|
المؤلف: ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري (المتوفى: 804هـ)
المحقق: مصطفى أبو الغيط وعبد الله بن سليمان وياسر بن كمال
الناشر: دار الهجرة للنشر والتوزيع - الرياض-السعودية
الطبعة: الاولى، 1425هـ-2004م
عدد الأجزاء: 9
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ـ[البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير]ـ
المؤلف: ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري (المتوفى: 804هـ)
المحقق: مصطفى أبو الغيط وعبد الله بن سليمان وياسر بن كمال
الناشر: دار الهجرة للنشر والتوزيع - الرياض-السعودية
الطبعة: الاولى، 1425هـ-2004م
عدد الأجزاء: 9
[الكتاب مدقق إملائيا وترقيمه موافق للمطبوع]
(/)
مُقَدّمَة
بسمِ اللهِ الرَّحْمَن الرحيمِ
(رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا)
الْحَمد لله رَافع منار الْأَحْكَام، ومظهر دينه بأقوى (عُرًى) وإحكام، ومُشَيِّده بحفاظ جَهَابِذَة أَعْلَام، مستمرين مدى الدهور والأعوام.
نحمده عَلَى ذَلِكَ كُله وَعَلَى سَائِر الإنعام، ونشكره عَلَى أَن جعلنَا مِمَّن تَصَدَّى لجمع السّنَن الْكِرَام.
ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، شَهَادَة مستمرة عَلَى الدَّوَام، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أفضل الْأَنَام، صلَّى الله عَلَيْهِ، وَعَلَى آله، وأصحابِه، وأزواجِه، وذرِّيَّاتِه، وَأَتْبَاعه الغُرِّ الْكِرَام.
وبعدُ:
فَإِن أولَى الْعُلُوم - بعد معرفَة كتاب الله - سنة الرَّسُول - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؛ إِذْ هِيَ مبينَة للْكتاب الْعَزِيز، الَّذِي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد) .
وَلذَلِك أدلةٌ ظَاهِرَة، وبراهينُ متظاهرة:
قَالَ تَعَالَى: (وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم) .
وَقَالَ: (وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ) .
(1/255)
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ فِي حَدِيث طَوِيل: «إنَّ مَا حَرَّم رسُولُ اللهِ كَمَا حَرَّم اللهُ - عزَّ وجلَّ» .
حَدِيث صَحِيح من غير شكّ وَلَا مرية، أودعهُ الْأَئِمَّة: التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وحسَّنه، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وصحَّحه، وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح.
هَذَا مَعَ اتِّفَاق أهل الْحل وَالْعقد عَلَى أَن من شَرط الْمُجْتَهد - من القَاضِي والمفتي - أَن يكون عالِمًا بِأَحَادِيث الْأَحْكَام، ليعرف بهَا الْحَلَال من الْحَرَام، وَالْخَاص من الْعَام، وَالْمُطلق من الْمُقَيد، والناسخ من الْمَنْسُوخ، وَشبه ذَلِكَ.
وَقد نَدَبَ الشَّارِع - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - إِلَى نقلهَا، وحَثَّهم عَلَى حفظهَا، وتبليغها (من) لم يشهدها، فَقَالَ فِي خطبَته (حجَّة) الْوَدَاع: «هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: فَلْيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُم الغَّائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سامع» .
حَدِيث صَحِيح بِاتِّفَاق (الْأَئِمَّة) ، أودعهُ الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) .
(1/256)
وَقَالَ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَيْضا: «نَضَّرَ اللهُ امْرأ سمع مَقَالَتي، فَحَفِظَهَا، وَوَعَاهَا، فأَدَّاها إِلَى مَنْ (لَمْ) يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حاملِ فقه غيرِ فَقِيه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ» .
رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» ، وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَقَالَ: « (بَلِّغُوا) عَنِّي وَلَو آيَة» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» .
وَقَالَ: «تَسْمَعُون وَيُسْمَع مِنْكُم، وَيُسْمَعُ مِمَّن (يسمع) مِنْكُم» .
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» ، وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
فامتثلت الصَّحَابَة حينئذٍ - الَّذين هم خير قُرُون هَذِه الْأمة، بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - فحفظوا عَنهُ أَحْوَاله (وأقواله) وأفعاله، امتثالًا لأَمره، وابتغاء ثَوَابه وأَجره.
(1/257)
ثمَّ فعل ذَلِكَ بعدهمْ التابعون وتابعوهم، قبيلًا بعد قبيل، وجِيلًا بعد جيل، تلقوا ذَلِكَ عَنْهُم، واستفادوه مِنْهُم - رَضِيَ اللَّهُ عَنَّا وعنهم.
لَكِن دخل فِي ذَلِكَ قوم لَيْسُوا من أهل هَذَا الشَّأْن، وَلَا جَرْيَ لَهُم فِي هَذَا الميدان، فأخطئوا فِيمَا نقلوا وحَرَّفوا، وَرُبمَا وضعُوا، فَدخلت الآفة من هَذَا الْوَجْه، وَاخْتَلَطَ الصَّحِيح بالسقيم، والمجروح بالسليم، فَحِينَئِذٍ أَقَامَ الله سُبْحَانَهُ - وَله الْحَمد والمِنَّة - طَائِفَة كَبِيرَة من هَذِه الْأمة، هم نُجُوم للدِّين وعَلَمٌ للمسترشدين، فدوَّنوا التصانيف (المبتكرة) ، المبسوطة والمختصرة، ونظروا فِي رجالها - جرحا وتعديلًا، وانقطاعًا ووصلًا - بِالنّظرِ التَّام، وبذلوا وسعهم فِي ذَلِكَ، وَقَامُوا بِهِ أحسن قيام، أعظم الله أَجرهم، وَلَا خَيَّب سعينا وسعيهم.
وهم (مستمرون) عَلَى ذَلِكَ مدى الدهور والأعوام، من زَمَنه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا والذهاب، بإخباره عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام حَيْثُ قَالَ: «لَا تَزَالُ طائفةٌ من أُمَّتي ظاهِرينَ عَلَى الحقِّ، لَا يَضُرُّهُم مَنْ خَذَلَهُم، حتَّى تَقُومَ السَّاعةُ» .
فَكَانَت هَذِه الطَّائِفَة كَمَا وَصفهم عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْخَبَر الْمَرْوِيّ عَنهُ، (مُرْسلا من جِهَة إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن العذري) ، وَمُسْندًا من جِهَة أبي هُرَيْرَة، وَعبد الله بن عَمْرو - كَمَا
(1/258)
رَوَاهُمَا الْعقيلِيّ.
قَالَ عبد الْحق: وَالْأول أحسن. ونَازَعَه ابْن الْقطَّان، وَفِيه وَقْفَة، فقد سُئل أَحْمد عَنهُ، فَقَالَ صَحِيح: «يَحْمِلُ هَذَا العِلْم مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُه، يَنْفُون عَنْه تَحْرِيف الغالين، وانْتِحَالَ المُبْطِلِيْن، وَتَأْوِيل الجاهِلِيْن» .
وَمَنَّ الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَله الْحَمد والمِنَّة - عَلَى هَذِه الطَّائِفَة بِالْحِفْظِ الوافر، كالبحر الزاخر.
وهاك نبذة من حَالهم، لتعرف قدرهم، واجتهادهم ومحلهم:
قَالَ أَبُو زرْعَة: حُزِرَتْ كُتبُ الإِمام أَحْمد يَوْم مَاتَ، فبلغت [اثْنَي] عشر حملا و [عدلا] ، كل ذَلِكَ كَانَ يحفظه عَن ظهر قلب.
قَالَ: كَانَ يحفظُ ألفَ ألفَ حَدِيث. فَقيل لَهُ: وَمَا يدْريك؟ قَالَ: ذَاكَرْتُه فأخذتُ عَلَيْهِ الْأَبْوَاب.
وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل: قَالَ لي أبي: خُذ أَي كتاب شِئْت من كتب وَكِيع، من المُصَنّف، فَإِن شِئْت تَسْأَلنِي عَن الْكَلَام حتَّى أخْبرك بِالْإِسْنَادِ، وَإِن شِئْت تَسْأَلنِي عَن الإِسناد حتَّى أخْبرك بالْكلَام.
وَحفظ الإِمَام الشَّافِعِي «الْمُوَطَّأ» فِي ثَلَاثَة أَيَّام، وَالْقُرْآن فِي سَبْعَة
(1/259)
أَيَّام، كَمَا نقل (عَن) الإِمام فَخر الدَّين الرَّازِيّ.
وَكَانَ يَحْيَى بن معِين (يَقُول) عَن الْأَثْرَم الْحَافِظ: إِن أحد أَبَوَيْهِ كَانَ جِنِّيًّا. يَعْنِي لقُوَّة حفظه.
وَهُوَ أحفظ من أبي زرْعَة، وأتقن. كَمَا قَالَه إِبْرَاهِيم الْأَصْفَهَانِي.
وَكَانَ أَحْمد بن نصر الخَفَّاف يذاكر بِمِائَة ألف حَدِيث.
وَكَانَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يملي سبعينَ ألف حديثٍ حفظا، وأملى مرّة أحد عشر ألف حديثٍ من حفظه، ثمَّ قَرَأَهَا مرّة أُخْرَى، فَمَا زَاد حرفا وَلَا نقص حرفا، وَقَالَ مرّة: أحفظ مَكَان مائَة ألف حَدِيث كَأَنِّي أنظر إِلَيْهَا، وأحفظ مِنْهَا سبعين ألف حَدِيث من ظهر قلبِي (صَحِيحَة) ، وأحفظ أَرْبَعَة آلَاف حَدِيث مزوَّرة. فَقيل لَهُ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: لأجل إِذا مرَّ بِي مِنْهَا حَدِيث فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، فَلَيْتُهُ مِنْهَا فَلْيًا.
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: مَا استَوْدَعْتُ أُذُنِي شَيْئا إلَّا حفظته، حتَّى أَمُرَّ بِكَلِمَة كَذَا - قَالَهَا - فأسد أُذُنِي، مَخَافَة أَن أحفظها.
وَفِي رِوَايَة عَنهُ: حتَّى أَمُرَّ بالحائك. يَعْنِي: فأسدّ أُذُنِي.
وَكَانَ أَبُو زرْعَة يحفظ سِتّمائَة ألف حَدِيث، كَمَا شهد لَهُ بذلك الإِمام أَحْمد، وَقَالَ فِي حَقه: مَا جَاوز الجسر أفضل مِنْهُ.
(1/260)
وَحلف رجل بِالطَّلَاق أنَّ أَبَا زرْعَة يحفظ مِائَتي ألف حَدِيث، فَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا يَحْنَث.
وَقَالَ مرّة: أحفظ مِائَتي ألف حَدِيث كَمَا يحفظ الْإِنْسَان (قل هُوَ الله أحد (، وَفِي المذاكرة ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث.
وَقَالَ أَيْضا: فِي بَيْتِي مَا كتبته مُنْذُ (خمسين) سنة، وَلم أطالعه مُنْذُ كتبته، وَإِنِّي أعلم فِي أَي كتاب هُوَ، وَأي ورقة، وَأي (صفحة) ، وَفِي أَي سطر هُوَ، وَمَا سُمع أَو تُلي شَيْء من الْعلم إلَّا وَعَاه قلبِي، وَإِنِّي كنت أَمْشِي فِي سوق بَغْدَاد، فَأَسْمع من الغرف الْمُغَنِّيَات، فأضع أُصْبُعِي فِي أُذُنِي مَخَافَة أَن يَعِيَه قلبِي.
وَقَالَ البُخَارِيّ: أحفظ مائَة ألف حَدِيث صَحِيح، وأحفظ مِائَتي ألف حَدِيث غير صَحِيح.
وَقَالَ أَبُو أَحْمد بن عدي: سَمِعت عدَّة مَشَايِخ يحكون: أَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ قدم بَغْدَاد، فَسمع بِهِ أَصْحَاب الحَدِيث، واجتمعوا وعمدوا إِلَى مائَة حَدِيث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وَجعلُوا متن هَذَا الْإِسْنَاد لإسناد آخر، وَإسْنَاد هَذَا الْمَتْن لمتن آخر، ودفعوها إِلَى عشرَة أنفس، فابْتَدَرَ رجل من الْعشْرَة، فَسَأَلَهُ عَن حَدِيث من تِلْكَ الْأَحَادِيث، فقَالَ: لَا أعرفهُ. فَسَأَلَهُ عَن آخر، فَقَالَ: لَا أعرفهُ. فَمَا زَالَ يلقِي عَلَيْهِ وَاحِدًا بعد واحدٍ حتَّى فرغ، وَالْبُخَارِيّ يَقُول: لَا أعرفهُ. وَكَانَ
(1/261)
بعض الْفُقَهَاء يَقُول: الرجل فهم. وَبَعْضهمْ يقْضِي عَلَيْهِ بِالْعَجزِ. ثمَّ انْتُدِبَ رجل آخر، فَسَأَلَهُ عَن الْأَحَادِيث وَهُوَ يَقُول فِي كل حَدِيث: لَا أعرفهُ. حتَّى فرغ من عشرته، ثمَّ الثَّالِث، ثمَّ الرَّابِع إِلَى تَمام الْعشْرَة، وَالْبُخَارِيّ لَا يزيدهم عَلَى: لَا أعرفهُ. فَلَمَّا فرغوا الْتفت البُخَارِيّ إِلَى الأول فَقَالَ: أما حَدِيثك الأول فَهُوَ كَذَا، و [حَدِيثك] الثَّانِي كَذَا، وَالثَّالِث كَذَا، وَالرَّابِع كَذَا، حتَّى أَتَى عَلَى تَمام الْعشْرَة، فَرد كل متنٍ إِلَى إسنادٍ، وكل إِسْنَاد إِلَى متنٍ، وَفعل بِالْآخرِ مثل ذَلِك، فَأَقرَّ النَّاس لَهُ بِالْحِفْظِ، وأذعنوا لَهُ بِالْفَضْلِ.
وَكَانَ البُخَارِيّ يخْتَلف إِلَى مَشَايِخ الْبَصْرَة وَلَا يكْتب، فَسَأَلُوهُ: لِمَ لَا تكْتب؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِم جَمِيع مَا سمع من حفظه، وَكَانَ يزِيد عَلَى خَمْسَة عشر ألف حَدِيث.
وَأخرج مُسلم الصَّحِيح من ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث مسموعة، كَمَا أقَرَّ بِهِ هُوَ فِيمَا نَقله ابْن نقطة عَنهُ بِإِسْنَادِهِ.
وَحفظ أَبُو دَاوُد - يَعْنِي: الطَّيَالِسِيّ - أَرْبَعِينَ ألف حَدِيث، وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي عشرَة آلَاف، وَكَانَا شربا البَلاَذُر لأجل الْحِفْظ، فجَذِمَ أَبُو دَاوُد، وبَرِصَ عبد الرَّحْمَن. وَقَالَ عمر بن شَبَّة: كتبُوا عَن أبي دَاوُد - يَعْنِي الطَّيَالِسِيّ - أَرْبَعِينَ ألف حديثٍ، وَلَيْسَ مَعَه كتاب.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد - (يَعْنِي) - السجسْتانِي: كتبت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -
(1/262)
خَمْسمِائَة ألف حَدِيث، انتخبت مِنْهَا مَا تضمنته السّنَن، جمعت (فِيهِ) أَرْبَعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حَدِيث.
وَكَانَ عبد الله ابْنه من الْحفاظ، أَمْلَى ثَلَاثِينَ ألف حَدِيث من حفظه، فَإِنَّهُ لَمَّا خرج إِلَى سجستان، اجْتمع إِلَيْهِ أَصْحَاب الحَدِيث، وسألوه أَن يُحَدِّثَهم فَأَبَى، وَقَالَ: لَيْسَ معي كتاب. فَقَالُوا: ابْن أبي دَاوُد وَكتاب! فأثاروه، فأملى عَلَيْهِم هَذَا الْقدر، ولَمَّا قَدِم بَغْدَاد قَالَ البغداديون: مَضَى يلْعَب بِالنَّاسِ، ثمَّ فَيَّجُوا فَيْجًا، (اكتروه) بِسِتَّة (دَنَانِير) إِلَى سجستان، فَكَتَبُوا بِهِ نُسْخَة، فَخَطَّئوه فِي سِتَّة أَحَادِيث، مِنْهَا ثَلَاثَة حَدَّث بهَا كَمَا حُدِّث، وَثَلَاثَة أخطأَ هُوَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
ولمَّا مَاتَ صُلِّي عَلَيْهِ ثَمَانُون مرّة، فحُزِر الْجمع، فَزَاد عَلَى ثَلَاثمِائَة ألف.
وَقَالَ مَعْمَر: اجْتمعت أَنا وَشعْبَة وَالثَّوْري وَابْن جريج، فَقدم علينا شيخ، فأملى علينا أَرْبَعَة آلَاف حَدِيث عَن ظهر قلب، فَمَا أَخطَأ إلَّا فِي موضِعين، لم يكن الْخَطَأ مِنَّا وَلَا مِنْهُ، إنَّما الْخَطَأ مِمَّن فَوْقه. وَكَانَ الرجل: طَلْحَة بن عَمْرو الْحَافِظ.
وَكَانَ عبد الله بن مُوسَى القَاضِي الْمَعْرُوف بعَبْدَان، يحفظ مائَة ألف حَدِيث. كَمَا قَالَ أَبُو عَلّي الْحَافِظ.
(1/263)
وَقَالَ الشَّعْبي: مَا كتبتُ سَوْدَاء فِي بَيْضَاء إلَّا وَأَنا أحفظها، وَلَا حدَّثني رجلٌ بحديثٍ فأحببتُ أَن يُعِيْدَه عليَّ.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: مَا استعدت حَدِيثا، وَلَا شَككت فِي حديثٍ، إلَّا حَدِيثا وَاحِدًا، فَسَأَلت صَاحِبي، فَإِذا هُوَ كَمَا حفظت.
وَقَالَ عبيد الله بن عمر القَوَارِيري: أَمْلَى عليَّ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عشْرين ألف حديثٍ حفظا.
وحدَّث أَبُو عبد الله عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الله [الخُتُّلي] بِخَمْسِينَ ألف حديثٍ من حفظه.
ولَمَّا أَمْلَى جَعْفَر بن مُحَمَّد الفِرْيَابِي - الْحَافِظ الَّذِي طَاف الْبِلَاد شرقًا وغربًا - بِبَغْدَاد: كَانَ عدد المستملين ثَلَاثمِائَة وَسِتَّة عشر، وحُزِرَ الْجمع فَكَانُوا ثَلَاثِينَ ألفا، وَكَانَ الَّذين يَكْتُبُونَ (عَنهُ) نَحْو عشرَة آلَاف.
وَقَالَ هشيم: كنت أحفظ فِي الْمجْلس مائَة حَدِيث، وَلَو سُئلت عَنْهَا أجبْت.
وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ - صَاحب النَّسَب -:
(1/264)
حفظت مَا لَمْ يحفظه أحد، و (نسيت) مَا لَمْ (ينسه) أحد: كَانَ لي عمّ يعاتبني عَلَى حفظ الْقُرْآن، فَدخلت بَيْتا، وَحلفت أَنِّي لَا أخرج مِنْهُ حتَّى أحفظ الْقُرْآن، فحفظته فِي ثَلَاثَة أَيَّام، وَنظرت يَوْمًا فِي الْمرْآة، فقبضت عَلَى لحيتي لآخذ مَا دون القبضة، فَأخذت مَا فَوق القبضة.
وَقَالَ يزِيد بن هَارُون: أحفظ ثَلَاثَة وَعشْرين ألف حَدِيث. وحدَّث بِبَغْدَاد، فَحُزِر مَجْلِسه تسعين ألفا. وَقَالَ أَحْمد بن أبي الطّيب: سَمِعت يزِيد بن هَارُون الْحَافِظ وَقيل لَهُ: إِن هَارُون الْمُسْتَمْلِي يُرِيد أَن يُدخل عَلَيْك فِي حَدِيثك، فَدخل هَارُون، فَقَالَ: يَا هَارُون، بَلغنِي أَنَّك تُرِيدُ (أَن) تدخل عليَّ فِي حَدِيثي، (فاجهد) جهدك، لَا رَعَى الله عَلَيْك إِن رَعيْت، أحفظ ثَلَاثَة وَعشْرين ألف حديثٍ، لَا أقامني الله إِن كنت لَا أقوم بحديثي.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد، الْمَعْرُوف بِابْن عقدَة - الَّذِي قَالَ فِي حَقه الدَّارَقُطْنِيّ: أجمع أهل الْكُوفَة أَنه لم يُرَ من زمن عبد الله بن مَسْعُود إِلَى زَمَنه أحفظ مِنْهُ -: أَنا (أُجِيب) فِي ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث، و (أذاكر) بِالْأَسَانِيدِ، وَبَعض الْمُتُون،
(1/265)
والمراسيل، والمقاطيع.
قَالَ ابْن عقدَة: وَدخل [البَرْدِيجي] الْكُوفَة، فَزعم أَنه أحفظ مِنَّا، فَقلت: لَا تُطَوِّل، نَتَقَدَّم إِلَى دكان وراق، وَنَضَع القَبَّان، ونزن من الْكتب مَا شئتَ، ثمَّ تُلْقَى (علينا) فنذكرها. فَبَقِيَ.
ولَمَّا انْتقل ابْن عقدَة إِلَى مَكَان آخر كَانَت كتبه سِتّمائَة حمل.
وَكَانَ إِسْمَاعِيل بن يُوسُف الدَّيْلَمي يحفظ أَرْبَعِينَ ألف حَدِيث، ويذاكر بسبعين ألف حَدِيث.
وَقَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: قَالَ لي الأزْهَري: كنت أحضر عِنْد أبي عبد الله الْحُسَيْن بن أَحْمد بن (بكير) ، وَبَين يَدَيْهِ أَجزَاء (كبار) ، فَأنْظر بَعْضهَا، فَيَقُول لي: أَيّمَا أحبّ إِلَيْك، تذكر لي متن مَا تُرِيدُ من هَذِه الْأَحَادِيث حتَّى أخْبرك بِإِسْنَادِهِ؟ أَو تذكر لي إِسْنَاده حتَّى أخْبرك بمتنه؟ فَكنت أذكر لَهُ الْمُتُون فيخبرني بِالْأَسَانِيدِ من حفظه، وَفعلت هَذَا مرَارًا كَثِيرَة.
(1/266)
قَالَ: وحُبِّب إليَّ الحَدِيث، حتَّى رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي النّوم، فَلم أقل: ادْع الله لي. وَإِنَّمَا قُلْتُ: يَا رَسُول الله، أَيّمَا أثبت فِي الحَدِيث، مَنْصُور أَو الْأَعْمَش؟ فَقَالَ: مَنْصُور. مَنْصُور.
وَقَالَ أَبُو حَفْص بن شاهين: صَلَّيْتُ خَلفه مرّة، فَافْتتحَ الصَّلَاة، ثمَّ قَالَ: نَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان لُوَيْن. فَقيل لَهُ: سُبْحَانَ الله! فَقَالَ: نَا شَيبَان بن فروخ (الأُبُلِّي) . فَقيل لَهُ: سُبْحَانَ الله! فَقَالَ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.
وَقَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: أَنا [بشرى] بن عبد الله الرُّومِي، قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر أَحْمد بن جَعْفَر بن (سَلْم) يَقُول: لَمَّا قَدِم علينا
(1/267)
أَبُو مُسلم (الكَجِّي) أَمْلَى الحَدِيث فِي رحبة غَسَّان، وَكَانَ فِي مَجْلِسه (سَبْعَة) مستملين، يُبَلِّغ كل وَاحِد مِنْهُم صَاحبه الَّذِي يَلِيهِ، وَكتب النَّاس (عَنهُ) قِيَامًا بِأَيْدِيهِم المحابر، ثمَّ مُسِحَت الرَّحْبَة، وَحسب من حضر بمحبرة، فَبلغ ذَلِكَ نَيِّفًا وَأَرْبَعين ألف محبرة، سُوَى النَّظَّارة.
قَالَ ابْن (سَلْم) : وَبَلغنِي أَن أَبَا مُسلم كَانَ نَذَرَ أَن يتصدَّق إِذا حَدَّث بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم.
وَقَالَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان البَاغَنْدِي: أحفظُ ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث من حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَكَانَ الْحَافِظ أَبُو (الْحُسَيْن) عَاصِم بن عَلّي الوَاسِطِيّ يجلس عَلَى سطح المسقطات، ويركب مستمليه نَخْلَة، يستملي عَلَيْهَا. فَقَالَ يَوْمًا: نَا اللَّيْث بن (سعد) ، فَأَعَادَ أَربع عشرَة مرّة، وَالنَّاس لَا
(1/268)
يسمعُونَ، فحزر الْجمع، فَكَانُوا مائَة ألف وَعشْرين [ألفا] .
وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُسلم الجِعَابي: دخلت الرَّقَّة، وَكَانَ لي ثَمَّ قمطران كتب فأنفَذُت غلامي إِلَى ذَلِكَ الرجل الَّذِي كُتبي عِنْده، فَرجع الْغُلَام مغمومًا، فَقَالَ: ضَاعَت الْكتب. فَقلت: يَا بنيَّ، لَا تغتم، فَإِن فِيهَا (مِائَتي) ألف حديثٍ، لَا يُشْكَلُ عليَّ مِنْهَا حديثٌ، لَا إِسْنَادًا وَلَا متْنا.
وَكَانَ يُقَال: إِنَّه يحفظ مِائَتي ألف حَدِيث، ويجيب فِي مثلهَا.
وَقَالَ مرّة عَن نَفسه: أحفظ أَرْبَعمِائَة ألف حَدِيث، وأذاكر بستمائة ألف حَدِيث.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد السَّمرقَنْدِي: سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس جَعْفَر بن مُحَمَّد الْحَافِظ يَقُول: مَا رَأَيْت أحفظ من أبي عبد الله بن مَنْدَه، سَأَلته يَوْمًا: كم يكون سَماع (الشَّيْخ) ؟ فَقَالَ: يكون خَمْسَة آلَاف مَنًّا.
(1/269)
وَقَالَ الجعابي: كنت بليد الْحِفْظ، فَقَالَ لي الْأَطِبَّاء: كُلِ الخَبزَ بالجُلَّاب. فأكلته أَرْبَعِينَ يَوْمًا بالغديات والعشيات، لَا آكل غَيره، فصفا ذهني، وصرت حَافِظًا، حتَّى صرت أحفظ فِي كل يَوْم (ثَلَاثمِائَة) حَدِيث.
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: بَلغنِي أَن الدَّارَقُطْنِيّ حضر فِي حداثته مجْلِس إِسْمَاعِيل الصَفَّار، فَجعل ينْسَخ جُزْءا كَانَ مَعَه، وَإِسْمَاعِيل يملي، فَقَالَ (لَهُ) بعض الْحَاضِرين: لَا يصحّ سماعك وَأَنت تنسخ. فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: فهمي للإِملاء غير فهمك. ثمَّ قَالَ: تحفظ كم أَمْلَى الشَّيْخ من حَدِيث إِلَى الْآن؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أَمْلَى ثَمَانِيَة عشر حَدِيثا. فَعُدَّت الْأَحَادِيث فَكَانَ كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، ثمَّ قَالَ: الحَدِيث الأول عَن فلَان عَن فلَان، وَمَتنه كَذَا، و (الحَدِيث) الثَّانِي عَن فلَان عَن فلَان، وَمَتنه كَذَا. فَلم (يزل) يذكر أَسَانِيد الْأَحَادِيث ومتونها عَلَى ترتيبها فِي الإِملاء حتَّى أَتَى عَلَى آخرهَا؛ فتعجب النَّاس مِنْهُ.
وَقَالَ أَحْمد بن مَنْصُور: خرجت مَعَ أَحْمد بن حَنْبَل، وَيَحْيَى بن معِين، فَقَالَ يَحْيَى لِأَحْمَد: أُرِيد أختبر أَبَا نعيم. فَقَالَ: لَا تُرِد، الرجل ثِقَة. فَقَالَ: لَا بدّ لي. فَأخذ ورقة فَكتب فِيهَا ثَلَاثِينَ حَدِيثا من حَدِيث أبي نعيم، وَجعل عَلَى رَأس كل عشرَة مِنْهَا حَدِيثا لَيْسَ من حَدِيثه، ثمَّ جَاءُوا إِلَى أبي نعيم، فَقَرَأَ يَحْيَى عَلَيْهِ عشرَة، وَأَبُو نعيم
(1/270)
سَاكِت، ثمَّ قَرَأَ الْحَادِي عشر، فَقَالَ أَبُو نعيم: لَيْسَ من حَدِيثي، اضْرِب عَلَيْهِ. ثمَّ قَرَأَ الْعشْرَة الثَّانِيَة، وَأَبُو نعيم سَاكِت، فَقَرَأَ الحَدِيث الثَّانِي، فَقَالَ: لَيْسَ من حَدِيثي، اضْرِب عَلَيْهِ. ثمَّ قَرَأَ الْعشْرَة الثَّالِثَة، وَأَبُو نعيم سَاكِت، ثمَّ قَرَأَ الحَدِيث الثَّالِث، فَتَغَيَّر أَبُو نعيم، وانقلبت عَيناهُ، وَأَقْبل عَلَى يَحْيَى فَقَالَ: أما هَذَا - وذراع أَحْمد بِيَدِهِ - فأورع من أَن يعْمل هَذَا، وَأما هَذَا - يُرِيدنِي - فَأَقل من أَن يفعل هَذَا، وَلَكِن هَذَا من فعلك يَا فَاعل، ثمَّ أخرج رجله، فرفس يَحْيَى، فَرَمَى بِهِ. فَقَالَ يَحْيَى: وَالله لرفسته أحبّ إليَّ من سَفَرِي.
وَكَانَ قَتَادَة بن دِعامة السَّدُوسي يسْأَل سعيد بن الْمسيب فيكثر، فَقَالَ لَهُ سعيد: كل مَا سَأَلتنِي عَنهُ تحفظ؟ فقَالَ: نعم، سَأَلتك عَن كَذَا وَكَذَا، فَقلت: كَذَا وَكَذَا. قَالَ سعيد: مَا ظَنَنْت أَن الله خلق مثلك.
وَكَانَ يَقُول: مَا سَمِعَتْ أذناي شَيْئا قطّ إلَّا وَعَاهُ قلبِي، وَمَا قُلْتُ لمحدثٍ قطّ: أَعِدْ عليَّ؛ فإنَّ إِعَادَة الحَدِيث تَذْهَبُ بنوره.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرَّازِيّ - أحد الْأَئِمَّة الحفَّاظ، العارفين بعلل الحَدِيث، وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل -: أَحْصَيْتُ أَنِّي مشيتُ عَلَى قَدَمَيَّ زِيَادَة عَلَى ألف فَرْسَخ. وَقلت عَلَى بَاب أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ: من أَغْرَبَ عليَّ حَدِيْثًا مُسْندًا صَحِيحا، لم أسمع بِهِ؛ فَلهُ عليَّ (دِرْهَم) -
(1/271)
وَقد حضر أَبُو زرْعَة، وَإِنَّمَا كَانَ مرادي أَن يُلْقي إِلَيّ مَا لم أسمع، ليقول هُوَ عِنْد فلانٍ، فَأذْهب أسمع، ومرادي أَن أستخرج مِنْهُم مَا لَيْسَ عِنْدِي - (فَمَا تهَيَّأ) لأحد أَن يُغربَ عليَّ حَدِيثا.
وَكَانَ أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم القَاضِي يحضر مجْلِس الحَدِيث فيحفظ خمسين وَسِتِّينَ حَدِيثا، فَيقوم فيمليها عَلَى النَّاس.
وَقَالَ ابْن الْأَخْضَر القَاضِي: سَمِعت أَبَا حَفْص بن شاهين - صَاحب «النَّاسِخ والمنسوخ فِي الحَدِيث» - يَوْمًا يَقُول: حسبت مَا اشتريتُ بِهِ الحبر إِلَى هَذَا الْوَقْت، فَكَانَ سَبْعمِائة دِرْهَم. قَالَ القَاضِي: وَكُنَّا نشتري الحبر أَرْبَعَة أَرْطَال بدرهم. قَالَ القَاضِي: وَقد مكث ابْن شاهين بعد ذَلِكَ يكْتب زَمنا.
وَجَاء عَن مُحَمَّد بن الْمسيب الأَرْغِيَاني أَنه قَالَ: كنت أَمْشِي بِمصْر وَفِي كُمي مائَة جُزْء، فِي كل جُزْء ألف حَدِيث.
(1/272)
فصل
فَهَذِهِ نبذةٌ من أحوالِ هَؤُلَاءِ الْحفاظ، الَّذين تتنزل الرَّحْمَة بذكرهم، وَهِي مختصرة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَرَكْنَاهُ. ذكرتها لَك مَجْمُوعَة أَيهَا النَّاظر فِي هَذَا الْموضع؛ لتعرف مَنَازِلهمْ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَكَيف حَالهم فِي اجتهادهم فِي هَذَا الْعلم، والإِكباب عَلَيْهِ. فَلَعَلَّ ذَلِكَ يكون محركًا فِي المسارعة إِلَى تتبع أَثَرهم، وَالسير إِلَيْهِ، لَعَلَّك تصل إِلَى بعض بعض مَا وصلوا إِلَيْهِ، أَو إِلَى كلّه، ففضل الله وعطاؤه وَاسع، لَا زَالَ مُنْهَلًّا لَدَيْهِ.
ثمَّ وفَّق الله الْعَظِيم - وَله المِنَّة - هَؤُلَاءِ الحفَّاظ، الْأَئِمَّة النقَّاد إِلَى وُصُول مَا حفظوه إِلَيْنَا، وتقريب مَا تقلَّدوه علينا، فصنَّفوا فِي ذَلِكَ مصنفات مبتكرة، مُطَوَّلَة ومختصرة.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي أول من صنَّف الْكتب عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: عبد الْملك بن جريج.
ثَانِيهَا: الرّبيع بن صَبِيح.
ثَالِثهَا: (سعيد) بن أبي عرُوبَة.
حَكَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» .
وَاخْتلف فِي ذَلِكَ مقاصدهم، وتشعَّبت آراؤهم، وَكلهَا مَقَاصِد حَسَنَة، وأفعال مستحسنة.
فَمنهمْ من رَأَى أَن تدوينه عَلَى مسانيد الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أقرب إِلَى ضَبطه، فرتَّبه كَذَلِك، كالإِمام أَحْمد بن حَنْبَل فِي «مُسْنده» ، ونظرائه.
(قَالَ الْحَاكِم: أول من صنَّف الْمسند عَلَى [تراجم الرِّجَال] :
(1/273)
عبيد الله بن مُوسَى العَبْسي، وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ) .
وَمِنْهُم من رَأَى أَن تدوينه عَلَى تَرْتِيب أَبْوَاب الْفِقْه أسْرع لتنَاوله، فرتَّبه كَذَلِك.
وَقيل: أول من فعل ذَلِكَ الرّبيع بن صبِيح. وَقيل: مَالك بن أنس فِي «موطئِهِ» وَبِه جزم الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «أَمَالِيهِ» .
ثمَّ مِنْ بعدهمْ جمع كَبِير، وجمٌّ غفير، كَعبد الرَّزَّاق، وَابْن أبي شيبَة، وَغَيرهمَا.
وهلم جرًّا إِلَى زمن الإِمامين، الحافظين، الناقدين: أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وَأبي الْحُسَيْن مُسلم بن (الْحجَّاج) الْقشيرِي، فصنفا كِتَابَيْهِمَا الصَّحِيحَيْنِ، والتزما ألَّا يوردا فيهمَا إلَّا حَدِيثا صَحِيحا، وتلقَّتهما الْأمة بِالْقبُولِ.
ثمَّ ألَّف جمَاعَة فِي زمنهما كتبا أُخر عَلَى الْأَبْوَاب، من غير الْتِزَام فِيهَا مَا التزماه، فَلم تلتحق بهَا، كسنن أبي دَاوُد سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث السجسْتانِي، وجامع أبي عِيسَى مُحَمَّد بن سَوْرة التِّرْمِذِيّ (الضَّرِير) ، وَسنَن أبي عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ، وَسنَن أبي عبد الله بن مَاجَه الْقزْوِينِي.
وألَّف جمَاعَة أُخر كتبا كَذَلِك: فبعضهم شَرط أَن يكون مُصَنفه مُخرَّجًا عَلَى أَحَادِيث الصَّحِيحَيْنِ أَو أَحدهمَا، ككتاب أبي نعيم،
(1/274)
وَالْبرْقَانِي، والإسماعيلي، وَأبي عَوَانَة.
وَبَعْضهمْ شَرط أَن يسْتَدرك مَا أهمله الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، كَمَا فعل الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي الْكتاب الَّذِي سَمَّاه ب «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» .
وَبَعْضهمْ شَرط فِي مُصَنفه الصِّحَّة مُطلقًا، لَا عَلَى رأيٍ، بل عَلَى رَأْيهمْ، كصحيح إِمَام الْأَئِمَّة، أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، وصحيح أبي حَاتِم بن حبَان، الْمُسَمَّى ب «التقاسيم والأنواع» ، وَهَذَا لم يرتبه مُصَنفه عَلَى التَّرْتِيب الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا رتَّبه عَلَى ترتيبٍ خَاص بديع.
(وَبَعْضهمْ لم يَشْتَرِطْ) شَرْطًا، وإنَّما أودعا فِي تصانيفهما الصَّحِيح والضعيف، مبينين ذَلِكَ، ك «سنَن أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ) ، و «السّنَن الْكَبِير» لِلْحَافِظِ أبي بكر الْبَيْهَقِيّ، المرتَّب عَلَى تَرْتِيب «الْمَبْسُوط» الَّذِي صنَّفه عَلَى تَرْتِيب (مُخْتَصر) الْمُزنِيّ.
هَذَا كُله كَانَ (عَلَى) رَأْي السّلف الأول، يذكرُونَ الْأَحَادِيث بِالْأَسَانِيدِ فِي هَذِه التصانيف، إذْ عَلَيْهِ المُعَوَّل.
وَأما الْمُتَأَخّرُونَ، فاقتصروا عَلَى إِيرَاد الْأَحَادِيث فِي تصانيفهم بِدُونِ الْإِسْنَاد، مقتصرين عَلَى الْعزو إِلَى الْأَئِمَّة الأُوَل -[إلاّ أفرادًا] من ذَلِكَ وآحادًا -: كأحكام عبد الْحق «الْكُبْرَى» ، و «الصُّغْرَى» و «الْوُسْطَى» .
(1/275)
وَعَلَى «الْوُسْطَى» اعتراضات لِلْحَافِظِ أبي الْحسن بن الْقطَّان، وَمَا أَكثر نَفعه. وَعَن بَعْضهَا أجوبة لبَعض الْمُتَأَخِّرين.
وَأَحْكَام (الْحَافِظ) أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد، الْمَعْرُوف ب «الضياء الْمَقْدِسِي» ، وَلم يتمم كِتَابه، وصل فِيهِ إِلَى أثْنَاء الْجِهَاد، وَهُوَ أكثُرها نفعا.
وَأَحْكَام الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي: «الْكُبْرَى» ، و «الصُّغْرَى» .
وَأَحْكَام الْحَافِظ مجد الدَّين عبد السَّلَام ابْن تَيْمِية، الْمُسَمَّى ب «المُنْتَقَى» ، وَهُوَ كاسمه، وَمَا أحْسنه، لَوْلَا إِطْلَاقه فِي كثير من الْأَحَادِيث الْعزو إِلَى (كتب) الْأَئِمَّة دون التحسين والتضعيف، يَقُول مثلا: (رَوَاهُ أَحْمد) ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيكون الحَدِيث ضَعِيفا، وَأَشد من ذَلِكَ: كَون الحَدِيث فِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» مُبَيَّنًا ضعفه، فيعزيه إِلَيْهِ من غير بَيَان ضعفه.
وَيَنْبَغِي لِلْحَافِظِ جمع هَذِه الْمَوَاضِع، وكتبها عَلَى حَوَاشِي هَذَا الْكتاب، أَو جمعهَا فِي مُصَنف لتكمل فَائِدَة الْكتاب الْمَذْكُور. وَقد شَرَعْتُ فِي كَتْبِ ذَلِكَ عَلَى حَوَاشِي نُسْخَتي، وَأَرْجُو إِتْمَامه.
وَأَحْكَام الْحَافِظ محب الدَّين الطَّبَرِيّ - نزيل مَكَّة، شرَّفها الله تَعَالَى - وَهُوَ أبسطها وأطولها.
وَأَحْكَام بَقِيَّة الْمُجْتَهدين فِي هَذَا الْفَنّ: تَقِيّ الدَّين أبي الْفَتْح الْقشيرِي، الْمُسَمَّى ب «الْإِلْمَام» ، وشَرَطَ فِيهِ - كَمَا قَالَ فِي خطبَته - أَن لَا
(1/276)
يُخرج إلَّا حَدِيثا قد صحَّحه أحدٌ من الْأَئِمَّة، أَو زَكَّى (رُواته) واحدٌ مِنْهُم، وإنْ كَانَ غَيره قد ضعَّفه.
وَأما كِتَابه «الإِمام» : فَهُوَ للْمُسلمين إِمَام، وَلِهَذَا الْفَنّ زِمَام، لَا نَظِير لَهُ، لَو تمَّ جَاءَ فِي خَمْسَة وَعشْرين مجلدًا، كَمَا قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه «سير النبلاء» . وَهُوَ حقيق بذلك؛ فقد رَأَيْت من أوَّلِه إِلَى أثْنَاء كتاب الصَّلَاة فِي الْكَلَام عَلَى رفع الْيَدَيْنِ فِي ثَلَاث مجلداتٍ ضخماتٍ، وَنقل (الذَّهَبِيّ) فِي الْكتاب الْمَذْكُور، عَن شَيخنَا قطب الدَّين (عبد الْكَرِيم) الْحلَبِي - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - أنَّه كَمَّل تسويد هَذَا الْكتاب. وَكَذَلِكَ سمعته من بعض مَشَايِخنَا، يَحْكِي عَن الهمذاني عَن المُصَنّف أَنه أكمله.
وَالْمَوْجُود بِأَيْدِينَا مِنْهُ متواليًا مَا قَدَّمْتُه، وَقطعَة من الْحَج وَالزَّكَاة. وَلَو بُيِّض هَذَا الْكتاب، وَخرج إِلَى النَّاس، لاستغني بِهِ عَن كل كتاب صُنِّف فِي نَوعه، أَو بقيت مسودته. وَيُقَال: إِن بَعضهم أَفْسَدَ قِطْعَة مِنْهُ حسدًا. فَلَا حول وَلَا قُوَّة إلَّا بِاللَّه العليّ الْعَظِيم.
هَذَا كَلَامهم فِيمَا يتَعَلَّق بمتن الحَدِيث. وَأما متعلقاته:
فَأمر غَرِيبه:
(1/277)
أفرده بالتصنيف: أَبُو عُبَيْدَة معمر بن المثنَّى، وتلميذه أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام، وَالنضْر بن شُمَيْل، والهروي، وَابْن الْأَثِير، وَغَيرهم.
وَأمر أَسمَاء رُوَاته جرحا وتعديلًا:
وَأول من تكلَّم فِي ذَلِكَ: شُعْبَة، ثمَّ تبعه يَحْيَى بن سعيد القطَّان، ثمَّ أَحْمد بن حَنْبَل، وَيَحْيَى بن معِين. كَمَا قَالَه صَالح بن مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ - فأفرده بالتصنيف: يَحْيَى بن معِين - وَهُوَ أول من وضع كتابا فِي ذَلِكَ - ثمَّ البُخَارِيّ، ثمَّ أَبُو زرْعَة، وَأَبُو حَاتِم، وَالنَّسَائِيّ.
وَمن بعدهمْ: كالعُقَيْلي، والأزدي، وَابْن حبَان.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي كِتَابه «الاقتراح» : أَعْرَاض الْمُسلمين حُفْرَة من حفر النَّار، وَقَفَ عَلَى شَفِيْرِها طَائِفَتَانِ من النَّاس: المحدثون والحكام. قَالَ: وَكَانَ شيخ شُيُوخنَا الْحَافِظ أَبُو الْحسن الْمَقْدِسِي يَقُول فِي الرجل الَّذِي يخرج عَنهُ فِي الصَّحِيح: هَذَا جَازَ القنطرة. يَعْنِي بذلك: أَنه لَا (يلْتَفت) إِلَى مَا قيل فِيهِ.
قَالَ الشَّيْخ: وَهَكَذَا (نعتقد، و) بِهِ نقُول، وَلَا نخرج عَنهُ إلَّا ببيانٍ (شافٍ) ، وَحجَّة ظَاهِرَة.
وَأمر صحابته أفرده بالتصنيف:
أَبُو نعيم وَأَبُو مُوسَى الأصبهانيان، وَابْن قَانِع، وَابْن عبد الْبر، وَابْن الْأَثِير، وَغَيرهم.
وَكَذَلِكَ فعلوا - قَدَّس الله أَرْوَاحهم، ونَوَّر ضرائحهم - بباقي
(1/278)
أَنْوَاعه، وفنونه الزَّائِدَة عَلَى السِّتين نوعا، أَنْجَحَ الله قصدهم، وَلَا خَيَّبَ سعينا وسعيهم، فَلَقَد بذلوا جهدهمْ فِيمَا صنَّفوه، وأتعبوا فِكْرَهُم فِيمَا وضعوه وحرَّروه، وَلم يبْق هِمَّةُ أكثرِ الْفُضَلَاء (من) الْمُتَأَخِّرين إلَّا النّظر فِيمَا هَذَّبُوه، والاقتباس مِمَّا قَيَّدوه وضبطوه، ولعمري إنَّ ذَلِكَ (الْيَوْم) لمن أشرفِ المطالب، وأعظمِ الْمَقَاصِد.
وَكنت مِمَّن أَنعمَ الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَله الْحَمد والمِنَّة - عَلَيْهِ محبَّة الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة، خُصُوصا هَذَا الْعلم الشريف، فَكنت أُعلِّق فَوَائده، وأَضبط شوارده، وأُقيِّد أوابده، وأَسمع عاليه ونازله، كاشفًا عَن فنونه، باحثًا عَن علومه، (أَعنِي) : صَحِيحه، وَحسنه، وضعيفه، ومتصله، ومرسله، ومنقطعه، ومعضله، ومقلوبه، ومشهوره، وغريبه، وعزيزه، ومنكره، و (معروفه) ، وآحاده، ومتواتره، وأفراده، وشاذه، ومعلله، ومدرجه، ومبينه، ومختلفه، وموضوعه، إِلَى غير ذَلِكَ من معرفَة حَال أسانيده جرحا وتعديلًا، وأنسابًا وتاريخًا، وصدقًا وتدليسًا، واعتبارًا ومتابعةً، ووصلًا وإرسالًا، ووقفًا وانقطاعًا، وَزِيَادَة الثِّقَات، وَمَا خُولف فِيهِ الْأَثْبَات، وَمَعْرِفَة الصَّحَابَة، وتابعيهم، وتابعي التَّابِعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أَجْمَعِينَ.
ويَسَّر الله - تَعَالَى - لنا - سُبْحَانَهُ، وَله الْحَمد والْمنَّة - من الْكتب الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا طَالب هَذَا الْفَنّ: زِيَادَة عَلَى مائَة تأليف، كَمَا سأعدها لَك فِي آخر الْخطْبَة. وأحببت أَن أشتغل بِكِتَابَة الحَدِيث النَّبَوِيّ - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأعظم التَّحِيَّة والإِكرام - رَجَاء شَفَاعَته (فيَّ)
(1/279)
يَوْم الْقِيَامَة، يَوْم الهول والملامة، وثواب الله الْكَرِيم، وفضله العميم، وَقد قَالَ عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِيمَا (روينَا عَنهُ) : «اغْدُ عَالما أَو مُتَعَلِّمًا، وَلَا تَغْدُ الثَّالِثَة فَتَهْلِك» .
وَفِي «المعجم الْكَبِير» للطبراني من حَدِيث عَطاء بن مُسلم، عَن خَالِد الحَذَّاء، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي [بكرَة] ، عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «اغْدُ عَالما، أَو مُتَعَلِّمًا، أَو مستمعًا، أَو مُحِبًّا، وَلَا تكن الْخَامِسَة فتهلك» ، قَالَ: يَعْنِي بالخامسة: المُبْغِض.
ورجاءَ وُصُول هَذَا (الْعلم) الشريف إِلَى ذهني الركود، وقريحتي الَّتِي قَلَّ أَن تجود، وامتثالًا لقَوْل الْعلمَاء أولي الْفضل والتفضيل: التصنيف أحد (طريقَي) التَّحْصِيل.
وَلَا شكّ وَلَا مرية أَن أهم أَنْوَاعه - قبل الْخَوْض فِي فهمه -: معرفَة صَحِيحه من سقيمه، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي كِتَابه «الاقتراح» : نَحن نرَى أَن [من] أهم عُلُوم الحَدِيث: مَا يُؤَدِّي إِلَى معرفَة صَحِيح الحَدِيث.
(1/280)
فَبَقيت زَمنا مُتَحَيِّرًا فِيمَ أكتبه، وَمَا أعلِّقه وأصنِّفه، إِلَى أَن خار الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - والخيرة بِيَدِهِ، كَمَا قَالَ فِي كِتَابه: (مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة) ، وَله الْحَمد والمنَّة - بتأليف كتاب نَفِيس، لم أُسْبَقْ إِلَى وَضعه، وَلم يُنسج عَلَى منواله وَجمعه، وَأهل زَمَاننَا وَغَيرهم (شديدو) الْحَاجة إِلَيْهِ، وكل الْمذَاهب تعتمد فِي الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ، وَهُوَ: أَن أتكلَّم عَلَى الْأَحَادِيث (والْآثَار الْوَاقِعَة) فِي «الْفَتْح الْعَزِيز (فِي) شرح الْوَجِيز» ، وَهُوَ الشَّرْح الْكَبِير الَّذِي صنَّفه إِمَام الملَّة والدِّين، أَبُو الْقَاسِم عبد الْكَرِيم ابْن الإِمام أبي الْفضل مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الرَّافِعِيّ، قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه، فَإِنَّهُ كتاب لم يصنف فِي الْمَذْهَب عَلَى مثل أسلوبه، وَلم يجمع أحد سلف كجمعه، فِي ترتيبه وتنقيحه وتهذيبه، ومرجع فقهائنا فِي كل الأقطار - الْيَوْم - فِي الْفَتْوَى، والتدريس، والتصنيف إِلَيْهِ، واعتمادهم فِي هَذِه الْأُمُور عَلَيْهِ.
لكنه - أَجْزَل الله مثوبته - مَشَى فِي هَذَا الشَّرْح الْمَذْكُور عَلَى طَريقَة الْفُقَهَاء الخُلَّص، فِي ذكر الْأَحَادِيث الضعيفة والموضوعات، والمنكرة والواهيات، وَالَّتِي لَا تعرف أصلا فِي كتاب حَدِيث، لَا قديم وَلَا حَدِيث، فِي معرض الِاسْتِدْلَال، من غير بَيَان ضَعِيف من صَحِيح، وسليم من جريح.
وَهُوَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِمَام فِي الْفَنّ الْمَذْكُور، وَأحد فرسانه، كَمَا سَيَأْتِي إيضاحه فِي تَرْجَمته. فتوكلت - حينئذٍ - عَلَى الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي
(1/281)
ذَلِكَ، وسَأَلْتُه التوفيقَ فِي القولِ والعملِ، والعصمة من الْخَطَأ والخَطَل.
وَكنت عزمت عَلَى أَن أرتِّب أَحَادِيث وآثار الْكتاب الْمَذْكُور عَلَى مسانيد الصَّحَابَة، فأذكر الصَّحَابِيّ وعدة مَا رَوَى من الْأَحَادِيث، وَمَا لَهُ من الْآثَار، فثنيت الْعَنَان عَن ذَلِكَ، لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن الإِمام الرَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي كثير من المواطن لَا يذكر إلَّا نَفْس الحَدِيث، ويحذف الرَّاوِي، إذْ هُوَ مَوضِع الْحَاجة، فَلَا يَهْتَدِي طَالب الحَدِيث إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يعرف مظنته.
الثَّانِي: أَن ذَلِكَ يعسر عَلَى الْفَقِيه، فإنَّه يَسْتَدْعِي معرفَة جَمِيع الْأَحَادِيث والْآثَار الْوَاقِعَة فِي شرح الرَّافِعِيّ، واستحضارها - وَهِي زَائِدَة عَلَى أَرْبَعَة آلَاف بمكررها - وَرُبمَا عسر ذَلِكَ عَلَيْهِم.
فرتبته عَلَى تَرْتِيب «شرح الرَّافِعِيّ» ، لَا أُغَيِّر مِنْهُ شَيْئا بِتَقْدِيم وَلَا بِتَأْخِير، فأَذكر كل بَاب وَمَا تضمَّنه من الْأَحَادِيث والْآثَار.
فَمَتَى طلب الطَّالِب حَدِيثا أَو أثرا فِي «كتاب الطَّهَارَة» مِنْهُ، فَزِعَ إِلَى كتاب الطَّهَارَة من هَذَا التَّأْلِيف، أَو فِي «كتاب الصَّلَاة» فَزِعَ إِلَى كتاب الصَّلَاة مِنْهُ، وَهَكَذَا أَولا فَأول، عَلَى التَّرْتِيب وَالْوَلَاء، إِلَى آخر الْكتاب - إِن شَاءَ الله تَعَالَى ذَلِكَ وقَدَّره - مُعْزِيًا إِلَى الْأُصُول الْمخْرج مِنْهَا:
فَإِن كَانَ الحَدِيث أَو الْأَثر فِي صحيحي الإِمامين: أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ وَأبي الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج القُشَيْري، أَو أحدِهِما: اكتفيت بعزوه إِلَيْهِمَا، أَو إِلَيْهِ، وَلَا أُعَرِّجُ عَلَى من رَوَاهُ غَيرهمَا من بَاقِي (أَصْحَاب) الْكتب الستَّة، وَالْمَسَانِيد، والصحاح؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي الإِطالة بذلك - وَإِن كَانَ الْحَافِظ مجد الدَّين عبد السَّلَام
(1/282)
ابْن تَيْمِية اعْتمد ذَلِكَ فِي «أَحْكَامه» - لِأَن الْغَرَض الِاخْتِصَار، وَذَلِكَ عِنْدِي - بِحَمْد الله - من أيسر شَيْء. اللَّهُمَّ إلَّا أَن يكون فِي الحَدِيث زِيَادَة (عِنْد غَيرهمَا) ، وَالْحَاجة دَاعِيَة إِلَى ذَلِكَ، فَأُشْفِعُه (بالعزو) إِلَيْهِم.
وَإِن لم يكن الحَدِيث فِي وَاحِد من الصَّحِيحَيْنِ، (عزوته) إِلَى من أخرجه من الْأَئِمَّة: كمالك فِي «موطئِهِ» ، وَالشَّافِعِيّ فِي « (الْأُم) » ، و «مُسْنده» الَّذِي جُمع من حَدِيثه، و «سنَنه» الَّتِي رَوَاهَا الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَنهُ، و «سنَنه» الَّتِي رَوَاهَا أَبُو عبد الله، مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم عَنهُ، وَأحمد فِي «مُسْنده» ، وَعبد الله بن وهب فِي «موطئِهِ» ، وَأبي دَاوُد فِي «سنَنه» ، وَأبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ، وَأبي عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ فِي «سنَنه الْكَبِير» المُسَمَّى ب «المجتنى» ، و «الصَّغِير» المُسَمَّى ب «الْمُجْتَبَى» ، وَأبي عبد الله بن مَاجَه الْقزْوِينِي فِي «سنَنه» ، وَأبي عوَانَة فِي «صَحِيحه» ، وَإِمَام الْأَئِمَّة مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة فِي الْقطعَة الَّتِي وقفتُ عَلَيْهَا من «صَحِيحه» ، وَأبي حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه الْمُسَمَّى ب «التقاسيم والأنواع» ، وَفِي كِتَابه «وصف الصَّلَاة بِالسنةِ» ، وَأبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي «صَحِيحه» وَأبي عبد الله الْحَاكِم فِيمَا استدرك عَلَى «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَابْن أبي شيبَة، والحُمَيْدِي، والدَّارِمِي، و (أبي) دَاوُد الطَّيَالِسي، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَأبي يَعْلَى، والبَزَّار، والْحَارث بن أبي أُسَامَة، فِي «مسانيدهم» ، وَابْن الْجَارُود فِي «المُنْتَقى» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي
(1/283)
«سنَنه» ، وَأبي بكر الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن الْكَبِير» ، وانْتَقَد عَلَيْهِ بعض شُيُوخنَا مواضعَ يُمكن الْجَواب عَنْهَا، و «معرفَة السّنَن والْآثَار» ، و «شعب الإِيمان» والمعاجم الثَّلَاثَة للطبراني، والْكَبِير سِتُّونَ ألف حديثٍ، كَمَا قَالَه ابْن دحْيَة فِي كتاب «الْآيَات الْبَينَات» . قَالَ فِي (مَوضِع آخر) مِنْهُ: وَقيل: ثَمَانُون ألفا. وَجمع الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابه «خَصَائِص أَعْضَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . قَالَ: وعاش مائَة سنة. وَقَالَ صَاحب «مُسْند الفردوس» : وَيُقَال: إِن الْأَوْسَط ثَلَاثُونَ ألف حَدِيث. و «الطّهُور» لأبي عبيد الْقَاسِم بن سَلَّام، و «سنَن» اللالكائي، و «سنَن» أبي عَلّي بن السَّكن، المسمَّى ب « (السّنَن) الصِّحَاح المأثورة» .
نَاظرا عَلَى ذَلِك من كتب الصَّحَابَة:
مَا صنَّفه أَبُو نعيم وَأَبُو مُوسَى الأصبهانيان، وَابْن عبد الْبر، وَابْن قَانِع فِي «مُعْجَمه» ، و (عبد الْكَرِيم الْجَزرِي) فِي كِتَابه « (أَسد) الغابة» ، وَمَا زَاده الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ (من) «طَبَقَات ابْن سعد» وَغَيره، فِي اختصاره للْكتاب الْمَذْكُور وَمَا أهمله.
وَمن كتب الْأَسْمَاء جرحا وتعديلًا وَغير ذَلِك:
تواريخ البُخَارِيّ، و «الضُّعَفَاء» لَهُ، و «الضُّعَفَاء» للنسائي، و «الْجرْح
(1/284)
وَالتَّعْدِيل» لِابْنِ أبي حَاتِم، و «الضُّعَفَاء» للعقيلي، و «الْكَامِل» لِابْنِ عدي، و «الضُّعَفَاء» لِابْنِ حبَان، و «الثِّقَات» لَهُ، و «الثِّقَات» لِابْنِ شاهين، و «المُخْتَلَف فيهم» (لَهُ) ، و «الضُّعَفَاء» (لأبي الْعَرَب) ، و «الضُّعَفَاء» لأبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ، وَمَا جمعه الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه الْمُسَمَّى ب «الْمُغنِي فِي الضُّعَفَاء» ، وَمَا ذيَّل عَلَيْهِ، وَمَا جمعه آخرا وسَمَّاه ب «ميزَان الِاعْتِدَال فِي نقد الرِّجَال» ، وَهُوَ من أنفس كتبه.
و «رجال الصَّحِيحَيْنِ» لِابْنِ طَاهِر، غير مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ، و «الكُنى» للنسائي، و «الكُنى» للدولابي، و «الكُنى» لِلْحَافِظِ أبي أَحْمد الْحَاكِم، وَهُوَ (أكبرها) .
و «الْمدْخل إِلَى الصَّحِيحَيْنِ» للْحَاكِم أبي عبد الله، و «التذهيب» لِلْحَافِظِ أبي عبد الله الذَّهَبِيّ، وَأَصله المسمَّى ب «تَهْذِيب الْكَمَال» لِلْحَافِظِ جمال الدَّين المزيِّ، وَمَا (نُقد) عَلَيْهِ. «والكمال» ، و «الكاشف» ، و «الذبّ عَن الثِّقَات» ، و «من تُكُلِّمَ فِيهِ وَهُوَ موثق» لِلْحَافِظِ أبي عبد الله الذَّهَبِيّ، و «الْأَسْمَاء المفردة» لِلْحَافِظِ أبي بكر البرديجي، و «أَسمَاء رُوَاة الْكتب» لأبي عبد الله بن نقطة، و «كشف النقاب عَن الْأَسْمَاء والألقاب» لأبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ، و «الْأَنْسَاب» لِابْنِ طَاهِر، و «إِيضَاح
(1/285)
[الْإِشْكَال] » لِلْحَافِظِ عبد الْغَنِيّ الْمصْرِيّ، و «غُنْيَة الملتمس فِي إِيضَاح الملتبس» للخطيب الْبَغْدَادِيّ، و «مُوَضِّح أَوْهَام الْجمع والتفريق» لَهُ، وَهُوَ كتاب نَفِيس، وَقع لي بِخَطِّهِ.
و «تَلْخِيص الْمُتَشَابه فِي الرَّسْم، وحماية مَا أشكل (مِنْهُ) عَن (بَوَادِر) التَّصْحِيف وَالوهم» لَهُ أَيْضا، و «أَسمَاء من رَوَى عَن مَالك» لَهُ، وَكتاب: «الْفَصْل للوصل المدرج فِي النَّقْل» (لَهُ) ، و «التَّهْذِيب» للشَّيْخ محيي الدَّين النواوي.
وَمن كتب الْعِلَل:
مَا أودعهُ أَحْمد، وَابْن الْمَدِينِيّ، وَابْن أبي حَاتِم، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَابْن القَطَّان، وَابْن الْجَوْزِيّ: فِي عللهم.
قَالَ ابْن مهْدي الْحَافِظ: لِأَن أَعْرِف عِلَّة حَدِيث هُوَ عِنْدِي، أحبّ إليَّ من أَن أَكتبَ عشْرين حَدِيثا لَيْسَ عِنْدِي.
وَمن كتب الْمَرَاسِيل:
مَا أودعهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن أبي حَاتِم، وَابْن بدر الْموصِلِي، وَشَيخنَا صَلَاح الدَّين العلائي، حَافظ زَمَانه - أبْقَاه الله فِي خير وعافية - فِي مراسيلهم.
وَمن كتب الموضوعات: مَا أودعهُ ابْن طَاهِر، والجَوْرَقَاني، وَابْن الْجَوْزِيّ، والصَّغَانيّ، وَابْن بدر الْموصِلِي: فِي موضوعاتهم.
(1/286)
وَمن كتب الْأَطْرَاف:
أَطْرَاف الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي، حَافظ الْوَقْت، الْمُسَمَّاة ب «تحفة الْأَشْرَاف بِمَعْرِِفَة الْأَطْرَاف» . اقْتَصَرْتُ عَلَيْهَا؛ لكَونه هَذَّبَ الْأَطْرَاف المتقدِّمة قبله، (مَعَ جمعهَا لَهَا) ك «أَطْرَاف» خلف، وَأبي مَسْعُود، وَابْن عَسَاكِر، وَابْن طَاهِر، واستدرك جملَة عَلَيْهِم.
وأطراف خلف أقلُّ وهما وَخطأ من أَطْرَاف أبي مَسْعُود، وأطراف ابْن طَاهِر كَثِيرَة الْوَهم، كَمَا شهد بذلك حَافظ الشَّام ابْن عَسَاكِر.
وَمن كتب الْأَحْكَام:
أَحْكَام عبد الْحق «الْوُسْطَى» ، و «الصُّغْرَى» ، و «أَحْكَام» الضياء الْمَقْدِسِي، و «الْأَحْكَام الْكُبْرَى» لعبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي، وَأَحْكَام أبي عبد الله مُحَمَّد (بن فرج) الْمَعْرُوف ب «الطَلَّاع» ، و «الْمُنْتَقَى» لمجد الدَّين ابْن تَيْمِية، و «الإِلمام» للشَّيْخ تَقِيّ الدَّين، وَالْمَوْجُود من «الإِمام» (لَهُ) ، و «الْخُلَاصَة» للشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ، وَهِي مفيدة، وَلم يُكَمِّلها.
وَمَا ذكره الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي كتاب «اخْتِصَار سنَن أبي دَاوُد» ، من اعتراضات وفوائد.
وَمن كتب الخلافيات الحديثية:
«خلافيات» الْحَافِظ أبي بكر الْبَيْهَقِيّ، وَلم أرَ مثلهَا، بل وَلَا صُنِّف. وخلافيات الْحَافِظ جمال الدَّين أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ، الْمُسَمَّاة ب «التَّحْقِيق فِي أَحَادِيث التَّعْلِيق» ، وَهِي مفيدة، وَمَا نقب عَلَيْهَا.
(1/287)
وَمن كتب الأمالي:
« (أمالي» ) ابْن السَّمْعَانِيّ، «أمالي» ابْن مَنْدَه، «أمالي» ابْن عَسَاكِر، أمالي إِمَام الْملَّة وَالدّين، أبي الْقَاسِم الرَّافِعِيّ - الَّذِي تصدينا لإِخراج أَحَادِيث «شَرحه الْكَبِير» - وَهِي مفيدة جدًّا لم أرَ أحدا مَشَى عَلَى مِنْوَالِها، فإنَّه أملاها فِي ثَلَاثِينَ مَجْلِسا، ذكر فِي أول كل مجلسٍ مِنْهَا حَدِيثا بِإِسْنَادِهِ، عَلَى طَريقَة أهل الْفَنّ، ثمَّ تكلم (عَلَيْهِ) بِمَا يتَعَلَّق بِإِسْنَادِهِ، وحالِ رواتِه، وغريبِه، وعربيته، وفقههِ، ودقائقه، ثمَّ يختمه بفوائد، (وأشعار) ، وحكايات، ورتبها ترتيبًا بديعًا عَلَى نظم كَلِمَات الْفَاتِحَة، بإرداف كلمة «آمين» لِأَنَّهَا بهَا ثَلَاثُونَ كلمة، فَاشْتَمَلَ الحَدِيث الأول عَلَى كلمة «الِاسْم» ، وَالثَّانِي عَلَى اسْم الله الْعَظِيم، وَالثَّالِث عَلَى «الرَّحْمَن» ، وهلم جرًّا إِلَى آخرهَا.
وَهَذَا تَرْتِيب بديع، وسمَّاها: «الأمالي الشارحة لمفردات الْفَاتِحَة» ، ومَنْ نَظَر فِي الْكتاب الْمَذْكُور عَرَفَ قدر هَذَا الإِمام، وَحكم لَهُ بتقدمه فِي (هَذَا) الْعلم خُصُوصا.
وَمن كتب النَّاسِخ والمنسوخ:
مَا أودعهُ الإِمام الشَّافِعِي فِي «اخْتِلَاف الحَدِيث» ، والأثرم، والحازمي، وَابْن شاهين، وَابْن الْجَوْزِيّ: فِي تواليفهم.
وَمن كتب المبهمات فِي الحَدِيث:
(مَا) أودعهُ الْحَافِظ الْخَطِيب أَبُو بكر الْبَغْدَادِيّ، وَابْن بشكوال،
(1/288)
وَابْن طَاهِر: فِي تواليفهم.
وَمَا زَاده الشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ فِي اختصاره لكَلَام الْخَطِيب، والحافظ: أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي آخر كِتَابه الْمُسَمَّى ب «تلقيح فهوم [أهل] الْأَثر فِي الْمَغَازِي وَالسير» .
وَمن كتب شُرُوح الحَدِيث والغريب:
مَا ذكره القَاضِي عِيَاض، والمازري قبله، وَالنَّوَوِيّ، والقرطبي: فِي شروحهم ل «مُسلم» .
وَمَا شرحهُ الْخطابِيّ من: «سنَن أبي دَاوُد» ، و «البُخَارِيّ» المسمَّى ب «الْأَعْلَام» .
وَمَا شرَحه (النَّوَوِيّ) من: «البُخَارِيّ» ، و «سنَن أبي دَاوُد» وَلم يكملهما.
وَمَا شرَحه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين من أَوَائِل «الإِلمام» .
وَمَا شَرحه شَيخنَا، حَافظ مصر فتح الدَّين ابْن سيد النَّاس من «جَامع التِّرْمِذِيّ» ، وَلَو كَمُلَ كَانَ فِي غَايَة الْحسن.
و «شرح مُسْند الإِمَام الشَّافِعِي» لِابْنِ الْأَثِير، وللإِمام أبي الْقَاسِم الرَّافِعِيّ أَيْضا، وَهُوَ من جملَة مَا يُعْرَفُ بِهِ قدره فِي هَذَا الْفَنّ.
وَمَا أودعهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلَّام فِي «غَرِيبه» (الَّذِي) جمعه فِي أَرْبَعِينَ سنة، وَكَانَ خُلَاصَة عمره. والحَرْبيّ - صَاحب الإِمام أَحْمد - فِي «غَرِيبه الْكَبِير» ، والزَّمَخْشَرِيّ فِي «فَائِقِه» ، وَابْن قُرْقُول فِي «مطالعه» ،
(1/289)
والهَرَوِيّ فِي «غَرِيبه» ، وَابْن الْأَثِير فِي «نهايته» .
وَمَا ذكره فِي «جَامع الْأُصُول» .
وَمَا ذكره القَلْعِي، وَابْن بَاطِيْش، وَابْن مَعْن: فِي كَلَامهم عَلَى (الْمُهَذّب) .
والخَطَّابي فِي كِتَابه: «تصاحيف الْمُحدثين» ، والصولي فِيهِ أَيْضا، والعَسْكري فِيهِ أَيْضا. والمُطَرِّزِيّ فِي «مغربه» ، وَمَا أَكثر فَوَائده.
وَمن كتب أَسمَاء الْأَمَاكِن:
مَا أودعهُ الْوَزير أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي «مُعْجم مَا استعجم من الْبلدَانِ» ، (والحافظ أَبُو بكر الْحَازِمِي) فِي تأليفه الْمُسَمَّى ب «الْمُخْتَلف والمؤتلف فِي أَسمَاء الْأَمَاكِن» وهما غَايَة فِي بابهما.
وَمن كتب أُخرى حَدِيثِيَّةٌ:
كمعجم أبي (يعْلى) الْموصِلِي، و «جَامع المسانيد بألخص الْأَسَانِيد» لأبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ، وَهُوَ تَلْخِيص مُسْند الإِمام أَحْمد بن حَنْبَل، و «نقي النَّقْل» لَهُ، وَكتاب «تَحْرِيم الْوَطْء فِي الدبر» لَهُ، و «بَيَان خَطَأِ من أَخْطَأَ عَلَى الشَّافِعِي فِي الحَدِيث» للبيهقي، و «فِي اللُّغَة» لَهُ أَيْضا، و «حَيَاة الْأَنْبِيَاء فِي قُبُورهم» لَهُ أَيْضا، وَكتاب «الْأَشْرِبَة» للإِمام أَحْمد، و «الْحِلْية» لأبي نعيم، و «أَمْثَال الحَدِيث» للرَّامَهُرْمُزِيّ، و «الْأَوَائِل» للطبراني، و «عُلُوم الحَدِيث» للْحَاكِم أبي عبد الله، وَابْن الصّلاح.
و «الدَّعْوَات الكافية فِي الْأَدْوِيَة الشافية» لِابْنِ الْقُسْطَلَانِيّ،
(1/290)
و «الْأَدْعِيَة» لِلْحَافِظِ أبي الْفضل الْمَقْدِسِي، و «الصَّوْم» لَهُ، و «الصّيام من السّنَن المأثورة» للْقَاضِي يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْمَاعِيل.
و «كَلَام الحافظِ أبي الْفضل بن طَاهِر عَلَى حَدِيث معَاذ» ، و «أَحَادِيث الشهَاب» .
و «المُحَلَّى شرح المُجَلَّى» لأبي مُحَمَّد بن حزم.
وَمَا رَدَّه عَلَيْهِ ابْن عبد الْحق، وَابْن مُفَوِّز، وَشَيخنَا قطب الدَّين عبد الْكَرِيم الْحلَبِي، الْحَافِظ، فِي جُزْء جيد، وَمَا أَكثر فَوَائده.
و «رسائل ابْن حزم فِي الْقيَاس» ، و «فَضَائِل الْجِهَاد» لبهاء الدَّين بن عَسَاكِر، ابْن الْحَافِظ الْمَشْهُور.
وَمن مصنفات أبي الْخطاب بن دِحْيَة: «الْآيَات البَيِّنات فِي أَعْضَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام» ، و «مرج الْبَحْرين فِي فَوَائِد المشرقين والمغربين» ، و «العَلَم الْمَشْهُور فِي فَضَائِل الْأَيَّام والشهور» ، و « (خَصَائِص) الْأَعْضَاء» ، و « (التَّنْوِير)
(1/291)
فِي مولد السراج الْمُنِير» وَغَيرهَا من مؤلفاته المفيدة.
وَمن كتب أُخْرَى مُتَعَلقَة بالفقه:
ك «تَخْرِيج أَحَادِيث الْمُهَذّب» للشَّيْخ زكي (الدَّين) عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ، رَأَيْت مِنْهُ إِلَى أَوَاخِر الْحَج، وشأنه إِيرَاد الْأَحَادِيث بأسانيده. وَكَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ عَلَى «الْوَسِيط» ، و «الْمُهَذّب» ، وَكَلَام الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «التذنيب» الَّذِي لَهُ عَلَى «الْوَجِيز» .
وَكَلَام الشَّيْخ نجم الدَّين بن الرِّفْعَة، فِي شرحي «الْوَسِيط» ، و «التَّنْبِيه» ، وَغير ذَلِك.
هَذَا مَا حضرني الْآن من الْكتب الَّتِي نظرتها، واعتمدت عَلَيْهَا فِي هَذَا التصنيف وانتخبتها.
وَأما الْأَجْزَاء الحديثية، والمصنفات اللطيفة، والفوائد المنتخبة من الخبايا والزوايا فَلَا ينْحَصر مصنفاتها، وكل نقولاتها فِي الْكتاب معزوة إِلَى (قَائِلهَا) وناقلها، فإنْ كَانَ فِي المظنة أطلقته، وإنْ لم يكن (فِيهَا) قَيَّدتهُ بِبَابِهِ.
وَعَدَدْتُ هَذِه الْكتب هَا هُنَا لفائدتين:
إِحْدَاهمَا: أَن النَّاظر قد يُشْكِل عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا ذَكرْنَاهُ عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة، فيراجعه من تواليفهم.
(الثَّانِيَة) : ليعرف مِقْدَار هَذَا الْكتاب، وبذل جهد الطَّاقَة والوسع فِيهِ.
(1/292)
فإنْ كَمُلَ مَا رُمْنَاهُ، وَحصل مَا قَصَدْنَاه حصل عنْدك أَيهَا الطَّالِب خزانَة من أَنْوَاع الْعُلُوم الْمَذْكُورَة فِيهِ، وكملت فَائِدَة شرح الرَّافِعِيّ، لِأَن محصلهما حينئذٍ يكون جَامعا للفنين - أَعنِي عِلْمَي: الْفِقْه والْحَدِيث - (وحائِزًا (للمنقبتين) ، ويلتحق بِمن إِذا ذكرُوا فِي الْقَدِيم والْحَدِيث) ، يُقَال فِي حَقهم: الجامعون بَين الْفِقْه والْحَدِيث.
وأتوسط فِي الْعبارَة فِيمَا أُورده من علل الحَدِيث، ومتعلقاته، وَإِذا توارد عَلَى التَّعْلِيل - أَو غَيره من الْفُنُون الْمُتَعَلّقَة بِهِ - (أَقْوَال) أَئِمَّة ذكرتُ قَول أشهرهم لَئِلَّا يطول الْكتاب.
وأُنَبِّه - مَعَ ذَلِكَ - عَلَى مَا أَظهره الله عَلَى يَدي مِمَّا وَقع للْمُتَقَدِّمين والمتأخرين من وهم، أَو غلط، أَو اعْتِرَاض، أَو (اسْتِدْرَاك) ، قَاصِدا بذلك النَّصِيحَة للْمُسلمين، حاشا الظُّهُور أَو التنقيص، معَاذ الله من ذَلِكَ، فَهَل الْفضل إلَّا للمتقدم، وغالب ذَلِكَ إِنَّمَا يَقع (من) التَّقْلِيد، وَنحن (برَاء مِنْهُ) بِحَمْد الله وَمَنِّه.
وأُتْبعُ الْكَلَام غَالِبا - بعد بَيَان صِحَة الحَدِيث، وَضَعفه، وغرابته، إِلَى غير ذَلِكَ من فنونه - بِمَا وَقع فِيهِ من ضبط ألفاظٍ، وَأَسْمَاء، وفوائدَ، وإشكالات.
وَهَذَا النَّوْع - وَإِن كَانَ كتَابنَا هَذَا غير مَوْضُوع لَهُ - فبه تكمل الْفَائِدَة، وتتم العائدة، إلَّا أَنَّا نَتَحَرَّى الِاخْتِصَار فِي إِيرَاده، ونقتصر فِي إبرازه، حَذَرَ السَّآمَة (والملل) .
(1/293)
ووسمته ب «الْبَدْر الْمُنِير فِي تَخْرِيج أَحَادِيث الشَّرْح الْكَبِير» .
وقدمت فِي أَوله فصولًا، تكونُ لِمُحَصِّله وَغَيره قَوَاعِد يَرْجِع إِلَيْهَا، وأصولًا فِي شُرُوط الْكتب السِّتَّة، وَغَيرهَا من الْكتب المصنَّفة المتقدِّمة، ليعتمد عَلَى شَرطهَا من أول الْكتاب إِلَى آخِره.
وَفِي آخرهَا فصلا فِي حَال الإِمام (الرَّافِعِيّ) ومولده، ووفاته، وشيوخه، ومصنفاته، فإنَّه فِي الإِسلام بِمحل خطير، وَبِكُل فَضِيلَة جدير، ليُعْرَف قدره، وَيرد عَلَى (كل) من جَهِلَ حَاله وفضله.
وَبَيَان حَال وَالِده، ووالدته، فإنَّهما من الَّذين تتنزَّل الرَّحْمَة بذكرهم، ويُبْتَهل إِلَى الله ببركتهم.
جَعَلَه الله مُقَرِّبًا من رضوانه، مُبْعِدًا من سخطه وحرمانه، نَافِعًا لكَاتبه، وسامعه، نفعا شَامِلًا فِي الْحَال والمآل، إنَّه لِمَا يَشَاء فَعَّال، لَا رب سواهُ، وَلَا مَرْجُوًّا إلَّا إيَّاه.
اللَّهُمَّ انفعني بِهِ يَوْم الْقِيَامَة، يَوْم الْحَسْرَة والندامة، ووالدي، ومشايخي، وأحبائي، وَالْمُسْلِمين أَجْمَعِينَ، إِنَّه عَلَى مَا يَشَاء قدير، وَبِكُل مأمول جدير.
فصل
أمَّا «موطأ» إِمَام دَار الْهِجْرَة، مَالك بن أنس: فشرطها أوضح من (الشَّمْس) . قَالَ بشر بن عمر الزهْرَانِي: سَأَلت مَالِكًا عَن رجلٍ، فَقَالَ:
(1/294)
رَأَيْتَه فِي كتبي؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: لَو كَانَ ثِقَة لرأيته فِي كتبي.
وَقَالَ الإِمام أَحْمد: مالكٌ إِذا رَوَى عَن رجلٍ لَمْ يُعْرَف فَهُوَ حجَّة.
وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كَانَ مَالك لَا يبلغ من الحَدِيث إلَّا صَحِيحا، وَلَا يُحَدِّث إلَّا عَن ثِقَات النَّاس.
(وَقَالَ صَاحب «مُسْند الفردوس» : هُوَ أول كتاب صُنِّف فِي الْإِسْلَام، وعلِّقَ عَلَى بَاب الْكَعْبَة بسلسلة الذَّهَب) .
فصل
وَأما مُسْند الإِمام أَحْمد، (وَذَلِكَ) فِيمَا روينَا بالإِسناد الصَّحِيح عَنهُ أَنه قَالَ: عملت هَذَا الْكتاب - يَعْنِي الْمسند - إِمَامًا، إِذا اخْتلف الناسُ فِي سُنَّةٍ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رُجِع إِلَيْهِ.
وَقَالَ حَنْبَل بن إِسْحَاق: جَمَعَنا أَحْمد بن حَنْبَل، أَنا وَصَالح، وَعبد الله وَقَرَأَ علينا «الْمسند» ، و (مَا) سَمعه مِنْهُ غَيرنَا، وَقَالَ لنا: هَذَا الْكتاب قد جمعته وانتقيته من أَكثر من سَبْعمِائة ألف وَخمسين ألفا، فَمَا اخْتلف الْمُسلمُونَ فِيهِ من حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فارجِعُوا إِلَيْهِ، فإنْ وجدتموه، وإلَّا فَلَيْسَ بحجَّة.
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْقَادِر الرُّهَاوي فِي كتاب «المادح والممدوح» - وَمن خطّ الْمُنْذِرِيّ نقلت -: كَيفَ قَالَ الإِمام أَحْمد هَذَا و «الْمسند» يشْتَمل عَلَى الصِّحَاح، وغرائب، وَأَحَادِيث فِيهَا ضعف؟ ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ
(1/295)
إنَّما أَرَادَ بقوله: فإنْ وجدتموه فِيهِ، وإلَّا فَلَيْسَ بِحجَّة: الْأَحَادِيث الصِّحَاح الَّتِي احتوى عَلَيْهَا مُسْنده، دون الغرائب، والضعاف. يَعْنِي: أَن كل حَدِيث يُرَاد للاحتجاج بِهِ، وَالْعَمَل بِحكمِهِ، وَلَيْسَ فِي مُسْنده فَلَيْسَ بِصَحِيح، حكما مِنْهُ بأنَّه لم يبقَ حَدِيث صَحِيح خَارج «مُسْنده» ، وَهَذَا لسعة علمه بالأحاديث، وإحاطته بهَا وبطرقها، وصحاحها، وسقامها.
