَن) أروي عَنهُ. وَقد وَثَّقَهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة، وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: لم يتَكَلَّم فِي جَابر لحديثه؛ إِنَّمَا (يتَكَلَّم) فِيهِ لرأيه. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَلَيْسَ (عِنْده) بِالْقَوِيّ فِي حَدِيثه. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك.
وَأَبُو تُمَيْلة صَدُوق، أخرج لَهُ الْجَمَاعَة، وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ فِي(3/403)
«ضُعَفَائِهِ» أَن البُخَارِيّ أدخلهُ فِي الضُّعَفَاء وَلم يُر فِيهِ.
وَرَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من طَرِيق آخر من حَدِيث مُحَمَّد بن الْفضل، عَن مقَاتل ابْن حَيَّان وَحَمْزَة النصيبي عَن مَكْحُول وَنَافِع، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (من أذن سبع سِنِين احتسابًا كتبت لَهُ بَرَاءَة من النَّار) ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ فَإِن مُحَمَّد بن الْفضل اخْتَلَط فِي آخر عمره.
قلت: وَرُوِيَ حَدِيث ابْن عمر من وجهٍ آخر بِلَفْظ آخر (رَوَاهُ) ابْن مَاجَه، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث عبد الله بن صَالح - كَاتب اللَّيْث - عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن ابْن جريج، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (من أذن اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَجَبت لَهُ الْجنَّة، وَكتب لَهُ بتأذينه فِي كل يَوْم سِتُّونَ حَسَنَة، وَبِكُل إِقَامَة ثَلَاثُونَ حَسَنَة) .
و [عبد الله] هَذَا صَالح الحَدِيث لَهُ مَنَاكِير، رَوَى (عَنهُ) ابْن معِين وَالْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَقَالَ أَبُو زرْعَة: حسن الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ عِنْدِي مُسْتَقِيم الحَدِيث وَله أغاليط. وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ(3/404)
بِشَيْء. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «تَذكرته» : كَذَّاب، وَهَذَا الحَدِيث أحد مَا أنكر عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح. وَأما الْحَاكِم فَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ - أَي: فِي عبد الله بن صَالح فِي إِخْرَاجه لَهُ - قَالَ: وَله شَاهد من حَدِيث عبد الله بن لَهِيعَة، وَقد اسْتشْهد بِهِ مُسلم فَذكر بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن لَهِيعَة، عَن عبيد الله بن أبي جَعْفَر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: (من أذن اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَجَبت لَهُ الْجنَّة، وَكتب لَهُ بِكُل أَذَان سِتُّونَ حَسَنَة وَبِكُل إِقَامَة ثَلَاثُونَ حَسَنَة) .
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَهُ مؤذنان: بِلَال، وَابْن أم مَكْتُوم) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من حَدِيث عبيد الله بن عمر (عَن نَافِع، عَن ابْن عمر بِهِ سَوَاء وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث عبيد الله عَن) الْقَاسِم، عَن عَائِشَة، وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» (و) «صِحَاح ابْن السكن» عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: (كَانَ للنَّبِي (ثَلَاثَة مؤذنين: بِلَال، وَأَبُو مَحْذُورَة، وَابْن أم مَكْتُوم) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا الْخَبَر وَالَّذِي قبله صَحِيحَانِ؛ فَمن قَالَ:(3/405)
(كَانَ) لَهُ مؤذنان أَرَادَ الَّذين كَانَا يؤذنان بِالْمَدِينَةِ، وَمن قَالَ: ثَلَاثَة أَرَادَ أَبَا مَحْذُورَة الَّذِي كَانَ يُؤذن بِمَكَّة.
قلت: وَله مُؤذن رَابِع، وَهُوَ سعد الْقرظ (بقباء) وَهُوَ مَشْهُور فِي السّير.
الحَدِيث الْحَادِي بعد (الثَّلَاثِينَ)
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء والصف الأول (ثمَّ) لم يَجدوا إِلَّا أَن يستهموا عَلَيْهِ؛ (لاستهموا عَلَيْهِ)) .
هَذَا (الحَدِيث) مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (بِهِ) سَوَاء، وَزِيَادَة: (وَلَو يعلمُونَ مَا فِي التهجير لَاستبقوا إِلَيْهِ، وَلَو يعلمُونَ مَا فِي الْعَتَمَة وَالصُّبْح لأتوهما وَلَو حبوًا) .
التهجير: التبكير، وَالْمرَاد هُنَا: التبكير إِلَى الصَّلَاة.
الحَدِيث الثَّانِي بعد الثَّلَاثِينَ
عَن زِيَاد بن الْحَارِث الصدائي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن أؤذن فِي صَلَاة الْفجْر، فَأَذنت، فَأَرَادَ بِلَال أَن يُقيم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن أَخا صداءٍ قد أذن، وَمن أذن فَهُوَ يُقيم) .(3/406)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد بن أنعم الأفريقي، عَن زِيَاد بن نعيم الْحَضْرَمِيّ، عَن زِيَاد بن الْحَارِث الصدائي، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لِلتِّرْمِذِي وَابْن مَاجَه، وَلَفظ أَحْمد قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (أذن يَا أَخا صداء. قَالَ: فَأَذنت، وَذَلِكَ حِين أَضَاء الْفجْر، فَلَمَّا تَوَضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَامَ إِلَى الصَّلَاة، فَأَرَادَ بِلَال أَن يُقيم، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يُقيم أَخُو صداء؛ فَإِن من أذن فَهُوَ يُقيم) .
وَلَفظ أبي دَاوُد: عَن زِيَاد بن الْحَارِث الصدائي قَالَ: (لما كَانَ أول أَذَان الصُّبْح أَمرنِي - يَعْنِي: النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَذنت فَجعلت أَقُول: أقيم يَا رَسُول الله؟ فَجعل ينظر (إِلَى) نَاحيَة الْمشرق - إِلَى الْفجْر - فَيَقُول: لَا. حَتَّى إِذا طلع الْفجْر نزل فبرز، ثمَّ انْصَرف إِلَيّ وَقد تلاحق أَصْحَابه - يَعْنِي: فَتَوَضَّأ - فَأَرَادَ بِلَال أَن يُقيم، فَقَالَ لَهُ نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن أَخا صداء هُوَ أذن؛ وَمن أذن فَهُوَ يُقيم. قَالَ: فأقمت) .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث (إِنَّمَا) (يعرف) من حَدِيث الأفريقي وَهُوَ ضَعِيف عِنْد أهل الحَدِيث، ضعفه يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان وَغَيره. وَقَالَ أَحْمد: لَا أكتب حَدِيثه. قَالَ: وَرَأَيْت مُحَمَّد(3/407)
بن إِسْمَاعِيل يُقَوي أمره وَيَقُول: هُوَ مقارب الحَدِيث. قَالَ: وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم أَن من أذن فَهُوَ يُقيم. وَنقل النَّوَوِيّ عَن الْبَغَوِيّ تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث أَيْضا (وَسَببه) الطعْن فِي عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد الأفريقي الْمَذْكُور - كَمَا قدمْنَاهُ عَن التِّرْمِذِيّ - وَقد ضعفه مَعَ من تقدم النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب فرض التَّشَهُّد: ضعفه الْقطَّان وَابْن مهْدي وَابْن معِين وَابْن حَنْبَل وَغَيرهم. وَقَالَ فِي بَاب عتق أُمَّهَات الْأَوْلَاد: ضَعِيف.
وَقَالَ ابْن حبَان: إِنَّه يروي الموضوعات عَن الثِّقَات، وَيُدَلس عَن مُحَمَّد (بن) سعيد المصلوب. وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» (فِي) حَدِيث لَا صَلَاة بعد الْفجْر إِلَّا رَكْعَتي الْفجْر: هَالك، وَقد أسلفت ذَلِك هُنَاكَ. وَقَالَ: (هَذَا) الْأَثر الْمَرْوِيّ: (إِنَّمَا يُقيم من أذن) إِنَّمَا جَاءَ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد بن أنعم، وَهُوَ هَالك.
قلت: قد أخرجه أَبُو الشَّيْخ الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب (الْأَذَان) من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا، وَلَيْسَ فِيهِ الأفريقي (و) الأفريقي قد وَثَّقَهُ جمَاعَة، كَمَا (أسلفت) ذَلِك عَنْهُم فِي الحَدِيث السَّابِع (بعد)(3/408)
الْأَرْبَعين (من) من كتاب الصَّلَاة، وَقَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: سَمِعت يَحْيَى الْقطَّان يَقُول: عبد الرَّحْمَن بن [زِيَاد] ثِقَة. وَهَذَا خلاف مَا نَقله التِّرْمِذِيّ عَنهُ من تَضْعِيفه لَهُ، وَقَالَ أَبُو بكر بن أبي دَاوُد: إِنَّمَا تكلم النَّاس فِي عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد بن أنعم، وضعفوه؛ لِأَنَّهُ رَوَى عَن مُسلم بن يسَار فَقيل لَهُ: أَيْن رَأَيْت مُسلم بن يسَار؟ ! فَقَالَ: بإفريقية. فكذبه النَّاس وضعفوه، وَقَالُوا: مَا دخل مُسلم بن يسَار إفريقية قطّ! - يعنون: الْبَصْرِيّ - وَلم يعلمُوا أَن مُسلم بن يسَار آخر يُقَال لَهُ: أَبُو عُثْمَان الطنبذي، وطنبذ بطن من الْيمن، وَعنهُ رَوَى، وَكَانَ (الأفريقي) رجلا صَالحا، قَالَ ابْن يُونُس: هُوَ أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام بإفريقية. وَاعْترض الْمُنْذِرِيّ عَلَى قَوْله فِي طنبذ (أَنَّهَا) بطن من الْيمن؛ فَقَالَ: فِيهِ نظر، وَإِنَّمَا هِيَ قَرْيَة من قرَى مصر من أَعمال البهنسا، وَهِي بِضَم الطَّاء، ثمَّ نون سَاكِنة، ثمَّ بَاء مَضْمُومَة ثمَّ ذال مُعْجمَة مَكْسُورَة. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «الْوَهم وَالْإِيهَام» : هُوَ من أهل الْعلم والزهد بِلَا خلاف، وَكَانَ من النَّاس من يوثقه، وَلَكِن الْحق أَنه ضَعِيف بِكَثْرَة رِوَايَة الْمُنْكَرَات، وَهُوَ أَمر يعتري الصَّالِحين (كثيرا) لقلَّة نقدهم للرواة (وَلذَلِك) قيل: لم نر الصَّالِحين فِي شَيْء أكذب مِنْهُم فِي الحَدِيث.(3/409)
وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «أَمَالِيهِ» : الأفريقي هَذَا غمزه بَعضهم فِي الحَدِيث، وَوَثَّقَهُ أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ وَآخَرُونَ. (قَالَ) : وَهُوَ قَاضِي إفريقية، وَكَانَ (عابدًا) قوالًا بِالْحَقِّ، ورد بَغْدَاد عَلَى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وشكا عماله وخشن لَهُ فِي القَوْل. وعلق الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» و «الْمعرفَة» القَوْل (فِي) هَذَا الحَدِيث؛ فَقَالَ: إِن ثَبت كَانَ أولَى مِمَّا رُوِيَ فِي حَدِيث عبد الله بن زيد - يَعْنِي: الْآتِي - (أَن بِلَالًا أذن، فَقَالَ عبد الله: يَا رَسُول الله، إِنِّي أرَى الرُّؤْيَا وَيُؤذن بِلَال! فَقَالَ: أقِم أَنْت) لما فِي إِسْنَاده وَمَتنه من الِاخْتِلَاف، وَأَنه كَانَ فِي أول شرع الْأَذَان، وَحَدِيث الصدائي كَانَ بعد.
قلت: وَقواهُ جمَاعَة، (وَصرح جمَاعَة بِهِ) قَالَ الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ) الضُّعَفَاء) : إِسْنَاده صَالح. وَقَالَ الْحَازِمِي فِي «ناسخه ومنسوخه» : هَذَا حَدِيث حسن. (و) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (كتاب) «الْأَعْلَام» : إِنَّه حَدِيث ثَابت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَهَذِه الْعبارَة لَا أسلمها (لَهُ) وَقَالَ فِي «تَحْقِيقه» : إِن قيل فِي (الْإِسْنَاد) الأفريقي، وَهُوَ ضَعِيف.
(قُلْنَا) : قد قوى أمرَه البخاريُ، وَقَالَ: هُوَ مقارب الحَدِيث.(3/410)
وَلَا نسلم لَهُ ذَلِك أَيْضا؛ فقد ذكره هُوَ فِي «ضُعَفَائِهِ» كَمَا أسلفنا ذَلِك عَنهُ فِي الْموضع السالف، وَالْأَقْرَب ضعفه، وَفِي حسنه وَقْفَة، وَالله أعلم.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: هَذَا الحَدِيث اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ عَلَى أَنه إِذا أذن جمَاعَة عَلَى التَّرْتِيب؛ فَالْأول أولَى بِالْإِقَامَةِ، (فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِذا انْتَهَى الْأَمر إِلَى الْإِقَامَة فَإِذا أذنوا عَلَى التَّرْتِيب؛ فَالْأول أولَى بِالْإِقَامَةِ) ، ثمَّ ذكر الحَدِيث، وَلَيْسَ مطابقًا لما ادَّعَاهُ؛ إِذْ هُوَ دَلِيل عَلَى (أَن) من أذن وَحده (يُقيم) وَلَا يلْزم من إِقَامَة من انْفَرد بِالْأَذَانِ انْفِرَاد من أذن (أَولا) بِالْإِقَامَةِ، وَفِي حَدِيث عبد الله بن زيد الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ بعد هَذَا النّظر؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تعدد الْأَذَان، وإِنَّمَا فِيهِ انْفِرَاد وَاحِد بِهِ وَالْآخر بِالْإِقَامَةِ، فتفطن لَهُ.
ثَانِيهَا: قَالَ الرَّافِعِيّ: (و) إِذا سبق غير الْمُؤَذّن الرَّاتِب وَأذن فَهَل يسْتَحق ولَايَة الْإِقَامَة؟ فِيهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: نعم؛ لإِطْلَاق الْخَبَر (وأظهرهما) لَا؛ لِأَنَّهُ مسئ (بالتقدم) وَفِي الْقِصَّة المروية كَانَ بِلَال غَائِبا، وَزِيَاد أذن بِإِذن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - انْتَهَى.
وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» فَقَالَ: لم يكن(3/411)
بِلَال حَاضرا حِينَئِذٍ و (زَاد) أَن أَذَان زِيَاد كَانَ فِي صَلَاة الصُّبْح فِي السّفر. وَهُوَ كَمَا قَالَا؛ فقد رَوَى ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» من حَدِيث خَلاد بن يَحْيَى، نَا سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد، عَن زِيَاد بن نعيم الْحَضْرَمِيّ، عَن زِيَاد بن الْحَارِث الصدائي قَالَ: (كنت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأمرنِي فَأَذنت (للفجر) فجَاء بِلَال ليقيم، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: يَا بِلَال، إِن أَخا صداء أذن، وَمن أذن فَهُوَ يُقيم) .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: (كنت مَعَه فِي سفر فَحَضَرت صَلَاة الصُّبْح، فَقَالَ لي: أذن يَا أَخا صداء. وَأَنا عَلَى رَاحِلَتي) وَفِي لفظ لَهُ: (فَلَمَّا (تحين) الصُّبْح أَمرنِي فَأَذنت، ثمَّ قَالَ: يَا أَخا صداء، مَعَك مَاء؟ قلت: نعم، وَجَاء بِلَال ليقيم، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: إِن أَخا صداء أذن، وَمن أذن فَهُوَ يُقيم) .
وَرَوَى ابْن شاهين فِي (ناسخه ومنسوخه) وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» والعقيلي فِي «ضُعَفَائِهِ» من حَدِيث سعيد بن رَاشد الْمَازِني، نَا عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ فِي(3/412)
مسير (لَهُ) فَحَضَرت الصَّلَاة فَنزل الْقَوْم فطلبوا بِلَالًا، فَلم يجدوه، فَقَامَ رجل فَأذن ثمَّ جَاءَ بِلَال. فَقَالَ الْقَوْم: إِن رجلا قد أذن، فَسكت الْقَوْم هونا ثمَّ إِن بِلَالًا أَرَادَ أَن يُقيم، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام: مهلا يَا بِلَال؛ فَإِنَّمَا يُقيم من أذن) وَالظَّاهِر أَن هَذَا الْمُبْهم هُوَ الصدائي السالف. و (ابْن) رَاشد هَذَا قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي كتاب «الْجرْح وَالتَّعْدِيل» : سَأَلت أبي عَنهُ، فَقَالَ: ضَعِيف الحَدِيث (مُنكر الحَدِيث) . وَقَالَ فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ الْأنْصَارِيّ، عَن سعيد بن رَاشد، عَن عَطاء، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (من أذن فَهُوَ يُقيم) قَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَسَعِيد ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ مرّة: (مَتْرُوك) . وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: سعيد هَذَا يروي: (من أذن فَهُوَ يُقيم) (و) لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء. وَقَالَ البُخَارِيّ (والرازي) : مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن عدي: لَا يُتَابِعه عَلَى رواياته أحد. وَقَالَ ابْن حبَان: ينْفَرد عَن الثِّقَات بالمعضلات. قَالَ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» : وَقد رُوِيَ هَذَا الْمَتْن بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد - أَعنِي: رِوَايَة ابْن عمر - من وجهٍ صَالح، وَقد أسلفنا ذَلِك عَنهُ، وَذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن بِلَالًا كَانَ فِي حَاجَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَظَاهر مَا (ذَكرْنَاهُ) بل صَرِيحه أَنه لم يصدر من بِلَال(3/413)
حِين حضر أَذَان، لَكِن فِي تَعْلِيق (للْقَاضِي) حُسَيْن أَنه حضر بعد طُلُوع الْفجْر وَأذن.
ثَالِثهَا: الصدائي - بِضَم الصَّاد وَتَخْفِيف الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالمد - مَنْسُوب إِلَى صداء (بِالْمدِّ) يصرف وَلَا يصرف (و) هُوَ أَبُو هَذِه الْقَبِيلَة (واسْمه: يزِيد بن حَرْب) . قَالَ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» : صداء حَيّ من الْيمن.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الثَّلَاثِينَ
(أَن عبد الله بن زيد (لما) ألقِي الْأَذَان عَلَى بِلَال قَالَ عبد الله: أَنا رَأَيْته، وَأَنا كنت أريده يَا رَسُول الله! قَالَ: فأقم أَنْت) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» والسياق لَهُ من حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن (مُحَمَّد بن عبد الله) عَن عَمه عبد الله بن زيد قَالَ: (أَرَادَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فِي الْأَذَان أَشْيَاء) لم يصنع مِنْهَا (شَيْئا) قَالَ: فأري عبد الله بن زيد فِي الْمَنَام الْأَذَان، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأخْبرهُ، قَالَ: فألقه عَلَى بِلَال. قَالَ: (فَأَلْقَاهُ) عَلَيْهِ فَأذن(3/414)
(بِلَال) قَالَ عبد الله: (أَنا) رَأَيْته، وَأَنا كنت أريده! قَالَ: فأقم أَنْت) .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو قَالَ: سَمِعت عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ: (كَانَ جدي عبد الله بن زيد ... ) فَذكر الْخَبَر، قَالَ: فَأَقَامَ جدي، قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي: هَذَا حَدِيث حسن، وَفِي إِسْنَاده مقَال.
قلت: لم يبين ذَلِك (الْمقَال وَهُوَ) من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن مُحَمَّد بن عَمْرو الْمَذْكُور هُوَ الوَاقِفِي الْأنْصَارِيّ الْبَصْرِيّ - كَمَا جَاءَ مُبينًا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ لهَذَا الحَدِيث - وَقد ضعفه يَحْيَى بن سعيد جدًّا، وَقَالَ ابْن نمير: لَا يُسَاوِي شَيْئا. وَقَالَ ابْن معِين: ضَعِيف.
ثَانِيهَا: أَن مُحَمَّد بن عبد الله لَا يعرف حَاله كَمَا (قَالَ) ابْن الْقطَّان، قَالَ: وَكَذَلِكَ عبد الله بن مُحَمَّد الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد الآخر.
ثَالِثهَا: أَن الْعقيلِيّ نقل فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» عَن البُخَارِيّ (عقب) هَذَا الحَدِيث: إِن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن (زيد)(3/415)
عَن أَبِيه، عَن جده لم يذكر سَماع بَعضهم من بعض. قَالَ الْعقيلِيّ - لما ذكر الحَدِيث -: الرِّوَايَة فِي هَذَا الْبَاب فِيهَا لين، وَبَعضهَا أفضل من بعض. انْتَهَى.
وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق ثَان رَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من حَدِيث أبي العميس قَالَ: سَمِعت عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ «يحدث» عَن أَبِيه، عَن جده (أَنه رَأَى الْأَذَان مثنى مثنى، وَالْإِقَامَة مثنى مثنى قَالَ: فَأتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَخْبَرته فَقَالَ: علمهن بِلَالًا. فعلمتهن بِلَالًا، قَالَ: فتقدمت، فَأمرنِي أَن أقيم فأقمت (بهم)) قَالَ: قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث واه إِسْنَادًا ومتنًا، أما الْإِسْنَاد؛ فَإِن الْحفاظ من أَصْحَاب أبي العميس رَوَوْهُ عَن أبي العميس، عَن زيد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن زيد، وَأما الْوَهم الظَّاهِر فِي مَتنه؛ فَإِنَّهُ أَتَى بمعضلة لم يروها أحد، وَذَلِكَ أَنه أخبر أَن بِلَالًا أذن وَأقَام عبد الله بن زيد، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: (من أذن فَهُوَ يُقيم) فِي أَخْبَار كَثِيرَة. قَالَ: وَعبد السَّلَام بن حَرْب الْملَائي أعلم الْكُوفِيّين بِحَدِيث أبي العميس وَأَكْثَرهم عَنهُ رِوَايَة، وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث [فَلم فَذكر] فِيهِ تَثْنِيَة الْإِقَامَة. هَذَا آخر كَلَام الْحَاكِم عَلَى مَا نَقله الْبَيْهَقِيّ، وَلَا يَخْلُو من (مشاحة) .
وَله طَرِيق ثَالِث رَوَاهَا أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ عَلَى مَا عزاهُ إِلَيْهِ صَاحب(3/416)
«الإِمَام» من حَدِيث (الحكم) عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (كَانَ أول من أذن فِي الْإِسْلَام بِلَال وَأول من أَقَامَ عبد الله بن زيد فَلَمَّا أذن بِلَال أَرَادَ أَن يُقيم فَقَالَ عبد الله بن زيد: أَنا الَّذِي رَأَيْت الرُّؤْيَا؛ فَأذن بِلَال (و) يُقيم أَيْضا! قَالَ: فأقم أَنْت) وستعلم - إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْكَلَام عَلَى رفع الْيَدَيْنِ أَن الحكم لم يسمع من مقسم إِلَّا أَرْبَعَة أَحَادِيث؛ فَإِن لم يكن هَذَا من تِلْكَ، فَيكون مُنْقَطِعًا (وأجمل) عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» (القَوْل فِي تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث؛ فَقَالَ:) إِقَامَة عبد الله بن زيد لَيست تَجِيء من وَجه قوي - فِيمَا أعلم - و (ضعفها) النَّوَوِيّ أَيْضا، وَخَالف الْمُنْذِرِيّ فحسنها فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب، وَاحْتج بهَا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» ، وَمن الرِّوَايَات الغريبة (أَن عمر بن الْخطاب أَقَامَ بعد أَذَان بِلَال) .
رَوَاهَا ابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» من حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو الوَاقِفِي، عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ، عَن عَمه عبد الله بن زيد (أَنه رَأَى الْأَذَان فِي الْمَنَام، فَأَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكر ذَلِك لَهُ (قَالَ) : فَأذن بِلَال. قَالَ: فجَاء عمر بن الْخطاب إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَنا أرَى الرُّؤْيَا وَيُؤذن بِلَال! قَالَ: فأقم أَنْت) . قَالَ(3/417)
ابْن شاهين: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا أعلم (أَن) أحدا قَالَ فِيهِ أَن الَّذِي أَقَامَ الصَّلَاة عمر بن الْخطاب إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث، وَالْمَعْرُوف أَن الَّذِي أَقَامَ عبد الله بن زيد بن عبد ربه.
قلت: وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن (عَمْرو) الوَاقِفِي أَيْضا كَمَا سلف، وَقَالَ الْحَازِمِي فِي «ناسخه ومنسوخه» : اتّفق أهل الْعلم فِي الرجل يُؤذن وَيُقِيم غَيره (عَلَى) أَن ذَلِك جَائِز، وَاخْتلفُوا فِي الْأَوْلَوِيَّة، فَذهب أَكْثَرهم (إِلَى) أَنه لَا فرق، وَالْأَمر متسع، وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِك: مَالك وَأكْثر أهل الْحجاز، وَأَبُو حنيفَة وَأكْثر أهل الْكُوفَة، وَأَبُو ثَوْر، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الأولَى أَن من أذن فَهُوَ يُقيم، وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: كَانَ يُقَال: من أذن فَهُوَ يُقيم.
وروينا عَن أبي مَحْذُورَة (أَنه) جَاءَ وَقد أذن إِنْسَان، فَأذن وَأقَام، وَإِلَى هَذَا ذهب أَحْمد، وَقَالَ الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي رِوَايَة الرّبيع عَنهُ: (وَإِذا أذن الرجل أَحْبَبْت أَن يتَوَلَّى الْإِقَامَة) لشَيْء يرْوَى: (إِن من أذن فَهُوَ يُقيم) .
قَالَ الْحَازِمِي: وَحجَّة هَذَا الْمَذْهَب حَدِيث الصدائي؛ لِأَنَّهُ أقوم إِسْنَادًا من حَدِيث عبد الله بن زيد، ثمَّ حَدِيث عبد الله بن زيد كَانَ فِي أول (شرع) الْأَذَان، وَذَلِكَ فِي السّنة الأولَى، وَحَدِيث الصدائي كَانَ بعده بِلَا شكّ، وَالْأَخْذ بآخر الْأَمريْنِ أولَى. قَالَ: وَطَرِيق الْإِنْصَاف أَن يُقَال: الْأَمر فِي هَذَا الْبَاب عَلَى التَّوسعَة (وادعاء) النّسخ مَعَ إِمْكَان الْجمع(3/418)
بَين الْحَدِيثين عَلَى خلاف الأَصْل؛ إِذْ لَا عِبْرَة بِمُجَرَّد التَّرَاخِي. ثمَّ نقُول فِي حَدِيث عبد الله بن زيد: إِنَّمَا فوض الْأَذَان إِلَى بِلَال؛ لِأَنَّهُ كَانَ أندى صَوتا من عبد الله - عَلَى مَا ذكر فِي الحَدِيث - وَالْمَقْصُود من الْأَذَان الْإِعْلَام، وَمن (شَرطه) الصَّوْت، فَكلما كَانَ الصَّوْت أَعلَى كَانَ أولَى، وَأما زِيَاد بن الْحَارِث (فَكَانَ) جَهورِي (الصَّوْت) وَمن صلح للأذان كَانَ للإقامة أصلح، وَهَذَا الْمَعْنى يُؤَكد قَول من قَالَ: من أذن فَهُوَ يُقيم.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (الْمُؤَذّن أملك بِالْأَذَانِ، وَالْإِمَام أملك بِالْإِقَامَةِ) .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طَرِيقين (أَحدهمَا) : من (حَدِيث) أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء (و) زِيَادَة: (اللَّهُمَّ أرشد الْأَئِمَّة، واغفر للمؤذنين) رَوَاهُ ابْن عدي فِي كَامِله كَذَلِك من حَدِيث شريك بن عبد الله القَاضِي، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة (بِهِ) ثمَّ قَالَ: إِنَّمَا رَوَاهُ النَّاس عَن الْأَعْمَش بِلَفْظ آخر، وَهُوَ: «الإِمَام ضَامِن» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : من وثق شَرِيكا وَصحح حَدِيثه لَا يَنْبَغِي أَن يقْدَح هَذَا عِنْده فِيهِ؛ لِأَن هَذِه زِيَادَة لَا تعارضها تِلْكَ الرِّوَايَة.(3/419)
(ثَانِيهمَا) : من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (المؤذنون أَحَق بِالْأَذَانِ، وَالْإِمَام أَحَق بِالْإِقَامَةِ) .
رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ من حَدِيث معارك بن عباد، عَن يَحْيَى بن أبي الْفضل، عَن أبي الجوزاء، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا (بِهِ) ومعارك هَذَا ضعفه غير وَاحِد، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: واهي الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: أَحَادِيثه مُنكرَة.
قلت: وَرُوِيَ من طَرِيق ثَالِث مَوْقُوفا عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: (الْمُؤَذّن أملك بِالْأَذَانِ، وَالْإِمَام أملك بِالْإِقَامَةِ) .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (فِي «سنَنه» هَكَذَا) مَوْقُوفا عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ثمَّ قَالَ: رَوَى شريك عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا (وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ) وَقد أسلفنا (الْكَلَام) عَلَيْهَا أَولا، هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب - بِفضل الله وَمِنْه - وَذكر الرَّافِعِيّ فِي آخِره خَاتِمَة مُشْتَمِلَة عَلَى محبوبات الْأَذَان وَلكُل (مِنْهَا) حَدِيث شَاهد بذلك، وَلَيْسَ من شرطي الْخَوْض فِي ذَلِك، لِئَلَّا يصير شرحًا لكتاب الرَّافِعِيّ، وَإِنَّمَا شرطي أَن أعزو مَا صرح بِهِ أَو (أَوْمَأ) إِلَيْهِ.
وَأما آثاره فَأَرْبَعَة:
أَولهَا: عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: (لَيْسَ عَلَى النِّسَاء أَذَان) .(3/420)
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَنهُ بِإِسْنَاد صَحِيح (بِهِ) وَزِيَادَة: (وَلَا إِقَامَة) وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : حَكَى أَصْحَابنَا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَيْسَ عَلَى النِّسَاء أَذَان وَلَا إِقَامَة) قَالَ: وَهَذَا لَا نعرفه مَرْفُوعا؛ إِنَّمَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، عَن الْحسن وَإِبْرَاهِيم (وَالشعْبِيّ) وَسليمَان بن يسَار، وَحكي عَن عَطاء أَنه قَالَ: (يقمن) .
قلت: قد جَاءَ مَرْفُوعا من حَدِيث الحكم بن عبد الله الْأَيْلِي (و) رَوَاهُ ابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيثه عَن الْقَاسِم، عَن أَسمَاء قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (لَيْسَ عَلَى النِّسَاء أَذَان وَلَا إِقَامَة وَلَا جُمُعَة وَلَا اغتسال، وَلَا (تتقدمهن) امْرَأَة، وَلَكِن تقوم فِي وسطهن) (و) لكنه حَدِيث ضَعِيف بِسَبَب الحكم هَذَا؛ فَإِنَّهُ مَتْرُوك مُتَّهم (نسبه) إِلَى الْكَذِب السَّعْدِيّ وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ (بِثِقَة) وَلَا مَأْمُون. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِشَيْء، لَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ أَحْمد: أَحَادِيثه كلهَا مَوْضُوعَة. وَقَالَ البُخَارِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» هَكَذَا رَوَاهُ الحكم بن عبد الله(3/421)
الْأَيْلِي، وَهُوَ ضَعِيف.
قَالَ: ورويناه فِي الْأَذَان وَالْإِقَامَة عَن أنس مَرْفُوعا وموقوفًا، وَرَفعه ضَعِيف.
الْأَثر الثَّانِي: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أَنَّهَا كَانَت تؤذن وتقيم» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِزِيَادَة: (وتؤم النِّسَاء وسطهن) .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَن عَمْرو بن أبي سَلمَة قَالَ: (سَأَلت ابْن ثَوْبَان: عَلَى النِّسَاء إِقَامَة؟ فَحَدثني أَن أَبَاهُ حَدثهُ قَالَ: سَأَلت مَكْحُولًا فَقَالَ: إِذا أذنَّ وأقمن فَذَلِك أفضل، وَإِن لم يزدن عَلَى الْإِقَامَة أَجْزَأت عَنْهُن. قَالَ ابْن ثَوْبَان: وَإِن لم يقمن، فَإِن الزُّهْرِيّ حدث عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة قَالَت: كُنَّا نصلي بِغَيْر إِقَامَة) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا إِن صَحَّ مَعَ الأول فَلَا (يتنافيان) لجَوَاز فعلهَا ذَلِك مرّة وَتركهَا أُخْرَى؛ لجَوَاز الْأَمريْنِ جَمِيعًا. قَالَ: وَيذكر عَن جَابر بن عبد الله «قيل (لَهُ) : أتقيم الْمَرْأَة؟ قَالَ: نعم» .
الْأَثر الثَّالِث: عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: (لَوْلَا الخليفى لأذنت) .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، عَن قيس بن أبي حَازِم قَالَ: (قدمنَا عَلَى عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَقَالَ: من (مؤذنكم) ؟ فَقُلْنَا: عبيدنا وموالينا. فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا(3/422)
(يقلبها) - عبيدنا وموالينا؟ ! إِن ذَلِك بكم لنَقص شَدِيد لَو أطقت الْأَذَان مَعَ الخليفى لأذنت) .
(وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث إِسْمَاعِيل أَيْضا عَن قيس قَالَ: قَالَ عمر: (لَو كنت أُطِيق الْأَذَان مَعَ الخليفى لأذنت)) .
وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ - عَلَى مَا نَقله صَاحب «الإِمَام» عَنهُ - من حَدِيث إِسْمَاعِيل أَيْضا قَالَ: ثَنَا شبيل بن عَوْف البَجلِيّ أَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (من مؤذنوكم الْيَوْم؟ قُلْنَا: موالينا وعبيدنا. قَالَ: إِن ذَلِك بكم لنَقص (كَبِير)) قَالَ: وَقَالَ إِسْمَاعِيل: قَالَ: (و) قَالَ عمر: (لَو كنت أُطِيق مَعَ الخليفى لأذنت) وَقَالَ حُصَيْن: حدثت أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: (لَوْلَا أَن يكون سنة مَا أذن غَيْرِي) .
فَائِدَة: الخليفى - بتَشْديد (اللَّام) مَعَ كسر الْخَاء الْمُعْجَمَة مَقْصُور.
وَقيس بن أبي (حَازِم) هَذَا تَابِعِيّ جليل، رَوَى عَن الْعشْرَة، وَلَا يعرف أحد رَوَى عَن الْعشْرَة غَيره، قَالَه ابْن خرَاش الْحَافِظ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لم يسمع ابْن عَوْف. وَذكر الْحَاكِم مَعَ (قيس) هَذَا سعيد بن الْمسيب وَغَيره، وَفِيه نظر لَا يخْفَى، وَاسم أَبِيه: عبد عَوْف(3/423)
بن الْحَارِث، وَقيل: عَوْف الأحمسي (البَجلِيّ) الْكُوفِي، وَهُوَ من المخضرمين، أدْرك الْجَاهِلِيَّة، وَجَاء ليبايع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتوفي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ فِي الطَّرِيق، وَقيل فِي المخضرم غير ذَلِك، مِمَّا أوضعته فِي «الْمقنع فِي عُلُوم الحَدِيث» فِي النَّوْع الْأَرْبَعين؛ فَرَاجعه (مِنْهُ) تَجِد غرائب ونفائس لَا تُوجد مَجْمُوعَة فِي غَيره.
الْأَثر الرَّابِع: «أَن عُثْمَان) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَخذ) أَرْبَعَة من المؤذنين، وَلم يزدْ الْخُلَفَاء الراشدون عَلَى هَذَا الْعدَد) .
(و) هَذَا (الْأَمر) مَشْهُور فِي كتب أَصْحَابنَا، وَمِمَّنْ ذكره مِنْهُم صَاحب «الْمُهَذّب» وَلم يعزه النَّوَوِيّ فِي شَرحه لَهُ، وبيض لَهُ الْمُنْذِرِيّ فِي تَخْرِيجه لأحاديثه بَيَاضًا، وَفِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» بَاب عدد المؤذنين، وَذكر فِي آخِره زِيَادَة عُثْمَان: (التأذين يَوْم الْجُمُعَة) ثمَّ قَالَ: الْخَبَر ورد فِي التأذين لَا فِي الْمُؤَذّن. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فَهُوَ إِذا (أَدخل) فِي الْبَاب غير مَا ترْجم لَهُ، وَفِي «الْمعرفَة» لَهُ عَن (بعض) أَصْحَابنَا أَنه قَالَ: احْتج الشَّافِعِي فِي «الْإِمْلَاء» عَلَى جَوَاز أَكثر من مؤذنين اثْنَيْنِ بِقصَّة عُثْمَان، قَالَ: ومعروف أَنه زَاد فِي عدد المؤذنين فجعلهم) ثَلَاثَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد روينَا فِي حَدِيث السَّائِب بن يزِيد (أَن) التأذين الثَّالِث يَوْم(3/424)
الْجُمُعَة (إِنَّمَا أَمر بِهِ عُثْمَان حِين كثر أهل الْمَدِينَة إِلَّا أَن أهل الْعلم يَقُولُونَ: المُرَاد بِهِ التأذين الثَّالِث) مَعَ الْإِقَامَة، وَذَلِكَ لِأَن فِي حَدِيث السَّائِب «وَكَانَ التأذين يَوْم الْجُمُعَة حِين يجلس (الإِمَام) » فَالَّذِي زَاد عُثْمَان هُوَ الْأَذَان قبل خُرُوج الإِمَام. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَعَلَى هَذَا يدل كَلَام الشَّافِعِي فِي كتاب الْجُمُعَة. قَالَ: وَلَعَلَّه زَاد أَيْضا فِي عدد المؤذنين.
خاتمتان نختم بهما الْبَاب:
(الأولَى) : قَالَ الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الْبَاب: وَأما الْجمع بَين الْأَذَان [الْإِمَامَة] فَلَا يسْتَحبّ؛ لِأَنَّهُ لم يَفْعَله رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا أَمر بِهِ، وَلَا السّلف الصَّالح بعده، هَذَا لَفظه. وَفِي كَون الرَّسُول لم يفعل ذَلِك نظر؛ فَفِي التِّرْمِذِيّ من حَدِيث يعْلى بن مرّة: (فَأذن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ عَلَى (رَاحِلَته) وَأقَام (وَهُوَ عَلَى رَاحِلَته)) ثمَّ قَالَ: غَرِيب.
وَقد أخرجه أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالا فِيهِ: (فَأمر الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام) وَقد أوضحت ذَلِك (أكمل إِيضَاح) فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الْوَسِيط» فَرَاجعه مِنْهُ.(3/425)
الثَّانِيَة: قَالَ الرَّافِعِيّ أَيْضا فِي أثْنَاء مَسْأَلَة الْأَذَان وَالْإِقَامَة أَيهمَا أفضل؟ إِن الْمَنْقُول أَن سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول فِي تشهده: «أشهد أَنِّي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - 2667» ) . وَفِيمَا ذكره نظر؛ فَإِن الْمَنْقُول خِلَافه (وَأَن) (لفظ) (تشهده) : أشهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، كَمَا ستعلمه بِطرقِهِ فِي أَوَاخِر بَاب صفة الصَّلَاة عِنْد الْكَلَام عَلَى ذكر التشهدات، وَلَقَد أصَاب النَّوَوِيّ فِي (التَّنْقِيح) شرح الْوَسِيط (حَيْثُ) قَالَ: (كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول فِي تشهده: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله) .(3/426)
بَاب اسْتِقْبَال الْقبْلَة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ سَبْعَة أَحَادِيث
الحَدِيث الأول
(أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل الْبَيْت ودعا فِي نواحيه، ثمَّ خرج وَركع رَكْعَتَيْنِ فِي (قبُل) الْكَعْبَة، وَقَالَ: هَذِه الْقبْلَة) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أودعاه فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث أُسَامَة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما دخل الْبَيْت دَعَا فِي نواحيه كلهَا، وَلم يصل فِيهَا حَتَّى خرج، فَلَمَّا خرج ركع فِي قبل الْبَيْت رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: هَذِه الْقبْلَة) .