قَالَ: وَمن أَمْعَنَ فِي طلب الحَدِيث، واستكثر مِنْهُ، وَمن الْكتب المصنفة فِيهِ فِي أَنْوَاع علومه، وَرَآهَا مشحونة بِكَلَامِهِ، وَرَأَى اعْتِمَاد المُصَنِّفين عَلَى كَلَامه، وإحالتهم عَلَيْهِ - من عصره، وزمانه وهلم جرًّا، إِلَى حِين قَلَّ طالبو الحَدِيث، وكَسَد سوقه - عَرفَ صِحَة مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي «خَصَائِصه» : وَلم يخرج - أَي أَحْمد - إلَّا عَمَّن يثبت عِنْده صدقه، وديانته، دون من طُعِنَ فِي أَمَانَته، يدل عَلَى ذَلِكَ قَول ابْنه عبد الله: سَأَلت أبي عَن عبد الْعَزِيز بن أبان فَقَالَ: لم أخرج عَنهُ فِي الْمسند شَيْئًا، قد أخرجت عَنهُ عَلَى غير وَجه الحَدِيث، لَمَّا حدَّث بِحَدِيث الْمَوَاقِيت تركته.
قَالَ أَبُو مُوسَى: وَمن الدَّلِيل (عَلَى) أنَّ مَا أودعهُ «مُسْنده» قد (احتاط) فِيهِ إِسْنَادًا ومتنًا، وَلم يوردْ فِيهِ إلَّا مَا صحَّ عِنْده (ضربه) عَلَى أَحَادِيث رجال (ترك) الرِّوَايَة عَنْهُم، رَوَى عَنْهُم فِي غير «الْمسند» .
فَائِدَة:
عَدَدُ أَحَادِيث «الْمسند» أَرْبَعُونَ ألفا، بِزِيَادَات ابْنه عبد الله. كَمَا قَالَه
(1/296)
ابْن دحْيَة فِي «فَوَائِد المشرقين والمغربين» .
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن (الْمُنَادِي) : إِنَّه ثَلَاثُونَ ألفا، (وَقَالَ صَاحب «مُسْند الفردوس» : يُقَال: إِنَّه ضمَّنَه خمسين ألف حَدِيث) .
فصل
وَأما «صَحِيح الإِمام أبي عبد الله البُخَارِيّ» فَهُوَ أصح الْكتب بعد الْقُرْآن.
روينَا عَنهُ أَنه قَالَ: مَا أدخلت فِي كتاب «الْجَامِع» إلَّا مَا صحَّ، وَتركت من الصِّحَاح لحَال الطول.
وروينا من جِهَات عَنهُ أَنه قَالَ: صنفت كتاب الصَّحِيح لستّ عشرَة سنة، خرجته من سِتّمائَة ألف حَدِيث، وَجَعَلته حجَّة بيني وَبَين الله - عزَّ وجلَّ.
قُلْتُ: وَأما زعم أبي مُحَمَّد بن حزم الظَّاهِرِيّ أَن فِيهِ حَدِيثا مَوْضُوعا - وَهُوَ حَدِيث «شقّ الصَّدْر» إِلَى آخِره - فَلَا يُقبل مِنْهُ.
(1/297)
وَقد أجَاب عَن ذَلِكَ ابْن طَاهِر الْمَقْدِسِي فِي جُزْء مُفْرد.
فصل
وَأما صَحِيح الإِمام أبي الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج، فَهُوَ أصح الْكتب بعد الْقُرْآن أَيْضا، وَبَعض عُلَمَاء (الغرب يَقُولُونَ) : إنَّه أصح من كتاب البُخَارِيّ. وَلَيْسَ بصواب.
رُوِّينا عَنهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي «صَحِيحه» أَنه قَالَ: لَيْسَ كل حَدِيث صَحِيح وَضعته فِي كتابي، إنَّما وضعت هَا هُنَا مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح: أَرَادَ - وَالله أعلم - أَنه لم يضع فِي كِتَابه إلَّا الْأَحَادِيث الَّتِي وُجِدَ عِنْده فِيهَا شَرَائِط الصَّحِيح (الْمجمع) عَلَيْهِ، وإنْ لم يظْهر اجتماعها فِي بَعْضهَا عِنْد بَعضهم.
قُلْتُ: وَأما زعم أبي مُحَمَّد الظَّاهِرِيّ أَيْضا أَن فِيهِ حَدِيثا مَوْضُوعا - وَهُوَ حَدِيث أبي سُفْيَان يَوْم الْفَتْح الْمَشْهُور - فَلَا يقبل مِنْهُ.
وَقد أجَاب عَنهُ الْأَئِمَّة بأجوبة، نذكرها - إِن شَاءَ الله - فِي كتاب «الْوكَالَة» من ربع الْبيُوع، حَيْثُ يعرض لَهُ الرَّافِعِيّ.
(1/298)
وَاعْلَم أَن مَا ذكره الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي كتاب «الْمدْخل إِلَى معرفَة كتاب الإِكليل» أَن الصَّحَابِيّ أَو التَّابِع إِذا لم يكن لَهُ إلَّا راوٍ واحدٍ، لم يخرِّجا حَدِيثه فِي «الصَّحِيحَيْنِ» - أَعنِي [الشَّيْخَيْنِ]- لم يشترطاه، وَلَا (وَاحِد مِنْهُمَا) ، وَهُوَ منقوض بِمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي كتاب «أَدَاء الزَّكَاة» ، إِن شَاءَ الله - تَعَالَى.
فصل
وَأما «سنَن أبي دَاوُد» - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقد حَكَى عَنهُ ابْن مَنْدَه الْحَافِظ - كَمَا أَفَادَهُ ابْن طَاهِر - أَن (شَرطه) إِخْرَاج أَحَادِيث أقوامٍ لم يُجْمَع عَلَى تَركهم، إِذا صَحَّ الحَدِيث باتصال الإِسناد من غير قطع وَلَا إرْسَال.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي فِي (كتاب) « (شُرُوط) الْأَئِمَّة» : قَالَ أَبُو دَاوُد: كتبت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَمْسمِائَة ألف حَدِيث، انتخبت مِنْهَا مَا ضمنته «كتاب السّنَن» ، جمعت فِيهِ أَرْبَعَة (آلَاف) حَدِيث، (وَثَمَانمِائَة حَدِيث) ، ذكرت الصَّحِيح وَمَا يُشبههُ، وَمَا يُقَارِبه.
وَقد اشْتهر عَنهُ من غير وَجه مَا مَعْنَاهُ: أَنه يذكر فِي كل بَاب أصح مَا عرفه فِي ذَلِكَ الْبَاب.
(1/299)
وَقَالَ: مَا كَانَ فِي كتابي من حَدِيث فِيهِ (وَهَنٌ) شَدِيد فقد بَيَّنْتُه، وَمَا لم أذكر فِيهِ شَيْئا فَهُوَ صَالح، وَبَعضهَا أصح من بعض. نقل ذَلِكَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي كِتَابه «عُلُوم الحَدِيث» ، وَالشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ فِي «كَلَامه عَلَى سنَنه» عَنهُ.
وَذكر الْحَازِمِي فِي كِتَابه «شُرُوط الْأَئِمَّة الْخَمْسَة» بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، أَنه قَالَ فِي «رسَالَته» الَّتِي كتبهَا إِلَى أهل مَكَّة وَغَيرهَا جَوَابا لَهُم: سَأَلْتُم أَن أذكر لكم الْأَحَادِيث الَّتِي فِي كتاب «السّنَن» (أَهِي) أصح مَا عرفت فِي هَذَا الْبَاب؟ فاعلموا [أَنه كَذَلِك] كُله، إِلَّا أَن يكون قد رُوِيَ من وَجْهَيْن صَحِيحَيْنِ، وَأَحَدهمَا أقدم إِسْنَادًا، وَالْآخر صَاحبه [أقوم] فِي الْحِفْظ، فَرُبمَا أكتب ذَلِكَ، وَلَا أرَى فِي كتابي [من] هَذَا عشرَة أَحَادِيث.
وَلم أكتب فِي الْبَاب إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا أَو حديثين، وإنْ كَانَ فِي الْبَاب أَحَادِيث صِحَاح، فإنَّه يكبر، وإنَّما أردْت (قرب) منفعَته.
وَلَيْسَ فِي كتاب «السّنَن» الَّذِي صنَّفته عَن رجلٍ مَتْرُوك الحديثِ شيءٌ، فإنْ ذُكِرَ لَك عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُنَّةٌ لَيْسَ فِيمَا خَرَّجْتُه، فاعْلَم أنَّه
(1/300)
حَدِيث واهٍ، إلَّا أَن يكون فِي كتابي من طَرِيق (آخر) ، (فإنِّي) لم أخرج الطّرق (بِهِ) ، (فإنَّه يكثر) عَلَى المتعلم.
وَلَا أعرف أحدا جَمَعَ عَلَى الاستقصاءِ غَيْرِي.
وَنقل النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النَّص الْمُتَقَدّم عَن أبي دَاوُد - الَّذِي (شَارك) ابْن الصّلاح فِيهِ فِي كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد - ثمَّ قَالَ: وَهَذَا يُشْكِل؛ فإنَّ فِي سنَنه أَحَادِيث ظَاهِرَة الضعْف لم يُبَيِّنْها، مَعَ أَنَّهَا مُتَّفق عَلَى ضعفها عِنْد الْمُحدثين، كالمرسل، والمنقطع، وَرِوَايَة مَجْهُول. ك «شيخ» ، و «رجل» ، وَنَحْوه، فَلَا بدّ من تَأْوِيل هَذَا الْكَلَام.
قَالَ: وليعلم أَن مَا وَجَدْنَاهُ فِي «سنَنه» ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَو أَحدهمَا، وَلَا نَص عَلَى صِحَّته أَو حسنه أحد مِمَّن يعْتَمد، وَلم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد فَهُوَ حسن عِنْد أبي دَاوُد أَو صَحِيح، فَيحكم بِالْقدرِ الْمُحَقق، وَهُوَ أَنه حسن. فإنْ نصَّ عَلَى ضعفه من يُعْتَمد، أَو رَأَى الْعَارِف فِي سَنَده مَا يَقْتَضِي الضعْف، وَلَا جابِرَ لَهُ حَكَمْنَا بضعفه.
وَقد قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه: إِن أَبَا دَاوُد يخرج الإِسنادَ الضَّعِيف إِذا لم يجدْ فِي الْبَاب غَيره؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى عِنْده من رَأْي الرِّجَال.
وَقَالَ الْخطابِيّ: كتاب أبي دَاوُد جَامع للصحيح وَالْحسن، وأَمَّا الضَّعِيف فإنَّه خَليٌ مِنْهُ. قَالَ: وإنْ وَقع مِنْهُ شيءٌ - لضرب من الْحَاجة - فإنَّه لَا يَأْلُو أَن يبِّين أمره، وَيذكر علته، ويَخْرُجَ من عهدته.
قَالَ: ويُحكى لنا عَن أبي دَاوُد أنَه قَالَ: مَا ذكرت فِي كتابي حَدِيثا
(1/301)
اجْتمع الناسُ عَلَى تَركه.
وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي أول «أَطْرَافه» : صنف أَبُو دَاوُد كِتَابه الَّذِي سمَّاه «السّنَن» ، فأجاد فِي تصنيفه وَأحسن، وَقصد أَن يَأْتِي فِيهِ بِمَا كَانَ صَحِيحا مشتهرًا، أَو غَرِيبا (حسنا) مُعْتَبرا، ويطرح مَا كَانَ مطَّرحًا مستنكرًا، (ويجتنب) مَا كَانَ شاذًّا مُنْكرا.
قلت: وَمَا حَكَاهُ الْخطابِيّ فِيهِ نظر؛ فإنَّ فِي «سنَنه» أَحَادِيث ظَاهِرَة الضعْف لم يبينها، مَعَ أنَّها ضَعِيفَة كالمرسل، والمنقطع، وَرِوَايَة مَجْهُول: كشيخ، وَرجل، وَنَحْوه، كَمَا سَلَفَ.
وَأجَاب النَّوَوِيّ فِي «كَلَامه عَلَى سنَنه» (عَنهُ) : بِأَنَّهُ - (وَهُوَ) مُخَالف أَيْضا لقَوْله: وَمَا كَانَ فِيهِ وَهن شَدِيد بَيَّنْتُه - لَمَّا كَانَ ضَعْفُ هَذَا النوعِ ظَاهرا، اسْتَغنَى بظهوره عَن التَّصْرِيح ببيانه.
قلت: فعلَى كل حَال لَا بُد من تَأْوِيل كَلَام أبي دَاوُد، والحقُّ فِيهِ مَا قَرَّره النَّوَوِيّ.
وَأما قَول الْحَافِظ أبي طَاهِر السلَفِي: سنَن أبي دَاوُد من الْكتب الْخَمْسَة الَّتِي اتّفق عَلَى صِحَّتهَا عُلَمَاء الشرق والغرب، فَفِيهِ تساهلٌ كبيرٌ.
وتَأَوَّلَ النوويُّ عَلَى إِرَادَة الْمُعظم.
فصل
وَأما جَامع أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ: فقد كفانا مُؤْنَة الْكَلَام عَلَيْهِ مُؤَلِفُه،
(1/302)
فإنَّه بَيَّن فِيهِ الصَّحِيح وَالْحسن والضعيف، وَقَالَ: صنفت هَذَا الْكتاب، وعرضته عَلَى علماءِ أهلِ الْحجاز فَرَضُوا بِهِ، وعرضته عَلَى عُلَمَاء العراقِ فَرَضُوا (بِهِ) ، وعرضته عَلَى عُلَمَاء خُرَاسَان فَرَضُوا بِهِ، وَمن كَانَ فِي بَيته هَذَا الْكتاب، فكأنَّما فِي بَيته نَبِيٌّ يتَكَلَّم.
وَقَالَ أَبُو نصر عبد الرَّحِيم بن عبد الْخَالِق فِي كِتَابه الموسوم ب «مَذَاهِب الْأَئِمَّة فِي تَصْحِيح الحَدِيث» : كتاب أبي عِيسَى عَلَى أَرْبَعَة أَقسَام: (قسم) صَحِيح مَقْطُوع بِهِ، وَهُوَ مَا وَافق فِيهِ البخاريَّ وَمُسلمًا، وَقسم عَلَى شَرط أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَقسم أخرجه [للضدِّيَّة] ، وأبَانَ عَن علته، وَقسم رَابِع أبَانَ عَنهُ فَقَالَ: مَا أخرجت فِي كتابي هَذَا إلَّا حَدِيثا قد عَمِلَ بِهِ بعض الْفُقَهَاء.
وَهَذَا شَرط واسعٌ، فإنَّ عَلَى هَذَا الأَصْل كل حَدِيث احْتج بِهِ مُحْتَج أَو عمل بِهِ عاملٌ، [أخرجه] ، سَوَاء صحَّ طَرِيقه أَو لم يصحّ طَرِيقه. وَقد أزاحَ عَن نفسِهِ الكلامَ؛ فإنَّه شَفَى فِي تصنيفه لكتابه، وتكلَّم (فِيهِ) عَلَى كلِّ حَدِيث بِمَا فِيهِ، وَظَاهر طَرِيقَته:
أَن يترجم الْبَاب الَّذِي فِيهِ حَدِيث مَشْهُور، عَن صَحَابِيّ قد صَحَّ الطَّرِيق إِلَيْهِ، وأُخرِجَ من حَدِيثه فِي الْكتب الصِّحَاح، فيورد فِي الْبَاب
(1/303)
[ذَلِك الحكم] من حَدِيث صَحَابِيّ [آخر] لم يخرجوه من حَدِيثه، وَلَا تكون الطَّرِيق إِلَيْهِ كالطريق إِلَى الأول؛ لِأَن الحكم صَحِيح، ثمَّ يُتْبِعُه بِأَن يَقُول: وَفِي الْبَاب عَن فلانٍ وفلانٍ، ويعد (فيهم) جمَاعَة فِيهم الصَّحَابِيّ وَالْأَكْثَر الَّذِي أُخْرِجَ ذَلِكَ الحكم من حَدِيثه، وقَلَّما يسْلك هَذِه الطَّرِيقَة إلَّا فِي أَبْوَاب مَعْدُودَة. وَقَالَ ذَلِك [بنصه] : ابْن طَاهِر الْمَقْدِسِي أَيْضا.
وَقَالَ يُوسُف بن أَحْمد: لأبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ الضَّرِير الْحَافِظ فَضَائِل تُجمع، وتُروى، وتُسمع، وَكتابه من الْكتب الْخَمْسَة الَّتِي اتّفق أهل الْحل وَالْعقد، وَالْفضل، وَالْفِقْه من الْعلمَاء، وَالْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث النبهاء عَلَى قبُولهَا، وَالْحكم بِصِحَّة أُصُولهَا، وَمَا ورد فِي أَبْوَابهَا وفصولها.
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي: إنَّ جَامع التِّرْمِذِيّ من الْكتب الْخَمْسَة الَّتِي اتّفق عَلَى صِحَّتهَا عُلَمَاء الشرق والغرب.
وَفِيهِمَا نظر؛ لِأَن فِيهِ الضَّعِيف، والواهي، والموضوع.
قَالَ ابْن (الْقطَّان) فِي «علله» : جَهِلَ التِّرْمِذِيّ بعضُ من لم يبْحَث عَنهُ، وَهُوَ: أَبُو مُحَمَّد بن حزم، فَقَالَ فِي كتاب الْفَرَائِض من «الإيصال» (إِثْر) حَدِيث أوردهُ: إنَّه مَجْهُول. فَأوجب ذَلِكَ فِي ذكره - من تعْيين من شهد لَهُ بالإِمامة - مَا هُوَ مستغنٍ عَنهُ، بِشَاهِد علمه، وَسَائِر شهرته، فَمِمَّنْ
(1/304)
(ذكره) - فِي جملَة -: (الإِمام) الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله.
وَقَالَ الخليلي فِي «كِتَابه» : ثِقَة مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَمِمَّنْ ذكره أَيْضا: الْأَمِير ابْن مَاكُولَا، وَابْن الفرضي، والخَطَّابي.
وَنقل ابْن دِحْيَة فِي كتاب «التَّنْوِير فِي مولد السراج الْمُنِير» جهالته عَن ابْن حزم، ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ فِيهِ الْخَطِيب، وَلم يذكرهُ فِي تَارِيخه.
قَالَ: وَزعم أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن أبي بكر [الصَّيْرَفِي] (أَن التِّرْمِذِيّ) لم يسمع هَذَا الْكتاب.
فصل
وَأما شَرط أبي عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» ، فَقَالَ ابْن مَنْدَه الْحَافِظ - كَمَا أَفَادَهُ ابْن طَاهِر -: إنَّ شَرطه إِخْرَاج أَحَادِيث أَقوام لم يُجْمَع عَلَى تَركهم، إِذا صَحَّ الحَدِيث باتصال الإِسناد، من غير قطع، وَلَا إرْسَال.
قَالَ ابْن طَاهِر: سَأَلت الإِمام أَبَا الْقَاسِم سعد بن عَلّي الزَّنْجَانيّ عَن حالِ رجلٍ من الروَاة فَوَثَّقَه، قُلْتُ: إنَّ أَبَا عبدَ الرَّحْمَن النَّسَائِيّ ضَعَّفَه. فَقَالَ لي: لأبي عبد الرَّحْمَن فِي الرِّجَال (شرطٌ) أَشد من شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم.
(1/305)
وَقَالَ أَبُو طَالب أَحْمد بن نصر الْحَافِظ: من يصبر عَلَى مَا يصبر عَلَيْهِ النَّسَائِيّ؟ كَانَ عِنْده حَدِيث ابْن لَهِيعَة تَرْجَمَة تَرْجَمَة، فَمَا حدَّث بهَا.
وَقَالَ أَحْمد بن مَحْبُوب الرَّمْلي: سَمِعت أَبَا عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ يَقُول: لما عَزَمْتُ عَلَى جَمْع كتاب «السّنَن» استخرت الله - تَعَالَى - فِي الرِّوَايَة عَن شُيُوخ كَانَ فِي الْقلب مِنْهُم بعض الشَّيْء، فَوَقَعت الْخيرَة عَلَى تَركهم، فَنَزَلْتُ فِي جملَة من الْأَحَادِيث كنت أعلو فِيهَا عَنْهُم.
وَقَالَ أَبُو الْحسن [الْمعَافِرِي] الْفَقِيه: إِذا التُفِت إِلَى مَا يُخرجهُ أهل الحَدِيث، فَمَا خرجه النَّسَائِيّ أقرب إِلَى الصِّحَّة مِمَّا خَرَّجه غَيره.
بل من النَّاس من يعده من أهل الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ يبيِّن عَن علل الْأَسَانِيد، وإنْ أدخلها فِي كِتَابه.
وَقد حُدِّثْنا عَنهُ أَنه قَالَ: لم أُخْرِج فِي كتابي (السّنَن) من يُتَّفَق عَلَى تَركه، فإنْ أَخْرَج مِنْهُ أحدا بَيَّنه، وَهَذِه رُتْبَة شريفة.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه: الَّذين أخرجُوا الصَّحِيح، وميِّزوا الثَّابِت من الْمَعْلُول، وَالْخَطَأ من الصَّوَاب أَرْبَعَة: البُخَارِيّ، وَمُسلم، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ.
وَقَالَ أَبُو بكر البرقاني الْحَافِظ: ذكرت لأبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ أَبَا عبيد (بن حربويه) ، فَذكر من جلالته، وفضله، وَقَالَ: حدَّث عَنهُ أَبُو
(1/306)
عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ فِي «الصَّحِيح» ، وَلَعَلَّه مَاتَ قبله بِعشْرين سنة.
قَالَ ابْن طَاهِر: فالدارقطني سمَّى كتاب «السّنَن» صَحِيحا، مَعَ فَضله، وتحقيقه فِي هَذَا الشَّأْن.
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ [الْمصْرِيّ] : سَمِعت أَبَا عَلّي الْحسن بن خضر (السُّيُوطِيّ) يَقُول: رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي النّوم، وَبَين يَدَيْهِ كُتب كَثِيرَة، مِنْهَا كتاب «السّنَن» لأبي عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ لي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِلَى مَتى وَإِلَى كَمْ؟ هَذَا يَكْفِي. وَأخذ بِيَدِهِ الْجُزْء الأول من كتاب الطَّهَارَة من «السّنَن» لأبي عبد الرَّحْمَن، فَوَقع فِي روعي أَنه يَعْنِي كتاب «السّنَن» لأبي عبد الرَّحْمَن.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم: قَوَاعِد الإِسلام أَرْبَعَة: الصحيحان، وكتابَيْ أبي دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، فَارْجِعُوا إِلَيْهَا.
قُلْتُ: وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر (السلَفِي) : إِنَّه اتّفق عَلَى صِحَّته عُلَمَاء الْمشرق وَالْمغْرب، وَلَا يَخْلُو من نزاع.
فصل
وَأما سنَن أبي عبد الله بن مَاجَه الْقزْوِينِي: فَلَا أعلم لَهُ شرطا، وَهُوَ أَكثر السّنَن الْأَرْبَعَة ضعفا، وَفِيه مَوْضُوعَات، مِنْهَا: مَا ذكره فِي أَثْنَائِهِ فِي
(1/307)
«فضل قَزْوِين» .
لَكِن قَالَ أَبُو زرْعَة - فِيمَا روينَا عَنهُ -: طالعت كتاب أبي عبد الله بن مَاجَه، فَلم أجد فِيهِ إلَّا قدرا يَسِيرا مِمَّا فِيهِ شَيْء. وَذكر قدر بضعَة عشر، أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ.
وَهَذَا الْكَلَام من أبي زرْعَة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْلَا أَنه مَرْوِيّ عَنهُ من أوجه، لجزمتُ بِعَدَمِ صِحَّته عَنهُ، فإنَّه غير لائقٍ (بجلالته) .
لَا جرم أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين قَالَ فِي «شرح الإِلمام» : هَذَا الْكَلَام من أبي زرْعَة لَا بُد من تَأْوِيله، وإخراجه عَن ظاهرِه، وَحمله عَلَى وَجه (يَصح) .
وَعَجِيب قَول ابْن طَاهِر: حَسبك من كتاب يعرض عَلَى أبي زرْعَة الرَّازِيّ، وَيذكر هَذَا الْكَلَام بعد إمعان النّظر والنقد.
وَقَوله: ولعمري إنَّ كتاب أبي عبد الله بن مَاجَه، من نظر فِيهِ علم منزلَة الرجل: من حسن التَّرْتِيب، وغزارة الْأَبْوَاب، وَقلة الْأَحَادِيث،
(1/308)
وَترك التّكْرَار، وَلَا يُوجد فِيهِ من النَّوَازِل، والمقاطيع، والمراسيل، وَالرِّوَايَة عَن الْمَجْرُوحين، إلَّا هَذَا الْقدر الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو زرْعَة.
وَرَوَى ابْن عَسَاكِر عَن أبي الْحسن بن [بابويه] : قَالَ أَبُو عبد الله بن مَاجَه: عرضت هَذِه النُّسْخَة عَلَى أبي زرْعَة، فَنظر فِيهِ وَقَالَ: أَظن إنْ وَقع هَذَا فِي أَيدي النَّاس تعطَّلت هَذِه الْجَوَامِع كلهَا، أَو أَكْثَرهَا. ثمَّ قَالَ: لَعَلَّه لَا يكون فِيهِ تَمام ثَلَاثِينَ حَدِيثا مِمَّا فِي إِسْنَاده ضعف، أَو قَالَ: عشْرين وَنَحْوهَا من الْكَلَام. قَالَ: وَحكي عَنهُ أَنه نظر فِي جُزْء من أَجْزَائِهِ، وَكَانَ عِنْده فِي خَمْسَة أَجزَاء.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: لَا بُد من تَأْوِيله جزما، وَلَعَلَّه أَرَادَ ذَلِكَ الْجُزْء الَّذِي نظر فِيهِ، أَو غَيره مِمَّا يَصح.
وَقَالَ ابْن طَاهِر: وَسنَن ابْن مَاجَه وإنْ لم تشتهر عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء، فإنَّ لَهُ ب «الرّيّ» ، وَمَا وَالاَهَا من «ديار الْجَبَل» و «قوهستان» - وعدَّد بلادًا - شأنٌ عظيمٌ، عَلَيْهِ اعتمادهم، وَله عِنْدهم طرق كَثِيرَة.
فصل
وَأما «صَحِيح» أبي حَاتِم بن حبَان، فشرطه - كَمَا قَالَ فِي خطْبَة صَحِيحه -: نملي الْأَخْبَار بأشهرها إِسْنَادًا، وأوثقها (عمادًا) من غير
(1/309)
وجود قطعٍ فِي سندها، وَلَا ثُبُوت جرح فِي ناقلها.
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِكَ بأوراق: وشرطنا فِي (نقل) مَا أودعناه كتَابنَا هَذَا من السّنَن، فإنَّا لَمْ نحتج فِيهِ إلَّا بحديثٍ اجْتمع فِي كل شيخٍ من رُوَاته خَمْسَة أَشْيَاء:
الأول: الْعَدَالَة فِي الدَّين بالستر الْجَمِيل.
وَالثَّانِي: الصدْق فِي الحَدِيث بالشهرة فِيهِ.
وَالثَّالِث: الْعقل مَا يحدث من الحَدِيث.
وَالرَّابِع: (الْعلم) بِمَا يحِيل من مَعَاني مَا يُروى.
وَالْخَامِس: (المتعري خَبره) عَن التَّدْلِيس (عَلَى رِوَايَته) .
فَكل من (اجْتمع) عِنْده هَذِه الْخِصَال الْخمس احتججنا بحَديثه، وبنينا الْكتاب عَلَى رِوَايَته، وكل من تَعَرَّى عَن خصْلَة من هَذِه الْخِصَال الْخمس لم نحتج بِهِ.
ثمَّ شرع - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - فِي بَيَان الشُّرُوط الْمَذْكُورَة وَاحِدًا بعد واحدٍ، فَأفَاد وأجاد، فَمَا أحسن كَلَامه.
وَلَعَلَّ غَالب «صَحِيحه» منتزع من صَحِيح شَيْخه، إِمَام الْأَئِمَّة، (أبي بكر) مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، فإنِّي رَأَيْت قِطْعَة من «صَحِيح
(1/310)
ابْن خُزَيْمَة» إِلَى كتاب الْبيُوع، وكلَّما يَقُول ابْن حبَان (فِي «صَحِيحه» ) : نَا ابْن خُزَيْمَة. رَأَيْته فِي الْقطعَة الْمَذْكُورَة.
وترتيب هَذَا «الصَّحِيح» تَرْتِيب بديع، لم يُسْبَق إِلَيْهِ، يتَعَيَّن عَلَى طَالب الحَدِيث الْوُقُوف عَلَيْهِ، والكشف مِنْهُ من أصعب شَيْء.
وَقد رَتَّبه عَلَى تَرْتِيب (الْكتب) الْفِقْهِيَّة الشَّيْخ الإِمَام (عَلَاء) الدَّين أَبُو الْحسن (عَلّي) بن بلبان الْفَارِسِي (الْحَنَفِيّ) ، تغمده الله برحمته.
فصل
وَأما «الْمُسْتَدْرك» للْحَاكِم أبي عبد الله، فشرطه كَمَا قَالَ هُوَ فِي خطْبَة كِتَابه: «سَأَلَني - جمَاعَة من أَعْيَان (أهل) الْعلم بِهَذِهِ الْمَدِينَة، (وَغَيرهَا) أَن أجمع كتابا يشْتَمل عَلَى الْأَحَادِيث المروية بأسانيد يحْتَج مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَمُسلم بن الْحجَّاج بِمِثْلِهَا، إِذْ لَا سَبِيل إِلَى إِخْرَاج مَا لَا علَّة لَهُ، فإنَّهما - رحمهمَا الله - لم يدعيا ذَلِكَ لأنفسهما.
وَقد خَرَّج جمَاعَة من عُلَمَاء [عصرهما] ، وَمن بعدهمَا عَلَيْهِمَا أَحَادِيث قد أَخْرَجَاهَا وَهِي معلولة، وَقد (جهدت) فِي الذَّبِّ عَنْهُمَا فِي «الْمدْخل إِلَى الصَّحِيح» بِمَا رضيه أهل الصَّنْعَة.
(1/311)
وَأَنا أستعينُ الله عَلَى إِخْرَاج أَحَادِيث رواتها ثِقَات، قد احْتج بِمِثْلِهَا الشَّيْخَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَو أَحدهمَا، وَهَذَا شَرط الصَّحِيح عِنْد كَافَّة فُقَهَاء الإِسلام: أَن الزِّيَادَة فِي الْأَسَانِيد والمتون من الثِّقَات مَقْبُولَة.
هَذَا لفظ الْحَاكِم برمتِهِ، وَهُوَ صَرِيح فِي أَن مُرَاده بقوله: عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ أَو أَحدهمَا: أَن رجال إِسْنَاده احتجا بمثلهم، لَا أنَّ نَفْس رِجَاله احتجا [بهم] .
نعم، خَالف هَذَا الِاصْطِلَاح فِي كِتَابه فَاعْترضَ (عَلَيْهِ) من هَذَا الْوَجْه: الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح، والنواوي، وتقي الدَّين بن دَقِيق الْعِيد، والحافظ شمس الدَّين الذَّهَبِيّ فِي «اختصاره للمستدرك) ، (فَيَقُولُونَ عقيب) قَوْله: إِنَّه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ أَو أَحدهمَا: فِيهِ فلَان، وَلم يخرج لَهُ مَنْ صَححهُ عَلَى شَرطه.
ثمَّ فِي تَسْمِيَة هَذَا (المُصَنّف) ب «الْمُسْتَدْرك» أَولا نظرٌ؛ لِأَنَّهُمَا لم يلتزما اسْتِيعَاب الصَّحِيح بإقرارهما - كَمَا قدَّمناه عَنْهُمَا - فَكيف يسْتَدرك عَلَيْهِمَا؟ !
فتركنا وسَلَّمنا التَّسْمِيَة الْمَذْكُورَة، فَكل حَدِيث لَهُ إِسْنَاد صَحِيح، احتجَّ الشَّيْخَانِ بِمثلِهِ (فَهُوَ عَلَى شَرطهمَا، كَمَا قرَّره، وكل حَدِيث إِسْنَاده صَحِيح، وَلم يحْتَج الشَّيْخَانِ بِمثلِهِ) ، كَيفَ يَصح استدراكه، مَعَ الْتِزَام الشَّيْخَيْنِ عدم اسْتِيعَاب الصَّحِيح؟
(1/312)
مَعَ أَن الْحَاكِم عَلَيْهِ مناقشة فِي كلا الْقسمَيْنِ، قَالَ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي أول «الموضوعات» : لَو نُوقِشَ فِيهِ بَانَ غلطه. وَقَالَ الشَّيْخ (تَقِيّ الدَّين) بن الصّلاح فِي كِتَابه «عُلُوم الحَدِيث» : اعتنى الْحَاكِم أَبُو عبد الله بِالزِّيَادَةِ فِي عدد الحَدِيث الصَّحِيح الزَّائِد عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَجمع ذَلِكَ فِي كتاب سمَّاه «الْمُسْتَدْرك» أودعهُ مَا لَيْسَ فِي وَاحِد من الصَّحِيحَيْنِ، مِمَّا رَآهُ عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، قد (أخرجَا) عَن رُوَاته فِي كِتَابَيْهِمَا، أَو عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَحده، أَو عَلَى (شَرط) مُسلم وَحده، وَمَا أَدَّى اجْتِهَاده إِلَى (تَصْحِيحه) ، وإنْ لم يكن عَلَى شَرط وَاحِد مِنْهُمَا.
وَهُوَ وَاسع الخطو فِي شَرط (الصَّحِيح) ، متساهلٌ فِي الْقَضَاء بِهِ، فَالْأَوْلَى أَن (نتوسط) فِي أمره فَنَقُول: مَا حكم بِصِحَّتِهِ، وَلم نجد ذَلِكَ فِيهِ لغيره من الْأَئِمَّة، إنْ لم يكن من قبيل الصَّحِيح، فَهُوَ من قبيل الْحسن يُحتج ويُعمل بِهِ، إلَّا أَن تظهر فِيهِ عِلّة توجب ضعفه.
قَالَ: ويقاربه فِي حكمه صَحِيح أبي حَاتِم بن حبَان البستي.
(1/313)
وَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن الشاذياخي: كُنَّا فِي مجْلِس السَّيِّد أبي الْحسن، فسُئِلَ الْحَاكِم عَن حَدِيث الطير، فَقَالَ: لَا يَصح، وَلَو صَحَّ لما كَانَ أحدٌ أفضل من عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَقَالَ ابْن طَاهِر (فِي) حَدِيث الطير الْمَشْهُور، الْمَرْوِيّ من (نَحْو) عشْرين طَرِيقا - عائبًا عَلَى إِخْرَاج الْحَاكِم لَهُ فِي « (مُسْتَدْركه» ) -: هَذَا حَدِيث مَوْضُوع، كل طرقه بَاطِلَة معلولة، إنَّما يَجِيء عَن سقاط أهل الْكُوفَة والمجاهيل عَن أنس وَغَيره.
قَالَ: وصنَّف الْحَاكِم فِي جمع طرقه جُزْءا. قَالَ: وَلَا يَخْلُو الْحَاكِم من أحد أَمريْن: إمَّا الْجَهْل بِالصَّحِيحِ، فَلَا يعْتَمد عَلَى قَوْله؛ وإمَّا الْعلم بِهِ، وَيَقُول بِخِلَافِهِ، فَيكون معاندًا كَذَّابًا.
قَالَ: وَله دسائس. قَالَ: وَبلغ الدَّارَقُطْنِيّ أَن الْحَاكِم أَدخل حَدِيث الطير فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» ، فَقَالَ: يسْتَدرك عَلَيْهِمَا حَدِيث
(1/314)
الطير؟ ! فَبلغ الْحَاكِم، فَأخْرجهُ من الْكتاب.
وَكَانَ (يُتَّهم) بالتعصبِ للرافضة.
وَكَانَ يَقُول: هُوَ حَدِيث صَحِيح، وَلم يُخَرَّجْ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) .
قُلْتُ: حَدِيث الطير مَوْجُود فِي نسخ (الْمُسْتَدْرك) (الَّتِي) بِأَيْدِينَا الْآن بِمصْر وَالشَّام.
قَالَ الْخَطِيب: وحَدَّثَنَي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد (الأرموي) بنيسابور - وَكَانَ شَيخا، فَاضلا، صَالحا، عَالما - (قَالَ) : جمع الْحَاكِم أَبُو عبد الله أَحَادِيث، زَعَمَ أَنَّهَا صِحاح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم، يلْزمهُمَا إخْرَاجهَا فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، مِنْهَا: حَدِيث الطير، و «من كنت مَوْلَاهُ فعليّ مَوْلَاهُ» فأنكرها عَلَيْهِ أَصْحَاب الحَدِيث، وَلم يلتفتوا إِلَى قَوْله، وَلَا صوَّبُوه فِي فعله.
وَقَالَ ابْن القَطَّان فِي «علله» : هُوَ حَافظ، وَقد ينْسب إِلَى غَفلَة.
وَقَالَ ابْن طَاهِر: وَسمعت المظفر بن حَمْزَة بجرجان يَقُول: سَمِعت أَبَا سعد الْمَالِينِي يَقُول: طالعت كتاب «الْمُسْتَدْرك عَلَى الشَّيْخَيْنِ» الَّذِي صنفه الْحَاكِم من أَوله إِلَى آخِره، فَلم أر فِيهِ حَدِيثا عَلَى شَرطهمَا.
(1/315)
قُلْتُ: هَذَا الْكَلَام أستبعد صِحَّته عَن هَذَا الْحَافِظ؛ لِأَن الْمُشَاهدَة تَدْفَعهُ، و (قد) قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي «عُلُوم الحَدِيث» : كتاب «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» للْحَاكِم أبي عبد الله كتاب كَبِير، (يشْتَمل مِمَّا) فاتهما عَلَى شَيْء كثير، وإنْ يكن عَلَيْهِ فِي بعضه مقَال، فَإِنَّهُ يصفو لَهُ مِنْهُ صَحِيح كثير.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ - عقب الْمقَالة الْمُتَقَدّمَة -: هَذَا إِسْرَاف وغلو من الْمَالِينِي، وإلَّا فَفِي (الْمُسْتَدْرك) جملَة وافرة عَلَى شَرطهمَا، وَجُمْلَة كَبِيرَة عَلَى شَرط أَحدهمَا، لَعَلَّ مَجْمُوع ذَلِكَ نَحْو نصف الْكتاب، وَفِيه نَحْو الرّبع مِمَّا صَحَّ سَنَده، وَفِيه بعض الشَّيْء أَو لَهُ [عِلّة] ، وَمَا بَقِي -[وَهُوَ] نَحْو الرّبع - فَهُوَ مَنَاكِير وواهيات لَا تصحّ، وَفِي بعض ذَلِكَ مَوْضُوعَات.
قُلْتُ: وَقد أفردت مَا ردَّ بِهِ الذَّهَبِيّ عَلَى الْحَاكِم أبي عبد الله، فِي (تلخيصه لمستدركه) ، بِزِيَادَات ظَفرت بهَا، فَجَاءَت سَبْعَة كراريس، وَذَلِكَ قريب من مقَالَته الْمُتَقَدّمَة.
وَاعْلَم أَيهَا النَّاظر فِي هَذَا الْكتاب إِذا رَأَيْتنَا نقلنا عَن الْحَاكِم تَصْحِيحا لحَدِيث، وسكتنا عَلَيْهِ فَشُدَّ عَلَى ذَلِكَ يَديك، (فَإنَّا سبرنا)
(1/316)
إِسْنَاده، وَيكون الْأَمر كَمَا قَالَه. وَمَا لم يكن كَذَلِك، فإنَّا نشفعه بالاعتراض عَلَيْهِ - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فصل
هَذَا آخر مَا وقفت عَلَيْهِ من شُرُوط (بعض) الْكتاب الَّتِي نقلنا مِنْهَا هَذَا الْكتاب، ذكرتها هُنَا مَجْمُوعَة ليحال مَا يَقع بعْدهَا عَلَيْهَا، فإنَّ الْكتاب (بأسره) مَبْنِيّ عَلَيْهَا، وَبَاقِي الْكتب يسير حَالهَا عَلَى الصّفة المرضية فِي مواطنها - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فصل
فِي معرفَة حَال الإِمام الرَّافِعِيّ، وشيوخه، ومولده، ووفاته، ومصنفاته، فإنَّه كَانَ فِي الإِسلام بِمحل خطير، وَبِكُل فَضِيلَة جدير، و (معرفَة) بَيته الطَّاهِر، وسلفه الْكِرَام، فَإِنَّهُم من الْعلمَاء الْأَعْلَام، وَالسَّلَف الْكِرَام، رجَالًا وَنسَاء.
أما هُوَ: فَهُوَ الإِمام، (الْعَالم) ، العلَّامة، الْمُجْتَهد، إِمَام الملَّة والدِّين، حجَّة الإِسلام وَالْمُسْلِمين، أَبُو الْقَاسِم عبد الْكَرِيم ابْن الإِمام أبي الْفضل مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن الْفضل بن الْحسن بن الْحُسَيْن.
كَذَا سَاق فِي نسبه فِي «أَمَالِيهِ» ، وَكَذَا كتب لَهُ بِمَا قَدَّمناه من الْأَلْفَاظ أهلُ زمانِهِ.
القَزْوِيْنيّ الرَّافِعِيّ الشَّافِعِي، خَاتِمَة الْأَئِمَّة من أَصْحَابه المرجوعِ إِلَى
(1/317)
قَوْلهم.
و «قَزوين» : بِفَتْح الْقَاف، مَدِينَة مَعْرُوفَة، كَذَا قَالَه ابْن السَّمْعَانِيّ. وَقَالَ غَيره: هِيَ مَدِينَة كَبِيرَة فِي عراق الْعَجم، عِنْد قِلاَع الإِسماعيلية.
وَقد اخْتُلِف فِي نِسْبَة الرَّافِعِيّ إِلَى مَاذَا؟
فَقَالَ الشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ مَنْسُوب إِلَى «رافعان» ، قَرْيَة من بِلَاد قزوين.
وَذكر الإِمام ركن الدَّين عبد الصَّمد بن مُحَمَّد الديلمي، الْقزْوِينِي، أَنه سَأَلَ القَاضِي مظفر الدَّين، قَاضِي قزوين: إِلَى مَاذَا ينْسب الرَّافِعِيّ؟ فَقَالَ: كتب بِخَطِّهِ، وَهُوَ عِنْدِي فِي كتاب «التدوين فِي أَخْبَار قزوين» أَنه مَنْسُوب إِلَى رَافع بن خديج رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَقَالَ ركن الدَّين الْمَذْكُور: وَكنت سَمِعت قبل ذَلِكَ من الشَّيْخ شرف الدَّين أَنه مَنْسُوب إِلَى أبي رَافع، مولَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَرَضي عَنهُ.
وَذكر ركن الدَّين هَذَا أنَّه لم يسمع بِبِلَاد «قزوين» بقرية يُقَال لَهَا: «رافعان» .
ولَمَّا ذكر ابْن السَّمْعَانِيّ هَذِه النِّسْبَة - وَهِي الرَّافِعِيّ - فِي «كِتَابه» ، قَالَ: هِيَ نِسْبَة إِلَى أبي رَافع.
وَفِي «تَارِيخ خوارزم شاه» لأبي الْفضل المنسي - فِي أثْنَاء حِكَايَة ذكر الإِمَام الرَّافِعِيّ هَذَا فَقَالَ: الشَّيْخ إِمَام الدَّين (الرَّافِعِيّ) .
(1/318)
قَالَ شَيخنَا (بَقِيَّة) الْحفاظ صَلَاح الدَّين العلائي شيخ الْقُدس الشريف - أبقاه الله فِي خير وعافية -: وَكَأَنَّهُ - وَالله أعلم - شُبِّه عَلَى من نسبه إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا: رافعان، وَإِنَّمَا هَذَا اللَّفْظ نِسْبَة أَعْجَمِيَّة إِلَى رَافع، وَالظَّاهِر أَنه رَافع بن خديج، الصَّحَابِيّ، أحد الْأَنْصَار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم كَمَا كتب هُوَ بِخَطِّهِ.
وأخبرت أَيْضا عَن قَاضِي الْقُضَاة جلال الدَّين الْقزْوِينِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَنه كَانَ يَقُول: إنَّ «رافعان» بالعجمي، مثل «الرَّافِعِيّ» بالعربي، فإنَّ الْألف وَالنُّون فِي آخر الِاسْم عِنْد الْعَجم (كياء النّسَب) فِي آخِره عِنْد الْعَرَب.
فرافعان نِسْبَة إِلَى رَافع، وَهَذَا مَشْهُور عِنْد الْعَجم بالإِمام رافعان.
قَالَ: ثمَّ إِنَّه لَا يعرف بنواحي قزوين بلد يُقَال لَهَا: رَافع، بل هُوَ مَنْسُوب إِلَى (جد من) أجداده.
فَظهر بِهَذَا أَن مَا ادَّعاه النَّوَوِيّ لَا أصل لَهُ، فالرافعي (أعرف) بِنَفسِهِ، وَكَذَا أهل قزوين أعرف ببلادهم.
ولد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه تَقْرِيبًا سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة؛ فإنَّه قَالَ فِي «الْأَرْبَعين» الَّتِي خرَّجها فِي الرَّحْمَة - وَلنَا بهَا رِوَايَة - أبنا وَالِدي حضورًا وَأَنا فِي الثَّالِثَة، سنة ثَمَان وَخمسين. أَفَادَ (ذَلِك) شَيخنَا صَلَاح الدَّين الْمَذْكُور.
(1/319)
(وَرَأَيْت) فِي «أَمَالِيهِ» - أَعنِي الرَّافِعِيّ - فِي أَوَائِل الْمجْلس الأول، مَا نَصه: - فِي تَرْجَمَة سعد الْخَيْر (بن) مُحَمَّد بن سهل الْأنْصَارِيّ المغربي الأندلسي - أَن سَعْدا هَذَا توفّي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة.
قَالَ: وَسمع وَالِدي مِنْهُ الْكثير، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يغلب عَلَيْهِ فِي آخر عمره مَا يغلب عَلَى المشتاقين. قَالَ: وَكنت أتولى خدمته فِي مرض وَفَاته، ودعا لي بالسعادة غير مرّة (فِيهِ) ، وَأَرْجُو أَن يستجيب الله دعاءه. وَكَانَ كثيرا مَا ينشد فِي تِلْكَ المرضة:
أَنا إنْ مِتُّ فالهوى حَشْو قلبِي
وبذا الْهَوَى يَمُوت الْكِرَام
هَذَا نَص مَا ذكر، فَإِن كَانَ المُرَاد بقوله: «وَكنت أتولى خدمته» : وَالِد الإِمام الرَّافِعِيّ، فَلَا إِشْكَال؛ وَإِن كانَ المُرَاد الإِمام الرَّافِعِيّ نَفسه، فَهُوَ مُشكل؛ لِأَن سَعْدا توفّي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَكَانَ الرَّافِعِيّ إذْ (ذَاكَ) يَخْدمه فِي مَرضه، وَأَقل من يتأهل للْخدمَة (أَن يكون) بَالغا، فَيكون مولد الرَّافِعِيّ عَلَى هَذَا - تخمينًا - سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة.
وَيبقى مُخَالفا لما أخبر بِهِ فِي «أربعينه» من أَن وَالِده أخبرهُ حضورًا (وَهُوَ) فِي الثَّالِثَة، سنة ثَمَان وَخمسين، فلينقح ذَلِك.
(1/320)
قَرَأَ الحَدِيث عَلَى وَالِده، قَالَ فِي «الْأَرْبَعين» : أَخْبرنِي وَالِدي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة، وَعَلَى أَحْمد بن إِسْمَاعِيل (الطَّالْقَانيِّ) خَال والدته، الْآتِي ذكره، وَعَلَى أبي بكر عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْملك.
وسَمعه من جماعات: كأحمد بن حسنويه بن حاجي الزبيري الشريف الأديب المناظر الْفَقِيه، والواقد بن خَلِيل الْحَافِظ، جد (الزبيري) لأمه، وَأحمد بن الْحسن العطَّار، وَالْحسن بن أَحْمد بن الْحسن بن أَحْمد بن مُحَمَّد العطَّار الهمذاني الْحَافِظ الْكَبِير، سمع مِنْهُ بهمذان، وَاللَّيْث بن (سعد الْكشميهني) الهمذاني، وحامد بن مَحْمُود بن عَلّي الماوراء النَّهْرِي الْخَطِيب الرَّازِيّ الْمُفْتِي المناظر الْمُحدث، وشهردار بن شيرويه بن فناخسرو الديلمي المتقن الْحَافِظ صَاحب «الفردوس» وَعبد الله بن أبي الْفتُوح بن عمرَان العمراني أَبُو حَامِد، أحد الْفُقَهَاء المعتبرين، وَعبد الْوَاحِد بن عَلّي بن مُحَمَّد، وَعلي بن [عبيد الله] بن الْحسن بن الْحُسَيْن بن بابويه، الرَّازِيّ الْحَافِظ وَعلي بن الْمُخْتَار بن عبد الْوَاحِد العربوي، وَعلي بن سعيد الحَبَّار، ومبارك بن عبد الرَّحْمَن، وَمُحَمّد بن أبي طَالب - أَو طَالب - ابْن (بلكويه)
(1/321)
بن أبي طَالب الضَّرِير الْمُقْرِئ العابد، وَمُحَمّد بن عبد الْبَاقِي بن أَحْمد بن سلمَان أَبُو الْفَتْح [بن] (البَطِّي) ، سمع مِنْهُ بِبَغْدَاد، وَمُحَمّد بن أَحْمد النَّيْسَابُورِي، وَيَحْيَى بن ثَابت (البَقَّال) ، وَأَبُو الْكَرم الْهَاشِمِي، وَأَبُو [عبد الله] مُحَمَّد [بن] النجَّار الْحَافِظ صَاحب « [ذيل تَارِيخ] بَغْدَاد» .
وَرَوَى بالإِجازة الْعَامَّة عَن: أبي (سعد) السَّمْعَانِيّ.
والخاصة عَن: أبي (زرْعَة) طَاهِر بن الْحَافِظ أبي الْفضل مُحَمَّد بن عَلّي الْمَقْدِسِي، وَرَجَب بن مَذْكُور بن (أرنب) ، وَغَيرهمَا.
(1/322)
رَوَى عَن هَؤُلَاءِ كلهم - خلا عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْملك - فِي «أَمَالِيهِ» ، وَهُوَ فِي «أربعينه» .
رَوَى عَنهُ بِالسَّمَاعِ: وَلَده الإِمام (عَزِيز) الدَّين - مُحَمَّد، والحافظ زكي (الدَّين) عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ، سمع مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة - عَلَى ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - و (حَدَّث عَنهُ) فِي «مُعْجَمه» ، وَلم يكن حِين اجْتمع بِهِ عرف أَنه ذَلِك الإِمام؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي زِيّ الْفُقَرَاء الصَّالِحين، وَآخَرُونَ.
وبالإِجازة: ابْن أُخْته أَبُو الثَّنَاء مَحْمُود بن أبي سعيد الْقزْوِينِي الطاوسي، وَأَبُو الْفَتْح عبد الْهَادِي بن عبد الْكَرِيم الْقَيْسِي، خطيب المقياس، وفخر الدَّين عبد الْعَزِيز بن قَاضِي الْقُضَاة (عماد الدَّين) عبد الرَّحْمَن، الْمَعْرُوف ب «ابْن السكرِي» ، وَغَيرهم.
وَمن حَدِيثه: مَا أَنا بَقِيَّة الحفَّاظ صَلَاح الدَّين (أَبُو) سعيد خَلِيل بن (كيكلدي) بن عبد الله العلائي، بالقدس الشريف، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ: أَنا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُؤَذّن (الواني) بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، أَنا أَبُو الثَّنَاء مَحْمُود بن (أبي) سعيد بن مَحْمُود بن الناصح الْقزْوِينِي (سَمَاعا) عَلَيْهِ، أَنبأَنَا (خَالِي) الإِمام أَبُو
(1/323)
الْقَاسِم عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد الرَّافِعِيّ (ح) .
وَأَخْبرنِي مشافهة عَالِيا الْأَئِمَّة: أثير الدَّين أَبُو حَيَّان، وَعبد الْكَرِيم الْحلَبِي، وَبدر الدَّين مُحَمَّد بن أَحْمد الفارقي قَالُوا: أخبرنَا فَخر الدَّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن قَاضِي الْقُضَاة عماد الدَّين، الْمَعْرُوف ب (ابْن) السكرِي - الْأَوَّلَانِ سَمَاعا، وَالثَّالِث إجَازَة - قَالَ: أَنبأَنَا الإِمام أَبُو الْقَاسِم الرَّافِعِيّ - قَدَّس الله روحه، ونَوَّر ضريحه - قَالَ: قَرَأت عَلَى وَالِدي، قيل لَهُ: أخْبركُم عبد الله بن مُحَمَّد بن الْفضل، فأقَرَّ بِهِ، أخبرتنا فَاطِمَة بنت (أبي عَلّي) الدقاق، أخبرنَا عبد الْملك بن الْحسن، أَنا أَبُو عوَانَة - يَعْنِي الإِسفراييني - نَا الصغاني، نَا (عبيد الله) بن مُوسَى، أَنا طَلْحَة بن يَحْيَى، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إنَّ هَذِه الأُمَّةَ أمة مَرْحُومَة، لَا عَذَاب عَلَيْهَا، (عَذَابُها فِي الدُّنْيَا) بأيديها، فَإِذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَة، أُعطيَ كُلُّ رجلٍ مِنْهُم رجلا من أهلِ الأَدْيانِ، فَكَانَ فَكَاكَهُ من النَّار» .
وَأخْبرنَا الشَّيْخ صَلَاح (الدَّين) الْمَذْكُور بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، أخبرنَا شيخ الشُّيُوخ فريد الْعَصْر أَبُو المجامع إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد (بن) الْمُؤَيد
(1/324)
بن حمويه الْجُوَيْنِيّ فِيمَا شافهني بِهِ بمنى - شَرَّفَها الله - ثمَّ كتب بِهِ إليَّ.
وحدَّثني بعض أَصْحَابنَا الْحفاظ، أَنا الإِمام (عَزِيز) الدَّين مُحَمَّد بن الإِمام الْعَلامَة إِمَام الدَّين أبي الْقَاسِم عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الرَّافِعِيّ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بقزوين سنة (إِحْدَى وَسبعين) وسِتمِائَة، نَا وَالِدي من لَفظه سنة إِحْدَى عشرَة قَالَ: قَرَأت عَلَى وَالِدي، أَنا عبد الله بن مُحَمَّد، أَنا أَحْمد بن عَلّي الأديب، أَنا مُحَمَّد بن مُحَمَّد الزيَادي - يَعْنِي أَبَا طَاهِر بن محسن الْفَقِيه - أَنا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن، نَا أَحْمد بن يُوسُف، نَا عبد الرَّزَّاق، أَنا معمر، عَن همام بن مُنَبّه قَالَ: هَذَا مَا حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن مُحَمَّد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لله تِسْعَة وتسْعُونَ اسْمًا - مائَة إلَّا وَاحِدًا - منْ أحْصاها دَخَل الجنَّة، إنَّه وتْر يُحبُّ الْوتر» .
وَأخْبرنَا الشَّيْخ صَلَاح (الدَّين) الْمَذْكُور بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، أَنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الأخلاطي، أَنا مُحَمَّد بن (أبي) سعيد، أَنا الإِمام أَبُو الْقَاسِم الرَّافِعِيّ إِذْنا، قَالَ: قَرَأت عَلَى أبي بكر عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْملك، وَأَجَازَ لي الْأَئِمَّة: وَالِدي، وَأحمد بن إِسْمَاعِيل، وَمُحَمّد بن عبد الْعَزِيز قَالُوا: أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الْملك بن مُحَمَّد، سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة، أَنا الإِمام أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَلّي
(1/325)
الفيروزابادي سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة، أَنا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد البرقاني، نَا أَبُو بكر الإِسماعيلي الإِمام - لفظا - أَخْبرنِي أَبُو يعْلى - يَعْنِي: أَحْمد بن الْمثنى - نَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي سَمِينَة، نَا (مُعْتَمر) بن سُلَيْمَان قَالَ: سَمِعت أبي، نَا قَتَادَة، أَن أَبَا رَافع حَدثهُ، أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَقُول:
سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إنَّ الله تَعَالَى كَتبَ كِتَابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الْخلق: إِن رَحْمَتي سبقت غَضَبي، فَهُوَ عِنْده مَكْتُوب فَوق الْعَرْش» .
وَرُوِيَ لنا من (طَرِيق آخر) أَعلَى من هَذَا، إلَّا أنَّ هَذِه [الطَّرِيق] حَسَنَة جدًّا، لتسلسل غَالب رُواتها بالأئمة الْكِبَار من أَصْحَابنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وَقد ذكرت بِإِسْنَاد الإِمام الرَّافِعِيّ أَرْبَعِينَ حَدِيثا فِي «مناقبه» الَّتِي (أفردتها) بالتصنيف، وَهَذَا الْقدر كافٍ هُنَا؛ لِأَن الله وتر يحب الْوتر.
تفقَّه الإِمام الرَّافِعِيّ عَلَى وَالِده الْمَذْكُور، (الإِمام) أبي الْفضل،
(1/326)
لَا أعلم أحدا تفقَّه عَلَيْهِ غَيره، وانتهت إِلَيْهِ رئاسة مَذْهَب الشَّافِعِي، ومعرفته بدقائقه فِي سَائِر الْبِلَاد.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: أَظن أَنِّي لم أرَ فِي بِلَاد الْعَجم مثله. قَالَ: وَكَانَ ذَا فنونٍ، حسن السِّيرَة، جميلَ الأثرِ.
وَقَالَ أَبُو عبد الله (مُحَمَّد) بن (مُحَمَّد بن عمر) بن أبي بكر الصفار الإِسفراييني فِي «أَرْبَعِينَ» خرَّجَها: شَيخنَا، إِمَام الدَّين حَقًّا، وناصرُ السُّنَّةِ صدقا، أَبُو الْقَاسِم، عبد الْكَرِيم الرَّافِعِيّ، كَانَ أوحد عصره فِي الْعُلُوم الدِّينِيَّة، (أُصُولهَا) وفروعها، ومجتهد زَمَانه فِي مَذْهَب الشَّافِعِي، وفريد وقته فِي تَفْسِير الْقُرْآن و (الْمَذْهَب) ، وَكَانَ لَهُ مجْلِس للتفسير، وإسماع الحَدِيث بِجَامِع قزوين.
وَقَالَ الشَّيْخ محيي الدَّين النواوي رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ إِمَامًا، بارعًا، (مُتَبَرعا) ، متبحرًا فِي علم (الْمَذْهَب) وعلوم كَثِيرَة، وَكَانَ زاهدًا، ورعًا، متواضعًا.
(1/327)
قَالَ النَّوَوِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ من الصَّالِحين المتمكنين، وَكَانَت لَهُ كرامات ظَاهِرَة.
قلت: لَا شكّ فِي ذَلِك وَلَا ريب، فَمِنْهَا:
مَا أَخْبرنِي شَيخنَا بَقِيَّة الحفَّاظ صَلَاح (الدَّين العلائي) ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ: حَكَى شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر الدِّمَشْقِي، أَنه سمع من شَيخنَا الزَّاهِد الْكَبِير وليّ الله أبي الْحسن عَلّي الوَاسِطِيّ - (قَالَ شَيخنَا) : وَسمعتهَا أَيْضا من جمَاعَة آخَرين مُرْسلَة - أَن الإِمامَ أَبَا الْقَاسِم الرَّافِعِيّ بَات (عِنْد) بعض أَصْحَابه بكرم لَهُ خَارج بلد «قزوين» ، وَكَانَت عَادَته أَنه يكْتب بِاللَّيْلِ فِيمَا يصنف فِيهِ، فلمَّا كَانَ اللَّيْل لم يُوجد (هُنَاكَ) دهن يُشعل بِهِ السراج، وَلَا أمكن الدُّخُول إِلَى الْبَلَد لأجل ذَلِك لَيْلًا، فَجَلَسَ الرَّافِعِيّ إِلَى جنب (دالته) ، فأضاء لَهُ غُصْن مِنْهَا، فَكتب عَلَيْهِ إِلَى أَن فرغ.
قَالَ الشَّيْخ عَلّي الوَاسِطِيّ: وَهَذِه الْحِكَايَة مَشْهُورَة عندنَا بواسط، وَتلك الْبِلَاد.
وَمِنْهَا: مَا قرأته عَلَى شَيخنَا الْمَذْكُور قَالَ: حَكَى شيخ شُيُوخنَا العلَّامة تَاج الدَّين أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْفَزارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تاريخٍ علَّقه عَن القَاضِي شمس الدَّين بن خلكان، أَنه حدَّثه أَن الْملك جلال الدَّين خوارزم شاه، غزا الكُرْج بتِفْليس سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة، وَقتل فيهم بِنَفسِهِ حَتَّى جمد الدَّم عَلَى يَده، فَلَمَّا مرَّ بقزوين،
(1/328)
خرج إِلَيْهِ الإِمام أَبُو الْقَاسِم الرَّافِعِيّ، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ أكْرمه إِكْرَاما عَظِيما، فَقَالَ (لَهُ) الشَّيْخ: سَمِعت أَنَّك قَاتَلتَ الْكفَّار حَتَّى جَمُدَ الدَّم عَلَى يدك، فَأحب أَن تخرج إليَّ يدك لأقبِّلها. فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان: بل أَنا (أقبِّل يدك) .
فقبَّل السُّلْطَان يَده، و (تحادثا) ، ثمَّ خرج الشَّيْخ، وَركب دَابَّته، وَسَار قَلِيلا، فَعَثَرَتْ بِهِ الدَّابَّة، فَوَقع فتأَذَّت يَده الَّتِي قبَّلها السُّلْطَان، فَقَالَ الشَّيْخ: سُبْحَانَ الله! لما قَبَّل هَذَا الْملك يَدي حصل فِي نَفسِي شَيْء من العظمة، فعوقبت بِالْوَقْتِ بِهَذِهِ الْوَقْعَة.
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَاهِر اللِّسَان فِي تصنيفه، كثير الْأَدَب، شَدِيد الِاحْتِرَاز فِي النقول، فَلَا يُطلق نقلا عَن أحد إلَّا إِذا وقف عَلَيْهِ من كَلَامه، فإنْ لم يقف عَلَيْهِ عبَّر بقوله: «وَعَن فلَان كَذَا» ، شَدِيد الِاحْتِرَاز - أَيْضا - فِي مَرَاتِب التَّرْجِيح، وَلِهَذَا يُطلق تَارَة: (عَلَى) الْأَصَح، وَنَحْوه. وَتارَة يَقُول: الْأَصَح عِنْد الْأَكْثَرين. وَتارَة يَقُول: الْأَصَح عَلَى مَا قَالَه فلَان وَفُلَان. أَو: كَلَام الْأَكْثَرين يمِيل إِلَى كَذَا. وَمرَّة يذكر مَا يشْعر بِأَنَّهُ من جِهَته، كَقَوْلِه: الْأَحْسَن، والأعدل، وَالْأَشْبَه، والأمثل، وَالْأَقْرَب، (والأنسب) ، وَيَنْبَغِي كَذَا، وَيُشبه كَذَا، وَنَحْو ذَلِك.
صّنَّف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَأعَاد علينا من بركاته، وبركات سلفه الطَّاهِر - كُتبًا أضحت للدّين والإِسلام أَنْجُمًا وشُهبًا، مِنْهَا: الْكتاب الَّذِي خار الله لنا -
(1/329)
وَله الْحَمد والمنَّة - (بالْكلَام) عَلَى أَحَادِيثه، وآثاره - يَسَّر الله إكماله، ونفع بِهِ - وَهُوَ:
«الْفَتْح الْعَزِيز (فِي) شرح الْوَجِيز» ، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: لم يشْرَح الْوَجِيز بِمثلِهِ.
قلت: بل لم يصنف فِي الْمَذْهَب مثله، قَرَأت عَلَى شَيخنَا صَلَاح الدَّين - بالقدس الشريف - قَالَ: سَمِعت شَيخنَا الْعَلامَة الرباني أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الْفَزارِيّ - غير مرّة - يَقُول: «مَا يعرف قدر الشَّرْح للرافعي إِلَّا بِأَن يجمع الْفَقِيه المتمكن فِي الْمَذْهَب الْكتب الَّتِي كَانَ الإِمام الرَّافِعِيّ يستمد مِنْهَا، ويصنف شرحًا للوجيز، من غير أَن يكون كَلَام الرَّافِعِيّ عِنْده، فَحِينَئِذٍ يعرف كل أحد (قصوره عمَّا) وصل إِلَيْهِ (الإِمام) الرَّافِعِيّ. هَذَا أَو مَعْنَاهُ.
وَمِنْهَا: «الشَّرْح الصَّغِير» للوجيز أَيْضا، قَالَ الإِسفراييني - الْمُتَقَدّم ذكره -: وَقع موقعًا عَظِيما عِنْد الْخَاصَّة، والعامة.
قَرَأت عَلَى شَيخنَا صَلَاح الدَّين قَالَ: سَمِعت قَاضِي الْقُضَاة أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقزْوِينِي - تغمده الله بعفوه - يَحْكِي عَن مَشَايِخ بَلَده، أَن سَبَب تصنيف الإِمام أبي الْقَاسِم الرَّافِعِيّ «الشَّرْح الصَّغِير» أَن بعض الْفُقَهَاء قصد أَن يختصر «الشَّرْح الْكَبِير» ، فَبلغ ذَلِك الإِمام
(1/330)
الرَّافِعِيّ، فخاف أَن يُفْسده عَلَيْهِ بالتغيير، لقُصُور (عبارَة) ذَلِك الرجل، فَقَالَ لَهُ الإِمام أَبُو الْقَاسِم: أَنا أَخْتَصِرهُ لَك، وَلَكِن لَا أقدر عَلَى الْوَرق. وَكَانَ ذَلِك الرجل - أَيْضا - فَقِيرا، فَلم يُمكنهُ إلَّا أنْ أحضر للإِمام أبي الْقَاسِم من الْوَرق الْمَكْتُوب الَّذِي يُبَاع شَيْئا كثيرا، فَكتب الإِمام «الشَّرْح الصَّغِير» فِي ظُهُوره، حَتَّى أَكْمَلَه، ثمَّ نُقِلَ من تِلْكَ الظُّهُور.
قلت: وَهَذِه الْحِكَايَة، مِمَّا يدل عَلَى زهد الإِمام الرَّافِعِيّ، وتَقلُّلِهِ من الدُّنْيَا.
وَمِنْهَا: «المُحَرَّر» وَهُوَ كاسمه، وَمَا أَكثر نَفعه، مَعَ صغر حجمه.
وَمِنْهَا: «شرح مُسْند الإِمام الشَّافِعِي» ، وَهُوَ كتاب نَفِيس، قَالَ الإِسفراييني الْمُتَقَدّم ذكره: أَسْمَعَه مُصَنفه سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة.
وَمِنْهَا: «الأمالي الشارحة لمفردات الْفَاتِحَة» ، الَّتِي تقدم التَّنْبِيه عَلَى عظم شَأْنهَا فِي الْخطْبَة، ابْتَدَأَ (رَحِمَهُ اللَّهُ) فِي إملائها يَوْم الثُّلَاثَاء، ثامن عشْرين رَجَب، سنة إِحْدَى عشرَة وسِتمِائَة، (وختمها يَوْم الْجُمُعَة، رَابِع عشْرين ربيع الأول، سنة اثْنَتَيْ عشرَة وسِتمِائَة) .
وَمِنْهَا: «التذنيب» عَلَى (الشرحين) ، لما يتَعَلَّق بالوجيز.
وبهذه الْكتب الثَّلَاثَة يُعْرفُ محلُّ الإِمام أبي الْقَاسِم الرَّافِعِيّ من معرفَة هَذَا الْعلم - أَعنِي علم (هَذَا) الحَدِيث، وَالْكَلَام عَلَيْهِ، عَلَى
(1/331)
اصْطِلَاح أَهله فِي عزوه وَرِجَاله، وفوائده - الْمعرفَة التَّامَّة.
وخرَّج لنَفسِهِ «أَرْبَعِينَ حَدِيثا» ، كَمَا تقدّمت الإِشارة إِلَيْهَا، سَاق (فِيهَا) الحَدِيث المسلسل بالأولية من عشرَة طرق، يذكر مَعَ كل طَرِيق مِنْهَا أَرْبَعَة أَحَادِيث فِيمَا يتَعَلَّق بِالرَّحْمَةِ.
وَمِنْهَا: «الإيِجاز فِي أخطار الْحجاز» ، صنَّفه فِي سَفْرَتِه إِلَى الْحَج، أَفَادَهُ بعض الْعَجم من شُيُوخ الْعَصْر.
وَله - رَحِمَهُ اللَّهُ، مَعَ ذَلِك - شعر حسن، فَمن ذَلِك مَا ذكره فِي «أَمَالِيهِ» :
سَمِّني مَا شئتَ وسِم جبهتي
بِاسْمِك ثمَّ اسْمُ بأسمائي
فَسَمِّني (عَبدك) أفخرْ بهِ
وَيَسْتَوِي عَرْشِي عَلَى الماءِ
وفيهَا لَهُ:
إنْ كنتَ فِي اليُسْرِ فاحمدْ من حَبَاكَ
بِهِ فَلَيْسَ حَقًّا قَضى لكنَّه الجودُ
أَو كنت فِي العُسْرِ فاحمده كَذَلِك إذْ
مَا فوقَ ذلكَ مصروفٌ و (مردودُ)
وَكَيف مَا دارتِ الأَّيام مقبلةً
وَغير مقبلةٍ فَالْحَمْد محمودُ
وفيهَا لَهُ:
إِلَى رضى الربِّ نَسُوق الرِّضَا
بِاللَّه ربًّا فارض فِيمَا قَضَى
وَلَا تَكُنْ عَنْ شَأْنِهِ غَافِلًا
فالوقتُ سيفٌ صَارِمٌ ينتضى
وفيهَا لَهُ:
العَالمُون ضَعِيفُهُم وقَوِيُّهُم
لجلالِ عزته سُجُودٌ رُكَّعُ
(1/332)
لَو كُلِّفُوا أَنْ يَعْبُدُوه عمرَهمُ
حقَّ العبَادةِ (لَحْظَة) لَتَعكفوا
وفيهَا لَهُ:
وَلَا تَنِيَا فِي ذكرِه فَتَهِيما
أَقِيْمَا عَلَى بابِ (الرحيمِ) أَقِيمَا
لعلكما تستنشقانِ نسيما
وللنَّفَحَاتِ الطَّيِّبَات تَعَرَّضَا
يَجدْه رءوفًا بالعبادِ رحِيما
هُوَ الرَّبُ من يَقْرَعْ عَلَى الصِّدْقِ بَابَهُ
وفيهَا لَهُ:
تلهفُ مَنْ يَسْتَغْرقُ العمرَ نَوْمُهُ
تَنَبَّهْ فَحَقٌّ أَن يطولَ بحسرةٍ
فَهُبَّ لصبحِ [الشَّيبِ] إذْ جَاءَ (يَوْمُهُ)
لَقدْ نِمْتَ فِي (ليْلِ) الشَّبيبةِ غافِلًا
وفيهَا لَهُ:
وَقد نِمْتَ فِيهِ (لَقى) غَافِلًا
سَوَادُ الشبابِ كليلٍ مَضَى
فَعَمَّا قليلٍ تُرَى آِفلًا
وصُبْحُ المَشِيبِ بَدَا فَانْتَبِه
وفيهَا لَهُ:
ويطلبُ العوذة فِيمَا يُعينْ
منْ يَسْتَعِنْ بِاللَّه سُبْحانه
يَقَرُّ عينا ويَفِرُّ اللَّعِينْ
يُعِنْهُ بالفضِل عَلَى مَا بهِ
إيَّاهُ نَرْجُو وَبِهِ نستعينْ
فحسبنا الله لِمَا نَابَنَا
وفيهَا لَهُ:
(1/333)
لَيْسَ (للدنيا) استقامه
وانتشاء من مُدَامهْ
هِيَ إلمامةُ طَيْفٍ
من تجاويفِ غَمَامَهْ
هِيَ مثلُ البرقِ يَبْدُو
من هَوَانٍ وكرامهْ
(نائلٌ) مَا أَنْت فِيهِ
تَبِعَاتٌ وغرامهْ
حاصلُ المأمولِ فِيهَا
ثُمَّ فِي العُقْبَى ندامهْ
تعبٌ فِي الحَالِ صَعْبٌ
تنجْ (مِنْهَا) بِسَلاَمهْ
جافِ عَنْهَا الجْنبَ صَفْحًا
وفيهَا لَهُ:
وإِنْ جَفَوْنِي وإنْ جَارُوا وإنْ (غَدَرُوا)
أَُفْدي الَّذين سَقَونيِ كَأْس حُبّهمُ
فَفِي فؤاديَ مِنْهُ الوِرْدُ والصَّدَرُ
أَلَيْسَ قد جعلوني أهلَ (وُدهمُ)
ذكرا وحبًّا وإضمارًا وَقد قَدَرُوا
أَلَيْسَ (لم) يسلبوني مَا أَلُذْ بِهِ
وفيهَا لَهُ:
ميعادك واحتكم بِمَا شِئْتَ علَيَّ
صافيتكَ لَا تشب بمطلٍ وبليٍّ
مِنْكَ اليَدُ والقصور مِنِّي وإليَّ
أَتْمِمْ نِعَمًا أَنْتَ تَطَوَّلْتَ بهَا
(وفيهَا لَهُ) :
فَمَا الخيرُ عِنْدِي سُوَى خَيْرِكم
تَيَمَّمتُ بَابَكَ لَا غَيره
(1/334)
فَما أرتجي الطلَّ مِنْ غَيْرِكم
لَئِن لم أُصِبْ مِنْكمُ وابِلًا
(وفيهَا لَهُ) :
تَحَوَّلُوا عَنْ حَالهم أَو ثَبَتُوا فَخَوَّلُوا
نَفسِي فدًا لَهُم أَحبُّوا أَمْ تَوَلَّوا
فَتَحْتُ عَيْني بهم فَمَا عَنْهُم محول
إنْ حَرَمُوا فطالما بفضلهم تَطَوَّلُوا
وعَرضوني للنوى (و) مَا عليَّ (طَوَّلُوا)
إعراضهم إنْ أَعْرَضُوا وَشدَّدوا وهَوَّلوا
عَلَيْهِم فِي كُلِّ مَا أقصده (المُعَوَّلُ)
لَيْسَ بثانٍ عَنْهُم إنَّ الحبيب الأولُ
(وفيهَا لَهُ) :
مَا عنهمُ لي عُدُولُ
قُولوا لَهُم ثمَّ قُولوا
تَنْهَدّ مِنْهَا العقُولُ
(أَحمَّلُوني) أمورًا
يَطولُ فِيهِ الفَضُولُ
(أَو) توَلَّونِي بِخَيْرٍ
فالرهنُ مِمَّا يَزُولُ
لَا أَجْعَلُ القَلبَ رَهْنًا
وَالْوَقْف (مَا) لَا يحولُ
وَقْفٌ عليهمُ فؤَادِي
وفيهَا لَهُ:
وبعدَ (ذَلِك) ضَلَّا
قد ذَلَّ مَنْ مِنْهُ مَلَّا
وخَابَ من عَنهُ وَلَّى
وفاز مَن فِيهِ يسْعَى
(1/335)
(فَفِي) هُدَاه اسْتَقَلَّا
مَن اسْتَقَلَّ سوَاهُ
نُوَلِّه مَا تَولَّى
والِمُعْرِضُ المُتَواني
(بفضله) يَتَجَلَّى
وإنْ خَضَعْتَ تراهُ
من ظِلِّ فَضْلِكَ ظِلَّا
يَا رب عَبْدُك يَرْجُو
تُسْدِي الجميلَ فَهَلَّا
وَأَنت ربٌّ رَحِيمٌ
ثمَّ خَتَم هَذِه الأمالي بِأَن قَالَ:
تَكْنُفُهُ مِنْ كل أرجائهِ
عبدُ الْكَرِيم المُرْتَجِي رَحْمَة
مَا وَفَّق اللهُ بنعمائهِ
أَمْلَى ثَلَاثِينَ حَدِيثا عَلَى
قولَ الحائرِ التائهِ
لَيْسَ يُزَكِّيها ولكنَّه يقولُ
قَبِلتَ حَرْفَيْنِ من إملاَئِه
فَازَ أَبُو الْقَاسِم يَا رب لَو
وللإِمام الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَوْلَاد: ولد ذكر، اسْمه: مُحَمَّد، ولقبه: عَزِيز الدَّين - كَمَا سُقْنَا حَدِيثه عَن وَالِده فِيمَا تقدم من الْأَحَادِيث - وَبنت، ذكر أَبُو (سعد) النسوي المنشي فِي «تَارِيخ خوارزم شاه» : أَن الإِمام أَبَا الْقَاسِم الرَّافِعِيّ كَانَت لَهُ بنت، تزَوجهَا رجل من مَشَايِخ «قزوين» وأولدها أَوْلَادًا كَثِيرَة.
وقرأت عَلَى الشَّيْخ صَلَاح الدَّين - أبقاه الله - قَالَ: رَأَيْت بِدِمَشْق سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة امْرَأَة حضرت عِنْد قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدَّين السُّبْكِيّ، عجمية، فصيحة اللِّسَان، ذَكَرتْ أَنَّها من نسل الإِمام الرَّافِعِيّ، وَكَانَت تحفظ «عقيدته» الَّتِي صنّفها، فَقَرَأت مِنْهَا قِطْعَة، وَهِي عقيدة بديعة
(1/336)
عَلَى طَريقَة أهل السنَّة، بِعِبَارَة فصيحة عَلَى عَادَته - رَحْمَة الله عَلَيْهِ.
توفّي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه، وَجعل الْجنَّة مَأْوَاهُ - فِي حُدُود سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة، ودُفن ب «قزوين» . قَالَه أَبُو عبد الله الصَفَّار، الإِسفراييني، وَكَذَا أَرَّخَهُ القَاضِي شمس الدَّين بن خلكان، وَأفَاد بِأَنَّهَا كَانَت فِي ذِي الْقعدَة.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: بلغنَا بِدِمَشْق وَفَاته سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة، وَكَانَت وَفَاته فِي أوائلها، أَو فِي أَوَاخِر السّنة الَّتِي قبلهَا بقزوين.
هَذَا مَا يتَعَلَّق بِحَال الإِمام أبي الْقَاسِم الرَّافِعِيّ.
وَأما وَالِده الَّذِي وَعَدْنا بِذكرِهِ: فَقَالَ (ابْن) نقطة الْحَافِظ فِي «ذيله عَلَى كتاب الْأَمِير ابْن مَاكُولَا» : أَبُو الْفضل، مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن الْفضل الرَّافِعِيّ الْقزْوِينِي يُقَال (لَهُ) : بابويه.
سمع بِبَلَدِهِ من أبي عَلّي الْحسن بن أَحْمد الهمذاني، قدم عَلَيْهِم، وَمن ملكداذ بن عَلّي بن أبي عَمْرو، (و) بِبَغْدَاد من: أبي مَنْصُور بن خيرون، وَأبي الْفضل الأرموي، وَأبي عبد الله بن الطرائفي، وَسعد الْخَيْر الْأنْصَارِيّ. (و) بنيسابور من: أبي الأسعد الْقشيرِي، وَعبد الْخَالِق بن زَاهِر الشحامي فِي آخَرين.
وَقَالَ وَلَده - أَعنِي الإِمام الرَّافِعِيّ - فِي «أَمَالِيهِ» : وَالِدي أَبُو الْفضل، مِمَّن خُصَّ بعفة الذيل، وحُسن السِّيرَة، والجدِّ فِي الْعلم
(1/337)
وَالْعِبَادَة، وذلاقة اللِّسَان، وَقُوَّة الْجنان، والصلابةِ فِي الدَّين، والمهابةِ عِنْد النَّاس، والبراعة فِي الْعلم: حفظا، وضبطًا، ثمَّ: إتقانًا، وبيانًا، وفهمًا ودرايةً، ثمَّ: أَدَاء، وَرِوَايَة.
سمع الحَدِيث، وتفقَّه ب «قزوين» فِي صِباه، ثمَّ سَافر إِلَى الرّيّ، فَسمع، وتفقَّه، ثمَّ ارتحل إِلَى بَغْدَاد، فَسمع، وتفقَّه، وحجَّ مِنْهَا، ثمَّ انْتقل إِلَى نيسابور، فحصَّل عَلَى الإِمام مُحَمَّد بن يَحْيَى، وَسمع الحَدِيث الْكثير.
وَكَانَ مشايخه (يوقرونه) ، لحسن سيره، وشمائله، ووفور فَضله، وفضائله.
ولَمَّا عَاد إِلَى «قزوين» أَقبلت عَلَيْهِ المتفقِّهةُ، فدرَّس، وأَفاد، وذاكَر، وذَكَّر، وفَسَّرَ، وَرَوَى، وأَمْلى، وصَنَّف: فِي التَّفْسِير، والْحَدِيث، وَالْفِقْه، وانتفع بِهِ الْخَواص والعوام.
ثمَّ اسْتَأْثر الله - تَعَالَى - بِهِ فِي شهر رَمَضَان، سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة. قَالَ: وَلَعَلَّ الله يوفق لما فِي عزمي من جمع مُخْتَصر فِي مناقبه، أُسَمِّيهِ ب «القَوْل الْفَصْل فِي فضلِ أبي الْفضل» . ا. هـ
وَقَالَ فِي الْمجْلس الْخَامِس (من هَذِه «الأمالي» ) : وَالِدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ جيد الْحِفْظ، سمعته صَبِيحَة بعض الْأَيَّام يَقُول: سَهِرْتُ البارحة فأجلت الفكرَ فِيمَا أحفظه من الأبيات المفردة، والمقطعات فبلغت آلافًا. ذكر عددا كثيرا.
(1/338)
وَقَالَ فِي الْمجْلس الْعَاشِر مِنْهَا: سَمِعت عبد الرَّحِيم بن الْحُسَيْن المؤذِّن - وَكَانَ رجلا صَالحا يؤذِّن فِي مَسْجده - يَحْكِي أَن وَالِدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خرج فِي لَيْلَة مظْلمَة لصلاةِ العشاءِ، قَالَ: وَأَنا عَلَى بَاب الْمَسْجِد أنتظره، فحسبت أَن فِي يَده سِراجًا، وتعجَّبْتُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لم يكن من عَادَته استصحابُ السراج، فمَّا بلغ الْمَسْجِد لم أجد السراجَ، و (دهشت) وَذكرت لَهُ ذَلِكَ من الْغَد فَلم يُعجبهُ وُقُوفِي عَلَى الْحَال، وَقَالَ: أقبل عَلَى شَأْنك.
وَقَالَ فِي الْمجْلس الْعَاشِر مِنْهَا: كَتَبَ [سعد] بن الْحسن الْكرْمَانِي لوالدي، رحمهمَا الله - وَكَانَ [سعد] من أهل (الْعلم و) الْفضل، والبيوتات الشَّرِيفَة -:
فَأَسَأْنا بِحسن عَهْدك ظَنَّا
يَا أَبَا الْفضل قَد تَأَخَّرْتَ عنَّا
فَإِذا أنْتَ ذَلِكَ المُتَمَنَّى
كمْ تَمَنَّتْ نَفْسي صَدِيقًا صَدُوقًا
وبِعَهْدِ الصِّبَا وإنْ بَانَ عَنَّا
(فبِغُصنِ) الشَّباب لما تَثَنَّى
لَا تَقُلْ للرسولِ كانَ وكُنَّا
كُنْ جوابي إِذا قَرأْتَ كِتابي
فَبلِّغْتُ أَنه كَانَ جَوَابه. أ. هـ.
وَقَالَ فِي الْمجْلس الْخَامِس عشر: كتب إِلَيّ وَالِدي أَبُو سُلَيْمَان (الزبيري) - حِين عزم عَلَى السّفر للتفقه -:
(1/339)
وَلَسْتَ ملومًا بِمَا تَفْعَلُ
أَبَا الْفضل هَجْرُكَ لَا يُحْمَلُ
وقدمًا علينا بهَا يبخلُ
وإنَّكَ مِنْ حَسَناتِ الزَّمَانِ
وَأما والدته الَّتِي وعدنا بذكرها أَيْضا، فَقَالَ فِي «أَمَالِيهِ» - أَيْضا -: والدتي صَفِيَّة بنت الإِمام أسعد (الركاني) ، - رحمهمَا الله - كَانَت تروي الحَدِيث عَن إجَازَة جمَاعَة من مَشَايِخ «أَصْبَهَان» ، و «بَغْدَاد» ، و «نيسابور» ، عَنِيَ بتحصيل أَكْثَرهَا: خالها أَحْمد بن إِسْمَاعِيل.
قَالَ: وَلَا أعرف امْرَأَة فِي الْبَلَد كريمةَ الأطرافِ فِي (الْعلم) مثلهَا، فأبوها كَانَ حَافِظًا للْمَذْهَب، والأقوالِ، وَالْوُجُوه [فِيهِ] ، (المستقرب) مِنْهَا والمستبعد، ماهرًا فِي الْفَتْوَى، مرجوعًا إِلَيْهِ.
وَأمّهَا: زُلَيْخَا بنت القَاضِي إِسْمَاعِيل بن يُوسُف، كَانَت فقيهةً (يُرَاجِعهَا) النِّسَاء، فتفتي لَهُنَّ لفظا وخطًّا، سيّما فِيمَا ينوبهن، ويستحين مِنْهُ، كالعدة وَالْحيض.
وأخواها: من معتبري (الْأَئِمَّة) الْمَشْهُورين فِي الْبَلَد، دَرَجَ أكبرهما، وأُنسئ فِي أجل (الآخر) .
وَزوجهَا الإِمَام وَالِدي، قد أَشرت إِلَى جملٍ من أَحْوَاله فِيمَا تقدم.
وجدّها: القَاضِي إِسْمَاعِيل (بن يُوسُف) ، من أهل (العِلْم
(1/340)
و) الحَدِيث، والجدّ فِي الْعِبَادَة، وَكَانَ قد تفقَّه عَلَى القَاضِي، الشَّهِيد: أبي المحاسن الرَّوْيَانِيّ، وَسمع مِنْهُ الحَدِيث.
وخالها: الإِمَام أَحْمد بن إِسْمَاعِيل، مَشْهُور فِي الْآفَاق.
قَالَ فِي أثْنَاء « (أَمَالِيهِ) » - بعد أَن رَوَى عَنهُ حَدِيثا -: هُوَ أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس الطَّالقَانِي (ثمَّ الْقزْوِينِي) ، أَبُو الْخَيْر، إِمَام كثير الْخَيْر، موفر الْحَظ من عُلُوم الشَّرْع: حفظا، وجمعًا، ونشرًا، بالتعليم، والتذكير، والتصنيف. وَكَانَ لَا يزَال لِسَانه رطبا من ذكر الله تَعَالَى، وَمن تِلَاوَة الْقُرْآن، وَرُبمَا قُرِئَ عَلَيْهِ الحَدِيث وَهُوَ يُصَلِّي ويصغي إِلَى الْقَارئ، و (ينبهه) إِذا زَلَّ، وَاجْتمعَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ الْقبُول التَّام، عِنْد الْخَواص والعوام، والصيت الْمُنْتَشِر، والجاه والرفعة.
وتولَّى تدريس النظامية بِبَغْدَاد مُدَّة، مُحْتَرمًا فِي حَرِيم الْخلَافَة، مرجوعًا إليْهِ، ثمَّ آثَر الْعود (إِلَى) الوطن، واغتنم النَّاس رُجُوعه إِلَيْهِم، و [استفادوا] من علمه، وتَبَرَّكُوا بأيامه.
وَسمع الْكثير من الفراوي، وفهرست مسموعاته متداول، وَكَانَ يعْقد الْمجْلس للعامة فِي الْأُسْبُوع ثَلَاث مَرَّات، إِحْدَاهَا: صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة، (فَتكلم عَلَى عَادَته يَوْم الْجُمُعَة) ، الثَّانِي عشر من الْمحرم سنة تسعين وَخَمْسمِائة فِي قَول الله تَعَالَى: (فَإِن توَلّوا فَقل حسبي الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ) .
(1/341)
وَذكر أَنَّهَا من أَوَاخِر مَا نزل من الْقُرْآن، وعَدَّدَ الْآيَات الْمنزلَة آخرا، مِنْهَا: (الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ) , وَمِنْهَا: سُورَة النَّصْر. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: (وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله) .
وَذكر أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا عَاشَ بعد نزُول هَذِه الْآيَة إلَّا سَبْعَة أَيَّام، ولمَّا نَزَلَ من الْمِنْبَر حُمَّ، وانتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى فِي (يَوْم) الْجُمُعَة الْأُخْرَى، وَلم يَعِشْ بعد ذَلِكَ الْمجْلس إلَّا سَبْعَة أَيَّام، وَهَذَا من عَجِيب الاتفاقات.
وَكَأَنَّهُ أُعْلِمَ بِالْحَال، و [بِأَنَّهُ] حانَ وَقت الارتحال، ودُفن يَوْم السبت، وَلَقَد خرجت من الدَّار بكرةَ (فِي) ذَلِكَ اليومِ عَلَى قصد التَّعْزِيَة، وَأَنا فِي شَأْنه متفكر، وَمِمَّا أَصَابَهُ منكسر، إِذْ وَقع فِي خلدي من غير نِيَّة، وفكر وروية:
لوفاةِ أحمدِهَا بن إسماعيلها
بَكَت العلومُ بويلها وعويلها
كَأَن أحدا يُكَلِّمُنِي (بذلك) .
وَكَانَت وِلَادَته سنة: (اثْنَتَيْ عشرَة) وَخَمْسمِائة، وَهُوَ مَعَ كَونه خَال والدتي، أَبوهَا من الرَّضَاع أَيْضا.
قَالَ: وَابْنهَا، المملي لهَذِهِ الأمالي - يَعْنِي الرَّافِعِيّ نَفسه -: لَا يخرج من زمرة أهل الْعلم، ويحشر فيهم - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - وَكَذَلِكَ سَائِر بنيها.
(1/342)
قَالَ: ثمَّ هِيَ - يَعْنِي والدته - فِي (نَفسهَا) متديِّنة خائفة، وَبِمَا لَا بُد مِنْهُ للفروض عارفة، قارئة لكتاب الله تَعَالَى، (كَثِيرَة) الْخَيْر، رقيقَة الْقلب، سليمَة الْجَانِب، تحمل الكَلَّ، وترغب فِي الْمَعْرُوف، وتُحْسِنُ إِلَى الْيَتَامَى والأيامى، تلِي خيرا، وتولي جميلًا مَا استطاعت إِلَيْهِمَا سَبِيلا.
وَكَانَت قد ابْتليت بعدة بَنَات، أنفقت وَاسِطَة الْعُمر عليهنَّ، حتَّى استكملن من أدبهنَّ، مَضَيْن لسبيلهنَّ، (فَتَرَكْنَها) ملهوفة ثَكْلَى بهنَّ، وَللَّه مَا أَخذ، وَله مَا أعْطى، وَلَا راد لما حكم (بِهِ) وَقَضَى.
ثمَّ ذكر أَحَادِيث وشعرًا تَسْلِيَة لوالدته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وعنها.
وللإِمام الرَّافِعِيّ أَخ، اسْمه: مُحَمَّد، تفقَّه عَلَى أبي الْقَاسِم بن فضلان. وَسمع الحَدِيث من أَبِيه، وَأَجَازَ لَهُ: ابْن البَطِّي. ورحل إِلَى «أَصْبَهَان» و «الرّيّ» ، و «أذربيجان» ، و «الْعرَاق» . وَسمع (الحَدِيث) من: نصر الله القَزَّاز، وَابْن الْجَوْزِيّ.
واستوطن بَغْدَاد، وولِّي مشارفة أوقاف «النظامية» .
وَكَانَ فِي ديانَة، وَأَمَانَة، وتواضُع، وتودُّد، وحُسن خلق. كتب الْكثير - مَعَ ضعف خطه - من التَّفْسِير، والْحَدِيث، وَالْفِقْه. ومعرفته فِي الحَدِيث تَامَّة.
قَالَ ابْن النجار: وَكَانَ يذاكرني بأَشْيَاء، وَله فهم حسن، (وَمَعْرِفَة) . مَاتَ فِي ثامن عشْرين جُمَادَى الأولَى، من سنة ثَمَان
(1/343)
وَعشْرين وسِتمِائَة، وَقد قَارب (السّبْعين) .
هَذَا آخر مَا أردْت ذكره من هَذِه الْفُصُول، وَهِي مهمةٌ، نَافِعةٌ، سِيَّما مَنَاقِب الإِمامِ الرَّافِعِيّ (ووالده، ووالدته) ، فإنَّ بذلك يعرف قدرهم، وفضلهم، وبسطناها (هُنَا) بسطًا حسنا، لَا يُوجد كَذَلِك فِي كتاب.
وإذْ قد فَرَغْنَا من هَذِه الْفُصُول، فلنشرع الْآن فِي الْغَرَض الأهم الْمَقْصُود، متوكلين عَلَى الصَّمد المعبود، أسألُ الله الْكَرِيم إِتْمَامه مصونًا عَاجلا، عَلَى أحسن الْوُجُوه، وأبركها، وأعمها، وأنفعها، وأدومها، (بِمُحَمد وَآله)
(1/344)
كتاب الطَّهَارَة
(1/345)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
كتاب الطَّهَارَة
بَاب المَاء الطَّاهِر
قَالَ الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي مُحكم كِتَابه الْكَرِيم: (وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ) .
وَقَالَ: (وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا) .
ذكر الإِمام الرَّافِعِيّ فِي هَذَا الْبَاب من الْأَحَادِيث سِتَّة أَحَادِيث:
(1/347)
الحَدِيث الأول
ورد فِي الْبَحْر قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْبَحْر هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح جليل، مَرْوِيّ من طرق، الَّذِي يحضرنا مِنْهَا تِسْعَة:
أَولهَا: من طَرِيق أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عبد الرَّحْمَن بن صَخْر - عَلَى الْأَصَح - عِنْد جمَاعَة من الْحفاظ، كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي «أَمَالِيهِ» . وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه الْأَصَح (من) نَحْو ثَلَاثِينَ قولا، كَنَّاه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِأبي هُرَيْرَة - وَقيل: أَبوهُ - لمَّا رَآهُ وَقد جمع أَوْلَاد هِرة وحشية، حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ - أَيْضا - فِي «أَمَالِيهِ» - قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إنَّا نركب الْبَحْر ونحمل مَعنا الْقَلِيل من المَاء، فَإِن توضأنا بِهِ عطشنا، أفنتوضأ بِمَاء الْبَحْر؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «هُوَ الطُّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ ميتَته» .
رَوَاهُ الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، أهل الْحل وَالْعقد: مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، والدارمي فِي «مسانيدهم» ، وَالْبُخَارِيّ فِي
(1/348)
«تَارِيخه» ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، (وَالنَّسَائِيّ) ، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو بكر بن خُزَيْمَة، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَأَبُو مُحَمَّد بن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» ، وَأَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ، وَأَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
قَالَ: وَسَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ، فَقَالَ: هُوَ حَدِيث صَحِيح.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه « (الْمعرفَة» ) : هُوَ حَدِيث صَحِيح، كَمَا قَالَه البُخَارِيّ.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ثَبت أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْبَحْر: «هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ، الْحل ميتَته» .
(1/349)
وَقَالَ الْبَغَوِيّ: هَذَا الحَدِيث صَحِيح، مُتَّفق عَلَى صِحَّته.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» : هَذَا حَدِيث صَحِيح مَشْهُور، أخرجه الْأَئِمَّة فِي كتبهمْ، وَاحْتَجُّوا بِهِ، وَرِجَاله ثِقَات.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» ، و «الإِلمام» : رجح ابْن مَنْدَه صِحَّته.
وَخَالف الْحَافِظ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر، فَقَالَ فِي «تمهيده» : اخْتلف أهل الْعلم فِي إِسْنَاده. قَالَ: وَقَول البُخَارِيّ: صَحِيح. لَا أَدْرِي مَا هَذَا مِنْهُ؟ ! وَلَو كَانَ صَحِيحا عِنْده، لأخرجه فِي كِتَابه. قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث لم يحْتَج أهل الحَدِيث بِمثل إِسْنَاده. قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي صَحِيح؛ لِأَن الْعلمَاء تلقوهُ بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ، لَا يُخَالف [فِي] جملَته أحد (من) الْفُقَهَاء، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي بعض مَعَانِيه.
وَهَذَا الْكَلَام من الْحَافِظ أبي عمر فِيهِ نظر كَبِير، لَا جرم أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين تعقَّبه، فَقَالَ فِي «شرح الإِلمام» : (قَوْله) : لَو كَانَ صَحِيحا لأخرجه (فِي كِتَابه) . غير لَازم؛ لِأَنَّهُ (لم) يلْتَزم إِخْرَاج كل حَدِيث
(1/350)
(صَحِيح) . وَأما قَوْله: لم يحْتَج أهل الحَدِيث بِمثل إِسْنَاده. فقد ذكرنَا فِي كتاب «الإِمام» وُجُوه التَّعْلِيل الَّتِي يُعلل بهَا الحَدِيث.
قلت: وحاصلها - كَمَا قَالَ فِيهِ - أَنه يُعلل بأَرْبعَة أوجه:
أَحدهَا: الْجَهَالَة [بِسَعِيد] بن سَلمَة، والمغيرة بن أبي بردة، الْمَذْكُورين فِي إِسْنَاده، وادَّعى أَنه لم يرو عَن سعيد غير صَفْوَان بن سليم، وَلَا عَن الْمُغيرَة غير سعيد بن سَلمَة.
قَالَ الإِمام الشَّافِعِي: فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث من لَا أعرفهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» : يحْتَمل أَن يُرِيد سعيد بن سَلمَة، أَو الْمُغيرَة أَو كِلَاهُمَا.
وَالْجَوَاب: أَنه رَوَاهُ عَن سعيد غير صَفْوَان، رَوَاهُ عَنهُ: الجُلاَح، بِضَم الْجِيم، وَتَخْفِيف اللَّام، وَآخره حاء مُهْملَة. قَالَ أَبُو عبيد فِي كِتَابه «الطّهُور» : وَخَالف أَبُو الْأسود أَصْحَابه، فَقَالَ: الجلاخ - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. انْتَهَى - كنيته: أَبُو كثير، رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من رِوَايَة
(1/351)
قُتَيْبَة، عَن لَيْث، عَنهُ. وَلَفظه: «أنَّ نَاسا أَتَوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالُوا: إنَّا نبعد فِي الْبَحْر، وَلَا نحمل [من المَاء] إلاَّ الإِداوة والإِداوتين، [لأنَّا] لَا نجد الصَّيْد حَتَّى نبعد، فنتوضأ بِمَاء الْبَحْر؟ فَقَالَ: «نعم، إنَّه الحِلُّ ميتَته، الطّهُور مَاؤُهُ» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» ، والحافظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه الْكَبِير» ، من طَرِيق: يَحْيَى بن بكير عَن اللَّيْث، بِسَنَدِهِ، وَلَفْظهمَا: «كُنَّا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْمًا، فَجَاءَهُ صَيَّاد، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إنَّنا ننطلق فِي الْبَحْر، نُرِيد الصَّيْد فَيحمل أَحَدنَا (مَعَه) الإِداوة، وَهُوَ يَرْجُو أَن يَأْخُذ الصَّيْد قَرِيبا، فَرُبمَا وجده كَذَلِك، وَرُبمَا لم يجد الصَّيْد حتَّى يبلغ من الْبَحْر مَكَانا لم يظنّ (أَن) يبلغهُ، فَلَعَلَّهُ يَحْتَلِم، أَو يتَوَضَّأ فإنْ اغْتسل أَو تَوَضَّأ بِهَذَا المَاء فَلَعَلَّ أَحَدنَا يُهْلِكُه الْعَطش، فَهَل ترَى فِي مَاء الْبَحْر أَن نغتسل بِهِ، أَو نَتَوَضَّأ (بِهِ) إِذا خفنا
(1/352)
ذَلِك؟ فَزعم أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اغتسلوا مِنْهُ وَتَوَضَّئُوا بِهِ، فَإِنَّهُ الطُّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ ميتَته» .
قَالَ الْحَاكِم: قد احْتج مُسلم بالجلاح، أبي كثير.
قلت: وَرَوَاهُ عَن الجلاح أَيْضا: يزِيد بن أبي حبيب، وَعَمْرو بن الْحَارِث.
أما رِوَايَة عَمْرو: فَمن طَرِيق ابْن وهب، وَأما رِوَايَة يزِيد: فَمن طَرِيق اللَّيْث عَنهُ.
وَأما الْمُغيرَة بن أبي بردة: فقد رَوَى عَنهُ يَحْيَى بن سعيد، وَيزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي إِلَّا أَن يَحْيَى بن سعيد اخْتُلف عَلَيْهِ فِيهِ:
فَرَوَاهُ هشيم عَنهُ، عَن الْمُغيرَة، عَن رجل من بني مُدْلِج مَرْفُوعا.
وَرَوَاهُ حَمَّاد عَنهُ، عَن الْمُغيرَة، (عَن أَبِيه) ، عَن أبي هُرَيْرَة.
ذكرهمَا الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» .
وَرِوَايَة يزِيد بن مُحَمَّد: أخرجهَا أَيْضا فِيهِ، وَرَوَاهَا أَيْضا: أَحْمد بن عبيد الصَفَّار، صَاحب «الْمسند» . وَمن جِهَته أخرجهَا الْبَيْهَقِيّ.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه: (فاتفاق صَفْوَان والجلاح) ، مِمَّا يُوجب شهرة سعيد بن سَلمَة، واتفاق يَحْيَى بن سعيد، وَسَعِيد بن سَلمَة، عَلَى الْمُغيرَة بن أبي بردة، مِمَّا يُوجب شهرة الإِسناد، فَصَارَ الإِسناد مَشْهُورا.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: وَقد زِدْنَا عَلَى مَا ذكرنَا عَن ابْن مَنْدَه:
(1/353)
رِوَايَة يزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي، فتلخص أَن الْمُغيرَة رَوَى عَنهُ ثَلَاثَة، فبطلت دَعْوَى التفرد الْمَذْكُور عَن سعيد وَصَفوَان.
قَالَ فِي «شرح الإِلمام» : فالجهالة فِي حق سعيد ترْتَفع بِرِوَايَة الجلاح وَصَفوَان عَنهُ، وَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُور عِنْد الْمُحدثين: بِرَفْع الْجَهَالَة عَن الرَّاوِي. والجهالة مُرْتَفعَة عَن الْمُغيرَة بِرِوَايَة ثَلَاثَة عَنهُ كَمَا تقدم، مَعَ كَونه مَعْرُوفا من غير الحَدِيث فِي مَوَاقِف (الحذر) فِي الحروب بالمغرب.
قَالَ: وَزَوَال الْجَهَالَة عَن سعيد بِرِوَايَة [اثْنَيْنِ] عَنهُ، وَعَن الْمُغيرَة بِرِوَايَة ثَلَاثَة عَنهُ يَكْتَفِي بِهِ من لَا يرَى أَنه لابد من معرفَة حَال الرَّاوِي فِي الْعَدَالَة، بعد زَوَال الْجَهَالَة عَنهُ، فإنْ كَانَ المصححون لَهُ قد علموها عَلَى جِهَة التَّفْصِيل، فَلَا إِشْكَال مَعَ ذَلِك، وإلاَّ فَلَا يبعد اعتمادهم عَلَى تحري مَالك، وإتقانه للرِّجَال أَو عَلَى الِاكْتِفَاء بالشهرة.
قلت: قد ثَبت ثِقَة سعيد بن سَلمَة، والمغيرة بن أبي بردة (صَرِيحًا) ، (فإنَّ الإِمام أَبَا عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ وثقهما، كَمَا نَقله عَنهُ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «تهذيبه» ، وَكَذَلِكَ أَبُو (حَاتِم) ابْن حبَان، ذكرهمَا فِي كتاب «الثِّقَات» ) .
(1/354)
وَرَوَى الْآجُرِيّ عَن أبي دَاوُد، أَنه قَالَ: الْمُغيرَة بن أبي بردة مَعْرُوف. وأوضح ابْن يُونُس معرفَة عينه، فارتفعت عَنْهُمَا جَهَالَة الْحَال بِهَذَا، وجهالة الْعين بِمَا تقدم. وينضم إِلَى ذَلِك تَصْحِيح الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين لَهُ: التِّرْمِذِيّ، وَالْبُخَارِيّ، وَابْن الْمُنْذر، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان، وَالْبَيْهَقِيّ، وَابْن مَنْدَه، وَالْبَغوِيّ، وَغَيرهم.
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» : (مثل هَذَا الحَدِيث) الَّذِي صَدَّر بِهِ مَالك كتاب «الْمُوَطَّأ» ، وتداوله فُقَهَاء الإِسلام من عصره إِلَى وقتنا هَذَا، لَا يُردُّ بِجَهَالَة هذَيْن الرجلَيْن. قَالَ: عَلَى أَن اسْم الْجَهَالَة مَرْفُوع عَنْهُمَا بمتابعات. فَذكرهَا بأسانيده.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» : الَّذِي أَقَامَ إِسْنَاده ثِقَة، أودعهُ مَالك فِي موطئِهِ.
الْوَجْه الثَّانِي من التَّعْلِيل: الِاخْتِلَاف فِي اسْم سعيد بن سَلمَة.
فَقيل - كَمَا قَالَ الإِمام مَالك -: سعيد بن سَلمَة، من (آل) ابْن الْأَزْرَق. وَقيل: عبد الله بن سعيد المَخْزُومِي. وَقيل سَلمَة بن سعيد.
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ المخالفان لرِوَايَة مَالك (هما من رِوَايَة: مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَلَى الِاخْتِلَاف عَنهُ، وَالتَّرْجِيح لرِوَايَة مَالك) - مَعَ جلالته، وَعدم الِاخْتِلَاف عَلَيْهِ - أولَى.
وَإِن كَانَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر (قَالَ) : [رُوَاة الْمُوَطَّأ]
(1/355)
اخْتلفُوا، فبعضهم يَقُول: من آل بني الْأَزْرَق، كَمَا قَالَ يَحْيَى. وَبَعْضهمْ يَقُول: من آل الْأَزْرَق. وَكَذَا قَالَ (القعْنبِي) . وَبَعْضهمْ يَقُول: من آل ابْن الْأَزْرَق، كَذَلِك قَالَ [ابْن] الْقَاسِم، وَابْن بكير. قَالَ ابْن عبد الْبر: وَهَذَا كُله مُتَقَارب غير (ضار) .
قلت: وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الَّذِي اعتذر بِهِ الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّيْخَيْنِ فِي عدم تخريجهما لهَذَا الحَدِيث، فَقَالَ فِي كتاب «الْمعرفَة» : (إنَّما) لم يخرجَاهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» لاخْتِلَاف وَقع فِي اسْم سعيد بن سَلمَة، والمغيرة بن أبي بردة.
وَهَذَا غير ضار؛ إِذْ قد زَالَت الْجَهَالَة عَنْهُمَا عينا وَحَالا كَمَا تقدَّم، فَلَا يضر حينئذٍ الِاخْتِلَاف فِي اسمهما.
الْوَجْه الثَّالِث من التَّعْلِيل: التَّعْلِيل بالإِرسال.
قَالَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر: ذكر ابْن أبي عمر، والْحميدِي، والمخزومي، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن رجل من أهل الْمغرب - يُقَال لَهُ: الْمُغيرَة بن عبد الله بن أبي بردة -: «أنَّ نَاسا من بني مُدْلِج أَتَوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله! إنَّا نركب أَرْمَاثًا فِي الْبَحْر ... » وسَاق الحَدِيث بِمَعْنى حَدِيث مَالك.
(1/356)
قَالَ أَبُو عمر: هُوَ مُرْسل، وَيَحْيَى بن سعيد أحفظ من صَفْوَان بن سليم، وَأثبت من سعيد بن سَلمَة، وَلَيْسَ إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث مِمَّا تقوم بِهِ عِنْد أهل الْعلم بِالنَّقْلِ حجَّة؛ لِأَن فِيهِ رجلَيْنِ غير معروفين بِحمْل الْعلم.
وَأَرَادَ أَبُو عمر بِالرجلَيْنِ: سعيدًا والمغيرة، وَقد تقدَّم رَدُّ جهالتهما، وَأكْثر مَا بَقِي فِي هَذَا الْوَجْه - بعد اشتهار سعيد والمغيرة - تَقْدِيم إرْسَال الأحفظ، عَلَى إِسْنَاد من دونه، فإنَّ يَحْيَى بن سعيد أرْسلهُ من هَذَا الْوَجْه، وَسَعِيد بن سَلمَة أسْندهُ، وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة فِي الْأُصُول.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي « (شرح) الإِلمام» : وَهَذَا غير قَادِح عَلَى الْمُخْتَار عِنْد أهل الْأُصُول.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر - بعد أَن ذكر رِوَايَة من رَوَى عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة عَن أَبِيه وَقد جَوَّدَه عبد الله بن يُوسُف، عَن مَالك، عَن صَفْوَان، سمع (الْمُغيرَة) أَبَا هُرَيْرَة.
وَأَيْضًا تقدم رِوَايَة مَالك وَمن تَابعه لعدم الِاضْطِرَاب فِيهَا، عَلَى رِوَايَة يَحْيَى بن سعيد للِاخْتِلَاف عَلَيْهِ.
الْوَجْه الرَّابِع: التَّعْلِيل بِالِاضْطِرَابِ.
قد تقدم اتِّفَاق رِوَايَة مَالك، وَيزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي، والجلاح، من جِهَة اللَّيْث، وَعَمْرو بن الْحَارِث.
وَأما ابْن إِسْحَاق: فَرَوَاهُ عَن يزِيد، عَن جلاح، عَن عبد الله
(1/357)
بن سعيد المَخْزُومِي، عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» كَذَلِك بالسند الْمَذْكُور (عَن أبي هُرَيْرَة) ، قَالَ: «أَتَى (رجال) من بني مُدْلِج إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (فَقَالُوا) : يَا رَسُول الله، إنَّا أَصْحَاب هَذَا الْبَحْر، نعالج الصَّيْد عَلَى رِمْث، فَنَعْزُب فِيهِ اللَّيْلَة والليلتين وَالثَّلَاث والأربع، ونحمل مَعنا من العذب لشفاهنا، فإنْ نَحن توضأنا بِهِ خشينا عَلَى أَنْفُسنَا، وإنْ نَحن آثرنا بِأَنْفُسِنَا، وتوضأنا من الْبَحْر، وجدنَا فِي أَنْفُسنَا من ذَلِك، فَخَشِينَا أَن لَا يكون طهُورا. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «توضئوا مِنْهُ، فإنَّه الطَّاهِرُ ماؤُه، (الحِلُّ) ميتَته» .
وَفِي رِوَايَة عَن ابْن إِسْحَاق: سَلمَة بن سعيد، عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة حَلِيف بني عبد الدَّار، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ البُخَارِيّ: وَحَدِيث مَالك أصح.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: اللَّيْث بن سعد أحفظ من مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَقد أَقَامَ إِسْنَاده عَن يزِيد بن أبي حبيب، وَتَابعه عَلَى ذَلِك عَمْرو بن الْحَارِث عَن الجلاح، فَهُوَ أولَى أَن يكون صَحِيحا، وَقد رَوَاهُ يزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي، عَن الْمُغيرَة بن أبي بردة (نَحْو رِوَايَة من رَوَاهُ عَلَى الصِّحَّة.
وَالِاخْتِلَاف عَلَى يَحْيَى بن سعيد فِيهِ كَبِير، وَقَالَ هشيم عَنهُ فِي
(1/358)
رِوَايَة: عَن الْمُغيرَة بن أبي [بَرزَة] ) . وَحمل التِّرْمِذِيّ الْوَهم عَلَى هشيم فِي ذَلِك، وَحَكَاهُ عَن البُخَارِيّ، فَقَالَ: وهم فِيهِ هشيم، إنَّما هُوَ: ابْن أبي بردة، وَقد رَوَاهُ أَبُو عبيد (عَن) هشيم عَلَى الصَّوَاب، فقد يكون الْوَهم مِمَّن دونه.
قلت: وَقد جمع الِاخْتِلَاف فِي (إِسْنَاده) الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» ، فَقَالَ مَا ملخصه: قيل: عَن صَفْوَان، عَن سعيد بن سَلمَة، عَن الْمُغيرَة، عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَه مَالك.
وَقيل: عَن سَلمَة بن سعيد - أَو عَكسه - عَن الْمُغيرَة (بِهِ) .
وَقيل: عَن سعيد، عَن أبي بردة بن عبد الله، عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقيل: عَن صَفْوَان بن سليم مُرْسلا، عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقيل: عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عبد الله بن عَامر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَقيل: عَن جلاح، عَن سعيد، عَن الْمُغيرَة، عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقيل: (عَن جلاح، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة) .
وَقيل: عَن جلاح، (عَن) الْمُغيرَة، عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقيل: عَن جلاح، عَن أبي ذَر الْمصْرِيّ، عَن أبي هُرَيْرَة.
(1/359)
وَقيل: عَن يزِيد بن مُحَمَّد الْقرشِي، عَن الْمُغيرَة، عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقيل: عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن الْمُغيرَة، عَن رجل من بني مُدْلِج، «أنَّ رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » الحَدِيث.
وَقيل: عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن الْمُغيرَة، عَن رجل من قومه، عَن رجل سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَقيل: عَن يَحْيَى، عَن الْمُغيرَة، عَن أَبِيه، مَرْفُوعا.
وَقيل: عَن يَحْيَى، عَن الْمُغيرَة بن عبد الله - أَو عبد الله بن الْمُغيرَة - «أَن نَاسا من بني مُدْلِج سَأَلُوا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » الحَدِيث.
وَقيل: عَن يَحْيَى، عَن عبد الله بن الْمُغيرَة، عَن أَبِيه، عَن رجل من بني مُدْلِج، (اسْمه عبد الله، مَرْفُوعا. [وَقيل] : عَن يَحْيَى عَن الْمُغيرَة بن عبد الله - أَو عبد الله بن الْمُغيرَة -، عَن رجل من بني مُدْلِج، مَرْفُوعا.
وَقيل: عَن يَحْيَى، عَن عبد الله بن الْمُغيرَة، عَن أبي بردة مَرْفُوعا.
وَقيل: عَن يَحْيَى، عَن عبد الله بن الْمُغيرَة، عَن بعض بني مُدْلِج) مَرْفُوعا. وَهُوَ فِي «مُسْند أَحْمد» .
وَقيل: عَن الْمُغيرَة، عَن عبد الله المدلجي، مَرْفُوعا.
وَقيل: عَن جَعْفَر بن ربيعَة، عَن بكر بن سوَادَة، عَن مُسلم بن مخشيِّ، عَن (الفراسيِّ) ، مَرْفُوعا.
(وَقيل: عَن يَحْيَى بن عبَّاد، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة
(1/360)
مَرْفُوعا) .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وأشبهها بِالصَّوَابِ قَول مَالك، وَمن تَابعه، عَن صَفْوَان بن سليم.
الطَّرِيق الثَّانِي من طرق الحَدِيث: عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِل عَن مَاء الْبَحْر، فَقَالَ: «هُوَ الطَّهور مَاؤُهُ، الحِلُّ ميتَته» .
رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد فِي «الْمسند» ، وَابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَالْحَاكِم وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» . وتَرْجَم عَلَيْهِ ابْن حبَان، (بِأَن قَالَ) : ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أنَّ هَذِه السُّنَّة تفرَّد بهَا سعيد بن سَلمَة.
وَعَن الْحَافِظ أبي عَلّي ابْن السكن أَنه قَالَ: حَدِيث جَابر هَذَا أصح مَا رُوِيَ فِي الْبَاب.
وَخَالف ابْن مَنْدَه فِي ذَلِك، وَقَالَ: قد رَوَى هَذَا الحَدِيث عبيد الله بن مقسم عَن جَابر، والأعرج عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَا يثبت.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : عِنْدِي أنَّ قَول أبي عَلّي بن السكن فِي تَقْوِيَة حَدِيث جَابر، أَقْوَى من قَول ابْن مَنْدَه. وَذَلِكَ أَن عبيد الله بن مقسم مَذْكُور فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ بَين الشَّيْخَيْنِ، وَإِسْحَاق (الْمدنِي) الْمَذْكُور فِي الطَّرِيقَة الأولَى - يَعْنِي الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَة
(1/361)
المتقدمون خلا طَريقَة الْحَاكِم - وثَّقَه أَحْمد، وَيَحْيَى. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح. و [أَبُو] الْقَاسِم بن أبي الزِّنَاد - الْمَذْكُور فِيهِ أَيْضا - اسْمه [كنيته] أَثْنَى عَلَيْهِ أَحْمد، وَقَالَ [يَحْيَى] : لَا باس بِهِ. قَالَ: وَيُمكن أَن يكون ابْن مَنْدَه (علَّل) الحَدِيث باختلافٍ فِي إِسْنَاده.
ثمَّ ذكر أنَّ عبد الْعَزِيز بن عمرَان رَوَاهُ عَن إِسْحَاق بن حَازِم الزيَّات، عَن وهب بن كيسَان، عَن جَابر، عَن أبي بكر كَذَلِك. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
قلت: بحث مَعَه شَيخنَا أَبُو الْفَتْح الْيَعْمرِي، الْمَعْرُوف بِابْن سيد النَّاس - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ فِي «شرح التِّرْمِذِيّ» : هَذَا الَّذِي ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين عَن ابْن مَنْدَه لَا يصلح أَن يكون مُعَلِّلاً لرِوَايَة ابْن أبي الزِّنَاد، عَن إِسْحَاق. لتوثيق ابْن أبي الزِّنَاد، وَضعف عبد الْعَزِيز بن عمرَان بن أبي ثَابت عِنْدهم، وَرِوَايَة الضَّعِيف لَا تُعِلُّ رِوَايَة الثِّقَة.
قلت: وَلِحَدِيث جَابر هَذَا طَرِيق آخر، ذكره الطَّبَرَانِيّ فِي « (أكبر) معاجمه» من حَدِيث: الْمعَافى ابْن عمرَان، عَن ابْن جريج، عَن أبي الزبير، عَن جَابر، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْبَحْر: «هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ (الْحَلَال) ميتَته» .
(1/362)
و (هَذَا سَنَد) عَلَى شَرط الصَّحِيح، إلاَّ أَنه يُخْشَى أَن يكون ابْن جريج لم يسمعهُ من أبي الزبير، فإنَّه مدلِّس، وَأَبُو الزبير مدلِّسٌ أَيْضا، وَقد عنعنا فِي هَذَا الحَدِيث.
وَقد تَابع ابْن جريج: مباركُ بن فضَالة، فَرَوَاهُ عَن أبي الزبير عَن جَابر، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إنَّ البحْرَ حلالٌ ميتتهُ، طَهُورٌ ماؤُه» .
ومبارك هَذَا كَانَ يدلِّس أَيْضا، وضعَّفه أَحْمد، وَالنَّسَائِيّ.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن سُريج - بِالْجِيم - بن النُّعْمَان، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أبي التَّيَّاح - بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة فَوق، بعْدهَا يَاء مثناة تَحت مُشَدّدَة، واسْمه: يزِيد بن حميد الضبعِي -، عَن مُوسَى بن سَلمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «سُئِل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن مَاء الْبَحْر، فَقَالَ: «مَاء الْبَحْر طهُور» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» ، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم، وَله شَوَاهِد كَثِيرَة، وَلم يخرجَاهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَقد قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : مُوسَى بن سَلمَة: هُوَ المحبق، أخرج لَهُ مُسلم، وَقد صحَّح بعض الحفَّاظ حَدِيثا من رِوَايَة حَمَّاد، عَن (أبي) التياح، عَنهُ. وَبَاقِي السَّنَد مَشْهُور.
(1/363)
وَخَالف الدَّارَقُطْنِيّ، فَقَالَ فِي «سنَنه» : الصَّوَاب وَقفه عَلَى ابْن عَبَّاس.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن مُسلم بن مخشي، (عَن) ابْن الفِراسي - بِكَسْر الْفَاء وَالسِّين الْمُهْملَة - قَالَ: كنت أصيد، وَكَانَت لي قربَة أجعَل فِيهَا مَاء، وَإِنِّي تَوَضَّأت بِمَاء الْبَحْر، فَذكرت ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: «هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ، الْحل ميتَته» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» كَذَلِك «ابْن الفراسي» ، وَالتِّرْمِذِيّ، قَالَ فِي «جَامعه» : الفراسي عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَكَذَا هُوَ عِنْد ابْن عبد الْبر، وَذكر: أَن إِسْنَاده لَيْسَ بالقائم، وَأَن الفراسي (مَجْهُول) فِي الصَّحَابَة غير مَعْرُوف.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين (فِي «الإِمام» ) : إِن كَانَ مُرَاد أبي عمر مَجْهُول الْحَال، مَعَ إِثْبَات كَونه من الصَّحَابَة، فقد اشْتهر بَين أَرْبَاب الْأُصُول والْحَدِيث، أنَّ ذَلِك لَا يضر، لعدالة جَمِيع الصَّحَابَة. وإنْ أَرَادَ
(1/364)
مَجْهُول الصُّحْبَة، فقد أثبت البُخَارِيّ (صحبته) ، فِيمَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «علله» ، فِيمَا ذكر عَنهُ.
وَعَابَ عبد الْحق سَنَد هَذَا الحَدِيث بِأَن قَالَ: لم يَرْوِه - فِيمَا أعلم - إلاَّ مُسلم بن مخشي، وَمُسلم لم يَرْوِ عَنهُ إلاَّ بكر بن سوَادَة.
وتعقَّبه ابْن الْقطَّان، فَقَالَ فِي كِتَابه «الْوَهم والإِيهام» : أَظن أنَّه خَفِي عَلَى عبد الْحق انْقِطَاع حَدِيث الفراسي، وَهُوَ حَدِيث لم يسمعهُ مُسلم من الفراسي، وإنَّما سَمعه من ابْن الفراسي (عَن الفراسي) .
ثمَّ ذكر رِوَايَة أبي عمر بِإِسْنَادِهِ إِلَى بكر بن سوَادَة، عَن مُسلم بن مخشي: أَنه حدَّث أنَّ الفراسي قَالَ: «كنت أصيد فِي الْبَحْر الْأَخْضَر، عَلَى أَرْمَاث ... » الحَدِيث.
قَالَ: وَمَا أرَى أَبَا مُحَمَّد وقف عَلَيْهِ إلاَّ عِنْد ابْن عبد الْبر، وَلذَلِك مَا نقل فِيهِ مَا (قَالَ) فِي حَدِيث «إِذا كنت سَائِلًا فسل الصَّالِحين» ، حَيْثُ قَالَ: (ابْن) الفراسي لم يَرْوِ عَنهُ إلاَّ مُسلم بن مخشي. وَذَلِكَ أَنه لم يرَ فِي حَدِيثه (هَذَا لِابْنِ) الفراسي ذكرا، (وَرَآهُ) فِي حَدِيث «سل الصَّالِحين» . وَمن هُنَاكَ [يتَبَيَّن] : أَن مُسلم بن مخشي لَا يَروي عَن
(1/365)
الفراسي إلاَّ بِوَاسِطَة ابْنه، والْحَدِيث الْمَذْكُور ذكره فِي الزَّكَاة من حَدِيث النَّسَائِيّ، من رِوَايَة: مُسلم بن مخشي عَن ابْن الفراسي [أَن الفراسي] قَالَ لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أسألُ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «لَا، وإنْ كنتَ لابدَّ سَائِلًا فسلِ الصَّالِحين» .
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «علله» : سَأَلت مُحَمَّدًا - يَعْنِي البُخَارِيّ - عَن حَدِيث (ابْن) الفراسي فِي مَاء الْبَحْر، فَقَالَ: مُرْسل، لم يدْرك ابْن الفراسي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، والفراسي لَهُ صُحْبَة.
فَهَذَا - كَمَا ترَى - يُعْطي أنَّ الحَدِيث يُروى أَيْضا عَن ابْن الفراسي، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، لَا (يذكر) فِيهِ الفراسي، فَمُسلم بن مخشي (لَا يروي) إلاَّ عَن الابْن، (وَرِوَايَته) عَن الْأَب مُرْسلَة. انْتَهَى مَا ذكره ابْن الْقطَّان.
فتبيَّن بِهَذَا: أَن الحَدِيث إمَّا مُنْقَطع بَين مُسلم بن مخشي والفراسي، أَو مُرْسل بَين (ابْن) الفراسي وَالنَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وجوَّز الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» أَن يكون ابْن الفراسي والفراسي وَاحِدًا وَقع الِاخْتِلَاف فِيهِ، قَالَ: (وَيُؤَيِّدهُ) : رِوَايَة
(1/366)
ابْن مَاجَه - الْمُتَقَدّمَة - فإنَّ ظَاهرهَا أنَّ ابْن الفراسي هُوَ الَّذِي سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَسمع مِنْهُ ذَلِك، قَالَ: فَإِذا (ضُمَّ) إِلَى ذَلِك رِوَايَة من رَوَى: الفراسي، اقْتَضَى أَنَّهُمَا (وَاحِد) اخْتلف فِي اسْمه.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن عَمْرو (بن) شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «ميتةُ البحرِ حلالٌ، وماؤهُ طَهُورُ» .
رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» عَن [أبي الْعَبَّاس] مُحَمَّد بن يَعْقُوب الْحَافِظ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل، كِلَاهُمَا عَن: مُحَمَّد بن إِسْحَاق، نَا (الحكم) بن مُوسَى، نَا هِقْل، نَا الْمثنى، عَن عَمْرو بِهِ. كَذَا فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ، وَفِي رِوَايَة الْحَاكِم: بدل الْمثنى: الْأَوْزَاعِيّ عَن عَمْرو.
وَهُوَ إِسْنَاد عَلَى شَرط مُسلم، خلا تَرْجَمَة عَمْرو بن شُعَيْب، فإنَّ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: هُوَ الصغاني، كَمَا جَاءَ مُبينًا فِي رِوَايَة الْحَاكِم،
(1/367)
وَهُوَ الْحَافِظ، الرحَّال، أخرج لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة، وَقَالَ ابْن خرَاش: ثِقَة مَأْمُون.
و (الحكم) بن مُوسَى: هُوَ الْقَنْطَرِي، الزَّاهِد، أخرج لَهُ مُسلم، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَهُوَ ثِقَة، وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين.
وهقل: هُوَ ابْن زِيَاد، السكْسكِي، كَاتب الْأَوْزَاعِيّ، أخرج لَهُ مُسلم، وَالْأَرْبَعَة، وَهُوَ ثَبت. وَالْأَوْزَاعِيّ: ناهيك بِهِ.
وَعَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده: احْتج بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وسنعقد فِي ذَلِك فصلا فِي بَاب الْوضُوء إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
والمثنَّى - الْمَذْكُور فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ -: هُوَ ابْن الصَبَّاح، قَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيره: لَيِّن الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك.
(و) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَأَنا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، نَا جَعْفَر القلانسي، نَا سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن، نَا ابْن (عَيَّاش) ، قَالَ: حَدَّثَنَي الْمثنى بن الصَّباح، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ميتةُ البحرِ حلالٌ، وماؤهُ طَهورٌ» .
ابْن (عَيَّاش) هَذَا: هُوَ إِسْمَاعِيل، أَبُو عتبَة، الْحِمصِي، لَيْسَ
(1/368)
بِالْقَوِيّ، وَحَدِيثه عَن الْحِجَازِيِّينَ ضَعِيف، بِخِلَاف الشاميين. والمُثنَّى بن الصَّباح: مكي، فَتكون هَذِه الطَّرِيقَة ضَعِيفَة. قَالَ يزِيد بن هَارُون: مَا رَأَيْت أحفظ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيِّنٌ. وَقَالَ البُخَارِيّ: إِذا حَدَّث عَن أهل حمص فَصَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «الكنى» : لَا بَأْس بحَديثه إِذا حدَّث عَن الشاميين، فَإِذا عداهم إِلَى حَدِيث أهل الْمَدِينَة جَاءَ بِمَا لَا يُتَابع عَلَى أَكْثَره.
قلت: والاعتماد إِنَّمَا هُوَ عَلَى الطَّرِيق الأول، وَهَذِه مُتَابعَة لَهُ.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: «سُئل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن مَاء الْبَحْر، فَقَالَ: «هُوَ الطهورُ ماؤهُ، الحلُّ ميتتهُ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» ، من حَدِيث: معَاذ بن مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن عَلّي، حَدَّثَنَي أبي، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عَلّي - كرَّم الله وَجهه - قَالَ: «سُئل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » (الحَدِيث) .
هَذَا إِسْنَاد عَجِيب. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : فِيهِ من يحْتَاج إِلَى معرفَة حَاله.
قلت: وَشَيخ الدَّارَقُطْنِيّ فِيهِ: هُوَ ابْن عقدَة، وَقد ضَعَّفوه، وَإِن كَانَ حَافِظًا.
الطَّرِيق السَّابِع: عَن مَالك بن أنس، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِي
(1/369)
الله عَنْهُمَا قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إنَّا نركب (الْبَحْر) ، ونحمل مَعنا الْقَلِيل من المَاء، فإنْ توضأنا بِهِ عطشنا، أفنتوضأ من مَاء الْبَحْر؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «هُوَ الطهورُ ماؤهُ، الحلُّ ميتتهُ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «غرائب حَدِيث مَالك» ، قَالَ: وَهُوَ بَاطِل بِهَذَا الإِسناد، مقلوب، وَهُوَ فِي «الْمُوَطَّأ» : عَن صَفْوَان بن سليم، (عَن [سعيد] بن سَلمَة، عَن الْمُغيرَة، عَن أبي هُرَيْرَة) .
وَفِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» فِي أول الصَّيْد والذبائح، (من) حَدِيث (عَمْرو) بن دِينَار، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي هُرَيْرَة، «أَنه سَأَلَ ابْن عمر - رَحْمَة الله عَلَيْهِ -: آكل مَا (طفا) عَلَى المَاء؟ قَالَ: إنَّ طافيته ميتَة، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إنَّ مَاءَهُ طهُور، وميتته حل» .
الطَّرِيق الثَّامِن: عَن أبي بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئل عَن مَاء الْبَحْر، فَقَالَ: «هُوَ الطهورُ ماؤهُ، الحلُّ ميتتهُ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث: عبد الْعَزِيز بن أبي ثَابت، عَن إِسْحَاق بن حَازِم الزيات، عَن وهب بن كيسَان، عَن جَابر بن عبد
(1/370)
الله، عَن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَعبد الْعَزِيز (هَذَا) أحد المتروكين. قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ البُخَارِيّ: لَا يُكتب حَدِيثه، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف، وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير.
ثمَّ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَوْقُوفا عَلَى أبي بكر الصّديق، بِإِسْنَاد صَحِيح.
وَقَالَ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث تفرَّد بِهِ عبد الْعَزِيز بن عمرَان الزُّهْرِيّ، وَهُوَ مديني، ضَعِيف الحَدِيث. رَوَاهُ عَن إِسْحَاق بن حَازِم الزيات، عَن وهب بن كيسَان، عَن جَابر، عَن أبي بكر مَرْفُوعا. وَإِسْحَاق بن حَازِم هَذَا: شيخ مديني، لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَقد اخْتُلف عَنهُ فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، (فَرَوَاهُ) أَبُو الْقَاسِم بن أبي (الزِّنَاد) ، عَن إِسْحَاق بن حَازِم، عَن عبيد الله بن مقسم، عَن جَابر مَرْفُوعا، وَلم يذكر فِيهِ أَبَا بكر. حدَّث بِهِ عَنهُ كَذَلِك: أَحْمد بن حَنْبَل.
(1/371)
قَالَ: وَقد رُوي هَذَا الحَدِيث عَن أبي بكر الصّديق، مَوْقُوفا من قَوْله، غير مَرْفُوع، من رِوَايَة صَحِيحَة عَنهُ، حدَّث (بِهِ) : عبيد الله بن عمر، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن أبي الطُّفَيْل، عَن أبي بكر قَوْله، وَرَوَاهُ ابْن (زَاطِيَا) عَن شيخ لَهُ من حَدِيث: عبيد الله بن عمر، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن أبي الطُّفَيْل، عَن أبي بكر مَرْفُوعا، وَوهم فِي رَفعه، وَالْمَوْقُوف أصح. أه
وَذكر الحَدِيث مَرْفُوعا: ابْن حبَان فِي «ضُعَفَائِهِ» ، فِي تَرْجَمَة عبد الْعَزِيز بن عمرَان، ثمَّ قَالَ: وَالْخَبَر عَن أبي بكر الصّديق مَشْهُور (قَوْله) ، غير مَرْفُوع، من حَدِيث: عَمْرو بن دِينَار، عَن أبي الطُّفَيْل، عَن أبي بكر.
الطَّرِيق التَّاسِع: عَن أبان بن أبي عَيَّاش، عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الْبَحْر: «الْحَلَال ميتَته، الطّهُور مَاؤُهُ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَقَالَ أبان هَذَا مَتْرُوك. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
(1/372)
وَفِي «مُصَنف عبد الرَّزَّاق» ، عَن معمر، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن رجل من الْأَنْصَار، عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: ماءان لَا ينقيان من الْجَنَابَة: مَاء الْبَحْر، وَمَاء الحَمَّام.
وَكَذَا رَوَى عَن أبي هُرَيْرَة، لكنه قَالَ: « (لَا) يجزيان» بدل: « (لَا) ينقيان» .
(و) قَالَ معمر: (ثمَّ) سَأَلت يَحْيَى عَنهُ بعد حِين، فَقَالَ: قد بَلغنِي مَا هُوَ أوثق من ذَلِك، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئل عَن مَاء الْبَحْر فَقَالَ: «الْبَحْر طهُور مَاؤُهُ، (حل) ميتَته» .
ثمَّ رَوَى (عَن) ابْن جريج عَن (سُلَيْمَان) بن مُوسَى، قَالَ: قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْبَحْر طهُور مَاؤُهُ، حَلَال ميتَته» .
ثمَّ رَوَى عَن الثَّوْريّ حَدِيث أبان، عَن أنس السالف قَرِيبا.
وَاعْلَم أَن هَذِه الطّرق الَّتِي ذَكرنَاهَا آخرا، (وفيهَا) ضعف، لَا (يقْدَح) فِي الطّرق السَّابِقَة، وإنَّما ذَكرنَاهَا للتّنْبِيه عَلَيْهَا.
(1/373)
ونختم الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث بخاتمتين:
إِحْدَاهمَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» من حَدِيث: سعيد بن ثَوْبَان، عَن أبي هِنْد، عَن أبي هُرَيْرَة، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من لم يُطَهِّره مَاء الْبَحْر، فَلَا طَهَّره الله» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده حسن.
قلت: فِيهِ نظر؛ فإنَّ فِيهِ: مُحَمَّد بن حميد الرَّازِيّ، وَإِبْرَاهِيم بن الْمُخْتَار، أما الأول: فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» - فِي بَاب «فرض الْجدّة والجدتين» -: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَأما الثَّانِي: فَقَالَ أَحْمد بن عَلّي الأبَّار: سَأَلت زنيجًا أَبَا غَسَّان عَنهُ، فَقَالَ: تركته. وَلم يرضه، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِذَاكَ.
الثَّانِيَة: فِي التَّنْبِيه عَلَى ضبط الْأَلْفَاظ الْوَاقِعَة فِيهِ، وَبَعض فَوَائده، بأوجز (عبارَة) ، فَإِنَّهُ حَدِيث عَظِيم، أصل من أصُول الطَّهَارَة، مُشْتَمل عَلَى أَحْكَام كَثِيرَة، وقواعد مهمة. قَالَ المارودي - من أَصْحَابنَا - فِي «الْحَاوِي» : قَالَ الْحميدِي: قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا الحَدِيث نصف علم الطَّهَارَة. فَنَقُول:
أَولهَا: «الْبَحْر» : هُوَ المَاء الْكثير، ملحًا كَانَ أَو عذبًا. مِمَّن نَص
(1/374)
عَلَى ذَلِك: ابْن سَيّده فِي «الْمُحكم» ، قَالَ: وَقد غلب عَلَى الْملح، حتَّى قلَّ فِي العذب، وصرفوه عَلَى مَعْنَى الملوحة. وَقَالَ القَزَّاز: إِذا اجْتمع الْملح والعذب سموهُ باسم الْملح، أَي: بحرين. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: (مرج الْبَحْرين يَلْتَقِيَانِ (، قَالَ: وسُمي بذلك لسعته، من قَوْلهم: تَبحَّر الرجل فِي الْعلم. أَي: اتَّسع. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: سميت الْأَنْهَار: بحارًا؛ لِأَنَّهَا مشقوقة فِي الأَرْض شقًّا، وَمِنْه سميت البَحِيْرَة.
الثَّانِيَة: «الطّهُور» بِفَتْح الطَّاء: اسْم للْمَاء، وَبِضَمِّهَا: اسْم للْفِعْل. هَذَا هُوَ أشهر اللُّغَات فِيهِ. وَقيل: بِالضَّمِّ فيهمَا. وَقيل: بِالْفَتْح فيهمَا.
الثَّالِثَة: قَوْله «الحِلُّ» : هُوَ بِمَعْنى الْحَلَال، (كَمَا يُقَال فِي ضِدّه: حرم، وَحرَام، وَقد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: «الْحَلَال) ميتَته» . كَمَا تقدم.
الرَّابِعَة: قَوْله: «ميتَته» : هُوَ بِفَتْح الْمِيم؛ لِأَن المُرَاد: الْعين الْميتَة، وَأما (الْميتَة بِكَسْر الْمِيم: هَيْئَة الْمَوْت) .
قَالَ الْمبرد: المِيتة: الْمَوْت، وَهُوَ من أَمر الله - عزَّ وجلَّ - يَقع فِي الْبر وَالْبَحْر، لَا يُقَال فِيهَا: لَا حَلَال، وَلَا حرَام. وَلَا مَعْنَى لهَذَا هُنَا.
قَالَ الْخطابِيّ فِي كِتَابه «إصْلَاح الْخَطَأ» - ثمَّ الشَّيْخ زكي الدَّين -: وعوامّ الروَاة يولعون بِكَسْر الْمِيم فِي هَذَا الموطن، وَهُوَ خطأ.
وَكَذَا (قَالَ) صَاحب «الْمَشَارِق» : من رَوَاهُ بِالْكَسْرِ فقد أَخطَأ.
(1/375)
قَالَ الشَّيْخ فِي «الإِمام» : قَالَ بَعضهم: يُقَال فِي الْحَيَوَان: ميتَة، وَفِي (الأَرْض) : ميت، بِغَيْر هَاء، قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا أَن يكون ميتَة) ، وَقَالَ تَعَالَى: (وأحيينا بِهِ بَلْدَة مَيتا) . قَالَ: وَهَذَا يرد عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: (وَآيَة لَهُم الأَرْض الْميتَة) . أه.
و (الْميتَة) : بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، بِمَعْنى وَاحِد فِي موارد الِاسْتِعْمَال، وَفصل بَعضهم بَينهمَا. قَالَ (البَطَلْيَوسي) فِي «شرح أدب (الْكَاتِب) » : فرَّق قوم بَين الْمَيِّت بِالتَّخْفِيفِ، والميِّت بِالتَّشْدِيدِ (فَقَالُوا) : الأول مَا قد مَاتَ، وَالثَّانِي (مَا) سيموت. وَهَذَا خطأ. ثمَّ أوضحه ابْن عَطِيَّة فِي «تَفْسِيره» ، نقل هَذَا أَيْضا، إلاَّ أَنه قَالَ: بِالتَّشْدِيدِ يُستعمل فِيمَا مَاتَ، وَفِيمَا لم يَمُتْ بعد.
الْخَامِسَة: «الأَرْمَاث» الْمَذْكُور فِي بعض رويات الحَدِيث، هُوَ: بِفَتْح الْهمزَة، (وبالراء) الْمُهْملَة، وَآخره ثاء مُثَلّثَة، جمع: رَمَث: (بِفَتْح الرَّاء وَالْمِيم) ، وَهِي: خشب يُضم بعضُها إِلَى بعض، ويُركَبُ عَلَيْهَا فِي الْبَحْر.
(1/376)
السَّادِسَة: قَوْله: «فَيَعْزُبُ فِيهِ (الليلتين) وَالثَّلَاث» . يجوز أَن يُقرأ بالغين الْمُعْجَمَة، وَالرَّاء الْمُهْملَة؛ أَي: يبعد. وبالعين الْمُهْملَة، وَالزَّاي الْمُعْجَمَة، يُقَال: عَزَبَ بِالْفَتْح، يَعْزُبُ بِالضَّمِّ؛ أَي: بَعُدَ. أفادهما الشَّيْخ فِي «الإِمام» .
السَّابِعَة: أنهَى بَعضهم إِعْرَاب قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «الطهورُ ماؤهُ، الحِلُّ ميتتهُ» إِلَى قريب من عشْرين وَجها، كَمَا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «شرح الإِلمام» ، فِي كثير مِنْهَا تكلّف وإضمار لَا يظْهر الدّلَالَة عَلَيْهَا، قَالَ: فتركنا أَكْثَرهَا، (واقتصرنا) عَلَى أَرْبَعَة أوجه:
الأول: أَن يكون « (هُوَ» ) : (مُبْتَدأ، و «الطّهُور» : مُبْتَدأ ثَانِيًا، وَخَبره: مَاؤُهُ، وَالْجُمْلَة من هَذَا) الْمُبْتَدَأ الثَّانِي وَخَبره، خبر الْمُبْتَدَأ الأول.
الثَّانِي: أَن يكون «هُوَ» مُبْتَدأ، «الطّهُور» خَبره، وماؤه من بدل الاشتمال.
الثَّالِث: أَن يكون «هُوَ» ضمير الشَّأْن، و «الطّهُور مَاؤُهُ» : مُبْتَدأ وخبرًا.
الرَّابِع: أَن يكون «هُوَ» مُبْتَدأ، و «الطّهُور» خَبره، و «مَاؤُهُ» فَاعل؛ لِأَنَّهُ قد (اعْتمد) عَامله بِكَوْنِهِ خَبرا.
الثَّامِنَة: فِيهِ جَوَاز الطَّهَارَة بِمَاء الْبَحْر، وَبِه قَالَ جَمِيع الْعلمَاء، إلاَّ
(1/377)
(ابْن عمر، وَابْن عَمْرو) ، وَسَعِيد بن الْمسيب، وتقدَّم (قبل) ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة، و (رِوَايَته) الحَدِيث «أَنه طهُور» (ترده) ، وَكَذَا رِوَايَة عبد الله بن عمر أَيْضا.
التَّاسِعَة: فِيهِ أنَّ الطّهُور، هُوَ (المطهر) ، وَهُوَ مَذْهَبنَا، وَبِه قَالَ الْجُمْهُور، خلافًا لأَصْحَاب أبي حنيفَة، حَيْثُ قَالُوا: هُوَ الطَّاهِر. حجَّة الْجُمْهُور: أَنهم سَأَلُوا عَن طهوريته، لَا عَن طَهَارَته.
الْعَاشِرَة: فِيهِ أَن ميتات الْبَحْر كلهَا حَلَال، لَكِن يُسْتَثْنَى عندنَا الضفدع، والسرطان، لدَلِيل خَصَّهما.
الْحَادِيَة عشرَة: فِيهِ أَن (السّمك) الطافي - وَهُوَ الَّذِي مَاتَ فِي الْبَحْر بِغَيْر سَبَب - حَلَال، وَهُوَ مَذْهَبنَا، وَبِه قَالَ الْجُمْهُور، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يحل.
الثَّانِيَة عشرَة: فِيهِ أَن ركُوب الْبَحْر جَائِز، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يهيج، ويغلب عَلَى الظَّن الْهَلَاك، فَلَا لدَلِيل آخر.
الثَّالِثَة عشرَة: (فِيهِ) أَن المَاء إِذا خالطه مَاء أَزَال عَنهُ اسْم المَاء الْمُطلق، لم يجز الطَّهَارَة بِهِ عندنَا، وَبِه قَالَ الْجُمْهُور، (وجوَّزه) أَبُو حنيفَة. وَمَوْضِع الدّلَالَة لِلْجُمْهُورِ: أَنهم شَكُّوا فِي جَوَاز الطَّهَارَة بِمَاء
(1/378)
الْبَحْر من أجل ملوحته، فسألوا عَنهُ، فَلَو لم يكن (التَّغَيُّر) فِي الْجُمْلَة مؤثرًا لم يسْأَلُوا (عَنهُ) .
الرَّابِعَة عشرَة: فِيهِ أَن الْمُفْتِي إِذا سُئل عَن شَيْء، وَعلم أنَّ بالسائل حَاجَة إِلَى أَمر آخر مُتَعَلق بِالْمَسْأَلَة، يسْتَحبّ لَهُ أَن يذكرهُ لَهُ، ويعلمه إِيَّاه؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ عَن مَاء الْبَحْر، فَأُجِيب بمائه وَحكم ميتَته؛ لأَنهم يَحْتَاجُونَ إِلَى الطَّعَام كَالْمَاءِ، وَإِذا جهلوا كَونه مطهرًا فجهالتهم حل ميتَته أولَى، ونظائر هَذَا كثير فِي الْأَحَادِيث.
الْخَامِسَة عشرَة: اسْم السَّائِل عَن الْبَحْر هُوَ: العَرَكي - بِفَتْح الْعين وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ - هَكَذَا قَالَه السَّمْعَانِيّ فِي «الْأَنْسَاب» .
وَفِي «المعجم الْكَبِير» للطبراني - (أَي: بِسَنَدِهِ) - عَن العركي، أَنه سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن مَاء الْبَحْر، فَقَالَ: «هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته» .
وغَلَّطُوه - أَعنِي السَّمْعَانِيّ - فِي قَوْله: اسْمه «العركي» ، وَإِنَّمَا العركي وصفٌ لَهُ، وَهُوَ: مَلاَّح السَّفِينَة.
(و) تبعه الْحَافِظ أَبُو عبد الله (الذَّهَبِيّ) فِي مُخْتَصره «معرفَة الصَّحَابَة» ، فَقَالَ: هُوَ اسْم (يشبه) النِّسْبَة، وَفِيه النّظر الَّذِي ذَكرْنَاهُ
(1/379)
آنِفا، وإنَّما اسْمه: عبيد، وَقيل: عبد، بِالتَّصْغِيرِ وَالتَّكْبِير. وَمِمَّنْ حَكَى الْوَجْهَيْنِ فِيهِ: الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ، فَقَالَ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» : عبد، أَبُو زَمعَة، البلوي، الَّذِي سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن مَاء الْبَحْر، قَالَ ابْن منيع: بَلغنِي أَن اسْمه: عبيد. وَأوردهُ الطَّبَرَانِيّ فِيمَن اسْمه عبيد. وَأوردهُ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بالعركي، والعركي: هُوَ الملاح، وَلَيْسَ لَهُ باسم. هَذَا لفظ أبي مُوسَى برمتِهِ. وَفِي «علل» أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ: أَن اسْمه عبد الله، كَذَا رَأَيْته فِي نُسْخَة لَا بَأْس بهَا. وَقد تقدم أَن السَّائِل (هُوَ) : الفِراسي، أَو ابْن الفِراسي. وَقَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : يُقَال: إنَّ هَذَا الرجل كَانَ من بني مُدْلِج.
قلت: قد ورد هَذَا صَرِيحًا، مَجْزُومًا بِهِ فِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» ، فَرَوَاهُ بِسَنَدِهِ إِلَى الْمُغيرَة بن أبي بردة، عَن المدلجي، «أَنه أَتَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن بشكوال: إِنَّه عِنْده العركي، (وَكَذَا) أَبُو الْوَلِيد فِي «مشتبه النِّسْبَة» من تأليفه، ثمَّ قَالَ: وَقيل: هُوَ عبد الله المدلجي، وَسَاقه بِإِسْنَادِهِ كَذَلِك. وَهَذَا الَّذِي قَالَه السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو مُوسَى، والرافعي: إِنَّمَا ينفعنا فِي رِوَايَة من رَوَى: «أَن رجلا سَأَلَ» ، أَو «سَائِلًا (سَأَلَ) . فَأَما الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: أَن (رجَالًا) من بني مُدْلِج، أَو نَاسا» ، فَيحْتَاج إِلَى الْكَشْف عَن اسمهم، وَالظَّاهِر أَن الْقِصَّة وَاحِدَة.
وَالْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث منتشر جدا، لَا يسعنا هُنَا استيعابه، وَقد
(1/380)
نبَّهنا بِمَا ذكرنَا عَلَى كثير (مِمَّا تركنَا) ، ولعلنا نفرده بالتصنيف - إِن شَاءَ الله وقَدَّر.
وَقد فعل ذَلِك - وَله الْحَمد - فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ، فِي جُزْء لطيف.
الحَدِيث الثَّانِي
«أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ من بئرِ بضَاعَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، مَشْهُور من حَدِيث أبي سعيد سعد بن مَالك بن سِنَان، الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: «قيل: يَا رَسُول الله، أَنَتَوَضَّأُ من بِئْر بضَاعَة - وَهِي بِئْر يُلقى فِيهَا الحِيَضُ، وَلُحُوم الْكلاب، والنَّتْنُ؟ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إنَّ المَاء طهُور، لَا يُنَجِّسُه شَيْء» .
رَوَاهُ الْأَئِمَّة، أهل الْحل وَالْعقد: الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، و «اخْتِلَاف الحَدِيث» ، وَأحمد فِي «الْمسند» ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن، وَفِي بعض نسخه: صَحِيح.
(1/381)
قَالَ: وَقد جَوَّد أَبُو أُسَامَة هَذَا الحَدِيث، [لم يَرْوِ أحد] حَدِيث أبي سعيد فِي بِئْر بضَاعَة أحسن مِمَّا رَوَى أَبُو أُسَامَة، قَالَ: (وَقد) رُوي هَذَا الحَدِيث من غير وَجه عَن أبي سعيد.
وَقَالَ الإِمام أَحْمد: هَذَا حَدِيث صَحِيح. نَقله الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «تهذيبه» وَغَيره عَنهُ.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد» : صحَّحه يَحْيَى بن معِين، وَالْحَاكِم، وَآخَرُونَ من الْأَئِمَّة الْحفاظ، وَقَالَ فِي «الْخُلَاصَة» : وَقَوْلهمْ مقدم عَلَى قَول الدَّارَقُطْنِيّ إِن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِثَابِت.
قلت: كَذَا نَقَل عَن الدَّارَقُطْنِيّ هَذِه القولة أَيْضا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» ، وَلم أَرَها فِي «علله» ، بل ذكر فِي «علله» الِاخْتِلَاف
(1/382)
فِي إِسْنَاده، ثمَّ قَالَ: و (أحْسنهَا) إِسْنَادًا: حَدِيث الْوَلِيد بن كثير، عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله بن رَافع، عَن أبي سعيد؛ وَحَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن عبد الله بن أبي سَلمَة (الْمَاجشون) ، عَن (عُبيد الله) بِهِ، فَاعْلَم ذَلِك.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ: تكلَّم فِيهِ بَعضهم، وَلم يبيِّنه رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو الْحسن (بن) الْقطَّان فِي كتاب «الْوَهم والإِيهام» : أمره إِذا بُين، تبين مِنْهُ ضعف الحَدِيث لَا حسنه، وَذَلِكَ أَن مَدَاره عَلَى أبي أُسَامَة، عَن مُحَمَّد بن كَعْب، ثمَّ اختُلف عَلَى أبي أُسَامَة فِي الْوَاسِطَة [الَّتِي] بَين مُحَمَّد بن كَعْب، وَأبي سعيد، فقوم يَقُولُونَ: عبيد الله بن عبد الله بن رَافع بن خديج، وَقوم يَقُولُونَ: عبد الله بن عبد الله بن رَافع بن خديج. وَله [طَرِيق] آخر، من رِوَايَة: ابْن إِسْحَاق، عَن سليط بن أَيُّوب.
واختُلف عَلَى ابْن إِسْحَاق فِي الْوَاسِطَة بَين سليط وَأبي سعيد، فقوم يَقُولُونَ: عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع - قلت: وَنقل أَبُو دَاوُد هَذَا فِي «سنَنه» عَن بَعضهم - وَقوم يَقُولُونَ: عبد الله بن عبد الرَّحْمَن
(1/383)
بن رَافع؛ (وَقوم يَقُولُونَ: عَن عبد الرَّحْمَن بن رَافع) .
فَتحصل فِي هَذَا الرجل - يَعْنِي الرَّاوِي لَهُ عَن أبي سعيد - خَمْسَة أَقْوَال: عبد الله بن (عبد الله) بن رَافع، وَعبيد الله بن عبد الله بن رَافع، وَعبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع، وَعبد الرَّحْمَن بن رَافع، وَعبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع.
وكيفما كَانَ، فَهُوَ من لَا (تعرف) لَهُ حَال وَلَا عين، والأسانيد بِمَا ذَكرْنَاهُ فِي كتب الحَدِيث مَعْرُوفَة، وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» الْخلاف الْمَذْكُور مُفَسرًا.
قَالَ (ابْن الْقطَّان) : وَلِحَدِيث بِئْر بضَاعَة (طَرِيق) حسن، من غير رِوَايَة أبي سعيد، من رِوَايَة سهل بن سعد.
قَالَ قَاسم بن أصبغ: ثَنَا مُحَمَّد بن وَضَّاح، ثَنَا أَبُو عَلّي عبد الصَّمد بن أبي سكينَة الْحلَبِي، بحلب، نَا عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم، عَن أَبِيه، عَن سهل بن سعد: قَالُوا: «يَا رَسُول الله، (إِنَّك تتوضأ) من بِئْر
(1/384)
بضَاعَة، وفيهَا مَا يُنْجِي النَّاس والمحايض، وَالْجنب؟ ! فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء» .
قَالَ قَاسم: هَذَا من أحسن شَيْء فِي بِئْر بضَاعَة.
وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أَيمن: ثَنَا ابْن وَضَّاح ... فَذكره - أَيْضا - بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه.
وَقَالَ ابْن حزم فِي (كتاب) «الإِيصال» : عبد الصَّمد بن أبي سكينَة ثِقَة مَشْهُور.
وَذكره (المنتجالي) ، وَقَالَ: (إِن) ابْن وضاح لقِيه بحلب. ويُروى عَن سهل بن سعد فِي بِئْر بضَاعَة من طرق، هَذَا (خَيرهَا) .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : أخرج أَبُو عبد الله بن مَنْدَه هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله بن رَافع، وَقَالَ: هَذَا إِسْنَاد مَشْهُور، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَتَركه البُخَارِيّ وَمُسلم لاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده. رَوَاهُ ابْن أبي ذِئْب، عَن الثِّقَة عِنْده، عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي سعيد. ثمَّ ذكر رِوَايَة مطرف
(1/385)
بن طريف، عَن خَالِد بن أبي نوف، عَن سليط بن أَيُّوب، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، عَن أَبِيه. وَقَالَ بعد ذَلِك: فإنْ كَانَ عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع هَذَا، هُوَ الْأنْصَارِيّ الَّذِي رَوَى عَن جَابر بن عبد الله، فقد (رَوَى) عَنهُ هِشَام بن عُرْوَة، وَهُوَ رجل مَشْهُور فِي أهل الْمَدِينَة. وَعبد الله بن رَافع بن خديج مَشْهُور، (وَعبيد الله) ابْنه مَجْهُول. فَهَذَا حَدِيث مَعْلُول (بِرِوَايَة) عبيد الله بن عبد الله بن رَافع.
وَقد أخرج الْحَافِظ، أَبُو مُحَمَّد عبد الْغَنِيّ (بن سعيد) الْمصْرِيّ، فِي (كتاب) : «إِيضَاح الإِشكال» رِوَايَة مطرف، عَن خَالِد بن أبي نوف، عَن سليط، عَن ابْن أبي سعيد، عَن أَبِيه قَالَ: «انْتَهَيْت إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَهُوَ يتَوَضَّأ من بِئْر بضَاعَة، فَقلت: يَا رَسُول الله، تتوضأ مِنْهَا وَهِي يُلقى فِيهَا مَا يُلقى من النتن؟ ! فَقَالَ: إنَّ المَاء لَا يُنَجِّسه شَيْء» .
قَالَ الشَّيْخ فِي «الإِمام» : وَفِي رِوَايَة [ابْن] إِسْحَاق، عَن سليط شَيْء آخر، ذكره أَبُو مُحَمَّد بن أبي حَاتِم فِي «الْمَرَاسِيل» عَن أَبِيه، قَالَ: مُحَمَّد بن إِسْحَاق بَينه وَبَين سليط رجل.
وَكَلَامه مُحْتَمل لِأَن يكون بَينهمَا رجل فِي حَدِيث بِئْر بضَاعَة، وَبَين
(1/386)
أَن يكون بَينهمَا رجل مُطلقًا، وَالْأَقْرَب إِلَى وضع الْكتاب الْمَذْكُور هُوَ الثَّانِي. اه.
قلت: وَالَّذِي يظْهر، صِحَة الحَدِيث مُطلقًا، كَمَا صحَّحه الْأَئِمَّة المتقدمون: التِّرْمِذِيّ، وَأحمد، وَيَحْيَى بن معِين، وَالْحَاكِم، وهم أَئِمَّة هَذَا الْفَنّ والمرجوع إِلَيْهِم.
وتضعيف ابْن الْقطَّان إِيَّاه لجَهَالَة الوسائط بَين سليط بن أَيُّوب وَأبي سعيد، يُعَارضهُ رِوَايَة سليط عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَلَيْسَت مِمَّا ذكره، فَلَيْسَ عبد الرَّحْمَن هَذَا مَجْهُولا، رَوَى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ البُخَارِيّ.
وَأما قَوْله: إنَّ الْخَمْسَة الَّذين (رَوَوْهُ) عَن أبي سعيد كلهم مَجَاهِيل. فَفِيهِ نظر؛ لِأَن تَصْحِيح الحفَّاظ الأُوَل لهَذَا الحَدِيث تَوْثِيق مِنْهُم لَهُم، إِذْ لَا يُظن بِمن دونهم الإِقدام عَلَى تَصْحِيح مَا رِجَاله مَجَاهِيل؛ لِأَنَّهُ تَدْلِيس فِي (الرِّوَايَة) وغش، وهم برَاء من ذَلِك.
وَقد وثَّق أَبُو حَاتِم ابْن حبَان (عبيد الله) بن عبد الله بن رَافع، وَعبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع، وَعقد لَهما ترجمتين فِي «ثقاته» . وهما فِي كتاب البُخَارِيّ وَاحِد، وَكَذَلِكَ عِنْد (ابْن) أبي حَاتِم، بل لَعَلَّ الْخَمْسَة الْمَذْكُورين عِنْد ابْن الْقطَّان [واحدٌ] عِنْد البُخَارِيّ.
(1/387)
لَا جرم أَن الْحَافِظ أَبَا مُحَمَّد بن حزم (قَالَ) فِي كِتَابه «المحلَّى شرح المجلَّى» عقب حَدِيث بِئْر بضَاعَة: هَذَا حَدِيث صَحِيح، جَمِيع رُوَاته معروفون عدُول.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» - لمَّا ذكر (حَدِيث) عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن جَابر رَفعه: «من أَحْيَا أَرضًا ميتَة، فَلهُ فِيهَا أجر ... » الحَدِيث -: (ذكر) الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن [عبد الله بن عبد الرَّحْمَن] هَذَا مَجْهُول، لَا يعرف. ثمَّ أخرجه من حَدِيث هِشَام، عَن (عبد الله) بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع بن خديج، سَمِعت جَابِرا يذكر ... الحَدِيث. وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي كتاب «إحْيَاء الْموَات» حِين يذكر الإِمام الرَّافِعِيّ هَذَا الحَدِيث.
و (إِذْ) قد فَرغْنَا من تَصْحِيح هَذَا (الحَدِيث) ، فَلَا بُد من إِيرَاد ضبط بعض أَلْفَاظه، وفوائده، فَنَقُول:
«بضَاعَة» : بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَيُقَال: بِكَسْرِهَا، لُغَتَانِ، حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي وَغَيره، وَالضَّم أشهر وأفصح، وَلم يذكر جمَاعَة
(1/388)
(سواهُمَا) . ثمَّ قيل: هُوَ اسْم لصَاحب الْبِئْر. وَقيل: اسْم لموضعها. وَهِي بِئْر بِالْمَدِينَةِ، بَصق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيهَا، وبرَّك فِيهَا، وَتَوَضَّأ فِي دلو وَرَدَّه فِيهَا، وَكَانَ إِذا مرض مَرِيض يَقُول لَهُ: «اغْتسل بِمَائِهَا» فيغتسل فَكَأَنَّمَا نشط من عقال. وَهِي فِي ديار بني سَاعِدَة مَعْرُوفَة، وَبهَا مَال من أَمْوَال الْمَدِينَة.
و «الحِيَض» : بِكَسْر الْحَاء وَفتح الْيَاء، جمع: حِيَضة - بِكَسْر الْحَاء - وَهِي الْخِرْقَة الَّتِي تحشي (بهَا) الْمَرْأَة. وَقد تطلق «الحِيضة» - بِكَسْر الْحَاء - عَلَى الِاسْم من «الحَيضة» بِالْفَتْح.
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد (و) الدَّارَقُطْنِيّ: «وعَذِر النَّاس» : وَهِي - بِفَتْح الْعين، وَكسر الذَّال - اسْم جنس للعذرة. وَضبط أَيْضا بِكَسْر الْعين وَفتح الذَّال، كمعدة ومِعَد، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَضم الْعين فِيهَا تَصْحِيف.
وَقَوله: «وَمَا يُنْجِي الناسُ» : هُوَ بياء مثناة تَحت مَضْمُومَة، ثمَّ نون سَاكِنة، ثمَّ جِيم (مَكْسُورَة) . كَذَا ضَبطه صَاحب «الإِمام» .
ثمَّ قَالَ: و «النَّاس» : بِرَفْع السِّين عَلَى الفاعلية، يُقَال: أنجى الرجل، إِذا أحدث، فَيحْتَمل أَلا يكون فِيهِ حذف وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ - الْمَذْكُورَة «وَعذر النَّاس» - وَيحْتَمل أَن يكون (فِيهِ) حذف عَلَى تَقْدِير: ويُلقى فِيهِ خرق مَا يُنجي النَّاس، كَمَا قيل فِي المحايض.
(1/389)
قَالَ الْخطابِيّ وَآخَرُونَ: لم يكن (إِلْقَاء) ذَلِك تعمدًا من آدَمِيّ، بل كَانَت هَذِه الْبِئْر فِي حَدُور السَّيْل تكسح الأقذار من الأفنية، فتلقيها فِيهَا، وَلَا يُؤثر فِي المَاء لكثرته. وَقيل: كَانَت الرّيح تلقي ذَلِك. وَقيل: المُنَافِقُونَ. وَيحْتَمل الرّيح والسيول، وَأما: المُنَافِقُونَ، فبعيد؛ لِأَن الِانْتِفَاع بهَا مُشْتَرك، مَعَ تَنْزِيه الْمُنَافِقين وَغَيرهم الْمِيَاه فِي الْعَادة.
وَوَقع فِي «الرَّافِعِيّ» : أَن مَاء هَذِه الْبِئْر كَانَ (كَنُقَاعَةِ) الْحِنَّاء. وَهَذَا (غَرِيب) جدًّا، لم أَرَه بعد الْبَحْث، وسؤال بعض الْحفاظ عَنهُ، وَهَذَا الْوَصْف لَا أعلمهُ يلقى إلاَّ فِي صفة الْبِئْر الَّتِي (سُحِر) فِيهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَهِي: بِئْر ذروان.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تلبيسه» : «أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ من غَدِير مَاؤُهُ كنقاعة الْحِنَّاء» .
وَذكرهَا ابْن الرّفْعَة فِي «الْمطلب» ، وَلَعَلَّه أَخذهَا من «كتاب الرَّافِعِيّ» . قَالَ بَعضهم: إنَّها مَوْجُودَة فِي «شرح السنَّة» لِلْبَغوِيِّ، وراجعته، فَلم أجد ذَلِك فِيهِ.
وَالَّذِي أعلمهُ فِي صفة (بِئْر) بضَاعَة مَا قَالَه أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : سَمِعت قُتَيْبَة بن سعيد يَقُول: سَأَلت قَيِّمَ بِئْر بضَاعَة عَن
(1/390)
عمقها، قَالَ: أَكثر مَا يكون فِيهَا المَاء إِلَى الْعَانَة. قلت: فَإِذا نقص؟ قَالَ: دون الْعَوْرَة. قَالَ أَبُو دَاوُد: وقَدَّرتُ بِئْر بضَاعَة بردائي، مددته عَلَيْهَا ثمَّ ذرعته فَإِذا عرضهَا سِتَّة أَذْرع، وَسَأَلت الَّذِي فتح لي بَاب الْبُسْتَان فأَدخلني إِلَيْهِ: هَل غُيِّر بنيانها عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا. وَرَأَيْت فِيهَا مَاء متغير اللَّوْن.
وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي - كَمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» و «السّنَن» -: بِئْر بضَاعَة كَثِيرَة المَاء وَاسِعَة، وَكَانَ يُطرح فِيهَا من الأنجاس مَا لَا يُغير لَهَا لونًا، وَلَا طعمًا، وَلَا يظْهر لَهُ (فِيهَا) ريح، فَقيل للنَّبِي (: تتوضأ من بِئْر بضَاعَة، وَهِي يُطرح فِيهَا كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مجيبًا: «المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء» . يَعْنِي: فِي المَاء مثلهَا.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يُعْلَمَ: أَن بِئْر بضَاعَة كَانَت واقفةً، وأمَّا مَا قَالَه الْوَاقِدِيّ وَغَيره: أنَّ هَذِه الْبِئْر كَانَ يُسْقَى مِنْهَا الزَّرْع و (الْبَسَاتِين) . وَقَول بَعضهم: إِنَّهَا كَانَت جَارِيَة. فغلط؛ لِأَن الْعلمَاء ضبطوا بِئْر بضَاعَة، وعرَّفوها فِي كتب مَكَّة وَالْمَدينَة، وَأَن المَاء لم يكن يجْرِي، والواقدي لَا يحْتَج بِرِوَايَاتِهِ الْمُتَّصِلَة، فَكيف بِمَا يُرْسِلهُ أَو يَقُوله عَن نَفسه؟ وَعَلَى تَقْدِير صِحَة ذَلِك، فَيكون مَعْنَاهُ: أَنه يُسْقَى مِنْهَا بالدلو والناضح، عملا بِمَا نَقله الْأَثْبَات فِي صفتهَا.
وَالْمرَاد «بالعورة» فِي كَلَام (قَيِّم) الْبِئْر: الْفرج، يَعْنِي: دون الْفرج بِقَلِيل. وَكَأَنَّهَا كَانَت تنقص شبْرًا أَو نَحوه، وإنَّما قدرهَا أَبُو دَاوُد
(1/391)
بردائه، وَسَأَلَ عَنْهَا قُتَيْبَة، ليعلم أَنَّهَا كَبِيرَة جدًّا.
وَالْمَقْصُود: أَن بعض الْأَئِمَّة يَقُول: إِذا كَانَ المَاء غير جارٍ، وَوَقعت فِيهِ نَجَاسَة، فَإِن كَانَ بِحَيْثُ لَو حُرِّك أحد طَرفَيْهِ تَحرَّك الآخر فَهُوَ نجس كُله، وإلاَّ فطاهر. وَهَذِه الْبِئْر كَانَت دون هَذَا، فمعلوم أَنَّهَا إِذا حرَّك أحد طرفيها، تَحرَّك الآخر، وَقد صَحَّ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ مِنْهَا، وَكَانَت النَّجَاسَات تقع فِيهَا، فَهَذَا يردُّ مَذْهَب هَذَا الإِمام. هَذَا مَقْصُود قُتَيْبَة وَأبي دَاوُد بِمَا ذكرَاهُ وَلِهَذَا قَالَ: سَأَلت الَّذِي فتح لي الْبَاب: هَل غُيِّر بناؤها عمَّا كَانَ فِي زمن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: لَا.
وَقَوله: رَأَيْت فِيهَا مَاء متغير اللَّوْن. هَذَا التَّغَيُّر كَانَ بطول الْمكْث أَو نَحوه، أَو من أَصْلهَا، لَا بِنَجَاسَة، ثمَّ إنَّ هَذِه صفة مَائِهَا فِي زمن أبي دَاوُد، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن تكون صفتهَا كَذَلِك فِي زمن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (وَلَعَلَّه) قلَّ اسْتِعْمَالهَا، فَتغير مَاؤُهَا.
وَاعْلَم: أَن هَذَا الحَدِيث عَام مَخْصُوص، خُصَّ مِنْهُ الْمُتَغَيّر بِنَجَاسَة، فإنَّه ينجس بالإِجماع، وَخص مِنْهُ أَيْضا: مَا دون الْقلَّتَيْنِ إِذا لاقته نَجَاسَة، عَلَى قَول الشَّافِعِي وَأحمد وكثيرين، وَقَالَ مَالك وَآخَرُونَ (بِعُمُومِهِ) ، فَالْمُرَاد: المَاء الْكثير الَّذِي لم تغيره نَجَاسَة لَا يُنجسهُ شَيْء، وَهَذِه كَانَت صفة بِئْر بضَاعَة.
وَهَذَا الحَدِيث لَا يُخَالف حَدِيث الْقلَّتَيْنِ الْآتِي؛ لِأَن ماءها كَانَ كثيرا، لَا يُغَيِّره وُقُوع هَذِه الْأَشْيَاء فِيهِ.
وَقَوله: «أَتَتَوَضَّأُ» هُوَ بتاءين مثناتين من فَوق، خطابٌ للنَّبِي (، كَمَا وَقع مُصَرحًا بِهِ فِي رِوَايَة قَاسم بن أصبغ الْمُتَقَدّمَة، قَالُوا: «يَا رَسُول
(1/392)
الله، إِنَّك تتوضأ من بِئْر بضَاعَة» . وَفِي رِوَايَة ابْن مَنْدَه الْمُتَقَدّمَة أَيْضا: «انْتَهَيْت إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَهُوَ يتَوَضَّأ من بِئْر بضَاعَة» . وَكَذَلِكَ جَاءَ صَرِيحًا فِي رِوَايَة الشَّافِعِي «قيل: يَا رَسُول الله، أتتوضأ من بِئْر بضَاعَة» . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: «مَرَرْت بِالنَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يتَوَضَّأ من بِئْر بضَاعَة، فَقلت: يَا رَسُول الله، أتتوضأ مِنْهَا، وَهِي يُطرح فِيهَا ... » الحَدِيث، وَأول من نَبَّه عَلَى هَذَا الضَّبْط: النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَبعهُ شَيخنَا فتح الدَّين بن سيد النَّاس فِي «شرح التِّرْمِذِيّ» . قَالَ النَّوَوِيّ: إنَّما ضبطت كَونه بِالتَّاءِ لئلايُصَحَّف، فَيُقَال: «أَنَتَوَضَّأُ» بالنُّون. قَالَ: وَقد رَأَيْت من صحَّفه، واستبعد كَون النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ مِنْهَا قَالَ: وَهَذَا غلط فَاحش. لما ذَكرْنَاهُ.
قلت: و (مِمَّا) يَنْبَغِي أَن (يُنتبه لَهُ) أَن النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : أخرج هَذَا الحَدِيث من أخرج الأول - يَعْنِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة - وَهَذِه الْعبارَة تَقْتَضِي كَونه فِي «الْمُوَطَّأ» ، فإنَّ الأول عزاهُ إِلَى «الْمُوَطَّأ» وَهَذَا الحَدِيث لَا يُوجد فِي موطأ من الموطآت المرويَّة عَن الإِمام مَالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بل لم يعزه أحد من مصنفي الْأَحْكَام إِلَيْهِ.
وَقد يُجاب عَن النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بِأَنَّهُ أَرَادَ بقوله: أخرجه من أخرج الأول: الْمُعظم. وَلَا يخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَواب.
الحَدِيث الثَّالِث
رُوي أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خَلَقَ اللهُ الماءَ طهُورا، لَا يُنَجِّسُهُ شيءٌ، إلاَّ مَا غَيَّر طعمه، أَو رِيحه» .
(1/393)
اعْلَم: أَن صدر هَذَا الحديثَ صحيحٌ، كَمَا تقدم الْآن من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ السَّابِق، وَلم أرَ فِيهِ لفظ: «خلق الله» ، فَتنبه لَهُ، وَرُوِيَ أَيْضا من طُرُق أُخر:
فأولها: عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: «انتهينا إِلَى غَدِير، فَإِذا فِيهِ جيفة حمَار، قَالَ: فَكَفَفْنَا عَنهُ، حتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: إنَّ الماءَ لَا يُنجسهُ شيءٌ فاستقينا وحملنا» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد عَلَى شَرط الصَّحِيح، لَوْلَا (طريف) بن شهَاب السَّعْدِيّ، فإنَّه واهٍ مَتْرُوك عِنْدهم، حتَّى قَالَ فِيهِ ابْن حبَان: إِنَّه كَانَ (مغفلاً، يَهِمُ) فِي الْأَخْبَار، حتَّى يقلبها، ويروي عَن الثِّقَات مَا لَا يشبه حَدِيث الْأَثْبَات.
لَكِن يَقع فِي بعض نسخه (بدله) طَارق بن شهَاب، فإنْ صَحَّ - مَعَ بعده - فَهُوَ الأحمسي، صَحَابِيّ، فَيصح السَّنَد.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «المَاء لايُنَجِّسُهُ شَيْء» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ،
(1/394)
وَأَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث: سماك بن حَرْب، عَن عِكْرِمَة، عَنهُ.
وَرَوَاهُ إِمَام الْأَئِمَّة، مُحَمَّد بن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» كَذَلِك، لَكِن لَفظه: عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «أَرَادَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يتَوَضَّأ، فَقَالَت امْرَأَة من نِسَائِهِ: يَا رَسُول الله قد توضَّأتُ من هَذَا. فَتَوَضَّأ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَقَالَ: المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء» .
وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» - أَيْضا - بِلَفْظ: اغْتسل بعض أَزوَاج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من) جَفْنَة، فجَاء رَسُول الله يغْتَسل مِنْهَا، أَو يتَوَضَّأ، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إنِّي كنت جُنبًا. فَقَالَ: إنَّ المَاء لَا يَجْنُب» .
وَهُوَ فِي «السّنَن الْأَرْبَعَة» من حَدِيث سماك، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «اغْتسل بعض أَزوَاج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي جَفْنَةٍ، فَأَرَادَ رَسُول الله أَن يتَوَضَّأ (مِنْهَا أَو يغْتَسل) ، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي كنت جُنبًا. فَقَالَ: إنَّ الماءَ لَا يَجْنُب» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح.
وَرَوَاهُ أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، عَن شريك، عَن سماك، فسمَّاها: مَيْمُونَة.
(1/395)
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْحَاق، عَن وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن سماك، أَن مَيْمُونَة ...
قَالَ الْحَازِمِي: لَا يُعْرَف مُجَوَّدًا إلاَّ من حَدِيث سماك، وَسماك فِيمَا ينْفَرد بِهِ رَدَّه بعض الْأَئِمَّة، (وقَبِلَه) الْأَكْثَرُونَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : قَالَ الْحَاكِم: قد احْتج البُخَارِيّ بِأَحَادِيث عِكْرِمَة، وَاحْتج مُسلم بِأَحَادِيث سماك بن حَرْب، وَهَذَا حَدِيث صَحِيح فِي الطَّهَارَة، وَلَا تحفظ لَهُ عِلّة.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ورُوي مُرْسَلاً. قَالَ: وَمن أسْندهُ أحفظ.
قلت: وأمَّا ابْن حزم (فإنَّه وَهَّاه) فِي «محلاه» فَقَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يصحّ، (لِأَنَّهُ بِرِوَايَة) سماك بن حَرْب، وَهُوَ يقبل التَّلْقِين، شهد عَلَيْهِ بذلك شُعْبَة وَغَيره، (وَهَذِه جُرحة ظَاهِرَة) .
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن سهل بن سعد قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء» .
رَوَاهُ قَاسم بن أصبغ - كَمَا تقدم فِي الحَدِيث قبله - بِسَنَد حسن، وَالدَّارَقُطْنِيّ، من حَدِيث مُحَمَّد بن مُوسَى (الْحَرَشِي) ، عَن (فُضَيْل) بن سُلَيْمَان النميري، عَن أبي حَازِم، عَن سهل.
(1/396)
و (فُضَيْل) هَذَا: تكلَّم فِيهِ يَحْيَى، وَأَبُو زرْعَة، وَأَبُو حَاتِم. لَكِن احتجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ.
وَمُحَمّد هَذَا: وَهَّاه أَبُو دَاوُد، ووثَّقه غَيره.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إنَّ المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» من حَدِيث: شريك، عَن الْمِقْدَام بن شُريح، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة. ثمَّ قَالَ: لم يَرْوِ هَذَا الحَدِيث عَن الْمِقْدَام إلاَّ شريك. وَذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» بِحَذْف إِن.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن بِئْر بضَاعَة، فَقَالَ: «المَاء طهُور، لَا يُنجسهُ شَيْء» .
ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» من حَدِيث سعيد المَقْبُري عَنهُ، وَقَالَ: إنَّه حَدِيث غير ثَابت.
وَأما الِاسْتِثْنَاء الْوَاقِع فِي آخِره، فَروِيَ أَيْضا من طَرِيقين:
أَحدهمَا: عَن ثَوْبَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «المَاء طهُور، إلاَّ مَا غلب عَلَى رِيحه، أَو طعمه» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث رشدين، عَن مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن رَاشد بن سعد عَنهُ.
(1/397)
وَرشْدِين هَذَا: هُوَ ابْن سعد - وَيُقَال: ابْن أبي رشدين - وَهُوَ ضَعِيف، قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي، وَأَبُو زرْعَة، وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مُنكر الحَدِيث، فِيهِ غَفلَة، يحدث بِالْمَنَاكِيرِ عَن الثِّقَات. وَقَالَ (النَّسَائِيّ) : مَتْرُوك الحَدِيث. وَضَعفه أَحْمد، وَقَالَ فِي رِوَايَة: هُوَ رجل صَالح، وَلكنه لَا يُبَالِي عمَّن يروي. وَمرَّة قَالَ: أَرْجُو أنَّه صَالح الحَدِيث. وَقَالَ ابْن يُونُس: كَانَ رجلا صَالحا، لَا يُشَكُّ فِي صَلَاحه وفضله، فَأَدْرَكته غَفلَة الصَّالِحين، فَخَلَّط فِي الحَدِيث. وَقَالَ الْجوزجَاني: عِنْده (معاضيل) ، ومناكيره كَثِيرَة، وَسمعت ابْن أبي مَرْيَم يثني عَلَيْهِ فِي دينه.
قَالَ ابْن حبَان: كَانَ يقْرَأ كل مَا (دفع) إِلَيْهِ، سَوَاء كَانَ من حَدِيثه أَو لم يكن. وَكَذَلِكَ قَالَ (قُتَيْبَة) .
وَقَالَ ابْن عدي: رشدين ضَعِيف، وَقد خُصَّ نَسْله بالضعف: حجاج بن رشدين، وَمُحَمّد بن الْحجَّاج، وَأحمد بن مُحَمَّد.
وَمُعَاوِيَة بن صَالح: هُوَ قَاضِي الأندلس، وَهُوَ ثِقَة، كَمَا قَالَ أَحْمد وَأَبُو زرْعَة وَغَيرهمَا. وَأما رَاشد بن سعد: فوثَّقه ابْن معِين، وَأَبُو حَاتِم، وَابْن سعد، وَقَالَ أَحْمد: لَا بَأْس بِهِ، وشذَّ ابْن حزم، فَقَالَ: ضَعِيف. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يُعتبر بِهِ، لَا بَأْس) .
(1/398)
أخرج لَهُ مُسلم، وَقَالَ يَحْيَى: هُوَ صَالح. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا الحَدِيث لم يرفعهُ غير رشدين، عَن مُعَاوِيَة بن صَالح، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أبي أُمَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إنَّ المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء، إلاَّ مَا غلب عَلَى رِيحه وطعمه ولونه» .
وَهَذَا الحَدِيث رُوِيَ من طَرِيقين:
أَحدهمَا مُسندَة: رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مَحْمُود بن خَالِد، وَغَيره، عَن مَرْوَان بن مُحَمَّد، نَا رشدين، نَا مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن رَاشد بن سعد، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا كَمَا تقدم.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه الْأَوْسَط» ، من حَدِيث مُحَمَّد بن يُوسُف الغضيضي، عَن رشدين (بن) سعد، عَن مُعَاوِيَة بِهِ. وَلم يذكرَا: «ولونه» .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يَرْوِ هَذَا الحَدِيث عَن مُعَاوِيَة بن صَالح إلاَّ رشدين، تَفرَّد بِهِ مُحَمَّد بن يُوسُف.
(1/399)
قلت: لَا، فقد تَابعه مَرْوَان بن مُحَمَّد، كَمَا أخرجه ابْن مَاجَه، وَالْبَيْهَقِيّ فِيمَا سلف.
وَقد أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» - أَيْضا - من حَدِيث مَرْوَان بن مُحَمَّد الطاطري، عَن رشدين بِهِ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ - أَيْضا - من رِوَايَة ثَوْر بن يزِيد، عَن [رَاشد] بن سعد بِهِ، وَلَفظه: «إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يُنجسهُ شَيْء، إلاَّ مَا غلب رِيحه أَو طعمه» . وَقَالَ: كَذَا وجدته، وَلَفظ الْقلَّتَيْنِ فِيهِ غَرِيب.
قَالَ ابْن عدي: وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ يرويهِ عَن ثَوْر إلاَّ حَفْص بن عمر.
قلت: قد رَوَاهُ بَقِيَّة أَيْضا عَنهُ، أخرج ذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه»
(1/400)
وَلَفظه: «إنَّ المَاء طَاهِر، إلاَّ إنْ تغيَّر رِيحه، أَو طعمه، أَو لَونه بِنَجَاسَة تحدث فِيهِ» .
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: مُرْسلَة رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث الْأَحْوَص بن حَكِيم، عَن رَاشد بن سعد قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء إلاَّ مَا غلب عَلَى رِيحه أَو طعمه» .
وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِزِيَادَة: «أَو لَونه» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا مُرْسل، قَالَ: وَوَقفه أَبُو أُسَامَة عَلَى رَاشد. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: الصَّحِيح أَن هَذَا الحَدِيث مُرْسل. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث يرويهِ رشدين بن سعد، عَن مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن رَاشد، (عَن) أبي أُمَامَة مَرْفُوعا، وَخَالفهُ الْأَحْوَص بن حَكِيم فَرَوَاهُ عَن رَاشد بن سعد مُرْسلا، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَقَالَ أَبُو أُسَامَة: عَن الْأَحْوَص، عَن رَاشد قَوْله وَلم (يُجَاوز بِهِ راشدًا) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَلَا يثبت الحَدِيث.
قلت: فَتَلَخَّصَ أَن الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور ضعيفٌ، لَا يحلّ الِاحْتِجَاج بِهِ، لِأَنَّهُ مَا بَين مُرْسل وَضَعِيف.
وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» اتِّفَاق الْمُحدثين عَلَى تَضْعِيفه.
وَقد أَشَارَ إمامنا الْأَعْظَم، أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي
(1/401)
إِلَى ضعفه فَقَالَ: وَمَا قلت من أنَّه إِذا تغيَّر طعم المَاء وريحه ولونه كَانَ نجسا، يُروى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من وَجه لَا يُثْبِتُ أهل الحَدِيث مثله، وَهُوَ قَول الْعَامَّة، لَا أعلم بَينهم (خلافًا) . وَتَابعه عَلَى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ، فَقَالَ فِي «سنَنه» : هَذَا حَدِيث غير قوي، (إلاَّ أنَّا) لَا نعلم (فِي) نَجَاسَة المَاء إِذا تغيَّر خلافًا.
وَابْن الْجَوْزِيّ، (قَالَ) فِي «تَحْقِيقه» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح.
فَإِذا عُلم ضعف الحَدِيث، تعيَّن الِاحْتِجَاج بالإِجماع، كَمَا قَالَه الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ، وَغَيرهمَا، (من الْأَئِمَّة) .
قَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمع الْعلمَاء عَلَى أنَّ المَاء الْقَلِيل أَو الْكثير، إِذا وَقعت فِيهِ نَجَاسَة، فغيَّرت طعمًا أَو لونًا أَو ريحًا فَهُوَ نجس.
وَنقل الإِجماع كَذَلِك جمع (غَيره) .
وَذكر الإِمام الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الحَدِيث بعد هَذَا الْبَاب بِلَفْظ: «الطّعْم والرائحة» دون «اللَّوْن» ثمَّ قَالَ: نُصَّ عَلَى الطّعْم وَالرِّيح، وقاس الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه اللَّوْن عَلَيْهِمَا.
(1/402)
وَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ قلَّد فِي ذَلِك الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، فإنَّه قَالَ فِي « (الْمُهَذّب» ) ، (كقولته) ، وَلم يقفا رحمهمَا الله عَلَى الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا «اللَّوْن» الَّتِي قَدَّمناها من طَرِيق ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ.
فَإِن قلت: لعلهما رأياها فتركاها لأجل ضعفها ونَزَّلا وجودهَا وَالْحَالة هَذِه كعدمها؟ قلت: هَذَا لَا يصحّ، لِأَنَّهُمَا لَو رَاعيا الضعْف واجتنباه، لتركا جملَة الحَدِيث، لضَعْفه الْمُتَّفق عَلَيْهِ.
وَاعْلَم: أَن هَذَا الحَدِيث ذكره الإِمام الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب الْآتِي، وَوَقعت لنا مَعَه فِيهِ مناقشة، فإنَّه قَالَ: وَقَالَ مَالك: لَا ينجس المَاء الْقَلِيل إلاَّ بالتغيُّر كالكثير، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «خُلَقَ المَاء طهُورا، لَا يُنَجِّسه شَيْء، إلاَّ مَا غَيَّر طعمه أَو رِيحه» ، وَاخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ، وَالشَّافِعِيّ حمل هَذَا الْخَبَر عَلَى الْكثير؛ لِأَنَّهُ ورد فِي بِئْر بضَاعَة، وَكَانَ ماؤهاكثيرًا. انْتَهَى.
وَهَذِه الدَّعْوَى: أَن هَذَا الْخَبَر ورد فِي (بِئْر) بضَاعَة لَا تُعرف؛ نعم صَدْرُه ورد فِيهَا كَمَا قَدمته، وَأما هَذَا الِاسْتِثْنَاء فَفِي حَدِيث آخر كَمَا قَرّرته لَك فاعلمه.
والإِمام الرَّافِعِيّ، الظَّاهِر أَنه تبع الْغَزالِيّ فِي هَذِه الدَّعْوَى، فقد ذكر
(1/403)
ذَلِك فِي «الْمُسْتَصْفَى» حَيْثُ قَالَ (لما) سُئِلَ عَن بِئْر بضَاعَة فَقَالَ: خلق الله المَاء طهُورا لَا يُنجسهُ إلاَّ مَا غيَّر طعمه أَو لَونه أَو رِيحه» .
وَوَقع فِي «الْكِفَايَة» لِابْنِ الرّفْعَة، عزو الِاسْتِثْنَاء إِلَى رِوَايَة أبي دَاوُد، (فَقَالَ: وَرِوَايَة أبي دَاوُد) : «خلق الله المَاء طهُورا لَا يُنجسهُ إلاَّ مَا غير طعمه أَو رِيحه» وَهَذَا لَيْسَ فِي أبي دَاوُد فاعلمه.
الحَدِيث الرَّابِع
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا بَلَغَ (الماءُ) قُلَّتَين، لم يَحْمِلْ خَبَثًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، ثَابت، من رِوَايَة عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، عَن أَبِيه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، «أنَّ رَسُول الله سُئِلَ عَن المَاء يكون بِأَرْض الفَلاَة، وَمَا يَنُوبُه من السبَاع وَالدَّوَاب، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَيْنِ، لم يحملِ الخَبَث» .
أخرجه (الْأَئِمَّة) الْأَعْلَام: الشَّافِعِي، وَأحمد، والدارمي فِي «مسانيدهم» . وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ،
(1/404)
وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحهمَا» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» وَالْبَيْهَقِيّ فِي كتبه الثَّلَاثَة: «السّنَن الْكَبِير» ، و «الْمعرفَة» ، و «الخلافيات» .
قَالَ يَحْيَى بن معِين: إِسْنَاد جيد.
وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم، فقد احتجا جَمِيعًا بِجَمِيعِ رُوَاته، وَلم يخرجَاهُ، وأظنهما - وَالله أعلم - لم يخرجَاهُ لخلاف عَلَى أبي أُسَامَة عَلَى الْوَلِيد بن كثير حَيْثُ رَوَاهُ تَارَة: عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير، وَتارَة: عَن مُحَمَّد بن (عبَّاد) بن جَعْفَر.
قَالَ: وَهَذَا خلاف لَا يُوهن الحَدِيث، فقد احتجَّ الشَّيْخَانِ جَمِيعًا بالوليد بن كثير، وَمُحَمّد بن (عباد) بن جَعْفَر، وإنَّما قرنه (أَبُو أُسَامَة) إِلَى مُحَمَّد بن جَعْفَر، ثمَّ حدَّث بِهِ مرّة عَن هَذَا وَمرَّة عَن ذَاك.
(1/405)
ثمَّ رَوَاهُ الْحَاكِم بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي أُسَامَة نَا الْوَلِيد بن كثير، عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير؛ وَمُحَمّد بن عباد بن جَعْفَر، عَن عبد الله بن عمر بِهِ.
قَالَ: فقد صحَّ وَثَبت بِهَذِهِ الرِّوَايَة صِحَة الحَدِيث، وَظهر أَن أَبَا أُسَامَة سَاق الحَدِيث عَن الْوَلِيد بن كثير، عَنْهُمَا جَمِيعًا، قَالَ: وَقد تَابع الْوَلِيد بن كثير عَلَى رِوَايَته، عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عَلَى شَرط مُسلم فِي عبيد الله بن عبد الله، وَمُحَمّد بن جَعْفَر، وَمُحَمّد بن إِسْحَاق، والوليد بن كثير.
قَالَ: وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَاصِم بن الْمُنْذر، (عَن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عَن أَبِيه. [و] رَوَاهُ إِسْمَاعِيل ابْن علية، عَن عَاصِم بن الْمُنْذر) ، عَن رجل، عَن ابْن عمر.
فَهَذَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَافق عِيسَى بن يُونُس، عَن الْوَلِيد بن كثير فِي ذكر مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير، وَعبيد الله (بن عبد الله) بن عمر. وروايتهما توَافق رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة وَغَيره، عَن عَاصِم بن الْمُنْذر، (فِي ذكر عبيد الله بن عبد الله) .
فَثَبت هَذَا الحَدِيث بِاتِّفَاق أهل الْمَدِينَة والكوفة وَالْبَصْرَة عَلَى حَدِيث عبيد الله بن عبد الله، وباتفاق مُحَمَّد بن إِسْحَاق، والوليد بن كثير، عَلَى روايتهما عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير. فعبيد الله، وَعبد
(1/406)
الله ابْنا عبد الله بن عمر مقبولان بإجماعٍ من الْجَمَاعَة فِي كتبهمْ. وَكَذَلِكَ مُحَمَّد (بن جَعْفَر) بن الزبير، وَمُحَمّد بن عَبَّاد بن جَعْفَر، والوليد بن (كثير) : فِي كتاب مُسلم بن الْحجَّاج، وَأبي دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ. وَعَاصِم بن الْمُنْذر يُعْتَبر بحَديثه. وَابْن إِسْحَاق أخرج عَنهُ (مُسلم و) أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ.
وَعَاصِم بن الْمُنْذر اسْتشْهد (بِهِ) البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع، وَقَالَ شُعْبَة بن الْحجَّاج: مُحَمَّد بن إِسْحَاق أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: هُوَ ثِقَة ثِقَة ثِقَة. هَذَا آخر كَلَام الْحَافِظ ابْن مَنْدَه.
وَقد ذكرت فصلا فِي مُحَمَّد بن إِسْحَاق قبيل الْأَذَان، وَذكرت أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ فَرَاجعه.
وأعَلَّ قومٌ الحديثَ بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: الِاضْطِرَاب، وَذَلِكَ من وَجْهَيْن أَحدهمَا فِي الإِسناد، وَالثَّانِي فِي الْمَتْن.
(أما الأول) : فَحَيْثُ رَوَاهُ الْوَلِيد بن كثير تَارَة عَن مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر، وَتارَة عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير. وَحَيْثُ رُوِيَ تَارَة عَن (عبيد الله) بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَتارَة عَن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
(1/407)
وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن هَذَا لَيْسَ اضطرابًا، بل رَوَاهُ مُحَمَّد بن عباد، وَمُحَمّد بن جَعْفَر، وهما ثقتان معروفان. (وَرَوَاهُ) - أَيْضا - عبيد الله، وَعبد الله ابْنا عبد الله بن عمر بن الْخطاب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وأرضاهم) ، وهما - أَيْضا - ثقتان، وَلَيْسَ هَذَا من الِاضْطِرَاب.
وَقد جمع اليبهقي طرقه، وبيَّن رِوَايَة المُحَمَّدَيْن، وَعبد الله، وَعبيد الله، وَذكر (طرق) ذَلِك كلهَا، وبيَّنها أحسن بَيَان، ثمَّ قَالَ: والْحَدِيث مَحْفُوظ عَن عبد الله وَعبيد الله.
قَالَ: وَكَذَا كَانَ شَيخنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ الْحَاكِم يَقُول: الحَدِيث مَحْفُوظ عَنْهُمَا، وَكِلَاهُمَا رَوَاهُ عَن أَبِيه. قَالَ: وَإِلَى هَذَا ذهب كثير من أهل الرِّوَايَة، وَكَانَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يَقُول: غلط أَبُو أُسَامَة فِي عبد الله بن عبد الله، إِنَّمَا هُوَ عبيد الله بن عبد الله، بِالتَّصْغِيرِ.
وَأَطْنَبَ الْبَيْهَقِيّ فِي تَصْحِيح الحَدِيث بدلائله، فَحصل أنَّه غير مُضْطَرب. وَقد قَدَّمنا - قبل هَذَا - كَلَام الْحَاكِم أبي عبد الله فِي ذَلِك.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، و «علله» : رَوَاهُ الْوَلِيد بن كثير عَن المُحَمَّدَيْن. فصحَّ الْقَوْلَانِ عَن أبي أُسَامَة، وصحَّ أَن الْوَلِيد بن كثير رَوَاهُ عَن هَذَا مرّة، وَعَن الآخر أُخْرَى.
وَكَذَلِكَ قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : الظَّاهِر عِنْد الْأَكْثَرين صِحَة الرِّوَايَتَيْنِ.
(1/408)
وَقَالَ فِي «التذنيب» : الْأَكْثَرُونَ صححوا الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا، وَقَالُوا إِن عبد الله، وَعبيد الله روياه عَن أَبِيهِمَا.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» : لأجل هَذَا الِاخْتِلَاف تَركه البُخَارِيّ وَمُسلم، لِأَنَّهُ عَلَى خلاف شَرطهمَا، لَا لطعن فِي متن الحَدِيث، فإنَّه فِي نَفسه حَدِيث مَشْهُور مَعْمُول بِهِ، وَرِجَاله ثِقَات معدلون، وَلَيْسَ هَذَا الِاخْتِلَاف مِمَّا يوهنه. ثمَّ ذكر مقَالَة الْحَاكِم الْمُتَقَدّمَة.
وَقَالَ الْخطابِيّ: يَكْفِي شَاهدا عَلَى صِحَة هَذَا الحَدِيث: أَن نُجُوم أهل الحَدِيث صحَّحوه، وَقَالُوا بِهِ، واعتمدوه فِي تَحْدِيد المَاء، وهم الْقدْوَة، وَعَلَيْهِم الْمعول فِي هَذَا الْبَاب.
فَمِمَّنْ ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وَأحمد، وَإِسْحَاق، وَأَبُو ثَوْر، وَأَبُو عبيد، وَابْن خُزَيْمَة، وَغَيرهم.
وَقَالَ عبد الْحق: حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد» : هَذَا الحَدِيث حَسَّنه الحفَّاظ وصحَّحوه، وَلَا تُقبل دَعْوَى من ادَّعى اضطرابه.
(وَأما الْوَجْه الثَّانِي: فَهُوَ أَنه قد رُوي فِيهِ) : «إِذا كَانَ المَاء قدر قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاث، لم يُنجسهُ شَيْء» .
رَوَاهُ الإِمام أَحْمد.
وَفِي رِوَايَة للدارقطني: «إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، لم يُنجسهُ
(1/409)
شَيْء» .
وَفِي رِوَايَة: لِابْنِ عدي، والعقيلي، وَالدَّارَقُطْنِيّ: «إِذا بلغ المَاء أَرْبَعِينَ قلَّة، فإنَّه لَا يحمل الْخبث» .
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك: أما الرِّوَايَتَيْنِ (الأولتين، فهما شاذتان، غير ثابتتين، فوجودهما كعدمهما. قَالَه النَّوَوِيّ) فِي «شرح الْمُهَذّب» .
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : رَوَاهُمَا حَمَّاد، واختُلف عَلَيْهِ:
فروَى عَنهُ: إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج، وهدبة، وكامل بن طَلْحَة، فَقَالُوا: «قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا» .
وَرَوَى عَنهُ: عفَّان، وَيَعْقُوب بن إِسْحَاق الْحَضْرَمِيّ، وَبشر بن السّري، والْعَلَاء بن عبد الجَبَّار، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَعبيد الله بن مُوسَى العيشي: «إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ» . وَلم يَقُولُوا: «أَو ثَلَاثًا» .
وَاخْتلفُوا عَن يزِيد بن هَارُون، فروَى عَنهُ ابْن الصَبَّاح بِالشَّكِّ، وَأَبُو مَسْعُود بِغَيْر شكّ. فَوَجَبَ الْعَمَل عَلَى قَول من لم يشك.
وَأما الرِّوَايَة الْأَخِيرَة، فَلَيْسَتْ (من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ) فِي شَيْء، (ذَاك) من طَرِيق ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر مَرْفُوعا، تفرد بِهِ الْقَاسِم الْعمريّ، عَن ابْن الْمُنْكَدر، وَهِي مَرْدُودَة بالقاسم.
(1/410)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: غلط فِيهِ، وَكَانَ ضَعِيفا فِي (الحَدِيث) ، (جَرَّحه) أَحْمد، (وَيَحْيَى) ، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم من الْحفاظ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كَانَ ضَعِيفا، كثير الْخَطَأ، (وَوهم) فِي إِسْنَاده، وَخَالفهُ روح بن الْقَاسِم، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَمعمر، (فَرَوَوْه) عَن ابْن الْمُنْكَدر، عَن عبد الله بن [عَمْرو] مَوْقُوفا. وَرَوَاهُ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، من قَوْله لم (يُجَاوِزهُ) .
وَقد رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي هُرَيْرَة، عَن أَبِيه، قَالَ: إِذا كَانَ المَاء قدر أَرْبَعِينَ قلَّة، لم يحمل خبثًا.
وَخَالفهُ غير وَاحِد، فَرَوَوْه عَن أبي هُرَيْرَة، فَقَالُوا: أَرْبَعِينَ غَرْبًا، وَمِنْهُم من قَالَ: أَرْبَعِينَ دلوًا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقَول من يوافقُ قَوْله من الصَّحَابَة قَول رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْقلَّتَيْنِ، أولَى أَن يُتَّبع.
قلت: لَا جرم أَن ابْن الْجَوْزِيّ ذكر فِي «مَوْضُوعَاته» هَذِه الرِّوَايَة الثَّالِثَة، وَقَالَ: إنَّها لَا تصح، (وأنَّ) الْمُتَّهم بالتخليط فِيهَا:
(1/411)
الْقَاسِم بن [عبد الله] الْعمريّ، قَالَ عبد الله بن أَحْمد: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: أُفٍّ أُفٍّ، لَيْسَ بِشَيْء، وسمعته مرّة يَقُول: كَانَ يكذب، وَفِي رِوَايَة: يضع الحَدِيث.
الْوَجْه الثَّانِي: مِمَّا أُعِلَّ بِهِ هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ: أَنه رُوِيَ مَوْقُوفا عَلَى (عبد الله) بن عمر (كَذَلِك رَوَاهُ ابْن عُلَيَّة) .
وَالْجَوَاب: أَنه (قد سبق رِوَايَته) مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من طَرِيق الثِّقَات، فَلَا يضر تفرد وَاحِد لم (يحفظ) بوقفه.
وَقد رَوَى الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، بالإِسناد الصَّحِيح، عَن يَحْيَى بن معِين - إِمَام (أهل) هَذَا الشَّأْن - أَنه سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: جيد الْإِسْنَاد، قيل لَهُ: فَابْن علية لَمْ يرفعهُ؟ قَالَ يَحْيَى: وإنْ لم يحفظ ابْن علية، فَالْحَدِيث جيد الْإِسْنَاد.
(وَأَنا أتعجب) من قَول أبي عمر بن عبد الْبر فِي «تمهيده» : مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ، مَذْهَب ضَعِيف من جِهَة النّظر، غير ثَابت من جِهَة الْأَثر؛ لِأَنَّهُ حَدِيث تَكَلَّم فِيهِ جمَاعَة من أهل الْعلم؛ وَلِأَن الْقلَّتَيْنِ لَمْ يُوقَف عَلَى حَقِيقَة (مبلغهما) فِي أثر ثَابت، وَلَا إِجْمَاع.
(1/412)
وَقَوله فِي «استذكاره» : حديثٌ مَعْلُول، رَدَّه إِسْمَاعِيل القَاضِي، وَتَكلَّم فِيهِ.
وَقد حكم الإِمام الْحَافِظ، أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، الْحَنَفِيّ، بِصِحَّة هَذَا الحَدِيث، كَمَا ذكرنَا، لكنه اعتلَّ بِجَهَالَة قدر الْقلَّتَيْنِ.
وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك: الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين، فَقَالَ فِي «شرح الإِلمام» : هَذَا الحَدِيث قد صحَّح بَعضهم إِسْنَاد بعض طرقه، وَهُوَ - أَيْضا - صَحِيح عَلَى طَريقَة الْفُقَهَاء؛ لِأَنَّهُ وإنْ كَانَ حَدِيثا مُضْطَرب الإِسناد، مُخْتَلَفًا فِيهِ فِي (بعض) أَلْفَاظه - وَهِي علَّة عِنْد الْمُحدثين، إلاَّ أَن يُجاب عَنْهَا بِجَوَاب صَحِيح - فإنَّه يُمكن أَن يُجمع بَين الرِّوَايَات، ويُجاب عَن بَعْضهَا بطرِيق أصولي، ويُنسب إِلَى التَّصْحِيح، وَلَكِن تركته - (يَعْنِي) فِي «الإِلمام» - لِأَنَّهُ لم يثبت عندنَا - الْآن - بطرِيق اسْتِقْلَال يجب الرُّجُوع إِلَيْهِ شرعا تعْيين لمقدار الْقلَّتَيْنِ.
وَالْجَوَاب عَمَّا اعتذرا بِهِ: أنَّ المُرَاد قُلَّتَيْنِ بقلال هجر، كَمَا رَوَاهُ الإِمام الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، و «الْمُخْتَصر» : عَن مُسلم بن خَالِد الزِّنجيّ، عَن ابْن جريج، بإسنادٍ لَا يحضرني ذكره، أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحملْ خبثًا» ، وَقَالَ فِي الحَدِيث: «بقلال هَجَر» .
قَالَ ابْن جريج: وَقد رَأَيْت قلال هجر، فالقلَّة تسعُ قربتين، أَو قربتين وشيئًا.
(1/413)
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» .
وَمُسلم بن خَالِد، وإنْ تُكُلِّم فِيهِ، فقد وثَّقه: يَحْيَى بن معِين، وَابْن حِبَّان، وَالْحَاكِم، وَأَخْرَجَا لَهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، أَعنِي ابْن حبَان وَالْحَاكِم. وَقَالَ ابْن عدي: حسنُ الحَدِيث. وَمن ضَعَّفه لَمْ يَبَيِّن سَببه، وَالْقَاعِدَة المقررة: أنَّ الضعْف لَا يُقْبَلُ إلاَّ مُبَيَّنًا.
قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : (الإِسناد) الَّذِي لم يحضر الشَّافِعِي ذكره - عَلَى مَا ذكر أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ - أنَّ ابْن جريج قَالَ: أَخْبرنِي محمدٌ (أنَّ) يَحْيَى بن عقيل أخبرهُ، أَن يَحْيَى بن يعمر أخبرهُ، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ، لم يحمل خبثًا، وَلَا بَأْسا» . قَالَ مُحَمَّد: فَقلت ليحيى بن عقيل: قلال هجر؟ فقَالَ: قلال هجر.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» أَيْضا.
قَالَ: وَمُحَمّد هَذَا الَّذِي حَدَّث (عَنهُ) ابْن جريج هُوَ: مُحَمَّد
(1/414)
بن يَحْيَى، يحدث عَن يَحْيَى بن أبي كثير، وَيَحْيَى بن عقيل.
وَهَذَا الحَدِيث مُرْسل، فإنَّ يَحْيَى بن يعمر (تَابِعِيّ مَشْهُور) ، رَوَى عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ من الحَدِيث الْمَشْهُور، وَيكون ابْن يعمر قد رَوَاهُ عَن ابْن عمر، وَيجوز أَن يكون غَيره؛ لِأَنَّهُ يكون قد رَوَاهُ عَن غير ابْن عمر.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» كَمَا ذكرالإِمامان: الرَّافِعِيّ، وَابْن الْأَثِير.
قلت: وَإِذا كَانَ مُرْسلا، فيعتضد بِمَا رَوَاهُ ابْن عدي من رِوَايَة ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ من قلال هجر، لم يُنجسهُ شَيْء» .
لَيْسَ فِي إِسْنَاده سُوَى: الْمُغيرَة بن [سقلاب] ، قَالَ ابْن أبي حَاتِم [عَن أَبِيه] : صَالح الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: (جزري) لَا بَأْس بِهِ.
(1/415)
وَهَذَا يُقَدَّم عَلَى قَول ابْن عدي: مُنكر الحَدِيث، وَعَلَى قَول (عليّ بن) مَيْمُون الرَّقي: إنَّه لَا يُسَوِّي بَعرَة، لجلالة الْأَوَّلين.
وَمن الْمَعْلُوم: أَن قِلال هجر كَانَت مَعْرُوفَة عِنْدهم، مَشْهُورَة، يدل عَلَيْهِ حَدِيث أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أخْبرهُم) لَيْلَة الإِسراء (فَقَالَ) : «رُفِعَتْ إليَّ سِدرْة الْمُنْتَهَى، فَإِذا وَرقهَا مثل آذان الفيلة، وَإِذا نَبِقُها مثل قِلال هَجَر» .
فعُلِم بِهَذَا: أنَّ القلال عِنْدهم مَعْلُومَة، مَشْهُورَة، وَكَيف يُظن أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يُحدد) لَهُم، أَو يمثل لَهُم بِمَا لَا يعلمونه، وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ؟
قَالَ الشَّافِعِي: كَانَ مُسلم - يَعْنِي ابْن خَالِد الزنْجِي - يذهب إِلَى (أنَّ) ذَلِك الشَّيْء الْمَذْكُور فِي قَول ابْن جريج أقل (من نصف قربَة، أَو نصف الْقرْبَة، فَيَقُول: خمس قرب هُوَ أَكثر مَا يسع قُلَّتَيْنِ، وَقد تكون)
(1/416)
القلتان أقل من خمس.
قَالَ الشَّافِعِي: فالاحتياط أَن تكون [الْقلَّة] قربتين وَنصفا، فَإِذا كَانَ المَاء خمس قرب لم يحملْ خبثًا، فِي (جَرَيَان) ، أَو غَيره.
إلاَّ أَن يظْهر فِي المَاء ريح أَو طعم أَو لون.
قَالَ: وَقِرَب الْحجاز كبار، فَلَا يكون المَاء الَّذِي لَا يحمل النَّجَاسَة إلاَّ بِقِرَبٍ كبار.
قلت: لِأَن الْقلَّة فِي اللُّغَة: الجرة الْعَظِيمَة، الَّتِي يُقلها الْقوي من الرِّجَال، أَي: يحملهَا و (يرفعها) . قَالَ الْخطابِيّ: قلال هجر مَشْهُورَة الصَّنْعَة، مَعْلُومَة الْمِقْدَار، لَا تخْتَلف كَمَا لَا تخْتَلف المكاييل والصيعان المنسوبة إِلَى الْبلدَانِ، قَالَ: وقلال هجر أكبرها وأشهرها؛ لأنَّ الْحَد لَا يَقع بِالْمَجْهُولِ.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي «تَعْلِيقه» : قَالَ أَبُو إِسْحَاق، إِبْرَاهِيم بن جَابر، صَاحب «الْخلاف» : سَأَلت قوما من ثِقَات هجر، فَذكرُوا أنَّ القلال بهَا لَا تخْتَلف، وَقَالُوا: قايسنا الْقلَّتَيْنِ، فوجدناهما خَمْسمِائَة رَطْل.
فَإِذا تقرر عنْدك مَا قَرَّرْنَاهُ، ظهر لَك أنَّ الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور مُتَعَيّن، وَلَا جَهَالَة فِي مِقْدَار الْقلَّتَيْنِ.
فإنْ قُلْتَ: قد جَاءَ فِي آخر حَدِيث ابْن عمر، الَّذِي ذكرته من طَرِيق
(1/417)
ابْن عدي، بعد قَوْله: «إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ من قلال هجر لَمْ يُنجِّسه شَيْء» .: «وَذكر (أَنَّهُمَا) فرقان» . فَلَا يَصح مَا قَرّرته؛ لِأَن الْفرق: سِتَّة عشر رطلا، فَيكون مَجْمُوع الْقلَّتَيْنِ: اثْنَان وَثَلَاثُونَ رطلا، وَلَا تَقولُونَ بِهِ؟
فَالْجَوَاب: أنَّ هَذِه اللَّفْظَة مدرجة فِي الحَدِيث، جمعا بَينه وَبَين مَا قَرَّرْنَاهُ: من أَن قلال هجر لن تخْتَلف، وأنهما خَمْسمِائَة رَطْل.
فَائِدَة: هَجَر: بِفَتْح الْهَاء وَالْجِيم، قَرْيَة بِقرب الْمَدِينَة، لَيست هجر الْبَحْرين. كَذَا قَالَه ابْن الصّلاح وَتَبعهُ النَّوَوِيّ.
وَحَكَى الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِي السّنَن» قولا آخر: أَنَّهَا تُنسب إِلَى هجر الَّتِي بِالْيمن، وَهِي قَاعِدَة الْبَحْرين.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي فِي كتاب «الْمُخْتَلف والمؤتلف فِي أَسمَاء الْأَمَاكِن» : هجَر - بِفَتْح الْجِيم - الْبَلَد، قَصَبَة بِبِلَاد الْبَحْرين، بَينه إِلَى (سِرَّين) سَبْعَة أَيَّام، والهجر: بلد بِالْيمن، بَينه وَبَين (عثر) يَوْم وَلَيْلَة.
وَقَالَ أَبُو عبيد فِي «مُعْجَمه» : هَجَر - بِفَتْح أَوله وثانيه - مَدِينَة الْبَحْرين، مَعْرُوفَة، وَهِي مُعَرَّفة لَا يدخلهَا الْألف وَاللَّام، وَهُوَ اسْم فَارسي، مُعرب (أَصله) «هكر» ، وَقيل: إنَّما سمي (بهجر) بنت
(1/418)
مِكْنَف من العماليق.
وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «التَّنْوِير فِي مولد السراج الْمُنِير» : هجر - وَيُقَال: الهجر بِالْألف وَاللَّام -: مَدِينَة جليلة، قَاعِدَة الْبَحْرين، بَينهَا وَبَين الْبَحْرين عشر مراحل.
وَقَالَ مُحَمَّد بن عمر بن وَاقد: هِيَ عَلَى ثَمَان لَيَال من مَكَّة إِلَى الْيمن، مِمَّا يَلِي الْبَحْر. قَالَه فِي «مغازيه» .
وَمَا ذكره ابْن دحْيَة - أَولا - تبع فِيهِ صَاحب «الْمطَالع» ، (فَإِنَّهُ قَالَ) : وهجر مَدِينَة بِالْيمن، وَهِي قَاعِدَة الْبَحْرين، بِفَتْح الْهَاء وَالْجِيم، وَيُقَال فِيهِ: الهجر بِالْألف وَاللَّام بَينهَا وَبَين الْبَحْرين عشر مراحل.
فَائِدَة أُخرى:
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «لم يحمل الْخبث» ، مَعْنَاهُ: لَمْ ينجس بِوُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ. كَمَا فَسَّره فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، الَّتِي (رَوَاهَا) أَبُو دَاوُد، وَابْن حبَان، وَغَيرهمَا: «إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ، لم ينجس» .
وَهَذِه الرِّوَايَة: ذكرهَا الإِمام الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب الْآتِي، وَهِي صَحِيحَة من غير شكّ وَلَا مرية، لَا مطْعن لأحد فِي اتصالها، وثقة رجالها. قَالَ يَحْيَى بن معِين: إسنادها جيد، وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح.
(1/419)
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: مَوْصُول. وَقَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين: لَا غُبَار عَلَيْهِ.
وتقديرها: لَا يقبل النَّجَاسَة، بل يَدْفَعهَا عَن نَفسه، كَمَا يُقال: فلَان لايحمل الضَّيْم، أَي: لَا يقبله، وَلَا يصبر عَلَيْهِ، (بل) يأباه.
وقَالَ النَّوَوِيّ: وَأما قَول بعض المانعين للْعَمَل بالقلتين: إِن مَعْنَاهُ أَنه يَضْعُف عَن حمله. (فخطأ) فَاحش من أوجه:
أَحدهَا: أَن الرِّوَايَة الْأُخْرَى مصرحة بغلطه، وَهِي قَوْله: «لم ينجس» .
الثَّانِي: أَن الضعْف عَن الْحمل إِنَّمَا يكون فِي الْأَجْسَام، كَقَوْلِك: فلانٌ لايحمل الْخَشَبَة، أَي: يعجز عَنْهَا لثقلها. وَأما فِي الْمعَانِي فَمَعْنَاه: لَا يقبله، كَمَا ذكرنَا.
ثَالِثهَا: أنَّ سِيَاق الْكَلَام يُفْسِدهُ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَاد: أَنه يضعف عَن حمله، لم يكن للتَّقْيِيد بالقلتين مَعْنَى، فإنَّ مَا دونهَا أولَى بذلك.
فَإِن قيل: هَذَا الحَدِيث مَتْرُوك الظَّاهِر بالإِجماع فِي الْمُتَغَيّر بِنَجَاسَة؟
فَالْجَوَاب: أَنه عَام، خص مِنْهُ الْمُتَغَيّر بِالنَّجَاسَةِ، فَيَبْقَى الْبَاقِي (عَلَى) عُمُومه، كَمَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ.
فإنْ قيل: هَذَا الحَدِيث (يحمل) عَلَى الْجَارِي.
فَالْجَوَاب: أَن الحَدِيث يتَنَاوَل الْجَارِي والراكد، فَلَا يَصح
(1/420)
تَخْصِيصه بِلَا دَلِيل.
الحَدِيث الْخَامِس
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهاها عَن التشميس، وَقَالَ: إنَّه يُورِثُ البَرَص» .
هَذَا (الحَدِيث واهٍ جدًّا) ، وَله أَربع طرق:
(أوَّلها) : عَن خَالِد بن إِسْمَاعِيل المَخْزُومِي، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، قَالَت: «دخل عليَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَقد سَخَّنتُ مَاء فِي الشَّمْس، فَقَالَ: لَا تفعلي يَا حُمَيْراء، فإنَّه يُورث البرص» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، وَابْن عدي فِي «كَامِله» ، وَأَبُو نعيم فِي كتاب «الطِّبّ» بأسانيدهم إِلَى خَالِد بِهِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: خَالِد هَذَا مَتْرُوك.
(1/421)
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، فقد ضَعَّفه الْأَئِمَّة، قَالَ ابْن عدي: يضع الحَدِيث عَلَى ثِقَات الْمُسلمين. وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان: لايجوز الِاحْتِجَاج بِهِ بِحَال. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: كَذَّاب، يحدث عَن الثِّقَات بِالْكَذِبِ.
لَا جرم أَن الْبَيْهَقِيّ لَمَّا ذكره فِي «سنَنه» قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يصحّ.
وَثَانِيها: عَن عَمْرو بن مُحَمَّد (الأَعْسَم) ، عَن (فُلَيْح، عَن الزُّهْرِيّ) ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة، قَالَت: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُتَوضَأ بِالْمَاءِ المشمس، أَو يُغتسل بِهِ، وَقَالَ: إنَّه يُورث البرص» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، (إِلَيْهِ) ثمَّ قَالَ: عَمْرو بن مُحَمَّد الأعسم مُنكر الحَدِيث، وَلم يروه عَن فليح غَيره، وَلَا يصحّ عَن الزُّهْرِيّ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان: عَمْرو هَذَا يروي عَن الثِّقَات الْمَنَاكِير، وَيَضَع أسامي الْمُحدثين، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ بِحَال.
والأعسم: بِالْعينِ وَالسِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ.
وَثَالِثهَا: عَن وهب بن وهب، عَن هِشَام (بن) عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، قَالَت: «أسخنت لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَاء فِي الشَّمْس، فَقَالَ: لَا تعودي يَا حميراء، فإنَّه يُورث البرص» .
(1/422)
رَوَاهُ ابْن عدي، وَقَالَ: وهب: (أَشَرُّ) من خَالِد بن إِسْمَاعِيل.
قلت: بِلَا شكّ، وَهُوَ وهب بن وهب بن كَبِير: - بِفَتْح الْكَاف، وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة - ابْن عبد الله بن زَمعَة بن الْأسود بن الْمطلب بن عبد الْعُزَّى بن قصي، أَبُو البَخْتَري - بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة، وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة فَوق -: قَاضِي بَغْدَاد، وَهُوَ من رُؤَسَاء الْكَذَّابين، قَالَ أَحْمد: كَانَ كَذَّابًا يضع الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش، وَابْن الْمَدِينِيّ، والرازي: كَانَ كذَّابًا. وَقَالَ يَحْيَى: كَذَّاب خَبِيث، كَانَ عَامَّة اللَّيْل يضع الحَدِيث. وَقَالَ عُثْمَان بن أبي شيبَة: ذَاك دَجَّال. وَقَالَ السَّعْدِيّ: كَانَ يكذب ويجسر. وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي: كَانَ يكذب، ويحدِّث بِمَا لَيْسَ لَهُ أصل. وَقَالَ مُسلم، وَالنَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. زَاد الدَّارَقُطْنِيّ: وكَذَّاب. وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا أعلم لَهُ حَدِيثا مُسْتَقِيمًا، كُلّها بَوَاطِيلُ.
رَابِعهَا: عَن الْهَيْثَم بن عدي، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، نَحْو الطَّرِيق الأول. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
والهيثم هَذَا: هُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن الطَّائي، أحد الهلكى، قَالَ
(1/423)
يَحْيَى: كَانَ يكذب، لَيْسَ بِثِقَة. وقَالَ عَلّي: لَا أرضاه فِي شَيْء. وَقَالَ السَّعْدِيّ: سَاقِط، قد كشف قناعه. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: كَذَّاب. وَقَالَ النَّسَائِيّ، والرازي، والأزدي: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يجوز الرِّوَايَة عَنهُ إلاَّ عَلَى سَبِيل الِاعْتِبَار، وَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ.
قلت: وَلِحَدِيث عَائِشَة طَرِيق خَامِس: أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ، وَلم يذكر إِسْنَاده، فَقَالَ فِي «سنَنه» : وَرُوِيَ بِإِسْنَاد مُنكر عَن ابْن وهب، عَن مَالك، عَن هِشَام. وَلَا يَصح.
وَهَذَا قد بَيَّنه الدَّارَقُطْنِيّ فِي كِتَابه «غرائب أَحَادِيث مَالك الَّتِي لَيست فِي الْمُوَطَّأ» ، فَرَوَاهُ بإسنادٍ إِلَيْهِ، بطرِيق هِشَام المتكررة بِلَفْظ: «سَخَّنت لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَاء فِي الشَّمْس يغْتَسل فِيهِ، فَقَالَ: لَا تفعلي يَا حميراء، فإنَّه يُورث البرص» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا بَاطِل عَن ابْن وهب، وَعَن مَالك أَيْضا، وإنَّما رَوَاهُ: خَالِد بن إِسْمَاعِيل المَخْزُومِي - وَهُوَ مَتْرُوك - عَن هِشَام، ومَنْ دون ابْن وهب - فِي الإِسناد - ضعفاء.
(1/424)
الحَدِيث السَّادِس
عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ (بِمَاء مشمس) ، فأصابهُ وَضَحٌ، فَلَا يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَه» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب (جدًّا) لَيْسَ فِي السّنَن الْأَرْبَعَة قطعا، حاشا الصَّحِيحَيْنِ مِنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي «السّنَن الْكَبِير» ، و «الْمعرفَة» للبيهقي، وَلَا فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» ، و «علله» ، وَلَا فِي «المسانيد» ، فِيمَا فحصت عَنهُ عدَّة سِنِين فَوق الْعشْرَة، وسؤالي لبَعض الْحفاظ بِمصْر، والقدس، ودمشق عَنهُ، فَلم يعرفوه.
(إلاَّ أَنِّي ظَفرت بِهِ) فِي (مشيخة) قَاضِي المرستان، فِي أَوَاخِر الْجُزْء الْخَامِس مِنْهَا، وَقد أخبرنَا بهَا: المُسْنِد، أَبُو عبد الله، مُحَمَّد بن أَحْمد بن (خَالِد) الفارقي، أَنا الْعِزّ الْحَرَّانِي سَمَاعا، والنجيب إجَازَة، أخبرنَا ابْن الخُرَيف، ضِيَاء (الدَّين) بن أبي الْقَاسِم، سَمَاعا، أَنا القَاضِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْبَزَّاز، الْمَعْرُوف بقاضي المرستان، أَنا أَبُو الْحسن عَلّي بن جَامع النَّيْسَابُورِي، أَنا أَبُو بكر بن عبد ربه، أَنا أَبُو مُسلم فَارس بن المظفر بن غَالب، أَنا (أَبُو عمر
(1/425)
مُحَمَّد) بن عَمْرو بن أَحْمد الْمُقْرِئ، أَنا أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس الإِسماعيلي، أَنا أَبُو بكر مُحَمَّد بن هَارُون بن حميد بن [المجدر] ، وثنا أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الله بن مَيْمُون الْبَصْرِيّ، نَا عَلّي بن (الْحسن) بن يعمر، عَن عمر بن (صُبْح) ، عَن مقَاتل بن حَيَّان، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من احْتجم يَوْم الْأَرْبَعَاء، أَو السبت، فَأَصَابَهُ داءٌ فَلَا يلومنَّ إلاَّ نَفسه، وَمن اغْتسل (بالمشمس) فَأَصَابَهُ وَضَحٌ، فَلَا يلومنَّ إلاَّ نَفسه، ومَنْ بَال فِي مستنقع، مَوضِع وضوئِهِ، فَأَصَابَهُ وسواس فَلَا يلومنَّ إلاَّ نَفسه، وَمن تَعَرَّى فِي غير كِنٍّ، فَخُسِفَ بِهِ فَلَا يلومنَّ إلاَّ نَفسه، وَمن نَام وَفِي يَده غَمَرُ الطَّعَام، فَأَصَابَهُ لَمَمٌ فَلَا يلومنَّ إِلَّا نَفسه، وَمن نَام بعد الْعَصْر، فاختلس عقله فَلَا يلومنَّ إلاَّ نَفسه، وَمن شَبَّك فِي صلَاته، فَأَصَابَهُ زحِيْرٌ فَلَا يلومنَّ إِلَّا نَفسه» .
(1/426)
(حَدِيث واهٍ) ، (عمرُ) بن صبح: كَذَّاب، اعْترف بِالْوَضْعِ، والضَحَّاك: لَمْ يَلْقَ ابْن عَبَّاس، وَابْن [المجدر] : صَدُوق، لكنه نَاصِبِيٌّ منحرفٌ عَن (الْحق) .
وَفِي الْبَاب - أَيْضا - فِي النَّهْي عَن المشمس: حَدِيث أنس، وَله طَرِيقَانِ:
أَولهمَا: عَن سوَادَة، عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أنَّه سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لَا تغتسلوا (بِالْمَاءِ) الَّذِي يُسَخَّن فِي الشَّمْس، فإنَّه يُعْدِي من البَرَصِ» .
رَوَاهُ الْعقيلِيّ، وَغَيره، من حَدِيث: عَلّي بن هَاشم الْكُوفِي، عَن سوَادَة، بِهِ كَمَا تقدم، ثمَّ قَالَ: سوَادَة مَجْهُول بِالنَّقْلِ، حَدِيثه غير مَحْفُوظ.
وَقَالَ البُخَارِيّ: كَانَ (عليٌّ وهَاشِم غاليين) فِي مَذْهَبهمَا. يَعْنِي التَّشَيُّع. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ (عليٌّ) غاليًا فِي التَّشَيُّع، ويروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير.
وَثَانِيهمَا: عَن زَكَرِيَّا بن حَكِيم، عَن الشّعبِيّ، عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ:
(1/427)
قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تغسلوا صِبْيَانكُمْ بِالْمَاءِ الَّذِي يسخن بالشمس، فإنَّه يُورث البَرَص» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْجُزْء النيف والثمانين من «أَفْرَاده» ، كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» ، وَهِي طَريقَة غَرِيبَة، (قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تَفَرَّد بِهِ زَكَرِيَّا بن حَكِيم، عَن الشّعبِيّ، وَلم يروه) عَنهُ (غير) أبي اليسع، أَيُّوب بن سُلَيْمَان.
قلت: زَكَرِيَّا هَذَا ضَعِيف بِمرَّة. قَالَ فِيهِ أَحْمد، وَيَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وقَالَ مرّة: لَيْسَ بِثِقَة. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّسَائِيّ. وَقَالَ عليٌّ: هَالك. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف.
وَأما أَيُّوب بن سُلَيْمَان، الرَّاوِي عَنهُ: فَهُوَ المكفوف، قَالَ الْأَزْدِيّ: غير حجَّة.
فَتَلَخَّص: أَن الْوَارِد فِي النَّهْي عَن اسْتِعْمَال المَاء المشمس، من جَمِيع طرقه بَاطِل، لَا يصحّ، وَلَا يحلُّ (لأحدٍ) الِاحْتِجَاج بِهِ. وَمَا (قَصَّرَ) ابنُ الْجَوْزِيّ فِي نسبته إِلَى الْوَضع فِي حَدِيث عَائِشَة وأَنس، وَقَوله فِي كل مِنْهُمَا: هَذَا حَدِيث لَا يصحّ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» : لَا يصحُّ. وَقَالَ فِي «الْمعرفَة» :
(1/428)
لَا يثبت الْبَتَّةَ. وَقَالَ الْعقيلِيّ الْحَافِظ: لَا يصحُّ فِي المَاء المشمس حَدِيث مُسْند، إنَّما يرْوَى فِيهِ شَيْء عَن عمر بن الْخطاب من قَوْله. وَسَيَأْتِي ذَلِك قَرِيبا.
ثمَّ بَينه بعد ذَلِك لما وَقع لأبي عبد الله، مُحَمَّد بن معن الدِّمَشْقِي فِي كِتَابه الَّذِي وَضعه عَلَى «الْمُهَذّب» ، الْمُسَمَّى ب «التنقيب» ، فإنَّه لمَّا ذكر حَدِيث عَائِشَة الْمُتَقَدّم، قَالَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ فِي كِتَابَيْهِمَا.
هَكَذَا هُوَ ثَابت فِي كل النّسخ، وَلَا أَدْرِي كَيفَ وَقع لَهُ هَذَا الْغَلَط الْقَبِيح، (وَمن أَيْن أَخذه) ؟ ! ، وَقد (وَقع فِي) الْكتاب الْمَذْكُور أَمْثَال ذَلِك، لَعَلَّنَا نُنَبِّه عَلَيْهَا فِي مواطنها - إِن شَاءَ الله ذَلِك وقَدَّره.
انْقَضَى الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب، بِحَمْد الله وعونه.
وَذكر فِيهِ عَن الصَّحَابَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: « (أَنهم تَطَهَّرُوا) بِالْمَاءِ المُسَخَّنِ بَين يَدي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلم يُنكِر عَلَيْهِم.
وَهَذَا، قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: لم أَرَهُ فِي غير الرَّافِعِيّ.
قلت: وَقد رَوَاهُ بِنَحْوِهِ الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه الْكَبِير» من حَدِيث الْعَلَاء بن الْفضل المِنْقَري، نَا الْهَيْثَم بن رُزَيْق - بِتَقْدِيم الرَّاء الْمُهْملَة عَلَى الزَّاي - الْمَالِكِي، من بني مَالك بن كَعْب بن سعد، عَاشَ مائَة و [سبع عشرَة] سنة، عَن أَبِيه، عَن الأسلع بن شريك، قَالَ: «كنت أُرَحِّلُ ناقةَ
(1/429)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فأصابتني جنابةٌ فِي لَيْلَة بَارِدَة، وَأَرَادَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الرحلة، فكرهتُ أَن أُرَحِّل نَاقَته وَأَنا جنب، وخشيت أَن أَغْتَسِل بِالْمَاءِ الْبَارِد فأموت، أَو أمرض، فأمرتُ رجلا من الْأَنْصَار، يُرَحِّلها، ووضعتُ أحجارًا، فأسخنت بهَا [مَاء] ، فاغتسلت، ثمَّ لحقت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[وَأَصْحَابه، فَقَالَ: يَا أسلع، مَا لي أرَى رحلتك تَغَيَّرت؟] فَقلت: يَا رَسُول الله لم أُرَحِّلْها، رحَّلها رجل من الْأَنْصَار. قَالَ: «ولِمَ» ؟ [فَقلت: إِنِّي] أصابتني جَنَابَة، فخشيتُ القُرَّ عَلَى نَفسِي، فَأَمَرته أَن يرحِّلها، ووضعتُ أحجارًا، فأسخنتُ مَاء فاغتسلت بِهِ، فَأنْزل الله - تَعَالَى -: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى ... إِلَى قَوْله: (إِن الله كَانَ عفوا غَفُورًا) .
وَرَوَاهُ الْحَافِظ: الْحسن بن سُفْيَان، عَن مُحَمَّد بن مَرْزُوق، عَن الْهَيْثَم بن رُزَيْق، بِسَنَدِهِ، وَفِيه: «مَالِي أرَى (رحلتك) تضطرب» ؟
وَمن جِهَة الْحسن بن سُفْيَان، أخرجه الْحَافِظ أَبُو بكر (الْبَيْهَقِيّ) ، إلاَّ أَنه مُخْتَصر اللَّفْظ.
وَأخرجه أَبُو نعيم فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» من طُرُق، أَحدهَا تقدَّم، وَالْبَاقِي فِي التَّيَمُّم.
(1/430)
والهيثم هَذَا ذكره وأباه: ابنُ أبي حَاتِم، وَلم يذكر فيهمَا جرحا وَلَا تعديلاً، وَلم يذكر (رَاوِيا) عَن الْهَيْثَم إلاَّ وَاحِدًا.
قلت: وَذكره الْعقيلِيّ، وَقَالَ: لَا يُتابع عَلَى حَدِيثه.
والْعَلَاء بن الْفضل (الْمنْقري) : فِيهِ ضعف يسير، قَالَ ابْن حبَان: كَانَ مِمَّن ينْفَرد بأَشْيَاء مَنَاكِير عَن (أَقوام) مشاهير، لَا يُعجبنِي الِاحْتِجَاج بأخباره الَّتِي انْفَرد بهَا، فأمَّا مَا وَافق [فِيهَا] الثِّقَات: فإنْ (اعْتبر بهَا) مُعْتَبر، لم أَرَ بذلك بَأْسا.
وَيُقَال: رَحَلَ النَّاقة، يرحَلها - بِفَتْح الْحَاء - فِي الْمَاضِي والمستقبل، والرِّحلة - بِكَسْر الرَّاء هَهُنَا -: الْهَيْئَة، والرِّحلة - بِالْكَسْرِ أَيْضا -: الارتحال.
فَأَما الرُّحلة - بِالضَّمِّ -: فَمَا (يُرْتَحَلُ) إِلَيْهِ، يُقَال: أَنْتُم رُحْلَتِي. أَفَادَهُ الشَّيْخ فِي «الإِمام» .
وَلَا أعلم عَن أحدٍ من الصَّحَابَة فِي زَمَنه «وَقع لَهُ ذَلِك) إلاَّ الأسلع هَذَا، (ولعلنا نتكلم علَىَ شَيْء من حَاله فِي بَاب التَّيَمُّم - إِن شَاءَ
(1/431)
الله وقَدَّره) .
وَهُوَ وافٍ بِمَا أوردهُ الإِمام الرَّافِعِيّ؛ لِأَن عِبَارَته ظَاهِرَة فِي أَن جَمِيع الصَّحَابَة فعلوا ذَلِك بَين يَدي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَالْعقل قَاض باستحالة ذَلِك، لتفرقهم فِي الْبلدَانِ.
وَلَعَلَّه كَانَ فِي الأَصْل الَّذِي نَقله الرَّافِعِيّ: أَن بعض الصَّحَابَة تطهَّر بِالْمَاءِ المسخن. . إِلَى آخِره، فَسقط لفظ «بعض» ، إِمَّا من الأَصْل الْمَنْقُول مِنْهُ أَو من أصل الرَّافِعِيّ.
نعم، قد رُوِيَ (التطهر) بِالْمَاءِ المسخن من فعل جمع من الصَّحَابَة:
أحدهم: عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ عَن زيد بن أسلم، (عَن أسلم) مولَى عمر بن الْخطاب: أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يُسَخَّن لَهُ (مَاء) فِي قُمْقُمَةٍ، فيغتسل بِهِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده صَحِيح.
قلت: فِيهِ وَقْفَة، فَفِي إِسْنَاده عَلّي بن غراب، وَهِشَام بن سعد، وَقد ضُعِّفَا، فَلَعَلَّ الدَّارَقُطْنِيّ (اخْتَار تعديلهما.
أما) عَلّي بن غراب: فَقَالَ أَحْمد: كَانَ يدلِّس، وَلَا أرَاهُ إلاَّ صَدوقًا. وَقَالَ السَّعْدِيّ: سَاقِط. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: تركُوا حَدِيثه. وَقَالَ الْجوزجَاني: سَاقِط. وَقَالَ ابْن حبَان: حَدَّث بالأشياء الْمَوْضُوعَة، فَبَطل الِاحْتِجَاج بِهِ، وَكَانَ غاليًا فِي التَّشَيُّع، وإنْ أخرج لَهُ مُسلم. وَقَالَ أَحْمد: كَانَ يدلِّس، وَمَا أرَاهُ إلاَّ
(1/432)
صَدوقًا.
قلت: قد عنعن فِي (هَذَا) الْأَثر.
وَأما هِشَام بن سعد: فَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ (هُوَ بمحكم) الحَدِيث.
وَقَالَ يَحْيَى مرّة: لَيْسَ بِشَيْء. وَمرَّة: لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي. وَمرَّة: ضَعِيف. وَقَالَ (النَّسَائِيّ) : ضَعِيف.
وَله إِسْنَاد آخر صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» عَن عبد الْعَزِيز (الدَّرَاورْدِي) ، عَن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه: أنَّ عمر كَانَت لَهُ قمقمة يسخن فِيهَا المَاء.
وَرَوَاهُ - أَيْضا -[عبد الرَّزَّاق] عَن معمر، عَن زيد بن أسلم، عَن
(1/433)
أَبِيه: أَن عمر كَانَ يغْتَسل بِالْمَاءِ الْحَمِيم. وَهَذَا إِسْنَاد كَالَّذي قبله.
(ثمَّ رَوَاهُ عَن: وَكِيع، عَن هِشَام بن سعد عَن زيد بِهِ) .
وَأخرجه أَبُو عبيد فِي كتاب «الطّهُور» بالإِسناد الأول، فَقَالَ: نَا ابْن أبي مَرْيَم، و [نعيم] بن حَمَّاد، عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه: أَن عمر بن الْخطاب كَانَ يغْتَسل، وَيتَوَضَّأ بالحميم.
الثَّانِي: عَن ابْنه عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
رَوَاهُ عَنهُ: ابْن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» ، عَن إِسْمَاعِيل بن عُلَيَّة، عَن أَيُّوب، قَالَ: سَأَلت نَافِعًا عَن المَاء المسخَّن، فَقَالَ: كَانَ ابْن عمر يتَوَضَّأ بالحميم.
(وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي «مُصَنفه» ، عَن معمر، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع: أَن ابْن عمر كَانَ يتَوَضَّأ بِالْمَاءِ الْحَمِيم) .
وَهَذَا الإِسناد، وَالَّذِي قبله: رجالهما رجال الصَّحِيحَيْنِ. وَأخرجه أَبُو عبيد فِي كِتَابه «الطّهُور» بالإِسناد الأول سَوَاء.
الثَّالِث: عبد الله بن عَبَّاس.
رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» ، عَن مُحَمَّد بن بشر، نَا مُحَمَّد بن (عَمْرو) ، نَا أَبُو سَلمَة، قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: إنَّا نَدَّهِن بالدهن
(1/434)
وَقد طُبخ عَلَى النَّار، ونتوضأ بالحميم وَقد أُغلي عَلَى النَّار. وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح.
وَفِي «مُصَنف عبد الرَّزَّاق» بِإِسْنَاد صَحِيح (عَنهُ) : «لَا (بَأْس) أَن يُغتسل بالحميم، وَيتَوَضَّأ مِنْهُ» .
الرَّابِع: سَلمَة بن الْأَكْوَع.
رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» ، عَن حَمَّاد بن مسْعدَة، عَن يزِيد: أَن سَلمَة كَانَ يُسَخَّنُ لَهُ المَاء، فيتوضأُ بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كِتَابه «الطّهُور» بِإِسْنَادِهِ، وَزَاد فِي آخِره: فِي الْبرد.
وَذكر الإِمام الرَّافِعِيّ فِيهِ (من الْآثَار: أثر عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَنه كره) المَاء المشمس، وَقَالَ: إنَّه يُورث البَرَص.
وَهَذَا الْأَثر رُوِيَ من طَرِيقين:
أَحدهمَا: من رِوَايَة جَابر عَنهُ، كَذَلِك رَوَاهُ (الإِمام) الشَّافِعِي فِي
(1/435)
«الْأُم» ، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن صَدَقَة بن عبد الله، عَن أبي الزبير، عَن جَابر، عَنهُ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» ، و «الْمعرفَة» ، عَن الشَّافِعِي بالسند الْمَذْكُور.
وَهَذِه الطَّرِيقَة معلولة من وَجْهَيْن:
الأول: الطعْن فِي إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، وَهُوَ: [ابْن أبي] يَحْيَى، سمْعَان الْأَسْلَمِيّ، (الْمدنِي) ، (لم يُخرج لَهُ غير [ابْن مَاجَه] حَدِيث وَاحِد وَهُوَ: «من مَاتَ مَرِيضا مَاتَ شَهِيدا» ) .
قَالَ عبد الْغَنِيّ بن سعيد، حَافظ مصر، فِي كِتَابه «إِيضَاح الإِشكال» - وَهُوَ مُفِيد -: هُوَ عبد [الْوَهَّاب] الْمقري، الَّذِي (يروي عَنهُ) مَرْوَان بن مُعَاوِيَة، وَهُوَ أَبُو الذِّئْب الَّذِي يحدث (عَنهُ) ابْن جريج.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» : كَانُوا يبهرجونه؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثِقَة، وَكَانَ الْوَاقِدِيّ يَقُول: أَبُو إِسْحَاق بن مُحَمَّد، وَرُبمَا قَالَ: إِسْحَاق
(1/436)
بن إِدْرِيس. و (كَانَ) ابْن جريج يَقُول نَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أبي عَطاء. وَكَانَ يَحْيَى بن آدم يَقُول: نَا إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى [الْمدنِي] . أه.
وَقد أَكثر أهل الحَدِيث القَوْل فِيهِ من جِهَة الْقدر وَغَيره، حَكَى ابْن أبي حَاتِم جرحه وتوهينه عَن: مَالك، ووكيع، وَابْن الْمُبَارك، وَابْن عُيَيْنَة، وَالْقطَّان، وَابْن الْمَدِينِيّ، وَأحمد، وَيَحْيَى بن معِين، وَأبي حَاتِم، وَأبي زرْعَة، وَغَيرهم.
قَالَ يَحْيَى بن سعيد: سَأَلت مَالِكًا عَنهُ: أَكَانَ ثِقَة فِي الحَدِيث؟ قَالَ: لَا، وَلَا فِي دينه. وَسَيَأْتِي أَنه حط عَلَى مَالك أَيْضا.
وَقَالَ (الْقطَّان) : كَذَّاب. وَقَالَ أَحْمد: تركُوا أَحَادِيثه، (قدري) معتزلي، يروي أَحَادِيث مُنكرَة، لَيْسَ لَهَا أصل، وَيَأْخُذ أَحَادِيث النَّاس يَضَعهَا فِي كتبه.
(وَقَالَ وَكِيع: لَا تكْتبُوا عَنهُ حرفا) . وَقَالَ أَحْمد (مرّة) : (قدريّ) ، جهمي، كل بلَاء فِيهِ، ترك النَّاس حَدِيثه. وَقَالَ البُخَارِيّ: تَركه ابْن الْمُبَارك وَالنَّاس. وَقَالَ مرّة: كَانَ يرَى الْقدر، وَكَانَ جهميًّا. وَقَالَ ابْن معِين: كَذَّاب، رَافِضِي، مَتْرُوك. وَقَالَ مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي
(1/437)
شيبَة: سَمِعت [عليا] يَقُول: هُوَ كَذَّاب، وَكَانَ يَقُول بِالْقدرِ، (وَأَخُوهُ أنيس) ثِقَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ: الكذابون المعروفون بِوَضْع الحَدِيث عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَرْبَعَة: إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى بِالْمَدِينَةِ، والواقدي بِبَغْدَاد، وَمُقَاتِل بن سُلَيْمَان بخراسان، وَمُحَمّد بن سعيد بِالشَّام، (يعرف بالمصلوب) . وَقَالَ (النَّسَائِيّ) مرّة: مَتْرُوك. وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، وَغَيره.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن سعد - عَلَى مَا أسْندهُ الْعقيلِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» -: كنَّا نُسَمِّيه - وَنحن نطلب الحَدِيث -: خرافة. وَقَالَ الدَّارمِيّ: سَمِعت يزِيد بن هَارُون يكذبهُ. وَقَالَ بشر بن (الْمفضل) : سَأَلت فُقَهَاء الْمَدِينَة عَنهُ، فكلهم قَالُوا: هُوَ كذَّاب. وَقَالَ أَبُو همَّام (السكونِي) : سَمِعت إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى يشْتم بعض السّلف. وحطَّ عَلَى مَالك الإِمام، فَحَدَّث شخصا غَرِيبا بِثَلَاثِينَ حَدِيثا، وَقَالَ: قد حدَّثتك ثَلَاثِينَ حَدِيثا، وَلَو ذهبت إِلَى ذَلِك الْحمار، فحدَّثك (بِثَلَاثَة) أَحَادِيث لفرحت بهَا؛ يَعْنِي: مَالِكًا. وَقَالَ الْعجلِيّ: كَانَ قدريًا، معتزليًا، رَافِضِيًّا، كَانَت فِيهِ كل
(1/438)
بِدعَة، وَكَانَ من أحفظ النَّاس، وَكَانَ قد سمع علما كثيرا، وقرابته كلهم ثِقَات، وَهُوَ غير ثِقَة. وَفِي «كتاب (الْآجُرِيّ) » عَن أبي دَاوُد: كَانَ قدريًا رَافِضِيًّا، شتَّامًا، مَأْبُونًا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب نزُول الرُّخْصَة فِي التَّيَمُّم: إِبْرَاهِيم هَذَا مُخْتَلف فِي ثقته، ضعَّفه أَكثر أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، وطعنوا فِيهِ، قَالَ: وَكَانَ الشَّافِعِي (يُبْعده) عَن الْكَذِب، قَالَ: وَقَالَ الرّبيع: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: كَانَ إِبْرَاهِيم بن (أبي) يَحْيَى قَدَرِيًّا. قَالَ يَحْيَى بن زَكَرِيَّا: قلت للربيع: فَمَا حمل الشَّافِعِي عَلَى أَن رَوَى عَنهُ؟ قَالَ: كَانَ يَقُول: (لِأَن) (يخر إِبْرَاهِيم) من بُعْد، أحبّ إِلَيْهِ من أَن يكذب، وَكَانَ ثِقَة فِي الحَدِيث.
وَفِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» فِي الْحَج: أنَّ الشَّافِعِي قَالَ فِيهِ: أنَّه أَحْفَظ من عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي. الْمُتَّفق عَلَى إِخْرَاج حَدِيثه فِي الصَّحِيح.
قَالَ أَبُو أَحْمد بن عدي الْحَافِظ: سَأَلت أَحْمد (بن مُحَمَّد) بن سعيد - يَعْنِي ابْن عقدَة - فَقلت: تعلمُ أحدا أحسن القَوْل فِي إِبْرَاهِيم بن (أبي) يَحْيَى، شيخ الشَّافِعِي، غَيره؟ فَقَالَ: نعم، ثَنَا أَحْمد
(1/439)
بن يَحْيَى (الأودي) ، قَالَ: سَأَلت (حمدَان) بن الْأَصْبَهَانِيّ - يَعْنِي مُحَمَّدًا - قلت: [أتدينُ بِحَدِيث إِبْرَاهِيم] بن أبي يَحْيَى؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ ابْن عدي: قَالَ لي أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد: نظرت فِي حَدِيث إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى، فَلَيْسَ هُوَ بمنكر الحَدِيث.
قَالَ ابْن عدي: وَقد نظرت (أَنا) فِي (حَدِيثه) - أَيْضا - الْكثير، فَلم أجدْ فِيهِ مُنْكرا، وإنَّما الْمُنكر إِذا [كَانَت الْعهْدَة] من قبل الرَّاوِي عَنهُ، (أَو من قبل) من يروي إِبْرَاهِيم عَنهُ، وَله أَحَادِيث كَثِيرَة، وَله كتاب أَضْعَاف موطأ مَالك.
(قَالَ) : وَقد رَوَى عَنهُ: ابْن جريج، و [الثَّوْريّ] ، وعَبَّاد بن مَنْصُور، و (منْدَل) ، وَيَحْيَى بن أَيُّوب؛ وَهَؤُلَاء أقدم موتا مِنْهُ، وأكبر سنا، وَهُوَ فِي (جملَة) من يكْتب حَدِيثه، وَقد وثَّقَه الشَّافِعِي، وَابْن الْأَصْبَهَانِيّ.