(فَائِدَة: قَوْله) : (ركع فِي قبل الْبَيْت) قَالَ الْخطابِيّ: قبُل كل شَيْء وقبلته: مَا استقبلك مِنْهُ. وَقَالَ القلعي: قبل الْبَيْت، أَي: بِحَيْثُ تقابله وتعاينه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بقبلها: وَجههَا؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة فِي الصَّحِيح من حَدِيث ابْن عمر: (فَصَلى رَكْعَتَيْنِ فِي وَجه الْكَعْبَة) قَالَ:(3/427)
وَهَذَا أحسن مَا قيل فِيهِ - إِن شَاءَ الله. قَالَ: (وقبلة) : بِضَم الْبَاء، وَيجوز إسكانها.
(و) : قَوْله: «هَذِه الْقبْلَة» قَالَ الْخطابِيّ (فِي) مَعْنَاهُ: إِن أَمر الْقبْلَة قد اسْتَقر عَلَى هَذِه البنية؛ فَلَا تنسخ بعد الْيَوْم، فصلوا إِلَيْهِ أبدا فَهُوَ قبلتكم. قَالَ: وَيحْتَمل أَنه علمهمْ موقف سنة الإِمَام وَأَنه يقف (فِي وَجههَا) دون أَرْكَانهَا وجوانبها، وَإِن كَانَت (الصَّلَوَات) فِي جَمِيع جهاتها مجزئة.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَيحْتَمل مَعْنَى ثَالِثا (و) هُوَ (أَن مَعْنَاهُ) : هَذِه الْكَعْبَة هِيَ الْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي أمرْتُم باستقباله؛ لَا كل الْحرم وَلَا مَكَّة وَلَا الْمَسْجِد الَّذِي حول الْكَعْبَة بل (هِيَ) نَفسهَا فَقَط.
فَائِدَة ثَانِيَة: نفي أُسَامَة صلَاته عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْكَعْبَة، وَكَذَا ابْن عَبَّاس فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» وأثبتها بِلَال، كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَأجْمع أهل الحَدِيث عَلَى الْأَخْذ بهَا (لِأَنَّهَا) مثبتة (وَمَعَهَا) زِيَادَة علم، فَوَجَبَ ترجيحها، وَأجَاب بَعضهم عَن الأول بِأَن المُرَاد نفي الرُّؤْيَة فَقَط(3/428)
لَا النَّفْي الْمُطلق، وَعَابَ ابْن حبَان هَذَا فِي «صَحِيحه» وَجمع بَينهمَا بِأَن ذَلِك بِاعْتِبَار (حالتين) فِي (عَاميْنِ وَأحسن مِنْهُ بِاعْتِبَار) وَقْتَيْنِ فِي يَوْمَيْنِ، وَقد ذكرت ذَلِك كُله موضحًا فِي شرحي للعمدة فَليُرَاجع مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّانِي
(أَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ ذَلِك فِي تَفْسِير قَول الله - تَعَالَى -: (فَإِن خِفْتُمْ فرجالًا أَو ركبانًا) يَعْنِي: مستقبلي الْقبْلَة وَغير مستقبليها) . قَالَ نَافِع: وَلَا أرَاهُ ذكر ذَلِك إِلَّا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب التَّفْسِير من «صَحِيحه» عَن عبد الله بن يُوسُف، عَن مَالك، عَن نَافِع (أَن عبد الله بن عمر كَانَ إِذا سُئِلَ عَن صَلَاة الْخَوْف قَالَ: يتَقَدَّم الإِمَام وَطَائِفَة من النَّاس ... - فَذكر صفتهَا - قَالَ: فَإِن كَانَ خوف أَشد من ذَلِك صلوا رجَالًا قيَاما عَلَى أَقْدَامهم أَو ركبانًا مستقبلي الْقبْلَة أَو غير مستقبليها) [قَالَ مَالك] قَالَ نَافِع: لَا (أرَى) (ابْن) عمر (ذكر) ذَلِك إِلَّا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَفِي «صَحِيح مُسلم» أَن ابْن عمر رَوَى صَلَاة الْخَوْف ثمَّ قَالَ -(3/429)
[أَي] (ابْن) عمر: «إِن) كَانَ خوف أَكثر من ذَلِك فصل. رَاكِبًا وقَائِما تومئ إِيمَاء) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : وَهُوَ ثَابت من جِهَة مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
فَائِدَة: قَوْله تَعَالَى: (فَإِن خِفْتُمْ) أَي: عدوًّا؛ فَحذف الْمَفْعُول بِهِ (لإحاطة) الْعلم بِهِ، قَالَه الواحدي. قَالَ: وَالرِّجَال: جمع راجل، كصاحب وصحاب، وَهُوَ الْكَائِن عَلَى رجله مَاشِيا كَانَ أَو وَاقِفًا. قَالَ: وَجمعه رجل، (رجالة) ، وَرِجَال. قَالَ: (والركبان) جمع رَاكب كفارس وفرسان. قَالَ: وَمَعْنى الْآيَة: (وَإِن) لم يمكنكم أَن (تصلوا) صُفُوفا (موفين للصَّلَاة) حُقُوقهَا فصلوا مشَاة وركبانًا؛ فَإِن ذَلِك يجزئكم. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا فِي حَال المسايفة والمطاردة، قَالَ ابْن عمر فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة: مستقبلي الْقبْلَة وَغير مستقبليها.
هَذَا آخر كَلَام الواحدي فَصرحَ بِأَن كَلَام ابْن عمر تَفْسِير لِلْآيَةِ. قَالَ النَّوَوِيّ فِي «التَّهْذِيب» : وَكَانَ بعض شُيُوخنَا يذهب إِلَى هَذَا، وَكَانَ(3/430)
بَعضهم يَقُول: لَيْسَ (هُوَ) بتفسير؛ بل هُوَ بَيَان حكم من أَحْكَام صَلَاة الْخَوْف. قَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ ظَاهر رِوَايَة البُخَارِيّ.
الحَدِيث الثَّالِث
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر عَلَى رَاحِلَته حَيْثُ تَوَجَّهت) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» (وَلَفظ البُخَارِيّ) عَن نَافِع قَالَ: «كَانَ ابْن عمر يُصَلِّي عَلَى (رَاحِلَته) ويوتر عَلَيْهَا، ويخبر أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَفْعَله، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (كَانَ عبد الله بن عمر يُصَلِّي فِي السّفر عَلَى رَاحِلَته أَيْنَمَا تَوَجَّهت يُومِئ) . وَيذكر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَفْعَله، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (كَانَ عبد الله يُصَلِّي عَلَى دَابَّته من اللَّيْل وَهُوَ مُسَافر، مَا يُبَالِي حَيْثُ كَانَ وَجهه. قَالَ ابْن عمر: وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسبح عَلَى الرَّاحِلَة قبل أَي وَجه توجه ويوتر عَلَيْهَا غير أَنه لَا (يُصَلِّي) عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَة) .(3/431)
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن ابْن عمر قَالَ: (كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي فِي السّفر عَلَى رَاحِلَته حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ، يُومِئ إِيمَاء صَلَاة اللَّيْل إِلَّا الْفَرَائِض، ويوتر عَلَى رَاحِلَته) وَفِي أُخْرَى: (يُومِئ بِرَأْسِهِ) ، وَلَفظ مُسلم: (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُصَلِّي سبحته حَيْثُمَا تَوَجَّهت بِهِ نَاقَته) وَفِي لفظ لَهُ: (كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَته حَيْثُ تَوَجَّهت (بِهِ)) وَفِي لفظ لَهُ: (حَيْثُمَا تَوَجَّهت بِهِ، وَكَانَ ابْن عمر يفعل ذَلِك) وَفِي (لفظ لَهُ) : (كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ مقبل من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة عَلَى رَاحِلَته حَيْثُ كَانَ وَجهه وَفِيه نزلت: (فأينما توَلّوا فثم وَجه الله» وَفِي لفظ لَهُ: (ثمَّ تَلا ابْن عمر: (فأينما توَلّوا فثم وَجه الله) وَقَالَ: فِي هَذَا نزلت) وَفِي لفظ لَهُ: (رَأَيْته يُصَلِّي عَلَى حمَار وَهُوَ موجه إِلَى خَيْبَر) قَالَ عبد الْحق: تفرد بهَا، وَالصَّحِيح: (عَلَى رَاحِلَته) وَفِي لفظ لَهُ: (كَانَ يسبح عَلَى الرَّاحِلَة قبل أيُ وَجه توجه، ويوتر عَلَيْهَا غير أَنه لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَة) .(3/432)
وَقَالَ أَحْمد فِي «مُسْنده» : ثَنَا وَكِيع، ثَنَا ابْن أبي لَيْلَى، عَن عَطاء أَو عَطِيَّة عَن أبي (و) سعيد عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَته فِي التَّطَوُّع حَيْثُمَا تَوَجَّهت بِهِ يُومِئ إِيمَاء (يَجْعَل) السُّجُود أَخفض من الرُّكُوع» قَالَ عبد الله: (وَالصَّوَاب) عَطِيَّة، وَالله أعلم.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن جَابر بن عبد الله مثل حَدِيث ابْن عمر.
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ، رَوَاهُ البُخَارِيّ بِأَلْفَاظ: أَحدهَا: من حَدِيث عُثْمَان بن عبد الله بن سراقَة عَنهُ (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي غَزْوَة أَنْمَار كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَته مُتَوَجها قبل الْمشرق) .
ثَانِيهَا: (كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَته حَيْثُ تَوَجَّهت (بِهِ) فَإِذا أَرَادَ (أَن يُصَلِّي الْمَكْتُوبَة) (نزل) فَاسْتقْبل الْقبْلَة) .
ثَالِثهَا: «كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَته نَحْو الْمشرق؛ فَإِذا أَرَادَ أَن(3/433)
يُصَلِّي الْمَكْتُوبَة نزل فَاسْتقْبل الْقبْلَة» .
قَالَ عبد الْحق: وَالنُّزُول للمكتوبة من أَفْرَاده.
رَابِعهَا: (كَانَ يُصَلِّي التَّطَوُّع وَهُوَ رَاكب فِي غير الْقبْلَة) .
وَرَوَاهُ مُسلم بِأَلْفَاظ من حَدِيث أبي الزبير عَنهُ:
أَحدهَا: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[فَبَعَثَنِي] فِي حَاجَة، فَرَجَعت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَته وَوَجهه إِلَى غير الْقبْلَة ... ) الحَدِيث.
ثَانِيهَا: «أَتَيْته وَهُوَ (يُصَلِّي) عَلَى بعيره، يومىء (بِرَأْسِهِ)
) الحَدِيث.
ثَالِثهَا: (أَدْرَكته يُصَلِّي وَهُوَ موجه يَوْمئِذٍ قبل الْمشرق ... ) الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: (إِنِّي كنت أُصَلِّي نَافِلَة) .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، ثَنَا وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن أبي الزبير، عَن جَابر قَالَ: (بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حَاجَة، فَجئْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَته نَحْو الْمشرق (السُّجُود) أَخفض من الرُّكُوع) .(3/434)
وَهَذَا إِسْنَاد كُله عَلَى شَرط مُسلم، كَمَا نبه عَلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي «جَامعه» عَن مَحْمُود بن غيلَان، عَن وَكِيع وَيَحْيَى بن آدم كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، إِلَّا أَنه قَالَ: (وَالسُّجُود بِزِيَادَة (و) ثمَّ قَالَ: (هَذَا) حَدِيث حسن صَحِيح.
وَرُوِيَ من غير (وَجه عَن) جَابر، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أهل الْعلم، لَا نعلم بَينهم اخْتِلَافا؛ لَا يرَوْنَ بَأْسا أَن يُصَلِّي الرجل عَلَى رَاحِلَته تَطَوّعا حَيْثُمَا كَانَ وَجهه إِلَى الْقبْلَة أَو غَيرهَا.
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث حجاج، عَن ابْن جريج، أَخْبرنِي أَبُو الزبير، عَن جَابر قَالَ: (رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى رَاحِلَته النَّوَافِل فِي كل جِهَة، وَلكنه يخْفض السَّجْدَتَيْنِ (من الرَّكْعَة) يُومِئ إِيمَاء) . (وَفِي رِوَايَة عَن ابْن جريج عَن أَبَى الزبير أَيْضا «يخْفض السَّجْدَتَيْنِ من الرَّكْعَتَيْنِ»
وَأما ابْن الْقطَّان، فَإِنَّهُ أعل حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر عَلَى طَريقَة عبد الْحق بِأَن قَالَ: أَبُو الزبير لم يسمع من جَابر، وَلَا هُوَ من رِوَايَة اللَّيْث عَنهُ.(3/435)
وَهَذَا لَيْسَ بجيد فَإِنَّهُ قد ثَبت سَمَاعه مِنْهُ فِي هَذَا الحَدِيث.
قَالَ الشَّافِعِي: أَنا عبد الْمجِيد، عَن ابْن جريج قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: (رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى رَاحِلَته النَّوَافِل) .
وَقَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : نَا ابْن خُزَيْمَة (نَا) أَحْمد بن الْمِقْدَام، نَا (مُحَمَّد بن بكر) نَا ابْن جريج، نَا أَبُو الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: (رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ (يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَته، يُصَلِّي النَّوَافِل فِي كل وَجه (وَلكنه) يخْفض السَّجْدَتَيْنِ من (الرَّكْعَتَيْنِ) يُومِئ إِيمَاء)) .
وَقَول ابْن الْقطَّان أَيْضا: وَلَا هُوَ من رِوَايَة اللَّيْث عَنهُ، لَيْسَ كَمَا (ذكره) فقد أخرجه أَبُو الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة اللَّيْث عَنهُ، وَهُوَ اللَّفْظ الثَّالِث لمُسلم كَمَا أسلفناه، وَقد توبع (أَبُو) الزبير عَلَى (رِوَايَته) هَذَا الحَدِيث عَن جَابر رَوَاهُ شَيبَان بن أبي كثير، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن أَن جَابر(3/436)
بن عبد الله أخبرهُ (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي التَّطَوُّع وَهُوَ رَاكب فِي غير الْقبْلَة) ذكرهَا الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» .
تَنْبِيه: اعْلَم أَن الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتدلَّ بِحَدِيث جَابر هَذَا وَبِحَدِيث ابْن عمر السالف عَلَى أَنه لَا يشْتَرط فِي التَّنَفُّل إِلَى غير الْقبْلَة السّفر الطَّوِيل؛ فَإِنَّهُ قَالَ: هَل يخْتَص ذَلِك بِالسَّفرِ الطَّوِيل؟ فِيهِ قَولَانِ أصَحهمَا: لَا؛ لإِطْلَاق الْخَبَر الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَرُوِيَ مثله عَن جَابر، وَفِي ذَلِك نظر؛ فَإِن لفظ السّفر فِي الحَدِيث لَا عُمُوم لَهُ؛ فَإِنَّهُ حِكَايَة أَمر وَقع فِي الْمَاضِي - أَعنِي قَوْله: (كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر عَلَى رَاحِلَته) - فَلَا يَشْمَل الطَّوِيل والقصير، فَيَنْبَغِي أَن يحمل عَلَى الطَّوِيل احْتِيَاطًا؛ بل رِوَايَة (ابْن) عمر السالفة: (كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ مقبل من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة عَلَى رَاحِلَته) (صَرِيح) فِي كَونه طَويلا، فَلم لَا (يحمل الْمُطلق) عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا سَافر وَأَرَادَ أَن يتَطَوَّع اسْتقْبل بناقته (الْقبْلَة) وَكبر، ثمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجهه ركابه) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن مُسَدّد، نَا ربعي بن عبد الله بن الْجَارُود، حَدثنِي عَمْرو بن أبي الْحجَّاج، حَدثنِي(3/437)
الْجَارُود بن أبي سُبْرَة، حَدثنِي أنس بن مَالك
(فَذكره) كَذَلِك سَوَاء، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح كل رِجَاله ثِقَات، أما مُسَدّد فَأخْرج لَهُ البُخَارِيّ، وَأما شَيْخه فَهُوَ هذلي بَصرِي ثِقَة.
قَالَ ابْن معِين: صَالح. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَأخرج لَهُ (خَ) فِي كتاب «الْأَدَب» . وَأما شيخ شَيْخه فَهُوَ صَالح الحَدِيث - كَمَا قَالَ أَبُو حَاتِم - وَكَذَا قَالَ فِي حق الْجَارُود (أَيْضا) وَأخرج (خَ) للجارود فِي كتاب الْقِرَاءَة. لَا جرم ذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» وَاقْتصر النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» عَلَى أَن إِسْنَاده حسن وَلَا مَانع من (الْجَزْم) بِصِحَّتِهِ كَمَا قَرّرته.
الحَدِيث السَّادِس
(أَن أهل قبَاء صلوا إِلَى جِهَتَيْنِ) .
هَذَا صَحِيح، وَقد اتفقَا عَلَى إِخْرَاجه فِي « (الصَّحِيحَيْنِ» ) من (طَرِيقين) :
أَحدهمَا: من رِوَايَة ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: (بَيْنَمَا النَّاس فِي صَلَاة الصُّبْح بقباء إِذْ جَاءَهُم آتٍ فَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد أنزل(3/438)
عَلَيْهِ، وَقد أُمر أَن يسْتَقْبل الْقبْلَة (فاستقبلوها) وَكَانَت وُجُوههم إِلَى الشَّام فاستداروا إِلَى الْكَعْبَة) .
وَفِي بعض (طرق) البُخَارِيّ «أَلا فاستقبلوها» ذكره (البُخَارِيّ) فِي التَّفْسِير وَقَالَ: (قد أنزل عَلَيْهِ اللَّيْلَة قُرْآن، وَفِي اسْم هَذَا الْآتِي أَقْوَال، ذكرتها فِي «شرح الْعُمْدَة» فَرَاجعهَا مِنْهُ.
(ثَانِيهمَا) : من رِوَايَة الْبَراء بن عَازِب بِنَحْوِهِ، وَفِي البُخَارِيّ: (فانحرفوا وهم رُكُوع فِي صَلَاة الْعَصْر) .
وَانْفَرَدَ مُسلم بِإِخْرَاجِهِ من حَدِيث أنس، وَفِيه: (فَمر رجل من بني سَلمَة وهم رُكُوع فِي صَلَاة الْفجْر وَقد صلوا رَكْعَة، فَنَادَى: أَلا إِن الْقبْلَة قد حولت! فمالوا كَمَا هم نَحْو الْكَعْبَة) .
وَفِي رِوَايَة غَرِيبَة للطبراني عَن أنس: (نَادَى مُنَادِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن الْقبْلَة قد حولت إِلَى الْبَيْت الْحَرَام، وَقد صَلَّى الإِمَام رَكْعَتَيْنِ. فاستداروا وصلوا الرَّكْعَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ نَحْو الْبَيْت الْحَرَام) .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن ثُمَامَة إِلَّا [جميل] بن عبيد تفرد بِهِ زيد بن الْحباب.(3/439)
قلت: وَفِي وَقت التَّحْوِيل أَقْوَال (ذكرتها) فِي «شرح الْعُمْدَة» فَرَاجعهَا (مِنْهُ) .
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ (أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الصَّلَاة فَوق (ظهر) الْكَعْبَة) .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ (من طَرِيق ابْن عمر و) من طَرِيق أَبِيه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن زيد بن [جبيرَة] عَن دَاوُد بن الْحصين، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يصلى فِي (سَبْعَة) مَوَاطِن: فِي المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطَّرِيق، وَفِي الْحمام، ومعاطن الْإِبِل، وَفَوق ظهر بَيت الله) ثمَّ قَالَ: ونا عَلّي بن حجر، ونا سُوَيْد بن عبد الْعَزِيز، عَن زيد بِهِ، بِمَعْنَاهُ وَنَحْوه.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي صَالح قَالَ: حَدثنِي اللَّيْث، حَدثنِي نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «سَبْعَة) مَوَاطِن لَا تجوز فِيهَا الصَّلَاة: (ظهر) بَيت الله،(3/440)
والمقبرة، والمزبلة، والمجزرة، وَالْحمام، وعطن الْإِبِل (ومحجة) الطَّرِيق) .
وَرَوَاهُ عبد بن حميد شيخ البُخَارِيّ فِي «مُسْنده» من حَدِيث يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن زيد. كَمَا أخرجه التِّرْمِذِيّ.
وَهَذِه الطَّرِيقَة ضَعِيفَة (بِسَبَب) زيد بن جبيرَة، وَقد تَرَكُوهُ، وَحَدِيثه مُنكر جدًّا، وَأما دَاوُد بن الْحصين فَهُوَ من رجال الصَّحِيحَيْنِ وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة، وَهُوَ ثِقَة قدري، لينه أَبُو زرْعَة. وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة: كُنَّا نتقي حَدِيثه. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: مُرْسل الشّعبِيّ وَابْن الْمسيب أحب إِلَيّ من دَاوُد، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس.
(وَأما طَريقَة ابْن مَاجَه (فَهِيَ) أَجود مِنْهَا؛ فَإِن عبد الله بن صَالح مِمَّن اخْتلف فِيهِ) علق عَنهُ البُخَارِيّ. وَقَالَ أَحْمد: كَانَ متماسكًا فِي أول أمره، ثمَّ فسد بِأخرَة، وَلَيْسَ هُوَ بِشَيْء. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: نرَى أَن الْأَحَادِيث الَّتِي أنْكرت (عَلَيْهِ) مِمَّا افتعل خَالِد بن نجيح، وَكَانَ أَبُو صَالح يَصْحَبهُ، وَكَانَ سليم النَّاحِيَة، وَكَانَ خَالِد يفتعل الْأَحَادِيث ويضعها فِي كتب النَّاس، وَلم يكن أَبُو صَالح مِمَّن(3/441)
يكذب، كَانَ رجلا صَالحا. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: كَانَ حسن الحَدِيث، لم يكن مِمَّن يكذب. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ عِنْدِي مُسْتَقِيم الحَدِيث وَله أغاليط. وَقَالَ سعيد بن مَنْصُور: جَاءَنِي يَحْيَى بن معِين فَقَالَ: أحب أَن تمسك عَن كَاتب اللَّيْث، فَقلت: لَا أمسك عَنهُ، وَأَنا أعلم النَّاس بِهِ.
وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: ضربت عَلَى حَدِيثه، وَمَا أروي شَيْئا. وَقَالَ أَبُو عَلّي صَالح بن مُحَمَّد الْحَافِظ: كَانَ كَاتب اللَّيْث يكذب. وَكَذَلِكَ كذبه جزرة الْحَافِظ. وَقَالَ (النَّسَائِيّ) : لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ ابْن حبَان: هُوَ مُنكر الحَدِيث جدًّا، يروي عَن الْأَثْبَات مَا لَيْسَ من أَحَادِيث الثِّقَات، وَكَانَ فِي نَفسه صَدُوقًا، وَإِنَّمَا وَقعت الْمَنَاكِير فِي حفظه من قبل جَار لَهُ كَانَ يضع الحَدِيث عَلَى (شيخ) عبد الله بن صَالح (وَيكْتب) بِخَطِّهِ شبه (خطّ) عبد الله ويرميه فِي دَاره بَين كتبه (فيتوهم) عبد الله (بن صَالح) أَنه خطه فَيحدث بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي حَدِيث ابْن عمر: إِسْنَاده لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي، وَقد تكلم فِي زيد بن جبيرَة من قبل حفظه. قَالَ: وَقد رَوَى اللَّيْث بن سعد هَذَا الحَدِيث عَن عبد الله بن عمر الْعمريّ عَنهُ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (مثله. قَالَ: وَحَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) أشبه وَأَصَح من حَدِيث اللَّيْث بن سعد، قَالَ: وَعبد الله بن عمر الْعمريّ ضعفه بعض أهل الحَدِيث من قبل حفظه مِنْهُم يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان.(3/442)
قلت: رِوَايَة «ابْن مَاجَه» خَالِيَة عَنهُ كَمَا سلف، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي « (سنَنه» ) : تفرد بِهِ زيد بن جبيرَة. ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: زيد بن جبيرَة أَبُو جبيرَة عَن دَاوُد بن الْحصين مُنكر الحَدِيث. قَالَ: وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث عَن عبد الله بن عمر الْعمريّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَحَدِيث دَاوُد أشبه. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن حَدِيث عمر وَابْن عمر فَقَالَ: (هما) جَمِيعًا واهيان. وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي «تنويره» بعد أَن ذكر حَدِيث ابْن عمر: هَذَا حَدِيث بَاطِل عِنْدهم، أنكروه عَلَى زيد بن جبيرَة، وَلَا يعرف مُسْندًا إِلَّا بِرِوَايَة يَحْيَى بن أَيُّوب عَنهُ.
قلت: قد أخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سُوَيْد بن عبد الْعَزِيز (عَنهُ) كَمَا سلف، وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» حَدِيث (ابْن عمر ثمَّ قَالَ: حَدِيث لَا يَصح) ثمَّ نقل كَلَام الْأَئِمَّة فِي (تَضْعِيف) زيد بن جبيرَة وَدَاوُد بن الْحصين. وَخَالف فِي «تَحْقِيقه» فَقَالَ - بعد أَن ذكره وَذكر حَدِيث [عمر] قبل حَدِيث ابْن عمر -: قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيّ:(3/443)
لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ الْقوي، وَقد تكلم فِي زيد من قبل حفظه. وَقَالَ يَحْيَى فِي زيد: لَيْسَ بِشَيْء، وَحَدِيث عمر فِيهِ كَاتب اللَّيْث أَبُو صَالح (وَكلهمْ) طعن فِيهِ. قُلْنَا: أما زيد فقد ضعف إِلَّا أَنه إِذا كَانَ من قبل حفظه (فَمَا) يَخْلُو الْحَافِظ من الْغَلَط. قَالَ: وَأما دَاوُد فقد ضُعف، إِلَّا أَن أَبَا زرْعَة لينه (قَالَ) : وَأما أَبُو صَالح فَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: كَانَ رجلا صَالحا، لم يكن مِمَّن يكذب. قَالَ: وَمثل هَذَا لَا يُوجب إطراح الحَدِيث. هَذَا آخر كَلَامه؛ فقد نَاقض ذَلِك فِي «علله» وَإِنَّمَا أوقعه ذَلِك التعصب لمذهبه فِي (أَن) الصَّلَاة فِي الْمَوَاضِع الْمنْهِي عَنْهَا لَا تصح، وَالْعجب مِنْهُ (أَنه) يَقُول فِي حَافظ الْمشرق أبي بكر الْخَطِيب إِنَّه شَدِيد التعصب لمذهبه و (يغلطه) فِيمَا صنفه فِي الْقُنُوت والبسملة وَغَيرهمَا، وَيَقُول (لَهُ) فِي كَلَام لَهُ أَن (التهارج) لَا يخْفَى عَلَى النقاد؛ فقد وَقع فِيمَا عَابَ عَلَى غَيره، وَقد وَقع (لإِمَام) الْحَرَمَيْنِ أَيْضا الحكم بِصِحَّة هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ أَيْضا وَمثل ذَلِك (فِي) إِدْخَال ابْن السكن هَذَا الحَدِيث فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ ب «السّنَن الصِّحَاح المأثورة» فَقَالَ إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام كره الصَّلَاة فِي سبع (مَوَاطِن) أَحدهَا: الْمقْبرَة. وَهُوَ متساهل فِي هَذَا الْكتاب، وَذكر المُصَنّف فِي أثْنَاء بَاب شُرُوط الصَّلَاة هَذَا الحَدِيث وَذكر فِيهِ «بدل الْمقْبرَة» «بطن الْوَادي» ، وَهِي زِيَادَة بَاطِلَة لَا تعرف فِي(3/444)
هَذَا الحَدِيث، وستمر عَلَيْك فِي موضعهَا - إِن شَاءَ الله ذَلِك وَقدره - ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك كُله أَن الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى الرَّاجِح فِيمَا إِذا صَلَّى عَلَى سطح الْكَعْبَة أَو فِي عرصتها بِدُونِ شاخص بَين يَدَيْهِ مِنْهَا (فَإِنَّهُ) قَالَ: لَو صَلَّى فِي الْعَرَصَة فَهُوَ كَمَا لَو صَلَّى عَلَى سطحها، فَنَنْظُر إِن لم يكن بَين يَدَيْهِ شاخص من نَفْس الْكَعْبَة فَفِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا (أَنه) لَا يُجزئهُ؛ لما رُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن الصَّلَاة عَلَى ظهر الْكَعْبَة) . انْتَهَى.
وَهَذَا الدَّلِيل (أخص) من الدَّعْوَى، وَأَيْضًا فَإِن مُقْتَضَاهُ الْمَنْع مُطلقًا، وَقد صحّح الرَّافِعِيّ بعد ذَلِك الصِّحَّة فِيمَا إِذا كَانَ بَين يَدَيْهِ شاخص.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب، وَذكر فِيهِ عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه صَلَّى إِلَى قبْلَة الْكُوفَة مَعَ عَامَّة الصَّحَابَة، وَأَنه هُوَ الَّذِي نصب قبْلَة الْكُوفَة، وَأَن عتبَة بن غَزوَان هُوَ الَّذِي نصب قبْلَة الْبَصْرَة، وَأَن عبد الله بن الْمُبَارك كَانَ يَقُول بعد رُجُوعه (من الْحَج) : يَا أهل مرو تياسروا.(3/445)
بَاب صفة الصَّلَاة
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا. (و)
أما (الْأَحَادِيث) فمائة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للأعرابي: ثمَّ اركع حَتَّى تطمئِن رَاكِعا) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أَخْرجَاهُ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مطولا: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل الْمَسْجِد فَدخل رجل فَصَلى، ثمَّ جَاءَ فَسلم عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَرد عَلَيْهِ وَقَالَ: ارْجع فصل؛ فَإنَّك لم تصل. فَرجع الرجل فَصَلى كَمَا كَانَ صَلَّى، ثمَّ جَاءَ فَسلم عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: وَعَلَيْك السَّلَام. ثمَّ قَالَ: ارْجع (فصل) فَإنَّك لم (تصلِ) حَتَّى فعل ذَلِك ثَلَاث مَرَّات، فَقَالَ الرجل: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ، مَا أحسن غير هَذَا، فعلمني. فَقَالَ: إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَكبر، ثمَّ اقْرَأ مَا تيَسّر مَعَك من الْقُرْآن، ثمَّ اركع حَتَّى تطمئِن رَاكِعا، ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تعتدل قَائِما، ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا (ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تطمئِن جَالِسا) ثمَّ افْعَل ذَلِك(3/446)
فِي صَلَاتك كلهَا) وَزَاد البُخَارِيّ: (ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا) (يذكر) الطُّمَأْنِينَة فِي السَّجْدَتَيْنِ، وَفِي لفظ لمُسلم: (إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فأسبغ الْوضُوء، ثمَّ اسْتقْبل الْقبْلَة وَكبر ... ) .
الحَدِيث الثَّانِي
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْفَائِتَة: فليصلها إِذا ذكرهَا) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح؛ كَمَا سلف فِي بَاب التَّيَمُّم.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور وتحريمها التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم) .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق، أشهرها: عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. رَوَاهُ (الْأَئِمَّة) الشَّافِعِي، وَأحمد، والدارمي، وَالْبَزَّار فِي «مسانيدهم» وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» ،(3/447)
وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن مُحَمَّد بن الحنيفة، عَن عَلّي مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَقد أسلفنا أَقْوَال الْأَئِمَّة فِي عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل فِي بَاب (الْوضُوء) .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث أصح شَيْء فِي هَذَا الْبَاب وَأحسن. قَالَ: وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل صَدُوق، وَقد تكلم فِيهِ بعض أهل الْعلم من قبل حفظه (قَالَ) : وَسمعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل - يَعْنِي: البُخَارِيّ - يَقُول: كَانَ أَحْمد وَإِسْحَاق والْحميدِي يحتجون بحَديثه. قَالَ مُحَمَّد: (هُوَ) مقارب الحَدِيث. وَقَالَ الْعقيلِيّ: فِي إِسْنَاده لين، وَهُوَ أصلح من حَدِيث جَابر. وَقَالَ الْبَزَّار: لَا نعلمهُ يرْوَى عَن عَلّي (إِلَّا) من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَقَالَ الْحَاكِم: حَدِيث عَلّي الَّذِي رَوَاهُ بن عقيل، عَن مُحَمَّد بن الحنيفة عَنهُ هُوَ أشهر أسانيده، قَالَ: والشيخان أعرضا عَن حَدِيث ابْن عقيل أصلا. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي: هَذَا الحَدِيث مَشْهُور (و) لَا يعرف إِلَّا من حَدِيث ابْن عقيل بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث عَلّي. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي خلافياته: أَن أشهر إِسْنَاد فِيهِ حَدِيث عَلّي. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : هَذَا حَدِيث ثَابت أخرجه مَعَ أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ مُحَمَّد بن أسلم فِي «مُسْنده» وَلَفظه: «مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور، وإحرامها التَّكْبِير وإحلالها التَّسْلِيم» .(3/448)
وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» .
قلت: وأرسله مُحَمَّد ابْن الحنيفة مرّة، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَنهُ رَفعه (إِلَى) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِلَفْظ مُحَمَّد بن أسلم الْمَذْكُور، وَلَا يقْدَح هَذَا فِي طَرِيق الْوَصْل.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (مِفْتَاح الْجنَّة الصَّلَاة، ومفتاح الصَّلَاة الْوضُوء) .
رَوَاهُ الْأَئِمَّة أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، وَالْبَزَّار فِي «مسانيدهم» وَالتِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أصغرها معاجمه» والعقيلي فِي «تَارِيخه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «شعب الْإِيمَان» من حَدِيث سُلَيْمَان بن قرم - بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الرَّاء - عَن أبي يَحْيَى القَتَّات - بقاف، ثمَّ مثناه فَوق، ثمَّ ألف، ثمَّ مثناه فَوق أَيْضا - عَن مُجَاهِد، عَن جَابر بِهِ (وَرَوَاهُ ابْن السكن بالقطعة الثَّانِيَة فَقَط) . قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يروه عَن أبي يَحْيَى - واسْمه: زَاذَان - إِلَّا سُلَيْمَان بن قرم، تفرد بِهِ حُسَيْن بن مُحَمَّد الْمروزِي.
قلت: وَأَبُو يَحْيَى القَتَّات مُخْتَلف فِيهِ، كَمَا ستعلمه فِي بَاب (شُرُوط) الصَّلَاة - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - (و) قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ(3/449)
بِالْقَوِيّ. وَكَذَا سُلَيْمَان بن قرم أَيْضا وَثَّقَهُ أَحْمد وَغَيره. وَقَالَ ابْن عدي: أَحَادِيثه حسان، وَخرج لَهُ فِي الصَّحِيح. قَالَ الْحَاكِم: أخرج لَهُ مُسلم شَاهدا، وَقد غمز بالغلو وَسُوء الْحِفْظ جَمِيعًا. وَقَالَ ابْن حبَان: رَافِضِي غال يقلب الْأَخْبَار. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَوَقع للْقَاضِي أبي بكر بن الْعَرَبِيّ: إِن أصح شَيْء فِي هَذَا الْبَاب وَأحسن حَدِيث جَابر (هَذَا) . وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ؛ لما علمت، وَلما أخرجه الْعقيلِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» قَالَ: إِن حَدِيث عَلّي وَأبي سعيد الْآتِي أصلح مِنْهُ مَعَ لينهما.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور وتحريمها التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم) .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي كتاب الطَّهَارَة، وَالتِّرْمِذِيّ فِي كتاب الصَّلَاة، والعقيلي فِي «تَارِيخه» من حَدِيث أبي سُفْيَان طريف بن شهَاب - وَيُقَال: ابْن سُفْيَان. وَيُقَال: ابْن سعد وَيُقَال: طريف الأشل السَّعْدِيّ - عَن أبي نَضرة (الْمُنْذر بن) مَالك الْعَبْدي، عَن أبي سعيد بِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث عَلّي - يَعْنِي: السالف - أصح إِسْنَادًا وأجود من هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ الْعقيلِيّ: إِسْنَاده لين، وَهُوَ أصلح من حَدِيث جَابر. وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَن فِي إِسْنَاده أَبَا سُفْيَان طريف بن شهَاب. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» بعد أَن أخرجه من طَرِيق ابْن مَاجَه: أَبُو سُفْيَان هَذَا - قَالَ أَبُو عمر: أَجمعُوا (عَلَى) أَنه(3/450)
ضَعِيف الحَدِيث. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد قَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عدي: رَوَى عَنهُ الثِّقَات، وَإِنَّمَا أنكر عَلَيْهِ فِي متون الْأَحَادِيث أَشْيَاء لم يَأْتِ بهَا غَيره، وَأما أسانيده فَهِيَ مُسْتَقِيمَة.
قلت: وَفِي سَنَد التِّرْمِذِيّ: سُفْيَان بن وَكِيع شَيْخه، قَالَ البُخَارِيّ: يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ لِأَشْيَاء لقنوها. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: مُتَّهم بِالْكَذِبِ. وَتكلم فِيهِ أَبُو حَاتِم وَابْن عدي وَأَبُو زرْعَة؛ لأجل أَنه يَتَلَقَّن، لَكِن التِّرْمِذِيّ حسن حَدِيثه: (اللَّهُمَّ ارزقني حبك) .
قلت: وَلِحَدِيث أبي سعيد هَذَا طَرِيق (آخر) رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي أَوَائِل (الطَّهَارَة) من حَدِيث حسان بن إِبْرَاهِيم، عَن سعيد بن مَسْرُوق (الثَّوْريّ، عَن أبي نَضرة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (مِفْتَاح الصَّلَاة الْوضُوء، وتحريمها التَّكْبِير، وتحليلها التَّسْلِيم) ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ، قَالَ: وشواهده عَن أبي سُفْيَان) عَن أبي نَضرة كَثِيرَة فقد رَوَاهُ أَبُو حنيفَة وَحَمْزَة الزيات، وَأَبُو مَالك النَّخعِيّ وَغَيرهم عَن أبي سُفْيَان.
قلت: لَكِن فِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» أَن سعيد بن مَسْرُوق (لَا) يحدث عَن أبي نَضرة.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن عباد بن تَمِيم، عَن عَمه عبد الله بن زيد، عَن(3/451)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (افْتِتَاح الصَّلَاة الطّهُور، وتحريمها التَّكْبِير، وتحليلها التَّسْلِيم) .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَفِي إِسْنَاده الْوَاقِدِيّ، وَهُوَ مَشْهُور الْحَال.
وَذكره ابْن طَاهِر فِي «تَذكرته» من طَرِيق آخر، والمخرج وَاحِد، وَأعله بِأبي غزيَّة القَاضِي، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي سَرقه.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور، وتحريمها التَّكْبِير، وتحليلها التَّسْلِيم) .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَفِي إِسْنَاده نَافِع مولَى يُوسُف السّلمِيّ، قَالَ أَبُو حَاتِم: مَتْرُوك الحَدِيث.
وَله طَرِيق سادس مَوْقُوف عَن شُعْبَة، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي الْأَحْوَص، عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (مِفْتَاح الصَّلَاة التَّكْبِير، وانقضاؤها (التَّسْلِيم)) .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ قَالَ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث أبي إِسْحَاق (وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي كتاب الصَّلَاة من حَدِيث زُهَيْر، عَن أبي إِسْحَاق) بِهِ وَلَفظه: (تَحْرِيم الصَّلَاة(3/452)
التَّكْبِير، وتحليلها التَّسْلِيم) .
ولعه طَرِيق سَابِع مَوْقُوف عَلَى أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور وَالتَّكْبِير تَحْرِيمهَا» .
رَوَاهُ ابْن عدي وَضَعفه بِنَافِع أبي هُرْمُز قَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: لَيْسَ بِثِقَة.
فَهَذِهِ طرق الحَدِيث (والأخيرة لَا تقدح فِي الأولَى بل هِيَ شاهدة) لَهَا، وَأما أَبُو حَاتِم ابْن حبَان (فَقَالَ) فِي كِتَابه «وصف الصَّلَاة بِالسنةِ» : حَدِيث تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم لَا يَصح من جِهَة النَّقْل. قَالَ: وَذَلِكَ أَن مَا رُوِيَ لَهُ إِلَّا طَرِيقَانِ: مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة، عَن عَلّي. وَأَبُو نَضرة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ؛ فَأَما رِوَايَة مُحَمَّد ابْن الحنيفة فَمَا رَوَاهَا إِلَّا ابْن عقيل. وَأما رِوَايَة أبي نَضرة، عَن أبي سعيد فَمَا رَوَاهَا عَنهُ إِلَّا أَبُو سُفْيَان، وَقد ذكرنَا السَّبَب فِي جرحهما فِي كتاب «الْمَجْرُوحين» وَقد وهم حسان بن إِبْرَاهِيم؛ فَرَوَاهُ عَن سعيد بن مَسْرُوق، عَن أبي نَضرة، عَن أبي سعيد، وَذَلِكَ يُوهم أَن أَبَا سُفْيَان هُوَ وَالِد سُفْيَان الثَّوْريّ، وَلم يعلم أَن أَبَا سُفْيَان هُوَ طريف السَّعْدِيّ(3/453)
كَانَ واهيًا فِي الحَدِيث؛ فَإِن أَبَا سُفْيَان الثَّوْريّ هُوَ سعيد بن مَسْرُوق كَانَ (ثِقَة) فَحمل هَذَا عَلَى ذَلِك، وَلم يُمَيّز؛ إِذْ الحَدِيث لم يكن من صناعته. هَذَا لَفظه، وَتَبعهُ ابْن طَاهِر فِي «تَذكرته» عَلَى ذَلِك، وَقد علمت أَن للْحَدِيث خمس طرق، وَكَلَام غَيره عَلَى الطَّرِيقَيْنِ الْأَوَّلين.
فَائِدَة: قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي «شرح التِّرْمِذِيّ» : سمي الْوضُوء مفتاحًا؛ لِأَن الْحَدث مَانع من الصَّلَاة كالغلق عَلَى الْبَاب يمْنَع من دُخُوله إِلَّا بمفتاح. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: (سَمّى) التَّكْبِير تَحْرِيمًا؛ لِأَنَّهُ يمْنَع الْمُصَلِّي من الْكَلَام وَالْأكل وَغَيرهمَا. قَالَ: وأصل التَّحْرِيم من قَوْلك: حرمت فلَانا كَذَا - أَي: منعته - وكل مَمْنُوع فَهُوَ حرَام وحرَم.
الحَدِيث الرَّابِع
(أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَبْتَدِئ الصَّلَاة (بقول) : الله أكبر) هَكَذَا (روته) عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ لم أره فِي حَدِيث عَائِشَة وَإِنَّمَا الْمَعْرُوف من (حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) : (كَانَ يستفتح الصَّلَاة بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين) .
رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث أبي الجوازء الربعِي عَنْهَا.(3/454)
قَالَ ابْن عبد الْبر: وَلم يسمع مِنْهَا، حَدِيثه عَنْهَا مُرْسل.
قلت: إِدْرَاكه لَهَا مُمكن؛ بل ورد مشافهته (لَهَا) بالسؤال، لَكِن قَالَ البُخَارِيّ: فِي إِسْنَاده نظر، وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ مثله عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: (أَنه كَانَ إِذا دخل فِي الصَّلَاة كبر وَرفع يَدَيْهِ، وَإِذا ركع رفع يَدَيْهِ، وَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده رفع يَدَيْهِ، وَإِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ) وَرفع ابْن عمر ذَلِك إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَفِي سنَن أبي دَاوُد وجامع التِّرْمِذِيّ مثله (مصححًا) عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: (كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا دخل فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة كبر وَرفع يَدَيْهِ) نعم اللَّفْظ الْمَذْكُور مَوْجُود فِي حَدِيث آخر صَحِيح رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن عَلّي بن مُحَمَّد الطنافسي، نَا أَبُو أُسَامَة، حَدثنِي عبد الحميد بن جَعْفَر، نَا مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن عَطاء قَالَ: سَمِعت أَبَا حميد السَّاعِدِيّ قَالَ: (كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا استفتح الصَّلَاة اسْتقْبل الْقبْلَة وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ: الله أكبر) .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي كِتَابه و «صف الصَّلَاة بِالسنةِ» عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ، أَنا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، نَا أَبُو أُسَامَة ... فَذكره، وَشرط فِي هَذَا الْكتاب - كَمَا قَالَ فِي خطبَته - أَنه مستخرج من السّنَن(3/455)
الصِّحَاح دون ذكر الْمَرَاسِيل والموضوعات والمقاطيع والمقلوبات.
قلت: وَهَذَا اللَّفْظ مَوْجُود أَيْضا فِي حَدِيث آخر صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَرَوَاهُ الْبَزَّار عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك الْقرشِي، نَا يُوسُف بن أبي سَلمَة، نَا أبي، عَن الْأَعْرَج، عَن عبيد الله بن أبي رَافع، عَن عَلّي (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة قَالَ: الله أكبر، وجهت وَجْهي ... ) إِلَى آخِره.
قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : وَهَذَا شَيْء عَزِيز الْوُجُود ومفسر للرواية فِي الصَّحِيح أَنه كبر، وَقد أنكر ابْن حزم وجود ذَلِك، وَقَالَ: مَا عرف قطّ. وَقد بَين غلطه.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ كَمَا سلف بِطُولِهِ فِي بَاب الْأَذَان.
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (لَا يقبل الله صَلَاة أحدكُم حَتَّى يضع الطّهُور موَاضعه وَيسْتَقْبل الْقبْلَة فَيَقُول: الله أكبر) .
هَذَا الحَدِيث لَا نعرفه كَذَلِك فِي كتاب حَدِيث (و) عزاهُ(3/456)
ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» إِلَى أَصْحَابهم الْفُقَهَاء فَقَالَ: رَوَاهُ أَصْحَابنَا من حَدِيث رِفَاعَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: (لَا يقبل الله صَلَاة امْرِئ حَتَّى يضع (الْوضُوء) موَاضعه، ثمَّ يسْتَقْبل الْقبْلَة (وَيَقُول: الله أكبر)) .
قلت: والحَدِيث من هَذَا الْوَجْه فِي سنَن أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ لَكِن بِلَفْظ: «كبر» بدل: «الله أكبر» رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عَلّي بن يَحْيَى بن خَلاد الزرقي، عَن أَبِيه، عَن عَمه - وَهُوَ رِفَاعَة بن رَافع - قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (إِذْ) دخل رجل الْمَسْجِد فَصَلى وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرمقه وَلَا يشْعر، ثمَّ انْصَرف فَأَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَسلم عَلَيْهِ) فَرد عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل - قَالَ: لَا أَدْرِي فِي الثَّانِيَة أَو فِي الثَّالِثَة - قَالَ: وَالَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب، لقد جهدت فعلمني وَأَرِنِي! قَالَ: إِذا أردْت الصَّلَاة فَتَوَضَّأ (فَأحْسن) الْوضُوء، ثمَّ قُم فَاسْتقْبل الْقبْلَة ثمَّ كبر، ثمَّ اقْرَأ ثمَّ اركع حَتَّى تطمئِن رَاكِعا، ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تعتدل قَائِما، ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا، ثمَّ ارْفَعْ رَأسك حَتَّى تطمئِن قَاعِدا، ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا، فَإِذا (صنعت) ذَلِك فقد قضيت صَلَاتك، وَمَا انتقصت من ذَلِك؛ فَإِنَّمَا تنتقصه من صَلَاتك) .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث يَحْيَى بن عَلّي بن يَحْيَى بن خَلاد(3/457)
بن رَافع الزرقي أَيْضا (عَن أَبِيه) عَن جده (عَن) رِفَاعَة بن رَافع بِلَفْظ: (فَتَوَضَّأ كَمَا أَمرك الله ثمَّ تشهد، فأقم ثمَّ كبر، فَإِن كَانَ مَعَك قُرْآن (فاقرأ بِهِ) وَإِلَّا فاحمد الله - عَزَّ وَجَلَّ - وَكبره وَهَلله ... ) الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة لَهُ: (إِنَّهَا لَا تتمّ صَلَاة أحدكُم حَتَّى يسبغ الْوضُوء كَمَا أمره الله فَيغسل وَجهه وَيَديه إِلَى الْمرْفقين وَيمْسَح بِرَأْسِهِ وَرجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يكبر الله ... ) الحَدِيث.
وَفِي رِوَايَة لَهُ: (إِذا أَقمت فتوجهت إِلَى الْقبْلَة فَكبر ... ) الحَدِيث.
وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (إِنَّه لَا تتمّ صَلَاة لأحد من النَّاس حَتَّى يتَوَضَّأ (فَيَضَع) الْوضُوء - يَعْنِي: موَاضعه - ثمَّ يكبر ... ) . الحَدِيث.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِدُونِ التَّكْبِير من حَدِيث يَحْيَى بِهِ بِلَفْظ: (إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَتَوَضَّأ كَمَا أَمرك الله، ثمَّ تشهد (وأقم) فَإِن كَانَ مَعَك قُرْآن فاقرأ، وَإِلَّا فاحمد الله وَكبره وَهَلله، ثمَّ اركع فاطمئن رَاكِعا ... ) الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن، وَقد رُوِيَ عَن رِفَاعَة من غير وَجه، وَقَالَ ابْن عبد الْبر إِنَّه حَدِيث ثَابت، وَزعم ابْن الْقطَّان أَن يَحْيَى بن عَلّي ابْن خَلاد لَا يعرف لَهُ حَال (فَأَما أَبوهُ) عَلّي فَثِقَة،(3/458)
وجده يَحْيَى بن خَلاد أخرج لَهُ البُخَارِيّ.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: (يَا رَسُول الله، عَلمنِي كَيفَ أصنع. قَالَ: إِذا اسْتقْبلت الْقبْلَة فَكبر، ثمَّ اقْرَأ بِأم الْقُرْآن، ثمَّ اقْرَأ بِمَا شِئْت، فَإِذا ركعت فَاجْعَلْ راحتيك عَلَى ركبتيك، وامدد ظهرك، وَمكن (لركوعك) فَإِذا رفعت رَأسك فأقم صلبك حَتَّى ترجع الْعِظَام إِلَى مفاصلها، فَإِذا سجدت فمكن سجودك، فَإِذا جَلَست فاجلس عَلَى فخذك الْيُسْرَى، ثمَّ اصْنَع ذَلِك فِي كل رَكْعَة وَسجْدَة) وَقد أسلفنا فِي الحَدِيث الأول أَن فِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للمسيء صلَاته: إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فأسبغ الْوضُوء، ثمَّ اسْتقْبل الْقبْلَة وَكبر) .
الحَدِيث السَّابِع
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يرفع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه إِذا افْتتح الصَّلَاة) .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزَادا: وَإِذا كبر للرُّكُوع وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع (رفعهما) كَذَلِك، وَقَالَ: (سمع الله لمن حَمده (رَبنَا وَلَك الْحَمد)) .
وَفِي رِوَايَة (للبيهقي) : (فَمَا زَالَت تِلْكَ صلَاته حَتَّى لَقِي الله) .(3/459)
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «وَلَا يفعل ذَلِك (حِين) يسْجد، وَلَا حِين يرفع رَأسه من السُّجُود» (وَفِي رِوَايَة لَهُ) : (وَإِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «يرفع يَدَيْهِ حِين يكبر» وَفِي رِوَايَة لَهُ: (كبر وَرفع يَدَيْهِ) ، وَقد (سلفت) فِي الحَدِيث الرَّابِع، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «كَانَ إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْو مَنْكِبَيْه» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن: «ثمَّ كبر وهما كَذَلِك» .
الحَدِيث الثَّامِن
عَن وَائِل بن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: (أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما كبر رفع يَدَيْهِ حَذْو (مَنْكِبَيْه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن عَاصِم (بن كُلَيْب، عَن أَبِيه، عَن وَائِل (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِذا افْتتح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه))(3/460)
وَهُوَ مخرج فِي «مُسْنده» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَا رَوَاهُ الْحميدِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
قلت: هُوَ فِي مُسْند الْحميدِي (بالسند الْمَذْكُور لَكِن بِلَفْظ (إِذا افْتتح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ، وَإِذا ركع وَبَعْدَمَا يرْكَع ... ) الحَدِيث لم يقل: «حَذْو مَنْكِبَيْه» وَلَا «أُذُنَيْهِ» ، نعم هُوَ فِي الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث الْحميدِي) وَإِبْرَاهِيم بن بشار الرَّمَادِي، عَن سُفْيَان، عَن عَاصِم بِهِ بِلَفْظ: (رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا افْتتح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ [حَتَّى] يُحَاذِي أُذُنَيْهِ) .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عبد الْوَاحِد، نَا عَاصِم بن كُلَيْب، عَن أَبِيه، عَن وَائِل بن حجر قَالَ: (اسْتقْبل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْقبْلَة (فَكبر وَرفع يَدَيْهِ) حَتَّى كَانَتَا حَذْو مَنْكِبَيْه، [قَالَ: ثمَّ أَخذ شِمَاله بِيَمِينِهِ قَالَ] : فَلَمَّا أَرَادَ أَن يرْكَع رفع يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا حَذْو مَنْكِبَيْه (فَلَمَّا) ركع وضع يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَلَمَّا رفع رَأسه من الرُّكُوع رفع يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا حَذْو مَنْكِبَيْه) .
وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» أَيْضا وَلَفظه: عَن وَائِل بن حجر (أَنه(3/461)
رَأَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رفع يَدَيْهِ (حِين) دخل فِي الصَّلَاة كبر وصفهما حِيَال أُذُنَيْهِ، ثمَّ التحف بِثَوْبِهِ، ثمَّ وضع يَده الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَلَمَّا (أَرَادَ) أَن يرْكَع أخرج يَده من الثَّوْب، ثمَّ (رفعهما) ثمَّ كبر فَرَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ: سمع الله لمن حَمده (رفع) يَدَيْهِ، فَلَمَّا سجد (سجد بَين) كفيه) .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من طرق عَنهُ فِي بَعْضهَا: «وَكبر) وَرفع يَدَيْهِ حَتَّى حاذتا أُذُنَيْهِ وَفِي بَعْضهَا (فَرفع) يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْت (إبهاميه) قَرِيبا من أُذُنَيْهِ) .
الحَدِيث التَّاسِع
رُوِيَ (أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رفع يَدَيْهِ إِلَى شحمة أُذُنَيْهِ) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه قَالَ: (رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرفع إبهاميه فِي الصَّلَاة إِلَى شحمة أُذُنَيْهِ) .
وَهُوَ مُنْقَطع، عبد الْجَبَّار لم يسمع من أَبِيه، وَقيل: إِنَّه ولد بعد أَبِيه بِسِتَّة أشهر، وَقد سلف ذَلِك فِي بَاب الْأَذَان.(3/462)
وَفِي رِوَايَة غَرِيبَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث وَائِل أَيْضا رَفعه: (إِذا صليت فَاجْعَلْ يَديك حذاء أذنيك، وَالْمَرْأَة تجْعَل يَديهَا حذاء ثدييها) .
تَنْبِيه:
قَالَ الرَّافِعِيّ: فِي وَقت رفع الْيَدَيْنِ أوجه، أَحدهَا: أَنه يرفع غير مكبر ثمَّ يَبْتَدِئ التَّكْبِير مَعَ ابْتِدَاء الْإِرْسَال (وَيَنْتَهِي) مَعَ انتهائه (و) رُوِيَ ذَلِك عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
ثَانِيهَا: أَنه يَبْتَدِئ الرّفْع مَعَ ابْتِدَاء التَّكْبِير، وَيروَى ذَلِك عَن وَائِل بن حجر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
ثَالِثهَا: أَنه يرفع غير مكبر، ثمَّ يكبر ويداه قاربان، ثمَّ يرسلهما فَيكون التَّكْبِير بَين الرّفْع والإرسال، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. هَذَا آخر كَلَامه.
فَأَما حَدِيث أبي حميد فسأذكره بعد - إِن شَاءَ الله - وَأما حَدِيث وَائِل وَابْن عمر، فقد عَرفته آنِفا، وَحَكَى الْبَيْهَقِيّ، عَن الشَّافِعِي أَنه أَخذ بِأَحَادِيث الرّفْع إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ قَالَ: (لِأَنَّهَا) أثبت إِسْنَادًا، وَأكْثر عددا، وَالْعدَد أولَى بِالْحِفْظِ من الْوَاحِد.(3/463)
فصل فِيمَا وصل إِلَيْنَا من الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْأَمَاكِن الَّتِي يسْتَحبّ فِيهَا رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة عَلَى وَجه الِاخْتِصَار.
فَإِنَّهُ قد شغب فِي (زَمَاننَا) فِي ذَلِك شغب، وأثار فتْنَة فَتعين إِيضَاح ذَلِك، وَالْمَسْأَلَة مُفْردَة بالتصنيف لخلق من الْحفاظ (قد ذكر) الرَّافِعِيّ (حَدِيث ابْن عمر الثَّابِت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقد سلف بِطُولِهِ وبذكر الرّفْع) فِي الِافْتِتَاح وَعند الرُّكُوع وَعند الرّفْع.
قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ - وَكَانَ أعلم (أهل) زَمَانه -: حق عَلَى الْمُسلمين أَن يرفعوا أَيْديهم؛ لهَذَا الحَدِيث. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي خلافياته: رَوَى الْحَاكِم أَبُو عبد الله عَن أبي الْحسن بن (عَبدُوس) عَن عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ، قَالَ: سَمِعت عَلّي بن الْمَدِينِيّ يَقُول فِي حَدِيث سُفْيَان هَذَا عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ سُفْيَان: حفظته عَن الزُّهْرِيّ كَمَا أَنَّك هَا هُنَا. قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: هَذَا الحَدِيث عِنْدِي حجَّة عَلَى الْخلق (عَلَى) كل من سَمعه فَعَلَيهِ أَن يعْمل بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إِسْنَاده شَيْء. قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: لم أزل أعمل بِهِ مُنْذُ أَنا صبيّ. قَالَ الدَّارمِيّ: وَبِه نَأْخُذ. قَالَ أَبُو الْحسن: وَبِه نَأْخُذ (قَالَ الْحَاكِم: وَبِه نَأْخُذ) قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَبِه (آخذ) وَذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا حَدِيث وَائِل بن حجر، وَقد سلف بِطُولِهِ (بِذكر) الرّفْع فِي المواطن الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة.(3/464)
وَعَن أبي قلَابَة (أَنه رَأَى مَالك بن الْحُوَيْرِث إِذا صَلَّى كبر، ثمَّ رفع يَدَيْهِ؛ فَإِذا أَرَادَ أَن يرْكَع رفع يَدَيْهِ، وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع رفع يَدَيْهِ. وَحدث أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يفعل ذَلِك) مُتَّفق عَلَى صِحَّته، أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَفِي رِوَايَة لمُسلم (أَنه رَأَى مَالك بن الْحُوَيْرِث إِذا صَلَّى كبر ثمَّ رفع يَدَيْهِ) بِلَفْظ «ثمَّ» لَا بِالْوَاو، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن مَالك بن الْحُوَيْرِث (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا كبر رفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بهما أُذُنَيْهِ (فَإِذا ركع رفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بهما أُذُنَيْهِ) ، وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع، وَقَالَ: سمع الله لمن حَمده فعل مثل ذَلِك) وَفِي رِوَايَة لَهُ: (حَتَّى يُحَاذِي بهما فروع أُذُنَيْهِ) .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: (رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرفع يَدَيْهِ إِذا كبر وَإِذا ركع، وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع حَتَّى يبلغ بهما فروع أُذُنَيْهِ) .
(وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه: (كَانَ إِذا كبر رفع يَدَيْهِ حَتَّى يجعلهما قَرِيبا من أُذُنَيْهِ) وَإِذا ركع صنع مثل ذَلِك، وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع صنع مثل ذَلِك) .
وَفِي رِوَايَة للنسائي: (رفع يَدَيْهِ فِي صلَاته (وَإِذا) ركع، وَإِذا رفع رَأسه من رُكُوعه، وَإِذا سجد، وَإِذا رفع رَأسه من سُجُوده حَتَّى يُحَاذِي بهما فروع أُذُنَيْهِ) .(3/465)
وَعَن (عَلّي) بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (أَنه كَانَ إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة كبر وَرفع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه (ويصنع) مثل ذَلِك إِذا قَضَى قِرَاءَته وَأَرَادَ أَن يرْكَع، ويصنعه إِذا رفع (رَأسه) من الرُّكُوع، وَلَا يرفع يَدَيْهِ فِي شَيْء من صلَاته وَهُوَ قَاعد، فَإِذا قَامَ من السَّجْدَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ كَذَلِك وَكبر) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظ وَالْبُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح (و) رَوَوْهُ كلهم هُنَا إِلَّا التِّرْمِذِيّ فَرَوَاهُ فِي كتاب الدُّعَاء فِي أَوَاخِر كِتَابه.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَرَأَيْت فِي «علل الْخلال» أَن أَحْمد سُئِلَ عَن حَدِيث عَلّي ابْن أبي طَالب فِي الرّفْع فَقَالَ: صَحِيح، وَعَن حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ فِي الرّفْع الْآتِي فَقَالَ: صَحِيح.
قَوْله: (فَإِذا قَامَ من السَّجْدَتَيْنِ) يَعْنِي: الرَّكْعَتَيْنِ (ويوضحه) (رِوَايَة) البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ فَإِنَّهُمَا ذكرا فِي روايتهما: (وَإِذا قَامَ من(3/466)
الرَّكْعَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ) وَانْفَرَدَ الْخطابِيّ عَن الْعلمَاء أَجْمَعِينَ، فَظن (أَن) المُرَاد (السجدتان) المعروفتان ثمَّ اسْتشْكل الحَدِيث، وَقَالَ: لَا أعلم أحدا من الْفُقَهَاء قَالَ بِهِ. وَكَأَنَّهُ لم يقف عَلَى طرق الحَدِيث، وَلَو وقف عَلَيْهَا (لحمله) عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ (كَمَا حمله) الْأَئِمَّة.
وَعَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء أَنه سمع أَبَا حميد فِي عشرَة من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أحدهم أَبُو قَتَادَة يَقُول: «أَنا أعلمكُم بِصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالُوا: [فَلم؟ فوَاللَّه مَا كنت بأكثرنا لَهُ تبعا وَلَا أقدمنا لَهُ صُحْبَة. قَالَ: بلَى. قَالُوا:] فاعرض. فَقَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة اعتدل قَائِما وَرفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بهما مَنْكِبَيْه (وَإِذا أَرَادَ أَن يرْكَع رفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بهما مَنْكِبَيْه) ثمَّ قَالَ: الله أكبر وَركع، ثمَّ اعتدل فَلم يصوب وَلم يقنع، وَوضع يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثمَّ قَالَ: سمع الله لمن حَمده. وَرفع يَدَيْهِ (فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: حَتَّى إِذا قَامَ من السَّجْدَتَيْنِ كبر وَرفع يَدَيْهِ) حَتَّى يُحَاذِي بهما مَنْكِبَيْه كَمَا صنع حِين افْتتح الصَّلَاة» وَفِي آخِره: (قَالُوا: صدقت، هَكَذَا صَلَّى الله رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن(3/467)
صَحِيح. وللبخاري مِنْهُ: (رَأَيْته إِذا كبر جعل يَدَيْهِ حذاء مَنْكِبَيْه) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : قد قَالَ الشَّافِعِي فِي حَدِيث أبي حميد: وَبِهَذَا نقُول، وَفِيه: رفع الْيَدَيْنِ إِذا قَامَ من (الرَّكْعَتَيْنِ) . قَالَ: وَمذهب الشَّافِعِي مُتَابعَة السّنة إِذا ثبتَتْ. وَقد قَالَ فِي حَدِيث أبي حميد: وَبِهَذَا أَقُول.
وَعَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (كَانَ يرفع يَدَيْهِ إِذا دخل فِي الصَّلَاة وَإِذا ركع) .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن مُحَمَّد بن بشار، ثَنَا عبد الْوَهَّاب، حَدثنَا حميد، عَن أنس بِهِ، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمَام) : هَؤُلَاءِ (المذكورون عَن) مُحَمَّد بن (بشار) إِلَى منتهاه من رجال (الصَّحِيح) .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من جِهَة ابْن خُزَيْمَة، عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن فياض، عَن عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ بِإِسْنَادِهِ، وَفِيه: (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يرفع يَدَيْهِ إِذا كبر وَإِذا ركع، وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع) .
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب «رفع الْيَدَيْنِ» كَمَا سَاقه ابْن مَاجَه،(3/468)
وَعَن جَابر بن عبد الله قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي صَلَاة الظّهْر يرفع يَدَيْهِ إِذا كبر وَإِذا ركع وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع) .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» ثمَّ قَالَ: قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث لم نَكْتُبهُ من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ (عَن) أبي الزبير إِلَّا عَن شَيخنَا أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَحْبُوب التَّاجِر وَهُوَ ثِقَة مَأْمُون، وَإِنَّمَا نعرفه من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، عَن أبي الزبير.
قلت: وَمن هَذَا الْوَجْه أخرجه ابْن مَاجَه قَالَ فِي «سنَنه» : نَا مُحَمَّد بن يَحْيَى، ثَنَا أَبُو حُذَيْفَة، ثَنَا إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، عَن أبي الزبير (أَن جَابر بن عبد الله كَانَ إِذا افْتتح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ وَإِذا ركع وَإِذا رفع رَأسه (من الرُّكُوع فعل مثل ذَلِك) وَيَقُول: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فعل) مثل ذَلِك، وَرفع إِبْرَاهِيم بن طهْمَان يَدَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حُذَيْفَة مُوسَى بن مَسْعُود النَّهْدِيّ، عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، وَتَابعه زِيَاد بن سوقة. قَالَ: وَهَذَا حَدِيث صَحِيح رُوَاته عَن آخِرهم ثِقَات.
وَعَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: (أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ إِذا افْتتح الصَّلَاة وَإِذا ركع وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع. وَقَالَ: صليت خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَكَانَ يرفع يَدَيْهِ إِذا افْتتح الصَّلَاة وَإِذا ركع، وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع) .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» و «سنَنه» وَقَالَ فِي سنَنه: رُوَاته ثِقَات.(3/469)
وَعَن ابْن عمر، عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: (رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرفع يَدَيْهِ إِذا كبر وَإِذا ركع، وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع) .
(و) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَقَبله الدَّارَقُطْنِيّ فِي «غرائب حَدِيث مَالك» .
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: الحديثان كِلَاهُمَا محفوظان - يَعْنِي: حَدِيث ابْن عمر، عَن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَحَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) فَإِن ابْن عمر رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعله، وَرَأَى أَبَاهُ فعله.
وَرَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَصوب أَحْمد - فِيمَا (حَكَاهُ) الْخلال فِي «علله» - حَدِيث ابْن عمر.
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا كبر للصَّلَاة جعل يَدَيْهِ حذاء مَنْكِبَيْه، وَإِذا ركع فعل مثل ذَلِك، وَإِذا (رفع للسُّجُود فعل مثل ذَلِك، وَإِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ فعل مثل ذَلِك) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث، حَدثنِي أبي، عَن جدي، عَن يَحْيَى ابْن أَيُّوب، عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، عَن ابْن شهَاب، عَن أبي بكر بن الْحَارِث ابْن هِشَام، عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : هَؤُلَاءِ كلهم رجال الصَّحِيح، فَإِن يَحْيَى بن أَيُّوب احْتج بِهِ مُسلم فِي مَوَاضِع من كِتَابه، وَقد تَابع يَحْيَى (عُثْمَان) بن الحكم الجذامي (قلت: حَكَى ابْن الْعَرَبِيّ فِي رجال(3/470)
(م، خَ) تَشْدِيد الذَّال، وَهُوَ غَرِيب) عَن ابْن جريج عَلَى مَا ذكر فِي كتاب «الْعِلَل» عَن الدَّارَقُطْنِيّ، وَفِيه: «إِذا قَامَ من الرَّكْعَة الثَّانِيَة بعد التَّشَهُّد، (وَذكر) الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» أَن عَمْرو بن عَلّي رَوَى عَن (ابْن) أبي عدي، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة «أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي كل خفض وَرفع وَيَقُول: أَنا أشبهكم صَلَاة برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (و) لم يُتَابع عَمْرو بن عَلّي (عَلَى) ذَلِك، وَغَيره يرويهِ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يكبر فِي كل خفض وَرفع» وَهُوَ (الصَّحِيح) .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَهِشَام بن عمار قَالَا: ثَنَا إِسْمَاعِيل ابْن عَيَّاش، عَن صَالح بن كيسَان، عَن عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرفع يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة حَذْو مَنْكِبَيْه حِين يفْتَتح الصَّلَاة (و) حِين يرْكَع وَحين يسْجد» .
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب، عَن سعيد بن سمْعَان قَالَ: «دخل علينا أَبُو هُرَيْرَة فِي الْمَسْجِد(3/471)
فَقَالَ: ثَلَاث كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعْمل بِهن تركهن النَّاس: كَانَ إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ مَدًّا، وَكَانَ يقف قبل الْقِرَاءَة هنيَّة (يسْأَل) الله من فَضله، وَكَانَ (يكبر) فِي الصَّلَاة كلما ركع وَسجد» .
وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: « (هَل) أريكم صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فَكبر) وَرفع يَدَيْهِ، ثمَّ كبر وَرفع يَدَيْهِ للرُّكُوع، ثمَّ قَالَ: سمع الله لمن حَمده. وَرفع يَدَيْهِ، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا فَاصْنَعُوا. وَلَا يرفع بَين السَّجْدَتَيْنِ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن الْأَزْرَق بن قيس، عَن (حطَّان) بن عبد الله، عَن أبي مُوسَى بِهِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَلَا يقْدَح فِي رَفعه؛ لما أسلفناه مرَارًا أَن مَعهَا زِيَادَة علم.
وَعَن عبد الله بن الزبير «أَنه صَلَّى بهم يُشِير بكفيه حِين يقوم وَحين يرْكَع وَحين يسْجد وَحين ينْهض» .
قَالَ مَيْمُون: فَانْطَلَقت إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ: «إِن (أَحْبَبْت) أَن تنظر إِلَى صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاقتدوا بِصَلَاة ابْن الزبير» . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) .(3/472)
وَعَن (عُمَيْر) اللَّيْثِيّ قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرفع يَدَيْهِ (مَعَ) كل (تَكْبِيرَة) فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه.
وَعَن الْبَراء قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا افْتتح (الصَّلَاة) رفع يَدَيْهِ، وَإِذا أَرَادَ أَن يرْكَع وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع» .
رَوَاهُ الْحَاكِم، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ.
وَعَن النَّضر بن كثير قَالَ: «صَلَّى إِلَى جَنْبي ابْن طَاوس، فَكَانَ إِذا سجد السَّجْدَة الأولَى فَرفع رَأسه مِنْهَا رفع يَدَيْهِ تِلْقَاء وَجهه، فَقَالَ ابْن طَاوس: رَأَيْت أبي يصنعه، وَقَالَ أبي: رَأَيْت ابْن عَبَّاس يصنعه، وَلَا أعلم إِلَّا أَنه قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يصنعه» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ.
وَعَن حميد بن هِلَال قَالَ: حَدثنِي من سمع الْأَعرَابِي يَقُول: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي يرفع» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن.
وَعَن قَتَادَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يرفع يَدَيْهِ إِذا [ركع] وَإِذا رفع» .(3/473)
وَعَن الْحسن: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يكبر رفع يَدَيْهِ لَا يُجَاوز أُذُنَيْهِ، وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع رفع يَدَيْهِ لَا يُجَاوز أُذُنَيْهِ» .
وَعَن سُلَيْمَان بن يسَار «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة» .
هَذِه الثَّلَاثَة مَرَاسِيل: الأول فِي «جَامع عبد الرَّزَّاق» وَالثَّانِي فِي «كتاب الصَّلَاة» لأبي نعيم، وَالثَّالِث فِي «الْمُوَطَّأ» .
هَذَا مَا حَضَرنَا من الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الرّفْع، قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي فِي كتاب «اخْتِلَاف الحَدِيث» : رَوَى الرّفْع جمع من الصَّحَابَة، لَعَلَّه لم يرو قطّ حَدِيث بِعَدَد أَكثر مِنْهُم: أحد عشر من الصَّحَابَة، وَأَبُو حميد رَوَاهُ و (ثَلَاثَة) عشر رجلا. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لم يخْتَلف أهل الْعلم أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يرفع يَدَيْهِ إِذا افْتتح الصَّلَاة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» : رَوَى رفع الْيَدَيْنِ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاثَة عشر (رجلا) من الصَّحَابَة. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي فِي بعض «أَمَالِيهِ» : رَوَى رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة (سَبْعَة) عشر رجلا من الصَّحَابَة عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِنْهُم عَلّي بن أبي طَالب، وَأَبُو الدَّرْدَاء، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، والعبادلة: ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس، وَابْن عَمْرو، وَابْن الزبير، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأنس. وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: قَالَ أَبُو عَلّي: رَوَى الرّفْع عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَيف وَثَلَاثُونَ من الصَّحَابَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: قد روينَا عَن سَبْعَة(3/474)
عشر نفسا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنهم كَانُوا يرفعون أَيْديهم عِنْد الرُّكُوع فَمنهمْ أَبُو قَتَادَة الْأنْصَارِيّ، وَأَبُو أسيد السَّاعِدِيّ البدري، وَمُحَمّد بن (مسلمة) البدري، وَسَهل بن سعد، وَعبد الله بن عمر، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَأنس، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَعبد الله بن الزبير، وَوَائِل بن حجر، وَمَالك بن الْحُوَيْرِث، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَأَبُو حميد السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد رَوَيْنَاهُ عَن هَؤُلَاءِ وَعَن الصّديق، وَعمر بن الْخطاب، وَعلي، وَجَابِر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَعقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ، وَعبد الله بن جَابر البياضي، وَقَالَ فِي «خلافياته» : رُوِيَ الرّفْع عِنْد الِافْتِتَاح وَالرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ مَرْفُوعا عَن أبي بكر، وَعمر، وَعلي، وَأنس، وَجَابِر بن عبد الله، وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَأبي هُرَيْرَة، قَالَ: وَقد روينَا رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ عَن الصّديق، وَعمر، وَعلي، وَابْن عمر، وَمَالك بن الْحُوَيْرِث، وَوَائِل بن حجر، وَأبي حميد السَّاعِدِيّ، فِي عشرَة من الصَّحَابَة مِنْهُم أَبُو قَتَادَة، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَمُحَمّد بن مسلمة، وَأَبُو أسيد، وَسَهل بن سعد، وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَأنس، وَجَابِر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بأسانيد صَحِيحَة مُحْتَج بهَا.
قَالَ: وَسمعت الْحَاكِم أَبَا عبد الله يَقُول: لَا يعلم سنة اتّفق عَلَى رِوَايَتهَا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة ثمَّ بَاقِي الْعشْرَة الَّذين شهد لَهُم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِالْجنَّةِ فَمن بعدهمْ من أكَابِر الصَّحَابَة عَلَى تفرقهم فِي الْبِلَاد الشاسعة (غير) هَذِه السّنة.(3/475)
قلت: (قد) شاركها فِي ذَلِك سنة الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ - كَمَا (أسلفت) لَك فِي بَابه - وَكَذَا حَدِيث: «من كذب عَلّي مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار» ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ كَمَا (قَالَ) أستاذنا أَبُو عبد الله: فقد رَوَى هَذِه السّنة عَن أبي بكر - ثمَّ عدد بَاقِي الْعشْرَة - ومعاذ بن جبل، وَمَالك بن الْحُوَيْرِث، وَزيد بن ثَابت، وَأبي بن كَعْب، وَعبد الله بن مَسْعُود، وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَالْحسن بن عَلّي بن أبي طَالب، والبراء بن عَازِب، وَزِيَاد بن الْحَارِث الصدائي، وَسَهل بن سعد السَّاعِدِيّ، وَأبي سعيد، وَأبي قَتَادَة، وسلمان الْفَارِسِي، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَعقبَة بن عَامر (وَبُرَيْدَة) بن الْحصيب الْأَسْلَمِيّ (وَأبي) هُرَيْرَة، وعمار بن يَاسر (وَأبي) أُمَامَة صدي بن عجلَان (الْبَاهِلِيّ) وَعُمَيْر بن قَتَادَة اللَّيْثِيّ وَأبي مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، وَعَائِشَة بنت الصّديق، وأعرابي آخر صَحَابِيّ، كلهم عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَذكره ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» وَابْن الْجَوْزِيّ من رِوَايَة عمرَان بن حُصَيْن، وَفِي «تَارِيخ ابْن عَسَاكِر» عَن سَلمَة الْأَعْرَج قَالَ: «أدْركْت ألفا من الصَّحَابَة كلهم يرفع يَدَيْهِ عِنْد كل خفض(3/476)
وَرفع» وَنقل البُخَارِيّ عَن الْحسن وَحميد بن هِلَال «كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرفعون أَيْديهم» وَلم يسْتَثْن أحدا (مِنْهُم) .
قَالَ البُخَارِيّ: وَلم يثبت عَن أحد من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه لم يرفع يَدَيْهِ. قَالَ: وَيروَى عَن عدَّة من أهل مَكَّة وَأهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق وَالشَّام وَالْبَصْرَة (وَأهل) الْيمن أَنهم كَانُوا يرفعون أَيْديهم عِنْد الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ مِنْهُم سعيد بن جُبَير، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَمُجاهد، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَسَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَعمر بن عبد الْعَزِيز، والنعمان بن أبي عَيَّاش، وَالْحسن (و) ابْن سِيرِين، وَطَاوُس، وَمَكْحُول، وَعبد الله بن دِينَار (وَنَافِع) (وَعبيد الله بن عمر) ، وَالْحسن بن مُسلم، وَقيس بن سعد، وَغَيرهم عدَّة كَثِيرَة. وَكَذَلِكَ يرْوَى عَن أم الدَّرْدَاء «أَنَّهَا كَانَت ترفع يَديهَا» وَكَانَ ابْن الْمُبَارك يرفع يَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ عَامَّة أَصْحَابه ومحدثي أهل بُخَارَى مِنْهُم عِيسَى بن مُوسَى، وَكَعب بن سعيد، وَمُحَمّد بن سَلام، وَعبد الله بن مُحَمَّد (المسندي) وعدة مِمَّن لَا تحصى لَا اخْتِلَاف بَين من (وَصفنَا) من أهل الْعلم، وَكَانَ عبد الله بن الزبير - يَعْنِي: الْحميدِي -(3/477)
شَيْخه وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَيَحْيَى بن معِين وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم (يثبتون) عَامَّة هَذِه الْأَخْبَار عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ويرونها حقًّا، وَهَؤُلَاء أهل الْعلم من أهل زمانهم.