(1/440)
وَقَالَ الرّبيع: كَانَ الشَّافِعِي إِذا قَالَ: (ثَنَا) من لَا أتهم. (بِهِ) يُرِيد إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى.
وَقَالَ (السَّاجِي) : الشَّافِعِي لم يخرجْ عَن إِبْرَاهِيم حَدِيثا فِي فرض، إنَّما جعله شَاهدا فِي فَضَائِل الْأَعْمَال، وَظن بِهِ الشَّافِعِي مَا ظن بِهِ ابْن جريج.
قلت: وَفِيه نظر.
وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يرَى الْقدر، وَيذْهب إِلَى كَلَام جهم، ويكذب مَعَ ذَلِك فِي الحَدِيث، قَالَ: وَأما الشَّافِعِي: فإنَّه كَانَ يُجَالس إِبْرَاهِيم فِي حداثته، ويحفظ عَنهُ حفظ الصَّبِي، وَالْحِفْظ فِي الصغر كالنقش فِي الْحجر، فَلَمَّا دخل مصر فِي آخر عمره، وَأخذ يُصَنِّف الْكتب المبسوطة احْتَاجَ إِلَى الْأَخْبَار، وَلم يكن مَعَه كتبه، فَأكْثر مَا أودع الْكتب من حفظه، وَرُبمَا كَنَّى عَنهُ، وَلَا يُسَمِّيه فِي كتبه.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان (فِي «علله» : قد) كَانَ من النَّاس من أحسن الرَّأْي فِيهِ، مِنْهُم: الشَّافِعِي، وَابْن جريج.
قلت: فَتَلَخَّص أَن خَمْسَة وَثَّقُوه، وهم: الشَّافِعِي، (وَابْن جريج) ، وحمدان بن مُحَمَّد الْأَصْبَهَانِيّ، وَأحمد بن مُحَمَّد بن سعيد بن عقدَة الْحَافِظ، وَابْن عدي، وَأَن الجمَّ الْغَفِير ضَعَّفُوهُ، وَلَا
(1/441)
خَفَاء أَن الْجرْح مقدم، (لَا جرم) قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي فِي الضُّعَفَاء» : هُوَ مَتْرُوك عِنْد الْجُمْهُور.
وَقَول ابْن الصّلاح فِي «مشكله» فِي صفة الصَّلَاة: وَابْن أبي يَحْيَى، وإنْ كَانَ ثِقَة عِنْد الشَّافِعِي، فَهُوَ مَجْرُوح عِنْد سَائِر أهل الحَدِيث. غَرِيب مِنْهُ مَعَ جلالته، وَكَأَنَّهُ تبع أَبَا الْعَرَب، فإنَّه قَالَ فِي «ضُعَفَائِهِ» : حَدَّثَنَي عِيسَى بن حَكِيم، عَن مُحَمَّد بن (سَحْنُون) ، أَنه قَالَ: (إِنَّه) لَا يحْتَج (بحَديثه) عِنْد (الْأمة) جَمِيعهَا، لَا أعلم (بَين) الْأَئِمَّة اخْتِلَافا فِي إبِْطَال الْحجَّة بحَديثه.
وَقَالَ الخليلي فِي كتاب «الإِرشاد» : لَا يروي عَنهُ من (يُزَكِّيه) إلاَّ الشَّافِعِي، فَإِنَّهُ يَقُول: (ثَنَا) الثِّقَة (فِي حَدِيثه) ، الْمُتَّهم فِي دينه، وَقد رَوَى عَنهُ ابْن جريج مَعَ جلالته.
الثَّانِي: الطعْن فِي صَدَقَة بن عبد الله، شيخ إِبْرَاهِيم، وَهُوَ أخف حَالا من تِلْمِيذه، وَهُوَ: (أَبُو) مُعَاوِيَة، السمين، الْقرشِي، الدِّمَشْقِي،
(1/442)
وثَّقَه (دُحَيْم) ، وَقَالَ أَحْمد: (ضَعِيف) جدا، لَيْسَ بِشَيْء، أَحَادِيثه مَنَاكِير، لَيْسَ يُسَاوِي حَدِيثه شَيْئا.
وَقَالَ يَحْيَى، و (النَّسَائِيّ) ، وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف، وَقَالَ (البُخَارِيّ) : ضَعِيف جدا. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَن الثِّقَات.
فَتَلَخَّص: أنَّ هَذَا الْأَثر ضَعِيف، للعلتين المذكورتين. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» : هَذَا الْأَثر حسنٌ. وَفِي ذَلِك مَا لَا يخْفَى.
الطَّرِيق الثَّانِي: من رِوَايَة حسَّان بن أَزْهَر، عَنهُ، (أَنه) قَالَ: لَا تغتسلوا بِالْمَاءِ المشمس، فإنَّه يُورث البرص.
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، عَن أبي سهل بن زِيَاد، ثَنَا إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ، ثَنَا دَاوُد بن رشيد، ثَنَا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، قَالَ: حَدَّثَنَي صَفْوَان بن (عَمْرو) ، عَن حسَّان بِهِ.
وَهَذَا إسنادٌ جيدٌ، وَإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش: فِيهِ مقَال، تَقَدَّم فِي الْكَلَام عَلَى حَدِيث «هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ» . وَقد قَالَ البُخَارِيّ فِي حَقه: إِذا رَوَى عَن أهل حمص يكون حَدِيثه صَحِيحا.
وَصَفوَان بن (عَمْرو) هَذَا: حمصي، لَا جرم، قَالَ الْحَافِظ
(1/443)
محب الدَّين الطَّبَرِيّ (فِي «شَرحه» ) : إنَّ إِسْنَاده صَحِيح.
قلت: وَلم ينْفَرد إِسْمَاعِيل بِهِ، بل تُوبع عَلَيْهِ، قَالَ ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، فِي تَرْجَمَة حسان بن أَزْهَر هَذَا: (ثَنَا) مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن خَالِد، (ثَنَا) عبد الْأَعْلَى بن سَالم الكتاني، ثَنَا [أَبُو الْمُغيرَة عبد القدوس] بن الْحجَّاج، ثَنَا صَفْوَان بن عَمْرو، ثَنَا حسان بن أَزْهَر، عَن عمر بن الْخطاب، قَالَ: لَا تغتسلوا بِالْمَاءِ المشمس، فإنَّه ينْزع إِلَى البَرَص.
خَاتِمَة
ذكر الرَّافِعِيّ هُنَا، فِي الْكَلَام عَلَى مَا إِذا تَغَيَّر المَاء بِالتُّرَابِ: أنَّ الشَّرْع أَمر بالتعفير (من) ولوغ الْكَلْب. وَهُوَ كَمَا قَالَ، و (ستعلمه) فِي أثْنَاء الْبَاب (الْآتِي) - إِن شَاءَ الله.
(1/444)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
بَاب بَيَان النَّجَاسَات (وَالْمَاء النَّجس)
ذكر فِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرْبَعَة وَعشْرين حَدِيثا
الأول
الْخَبَر الْمَشْهُور: أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ دُعِي إِلَى دارٍ فَأجَاب، ودعي إِلَى دَار أُخرى فَلم يجب، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: «إنَّ فِي دَار فلَان كَلْبا» . فَقيل: وَفِي دَار فلَان هرَّة، فَقَالَ: «الهرَّة لَيست بِنَجِسة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَأْتِي دَار قوم من الْأَنْصَار، ودونهم دَار لَا يَأْتِيهَا، فشقَّ ذَلِك عَلَيْهِم، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله! تَأتي دَار فلَان، وَلَا تَأتي دَارنَا؟ ! فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إنَّ فِي (داركم)
(1/445)
كَلْبا» قَالُوا: فإنَّ فِي دَارهم سنورًا. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «السنور سبع» .
هَذَا لَفظهمْ، وَإِسْنَاده صَحِيح، كل رِجَاله ثِقَات، إلاَّ عِيسَى بن الْمسيب، فَفِيهِ مقَال.
وَكَذَا قَالَ الشَّيْخ فِي «الإِمام» ، وَالْمُنْذِرِي فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» : إِن إِسْنَاده صَحِيح إِلَيْهِ. وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَعِيسَى بن الْمسيب تفرد بِهِ عَن أبي زرْعَة، قَالَ: وَهُوَ صَدُوق وَلم يجرح قطّ. كَذَا قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله وَهَذَا من أعجب الْعجب، فقد تكلم جماعات. قَالَ يَحْيَى بن معِين، و (النَّسَائِيّ) : ضَعِيف. وَقَالَ يَحْيَى مرّة: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: ضَعِيف. وَقَالَ الرازيان: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن حبَان: يقلب الْأَخْبَار وَلَا يعلم، ويخطئ وَلَا يفهم، حتَّى خرج عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابِعه عَلَى هَذَا الحَدِيث إِلَّا مَن هُوَ مثله، أَو دونه. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أَبَا زرْعَة عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: لم يرفعهُ أَبُو نعيم، وَهُوَ أصح، وَعِيسَى لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَعَن الدَّارَقُطْنِيّ اخْتِلَاف فِيهِ، فَنقل ابْن الْجَوْزِيّ فِي «الضُّعَفَاء» عَنهُ أَنه قَالَ: هُوَ ضَعِيف. وَنقل الْبَيْهَقِيّ، وَالْمُنْذِرِي، وَصَاحب «الإِمام»
(1/446)
عَنهُ أَنه قَالَ: صَالح الحَدِيث، وَهُوَ مَا رَأَيْته فِي «سنَنه» عقب هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ وَالْمُنْذِرِي: قَالَ ابْن عدي: عِيسَى بن الْمسيب صَالح فِيمَا يرويهِ.
وضَعَّفه ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «الْعِلَل المتناهية فِي الْأَحَادِيث الْوَاهِيَة» بِسَبَبِهِ، وَقَالَ: إنَّه حَدِيث لَا يَصح.
وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي «شرح التِّرْمِذِيّ» : أشكل مَعْنَى هَذَا الحَدِيث - إنْ صحّ - وَقَالَ بَعضهم: سقط مِنْهُ، وَتَمَامه: «الْهِرَّة لَيست بِسبع» . قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَلَيْسَ (كَذَلِك) ، بل هِيَ سبع، والْحَدِيث تَامّ، وَالْمعْنَى فِيهِ: أَن الْهِرَّة سبع ذَات نَاب، ينْتَفع بهَا، وَالْكَلب لَا مَنْفَعَة فِيهِ.
وَمن الْعَجَائِب: أَن الشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيَّضَ لهَذَا الحَدِيث بَيَاضًا فِي «شرح الْمُهَذّب» وَلم يعزه لأحد، وَهُوَ مَوْجُود فِي الْكتب الْمَذْكُورَة، وَتَابعه الشَّيْخ نجم الدَّين ابْن الرّفْعَة فِي «الْمطلب» ، وَزَاد - لأجل أَنه لم يعزه -: إِنَّه غير مَشْهُور.
وَاعْلَم: أَن الإِمام الرَّافِعِيّ لم يُورد هَذَا الحَدِيث كَمَا سردته لَك، وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْحَيَوَانَات طَاهِرَة، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا ثَلَاثَة، أَحدهَا: الْكَلْب، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الحَدِيث الْمَشْهُور: «إِنَّهَا لَيست بنجسة» . قَالَ: وَوجه الِاسْتِدْلَال مَشْهُور. فأفصحت لَك بِهِ، وَإِيَّاك أَن تَقول: مُرَاده حَدِيث أبي قَتَادَة الْآتِي، فَإِن الْكَلْب لَيْسَ لَهُ ذكر فِيهِ، (فَافْهَم ذَلِك) .
(1/447)
وإنْ كَانَ ذَلِك وَقع فِي كتب أهل الْأُصُول فِي كَلَامهم عَلَى الْأَسْمَاء.
الحَدِيث الثَّانِي
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أُحِلَّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَان: السمكُ والجرادُ، والكبدُ وَالطحَال» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَئِمَّة: الشَّافِعِي، وَأحمد فِي «مسنديهما» ، وَابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» . من رِوَايَة: عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن زيد بن أسلم، عَن عبد الله بن عمر، أَنه قَالَ: «أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ ... » الْخَبَر. قَالَا: وَهُوَ الْأَصَح. يَعْنِي: أَن الْقَائِل: «أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ» ، هُوَ ابْن عمر؛ لِأَن الرِّوَايَة الأولَى - وَهِي رِوَايَة الْمَرْفُوع - ضَعِيفَة جدًّا، لأجل عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، فإنَّه ضَعِيف بِاتِّفَاق
(1/448)
الْحفاظ، ضعفه الإِمام أَحْمد، وَعلي بن الْمَدِينِيّ، حتَّى قَالَ: لَيْسَ فِي ولد زيد بن أسلم ثِقَة. وَأَبُو دَاوُد، وَأَبُو زرْعَة، وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ و (النَّسَائِيّ) ، وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: بَنو زيد بن أسلم لَيْسُوا بِشَيْء. وَقَالَ الشَّافِعِي: سَأَلَ رجل عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم: حَدَّثك أَبوك عَن أَبِيه: أنَّ سفينة نوح طافت بِالْبَيْتِ، وَصَلى خلف الْمقَام؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ الشَّافِعِي: ذُكِرَ لمَالِك حَدِيث، فَقَالَ: من حَدَّثك؟ فَذكر لَهُ إِسْنَادًا مُنْقَطِعًا، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، يحدِّثك عَن أَبِيه، عَن نوح - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يقلب الْأَخْبَار وَهُوَ لَا يعلم، حتَّى كَثُر ذَلِك فِي رِوَايَته، من رفع الْمَرَاسِيل، وَإسْنَاد الْمَوْقُوف، فَاسْتحقَّ التّرْك. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: ضَعَّفه الْجُمْهُور.
قلت: وَأخرج الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» حَدِيثا فِي مَنَاقِب سيدنَا
(1/449)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَفِيه عبد الرَّحْمَن هَذَا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الإِسناد، وَفِي ذَلِك نظر، لما عَلمته من أَقْوَالهم فِيهِ.
قَالَ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» : قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: رَوَى حَدِيثا مُنْكرا: أُحِلَّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ. يَعْنِي الإِمام أَحْمد: الرِّوَايَة الأولَى، وَأما الثَّانِيَة: فَهِيَ أصحّ مِنْهَا، كَمَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، وَأَبُو زرْعَة الرَّازِيّ، فإنَّ ابْن أبي حَاتِم نقل فِي «علله» أَنه قَالَ: الْمَوْقُوف أصح. كَمَا قَالَاه.
(مَعَ) أَن ابْن عدي فِي «كَامِله» قَالَ: رَوَاهُ يَحْيَى بن حَسَّان، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال مَرْفُوعا.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رفع هَذَا الحَدِيث أولادُ زيد عَن أَبِيهِم، وهم: عبد الله، وَأُسَامَة، وَعبد الرَّحْمَن بَنو زيد بن أسلم، عَن أَبِيهِم، عَن ابْن عمر، قَالَ: وَأَوْلَاد زيد كلهم ضعفاء، جرحهم يَحْيَى بن معِين،
(1/450)
وَكَانَ أَحْمد بن حَنْبَل، وَعلي بن الْمَدِينِيّ يوثقان عبد الله بن زيد، إلاَّ أَن الصَّحِيح من هَذَا الحَدِيث هُوَ الأول، يَعْنِي: الْمَوْقُوف الَّذِي قدمه.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْوَسِيط» : هَذَا الحَدِيث ضَعِيف عِنْد أهل الحَدِيث، غير أَنه متماسك. قَالَ: وَأَوْلَاد زيد، وإنْ كَانُوا قد ضُعِّفوا ثَلَاثَتهمْ، فعبد الله مِنْهُم: قد وثَّقه أَحْمد، وَعلي بن الْمَدِينِيّ. قَالَ: وَفِي اجْتِمَاعهم عَلَى رَفعه مَا يقويه تَقْوِيَة صَالِحَة.
قلت: وجنح الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» إِلَى تَصْحِيح الرِّوَايَة المرفوعة من طَرِيق عبد الله بن زيد، فإنَّه قَالَ - عقب قَول الْبَيْهَقِيّ: إِن أَحْمد بن حَنْبَل (و) عَلّي بن الْمَدِينِيّ كَانَا يوثِّقان عبد الله بن زيد، إِلَى آخِره -: إِذا كَانَ عبد الله عَلَى مَا قَالَاه، فَيدْخل حَدِيثه فِيمَا رَفعه الثِّقَة، وَوَقفه غَيره، (قَالَ) وَقد عُرِف مَا فِيهِ عِنْد الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء. يَعْنِي: والأصحّ تَقْدِيم مَا رَوَاهُ (الرافع) ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة، وَهِي من الثِّقَة مَقْبُولَة.
(قَالَ) : لاسيما وَقد تَابعه عَلَى ذَلِك أَخَوَاهُ. أَي: فَلَا يُسَلَّم أَن الصَّحِيح الأول كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ، (فَتكون هَذِه الطَّرِيقَة حَسَنَة، مَعَ أَن الرِّوَايَة الْأُخْرَى يحسن الِاسْتِدْلَال بهَا. قَالَ الْبَيْهَقِيّ) : هِيَ فِي مَعْنَى الْمسند.
قلت: (لِأَن) قَول الصَّحَابِيّ: «أمرنَا بِكَذَا» ، «ونهينا عَن كَذَا» ، «وأحلَّ كَذَا» ، «وحُرِّم كَذَا» : مَرْفُوع إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (عَلَى الْمُخْتَار) عِنْد
(1/451)
جُمْهُور الْفُقَهَاء، والأصوليين، والمحدثين.
لَا جرم أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح، وَالشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ قَالَا: يحصل الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الرِّوَايَة؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمَرْفُوع.
وَلِهَذَا الحَدِيث طَريقَة (ضَعِيفَة) جدًّا، غَرِيبَة، لَا بَأْس بالتنبيه عَلَيْهَا، وَهِي: عَن الْمسور بن الصَّلْت، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، مَرْفُوعا كَمَا تقدم.
قَالَ الدارقطني: لَا يصحّ؛ لِأَن الْمسور كَانَ ضَعِيفا.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد (كَذًَّبه) أَحْمد. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي عَن الثِّقَات الموضوعات، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ.
الحَدِيث الثَّالِث
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا وَقع الذُّبَابُ فِي إناءِ أحدِكم، فامْقُلُوهُ، فَإِن فِي أَحَدِ جَنَاحَيْه شِفَاء، وَفِي الآخرِ دَاء، وإنَّه يُقَدِّم الدَّاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، يُروى من طَرِيقين:
أَحدهمَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (رَوَاهُ) : البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَنهُ مَرْفُوعا، وَهَذَا لَفظه: «إِذا وَقع الذُّبَاب فِي إِنَاء أحدكُم
(1/452)
فليغمسه كُله، ثمَّ لينزعه، فإنَّ فِي أحد جناحيه دَاء، وَفِي الآخر شِفَاء» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان، فِي «صَحِيحهمَا» عَنهُ مَرْفُوعا أَيْضا، بِلَفْظ: «إِذا وَقع الذُّبَاب فِي إِنَاء أحدكُم، فليغمسه، فإنَّ فِي أحد جناحيه دَاء وَفِي الآخر شِفَاء، وإنَّه يَتَّقِي (بجناحه) الَّذِي فِيهِ الدَّاء، فليغمسه كُله، ثمَّ يَنْزعهُ» . وَهَذِه الرِّوَايَة مُوَافقَة لما أوردهُ الإِمام الرَّافِعِيّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه بِلَفْظ: «إِذا وَقع الذُّبَاب فِي شرابكم، فليغمسه فِيهِ، ثمَّ ليطرحه، فإنَّ فِي أحد جناحيه دَاء، وَفِي الآخر شِفَاء» . وَأخرجه الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» من حَدِيث عبيد بن حنين، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، بِلَفْظ البُخَارِيّ إلاَّ أَنه قَالَ: «سقط» بدل «وَقع» . ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث (حَمَّاد بن سَلمَة، عَن) ثُمامة بن عبد الله بن أنس، عَن أبي هُرَيْرَة (مَرْفُوعا) بِلَفْظ البُخَارِيّ، إلاَّ أَنه لم يقل: «ثمَّ لينزعه» ثمَّ قَالَ الدَّارمِيّ: قَالَ [غير] حَمَّاد: عَن ثُمَامَة، عَن أنس، مَكَان أبي هُرَيْرَة، وَقوم يَقُولُونَ: عَن الْقَعْقَاع، عَن أبي هُرَيْرَة، وَحَدِيث عبيد بن حنين أصح. وَأخرجه ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح»
(1/453)
من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا بِلَفْظ: «إِذا وَقع الذُّبَاب فِي إِنَاء أحدكُم فليمقله، فَإِن فِي أحد جناحيه دَوَاء، وَفِي الآخر دَاء، أَو قَالَ: سم» .
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، بِلَفْظ: «فِي أحد جناحي الذُّبَاب سُمٌّ، وَفِي الآخر شِفَاء، فَإِذا وَقع فِي الطَّعَام، فامقلوه فِيهِ، فإنَّه يقدم السم، وَيُؤَخر الشِّفَاء» وكل رِجَاله مخرج لَهُم فِي الصَّحِيح، خلا سعيد بن خَالِد القارظي الْمدنِي، فإنَّ النَّسَائِيّ ضَعَّفه، مَعَ أَنه أخرج لَهُ هَذَا الحَدِيث فِي «سنَنه» ، بِلَفْظ: «إِذا وَقع الذُّبَاب فِي إِنَاء أحدكُم فليمقله» .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يحْتَج بِهِ. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» لَا جرم أخرجه فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «إِذا وَقع الذُّبَاب فِي إِنَاء أحدكُم فامقلوه، فإنَّ فِي أحد جناحيه دَاء، وَفِي الآخر دَوَاء» وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظِهِ سَوَاء، وَزَاد: «وَإنَّهُ يُؤَخر الدَّوَاء، وَيقدم السم» وَكَذَا أَحْمد، إلاَّ أنَّ لَفظه «وَيُؤَخر الشِّفَاء» .
مَعْنَى «امقلوه» : اغمسوه، كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
وَله طَرِيق ثَالِث ضَعِيفَة، لَا بَأْس بالتنبيه عَلَيْهَا، وَهِي عَن ثُمَامَة، (عَن) أنس مَرْفُوعا: «إِذا وَقع الذُّبَاب فِي إِنَاء أحدكُم، فليغمسه
(1/454)
(فِيهِ) ، فإنَّ فِي أحد جناحيه (دَاء) ، وَفِي الآخر شِفَاء» .
ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» وَقَالَ: سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة (عَنهُ) ، فَقَالَا: هَذَا خطأ، وَالصَّحِيح: حَدِيث ثُمَامَة عَن أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر مِنْهَا: سَأَلت أبي عَنهُ - أَي عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة قيس بن خَالِد عَنهُ - فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُضْطَرب الإِسناد. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : رَوَاهُ ثُمَامَة، عَن أنس مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ ثُمَامَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَقَالَ: الْقَوْلَانِ محتملان. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر (مِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة) هُوَ الصَّوَاب.
الحَدِيث الرَّابِع
عَن سلمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يَا سلمَان كل طَعَام وشراب، وَقعت فِيهِ (دابةٌ) لَيْسَ لَهَا دم، فَمَاتَتْ، فَهُوَ حلالٌ أَكْلهُ وشربهُ ووضوؤه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، فِي «سُنَنهمَا» ،
(1/455)
من رِوَايَة بَقِيَّة (بن الْوَلِيد) ، أبي يُحمد - بِضَم الْيَاء، وَأَصْحَاب الحَدِيث فتحوها، كَمَا قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ - عَن سعيد بن أبي سعيد، (الزبيدِيّ، عَن بشر بن مَنْصُور، عَن عَلّي بن زيد بن جدعَان، عَن سعيد) بن الْمسيب، عَن سلمَان بِهِ.
وَهُوَ مَعْلُول من أوجه:
أَولهَا: أَن بَقِيَّة ضَعِيف من وَجْهَيْن، أَحدهمَا: التَّدْلِيس. وَالثَّانِي: الضعْف مُطلقًا. قَالَ الإِمام أَحْمد: إِذا (حَدَّث) عَن قوم لَيْسُوا بمعروفين فَلَا. (أَي) : لَا يقبل. وَقَالَ أَبُو مسْهر: أَحَادِيث بَقِيَّة غير نَقِيَّة، فَكُن مِنْهَا عَلَى تَقِيَّة. وَقَالَ ابْن حبَان: سمع من شُعْبَة وَمَالك وَغَيرهمَا أَحَادِيث مُسْتَقِيمَة، ثمَّ سمع من أَقوام كَذَّابين عَن شُعْبَة، وَمَالك، فروَى عَن الثِّقَات بالتدليس مَا سمع من الضُّعَفَاء، وَكَانَ أَصْحَابه يَفْعَلُونَ ذَلِك فِي حَدِيثه، فَلَا يحْتَج بِهِ.
وَقَالَ النَّسَائِيّ: إِذا قَالَ نَا، وأنبأنا فَهُوَ ثِقَة. وَكَذَا قَالَ ابْن معِين، والرازيان: إِذا حدث عَن ثِقَة.
وَأخرج لَهُ مُسلم مستشهدًا بِهِ فِي حَدِيث وَاحِد، وَهُوَ حَدِيثه عَن الزبيدِيّ، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَفعه: «من دُعِي إِلَى (عرس) وَنَحْوه فليجب» .
(1/456)
(قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» ) : لَيْسَ لبَقيَّة فِي الصَّحِيح سواهُ.
و (قيل) أخرج لَهُ مُسلم مُتَابعَة، وَقيل: أصلا، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي الْأَدَب، (خَارج الصَّحِيح) ، وَاسْتشْهدَ بِهِ فِي «الصَّحِيح» فِي بَاب: من [أخفَّ] الصَّلَاة عِنْد بكاء الصَّبِي.
قَالَ ابْن دحْيَة فِي (كتاب «التَّنْوِير فِي مولد السراج الْمُنِير» ) : الْعجب مِنْهُ كَيفَ أخرج لبَقيَّة فِي «صَحِيحه» وَهُوَ يُدَلس أقبح التَّدْلِيس، وَكَانَ يُسَوِّي ويحذف اسْم الضَّعِيف، وَقد كَانَ لَهُ رُوَاة يَفْعَلُونَ ذَلِك. (قَالَ) : وَقد كَانَ أَخَذَ عَلَى مُسلم فِي ذَلِك الحافظُ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ، (قَالَ) : مَعَ أَنه إنَّما خَرَّج (عَنهُ) من طَرِيق الشاميين، وَرِوَايَته عَنْهُم صَالِحَة عِنْد بَعضهم. (قَالَ ابْن عدي فِي «كَامِله» : إِذا رَوَى بَقِيَّة عَن أهل الشَّام فَهُوَ ثَبت، وَقَالَ ابْن طَاهِر: حكم الْحَافِظ بِأَن بَقِيَّة إِذا رَوَى عَن غير الشاميين لَا يعْتد بروايته) .
(1/457)
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : مَا يرويهِ بَقِيَّة عَن الضُّعَفَاء والمجهولين لَيْسَ بمقبول مِنْهُ، كَيفَ وَقد أَجمعُوا عَلَى أَن بَقِيَّة لَيْسَ بِحجَّة. هَذَا لَفظه برمتِهِ.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان: بَقِيَّة يدلِّس عَن الضُّعَفَاء، ويستبيح ذَلِك، (وَهُوَ) - إنْ صحَّ - مُفسد لعدالته. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : نعم وَالله، صحَّ هَذَا عَنهُ.
وَقَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «أَمَالِيهِ» : بَقِيَّة ثِقَة، إلاَّ (أَنه) يكْتب ويروي عَن كل أحد. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الضُّعَفَاء» : بَقِيَّة ثِقَة فِي نَفسه، لكنه يدلِّس (عَن) الْكَذَّابين.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن سعيد بن أبي سعيد الزبيدِيّ: مَجْهُول، كَمَا قَالَه أَبُو أَحْمد الْحَاكِم، وَكَذَلِكَ ابْن عدي، وَنَقله ابْن الْجَوْزِيّ عَنهُ فِي كِتَابيه: «الضُّعَفَاء» ، و «التَّحْقِيق» ، وأقرَّه. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. (وَلَا تنَافِي بَينه وَبَين الأول، لِأَن الْمَجْهُول ضَعِيف أَيْضا) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي هَذَا الْبَاب: قَالَ ابْن عدي: الْأَحَادِيث الَّتِي يَرْوِيهَا سعيد
(1/458)
الزبيدِيّ عامتها لَيست بمحفوظة. وَقَالَ فِيهَا، فِي بَاب الصَّائِم يكتحل: سعيد الزبيدِيّ من مَجَاهِيل شُيُوخ بَقِيَّة، ينْفَرد بِمَا لَا يُتابع عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : لَا يُعرف، وَأَحَادِيثه سَاقِطَة. وَقَالَ فِي «الضُّعَفَاء» : قَالَ ابْن عدي: هُوَ مَجْهُول. ثمَّ قَالَ: لَا سِيمَا وَقد تفرد عَنهُ بَقِيَّة. وَخَالف الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب (فوثقه) ، فَقَالَ - عَلَى مَا نقل الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» -: إِن اسْم أبي سعيد: عبد الْجَبَّار، قَالَ: وَكَانَ (سعيد) بن أبي سعيد ثِقَة. قَالَ الشَّيْخ: وَقَول الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ ضَعِيف. لَا يُريدهُ، وَيُرِيد بَقِيَّة.
وَأَبُو حَاتِم ابْن حبَان، فَذكره فِي «ثقاته» ، وَأَنه من أهل الشَّام، وَأَن أهل بَلَده رووا عَنهُ.
الْوَجْه الثَّالِث: أَن عَلّي بن زيد بن جدعَان: ضَعَّفه ابْن عُيَيْنَة. وَقَالَ حَمَّاد بن زيد: كَانَ يقلب الْأَحَادِيث. وَذكر شُعْبَة أَنه اخْتَلَط. وَقَالَ أَحْمد وَيَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ يَحْيَى مرّة: ضَعِيف فِي كل شَيْء. وَقَالَ الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِقَوي. [وَقَالَ ابْن حبَان] :
(1/459)
(يهم) ويخطئ، فَكثر ذَلِك فَاسْتحقَّ التّرْك. وَأخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا بِثَابِت (الْبنانِيّ) . وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الضُّعَفَاء» : حسن الحَدِيث (صَاحب غرائب) ، احْتج بِهِ بَعضهم. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِقَوي. وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء.
الْوَجْه الرَّابِع: أَنه لَا يُعلم متابع لبَقيَّة عَلَيْهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا الحَدِيث لم يروه غير بَقِيَّة، عَن سعيد بن أبي سعيد الزبيدِيّ. وَلأَجل هَذِه الْعِلَل، قَالَ الْحَافِظ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ.
الحَدِيث الْخَامِس
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا أُبِيْنَ من حيٍّ، فَهُوَ مَيِّت» .
هَذَا الحَدِيث قَاعِدَة عَظِيمَة من قَوَاعِد الْأَحْكَام، وَهُوَ مَرْوِيّ من طُرُق، الَّذِي يحضرنا مِنْهَا أَرْبَعَة:
أَولهَا: - وَهِي أقرب إِلَى لفظ الْكتاب - عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (سُئل) عَن جِباب أسنمة الإِبل، وأَلَيَات الْغنم، فَقَالَ: مَا قُطِع من حَيّ، فَهُوَ ميت» .
(1/460)
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي موضِعين مِنْهُ، وَقَالَ فِي كتاب الذَّبَائِح - وَهُوَ الْموضع الثَّانِي -: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» - وَقد سُئِلَ عَنهُ -: إنَّه رُوِيَ عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد، وَعَن عَطاء بن يسَار مُرْسلا، و (أَن) الْمُرْسل أشبه بِالصَّوَابِ.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أبي وَاقد، الْحَارِث بن عَوْف - وَقيل عَكسه - اللَّيْثِيّ، (البدري) ، قَالَ: «قدم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَدِينَة، وهم يجبونَ أسنمة الإِبل، ويقطعون أَلَيَات الْغنم، فَقَالَ: مَا يُقْطَعُ من الْبَهِيمَة وَهِي حَيَّة، فَهُوَ ميتَة» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِهَذَا اللَّفْظ، وَكَذَا الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَلَفظه: أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَا قُطِعَ من الْبَهِيمَة وَهِي حَيَّة، فَهُوَ ميت» .
وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» وَلَفظه: «كَانَ [النَّاس] فِي الْجَاهِلِيَّة قبل الإِسلام يَجُبُّون أسنمة الإِبل، [ويقطعون أليات الْغنم فيأكلونها] ، ويحملون مِنْهَا الودك، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، سَأَلُوهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: «مَا قُطع من الْبَهِيمَة وَهِي حَيَّة، فَهُوَ ميت» .
(1/461)
وَأخرجه أَيْضا أَحْمد فِي «مُسْنده» وَلَفظه: «قدم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَدِينَة، وَبهَا نَاس يَعْمِدُونَ إِلَى أَلَيات الْغنم، وَأَسْنِمَة الإِبل، (فيجبونها) ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا قُطع من الْبَهِيمَة وَهِي حَيَّة فَهُوَ ميتَة» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث زيد بن أسلم. قَالَ ابْن القطَّان: وإنَّما لم يصحِّحه التِّرْمِذِيّ، لِأَنَّهُ من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار، وَهُوَ يُضَعَّف، وإنَّ كَانَ البُخَارِيّ قد أخرج لَهُ.
قلت: لَكِن الْحَاكِم رَحِمَهُ اللَّهُ لم يَعْبَأْ بِهَذَا التَّضْعِيف، فَأخْرجهُ فِي «الْمُسْتَدْرك» كَمَا تقدَّم، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الإِسناد. قلت: أَي عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَخَالف أَبُو زرْعَة، فَقَالَ - عَلَى مَا نَقله ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» -: إنَّ هَذَا الحَدِيث وهمٌ، وَأَن الصَّحِيح: حَدِيث زيد بن أسلم عَن ابْن عمر. يَعْنِي الْآتِي إِثْر هَذَا، وَفِي ذَلِك نظر. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عَلَى هَذَا الحَدِيث عِنْد أهل الْعلم.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن زيد بن أسلم، عَن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا قُطِعَ من الْبَهِيمَة وَهِي حَيَّة، فَهُوَ ميت» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَالْبَزَّار فِي «مُسْنده» وَضَعفه الْحَافِظ
(1/462)
عبد الْحق فِي «أَحْكَامه الْكُبْرَى» فَقَالَ - عَلَى مَا نَقله ابْن القَطَّان فِي «علله» عَنهُ -: فِي إِسْنَاده هِشَام بن سعد، وَهُوَ ضَعِيف.
(قلت: قد أخرجه ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَلَيْسَ فِي إِسْنَاده هَذَا الرجل، بل فِيهِ: يَعْقُوب بن حميد بن كاسب الْمدنِي، وَقد تكلَّم فِيهِ النَّسَائِيّ والرازي. وَاخْتلف قَول يَحْيَى فِيهِ، فَمرَّة ضَعَّفه، وَمرَّة وثَّقه. وَقَالَ الْحَاكِم فِي كتاب التَّفْسِير من «الْمُسْتَدْرك» : مَا تَكَلَّم فِيهِ أحدٌ بِحجَّة. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «أَخْبَار الشهَاب» : [أخرج] عَنهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه.
قلت: صَرِيحًا لَا، فَالَّذِي فِيهِ: نَا يَعْقُوب، نَا إِبْرَاهِيم بن سعد. وَالظَّاهِر أَنه هُوَ) .
(و) أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» بِدُونِهِ، فَرَوَاهُ من حَدِيث عبد الله بن نَافِع الصَّائِغ، عَن عَاصِم بن عمر، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر، مَرْفُوعا: «مَا قُطِع من الْبَهِيمَة وَهِي حَيَّة، فَالَّذِي قُطع من لَحمهَا فَلَا يَأْكُلهُ أحد» .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يَرْوِه عَن عَاصِم بن عمر إلاَّ عبد الله بن نَافِع.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : عبد الله بن نَافِع من كبار
(1/463)
أَصْحَاب مَالك، مفتي بِالْمَدِينَةِ، وَيَحْيَى بن الْمُغيرَة، الرَّاوِي عَنهُ: قَالَ أَبُو حَاتِم فِيهِ: صَدُوق، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: وَهَذَا الطَّرِيق أَجود من الطَّرِيق الْآتِيَة بعْدهَا.
قلت: من غير شكّ فِي ذَلِك، وَلَا مرية، وَقد أخرجهَا ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» ، لَكِن ذكر ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» هَذِه الطَّرِيق، وَقَالَ: سَأَلت أبي عَنْهَا فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن تَمِيم الدَّارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يكون فِي آخر الزَّمَان قوم، يجبونَ أسنمة الإِبل، ويقطعون أَلَيات الْغنم، فَمَا قُطِع من حَيّ فَهُوَ ميت» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» كَذَلِك، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بِلَفْظ: «قيل للنَّبِي (: إِن قوما يجبونَ أسنمة الإِبل، ويقطعون أَذْنَاب الْغنم؟ قَالَ: « (كلُ مَا) قُطِعَ من الحيِّ فَهُوَ ميت» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «قَالُوا: يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِن نَاسا) يجبونَ أسنمة الإِبل، وأذناب الْغنم وَهِي أَحيَاء، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا قُطع من الْبَهِيمَة وَهِي حَيَّة، فَهُوَ ميت» .
(1/464)
(وَفِي إِسْنَاده واهٍ و) مُخْتَلف فِيهِ، أما الأول: فَهُوَ أَبُو بكر الْهُذلِيّ، واسْمه: سُلْمى - بِالضَّمِّ - قَالَ غنْدر: كَذَّاب. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ عَلّي: ضَعِيف لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَعلي بن الْجُنَيْد: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (مُنكر ومتروك) .
وَأما الثَّانِي: فَهُوَ شهر بن حَوْشَب، وَهُوَ من عُلَمَاء التَّابِعين، وَفِيه مقَال، وثَّقه أَحْمد، وَيَحْيَى بن معِين، وَيَعْقُوب بن شيبَة، (وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَا هُوَ بِدُونِ أبي الزبير) ، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا بَأْس بِهِ. وَأخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا (بآخر) ، وَأخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيثه عَن أم سَلمَة: أَنه - عَلَيْهِ السَّلَام - جَلَّل الْحسن، وَالْحُسَيْن، و [عليا] ، وَفَاطِمَة بكساء. .» الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: حسن صَحِيح.
وَأخرج لَهُ الْحَاكِم فِي كتاب (الْقرَاءَات) من «مُسْتَدْركه»
(1/465)
حَدِيثا، (وَقَالَ: لم أخرج لَهُ فِي كتابي غَيره) .
(وَقَالَ ابْن القَطَّان: لم أسمع (لمضعفيه) حجَّة، وَمَا ذَكرُوهُ إمَّا لَا يَصح، وإمَّا خَارج عَلَى مخرج لَا يضرّهُ، وَأخذ الخريطة: كذبٌ عَلَيْهِ، وتَقَوُّل شَاعِر أَرَادَ عَيبه) .
وَقَالَ النَّسَائِيّ، وَغَيره: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي عَن الثِّقَات المعضلات، [وَعَن الْأَثْبَات المقلوبات] عَادَلَ عباد بن مَنْصُور فِي الْحَج، فَسرق عيبته، فَهُوَ [الَّذِي يَقُول فِيهِ] الْقَائِل:
لَقَدْ بَاعَ شهرٌ دينه بخريطةٍ
فَمَنْ يَأْمَن الْقُرَّاء بعْدك يَا شهرُ
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَالَّذِي رَأينَا فِي التَّارِيخ: (أَنه) أَخذ تِلْكَ الخريطة من بَيت المَال - وَكَانَ عَاملا عَلَيْهِ - وَذَلِكَ أَمر قريب. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد قَالَ يَحْيَى بن أبي بكر الكِرماني، عَن أَبِيه: كَانَ شهر بن حَوْشَب عَلَى بَيت المَال، فَأخذ خريطة فِيهَا دَرَاهِم، فَقَالَ الْقَائِل: لقد بَاعَ شهر. . الْبَيْت.
(1/466)
وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: قَالَ عَلّي بن مُحَمَّد: قَالَ أَبُو بكر الْبَاهِلِيّ: كَانَ شهر بن حَوْشَب عَلَى خَزَائِن يزِيد بن الْمُهلب، فَرفعُوا عَلَيْهِ أَنه أَخذ خريطة، فَسَأَلَهُ يزِيد عَنْهَا، (فَأَتَى) بهَا، فَدَعَا يزِيد الَّذِي رفع إِلَيْهِ فشتمه، وَقَالَ لشهر: هِيَ لَك. قَالَ: لَا حَاجَة لي فِيهَا.
فَقَالَ الْقطَامِي الْكَلْبِيّ - وَيُقَال: سِنَان بن مكبل النميري -:
لَقَدْ بَاعَ شهرٌ دينَه بخريطةٍ
فَمَنْ يَأْمَن الْقُرَّاء بعْدك يَا شهرُ
(أخذت بهَا) شَيْئا طفيفًا وبعته
من ابْن جرير إِن هَذَا هُوَ الغدرُ
وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» - قبيل الْكَلَام عَلَى غسل الْوَجْه - عَن الْأَكْثَرين توثيقه، وَأَن الْجرْح كَانَ مُسْتَندا إِلَى مَا لَيْسَ بجارح.
الحَدِيث السَّادِس
«سُئِلَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أفضلت الحُمُر؟ قَالَ: نعم، وَبِمَا أفضلت السِبَاعُ كُلُّها» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» عَن إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى، عَن دَاوُد بن الْحصين، عَن أَبِيه، عَن جَابر بن عبد الله، (قَالَ) : «قيل: يَا رَسُول الله، أَنَتَوَضَّأُ ... » الحَدِيث، كَمَا ذكر المُصَنّف.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «مُسْنده» عَن سعيد بن سَالم - وَهُوَ القَدَّاح -
(1/467)
(عَن) (ابْن) أبي حَبِيبَة - أَو ابْن حَبِيبَة - عَن دَاوُد بن الْحصين، عَن جَابر بِهِ. وَهَذَا الشَّك فِي أَنه (ابْن) أبي حَبِيبَة أَو ابْن حَبِيبَة، شكٌ من الرّبيع، كَمَا رَوَاهُ الْأَصَم، وَالرجل هُوَ: ابْن أبي حَبِيبَة بِلَا شكّ. وَقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن النَّيْسَابُورِي عَن الرّبيع، فَقَالَ: ابْن (أبي) حَبِيبَة بِلَا شكّ، لَكِن لَفظه: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ بِمَا أفضلت السبَاع» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ - بعد أَن أخرجه من طَرِيق الشَّافِعِي الأولَى -: وَفِي غير روايتنا، قَالَ الشَّافِعِي: وأُخْبِرنا عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن دَاوُد بن الْحصين بِمثلِهِ. وَحَاصِل مَا يُعلَّل بِهِ هَذَا الحَدِيث وَجْهَان:
أَحدهمَا: الِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده، حَيْثُ رُوِيَ عَن دَاوُد بن الْحصين، عَن جَابر، وَعَن دَاوُد عَن أَبِيه، عَن جَابر كَذَلِك.
رَوَاهُ جماعات: الزَّعْفَرَانِي، وَالربيع عَن الشَّافِعِي، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الشَّافِعِي وَعبد الرَّزَّاق، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن دَاوُد بن الْحصين، وَابْن أبي ذِئْب عَن دَاوُد.
(1/468)
قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : فَيُشبه أَن تكون الرِّوَايَة الأولَى مُرْسلَة، (قَالَ) : وَيدل عَلَيْهِ أَنهم لم يذكرُوا فِي تَعْرِيف دَاوُد بن الْحصين رِوَايَته عَن جَابر، ولاغيره من الصَّحَابَة. (وَذكر هَذَا التَّعْلِيل الإِمام أَبُو الْقَاسِم الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» ) ، وَهُوَ تَعْلِيل لَا يقْدَح؛ لِأَن الحَدِيث رُوي من طَرِيقين، إِحْدَاهمَا مَقْطُوعَة، وَالْأُخْرَى مُتَّصِلَة، وَالْحكم للمتصلة.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن فِي إِسْنَاده جمَاعَة تُكُلِّم فيهم:
أَوَّلهمْ: إِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى، وَالْجُمْهُور عَلَى تَضْعِيفه، كَمَا مر فِي الْبَاب قبله، وصَرَّح ابْن عدي بِأَن الْبلَاء فِي هَذَا الحَدِيث مِنْهُ، وَقَالَ فِي تَرْجَمَة ابْن أبي يَحْيَى: كَأَنَّهُ أُتِي من قِبَل شَيْخه - يَعْنِي دَاوُد بن الْحصين - (لَا من قبله. فَاخْتلف كَلَامه) .
وثانيهم: سعيد بن سَالم القَدَّاح. أدخلهُ البُخَارِيّ فِي كتاب «الضُّعَفَاء» وَقَالَ: إنَّه يُرمى بالإِرجاء. وَقَالَ عُثْمَان بن سعيد: لَيْسَ هُوَ بِذَاكَ. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَحَله الصدْق. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ عِنْدِي صَدُوق.
(1/469)
وثالثهم: إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن أبي حَبِيبَة الأشْهَلِي الْمدنِي. قَالَ البُخَارِيّ: عِنْده مَنَاكِير. وَقَالَ (النَّسَائِيّ) : ضَعِيف. وَقَالَ أَحْمد: ثِقَة. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين مرّة: صَالح الحَدِيث. وَمرَّة قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَمرَّة قَالَ: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ صَالح فِي بَاب الرِّوَايَة يكْتب حَدِيثه مَعَ ضعفه. (وَقَالَ) [مُحَمَّد بن سعد كَاتب الْوَاقِدِيّ] : كَانَ مصليًّا عابدًا، صَامَ سِتِّينَ سنة، وَكَانَ قَلِيل الحَدِيث. وأَعَلَّه الإِمام أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ بِوَجْه ثَالِث، فَقَالَ فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» : دَاوُد بن الْحصين قَالَ فِيهِ ابْن حبَان: إِنَّه حَدَّث عَن الثِّقَات بِمَا (لَا) يشبه حَدِيث الْأَثْبَات، يجب مجانبة رِوَايَته.
قلت: هَذَا الْوَجْه لَيْسَ بِشَيْء، فإنَّ دَاوُد بن الْحصين، وإنْ كَانَ تَكَلَّم فِيهِ ابْن حبَان وَغَيره، فإنَّه ثِقَة مَشْهُور، رَوَى لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَلَى سَبِيل الِاحْتِجَاج بِهِ، وَرَوَى عَنهُ الإِمام مَالك، وَقد عُلِمَ شدَّة تحرِّيه فِي الرِّجَال، وَلأَجل ذَلِك قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَوْلَا أنَّ مَالِكًا (رَوَى عَنهُ) لتُرك حَدِيثه. ووثَّقه يَحْيَى بن معِين وَغَيره. وَقَالَ (النَّسَائِيّ) (وَغَيره) : لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن عدي: إِذا رَوَى عَنهُ
(1/470)
ثِقَة فَهُوَ صَالح الرِّوَايَة، إلاَّ أَن يروي عَنهُ ضَعِيف، فَيكون الْبلَاء مِنْهُ، مثل: ابْن أبي (حَبِيبَة) ، وَإِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى. مَعَ أَن ابْن حبَان ذكره فِي كتاب «الثِّقَات» لَكِن رَمَاه بِأَنَّهُ (كَانَ) يذهب مَذْهَب الشراة - يَعْنِي الْخَوَارِج - لَكِن لم يكن دَاعِيَة حَتَّى يُجْتَنَب مَا رَوَاهُ.
قلت: ووالد دَاوُد ضَعَّفه أَبُو حَاتِم وَغَيره. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الْمعرفَة» : هَذَا الحَدِيث إِذا ضُمَّت أسانيده بَعْضهَا إِلَى بعض أخذت قُوَّة. قَالَ: وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيث أبي قَتَادَة، وَإِسْنَاده صَحِيح، والاعتماد عَلَيْهِ.
الحَدِيث السَّابِع
«أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَكِب فَرَسًا (مُعْروريًا) لأبي طَلْحَة» .
هَذَا حَدِيث صَحِيح، مُتَّفق عَلَى صِحَّته، رَوَاهُ إِمَامًا الْمُحدثين: أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وَأَبُو الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج الْقشيرِي رضوَان الله عَلَيْهِمَا فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، من
(1/471)
رِوَايَة أنس بن مَالك - خَادِم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الَّذِي رُزِق ببركة دُعَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أكثرَ من مائَة وَعشْرين ولدا، وَتحمل نخله فِي السّنة مرَّتَيْنِ، وَكَانَ يجيدُ الرَّمْي عَلَى كبر سِنِّه. أَفَادَ ذَلِك كُله الرَّافِعِيّ فِي «أَمَالِيهِ» (وَغَيره) . قَالَ: وَلما (طَال عمره) كَانَ (يشد) أَسْنَانه بِالذَّهَب، وَهُوَ آخر الصَّحَابَة موتا بِالْبَصْرَةِ.
قلت: وَرَوَى الحَدِيث الَّذِي ذكره المُصَنّف: مُسلم، من رِوَايَة جَابر بن سَمُرَة بن جُنَادَة بن جُنْدُب العامري السوَائِي، حَلِيف بني زهرَة، و [خَاله] سعد بن أبي وَقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
وَاعْلَم أَنه وَقع فِي الحَدِيث الْمَذْكُور: « (ركب) فرسا لأبي طَلْحَة عُرْيًا» . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «مُعْرَوْرًا» فَالْأول: بِضَم الْعين، وَسُكُون الرَّاء. وَالثَّانِي: بِضَم الْمِيم. قَالَ (صاحبا) «الْمَشَارِق» ، و «الْمطَالع» : (أَي) لَيْسَ عَلَيْهِ سَرْج، وَلَا (أَدَاة) . (قَالاَ) : وَلَا يُقال مثل هَذَا فِي الْآدَمِيّين، وإنَّما يُقال: عُرْيَان، وَلَا يُقَال: (افعوعل) ، معدًّى إلاَّ فِي:
(1/472)
اعروريت الْفرس، واحلوليت الشَّيْء.
وَوَقع فِي الرَّافِعِيّ: معروريًا، بِزِيَادَة (يَاء) بعد الرَّاء، وَالْمَعْرُوف مَا ذَكرْنَاهُ (مِنْهُم، هُوَ اسْم فَاعل) .
الحَدِيث الثَّامِن
«أنَّ أَبَا طيبةَ الحَجَّام شَرِبَ دمَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يُنْكِرْ عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، لَا أعلم من خَرَّجه بعد شدَّة الْبَحْث عَنهُ. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْوَسِيط» : هَذَا الحَدِيث غَرِيب عِنْد أهل الحَدِيث، لم أجدْ لَهُ مَا يثبت بِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث مَعْرُوف، لكنه ضَعِيف.
قلت: فِي «تَارِيخ الْمَجْرُوحين» (لِابْنِ حبَان) ، بِإِسْنَادِهِ عَن نَافِع، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «حَجَمَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غلامٌ لبَعض قُرَيْش، فَلَمَّا فرغ من حجامته، أَخذ الدَّم فَذهب بِهِ من وَرَاء الْحَائِط، فَنظر يَمِينا وَشمَالًا، فلمَّا لَمْ (يَرَ) أحدا تَحَسَّى دَمه حتَّى فرغ، ثمَّ أقبل، فَنظر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فِي وَجهه) ، فَقَالَ: وحيك مَا صنعت بِالدَّمِ؟ قلت: غيبته من (وَرَاء) الْحَائِط. قَالَ: أَيْن غيبته؟ قلت: يَا
(1/473)
رَسُول الله، (نَفِسْتُ) عَلَى دمك أَن أهريقه فِي الأَرْض، فَهُوَ فِي بَطْني. قَالَ: اذْهَبْ فقد أحرزت نَفسك من النَّار» . فَلَعَلَّ هَذَا الْغُلَام الْمُبْهم هُوَ أَبُو (طيبَة) . لَكِن هَذَا الحَدِيث ضَعِيف جدا. قَالَ ابْن حبَان: لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِنَافِع، رَوَى عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس، وَعَائِشَة نُسْخَة مَوْضُوعَة مِنْهَا هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى: كَذَّاب. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح.
وَوَقع فِي «الْوَسِيط» لحجَّة الإِسلام الْغَزالِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأبي طيبَة عِنْد شرب الدَّم: إِذن لَا [ييجع] بَطْنك (أبدا) » .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين (ابْن الصّلاح) : [ييجع] (بَطْنك) : بِفَتْح الْجِيم، وَفِيه وَجْهَان:
أَحدهمَا: ييجع بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة تَحت فِي أَوله، وَالرَّفْع فِي بَطْنك، عَلَى أَن يكون الْفِعْل لبطنه.
وَالثَّانِي: تيجع بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فَوق، وَنصب بَطْنك، عَلَى أَن يكون الْفِعْل لأبي (طيبَة) . قَالَ: ثمَّ النصب فِيهِ عَلَى التَّمْيِيز أَو نزع (الْخَافِض) ؟ فِيهِ من الْخلاف مَا فِي قَوْله تَعَالَى: (إِلَّا من سفه
(1/474)
نَفسه) . قَالَ: وَقد حققت ذَلِك من مَعْنَى مَا ذكره الْأَزْهَرِي فِي «التَّهْذِيب» . وَوَقع فِي الرَّافِعِيّ: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأبي طيبَة بَعْدَمَا شرب الدَّم: لَا تَعُدْ، الدَّم كُله حرَام» وَلم أر من رَوَى ذَلِك فِي حَدِيثه.
قلت: وَأَبُو طيبَة اسْمه: نَافِع، وَقيل: ميسرَة، وَقيل: دِينَار. كَانَ عبدا لبني بياضة، صحَّ أَنه حجمه، وكلَّم أَهله أَن يخففوا عَنهُ من خراجه، كَمَا سَيَأْتِي فِي آخر بَاب الْأَطْعِمَة - حَيْثُ ذكره المُصَنّف - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
نعم ورد (هَذَا) فِي حق أبي هِنْد، سَالم بن أبي الْحجَّاج الصَّحَابِيّ، قيل: اسْمه سِنَان، قَالَ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» : ثَنَا مُحَمَّد، (ثَنَا) مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن الهمذاني، ثَنَا مُحَمَّد بن الْمُغيرَة، ثَنَا الْقَاسِم بن (الحكم) العُرَنِي، عَن يُوسُف بن صُهَيْب، ثَنَا أَبُو الجَحَّاف، عَن سَالم، قَالَ: «حجمت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فلمَّا وليت المِحْجَمة عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شربته، فَقلت: يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شربته) ، فَقَالَ: وَيحك يَا سَالم، أما علمت أَن الدَّم حرَام؟ ! لَا تَعُدْ» .
(1/475)
قَالَ أَبُو نعيم: وَرَوَاهُ سعيد بن وَاقد، وَالْخضر بن مُحَمَّد بن شُجَاع، عَن عفيف بن سَالم، عَن يُوسُف بن صُهَيْب.
قلت: وَأَبُو الجحاف هَذَا هُوَ: دَاوُد بن أبي عَوْف، فِيهِ خلاف، وَثَّقَهُ يَحْيَى. وَقَالَ أَحْمد: حَدِيثه مقارِب. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: زائغ ضَعِيف.
وَذكر أَبُو نعيم أَيْضا فِي تَرْجَمَة الْحَارِث بن مَالك، مولَى أبي هِنْد الحجَّام: «أَنه حجم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وشفع لَهُ فِي خراجه عَلَيْهِ السَّلَام» ، فَقَالَ: مِنْهُم من قَالَ: حجمه غُلَام لبني بياضة، وَمِنْهُم من قَالَ: أَبُو طيبَة، وَمِنْهُم من قَالَ: أَبُو هِنْد الْحَارِث بن مَالك.
قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ: وَرُوِي أَيْضا عَن عبد الله بن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه شرب دم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ، فقد رَوَاهُ الْأَئِمَّة: الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث هنيد بن الْقَاسِم، عَن عَامر بن عبد الله بن الزبير، عَن أَبِيه، قَالَ: «احْتجم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَعْطَانِي الدَّم فَقَالَ: اذْهَبْ فَغَيِّبْه. (فَذَهَبت) فَشَربته، ثمَّ أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ (لي) : مَا صنعت؟ قلت: غيبته، قَالَ: «لَعَلَّك شربته؟» قلت: شربته» .
هنيد لَا يعلم لَهُ حَال، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : لَيْسَ فِي إِسْنَاده (من) يحْتَاج إِلَى الْكَشْف عَن حَاله إلاَّ هُوَ.
(1/476)
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه الْكَبِير» بالسند الْمَذْكُور، وَلَفظه: «أَن عبد الله بن الزبير أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يحتجم، فَلَمَّا فرغ قَالَ: يَا عبد الله، اذْهَبْ بِهَذَا الدَّم، فأهرقه حَيْثُ لَا يرَاهُ أحد. فلمَّا برزتُ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَمَدت إِلَى الدَّم فحسوته، فلمَّا رجعت إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: مَا صنعت يَا عبد الله؟ قَالَ: جعلته فِي مَكَان (ظَنَنْت) أَنه خافٍ عَلَى النَّاس. قَالَ: فلعلك شربته؟ قلت: نعم، قَالَ: من أَمرك أَن تشرب الدَّم؟ ويلٌ لَك من النَّاس، وويل للنَّاس مِنْك» .
وَرَوَاهُ (أَيْضا) الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» فِي مَنَاقِب عبد الله بن الزبير من كتاب الْفَضَائِل، عَن (إِبْرَاهِيم) بن عصمَة بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا السّري بن خُزَيْمَة، نَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، نَا هنيد بن الْقَاسِم بن مَاعِز، قَالَ: سَمِعت عَامر بن عبد الله بن الزبير يحدث، أنَّ أَبَاهُ حدَّثه، «أَنه أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يحتجم. .» الحَدِيث كَمَا سَاقه الطَّبَرَانِيّ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي الخصائص، من كتاب النِّكَاح، من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة، وَلَفظه: «احْتجم رَسُول الله وَأَعْطَانِي دَمه فَقَالَ: اذْهَبْ
(1/477)
فوارِهِ، لَا يبْحَث عَنهُ سبع، أَو كلب، أَو إِنْسَان. قَالَ: فتنحيتُ، فَشَربته، ثمَّ أتيت رَسُول الله فَقَالَ: مَا صنعتَ؟ قلت: صنعت الَّذِي أَمرتنِي (بِهِ، قَالَ) : مَا أَرَاك إِلَّا قد شربته. قلت: نعم. قَالَ: مَاذَا تلقى أمتِي مِنْك» .
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَزَادَنِي بعض أَصْحَاب الحَدِيث عَن أبي سَلمَة، قَالَ: فَيَرَوْنَ أَن الْقُوَّة الَّتِي كَانَت فِي ابْن الزبير من قُوَّة دم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ورُوِي ذَلِك من وَجه آخر عَن أَسمَاء بنت أبي بكر، وَعَن سلمَان، فِي شرب ابْن الزبير دَمه.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا فِي «سنَنه» عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز، نَا مُحَمَّد بن حميد، نَا عَلّي بن مُجَاهِد، نَا رَبَاح النوبي، أَبُو مُحَمَّد مولَى آل الزبير، قَالَ: سَمِعت أَسمَاء ابْنة أبي بكر تَقول للحجاج: «إنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - احْتجم، فَدفع دَمه إِلَى ابْني، فشربه، فَأَتَاهُ جِبْرِيل فَأخْبرهُ، فَقَالَ: مَا صنعت؟ قَالَ: كرهت أَن أصبَّ دمك. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تمسك (النَّار) ، وَمسح عَلَى رَأسه وَقَالَ: ويل لَك من النَّاس» .
قَالَ عبد الْحق عقب هَذِه الرِّوَايَة: عَلّي بن مُجَاهِد ضَعِيف، وَلَا يَصح.
وَرَوَاهُ أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ فِي «مُعْجَمه» عَن مُحَمَّد بن حميد، نَا عَلّي بن مُجَاهِد، كَمَا سَاقه الدَّارَقُطْنِيّ إِسْنَادًا ومتنًا، إلاَّ أَنه (زَاد) :
(1/478)
«وويل للنَّاس مِنْك» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» بَعْدَمَا أخرجه: يحْتَاج إِلَى الْكَشْف عَن حَال رَبَاح الْمَذْكُور.
قلت: رَبَاح هَذَا ذكره الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» ، وَقَالَ: لَيَّنه غير وَاحِد، وَلَا يُدْرَى من هُوَ. فَإِذا عرفت هَذَا الحَدِيث من جَمِيع طرقه قضيتَ الْعجب من قَول الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : إنَّ حَدِيث عبد الله بن الزبير هَذَا لم نجدْ لَهُ أصلا بالكُلِّيَّة.
قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ: ويُروى عَن عليٍّ - كَرَّم الله وَجهه - أَنه شرب دم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: هَذَا غَرِيب مِنْهُ، لَا أعلم مَنْ خَرَّجه بعد الْبَحْث عَنهُ.
وَقد رُوِيَ أَن سفينة شرب دَمه - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - فَفِي «ضعفاء» ابْن حبَان، و «الصَّحَابَة» لأبي نعيم، (بإسنادهما) إِلَى إِبْرَاهِيم بن عمر بن سفينة، عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: «احْتجم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَعْطَانِي دَمه فَقَالَ: اذْهَبْ فواره. فَذَهَبت فَشَربته، فَرَجَعت فَقَالَ: مَا صنعت فِيهِ؟ فَقلت: واريته - أَو قلت: شربته - قَالَ: احترزت من النَّار» .
(1/479)
وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب النِّكَاح من طَرِيق ابْن عدي، بِلَفْظ الطَّبَرَانِيّ الْآتِي، إلاَّ أنَّه قَالَ: «من الدَّوَابّ وَالطير» ، أَو قَالَ: «النَّاس وَالدَّوَاب» . شكَّ ابْن أبي فديك.
لكنه حَدِيث ضعيفٌ، قَالَ ابْن حبَان: إِبْرَاهِيم هَذَا يُخَالف الثِّقَات فِي الرِّوَايَات، يروي عَن أَبِيه مَا لَا يُتابع عَلَيْهِ من رِوَايَة الْأَثْبَات، فَلَا يحل الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ.
وَقَالَ ابْن عدي: أَحَادِيثه لَا (يُتَابِعه) عَلَيْهَا الثِّقَات، وَأَرْجُو أنَّه لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ البُخَارِيّ: إِسْنَاده مَجْهُول. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : حَدِيث لَا يَصح.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث بُرَيْه بن عمر بن سفينة، عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: «احْتجم فَقَالَ: (خُذ) هَذَا الدَّم، فادفنه من الدَّوَابّ وَالطير وَالنَّاس. فتغيبتُ، فَشَربته، ثمَّ ذكرت ذَلِك [لَهُ] ، (فضحِك) » . وبُرَيْه هُوَ إِبْرَاهِيم، (فحَقِّقه) .
(1/480)
وشربه أَيْضا: مَالك بن سِنَان - وَالِد أبي سعيد الْخُدْرِيّ - كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» (بِسَنَد (الإِمام) أَحْمد بن حَنْبَل إِلَيْهِ) ، قَالَ: «لمَّا أُصِيب وَجه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَوْم أُحد، استَقْبَلتُه، (فمصصت) جرحه، ثمَّ (ازدردته) ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: من أحبَّ أَن ينظرَ إِلَى من خالطَ دمي دَمه، فَلْينْظر إِلَى مَالك بن سِنَان» .
وَفِيه مَجَاهِيل لَا أعرفهم بعد الْكَشْف عَنْهُم.
الحَدِيث التَّاسِع
«أَن أمَّ أَيمن شربت بَوْل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: إذنْ لَا تلج النَّار بَطْنك» . وَلم يُنكر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَيْهَا.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» . وَقَالَ فِي «علله» : إنَّه مُضْطَرب، وأنَّ الِاضْطِرَاب جَاءَ من جِهَة أبي مَالك النَّخعِيّ رَاوِيه، وَأَنه ضَعِيف. وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كتاب «الْآيَات البَيَّنات» : رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن (الْعدْل) ابْن جريج، قَالَ: «أُخبرت أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَبُول فِي قدح من عَيْدان، ثمَّ يوضع تَحت
(1/481)
سَرِيره، (قَالَ: فَوُضِعَ تَحت سَرِيره) ، فجَاء (فأراده) فَإِذا الْقدح لَيْسَ فِيهِ شَيْء، فَقَالَ لامْرَأَة يُقَال لَهَا: بركَة -[كَانَت تخْدم لأم حَبِيبَة] ، جَاءَت مَعهَا من أَرض الْحَبَشَة -: أَيْن الْبَوْل الَّذِي كَانَ فِي الْقدح؟ قَالَت: شربته. قَالَ: صِحَة يَا أم يُوسُف - وَكَانَت تُكَنَّى أم يُوسُف - فَمَا مَرضَت قطّ، حتَّى كَانَ مَرضهَا الَّذِي مَاتَت فِيهِ» .
قَالَ ابْن دحْيَة: إنْ كَانَ عبد الرَّزَّاق قَالَ: أُخبرت، فقد أسْندهُ يَحْيَى بن معِين، عَن حجاج، عَن ابْن جريج، عَن حكيمة، عَن أمهَا أُمَيْمَة.
قَالَ: وَفِي «الطَّبَرَانِيّ» عَن ابْن شهَاب، قَالَ: «كَانَت أم أَيمن - أم أُسَامَة - من الْحَبَشَة، حاضنة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَامَتْ لَيْلًا وَهِي عَطْشَانَة بَعْدَمَا بَال عَلَيْهِ السَّلَام فِي فَخَّارة ... » الحَدِيث.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث (أبي) مَالك النَّخعِيّ، عَن الْأسود بن قيس، عَن نُبَيْح الْعَنزي، عَن أم أَيمن، قَالَت: «قَامَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من اللَّيْل إِلَى فَخَّارة فِي جَانب الْبَيْت،
(1/482)
فَبَال فِيهَا، فَقُمْت من اللَّيْل، (وَأَنا عَطْشَانَة) فَشَرِبت مَا فِيهَا، وَأَنا لَا أشعر، فَلَمَّا أصبح النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: يَا أم أَيمن، قومِي فأهريقي مَا فِي تِلْكَ الفخارة. (قلت) قد وَالله شَرِبْتُ مَا فِيهَا. قَالَت: فَضَحِك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حتَّى بَدَت نَوَاجِذه، ثمَّ قَالَ: أما إنَّه - (وَالله) - لَا (يَيجَعَنَّ) بَطْنك أبدا» .
وَكَذَا رَأَيْته (أَنا) فِي «أكبر معاجمه» .
قَالَ الشَّيْخ أَبُو مَالك (النَّخعِيّ) : ضعَّفه الرازيان، أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء.
وَالْأسود بن قيس: ثِقَة، وثَّقه يَحْيَى، وَأَبُو حَاتِم.
ونبيح الْعَنزي: سُئِلَ أَبُو زرْعَة عَنهُ، فَقَالَ: كُوفِي ثِقَة، لم يرو عَنهُ غير الْأسود بن قيس.
قَالَ: وَيَنْبَغِي أَن يُنْظَر فِي اتِّصَال هَذَا الإِسناد فِيمَا (بَين) نُبيح وَأم أَيمن، فإنَّهم اخْتلفُوا فِي وَقت وفاتها، فروَى الطَّبَرَانِيّ عَن الزُّهْرِيّ: أَنَّهَا توفَّيَتْ بعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِخَمْسَة أشهر.
(1/483)
قلت: وَقيل سنة. (حَكَاهُ ابْن الْأَثِير. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: توفيت) فِي خلَافَة عُثْمَان. وَهُوَ شَاذ.
(وَقَالَ الشَّيْخ) : وَرُوِيَ فِي الحَدِيث: أَنَّهَا عاشت بعد عمر بن الْخطاب. وَقَالَت يَوْم قَتله: الْيَوْم وَهَى الإِسلام.
قَالَ: فإنْ كَانَ الْأَمر عَلَى مَا نَقَل الزُّهْرِيّ، فَلم يُدْرِكهَا نُبيح، وإنْ كَانَ الآخر، (فيُنظر) فِي ذَلِك.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» - عِنْد قَول حجَّة الإِسلام فِيهِ: رُوي «أَن (أم) أَيمن شربَتْ بَوْل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يُنكر عَلَيْهَا، وَقَالَ: إِذا لَا تلج النَّار بَطْنك» : هَذَا حَدِيث ورد متلوِّنًا ألوانًا، وَلم يخرج فِي الْكتب (الْأُصُول) ، فَروِيَ بإسنادٍ جيدٍ، عَن حكيمة بنت أُمَيْمَة بنت (رقيقَة) «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَبُول فِي قدح من
(1/484)
عيدَان، وَيُوضَع تَحت السرير، فَبَال فِيهِ لَيْلَة، فَوضع تَحت السرير، فجَاء فَإِذا الْقدح لَيْسَ (فِيهِ شَيْء) ، فَقَالَ لامْرَأَة يُقَال لَهَا بركَة كَانَت تخدمه، لأم حَبِيبَة، جَاءَت مَعهَا من أَرض الْحَبَشَة: «الْبَوْل الَّذِي كَانَ فِي الْقدح، مَا فعل؟ قَالَت: شربته يَا رَسُول الله» . زَاد بَعضهم، «فَقَالَت: قُمْت وَأَنا عَطْشَانَة فَشَربته، وَأَنا لَا أعلم» . وَفِي رِوَايَة لأبي عبد الله بن مَنْدَه الْحَافِظ: «لقد احتظرت من النَّار بحظار» فَهَذَا الْقدر مِنْهُ اتّفقت عَلَيْهِ الرِّوَايَات، وَأما مَا اضْطَرَبَتْ فِيهِ مِنْهُ، فالاضطراب مَانع من تَصْحِيحه.
قلت: وَأمر آخر، وَهُوَ: جَهَالَة حكيمة بنت أُمَيْمَة، فإنَّه لَا يُعرف لَهَا حَال.
قَالَ: وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن حَدِيث الْمَرْأَة الَّتِي شربت بَوْله صَحِيح.
قلت: لَعَلَّه قَالَه تبعا لعبد الْحق، حَيْثُ قَالَ: وَمِمَّا يلْحق بِالصَّحِيحِ - عَلَى مَا قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ - حَدِيث [أُمَيْمَة بنت رقيقَة] : «كَانَ للنَّبِي (قدح من عيدَان تَحت سَرِيره يَبُول فِيهِ» .
وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان، بِأَن قَالَ: لَمْ (يقْض) عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيّ بِصِحَّة، وَلَا يَصح لَهُ ذَلِك، إِنَّمَا ذكر أَنَّهَا فِيمَن يلْزم الشَّيْخَيْنِ إِخْرَاج حَدِيثهَا، وَلم ينصّ فِي «حكيمة» بتعديل وَلَا تجريح، فَالْحَدِيث
(1/485)
مُتَوَقف الصِّحَّة عَلَى الْعلم بِحَال حكيمة، فإنْ ثَبت ثقتها ثبتَتْ رِوَايَتهَا، وَهِي لم تثبت، واعتماد الدَّارَقُطْنِيّ فِي ذَلِك غير كَاف.
قلت: قد ذكرهَا ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، فثبتت وَالْحَمْد (لله) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين (قَالَ) : وَرَوَى أَبُو نعيم الْحَافِظ فِي كِتَابه «حلية الْأَوْلِيَاء» من حَدِيث الْحسن بن سُفْيَان , صَاحب الْمسند بِإِسْنَاد، عَن أم أَيمن قَالَت: «بَات رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْبَيْت، (فَقَامَ) من اللَّيْل، فَبَال فِي فَخَّارة، فَقُمْتُ وَأَنا عطشى لم أشعر مَا فِي الفَخَّارة، فَشَرِبت مَا فِيهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ لي: يَا أم أَيمن، أريقي مَا فِي الفخارة. قلت: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ شربتُ مَا فِيهَا، فَضَحِك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حتَّى بَدَت نَوَاجِذه، ثمَّ قَالَ: إنَّه لَا [يَيْجَعَنَّ] بَطْنك بعده أبدا» .
قلت: وَهَذَا اللَّفْظ هُوَ لفظ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي ترجمتها، لَكِن بِإِسْنَاد الطَّبَرَانِيّ الْمُتَقَدّم سَوَاء.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح: فالاستدلال بذلك إِذا يحْتَاج إِلَى أَن يُقال فِيهِ: لم يأمرها النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (بِغسْل) (فمها) ، وَلَا نهاها عَن عودة.
(1/486)
قَالَ: وَكَون الْمَرْأَة أم أَيمن، مولاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد يُظنُّ من حَيْثُ أَن اسْمهَا بركَة، وَفِي الحَدِيث تَسْمِيَة الْمَرْأَة الشاربة: بركَة، وَلَا يثبت ذَلِك بذلك، فإنَّ فِي الصحابيات أُخرى اسْمهَا بركَة بنت يسَار مولاة أبي سُفْيَان بن حَرْب، هاجَرَتْ إِلَى أَرض الْحَبَشَة، وَمَا فِي الحَدِيث من نسبتها إِلَى أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان يدل عَلَى أَنَّهَا بنت يسَار.
قَالَ: وَيجوز فِي قَوْله: «النَّار» النصب، مَعَ الرّفْع فِي قَوْله «بَطْنك» ، وَيجوز الْعَكْس.
قلت: حَكَى ابْن الْأَثِير خلافًا فِي أنَّ أم أَيمن، بركَة مولاة رَسُول الله وحاضنته، (هِيَ) الَّتِي شَرِبَتْ بَوْله، أَو بركَة جَارِيَة أم حَبِيبَة.
(وبالأول جزم) أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي ترجمتها.
وَذكر الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من طَرِيقين، أنَّ الَّذِي شربه (برة) خَادِم أم سَلمَة، بعد أَن عقد ترجمتها، وَهُوَ غَرِيب.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَعَلَّ بركَة هَذِه - يَعْنِي الْمُتَقَدّمَة - أم أَيمن.
قَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «الْآيَات الْبَينَات» : لَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا هِيَ بركَة بنت يسَار، مولاة أبي سُفْيَان بن صَخْر بن حَرْب، هَاجَرت إِلَى
(1/487)
أَرض الْحَبَشَة مَعَ زَوجهَا قيس بن عبد الله الْأَسدي.
قَالَ: وَالْعجب من ابْن عبد الْبر، (حَيْثُ) ذَكَرَها مَعَ زَوجهَا فِي حرف الْقَاف، ثمَّ شكَّ الْآن فِيهَا وظنَّها أم أَيمن، وَأم أَيمن: هِيَ بركَة بنت ثَعْلَبَة، زوج (عبيد) الحبشي، تُعرف ب «أُم الظباء» ، هَاجَرت (الهجرتين) ، وصلت الْقبْلَتَيْنِ، و (ابْنهَا) أَيمن قُتل شَهِيدا يَوْم حنين.
(وَقَالَ) : وَظهر مِمَّا قُلْنَاهُ: أَن فِي ذَلِك قصتين، إِحْدَاهمَا: فِي قدح من عيدَان، والراوية أم يُوسُف؛ وَالثَّانيَِة: فِي فَخَّارة، والراوية أم أَيمن، بركَة بنت ثَعْلَبَة. وإنَّما أشكل ذَلِك عَلَى الروَاة من حَيْثُ أَن اسْم كل وَاحِدَة مِنْهُمَا بركَة، وكلتاهما من الموَالِي، فَهَذِهِ مولاة رَسُول الله، وَتلك مولاة أبي سُفْيَان، وكلتاهما مِمَّن هَاجر إِلَى أَرض الْحَبَشَة من النِّسَاء مَعَ الْأزْوَاج، (فَاشْتَبَهَ أَمرهمَا) ، وَقد تبيَّن الْفرق بَينهمَا.
قَالَ: وَقَوله: «لَا [يَيْجَعَنَّ] بَطْنك» عَلَى مِثَال: لَا (تشتكين) ،
(1/488)
قَالَ اللغويون: هُوَ اسْم لجَمِيع الْمَرَض كُله.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن عَائِشَة، أم الْمُؤمنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كنت أفرك الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَرْكًا، فيصلِّي فِيهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم، فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِهَذَا اللَّفْظ.
وَفِي رِوَايَة لَهما: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يغسل الْمَنِيّ، ثمَّ يخرج إِلَى الصَّلَاة فِي ذَلِك الثَّوْب، وَأَنا أنظر إِلَى أثر الْغسْل فِيهِ» .
فَائِدَة: قَالَ الإِمام أَحْمد، ثمَّ الْبَزَّار: إِنَّمَا رُوي غَسْل الْمَنِيّ عَن
(1/489)
عَائِشَة من وَجه وَاحِد، رَوَاهُ عَمْرو بن مَيْمُون، عَن سُلَيْمَان، وَلم يسمع (من) عَائِشَة.
قَالَ الْبَزَّار: فَلَا يكون مُعَارضا للأحاديث الَّتِي فِيهَا الفرك.
كَذَا قَالَا، وَفِي «صَحِيح (البُخَارِيّ) » هُنَا التَّصْرِيح بِسَمَاعِهِ مِنْهَا.
وَقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث (عمْرَة) عَنْهَا، بل الْبَزَّار (نَفسه) رَوَى ذَلِك، كَمَا سَيَأْتِي فِي الحَدِيث (الثَّانِي) عشر.
قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ أَنَّهَا تفركه وَهُوَ فِي الصَّلَاة. قَالَ: وَالِاسْتِدْلَال بهَا أَقْوَى.
قلت: بِلَا شكّ، وَهِي رِوَايَة صَحِيحَة، (رَوَاهَا) أَئِمَّة حفَّاظ، بأسانيد كل رجالها ثِقَات، لَا مطْعن لأحد فيهم.
أَوَّلهمْ: إِمَام الْأَئِمَّة أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، رَوَاهُ فِي «صَحِيحه» ، عَن الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي، عَن إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن قيس، عَن محَارب بن دِثَار، عَن عَائِشَة «أَنَّهَا كَانَت تَحُتُّ الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يُصَلِّي» .
وهذ إِسْنَاد عَلَى شَرط الصَّحِيح، كل رِجَاله ثِقَات فِي الصَّحِيح
(1/490)
فالزعفراني أخرج لَهُ البُخَارِيّ. (وَإِسْحَاق هُوَ) (ابْن) يُوسُف الْأَزْرَق، اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَيْهِ. وَمُحَمّد بن قيس رَوَى لَهُ مُسلم، ووثَّقه وَكِيع وَأحمد وَيَحْيَى وَعلي بن الْمَدِينِيّ. ومحارب بن دثار اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : ذكر مَا رُوِيَ من فركه فِي الصَّلَاة. ثمَّ قَالَ: رَوَى ابْن خُزَيْمَة ... وَسَاقه كَمَا ذكرته.
وثانيهم: الْحَافِظ أَبُو حَاتِم بن حبَان، فإنَّه أخرجه فِي «صَحِيحه» ، عَن مُحَمَّد بن (عَلان) ، نَا لوين، نَا حَمَّاد بن زيد، عَن هِشَام الدستوَائي، عَن أبي معشر، عَن إِبْرَاهِيم، عَن الْأسود، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «لقد رَأَيْتنِي أفرك الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يُصَلِّي» .
وَهَذَا إِسْنَاد (فِي غَايَة من الصِّحَّة.
وثالثهم: الْحَافِظ) أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي «تَحْقِيقه» : أَنا أَبُو مَنْصُور الْقَزاز، حَدَّثَنَا أَبُو بكر أَحْمد بن عَلّي الْحَافِظ، أَنا أَبُو عمر بن مهْدي، نَا الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي، نَا إِبْرَاهِيم
(1/491)
بن (أَحْمد) بن عمر، نَا أبي، نَا وهب بن إِسْمَاعِيل، نَا مُحَمَّد بن قيس، عَن محَارب بن دثار، عَن عَائِشَة قَالَت: «ربَّما حتته من ثوب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ» .
ثمَّ رَأَيْته بعد ذَلِك فِي «الْمعرفَة» للبيهقي، (فِي أثْنَاء الصَّلَاة، ذكره) (من) حَدِيث إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، (عَن) إِسْحَاق بن يُوسُف، عَن مُحَمَّد بن قيس، عَن محَارب (بن) دثار، عَن عَائِشَة: «أَنَّهَا كَانَت تُحُتُّ الْمَنِيّ من ثِيَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ فِي الصَّلَاة» . ثمَّ قَالَ: (وَهَذَا) وإنْ كَانَ فِيهِ بَين محَارب وَعَائِشَة إرْسَال، (فَفِيمَا) قبله مِمَّا يؤكده.
قلت: (هَذَا) قد تَابعه الْأسود - كَمَا سلف - عَلَى تَقْدِير الإِرسال.
وَأوردهُ الْمَاوَرْدِيّ فِي «حاويه» من حَدِيث مَيْمُون بن مهْرَان، عَن ابْن عَبَّاس، عَن عَائِشَة قَالَت: «كنت أفرك الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِيهِ» .
فَإِذا عرفت (ذَلِك) ، قضيت الْعجب من قَول الشَّيْخ محيي الدَّين
(1/492)
النَّوَوِيّ - رَحمَه - الله: أَن الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة الَّتِي رَوَاهَا هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْحفاظ غَرِيبَة. يَعْنِي: أَنه لَا يعرف من رَوَاهَا.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
رُوي أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا يغسل الثَّوْب من الْبَوْل، والمذي، والمني» .
هَذَا الحَدِيث بَاطِل، لَا يحلّ الِاحْتِجَاج بِهِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكره الإِمام الرَّافِعِيّ، وَالْمَوْجُود: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ، مَرَّ بعمَّار وَهُوَ يسْقِي (رَاحِلَته) فِي رَكْوَة، إذْ تَنَخَّم، فأصابت نخامته ثَوْبه، فَأقبل عمَّار يغسلهَا، فَقَالَ: يَا عمَّار، مَا نخامتك وَلَا دموعك إلاَّ بِمَنْزِلَة المَاء الَّذِي فِي رَكْوَتك، إنَّما تَغْسِلُ (ثَوْبك) من الغائطِ، والبولِ، والمني، وَالدَّم، والقيء» .