هَذَا آخر مَا نَقله البُخَارِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: رَوَى أَحَادِيث رفع الْيَدَيْنِ فِي المواطن الثَّلَاثَة نَحْو من ثَلَاثِينَ صحابيًّا (فسردهم) وَقد أسلفناهم بِزِيَادَة. ثمَّ قَالَ: وَبِه يَقُول (أَكثر) أهل الْعلم من الصَّحَابَة، مِنْهُم أَبُو بكر، وَعمر، وَابْنه، وَابْن عَبَّاس، وَأَبُو سعيد، وَجَابِر، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأنس، وَابْن الزبير، وَغَيرهم. وَإِلَيْهِ ذهب من التَّابِعين الْحسن، وَابْن سِيرِين، وَعَطَاء، وَطَاوُس، وَمُجاهد، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَسَالم بن عبد الله (و) ابْن جُبَير، وَنَافِع، وَقَتَادَة، وَمَكْحُول، (وَغَيرهم) قَالَ: وَهُوَ قَول جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَلَيْسَ (للمخالفين) فِيهَا حَدِيث صَحِيح، و (بِهِ) قَالَ الْأَوْزَاعِيّ، وَابْن الْمُبَارك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، وَإِسْحَاق.
وَرَوَى الإِمَام أَحْمد بِإِسْنَادِهِ عَن نَافِع قَالَ: «كَانَ ابْن عمر إِذا رَأَى مُصَليا لَا يرفع يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة حصبه» .
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب «رفع الْيَدَيْنِ» بِإِسْنَاد صَحِيح عَن نَافِع، عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ إِذا رَأَى رجلا لَا يرفع يَدَيْهِ إِذا ركع وَإِذا رفع رَمَاه بالحصى» .(3/478)
قَالَ عبد الله بن أَحْمد: وَسمعت أبي يَقُول: يرْوَى عَن عقبَة بن عَامر «أَنه قَالَ فِي: من رفع يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة لَهُ بِكُل إِشَارَة عشر حَسَنَات» .
وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: «من تَمام الصَّلَاة رفع الْأَيْدِي فِيهَا» .
وَرَوَى ابْن عبد الْبر (بِسَنَدِهِ) إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ: «إِن كُنَّا لنؤدب عَلَيْهَا بِالْمَدِينَةِ - يَعْنِي: إِذا لم يرفعوا أَيْديهم فِي الصَّلَاة» .
وَرَوَى الْأَثْرَم بِسَنَدِهِ عَن الْحسن وَمُحَمّد أَنَّهُمَا كَانَا يرفعان أَيْدِيهِمَا إِذا كبرا وَإِذا رفعا، قَالَ مُحَمَّد: هُوَ من تَمام الصَّلَاة.
وَرَوَى البُخَارِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ عَن الْحسن قَالَ: كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَأَنَّمَا أَيْديهم المراوح يرفعونها إِذا ركعوا وَإِذا رفعوا رُءُوسهم.
(و) رَوَى الْبَيْهَقِيّ عَن سعيد بن جُبَير «أَنه سُئِلَ عَن رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة فَقَالَ: هُوَ شَيْء يزين بِهِ الرجل صلَاته، كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرفعون أَيْديهم فِي الِافْتِتَاح وَعند الرُّكُوع وَإِذا رفعوا رُءُوسهم» .
وَرَوَى البُخَارِيّ عَنهُ نَحوه.
وَرَوَى الْأَثْرَم، عَن النُّعْمَان بن أبي عَيَّاش قَالَ: «كَانَ يُقَال: إِن لكل شَيْء زِينَة، وزينة الصَّلَاة رفع الْأَيْدِي عِنْد استفتاح الصَّلَاة، وَحين يُرِيد أَن يرْكَع، وَحين (يُرِيد أَن) يرفع يَدَيْهِ» .(3/479)
وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: (أَخذ أهل مَكَّة رفع الْيَدَيْنِ) فِي الِافْتِتَاح وَالرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ عَن ابْن جريج وَأَخذه عَن عَطاء، وَأَخذه عَطاء عَن ابْن الزبير، وَأَخذه ابْن الزبير عَن أبي بكر، وَأَخذه أَبُو بكر عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
فصل فِيمَا عَارض ذَلِك من الْأَحَادِيث والْآثَار وَبَيَان ضعفها
(ذهب قوم إِلَى أَنه لَا يرفع إِلَّا عِنْد الِافْتِتَاح وَيروَى عَن الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَبِه قَالَ ابْن أبي لَيْلَى وَالثَّوْري وَأَصْحَاب الرَّأْي، وَعَن مَالك كالمذهب) أما الْأَحَادِيث (فعشرة:)
الأول: عَن جَابر بن سَمُرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «خرج علينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: مَا لي أَرَاكُم رافعي أَيْدِيكُم كَأَنَّهَا أَذْنَاب خيل شمس؟ ! اسكنوا فِي الصَّلَاة» .
رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ.
ثَانِيهَا: عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا افْتتح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ إِلَى قريب من أُذُنَيْهِ ثمَّ لَا يعود» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث شريك، عَن يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء بِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث وَكِيع، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن(3/480)
أَخِيه عِيسَى، عَن الحكم، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رفع يَدَيْهِ حِين افْتتح الصَّلَاة ثمَّ لم (يرفعهما) حَتَّى انْصَرف» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا (عَن يزِيد) بن أبي زِيَاد، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء «أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين افْتتح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَى بهما أُذُنَيْهِ ثمَّ لم يعد إِلَى شَيْء من ذَلِك حَتَّى فرغ من صلَاته» .
ثَالِثهَا: عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لأصلين بكم صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَصَلى، فَلم يرفع يَدَيْهِ إِلَّا مرّة» .
رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَاصِم بن كُلَيْب، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود، عَن عَلْقَمَة، عَن عبد الله بن مَسْعُود (بِهِ) قَالَ: التِّرْمِذِيّ: (حَدِيث) حسن، وَرَوَى ابْن عدي والخطيب وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن جَابر، عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، عَن إِبْرَاهِيم (عَن) عَلْقَمَة، عَن(3/481)
عبد الله قَالَ: «صليت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأبي بكر وَعمر، فَلم يرفعوا أَيْديهم إِلَّا عِنْد استفتاح الصَّلَاة» .
رَابِعهَا: عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يرفع يَدَيْهِ إِذا افْتتح الصَّلَاة ثمَّ لَا يعود» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من حَدِيث مَالك، عَن الزُّهْرِيّ، عَن (سَالم) عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِهِ.
خَامِسهَا: عَن أنس رَفعه: «من رفع يَدَيْهِ فِي الرُّكُوع فَلَا صَلَاة لَهُ»
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مدخله» .
وَرَوَى الرَّافِعِيّ فِي أثْنَاء الْبَاب من حَدِيث أنس: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَا يرفع الْيَد إِلَّا فِي (ثَلَاثَة) مَوَاطِن: الاسْتِسْقَاء، والاستنصار، وَعَشِيَّة عَرَفَة» .
سادسها: عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: «من رفع يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة فَلَا صَلَاة لَهُ» .
ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» من حَدِيث الْمَأْمُون بن أَحْمد السّلمِيّ، نَا الْمسيب بن وَاضح، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن يُونُس، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِهِ.
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من رفع يَدَيْهِ فِي التَّكْبِير فَلَا صَلَاة لَهُ» ذكرهَا فِي «مَوْضُوعَاته» وَذكر الأولَى الجوزقاني فِي «مَوْضُوعَاته» أَيْضا.(3/482)
سابعها: عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر قَالَا: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ترفع الْأَيْدِي فِي سبع مَوَاطِن: (عِنْد) افْتِتَاح الصَّلَاة، واستقبال الْبَيْت، والصفا والمروة، والموقفين، والجمرتين» .
رَوَاهُ الْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ، من حَدِيث ابْن أبي لَيْلَى، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس. وَعَن نَافِع، عَن ابْن عمر (بِهِ) .
ورويا أَيْضا عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. وَعَن ابْن (أبي) لَيْلَى، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَا: «ترفع الْأَيْدِي فِي سبع مَوَاطِن: فِي افْتِتَاح الصَّلَاة، واستقبال الْقبْلَة، وَعَلَى الصَّفَا والمروة، وبعرفات، وبجمع، وَفِي المقامين، وَعند (الْجَمْرَتَيْن) » .
ثامنها: عَن مُحَمَّد بن أبي يَحْيَى قَالَ: «صليت إِلَى جنب عباد بن عبد الله بن الزبير قَالَ: فَجعلت أرفع يَدي فِي كل رفع وَوضع، قَالَ: (يَا) ابْن أخي: رَأَيْتُك ترفع فِي كل (رفع و) خفض (وَإِن) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا افْتتح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ فِي أول الصَّلَاة ثمَّ لم يرفعها فِي شَيْء حَتَّى فرغ» .(3/483)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» عَن الْحَاكِم بِسَنَدِهِ إِلَى حَفْص بن غياث، عَن مُحَمَّد بِهِ.
تاسعها: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرفع يَدَيْهِ كلما ركع وَكلما رفع، ثمَّ صَار إِلَى افْتِتَاح الصَّلَاة وَترك مَا سُوَى ذَلِك» .
عَاشرهَا: عَن ابْن الزبير «أَنه رَأَى رجلا يرفع يَدَيْهِ (فِي) الرُّكُوع فَقَالَ: مَه؛ فَإِن هَذَا شَيْء فعله رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ تَركه!» .
وَأما الْآثَار: فَعَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَة الأولَى من الصَّلَاة ثمَّ لَا يرفع فِي شَيْء مِنْهَا» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وَعَن إِبْرَاهِيم، عَن الْأسود قَالَ: «رَأَيْت عمر بن الْخطاب يرفع يَدَيْهِ فِي أول (تَكْبِيرَة) ثمَّ لَا يعود، وَقَالَ: رَأَيْت إِبْرَاهِيم وَالشعْبِيّ يفْعَلَانِ ذَلِك» . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ.
وَعَن مُجَاهِد قَالَ: «مَا رَأَيْت ابْن عمر رَافعا يَدَيْهِ فِي شَيْء من الصَّلَاة إِلَّا فِي التَّكْبِيرَة الأولَى» . رَوَاهُ البُخَارِيّ.
عَن أبي بكربن عَيَّاش، عَن حُصَيْن، عَن مُجَاهِد، وَعَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ «أَن أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ وَابْن عمر كَانَا يرفعان أَيْدِيهِمَا أول مَا يكبران، ثمَّ لَا يعودان» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ.(3/484)
(و) الْجَواب عَن هَذِه الْأَحَادِيث والْآثَار بِفضل الله.
(أما) الحَدِيث الأول، وَهُوَ حَدِيث (جَابر بن) سَمُرَة فجعْله مُعَارضا لما قدمْنَاهُ من أقبح الجهالات لسنة سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ لِأَنَّهُ لم يرد فِي رفع الْأَيْدِي فِي الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يرفعون أَيْديهم فِي حَالَة السَّلَام من الصَّلَاة، ويشيرون بهَا إِلَى (الْجَانِبَيْنِ) يُرِيدُونَ بذلك السَّلَام عَلَى من (عَلَى) الْجَانِبَيْنِ، وَهَذَا لَا (اخْتِلَاف) فِيهِ بَين أهل الحَدِيث وَمن لَهُ أدنَى اخْتِلَاط بأَهْله، وبرهان ذَلِك أَن مُسلم بن الْحجَّاج رَوَاهُ فِي «صَحِيحه» من طَرِيقين أَحدهمَا كَمَا سلف، وَثَانِيهمَا: عَن جَابر بن سَمُرَة قَالَ: «كُنَّا إِذا صلينَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قُلْنَا: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (علام) تومئون بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَاب خيل شمس؟ ! إِنَّمَا يَكْفِي أحدكُم أَن يضع (يَده عَلَى فَخذه) ثمَّ يسلم عَلَى أَخِيه من عَلَى يَمِينه وشماله» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «صليت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَكُنَّا إِذا سلمنَا قُلْنَا بِأَيْدِينَا السَّلَام عَلَيْكُم (السَّلَام عَلَيْكُم) فَنظر إِلَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ:(3/485)
مَا شَأْنكُمْ تشيرون بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَاب خيل شمس؟ ! إِذا سلم أحدكُم فليلتفت إِلَى صَاحبه وَلَا يُومِئ بِيَدِهِ» .
وَلما أخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن الْمسيب بن رَافع، عَن تَمِيم بن طرفَة، عَن جَابر بِهِ قَالَ: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن هَذَا الْخَبَر لم يسمعهُ الْأَعْمَش من الْمسيب بن رَافع ... فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، وَفِيه: سَمِعت الْمسيب بن رَافع. ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر الْمُقْتَضِي (للفظة) المختصرة الَّتِي تقدم ذكرنَا لَهَا بِأَن الْقَوْم إِنَّمَا أمروا بِالسُّكُونِ فِي الصَّلَاة عِنْد الْإِشَارَة بِالتَّسْلِيمِ دون رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع، ثمَّ أوردهُ كَذَلِك من طَرِيقين بِمَعْنى روايتي مُسلم، قَالَ البُخَارِيّ: وَأما احتجاج بعض من لَا يعلم بِحَدِيث جَابر بن سَمُرَة فَإِنَّمَا كَانَ فِي [التَّشَهُّد] عِنْد السَّلَام لَا فِي الْقيام. قَالَ: وَلَا يحْتَج بِمثل هَذَا من لَهُ حَظّ من الْعلم، هَذَا مَعْرُوف مَشْهُور لَا اخْتِلَاف فِيهِ، وَلَو كَانَ كَمَا توهم هَذَا المحتج لَكَانَ رفع الْأَيْدِي فِي الِافْتِتَاح وَفِي تَكْبِيرَات الْعِيد أَيْضا منهيًّا عَنهُ؛ لِأَنَّهُ لم يستبن رفعا وَقد بَينه حَدِيث حدّثنَاهُ أَبُو نعيم ... . فَذكر بِإِسْنَادِهِ الرِّوَايَة السالفة عَن مُسلم، ثمَّ قَالَ: فليحذر امْرُؤ أَن يتَأَوَّل أَو يَقُول عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا لم يقل، قَالَ تَعَالَى: (فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره ... ) الْآيَة.(3/486)
وَأما الحَدِيث الثَّانِي: وَهُوَ حَدِيث الْبَراء بن عَازِب؛ فَهُوَ حَدِيث ضَعِيف بِاتِّفَاق الْحفاظ، كسفيان بن عُيَيْنَة وَالشَّافِعِيّ وَعبد الله بن الزبير الْحميدِي شيخ البُخَارِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَيَحْيَى بن معِين والدارمي وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهم من الْمُتَقَدِّمين، وَهَؤُلَاء أَرْكَان الحَدِيث وأئمة الْإِسْلَام فِيهِ، وَأما (الْحفاظ) الْمُتَأَخّرُونَ الَّذين ضَعَّفُوهُ فَأكْثر من أَن تحصر كَابْن عبد الْبر وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهم، وَسبب ضعفه أَنه من رِوَايَة يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء - كَمَا سلف - وَاتفقَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة المذكورون وَغَيرهم عَلَى أَن يزِيد بن أبي زِيَاد غلط فِيهِ، وَأَنه رَوَاهُ أَولا «إِذا افْتتح الصَّلَاة رفع (يَدَيْهِ) » قَالَ سُفْيَان: فَقدمت الْكُوفَة فَسَمعته يحدث (بِهِ) وَيزِيد فِيهِ «ثمَّ لَا يعود» فَظَنَنْت أَنهم لقنوه. قَالَ سُفْيَان: وَقَالَ لي أَصْحَابنَا إِن حفظه قد تغير أَو قد سَاءَ. قَالَ الشَّافِعِي: ذهب سُفْيَان إِلَى تغليط يزِيد بن أبي زِيَاد فِي هَذَا الحَدِيث وَيَقُول: كَأَنَّهُ لقن هَذَا الْحَرْف فتلقنه، وَلم يكن سُفْيَان (يرَى) يزِيد بِالْحِفْظِ لذَلِك. وَذكر الْخَطِيب هَذِه الزِّيَادَة «ثمَّ لَا يعود» فِي «المدرج» وَقَالَ: إِنَّهَا لَا تثبت عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لقنها يزِيد فِي آخر عمره (فتلقنها) وَقد حدث بِهِ عَن يزِيد بإسقاطها: الثَّوْريّ وَشعْبَة و [هشيم](3/487)
وأسباط بن مُحَمَّد وخَالِد الطَّحَّان وَغَيرهم من الْحفاظ، وَذكر أَحَادِيثهم بذلك، وَقَالَ الْحميدِي: هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا رَوَاهُ يزِيد (وَيزِيد) يزِيد.
وَقَالَ أَبُو سعيد الدَّارمِيّ: سَأَلت أَحْمد بن حَنْبَل عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لَا يَصح، وَسمعت يَحْيَى بن معِين يضعف يزِيد بن أبي زِيَاد. وَقَالَ الْحَاكِم: قَالَ يَحْيَى بن أَحْمد بن يَحْيَى: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: هَذَا حَدِيث واهي، قد كَانَ يزِيد بن أبي زِيَاد يحدث بِهِ بُرْهَة من دهره لَا يذكر فِيهِ «ثمَّ لَا يعود» فَلَمَّا لقن أَخذه فَكَانَ يذكرهُ فِيهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَسمعت الْحَاكِم أَبَا عبد الله يَقُول: يزِيد بن أبي زِيَاد كَانَ يذكر بِالْحِفْظِ فِي شبابه، فَلَمَّا كبر سَاءَ حفظه، فَكَانَ يُخطئ فِي كثير من رواياته وَحَدِيثه، ويقلب الْأَسَانِيد وَيزِيد فِي الْمُتُون وَلَا يُمَيّز. قَالَ (الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الدَّارمِيّ) : وَمِمَّا يُحَقّق قَول سُفْيَان أَنهم لقنوه هَذِه اللَّفْظَة أَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَزُهَيْر بن مُعَاوِيَة وهشيمًا وَغَيرهم من أهل الْعلم لم يجيئوا بهَا؛ إِنَّمَا جَاءَ بهَا من سمع مِنْهُ بِأخرَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَمِمَّا يُؤَكد مَا ذهب إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ مَا أخبرنَا (أَبُو) عبد الله. وَذكر بِإِسْنَادِهِ إِلَى سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: ثَنَا يزِيد بن أبي زِيَاد (بِمَكَّة) عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا افْتتح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ، وَإِذا أَرَادَ أَن يرْكَع، وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع. قَالَ سُفْيَان: فَلَمَّا قدمت الْكُوفَة سمعته يَقُول:(3/488)
يرفع يَدَيْهِ إِذا (افْتتح) الصَّلَاة [ثمَّ] لَا يعود» فَظَنَنْت أَنهم لقنوه. قَالَ الْحَاكِم: لَا أعلم سَاق هَذَا الْمَتْن بِهَذِهِ الزِّيَادَة عَن سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة غير إِبْرَاهِيم بن يسَار الرَّمَادِي، وَهُوَ ثِقَة مَأْمُون من الطَّبَقَة الأولَى من أَصْحَاب ابْن عُيَيْنَة، جَالس ابْن عُيَيْنَة نيفًا وَأَرْبَعين سنة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَى هَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن أَخِيه عِيسَى، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء قَالَ فِيهِ: «ثمَّ لَا يعود» وَقيل: عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن الحكم، عَن ابْن (أبي) لَيْلَى، وَقيل [عَنهُ] : عَن يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن ابْن أبي لَيْلَى، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى لَا يحْتَج بحَديثه وَهُوَ أَسْوَأ حَالا عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ من يزِيد بن أبي زِيَاد. قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث يتوهمه من لَا يرجع إِلَى معرفَة الحَدِيث أَنه مُتَابعَة لحَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد. وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى عَلَى تقدمه فِي الْفِقْه وَالْقَضَاء أَسْوَأ حَالا عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ من يزِيد. ثمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ أَنه ذكر فصلا فِي تَضْعِيف حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد هَذَا، ثمَّ قَالَ: وَلم يرو هَذَا الحَدِيث عَن ابْن أبي لَيْلَى أحد أَقْوَى من يزِيد. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي «تمهيده» : هَذَا حَدِيث (انْفَرد) بِهِ يزِيد بن أبي زِيَاد، وَرَوَاهُ عَنهُ الْحفاظ الثِّقَات(3/489)
مِنْهُم: شُعْبَة، وَالثَّوْري، وَابْن عُيَيْنَة، وهشيم، وخَالِد بن عبد الله الوَاسِطِيّ، لم يذكر وَاحِد مِنْهُم فِيهِ قَوْله: «ثمَّ لَا يعود» وَحَكَى ابْن عُيَيْنَة عَنهُ أَنه حَدثهمْ بِهِ قَدِيما، وَلَيْسَ فِيهِ: «ثمَّ لَا يعود» ثمَّ حَدثهمْ بِهِ بعد فَذكر فِيهِ: «ثمَّ لَا يعود» . [قَالَ فنظرته فَإِذا مُلْحق بَين سطرين] .
قَالَ: وَقَالَ الْبَزَّار (الْحَافِظ) : لَا يَصح حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد فِي رفع الْيَدَيْنِ قَوْله: «ثمَّ لَا يعود» (وَهُوَ) قَول أبي دَاوُد وَجَمَاعَة (من) أهل الحَدِيث.
قَالَ: وَقَالَ الدَّارمِيّ: سَمِعت ابْن وضاح يَقُول: الْأَحَادِيث الَّتِي تروى فِي رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة «ثمَّ لَا يعود» ضَعِيفَة كلهَا.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» : قَالَ ابْن حبَان: كَانَ يزِيد يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا افْتتح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ» ثمَّ قدم الْكُوفَة فِي آخر عمره فروَى هَذَا الحَدِيث، فلقنوه «ثمَّ لم يعد» فتلقن.
قَالَ: وَعَلَى هَذَا أهل الْعرَاق وَمن لم يكن علم الحَدِيث من صناعته.
وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» كَلَام الْأَئِمَّة فِي تَضْعِيف يزِيد هَذَا، وَأَن ابْن الْمُبَارك قَالَ: (ارْمِ بِهِ. وَأَن) الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: إِنَّمَا لقن(3/490)
يزِيد فِي آخر عمره «ثمَّ لم يعد» فتلقنه وَكَانَ قد اخْتَلَط. وَكَذَا قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: لقن يزِيد هَذَا لما كبر.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَيُمكن أَن يكون هَذَا من الرَّاوِي عَنهُ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنهُ إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا وَمُحَمّد بن أبي لَيْلَى، قَالَ أَحْمد: إِسْمَاعِيل (ضَعِيف) وَمُحَمّد بن أبي لَيْلَى ضَعِيف ومضطرب الحَدِيث.
قَالَ: ويؤكد أَن ذَلِك من الروَاة مَا أَتَى بِهِ ابْن عبد الْخَالِق، ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَلّي بن عَاصِم، ثَنَا مُحَمَّد بن أبي لَيْلَى، عَن يزِيد (عَن) عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين قَامَ إِلَى الصَّلَاة فَكبر رفع يَدَيْهِ حَتَّى سَاوَى بهما أُذُنَيْهِ، ثمَّ لم يعد» قَالَ عَلّي: فَلَمَّا قدمت الْكُوفَة قيل لي: إِن يزِيد حَيّ. فَأَتَيْته فَحَدثني بِهَذَا الحَدِيث قَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين قَامَ الصَّلَاة (وَكبر) وَرفع يَدَيْهِ حَتَّى (سَاوَى) بهما أُذُنَيْهِ، فَقلت: إِنَّه أَخْبرنِي ابْن أبي لَيْلَى أَنَّك قلت: «ثمَّ لم يعد» قَالَ: لَا أحفظ هَذَا (فعاودته فَقَالَ: لَا أحفظ هَذَا) قَالَ البُخَارِيّ: وَكَذَلِكَ رَوَى الْحفاظ الَّذين سمعُوا من يزِيد (قَدِيما) مِنْهُم الثَّوْريّ وَشعْبَة وَزُهَيْر لَيْسَ فِيهِ «ثمَّ لم يعد» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ هشيم وخَالِد وَابْن إِدْرِيس عَن يزِيد، وَلم(3/491)
يذكرُوا فِيهِ «ثمَّ لَا يعود» .
وَقد رَوَى مُحَمَّد بن أبي لَيْلَى، عَن أَخِيه عِيسَى، عَن الحكم كَمَا قدمْنَاهُ عَن أبي دَاوُد (قَالَ أَبُو دَاوُد) فِي «سنَنه» : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح.
وَأما (الْجَواب عَن) الحَدِيث الثَّالِث وَهُوَ حَدِيث ابْن مَسْعُود فَهُوَ حَدِيث ضَعِيف أَيْضا، قَالَ الْبَيْهَقِيّ (فِي «سنَنه» ) : قَالَ ابْن الْمُبَارك: لم يثبت عِنْدِي حَدِيث ابْن مَسْعُود هَذَا: وَقد ثَبت عِنْدِي حَدِيث رفع الْيَدَيْنِ (ذكره) عبيد الله وَمَالك وَمعمر وَابْن أبي حَفْصَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: وَأرَاهُ وَاسِعًا، ثمَّ قَالَ عبد الله: كَأَنِّي أنظر إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يرفع يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة؛ لِكَثْرَة الْأَحَادِيث وجودة الْأَسَانِيد.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» ويعارضه بِأَنَّهُ قد رَوَى حَدِيثا مسلسلًا عَن عَلْقَمَة، عَن عبد الله، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذكر فِيهِ الرّفْع عِنْد الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث خطأ وَإِن الثَّوْريّ وهم فِيهِ (وَضَعفه) أَيْضا الإمامان أَحْمد بن حَنْبَل وَيَحْيَى (بن آدم) عَلَى مَا نَقله عَنْهُمَا البُخَارِيّ فِي كتاب «رفع(3/492)
الْيَدَيْنِ» وتابعهما عَلَى تَضْعِيفه.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ هُوَ بِصَحِيح عَلَى هَذَا اللَّفْظ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا الحَدِيث لم يثبت عِنْدِي. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الْخَبَر مُخْتَصر من أَصله، وَعَاصِم بن كُلَيْب - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد الأول - لم يخرج حَدِيثه فِي الصَّحِيح، وَذَلِكَ أَنه كَانَ يختصر (الْأَخْبَار) يُؤَدِّيهَا عَلَى الْمَعْنى، وَهَذِه اللَّفْظَة «ثمَّ لم يعد» غير مَحْفُوظَة فِي الْخَبَر.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الخلافيات» : يُرِيد الْحَاكِم - وَالله أعلم - بذلك صَحِيح البُخَارِيّ؛ لِأَن مُسلما قد أخرج حَدِيثه. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّهُ قد نَص فِي «مُسْتَدْركه» أَن مُسلما احْتج بِهِ، ذكره فِي الصَّلَاة، وَقَالَ (النَّوَوِيّ) فِي (خلاصته) : اتَّفقُوا عَلَى تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث، وأنكروا عَلَى التِّرْمِذِيّ تحسينه.
قلت: وينكر أَيْضا عَلَى ابْن حزم تَصْحِيحه فِي «محلاه» وَأعله الحافظان ابْن الْجَوْزِيّ وَالْمُنْذِرِي بعلة أُخْرَى، وَهِي الِانْقِطَاع فَقَالَا: لم يسمع عبد الرَّحْمَن من عَلْقَمَة. لَكِن نقل الْخَطِيب فِي كِتَابه «الْمُتَّفق والمفترق» أَنه سمع مِنْهُ.(3/493)
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَيجوز أَن يكون عَلْقَمَة لم يضْبط، أَو ابْن مَسْعُود خَفِي عَلَيْهِ هَذَا من (أَمر) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَمَا خَفِي عَلَيْهِ غَيره مثل نسخ التطبيق. وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي كِتَابه «وصف الصَّلَاة بِالسنةِ» : هَذَا أحسن خبر رَوَى أهل الْكُوفَة فِي نفي رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة عِنْد الرُّكُوع وَعند الرّفْع مِنْهُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة أَضْعَف شَيْء يعول عَلَيْهِ؛ لِأَن لَهُ عللًا تبطله، وأسبابًا توهيه، ومعاني تدحضه ثمَّ ذكرهَا مُوضحَة. قلت: وَأما طَرِيق حَدِيث ابْن مَسْعُود الآخر فضعيف أَيْضا بل ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «الموضوعات» وَقَالَ إِنَّه حَدِيث لَا يَصح. وَمُحَمّد بن جَابر قَالَ يَحْيَى فِيهِ: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: لَا يحدث عَنهُ إِلَّا من هُوَ شَرّ مِنْهُ. وَقَالَ الفلاس لَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : قَالَ الْحَاكِم: هَذَا إِسْنَاد مقلوب لَا نعلم أحدا حدث بِهِ من أَصْحَاب حَمَّاد من الْمَشْهُورين بِالْأَخْذِ عَنهُ قَالَ وَلَو كَانَ مَحْفُوظًا لبادر بروايته أَبُو حنيفَة وسُفْيَان الثَّوْريّ عَن حَمَّاد إِذْ كَانَ يُوَافق مَذْهَبهمَا ذَلِك قَالَ فَأَما مُحَمَّد بن جَابر بن سيار السحيمي فَإِنَّهُ قد تكلم فِيهِ أَئِمَّة أهل الحَدِيث قَالَ وَأما إِسْحَاق بن أبي إِسْرَائِيل فَغير مُحْتَج بِرِوَايَاتِهِ. قَالَ: وَأما مَا رُوِيَ عَن حَمَّاد فِي هَذَا الْبَاب فحدثنا أَبُو الْحسن وَذكر بِإِسْنَادِهِ إِلَى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، عَن إِبْرَاهِيم «أَن ابْن مَسْعُود كَانَ إِذا دخل فِي الصَّلَاة كبر وَرفع يَدَيْهِ أول مرّة ثمَّ لَا يعود يرفع بعد ذَلِك» قَالَ الْحَاكِم: فَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ لم ير ابْن مَسْعُود، والْحَدِيث مُنْقَطع وَالْعجب من ابْن جَابر أَنه لم يرض بِأَن(3/494)
وصل هَذَا الحَدِيث الْمُنْقَطع حَتَّى زَاد أَيْضا فأسنده إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ لم يقنعه ذَلِك إِلَّا أَن وَصله بِذكر أبي بكر وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. قلت: وَكَذَا نَص غير وَاحِد أَيْضا من الْحفاظ عَلَى ضعفه، قَالَ ابْن عدي: لم يصله عَن حَمَّاد غير (مُحَمَّد بن جَابر. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تفرد بِهِ مُحَمَّد بن جَابر - وَكَانَ ضَعِيفا - عَن) حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم. وَغير حَمَّاد يرويهِ عَن إِبْرَاهِيم مُرْسلا عَن عبد الله من قَوْله غير مَرْفُوع وَهُوَ الصَّوَاب. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : كَذَلِك رَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة، عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، عَن إِبْرَاهِيم، عَن ابْن مَسْعُود مُرْسلا مَوْقُوفا، وَقد أخرج هَذَا الرِّوَايَة فِي «خلافياته» بِسَنَدِهِ كَمَا تقدم وَذكر الْحَاكِم عَن جمَاعَة من أهل الْكُوفَة أَن مُحَمَّد بن جَابر عمي، فَكَانَ يلْحق فِي كِتَابه مَا لَيْسَ من حَدِيثه. قَالَ: وَهَذَا من أحسن مَا يُقَال فِيهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يسرق الحَدِيث من كل من يذاكره فيرويه حَتَّى كثرت الْمَنَاكِير والموضوعات فِي رِوَايَته. قلت: وَأما إِدْخَال ابْن حبَان إِيَّاه فِي «الثِّقَات» فتفرد مِنْهُ مُخَالف لأقوال الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين، وَكَذَا إِدْخَال ابْن السكن الحَدِيث فِي «صحاحه» وَقَوله فِيهِ: يُقَال إِنَّه مَنْسُوخ.
وَأما الحَدِيث الرَّابِع وَهُوَ حَدِيث ابْن عمر قَالَ الْبَيْهَقِيّ - وَقَبله الْحَاكِم -: إِنَّه بَاطِل مَوْضُوع، لَا يجوز أَن يذكر إِلَّا عَلَى سَبِيل التَّعَجُّب والقدح فِيهِ، وَقد روينَا بِالْأَسَانِيدِ الباهرة عَن مَالك بِخِلَاف هَذَا.
وَأما الحَدِيث الْخَامِس، وَهُوَ حَدِيث أنس فَقَالَ الْحَاكِم فِي(3/495)
«مدخله» إِلَى معرفَة الإكليل فِي ذكر الْمَجْرُوحين: كتب تَرْجَمَة جمَاعَة وضعُوا الحَدِيث فِي الْوَقْت لحاجتهم إِلَيْهِ. قيل لمُحَمد بن عكاشة الْكرْمَانِي: إِن قوما يرفعون أَيْديهم فِي الرُّكُوع وَبعد رفع الرَّأْس مِنْهُ. فَقَالَ: نَا الْمسيب بن وَاضح، ثَنَا عبد الله بن الْمُبَارك، عَن يُونُس بن يزِيد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس رَفعه: «من رفع يَدَيْهِ فِي الرُّكُوع فَلَا صَلَاة لَهُ» قَالَ الْحَاكِم: وكل من رزقه الله فهما فِي نوع من الْعلم وَتَأمل هَذِه الْأَحَادِيث علم أَنَّهَا مَوْضُوعَة. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مُحَمَّد بن عكاشة هَذَا يضع الحَدِيث. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ أَيْضا فِي «مَوْضُوعَاته» (وَأما حَدِيث أنس السالف عَن رِوَايَة الرَّافِعِيّ، فَهُوَ حَدِيث غَرِيب لَا نَعْرِف من خرجه) من حَدِيث أنس، وَالْمَعْرُوف مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن سُلَيْمَان بن مُوسَى قَالَ: لم نَحْفَظ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه رفع يَده الرّفْع كُله إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن: الاستقساء، والاستنصار، وَعَشِيَّة عَرَفَة ثمَّ كَانَ بعد رفع دون رفع.
وَأما الحَدِيث السَّادِس، وَهُوَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة ضَعِيف أَيْضا؛ بل مَوْضُوع كَمَا سلف؛ فَإِن مَأْمُون بن أَحْمد السّلمِيّ الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده كَذَّاب، قَالَ ابْن حبَان: كَانَ دجالًا من الدجاجلة.
وَأما الحَدِيث السَّابِع، وَهُوَ حَدِيث ابْن عَبَّاس وَابْن عمر فَالْجَوَاب عَنْهُمَا من أوجه ذكرهَا الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» عَن شَيْخه أبي عبد الله الْحَاكِم:(3/496)
أَحدهَا: أَن ابْن أبي لَيْلَى تفرد بِهِ، وَقد اتّفق أهل الحَدِيث عَلَى ترك الِاحْتِجَاج بِرِوَايَاتِهِ.
ثَانِيهَا: أَن وكيعًا رَوَاهُ مَوْقُوفا عَلَيْهِمَا. قَالَ الْحَاكِم: ووكيع أثبت من كل من رَوَى هَذَا الحَدِيث عَن ابْن أبي لَيْلَى. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : حَدِيث ابْن عَبَّاس لَا يعرف مُسْندًا؛ إِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف عَلَيْهِ.
ثَالِثهَا: أَن شُعْبَة بن الْحجَّاج قَالَ: لم يسمع الْحَاكِم من مقسم إِلَّا أَرْبَعَة أَحَادِيث، وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث مِنْهَا فَيكون مُنْقَطِعًا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ ابْن جريج فَقَالَ: حدثت عَن مقسم. وَبِذَلِك لَا تثبت الْحجَّة.
رَابِعهَا: أَن جمَاعَة من التَّابِعين رَوَوْهُ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة المأثورة عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر «أَنَّهُمَا كَانَا يرفعان أَيْدِيهِمَا عِنْد الرُّكُوع وَبعد الرّفْع مِنْهُ» كَمَا قدمنَا ذكره وأسنداه إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
خَامِسهَا: أَن فِي جَمِيع هَذِه (الرِّوَايَات) «ترفع الْأَيْدِي فِي سبع مَوَاطِن» وَلَيْسَ فِي رِوَايَة مِنْهَا «لَا ترفع) إِلَّا فِي سبع مَوَاطِن) .
قلت: قد رَوَاهُ كَذَلِك مَوْقُوفا (عَلَيْهِمَا) سعيد بن مَنْصُور فِي «سنَنه» لَكِن قَالَ الْحَاكِم: يَسْتَحِيل أَن يكون (لَا ترفع الْأَيْدِي إِلَّا فِي سبع مَوَاطِن) وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار المأثورة بِأَن الْأَيْدِي ترفع فِي مَوَاطِن كَثِيرَة غير المواطن السَّبْعَة؛ فَمِنْهَا: الاسْتِسْقَاء، وَدُعَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لدوس، وَرفع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الدُّعَاء فِي الصَّلَوَات وَأمره بِهِ، وَرفع الْيَدَيْنِ فِي الْقُنُوت فِي صَلَاة الصُّبْح وَالْوتر.
وَأما الحَدِيث الثَّامِن، وَهُوَ حَدِيث عباد بن عبد الله بن الزبير فَهُوَ(3/497)
مُرْسل؛ لِأَن عبادًا من التَّابِعين قَالَه الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» (قَالَ) : وَقد رُوِيَ عَن أَبِيه ضِدّه.
وَأما الحَدِيث التَّاسِع، وَهُوَ حَدِيث ابْن عَبَّاس فَهُوَ غَرِيب غير مَعْرُوف، وَكَذَا. الحَدِيث الْعَاشِر، حَدِيث ابْن الزبير لَا نعلم من رَوَاهُ. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ (فِي (تَحْقِيقه)) : لَا يعرفان أصلا. قَالَ: وَالْمَحْفُوظ عَنْهُمَا الرّفْع؛ فروَى أَبُو دَاوُد من حَدِيث مَيْمُون الْمَكِّيّ (أَنه رَأَى ابْن الزبير (صَلَّى) بهم يُشِير بكفيه حِين يقوم وَحين يرْكَع وَحين يسْجد (قَالَ:) فَذَهَبت إِلَى ابْن عَبَّاس فَأَخْبَرته بذلك فَقَالَ: إِن أَحْبَبْت أَن تنظر إِلَى صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاقتد بِصَلَاة عبد الله بن الزبير) قَالَ: وَرَوَى طَاوس عَن ابْن عَبَّاس (أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي المواطن الثَّلَاثَة) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (خلافياته) : وَلَهُم خبر آخر رَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة، عَن بشر بن حَرْب، عَن ابْن عمر قَالَ: (أَرَأَيْتُم رفعكم أَيْدِيكُم فِي الصَّلَاة هَكَذَا إِنَّهَا لبدعة، مَا زَاد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى هَذَا، وَرفع حَمَّاد يَدَيْهِ حَذْو (مَنْكِبَيْه) أَو نَحْو ذَلِك) قَالَ: وَهَذَا مُجمل بُيِّن فِي رِوَايَة أُخْرَى عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن بشر، عَن ابْن عمر: (وَالله إِن رفعكم أَيْدِيكُم فِي السَّمَاء لبدعة - يحلف عَلَيْهَا ثَلَاثًا - مَا زَاد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى هَذَا، وَرفع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه) .
قَالَ الدَّارمِيّ: فَهَذَا دَلِيل وَاضح عَلَى أَنه فِي الدُّعَاء لَا فِي التَّكْبِير(3/498)
عِنْد الرُّكُوع؛ فَإِن أَبيت إِلَّا أَن تحتج بِهِ كَانَ عَلَيْك وَلنَا (إِنَّه) قد أَبَاحَ رَفعهَا عَلَى كل حَال، وَلَو صَحَّ هَذَا عَن ابْن عمر - كَمَا رويت عِنْد الرُّكُوع - لم يكن لَك فِيهِ كثير رَاحَة؛ لِأَن بشر بن حَرْب لَيْسَ لَهُ من التَّقَدُّم فِي الرِّوَايَة مَا يدْفع بروايته رِوَايَة الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ (رِوَايَة) بضعَة عشر رجلا، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَفعل أمة من أَصْحَاب مُحَمَّد (وَالتَّابِعِينَ سَمِعت يَحْيَى بن معِين يضعف بشرا فِي الحَدِيث، وَرَوَى حُسَيْن بن وَاقد، عَن بشر بن حَرْب، عَن ابْن عمر قَالَ: (وَالله مَا رفع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَدَيْهِ فَوق صَدره فِي الدُّعَاء) .
قَالَ الْحَاكِم: فَهَذَا الْحُسَيْن بن وَاقد - عَلَى صدقه وإتقانه - قد أَتَى بِالْمَعْنَى الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِ.
قلت: وَقد انْتَهَى الْجَواب (عَن) الْأَحَادِيث الَّتِي ظن أَنَّهَا مُعَارضَة، وَأَنه يرد بهَا الْأَخْبَار الثَّابِتَة كالأساطين. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «مَوْضُوعَاته» (بعد أَن ذكر) حَدِيث ابْن مَسْعُود وَأبي هُرَيْرَة وَأنس وضعفها مَا (أبله) من وضع هَذِه الْأَحَادِيث ليقاوم بهَا الْأَحَادِيث الصِّحَاح.
وَأما الْآثَار فأثر عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ضَعِيف لَا يَصح عَنهُ، وَمِمَّنْ ضعفه البُخَارِيّ ثمَّ رُوِيَ تَضْعِيفه عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي(3/499)
«سنَنه» و «خلافياته» عَن عُثْمَان الدَّارمِيّ أَنه قَالَ: قد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن عَلّي من هَذَا الطَّرِيق الواهي، وَقد رَوَى عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج، عَن عبيد الله بن أبي رَافع، عَن عَلّي (أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يرفعهما) عِنْد الرُّكُوع (وَبعد) رفع رَأسه (مِنْهُ)) فَلَيْسَ الظَّن أَنه يخْتَار فعله عَلَى فعل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلَكِن (لَيْسَ) أَبُو بكر النَّهْشَلِي - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - مِمَّن يحْتَج بروايته (أَو تثبت) بِهِ سنة لم يَأْتِ بهَا غَيره.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الزَّعْفَرَانِي: قَالَ الشَّافِعِي: (وَلَا يثبت) عَن عَلّي وَابْن مَسْعُود - يَعْنِي: مَا رُوِيَ عَنْهُمَا - «أَنَّهُمَا كَانَا لَا يرفعان أَيْدِيهِمَا فِي غير تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح» . قَالَ الشَّافِعِي: وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَاصِم بن كُلَيْب، عَن أَبِيه، عَن عَلّي، فَأخذ بِهِ وَترك مَا رَوَى عَاصِم، عَن أَبِيه، عَن وَائِل بن حجر (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رفع يَدَيْهِ) كَمَا رَوَى ابْن عمر. قَالَ الشَّافِعِي: وَلَو كَانَ ثَابتا (عَنْهُمَا) لأشبه أَن يكون الرَّاوِي رآهما مرّة أغفلا ذَلِك. قَالَ: وَلَو قَالَ قَائِل: ذهب (عَنْهُمَا) حفظ ذَلِك عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَحفظ) ابْن عمر (لكَانَتْ لَهُ حجَّة) . وَأما (أثر) عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فَقَالَ(3/500)
الْحَاكِم: هِيَ رِوَايَة شَاذَّة لَا تقوم بهَا الْحجَّة وَلَا تعَارض بهَا الْأَخْبَار الصَّحِيحَة المأثورة (أَنه) أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي الرُّكُوع وَعند الرّفْع مِنْهُ. قَالَ: وَقد رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن الزبير بن عدي، عَن إِبْرَاهِيم، عَن الْأسود، عَنهُ وَلم يذكر فِيهِ: (ثمَّ لَا يعود) وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هَذَا الْأَثر عَن عمر لَا يَصح عَنهُ وَفِي ذَلِك رد عَلَى تَصْحِيح الطَّحَاوِيّ لَهُ. وَأما أثر ابْن عمر فَقَالَ البُخَارِيّ: قد خُولِفَ فِي ذَلِك عَن مُجَاهِد، قَالَ وَكِيع (عَن) الرّبيع بن صبيح قَالَ: رَأَيْت مُجَاهدًا يرفع يَدَيْهِ إِذا ركع وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع. وَقَالَ جرير، عَن لَيْث، عَن مُجَاهِد إِنَّه كَانَ يرفع يَدَيْهِ. وَهَذَا أحفظ عِنْد أهل الْعلم. وَقَالَ صَدَقَة: إِن الَّذِي رَوَى حَدِيث مُجَاهِد أَنه لم يرفع يَدَيْهِ إِلَّا فِي التَّكْبِيرَة الأولَى كَانَ صَاحبه قد تغير بِأخرَة. قَالَ البُخَارِيّ: وَالَّذِي رَوَاهُ الرّبيع وَاللَّيْث أولَى مَعَ رِوَايَة طَاوس وَسَالم وَنَافِع وَأبي الزبير ومحارب ابْن دثار وَغَيرهم قَالُوا: «رَأينَا ابْن عمر يرفع يَدَيْهِ إِذا كبر وَإِذا (رفع) » وَذكر الْحَاكِم أَبُو عبد الله أَن الْمَحْفُوظ فِي ذَلِك عَن أبي بكر بن عَيَّاش إِنَّمَا هُوَ عَن عبد الله بن مَسْعُود لَا عَن عبد الله بن عمر.
وَأما أثر أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَابْن عمر فَرَوَاهُ سوار بن مُصعب عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ هما ضعيفان، قَالَ الْحَاكِم: هَذَا خبر لَا يستجيز الِاحْتِجَاج بِهِ من يرجع إِلَى أدنَى معرفَة بِالرِّجَالِ؛ فَإِن عَطِيَّة بن سعيد الْعَوْفِيّ ذَاهِب بِمرَّة. وَأما سوار بن مُصعب فَإِنَّهُ أَسْوَأ حَالا مِنْهُ، قَالَ يَحْيَى بن معِين فِي حَقه إِنَّه زائغ غير مُحْتَج بحَديثه. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. فقد ظهر(3/501)
- بِحَمْد الله وَمِنْه - ضعف مَا عَارض الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة والنصوص الصَّرِيحَة.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَن الإِمَام أبي بكر بن إِسْحَاق الْفَقِيه أَنه قَالَ: قد صَحَّ رفع الْيَدَيْنِ - يَعْنِي فِي الْمَوَاضِع الْمُتَقَدّمَة - عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ عَن الْخُلَفَاء الرَّاشِدين ثمَّ عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَيْسَ فِي نِسْيَان ابْن مَسْعُود رفع الْيَدَيْنِ مَا يُوجب أَن هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة لم يرَوا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رفع يَدَيْهِ، قد نسي ابْن مَسْعُود من الْقُرْآن مَا لم يخْتَلف الْمُسلمُونَ فِيهِ بعد وَهُوَ المعوذتان، وَنسي مَا اتّفق الْعلمَاء كلهم عَلَى نسخه وَتَركه من التطبيق، وَنسي كَيْفيَّة قيام الِاثْنَيْنِ خلف الإِمَام، وَنسي مَا لم يخْتَلف الْعلمَاء فِيهِ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى الصُّبْح يَوْم النَّحْر فِي وَقتهَا» وَنسي كَيْفيَّة جمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِعَرَفَة وَنسي كَيفَ كَانَ يقْرَأ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى) وَإِذا جَازَ عَلَى عبد الله أَن ينسَى مثل هَذَا فِي الصَّلَاة خَاصَّة كَيفَ لَا يجوز مثله فِي رفع الْيَدَيْنِ؟ ! وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَن الرّبيع قَالَ: قلت للشَّافِعِيّ: مَا مَعْنَى رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع؟ فَقَالَ: مثل مَعْنَى رفعهما عِنْد الِافْتِتَاح تَعْظِيمًا لله - تَعَالَى - وَسنة متبعة يُرْجَى بهَا ثَوَاب الله - تَعَالَى - وَمثل رفع الْيَدَيْنِ عَلَى الصَّفَا والمروة وَغَيرهمَا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: اجْتمع الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري بمنى فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ للثوري: لم لَا ترفع يَديك فِي خفض الرُّكُوع وَرَفعه؟ فَقَالَ الثَّوْريّ: نَا يزِيد بن أبي زِيَاد، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: أروي لَك(3/502)
عَن الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وتعارضني بِيَزِيد بن أبي زِيَاد وَيزِيد رجل ضَعِيف وَحَدِيثه مُخَالف للسّنة؟ ! فاحمار وَجه الثَّوْريّ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: كَأَنَّك كرهت مَا قلت؟ ! قَالَ: نعم. فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: قُم بِنَا إِلَى الْمقَام نلتعن أَيّنَا عَلَى الْحق. فَتَبَسَّمَ الثَّوْريّ لما رَأَى الْأَوْزَاعِيّ قد احتد.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» عَن الرّبيع، عَن الشَّافِعِي فِي مناظرته مَعَ مخالفه فِي ذَلِك مناظرة طَوِيلَة مُشْتَمِلَة عَلَى مهمات تركتهَا خشيَة التَّطْوِيل فلتراجع مِنْهَا، وَقَالَ البُخَارِيّ: نسَاء بعض الصَّحَابَة أعلم إِن من هَؤُلَاءِ «كَانَت أم الدَّرْدَاء ترفع يَديهَا فِي الصَّلَاة حَذْو منكبيها حِين تفتتح الصَّلَاة وَحين تركع، وَإِذا قَالَت: سمع الله لمن حَمده رفعت يَديهَا وَقَالَت: رَبنَا لَك الْحَمد» قَالَ البُخَارِيّ: وَلم يثبت عِنْد أهل الْبَصْرَة مِمَّن أدركنا من أهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق مِنْهُم الْحميدِي وَعلي بن الْمَدِينِيّ، وَيَحْيَى بن معِين، وَأحمد بن حَنْبَل، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هَؤُلَاءِ أهل الْعلم من أهل زمانهم لم يثبت عَن وَاحِد مِنْهُم (عَلمته) فِي ترك رفع الْأَيْدِي عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا عَن أحد من الصَّحَابَة أَنه لم يرفع يَدَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ ابْن الْمُبَارك يرفع يَدَيْهِ، وَهُوَ أكبر أهل زَمَانه علما فِيمَا يعرف، فَلَو لم يكن عِنْد من لَا يعلم عَن السّلف علما فاقتدى بِابْن الْمُبَارك فِيمَا اتبع فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَكَانَ أولَى(3/503)
بِهِ من أَن يَقْتَدِي بقول من لَا يعلم، وَقَالَ معمر: قَالَ ابْن الْمُبَارك: صليت إِلَى جنب النُّعْمَان فَرفعت يَدي، فَقَالَ: مَا خشيت أَن تطير! قلت: إِن لم أطر فِي (الأولَى) لم أطر فِي الثَّانِيَة. وَلما رَوَى البُخَارِيّ الرّفْع فِي الْمَوَاضِع السالفة عَن أَعْلَام أَئِمَّة الْإِسْلَام من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم، قَالَ: هَؤُلَاءِ أهل مَكَّة وَالْمَدينَة واليمن وَالْعراق قد اتَّفقُوا عَلَى رفع الْأَيْدِي. ثمَّ رَوَاهُ عَن جماعات آخَرين ثمَّ قَالَ: فَمن زعم أَن رفع الْأَيْدِي بِدعَة (فقد) طعن فِي أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَالسَّلَف وَمن بعدهمْ وَأهل الْحجاز وَأهل الْمَدِينَة وَمَكَّة وعدة من أهل الْعرَاق وَأهل الشَّام واليمن وعلماء خُرَاسَان مِنْهُم ابْن الْمُبَارك حَتَّى شُيُوخنَا، وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة ترك الرّفْع، وَلَيْسَ أَسَانِيد أصح من أَسَانِيد الرّفْع. قَالَ: وَأما رِوَايَة الرّفْع فِي الِافْتِتَاح وَالرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ وَرِوَايَة الرّفْع فِي هَذِه الْمَوَاضِع وَفِي الْقيام من الرَّكْعَتَيْنِ فالجميع صَحِيح؛ لأَنهم لم يحكوا صَلَاة وَاحِدَة (فَاخْتَلَفُوا) فِيهَا بِعَينهَا مَعَ أَنه لَا (اخْتِلَاف) فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا زَاد بَعضهم عَلَى بعض، وَالزِّيَادَة مَقْبُولَة من أهل الْعلم، وَالله - تَعَالَى - أعلم.
وَإِذا انْتَهَى الْكَلَام (بِنَا) فِي الرّفْع، وَهُوَ من الْمُهِمَّات وَقد اجْتمع فِيهِ - بِفضل الله - مَا لم يجْتَمع فِي غَيره من المصنفات مَعَ رِعَايَة الِاخْتِصَار(3/504)
فنعود إِلَى مَا نَحن بصدده من تَخْرِيج أَحَادِيث الرَّافِعِيّ وآثاره.
(نجزُ الْجُزْء الثَّانِي - بِفضل الله وَمِنْه - يتلوه فِي الَّذِي يَلِيهِ الحَدِيث الْعَاشِر حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصَلى الله عَلَى سيدنَا مُحَمَّد وَعَلَى آله وَصَحبه وَسلم كلما ذكره الذاكرون وغفل عَن ذكره الغافلون.
غفر الله لمن كتبه لأَجله آمين) .(3/505)
[1]
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا
الحَدِيث الْعَاشِر
حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ، وَقد أسلفنا الْوَعْد بِهِ فِي أثْنَاء الحَدِيث التَّاسِع عِنْد قَول الرَّافِعِيّ فِي وَقت رفع الْيَدَيْنِ أوجه:
أَحدهَا: أَنه يرفع غير مكبر، ثمَّ يَبْتَدِئ التَّكْبِير مَعَ ابْتِدَاء الْإِرْسَال وينهيه مَعَ انتهائه، رُوِيَ ذَلِك عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَحَدِيث أبي حميد هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الحميد (يَعْنِي) ابْن جَعْفَر، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء قَالَ: سَمِعت أَبَا حميد السَّاعِدِيّ فِي عشرَة من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِنْهُم أَبُو قَتَادَة، قَالَ أَبُو حميد: «أَنا أعلمكُم بِصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالُوا: فَلم؟ فوَاللَّه مَا كنت بأكثرنا لَهُ تبعة، وَلَا أقدمنا لَهُ صُحْبَة. قَالَ: بلَى. قَالُوا: فاعرض. قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قَامَ إِلَى الصَّلاة يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بهما(3/506)
مَنْكِبَيْه، ثمَّ يكبر حَتَّى يقر كل (عظم) فِي مَوْضِعه معتدلًا ... » الحَدِيث بِطُولِهِ.
وَذكره - أَعنِي: حَدِيث أبي حميد - من طرق (وَهُوَ) فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» من هَذَا الْوَجْه لَكِن بِدُونِ ذكر أبي قَتَادَة. وَقَالَ: «كنت جَالِسا مَعَ نفرٍ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَذكرنَا صَلَاة النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ أَبُو حميد: أَنا كنت أحفظكم لصلاته (رَأَيْته) إِذا كبر جعل يَدَيْهِ حذاء مَنْكِبَيْه ... » ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث.
وَكَذَا أخرجه التِّرْمِذِيّ. ثمَّ قَالَ: (حَدِيث) حسن صَحِيح. وَخَالف الطَّحَاوِيّ فَرده بِأَن (مُحَمَّدًا) هَذَا لم يدْرك أَبَا قَتَادَة عَلَى الصَّحِيح. قَالَ: وَالصَّحِيح أَن أَبَا قَتَادَة (مَاتَ) مَعَ عَلّي فِي (حروبه) قَالَ: ونزيد ذَلِك بَيَانا؛ أَن عطاف بن خَالِد رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، قَالَ: حَدثنِي رجل «أَنه وجد عشرَة من أَصْحَاب رَسُول الله جُلُوسًا ... » فَذكره، وعطاف وثَّقه أَحْمد و (يَحْيَى) .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه بطرِيق أبي دَاوُد بِلَفْظ «كَانَ إِذا قَامَ فِي الصَّلَاة(3/507)
(اعتدل) قَائِما وَرفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بهما مَنْكِبَيْه (ثمَّ) قَالَ: الله أكبر ... » الحَدِيث.
(ثمَّ رَوَاهُ) من حَدِيث فليح بن سُلَيْمَان، عَن عَبَّاس بن سهل السَّاعِدِيّ قَالَ: «اجْتمع أَبُو حميد، وَأَبُو أسيد السَّاعِدِيّ، وَسَهل بن سعد، وَمُحَمّد بن مسلمة؛ فَذكرُوا صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ أَبُو حميد: أَنا أعلمكُم بِصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) «قَامَ) فَكبر وَرفع يَدَيْهِ ... » الحَدِيث.
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» من هَذَا الْوَجْه؛ بِدُونِ ذكر مُحَمَّد بن مسلمة وَلَفظه: «فَرفع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه» .
وَرَوَاهُ من طرق أُخْرَى أَيْضا (وطرقه) ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من طرق (سَبْعَة) لَفظه فِي بَعْضهَا: «فَرفع يَدَيْهِ حَتَّى (حَاذَى) بهما مَنْكِبَيْه، وَفِي بَعْضهَا: «إِذا كبر جعل يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه» .
وَقَالَ: سمع هَذَا الحَدِيث: مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء (من) أبي(3/508)
حميد السَّاعِدِيّ. وسَمعه من عَبَّاس بن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ من أَبِيه؛ فَالطَّرِيقَانِ جَمِيعًا محفوظان (ومبناهما) متباينان. وَقد يتَوَهَّم غير المتبحر فى صناعَة الحَدِيث أَن خبر أبي حميد مَعْلُول، وَلَيْسَ كَذَلِك. قَالَ: وَعبد الحميد بن جَعْفَر أحدُ الثِّقَات المتقنين؛ قد سبرت أخباره، فَلم أره انْفَرد بِحَدِيث لم يُشَارك فِيهِ. وَقد وَافق فليح بن سُلَيْمَان وَعِيسَى بن عبد الله بن مَالك، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء، عَن أبي حميد عبد الحميد بن جَعْفَر فِي هَذَا الْخَبَر.
قلت: وفليح أخرج لَهُ البُخَارِيّ، وَلَكِن عِيبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجه لحديثه.
وَقَالَ ابْن معِين: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ السَّاجِي: إِنَّه يهم.
وَقَالَ مظفر بن مدرك: كُنَّا نتهمه؛ لِأَنَّهُ كَانَ يتَنَاوَل من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا (أَضْعَف) مَا رمي بِهِ.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ثَلَاث من سنَن الْمُرْسلين: تَعْجِيل الْفطر، وَتَأْخِير السّحُور، وَوضع الْيَمين عَلَى الشمَال فِي الصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث ابْن عَبَّاس(3/509)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّا معاشر الْأَنْبِيَاء أُمِرْنَا أَن نؤخر السّحُور (ونعجل الْإِفْطَار) وَأَن نمسك بأيماننا عَلَى شَمَائِلنَا فِي الصَّلَاة» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فى كتاب الصَّوْم من هَذَا الْوَجْه، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث يعرف بطلحة بن عَمْرو الْمَكِّيّ؛ وَهُوَ ضَعِيف. وَقد اخْتلف عَلَيْهِ؛ فَقيل: عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل: عَنهُ، عَن عَطاء، عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ: وَرُوِيَ من وَجه آخر ضَعِيف عَن أبي هُرَيْرَة. وَمن وَجه ضَعِيف عَن ابْن عمر. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة من قَوْلهَا: «ثَلَاث من النُّبُوَّة ... » فَذَكرهنَّ، وَهُوَ أصح مَا ورد فِيهِ.
وَرَوَاهُ فِي هَذَا الْبَاب (وَكَذَا) الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن أبان الْأنْصَارِيّ، عَن عَائِشَة مَوْقُوفا عَلَيْهَا: «ثَلَاث من النُّبُوَّة: تَعْجِيل الْإِفْطَار، وَتَأْخِير السّحُور، وَوضع الْيَد الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاة» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا (أصح) عَن مُحَمَّد بن أبان.
قلت: فِيهِ نظر، قَالَ البُخَارِيّ: لَا يعرف لمُحَمد سَماع من عَائِشَة. ذكره فِي «الْمِيزَان» .
ثمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر مَرْفُوعا وَقَالَ: تفرد بِهِ عبد الْمجِيد، وَإِنَّمَا يعرف بطلحة بن عَمْرو - وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ - عَن عَطاء، عَن(3/510)
ابْن عَبَّاس - وَمرَّة عَن أبي هُرَيْرَة - عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» (فِي كِتَابه) وصف الصَّلَاة (بِالسنةِ) عَن الْحسن (بن سُفْيَان، نَا حَرْمَلَة بن يَحْيَى) ثَنَا ابْن وهب، أبنا عَمْرو بن الْحَارِث، أَنه سمع عَطاء بن أبي رَبَاح يحدث عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء أمرنَا أَن نؤخر سحورنا، ونعجل فطرنا، وَأَن نمسك بأيماننا عَلَى شَمَائِلنَا فِي الصَّلَاة» .
ثمَّ قَالَ فِي «صَحِيحه» : سمع هَذَا الْخَبَر: ابْن وهب، عَن عَمْرو بن الْحَارِث، وَطَلْحَة بن عَمْرو، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح.
وَرَوَاهُ كَذَلِك الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن عَمْرو إِلَّا ابْن وهب، تفرد بِهِ حَرْمَلَة. وَفِي «تَارِيخ الْعقيلِيّ» : عَن يعْلى بن مرّة مَرْفُوعا: « (ثَلَاث) يحبهن الله - عَزَّ وَجَلَّ -: تَعْجِيل الْفطر، وَتَأْخِير السّحُور، وَضرب الْيَدَيْنِ أَحدهمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي الصَّلَاة» ثمَّ ضعفه - وَقَالَ: رُوِيَ بِإِسْنَاد أصلح من هَذَا.
وَفِي «مُصَنف ابْن أبي شيبَة» عَن أبي الدَّرْدَاء «من أَخْلَاق النَّبِييِّنَ - صَلَّى الله عَلَيْهِم وَسلم - وضع الْيَمين عَلَى الشمَال فِي الصَّلَاة» .
وَعَن الْحسن قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «كَأَنِّي أنظر إِلَى أحْبار(3/511)
بني إِسْرَائِيل واضعي أَيْمَانهم عَلَى شمائلهم فِي الصَّلَاة» وإسنادهما جيد.
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» بِإِسْنَاد جيد (أَيْضا عَن ابْن الزبير) : «صف) الْقَدَمَيْنِ، وَوضع الْيَد عَلَى الْيَد من السُّنَّةِ» .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
عَن وَائِل بن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كبر (و) أَخذ شِمَاله بِيَمِينِهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» (وَاللَّفْظ لَهُ) من حَدِيث مُحَمَّد بن جحادة، عَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل بن حجر قَالَ: «كنتُ غُلاَمًا لَا أَعقل صَلَاة أبي فَحَدثني وَائِل بن عَلْقَمَة عَن وَائِل بن حجر قَالَ: صليت خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَكَانَ إِذا دخل فِي الصَّفّ رفع يَدَيْهِ وَكبر، ثمَّ التحف فَأدْخل (يَده) فِي ثَوْبه فَأخذ شِمَاله بِيَمِينِهِ؛ فَإِذا أَرَادَ أَن يرْكَع أخرج يَدَيْهِ ورفعهما وَكبر ثمَّ ركع، فَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع رفع يَدَيْهِ وَكبر فَسجدَ ثمَّ وضع وَجهه بَين كفيه» .
قَالَ ابْن جحادة: «فذكرتُ ذَلِك لِلْحسنِ (بن أبي الْحسن) فَقَالَ: هِيَ صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعله من فعله (و) تَركه من تَركه» قَالَ ابْن حبَان: مُحَمَّد بن جحادة من الثِّقَات المُتْقنين وَأهل الْفضل فِي(3/512)
الدَّين، إِلَّا أَنه وهم فِي اسْم هَذَا الرجل؛ إِذْ الْجواد يعثر، فَقَالَ: وَائِل بن عَلْقَمَة، وَإِنَّمَا هُوَ عَلْقَمَة بن وَائِل.
قلت: وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ عَن البُخَارِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن جحادة، عَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل (عَن) عَلْقَمَة بن وَائِل وَمولى لَهُم، عَن أَبِيه وَائِل بن حجر: «أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رفع يَدَيْهِ حِين دخل فِي الصَّلَاة [كبر] وصف همام (حِيَال) أذُنيه، ثمَّ التحف بِثَوْبِهِ، ثمَّ وضع يَده الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ أَن يرْكَع أخرج يَدَيْهِ من الثَّوْب ثمَّ رفعهما ثمَّ كبر فَرفع، فَلَمَّا قَالَ: سمع الله لمن حَمده، رفع يَدَيْهِ، فَلَمَّا سجد (سَجَدَ) بَين كَفَّيْهِ» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث عَلْقَمَة عَن أَبِيه قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا كَانَ قَائِما فِي الصَّلَاة قبض بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَاله» .
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة أَيْضا فِي «صَحِيحه» عَن وَائِل قَالَ: «صليت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَوضع يَده الْيُمْنَى عَلَى (يَده) الْيُسْرَى عَلَى صَدره» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يضع يَده الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاة؛ قَرِيبا من الرُّسغِ» .(3/513)
الحَدِيث الثَّالِث عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وضع يَده الْيُمْنَى عَلَى ظهر كَفه الْيُسْرَى والرسغ والساعد» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث عَاصِم بن كُلَيْب محيلًا عَلَى حَدِيث قبَله رَوَاهُ وَائِل بن حجر فِي كَيْفيَّة وضع الْيَد فِي التَّشَهُّد يَأْتِي حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ (فَقَالَ: بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ) (فَقَالَ) فِيهِ: «ثمَّ وضع يَده الْيُمْنَى عَلَى ظهر الْيُسْرَى والرسغ والساعد» .
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عَاصِم أَيْضا، قَالَ: حَدثنِي أبي أَن وَائِل بن حجر الْحَضْرَمِيّ أخبرهُ قَالَ: « [لأنظرن] إِلَى صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَيفَ يُصَلِّي فَنَظَرت إِلَيْهِ حِين قَامَ فَكبر، وَرفع يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَى أُذُنَيْهِ ثمَّ وضع يَده الْيُمْنَى عَلَى ظهر كَفه الْيُسْرَى والرسغ والساعد ... ) الحَدِيث.
فَائِدَة: الرسغ هُوَ الْمفصل بَين الْكَفّ والساعد، وَهُوَ بالسِّين (أفْصح) من الصَّاد.
تَنْبِيه: ذكر الرَّافعيُّ هُنَا عَن الْغَزالِيّ أَنه قَالَ: رُوِيَ فى بعض الْأَخْبَار «أَنه يُرْسل يَدَيْهِ إِذا كبر، وَإِذا أَرَادَ أَن يقْرَأ وضع يَده الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى»(3/514)
وَهَذَا الحَدِيث ذكره الْغَزالِيّ فِي أَوَائِل الْبَاب الثَّانِي فِي كَيْفيَّة الْأَعْمَال الظَّاهِرَة من «الْإِحْيَاء» (ثمَّ) قَالَ: وَإِن صَحَّ هَذَا فَهُوَ أولَى.
قلت: هَذَا الحديثُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث معَاذ بن جبل قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا كَانَ فِي صلَاته رفع يَدَيْهِ قبال أُذُنَيْهِ؛ فَإِذا كبَّر أرسلهما ثمَّ سكت (وَرُبمَا رَأَيْته يضع يَمِينه عَلَى يسَاره، فَإِذا فرغ من فَاتِحَة الْكتاب سكت)
» ثمَّ ذكر حديثًَا طَويلا، وَفِي إِسْنَاده: الخصيب بن جحدر، وَقد كذبه شُعْبَة وَالْقطَّان، وَفِيه أَيْضا: مَحْبُوب بن الْحسن، ضعفه النَّسَائِيّ، وليَّنه أَبُو حَاتِم فَقَالَ: لَيْسَ (بِالْقَوِيّ) ووثَّقه ابْن معِين وَخرج لَهُ (خَ) مَقْرُونا بآخر (وَقَالَ) ابْن الصّلاح فِي «مُشكل الْوَسِيط» : لَطِيفَة (علقتها بنيسابور) مِمَّا علق عَن الْغَزالِيّ فِي (درس) وَهُوَ أَن حَالَة إرْسَال الْيَد بعد الْفَرَاغ من التَّكْبِير لَا يَنْبَغِي أَن يَفْعَله، ثمَّ يسْتَأْنف رفعهما إِلَى الصَّدْر؛ فَإِنِّي سَمِعت وَاحِدًا من الْمُحدثين يَقُول: الْخَبَر إِنَّمَا ورد بِأَنَّهُ يُرْسل يَدَيْهِ إِلَى صَدره.(3/515)
الحَدِيث الرَّابِع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «التَّكْبِير جزم، وَالسَّلَام جزم» .
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من رَوَاهُ هَكَذَا مَرْفُوعا؛ وَإِنَّمَا أعرفهُ من قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: «التَّكْبِير جزم، وَالسَّلَام جزم» .
(كَذَا) نَقله (عَنهُ) التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَالْمُنْذِرِي فِي «مُخْتَصر السُّنن» قَالَ: «وَجزم» بِالْجِيم وَالزَّاي، وَرَوَى «حذم» بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَمَعْنَاهُ: سريع. الخدم فِي اللِّسَان: السرعة، وَمِنْه: «إِذا أَقمت فاحذم» أَي: أسْرع.
وَقَالَ المحبُّ الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه» : مَعْنَى جزمهما أَنَّهُمَا لَا يمدان، وَلَا يعرب التَّكْبِير؛ بل يسكن آخِره. وَتبع فِي ذَلِك ابْن الْأَثِير؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي «نهايته» : (أَرَادَ بِالْجَزْمِ أَنه لَا يمد وَلَا يعرب؛ بل يسكن) .
قلت: وَورد حَدِيث بِمَعْنى الْقطعَة الثَّانِيَة قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» بَاب مَا جَاءَ أَن حذف السَّلَام (سنة) (رُوِيَ) من حَدِيث(3/516)
الْأَوْزَاعِيّ، عَن قُرَّة بن عبد الرَّحْمَن (عَن الزُّهْرِيّ) عَن أبي سَلمَة، وَأبي هُرَيْرَة قَالَ: «حذف السَّلَام سُنَّة» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
قلتُ: وَقَول أبي هُرَيْرَة هَذَا يدْخل فِي الْمسند عِنْد أَكثر أهل الحَدِيث، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن أَحْمد وَأَبا دَاوُد وَالْحَاكِم (وَابْن السكن) أَخْرجُوهُ مَرْفُوعا صَرِيحًا من حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ أَيْضا عَن قُرَّة، عَن الزُّهْرِيّ (عَن أبي سَلمَة) عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «حذفُ السَّلَام سُنَّةٌ» .
قَالَ الْحَاكِم هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم؛ فقد اسْتشْهد بِقُرَّةَ فِي موضِعين من كِتَابه. قَالَ: وَوَقفه ابْن الْمُبَارك عَن الْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد - عَلَى مَا نَقله عَنهُ ابْن القطَّان -: إِن الْفرْيَابِيّ لما رَجَعَ من مكَّة ترك رَفعه. وَقَالَ: نهاني أَحْمد عَن رَفعه وَقَالَ (عِيسَى بن يُونُس الرَّمْلِيّ: نهاني ابْن الْمُبَارك عَن رَفعه) وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارقطنيُّ فَأجَاب فِي «علله» بِأَن وَقفه هُوَ الصَّوَاب.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : كَانَ الوقفُ تقصيرًا من بعض الروَاة.
قلت: صورته صُورَة (مَوْقُوف) وَإِلَّا فَهُوَ يدْخل فِي الْمسند كَمَا سلف عَن أَكثر المحدِّثين. وأعلَّه ابْن القطَّان بقُرَّةَ، وَقَالَ: لَا يَصح مَوْقُوفا وَلَا مَرْفُوعا، وقرَّة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن حَيْوِيل بن نَاشِرَة الْمعَافِرِي(3/517)
الْمصْرِيّ. قَالَ الأوزاعيُّ: مَا أحد أعلم بالزهري من قُرَّة.
وَقَالَ أَحْمد: مُنكر الحَدِيث جدًّا. وَقَالَ ابْن معِين فِي رِوَايَة: (ضَعِيف) وَأُخْرَى: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَقَالَ ابْن عدي: لم (أرَ لَهُ حَدِيثا) مُنْكرا، وَأَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ.
وَذكره مُسلم فِي «صَحِيحه» مَقْرُونا بِعَمْرو بن الْحَارِث، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» . وَأخرج لَهُ فِي «صَحِيحه» حَدِيث «أحب عبَادي إِلَيّ أعجلهم فطرًا» ثمَّ قَالَ: هُوَ من ثِقَات مصر.
فَائِدَة: حذفُ السَّلَام قيل إِنَّه الْإِسْرَاع بِهِ، قَالَ ابْن الْمُبَارك: (أَن) لَا يمده (مدًّا) نَقله عَنهُ الترمذيُّ. وَقيل: أَن لَا يكون فِيهِ «ورحمةُ الله» يَعْنِي: فِي الصَّلَاة، ويردُّهُ مَا جَاءَ مصرَّحًا بِهِ من زِيَادَة: «وَرَحْمَة ُ الله» كَمَا ستعلمه فِي مَوْضِعه.
وَفِي «صِحَاح ابْن السَّكن» إِثْر هَذَا الحَدِيث؛ أَن الْأَوْزَاعِيّ سُئِلَ عَنهُ فَقَالَ: (مَعْنَاهُ) : إِذا سلم الإِمَام لم يصل السَّلام بجلوس حَتَّى يقوم (أَو) ينْصَرف.
وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ واستدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى الرَّاجِح فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام أَنه لَا يمدها؛ بِخِلَاف بَاقِي تَكْبِيرَات الِانْتِقَالَات، فَقَالَ: لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «التَّكْبِير جزم» (أَي) لَا يمد. وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا دلَالَة فِيهِ إِلَّا(3/518)
عَلَى تسكين آخِره؛ فَإِنَّهُ الْمَعْرُوف فِي الْجَزْم، لكنه مُوَافق لما أسلفناه عَن الْمُحب الطَّبَرِيّ وَغَيره فِي (تَفْسِيره) لَهُ.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعمران بن حُصيْن: صلِّ قَائِما؛ فَإِن لم تستطع فقاعدًا، فَإِن لم تستطع فعلَى جنب» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البخاريُّ فِي «صَحِيحه» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي أَوله: عَن عمرَان قَالَ: «كَانَت بِي بواسير فَسَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الصَّلَاة فَقَالَ: (صل) قَائِما ... » الحَدِيث، زَاد النَّسَائِيّ: «فَإِن لم تستطع فمستلق (لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا» ) .
وَأما الْحَاكِم فَإِنَّهُ أخرجه كَمَا سَاقه البُخَارِيّ، لكنه قَالَ: « (كَانَ) بِي الناصور ... » وَهُوَ هُوَ. ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ؛ إِنَّمَا أخرجه البُخَارِيّ مُخْتَصرا.
قلت: (قد) أخرجه كَمَا (أخرجته) أَنْت سَوَاء.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يقعي الرجل فِي صلَاته» .(3/519)
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق: إِحْدَاهَا: من حَدِيث عَائِشَة بِلَفْظ: «وَكَانَ ينْهَى عَن عقبَة الشَّيْطَان) وَهُوَ حَدِيث طَوِيل، رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ.
قَالَ الهرويُّ عَن أبي عبيد: (عقبَة) الشَّيْطَان هُوَ أَن يضع أليتيه عَلَى عَقِبَيْهِ بَين السَّجْدَتَيْنِ؛ وَهُوَ الَّذِي يَجعله بعض النَّاس الإقعاء. وَكَذَا قَالَه صَاحب «النِّهَايَة» قَالَ: وَقيل: هُوَ أَن يتْرك (عَقِبَيْهِ) غير مغسولين فِي الْوضُوء.
ثَانِيهَا: من حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الإقعاء فِي الصَّلَاة» .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَالرِّوَايَة فِي إِبَاحَة الإقعاء صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. فَذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس الْآتِي.
ثَالِثهَا: من حَدِيث عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يَا عَلّي، أحبُّ لَك مَا أحبُّ لنَفْسي، وأكره لَك مَا أَكْرَهُ لنَفْسي، لَا تُقْعِ بَين السَّجْدَتَيْنِ» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْحَارِث عَنهُ ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه من حَدِيث عَلّي إِلَّا من حَدِيث أبي إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عَلّي. وَقد ضعف بعض أهل الْعلم الْحَارِث الْأَعْوَر. قَالَ: وَالْعَمَل عَلَى هَذَا الحَدِيث عِنْد أَكثر أهل الْعلم يكْرهُونَ الإقعاء.
وَرَوَى هَذَا الحَدِيث أَيْضا ابْن مَاجَه من هَذِه الطَّرِيق، وَلَفظه:(3/520)
«لَا تقع بَين السَّجْدَتَيْنِ» .
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى من حَدِيث عَلّي (وَأبي) مُوسَى «لَا تقع إقعاء الْكَلْب» وَفِي سَنَده مَعَ الْحَارِث: أَبُو نعيم وَأَبُو مَالك النخعيان؛ وَقد ضعفوهما.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى أَنه قَالَ: «لَا تقعوا إقعاء (الْكلاب) » .
قلت: لَهُ طرق:
أَحدهَا وَثَانِيها: من حَدِيث عَلّي وَأبي مُوسَى، وَقد تقدّمت أَيْضا.
ثَالِثهَا: من حَدِيث الْعَلَاء أبي مُحَمَّد، عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا رفعت رَأسك من السُّجُود فَلَا تُقْعِ كَمَا يقعي الْكَلْب، ضع أليتيك بَين قَدَمَيْك، وألزق ظَاهر قَدَمَيْك بِالْأَرْضِ» رَوَاهُ ابْن مَاجَه والْعَلَاء هَذَا هُوَ ابْن زيد الثَّقَفِيّ، مَتْرُوك؛ كَمَا قَالَه أَبُو دَاوُد وَغَيره. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: وضَّاع. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَن أنس بِلَفْظ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن الإقعاء والتورُّك» .
رَابِعهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «نهاني رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن (نقرة) كنقر الديك، وإقعاء كإقعاء الْكَلْب، والتفات كالتفات الثَّعْلَب» .
رَوَاهُ أَحْمد كَذَلِك، وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: «القرد» بدل «الْكَلْب» وَفِي إِسْنَاده: لَيْث بن أبي سليم، وَقد علمت مَا فِيهِ فِي بَاب الْوضُوء، وَنقل النَّوَوِيّ فِي «الْخُلَاصَة» عَن الْحفاظ أَنهم قَالُوا: لَيْسَ فِي النَّهْي عَن(3/521)
الإقعاء حَدِيث صَحِيح إِلَّا حَدِيث عَائِشَة السَّابِق.