رَوَاهُ كَذَلِك: أَبُو يعْلى الْموصِلِي فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو نعيم فِي «مَعْرفَته» ، وَابْن عدي فِي «كَامِله» ، والعقيلي فِي «ضُعَفَائِهِ» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» .
(1/493)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَمْ يَرْوِه غير ثَابت بن حَمَّاد، وَهُوَ ضَعِيف جدًّا.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الطَّبَرَانِيّ: (لَا) يرويهِ عَن سعيد بن الْمسيب، (عَن) عَمَّار، غير عَلّي بن زيد، تَفَرَّد بِهِ ثَابت بن حَمَّاد، وَلَا يُروى عَن (عمَّار) إلاَّ بِهَذَا الإِسناد.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، و «خلافياته» : هَذَا الحَدِيث بَاطِل، لَا أصل لَهُ، إنَّما رَوَاهُ ثَابت بن حَمَّاد، عَن عَلّي بن زيد، [عَن ابْن الْمسيب] ، عَن عمار، وَعلي بن زيد غير مُحْتَج بِهِ، وثابت مُتَّهم بِالْوَضْعِ. وضَعَّفه فِي «الْمعرفَة» بِسَبَب ثَابت.
قلت: أما ثَابت بن حَمَّاد، فَهُوَ كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَقه، وَتَركه الْأَزْدِيّ أَيْضا، وَقَالَ ابْن عدي: لَهُ أَحَادِيث يُخَالف فِيهَا وَفِي أسانيدها الثِّقَات، وَهِي مَنَاكِير. وَقَالَ الْعقيلِيّ: حَدِيثه غير مَحْفُوظ، وَهُوَ مَجْهُول بِالنَّقْلِ. ثمَّ ذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، وقولة الْبَيْهَقِيّ المتقدِّمة، لَا نعلم (لَهُ) مُوَافقا عَلَيْهَا، وَقَالَ هبة الله الطَّبَرِيّ: هَذَا الْخَبَر يرويهِ ثَابت بن حَمَّاد، وأنَّ أهل النَّقْل أَجمعُوا عَلَى ترك حَدِيثه. قَالَ أَبُو بكر
(1/494)
الْبَزَّار: وَلَا نعلم ثَابتا رَوَى إلاَّ هَذَا الحَدِيث.
وَأما عَلّي بن زيد بن جُدعان: فقد تَقَدَّم أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ، فِي الحَدِيث الرَّابِع من هَذَا الْبَاب.
و (ذكره) ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» ، و (ضَعَّفه) بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وبيَّض لَهُ الشَّيْخ زكي الدَّين، وَهُوَ فِي هَذِه الْكتب.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رُوِيَ «أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (فِي الْمَنِيّ) : اغسليه رطبا، وافركيه يَابسا» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب عَلَى هَذِه الصُّورَة، وَكَأن الإِمام الرَّافِعِيّ تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك الْمَاوَرْدِيّ، فَإِنَّهُ (أوردهُ) كَذَلِك فِي «حاويه» ، ثمَّ قَالَ: إنْ صحَّ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَاب.
(1/495)
وَقَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين، أَبُو الْفرج، ابْن الْجَوْزِيّ، فِي كتاب «التَّحْقِيق» : هَذَا حَدِيث لَا يُعرف، وإنَّما الْمَنْقُول أَنَّهَا كَانَت (هِيَ) تفعل ذَلِك، من غير أَن يكون أَمَرَهَا. ثمَّ رَوَى (بِإِسْنَادِهِ) عَن الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَدِهِ عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كنت أَفْرُكُ الْمَنِيّ من ثوبِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا كَانَ يَابسا، وأغسله إِذا كَانَ رطبا» .
وَهُوَ كَذَلِك فِي «سنَنه» ، (وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي «صَحِيحه» أَيْضا) .
وَفِي «مُسْند الْبَزَّار» أَيْضا، لَكِن بِلَفْظ: «كنت أَفْرُكُ الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا كَانَ يَابسا، وأغسله، [أَو] أمسحه إِذا كَانَ رطبا» . ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا يُعلم أحد أسْندهُ عَن بشر بن بكر، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن يَحْيَى، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة، إلاَّ عبد الله بن الزبير، وَهُوَ الْحميدِي، (وَرَوَاهُ غَيره) عَن عمْرَة مُرْسلا.
وَقَالَ الشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : حَدِيث
(1/496)
عَائِشَة «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَأْمر بحتِّ الْمَنِيّ» ضَعِيف.
قلت: رَوَى ابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى، وَأحمد بن [يُوسُف] قَالَا: ثَنَا أَبُو حُذَيْفَة، نَا سُفْيَان، عَن مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم، عَن هَمَّام بن الْحَارِث قَالَ: «كَانَ ضيف عِنْد عَائِشَة، فأجنب، فَجعل يغسل مَا أَصَابَهُ، فَقَالَت عَائِشَة: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَأْمُرنَا بِحَتِّه» .
وَسَاقه ابْن بشكوال من طَرِيق الثَّوْريّ، نَا هناد، وَأَنا أَبُو نعيم، عَن الْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم، عَن همام، قَالَ: «ضَافَ عائشةَ ضيفٌ، فَأمرت لَهُ بِمِلْحَفَةٍ صفراء، فَنَامَ فِيهَا، فَاحْتَلَمَ. فاستحيى أَن يُرْسل بهَا وَبهَا أثر الِاحْتِلَام، فغمسها فِي المَاء، ثمَّ أرسل بهَا. فَقَالَت عَائِشَة: لِمَ أَفْسَدَ علينا ثوبنا، إنَّما كَانَ يَكْفِيهِ أَن يفركه بأصابعه، وربَّما فركته من ثوب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بأصابعي» .
ثمَّ سَاق عَن الْحميدِي، عَن سُفْيَان بِهِ بِنَحْوِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا الضَّيْف هُوَ: عبد الله بن شهَاب الْخَولَانِيّ.
ثمَّ سَاقه من حَدِيث مُسلم، عَن أَحْمد بن جَوَّاس، عَن أبي الْأَحْوَص، عَن شبيب بن [غرقدة] عَن عبد الله بن شهَاب الْخَولَانِيّ قَالَ: «كنت نازلاً عَلَى عَائِشَة، فأجنبت فِي ثوبيَّ، [فغمستهما فِي
(1/497)
المَاء] فرأتني جَارِيَة لعَائِشَة فَأَخْبَرتهَا، [فَبعثت] إليَّ عَائِشَة فَقَالَت: مَا حَمَلك عَلَى مَا صنعت [بثوبيك] ؟ قَالَ: رَأَيْت مَا يرَى النَّائِم فِي مَنَامه. قَالَت: هَل رَأَيْت [فيهمَا] شَيْئا؟ قلت: لَا. قَالَت: لَو رأيتَ شَيْئا غسلته، لقد رَأَيْتُني [و] إنِّي لأَحُكُّه من ثوبِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[يَابسا بظفري] » .
وَقيل: هُوَ همام بن الْحَارِث، وَقيل: الْأسود بن يزِيد. ثمَّ سَاق من حَدِيث الحكم، عَن إِبْرَاهِيم، عَن همام، وَسَاقه وَفِي آخِره: «إنَّما كَانَ يَكْفِيك أَن تمسحه بإذخرة، أَو تغسل الْمَكَان الَّذِي أَصَابَهُ، فإنْ أُخْفِي عَلَيْك أَن تَدعه، لقد رَأَيْتنِي أجد فِي ثوب رَسُول الله الْمَنِيّ مِنْهُ بعد أَيَّام، فأحته» .
ثمَّ سَاق من حَدِيث مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: «نزل الْأسود عَلَى عَائِشَة ... » الحَدِيث، وَفِي آخِره: فأَحُتّه هَكَذَا» ) .
الحَدِيث الثَّالِث عشر
«إِن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يسْتَعْمل الْمسك، وَكَانَ أحبَّ الطّيب إِلَيْهِ» .
هَذَا صَحِيح، (يُذكر فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة) ، وَمِنْهَا:
(1/498)
مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث عَائِشَة: «كَأَنِّي أنظر إِلَى وبيصِ الْمسك فِي مَفْرِقِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ (مُحْرِمٌ» ) . اللَّفْظ لمُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ: «الطِّيب» بدل «الْمسك» وَقَالَ: «مفارق» (بدل «مفرق» ) . وَأخرجه مُسلم كَذَلِك، لكنه قَالَ: «و [هُوَ] يُهِلٌُّ» وَفِي رِوَايَة: «وَهُوَ يُلَبِّي» .
وَهَذَا الحَدِيث ذكره الإِمام الرَّافِعِيّ فِي كتاب «الْحَج» ، وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ هُنَاكَ - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - مَبْسُوطا.
وَفِي «صَحِيح مُسلم» من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «كَانَت امْرَأَة من بني إِسْرَائِيل قَصِيرَة، تمشي بَين امْرَأتَيْنِ طويلتين، فاتخذت رجلَيْنِ من خشب، و (خَاتمًا) من ذهب [مغلقٍ] مُطَبَّقٍ، ثمَّ حَشَتْهُ مسكًا، والمسكُ أطيب الطّيب» .
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجَنَائِز مُخْتَصرا بلفظين: أَحدهمَا: «الْمسك أطيب الطّيب» الثَّانِي: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن الْمسك، فَقَالَ: هُوَ أطيب طيبكم» . ثمَّ قَالَ فيهمَا: حسن صَحِيح.
(1/499)
وَأخرج ابْن حبَان الأول فِي «صَحِيحه» ، وَأحمد بِلَفْظ: «ذُكر الْمسك عِنْد رَسُول الله فَقَالَ: هُوَ أطيب الطّيب» .
وَالْحَاكِم بِاللَّفْظِ الثَّانِي لِلتِّرْمِذِي، ثمَّ بِلَفْظ: «أطيب الطّيب الْمسك» ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح الإِسناد.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد - أَيْضا - فِي الْجَنَائِز (مُخْتَصرا) : «أطيب (طيبكم) الْمسك» . وَكَذَا النَّسَائِيّ فِيهِ بلفظين: أَحدهمَا: «أطيب الطّيب (الْمسك) » .
وَالثَّانِي: «من (خير) طيبكم الْمسك» .
وَأخرجه فِي اللبَاس بِلَفْظ: «إِن امْرَأَة من بني إِسْرَائِيل اتَّخذت خَاتمًا من ذهب، وحَشَتْه مسكًا، قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: وَهُوَ أطيب الطّيب» .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «الشَّمَائِل» عَن
(1/500)
أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَت للنَّبِي (سُكَّة يتطيب مِنْهَا» . إِسْنَاده صَحِيح وَرِجَاله كلهم ثِقَات مُخَرَّج لَهُم فِي الصَّحِيح.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر فِي «الإشراف» ، قبيل مَوَاقِيت الصَّلَاة: (رُوي) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِإِسْنَاد جيد «أَنه كَانَ لَهُ مسك يتطيَّب بِهِ» . وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى هَذَا الحَدِيث.
وَفِي «سنَن النَّسَائِيّ» فِي عشرَة النِّسَاء، عَن الْحُسَيْن بن عِيسَى القومسي، عَن عفَّان (بن مُسلم) ، عَن سَلاَّم بن سُلَيْمَان، عَن ثَابت، عَن أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) : «حُبِّبَ إليَّ من دُنْيَاكُم: النِّسَاء وَالطّيب، وجُعِلَتْ قُرَّة عَيْني فِي الصَّلاة» .
كل رجال هَؤُلَاءِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، إلاَّ سلاَّم بن سُلَيْمَان المُزني، قَارِئ الْبَصْرَة، فَأخْرج عَنهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح الحَدِيث. فَهُوَ إِسْنَاد صَحِيح.
وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» فَقَالَ: ثَنَا عبد الْوَاحِد أَبُو عُبَيْدَة، عَن سَلام [أبي] الْمُنْذر، عَن ثَابت، عَن أنس رَفعه: «حُبِّبَ إليَّ النِّسَاء ... » الحَدِيث.
(1/501)
ثمَّ رَوَاهُ عَن أبي سعيد، مولَى (بني) هَاشم، عَن سَلام بِهِ، بِلَفْظ: «إنَّ ممَّا حُبِّبَ إليَّ فِي الدُّنْيَا: النِّسَاء ... » (الحَدِيث) .
وفيهَا أَيْضا - أَعنِي «سنَن النَّسَائِيّ» - فِي (الْموضع الْمَذْكُور) مثله، عَن عَلّي بن مُسلم، عَن (سَيَّار) بن حَاتِم، عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان الضُّبَعِي، عَن ثَابت، عَن أنس مَرْفُوعا، مثله سَوَاء.
وَهَذَا إِسْنَاد حسن، عليَّ بن (مُسلم احتجَّ بِهِ البُخَارِيّ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وسيار بن حَاتِم صَدُوق. وجعفر بن) سُلَيْمَان أخرج لَهُ مُسلم، وَهُوَ ثِقَة، وَفِيه شَيْء.
لَا جرم أَن الْحَاكِم أَبَا عبد الله، أخرجه فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من هَذِه (الطَّرِيقَة) ، فِي كتاب النِّكَاح، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
و (ذكره) ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» ، ثمَّ ذكر حَدِيث: «وَجعلت قُرَّة عَيْني فِي الصَّلَاة» من حَدِيث أنس أَيْضا، والمغيرة.
(1/502)
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب التَّرْغِيب فِي النِّكَاح، من حَدِيث مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعلي بن الْجَعْد، عَن سَلاَّم بِهِ، بِلَفْظ: «إنَّما (حُبِّبَ) إليَّ من دنياكم: النساءُ والطيبُ، وجُعِلَت قُرَّة عَيْني فِي الصَّلَاة» .
لفظ حَدِيث عَلّي، وَلَفظ حَدِيث مُوسَى: «حُبِّبَ إليَّ من الدُّنْيَا» ثمَّ قَالَ: تَابعه سَيَّار بن حَاتِم، عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان، عَن ثَابت، عَن أنس، وَرَوَى ذَلِك جمَاعَة من الضُّعَفَاء عَن ثَابت.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إِن رِوَايَته عَن ثَابت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، أشبه بِالصَّوَابِ. و (مَا) أَدْرِي مَا وَجه ذَلِك؟
(وَذكره أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ فِي كتاب «أَخْلَاق رَسُول الله» فِي موضِعين، وسَاق فِي الثَّانِي - بعد أَن رَوَاهُ بِلَفْظ: «حُبِّبَ إليَّ من الدُّنْيَا ... » - فِي حَدِيث ابْن عمر، أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: « [مَا] أَعْطَيْت من دنياكم هَذِه إِلَّا نُسَيَّاتِكم» ) .
فَيُؤْخَذ من مَجْمُوع مَا (ذَكَرْتُ) ، مَا ذَكَرَه الإِمام الرَّافِعِيّ - إِن شَاءَ الله - فَتَأَمّله.
(1/503)
وَقد (ذكره) الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» فِي الْبيُوع، فَقَالَ: والمسك كَانَ أحب الطّيب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. فَقَالَ ابْن الرّفْعَة فِي «الْمطلب» : مَا ذكره صَحِيح. ثمَّ اسْتدلَّ بِحَدِيث عَائِشَة الْمُتَقَدّم، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ أَبُو الطّيب: إنَّ أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ رَوَى (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ) : «أطيب الطّيب الْمسك» . قَالَ: وَهَذَا نَص.
وَقد عرفت أَنْت من أخرج هَذَا الحَدِيث، وَمَا زدناه عَلَى ذَلِك، فَوَافَقَ الْحَافِر الْحَافِر بِزِيَادَة، فَللَّه الْحَمد.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُم مِنْ نَوْمِه، فَلا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِناءِ، حتَّى يَغْسِلها ثَلَاثًا، فإنَّه لَا يَدْري أيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، مرويّ من ثَلَاثَة طرق:
أَولهَا: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم (من نَومه) ، فَلَا يغمس يَده فِي الإِناء، حتَّى يغسلهَا، فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي «صَحِيحهمَا» ، بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم فَلْيُفْرِغ عَلَى (يَده)
(1/504)
ثَلَاث مَرَّات، قبل أَن يُدخل يَده فِي إنائه، فإنَّه لَا يدْرِي فيمَ باتت يَده» .
وَفِي رِوَايَات لأبي حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ذكر الْعدَد أَيْضا.
وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» ، بعد أَن سَاقه بِدُونِ «ثَلَاثًا» : لَا أَدْرِي هَذِه اللَّفْظَة فِي الْخَبَر أم لَا؟ ثمَّ سَاقه بعد ذَلِك بأوراق بالسند الْمَذْكُور، وَفِيه لَفْظَة «ثَلَاثًا» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: «فإنَّ أحدكُم لَا يدْرِي أَيْن كَانَت تَطوف يَده» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «قبل أَن يُدخلهما فِي وضوئِهِ» .
وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي، وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه: «مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا» .
وَفِي «مُسْند (أبي) دَاوُد الطَّيَالِسِيّ» : ثَنَا شُعْبَة، أَخْبرنِي
(1/505)
الْأَعْمَش، عَن ذكْوَان، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (إِذا) اسْتَيْقَظَ أحدُكُم من مَنَامه، فَلَا يغمس يَده فِي الإِناء حتَّى يصبَّ (عَلَيْهَا) صبَّة أَو صبتين، فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده» .
(قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : رَفعه صَحِيح) . وَفِي رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» : «فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده مِنْهُ» . وأخرجها الْبَيْهَقِيّ (من جِهَة ابْن خُزَيْمَة) ، وَقَالَ: قَوْله: «مِنْهُ» تَفَرَّدَ [بِهِ] مُحَمَّد بن الْوَلِيد البُسْري، وَهُوَ ثِقَة.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : تَفَرَّدَ بهَا شُعْبَة.
(و) قَالَ ابْن مَنْدَه: هَذِه الزِّيَادَة رواتها ثِقَات، وَلَا أَرَاهَا مَحْفُوظَة.
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عدي: «فإنْ غَمَس يَده فِي الْإِنَاء قبل أَن
(1/506)
يغسلهَا، فليهريق ذَلِك (المَاء) » . قَالَ ابْن عدي: وَهَذِه الزِّيَادَة مُنكرَة، (لَا تُحْفَظ) . وَهِي من رِوَايَة مُعَلَّى بن الْفضل، وَفِي بعض مَا يرويهِ نكرَة، وَهِي أَيْضا من رِوَايَة الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد قَالَ غير وَاحِد إِنَّه لم يسمع مِنْهُ.
وَفِي رِوَايَة بعد: «فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده» : «ويسمِّي قبل أَن (يُدخلها) » رَوَاهَا عبيد الله بن سعيد (السجسْتانِي) فِي الْجُزْء الرَّابِع من «فَوَائِد ابْن نطيف» وَقَالَ: غَرِيبَة. أَفَادَ ذَلِك الشَّيْخ فِي «الإِمام» .
قُلْتُ: و (رَأَيْتهَا) فِي «تَارِيخ الْعقيلِيّ» ، وَقَالَ بعد ذكرهَا: هَذَا الحَدِيث من حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيح الْإِسْنَاد من غير وَجه، وَلَيْسَ فِيهِ: «يسمِّي قبل أَن يُدخلها» .
وأسنده ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: «إِذا قَامَ أحدكُم من نوم اللَّيْل» .
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن جَابر بن عبد الله رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا قَامَ أحدكُم من (النّوم) فَأَرَادَ أَن يتَوَضَّأ فَلَا يُدخل يَده فِي الإِناء حتَّى يغسلهَا» .
(1/507)
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» (كَذَلِك) ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» أَيْضا بِلَفْظ: «إِذا قَامَ أحدكُم من النّوم، فَأَرَادَ أَن يتَوَضَّأ، فَلَا يُدخل يَده فِي وضوئِهِ حتَّى يغسلهَا، فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده، وَلَا عَلَى مَا وَضعهَا» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده حسن.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن عبد الله بن عمر رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه، فَلَا يُدْخِل يَده فِي الإِناء حتَّى يغسلهَا» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه - أَيْضا - فِي «سنَنه» كَذَلِك، وَابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَلَفْظهمَا: «إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من مَنَامه، فَلَا يُدخل يَده فِي الإِناء حتَّى يغسلهَا ثَلَاث مَرَّات، فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده، أَو أَيْن طافت يَده» .
(قَالَ) الدَّارَقُطْنِيّ: «فَقَالَ لَهُ رجل: أرأيتَ إنْ كَانَ حوضًا؟ فَحَصَبَه ابْن عمر، وَجعل يَقُول: (أخْبرك) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَتقول: أرأيتَ إِن كَانَ حوضًا؟ !» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: [إِسْنَاد] حسن.
(1/508)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لِأَن جَابر بن إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ مَعَ ابْن لَهِيعَة فِي إِسْنَاده.
وَهَذَا (من) الْبَيْهَقِيّ تَعْلِيل لحسنه من حَيْثُ لم ينْفَرد بِهِ ابْن لَهِيعَة.
قَالَ إِمَام الْأَئِمَّة أَبُو بكر بن خُزَيْمَة بعد أَن أخرجه فِي «صَحِيحه» من جِهَة ابْن لَهِيعَة وَجَابِر بن إِسْمَاعِيل: ابْن لَهِيعَة لَيْسَ مِمَّن أُخْرِجُ حَدِيثه فِي هَذَا الْكتاب - يَعْنِي «صَحِيحه» - إِذا انْفَرد بالرواية، وَلَكِن جَابر بن إِسْمَاعِيل مَعَه فِي الإِسناد.
وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق رَابِع لَا بَأْس بالتنبيه عَلَيْهِ، أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَائِشَة أَيْضا.
وَهَذِه الطَّرِيقَة ذكرهَا ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» ، من حَدِيث أبي سَلمَة، عَنْهَا مَرْفُوعا: «إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من النّوم، فليغرف عَلَى يَده ثَلَاث غرفات قبل أَن يُدخلها فِي وضوئِهِ، فإنَّه لَا يدْرِي حَيْثُ باتت يَده» .
قَالَ ابْن أبي حَاتِم: [سُئل أَبَا زرْعَة] عَنهُ فَقَالَ: (إنَّه) وهمٌ. (وَالصَّوَاب حَدِيث أبي هُرَيْرَة) .
وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «فإنَّه لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده» سَببه مَا (قَالَ) الإِمام الشَّافِعِي رَضِي اللهُ عَنْهُ وَغَيره: أَن أهل الْحجاز كَانُوا يقتصرون عَلَى
(1/509)
الِاسْتِنْجَاء بالأحجار، وبلادهم حارة، فَإِذا نَام أحدهم عرق، فَلَا يَأْمَن النَّائِم أَن تَطوف يَده عَلَى الْمحل النَّجس، أَو عَلَى (بَثْرة) وقملة، وَنَحْو ذَلِك، (فيتنجس) .
الحَدِيث الْخَامِس (عشر)
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا بَلَغَ الماءُ قلَّتَيْن، بِقِلال هَجَر، لَمْ يَحْمِل خَبَثًا» . وَرُوِيَ: «نَجَسًا» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام (عَلَيْهِ) وَاضحا فِي الْبَاب قبله.
الحَدِيث السَّادِس عشر
«أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لأسماء: حُتِّيه، ثُمَّ اقرَصيه، ثُمَّ اغسليه بِالْمَاءِ» .
هَذَا الحَدِيث رُوِيَ من طَرِيقين صَحِيحَيْنِ:
أَحدهمَا: عَن أَسمَاء أَن امْرَأَة سَأَلت. وَالثَّانِي: أَن أَسمَاء سَأَلت.
أما الطَّرِيقَة الأولَى: فأخرجها الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَن أَسمَاء بنت أبي بكر رَضِي اللهُ عَنْهُما قَالَت: «جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: إحدانا يُصِيب ثوبها من دم الْحَيْضَة، كَيفَ تصنع بِهِ؟ قَالَ: تَحُتّه، ثمَّ تقرصه بِالْمَاءِ، ثمَّ تنضحه، ثمَّ تصلِّي فِيهِ» .
(1/510)
وَفِي رِوَايَة (لأبي) دَاوُد - بِإِسْنَاد عَلَى شَرطهمَا -: «إِذا أصَاب إحداكن الدَّم من الْحيض، فلتقرصه، ثمَّ لتنضحه بِالْمَاءِ، (ثمَّ) لتصلي» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَلَى شَرط البُخَارِيّ: «حُتِّيه، ثمَّ اقرصيه بِالْمَاءِ، ثمَّ انضحيه» .
وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي: «حُتِّيه، ثمَّ اقرصيه بِالْمَاءِ، ثمَّ رشيه، (و) صلي فِيهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. و (صححها) ابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان أَيْضا.
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الثَّوْب يُصِيبهُ الدَّم من الْحَيْضَة، فَقَالَ: لِتَحُتُّه، ثمَّ (تَقْرُصُه) بِالْمَاءِ، ثمَّ لتَنْضَحْه، فتصلِّي فِيهِ» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أنَّ امْرَأَة قَالَت: يَا رَسُول الله، مَا أصنع بِمَا أصَاب ثوبي من دم (الْحيض) ؟ قَالَ: حُتِّيه، ثمَّ اقرصيه بِالْمَاءِ،
(1/511)
وانضحي مَا حوله» .
وَفِي رِوَايَة لأبي عوَانَة فِي «صَحِيحه» ، من حَدِيث الشَّافِعِي عَن مَالك: «إِذا أصَاب ثوبَ إحداكنَّ الدَّم، فلتقرصه، ثمَّ لتتبعه بِالْمَاءِ، ثمَّ تصلِّي فِيهِ» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن دم الْحيض يكون فِي الثَّوْب، قَالَ: اقرصيه، واغسليه، وصلِّي فِيهِ» .
وَأما الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: فرواها الإِمام الشَّافِعِي رَضِي اللهُ عَنْهُ، (وَهِي) فِي «مُسْنده» عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن هِشَام، عَن فَاطِمَة، عَن أَسمَاء قَالَت: «سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن دم الْحَيْضَة يُصِيب الثَّوْب، فَقَالَ: حتِّيه، (ثمَّ) اقرصيه بِالْمَاءِ، ثمَّ رشيه، وصلِّي فِيهِ» .
قَالَ الشَّافِعِي: ونا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة، أَنه سمع امْرَأَته فَاطِمَة بنت الْمُنْذر تَقول: سمعتُ جدتي أَسمَاء بنت أبي بكر تَقول: «سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن دم الْحَيْضَة ... » فَذكر مثله.
وَرَوَاهُ فِي «الْمسند» أَيْضا عَن مَالك، عَن هِشَام، عَن فَاطِمَة، عَن أَسمَاء قَالَت: «سَأَلت امرأةٌ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَقد تَقَدَّم.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا فِي «الْأُم» بِالطَّرِيقِ الأولَى الَّتِي فِي
(1/512)
«الْمسند» .
وَهَذِه الْأَسَانِيد الَّتِي ذكر الشَّافِعِي بهَا هَذِه الزِّيَادَة - أنَّ أَسمَاء هِيَ السائلة - أَسَانِيد صَحِيحَة، لَا مطْعن لأحد فِي اتصالها، وثقات رواتها، فَكُلّهم أَئِمَّة أَعْلَام، مخرج حَدِيثهمْ فِي (الصَّحِيح) ، وَفِي الْكتب السِّتَّة، فَهُوَ إِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط أهل الْعلم كلهم، وَأَنا أتعجَّب كل الْعجب من قَول الشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «شرح الْمُهَذّب» : أنَّ الشَّافِعِي رَوَى فِي «الْأُم» (أَن أَسمَاء هِيَ السائلة، بِإِسْنَاد ضَعِيف. فالإِسناد الَّذِي ذكره فِي «الْأُم» ) كَمَا قدَّمته، عَلَى أَنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد يُعذر فِي ذَلِك، فإنَّه سبقه إِلَى هَذِه الْمقَالة الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى (الْمُهَذّب» فقلَّده فِي ذَلِك.
ثمَّ رَأَيْت الْبَيْهَقِيّ فِي (كِتَابه «الْمعرفَة» بعد أَن ذكره عَن الشَّافِعِي بِهَذَا السَّنَد وَاللَّفْظ [قَالَ] : هَكَذَا رَوَى الرّبيع هَذَا الحَدِيث عَن الشَّافِعِي، (بِإِسْنَادِهِ) ، عَن جدَّتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر «أَن امْرَأَة سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن دم الْحيض يُصِيب الثَّوْب» وَهُوَ الصَّحِيح.
(1/513)
كَذَلِك رَوَاهُ الْحميدِي، وَغَيره، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
[و] كَذَلِك رَوَاهُ مَالك وَيَحْيَى بن سعيد وَعبد الله بن نمير ووكيع وَغَيرهم، عَن هِشَام، وَهُوَ مُخَرَّج فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث مَالك وَغَيره. انْتَهَى) .
وَمِمَّا يُتعجب أَيْضا إِنْكَار جماعات عَلَى صَاحب «الْمُهَذّب» ، حَيْثُ رَوَى أَن أَسمَاء هِيَ السائلة، وغَلَّطُوه فِي ذَلِك، وَقد بَانَ غلطُهم بِفضل الله وقوَّته.
بَقِي أَمر آخر - وَهُوَ المهم الْمَطْلُوب - وَهُوَ: أَن هَذِه اللَّفْظَة الَّتِي أوردهَا الإِمام الرَّافِعِيّ وَغَيره من الْفُقَهَاء فِي هَذَا الحَدِيث وَهِي: «اغسليه بِالْمَاءِ» - وَهِي بَيت (القصيد) - غَرِيبَة، لَيست مرويَّة فِي الْكتب الْمَشَاهِير، وَقد أخرج هَذَا الحَدِيث - مَعَ من تقدم - الإِمام أَحْمد، وَبَاقِي السّنَن الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم، وَلَيْسَ فِي رواياتهم هَذِه اللَّفْظَة، وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» : إِن هَذِه اللَّفْظَة غير مَحْفُوظَة (فِي) هَذَا الحَدِيث. لَكِن قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : (يرْوَى) فِي الْخَبَر هَذِه اللَّفْظَة. فَبَقيت زَمنا متحيِّرًا فِي ذَلِك، نَاوِيا الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ مرّة، ومتوقفًا أُخرى، إِلَى أَن وجدت مَا
(1/514)
نَقله، فَخرج عَن عُهْدَة النَّقْل، وَقد أَفَادَ ذَلِك شيخ الإِسلام تَقِيّ الدَّين ابْن دَقِيق الْعِيد فِي كِتَابه «الإِمام» ، فَقَالَ: لَيْسَ من الْأُمَّهَات مَا اشْتهر (بَين) الْفُقَهَاء فِي هَذَا الحَدِيث: «ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ» .
(قَالَ) : وَمن زعم أَن: «اقرصيه بِالْمَاءِ» مساوٍ فِي الدّلَالَة (ل «اغسليه) بِالْمَاءِ» ، فَقَوله مَمْنُوع، نعم وَقع لنا الْأَمر بِالْغسْلِ بِالْمَاءِ من رِوَايَة مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر، عَن أَسمَاء بنت أبي بكر، قَالَت: «سمعتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (وَسَأَلته) امْرَأَة عَن دم الْحيض يُصِيب ثوبها، قَالَ: اغسليه (بِمَاء، ثمَّ انضحي فِي سَائِر ثَوْبك، وصَلِّي فِيهِ» .
رَوَاهُ أَحْمد بن منيع فِي «مُسْنده» ، عَن يزِيد بن هَارُون، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، قَالَ: وَقد رَوَاهُ غَيره عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بِغَيْر هَذِه اللَّفْظَة، أَعنِي: «اغسليه» ) .
قُلْتُ: وتعتضد هَذِه الرِّوَايَة بِرِوَايَة أبي عوَانَة، وَابْن مَاجَه المتقدمتين، فإنَّ ظاهرهما مثلهَا.
وَرَأَيْت بعد ذَلِك فِي «الْمعرفَة» للبيهقي مَا (نَصه) : وَرَوَى مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار، عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر، عَن أَسمَاء، وَفِيه:
(1/515)
«حتِّيه، ثمَّ اقرصيه بِمَاء، ثمَّ تنضح فِي سَائِر ثوبها، ثمَّ تصلِّي» . فَهَذِهِ رِوَايَة أُخرى عَن ابْن إِسْحَاق، فَيكون اخْتُلف عَلَيْهِ فِي لَفظه.
وَقد وَردت أَيْضا فِي حَدِيث (آخر) صَحِيح من غير شكّ وَلَا مرية، يتَعَيَّن الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الإِمام أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، من حَدِيث أم قيس بنت مُحصن رَضِي اللهُ عَنْهُا «أَنَّهَا سَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن دم الْحَيْضَة يُصِيب الثَّوْب، فال: حُكِّيه بضِلَع، واغسليه بِمَاء وَسدر» .
قَالَ أَبُو الْحسن ابْن القطَّان: وَإسْنَاد هَذَا الحَدِيث فِي غَايَة من الصِّحَّة، وَلَا أعلم لَهُ عِلّة.
تَنْبِيهَات:
أَولهَا: جمع الإِمامان ابْن الْأَثِير، والرافعي فِي « (شرحي) الْمسند» بَين الرِّوَايَتَيْنِ المتقدمتين فِي حَدِيث أَسمَاء بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه يُمكن أَن أَسمَاء سَأَلت عَن ذَلِك، وَسَأَلَ غَيرهَا أَيْضا، فيكونا قصتين، (فترجع) كل رِوَايَة إِلَى سُؤال.
(1/516)
وَالثَّانِي: أَنه يُمكن أَن تَعْنِي أَسمَاء فِي الرِّوَايَة: «أَن امْرَأَة سَأَلت» . نَفسهَا، والوجهان محتملان.
ثَانِيهَا: قَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : الْأَمر بالحتّ والرشّ أَمر ندبٍ لَا حتم، وَالْأَمر بالقَرْص إِنَّمَا هُوَ مقرون بِشَرْطِهِ، وَهُوَ إِزَالَة الْعين، فإزالة الْعين فرض، والقَرْص بِالْمَاءِ نفل إِذا قُدر عَلَى إِزَالَته بِغَيْر قَرْص، وَالْأَمر بِالصَّلَاةِ فِي ذَلِك الثَّوْب بعد غسله أَمر (إِبَاحَة لَا حتم) .
قَالَ: (و) قَوْله فِي حَدِيث أم قيس: «اغسليه بِالْمَاءِ» أَمر فرض، وَذكر السدر والحك بالضلع أَمر ندب وإرشاد.
ثَالِثهَا: الحتّ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فَوق: الحك والقشر، قَالَ الْهَرَوِيّ: حُتِّيه: أَي حُكِّيه.
والقَرْص: الغمز بأطراف الْأَصَابِع، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: (قَرِّصِيه: قَطِّعِيه) . وَرُوِيَ: «تَقْرُصه» بِفَتْح التَّاء وَإِسْكَان الْقَاف وَضم الرَّاء، وبضم التَّاء وَفتح الْقَاف وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: رَوَيْنَاهُ بهما جَمِيعًا.
رَابِعهَا: أُم قيس بنت مُحصن، لم يذكرالحافظ جمال الدَّين الْمزي
(1/517)
اسْمهَا، وَهِي آمِنَة، كَمَا قَالَه السُّهيْلي فِي «الرَّوْض» ، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هِيَ جذامة بنت وهب بن مُحصن. فاستفد ذَلِك.
خَامِسهَا: قَوْله فِي حَدِيث أُم قيس: «حُكِّيه بِصَلْع» . هُوَ بالصَّاد الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة، بعْدهَا لَام سَاكِنة، ثمَّ عين مُهْملَة. كَذَا ضَبطه صَاحب «الإِمام» وَهُوَ عِنْدهم الْحجر. قَالَ: وَوَقع فِي بعض الْمَوَاضِع: «بِضِلَع» بالضاد الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة، وَفتح اللَّام.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : لَعَلَّه تَصْحِيف، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى يَقْتَضِي تَخْصِيص الضلع، وَأما الْحجر فَيحْتَمل أَن [يُحمل] ذكره عَلَى غَلَبَة الْوُجُود، واستعماله فِي (الحك) .
قُلْتُ: (وَمَا زَعمه) الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين - رَحِمَهُ اللَّهُ - من هَذَا التَّصْحِيف خلاف الْمَنْقُول، فقد ذكره جماعات بالضاد الْمُعْجَمَة، قَالَ الصَّاغَانِي فِي «الْعباب» فِي مَادَّة «ضلع» : وَفِي الحَدِيث «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمَرَ امْرَأَة فِي دم الْحيض يُصِيب الثَّوْب فَقَالَ: حتيه بضلع» . قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الضلع: هُوَ الْعود هَاهُنَا، وَقيل للعود الَّذِي فِيهِ عرض واعوجاج: ضلع، تَشْبِيها (بالضلع) . وَقَالَ الْأَزْهَرِي فِي «تهذيبه» فِي الْمَادَّة الْمَذْكُورَة: وَرُوِيَ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَمَرَ امْرَأَة فِي دم الْحيض يُصِيب الثَّوْب: حتيه بضِلَع» هَكَذَا رَوَاهُ الثِّقَات، بِكَسْر الضَّاد، وَفتح اللَّام، فَأَخْبرنِي الْمُنْذر، عَن ثَعْلَب، عَن ابْن الْأَعرَابِي، أَنه قَالَ: الضلع: الْعود هَاهُنَا.
(1/518)
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: (أصل) الضِّلَع: ضِلَع الْجنب، وَقيل للعود الَّذِي فِيهِ عرض واعوجاج: ضلع تَشْبِيها بالضلع، وَاحِد الأضلاع. وَقَالَ اللَّيْث: هِيَ الصلع والضلع (لُغَتَانِ.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «النِّهَايَة» فِي بَاب الضَّاد الْمُعْجَمَة مَعَ اللَّام: وَفِي حَدِيث غسل [دم] الْحيض: «حتيه بضلع» ، أَي بِعُود) ، وَالْأَصْل فِيهِ ضلع الْحَيَوَان، فَسُمي بِهِ الْعود الَّذِي يُشبههُ، وَقد تسكن اللَّام تَخْفِيفًا. وَذكره أَيْضا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «غَرِيبه» فِي بَاب الضَّاد الْمُعْجَمَة.
فقد بَانَ بِهَذَا أَن الرِّوَايَة بالضاد الْمُعْجَمَة، وَأَن الْحَامِل للشَّيْخ تَقِيّ الدَّين عَلَى جعلهَا تصحيفًا قد بَانَ خِلَافه من أَن المُرَاد بالضلع: الْعود، لَا الْعظم نَفسه. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
وَفِي «المستعذب فِي غَرِيب الْمُهَذّب» لأبي مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الركبي اليمني: فِي الحَدِيث: «حكِّيه (وَلَوْ) بضلع» : أَي عظم.
الحَدِيث السَّابِع عشر
رُوي «أَن نسْوَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَأَلْنَه عَن دم الْحيض (يُصِيب) الثَّوْب، وذَكَرْنَ لَهُ أنَّ لون الدَّم يَبْقَى، فَقَالَ: أَلْطِخْنَه بزعفران» .
(1/519)
هَذَا الحَدِيث غَرِيب، لَا أعلم من خَرَّجَه بعد الْبَحْث عَنهُ، نعم فِي «سنَن أبي دَاوُد» بِإِسْنَاد لَا أعلم بِهِ بَأْسا، عَن معَاذَة قَالَت: «سألتُ عَائِشَة عَن الْحَائِض يُصِيب ثوبها الدَّم، قَالَت: تغسله، فإنْ لَمْ يذهب أَثَره فلتغيره بِشَيْء من صُفرة. قَالَت: وَلَقَد كنت (أحيض) عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاث حِيَض، جَمِيعًا، لَا أغسل لي ثوبا» .
وَفِي «مُسْند الدَّارمِيّ» عَن أبي النُّعْمَان، نَا ثَابت بن [يزِيد] ، نَا عَاصِم، عَن معَاذَة العدوية، عَن عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَت: «إِذا غَسَلَتِ [الْمَرْأَة] الدَّم، فَلم يذهب، فتلغيره بصُفرة (ورس) أَو زعفران» .
الحَدِيث الثَّامِن عشر
عَن خَوْلَة بنت يسَار قَالَت: «سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن دم الْحيض، فَقَالَ: اغْسِلِيه. فَقلت: أغسله فَيَبْقَى أَثَره؟ فَقَالَ (: الماءُ يَكْفِيكِ، وَلَا يَضُرُّكِ أَثَره» .
هَذَا الحَدِيث رُوي عَن خَوْلَة رَضِي اللهُ عَنْهُا من طَرِيقين، ولنذكر ذَلِك بِإِسْنَادَيْنِ (إِلَيْهَا) ، لِئَلَّا يَخْلُو الْكتاب (من) إِسْنَاد:
(1/520)
فأولهما: أَنا بِهِ الْحَافِظ أَبُو الْفَتْح الْيَعْمرِي، وَغير وَاحِد، أَنا الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن دَقِيق الْعِيد، أَنا الْمُنْذِرِيّ، أَنا أَبُو الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ، أَنا زَاهِر بن طَاهِر، أَنا أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ، أَنا أَبُو زَكَرِيَّا (يَحْيَى) بن أبي إِسْحَاق، أَنا الْأَصَم، أَنا مُحَمَّد بن عبد الحكم، أَنا ابْن وهب، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن ابْن أبي حبيب، عَن عِيسَى بن طَلْحَة، عَن أبي هُرَيْرَة: أنَّ خَوْلَة بنت يسَار قَالَت لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أرأيتَ إنْ لَمْ يخرجْ الدَّم من (الثَّوْب) ؟ قَالَ: يَكْفِيك المَاء، وَلَا يَضرك أَثَره» .
وَرَوَاهُ يَحْيَى بن عُثْمَان بن صَالح، عَن أَبِيه، عَن ابْن لَهِيعَة. (كَذَلِك) وَسَنذكر - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - أَقْوَال الْأَئِمَّة فِي عبد الله بن لَهِيعَة فِي آخر بَاب الْوضُوء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَانِ الإِسنادان ضعيفان، تَفَرَّد بهما ابْن لَهِيعَة.
وأَخْبَرْنَاه - أَعلَى من هَذَا بِدَرَجَة - العدْل شهَاب الدَّين، أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن هبة الله - بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ - أَنا النجيب عبد اللَّطِيف - حضورًا - أَنا ابْن طبرزذ، أَنا أَبُو الْفَتْح الْوراق، أَنا الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب، نَا ابْن عبد الْوَاحِد، ثَنَا اللؤْلُؤِي، نَا أَبُو دَاوُد، نَا قُتَيْبَة، (عَن) ابْن لَهِيعَة، عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن عِيسَى بن طَلْحَة، عَن أبي هُرَيْرَة: «أَن خَوْلَة بنت يسَار أَتَت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إنَّه
(1/521)
لَيْسَ لي إلاَّ ثوب وَاحِد، وَأَنا أحيض فِيهِ، كَيفَ أصنع؟ قَالَ: إِذا طهرت فاغسليه، ثمَّ صلِّي فِيهِ. قَالَت: فإنْ لم يخرج الدَّم؟ قَالَ: يَكْفِيك (المَاء) ، وَلَا يَضرك أَثَره» .
هَذَا الحَدِيث ثَابت فِي «سنَن أبي دَاوُد» من طَرِيق ابْن الْأَعرَابِي أَيْضا، وَلم يذكرهُ ابْن عَسَاكِر فِي «الْأَطْرَاف» ، وَهُوَ (أحد) مَا يُستدرك عَلَيْهِ، لَا (جرم) أنَّ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي ذكره فِي «أَطْرَافه» مستدركًا عَلَيْهِ.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ: قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: لم يُسْمَع بخولة بنت يسَار إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث.
الطَّرِيق الثَّانِي: أَنا بِهِ الْحَافِظ أَبُو الْفَتْح الْيَعْمرِي، نَا أَبُو مُحَمَّد بن ساعد، أَنا ابْن خَلِيل الْحَافِظ، أَنا الشَّيْخَانِ: (أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الطرسوسي) ، وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن (أبي) زيد
(1/522)
الكراني، قَالَا: أَنا مَحْمُود بن إِسْمَاعِيل الصَّيْرَفِي، أَنا أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن فاذشاه، أَنا الطَّبَرَانِيّ، نَا الْحُسَيْن بن إِسْحَاق التسترِي، نَا عُثْمَان بن أبي شيبَة، نَا عَلّي بن ثَابت الْجَزرِي، عَن الْوَازِع بن نَافِع، عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، عَن خَوْلَة بنت حَكِيم، قَالَت: «قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أحيض، وَلَيْسَ لي إلاَّ ثوب وَاحِد. قَالَ: اغسليه، وصلِّي فِيهِ. قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إنَّه يَبْقَى فِيهِ أثر الدَّم. قَالَ: لَا يَضرك» .
أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه» فِي مُسْند خَوْلَة بنت حَكِيم الْأَنْصَارِيَّة، بعد أَن ذكر مُسْند خَوْلَة بنت حَكِيم السلمِيَّة، وَلَيْسَ (لهَذَا) الحَدِيث فِيهِ ذكر.
وَذكره الْحَافِظ أَبُو نعيم، ثمَّ أَبُو عمر بن عبد الْبر، فِي تَرْجَمَة خَوْلَة بنت يسَار، ثمَّ قَالَ (أَبُو عمر) : أخْشَى أَن تكون خَوْلَة بنت الْيَمَان، لِأَن إِسْنَاد حَدِيثهمَا (وَاحِد) ، وإنَّما هُوَ: (عَلّي) بن ثَابت، عَن الْوَازِع بن نَافِع، عَن أبي سَلمَة (بِهِ) ، إلاَّ أنَّ من دون عَلّي بن ثَابت [يخْتَلف فِي الْحَدِيثين] .
(1/523)
قُلْتُ: الْوَازِع بن نَافِع، قَالَ فِيهِ الْحَرْبِيّ: (غَيره) أوثق مِنْهُ. وَهَذِه عبارَة عَجِيبَة فَإِنَّهَا لَا (تُقال) إلاَّ لِمَنْ شُورك فِي الثِّقَة، والوازع هَذَا قَالَ فِيهِ أَحْمد وَيَحْيَى: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ أَحْمد مرّة أُخْرَى: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء. (وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الرَّازِيّ: ذَاهِب الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِشَيْء) . قَالَ (النَّسَائِيّ) : مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. فَتَلخَّص أنَّ الحَدِيث الْمَذْكُور ضَعِيف من (طريقيه) .
الحَدِيث التَّاسِع عشر
«أنَّ أَعْرَابِيًا بَال فِي نَاحيَة الْمَسْجِد، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: صُبّوا عَلَيْه ذنوبًا مِنْ مَاء» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، مرويّ من طَرِيقين صَحِيحَيْنِ، لَا مطْعن لأحد فيهمَا:
(1/524)
أَحدهمَا: عَن أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحن فِي الْمَسْجِد مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذْ جَاءَ أَعْرَابِي، فَقَامَ يَبُول فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَه مَه، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تُزْرِمُوه دَعوه. فَتَرَكُوهُ حتَّى بَال، ثمَّ إنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ هَذِه الْمَسَاجِد لَا تصلح لشَيْء من هَذَا الْبَوْل وَلَا (القذر) ، إنَّما هِيَ لذكر الله - عزَّ وجلَّ - وَالصَّلَاة، وَقِرَاءَة الْقُرْآن - أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَمَرَ رجلا من الْقَوْم، فجَاء بِدَلْو من مَاء، فشنَّه عَلَيْهِ» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَاللَّفْظ لمُسلم.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «قَامَ أَعْرَابِي فِي الْمَسْجِد فَبَال، فتناوله النَّاس، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: دَعوه (وهريقوا) عَلَى بَوْله سَجْلًا من مَاء - أَو ذَنُوبًا من مَاء - فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرين، وَلم تُبعَثوا معسرين» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ.
وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» عَنهُ: «دخل أَعْرَابِي الْمَسْجِد، وَرَسُول الله جَالس، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لي ولمحمد، وَلَا تغْفر لأحد مَعنا. فَقَالَ
(1/525)
عَلَيْهِ السَّلَام: لقد (احتظرت) وَاسِعًا. ثمَّ تنحَّى الْأَعرَابِي فَبَال فِي نَاحيَة الْمَسْجِد. فَقَالَ (الْأَعرَابِي بعد أَن فَقِهَ الإِسلام: إنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُ: إِن هَذَا الْمَسْجِد) إِنَّمَا هُوَ لِذِكْر الله، وَالصَّلَاة وَلَا يُبَال فِيهِ. ثمَّ دَعَا بسجل من مَاء، فأفرغه عَلَيْهِ» .
(و) اعْلَم: أنَّ الإِمام الرَّافِعِيّ لمَّا نَقَل عَن أبي حنيفَة: أَن الأَرْض لَا تطهر حتَّى تُحْفَر إِلَى الْموضع (الَّذِي) وصلت إِلَيْهِ النداوة، وينقل التُّرَاب. قَالَ: لنا هَذَا الحَدِيث. ثمَّ قَالَ إثره: وَلم يَأْمر بِنَقْل التُّرَاب. انْتَهَى.
وَقد رُوِيَ الْأَمر بذلك من طرق، (لَكِنَّهَا) مُتَكَلم فِيهَا:
أَحدهَا: عَن عبد الله بن معقل بن مقرن رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «قَامَ أَعْرَابِي إِلَى زَاوِيَة من زَوَايَا الْمَسْجِد، [فانكشف] ، فَبَال فِيهَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: خُذُوا مَا بَال عَلَيْهِ من التُّرَاب فألقوه، وأهريقوا عَلَى مَكَانَهُ مَاء» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمَا» . قَالَا: وَعبد الله بن معقل تَابِعِيّ، وَهُوَ مُرْسل. قَالَ الْعجلِيّ: تَابِعِيّ ثِقَة. وَقَالَ الإِمام أَحْمد: هَذَا حَدِيث مُنكر. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَقد رُوي مَرْفُوعا وَلَا يصحّ.
(1/526)
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أبي (وَائِل) ، عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِي فَبَال فِي الْمَسْجِد، فَأمر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بمكانه فاحتُفر، وصُبَّ عَلَيْهِ دلو من مَاء، فَقَالَ الْأَعرَابِي: يَا رَسُول الله، الْمَرْء يحب الْقَوْم و (لمَّا) يعْمل (عَمَلهم) . فقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: الْمَرْء مَعَ من أحب» .
رَوَاهُ (الدَّارَقُطْنِيّ) فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد فِيهِ ضعيفان: أَحدهمَا: سمْعَان بن مَالك، قَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. الثَّانِي: أَبُو هِشَام الرِّفَاعِي، قَالَ البُخَارِيّ: رَأَيْتهمْ مُجْمِعِينَ عَلَى ضعفه.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: لَيْسَ لهَذَا الحَدِيث أصل. وَقَالَ ابو زرْعَة: مُنكر.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ «أَن أَعْرَابِيًا بَال فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: احفروا مَكَانَهُ، ثمَّ صبوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا من مَاء» .
رَوَاهُ ابْن صاعد، عَن عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن أنس.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وهم عبد الْجَبَّار
(1/527)
عَلَى ابْن عُيَيْنَة؛ لِأَن أَصْحَاب ابْن عُيَيْنَة الحفَّاظ رَوَوْهُ عَنهُ، عَن يَحْيَى بن سعيد، فَلم يذكر أحد مِنْهُم «الْحفر» وإنَّما رَوَى ابْن عُيَيْنَة هَذَا عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «احفروا مَكَانَهُ» مُرْسلا، فاختلط عَلَى عبد الْجَبَّار المتنان.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : عبد الْجَبَّار هَذَا هُوَ ابْن الْعَلَاء بن عبد الْجَبَّار أَبُو بكر [الْعَطَّار] الْبَصْرِيّ، أخرج لَهُ مُسلم وَابْن خُزَيْمَة، وَرَوَى لَهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مكي صَالح. وَقَالَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: شيخ. وَسُئِلَ عَنهُ أَحْمد بن حَنْبَل، فَقَالَ: رَأَيْته (عِنْد) ابْن عُيَيْنَة حسن الْأَخْذ.
الطَّرِيق (الرَّابِع) : عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَدخل أَعْرَابِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومحمدًا، وَلَا ترحم مَعنا أحدا. فَقَالَ لَهُ: وَيحك - أَو وَيلك - لقد حظرت وَاسِعًا. ثمَّ تَنَحَّى الْأَعرَابِي فَبَال قَائِما، فَوَثَبُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: دَعوه حتَّى يَفْرُغَ من مباله. ثمَّ دَعَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِسَجْلٍ من مَاء فَصَبَّه عَلَيْهِ» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه» ، وَفِي
(1/528)
إِسْنَاده عبيد الله بن أبي حُميد الْهُذلِيّ، وَهُوَ ضَعِيف، سُئِلَ عَنهُ الإِمام أَحْمد فَقَالَ: تُرِكَ حَدِيثه. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ مُنكر الحَدِيث، (ضَعِيف الحَدِيث) . وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
(إِذا) عرفت طرق هَذَا الحَدِيث، فلنعد إِلَى تَبْيِين مَا وَقع (فِيهِ) من الْغَرِيب، فَنَقُول:
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «لَا تُزْرِموه» هُوَ: بِضَم التَّاء، وَإِسْكَان الزَّاي الْمُعْجَمَة، بعْدهَا رَاء مُهْملَة مَكْسُورَة، وَمَعْنَاهُ: لَا (تقطعوه) . والإِزرام: (الْقطع) .
و «الدَّلْو» فِيهِ لُغَتَانِ: التَّذْكِير، والتأنيث.
و «الذَّنوب» بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة: الدَّلْو إِذا كَانَت الدَّلْو ملأى، قَالَ ابْن سِيده فِي «الْمُحكم» : الذَّنُوب: الدَّلْو فِيهَا مَاء. وَقيل: الذُّنُوب: الدَّلْو الَّذِي يكون المَاء دون ملئها. وَقيل: هِيَ الدَّلْو الملأى. وَقيل: هِيَ الدَّلْو مَا كَانَت. كل ذَلِك مُذَكّر عِنْد اللحياني. (قَالَ) : وَقد (يؤنث) الذُّنُوب.
و «السَّجْل» بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة، وبالجيم الساكنة: الدَّلْو الْكَبِيرَة إِذا كَانَ فِيهَا مَاء، قَلَّ أَو كثر، قَالَ الْجَوْهَرِي: وَهُوَ مُذَكّر، وَلَا يُقَال: سجل إِذا لم يكن فِيهِ مَاء.
(1/529)
و «مَه» كلمة زجر، وَيُقَال: «بِهِ» بِالْبَاء أَيْضا، وَهُوَ اسْم مَبْنِيّ عَلَى السّكُون، مَعْنَاهُ: اسْكُتْ. قَالَ صَاحب «الْمطَالع» : أَصْلهَا: مَا هَذَا، ثمَّ حذفت تَخْفِيفًا. قَالَ: وَقَالَ يَعْقُوب: هِيَ لتعظيم الْأَمر كبخٍ بخ. وَقد تنوَّن مَعَ الْكسر، ويُنَوَّن الأول ويُكسر الثَّانِي بِغَيْر تَنْوِين.
وَقَوله: «فَشَنَّه عَلَيْهِ» يُروى بالشين الْمُعْجَمَة، والمهملة، وَمَعْنَاهُ: صَبَّه. وفرَّق بعض الْعلمَاء بَينهمَا، فَقَالَ: هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ: الصب فِي سهولة، وبالمعجمة: التَّفْرِيق فِي صبه.
فَائِدَة مهمة يُرحل إِلَيْهَا:
وَهِي أَن الَّذِي بَال فِي الْمَسْجِد، مَا اسْمه؟ وليُعْلَم أَنه ذُو الْخوَيْصِرَة الْيَمَانِيّ، كَذَا سَاقه بِإِسْنَادِهِ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» ، وَلَا أعلم أحدا ذكره فِي المبهمات، وَهُوَ أحد مَا يسْتَدرك عَلَيْهِم ويُستفاد.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إنَّما يُغْسَل مِنْ بَوْل الْجَارِيَة، ويُرَشُّ عَلى بَوْل الْغُلَام» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَله طرق:
أَحدهَا: عَن عَلّي بن أبي طَالب - كرَّم الله وَجهه - «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي بَوْل الرَّضِيع: يُنضح بَوْل الْغُلَام، ويُغسل بَوْل الْجَارِيَة» .
رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ،
(1/530)
وَابْن مَاجَه، (وَابْن خُزَيْمَة) ، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» ، وَأَلْفَاظهمْ مُتَقَارِبَة، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لفظ ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم.
قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي أَوَاخِر «كتاب الصَّلَاة» : هَذَا حَدِيث حسن، رَفَعَ هِشَام الدستوَائي هَذَا الحَدِيث عَن قَتَادَة، و (وَقفه) سعيد بن (أبي) عرُوبَة عَن قَتَادَة، وَلم يرفعهُ.
قَالَ: وَسَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ، فَقَالَ: سعيد بن أبي عرُوبَة لَا (يرفعهُ) ، وَهِشَام يرفعهُ، وَهُوَ حَافظ.
قَالَ اليبهقي: إلاَّ أَن غير معَاذ بن هِشَام - يَعْنِي الَّذِي رَوَاهُ عَن أَبِيه هِشَام مَوْصُولا - يرويهِ عَن هِشَام مُرْسلا. أَي: فَيكون هِشَام قد اخْتُلف عَلَيْهِ فِي رَفعه.
وَلم يعبأ الْحَاكِم أَبُو عبد الله بذلك، فَذكره مَرْفُوعا ثمَّ قَالَ:
(1/531)
هَذَا حَدِيث صَحِيح. (قَالَ: و) أَبُو الْأسود الديلِي - يَعْنِي رَاوِيه عَن عَلّي - صَحَّ سَمَاعه من عَلّي، وَهُوَ عَلَى شَرطهمَا صَحِيح وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَله شَاهِدَانِ صَحِيحَانِ. وهما الطريقان الآتيان بعد هَذَا.
ثَانِيهَا: عَن أبي السَّمْح رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «كنت أخدم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأُتِيَ بِحسن - أَو حُسَيْن - فَبَال عَلَى صَدره، فجئتُ أغسله، فَقَالَ: يُغسل (من) بولِ الْجَارِيَة، ويُرَش من بولِ الْغُلَام» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة والحاكمان: أَبُو أَحْمد فِي «كناه» ، وَأَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح.
وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدِيث أبي السَّمْح هَذَا حَدِيث حسن.
وَرَوَاهُ أَيْضا: أَبُو بكر الْبَزَّار فِي «مُسْنده» (بِلَفْظ) : «يُنْضَحُ بولُ الغلامِ، ويُغْسَلُ بولُ الْجَارِيَة» . وَقَالَ: أَبُو السَّمْح لَا يُعْلَمُ (حدَّث) عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إلاَّ بِهَذَا الحَدِيث، وَلَا لهَذَا الحَدِيث إسنادٌ إلاَّ هَذَا، وَلَا يُحفظ هَذَا الحَدِيث إلاَّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن مهْدي.
قُلْتُ: لَهُ حَدِيث آخر. قَالَه بَقِي بن مخلد.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا حَدِيث لَا تقوم بِهِ حجَّة، والمُحِلّ
(1/532)
ضَعِيف، وَرِوَايَة من رَوَى الصب عَلَى بَوْل الصَّبِي، وإتباعه (بِالْمَاءِ) أصح.
وَتَبعهُ ابْن عبد الْحق فِي كِتَابه: «الرَّد عَلَى ابْن حزم فِي الْمُحَلَّى» فَقَالَ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة يَحْيَى بن الْوَلِيد بن الْمسير أَبُو الزَّعْرَاء، وَفِيه جَهَالَة، لَمْ يذكرهُ ابْن أبي حَاتِم بجَرح وَلَا (تَعْدِيل) ، وَلَا غَيره من المتقدِّمين إلاَّ النَّسَائِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ. وَفِيه أَيْضا: مُحِلّ - بميم مَضْمُومَة، ثمَّ حاء مُهْملَة مَكْسُورَة، ثمَّ لَام مُشَدّدَة، كَذَا ضَبطه صَاحب «الإِمام» - (ابْن خَليفَة، قَالَ ابْن عبد الْبر فِيهِ: ضَعِيف. وَوَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق. انْتَهَى مَا ذكره ابْن عبد الْحق.
وَالْحق: صِحَّته، كَمَا قَالَه ابْن خُزَيْمَة، وَالْحَاكِم) وَكَذَا الْقُرْطُبِيّ فِي « (شرح مُسلم» ) . أَو حسنه، كَمَا قَالَ (البُخَارِيّ) .
وَيَكْفِينَا فِي يَحْيَى بن الْوَلِيد (قَول) النَّسَائِيّ، وَكَذَلِكَ فِي «مَحل بن خَليفَة» قَول ابْن معِين وَأبي حَاتِم، وَقد أخرج لَهُ مَعَ ذَلِك البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» .
فَائِدَة: قَالَ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ: لَا أعرف اسْم أبي السَّمْح هَذَا، وَلَا أعرف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث. وَذكر هَذَا الحَدِيث ابْن الْجَوْزِيّ فِي آخر
(1/533)
«جَامع المسانيد» فِي تَرْجَمَة من عرف بكنيته وَلم يعرف اسْمه.
قُلْتُ: (قد تقدَّم) أَن الْحَافِظ بَقِي بن مخلد قَالَ: إِن لَهُ حَدِيثا آخر. وَفِي «تَهْذِيب الْكَمَال» للشَّيْخ جمال الدَّين الْمزي أَنه رَوَى أَيْضا حديثين:
أَحدهمَا: «كنت خَادِم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَكَانَ إِذا أَرَادَ أَن يغْتَسل قَالَ: وَلِّني قفاك. واستتر بِالثَّوْبِ» ، ثمَّ ذكر الثَّانِي: «كَانَ يجاء بالْحسنِ - أَو الْحُسَيْن - فيبول عَلَى صَدره، فأرادوا أَن يغسلوه، فَقَالَ: رشوه، فإنَّه يغسل من بَوْل الْجَارِيَة، ويرش من بَوْل الْغُلَام» . (وَغير) الشَّيْخ جمال الدَّين الْمزي ساقهما (مساق) حَدِيث واحدٍ، كَأبي دَاوُد (وَغَيره) .
وَأما اسْمه، فَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عمر بن عبد الْبر، وجمال الدَّين الْمزي فِي «الْأَطْرَاف» : يُقَال إِن اسْمه (إياد) . وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» : اسْمه مَالك. قَالَ: كَذَا سَمَّاه يَحْيَى بن يُونُس.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن لبَابَة بنت الْحَارِث، قَالَت: «كَانَ الْحُسَيْن بن عَلّي فِي حجر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَبَال عَلَيْهِ، فَقلت: البس ثوبا جَدِيدا، وَأَعْطِنِي إزارك حتَّى أغسله. فَقَالَ: إنَّما يُغْسل من بَوْل الْأُنْثَى، ويُنْضح من بَوْل الذّكر» .
(1/534)
رَوَاهُ الإِمام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح. قَالَ: ولبابة هِيَ بنت الْحَارِث الْكُبْرَى، أمهَا هِنْد، ولدت من الْعَبَّاس سِتَّة: الْفضل، وَعبد الله، وَعبيد الله، ومعبدًا، وَعبد الرَّحْمَن، وقُثَم.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ (أَيْضا) فِي «أكبر معاجمه» من رِوَايَة قَابُوس بن الْمخَارِق، (عَن أَبِيه) ، عَن لبَابَة أَيْضا.
وَهَذِه لَا تَقْتَضِي انْقِطَاعًا فِي (طَرِيق الأول) ، فإنَّ فِيهَا أَبُو مَالك النَّخعِيّ، وَقد تَقَدَّم أَنه ضَعِيف.
(1/535)
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم (عَن أَبِيه: قَابُوس) هَذَا رَوَى عَن أم الْفضل بنت الْحَارِث - يَعْنِي لبَابَة الْمَذْكُورَة - وَسمع من أَبِيه، وَأَبوهُ سمع من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
الطَّرِيق الرَّابِع: (عَن عَمْرو بن شُعَيْب) ، عَن أم كرز الْخُزَاعِيَّة الْكَعْبِيَّة رَضِي اللهُ عَنْهُا قَالَت: (أُتِيَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بصبي فَبَال عَلَيْهِ، فَأَمَر بِهِ فنضح، وأُتِيَ بِجَارِيَة فَبَالت عَلَيْهِ، فأَمَرَ بِهِ فَغسل» .
رَوَاهُ الإِمام أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَلَفظه: (قَالَ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «بَوْل الْغُلَام ينضح، وَبَوْل الْجَارِيَة يغسل» .
قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: هَذَا حَدِيث مُنْقَطع؛ لِأَن عَمْرو بن شُعَيْب لم يدْرك أم كرز.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن أُم سَلمَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يُنضح بَوْل الْغُلَام، ويُغسل بَوْل الْجَارِيَة» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن الْحسن، عَن أمه، عَنْهَا. و «إِسْمَاعِيل» هَذَا يُحتمل أَن يكون الْمَكِّيّ،
(1/536)
وَأَن يكون الْعَبْدي، فإنَّ كلا مِنْهُمَا يروي عَن الْحسن، فَإِن (يكن) الأول فضعيف، وإنْ يكن الثَّانِي فَثِقَة.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «الْأَوْسَط» (بالسند الْمَذْكُور) بِلَفْظ: «إِذا كَانَ الْغُلَام لم يطعم الطَّعَام صب عَلَى (بَوْله) ، وَإِذا كَانَت الْجَارِيَة غسل» .
وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث هشيم، عَن يُونُس، عَن الْحسن، عَن أمه عَنْهَا: «أَن الْحسن - أَو الْحُسَيْن - بَال عَلَى بطن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذَهَبُوا ليأخذوه، فَقَالَ: لَا تُزْرِموا ابْني - أَو وَلَا تعجلوه - فَتَركه حتَّى قَضَى بَوْله، فَدَعَا بِمَاء ... » الحَدِيث.
وَرَوَاهُ أَبُو يعْلى الْموصِلِي فِي «مُسْنده» من حَدِيث (الْمُبَارك
(1/537)
بن) فضَالة، عَن الْحسن بِلَفْظ: «يُصَبُّ عَلَيْهِ المَاء مَا لم يطْعَم، وَبَوْل الْجَارِيَة يُغسل غسلا طُعِمَتْ أَو لَمْ تُطْعَم» .
(وَذكره) ابْن عبد الْبر مَوْقُوفا عَلَيْهَا، فإنَّه قَالَ: (أولَى) وَأحسن شَيْء فِي هَذَا الْبَاب مَا قالته أم سَلمَة، قَالَت: «بَوْل الْغُلَام يُصب عَلَيْهِ (المَاء) صبا، وَبَوْل (الْجَارِيَة) يُغسل، طعمت أَو لم تطعم» ذكره الْبَغَوِيّ.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن نَافِع، عَن أنس بن مَالك، قَالَ: «بَينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - راقدٌ فِي بعض (بيوته) ، عَلَى قَفاهُ، إذْ (جَاءَ) الْحسن يدرج، حتَّى قعد عَلَى صدر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ بَال عَلَى صَدره، فَجئْت أميطه عَنهُ، فَقَالَ: وَيحك يَا أنس، دعْ ابْني، وَثَمَرَة فُؤَادِي، فإنَّ من آذَى هَذَا فقد آذَانِي، وَمن آذَانِي فقد آذَى الله. ثمَّ دَعَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَاء، فصبَّه عَلَى الْبَوْل صَبًّا، فقَالَ: يُصبُّ عَلَى بَوْل الْغُلَام، ويُغسل بَوْل الْجَارِيَة» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، وَنَافِع هَذَا: هُوَ أَبُو هُرْمُز، قَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: لَيْسَ بِثِقَة.
(1/538)
الطَّرِيق السَّابِع: عَن زَيْنَب بنت جحش، قَالَت: «تَقَيَّل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي بَيْتِي، إِذْ أقبل الْحُسَيْن، وَهُوَ غُلَام، حتَّى جلس عَلَى بطن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ وضع ذَكَرَه فِي سُرَّتِه، قَالَت: فقمتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِمَاء. فَأَتَيْته بِمَاء، (فصبَّه) عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: يُغسل من (بَوْل) الْجَارِيَة، ويُصب عَلَيْهِ من الْغُلَام» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، وَفِيه لَيْث بن أبي سليم، عَن [حدمر] ، وَالْأول عرفت حَاله، وَالثَّانِي لَا أعرفهُ، قَالَ فِي (الْمِيزَان) فِي حَقه: لَيْسَ بمقنع.
الطَّرِيق الثَّامِن: عَن عمَارَة (بن) أبي حَفْصَة، عَن أبي (مجلز) ، عَن حُسَيْن بن عَلّي - أَو (ابْن) حُسَيْن بن عَلّي -: حدَّثتنا امْرَأَة من أهلنا، قَالَت: «بَينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُسْتَلْقِيا عَلَى ظَهره، يلاعب صَبيا عَلَى صَدره، إذْ بَال، فَقَامَتْ لتأخذه وتضربه، قَالَ: دعيه، ائْتُونِي بكوز من مَاء. فنضح المَاء عَلَى الْبَوْل، حَتَّى تفايض المَاء عَلَى الْبَوْل، فَقَالَ:
(1/539)
هَكَذَا يصنع بالبول، يُنضح من الذّكر، ويُغسل من الْأُنْثَى» .
رَوَاهُ أَحْمد بن منيع فِي «مُسْنده» ، ثَنَا ابْن (علية) ، حَدَّثَنَا عمَارَة بِهِ. أَفَادَهُ الشَّيْخ فِي «الإِمام» .
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» : وَرَوَى حَدِيث بَوْل الْغُلَام (أَيْضا) : ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس، وَعَائِشَة، وَزَيْنَب رَضِي اللهُ عَنْهُم.
ولَمَّا ذكر ابْن السكن فِي «صحاحه» حَدِيث أبي السَّمْح، قَالَ: وَعَن أم الْفضل عَنهُ (مثله. ثمَّ ذكر حَدِيث عَلّي.
وَفِي «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» فِي مَنَاقِب الْحُسَيْن، عَن أم الْفضل، ذكر (عَنْهَا) حَدِيثا، وَفِي آخِره: «قَالَ ابْن عَبَّاس: بَوْل الْغُلَام الَّذِي لم يَأْكُل يُرش، وَبَوْل الْجَارِيَة يُغسل» . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث قد رُوِيَ بأسانيد، لم يخرجَاهُ.
وَرَوَى ابْن مَاجَه بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي الْيَمَان الْمصْرِيّ قَالَ: سَأَلت
(1/540)
الشَّافِعِي عَن مَعْنَى هَذَا الحَدِيث «يُرش من بَوْل الْغُلَام، ويُغسل من بَوْل الْجَارِيَة» . والماءان جَمِيعًا (وَاحِد) ؟ قَالَ: لِأَن بَوْل الْغُلَام من المَاء والطين، وَبَوْل الْجَارِيَة من اللَّحْم وَالدَّم، لِأَن الله لما خلق آدم، خُلقت حَوَّاء من ضلعه (الْقصير) ، فَصَارَ بَوْل الْغُلَام من المَاء والطين، وَصَارَ بَوْل الْجَارِيَة من اللَّحْم وَالدَّم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» - بعد أَن رَوَى مَا ورد فِي الْفرق بَين بَوْل الْجَارِيَة وَبَوْل الْغُلَام -: (و) الْأَحَادِيث المسندة فِي الْفرق بَينهمَا، إِذا ضُمَّ بَعْضهَا إِلَى بعض (قَوِيت) . قَالَ: وَكَأَنَّهَا لم تثبت عِنْد الشَّافِعِي (حِين) . قَالَ: وَلَا يتَبَيَّن لي فِي بَوْل الصَّبِي وَالْجَارِيَة فرق من السّنة. قَالَ: وَإِلَى مثل هَذَا ذهب البُخَارِيّ وَمُسلم، حَيْثُ لم يُودِعَا شَيْئا (مِنْهَا) فِي «كِتَابَيْهِمَا» إلاَّ أَن البُخَارِيّ اسْتحْسنَ حَدِيث أبي السَّمْح، وصَوَّب هشامًا فِي رفع حَدِيث عليّ. قَالَ: وَمَعَ ذَلِك فِعْل أم سَلمَة صَحِيح (عَنْهَا) ، (مَعَ) مَا سبق من الْأَحَادِيث الثَّابِتَة. يَعْنِي الَّتِي رَوَاهَا فِي الرش عَلَى بَوْل الصَّبِي.
وَذكر فِي «خلافياته» (حَدِيث) عَلّي، وَقَول الْحَاكِم فِيهِ،
(1/541)
وَحَدِيث أم سَلمَة، ثمَّ قَالَ: قد صَحَّ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، ثمَّ عَن عَلّي وَأم سَلمَة، وَلَا يُعْرفُ لَهما من الصَّحَابَة مخالفٌ.
الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ
عَن أم قيس بنت مُحصن رَضِي اللهُ عَنْهُا: «أَنَّهَا أَتَت (إِلَى) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِابْن لَهَا لم يبلغ أَن يَأْكُل الطَّعَام، فَبَال فِي حِجْر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَدَعَا بِمَاء، فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبه، وَلم يغسلهُ غسلا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «لم يَأْكُل الطَّعَام» ، وَهِي الَّتِي ذكرهَا الإِمام الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب.
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه، بِإِسْنَاد جيد: «فرشَّ عَلَيْهِ» بدل: « (فنضحه) عَلَى بَوْله» .
وَرَوَى الشَّيْخَانِ مثله من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا، قَالَت: «أُتِيَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بصبي، فَبَال عَلَى ثَوْبه، فَدَعَا بِمَاء، فنضحه وَلم يغسلهُ» .
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: فِي اسْم أم قيس قَولَانِ: أَحدهمَا: آمِنَة بنت وهب
(1/542)
بن مُحصن، قَالَه السُّهيْلي. الثَّانِي: جذامة، قَالَه ابْن [عبد الْبر] ، وَقد سبقا فِي الحَدِيث السَّادِس عشر.
الثَّانِيَة: لَا أعلم أحدا من الْحفاظ ذكر (اسْم) ابْن أم قيس، وَأما الصَّبِي الْمَذْكُور فِي حَدِيث عَائِشَة، فحكي عَن شَيخنَا قطب الدَّين عبد الْكَرِيم الْحلَبِي - قَدَّس الله روحه - (أَنه) قَالَ: يُحتمل أَن يكون الصَّبِي الْمَذْكُور عبد الله بن الزبير. وأيَّده بِمَا (رَوَاهُ) الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ، عَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن عَطاء، عَن عَائِشَة، قَالَت: «بَال ابْن الزبير عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأَخَذته أخذا عنيفًا، فَقَالَ: إِنَّه لم يَأْكُل الطَّعَام، وَلَا يضر بَوْله» .
الْحجَّاج بن أَرْطَاة: ضَعِيف ومدلِّس. وَقد عنعن فِي هَذِه الرِّوَايَة.
قَالَ: ويُحتمل أَن يكون الْحسن رَضِي اللهُ عَنْهُ. وأيَّده بِمَا (رَوَى) الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه الْكَبِير» بِإِسْنَادِهِ عَن أم الْفضل «أَنَّهَا أَتَت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَن بَضْعَةً من جسدك قُطعت، فَوضعت فِي حجري. فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: خيرا رأيتِ، تَلد فَاطِمَة - إِن شَاءَ الله - غُلَاما فَيكون فِي حجرك. فَولدت فَاطِمَة رَضِي اللهُ عَنْهُ حسنا، فَكَانَ فِي حجرها، فَدخلت بِهِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَبَال عَلَيْهِ، فذهبتُ أتناوله، فَقَالَ: دعِي ابْني، إنَّه لَيْسَ بِنَجس. ثمَّ دَعَا بِمَاء فصبَّه عَلَيْهِ» . إِسْنَاده جيد.
(1/543)
قُلْتُ: وَيحْتَمل قولا ثَالِثا: وَهُوَ أَن يكون الْحُسَيْن رَضِي اللهُ عَنْهُ ويؤيِّده مَا رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُ عَن أم الْفضل، قَالَت: «دخل عليَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنا أُرضع الْحُسَيْن بن عَلّي بِلَبن ابنٍ كَانَ يُقَال لَهُ: قثم. قَالَت: فتناوله رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فناولته إِيَّاه، فَبَال عَلَيْهِ. قَالَت: فَأَهْوَيْت بيَدي إِلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَا تزرمي ابْني. قَالَت: فرشَّه بِالْمَاءِ. قَالَ ابْن عَبَّاس: بَوْل الْغُلَام الَّذِي لم يَأْكُل (يُرش) ، وَبَوْل الْجَارِيَة يُغسل» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث قد رُوي بأسانيد، وَلم يخرجَاهُ. وَذكر (ذَلِك) فِي تَرْجَمَة الْحُسَيْن بِالْيَاءِ رَضِي اللهُ عَنْهُ فَسَلِمَ من ادِّعَاء التَّصْحِيف بالْحسنِ مُكَبَّرًا.
ثمَّ رَأَيْت بعد ذَلِك مثله فِي «مُسْند أَحْمد» ، و «سنَن أبي دَاوُد» ، و «الدَّارَقُطْنِيّ» ، وَغَيرهمَا كَمَا تقدم.
الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي اللهُ عَنْهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا وَلَغَ الكلبُ فِي إناءِ أحدكُم فَلْيُرِقْه، وليغسله سبعا، أولَاهُنَّ - أَو إِحْدَاهُنَّ - بِالتُّرَابِ» .
هَذَا الحَدِيث أصل من الْأُصُول الْمُعْتَمد عَلَيْهَا، وَهُوَ مَشْهُور، فلنذكره من جَمِيع طرقه، فَنَقُول: رَوَى البُخَارِيّ، وَمُسلم، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي اللهُ عَنْهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا شرب الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم، فليغسله سبع مَرَّات» .
(1/544)
وَرَوَاهُ كَذَلِك قبلهمَا (مَالك) فِي «الْمُوَطَّأ» .
قَالَ ابْن عبد الْبر: كَذَا قَالَ مَالك فِي هَذَا الحَدِيث: «إِذا شرب» وَغَيره من الروَاة يَقُولُونَ: «إِذا ولغَ» . وَهُوَ الَّذِي يعرفهُ أهل اللُّغَة.
وَكَذَا استغربَ هَذِه اللَّفْظَة الحافظان، أَبُو بكر الإِسماعيلي فِي «صَحِيحه» ، والحافظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه.
وَقد تَابع مَالِكًا عَلَى لَفظه: «إِذا شرب» : الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن وورقاء بن عمر، عَن أبي الزِّنَاد؛ رَوَى الطَّرِيق الأول أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ، وَالثَّانِي أَبُو بكر الجوزقي فِي «كِتَابه» .
وَرَوَاهُ أَيْضا هِشَام بن حسان، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِيه أَيْضا «إِذا شرب» .
وَقد اختُلف عَلَى مَالك فِي لفظ «الشّرْب» ، و «الولوغ» وَالْمَشْهُور (عَنهُ) ، مَا قَالَ أَبُو عمر. أَفَادَ ذَلِك الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فليرقه، ثمَّ ليغسله سبع (مرارٍ) » .
قَالَ ابْن مَنْدَه: وَهَذِه الزِّيَادَة - وَهِي: «فليرقه» - تَفَرَّد بهَا عَلّي بن مسْهر، وَلَا تُعْرف عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِوَجْه من الْوَجْه إلاَّ من هَذِه الرِّوَايَة.
قُلْتُ: وَلَا يضرّ تفرُّده بهَا، فإنَّ عَلّي بن مسْهر إِمَام حَافظ، متَّفق
(1/545)
عَلَى عَدَالَته والاحتجاج بِهِ، وَلِهَذَا (قَالَ) - بعد تَخْرِيجه لَهَا - الدَّارَقُطْنِيّ: إسنادها حسن، ورواتها ثِقَات.
وأخرجها إِمَام الْأَئِمَّة مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» ، وَلَفظه: «فليهرقه» .
وَفِي رِوَايَة «لمُسلم» : «طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب، أَن يغسلهُ سبع مَرَّات، أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «إِذا ولغَ الْكَلْب فِي الإِناء، فاغسلوه سبع مَرَّات، السَّابِعَة بِالتُّرَابِ» . ورجالها ثِقَات. كَمَا قَالَه صَاحب «الإِمام» .
وَفِي رِوَايَة صَحِيحَة للشَّافِعِيّ، (وَالْبَيْهَقِيّ) : «أُولاهن - أَو أُخراهن - بِالتُّرَابِ» .
(1/546)
وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي: «أُولاهن - أَو قَالَ: أولهنَّ - بِالتُّرَابِ» ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَفِي رِوَايَة للبزار: «إِذا ولغَ الْكَلْب فِي الإِناء، يُغسل سبع مَرَّات، آخِره بِالتُّرَابِ» .
وَفِي رِوَايَة للدارقطني وَغَيره عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا فِي الْكَلْب يلغ فِي الْإِنَاء: «أَنه يُغسل ثَلَاثًا، أَو خمْسا، أَو سبعا» .
وَهِي ضَعِيفَة، بَيَّن الْبَيْهَقِيّ ضعفها (وَاضحا) فِي «سنَنه» ، و «خلافياته» .
وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث عبد الله بن مُغفل مَرْفُوعا: «إِذا وَلَغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم، فاغسلوه سبعا، وعَفِّرُوه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ» .
وَقَالَ ابْن مَنْدَه: إِسْنَاده مُجْمَع عَلَى صحَّته.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «التَّحْقِيق» : انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ. وَهُوَ سبق قلم مِنْهُ قطعا، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَن يكْتب: انْفَرد بِهِ مُسلم، فَسبق الْقَلَم إِلَى البُخَارِيّ، فليصلح.
وَرَدَّ الْبَيْهَقِيّ هَذِه الرِّوَايَة (بِأَن) قَالَ: أَبُو هُرَيْرَة أَحْفَظ من رَوَى
(1/547)
الحَدِيث فِي دهره، فروايته أَولى.
وَأما الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا المُصَنّف - وَهِي: «أُولاهن أَو إِحْدَاهُنَّ» - بِالْحَاء وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ - فَغَرِيبَة.
وَقد أخرجهَا كَذَلِك - (عَلَى [مَا] وجدته خطا) - أَبُو عبيد فِي كِتَابه «الطّهُور» عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، عَن أَيُّوب، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا وَلَغَ الْكَلْب فِي الإِناء، غُسل سبع مَرَّات، أُولاهن أَو (إِحْدَاهُنَّ) بِالتُّرَابِ» .