قلت: وَبعده حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة كَمَا سلف عَلَى مَا فِي هَذِه التَّرْجَمَة من الْخلاف الشهير فِيهَا.
وَأخرج ابْن السكن فِي «صحاحه» عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه عَلَيْهِ السَّلام نهَى عَن السدل، والإقعاء فِي الصَّلَاة» وَعَن أنس «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهَى عَن التورُّك والإقعاء فِي الصَّلَاة» .
وَهُوَ متساهل فِي هَذَا (التَّأْلِيف) .
تَنْبِيه: صَحَّ عَن طَاوس أَنه قَالَ: «قلت لِابْنِ عَبَّاس فِي الإقعاء عَلَى الْقَدَمَيْنِ، قَالَ: هِيَ السُّنة. فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّا لنراه (جفَاء) بِالرجلِ! فَقَالَ: بل هِيَ سنة نبيك» .
رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا، وَقد ذكره الرافعيُّ فِي أثْنَاء الْبَاب، كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِي الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ إِذا رفع رَأسه من السَّجْدَة الأولَى يقْعد عَلَى أَطْرَاف أَصَابِعه وَيَقُول: إِنَّه من السّنة» .
وَفِيه عَن ابْن عمر (أَيْضا) وَابْن عَبَّاس «أَنَّهُمَا كَانَا يقعيان» .
وَفِيه عَن طَاوس: «رَأَيْت العبادلة يقعون» .
وَفِي الْجمع بَين هَذَا وَبَين مَا سلف وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَن أَحَادِيث الْإِبَاحَة مَنْسُوخَة بِأَحَادِيث النَّهْي. قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَعَلَّ ابْن عَبَّاس لم يعلم مَا ورد من الْأَحَادِيث الناسخة الَّتِي فِيهَا النَّهْي عَن الإقعاء. قَالَ الْخطابِيّ: وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَه.(3/522)
وَالثَّانِي: أَنه لَا نسخ فِي ذَلِك؛ وَإِنَّمَا الإقعاء ضَرْبَان:
أَحدهمَا: أَن يضع (أليتيه) وَيَديه عَلَى الأَرْض وَينصب سَاقيه، وَهَذَا مَكْرُوه، وَهُوَ الَّذِي (وَردت) فِيهِ الْأَحَادِيث الأول.
وَثَانِيهمَا: أَن يضع (أليتيه) عَلَى (عَقِبَيْهِ) وَتَكون ركبتاه فِي الأَرْض، و (هَذَا) هُوَ الَّذِي رَوَاهُ ابْن عَبَّاس وفعلته العبادلة، وَنَصّ الشَّافِعِي فِي «الْبُوَيْطِيّ» و «الْإِمْلَاء» عَلَى اسْتِحْبَابه بَين السَّجْدَتَيْنِ فَهُوَ سنة والافتراش سنة، لَكِن الصَّحِيح أَن الافتراش أفضل مِنْهُ؛ لِكَثْرَة (الروَاة) لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ أعونُ للْمُصَلِّي، وَأحسن فِي هَيْئَة الصَّلَاة (و) بِهَذَا الْوَجْه جمع بَين الْأَحَادِيث الْبَيْهَقِيّ، وَتَبعهُ ابْن الصّلاح ثمَّ النَّوَوِيّ (قَالَا) : وَقد غلط فِي هَذَا كَثِيرُونَ؛ لتوهمهم أَن الإقعاء نوع وَاحِد، وَأَن الْأَحَادِيث تَعَارَضَت فِيهِ حَتَّى توهم بعض (الْكِبَار) أَن حَدِيث ابْن عَبَّاس مَنْسُوخ، وَهَذَا غلط فَاحش؛ فَإِنَّهُ لم يتَعَذَّر الْجمع وَلَا علم التَّارِيخ، فَكيف يثبت النّسخ؟ !
الحَدِيث السَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (لما) صَلَّى جَالِسا تربَّع» .(3/523)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كلهم من رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بأسانيد صَحِيحَة. قَالَ الْحَاكِم فِي موضِعين من «مُسْتَدْركه» فِي هَذَا الْبَاب: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا أعلم أحدا رَوَاهُ غير أبي دَاوُد الْحَفرِي، وَهُوَ ثِقَة، وَلَا أَحسب هَذَا الحَدِيث إِلَّا (خَطًَا) .
(قلت) : قد تَابعه مُحَمَّد بن سعيد الْأَصْبَهَانِيّ، كَمَا أَفَادَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» .
الحَدِيث الثَّامِن عشر
(رُوِيَ) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يُصَلِّي الْمَرِيض قَائِما إِن اسْتَطَاعَ؛ فَإِن لم يسْتَطع صَلَّى قَاعِدا، فَإِن لم يسْتَطع أَن (يسْجد أَوْمَأ وَجعل سُجُوده أَخْفَضَ من رُكُوعه؛ فَإِن لم يسْتَطع أَن) يُصَلِّي قَاعِدا صلَّى عَلَى جنبه الْأَيْمن مُسْتَقْبل الْقبْلَة، فَإِن لم يسْتَطع أَن يُصَلِّي عَلَى جنبه الْأَيْمن صلَّى مُسْتَلْقِيا رجلَيْهِ مِمَّا يَلِي الْقبْلَة» .(3/524)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» بِهَذَا (اللَّفْظ فى) حَدِيث الْحُسَيْن بن الحكم الْحِيرِي، ثَنَا (حسن) بن حُسَيْن العرني، نَا حُسَيْن بن (زيد) عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن عَلّي بن الْحُسَيْن، عَن الْحُسَيْن بن عَلّي، عَن عَلّي، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... فَذكره، وَمِنْه نقلته، وَهُوَ (نَحْو) مَا فِي الرَّافِعِيّ، وَفِي الرَّافِعِيّ زِيَادَة عَلَيْهِ وَاخْتِلَاف (لَفظه) فَإِن فِيهِ «صَلَّى جَالِسا» بدل «قَاعِدا» وَهُوَ هُوَ، وَفِيه: «فَإِن لم يسْتَطع صَلَّى عَلَى (جنبه) الْأَيْمن مُسْتَقْبل الْقبْلَة وَأَوْمَأَ بطرفه؛ فَإِن لم يسْتَطع صَلَّى عَلَى قَفاهُ مُسْتَلْقِيا، وَجعل رجلَيْهِ مُسْتَقْبل الْقبْلَة» ثمَّ قَالَ الرَّافِعِيّ: وَجه الِاسْتِدْلَال أَنه قَالَ: «أَوْمَأ بطرفه» وَوَقع فِي رِوَايَة الشَّيْخ فِي «المهذَّب» ذكر الْإِيمَاء بعد ذكر الاستلقاء. والرافعي ذكره بعد (صلَاته) عَلَى جنب، وَسقط من رِوَايَة «الْمُهَذّب» ذكر «الْأَيْمن» . وَلَفظه: « (صَلَّى) عَلَى جنبه» وَبِالْجُمْلَةِ (فَالْحَدِيث) ضَعِيف؛ لاشتمال إِسْنَاده عَلَى ضعفاء ومجاهيل:(3/525)
أحدهم: الْحُسَيْن بن الحكم، لَا يعرف لَهُ حَال، قَالَه ابْن الْقطَّان فِي «علله» .
ثانيهم: (حسن) بن حُسَيْن العرني، قَالَ أَبُو حَاتِم: لم يكن يصدق عِنْدهم، كَانَ من رُؤَسَاء (جلساء) الشِّيعَة. وَقَالَ ابْن عدي: رَوَى أَحَادِيث مَنَاكِير، لَا يشبه حَدِيثه حَدِيث الثِّقَات. وَقَالَ ابْن حبَان يَأْتِي عَن الْأَثْبَات بالملزقات، ويروي المقلوبات. وَقد ضعفه عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» بِحُسَيْن هَذَا، وَقَالَ فِيهِ كمقالة أبي حَاتِم.
ثالثهم: حُسَيْن بن (زيد) قَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يعرف لَهُ حَال.
قلت: (بل) ضعفه ابْن الْمَدِينِيّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: تعرف وتنكر. وَقَالَ ابْن عدي: (وجدت) فِي حَدِيثه بعض النكرَة، وَأَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. وَقد ضعفه غير وَاحِد من الْمُتَأَخِّرين قَالَ الْمُنْذِرِيّ: فِي إِسْنَاده نظر (وَقَالَ النَّوَوِيّ: حَدِيث ضَعِيف. وَزَاد فِي «شرح المهذَّب» عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ - بعد أَن رَوَاهُ -: فِيهِ نظر) وَلم أر (أَنا) هَذِه الزِّيَادَة فِي «سنَنه» نعم ذكرهَا الْبَيْهَقِيّ فِي التَّرْجَمَة فَقَالَ: بَاب مَا رُوِيَ فِي كَيْفيَّة الصَّلَاة عَلَى الْجنب أَو الاستلقاء: وَفِيه نظر. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» : هَذَا حَدِيث مُنكر.(3/526)
فَائِدَة: أَوْمَأ - بِالْهَمْز - وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى الْإِيمَاء بالطرف الَّذِي خَالف (فِيهِ) أَبُو حنيفَة وَمَالك (وَقَالا) : لَا يُصَلِّي فِي هَذِه (الْحَالة) وَلَا يُومِئ بِعَيْنِه وَلَا بِقَلْبِه، وَهَذِه اللَّفْظَة لم (نرها) فِي الحَدِيث، وَبِتَقْدِير وجودهَا؛ فالإيماء بالطرف مَذْكُور فِي صلَاته عَلَى جنب (وَذكر) بعده أَنه يُصَلِّي مُسْتَلْقِيا، وَلَيْسَ ذَلِك مَذْهَبنَا فَفِيهِ مُخَالفَة (لَهُ) .
الحَدِيث التَّاسِع عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أَمرتكُم بأمرٍ فائتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته كَمَا سلف فِي التَّيَمُّم، وَاعْلَم أَن هَذَا الْخَبَر استدلَّ بِهِ الْغَزالِيّ وإمامه لما نَحن فِيهِ، وقدح الرَّافِعِيّ فِي الِاحْتِجَاج بِهِ بِأَن الْقعُود لَيْسَ من الْقيام، فَلَا يكون باستطاعته مستطيعًا بعض (الْمَأْمُور) بِهِ؛ لعدم دُخُوله فِيهِ، وَكَذَا القَوْل فِي الِاضْطِجَاع والإيماء وتحريك الْعين.
وَأجَاب ابْن الصّلاح عَن قدح الرَّافِعِيّ بِأَنَّهُ وَإِن كَانَ بالقعود لَيْسَ آتِيَا بِمَا استطاعه من الْقيام فَهُوَ آتٍ بِمَا استطاعه من الصَّلَاة الْمَأْمُور بهَا، فَالصَّلَاة بالقعود (أَو) الِاضْطِجَاع (أَو) الْإِيمَاء وَغَيره من الْأُمُور الْمَذْكُورَة - صَلَاة؛ لِأَنَّهَا تسمى صَلَاة فَيُقَال: صَلَّى كَذَا وَكَذَا، فَصلَاته(3/527)
صَحِيحَة أَو فَاسِدَة، فَهَذِهِ الْمَذْكُورَات أَنْوَاع لجنس الصَّلَاة بَعْضهَا (أدنَى) من بعض؛ فَإِذا عجز عَن الْأَعْلَى (و) اسْتَطَاعَ الْأَدْنَى فَأَتَى بِهِ كَانَ آتِيَا (بالاستطاعة) من الصَّلَاة (وَالله أعلم بِالصَّوَابِ) .
الحَدِيث الْعشْرُونَ
عَن عمرَان بن الْحصين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من صَلَّى قَائِما فَهُوَ أفضل، وَمن صَلَّى قَاعِدا فَلهُ (نصف) أجر الْقَائِم وَمن صلَّى نَائِما فَلهُ نصف أجر الْقَاعِد» وَيروَى: «وَصَلَاة النَّائم عَلَى النّصْف من صَلَاة الْقَاعِد» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن قَالَ: «سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن صَلَاة الرجل وَهُوَ قَاعد، فَقَالَ: من صَلَّى قَائِما ... » إِلَى قَوْله: «فَلهُ نصف أجر الْقَاعِد» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «أَنه سَأَلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن صَلَاة الرجل قَاعِدا فَقَالَ: صلَاته قَائِما أفضل من صلَاته قَاعِدا، وَصلَاته قَاعِدا عَلَى النّصْف من صلَاته قَائِما، وَصلَاته نَائِما عَلَى النّصْف من صلَاته قَاعِدا» .
فَائِدَة: المُرَاد بالنائم المضطجع يدل عَلَيْهِ قَوْله فِي الحَدِيث السَّالف «فَإِن لم يسْتَطع فعلَى جنب» وَترْجم لَهُ النَّسَائِيّ بَاب صَلَاة النَّائِم، وَقَالَ(3/528)
بَعضهم: هُوَ تَصْحِيف وَإِنَّمَا هُوَ نَائِما؛ أَي: بِالْإِشَارَةِ كَمَا رُوِيَ صلَاته عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى ظهر الدَّابَّة يُومِئ إِيمَاء، وَحمل الَّذِي قَالَ أَنه تَصْحِيف النّوم عَلَى ظَاهره، وَاسْتدلَّ بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمُصَلِّي إِذا غَلبه النّوم أَن يقطع الصَّلَاة، وَإِذا حمل عَلَى الِاضْطِجَاع كَمَا ذكره الْأَئِمَّة انْدفع مَا أَشَارَ إِلَيْهِ، ذكر هَذَا كُله الْمُنْذِرِيّ فِي حَوَاشِيه، قَالَ الْعلمَاء: والْحَدِيث الْمَذْكُور فِي صَلَاة النَّافِلَة مَعَ الْقُدْرَة عَلَى الْقيام، فَأَما الفَرْضُ فَلَا يجوز قَاعِدا مَعَ الْقُدْرَة بِالْإِجْمَاع؛ فَإِن عجز لم ينقص ثَوَابه (و) لَا ينقص ثَوَاب فعل الْعَاجِز أَيْضا.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْعشْرين
حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «فِي دُعَاء الاستفتاح» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ (عَنهُ) عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنه كَانَ إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة قَالَ: وجَّهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين، إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين لَا شريك لَهُ، وَبِذَلِك أمرت وَأَنا (من) الْمُسلمين، اللَّهُمَّ أَنْت الْملك لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، أَنْت رَبِّي وَأَنا عَبدك، ظلمت نَفسِي وَاعْتَرَفت بذنبي فَاغْفِر لي ذُنُوبِي جَمِيعًا [إِنَّه] لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت، واهدني لأحسن الْأَخْلَاق لَا يهدي(3/529)
لأحسنها إِلَّا أَنْت، واصرف عني سيئها، لَا يصرف عني سيئها إِلَّا أَنْت، لبيْك وَسَعْديك، وَالْخَيْر كُله فِي يَديك، وَالشَّر لَيْسَ إِلَيْك، أَنا بك وَإِلَيْك، تَبَارَكت وَتَعَالَيْت، أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك. وَإِذا ركع قَالَ: اللَّهُمَّ لَك ركعت وَبِك آمَنت وَلَك أسلمت، خشع لَك سَمْعِي وبصري ومخي وعظمي وعصبي. وَإِذا رفع قَالَ: اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد ملْء السَّمَاوَات وملء الأَرْض [وملء مَا بَينهمَا] وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد. وَإِذا سجد قَالَ: اللَّهُمَّ لَك سجدت وَبِك آمَنت وَلَك أسلمت، سجد وَجْهي للَّذي خلقه (وصوره) وشقَّ سَمعه وبصره، تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ. ثمَّ يكون من آخرهَا يَقُول بَين التَّشَهُّد وَالتَّسْلِيم: اللَّهُمَّ اغْفِر لي مَا قدمت وَمَا أخَّرت، وَمَا أسررتُ وَمَا أعلنت (وَمَا أسرفت) وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني، أَنْت المقدِّم وَأَنت المؤخِّر. لَا إِلَه إِلَّا أَنْت» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «كَانَ إِذا افْتتح الصَّلَاة كبر ثمَّ قَالَ: وجهت وَجْهي. وَقَالَ: وَأَنا [أول] الْمُسلمين (قَالَ) : وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع قَالَ: سمع الله لمن حَمده، رَبنَا وَلَك الْحَمد. وَقَالَ: وصوره فَأحْسن صوره. وَقَالَ: إِذا سلَّم (قَالَ) : اللَّهُمَّ اغْفِر (لي) مَا قدمت(3/530)
.. إِلَى آخِره، وَلم يقل: بَين التَّشَهُّد وَالتَّسْلِيم» .
وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: «وَإِذا فرغ من صلَاته وسلَّم قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لي ... » فَذكره، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان فِي «صَحِيحه» بعد «حَنِيفا» ، «مُسلما» وَقَالَ فِي أَوله: «كَانَ إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : قَالَ الشَّافِعِي عقب هَذَا الحَدِيث: وَبِهَذَا أَقُول (وآمر) وَأحب أَن يَأْتِي بِهِ كَمَا يرْوَى عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يُغَادر مِنْهُ شَيْئا، وَيجْعَل مَكَان «وَأَنا أول الْمُسلمين» : «وَأَنا من الْمُسلمين» ، لِأَن « (وَأَنا) أول الْمُسلمين» لَا تصلح لغير رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَبِذَلِك أَمر مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر وَجَمَاعَة من (فُقَهَاء) الْمَدِينَة.
(تَنْبِيهَانِ:) الأول: ذكر الرَّافِعِيّ أَنه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يَقُول بعد «حَنِيفا» : «مُسلما» وَقد عَلمته وَبعد: «لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِك ... » (وَبعده) «فالخير كُله (بيديك) » : «وَالْمهْدِي من هديت» .
وَقد رَوَاهُ كَذَلِك الشَّافِعِي فِي السّنَن المأثورة عَنهُ عَن مُسلم بن خَالِد وَعبد الْمجِيد بن أبي رواد قَالَا: ثَنَا ابْن جريج، أَخْبرنِي مُوسَى(3/531)
بن عقبَة، عَن عبد الله بن الْفضل، عَن عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج، عَن عبيد بن أبي رَافع، عَن عَلّي ... فَذكره سَوَاء، إِلَّا أَنه: قَالَ: «حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين» وَهُوَ فِي الْمسند بِلَفْظ: «وَالْمهْدِي من هديت» وَزَاد بعد ذَلِك قَوْله: «وَأَنا أول الْمُسلمين» (شَككت) أَن أحدهم قَالَ: «وَأَنا من الْمُسلمين، اللَّهُمَّ أَنْت الْملك لَا إِلَه إِلَّا (أَنْت) سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِك أَنْت رَبِّي» وَجزم فِي (رِوَايَته) فِي الْأُم بِرِوَايَة «وَأَنا أول الْمُسلمين» وَفِيه: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك» وَفِيه: « (وأعترف) بذنبي» وَفِيه «وَلَا يهدي لأحسنها إِلَّا أَنْت» وَفِيه «لَا ملْجأ وَلَا منْجَى مِنْك إِلَّا إِلَيْك» وَفِيه: «أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك» (وَفِي) وَرِوَايَة «الْأُم» الَّتِي ذَكرنَاهَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَرِوَايَة الْمسند من حَدِيث عَلّي. وَجَاءَت أَحَادِيث أخر فِي الاستفتاح - بسبحانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك - مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن حُسَيْن بن عِيسَى، (نَا) طلق بن غَنَّام، نَا عبد السَّلَام بن حَرْب، عَن بُدَيل بن ميسرَة، عَن أبي الجوزاء، عَن عَائِشَة قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا استفتح الصَّلَاة قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وتبارك اسْمك، وَتَعَالَى جدك، وَلَا إِلَه غَيْرك» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بالمشهور عَن عبد السَّلَام(3/532)
بن حَرْب، لم يروه إِلَّا طلق بن غنَّام، وَقد رَوَى قصَّة الصَّلَاة جمَاعَة غير وَاحِد، عَن بديل بن ميسرَة لم يذكرُوا فِيهِ شَيْئا من هَذَا.
قلت: طلق بن غَنَّام أخرج لَهُ البُخَارِيّ، وَعبد السَّلَام بن حَرْب وثَّقه أَبُو حَاتِم وَأخرج لَهُ الشَّيْخَانِ وَكَذَا من فَوْقه إِلَى عَائِشَة؛ لَا جرم قَالَ الْحَافِظ عبد الْوَاحِد الْمَقْدِسِي: مَا علمت فِي هَذَا الْإِسْنَاد مجروحًا.
قلت: لكنه مُرْسل فَإِنَّهُ من رِوَايَة أبي الجوزاء، عَن عَائِشَة، وَقد أسلفنا فِي الحَدِيث أَنه مُرْسل مَعَ مَا فِيهِ من الْبَحْث، وَأما الْحَاكِم فَقَالَ بعد أَن رَوَاهُ فِي «مُسْتَدْركه» : هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. ثمَّ ذكر لَهُ شَاهدا ثمَّ قَالَ: وَقد صحَّت الروايةُ فِيهِ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الخطَّاب أَنه كَانَ (يَقُوله) وَكَذَا قَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» أَنه صَحَّ عَن عمر أَنه كَانَ (يَقُوله) وَفِي أَفْرَاد مُسلم عَنهُ أَنه كَانَ يجْهر بهَا.
الثَّانِي: لما ذكر الرَّافِعِيّ هَذَا الحَدِيث قَالَ: وَذكر بعض الْأَصْحَاب أَن السُّنة فِي دُعَاء الاستفتاح أَن يَقُول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ... » إِلَى آخِره، ثمَّ يَقُول: «وجهت وَجْهي ... » إِلَى آخِره، جمعا بَين الْأَخْبَار انْتَهَى، وَقد عرفت ذَلِك.(3/533)
الحَدِيث الثَّاني بعد الْعشْرين
عَن جُبيرِ بن مُطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يتعوَّذ (قبل) الْقِرَاءَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الْأَئِمَّة أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه فِي (سُنَنهمَا) ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث عَمْرو بن مرّة، عَن رجل، عَن نَافِع بن جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه قَالَ: «سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول فِي التَّطَوُّع: الله أكبر كَبِيرا - ثَلَاث مَرَّات - وَالْحَمْد لله كثيرا - ثَلَاث مَرَّات - وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا - ثَلَاث مَرَّات - اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الشَّيْطَان الرَّجِيم من همزه ونفخه ونفثه. قلت: يَا رَسُول الله، مَا همزه ونفخه ونفثه؟ قَالَ: أما همزه فالموتةُ الَّتِي تَأْخُذ ابْن آدم، وَأما نفخه الْكبر، ونفثه الشّعْر» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن مرّة أَيْضا، عَن عَاصِم الْعَنزي - أَو عباد بن عَاصِم، أَو عمار بن عَاصِم - أَقْوَال فِيهِ (وَلَعَلَّه) الرجل الْمُبْهم فِي (سَنَد) أَحْمد. فَالْأول: قَالَه أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ.(3/534)
وَالثَّانِي: ابْن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» . وَالثَّالِث: الْبَزَّار عَن ابْن جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه: «أَنه رَأَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يصلى صَلَاة) قَالَ عَمْرو: لَا أَدْرِي أَي صَلَاة هِيَ. قَالَ: (الله أكبر الله أكبر كَبِيرا، الله أكبر كَبِيرا، الله أكبر كَبِيرا) وَالْحَمْد لله كثيرا، سُبْحَانَ الله بكرَة وَأَصِيلا - (ثَلَاثًا) - أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم من نفخه ونفثه وهمزه» .
قَالَ عَمْرو: نفثه: الشّعْر، ونفخه: الْكبر، وهمزه: الموتة. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث عَمْرو بن مرّة، عَن رجل، عَن ابْن جُبَير، عَن أَبِيه قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول فِي التَّطَوُّع ... » وَذكر نَحوه، وَهَذِه طَريقَة أَحْمد كَمَا (قدمتها) وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه كَرِوَايَة أبي دَاوُد الأولَى سَوَاءً.
(وَرَوَاهُ) ابْن حبَان من طَرِيقين بِسَنَد أبي دَاوُد الأول:
أَحدهمَا: لَفظه فِيهِ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا دخل فى الصَّلَاة قَالَ: الله أكبر كَبِيرا وَالْحَمْد لله كثيرا - ثَلَاثًا - وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا - ثَلَاثًا - أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم من همزه ونفخه ونفثه» ثمَّ ذكر تَفْسِير ذَلِك عَن عَمْرو كَمَا تقدم.
الثَّانِي: عَن جُبَير قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا (افْتتح)(3/535)
الصَّلَاة قَالَ: (اللَّهُمَّ) إِنِّي أعوذ بك من الشَّيْطَان من همزه ونفخه ونفثه» ثمَّ ذكر تَفْسِير ذَلِك كَمَا فِي الَّذِي قبله. والموتة: تَعْنِي الْجُنُون. والنفث: كل مَا نفخ الرجل من فِيهِ من غير أَن يخرج رِيقه. وَالْكبر: التيه.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم بِسَنَد الْجَمَاعَة وَلَفظه: «إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا افْتتح الصَّلَاة قَالَ: الله أكبر كَبِيرا، وَالْحَمْد لله كثيرا، وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا - ثَلَاث مَرَّات - اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الشَّيْطَان الرَّجِيم من همزه ونفخه ونفثه» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَذكره ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» فِي تَرْجَمَة مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ من طَرِيق سمي فِيهِ ابْن جُبَير بِنَافِع.
قلت: وَقد أسلفنا ذَلِك عَن (رِوَايَة) أَحْمد.
وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» : حَدِيث جُبَير هَذَا اخْتلف فِي إِسْنَاده، فَرَوَاهُ شُعْبَة، عَن عَمْرو بن (مرّة) عَن عَاصِم الْعَنزي، عَن ابْن جُبَير (بن مطعم) عَن أَبِيه، وَرَوَاهُ (حُصَيْن) بن عبد الرَّحْمَن (عَن) عَمْرو بن مرّة، فَقَالَ: عَن عباد بن عَاصِم (عَن نَافِع بن جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه: وَعَاصِم الْعَنزي وَعباد بن عَاصِم) مَجْهُولَانِ لَا(3/536)
نَدْرِي من هما، وَلَا نعلم الصَّحِيح مَا رَوَى حُصَيْن أَو شُعْبَة.
قلت: عَاصِم الْعَنزي موثَّق، ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَذكر الحَدِيث وَالِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ عَن غير جُبَير بن مطعم «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يتَعَوَّذ قبل الْقِرَاءَة» .
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد ورد ذَلِك من عدَّة طرق:
إِحْدَاهَا: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة بِاللَّيْلِ كبر ثمَّ يَقُول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وتبارك اسْمك، وَتَعَالَى جدك، وَلَا إِلَه غَيْرك. ثمَّ يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله - ثَلَاثًا - ثمَّ يَقُول: الله أكبر (كَبِيرا) - ثَلَاثًا - ثمَّ يَقُول: أعوذ بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم من الشَّيْطَان الرَّجِيم من همزه ونفخه ونفثه» .
رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَرُبمَا يزِيد بَعضهم عَلَى بعض. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث أشهر حَدِيث فِي هَذَا الْبَاب، وَقد تكلم فِي إِسْنَاده، كَانَ يَحْيَى بن سعيد يتَكَلَّم فِي عَلّي بن عَلّي الرِّفَاعِي - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - وَقَالَ أَحْمد: هَذَا الحَدِيث لَا يَصح.
قلت: فَلم أخرجته فِي «مسندك» وشرطك فِيهِ الصِّحَّة كَمَا رَوَاهُ عَنْك(3/537)
(الْحَافِظ) أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ، وَقد سَأَلَك حَرْب الْكرْمَانِي عَن عَلّي بن عَلّي، فَقلت: لم يكن بِهِ بَأْس، وَسَيَأْتِي عَنهُ أَنه صَالح أَيْضا، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: النَّاس يَقُولُونَ: هُوَ عَن عَلّي بن عَلّي، عَن الْحسن. وَالوهم من جَعْفَر - يَعْنِي: ابْن سُلَيْمَان الضبعِي - الرَّاوِي عَن عَلّي (بن عَلّي) الرِّفَاعِي، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» وَأعله بقول أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ.
قلت: وَعلي هَذَا وَثَّقَهُ وَكِيع وَأَبُو نعيم وَابْن معِين وجماعات. قَالَ ابْن سعد [ثَنَا] الْفضل بن دُكَيْن وَعَفَّان قَالَا: كَانَ عَلّي بن عَلّي الرِّفَاعِي يشبه بِالنَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ (الإِمَام أَحْمد: هُوَ صَالح. قيل: كَانَ يشبه النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ) كَذَا يُقَال. وَقَالَ مُحَمَّد (بن عبد الله) بن عمار: كَانَ عَلّي بن عَلّي الرِّفَاعِي زَعَمُوا أَنه كَانَ يُصَلِّي كل يَوْم سِتّمائَة رَكْعَة، وَكَانَ تشبه عينه - بِعَين النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَكَانَ رجلا عابدًا (ثِقَة) وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِهِ بَأْس، لَا يحْتَج بحَديثه. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» : أما مَا يفْتَتح بِهِ الْعَامَّة صلَاتهم بخراسان من قَوْلهم: سُبْحَانَكَ الله وَبِحَمْدِك، تبَارك اسْمك، وَتَعَالَى جدك، وَلَا إِلَه غَيْرك) فَلَا نعلم فِي هَذَا خَبرا ثَابتا عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ، وَأحسن إِسْنَاد نعلمهُ رُوِيَ فِي هَذَا خبر أبي المتَوَكل، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ ... فَذكره كَمَا تقدم عَن أَصْحَاب السّنَن وَغَيرهم. ثمَّ قَالَ: هَذَا الْخَبَر لم نسْمع فِي الدُّنْيَا عَالما فِي قديم الدَّهْر وَحَدِيثه اسْتَعْملهُ عَلَى وَجهه، وَلَا سمعنَا عَالما وَلَا حُكيَ لنا(3/538)
عَمَّن شَاهد من الْعلمَاء أَنه كَانَ يكبر لافتتاح الصَّلَاة ثَلَاثًا ثمَّ يَقُول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ... إِلَى قَوْله [و] لَا إِلَه غَيْرك ثَلَاثًا، ثمَّ يهلل ثَلَاثًا، ثمَّ يكبر ثَلَاثًا.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن ابْن مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الشَّيْطَان الرَّجِيم وهمزه ونفخه ونفثه. قَالَ: همزه: الموتة، ونفخه: الشّعْر، ونفثه: الْكبر» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» هَكَذَا من حَدِيث ابْن فُضَيْل، نَا عَطاء بن السَّائب، عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، عَن ابْن مَسْعُود (بِهِ) وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا دخل فِي الصَّلَاة يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الشَّيْطَان الرَّجِيم ونفخه وهمزه ونفثه. قَالَ: فهمزه: الموتة، ونفخه: الشّعْر، ونفثه: الْكبر» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَقد اسْتشْهد البُخَارِيّ بعطاء بن السَّائِب. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (أَيْضا) بِلَفْظ: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا دخل فِي الصَّلَاة ... » الحَدِيث. قَالَ عَطاء: فهمزه الموتة. وَذكر بَاقِيه.
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك ... » إِلَى آخِره.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة كبر ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله ثَلَاث مَرَّات(3/539)
(سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ ثَلَاث مَرَّات) وقَالَ: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم من همزه ونفخه ونفثه» .
رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد من حَدِيث يعْلى بن عَطاء، عَن رجل أَنه سمع أَبَا أُمَامَة يَقُول ... فَذكره.
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن شيخ من أهل دمشق أَنه سمع أَبَا أُمَامَة ... فَذكره.
قَالَ الرَّافِعِيّ و (قد) ورد الْخَبَر بِأَن صِيغَة التَّعَوُّذ: «أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم» .
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد أسلفنا ذَلِك مَعَ غَيره أَيْضا، ثمَّ ادَّعَى الرَّافِعِيّ أَنه اشْتهر من فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - التَّعَوُّذ فِي الرَّكْعَة الأولَى، وَلم يشْتَهر فِي سَائِر الرَّكْعَات.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْعشْرين
عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا صَلَاة (لمن) لم يقْرَأ (فِيهَا) بِفَاتِحَة الْكتاب» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى (صِحَّته) أَخْرجَاهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا»(3/540)
من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا اللَّفْظ، وَفِي رِوَايَة لَهما: «بِأم الْقُرْآن» وَفِي رِوَايَة لمُسلم مُنْفَردا بهَا (فَصَاعِدا) . قَالَ البُخَارِيّ فِي كِتَابه «وجوب الْقِرَاءَة خلف الإِمَام» : لم يُتَابع معمرًا عَلَيْهَا، وَهِي غير مَعْرُوفَة. قَالَ: وَيُقَال إِن عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق تَابعه، وَأَن عبد الرَّحْمَن رُبمَا رَوَى عَن الزُّهْرِيّ وَأدْخل بَينه وَبَين الزُّهْرِيّ غَيره، وَلَا نعلم أَن هَذَا من صَحِيح حَدِيثه أم لَا.
وَفِي رِوَايَة للدارقطني: بِإِسْنَاد لَا شكّ وَلَا مرية فِي صِحَّته: «لَا تُجزئ صَلَاة لَا يقْرَأ الرجل فِيهَا بِأم الْقُرْآن» .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده حسن، وَرِجَاله كلهم ثِقَات. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: صَحِيح.
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِهَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَإِن تفرد بِهَذِهِ اللَّفْظَة شُعْبَة ثمَّ عَنهُ وهب بن جرير فَزِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة لما عرف.
وَفِي «صَحِيح الْحَاكِم» و «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» من حَدِيث أَشهب(3/541)
بن عبد الْعَزِيز، نَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن ابْن شهَاب، عَن مَحْمُود بن الرّبيع، عَن عبَادَة بن الصَّامِت، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أم الْقُرْآن عوض من غَيرهَا، وَلَيْسَ غَيرهَا مِنْهَا بعوض» ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: قد اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاج هَذَا الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ من أوجه مُخْتَلفَة بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ، ورواة هَذَا الحَدِيث أَكْثَرهم أَئِمَّة وَكلهمْ ثِقَات عَلَى شَرطهمَا. قَالَ: وَلِهَذَا الحَدِيث (شَوَاهِد) بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة لم يخرجَاهُ وأسانيدها مُسْتَقِيمَة. ثمَّ ذكرهَا (بأسانيده) .
الحَدِيث الرَّابِع بعد الْعشْرين
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - انْصَرف من صَلَاة جهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: هَل قَرَأَ معي أحد (مِنْكُم) فَقَالَ رجل: نعم يَا رَسُول الله. فَقَالَ: مَا لي أنازع (الْقُرْآن) ؟ ! فَانْتَهَى النَّاس عَن الْقِرَاءَة فِيمَا يجْهر فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَئِمَّة: الشَّافِعِي وَمَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَأحمد فِي «الْمسند» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ(3/542)
وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم (بن حبَان) فِي صَحِيحه من حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن ابْن أكيمَة - بِضَم الْألف وَفتح الْكَاف - عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ الحميديُّ - شيخ البُخَارِيّ -: هَذَا الحَدِيث فِيهِ رجل مَجْهُول لم يرو عَنهُ (غَيره) قطّ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : تفرد بِهِ ابْن أكيمَة، وَهُوَ مَجْهُول، لم يحدث إِلَّا بِهَذَا الحَدِيث وَحده (وَلم يحدث عَنهُ غير الزُّهْرِيّ) وَلم يكن عِنْد الزُّهْرِيّ من مَعْرفَته أَكثر من أَن رَآهُ يحدث سعيد بن الْمسيب. ثمَّ نقل كَلَام الْحميدِي السالف.
وَكَذَا قَالَ فِي (مَعْرفَته) : إِن هَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ ابْن أكيمَة، وَهُوَ مَجْهُول.
قَالَ: وَاخْتلفُوا فِي اسْمه؛ فَقيل: عمَارَة، وَقيل: عمار، وَكَذَا نصَّ فِي «خلافياته» عَلَى أَنه مَجْهُول.
وَاعْترض الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين عَلَيْهِ فِي ذَلِك فَقَالَ فِي «أَحْكَامه» : قَول الْبَيْهَقِيّ: إِن ابْن أكيمَة رجل مَجْهُول، وَلم يحدث إِلَّا بِهَذَا(3/543)
الحَدِيث وَحده، وَأَنه لم يحدث عَنهُ غير الزُّهْرِيّ. لَيْسَ كَذَلِك؛ فقد قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: صَحِيح الحَدِيث وَحَدِيثه مَقْبُول.
قَالَ: وَحكي عَن أبي حَاتِم البستي أَنه قَالَ: رَوَى عَنهُ الزُّهْرِيّ، وَسَعِيد بن أبي هِلَال وَابْن (ابْنه) عَمْرو بن مُسلم بن عمار بن أكيمَة بن عَمْرو.
قلت: (و) هُوَ كَمَا قَالَ من عدم جهالته، وَعدم تفرد الزُّهْرِيّ عَنهُ.
قَالَ ابْن معِين: رَوَى عَنهُ مُحَمَّد بن عَمْرو وَغَيره. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ: هُوَ (خولاني) يروي عَن أبي هُرَيْرَة واسْمه: عَمْرو بن مُسلم بن عمار بن أكيمَة رَوَى عَنهُ الزُّهْرِيّ، وَأَخُوهُ عمر بن مُسلم بن (عمار) يروي عَن سعيد بن الْمسيب، (وَسَعِيد بن أبي هِلَال، وَمُحَمّد بن عَمْرو بن عَلْقَمَة رَوَى عَنهُ مَالك وَقَالَ: عَمْرو بن مُسلم إِنَّمَا هُوَ عمر بن مُسلم لَا عَمْرو. لِأَن مَالِكًا لم [يدْرك] عَمرًا) وَقَالَ فِي «صَحِيحه» بعد إِخْرَاجه هَذَا الحَدِيث: اسْم ابْن أكيمَة هَذَا. عَمْرو بن مُسلم (بن عمار بن أكيمَة، وهما أَخَوان عَمْرو بن مُسلم وَعمر بن مُسلم) فَأَما عَمْرو فَهُوَ تَابِعِيّ سمع أَبَا هُرَيْرَة: وَسمع عَنهُ(3/544)
الزُّهْرِيّ، وَأما عمر فَهُوَ من أَتبَاع التَّابِعين سمع سعيد بن الْمسيب. وَرَوَى (عَنهُ) مَالك وَمُحَمّد بن عَمْرو (وهما ثقتان) .
وَفِي «التَّمْهِيد» كَانَ ابْن أكيمَة يحدث فِي مجْلِس سعيد بن الْمسيب وَهُوَ (يصغى) إِلَى حَدِيثه، وبحديثه [أَخذ] وَذَلِكَ دَلِيل عَلَى جلالته عِنْدهم وثقته.
قلت: فقد زالتْ (عَنهُ) الْجَهَالَة العينية والحالية بِرِوَايَة جمَاعَة عَنهُ وتوثيق أبي حَاتِم بن حبَان إِيَّاه، وَإِخْرَاج الحَدِيث فِي «صَحِيحه» من جِهَته، وَتَصْحِيح أبي حَاتِم (الرَّازِيّ) حَدِيثه وَأَنه مَقْبُول، وتحسين التِّرْمِذِيّ لَهُ، وسكوت أبي دَاوُد عَنهُ فَهُوَ حسن كَمَا قَالَه التِّرْمِذِيّ، بل (هُوَ) صَحِيح كَمَا قَالَه ابْن حبَان، وَتفرد ابْن أكيمَة بِهِ لَا يُخرجهُ عَن كَونه (صَحِيحا) لما علم من أَنه لَا يضر تفرد الثِّقَة بِالْحَدِيثِ، كَيفَ وَقد أخرجه إِمَام دَار الْهِجْرَة فِي (موطئِهِ) مَعَ مَا علم من تشديده وتحرِّيه فِي الرِّجَال، وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد: (مَالك إِذا رَوَى) عَن رجل لَا يعرف فَهُوَ حجَّة. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كَانَ مَالك (لَا يبلغ) من الحَدِيث إِلَّا صَحِيحا و (لَا يحدث) إِلَّا عَن (ثِقَات) .(3/545)
وروينا عَن بشر بن عمر الزهْرَانِي قَالَ: سَأَلت مَالِكًا عَن رجل قَالَ: هَل رَأَيْته فِي كتبي؟ قلت: لَا، قَالَ: لَو كَانَ ثِقَة لرأيته فِي كتبي. فَهَذَا تَصْرِيح من هَذَا الإِمَام (بِأَن) كل من رَوَى عَنهُ فِي موطئِهِ يكون ثِقَة.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: تبع الْمُنْذِرِيّ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث المهذَّب» الْبَيْهَقِيّ فِي مقَالَته السَّالفة، وَقد علمت مَا فِيهَا، وَبَالغ النَّوَوِيّ فِي «خلاصته» فَقَالَ: اتَّفقُوا عَلَى ضعف هَذَا الحَدِيث؛ لِأَن ابْن أكيمَة مَجْهُول. قَالَ: وَأنكر الْأَئِمَّة عَلَى التِّرْمِذِيّ تحسينه. هَذَا كَلَامه؛ وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ.
ثَانِيهَا: تحصلنا فِيمَا مَضَى فِي اسْم (ابْن) أكيمَة عَلَى أَقْوَال: أَحدهَا: عمَارَة. وَثَانِيها: عمار. وَثَالِثهَا: عمر. وَقد ذكر الأول التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» مقدما الأول، وَفِيه أَقْوَال أخر: أَحدهَا: عَامر. ثَانِيهَا: يزِيد. ثَالِثهَا: عباد. حكاهن الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِيه» وَقَالَ: وكنيته: أَبُو الْوَلِيد. رَابِعهَا: عمر، حَكَاهُ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» وَقد سلف أَيْضا.
ثَالِثهَا: قَوْله: «فَانْتَهَى النَّاس عَن الْقِرَاءَة ... » إِلَى آخِره، لَيْسَ من كَلَام سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَإِنَّمَا هُوَ من كَلَام (الزُّهْرِيّ) مدرج فِي الحَدِيث؛ لذَلِك أطبق الْحفاظ عَلَيْهِ كَمَا بَينه الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه «الْفَصْل للوصل المدرج فِي النَّقْل» قَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» :(3/546)
سَمِعت مُحَمَّد بن يَحْيَى بن فَارس يَقُول: قَوْله: «فَانْتَهَى النَّاس» من كَلَام الزُّهْرِيّ.
(قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَكَذَا قَالَه البُخَارِيّ فِي «التَّارِيخ» قَالَ: هَذَا الْكَلَام من قَول الزُّهْرِيّ) وَكَذَا قَالَه مُحَمَّد بن يَحْيَى الذهلي شيخ البُخَارِيّ وَإِمَام أهل نيسابور، والخطابي، وَابْن حبَان وَغَيرهم.
وَاتفقَ هَؤُلَاءِ كلهم عَلَى أَن هَذِه اللَّفْظَة مدرجة فِي الحَدِيث من كَلَام الزُّهْرِيّ وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بَينهم.
رَابِعهَا: رَوَى أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابيه: «السّنَن» و «الْمعرفَة» من رِوَايَة عبد الله ابْن بُحَيْنَة بِنَحْوِ رِوَايَة ابْن أكيمَة عَن أبي هُرَيْرَة ثمَّ رَوَى عَن الْحَافِظ يَعْقُوب بن سُفْيَان أَنه قَالَ: هَذَا خطأ لَا شكّ فِيهِ وَلَا ارتياب (وَالله الْمُوفق) .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين
عَن عبَادَة بن الصَّامت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كُنَّا خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فِي صَلَاة الْفجْر) فَثقلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَة، فَلَمَّا فرغ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تقرءون خَلْفي؟ قُلْنَا: نعم. قَالَ: لَا تَفعلُوا إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب؛ فَإِنَّهُ لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بهَا» .
هَذَا الحَدِيث جَيِّد رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أحمدُ فِي «مُسْنده» ، والبخاريُّ(3/547)
فِي كتاب «الْقِرَاءَة خلف الإِمَام» محتجًّا بِهِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» و «الْمعرفَة» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده حسن، وَرِجَاله ثِقَات. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِسْنَاده جيد لَا مطْعن فِيهِ. وَقَالَ الْحَاكِم: إِسْنَاده مُسْتَقِيم. فَإِن قلت فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَقد قَالَ عَن مَكْحُول وَابْن إِسْحَاق: مُدَلّس كَمَا (أسلفناه) فَكيف يكون حسنا؟ ! فَالْجَوَاب أَن الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن حبَان رووا بأسانيدهم عَن ابْن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنِي مَكْحُول ... الحَدِيث. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ (فِي سنَنه) : هَذَا الْإِسْنَاد حسن. فَزَالَ ذَلِك - وَللَّه الْحَمد (و) فِي بعض رِوَايَات الْبَيْهَقِيّ: «صَلَّى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -(3/548)
بعض الصَّلَاة الَّتِي يجْهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: لَا يقْرَأن أحد مِنْكُم إِذا جهرت بِالْقِرَاءَةِ إِلَّا بِأم الْقُرْآن» قَالَ الْبَيْهَقِيّ (عقب) هَذِه الرِّوَايَة: والْحَدِيث صَحِيح عَن عبَادَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (و) لَهُ شَوَاهِد ذكرهَا.
وَفِي رِوَايَة (لَهُ و) لأبي دَاوُد وَغَيرهمَا بعد قَوْله: «لَعَلَّكُمْ تقرءون خَلْفي؟ قُلْنَا: أجل يَا رَسُول الله نَفْعل هَذَا ... » وَفِي رِوَايَة للدَّار قطني: «نهذه هذًّا (و) ندرسه درسًا ... » - والهذُّ بتَشْديد الذَّال وتنوينها - قَالَ الخطَّابي وَغَيره: هُوَ سرعَة وَشدَّة الاستعجال فِي الْقِرَاءَة. وَقيل: المُرَاد بالهذ (هُنَا) : الْجَهْر، وَتَقْدِيره: نهذه هذًّا.
تَنْبِيه: طعن ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» فِي هَذَا الحَدِيث بِابْن إِسْحَاق، وَلَيْسَ بجيد مِنْهُ فَإِنَّهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث كَمَا أسلفناه، وَقد احْتج بِهِ هُوَ فِي (مَوَاضِع أخر) ؛ ثمَّ طعن فِيهِ أَيْضا بِأَن قَالَ: مَكْحُول ضَعِيف. وَلَيْسَ بجيد أَيْضا؛ فَإِنَّهُ ثِقَة، رَوَى لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» و «الْأَرْبَعَة» وَإِن ضعفه ابْن سعد؛ وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» لأجل ذَلِك فَقَالَ: ذكر مُحَمَّد بن سعد عَن جمَاعَة من الْعلمَاء أَنهم قَالُوا: كَانَ ضَعِيفا فِي الرِّوَايَة. وَمَا ذكره ابْن سعد معَارض(3/549)
بِأَن جمَاعَة وثَّقوه، وَهُوَ من رجال الصَّحِيح كَمَا قَرَّرْنَاهُ، ثمَّ ذكره ابْن الْجَوْزِيّ بِسَنَد آخر، وَأعله بزيد بن وَاقد وَقَالَ: قَالَ فِيهِ أَبُو زرْعَة (الرَّازِيّ) : إِنَّه لَيْسَ بِشَيْء. ثمَّ قَالَ: عَلَى أَنه وَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَهَذَا وهم مِنْهُ؛ فزيد هَذَا صَاحب مَكْحُول، وَثَّقَهُ الإِمَام أَحْمد وَيَحْيَى بن معِين ودحيم وَالْعجلِي وَابْن حبَان، وَرَوَى لَهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ومقالة أبي زرْعَة إِنَّمَا هِيَ فِي (زيد) بن وَاقد (السَّمْتِي) الْبَصْرِيّ، نزيل الرّيّ. وَوهم أَيْضا فِي نَقله عَن الدَّارَقُطْنِيّ تَوْثِيق هَذَا؛ إِنَّمَا وثق (الشَّامي) وَأما هَذَا فوثقه أَبُو حَاتِم؛ فَتنبه لذَلِك.
الحَدِيث السَّادِس بعد الْعشْرين
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نَقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب فِي كل رَكْعَة» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب بِهَذَا اللَّفْظ، لَا يحضرني من خرَّجه بعد شدَّة الْبَحْث عَنهُ، وَعَزاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» إِلَى رِوَايَة أَصْحَابهم الْفُقَهَاء فَقَالَ: رَوَى أَصْحَابنَا من حَدِيث عبَادَة وَأبي سعيد قَالَا: «أمرنَا(3/550)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نَقْرَأ الْفَاتِحَة فِي كل رَكْعَة» قَالَ: وَرووا أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ (الْفَاتِحَة) فِي كل رَكْعَة» قَالَ: وَمَا عرفت هذَيْن الْحَدِيثين.
قلت: (وعزاهما) بعض الْحفاظ من الْحَنَابِلَة مُحَرر هَذَا الْكتاب إِلَى رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن (سعيد) الشالنجي قَالَ: وَالْآخر رُوِيَ من حَدِيث أبي سعيد.
قلت: وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث أبي سُفْيَان السَّعْدِيّ، عَن أبي نَضرة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ فِي كل رَكْعَة بِالْحَمْد وَسورَة فِي فَرِيضَة أَو غَيرهَا» .
وَإِسْنَاده ضَعِيف، فِيهِ سُوَيْد بن سعيد الحَدَثَاني، وَأَبُو سُفْيَان السَّعْدِيّ وهما مَتْرُوكَانِ (وعيب) عَلَى مُسلم إِخْرَاج حَدِيث الأول، وَرَوَى أَبُو يعْلى الْموصِلِي، عَن زُهَيْر، نَا عبد الصَّمد، نَا همام، نَا قَتَادَة، عَن أبي نَضرة، عَن أبي سعيد: «أمرنَا (نَبِي الله) (أَن نَقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب وَمَا تيَسّر» .
وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد، عَن عبد الصَّمد، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن(3/551)
عَفَّان، عَن همام، (وَعنهُ «بِفَاتِحَة الْكتاب» ) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، عَن همام. وَكَذَا رَوَاهُ عبد بن حميد فِي «مُسْنده» (وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن أبي يعْلى الْموصِلِي، وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ: يرويهِ قَتَادَة وَأَبُو سُفْيَان السَّعْدِيّ عَن أبي نَضرة مَرْفُوعا [وَوَقفه أَبُو مسلمة] عَن أبي نَضرة، كَذَلِك قَالَ أَصْحَاب شُعْبَة عَنهُ) وَرَوَاهُ (زنبقة) ، عَن عُثْمَان [بن] عمر، عَن شُعْبَة، عَن أبي (مسلمة) مَرْفُوعا، وَلَا يَصح رَفعه عَن شُعْبَة.
قلت: ويغني فِي الدّلَالَة عَلَى قِرَاءَة (الْفَاتِحَة) فِي كلِّ رَكْعَة عَن هَذِه الْأَحَادِيث الحديثُ الثَّابِت فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» عَن مَالك(3/552)
بن الْحُوَيْرِث، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقد ثَبت أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب فِي كل الرَّكْعَات، وَقد جَاءَ ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث؛ مِنْهَا حَدِيث أبي قَتَادَة الثَّابت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» : «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ فِي الظّهْر وَالْعصر فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين بِفَاتِحَة الْكتاب (وسورتين، ويسمعنا الْآيَة أَحْيَانًا، وَيقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأم الْكتاب) » .
ويستدل لذَلِك أَيْضا بِحَدِيث (النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) للمسيء صلَاته؛ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام علَّمه وَاجِبَات الصَّلَاة، فَقَالَ لَهُ: «إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَكبر، ثمَّ اقْرَأ مَا تيَسّر مَعَك من الْقُرْآن ... » إِلَى أَن قَالَ: «ثمَّ افْعَل ذَلِك فِي صَلَاتك كلهَا» .
متَّفق عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة للبيهقي بِإِسْنَاد صَحِيح: «ثمَّ افْعَل (ذَلِك فِي كل رَكْعَة)) وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَابْن حبَان «ثمَّ اقْرَأ بِأم الْقُرْآن ... » إِلَى أَن قَالَ: «ثمَّ اصْنَع ذَلِك فِي كل رَكْعَة» وَهَذِه رِوَايَة جليلة؛ فاستفدها.(3/553)
الحَدِيث السابعُ بعد الْعشْرين
«أَنه صلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فَاتِحَة الْكتاب، فَقَرَأَ: (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (وعدها آيَة» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الشَّافِعِي فِي «الْمُخْتَصر» هَكَذَا بِغَيْر إِسْنَاد، وأسنده الْبُوَيْطِيّ فَقَالَ: أَخْبرنِي غير وَاحِد، عَن حَفْص بن غياث، عَن ابْن جريج، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن أم سَلمَة: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا قَرَأَ أم الْقُرْآن بَدَأَ ب (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (، يعدها آيَة، ثمَّ قَرَأَ (الْحَمد لله ربّ الْعَالمين (يعدها سِتّ آيَات» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا، ثَنَا عباد بن يَعْقُوب، نَا عمر بن هَارُون. ح ونا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز، نَا إِبْرَاهِيم بن هَانِئ، نَا مُحَمَّد بن سعيد بن الْأَصْبَهَانِيّ، نَا عمر بن هَارُون الْبَلْخِي، عَن ابْن جريج، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن أم سَلمَة: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقْرَأ (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم * الْحَمد لله رب الْعَالمين * الرَّحْمَن الرَّحِيم * مَالك يَوْم الدَّين * إياك نعْبد وإيَّاك نستعين * اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم * صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين) قطعهَا آيَة آيَة، وعدها عد الْأَعْرَاب، وعد (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (آيَة، وَلم يعد: عَلَيْهِم» .(3/554)
وَهَذَا حَدِيث سَائِر رُوَاته (ثِقَات) ، الْبَغَوِيّ مَعْرُوف، وَابْن هَانِئ. قَالَ ابْن أبي حَاتِم: ثِقَة صَدُوق. وَابْن الْأَصْبَهَانِيّ رَوَى عَنهُ البُخَارِيّ. وَعمر بن هَارُون (وثق وَترك، قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي بَاب الْأَخْذ من اللِّحْيَة: سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل يَقُول: عمر بن هَارُون) مقارب الحَدِيث وَبَاقِي الْإِسْنَاد لَا يسْأَل عَنهُ. وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ: إِسْنَاده كلهم ثِقَات، وَهُوَ إِسْنَاد صَحِيح.
قلت: وَأخرجه ابنُ خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من هَذَا الْوَجْه أَيْضا، رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة عَن أبي بكر بن إِسْحَاق الصغاني، نَا خَالِد بن خِدَاش، نَا عمر بن هَارُون. وَرَوَاهُ الْحَاكِم عَن الْأَصَم، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصغاني، قَالَ: وَأَخْبرنِي أَبُو مُحَمَّد بن زِيَاد الْعدْل، نَا ابْن خُزَيْمَة، ثَنَا أَبُو بكر بن إِسْحَاق الصغاني، نَا خَالِد بن خِدَاش، ثَنَا عمر بن هَارُون عَن ابْن جريج، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن أم سَلمَة: «أَنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَرَأَ فِي الصَّلَاة (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (- يعدها آيَة - (الْحَمد لله رب الْعَالمين (آيَتَيْنِ (الرَّحْمَن الرَّحِيم (ثَلَاث آيَات (مَالك يَوْم الدَّين ((3/555)
أَربع آيَات، وَقَالَ: هَكَذَا (إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين (وَجمع خمس أَصَابِعه» .
قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْمَقْدِسِي - الْمَعْرُوف بِأبي (شامة) -: لما وقف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى هَذِه المقاطع أخبر عَنهُ (أَنه) عد كل مقطع آيَة، وَأما الَّذِي عد أَصَابِعه فَهُوَ بعض الروَاة حِين حدث بِهَذَا الحَدِيث فعل ذَلِك زِيَادَة فِي الْبَيَان قَالَ: وَفِي عمر بن هَارُون هَذَا كَلَام لبَعض الْحفاظ، إِلَّا أَن حَدِيثه أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» وَقَالَ الْحَاكِم: (عمر) بن هَارُون أصل فِي السّنة، وَلم يخرجَاهُ.
قلت: وَلم يتفرد بِهِ؛ بل تَابعه حَفْص بن غياث كَمَا أسلفناه عَن رِوَايَة الْبُوَيْطِيّ، وَكَذَا قَالَ ابْن الصّلاح: أخرج هَذَا الحَدِيث ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» وَاحْتج بِهِ فِي الْمَسْأَلَة، وَإِن كَانَ (عمر) بن هَارُون لَيْسَ بِالْقَوِيّ؛ فقد تَابعه عَلَيْهِ غَيره. ثمَّ ذكر رِوَايَة الْبُوَيْطِيّ. قَالَ الْحَاكِم: هَذَا شَاهد للْحَدِيث الصَّحِيح عَلَى شَرطهمَا، عَن أم سَلمَة قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ: (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم * الْحَمد لله رب الْعَالمين (يقطعهما حرفا حرفا» وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا - أَعنِي: الْحَاكِم - عَن أم سَلمَة قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يقطع قِرَاءَته) (بِسم الله(3/556)
الرَّحْمَن الرَّحِيم * الْحَمد لله رب الْعَالمين * الرَّحْمَن الرَّحِيم * مَالك يَوْم الدَّين» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : إِسْنَاده صَحِيح وَرُوَاته ثِقَات. وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم أَيْضا فِي أَوَائِل بَاب (قراءات) رَسُول «عَن أم سَلمَة) أَيْضا «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يقطع قِرَاءَته آيَة آيَة آيَة (الْحَمد لله رب الْعَالمين «ثمَّ يقف) (الرَّحْمَن الرَّحِيم (ثمَّ يقف» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وأعل الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث بالانقطاع؛ فَقَالَ فِي كِتَابه «الرَّد عَلَى الْكَرَابِيسِي» : لم يسمع ابْن أبي مليكَة هَذَا الحَدِيث من أم سَلمَة، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا أسْندهُ من حَدِيث اللَّيْث، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن يعْلى بن (مملك) «أَنه سَأَلَ أم سَلمَة عَن قِرَاءَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فنعتت لَهُ قِرَاءَة مفسرة حرفا حرفا» وَهَذَا لَا يدل لمدعاة؛ إِذْ يحْتَمل أَن يكون عِنْد ابْن أبي مليكَة (لَهُ) طَرِيقَانِ، وَيُقَوِّي هَذَا تَصْحِيح من مَضَى لَهُ من طَرِيقه عَن أم سَلمَة، وَقد ذكر التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكره الطَّحَاوِيّ فِي أَبْوَاب الْقِرَاءَة، وَقَالَ فِيهِ: (غَرِيب حسن صَحِيح) قَالَ: وَقد رَوَى ابْن جريج هَذَا(3/557)
الحَدِيث، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن أم سَلمَة، وَالْأول أصح، وَهَذَا من التِّرْمِذِيّ نقيض لصِحَّة الأول أَيْضا.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الْعشْرين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا قَرَأْتُمْ فَاتِحَة الْكتاب فاقرءوا: (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (؛ فَإِنَّهَا أم الْقُرْآن والسبع المثاني، و (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (إِحْدَى آياتها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن يَحْيَى بن مُحَمَّد بن صاعد، وَمُحَمّد بن أبي مخلد قَالَا: نَا جَعْفَر بن مكرم، نَا أَبُو بكر الْحَنَفِيّ، نَا عبد الحميد بن جَعْفَر، أَخْبرنِي نوح بن أبي بِلَال، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا قَرَأْتُمْ الْحَمد [لله] فاقرءوا: (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (إِنَّهَا أم الْقُرْآن وَأم الْكتاب والسبع المثاني و (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (إِحْدَى آياتها» .
قَالَ أَبُو بكر الْحَنَفِيّ: ثمَّ لقِيت (نوحًا) فَحَدثني عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة مثله (وَلم يرفعهُ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ) : ونا أَبُو طَالب الْحَافِظ، نَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن أبي مُزَاحم [ثَنَا جدي] ، نَا أَبُو أويس، عَن الْعَلَاء(3/558)
بن عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنه كَانَ إِذا قَرَأَ وَهُوَ يؤم النَّاس افْتتح ب (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: هِيَ آيَة من كتاب (الله) اقْرَءُوا إِن شِئْتُم فَاتِحَة الْكتاب؛ فَإِنَّهَا الْآيَة السَّابِعَة» وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ (إِذا) أم النَّاس قَرَأَ: (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (، لم يزدْ عَلَى هَذَا) يَعْنِي (رَاوِيه) .
قلت: وَسَائِر رُواة هَذَا الحَدِيث من جَمِيع طرقه ثِقَات، جَعْفَر بن (مكرم) قَالَ ابْن أبي حَاتِم: صَدُوق. وَأَبُو بكر الْحَنَفِيّ هُوَ عبد الْكَبِير بن عبد الْمجِيد ثِقَة من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَعبد الحميد بن جَعْفَر من رجال «مُسلم» ووثَّقه ابْن معِين وَابْن سعد. وَقَالَ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. ونوح بن أبي بِلَال وثَّقه أَحْمد وَيَحْيَى وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَقَالَ أَبُو زرْعَة وَالنَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ (والمقبري) من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» وَقَالَ أَحْمد: وَلَيْسَ بِهِ بَأْس. فَلم يبْق إلاَّ (تردد) نوح بن أبي بِلَال وَوَقفه إِيَّاه أخيرًا، لَكِن قد تقرر أَنه ثِقَة، والراوي الثِّقَة قد يُرْسل الحَدِيث وَقد ينشط فيرفعه.
(لَا جَرَمَ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ عقب الرِّوَايَة الأولَى: رجال إِسْنَاده(3/559)
كلهم ثِقَات. نَقله عَنهُ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَلم أره فِي «سنَنه» فِيمَا وقفت عَلَيْهِ من نسخه، وَلَعَلَّه قَالَهَا فِي (مُصَنفه) فِي الْجَهْر أَو (فِي) غَيره، وَأما رد ابْن الْقطَّان لَهُ بالتردد السالف (فَلم) يسلم لَهُ، وَكَذَا رد ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» لَهُ بِعَبْد الحميد، وَوَقع فِي «وسيط» الإِمَام الْغَزالِيّ أَن البُخَارِيّ رَوَى «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام عد (فَاتِحَة) الْكتاب سبع آيَات، وعد (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (آيَة مِنْهَا» وَهُوَ وهم مِنْهُ فَلَيْسَ ذَلِك فِي «صَحِيحه» وَلَا «تَارِيخه» وَتبع فِي ذَلِك شَيْخه الإِمَام؛ فَإِنَّهُ ذكره (كَذَلِك) فِي «نهايته» [وَلَعَلَّه] أَرَادَ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، فَسبق الْقَلَم إِلَى البُخَارِيّ.
الحَدِيث التَّاسِع بعد الْعشْرين
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يعرف فصل (السورتين) حَتَّى تنزل (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور: أَبُو دَاوُد فِي(3/560)
«سنَنه» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: هَذَا (حَدِيث) صَحِيح عَلَى شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ. وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا جَاءَهُ جِبْرِيل فَقَرَأَ: (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (علم أَنَّهَا سُورَة» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: فِيهِ نظر؛ فَإِن فِيهِ المثنَّى بن الصَّباح، وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ أَحْمد: لَا يُسَاوِي شَيْئا، هُوَ مُضْطَرب. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك (الحَدِيث) وَضَعفه يَحْيَى وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَفِي رِوَايَة (لَهُ) عَن ابْن عَبَّاس؛ قَالَ: «كَانَ الْمُسلمُونَ لَا يعلمُونَ انْقِضَاء (السُّورَة) حَتَّى تنزل: (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (؛ فَإِذا (نزلت) (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (، علمُوا أَن السُّورَة قد انْقَضتْ» (ثمَّ) قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرطهمَا، وَلم يخرجَاهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «سُورَة تشفع (لقائلها) ، وَهِي ثَلَاثُونَ آيَة (أَلا) وَهِي تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك» .(3/561)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: «تستغفر لصَاحِبهَا حَتَّى [يغْفر] (لَهُ) » . وَلَفظ أَحْمد: «إِن سُورَة من الْقُرْآن ثَلَاثُونَ آيَة شفعت لرجل حَتَّى غفر لَهُ، وَهِي (تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك) » .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَذكره البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه الْكَبِير» من رِوَايَة عَبَّاس الجُشَمي، عَن أبي هُرَيْرَة؛ كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد وَمن ذكر مَعَه، وَقَالَ: لم يذكر سَمَاعه من أبي هُرَيْرَة. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: يُرِيد أَنَّ (عبَّاسًا) الجُشَمي رَوَى هَذَا الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة، وَلم يذكر فِيهِ أَنه سَمعه مِنْهُ.
قلت: وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق آخر رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي « (أكبر معاجمه» ) من حَدِيث ثَابت عَن أنس بن مَالك قَالَ: قَالَ رسولُ الله(3/562)
(: «سُورَة من الْقُرْآن مَا هِيَ إِلَّا ثَلَاثُونَ آيَة (خَاصَمت) عَن صَاحبهَا حَتَّى أدخلته الْجنَّة، وَهِي سُورَة تبَارك» (ثمَّ) قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يروه عَن ثَابت الْبنانِيّ إِلَّا سَلام بن مِسْكين.
قلت: هُوَ أحد ثِقَات الْبَصرِيين، من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» لكنه يُرْمَى بِالْقدرِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ يذهب إِلَيْهِ.
الحَدِيث الْحَادِي و (الثَّانِي وَالثَّالِث بعد) الثَّلَاثِينَ
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: « (صليت خلف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) وَأبي بكر وَعمر، فَكَانُوا يجهرون بالبسملة» وَعَن عَلّي وَابْن عَبَّاس: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يجْهر بهَا فِي الصَّلَاة بَين السورتين» .
الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة مخرَّجة فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» .
أما الأول: وَهُوَ حَدِيث ابْن عمر فَرَوَاهُ عَن: عمر بن الْحسن بن عَلّي الشَّيْبَانِيّ، نَا جَعْفَر بن مُحَمَّد بن مَرْوَان، نَا أَبُو الطَّاهِر أَحْمد بن عِيسَى، نَا ابْن أبي فديك، عَن (ابْن) أبي ذِئْب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «صلَّيْتُ خلف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأبي بكر وَعمر؛ فَكَانُوا يجهرون بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم» .
عمر بن الْحسن شيخ الدَّارَقُطْنِيّ وثَّقه بَعضهم وَتكلم فِيهِ آخَرُونَ.(3/563)
وجعفر بن مُحَمَّد بن مَرْوَان قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يحتجُّ بحَديثه. وَأَبُو الطَّاهِر بن عِيسَى قَالَ ابْن أبي حَاتِم: هُوَ ابْن مُحَمَّد بن عمر بن [عَلّي بن] أبي طَالب الْعلوِي، رَوَى عَن ابْن أبي فديك، رَوَى عَنهُ أَبُو يُونُس الْمدنِي [قَالَ] الدَّارَقُطْنِيّ: كَذَّاب.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) مستشهدًا بِهِ عَن أبي بكر (البردعي) ، نَا أَبُو الْفضل الْعَبَّاس بن عمرَان القَاضِي، نَا أَبُو جَابر سيف (بن) عَمْرو، نَا مُحَمَّد بن أبي السّري، أَنا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، نَا مَالك، عَن [حميد] عَن أنس قَالَ: «صلَّيت خلف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَخلف أبي بكر وَخلف عمر وَخلف عُثْمَان [وَخلف عَلّي] فَكَانُوا كلهم يجهرون بِقِرَاءَة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم» .
وَأما الثَّانِي: وَهُوَ حَدِيث عَلّي فَرَوَاهُ أَيْضا - (أَعنِي) الدَّارَقُطْنِيّ - عَن أبي الْقَاسِم الْبَزَّاز، نَا الْقَاسِم بن الْحسن الزبيدِيّ، نَا أسيد بن [زيد] ، نَا عَمْرو بن شمر، عَن جَابر، عَن(3/564)
أبي الطُّفَيْل، عَن عَلّي وعمار: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يجْهر فِي المكتوبات بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم» .
عَمْرو هَذَا واه. ثمَّ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن [الحكم] بن ظهير، نَا مُحَمَّد بن حسان الْعَبْدي، عَن جَابر، عَن أبي الطُّفَيْل قَالَ: سَمِعت عَلّي بن أبي طَالب وَعمَّارًا يَقُولَانِ: «إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم» .
الحكم هَذَا قَالَ البُخَارِيّ: تَرَكُوهُ.
وَأما [الثَّالِث وَهُوَ] حَدِيث ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ أَيْضا [أَعنِي] الدَّارَقُطْنِيّ - كَمَا سَيَأْتِي - وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) بعد أَن بوَّب: مَا جَاءَ فِي الْجَهْر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من حَدِيث أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ، نَا الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان قَالَ: حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد، عَن أبي خَالِد، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يفْتَتح صلَاته بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ.(3/565)
قلت: أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ ثِقَة حُجَّة، احتجَّ بِهِ مُسلم، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ. والمعتمر بن سُلَيْمَان: لَا يسْأَل عَنهُ، احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَة. وَإِسْمَاعِيل بن حَمَّاد: صَدُوق وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه. نعم، قَالَ الْأَزْدِيّ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ. وَوهم ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» فَادَّعَى أَن (رَاوِيه) حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَقَالَ: كذبه ابْن معِين. وَإِنَّمَا هُوَ (إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان) كَمَا (علمت) وَقد صرح بذلك أَيْضا ابْن عدي فِي «كَامِله» ، والعقيلي فِي «ضُعَفَائِهِ» . وَبَقِي الشَّأن فِي أبي خَالِد هَذَا [فَقيل] : إِنَّه (الْوَالِبِي) الْكُوفِي، واسْمه هُرْمُز وَقيل: هرم. قَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح الحَدِيث، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي الكنى: سُئِلَ أَبُو زرْعَة عَنهُ فَقَالَ: لَا أَدْرِي من هُوَ لَا أعرفهُ. وَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي الْأَسْمَاء تَرْجَمَة أبي خَالِد الْوَالِبِي، وَسَماهُ هُرْمُز (وَقَالَ) الْعقيلِيّ فِي إِسْمَاعِيل: حَدِيثه غير مَحْفُوظ ويحكيه، عَن مَجْهُول، ثمَّ سَاق الحَدِيث. وَسَاقه ابْن عدي كَذَلِك، ثمَّ سَاقه من(3/566)
حَدِيث إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد، عَن عمرَان بن أبي خَالِد، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث لَا يرويهِ غير مُعْتَمر، وَهُوَ غير مَحْفُوظ، سَوَاء (قَالَ) عَن أبي خَالِد [أَو] عَن عمرَان (بن) أبي خَالِد جَمِيعًا [مَجْهُولَانِ] .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث أبي الصَّلْت الْهَرَوِيّ، عَن عباد بن الْعَوام، عَن شريك، وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن حسان، عَن شريك، عَن سَالم، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يجْهر فِي الصَّلَاة بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم» قَالَ الْحَاكِم: قد احْتج البُخَارِيّ بسالم هَذَا وَهُوَ ابْن عجلَان الْأَفْطَس. وَاحْتج مُسلم بِشريك. وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَلَيْسَ لَهُ عِلّة وَلم يخرجَاهُ.
قلت: هما مَعْذُوران فِي عدم تَخْرِيجه؛ فَإِن عبد الله الْمَذْكُور كذبه غير وَاحِد من الْأَئِمَّة، وَنسبه عَلّي بن الْمَدِينِيّ إِلَى الْوَضع، وَالْعجب كَيفَ خَفِي حَاله عَلَى هَذَا الْحَافِظ الْكَبِير. وَأَبُو الصَّلْت الَّذِي فِي سَنَد الدَّارَقُطْنِيّ مَتْرُوك، وَقد رَوَاهُ ابْن رَاهَوَيْه فِي «مُسْنده» عَن (يَحْيَى) بن آدم، أَنا شريك، عَن سَالم الْأَفْطَس، عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم يمدُّ بهَا صَوته» وَرَوَاهُ(3/567)
الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق مُعْتَمر أَيْضا كَمَا سلف، وَمن طَرِيق أَحْمد بن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حَمْزَة قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن أَبِيه قَالَ: «صَلَّى بِنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي الْمغرب، فجهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. قَالَ: فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: حَدثنِي أبي، عَن أَبِيه، عَن جدِّه، عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. قَالَ: قلت (فآثره) عَنْك؟ قَالَ: نعم» .
وَمن طَرِيق جَعْفَر بن عبسة بن عَمْرو الْكُوفِي، نَا عمر بن حَفْص الْمَكِّيّ، وَلَا يعرفان كَمَا قَالَه ابْن الْقطَّان. نعم الثَّانِي ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يزل يجْهر فِي السورتين بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم حَتَّى قبض» وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» وَقَبله أَبُو أُسَامَة الْمَقْدِسِي فِي مصنَّفه فِي الْجَهْر (بالبسملة) عَن الدَّارَقُطْنِيّ (أَنه) قَالَ فِي طَرِيق مُعْتَمر وَأحمد بن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن حَمْزَة: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح، لَيْسَ فِي رُوَاته مَجْرُوح. وَفِي الْبَاب أَحَادِيث صَحِيحه صَرِيحَة لَيْسَ لأحد فِيهَا مطْعن، قَالَ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد الْمَقْدِسِي فِي كِتَابه الْمَعْرُوف (فِي الْبَسْمَلَة) وَهُوَ كتاب نَفِيس جدًّا: اعْلَم أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْجَهْر كَثِيرَة مُتعَدِّدَة عَن(3/568)
جماعةٍ من الصَّحَابَة يرتقي عَددهمْ إِلَى أحد وَعشْرين صحابيًّا رووا ذَلِك عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مِنْهُم من صرح بذلك، وَمِنْهُم من فهم (من) عِبَارَته، وَلم يَرِدْ تصريحُ الْإِسْرَار بهَا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: عَن ابْن (مُغفل) وَهِي ضَعِيفَة، وَالثَّانيَِة: عَن أنس، وَهِي معللة (بِمَا أوجب) سُقُوط الِاحْتِجَاج بهَا.
وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بِحَدِيث: «قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ» وَلَا دَلِيل فِيهِ للإسرار.
وَأما أَحَادِيث الْجَهْر فالحجة قَائِمَة بِمَا شهد لَهُ بِالصِّحَّةِ مِنْهَا؛ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن سِتَّة من الصَّحَابَة: أبي هُرَيْرَة، وَأم سَلمَة، وَابْن عَبَّاس، وَأنس، وَعلي بن أبي طَالب، وَسمرَة بن جُنْدُب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. ثمَّ ذكر ذَلِك بِطرقِهِ وَقد كنتُ كتبتُ هُنَا مِنْهُ أوراقًا بِزِيَادَات عَلَيْهِ وأحلتُ فِي شرحي للمنهاج عَلَيْهِ، وَرَأَيْت الْآن (حذف) ذَلِك هُنَا مسارعة إِلَى إِكْمَال هَذِه المبيَّضة الثَّانِيَة فَإِنَّهُ أهم، وليراجع من أَرَادَ ذَلِك من الْكتاب الْمَذْكُور لأبي شامة الْحَافِظ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الحَدِيث الرَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يوالي فِي قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَقَالَ: صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
أما كَونه « (كَانَ يوالي فِي قِرَاءَة الْفَاتِحَة» فَهُوَ أشهر من أَن يذكر لَهُ دَلِيل، وأوضح من أَن يحْتَاج إِلَى برهَان وتعليل، وَأما قَوْله: «صلوا كَمَا(3/569)
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فسلف الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب الْأَذَان، وَذكر الرَّافِعِيّ هُنَا حَدِيث «لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب» . وَقد سلف الْكَلَام عَلَيْهِ، وَذكر أَيْضا أَنه ندب إِلَى أَن يُؤمن (الْمَأْمُون) مَعَ إِمَامه (وَأَنه) إِذا قَرَأَ آيَة رَحْمَة سَأَلَهَا الْمَأْمُوم، أَو آيَة عَذَاب استعاذ مِنْهُ، وَالْفَتْح عَلَى الإِمَام، وَالْحَمْد عِنْد العطاس مَنْدُوب إِلَيْهِ وَإِن كَانَ فِي الصَّلَاة، وَهَذَا لَا يلْزَمنِي تَخْرِيجه، وَفِيه أَحَادِيث منتشرة لَو تبرعت بذكرها [لطال] وَصَارَ (شرحًا) .
الحَدِيث الْخَامِس بعد الثَّلَاثِينَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا قَامَ أحدكُم إِلَى الصَّلَاة فَليَتَوَضَّأ كَمَا أمره الله - تَعَالَى - فَإِن كَانَ لَا يحسن شَيْئا من الْقُرْآن فليحمد الله (وليكبره) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث رِفَاعَة بن رَافع - كَمَا أسلفنا بِلَفْظِهِ فِي الحَدِيث السَّادِس من الْبَاب - وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث حسن. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد (أَيْضا) كَمَا أسلفناه هُنَاكَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» بِلَفْظ: «إِنَّهَا لَا تتمّ صَلَاة أحدكُم حَتَّى يسبغ الْوضُوء كَمَا أمره الله - تَعَالَى - يغسل وَجهه وَيَديه إِلَى الْمرْفقين، وَيمْسَح رَأسه(3/570)
وَرجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يكبر ويحمد الله ويمجده وَيقْرَأ من الْقُرْآن مَا أذن الله لَهُ فِيهِ، ثمَّ يكبر فيركع ... » الحَدِيث بِطُولِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم بعد أَن أَقَامَ يَحْيَى بن همام إِسْنَاده؛ فَإِنَّهُ حَافظ ثِقَة، وَلم يخرجَاهُ (بِهَذِهِ السِّيَاقَة، إِنَّمَا اتفقَا) مِنْهُ عَلَى حَدِيث المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة.
قَالَ: وَقد رَوَى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل هَذَا الحَدِيث فِي «تَارِيخه الْكَبِير» عَن حجاج بن منهال وَحكم لَهُ بحفظه، ثمَّ قَالَ: (لم يقمه) حَمَّاد بن سَلمَة. قَالَ الْحَاكِم: وَقد أَقَامَ هَذَا الْإِسْنَاد دَاوُد بن قيس الْفراء، وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن يسَار، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن أبي كثير، ثمَّ ذكر ذَلِك عَنْهُم بأسانيده (وَنَازع) الْبَيْهَقِيّ الْحَاكِم فِي قَوْله «إِنَّه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ» فَقَالَ فِي «خلافياته» : عَلّي بن يَحْيَى بن خَلاد الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده، (وَأَبوهُ) من شَرط البُخَارِيّ فَقَط.