وَهَذِه الرِّوَايَة سندها كسند الشَّافِعِي فِي رِوَايَة: «أُولاهن أَو أُخراهن» ، فإنَّ الشَّافِعِي أخرجهَا فِي «مُسْنده» عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن أَيُّوب (بِهِ) . فَيتَوَقَّف حينئذٍ فِي لفظ: «إِحْدَاهُنَّ» بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَيُقَال: لَعَلَّهَا «أُخراهن» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، لِأَن السَّنَد وَاحِد، وَقد يقُال: لَا يلْزم ذَلِك؛ لِأَن التِّرْمِذِيّ أخرج بِهَذَا السَّنَد - أَعنِي طَرِيق أَيُّوب - رِوَايَته (السالفة) : «أُولاهن، أَو قَالَ: أولهنَّ» ، فابحث عَن ذَلِك.
نعم، رِوَايَة: «إِحْدَاهُنَّ» - من غير شكّ - (مَشْهُورَة) ، مَوْجُودَة من ثَلَاث طرق - وَقد ذكرهَا الرَّافِعِيّ بعد هَذَا وَحدهَا -:
الأول: (رَوَى) الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث مَحْمُود
(1/548)
بن مُحَمَّد الْمروزِي، نَا الْخضر بن (أَصْرَم) ، نَا الْجَارُود، عَن إِسْرَائِيل، عَن أبي إِسْحَاق، عَن هُبَيْرَة بن يريم، عَن عَلّي بن أبي طَالب رَضِي اللهُ عَنْهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: « (إِذا) وَلَغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم، فليغسله سبع مَرَّات، إِحْدَاهُنَّ بالبطحاء» .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذِه الرِّوَايَة (لَيست) فِي الصَّحِيح وَلَا فِي الْكتب الْمُعْتَمدَة، رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ، وَهِي غَرِيبَة.
قُلْتُ: وَمَعَ غرابتها، فَفِي إسنادها جمَاعَة يجب معرفَة حَالهم:
أحدهم: الْخضر بن أَصْرَم، لَا أعرفهُ، وَلم أره فِي (كتاب) (ابْن) أبي حَاتِم، وَلَا غَيره.
الثَّانِي: الْجَارُود، وَهُوَ ابْن يزِيد، أَبُو عَلّي النَّيْسَابُورِي، مَتْرُوك الحَدِيث بإجماعهم.
الثَّالِث: هُبَيْرَة بن يريم، قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: هُبَيْرَة هَذَا شَبيه بالمجهولين. وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» فِي كتاب الْحَضَانَة: مَجْهُول. وَقَالَ ابْن سعد: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن خرَاش: ضَعِيف. وَقَالَ الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين الْمَقْدِسِي فِي «أَحْكَامه» - مُعْتَرضًا عَلَى أبي حَاتِم الرَّازِيّ فِي قَوْله السالف -:
(1/549)
قد صَحَّح التِّرْمِذِيّ (حديثين) من طَرِيقه، ووثَّقه ابْن حبَان. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فإنَّه ذكره فِي «ثقاته» وَقَالَ: رَوَى عَنهُ أَبُو إِسْحَاق السبيعِي. وَقَالَ الْحَافِظ جمال (الدَّين) الْمزي: رَوَى عَنهُ أَيْضا أَبُو فَاخِتَة. قَالَ الذَّهَبِيّ: وَلم يَرْوِ عَنهُ غَيرهمَا. وَقَالَ أَحْمد: لَا بَأْس بِهِ، هُوَ أحبّ إِلَيْنَا (من) الْحَارِث.
فَإِذن ارْتَفَعت عَنهُ جَهَالَة الْعين وَالْحَال، فلولا مَا مَضَى، (لَكَانَ حسنا) .
أما [مَحْمُود بن مُحَمَّد] الْمروزِي (السَّابِق) : فقد ذكره الْخَطِيب فِي «تَارِيخه» وحَسَّن حَاله.
الطَّرِيق الثَّانِي: رَوَاهُ أَبُو بكر الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث أبي هِلَال الرَّاسِبِي، وَيزِيد بن إِبْرَاهِيم، عَن مُحَمَّد، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم، ليغسله سبع مَرَّات، إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» .
وَأَبُو هِلَال الرَّاسِبِي اسْمه مُحَمَّد بن سليم، بَصرِي، وَلم يكن من بني راسب، وإنَّما نزل فيهم، رَوَى لَهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَفِيه مقَال، كَانَ يَحْيَى بن سعيد لَا يعبأ بِهِ، وَقَالَ يزِيد بن زُرَيْع: عَدَلت عَنهُ
(1/550)
عمدا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. ووثَّقه (أَبُو دَاوُد) . وَقَالَ ابْن معِين: صَدُوق.
الطَّرِيق الثَّالِث: رَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا (فِي «مُسْنده» ) ، عَن عباد بن يَعْقُوب، عَن الْوَلِيد بن أبي ثَوْر، عَن السُّدي، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا وَلَغ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم، فليغسله سبع مَرَّات - أَحْسبهُ قَالَ -: إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» .
وعَبَّاد بن يَعْقُوب هَذَا هُوَ الراوجني، أخرج لَهُ البُخَارِيّ مَقْرُونا، وَقَالَ ابْن حبَان: هُوَ رَافِضِي دَاعِيَة. والوليد بن أبي ثَوْر ضَعَّفه النَّسَائِيّ وَغَيره. والسُّدي هُوَ إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن، مُخْتَلَف فِيهِ، وثَّقه أَحْمد، وضعَّفه ابْن معِين، ورُمي بالتشيع، وَهُوَ السُّدي الْكَبِير، صَاحب التَّفْسِير، وَأما السُّدي الصَّغِير فَهُوَ مُحَمَّد بن مَرْوَان، يروي عَن الْأَعْمَش، وَهُوَ مُتَّهم هَالك. ووالده: لَا أعرف حَاله، وَقد أخرج لَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ.
(ثمَّ) اعْلَم أَن مُقْتَضَى كَلَام النَّوَوِيّ (فِي «شرح الْمُهَذّب» ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمسَائِل المنثورة ثُبُوت هَذِه اللَّفْظَة - أَعنِي لَفْظَة: «إِحْدَاهُنَّ» - وَقد عرفت حَاله، وَكَلَامه فِيهَا فِي «شرح الْمُهَذّب» كَمَا سلف.
الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ
قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الهِرَّة: «إنّها لَيست بنجسة، إنَّها من الطوافين عَلَيْكُم» .
(1/551)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مَشْهُور، رَوَاهُ الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، حُفَّاظ الإِسلام: مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، والدارمي، فِي «مسانيدهم» ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان، فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» ، و «الْمعرفَة» . من رِوَايَة أبي قَتَادَة رَضِي اللهُ عَنْهُ.
وَليكن كلامنا عَلَى هَذَا الحَدِيث مُلَخصا فِي ثَلَاثَة فُصُول:
الأول: فِيمَن صحَّحه، و (شُبْهَة) من أعلَّه
قَالَ التِّرْمِذِيّ فِيهِ: إِنَّه حَدِيث حسن صَحِيح وَإنَّهُ أحسن شَيْء فِي هَذَا الْبَاب، وَإِن مَالِكًا جَوَّد إِسْنَاده عَن إِسْحَاق [بن] عبد الله، وَأَن
(1/552)
أحدا لم يأتْ بِهِ أتم مِنْهُ. قَالَ: وَسَأَلت البُخَارِيّ (عَنهُ) ، فَقَالَ: جَوَّده مَالك بن أنس، وَرِوَايَته أصحّ من رِوَايَة غَيره.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» : هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، عَلَى أَنَّهُمَا قد استشهدا جَمِيعًا بِمَالك بن أنس، وَأَنه (الحكم) فِي حَدِيث الْمَدَنِيين، وَهَذَا الحَدِيث (ممَّا) صحَّحه مَالك واحتجَّ بِهِ فِي «الْمُوَطَّأ» وَمَعَ هَذَا فَلهُ شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح: نَا أَبُو عبد الله القَاضِي ببخارا (ثَنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب) ، أَنا مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ، نَا سُلَيْمَان بن مسافع بن شيبَة الحَجبي، قَالَ: سَمِعت مَنْصُور بن صَفَيَّة بنت شيبَة يحدِّث عَن أمه صَفِيَّة، (عَن) عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إنَّها لَيست بِنَجس، هِيَ كبعض أهل الْبَيْت - يَعْنِي الْهِرَّة» .
وَهَذَا الشَّاهِد الَّذِي اسْتشْهد بِهِ الْحَاكِم أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَلَفظه: «هِيَ كبعض مَتَاع الْبَيْت - يَعْنِي الْهِرَّة» . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تفرَّد بِهِ سُلَيْمَان بن مسافع. قُلْتُ: ذكره
(1/553)
الْعقيلِيّ فِي «الضُّعَفَاء» قَالَ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر فِي كِتَابه «معرفَة السّنَن والْآثَار» فِي حَدِيث أبي قَتَادَة: إِسْنَاده صَحِيح والاعتماد عَلَيْهِ.
وصحَّحه أَيْضا الإِمامان أَبُو بكر بن خُزَيْمَة، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان، فَإِنَّهُمَا أَخْرجَاهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» كَمَا قدَّمناه عَنْهُمَا.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الْعقيلِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح ثَابت.
وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ (فِي «علله» ) طرقه، ثمَّ قَالَ: رُوي مَرْفُوعا وموقوفًا. قَالَ: وَرَفعه صَحِيح. قَالَ: ولعلَّ من وَقفه لم يسْأَل أَبَا قَتَادَة: هَل عِنْده عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيهِ أثر أم لَا؟ لأَنهم حَكوا فعل أبي قَتَادَة حسب. قَالَ: وأحسنها إِسْنَادًا مَا (رَوَى) مَالك، عَن إِسْحَاق، عَن امْرَأَته، عَن أمهَا، عَن أبي قَتَادَة، وحَفِظَ أَسمَاء (النِّسَاء وأنسابهن) وجَوَّد ذَلِك، وَرَفعه إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَخَالف الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه فِي تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ - بعد أَن أخرجه من رِوَايَة مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، ثمَّ ذكر اخْتِلَاف رواياته -: أم يَحْيَى اسْمهَا حميدة، وخالتها هِيَ كَبْشَة، وَلَا يُعرف لَهما رِوَايَة إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث، (ومحلهما مَحل) الْجَهَالَة، وَلَا (يثبت) هَذَا الْخَبَر من وَجه من الْوُجُوه وسبيله سَبِيل الْمَعْلُول.
(1/554)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «شرح الإِلمام» : جَرَى ابْن مَنْدَه عَلَى مَا اشْتهر عَن أهل الحَدِيث أَنه من لَمْ يَرْوِ عَنهُ إلاَّ وَاحِد، فَهُوَ مَجْهُول.
قَالَ: ولعلَّ من صحَّحه اعْتمد عَلَى كَون مَالك رَوَاهُ وَأخرجه، مَعَ مَا عُلِمَ من تشدُّده وتحرِّيه فِي الرِّجَال، وَأَن كل من رَوَى عَنهُ فَهُوَ ثِقَة، كَمَا صحَّ عَنهُ. ونقلناه فِي مُقَدمَات هَذَا الْكتاب.
قَالَ: فإنْ سلكت (هَذَا) الطَّرِيق فِي تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث - أَعنِي عَلَى تَخْرِيج مَالك لَهُ - وإلاَّ فَالْقَوْل مَا (قَالَ) ابْن مَنْدَه، وَقد ترك الشَّيْخَانِ إِخْرَاجه فِي «صَحِيحَيْهِمَا» .
وَقَالَ فِي «الإِمام» : إِذا لم يعرف لحميدة وكبشة رِوَايَة إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث، فلعلَّ طَرِيق من صحَّحه أَن يكون اعْتمد عَلَى إِخْرَاج مَالك لروايتهما، مَعَ شهرته بالتشدُّد.
وَقَالَ شَيخنَا الْحَافِظ أَبُو الْفَتْح (ابْن سيد النَّاس) الْيَعْمرِي: بَقِيَ عَلَى ابْن مَنْدَه أَن يَقُول: (وَلم يُعْرَفْ) حَالهمَا من جارح، فكثير من رُواة الْأَحَادِيث مقبولون.
قُلْتُ: هَذَا لَا بُد مِنْهُ، (وَأَنا) أستبعد كل الْبعد توارد الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين عَلَى تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث، مَعَ جهالتهم بِحَال حميدة وكبشة، فإنَّ الإِقدام (عَلَى التَّصْحِيح) - وَالْحَالة هَذِه - لَا يحلُّ بِإِجْمَاع الْمُسلمين، فلعلهم اطَّلَعوا عَلَى حَالهمَا، وخفي علينا.
(1/555)
قَالَ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد» : وَهَذَا الحَدِيث عِنْد أبي دَاوُد حسنٌ، وَلَيْسَ فِيهِ سَبَب مُحَقّق فِي ضعفه.
قُلْتُ: وَقد ظهر أَن جَمِيع مَا (عَلَّله) بِهِ ابْن مَنْدَه - وتُوبع عَلَيْهِ - فِيهِ نظر.
أما قَوْله: «إِن حُميدة لَا تُعرف لَهَا رِوَايَة إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث» فخطأ، فلهَا ثَلَاثَة أَحَادِيث، أَحدهَا: هَذَا. وَثَانِيها: حَدِيث «تشميت الْعَاطِس» أخرجه أَبُو دَاوُد مُصَرحًا (باسمها) ، وَالتِّرْمِذِيّ (مُشِيرا) (إِلَيْهِ) ، فإنَّه قَالَ: عَن عمر بن إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة، عَن أمه، عَن أَبِيهَا. وحَسَّنه التِّرْمِذِيّ عَلَى مَا نَقله ابْن عَسَاكِر فِي «أَطْرَافه» وَالَّذِي رَأَيْته فِيهِ: أَنه حَدِيث غَرِيب، وَإِسْنَاده مَجْهُول.
وَثَالِثهَا: حَدِيث «رِهان (الْخَيل) طِلْق» ، رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» من حَدِيث يَحْيَى بن إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، عَن أمه، عَن أَبِيهَا مَرْفُوعا بِهِ.
وَأما قَوْله فِي «كَبْشَة» فَكَمَا قَالَ، فَلم أَرَ لَهَا حَدِيثا آخر، وَلَا يَضرهَا (ذَلِك) فإنَّها ثِقَة كَمَا سَيَأْتِي.
وَأما قَوْله: إِن (مَحلهمَا) الْجَهَالَة فخطأ، أمَّا حُميدة فقد رَوَى
(1/556)
عَنْهَا إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، (رَاوِي) حَدِيث «الْهِرَّة» وَابْنه يَحْيَى فِي (حَدِيث) «تشميت الْعَاطِس» من طَرِيق أبي دَاوُد، وَقد وَثَّقه ابْن معِين.
وَفِي طَرِيق التِّرْمِذِيّ أَن الرَّاوِي عَنْهَا ابْنهَا (عمر) بن إِسْحَاق، فَإِن لم يكن غَلطا، فَهُوَ ثَالِث، وَهُوَ أَخُو يَحْيَى.
وَذكرهَا ابْن حبَان فِي «ثقاته» فقد زَالَت (عَنْهَا) الْجَهَالَة العينية والحالية.
وَأما كَبْشَة (فَلم أعلم) رَوَى عَنْهَا غير حُميدة، لَكِن ذكرهَا ابْن حبَان فِي «الثِّقَات» وَقد قَالَ ابْن الْقطَّان: إِن الرَّاوِي إِذا وثق زَالَت جهالته، وَإِن لم يَرْوِ عَنهُ إلاَّ وَاحِد.
وَأَعْلَى من هَذَا أَنَّهَا صحابية، كَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «ثقاته» وَكَذَا نَقله أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ عَن جَعْفَر.
وَأما قَوْله: وَلَا يثبت هَذَا الْخَبَر بِوَجْه من الْوُجُوه. فخطأ، فقد أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «الْأَفْرَاد» فَقَالَ: ثَنَا مُوسَى بن هَارُون، ثَنَا عمر بن الْهَيْثَم بن أَيُّوب الطَّالقَانِي، ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن أَسِيْد بن أبي أسيد، عَن أَبِيه: «أنَّ أَبَا قَتَادَة كَانَ يُصْغِي الإِناء للهرة، فَتَشرب مِنْهُ، ثمَّ يتَوَضَّأ بفضلها، فَقيل لَهُ: أتتوضأُ بفضلها؟ ! فَقَالَ: إنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: إنَّها (لَيست) بِنَجس، (إنَّما هِيَ) من الطوَّافين عَلَيْكُم» .
(1/557)
فَهَذِهِ مُتَابعَة لكبشة، وَهَذَا سَنَد لَا أعلم بِهِ بَأْسا.
فقد اتَّضَح وَجه تَصْحِيح الْأَئِمَّة لهَذَا الحَدِيث، وَخطأ معلله، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، فاستفده فإنَّه من الْمُهِمَّات.
الْفَصْل الثَّانِي: فِي ذكر أَلْفَاظه، وَاخْتِلَاف طرقه
فإنَّ الْحَاجة تشتد إِلَى ذَلِك؛ لِأَنَّهُ عُمْدَة مَذْهَبنَا فِي طَهَارَة سُؤْر السبَاع، وَسَائِر الْحَيَوَان غير الْكَلْب وَالْخِنْزِير، وَفرع أَحدهمَا، (فَنَقُول) :
(لفظ) رِوَايَة مَالك: عَن إِسْحَاق بن عبد الله، عَن حُميدة بنت أبي عُبَيْدَة بن فَرْوَة، عَن خَالَتهَا كَبْشَة ابْنة كَعْب بن مَالك - وَكَانَت تَحت ابْن أبي قَتَادَة - أَنَّهَا أخْبرتهَا: «أَن أَبَا قَتَادَة دخل عَلَيْهَا، فَسَكَبت (لَهُ) وضُوءًا، فَجَاءَت هرة لتشرب مِنْهُ، فأصغى لَهَا الإِناء حتَّى شربت، قَالَت كَبْشَة: فرآني أنظر إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنة أخي؟ قَالَت: (قُلْتُ) : نعم. فَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: (إنَّها) لَيست بِنَجس، إنَّما هِيَ من الطوَّافين عَلَيْكُم، أَو الطوافات» .
هَذَا لفظ رِوَايَة مَالك بحروفها.
وَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ مثلهَا سَوَاء، إلاَّ أَن رِوَايَة مَالك: «أَو الطوافات» (بِأَو) ، وَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ: «إنَّما هِيَ من الطوافين والطوافات» بِالْوَاو،
(1/558)
وبحذف «عَلَيْكُم» . وَرِوَايَة أَحْمد من طَرِيق مَالك كهذه، إلاَّ أَنه أثبت «عَلَيْكُم» .
وَرِوَايَة ابْن حبَان، وَالْحَاكِم، كَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ، إلاَّ أَن فِي روايتهما إِثْبَات «عَلَيْكُم» ، وَابْن خُزَيْمَة كَذَلِك.
وَفِي (روايتي) الدَّارمِيّ وَأبي دَاوُد: عَن كَبْشَة بنت كَعْب بن مَالك - وَكَانَت تَحت (ابْن) أبي قَتَادَة - (ثمَّ) فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: «والطوافات» ، وَفِي رِوَايَة الدَّارمِيّ: «أَو الطوافات» كَذَا نَقله النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» عَن مُسْند الدَّارمِيّ، وَالَّذِي رَأَيْته فِيهِ «والطوافات» كَرِوَايَة أبي دَاوُد بِحَذْف الْألف، وَفِيه: «تَحت أبي قَتَادَة» بِحَذْف «ابْن» .
وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: «كَبْشَة بنت كَعْب، وَكَانَت تَحت بعض ولد أبي قَتَادَة» ، وفيهَا «والطوافات» بِالْوَاو.
وَرِوَايَة الرّبيع عَن الشَّافِعِي، عَن مَالك (بِإِسْنَادِهِ) ، وَقَالَ فِي كَبْشَة: وَكَانَت تَحت ابْن أبي قَتَادَة، أَو أبي قَتَادَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الشَّك من الرّبيع. وَقَالَ فِيهِ «أَو الطوافات» (بِأَو) ، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ الرّبيع فِي مَوضِع آخر عَن الشَّافِعِي، ثمَّ قَالَ: وَكَانَت تَحت ابْن أبي قَتَادَة، وَلم يشك. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن الثِّقَة، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (بِمثلِهِ) .
(1/559)
الْفَصْل الثَّالِث: فِي الْكَلَام عَلَى شَيْء من إِسْنَاده ومفرداته
قَالَ الإِمام أَبُو عمر بن عبد الْبر: رَوَى هَذَا الحَدِيث يَحْيَى بن يَحْيَى، عَن مَالك، عَن إِسْحَاق، عَن حُميدة ابْنة أبي (عُبَيْدَة) بن فَرْوَة، عَن خَالَتهَا كَبْشَة ... الحَدِيث. هَكَذَا قَالَ يَحْيَى: عَن حُميدة بنت أبي عُبَيْدَة، وَلم يُتَابِعه عَلَى قَوْله ذَلِك أحد، وَهُوَ غلط (مِنْهُ) ، وَأما سَائِر (رُوَاة) الْمُوَطَّأ، فَيَقُولُونَ: (ابْنة عبيد بن رِفَاعَة. إلاَّ أَن زيد بن الْحباب قَالَ فِيهِ عَن مَالك) : حُميدة ابْنة عبيد بن رَافع. وَالصَّوَاب: رِفَاعَة، (وَهُوَ رِفَاعَة) بن رَافع الْأنْصَارِيّ.
قُلْتُ: وَهُوَ فِي «صَحِيح ابْن حبَان» من رِوَايَة القعْنبِي، عَن مَالك: حُميدة بنت عبيد بن رِفَاعَة (ثمَّ) قَالَ: وَانْفَرَدَ يَحْيَى بقوله: عَن خَالَتهَا. وَسَائِر رُوَاة الْمُوَطَّأ يَقُولُونَ: «عَن كَبْشَة» لَا يذكرُونَ خَالَتهَا.
(واخْتُلِفَ) فِي رفع الْحَاء، ونصبها من «حُميدة» وَأَشَارَ إِلَى أَن الْأَكْثَر ضمهَا، وتكنى حُميدة: أم يَحْيَى. وَهِي امْرَأَة إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة.
ذكر ذَلِك يَحْيَى الْقطَّان فِي هَذَا الحَدِيث عَن مَالك، وَكَذَلِكَ قَالَ فِيهِ
(1/560)
ابْن الْمُبَارك: عَن مَالك [عَن إِسْحَاق، بِإِسْنَادِهِ مثله] إلاَّ أَنه قَالَ: «كَبْشَة امْرَأَة أبي قَتَادَة» . وَهَذَا وهمٌ، وَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَة (ابْن) أبي قَتَادَة.
وَنقل النَّوَوِيّ فِي كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد (أَنه) وَقع فِي رِوَايَة مَالك وَالتِّرْمِذِيّ: «تَحت أبي قَتَادَة» وَقَالَ: هُوَ مجَاز مَحْمُول عَلَى الرِّوَايَة (الْمَشْهُورَة) «تَحت ابْنه» .
وَرَأَيْت من وَهَّم النَّوَوِيّ فِي نَقله ذَلِك عَن «الْمُوَطَّأ» وَوَهِمَ هُوَ فِي ذَلِك، (فَكَفَى) بالنووي أَن يُوَافق نَقله مَا نَقله ابْن الْمُبَارك، لَكِن الْمَشْهُور من رِوَايَة مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» : «تَحت (ابْن) أبي قَتَادَة» وَكَذَلِكَ هُوَ مَوْجُود فِي «المُلَخَّص» للقابسي فَافْهَم ذَلِك.
وَأما لَفْظَة: «أَو الطوافات» فَقَالَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد (الْبَاجِيّ) ، وَصَاحب «الْمطَالع» : يُحتمل أَن يكون عَلَى مَعْنَى الشَّك من الرَّاوِي، ويُحتمل أَن (يكون) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ ذَلِك، يُرِيد أَن (هَذَا) الْحَيَوَان لَا يَخْلُو أَن يكون من جملَة الذُّكُور الطوافين أَو الإِناث (الطوافات) .
وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» هَذَا عَن صَاحب «الْمطَالع» وَحده، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَه مُحْتَمل. قَالَ: وَالْأَظْهَر أَنه للنوعين كَمَا جَاءَ فِي (رِوَايَات) «الْوَاو» . قَالَ أهل اللُّغَة: الطوافون: الخدم
(1/561)
والمماليك. وَقيل: هم الَّذين يخدمون بِرِفْق وعناية.
وَإِنَّمَا جَمَعَ الهرَّة بِالْيَاءِ وَالنُّون، مَعَ أَنَّهَا لَا تعقل، لِأَن المُرَاد (أَنَّهَا) من جنس الطوَّافين (أَو الطوَّافات) .
وَمَعْنى الحَدِيث: أَن الطوَّافين من الخدم وَالصغَار الَّذين سَقَطَ فِي حَقهم الْحجاب والاستئذان فِي غير الْأَوْقَات (الثَّلَاثَة) الَّتِي ذكرهَا الله - تَعَالَى - (و) إِنَّمَا سقط فِي حَقهم دون غَيرهم للضَّرُورَة، وَكَثْرَة (مداخلتهم) ، بِخِلَاف الْأَحْرَار الْبَالِغين، (وَكَذَا) يُعْفَى عَن الْهِرَّة للْحَاجة، وَقد أَشَارَ إِلَى نَحْو هَذَا الْمَعْنى أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي كِتَابه «الأحوذي فِي شرح التِّرْمِذِيّ» وَذكر الخطَّابي أَن هَذَا الحَدِيث مؤل عَلَى وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه شَبَّهها بخدم الْبَيْت وَمن يطوف عَلَى أَهله (للْخدمَة) .
وَالثَّانِي: شبهها بِمن يطوف للْحَاجة وَالْمَسْأَلَة، وَمَعْنَاهُ: الْأجر فِي مواساتها (كالأجر) فِي مواساة من يطوف للْحَاجة (وَالْمَسْأَلَة) .
(و) قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا الثَّانِي قد يأباه سِيَاق قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة
(1/562)
وَالسَّلَام: «إِنَّهَا لَيست بِنَجس» .
وَهُوَ كَمَا قَالَ، بل قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «شرح الإِلمام» : إِنَّه غَرِيب بعيد.
فإنْ قُلْتَ: فالخدم وَالْعَبِيد لَا يُعفى عَن نَجَاسَة أَفْوَاههم؟
فَالْجَوَاب: أَن نَجَاسَة (أَفْوَاههم) تندر، وَلَا يشق الِاحْتِرَاز، وَفِي هَذَا (بِخِلَافِهِ) .
وَقَوْلها: «فسكبتُ لَهُ وَضوءًا» هُوَ بِفَتْح الْوَاو، وَهُوَ اسْم للْمَاء الَّذِي يُتَوضأ بِهِ، و «الوُضُوء» بِالضَّمِّ: اسْم للْفِعْل. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هَذِه اللُّغَة هِيَ قَول الْأَكْثَرين من أهل اللُّغَة.
وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «إِنَّهَا لَيست بِنَجَس» هُوَ بِفَتْح الْجِيم، كَذَا قَيَّده غير وَاحِد، مِنْهُم: الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصر السّنَن» ، وَالنَّوَوِيّ فِي كَلَامه عَلَى أبي دَاوُد، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «شرح الإِلمام» وَغَيرهم.
قَالَ الله - تَعَالَى -: (إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس) .
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد المستنبطة مَا لَا يُستغنى (عَنهُ) ، [ذكرت] بعضه هُنَا، لِئَلَّا يطول الْكتاب، وَيخرج عَن مَوْضُوعه، وَهَذَا الْقدر كَاف.
(وَبَقِي أَمر مُهِمّ) ، وَرَاء (هَذَا) كُله، وَهُوَ أَن الإِمام الرَّافِعِيّ
(1/563)
وَقع لَهُ فِي هَذَا الحَدِيث نُكْتَة غَرِيبَة، (وَهِي) : أَنه جعل (المُصْغِي الإِناء) للهرة هُوَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وتَبِعَ فِي ذَلِك الْمُتَوَلِي من أَصْحَابنَا فإنَّه ذكر ذَلِك فِي «تتمته» وَالْمَعْرُوف أَنه أَبُو قَتَادَة - فَقَالَ مَا نَصه: سُؤْر الْهِرَّة طَاهِر؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَة الْعين، وَمَا هُوَ طَاهِر الْعين، فَهُوَ طَاهِر السؤر، وَلذَلِك (لَمَّا تعجبوا) من إصغاء النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الإِناء للهرة قَالَ: «إِنَّهَا لَيست بنجسة، إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم» جعل طَهَارَة الْعين عِلّة طَهَارَة السؤر. (انْتَهَى) ، فَذكرت (أَنا) الحَدِيث بِاللَّفْظِ الْمَعْرُوف فَافْهَم ذَلِك.
نعم، فِي «سنَن الْبَيْهَقِيّ» من حَدِيث عبد الله بن أبي قَتَادَة قَالَ: «كَانَ أَبُو قَتَادَة يُصْغِي الإِناء (للهرة فَتَشرب) ، ثمَّ يتَوَضَّأ بِهِ، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: مَا صنعت إلاَّ مَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يصنع» . فقد يَقْتَضِي ظَاهر هَذَا مُوَافقَة مَا أوردهُ المُصَنّف.
الحَدِيث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
(أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصْغِي للهرة الإِناء) .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طَرِيقَانِ، (أَحدهمَا) : من طَرِيق جَابر، وَالثَّانِي: من طَرِيق عَائِشَة.
(1/564)
أما الأول: فَرَوَاهُ ابْن شاهين فِي « (تَارِيخه» و) «ناسخه ومنسوخه» ، من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن صَالح، عَن جَابر، قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يضع) الإِناء للسنور، فيلغ فِيهِ، ثمَّ يتَوَضَّأ من فَضْلِه» .
وَابْن إِسْحَاق عَقَدتُ لَهُ فصلا فِي «كتاب الصَّلَاة» فليُنْظَر مِنْهُ.
وَأما الطَّرِيق الثَّانِي: فلهَا أَربع طرق:
أَجودهَا: رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» وَابْن شاهين فِي «ناسخه ومنسوخه» ، من حَدِيث يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ، عَن عبد ربه بن سعيد، عَن أَبِيه، عَن عُرْوَة بن الزبير، عَن عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُا قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يمر بالهرة، فيصغي لَهَا الإِناء، فَتَشرب ثمَّ يتَوَضَّأ بفضلها» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي: يَعْقُوب هَذَا هُوَ أَبُو يُوسُف القَاضِي، وَعبد ربه هُوَ عبد الله بن سعيد المَقْبُري، وَهُوَ ضَعِيف عِنْدهم بِمرَّة.
وَمَعْنى «يُصْغِي» : يمِيل تسهيلًا للشُّرْب عَلَيْهَا، وَمِنْه (فقد صغت قُلُوبكُمَا) ، أَي: مالتا عَن الْحق.
(1/565)
الطَّرِيق الثَّانِي: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن مُحَمَّد بن عمر، عَن عبد الحميد (بن) عمرَان بن أبي أنس، عَن أَبِيه، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة: «أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يصغي إِلَى الْهِرَّة الإِناء، حتَّى تشرب مِنْهُ، ثمَّ يتَوَضَّأ بفضلها» .
مُحَمَّد بن (عمر) هُوَ الْوَاقِدِيّ، وَقد أَكثر القَوْل فِيهِ، وأفظع فِيهِ النَّسَائِيّ، فنسبه إِلَى وضع الحَدِيث.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن عبد الله بن سعيد، عَن أَبِيه، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة، قَالَت: «رُبمَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُكْفِىءُ الإِناء للسِنَّور حتَّى يشرب، ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ» .
ذكره الشَّيْخ فِي «الإِمام» بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن أبي حنيفَة، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم، عَن الشّعبِيّ، عَن عَائِشَة: «أنَّ رَسُول الله توضَّأ ذَات يَوْم، فَجَاءَت الْهِرَّة فَشَرِبت من المَاء، فتوضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (مِنْهُ) (وَشرب) (مِنْهُ) مَا بَقِي) .
(1/566)
وَقد رُوي عَن عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُا من طَرِيقين آخَرين: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يتَوَضَّأ بِفضل الْهِرَّة» .
أَحدهمَا: عَن (دَاوُد بن صَالح) التَمَار، عَن أمه « (أَن) مولاتها أرسلتها (بهريسة) إِلَى عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُا، فَوَجَدتهَا تصلِّي، فَأَشَارَتْ إليَّ أَن ضعيها، فَجَاءَت هرة فَأكلت مِنْهَا، فَلَمَّا انصرفت أكلت من حَيْثُ أكلت الْهِرَّة، فَقَالَت: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: إنَّها لَيست بِنَجس، (إنَّما هِيَ) من الطوافين عَلَيْكُم. وَقد رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتوضَّأ بفضلها» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: تَفرَّد بِهِ عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، عَن دَاوُد بن صَالح، عَن أمه بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ.
قُلْتُ: قَالَ أَحْمد فِي دَاوُد: لَا أعلم بِهِ بَأْسا. فَإِذا لَا يضر تفرُّده، لَكِن أمه مَجْهُولَة لَا يُعلَم لَهَا حَال، وَلِهَذَا قَالَ الْبَزَّار: لَا يثبت من جِهَة النَّقْل. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : اخْتلف فِي هَذَا الحَدِيث، فرفعه قوم، وَوَقفه آخَرُونَ. وَاقْتَضَى كَلَامه أَن وَقفه هُوَ الصَّحِيح.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجم شُيُوخه» بِحَذْف أم دَاوُد، والإِتيان بِأَبِيهِ بدلهَا، من حَدِيث الدَّرَاورْدِي، عَن [دَاوُد بن صَالح] ، عَن أَبِيه،
(1/567)
عَن عَائِشَة مَرْفُوعا فِي الْهِرَّة: «إِنَّهَا لَيست بِنَجس» .
(وَصَالح بن دِينَار) ، ذكره ابْن حبَان فِي «الثِّقَات» .
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن حَارِثَة - بِالْحَاء الْمُهْملَة، (بعْدهَا ألف) ، ثمَّ رَاء مُهْملَة، ثمَّ ثاء مُثَلّثَة، ثمَّ هَاء - بن مُحَمَّد، (عَن عمْرَة) ، عَن عَائِشَة، قَالَت: «كنت أتوضأ أَنا وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من إِنَاء وَاحِد، وَقد أَصَابَت مِنْهُ الْهِرَّة قبل ذَلِك» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: لَا بَأْس بحارثة.
قُلْتُ: وضَعَّفه يَحْيَى، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك.
وَله طَرِيق ثَالِث: رَوَاهُ الْخَطِيب فِي «تَارِيخه» من حَدِيث (سلم بن) الْمُغيرَة الْأَزْدِيّ، نَا مُصعب بن ماهان، نَا سُفْيَان، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، قَالَت: «توضَّأت أَنا وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من إِنَاء وَاحِد، وَقد أصَابَتْه الْهِرَّة قبل ذَلِك» ، ثمَّ قَالَ: تَفَرَّد بِهِ عَن سُفْيَان: مُصعب بن ماهان، وَلم أَرَه إلاَّ من حَدِيث سلم [عَنهُ] . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (سلم) لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
(1/568)
وَله طَرِيق رَابِع: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» ، من حَدِيث جَعْفَر بن (عَنْبَسَة) الْكُوفِي، نَا عمر بن حَفْص (الْمَكِّيّ) ، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جده عَلّي بن الْحُسَيْن، عَن (أنس) رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «خرج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى أَرض بِالْمَدِينَةِ - يُقَال لَهَا: (بطحان) - فَقَالَ: يَا أنس، اسكب لي وضُوءًا. فَسَكَبت لَهُ، فَلَمَّا قَضَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَاجته، أقبل إِلَى الإِناء، وَقد أَتَى هِرٌّ فولغ فِي الإِناء، فَوقف لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقْفَة حتَّى شرب الهر، ثمَّ توضَّأ، فَذكرت لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر الهر، فَقَالَ: يَا أنس، إِن الهِرَّ من متاعِ البيتِ، لن يُقَذِّرَ شَيْئا، وَلنْ يُنجسهُ» .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يَرْوِه عَن جَعْفَر بن (عَنْبَسَة) الْكُوفِي إلاَّ عمر بن حَفْص الْمَكِّيّ، وَلَا رَوَى (عَن) عَلّي بن الْحُسَيْن عَن أنس [حَدِيثا] غير هَذَا.
فإنْ قيل: قد ورد حَدِيث يُخَالف هَذِه الْأَحَادِيث، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «يُغسل من ولوغ الْكَلْب سبعا، وَمن ولوغ الْهِرَّة مرّة» .
(1/569)
فَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: - عَلَى تَقْدِير صِحَّته - أنَّ هَذِه اللَّفْظَة - وَهِي قَوْله: «وَمن ولوغٍ الْهِرَّة مرّة» - مدرجة فِي الحَدِيث من كَلَام أبي هُرَيْرَة، مَوْقُوفا عَلَيْهِ، (لَيست) من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَه الْبَيْهَقِيّ، وَغَيره من الْحفاظ.
الثَّانِي: - وَبِه أجَاب (الإِمام) الشَّافِعِي - أَن هَذَا الحَدِيث مَتْرُوك الظَّاهِر بالِاتِّفَاقِ؛ لِأَن ظَاهره (يَقْتَضِي) وجوب غسل الإِناء من ولوغ الْهِرَّة، وَلَا يجب ذَلِك بالإِجماع.
خاتمتان:
إِحْدَاهمَا: لَمَّا ذَكَر الإِمَام الرَّافِعِيّ الدَّلِيل عَلَى نَجَاسَة الْخمر قَالَ: أَلا ترَى أَن الشَّرْع حكم بِنَجَاسَة الْكلاب لَمَّا نهَى عَن مخالطتها، مُبَالغَة فِي الْمَنْع. انْتَهَى.
فَأَما حكمه بنجاستها؛ فقد عَلمته مِمَّا تقدَّم، وَأما نَهْيه عَن مخالطتها؛ فَهُوَ ثَابت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث سَالم، عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَن اقتنى كَلْبا، إلاَّ كلب صيد أَو مَاشِيَة، (فإنَّه) ينقص من أجره كل يَوْم قيراطان» . قَالَ سَالم: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: «أَو كلب حرث» وَكَانَ صَاحب حرث. وَفِي رِوَايَة: «كل يَوْم (قِيرَاط) » .
(1/570)
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «جَامع المسانيد» : وَهِي من أَفْرَاد مُسلم.
وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَمن حَدِيث [سُفْيَان بن أبي زُهَيْر] ، وَقد صَحَّ الْأَمر (بقتلهن) ، وكل ذَلِك يدل عَلَى النَّهْي عَن (مخالطتهن) .
الخاتمة الثَّانِيَة: (لَمَّا) ذَكَر الإِمام الرَّافِعِيّ أَن بَوْل الْمَأْكُول نجس، قَالَ: وَفِيه وَجه: أَنه طَاهِر، وَاخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ. قَالَ: وَأَحَادِيثه مَشْهُورَة فِي الْبَاب مَعَ تَأْوِيلهَا ومعارضاتها.
فلنذكر طرفا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ فَنَقُول:
بَوْل الْحَيَوَان الْمَأْكُول (وروثه) نجس عندنَا، وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، وَغَيرهمَا.
وَقَالَ عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَالزهْرِيّ وَمَالك وسُفْيَان الثَّوْريّ (وَزفر) وَأحمد: بَوْله وروثه طاهران.
وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل من أَصْحَابنَا: ابْن خُزَيْمَة، وَالرُّويَانِيّ، كَمَا ذكره الإِمام الرَّافِعِيّ، وَهُوَ قَول أبي سعيد الأصطخري.
وَعَن اللَّيْث وَمُحَمّد بن الْحسن: أَن بَوْل الْمَأْكُول طَاهِر دون روثه. (و) قَالَ أَبُو حنيفَة: ذَرْقُ الحَمَام طَاهِر.
(1/571)
احتجَّ من قَالَ بِالطَّهَارَةِ بِأَحَادِيث:
الأول: حَدِيث أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ الْمُتَّفق عَلَى صِحَّته، قَالَ: (قدم نَاس من عُكْل أَو عرينة، (فاجتووا) الْمَدِينَة، فَأمر لَهُم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بلِقاح، وَأمرهمْ أَن يشْربُوا من أبوالها وَأَلْبَانهَا» .
الثَّانِي: عَن جَابر رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا أُكِل لَحْمه، فَلَا بَأْس ببوله» .
الثَّالِث: عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا بَأْس ببول مَا أكل لَحْمه» (رَوَاهُمَا) الدَّارَقُطْنِيّ.
واحتجَّ من قَالَ بِالنَّجَاسَةِ: بقول الله - تَعَالَى -: (وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث) ، وَالْعرب تستخبث هَذَا، وبإطلاق الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْوَارِدَة فِي تَعْذِيب من لَا (يستنز) مِنْهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانه، حَيْثُ ذكره المُصَنّف فِي بَاب الِاسْتِنْجَاء إِن شَاءَ الله - تَعَالَى.
وبالقياس عَلَى مَا لَا يُؤكل، وَعَلَى دم الْمَأْكُول.
(وَالْجَوَاب) عَن حَدِيث أنس: أَنه كَانَ للتداوي، وَهُوَ جَائِز بِجَمِيعِ النَّجَاسَات، سُوَى الْخمر والمسكرات، وَقَالَ الشَّافِعِي وَغَيره: إِنَّه مَنْسُوخ، إِذْ فِيهِ الْمثلَة، وَقد نهي بعد عَنْهَا.
لَكِن لَعَلَّ مُرَادهم الْعقُوبَة خَاصَّة، لَا جملَة مَا (دلّ) عَلَيْهِ من الْأَحْكَام.
(1/572)
(وَعَن) حَدِيث جَابر: أَنه ضَعِيف (جدًّا) ، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ، فإنَّ فِي إِسْنَاده: عَمْرو بن الْحصين الْعقيلِيّ، وَهُوَ واهٍ جدًّا. (و) قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: ذَاهِب الحَدِيث، لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: واهي الحَدِيث. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: ضَعِيف جدًّا، يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ. وَقَالَ ابْن عدي: حَدَّث عَن الثِّقَات بِغَيْر حَدِيث (مُنكر) ، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك.
وَفِي إِسْنَاده أَيْضا: يَحْيَى بن الْعَلَاء (أَبُو عَمْرو) البَجلِيّ الرَّازِيّ، وَقد ضَعَّفوه (جدًّا) ، كَانَ وَكِيع شَدِيد الْحمل عَلَيْهِ، وَقَالَ أَحْمد: كَذَاب، يضع الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي وَالنَّسَائِيّ والأزدي: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن عدي: الضعْف عَلَى حَدِيثه بَيِّن، وَأَحَادِيثه مَوْضُوعَات. وَقَالَ ابْن حبَان: ينْفَرد عَن الثِّقَات بالمقلوبات، لايجوز الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَالْجَوَاب عَن حَدِيث الْبَراء بن عَازِب: أَنه ضَعِيف - أَيْضا - جدًّا، (بل قَالَ) ابْن حزم فِي كِتَابه «المحلَّى» : هُوَ خبر بَاطِل مَوْضُوع؛ لِأَن فِي إِسْنَاده سَوَّار بن مُصعب، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث (عِنْد) جَمِيع أهل النَّقْل، مُتَّفق عَلَى ترك الرِّوَايَة عَنهُ، يروي الموضوعات.
(1/573)
وَمِمَّنْ ضعف هذَيْن الْحَدِيثين من الْحَنَابِلَة ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب «التَّحْقِيق» .
قُلْتُ: وَقد اختُلف عَلَى سَوَّار فِي إِسْنَاده، فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ عَن مطرف، عَن (أبي) الجهم، عَن الْبَراء مَرْفُوعا: «مَا أُكل لَحْمه، فَلَا بَأْس بسؤره» .
وَهَذَا تَعْلِيل ثَان للْحَدِيث أَفَادَهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
(آخر الْجُزْء الثَّالِث بِحَمْد الله ومَنِّه،
يتلوه فِي الرَّابِع
بَاب الِاجْتِهَاد)
(1/574)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
بَاب الِاجْتِهَاد
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثا وَاحِدًا.
وَهُوَ: مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، من رِوَايَة أبي قَتَادَة رَضِي اللهُ عَنْهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ حَامِل أُمَامَة بنت زَيْنَب (بنت) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[وَلأبي الْعَاصِ بن الرّبيع] ، فَإِذا قَامَ حملهَا، وَإِذا سجد وَضعهَا» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يصلِّي بِالنَّاسِ، وأمامة عَلَى عُنُقه - وَفِي رِوَايَة: عَلَى عَاتِقه - فَإِذا ركع وَضعهَا، وَإِذا (قَامَ) من السُّجُود أَعَادَهَا» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «يؤم النَّاس» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه كَانَ فِي الْمَسْجِد» .
(1/575)
وَاسم أبي الْعَاصِ: (مهشم) ، كَذَا ضَبطه النَّوَوِيّ (فِي «شرح الْمُهَذّب» ) . وَقَالَ صَاحب «الْمُغنِي فِي غَرِيب الْمُهَذّب» : مِقْسم - بِكَسْر الْمِيم، وَسُكُون الْقَاف - كَذَا ضَبطه. وَقيل: لَقِيط. وَقيل: يَاسر. وَقيل: الْقَاسِم.
وَهَذَا الْفِعْل مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ - كَانَ قَلِيلا، فَلَا يقْدَح فِي صِحَة الصَّلَاة. وادَّعى بَعضهم أَن هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ. وَفِي ذَلِك نظر؛ (لِأَنَّهُ) لَا بُد فِي ذَلِك من معرفَة المتقدِّم من المتأخِّر، وَلَا قدرَة لَهُ عَلَى ذَلِك. وادَّعى بَعضهم أَن ذَلِك كَانَ فِي النَّافِلَة. وَذَلِكَ مَرْدُود، لِأَن ظَاهر قَوْله: «رَأَيْته - عَلَيْهِ السَّلَام - يَؤُم النَّاس» فِي «الصَّحِيح» صَرِيح، (أَو) كَالصَّرِيحِ فِي الْفَرِيضَة. قَالَه النَّوَوِيّ فِي «شرح مُسلم» .
قُلْتُ: بل ورد (ذَلِك) صَرِيحًا، فروَى أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» أَن ذَلِك كَانَ فِي الظّهْر أَو الْعَصْر. وَرَوَى الزبير بن بكار فِي كتاب «النَّسب» ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، عَن عَمْرو بن سليم: «أَن
(1/576)
ذَلِك كَانَ فِي صَلَاة الصُّبْح» ، فاستفده.
وادَّعى بَعضهم (خُصُوصِيَّة) ذَلِك برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، إِذْ لَا يُؤْمَن من الطِّفْل الْبَوْل، وَغير ذَلِك عَلَى حامله، وَقد يُعْصَم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ويَعْلم بسلامته. وَفِي ذَلِك نظر، فَأَي دَلِيل عَلَى الخصوصية؟ .
(1/577)
بَاب الْأَوَانِي
ذكر رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ ثَلَاث عشر حَدِيثا:
الحَدِيث الأول
«أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَرَّ بشَاة (ميتَة) لميمونة، فَقَالَ: هَلاَّ أَخَذْتُم إهَابَها، فَدَبَغْتُموه، (فانتفعتم) بِهِ. فَقيل: إِنَّهَا ميتَة! فَقَالَ: أَيُّما إهَاب دُبغَ فقد طَهُر» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، بِدُونِ اللَّفْظَة الْأَخِيرَة فِيهِ، وَبِدُون أَن الشَّاة لميمونة، وإنَّما (هِيَ) لمولاتها، من رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُما قَالَ: «تُصُدِّق عَلَى مولاة لميمونة بِشَاة، فَمَاتَتْ، فمرَّ بهَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: هَلاَّ أَخَذْتُم إهابها، (فدبغتموه) ، فانتفعتم بِهِ؟ فَقَالُوا: إِنَّهَا ميتَة! فَقَالَ: إِنَّمَا حَرُم أكلهَا» . (هَذَا لفظ مُسلم) . وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : « (هلاَّ) انتفعتم بجلدها؟» . (وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَلا أَخَذْتُم إهابها)
(1/578)
(فاستمتعتم) بِهِ؟» . وَفِي رِوَايَة: «أَلا انتفعتم بإهابها؟» .
وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، عَن مَيْمُونَة أَنَّهَا أخْبرته: «أنَّ (داجنة) كَانَت (لبَعض) نسَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (فَمَاتَتْ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) : أَلا أَخَذْتُم إهابها، فاستمتعتم بِهِ» .
وَلَفظ رِوَايَة البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس: «وَجَدَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَاة ميتَة، (أُعطيتها مولاة لميمونة من الصَّدَقَة) ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: هَلاَّ (انتفعتم بجلدها) ؟ قَالُوا: إِنَّهَا ميتَة! قَالَ: إِنَّمَا حرم أكلهَا» .
(وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن ابْن عَبَّاس: «أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَرَّ بِشَاة ميتَة، فَقَالَ: هَلاَّ استمتعتم بإهابها؟ قَالُوا: إِنَّهَا ميتَة! قَالَ: إِنَّمَا حرم أكلهَا» ) .
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَنهُ: «مرَّ - عَلَيْهِ السَّلَام - بِعَنْزٍ ميتَة، فَقَالَ: مَا عَلَى أَهلهَا لَو انتفعوا بإهابها» .
وَلم يقل البُخَارِيّ فِي شَيْء من طرقه: «فدبغتموه» ، كَمَا نَبَّه عَلَيْهِ عبد الْحق أَيْضا.
(1/579)
وَقد خَفِيَ عَلَى بعض الحفَّاظ - كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ - فَجعل هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد مُسلم، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ، فقد رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع من «صَحِيحه» مِنْهَا: «كتاب الزَّكَاة» ، فِي الصَّدَقَة عَلَى موَالِي أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، بِاللَّفْظِ الأول، وَفِي كتاب «الصَّيْد والذبائح» ، و «الْبيُوع» بِاللَّفْظِ الثَّانِي.
وَرَوَى النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» ، من رِوَايَة ابْن عَبَّاس أَيْضا، قَالَ: «مرَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِشَاة لميمونة ميتَة، فَقَالَ: أَلا أَخَذْتُم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم بِهِ» . وَإِسْنَاده صَحِيح، وَهَذِه الرِّوَايَة موافِقة لِمَا أوردهُ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب، من كَون الشَّاة كَانَت لميمونة.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الإِمام أَحْمد فِي «مُسْنده» ، وَهَذَا لَفظه عَن ابْن عَبَّاس: «أَنه - عَلَيْهِ السَّلَام - مَرَّ بِشَاة ميتَة لميمونة، فَقَالَ: أَلا أخذُوا إهابها، فدبغوه، فانتفعوا بِهِ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِنَّهَا ميتَة! فَقَالَ:) إِنَّمَا حرم أكلهَا» .
وَرَوَى البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا بِهِ، فِي بَاب: من حلف لَا يشرب نبيذًا، من [كتاب] «الْأَيْمَان وَالنُّذُور» ، لَكِن عَن ابْن عَبَّاس،
(1/580)
عَن سَوْدَة، قَالَت: «مَاتَت لنا شَاة، فدبغنا مَسْكَها، ثمَّ (مَا زلنا) (نَنْبِذُ) فِيهِ حتَّى (صَار) شَنًّا» .
نعم فِي بعض نسخ البُخَارِيّ: عَن مَيْمُونَة، (بدل) سَوْدَة.
وَفِي رِوَايَة للبزار: «مَاتَت شَاة لميمونة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَلا استمتعتم بإهابها، فإنَّ دباغ الْأَدِيم طهوره» . وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهَا فِي أثْنَاء الحَدِيث السَّادِس من هَذَا الْبَاب، فِي الطَّرِيق الرَّابِع مِنْهُ، وَهِي أقرب الطّرق إِلَى مَا فِي الْكتاب.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن مَيْمُونَة، أَنَّهَا قَالَت لِابْنِ عَبَّاس: «إنَّ دَاجِنًا كَانَت لبَعض نسَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَمَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَلا أَخَذْتُم إهابها فاستمتعتم بِهِ» . وَقد تقدّمت، وَالظَّاهِر أَن الْمُبْهم فِي هَذِه الرِّوَايَة مَا هُوَ مُفَسّر فِي رِوَايَة أَحْمد، وَالنَّسَائِيّ، وَالْبَزَّار.
نعم سَيَأْتِي قَرِيبا أنَّ سَوْدَة رَضِي اللهُ عَنْهُا وَقع لَهَا (مثل هَذَا) ، فتوقفتُ فِي هَذَا الظَّاهِر.
(ويتلخص من هَذَا كُله: أَن الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا المُصَنّف) : أَن
(1/581)
الشَّاة لميمونة، صَحِيحَة مَوْجُودَة، وَقد غَلِطَ (من) غَلَّطَه فِي ذَلِك، وَأنكر عَلَيْهِ وَعَلَى غَيره (من الْفُقَهَاء) .
وَجَمَع الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» بَين هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَحْسَن جمع، فَقَالَ: «يُمكن أَن تكون الْقِصَّة وَاحِدَة، لكَون مولاتها كَانَت عِنْدهَا، وَمن خدمها، فَتَارَة نُسبت الشَّاة إِلَيْهَا، وَتارَة إِلَى مَيْمُونَة» . وَهَذَا جمع متين.
وَمن الْفَوَائِد الْمُهِمَّات: أَنه قد جَاءَ فِي رِوَايَة صَحِيحَة، لَا شكّ وَلَا ارتياب فِي صِحَة سندها، وثقة رواتها: أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ هُوَ الْمُعْطِي الشَّاة لمولاة مَيْمُونَة - وَتَكون هَذِه الرِّوَايَة مفسرة لرِوَايَة «الصَّحِيحَيْنِ» الْمُتَقَدّمَة، فَإِنَّهَا (وَردت) مَبْنِيَّة للْمَفْعُول، حَيْثُ قَالَ: «تُصدق» - وَهِي مَا رَوَاهَا النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» ، من حَدِيث مَالك، عَن ابْن شهَاب، عَن عبيد الله بن عبد الله، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «مَرَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، بِشَاة (ميتَة) ، كَانَ (هُوَ) أَعْطَاهَا مولاة لميمونة زوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: هلا انتفعتم بجلدها؟ . فَقَالُوا: يَا رَسُول الله إنَّها (ميتَة) ! فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنَّمَا حرم أكلهَا» .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي (بِسَنَدِهِ) كَذَلِك.
(1/582)
وَقد (رُوِيَ) نَحْو هَذَا فِي شَاة لسودة، فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» مَا تقدم، وَفِي «مُسْند أَحْمد» بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «مَاتَت شَاة لسودة، فَقَالَت: يَا رَسُول الله مَاتَت فُلَانَة - يَعْنِي الشَّاة - قَالَ: فَهَلا أَخَذْتُم مسكها؟ قَالَت: أنأخذ مسك شَاة قد مَاتَ؟ ! فَقَالَ لَهَا: إِنَّمَا قَالَ الله: (قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما عَلَى طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحًا أَو لحم خِنْزِير) ، فَإِنَّكُم لَا تطعمونه إِن (تدبغوه) (فتنتفعوا) بِهِ. قَالَت: (فَأَرْسَلنَا) إِلَيْهَا (فسلخت) مسكها، (فدبغته) ، فاتخذت مِنْهُ قربَة، حتَّى تَخَرَّقت عِنْدهَا» .
وَأخرجه ابْن حبَان أَيْضا فِي «صَحِيحه» بِمثلِهِ.
و «الإِهاب» : بِكَسْر الْهمزَة، جمعه: «أُهُب» : بِضَم الْهمزَة، وَالْهَاء، و «أَهَب» : بِفَتْحِهَا، لُغَتَانِ مشهورتان. (وَلم) يُجِزْ ابْن دُرَيْد سُوَى الْفَتْح.
وَاخْتلف أهل اللُّغَة فِيهِ، فَقَالَ إِمَام اللُّغَة والعربية أَبُو عبد الرَّحْمَن الْخَلِيل بن أَحْمد رَحِمَهُ اللَّهُ: الإِهاب هُوَ الْجلد قبل أَن يُدبغ، وَكَذَا ذكر أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، وَحَكَاهُ عَن النَّضر بن شُمَيْل، وَلم (يذكر)
(1/583)
غَيره، وَكَذَا (حَكَاهُ) الْجَوْهَرِي، وَآخَرُونَ من أهل اللُّغَة.
وَذكر الْأَزْهَرِي فِي «شرح أَلْفَاظ الْمُخْتَصر» ، والخطابي، وَغَيرهمَا: أَنه الْجلد، وَلم يقيدوه بِمَا لم يدبغ. وَقَالَ (القَزَّاز) فِي كِتَابه «جَامع اللُّغَة» : «هُوَ الْجلد، سُمِّي بذلك مدبوغًا وَغير مدبوغ» . وَقَالَ ابْن فَارس: «هُوَ كل جلد» ، وَقَالَ قوم: هُوَ الْجلد قبل أَن يدبغ.
وَقَوله: «طهر» ، هُوَ بِفَتْح الْهَاء، وَضمّهَا، وَكسرهَا، ثَلَاث لُغَات حكاهن ابْن مَالك فِي «مثلثه» .
الحَدِيث الثَّانِي
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ: «أَيُّما إهَاب دبغ فقد طَهر» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، يُروى من طرق:
أَحدهَا: رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، وَفِي «مُسْنده» ، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن زيد بن أسلم، عَن عبد الرَّحْمَن بن (وَعلة) ، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول ... » فَذكره بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره المُصَنّف سَوَاء.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ، عَن قُتَيْبَة، عَن سُفْيَان بِهِ
(1/584)
سَوَاء، ثمَّ قَالَ: «هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح» . وصحَّحه ابْن حبَان أَيْضا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور. وَرَوَاهُ مُسلم، عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَمْرو النَّاقِد، عَن سُفْيَان بِهِ، وَلَفظه: «إِذا دُبِغ الإِهاب فقد طهر» . وَلم يخرج البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» هَذَا (الحَدِيث) .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «شرح الإِلمام» : لَيْسَ تظهر لنا الْعلَّة فِي تَركه إلاَّ التوهُّم (فِي) أَن يكون ابْن وَعلة عِنْد البُخَارِيّ لم يبلغ الرُّتْبَة الَّتِي يَعْتَبِرهَا، وَلَيْسَ يُعلم فِي ابْن وَعلة مطْعن، وَهُوَ: عبد الرَّحْمَن بن (السميفع) بن وَعلة (السبائي) ، وَقد رَوَى عَنهُ: أَبُو الْخَيْر مرْثَد بن عبد الله الْيَزنِي، وَيَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَزيد بن أسلم، فقد ارْتَفَعت الْجَهَالَة عَنهُ عَلَى مَا عُرِف من مَذَاهِب الْمُحدثين.
هَذَا وَقد ذكر الْحَافِظ أَبُو سعيد بن يُونُس فِي «تَارِيخ مصر» : أَنه كَانَ شريفًا بِمصْر فِي أَيَّامه، وَله وفادة عَلَى مُعَاوِيَة، وَصَارَ إِلَى أفريقية، وَبهَا مَسْجده، ومواليه. وَهَذِه شهرة شهيرة، عَلَى رِوَايَة الْجَمَاعَة عَنهُ، مَعَ تَخْرِيج مَالك لحديثه فِي الْمُوَطَّأ.
قُلْتُ: وَمَعَ تَوْثِيق أبي حَاتِم ابْن حبَان لَهُ، وَقَبله ابْن معِين، وَالْعجلِي، وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ. وَنقل عَن الإِمام
(1/585)
(أَحْمد) : أَنه ذكر (لَهُ) هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: وَمن ابْن وَعلة؟ .
وَهَذِه (الطَّرِيقَة) أولَى من (الطَّرِيقَة) الَّتِي سلكها الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين، (أَعنِي) : ذكر من (وَثَّقَهُ) ، دون سرد تَارِيخه.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِي اللهُ عَنْهُما، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: إِسْنَاده حسن.
قُلْتُ: فِي سَنَده (مُحَمَّد) بن عَقِيْل الْخُزَاعِيّ، وَلَا بَأْس بِهِ، وثَّقه النَّسَائِيّ. وَقَالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم: ثِقَة، حَدّث بحديثين، لم يُتابع عَلَيْهِمَا. وَقَالَ ابْن حبَان فِي «ثقاته» : رُبمَا أَخطَأ، حدَّث بالعراق بِمِقْدَار عشرَة أَحَادِيث مَقْلُوبَة. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : وتَفَرَّد بِهَذَا الحَدِيث.
قُلْتُ: قد سَرقه (مِنْهُ) قطن بن إِبْرَاهِيم الْقشيرِي، (النَّيْسَابُورِي) ، كَمَا قيل. فطالبوه (بِأَصْلِهِ) ، فَأخْرج جُزْءا، وَقد كتبوه عَلَى حَاشِيَته، وَلِهَذَا ترك مُسلم الِاحْتِجَاج بحَديثه.
(1/586)
الطَّرِيق (الثَّالِث) : عَن جَابر بن عبد الله رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي «تلخيصه» .
الحَدِيث الثَّالِث
قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تنتفعوا من الْميتَة بإهاب وَلَا عَصَب» .
هَذَا الحَدِيث مَشْهُور، وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل، وَهُوَ (عَن) عبد الله بن عكيم قَالَ: «أَتَانَا كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل مَوته بِشَهْر: ألآَّ تنتفعوا من الْميتَة بإهاب، وَلَا عصب» .
رَوَاهُ الْأَئِمَّة: الشَّافِعِي فِي «سنَن حَرْمَلَة)) ، وَأحمد فِي «مُسْنده» ، وَالْبُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، فِي (سُنَنهمْ) وَلم يذكر مِنْهُم الْمدَّة غير الشَّافِعِي، وَأحمد، وَأبي دَاوُد.
(1/587)
وَفِي رِوَايَة أَحْمد: «بِشَهْر أَو بشهرين» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. قَالَ: وَسمعت أَحْمد بن (الْحسن) يَقُول: كَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يذهب إِلَى حَدِيث ابْن عكيم (هَذَا) ، لقَوْله: «قبل وَفَاته بشهرين» . وَكَانَ يَقُول: هَذَا آخر الْأَمر. قَالَ: ثمَّ ترك أَحْمد بن حَنْبَل هَذَا الحَدِيث لَمَّا اضْطَرَبُوا فِي إِسْنَاده، حَيْثُ رَوَى بَعضهم، فَقَالَ: عَن عبد الله بن عكيم، عَن أَشْيَاخ من جُهَيْنَة.
(وَرَوَاهُ) أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، من طَرِيقين، من رِوَايَة: عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى عَن (ابْن) عكيم، وَفِي إِحْدَاهمَا: «كَتَبَ إِلَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » (وذَكَر الْمدَّة، وَفِي الْأُخْرَى: قُرىء علينا كتاب رَسُول الله) ، من غير ذكرهَا. ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق ثَالِث عَن (ابْن) أبي لَيْلَى، عَن عبد الله بن عكيم، قَالَ: حَدَّثَنَا مشيخة لنا من جُهَيْنَة: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كتب إِلَيْهِم: أَن لَا تستمتعوا من الْميتَة بِشَيْء» . قَالَ: وَهَذِه اللَّفْظَة وَهِي: «حَدَّثَنَا مشيخة لنا من جُهَيْنَة» أوهمت عَالما من النَّاس أَن الْخَبَر لَيْسَ بِمُتَّصِل. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا نقُول فِي (كتَابنَا) : أنَّ الصَّحَابِيّ قد يشْهد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَيسمع مِنْهُ شَيْئا، ثمَّ يسمع ذَلِك الشَّيْء مِمَّن
(1/588)
هُوَ أعظم خطرًا (مِنْهُ) ، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَمرَّة يخبر عمَّا شَاهده، وَمرَّة يروي عَمَّن سمع.
أَلا ترَى أَن ابْن عمر شهد سُؤال جِبْرِيل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الإِيمان، وسَمعه من عمر بن الْخطاب، فَمرَّة أخبر بِمَا شَاهد، وَمرَّة رَوَى عَن أَبِيه مَا سمع، فَكَذَلِك عبد الله بن عكيم، شهد كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَيْثُ قُرىء عَلَيْهِم فِي جُهَيْنَة، وَسمع مَشَايِخ جُهَيْنَة يَقُولُونَ ذَلِك، فأدّى مرّة مَا شهد، وَأُخْرَى مَا سمع، من غير أَن يكون فِي الْخَبَر انْقِطَاع. هَذَا آخر كَلَامه فِي «صَحِيحه» .
(وَقَالَ) فِي كتاب «الثِّقَات» : عبد الله بن عكيم، الْجُهَنِيّ أَبُو معبد أدْرك (زمن) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلم يسمع مِنْهُ شَيْئا «كتب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[إِلَى جُهَيْنَة] قبل مَوته بِشَهْر: أَن لَا تنتفعوا من الْميتَة بإهاب، وَلَا عصب» .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (كِتَابه) «معرفَة السّنَن والْآثَار» ، وَغَيره من الْحفاظ: (هَذَا الحَدِيث مُرْسل، وَابْن عكيم لَيْسَ بصحابي. وَقَالَ الخَطَّابي) : مَذْهَب عَامَّة الْعلمَاء جَوَاز الدّباغ، وَوَهَّنُوا هَذَا
(1/589)
الحَدِيث، لِأَن ابْن عكيم (لم يَلْقَ) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، إِنَّمَا هُوَ حِكَايَة عَن (كتاب) . وعَلَّلوه أَيْضا: بِأَنَّهُ مُضْطَرب، وَعَن مشيخة مجهولين، لم تثبتْ صحبتهم.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رَوَى دَاوُد بن عَلّي: أَن ابْن معِين ضَعَّفه، وَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْء. وَابْن عكيم لَيست لَهُ صُحْبَة، (قَالَه) الرازيان. و (عَدَّه) أَبُو نعيم مِنْهُم، وَذكر لَهُ حَدِيثا آخر.
وَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «كِتَابه» ، وَقَالَ: لَا يُعْرف لَهُ سَماع (صَحِيح) من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: اخْتُلف فِي سَمَاعه من رَسُول الله من حَدِيثه «من عَلَّق شَيْئا وُكِلَ إِلَيْهِ» .
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ من أَصْحَابنَا، عَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ قولة غَرِيبَة: أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَاتَ ولعَبْد الله بن عكيم سنة.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي « (علله» ) : سَأَلت أبي عَن هَذَا
(1/590)
الحَدِيث، فَقَالَ: لم يسمع عبد الله بن (عكيم) من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابه.
وَقَالَ ابْن شاهين: هَذَا (الحَدِيث) مَشْهُور بِعَبْد الله بن عكيم، وَلَيْسَ لَهُ لِقَاء لهَذَا الحَدِيث، وَكَذَا جزم الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» بذلك فَقَالَ: فِي هَذَا الحَدِيث إرْسَال.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْحسن، عَلّي بن الْفضل (الْمَقْدِسِي) : قد اعْتمد الْأَصْحَاب عَلَى هَذَا الحَدِيث وَهُوَ ضَعِيف فِي إِسْنَاده، (قَابل التَّأْوِيل فِي مُرَاده) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «شرح الإِلمام» : قَوْله: (ضَعِيف) (فِي) إِسْنَاده. لَا يُحمل عَلَى (الطعْن) فِي الرِّجَال، فإنَّهم ثِقَات إِلَى عبد الله بن عكيم، وإنَّما يَنْبَغِي أَن يُحمل عَلَى الضعْف بِسَبَب الِاضْطِرَاب، كَمَا نُقل عَن الإِمام أَحْمد.
وَكَذَا قَالَ فِي (كِتَابه «الإِمام» ) : الَّذِي يعتل بِهِ (فِي) هَذَا الحَدِيث الِاخْتِلَاف، فروَى (عَن الحكم) عَن عبد الرَّحْمَن، عَن عبد
(1/591)
الله بن عكيم، قَالَ: «قُرىء علينا كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَن لَا تنتفعوا من الْميتَة بإهاب، وَلَا عصب» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي عمر الضَّرِير، نَا أَبُو شيبَة، وَإِبْرَاهِيم بن (عُثْمَان) ، عَن الحكم، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن عبد الله بن عكيم، قَالَ: «أَتَانَا كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى (أَرض) جُهَيْنَة، قبل وَفَاته بشهرين: أَن لَا تنتفعوا من الْميتَة بإهاب، وَلَا عصب» . ثمَّ قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يَرْوِه عَن أبي شيبَة إلاَّ: أَبُو عمر الضَّرِير، وَأَبُو شيبَة تكلمُوا فِيهِ، وَقيل: مَتْرُوك.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، من جِهَة (خَالِد) ، عَن الحكم، (عَن عبد الرَّحْمَن) : «أَنه انْطلق هُوَ وأناس إِلَى عبد الله بن عكيم، فَدَخَلُوا، وَقَعَدت عَلَى الْبَاب، فَخَرجُوا إليَّ، فَأَخْبرُونِي أَن عبد الله بن عكيم أخْبرهُم ... » الحَدِيث.
(1/592)
فَفِي هَذِه الرِّوَايَة: أَنه سَمعه من النَّاس الداخلين (عَلَيْهِ) (عَنهُ) ، وهم مَجْهُولُونَ.
(و) رَوَاهُ ابْن عدي، من حَدِيث يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن أبي سعيد (الْبَصْرِيّ) - وَهُوَ شبيب بن سعيد - عَن (شُعْبَة) ، عَن الحكم، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن ابْن عكيم، قَالَ: «جَاءَنَا كتاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَنحن بجهينة ... » الحَدِيث.
قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: «شبيب ثِقَة» ، وتَكَلَّم فِيهِ ابْن عدي.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ - أَيْضا - فِي «مُعْجَمه الْأَوْسَط» : من حَدِيث فضَالة بن الْمفضل (بن فضَالة) ، عَن أَبِيه، عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، كَمَا تَقَدَّم، ثمَّ قَالَ: لم يَرْوِه عَن أبي سعيد إلاَّ يَحْيَى، تفرَّد بِهِ فضَالة عَن أَبِيه.
قُلْتُ: قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لم يكن فضَالة بِأَهْل أَن يُكْتَبَ عَنهُ الْعلم.
وَاعْلَم: أَن متن (حَدِيث) عبد الله بن عكيم قد رُوي من غير طَرِيقه، ذكره (الْحفاظ) : ابْن شاهين، وَابْن الْجَوْزِيّ فِي
(1/593)
(كِتَابَيْهِمَا) « (نَاسخ) الحَدِيث ومنسوخه» ، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» بأسانيدهم، من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: (نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُنْتَفَع من الْميتَة بعصبٍ أَو إهَاب» .
(وَفِيه) - خَلا رِوَايَة ابْن شاهين، وَابْن الْجَوْزِيّ - عَدِي بن الْفضل، وَكَأَنَّهُ أَبُو حَاتِم الْبَصْرِيّ، مولَّى بني (تيم) ابْن مرّة، وَهُوَ ضَعِيف جدا، وَلم يعقها الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بِشَيْء، (وَكَأَنَّهُ) ترك التَّنْصِيص عَلَى ذَلِك لوضوحه.
وَرَوَاهُ الْأَوَّلَانِ - أَيْضا - فِي (كِتَابَيْهِمَا) الْمَذْكُورين من حَدِيث جَابر بن عبد الله رَضِي اللهُ عَنْهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يُنْتفع (من الْميتَة) بِشَيْء» .
لَا أعلم بِإِسْنَادِهِ بَأْسا، وَاسْتدلَّ بِهِ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» ، بعد أَن عزاهُ إِلَى رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ، وَلَفظه: «لَا تنتفعوا» بدل: «لَا ينْتَفع» ، وَفِي نُسْخَة مِنْهُ: رَوَاهُ أَصْحَابنَا.
(1/594)
وَقَالَ صَاحب «الْمُغنِي» : رَوَاهُ أَبُو بكر الشَّافِعِي، بِإِسْنَادِهِ، عَن أبي الزبير، عَن جَابر، وَإِسْنَاده حسن.
وَقد رَوَاهُ ابْن وهب فِي «مُسْنده» ، عَن زَمعَة بن صَالح، عَن أبي الزبير بِهِ. وَزَمعَة مُخْتَلف فِيهِ.
فَتَلخَّص مِمَّا ذَكرْنَاهُ: أَن للحفَّاظ فِي حَدِيث ابْن عكيم هَذَا مقالتان - بعد تَسْلِيم الإِرسال -:
إِحْدَاهمَا: الِاضْطِرَاب، (وَلَهُم فِي ذَلِك مقامان:
أَحدهمَا: أَنه قَادِح، كَمَا تقدم عَن الإِمام أَحْمد) ؛ وَالثَّانِي: أَنه لَيْسَ بقادح، بل يُمكن الْجمع، (وَلَا اضْطِرَاب) ، كَمَا تقدم عَن الْحَافِظ أبي حَاتِم بن حبَان، وَهَذَا فِي رِوَايَة (صَحِيحه) كَمَا قَرَّره، وَأما فِي (ضعيفه) كَمَا تقدم فَلَا.
وَالثَّانيَِة: الضعْف، كَمَا تَقَدَّم (عَن ابْن معِين) ، وَأبي الْحسن الْمَقْدِسِي، وفيهَا النّظر الْمُتَقَدّم. ثمَّ لَهُم بعد ذَلِك نظران:
أَحدهمَا: أَنه عَلَى تَقْدِير صِحَّته، مَحْمُول عَلَى مَا قبل الدّباغ، قَالَه أَبُو مُحَمَّد ابْن حزم فِي كِتَابه «الْمُحَلَّى» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَهَذَا لَفظه: «مَعْنَى خبر عبد الله بن عكيم: أَن لَا تنتفعوا
(1/595)
من الْميتَة بإهاب، وَلَا عصب، يُرِيد قبل الدّباغ، (قَالَ) وَالدَّلِيل عَلَى صِحَة ذَلِك، قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أيُّما إهابٍ دُبغَ فقد طَهُر» . أه.
الثَّانِي: أَنه نَاسخ، أَو مَنْسُوخ، قَالَ أَبُو بكر الْأَثْرَم: هَذَا الحَدِيث نَاسخ لما قبله، أَلا ترَاهُ يَقُول: «قبل مَوته بِشَهْر» . وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ بِحَدِيث مَيْمُونَة. وَقَالَ الشَّيْخ مجد الدَّين ابْن تَيْمِية فِي «الْأَحْكَام» : أَكثر أهل الْعلم عَلَى أَن الدّباغ مُطَهِّر فِي الْجُمْلَة، لصِحَّة النُّصُوص بِهِ، وَخبر ابْن عكيم (لَا يقاربها) فِي الصِّحَّة وَالْقُوَّة لينسخها. وَقَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ فِي (كِتَابيه) : «النَّاسِخ والمنسوخ» ، [و] «الْإِعْلَام» [مَا] مُخْتَصره: حَدِيث ابْن عكيم مُضْطَرب جدا، لَا يُقَاوم حَدِيث مَيْمُونَة الثَّابِت فِي الصَّحِيحَيْنِ. زَاد فِي «الْإِعْلَام» : وَقَالَ قوم: يجوز أَن تكون أَحَادِيث الْإِبَاحَة قبل مَوته بِيَوْم أَو بيومين.
قَالَ: وَأجَاب آخَرُونَ عَنهُ: (بِأَنَّهُ) قد رَوَى فِي بعض أَلْفَاظه: «كنت رَخَّصت لكم فِي جُلُود الْميتَة» ، فَدَلَّ عَلَى تَقْدِيم أَحَادِيث الإِباحة، وصحَّ النّسخ. قَالَ: وَهَذِه اللَّفْظَة بعيدَة الثُّبُوت. قَالَ: ثمَّ يحْتَمل أَن يكون رخص فِي ذَلِك، ثمَّ نهَى، ثمَّ رخص.
وَلَقَد أَجَاد الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي، فِي كِتَابه «النَّاسِخ
(1/596)
والمنسوخ» - وَهُوَ كتاب لَا نَظِير لَهُ فِي بَابه، فِي غَايَة التَّحْقِيق والنفاسة - فِي كَلَامه عَلَى هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: حَدِيث ابْن عكيم هَذَا حسن، عَلَى شَرط أبي دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، أَخْرجَاهُ فِي كِتَابَيْهِمَا من عدَّة طرق، وَقد رُوِيَ عَن الحكم من غير وَجه، (وفيهَا) اخْتِلَاف أَلْفَاظ.
قَالَ: وَمن ذهب إِلَى هَذَا الحَدِيث قَالَ: الْمصير إِلَى هَذَا الحَدِيث أَوْلَى، لِأَن فِيهِ دلَالَة النّسخ، أَلا ترَى أَن حَدِيث سَلمَة بن المحبق - يَعْنِي الْآتِي قَرِيبا - يدل (عَلَى) أَن الرُّخْصَة كَانَت يَوْم تَبُوك، وَهَذَا قبل مَوته بِشَهْر، فَهُوَ بعد الأول بِمدَّة. وَلِأَن فِي حَدِيث سَوْدَة: حَتَّى تخرقت، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «كُنَّا (ننبذ) فِيهِ حتَّى صَار شَنًّا) . وَلَا تتخرق الْقرْبَة وَلَا تصير شَنًّا فِي شهر.
قَالَ: وَفِي بعض الرِّوَايَات، عَن الحكم بن (عتيبة) ، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى: أَنه انْطلق وناس مَعَه إِلَى عبد الله بن عكيم ... نَحوا (مِمَّا) ذكرنَا.
قَالَ خَالِد: أما أَنه قد حَدَّثَنَي: أَنه كتب إِلَيْهِم قبل هَذَا الْكتاب بِكِتَاب آخر. قُلْتُ: فِي تَحْلِيله؟ [قَالَ] : مَا تصنع بِهِ؟ هَذَا بعده.
(1/597)
كَذَا رَوَاهُ الدَّارمِيّ، وَقَالَ: فِي قَول (خَالِد) هَذَا دَلِيل عَلَى أَنه كَانَ مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَيْهِم فِي ذَلِك تَحْلِيل قبل التَّشْدِيد، وأنَّ التَّشْدِيد كَانَ بعد.
قَالَ الْحَازِمِي: وَلَو اشْتهر حَدِيث ابْن عكيم، بِلَا مقَال فِيهِ - كَحَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الرُّخْصَة - لَكَانَ حَدِيثا أَوْلَى أَن يُؤخذ بِهِ، وَلَكِن فِي إِسْنَاده اخْتِلَاف: رَوَاهُ الحكم مرّة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن ابْن عكيم. وَرَوَاهُ عَنهُ الْقَاسِم بن مخيمرة، عَن خَالِد، عَن الحكم. وَقَالَ: إِنَّه لم يسمعهُ من ابْن عكيم، وَلَكِن من أنَاس دخلُوا عَلَيْهِ، ثمَّ خَرجُوا فأخبروه بِهِ.
قَالَ: وَلَوْلَا هَذِه الْعِلَل، لَكَانَ أولَى (الْحَدِيثين) أَن يُؤْخَذ بِهِ: حَدِيث ابْن عكيم؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُؤْخَذ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بالآخِر فالآخِر، والأحدث فالأحدث. عَلَى أَن جمَاعَة أخذُوا بِهِ، وَذهب إِلَيْهِ من الصَّحَابَة: عمر بن الْخطاب، وَابْنه عبد الله، وَعَائِشَة.
ثمَّ رَوَى الْحَازِمِي بِإِسْنَادِهِ عَن أبي الشَّيْخ الْحَافِظ، أَنه (قَالَ) : حُكِي أنَّ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه نَاظر الشَّافِعِي - وَأحمد بن حَنْبَل حَاضر - فِي جُلُود الْميتَة إِذا دُبغت، فَقَالَ الشَّافِعِي: دباغها طهورها. فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق: مَا الدَّلِيل؟ فَقَالَ: حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله، [عَن] ابْن عَبَّاس، عَن مَيْمُونَة، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) : « (هلا)
(1/598)
انتفعتم بإهابها؟» .
فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق: حَدِيث ابْن عكيم: «كتب إِلَيْنَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قبل مَوته بِشَهْر: أَن لَا تنتفعوا من الْميتَة بإهاب وَلَا عصب» ، فَهَذَا يشبه أَن يكون نَاسِخا لحَدِيث مَيْمُونَة، لِأَنَّهُ قبل مَوته بِشَهْر. فَقَالَ الشَّافِعِي: فَهَذَا كتاب، وَذَاكَ سَماع. فَقَالَ إِسْحَاق: فإنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كتب إِلَى كسْرَى وَقَيْصَر، (فَكَانَت) حجَّة بَينهم عِنْد الله. فَسكت الشَّافِعِي. فَلَمَّا سمع (ذَلِك) أَحْمد ذهب إِلَى حَدِيث (ابْن) عكيم، وأَفتى بِهِ، وَرجع إِسْحَاق إِلَى حَدِيث الشَّافِعِي.
قَالَ الْحَازِمِي: وَقد حَكَى الخلاَّل فِي «كِتَابه» عَن أَحْمد، أَنه توقف فِي حَدِيث ابْن عكيم، لَمَّا رَأَى تزلزل (الروَاة) فِيهِ، وَقَالَ بَعضهم: رَجَعَ عَنهُ.
قَالَ الْحَازِمِي: وَطَرِيق الإِنصاف فِيهِ أَن يُقال: إِن حَدِيث ابْن عكيم ظَاهر الدّلَالَة فِي النّسخ لَو صَحَّ، وَلكنه كثير الِاضْطِرَاب، ثمَّ لَا يُقَاوم حَدِيث مَيْمُونَة فِي الصِّحَّة. وَقَالَ النَّسَائِيّ: أصحّ مَا فِي هَذَا الْبَاب، فِي جُلُود الْميتَة إِذا دُبغت: حَدِيث الزُّهْرِيّ، عَن [عبيد الله بن عبد الله، عَن] ابْن عَبَّاس، عَن مَيْمُونَة.
وَقَالَ الْحَازِمِي: وروينا عَن الدوري أَنه قَالَ: قيل ليحيى بن معِين:
(1/599)
أيُّما أعجب إِلَيْك من هذَيْن الْحَدِيثين: «لَا ينْتَفع من الْميتَة بإهاب وَلَا عصب» أَو: «دباغها طهورها» ؟ (فَقَالَ: «دباغها طهورها» ) أعجب إليَّ.