(و) قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى (الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه) «معرفَة الصَّحَابَة» : اخْتلف فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث فَقَالَ عبد الله بن مُحَمَّد الزُّهْرِيّ: عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن ابْن عجلَان، عَن عَلّي بن يَحْيَى بن عبد الله بن خَلاد، عَن أَبِيه، عَن جده. وَقَالَ عبد الْجَبَّار: (عَن ابْن عُيَيْنَة) ،(3/571)
عَن ابْن عجلَان، عَن رجلٍ من الْأَنْصَار، عَن أَبِيه، عَن جده. قَالَ: والْحَدِيث مَشْهُور بِرِوَايَة ابْن رِفَاعَة.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: الصَّحِيح عَن عَلّي بن يَحْيَى بن خَلاد، عَن أَبِيه، عَن عَمه رِفَاعَة. وَكَذَا قَالَ أَبُو زرْعَة.
الحَدِيث السَّادِس بعد الثَّلَاثِينَ
«أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن آخذ من الْقُرْآن شَيْئا فعلِّمني مَا يجزئني فِي صَلَاتي. فَقَالَ: قل: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن أبي خَالِد الدالاني، عَن (إِبْرَاهِيم) السكْسكِي، عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن آخذ من الْقُرْآن شَيْئا، فعلمني مَا يجزئني مِنْهُ. قَالَ: قل: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. قَالَ: يَا رَسُول الله، هَذَا لله، فَمَا لي؟ قَالَ: قل: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَعَافنِي واهدني وارزقني. فَلَمَّا قَامَ قَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أما هَذَا فقد مَلأ يَدَيْهِ من الْخَيْر» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) كَذَلِك إِلَّا أَنه لم يقل (مِنْهُ) بعد «مَا(3/572)
يجزئني» ، وَزَاد: «اغْفِر لي» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث الفَضْل بن مُوسَى، نَا مسعر، عَن إِبْرَاهِيم السكْسكِي، عَن ابْن أبي أَوْفَى إِلَى قَوْله: «إِلَّا بِاللَّه» . وَقَالَ: «إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن آخذ شَيْئا من الْقُرْآن فعلمني شَيْئا يجزئني من الْقُرْآن» بدل مَا ذكره.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِهَذَا السَّنَد بِلَفْظ «ذكر أَنه لَا يَسْتَطِيع أَن يَأْخُذ شَيْئا من الْقُرْآن» . وَفِي لفظ «عَلمنِي شَيْئا يجزئني من الْقُرْآن فَإِنِّي لَا أَقرَأ. فَقَالَ: قل: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله (وَلَا إِلَه إِلَّا الله) وَالله أكبر، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه (الْعلي الْعَظِيم)) . ثمَّ ذكر الْبَاقِي بِنَحْوِ رِوَايَة أبي دَاوُد السالفة. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث أبي [خَالِد] الدالاني، عَن إِبْرَاهِيم - قَالَ: وَلَيْسَ (بالنخعي - عَن عبد الله) بن أبي أَوْفَى (أَن رجلا) جَاءَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن أتعلم الْقُرْآن فَمَا يجزئني فِي صَلَاتي؟ فَقَالَ: تَقول: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَالله أكبر، وَلَا إِلَه إِلَّا الله ... » . ثمَّ ذكر الحَدِيث كَمَا سَاقه أَبُو دَاوُد إِلَّا أَن فِيهِ بعد «فقد مَلأ يَدَيْهِ من الْخَيْر» : «وَقبض كفيه» . وَهَذِه مُطَابقَة لرِوَايَة الرَّافِعِيّ «مَا يجزئني فِي صَلَاتي ... » .(3/573)
ثمَّ رَوَاهُ أَيْضا من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة بِلَفْظ «فعلمني مَا يجزئني مِنْهُ قَالَ: قل: بِسم الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر. قَالَ: يَا رَسُول الله، هَذَا لله فَمَا لي ... » ثمَّ ذكر نَحوه.
وَرَوَاهُ ابْن الْجَارُود فِي (الْمُنْتَقَى) من حَدِيث سُفْيَان، عَن مسعر، عَن إِبْرَاهِيم السكْسكِي، عَن ابْن أبي أَوْفَى «أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، عَلمنِي شَيْئا يجزئني عَن الْقُرْآن قَالَ: قل: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر» . قَالَ سُفْيَان: زَاد يزِيد أَبُو خَالِد الوَاسِطِيّ «قَالَ الرجل: هَذَا لرَبي، فَمَا لي؟ قَالَ: قل: اللَّهُمَّ اغْفِر لي وارحمني واهدني وَعَافنِي. قَالَ الرجل: أَربع لرَبي وَأَرْبع لي» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث جَعْفَر بن عون وسُفْيَان، عَن مسعر، عَن إِبْرَاهِيم السكْسكِي، عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، عَلمنِي شَيْئا يجزئني من الْقُرْآن فَإِنِّي لَا أَقرَأ. قَالَ: قل: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه قَالَ: فضم عَلَيْهَا الرجل بِيَدِهِ وَقَالَ: (هَذَا لرَبي، فَمَا لي؟) قَالَ: قل: اللَّهُمَّ اغْفِر لي وارحمني واهدني وارزقني وَعَافنِي. قَالَ: فضم عَلَيْهَا بِيَدِهِ الْأُخْرَى وَقَامَ» . زَاد جَعْفَر بن عون فِي حَدِيثه: «قَالَ مسعر: كنت عِنْد إِبْرَاهِيم وَهُوَ يحدث بِهَذَا الحَدِيث (فاستثبته) من غَيره» .(3/574)
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَلم يخرجَاهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِبْرَاهِيم هَذَا من فرسَان البُخَارِيّ احْتج بِهِ فِي «صَحِيحه» وَإِن كَانَ الْحَاكِم ذكره فِي «مدخله» فِي بَاب من أخرج لَهُ البُخَارِيّ، وَذكر بِشَيْء (من) الْجرْح، ثمَّ غفل فَذكره فِي بَاب من اتفقَا عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن عدي: لم أجد لَهُ حَدِيثا مُنكر الْمَتْن وَهُوَ إِلَى الصدْق أقرب (مِنْهُ) إِلَى غَيره. وَلينه شُعْبَة وَالنَّسَائِيّ، وَضَعفه أَحْمد لكنه لم يُفَسر سَبَب ضعفه.
قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : ضعفه قوم فَلم يَأْتُوا بِحجَّة، وَهُوَ ثِقَة.
قلتُ: وصحَّحه مَعَ الْحَاكِم أَبُو حَاتِم (بن حبَان) فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» من حَدِيث مسعر، عَن إِبْرَاهِيم، عَن ابْن أبي أَوْفَى قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: إِني لَا أحسن من الْقُرْآن شَيْئا فعلمني شَيْئا يجزئني مِنْهُ. فَقَالَ: قل: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر. قَالَ: هَذَا لرَبي، فَمَا لي؟ قَالَ: قل: اللَّهُمَّ اغْفِر لي وارحمني وارزقني وَعَافنِي» ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث سُفْيَان (عَن مسعر بن كدام) ،(3/575)
وَيزِيد أَبُو خَالِد، عَن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل السكْسكِي، عَن ابْن أبي أَوْفَى «أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، علِّمني شَيْئا يجزئني عَن الْقُرْآن. قَالَ: قل: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر» . قَالَ سُفْيَان: أرَاهُ قَالَ: «وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه» .
قَالَ أَبُو حَاتِم: يزِيد أَبُو خَالِد هُوَ (ابْن) عبد الرَّحْمَن الدالاني أَبُو خَالِد.
قلت: وتابع الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي الْحَاكِم فِي كَونه عَلَى شَرط البُخَارِيّ، فَذكره فِي آخر «اقتراحه» فِي الْقسم الْخَامِس فِي ذكر أَحَادِيث رَوَاهَا قوم خرج عَنْهُم البُخَارِيّ فِي (الصَّحِيح) وَلم يخرج عَنْهُم مُسلم أَو خرج عَنْهُم مَعَ الاقتران بِالْغَيْر، وَأما قَول النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ د (س) من رِوَايَة إِبْرَاهِيم السكْسكِي وَهُوَ ضَعِيف، وإدخاله إِيَّاه فِي فصل الضَّعِيف من «خلاصته» فَلَيْسَ بجيد مِنْهُ. عَلَى أَن إِبْرَاهِيم هَذَا لم ينْفَرد بِهِ فقد رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من طَرِيق أُخْرَى بِدُونِهِ، عَن [الْحُسَيْن] بن إِسْحَاق الْأَصْبَهَانِيّ، نَا أَبُو أُميَّة، نَا الْفضل بن موفق، نَا مَالك بن مغول، عَن طَلْحَة بن مصرف، عَن ابْن أبي أَوْفَى قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي لَا(3/576)
أَسْتَطِيع [أَن] أتعلم الْقُرْآن، فعلمني مَا يجزئني من الْقُرْآن. قَالَ: قل: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه قَالَ: هَذَا لله، فَمَا لي؟ قَالَ: قل: رب اغْفِر لي وارحمني، واهدني، وَعَافنِي، وارزقني. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لقد مَلأ يَدَيْهِ خيرا» .
وَرَوَاهُ أَيْضا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، عَن أبي عوَانَة، عَن أبي أُميَّة بِهِ، لَكِن الْفضل بن الْمُوفق ضعفه أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَقَالَ: كَانَ شَيخا صَالحا، وَكَانَ يروي أَحَادِيث مَوْضُوعَة. وَأَبُو أُميَّة هُوَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم كَمَا وَقع فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ وَهُوَ حَافظ ثِقَة، لَكِن قَالَ الْحَاكِم: كثير الْوَهم.
الحَدِيث السَّابِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن وَائِل بن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «صليت خلف النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا قَالَ: (وَلَا الضَّالّين (قَالَ: آمين. وَمد بهَا صَوته» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن بنْدَار، نَا يَحْيَى بن سعيد وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي قَالَا: نَا سُفْيَان، عَن ابْن كهيل، عَن حُجرِ (بن) عَنْبَس، عَن وَائِل بن حجر قَالَ: «سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَرَأَ (غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين (فَقَالَ: آمين. وَمد بهَا صَوته» .(3/577)
وَهَذَا حَدِيث رُوَاته كلهم ثِقَات، حجر بن عَنْبَس كنيته: أَبُو العنبس، وَيُقَال: أَبُو السكن، كُوفِي أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَلم يسمع من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْئا، كَمَا نَقله ابْن أبي حَاتِم فِي (مراسيله) عَن أَبِيه.
وَفِي «مُعْجم الْبَغَوِيّ» : لَيْسَ لَهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غير «أَن الصّديق وَعمر خطبا فَاطِمَة فَقَالَ: (هِيَ) لَك يَا عَلّي» وَلَا أَحْسبهُ سَمعه من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَقَالَ الصغاني: فِي (صحبته) نظر. (و) قَالَ أَبُو حَاتِم: كَانَ يشرب الدَّم فِي الْجَاهِلِيَّة، وَشهد مَعَ عَلّي الْجمل وصفين.
قَالَ يَحْيَى بن معِين: هُوَ شيخ كُوفِي ثِقَة مَشْهُور. وَقَالَ الْخَطِيب: كَانَ ثِقَة، احْتج بحَديثه غير وَاحِد من الْأَئِمَّة. وَهَذَا يرد قَول ابْن الْقطَّان فِي «الْوَهم وَالْإِيهَام» أَنه مَسْتُور لَا يعرف لَهُ حَال. وَبَاقِي رُوَاته من فرسَان الصَّحِيح. لَا جرم أَن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح. كَمَا نَقله عَنهُ ابْن الْقطَّان فِي الْكتاب الْمَذْكُور، وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن.
وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «أَمَالِيهِ الشارحة لمفردات الْفَاتِحَة» : هَذَا حَدِيث حسن ثَابت.
قلت: وتصحف عَلَى ابْن حزم حجر بن عَنْبَس السالف بِحجر بن قيس (فَذكر الحَدِيث من جِهَته ثمَّ شرع ابْن عبد الْحق يرد عَلَى ابْن حزم [حَيْثُ] صَححهُ (قيس بن حجر) هَذَا مَجْهُول الْحَال.(3/578)
وَهَذَا عَجِيب مِنْهُمَا فالمذكور فِي هَذَا الحَدِيث (إِنَّمَا) هُوَ حجر بن عَنْبَس، وَحجر بن قيس لم يرو عَن وَائِل بن حجر، فَتنبه لذَلِك.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن مُحَمَّد بن كثير، أَنا سُفْيَان، عَن سَلمَة، عَن حجر أبي العنبس الْحَضْرَمِيّ، عَن وَائِل بن حجر قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قَرَأَ (وَلَا الضَّالّين (قَالَ: آمين. وَرفع بهَا صَوته» . وَهَذَا أَيْضا إِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات (أَئِمَّة) من فرسَان الصَّحِيح إِلَّا حجرا فَإِنَّهُ ثِقَة كَمَا أسلفته لَك.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من (طرق) عَن سُفْيَان، عَن سَلمَة، عَن حجر، عَن وَائِل بِلَفْظ «سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قَرَأَ (غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين (قَالَ: آمين (يمد) بهَا صَوته» .
وبلفظ «أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرفع صَوته بآمين إِذا قَرَأَ (غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين وبلفظ «سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَرَأَ (غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين (فَقَالَ: آمين. وَمد بهَا صَوته» . ثمَّ قَالَ - أَعنِي الدَّارَقُطْنِيّ -: قَالَ أَبُو بكر: (هَذِه) سنة تفرد بهَا أهل الْكُوفَة. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَهَذِه أَحَادِيث صِحَاح.
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ، ثَنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، أَنا وهب بن جرير وَعبد الصَّمد قَالَا: نَا(3/579)
شُعْبَة، عَن سَلمَة بن كهيل قَالَ: سَمِعت حجرا أَبَا العنبس يَقُول: حَدثنِي عَلْقَمَة بن وَائِل، عَن وَائِل بن حجر أَنه [صَلَّى مَعَ رَسُول الله] (قَالَ: «فَوضع الْيَد الْيُمْنَى عَلَى الْيَد الْيُسْرَى فَلَمَّا قَالَ: (وَلَا الضَّالّين (قَالَ: آمين (وَسلم) عَن يَمِينه وَعَن يسَاره» ثمَّ قَالَ: ذكر الْخَبَر (المدحض) قَول من زعم أَن هَذِه السُّنة لَيست بصحيحة لمُخَالفَة الثَّوْريّ شُعْبَة فِي اللَّفْظَة الَّتِي ذَكرنَاهَا، ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة كَمَا سَيَأْتِي، وَرِوَايَة ابْن حبَان هَذِه رَوَاهَا أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن خَالِد بن مخلد، نَا ابْن نمير، نَا عَلّي بن صَالح، عَن سَلمَة بن كهيل، عَن حجر بن عَنْبَس، عَن وَائِل بن حجر «أَنه صَلَّى مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فجهر بآمين وَسلم عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله حَتَّى رَأَيْت (بَيَاض) خَدّه» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي حَدِيث أبي بكر بن عَيَّاش، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه قَالَ: «صليت (مَعَ) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا قَالَ: (وَلَا الضَّالّين (قَالَ آمين. فسمعناها فِيهِ» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن أبي أنيسَة، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه قَالَ: «صليت خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا قَالَ: (وَلَا الضَّالّين (. قَالَ: آمين. مد بهَا صَوته» . ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح.(3/580)
وَرَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث الْحجَّاج، عَن (عبد الْجَبَّار) بن وَائِل، عَن أَبِيه قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسْجد عَلَى أَنفه مَعَ جَبهته، وسمعته يَقُول: آمين. يمد بهَا صَوته» وَاعْلَم (أَنه) جَاءَ فِي رِوَايَة فِي هَذَا الحَدِيث «وخفض بهَا صَوته» بدل (مد) وَهِي خلاف مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَر والأحفظ، قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : وَرَوَى شُعْبَة هَذَا الحَدِيث، عَن سَلمَة بن كهيل، عَن حجر أبي العنبس، عَن عَلْقَمَة بن وَائِل، عَن أَبِيه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَرَأَ (غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين) فَقَالَ: آمين. وخفض بهَا صَوته» . قَالَ: وَسمعت مُحَمَّدًا يَقُول: حَدِيث سُفْيَان أصح من حَدِيث شُعْبَة (فِي) هَذَا، وَأَخْطَأ شُعْبَة فِي مَوَاضِع من هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: عَن حجر أبي العنبس. وَإِنَّمَا هُوَ حجر بن عَنْبَس، ويكنى أَبَا السكن.
قلت: قد أسلفنا أَن تِلْكَ كنية لَهُ أَيْضا فَلَا خطأ إِذا. قَالَ: وَزَاد فِيهِ: عَن عَلْقَمَة بن وَائِل. [وَلَيْسَ فِيهِ عَن عَلْقَمَة] وَإِنَّمَا هُوَ عَن حجر بن عَنْبَس، عَن وَائِل بن حجر، قَالَ: «وخفض بهَا صَوته» وَإِنَّمَا هُوَ «وَمد بهَا صَوته» . قَالَ: وَسَأَلت أَبَا زرْعَة عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: حَدِيث سُفْيَان فِي هَذَا أصح من حَدِيث شُعْبَة. قَالَ: وَرَوَى الْعَلَاء بن صَالح الْأَسدي عَن سَلمَة بن كهيل نَحْو رِوَايَة سُفْيَان. هَذَا آخر كَلَام التِّرْمِذِيّ. وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) : خَالف شُعْبَة فِي إِسْنَاده وَمَتنه (فَقَالَ) : «وأخفى بهَا صَوته» وَيُقَال: إِنَّه وهم فِيهِ؛ لِأَن سُفْيَان الثَّوْريّ(3/581)
وَمُحَمّد بن سَلمَة بن كهيل وَغَيرهمَا رَوَوْهُ عَن سَلمَة فَقَالُوا: «رفع صَوته بآمين» وَهُوَ الصَّوَاب.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : لَا أعلم خلافًا بَين أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ أَن سُفْيَان وَشعْبَة إِذا اخْتلفَا فَالْقَوْل قَول سُفْيَان. قلت: و (قد) وَافقه مرّة فَفِي سنَن (الْبَيْهَقِيّ) من حَدِيث أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، عَن شُعْبَة، عَن سَلمَة بن كهيل قَالَ: سَمِعت حجرا أَبَا العنبس (يحدث) ، عَن وَائِل الْحَضْرَمِيّ «أَنه صَلَّى خلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا قَالَ: (وَلَا الضَّالّين (قَالَ: آمين. رَافعا بهَا صَوته» . فَهَذِهِ الرِّوَايَة عَن شُعْبَة توَافق رِوَايَة سُفْيَان.
وَقَالَ الْأَثْرَم: اضْطربَ شُعْبَة فِي هَذَا الحَدِيث فَقَالَ مرّة: عَن سَلمَة، عَن حجر، (عَن عَلْقَمَة بن وَائِل أَو) عَن وَائِل. وَقَالَ مرّة: عَن سَلمَة، عَن حجر، عَن عَلْقَمَة (بن وَائِل. وَقَالَ مرّة: عَن سَلمَة، عَن حجر، عَن عَلْقَمَة) عَن أَبِيه.
وَرَوَاهُ سُفْيَان فَلم يضطرب فِي إِسْنَاده وَلَا فِي الْكَلَام، قَالَ: سَلمَة، عَن حجر، عَن وَائِل، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنه كَانَ يجْهر بهَا» وَرَوَى ذَلِك من وَجه آخر: نَا أَبُو عبد الله، نَا أَبُو بكر بن عَيَّاش. ثمَّ سَاق الرِّوَايَة السالفة فَقَالَ: فقد صَحَّ الْجَهْر بالتأمين من وُجُوه لم يَصح فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْء غَيره.(3/582)
وَقَالَ ابْن الْقطَّان - بعد أَن ذكر اللَّفْظَيْنِ -: هَذَا الحَدِيث فِيهِ (أَرْبَعَة) أُمُور.
أَحدهَا: اخْتِلَاف شُعْبَة وسُفْيَان فِي خَفَضَ ورَفَعَ، فسفيان يَقُول: «مد بهَا صَوته» وَشعْبَة يَقُول: «خفض بهَا صَوته» .
وَثَانِيها: اخْتِلَافهمَا فِي حجر. فشعبة يَقُول فِيهِ: حجر أَبُو العنبس. وَالثَّوْري يَقُول: حجر بن عَنْبَس. وَصوب البُخَارِيّ وَأَبُو زرْعَة قَول الثَّوْريّ، وَلَا أَدْرِي لم لَا يصوب قَوْلهمَا جَمِيعًا حَتَّى يكون حجر (بن) عَنْبَس أَبَا العنبس.
قلت: وَهَذَا قد (بحثته) قبل أَن أَقف عَلَيْهِ - كَمَا أسلفته - وَقد رَأَيْته بعد ذَلِك كَذَلِك فِي «الثِّقَات» لِابْنِ حبَان، فَالْحَمْد لله. قَالَ: اللَّهُمَّ إِلَّا (أَن) يَكُونَا - أَعنِي البُخَارِيّ وَأَبا زرْعَة - قد علما لَهُ كنية أُخْرَى، وأنى ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يعرف حَاله وَهَذَا هُوَ الثَّالِث؛ فَإِن المستور الَّذِي رَوَى عَنهُ أَكثر من وَاحِد مُخْتَلف فِي قبُول حَدِيثه ورده.
قلت: عَجِيب مِنْهُ فِي هَذَا فَإِنَّهُ ثِقَة مَشْهُور كَمَا أسلفناه.
رَابِعهَا: أَنَّهُمَا - أَعنِي الثَّوْريّ وَشعْبَة - اخْتلفَا أَيْضا فِي شَيْء آخر، وَهُوَ أَن جعله الثَّوْريّ من رِوَايَة حجر، عَن وَائِل. وَجعله شُعْبَة من رِوَايَة حجر، عَن عَلْقَمَة بن وَائِل، عَن وَائِل.
قلت: يحْتَمل أَنه سَمعه مرّة من وَائِل، وَمرَّة من عَلْقَمَة، عَن وَائِل، فَرَوَاهُ عَن هَذَا مرّة، وَعَن الآخر مرّة أُخْرَى، وَقد صرح بذلك(3/583)
(الْكَجِّي) فِي «سنَنه» فَقَالَ: نَا عَمْرو بن مَرْزُوق، أَنا شُعْبَة، عَن سَلمَة بن كهيل، عَن حجر، عَن عَلْقَمَة بن وَائِل، عَن وَائِل قَالَ: وسَمعه حجر (من) وَائِل قَالَ: «صَلَّى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » الحَدِيث، قَالَ: «وأخفى بهَا صَوته» .
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلما ذكر الدَّارَقُطْنِيّ رِوَايَة الثَّوْريّ صححها كَأَنَّهُ عرف من حَال حجر الثِّقَة، وَلم يره مُنْقَطِعًا بِزِيَادَة شُعْبَة «عَلْقَمَة بن وَائِل» فِي (الْوسط) ، وَفِي ذَلِك نظر. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ مُوجب حكم التِّرْمِذِيّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حسن، وَقد كَانَ من جملَة اضطرابهما فِي مَتنه «يخْفض» و «يرفع» وَالِاضْطِرَاب فِي الْمَتْن عِلّة مضعفة. قَالَ: فَالْحَدِيث لِأَن يُقَال فِيهِ: «ضَعِيف» أقرب مِنْهُ إِلَى أَن يُقَال (فِيهِ) «حسن» . هَذَا كَلَامه وَلَا (نسلِّم) لَهُ ذَلِك بل هُوَ حسن أَو صَحِيح كَمَا (قدمنَا) عَن الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره من الْأَئِمَّة (تَصْحِيحه) .
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ الْمطلب بن زِيَاد، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن عدي بن ثَابت، عَن زر، عَن عَلّي قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قَرَأَ (وَلَا الضَّالّين (قَالَ: آمين» . قَالَ: هَذَا خطأ. قلت: فحدثنا أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم الأودي، عَن بكر بن عبد الرَّحْمَن، عَن عِيسَى بن الْمُخْتَار، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن(3/584)
سَلمَة بن كهيل، عَن حجية بن عدي، عَن عَلّي «أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: آمين. حِين يفرغ من قِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب» . قَالَ: وَهَذَا (أَيْضا) عِنْدِي (خطأ) إِنَّمَا هُوَ (سَلمَة) عَن حجر أبي العنبس، عَن وَائِل بن حجر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ: فَقلت: فَحَدِيث الْمطلب فَمَا حَاله؟ قَالَ: لم يروه غَيره وَلَا أَدْرِي مَا هُوَ. وَهَذَا من ابْن أبي لَيْلَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ سيئ الْحِفْظ. وَالله أعلم.
الحَدِيث الثَّامِن بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أَمن أَمن (من) خَلفه حَتَّى كَانَ لِلْمَسْجِدِ ضجَّة» .
هَذَا الحَدِيث كَذَا أوردهُ تبعا للغزالي (وَالْغَزالِيّ) تبع إِمَامه فَإِنَّهُ كَذَا (ذكره) قَالَ: وَرُوِيَ أَيْضا «لجَّة» بدل «ضجة» ، وَاعْترض ابْن الصّلاح عَلَيْهِمَا فَقَالَ: كَذَا أوردهُ شَيْخه وَهُوَ غير صَحِيح مَرْفُوعا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الإِمَام الشَّافِعِي بِإِسْنَادِهِ، عَن عَطاء - هُوَ ابْن أبي رَبَاح - قَالَ: كنت أسمع الْأَئِمَّة - ابْن الزبير فَمن بعده - يَقُولُونَ: آمين وَمن خَلفهم: آمين. حَتَّى إِن لِلْمَسْجِدِ للجة. وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي الْقطعَة الَّتِي لَهُ عَلَى الْوَسِيط الْمُسَمَّاة «بالتنقيح» : هَكَذَا ذكر هَذَا الحَدِيث(3/585)
هُوَ فِي (الْبَسِيط) ، و (شَيْخه) فِي «النِّهَايَة» وَهُوَ غلط، وَصَوَابه مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن عَطاء فَذكره وَسَيَأْتِي آخر الْبَاب. وَأَقُول: مَا ذكره هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة (الإِمَام) وَالْغَزالِيّ والرافعي قد أخرجه ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» بِنَحْوِهِ من حَدِيث بشر بن رَافع، عَن أبي (عبد الله) ابْن عَم أبي هُرَيْرَة، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «ترك (النَّاس) التَّأْمِين وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قَالَ: (غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين (قَالَ: آمين. حَتَّى يسْمعهَا أهلُ الصَّفّ الأول فيرتجُّ بهَا الْمَسْجِد» .
وَأخرجه أَبُو دَاوُد بِلَفْظِهِ عَن أبي هُرَيْرَة «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا تَلا (غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين (قَالَ: آمين. حَتَّى يسمع من يَلِيهِ من الصَّفّ الأول» .
قلت: وَالظَّاهِر بل الْمَقْطُوع بِهِ أَنهم لَا يتخلفون عَن تأمينه، وَكَأن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى، وَادَّعَى ابْن حزم تَوَاتر هَذَا الحَدِيث وَفِيه نظر، فَإِن بشر بن رَافع الْمُتَقَدّم لَيْسَ بِحجَّة وَقد ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ ابْن معِين مرّة: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن عدي: لَيْسَ بأخباره بَأْس، وَلم أجد لَهُ حَدِيثا مُنْكرا. وَأَيْضًا ابْن عَم أبي هُرَيْرَة ادَّعَى ابْن عبد الْحق(3/586)
جهالته فِيمَا رده عَلَى «الْمُحَلَّى» وَقَالَ: لم يروه عَنهُ إِلَّا بشر بن رَافع. وَكَأَنَّهُ قلد فِي ذَلِك ابْن الْقطَّان أَو أَحدهمَا الآخر، قَالَ ابْن الْقطَّان: والْحَدِيث لَا يَصح من أَجله.
قلت: وَابْن عَم أبي هُرَيْرَة (هَذَا) دوسي رَوَى عَنهُ أَبُو الزبير أَيْضا (وَيُقَال) : إِنَّه عبد الرَّحْمَن بن هضاض، وَيُقَال: ابْن هضاب. وَيُقَال: ابْن الهضهاض. وَيُقَال: ابْن الصَّامِت. ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقد [أخرج] الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم وَابْن حبَان هَذَا الحَدِيث من طَرِيق أُخْرَى لَيْسَ فِيهَا [هَذَانِ الرّجلَانِ] رووها من حَدِيث عبد الله بن سَالم، عَن الزبيدِيّ، حَدثنِي الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة وَسَعِيد، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا فرغ من قِرَاءَة أم الْقُرْآن رفع صَوته وَقَالَ: آمين» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا إِسْنَاد حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ. قَالَ: واتفقا عَلَى تَأْمِين الإِمَام وَعَلَى تَأْمِين الْمَأْمُوم وَإِن أخفاه الإِمَام. قَالَ: وَقد اخْتَار الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي جمَاعَة من أهل الحَدِيث أَن التَّأْمِين(3/587)
للمأمومين لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «إِذا قَالَ الإِمَام: (وَلَا الضَّالّين (. فَقولُوا: آمين» .
الحَدِيث التَّاسِع بعد الثَّلَاثِينَ
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أَمن الإِمَام أمنت الْمَلَائِكَة فَأمنُوا، فَإِنَّهُ من وَافق تأمينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه» .
هَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَى صِحَّته من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا اللَّفْظ إِلَّا قَوْله: «أمنت الْمَلَائِكَة» فَإِن البُخَارِيّ انْفَرد بهَا كَمَا صرح بِهِ عبد الْحق وَغَيره وَهَذَا لَفظه فِي الدَّعْوَات من «صَحِيحه» «إِذا أَمن الْقَارئ فَأمنُوا فَإِن الْمَلَائِكَة تؤمن، فَمن وَافق تأمينه ... » إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة لَهما: «إِذا قَالَ أحدكُم فِي صلَاته: آمين. وَقَالَت الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء: آمين. فَوَافَقت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى غفر لَهُ مَا تقدَّم من ذَنبه» . لم يقل البُخَارِيّ: «فِي صلَاته» . وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد: «فَإِن الْمَلَائِكَة تَقول: آمين. (وَإِن الإِمَام يَقُول آمين) » .(3/588)
وَفِي رِوَايَة لَهما - أَعنِي البُخَارِيّ وَمُسلمًا -: «إِذا قَالَ الْقَارئ: (غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين (فَقَالَ من خَلفه: آمين. فَوَافَقَ قَوْله قَول أهل السَّمَاء غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «إِذا قَالَ الإِمَام (غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين (فَقولُوا: آمين. فَإِنَّهُ من وَافق قَوْله قَول الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه» . وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَابْن حبَان بعد «فَقولُوا: آمين» : «فَإِن الْمَلَائِكَة تَقول: آمين. فَمن وَافق تأمينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم من حَدِيث آخر من طَرِيق أبي هُرَيْرَة «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يعلمنَا يَقُول: لَا تبَادرُوا الإِمَام، إِذا كبر فكبروا، وَإِذا قَالَ: (وَلَا الضَّالّين (فَقولُوا: آمين. وَإِذا ركع فاركعوا ... .» الحَدِيث.
وَزَاد الْغَزالِيّ فِي (وسيطه» و «وجيزه» فِي هَذَا الحَدِيث: «وَمَا تَأَخّر» . قَالَ ابْن الصّلاح: وَهِي زِيَادَة لَيست بصحيحة (قلت) لَكِن ذكرهَا الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ وَصحح إسنادها كَمَا ذكرت ذَلِك عَنهُ فِي (تخريجي لأحاديث الْوَسِيط) ، وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِذا قَالَ الإِمَام: (غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين ((3/589)
فأنصتوا وَهِي ضَعِيفَة غَايَة بِسَبَب مُحَمَّد بن يُونُس الْكُدَيْمِي الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده، فَإِنَّهُ مِمَّن يتهم بِالْوَضْعِ. ورد عبد الْحق هَذِه الرِّوَايَة بِأَن قَالَ: الصَّحِيح الْمَعْرُوف: «فَقولُوا: آمين» . ورده بِمَا ذَكرْنَاهُ أولَى، وَقد ذكرت فِي «شرح الْعُمْدَة» أقوالًا فِي هَذِه الْمُوَافقَة وفوائد أُخْرَى مُتَعَلقَة بِهِ فَرَاجعهَا مِنْهُ.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيسْتَحب لكل من قَرَأَ الْفَاتِحَة خَارج الصَّلَاة أَو فِي الصَّلَاة أَن يَقُول عقب الْفَرَاغ: آمين. ثَبت ذَلِك عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: قد بَينا ذَلِك وَاضحا.
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يقْرَأ فِي صَلَاة الظّهْر فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين فِي كل رَكْعَة قدر ثَلَاثِينَ آيَة، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قدر (خمس عشرَة) آيَة - أَو قَالَ: نصف ذَلِك - وَفِي الْعَصْر فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين فِي كل رَكْعَة قدر [قِرَاءَة] [خمس عشرَة] آيَة، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قدر نصف ذَلِك» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِهَذَا اللَّفْظ وَمِنْه(3/590)
نقلته (وَفِي بعضه) زِيَادَة عَلَى مَا فِي الْكتاب. وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي سعيد أَيْضا قَالَ: «كُنَّا نحزر قيام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الظّهْر وَالْعصر، فحزرنا قِيَامه فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين من الظّهْر قدر قِرَاءَة (الم تَنْزِيل (السَّجْدَة. وحزرنا قِيَامه فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ قدر النّصْف من ذَلِك، وحزرنا قِيَامه فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين من الْعَصْر عَلَى قدر قِيَامه فِي الْأُخْرَيَيْنِ من الظّهْر، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ من الْعَصْر عَلَى النّصْف من ذَلِك» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «قدر ثَلَاثِينَ آيَة» بدل: (الم تَنْزِيل (. (السَّجْدَة) » وَوَقع هَذَا الحَدِيث فِي «بسيط» الْغَزالِيّ و «وسيطه» عَلَى غير وَجهه فَقَالَ: لقَوْل أبي سعيد الْخُدْرِيّ «حزرنا قِرَاءَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْأَوليين من الظّهْر فَكَانَت قدر قِرَاءَة سبعين آيَة» وَصَوَابه «قدر سِتِّينَ آيَة» . وَقد تبعه عَلَى هَذَا تِلْمِيذه الْغَزالِيّ، قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ وهم تسلسل وتواردوا عَلَيْهِ.
الحَدِيث الْحَادِي بعد الْأَرْبَعين
عَن أبي قَتَادَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُصَلِّي بِنَا فَيقْرَأ فِي الظّهْر وَالْعصر فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين بِفَاتِحَة الْكتاب وسورتين، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَة الْكتاب، ويسمعنا الْآيَة أَحْيَانًا، وَكَانَ يُطِيل فِي الأولَى مَا(3/591)
لَا يُطِيل فِي الثَّانِيَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور بِزِيَادَة: «فظننا أَنه يُرِيد بذلك أَن يدْرك النَّاس من الرَّكْعَة الأولَى» . وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا [فَلفظ] مُسلم «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُصَلِّي بِنَا فَيقْرَأ فِي الظّهْر وَالْعصر فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين بِفَاتِحَة الْكتاب وسورتين، ويسمعنا الْآيَة أَحْيَانًا، وَكَانَ يطول الرَّكْعَة الأولَى من الظّهْر وَيقصر الثَّانِيَة، وَكَذَا فِي الصُّبْح» . وَفِي لفظ لَهُ: «وَيقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَة الْكتاب» . وَلَفظ البُخَارِيّ «كَانَ يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين من صَلَاة الظّهْر بِفَاتِحَة الْكتاب وسورتين، يطول فِي الأولَى وَيقصر فِي الثَّانِيَة، وَيسمع الْآيَة أَحْيَانًا، وَكَانَ يقْرَأ فِي الْعَصْر بِفَاتِحَة الْكتاب وسورتين، وَكَانَ يطول فِي (الرَّكْعَة) الأولَى من صَلَاة الصُّبْح وَيقصر فِي الثَّانِيَة» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ «كَانَ يقْرَأ فِي الظّهْر فِي الْأَوليين بِأم الْكتاب وسورتين، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأم الْكتاب، ويسمعنا الْآيَة، وَيطول فِي الرَّكْعَة الأولَى مَا لَا يطول فِي [الرَّكْعَة] الثَّانِيَة، وَهَكَذَا فِي الْعَصْر، وَهَكَذَا فِي الصُّبْح» .(3/592)
وَمن تراجم البُخَارِيّ عَلَيْهِ من خَافت [الْقِرَاءَة] (فِي) الظّهْر وَالْعصر، وَإِذا [أسمع] الإِمَام [الْآيَة] .
الحَدِيث الثَّانِي بعد الْأَرْبَعين
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا كُنْتُم خَلْفي فَلَا تقرءوا إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب» .
هَذَا الحَدِيث تقدم بَيَانه فِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْعشْرين من رِوَايَة عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلِهَذَا الحَدِيث سَبَب وَهُوَ أَن أعرابيًّا راسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي قِرَاءَة (وَالشَّمْس وَضُحَاهَا (فتعسرت الْقِرَاءَة عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا تحلل من صلَاته قَالَ ذَلِك. هَذَا السَّبَب لم أره فِي شَيْء من طرق هَذَا الحَدِيث كَذَلِك، وَإِنَّمَا فِيهَا «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما فرغ قَالَ: هَل قَرَأَ معي أحد مِنْكُم آنِفا؟ فَقَالَ رجل: نعم يَا رَسُول الله» . وَفِي (سنَن الدَّارَقُطْنِيّ) و (مُسْتَدْرك الْحَاكِم) عَن إِسْحَاق بن (عبد الله) بن أبي فَرْوَة، عَن عبد بن عَمْرو بن الْحَارِث، عَن مَحْمُود بن الرّبيع الْأنْصَارِيّ قَالَ: «قَامَ إِلَى جَنْبي عبَادَة بن الصَّامِت فَقَرَأَ مَعَ الإِمَام وَهُوَ يقْرَأ، فَلَمَّا انْصَرف قلت: أَبَا الْوَلِيد، تقْرَأ وَتسمع وَهُوَ يجْهر بِالْقِرَاءَةِ؟ قَالَ: نعم إِنَّا قَرَأنَا مَعَ رَسُول(3/593)
الله (فغلط رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ سبَّح، فَقَالَ لنا حِين انْصَرف: هَل قَرَأَ معي أحد؟ قُلْنَا: نعم. قَالَ: قد عجبت، قلت من هَذَا الَّذِي يُنَازعنِي الْقُرْآن، إِذا قَرَأَ الإِمَام فَلَا تقرءوا إِلَّا بِأم الْقُرْآن، فَإِنَّهُ لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بهَا» .
ذكره الْحَاكِم شَاهدا، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ابْن أبي فَرْوَة ضَعِيف، وَرَوَى من طَرِيق آخر غير حَدِيث عبَادَة من حَدِيث جَابر، وَصوب إرْسَاله، وَفِي مُسلم وَأبي دَاوُد و «الْقِرَاءَة خلف الإِمَام» للْبُخَارِيّ من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن نَحوه. وَالله أعلم.
الحَدِيث الثَّالِث بعد الْأَرْبَعين
قَالَ الرَّافِعِيّ: يُقَال إِنَّه ورد الْخَبَر «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ ينحني حَتَّى تنَال راحتاه رُكْبَتَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَلَا يَنْبَغِي من الرَّافِعِيّ أَن يُورِدهُ بِهَذِهِ الصِّيغَة؛ فقد رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ بِلَفْظ (إِذا ركع أمكن يَدَيْهِ من رُكْبَتَيْهِ، ثمَّ هصر ظَهره ... » الحَدِيث. وَرَوَاهُ (أَبُو دَاوُد) بِلَفْظ) «ثمَّ يرْكَع وَيَضَع راحتيه عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثمَّ يعتدل فَلَا يَصُبُّ(3/594)