قَالَ الْحَازِمِي: فَإِذا تَعَذّر ذَلِك، فالمصير إِلَى حَدِيث ابْن عَبَّاس أَوْلَى، لوجوه من الترجيحات، ويُحمل حَدِيث ابْن عكيم عَلَى منع الِانْتِفَاع (بِهِ) قبل الدّباغ، وحينئذٍ يُسمَّى: (إهابًا) . وَبعد الدّباغ يُسمَّى جلدا، وَلَا يُسمى إهابًا، وَهَذَا مَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة ليَكُون جمعا بَين (الْحكمَيْنِ) . وَهَذَا هُوَ الطَّرِيق فِي نفي التضاد عَن الْأَخْبَار. هَذَا آخر كَلَامه - رَحْمَة الله عَلَيْهِ -، مَا أَشد تَحْقِيقه.
وتَلَخَّص (لَك مِنْهُ) وَمِمَّا تقدم، أَن للحفاظ فِيهِ سِتّ مقالات - بعد تَسْلِيم الإِرسال -:
أَولهَا: أَنه مُضْطَرب قَادِح.
ثَانِيهَا: أَنه مُضْطَرب غير قَادِح.
ثَالِثهَا: أَنه ضَعِيف.
رَابِعهَا: أَنه مؤول.
خَامِسهَا: أَنه نَاسخ.
سادسها: أَنه مَنْسُوخ.
وَالله أعلم بِالصَّوَابِ من ذَلِك، وَالَّذِي يظْهر - وَالْحَالة هَذِه - مَا قَالَه الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي (أخيرًا) .
(1/600)
فَائِدَة:
ذكر أَحْمد لعبد الله بن عكيم حَدِيثا آخر، وَهُوَ: «من (تعلق) شَيْئا وُكِلَ إِلَيْهِ» .
الحَدِيث الرَّابِع
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إنَّما حرم من الْميتَة أكلهَا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم من رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُما، وَقد تَقَدَّم بِطُولِهِ أول الْبَاب.
وَيجوز أَن تقْرَأ: «حُرِّم» ، بِضَم الْحَاء، وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة، و «حَرُم» ، بِفَتْح الْحَاء، وَضم الرَّاء المخففة، وهما (رِوَايَتَانِ) .
الحَدِيث الْخَامِس
رُوِيَ أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَلَيْسَ فِي (الشَّبِّ) ، والقرظ، وَالْمَاء مَا يُطَهِّره؟» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب بِذكر الشَّبِّ فِيهِ، لَا أعلم من خَرَّجه بِهِ، وَلَعَلَّ الإِمام الرَّافِعِيّ قَلَّد فِيهِ الإِمام، فَإِنَّهُ قَالَ فِي «نهايته» : إِنَّه جَاءَ فِي رِوَايَة: «أَلَيْسَ فِي الشَّبِّ والقرظ مَا يطهره؟» ؛ وَالْمَاوَرْدِيّ فإنَّه قَالَ فِي
(1/601)
«حاويه» : جَاءَ فِي الحَدِيث النَّص عَلَى الشث (والقرظ) . وَالْمَاوَرْدِيّ والإِمام (قلَّدا) الْأَصْحَاب (فِي ذَلِك) ، فقد قَالَ الشَّيْخ (أَبُو حَامِد) فِي «تَعْلِيقه» : رُوي أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَلَيْسَ فِي المَاء والقرظ مَا يطهرها؟» . قَالَ: وَهَذَا الَّذِي أعرفهُ مرويًّا. قَالَ: وأصحابنا يَرْوُونَهُ (الشب والقرظ) ، وَلَيْسَ بِشَيْء.
فَهَذَا شيخ الْأَصْحَاب، قد نَصَّ عَلَى (أَن) هَذِه الرِّوَايَة لَيست بِشَيْء.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «الْخُلَاصَة» : هُوَ بِهَذَا اللَّفْظ بَاطِل، لَا أصل لَهُ. وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : «لَيْسَ للشَّبِّ ذِكْر فِي هَذَا الحَدِيث، وإنَّما هُوَ من كَلَام الشَّافِعِي، فإنَّه قَالَ: والدباغ بِمَا كَانَت الْعَرَب تدبغ بِهِ، وَهُوَ الشب والقرظ.
وَاخْتلف فِي الشب فِي كَلَام الشَّافِعِي، هَل هُوَ بِالْبَاء الْمُوَحدَة، (أم بالثاء الْمُثَلَّثَة، فَقَالَ الْأَزْهَرِي: هُوَ بِالْبَاء الْمُوَحدَة) ، وَهُوَ من الْجَوَاهِر الَّتِي جعلهَا الله فِي الأَرْض، يُدْبَغ بِهِ يشبه الزاج. قَالَ: وَالسَّمَاع فِيهِ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَقد صَحَّفَه بَعضهم، فَقَالَ بِالْمُثَلثَةِ، (وَهُوَ شجر مُرّ الطّعْم، لَا أَدْرِي أَيُدبغ بِهِ أَمْ لَا؟ .
(1/602)
وَفِي «الصِّحَاح» : الشث - بِالْمُثَلثَةِ) -: نبت طيب الرَّائِحَة، (مر) الطّعْم، يدبغ بِهِ.
ثمَّ رَأَيْت بعد ذَلِك ابْن الْأَثِير فِي «النِّهَايَة» ، فِي أول بَاب الشين مَعَ (الثَّاء) : (أَنه مَرَّ بِشَاة [ميتَة] ، فَقَالَ [عَن جلدهَا] : أَلَيْسَ فِي الشث والقرظ مَا يطهره؟) .
فَإِذا عرفت ذَلِك، فَاعْلَم: أَن الْمَعْرُوف من متن الحَدِيث الْمَذْكُور فِي كتب الحَدِيث «أَلَيْسَ فِي المَاء والقرظ مَا يطهرها؟» ، كَمَا أوردهُ الشَّيْخ أَبُو حَامِد، كَذَلِك ورد من طَرِيقين:
أَحدهمَا: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُما قَالَ: «مَرَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِشَاة ميتَة، فَقَالَ: هلا انتفعتهم بإهابها؟ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله إِنَّهَا ميتَة! قَالَ: إنَّما حَرُم أكلهَا، أَوَلَيْس فِي المَاء والقرظ مَا يطهرها؟» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أوليس فِي الدّباغ وَالْمَاء مَا يطهرها؟» .
وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ - أَيْضا فِي «سنَنه» . وإسنادهما حسن. قَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» : هَذَا حَدِيث حسن، وَرِجَاله ثِقَات، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، ثمَّ ذكر بعده
(1/603)
أَحَادِيث من مَعْنَاهُ، وَقَالَ: هَذِه أَسَانِيد صِحَاح، قَالَ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، فإنَّه رَوَاهُ عَن الإِمام أبي بكر النَّيْسَابُورِي - وشهرته تغني عَن ذكره - عَن إِبْرَاهِيم بن هَانِئ - وَقد كتب عَنهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم، وَكَانَ ثِقَة (صَدُوقًا) - عَن عَمْرو بن الرّبيع - وَهُوَ ابْن طَارق، كتب عَنهُ أَبُو حَاتِم (الرَّازِيّ) وَالِد عبد الرَّحْمَن الْمُتَقَدّم وسُئِل عَنهُ، فَقَالَ: «صَدُوق» عَن يَحْيَى بن أَيُّوب - وَهُوَ: (أَبُو) الْعَبَّاس الْمصْرِيّ، أخرج لَهُ البُخَارِيّ مستشهدًا بِهِ، وَمُسلم محتجًا (بِهِ) - عَن عقيل - وَهُوَ: ابْن خَالِد الْأَيْلِي - عَن الزُّهْرِيّ - وَهُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ - عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة - وكل مِنْهُم ثِقَة ثَبت، مخرج (حَدِيثه) فِي «الصَّحِيحَيْنِ» - عَن (عبد الله) بن عَبَّاس.
(1/604)
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن الْعَالِيَة بنت سُبيع، عَن مَيْمُونَة رَضِي اللهُ عَنْهُا، حدثتها: «أَنه مَرَّ برَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (رجالٌ) يَجُرُّون شَاة لَهُم مثل الْحمار، فَقَالَ (لَهُم) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: لَو أَخَذْتُم إهابها؟ فَقَالُوا: إنَّها ميتَة! فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (فَإِنَّهَا) يُطَهِّرُها المَاء والقرظ» .
رَوَاهُ: أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَكَذَا ابْن السكن فِي
(1/605)
«صحاحه» ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاده حسن.
وَاعْلَم: أَن الْوَاقِع فِي (رِوَايَة) هذَيْن الْحَدِيثين: «يطهرها» بهاء التَّأْنِيث، وَوَقع فِي «الْمُهَذّب» للشَّيْخ أبي إِسْحَاق - وَتَبعهُ الرَّافِعِيّ عَلَى ذَلِك -: «يطهره» وَهُوَ تَحْرِيف لَفْظِي، وَإِن كَانَ الْمَعْنى صَحِيحا.
وَأما الحَدِيث الْوَارِد عَن عَائِشَة (مَرْفُوعا) : «اسْتَمْتعُوا بجلود الْميتَة إِذا هِيَ دُبغت، بِتُرَاب، أَو ملح، أَو رماد، أَو مَا كَانَ بعد أَن يرد صَلَاحه» : فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَغَيره، (و) ضَعَّفه ابْن عدي، وَآخَرُونَ، وإنْ ذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» .
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يُتنبه لَهُ: أَن «الْقرظ» يكْتب بالظاء، لَا بالضاد، (وَهُوَ) وَإِن كَانَ وَاضحا، فَلَا يضر التَّنْبِيه عَلَيْهِ، فقد صُحِّف.
والقرظ: ورق شجر السَّلَم - بِفَتْح السِّين وَاللَّام - وَمِنْه: «أَدِيم مقروظ» : أَي مدبوغ (بالقرظ) ، والقرظ: نبت بنواحي تهَامَة.
(1/606)
الحَدِيث السَّادِس
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «دِبَاغُ الأديمِ ذَكَاتُه» .
هَذَا الحَدِيث حسن، (مرويّ) من طُرُق، الَّذِي يحضرنا مِنْهَا تِسْعَة:
أَحدهَا: عَن عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُا، قَالَت: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن جُلُود الْميتَة، فَقَالَ: دباغها طهورها» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: « [دباغها] ذكاتها» . وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، وَلَفْظهمَا: «طهُور كل أَدِيم دباغه» . وَالطَّبَرَانِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» ، وَلَفْظهمَا: «دباغ الْأَدِيم (طهوره» . وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَلَفظه: «دباغ جُلُود الْميتَة) طهورها» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده حسن، وَرِجَاله كلهم ثِقَات.
(وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا: رُوَاته كلهم ثِقَات) .
(1/607)
قُلْتُ: فِيهِ إِبْرَاهِيم بن الْهَيْثَم الْبَلَدِي، وثَّقه الدَّارَقُطْنِيّ، والخطيب، وَذكره ابْن عدي فِي «الْكَامِل» ، وَقَالَ: حَدَّث بِبَغْدَاد، (فكذَّبه) النَّاس، وَأَحَادِيثه مُسْتَقِيمَة، سُوَى الحَدِيث الَّذِي رَدُّوه عَلَيْهِ - وَهُوَ حَدِيث الْغَار - فإنَّه كَذَّبه فِيهِ النَّاس وواجهوه، أَوَّلهمْ البرديجي، وَأَحَادِيثه جَيِّدَة، قد فَتَّشت حَدِيثه الْكثير، فَلم أَجِد لَهُ حَدِيثا مُنْكرا يكون من جِهَته.
قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : وَقد تَابعه عَلَى حَدِيث الْغَار ثقتان، وَكتب الذَّهَبِيّ قبالة تَرْجَمَة إِبْرَاهِيم هَذَا: صحّ، وَهُوَ إِشَارَة مِنْهُ إِلَى أَن الْعَمَل عَلَى تَوْثِيق ذَلِك الرجل.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» : تَفَرَّد بِهَذَا الحَدِيث الْهَيْثَم بن جميل.
قُلْتُ: لَا يضرّه ذَلِك، فإنَّه ثِقَة ثَبت.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن جَوْن - بِفَتْح الْجِيم، وَإِسْكَان الْوَاو، ثمَّ نون - ابْن قَتَادَة، عَن سَلمَة بن المُحَبِّق - بميم مَضْمُومَة، ثمَّ حاء مُهْملَة مَفْتُوحَة، ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَكْسُورَة، ثمَّ قَاف - رَضِي اللهُ عَنْهُ - «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي غَزْوَة تَبُوك، دَعَا بِمَاء من عِنْد امْرَأَة، (فَقَالَت) : مَا عِنْدِي مَاء إلاَّ فِي
(1/608)
قربَة لي ميتَة. قَالَ: أَلَيْسَ قد (دبغتيها) ؟ قَالَت: بلَى. قَالَ: دباغها ذكاتها. (وَفِي لفظ: «دباغها طهورها» . وَفِي لفظ: «ذكاتها دباغها» ) . وَفِي لفظ: «دباغ الْأَدِيم ذَكَاته» .
رَوَاهُ (أَحْمد، و) أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، وَالْحَاكِم، وَقَالَ: (حَدِيث) صَحِيح الإِسناد، وصحَّحه أَبُو حَاتِم ابْن حبَان أَيْضا، فإنَّه أخرجه فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «ذَكَاة الْأَدِيم دباغه» . وَهُوَ كَمَا (قَالَا) .
وأعلَّه أَبُو بكر الْأَثْرَم، فَقَالَ فِي «ناسخه ومنسوخه» : سَمِعت أَبَا عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: لَا أَدْرِي من هُوَ الجون بن قَتَادَة. وَقَالَ أَبُو طَالب: سَأَلته - يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل - عَن جون بن قَتَادَة، فَقَالَ: لَا نعرفه. قُلْتُ: يروي غير هَذَا الحَدِيث؟ قَالَ: لَا. يَعْنِي حَدِيث الدّباغ.
قُلْتُ: هُوَ جون بن قَتَادَة بن (الْأَعْوَر) بن (سَاعِدَة التَّمِيمِي) ، بَصرِي، قَالَ فِيهِ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: إنَّه مَعْرُوف، لَمْ يَرْوِ عَنهُ غير الْحسن.
(1/609)
واخْتُلف فِي صحبته أَيْضا، فَقَالَ ابْن سعد: صحب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَكتب لَهُ كتابا (بالشَّبَكَة» مَوضِع) بالدهناء.
وَقَالَ ابْن حزم فِي «المحلَّى» أَيْضا إنَّ لَهُ صُحْبَة.
وَذكره ابْن الْأَثِير فِي (كتاب) «الصَّحَابَة» لَهُ، فَقَالَ: (قيل) : لَهُ صُحْبَة، وَقيل: لَا صُحْبَة لَهُ وَلَا رِوَايَة.
وَقَالَ أَبُو نعيم: (جون) لَا تثبت لَهُ صُحْبَة، وَلَا رِوَايَة.
(وَقَالَ) الْحَافِظ، أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ فِي «مُخْتَصره» : رَوَى عَنهُ الْحسن فِي دباغ الْميتَة، رَوَاهُ بَعضهم: عَن الْحسن، [عَن جون، وَرَوَاهُ بَعضهم: عَن الْحسن،] (عَنهُ) ، عَن سَلمَة بن المحبق، وَهُوَ أصح.
وَقَالَ فِي كِتَابه «مُخْتَصر التَّهْذِيب» : لم تصحّ صحبته، لَهُ عَن
(1/610)
الزبير، وَسَلَمَة بن المحبق، وَعنهُ: الْحسن، وَقَتَادَة - إِن كَانَ مَحْفُوظًا - وقرة بن الْحَارِث، وعَدَّه بَعضهم صحابيًا، بِحَدِيث وَهِمَ فِيهِ هشيم عَن مَنْصُور (بن زَاذَان، عَن الْحسن، عَن جون بن قَتَادَة: «كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر ... » . وَقد سقط (مِنْهُ) سَلمَة بن المحبق، وَرَوَاهُ أَيْضا هشيم هَكَذَا.
وَذكره أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «ثقاته» ، (فِي) التَّابِعين.
فَإِذا عرفت ذَلِك: فإنْ كَانَ صحابيًا - كَمَا قَالَه (ابْن سعد) و (ابْن حزم) (وَغَيرهمَا) : فَلَا يضرّهُ مَا قَالَه الإِمام أَحْمد من جهالته. وَإِن كَانَ تابعيًا: يُعارض قَوْله بقول عَلّي بن الْمَدِينِيّ: إنَّه مَعْرُوف، وتوثيق ابْن حبَان لَهُ، وَرِوَايَة جمَاعَة عَنهُ، وَذَلِكَ رَافع للْجَهَالَة العينية، والحالية.
قَالَ ابْن عدي: لم يعرف لَهُ أَحْمد غير حَدِيث الدّباغ، وَقد ذكرت لَهُ حَدِيثا آخر، وَمَا أَظن لَهُ (غَيرهمَا) .
وَسَلَمَة بن المحبق لَهُ صُحْبَة، وَهُوَ هذلي، سكن الْبَصْرَة، وكنيته: أَبُو سِنَان. قَالَ الْحَازِمِي: رَوَى عَن (سَلمَة) (من) وَجه آخر
(1/611)
(نَحْو) هَذَا الحَدِيث، إلاَّ أَنه قَالَ: يَوْم خَيْبَر.
وَاسم المحبق: صَخْر بن عبيد، وَقد تقدم أَن بَاء المحبِق مَكْسُورَة. قَالَ ابْن نَاصِر: وَهُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ حَبَقَ، فلقب بذلك.
وَقَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِي السّنَن» : بعض أهل الْعلم يكسر الْبَاء،، وَأَصْحَاب الحَدِيث يفتحونها. وَاقْتصر الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي كِتَابه «الإِمام» (عَلَى) الْفَتْح.
لَكِن قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب «كشف النقاب (عَن) الْأَسْمَاء والألقاب» : أَصْحَاب الحَدِيث (يفتحون) الْبَاء، وَهُوَ غلط، إنَّما هِيَ مَكْسُورَة. قَالَ: وَقَالَ الْجَوْهَرِي: إِنَّمَا سَمَّاه (أَبوهُ) المحبق تفاؤلًا بالشجاعة، أَنه (يضرط) الْأَعْدَاء، وَلم يرد ذَلِك فِي «الصِّحَاح» .
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أبي أُمَامَة رَضِي اللهُ عَنْهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرج فِي بعض مغازيه، فمرَّ بِأَهْل أَبْيَات من الْعَرَب، فَأرْسل إِلَيْهِم: هَل من مَاء لوضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ فَقَالُوا: مَا عندنَا مَاء إلاَّ فِي إهَاب ميتَة، دبغناه بِلَبَنٍ، فَأرْسل إِلَيْهِم: إنَّ دِبَاغَه طهوره، فَأُتِي بِهِ، فتوضَّأ، ثمَّ صَلَّى» .
(1/612)
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» ، وَقَالَ: لم يَرْوِه عَن (سليم) بن عَامر، إلاَّ عُفير بن معدان. وَأخرجه كَذَلِك فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا.
قُلْتُ: وعفير هَذَا: ضَعِيف، قَالَ يَحْيَى وَالنَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ أَحْمد: ضَعِيف، مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الرَّازِيّ: لَا يُشْتَغل بروايته. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ الْحَازِمِي: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب من (حَدِيث) الشاميين.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُ، وَله طرق:
أَحدهَا: عَن أبي الْخَيْر، (مرْثَد) بن عبد الله الْيَزنِي، قَالَ: «رَأَيْت عَلَى ابْن وَعلة السبئي فَرْوًا، فمسسته، فَقَالَ: مَالك تمسه؟ قد سَأَلت عبد الله بن عَبَّاس، قُلْتُ: إنَّا نَكُون (بالمغرب) ، ومعنا البربر، وَالْمَجُوس، نُؤتى بالكبش قد ذبحوه، وَنحن لَا نَأْكُل ذَبَائِحهم،
(1/613)
(ونُؤتى) بالسقاء يجْعَلُونَ فِيهِ الوَدَك. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: قد سَأَلنَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: دباغه طهوره» .
رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إنَّا نَكُون بالمغرب، فَيَأْتِينَا الْمَجُوس بالأسقية فِيهَا (المَاء و) الودك؟ فَقَالَ: اشرب. فَقلت: رَأْي ترَاهُ؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: دباغه طهوره» . انْفَرد مُسلم بِهَذَا الحَدِيث من طريقيه.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن يَعْقُوب (بن) عَطاء، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُ (قَالَ) : «مَاتَت شَاة لميمونة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (أَلا) (استمتعتم) بإهابها؛ فإنَّ دباغ الْأَدِيم طهوره» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَالْبَزَّار فِي «مُسْنده» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» . قَالَ الْبَزَّار: لَا نعلم رَوَاهُ (عَن) يَعْقُوب، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُ إلاَّ شُعْبَة.
(1/614)
قُلْتُ: لَا يضرّهُ ذَلِك، فإنَّ شُعْبَة إِمَام، وتَفَرُّد الثِّقَة بِالْحَدِيثِ لَا يضرّه، نعم الشَّأْن فِي يَعْقُوب بن عَطاء، وَهُوَ: ابْن أبي رَبَاح، فقد قَالَ أَحْمد فِي حَقه: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن معِين، وَأَبُو زرْعَة: ضَعِيف، وَأما ابْن حبَان: (فَذكره فِي «الثِّقَات» ) .
الثَّالِث: عَن فُليح بن سُلَيْمَان، عَن زيد بن أسلم، عَن (ابْن) وَعلة، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «دِبَاغُ كلِّ إهَابٍ طَهُورُهُ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَقَالَ فِي «علله» : إنَّه الْمَحْفُوظ.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن إِسْحَاق بن عبد الله بن الْحَارِث، قَالَ: «قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاس: الفِراء تُصنع من جُلُود الْميتَة؟ فَقَالَ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: ذَكَاة كل مسك دباغه» . وَفِي لفظ: « (دباغ كل أَدِيم ذَكَاته» ) .
رَوَاهُ الحافظان: أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه «موضح أَوْهَام الْجمع والتفريق» باللفظين الْمَذْكُورين، والدولابي فِي كِتَابه «الْأَسْمَاء والكنى» ، وَهَذَا لَفظه: عَن إِسْحَاق بن عبد الله بن الْحَارِث، قَالَ: «دخلت عَلَى ابْن عَبَّاس فِي حَدِيث ذكره، فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يَقُول) : ذَكَاة كل مَسْكٍ دباغه» .
(1/615)
المَسْك: بِفَتْح الْمِيم، وَسُكُون السِّين: الْجلد.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن جون بن قَتَادَة التَّمِيمِي، قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي بعض أَسْفَاره، فمرَّ بعض أَصْحَابه بسقاء مُعَلّق، فَأَرَادَ أَن يشرب، فَقَالَ (لَهُ) صَاحب السقاء: إنَّه جلد ميتَة، فَأمْسك، حتَّى لحقهم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَذكرُوا لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: اشربوا، فإنَّ دِبَاغ الْميتَة طهورها» .
ذكره أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي كِتَابه «المحلَّى» بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: جون لَهُ صُحْبَة. وَقد تقدم قَرِيبا الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن هزيل - بالزاي الْمُعْجَمَة - بن شُرَحْبِيل، عَن (أم سَلمَة) أَو زَيْنَب، أَو غَيرهمَا من (أَزوَاج) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَلا استمتعتم بإهابها؟ . فَقَالَت: يَا رَسُول الله، (كَيفَ) (نستمتع) بهَا وَهِي ميتَة؟ ! فَقَالَ: طهُور الْأَدِيم دباغه» .
رَوَاهُ (الْبَيْهَقِيّ) هَكَذَا. قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضا هزيل، عَن بعض أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «كَانَت لنا شَاة فَمَاتَتْ. .»
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من هَذِه الطَّرِيق، وَفِيه: « (لتستمتعي)
(1/616)
بإهابها» ، ثمَّ قَالَ: لم يَرْوِ هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة، إلاَّ عباد بن عباد، تفرَّد بِهِ يَحْيَى بن أَيُّوب.
قُلْتُ: وَلَا يضر تفرده بذلك، لِأَنَّهُ ثِقَة ثَبت مخرج حَدِيثه فِي الصَّحِيح.
الطَّرِيق السَّابِع: عَن زيد بن ثَابت رَضِي اللهُ عَنْهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «دباغ جُلُود الْميتَة طهورها» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق الْوَاقِدِيّ، وَهُوَ مَكْشُوف الْحَال.
الطَّرِيق الثَّامِن: عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ (فِي) جُلُود الْميتَة: «دباغه طهوره» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث عَلّي بن يزِيد، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة، عَنهُ بِهِ. وَعلي وَالقَاسِم: ضعيفان، كَمَا سَيَأْتِي.
الطَّرِيق التَّاسِع: عَن عبد الله بن عمر رَضِي اللهُ عَنْهُما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَرَّ عَلَى شَاة، فَقَالَ: مَا هَذِه؟ قَالُوا: ميتَة. قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ادبغوا إهابها، فإنَّ دِبَاغَه طهوره» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، من حَدِيث الْقَاسِم بن عبد الله، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر، ثمَّ قَالَ: (الْقَاسِم) ضَعِيف. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
(1/617)
وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو أَحْمد فِي «الكنى» ، من حَدِيث حَفْص [أَبُو] سهل الْخُرَاسَانِي، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «جُلُود الْميتَة دباغها - يَعْنِي: طهورها) ثمَّ قَالَ: أَبُو سهل هَذَا فِي حَدِيثه بعض الْمَنَاكِير. قَالَ: وَلَا أعرف لعبد الله (بن) عمر (بن الْخطاب) فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثا وَلَا رِوَايَة من مخرج يُعتمد عَلَيْهِ، بل كل مَا رُوي عَنهُ فِيهِ واهٍ غير مَحْفُوظ.
وعَدَّد ابْن مَنْدَه فِي «مستخرجه» طرق هَذَا الحَدِيث، وَزَاد: أَن أنسا، وَابْن مَسْعُود، وَجَابِر بن عبد الله رَوَوْهُ أَيْضا، وأهمل بعض مَا ذَكرْنَاهُ.
فَهَذِهِ طرق هَذَا الحَدِيث مُوضحَة، وَلَا يضر الضعْف الْمَوْجُود فِي بَعْضهَا الآخر الْخَالِي مِنْهُ.
وَيقرب من هَذَا الحَدِيث حديثان آخرَانِ:
أَحدهمَا: عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُما «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَرَادَ أَن يتَوَضَّأ من سِقاء، فَقِيل لَهُ: إنَّه ميتَة. فَقَالَ: دِباغه يزِيل خبثه - أَو نجسه، أَو رجسه» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» . وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» ، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح، وَلَا أعرف لَهُ (عِلّة) .
(1/618)
وَالْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح.
قُلْتُ: وصحَّحه ابْن خُزَيْمَة أَيْضا، لذكره إِيَّاه فِي « (صَحِيحه» ) .
(الحَدِيث) الثَّانِي: عَن أم سَلمَة رَضِي اللهُ عَنْهُا، أَنَّهَا قَالَت: «كَانَ (لنا) شَاة نَحْلُبهَا، ففقدها رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَالَ: مَا فعلتِ الشَّاة؟ قَالُوا: مَاتَت. قَالَ: أَفلا انتفعتم بإهابها؟ فَقلت: إنّها ميتَة! فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِن دباغها يحل (كَمَا يحل خل) الْخمر» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: تفرَّد بِهِ فرج بن فضَالة، وَهُوَ ضَعِيف.
الحَدِيث السَّابِع
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، لَمَّا حَلَق شعره، نَاوَلَهُ أَبَا طَلْحَة، ليُفَرِّقَه عَلَى أَصْحَابه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، من رِوَايَة أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «لَمَّا رَمَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (الْجَمْرَة) ، وَنحر نُسكه،
(1/619)
[وَحلق] ، ناول الحالق شقَّه الْأَيْمن، [فحلقه] ، فَأعْطَاهُ أَبَا طَلْحَة، ثمَّ نَاوَلَهُ شقَّه الْأَيْسَر، فحلقه، [فَأعْطَاهُ أَبَا طَلْحَة] ، فَقَالَ: إقسمه بَين النَّاس» .
وَأَبُو طَلْحَة هَذَا: اسْمه زيد (بن سهل) بن الْأسود الْأنْصَارِيّ، عَمّ أنس بن مَالك، زوج أمه، وَكَانَ عقبيًا بَدْرِيًّا، شهد الْمشَاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَهُوَ أحد النُّقَبَاء لَيْلَة الْعقبَة، وَأحد الصَّحَابَة الَّذين سردوا الصَّوْم بعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي الْحَافِظ: عَاشَ أَبُو طَلْحَة بعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (أَرْبَعِينَ) سنة فسرد الصَّوْم. وَخَالفهُ غَيره، فَقَالَ: توفّي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ من الْهِجْرَة. وَقيل: اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ.
الحَدِيث الثَّامِن
عَن حُذَيْفَة رَضِي اللهُ عَنْهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (أَنه) قَالَ: «لَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب، وَالْفِضَّة، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافها» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، متَّفق عَلَى صِحَّته، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي
(1/620)
«صَحِيحَيْهِمَا» بِهَذَا اللَّفْظ، وَزَادا: «فإنَّها لَهُم فِي الدُّنْيَا، وَلكم فِي الْآخِرَة» .
وَله أَلْفَاظ أُخَر، قَالَ ابْن مَنْدَه الْحَافِظ: وَإِسْنَاده مجمع عَلَى صِحَّته.
والصِّحَاف: جمع صَحْفَة، كقصعة، وقصاع، والصحفة دون الْقَصعَة. قَالَ الْكسَائي: الْقَصعَة: مَا تسع (مَا يشْبع) عشرَة، والصحفة مَا (يشْبع) خَمْسَة.
الحَدِيث التَّاسِع
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الَّذِي يشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، إنَّما يُجَرْجِرُ فِي جَوْفه نَار جَهَنَّم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، (مرويّ) من طرق:
أَحدهَا: عَن أم سَلمَة زوج النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الَّذِي يشرب فِي آنِية الْفضة، إنَّما يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم» .
رَوَاهُ مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ، وَالْبُخَارِيّ، وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» . قَالَ ابْن مَنْدَه الْحَافِظ: وَإِسْنَاده مجمع عَلَى صِحَّته.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «إنَّ الَّذِي يأكلُ، (أَو) يشربُ فِي آنِية
(1/621)
الْفضة، وَالذَّهَب» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من شرب فِي إِنَاء من ذهب أَو فضَّة، فإنَّما يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم» .
وَفِي رِوَايَة للطبراني: «إلاَّ أَن يَتُوب» .
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن (أبي) وَائِل، قَالَ: «غزوتُ مَعَ عمر الشَّام، فَنزل منزلا، فجَاء دُِهْقَانٌ يسْتَدلّ عَلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ حتَّى أَتَاهُ، فَلَمَّا رَأَى الدهْقَان عمر سَجَد، فَقَالَ عمر: مَا هَذَا السُّجُود؟ فَقَالَ: هَكَذَا نَفْعل بالملوك. فَقَالَ عمر: اسجد لِرَبِّك الَّذِي خلقك. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنِّي قد صنعت لَك طَعَاما فأتني. (قَالَ) : فَقَالَ عمر: هَل فِي بَيْتك من تصاوير الْعَجم؟ قَالَ: نعم. قَالَ: لَا حَاجَة لي فِي بَيْتك، وَلَكِن انْطلق، فَابْعَثْ لنا بلون (من الطَّعَام) ، وَلَا (تزدنا) عَلَيْهِ. قَالَ: فَانْطَلق، فَبعث إِلَيْهِ بِطَعَام، فَأكل مِنْهُ، ثمَّ قَالَ عمر لغلامه: هَل فِي إداوتك شَيْء من ذَلِك النَّبِيذ؟ قَالَ: نعم. فَأَتَاهُ [فَصَبَّهُ فِي إِنَاء، ثمَّ شَمَّه، فَوَجَدَهُ مُنكر الرّيح، فصب عَلَيْهِ مَاء، ثمَّ شمه، فَوَجَدَهُ مُنكر الرّيح] ، فصب عَلَيْهِ المَاء ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ شربه، ثمَّ قَالَ: إِذا رَابَكُم من شرابكم (شَيْء) فافعلوا بِهِ هَكَذَا. ثمَّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا تلبسوا الديباج وَالْحَرِير، وَلَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، (فإنَّها) لَهُم فِي الدُّنْيَا،
(1/622)
وَلكم فِي الْآخِرَة» .
رَوَاهُ الْحَاكِم، أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي تَرْجَمَة عمر بن الْخطاب، عَن أبي بكر، عَن ابْن الْمثنى، عَن مُسَدّد، عَن أبي الْأَحْوَص، عَن مُسلم الْأَعْوَر، عَن أبي وَائِل، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الإِسناد، وَلم يخرجَاهُ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» - وَذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ، حَيْثُ رُوِيَ عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة عَن (أبي) وَائِل، وَعَن مُسلم الْأَعْوَر، عَن أبي وَائِل، وَعَن مُسلم الْأَعْوَر، عَن رجل من قومه، عَن عمر، قَالَ: وَمُسلم ضَعِيف -: هَذَا الحَدِيث يرويهِ الْأَعْمَش، عَن أبي وَائِل، عَن حُذَيْفَة مَرْفُوعا، وَهُوَ أولَى بِالصَّوَابِ.
وَهَذَا الحَدِيث هُوَ بِنَحْوِ من لفظ الرَّافِعِيّ، وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ، لَكِن من طَرِيق حُذَيْفَة، فَقَالَ: بَاب الْأكل فِي إِنَاء مفضض. نَا أَبُو نعيم، حَدَّثَنَا سيف بن (أبي) سُلَيْمَان، سَمِعت مُجَاهدًا يَقُول: حَدَّثَنَي عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى: «أَنهم كَانُوا عِنْد حُذَيْفَة، فَاسْتَسْقَى، فَسَقَاهُ مَجُوسِيّ، فلمَّا وضع الْقدح فِي يَده، (رَمَاه) بِهِ، وَقَالَ: (لَوْلَا) أَنِّي (نهيته) غير مرّة وَلَا مرَّتَيْنِ - كَأَنَّهُ يَقُول: لم أفعل هَذَا - وَلَكِنِّي سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: لَا تلبسوا الْحَرِير، و (لَا)
(1/623)
الديباج، وَلَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، (وَلَا تَأْكُلُوا فِي صحافها) ، فإنَّها لَهُم فِي الدُّنْيَا، (وَلكم) فِي الْآخِرَة» .
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن شُعْبَة، عَن سعد بن إِبْرَاهِيم، عَن نَافِع، عَن امْرَأَة ابْن عمر، عَن عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ: «الَّذِي يشرب فِي إِنَاء الْفضة - أَو إِنَاء من فضَّة - إِنَّمَا (يجرجر فِي) بَطْنه نَارا» .
رَوَاهُ أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي «التَّمْهِيد» ، ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ خصيف، وَهِشَام بن (الغازِ) - وَهُوَ بالغين وَالزَّاي المعجمتين - عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «من شرب فِي آنِية الْفضة، فإنَّما يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم» .
قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي خطأ لَا شكّ فِيهِ، لم يَرْوِ (ابْن) عمر هَذَا الحَدِيث قطّ، وَلَا رَوَاهُ نَافِع عَن ابْن عمر، وَلَو رَوَاهُ عَن ابْن عمر، مَا احْتَاجَ أَن يُحَدِّث بِهِ عَن [ثَلَاثَة] ، وَأما إِسْنَاد شُعْبَة فِي هَذَا الحَدِيث، فَيحْتَمل أَن يكون إِسْنَادًا (آخر) ، وَيحْتَمل أَن يكون خطأ، وَهُوَ
(1/624)
الْأَغْلَب. هَذَا آخر كَلَامه.
وَقد رُوِيَ عَن ابْن عمر من طَرِيق آخر، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» ، من حَدِيث: برد بن سِنَان، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، مَرْفُوعا: «من شرب فِي إِنَاء من ذهب، أَو إِنَاء من فضَّة، فإنَّما يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم» .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يَرْوِه (عَن) برد إلاَّ ابْنه الْعَلَاء.
وَطَرِيق (آخر) سَيَأْتِي فِي آخر هَذَا الْبَاب بِزِيَادَة فِيهِ.
لَكِن وَافق الْحَافِظ أَبَا عمر بن عبد الْبر عَلَى كَون رِوَايَة ابْن عمر خطأ: أَبُو حَاتِم، وَأَبُو زرْعَة.
قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : قَالَ أَبُو زرْعَة: حَدِيث ابْن عمر هَذَا (خطأ) ، إنَّما هُوَ عَن أم سَلمَة مَرْفُوعا.
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر مِنْهَا: سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة (عَنهُ) ، فَقَالَا مثل ذَلِك، قَالَا: وَالوهم فِيهِ من حَمَّاد.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ شُعْبَة عَن امْرَأَة ابْن عمر، وَقَالَ (الثَّوْريّ) : عَن صَفِيَّة - وَهِي امْرَأَة ابْن عمر -
(1/625)
مَرْفُوعا، و (خالفهما) مسعر، فَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ، من حَدِيث نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا، (وَوهم) فِي قَوْله: ابْن عمر. وَإِنَّمَا هُوَ عَن امْرَأَة ابْن عمر.
قَالَ: وَرُوِيَ مَوْقُوفا عَلَى عَائِشَة أَيْضا، من حَدِيث نَافِع عَنْهَا.
(قَالَ: وَرُوِيَ) عَن نَافِع، عَن صَفِيَّة، عَن عَائِشَة، وَرُوِيَ عَن سَالم، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا وَالصَّحِيح مَا قَالَ شُعْبَة، وَالثَّوْري.
(قَالَ) : وَرُوِيَ عَن نَافِع، عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، عَن عَائِشَة - أَو أم سَلمَة، أَو أم حَبِيبَة - وَهُوَ وهم. وَرَوَاهُ الثَّوْريّ عَن [عبيد] الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَوهم فِيهِ. وَالصَّحِيح عَن [عبيد] الله بن عمر عَن زيد بن عبد الله بن عمر، عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، عَن أم سَلمَة. وَقَالَ جرير بن حَازِم: عَن نَافِع (قَالَ) : قَالَت أم سَلمَة. وَقَالَ عبد الْعَزِيز بن أبي رواد: عَن نَافِع، عَن أبي هُرَيْرَة، (وَوهم) فِي ذكر أبي هُرَيْرَة.
هَذَا ملخص مَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» ، وَفِيه رد عَلَى قَول أبي عمر بن عبد الْبر: إِنَّه يحْتَمل أَن يكون إِسْنَاد شُعْبَة خطأ، وَأَنه الْأَغْلَب. فقد قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِنَّه الصَّحِيح.
الطَّرِيق الرَّابِع: (عَن عِكْرِمَة) ، عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُ، أَن رَسُول الله
(1/626)
(، قَالَ: «إِن الَّذِي يشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، إِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم» .
رَوَاهُ الحافظان: الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» ، والخطيب الْبَغْدَادِيّ فِي كِتَابيه: «من وَافَقت كنيته اسْم أَبِيه» ، و «تَلْخِيص الْمُتَشَابه» .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يَرْوه عَن (النَّضر) بن عَرَبِيّ، إلاَّ سَلِيم بن مُسلم الخَشَّاب، تَفَرَّد بِهِ مُحَمَّد بن بَحر (الهُجَيْمِي) الْبَصْرِيّ.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن أبي بردة، قَالَ: انْطَلَقت أَنا وَأبي (إِلَى) عَلّي بن أبي طَالب - كَرَّم الله وَجهه - فَقَالَ لنا: «إنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، نَهَى عَن آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة (أَن يُشْرَبَ (فِيهَا)) ، أَو أَن يُؤْكَل فِيهَا، وَنَهَى عَن القسي والمِيثرة، وَعَن ثِيَاب الْحَرِير، وَخَاتم الذَّهَب» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَاد جيد.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن أنس بن سِيرِين، عَن أنس بن مَالك، قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، عَن الْأكل وَالشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة» .
(1/627)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، من جِهَة قطن بن نُسَيْر - بِضَم النُّون، ثمَّ سين مُهْملَة مَفْتُوحَة -، عَن حَفْص بن عبد الله، عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، عَن الْحجَّاج (بن الْحجَّاج) عَن أنس بِهِ.
وَلِهَذَا الحَدِيث طَريقَة صَحِيحَة بالِاتِّفَاقِ، كَانَت (جديرة) بالتقدم، وَهِي: مَا رَوَى الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَمَرَنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِسبع، ونهانا عَن (سبع) : أمرنَا بعيادة الْمَرِيض، وَاتِّبَاع الْجِنَازَة، وتشميت الْعَاطِس، وَإجَابَة الدَّاعِي، وإفشاء السَّلَام، ونصرة الْمَظْلُوم، وإبرار الْقسم. ونهانا: عَن خَوَاتِيم الذَّهَب، وَعَن الشّرْب فِي الْفضة - أَو قَالَ: آنِية الْفضة - وَعَن المياثر، والقسي، وَعَن لبس الْحَرِير والديباج، والإِستبرق» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «وإنشاد الضَّالة» بدل: «وإبرار الْقسم» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَعَن الشّرْب فِي الْفضة، فإنَّه من شرب فِيهَا فِي
(1/628)
الدُّنْيَا لم (يشرب فِيهَا) فِي الْآخِرَة» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «رد السَّلَام» بدل: «وإفشاء السَّلَام» .
وَحين فَرغْنَا من إِيرَاد طرق هَذَا الحَدِيث، فلنذكر مَا يتَعَلَّق بهَا: من الْغَرِيب، وتوضيح الْمُشكل، فَنَقُول:
«الْآنِية» : جمع إِنَاء، والعامة (يرَوْنَ) أَنَّهَا وَاحِدَة، وَهُوَ خطأ، كَمَا يُقَال: إِزَار وآزرة، وحمار وأحمرة ويوضحه قَوْله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ - فِي صفة الْحَوْض: «آنيته مثل نُجُوم السَّمَاء» . قَالَ ذَلِك عبد الْحق.
وَقَوله (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ) : «يجر فِي جَوْفه نَار جَهَنَّم» .
فِي «نَار» رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: نصب الرَّاء، حَكَاهُ الْخطابِيّ عَن بعض أهل الْعلم باللغة. قَالَ ابْن بري: و (هَذَا) هُوَ الْمَشْهُور. كَذَا قَالَه النَّوَوِيّ وَزَاد: وَأَن بِهِ جزم الْمُحَقِّقُونَ، وَاخْتَارَهُ الزجَّاج، والخطابي، وَالْأَكْثَرُونَ، وَلم يذكر الْأَزْهَرِي، وَآخَرُونَ غَيره، وَهُوَ الصَّحِيح.
الرِّوَايَة الثَّانِيَة: رَفعهَا. قَالَ ابْن السَّيِّد فِي «الاقتضاب» : من رفع الرَّاء فعلَى خبر إِن، وَيجْعَل «مَا» بِمَعْنى «الَّذِي» ، كَأَنَّهُ قَالَ: «الَّذِي
(1/629)
يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم وَمن نصب النَّار، جعل «مَا» صلَة ل «إِن» وَهِي الَّتِي تكف «إِن» عَن الْعَمَل، وَنصب «النَّار» ب «يجرجر» ، وَنَظِيره قَوْله - تَعَالَى -: (إِنَّمَا صَنَعُوا كيد سَاحر) ، فقرئ بِرَفْع «الكيد» ونصبه علىالوجهين. وَيجب إِذا جعلت (مَا) بِمَعْنى «الَّذِي» أَن تُكتب (مُنْفَصِلَة) من «إِن» . وَكَذَا قَالَه ابْن بري أَيْضا.
وَقَالَ غَيرهمَا: من نصب، جعل الجرجرة (بِمَعْنى الصبِّ) ، أَي: إِنَّمَا يصب فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم، وَمن رَفعهَا، جعلهَا بِمَعْنى الصَّوْت، أَي: إِنَّمَا يُصَوِّت (فِي) بَطْنه نَار جَهَنَّم. والجرجرة: الصَّوْت المتردد فِي الْحلق.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : وَقد يَصح النصب عَلَى هَذَا أَيْضا، إِذا تَعَدَّى الْفِعْل، قَالَ: وَمِمَّا يرجح النصب، رِوَايَة مُسلم: «نَارا من جَهَنَّم» . وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» . قَالَ: ورويناه فِي «مُسْند أبي عوَانَة» و «الجعديات» (من) رِوَايَة عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُا، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ: «الَّذِي يشرب فِي الْفضة إنَّما يجرجر فِي جَوْفه نَارا» ، هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول: (نَارا) (بِالْألف) ، من غير ذكر
(1/630)
جَهَنَّم. قَالَ: وَأما مَعْنَاهُ: فعلَى رِوَايَة النصب، الْفَاعِل هُوَ الشَّارِب مُضْمر فِي يجرجر: أَي يلقيها فِي بَطْنه بجرع متتابع يُسمع (لَهُ صَوت) ، لتردده فِي حلقه، وَعَلَى رِوَايَة الرّفْع: تكون النَّار فاعلة، مَعْنَاهُ: أَن النَّار تُصَوِّت فِي جَوْفه، وسُمِّي المشروب نَارا: لِأَنَّهُ (يؤول إِلَيْهَا) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا) .
وَقَالَ الشَّيْخ تَاج الدَّين (ابْن) الفركاح (فِي) «الإقليد» : يرْوَى: يجرجر مبنيًّا للْفَاعِل، ومبنيًّا للْمَفْعُول، وَعَلَى الأول: يُروى النَّار بِالنّصب، علىأن الْفَاعِل: الشَّارِب، وبالرفع عَلَى أَنَّهَا الْفَاعِل.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : اتّفق الْعلمَاء، من أهل الحَدِيث، واللغة، و (الْغَرِيب) ، وَغَيرهم عَلَى كسر الْجِيم الثَّانِيَة من يجرجر، وَاخْتلفُوا فِي الرَّاء من قَوْله: «نَار جَهَنَّم» فَذكر مَا تقدم.
وجهنم - عافنا الله مِنْهَا، وَمن كل بلَاء - قَالَ الواحدي: قَالَ يُونُس، وَأكْثر النَّحْوِيين: هِيَ عجمية لَا تَنْصَرِف للعجمة والتعريف، وَقَالَ آخَرُونَ: (عَرَبِيَّة) لَا تَنْصَرِف للتأنيث والتعريف. وسُمِّيَت بذلك لبعد قعرها، يُقَال: بِئْر جهنام، إِذا كَانَت عميقة القعر. وَقَالَ بعض اللغويين: مُشْتَقَّة من (الجهومة) ، وَهِي: الغلظ، سميت بذلك لغلظ أمرهَا فِي الْعَذَاب.
(1/631)
و «المِيثرة» : بِكَسْر الْمِيم، أَصْلهَا: موثرة، من الشَّيْء الوثير: أَي اللِّين، وَلَكِن (لَمَّا) كَانَ قبل الْوَاو الساكنة كسرة، قُلبت يَاء. قَالَ ابْن سَيّده: هِيَ كهنة المرفقة تتَّخذ للسرج كالصفة وَهِي المياثر (والمواثر) عَلَى (المعاقبة) .
و «القَسِّي» : بِفَتْح الْقَاف، و (كسر) السِّين الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة.
وَذكر أَبُو عبيد: أَن أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: القِسي بِكَسْر الْقَاف. وعَدَّه جمَاعَة من تصحيفاتهم.
(وَهِي) ثِيَاب يُؤْتَى بهَا من بلدنا مصر، فِيهَا حَرِير.
الحَدِيث الْعَاشِر
«أَن حَلقَة قَصْعَة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، كَانَت من فضَّة» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» بِنَحْوِهِ، من حَدِيث عَاصِم الْأَحول، قَالَ: «رَأَيْت قدح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، عِنْد أنس بن مَالك، وَكَانَ قد (انصدعَ) ، فَسَلْسَلَه بِفِضَّة» .
قَالَ: وَهُوَ قدح جيد عريض، من نُضَار. قَالَ: قَالَ أنس: «لقد
(1/632)
سقيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (فِي هَذَا الْقدح) أَكثر من كَذَا وَكَذَا» . قَالَ: وَقَالَ: ابْن سِيرِين: «إنَّه كَانَ فِيهِ حَلقَة من حَدِيد، فَأَرَادَ أنس أَن يَجْعَل مَكَانهَا حَلقَة من ذهب أَو فضَّة، فَقَالَ (لَهُ) أَبُو طَلْحَة: لَا تُغَيِّرن شَيْئا صَنَعَه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتَركه» .
وَفِي رِوَايَة لأبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ، عَن أنس: «أَن قدح النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، انصدع، فَجعل مَكَان (الشَّعْبِ) سلسلة من فضَّة» . قَالَ عَاصِم: «وَرَأَيْت الْقدح، وشربت فِيهِ» .
وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، وَقَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ كَمَا تقدم، وَهُوَ يُوهِم أَن يكون النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، اتخذ مَكَان الشَّعْبِ سلسلة من فضَّة، وَقد أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ ... فَذكر بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن سِيرِين، عَن أنس: «أَن قدح النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، انصدع، فَجعل مَكَان الشَّعْبِ سلسلة» ، (يَعْنِي أنَّ أنسا جعل مَكَان الشّعب سلسلة) .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فَلَا أَدْرِي (من) قَالَه - يَعْنِي أَن أنسا جعل مَكَان الشّعب سلسلة - مُوسَى بن هَارُون، أَو من فَوْقه؟ . يَعْنِي الْمَذْكُورين فِي إِسْنَاده.
قُلْتُ: سَاق الْخَطِيب بِإِسْنَادِهِ فِي كتاب «الْفَصْل للوصل المدرج فِي النَّقْل» مَا ظَاهره: أَن ذَلِك من قَول مُوسَى بن هَارُون.
(1/633)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: قَوْله: «فَاتخذ» . يُوهم أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هُوَ الْمُتَّخذ، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الْمُتَّخذ هُوَ أنس، فَفِي رِوَايَة أنس: «فجعلتُ مَكَان الشَّعْبِ سلسلة» . هَذَا كَلَامه.
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» : أَنه سُئِلَ عَن هَذَا (الحَدِيث) ، فَقَالَ: يرويهِ عَاصِم الْأَحول. واختُلف عَنهُ، فَرَوَاهُ أَبُو حَمْزَة السكرِي، عَن عَاصِم، عَن ابْن سِيرِين، عَن أنس. وَخَالفهُ شريك، فَرَوَاهُ عَن عَاصِم [عَن أنس] ، وَالصَّحِيح قَول أبي حَمْزَة.
والشَّعْب: بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة، وَإِسْكَان الْعين الْمُهْملَة، وَبعدهَا (بَاء) مُوَحدَة. وَالْمرَاد بِهِ: الشق والصدع.
وَوَقع فِي «الْمُهَذّب» للشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: فَاتخذ مَكَان الشِّفة، وَهُوَ تَصْحِيف، وَالصَّوَاب مَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، وَغَيره كَمَا تقدم.
وَوَقع فِيهِ أَيْضا: «أَن الْقدح انْكَسَرَ» ، وَيحمل عَلَى أَنه انْشَقَّ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة «انصدع» . وَالْمرَاد: أَنه (شَدَّ الشق) بخيط فضَّة، فَصَارَت صورته صُورَة سلسلة، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ السالفة: «فَسَلْسَلَه بِفِضَّة» . قَالَ ذَلِك النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» .
قُلْتُ: قد يُعَارض هَذَا التَّفْسِير مَا جَاءَ فِي رِوَايَة الإِمام أَحْمد، قَالَ: رَأَيْت عِنْد أنس قدح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فِيهِ ضَبّة من فضَّة» . فَإِن
(1/634)
الْمَعْرُوف: أَن الضبة هِيَ الَّتِي تَأْخُذ قدرا من الإِناء.
وَقد لَا يُعَارضهُ، بِأَن يلْتَزم تَسْمِيَة ذَلِك ضبة.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
«أَن قَبِيْعَةَ سيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، كَانَت من فضَّة» .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق:
أَحدهَا: من رِوَايَة أنس. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْجِهَاد، وَالنَّسَائِيّ فِي الزِّينَة، من حَدِيث قَتَادَة عَنهُ. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ حَدِيث حسن غَرِيب، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن همام، عَن قَتَادَة، عَن أنس. وَقد رَوَى بَعضهم عَن قَتَادَة، (عَن سعيد بن أبي الْحسن، قَالَ: «كَانَت قبيعة سيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) من فضَّة» .
قُلْتُ: هَكَذَا (أخرجه) أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، فِي (إِحْدَى) روايتيهما، (ونصَّ) الحفَّاظ عَلَى أَن الصَّوَاب هَذِه الرِّوَايَة - أَعنِي رِوَايَة الإِرسال - فَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَالصَّوَاب: (قَتَادَة عَن سعيد مُرْسلا. وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : إنَّ
(1/635)
إرْسَاله هُوَ الصَّوَاب) . وَكَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد: إنَّ أَقْوَى الْأَحَادِيث، حَدِيث سعيد بن أبي الْحسن الْبَصْرِيّ، (والباقية) ضِعَاف. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: الْمَحْفُوظ أَنه مُرْسل. وَكَذَا قَالَ الْبَزَّار: إِنَّمَا يُرو عَن قَتَادَة، عَن سعيد بن أبي الْحسن مُرْسلا، وَهُوَ الصَّوَاب. وَكَذَا قَالَ الدَّارمِيّ لمَّا أخرجه فِي «مُسْنده» (مُسْندًا) : هِشَام الدستوَائي (خَالفه) - يَعْنِي جَرِيرًا - قَالَ: قَتَادَة عَن سعيد بن أبي الْحسن، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَزعم النَّاس أَنه الْمَحْفُوظ. وَكَذَا (قَالَ) الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ: إِن الْمُرْسل هُوَ الصَّوَاب.
وَفِي «علل أَحْمد» قَالَ عبد الله: حَدَّثَنَي أبي، عَن عَفَّان، قَالَ: جَاءَ أَبُو جزي - واسْمه: نصر بن طريف - إِلَى جرير بن حَازِم، يشفع لإِنسان فِي حَدِيث، فَقَالَ جرير: نَا قَتَادَة، عَن أنس، قَالَ: «كَانَت (قبيعة) سيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من فضَّة» . قَالَ أَبُو جزي: كذب وَالله، مَا حَدَّثَنَاه قَتَادَة إلاَّ عَن سعيد بن أبي الْحسن. قَالَ أبي: وَهُوَ قَول أبي جزي.
(1/636)
يَعْنِي: أصَاب وَأَخْطَأ جرير.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : تفرد بِهِ جرير، عَن قَتَادَة، عَن أنس. وَرَوَاهُ قَتَادَة عَن سعيد بن أبي الْحسن مُرْسلا. ثمَّ قَالَ: وَهُوَ الْمَحْفُوظ.
قُلْتُ: رِوَايَة جرير، أخرجهَا التِّرْمِذِيّ، وحَسَّن الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَهَكَذَا رَوَى همام عَن قَتَادَة عَن أنس. وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة: همام وَجَرِير عَن قَتَادَة. فَظهر بِهَذَا أَن جَرِيرًا لم يتفرد بِهِ، وَلَفظه فِي هَذِه الرِّوَايَة، عَن أنس، قَالَ: «كَانَت نعل سيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من فضَّة، وقبيعة (سَيْفه) فضَّة، وَمَا بَين ذَلِك حلق الْفضة» .
الطَّرِيق الثَّانِي: رِوَايَة (مزيدة) (بن) جَابر الْعَبْدي العصري. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي الْجِهَاد، من حَدِيث: طَالب بن حُجَيْر، نَا هود بن عبد الله [بن] سعد، عَن جده (مزيدة) رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «دخل النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، يَوْم الْفَتْح، وَعَلَى سَيْفه ذهب وَفِضة. قَالَ طَالب: فَسَأَلته عَن الْفضة، (فَقَالَ) : كَانَت قبيعة سَيْفه فضَّة» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. وَقَالَ ابْن القَطَّان: هُوَ
(1/637)
عِنْدِي ضَعِيف لَا حسن؛ لِأَن طَالبا وهودًا مَجْهُولا الْحَال، وَسُئِلَ الرازيان عَن طَالب فَقَالَا: شيخ. قَالَ الذَّهَبِيّ (فِي «الْمِيزَان» ) : صَدَقَ أَبُو الْحسن.
قُلْتُ: لَا، طَالب رَوَى عَنهُ (جمَاعَة) ، وَذكره ابْن (حبَان) فِي «ثقاته» وَفِي «التذهيب» : (هود) بن عبد الله بن سعد، الْعَبْدي، عَن جده لأمه: (مزيدة) ، ومعبد بن وهب، وَلَهُمَا صُحْبَة، وَعنهُ: طَالب بن (حُجَيْر) .
وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : تفرَّد (بِهِ) طَالب، وَهُوَ صَالح الْأَمر - إِن شَاءَ الله - وَهَذَا مُنكر، فَمَا (علمنَا) فِي (حلية) سَيْفه (عَلَيْهِ السَّلَام) ذَهَبا.
الطَّرِيق الثَّالِث: من رِوَايَة أبي أُمَامَة. أخرجه النَّسَائِيّ: فِي أَوَاخِر الزِّينَة واللباس، عَن عمرَان بن (يزِيد) ، ثَنَا عِيسَى ين يُونُس، ثَنَا
(1/638)
عُثْمَان بن حَكِيم، عَن أبي أُمَامَة بن سهل قَالَ: (كَانَت قبيعة سيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، من فضَّة) .
وَهَذَا إِسْنَاد لَا ريب فِي صِحَّته، (عمرَان) : قَالَ النَّسَائِيّ فِي حَقه: لَا بَأْس بِهِ وَعِيسَى: هُوَ (السبيعِي) ، أخرج لَهُ السِّتَّة، ووثَّقه أَبُو حَاتِم، وَجمع.
وَعُثْمَان: أخرج لَهُ مُسلم، وَالْبُخَارِيّ تَعْلِيقا، وَقَالَ أَحْمد، (و) ابْن معِين: ثِقَة، وَقَالَ أَبُو خَالِد الْأَحْمَر: هُوَ أوثق أهل الْمَدِينَة وأعبدهم.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن هِشَام بن عَمَّار، نَا مُحَمَّد بن حمير، حَدَّثَنَي أَبُو الحكم (الصيقل) ، قَالَ: حَدَّثَنَي مَرْزُوق (الصيقل) : «أَنه صقل سيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (ذَا) الفقار، وَكَانَت لَهُ قبيعة من فضَّة ... » الحَدِيث بِطُولِهِ.
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَذَلِك، وَلَا أعلم بِهَذَا السَّنَد بَأْسا.
(1/639)
«القَبِيعة» : بِفَتْح الْقَاف، وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، هِيَ الَّتِي تكون عَلَى رَأس قَائِم السَّيْف، وطرف مقبضه، من (فضَّة) ، أَو حَدِيد.
قَالَ الشَّيْخ (زكي الدَّين) : «وَقيل: مَا تَحت شاربَيْ السَّيْف، (مِمَّا) يكون فَوق الغمد. وَقيل: هِيَ التومة الَّتِي (تكون) فَوق المقبض» . قَالَ: «وَجَاز ذَلِك فِي السَّيْف لِأَنَّهُ من زِينَة الرجل وآلته، فيقاس عَلَيْهِ المنطقة، وَنَحْوهَا من أَدَاة الْفَارِس، دون أَدَاة الْفرس.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الذَّهَب وَالْحَرِير: «هَذَانِ حرامان عَلَى ذُكُور أمتِي» .
هَذَا الحَدِيث مَشْهُور، وَله طرق:
أَحدهَا: عَن سعيد بن أبي هِنْد، عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي اللهُ عَنْهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «حُرِّم لِبَاس الذَّهَب وَالْحَرِير عَلَى ذُكُور أمتِي، وَأحل لإِناثهم» .
رَوَاهُ أَحْمد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَهَذَا لَفظه، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَلَفظ أَحْمد: « (أحل) الذَّهَب وَالْحَرِير للإِناث من أمتِي،
(1/640)
وَحرم عَلَى ذكورها» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَلَفظه: «إنَّ الله - تَعَالَى - أَحَلَّ لإِنَاثِ أمتِي الْحَرِير وَالذَّهَب، وحَرَّمه عَلَى ذكورها» .
وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَلَفظه: «أُحِلَّ الذَّهَب وَالْحَرِير لإِناث أمتِي، وحُرِّم عَلَى ذكورها» . وَله أَلْفَاظ أخر بِنَحْوِ هَذَا.
(وَرَوَاهُ) الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» ، وَهَذَا لَفظه: «أحل الذَّهَب وَالْحَرِير لإِناث أمتِي» ، ثمَّ قَالَ: هَذَا يرويهِ عبد الله بن (سعيد) بن أبي هِنْد، (عَن أَبِيه، وَيَرْوِيه نَافِع مولَى ابْن عمر، عَن (سعيد) بن أبي هِنْد) ، وَاخْتلف عَن نَافِع: فَرَوَاهُ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَعبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن سعيد بن أبي هِنْد، عَن أبي مُوسَى.
وَرَوَاهُ سُوَيْد بن عبد الْعَزِيز، عَن (عبيد الله) ، عَن سعيد بن أبي [سعيد] المَقْبُري، عَن أبي مُوسَى. وَوَهِمَ فِي موضِعين: فِي قَوْله:
(1/641)
سعيد المَقْبُري، وَإِنَّمَا هُوَ سعيد بن أبي هِنْد. وَفِي تَركه نَافِعًا فِي الإِسناد.
وَرَوَاهُ (عبد الله) بن عمر الْعمريّ، عَن نَافِع، عَن سعيد بن أبي هِنْد، عَن رجل، عَن أبي مُوسَى. وَهُوَ أشبه بِالصَّوَابِ؛ لِأَن سعيد بن أبي هِنْد لم يسمع من أبي مُوسَى شَيْئا، وَقَالَ أُسَامَة بن زيد: عَن (سعيد) بن أبي هِنْد، عَن أبي مرّة - مولَى عقيل - عَن أبي مُوسَى، فِي حَدِيث «النَّهْي عَن اللّعب بالنرد» ، وَهُوَ الصَّحِيح. قَالَ: و (هَذَا) يُقَوي قَول الْعمريّ: عَن نَافِع، عَن سعيد بن أبي هِنْد، عَن رجل.
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْحق: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ جماعات، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن سعيد بن أبي هِنْد، عَن أبي مُوسَى مَرْفُوعا. وَرَوَاهُ من لَا يحْتَج بِهِ، عَن (عبد الله) ، عَن نَافِع، عَن سعيد، عَن (رجل) من أهل الْعرَاق، عَن أبي مُوسَى.
وَذكره عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَن سعيد، عَن رجل، عَن أبي مُوسَى. واختُلف فِيهِ عَلَى أَيُّوب» . ثمَّ ذكر قولة الدَّارَقُطْنِيّ المتقدِّمة: أنَّ سعيد بن أبي هِنْد لم يسمع من أبي مُوسَى.
وَقد أخرجه التِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ من هَذِه الطَّرِيق - أَعنِي طَرِيق: عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن سعيد بن أبي هِنْد، عَن أبي مُوسَى - مَرْفُوعا. وَقد صحَّحه التِّرْمِذِيّ، فَالظَّاهِر سَماع سعيد مِنْهُ.
(1/642)
لَكِن قد قَالَ كمقالة الدَّارَقُطْنِيّ: أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، فَقَالَ: سعيد بن أبي هِنْد لم يَلْقَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» : حَدِيث سعيد بن أبي هِنْد عَن أبي مُوسَى فِي هَذَا الْبَاب مَعْلُول لَا يَصح. وَلَعَلَّه يُشِير إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ عَن الدَّارَقُطْنِيّ وَأبي حَاتِم، (بل) لَا شكّ فِي ذَلِك.
لكنه أخرج فِي «صَحِيحه» حَدِيث: «من لعب بالنرد، فقد عَصَى الله وَرَسُوله» ، وَهُوَ من رِوَايَة سعيد عَن أبي مُوسَى.
الطَّرِيق الثَّانِي: وَهُوَ أشهرها، عَن عَلّي بن أبي طَالب - كَرَّم الله وَجهه -: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَخذ حَرِيرًا فَجعله فِي يَمِينه، وَأخذ ذَهَبا فَجعله فِي شِمَاله، ثمَّ قَالَ: إنَّ هذَيْن حرَام عَلَى ذُكُور أمتِي» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» . وَلابْن مَاجَه زِيَادَة فِيهِ، وَهِي: «حل لإناثهم» .
وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ: «أَخذ [حَرِيرًا] فَجعله فِي يَمِينه، وَأخذ ذَهَبا فَجعله فِي شِمَاله، ثمَّ قَالَ: إنَّ هذَيْن حرامٌ عَلَى ذُكُور أمتِي» .
قَالَ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» : قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: حَدِيث حسن، وَرِجَاله معروفون.
(1/643)
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : هَذَا حَدِيث مُخْتَلَف فِي إِسْنَاده، يرجع إِلَى يزِيد بن أبي حبيب، فَقيل: عَنهُ عَن أبي أَفْلح الْهَمدَانِي، عَن عبد الله بن زُرَيْر، عَن عَلّي. هَذِه رِوَايَة لَيْث عِنْد أبي دَاوُد. وَقيل فِيهِ: عَن يزِيد، عَن عبد الْعَزِيز بن أبي الصعبة، عَن أبي أَفْلح. وَهَذِه رِوَايَة ابْن إِسْحَاق (عِنْد) ابْن مَاجَه.
قُلْتُ: وَرِوَايَة اللَّيْث بن سعد، وَعبد الحميد بن جَعْفَر. كَمَا قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» .
قَالَ الشَّيْخ: وَقيل: عَن (ابْن) الصعبة - وَلم يسم - عَن رجل من هَمدَان، يُقَال لَهُ: أَفْلح. هَذِه رِوَايَة ابْن الْمُبَارك، عَن اللَّيْث، عَن (يزِيد) .
قُلْتُ: وَرِوَايَة حجاج، عَن (اللَّيْث) أَيْضا، كَمَا أخرجه أَحْمد فِي «الْمسند» .
وَقيل: عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن عبد الله بن زرير. أسقط من الإِسناد رجلَيْنِ: ابْن أبي الصعبة، وَأَبا أَفْلح. قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» . قَالَ: [وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة: عَن ابْن إِسْحَاق، عَن] يزِيد بن أبي حبيب، عَن رجل، عَن آخر - لم يسمهما - عَن عَلّي.
(1/644)
قَالَ: وَقيل: عَن (ابْن) إِسْحَاق، عَن سعيد بن أبي هِنْد، عَن عبد الله بن شَدَّاد، عَن عبد الله بن مرّة، عَن عَلّي. رَوَاهُ عَن ابْن إِسْحَاق عمر بن حبيب. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَهِمَ فِي الإِسناد عمر هَذَا، وَكَانَ سيِّئ الْحِفْظ. انْتَهَى.
وَقيل: عَن (ابْن) أبي الصعبة، عَن أبي عَلّي الْهَمدَانِي، عَن عبد الله بن زرير. وَهَذِه رِوَايَة النَّسَائِيّ فِي مُسْند عَلّي، أفادها الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «الْأَطْرَاف» .
قَالَ النَّسَائِيّ: حَدِيث ابْن الْمُبَارك أولَى بِالصَّوَابِ، إلاَّ قَوْله: «أَفْلح» ، فإنَّ «أَبَا أَفْلح» أولَى بِالصَّوَابِ.
وَقد علل هَذَا الحَدِيث بعلَّة أُخْرَى، وَهِي: جَهَالَة حَال (أبي أَفْلح) ، بِالْفَاءِ، لَا بِالْقَافِ. ذكر ابْن القَطَّان ذَلِك، وَقَالَ: عبيد الله بن زرير مَجْهُول الْحَال أَيْضا.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: أما أَبُو أَفْلح فَلَا يبعد مَا قَالَ فِيهِ، وإنْ كَانَ قد ذكر عَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ أَنه قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: حسن. وَأما عبد الله بن زرير: فقد ذكر أَن الْعجلِيّ، وَمُحَمّد بن سعد وَثقَّاه.
قَالَ الشَّيْخ: وَفِي الحَدِيث شَيْء آخر، وَهُوَ: أَن رِوَايَة من رَوَاهُ عَن يزِيد، عَن عبد الْعَزِيز بن أبي الصعبة، عَن أبي أَفْلح، إِذا (عَملنَا) بهَا،
(1/645)
وسلكنا طريقهم، فِي أَن نحكم بأنَّ يزِيد لم يَسمع من أبي أَفْلح، تَصَدَّى لنا (النّظر) فِي حَال عبد الْعَزِيز أَيْضا.
قُلْتُ: حَالَته جَيِّدَة، رَوَى لَهُ النَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَرَوَى عَن: أَبِيه، وَأبي عَلّي الْهَمدَانِي، وَعنهُ: يزِيد بن أبي حبيب، وَغَيره، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» .
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أُحِلَّ الذَّهَب وَالْحَرِير لإِناث أمتِي، وحُرِّم عَلَى ذكورها» .
ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» فِيمَا سُئِلَ عَنهُ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيث يرويهِ (عبيد الله) ، وَاخْتلف عَنهُ: فَرَوَاهُ يَحْيَى بن سليم الطَّائِفِي، عَن عبد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا. وَتَابعه بَقِيَّة بن الْوَلِيد، عَلَى مَعْنَى هَذَا القَوْل فِي الْحَرِير و (الْخَزّ) ، وَلم يذكر الذَّهَب، وَكِلَاهُمَا وهمٌ، وَالصَّحِيح: عَن (عبد الله) ، عَن نَافِع، عَن سعيد بن أبي هِنْد، عَن أبي مُوسَى. وَسَعِيد لم يسمعهُ (من أبي مُوسَى) . وَرَوَى طلق بن حبيب، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عمر: سَمِعت من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْحَرِير شَيْئا؟ قَالَ: لَا. وَهَذَا يدل عَلَى وهم يَحْيَى بن سليم، وَبَقِيَّة فِي حكايتهما عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
(1/646)
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن عقبَة بن عَامر رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الذَّهَب وَالْحَرِير: « (إِن هذَيْن) حرامٌ عَلَى ذُكُور أمتِي، حِلٌّ لإِناثها» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَغَيره، وَلَا أعلم بِسَنَدِهِ (بَأْسا) .
وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق خَامِس: رَوَاهُ قيس بن أبي حَازِم، عَن عمر رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «خرج علينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَفِي يَده صُرَّتان، (إِحْدَاهمَا) من ذهب، وَالْأُخْرَى من حَرِير، فَقَالَ: هَذَانِ (حرَام) عَلَى الذُّكُور من أمتِي، حَلَال لإِناثهم» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» ، ثمَّ قَالَ: لم يَرْوِه عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، إلاَّ عَمْرو بن جرير البَجلِيّ الْكُوفِي، تفرد بِهِ دَاوُد بن سُلَيْمَان.
وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَزَّار فِي «مُسْنده» ، ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا نعلم رَوَاهُ عَن إِسْمَاعِيل، عَن قيس، عَن (عمر) ، (إلاَّ عَمْرو) بن جرير، (وَعَمْرو) لَيِّن الحَدِيث، وَقد احتُمل حَدِيثه، وَرُوِيَ عَنهُ، و (قد) رُوِيَ هَذَا الْكَلَام عَن غير عمر. قَالَ: وَلَا نعلم فِيمَا يرْوَى فِي ذَلِك حَدِيثا ثَابتا عِنْد أهل النَّقْل.
(1/647)
وَله طَرِيق سادس - أَيْضا -: رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن رَافع، عَن عبد الله بن (عَمْرو) ، (قَالَ) : «خرج إِلَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَفِي إِحْدَى يَدَيْهِ ثوب من حَرِير، وَفِي الْأُخْرَى ذهب، فَقَالَ: إنَّ هذَيْن محرم عَلَى ذُكُور أمتِي، حل لإِناثهم» . ذكره فِي «اللبَاس» فِي «سنَنه» ، وَفِي إِسْنَاده: الأفريقي، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد بن أَنْعُم، وَهُوَ ضَعِيف.
وَقَالَ (التِّرْمِذِيّ) : رَأَيْت البُخَارِيّ يُقَوِّي أمره. وَيُقَال: هُوَ مقارب الحَدِيث.
وَله أَيْضا طَرِيق سَابِع: عَن زيد بن أَرقم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الذَّهَب وَالْحَرِير حَلَال لإناث أمتِي، حرَام عَلَى ذكورها» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، والعقيلي فِي «تَارِيخه» من حَدِيث: ثَابت بن زيد (بن ثَابت بن زيد) بن أَرقم، (قَالَ: حدَّثتني) عَمَّتي أُنيسة بنت زيد بن أَرقم، عَن أَبِيهَا زيد بن أَرقم بِهِ.
(1/648)
قَالَ أَحْمد: ثَابت هَذَا لَهُ مَنَاكِير. وَقَالَ ابْن حبَان: الْغَالِب عَلَى حَدِيثه الْوَهم، لَا يحْتَج بِهِ إِذا انْفَرد. قَالَ الْعقيلِيّ: هَذَا يرْوَى بِغَيْر هَذَا الإِسناد، بأسانيد صَالِحَة.
وَله أَيْضا طَرِيق ثامن: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، عَن إِسْمَاعِيل بن (قِيرَاط) ، نَا سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن، نَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدَّثتنِي أَسمَاء بنت وَاثِلَة، عَن أَبِيهَا، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، يَقُول: «الذَّهَب وَالْحَرِير حل لإِناث أمتِي، حرَام عَلَى ذُكُور أمتِي» .
وَهَذَا سَنَد لَا أعلم بِهِ بَأْسا، وَشَيخ الطَّبَرَانِيّ لَا أعرفهُ، وَسليمَان: ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» ، وَأَخُوهُ: وثَقَّه أَبُو زرْعَة، وَالنَّسَائِيّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ من التَّابِعين، لَا يُسأل عَن مثله. وَأَسْمَاء: تابعية، لَا أعلم حَالهَا الْآن.
وَله أَيْضا طَرِيق تَاسِع: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا. عَن ابْن عَبَّاس: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، (أخرج) من يَده قِطْعَة من ذهب، وَقطعَة من حَرِير، فَقَالَ: إنَّ هذَيْن حرامان عَلَى ذُكُور أمتِي حلالان لإِناثهم» .
(1/649)
وَفِي سَنَده: إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ، وَهُوَ مُتَّفق عَلَى ضعفه. ثمَّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث: مُحَمَّد بن الْفضل بن عَطِيَّة، عَن أَبِيه، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَبَضَ عَلَى الذَّهَب وَالْحَرِير، وَهُوَ يحرِّكه، وَيَقُول: هَذَا (يحرم) عَلَى (الذُّكُور من أمتِي) » .
وَمُحَمّد هَذَا: مَتْرُوك بالِاتِّفَاقِ، بل قَالَ صَالح بن مُحَمَّد: كَانَ يضع الحَدِيث. ووالده الْفضل: وَثَّقه ابْن رَاهَوَيْه. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا بَأْس بِهِ، وضَعَّفه الفلاس، وَابْن عدي.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
رُوِيَ أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من شرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، أَو إِنَاء فِيهِ شَيْء من ذَلِك، فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي (جَوْفه) نَار جَهَنَّم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور: الْأُسْتَاذ أَبُو الْوَلِيد
(1/650)
النَّيْسَابُورِي، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» ؛ وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله، فِي كِتَابه «عُلُوم الحَدِيث» وَغَيرهم، من رِوَايَة: يَحْيَى بن [مُحَمَّد] الْجَارِي، ثَنَا زَكَرِيَّا بن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن مُطِيع، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن عمر مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وأخبرناه أَبُو عبد الله الْحَافِظ فِي «فَوَائده» ، عَن الطوسي، والفاكهي مَعًا، فَزَاد فِي الإِسناد بعد أَبِيه: عَن جده، عَن (ابْن) عمر.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأَظنهُ وهما، وَقد أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ، والفقيه أَبُو الْوَلِيد (النَّيْسَابُورِي) ، (بِدُونِ) ذكر جده. قَالَ: وَالْمَشْهُور عَن ابْن عمر فِي (المضبب) مَوْقُوفا عَلَيْهِ.
ثمَّ أخرجه بِإِسْنَاد صَحِيح، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: «أَنه كَانَ لَا يشرب فِي قدح فِيهِ حَلقَة فضَّة، وَلَا ضبة فضَّة» .
(1/651)
ثمَّ رُوِيَ من جِهَة خصيف، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: «أَنه أُتِيَ بقدح (مضبب) ليشْرب مِنْهُ، فَأَبَى أَن يشرب، (فَسَأَلته) ، فَقَالَ: «إِن ابْن عمر، مُنْذُ سمع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الشّرْب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، لم يشرب فِي الْقدح المفضض» . انْتَهَى.
وخصيف هَذَا سكت (عَنهُ) الْبَيْهَقِيّ هُنَا، وَقَالَ فِي بَاب (كَفَّارَة) من أَتَى الْحَائِض: خصيف غير مُحْتَج بِهِ.
وَقد شهد للْحَدِيث الْمُتَقَدّم غير وَاحِد بضعفه، قَالَ أَبُو الْحسن بن القَطَّان: هَذَا حَدِيث لَا يصحّ، وزَكَرِيا، وَأَبوهُ لَا يعرف لَهما حَال.
قُلْتُ: و (الْجَارِي) ، قَالَ البُخَارِيّ: يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، وَوَثَّقَهُ الْعجلِيّ وَابْن حبَان، (وَقَالَ: يغرب) . وَقَالَ ابْن عدي: لَيْسَ بحَديثه بَأْس. وَقَالَ أَبُو عوَانَة الإِسفراييني فِي «صَحِيحه» فِي بَاب تَحْسِين الصَّوْت بِالْقُرْآنِ: نَا عَبَّاس الدوري، ثَنَا (يَحْيَى الزِّمِّي) ، نَا يَحْيَى بن مُحَمَّد (الْجَارِي) بساحل الْمَدِينَة، ثِقَة.
(1/652)
وَقَالَ الْحَاكِم فِي كتاب «عُلُوم الحَدِيث» : لم (تكْتب) هَذِه اللَّفْظَة - وَهِي: «أَو إِنَاء فِيهِ شَيْء من ذَلِك» - إلاَّ بِهَذَا الإِسناد.
وَقَالَ السَّمْعَانِيّ فِي «أَمَالِيهِ» : هَذَا حَدِيث غَرِيب. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: (هَذَا حَدِيث) فِي إِسْنَاده نظر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ضَعِيف، وَقَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين: الْأَشْهر رِوَايَة الْوَقْف عَلَى ابْن عمر. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : حَدِيث مُنكر.
قُلْتُ: وَأما الإِمام أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ، فَقَالَ عقب تَخْرِيجه لَهُ: إِسْنَاده حسن.
(1/653)
بَاب الْوضُوء
ذكر فِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الْأَحَادِيث (وَاحِدًا) وَسِتِّينَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ اِمْرِئٍ مَا نَوَى» .
وَفِي رِوَايَة: «وَلكُل امْرِئ مَا نَوى» .
هَذَا الحَدِيث أحد أَرْكَان الإِسلام وقواعد الإِيمان. وَهُوَ صَحِيح جليل مُتَّفق عَلَى صِحَّته، مجمع عَلَى عظم موقعه وجلالته وثبوته من حَدِيث الإِمام أبي سعيد يَحْيَى بن سعيد بن قيس الْأنْصَارِيّ، رَوَاهُ عَنهُ حفاظ الإِسلام وأعلام الْأَئِمَّة: إِمَام دَار الْهِجْرَة، أَبُو عبد الله مَالك بن أنس، وَشعْبَة بن الْحجَّاج، والحمادان: حَمَّاد بن زيد وَحَمَّاد بن سَلمَة، والسفيانان: (سُفْيَان) الثَّوْريّ وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَاللَّيْث بن سعد، وَيَحْيَى بن سعيد الْقطَّان، وَعبد الله بن الْمُبَارك، وَيزِيد بن هَارُون، وَأَبُو (عمر) حَفْص بن غياث، وَأَبُو خَالِد الْأَحْمَر، وَعبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وخلائق لَا يُحصونَ كَثِيرَة.
قَالَ أَبُو سعيد مُحَمَّد بن عَلّي الخشاب الْحَافِظ: رَوَى هَذَا (الحَدِيث) عَن يَحْيَى بن سعيد نَحْو من مِائَتَيْنِ وَخمسين رجلا.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ: سَمِعت الْحَافِظ أَبَا مَسْعُود
(1/654)
عبد الْجَلِيل بن أَحْمد يَقُول فِي المذاكرة: قَالَ الإِمام عبد الله الْأنْصَارِيّ: كتبت هَذَا الحَدِيث عَن سَبْعمِائة نفر من أَصْحَاب يَحْيَى بن سعيد.
أخرجه الْأَئِمَّة: أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس فِي «مُخْتَصر الْبُوَيْطِيّ» ، وَأحمد بن حَنْبَل فِي «مُسْنده» ، وَأَبُو عبد الله البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» فِي سَبْعَة مَوَاضِع مِنْهُ، فَرَوَاهُ فِي أول كِتَابه، ثمَّ فِي الْإِيمَان، ثمَّ فِي الْعتْق، ثمَّ فِي الْهِجْرَة، ثمَّ فِي النِّكَاح، ثمَّ فِي النذور، ثمَّ فِي ترك الْحِيَل.
وَرَوَاهُ مُسلم فِي كتاب الْجِهَاد من طرق (عدَّة) . وَأخرجه أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فِي الطَّلَاق، وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» فِي الْحُدُود، وَأَبُو عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ فِي
(1/655)
الْإِيمَان وَالطَّهَارَة وَالرَّقَائِق وَالطَّلَاق، وَأَبُو عبد الله بن مَاجَه الْقزْوِينِي فِي «سنَنه» فِي الزّهْد، ثمَّ أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ، وَأَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنَيْهِمَا) ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَلم يبْق من أَصْحَاب الْكتب الْمُعْتَمد عَلَيْهَا من لم يُخرجهُ سُوَى مَالك فَإِنَّهُ لم يُخرجهُ فِي «الْمُوَطَّأ» ، نعم رَوَاهُ (خَارِجهَا) كَمَا سَيَأْتِي بَيَان طَرِيقه.
وَأخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث مَالك. وَلَفظ روايتهم: عَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات وَإنِّمَا (لكل اِمْرِئٍ) مَا نَوى. فَمن كَانَت هجرتهُ إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله، وَمن كَانَت هجرته لدُنْيَا يُصِيبهَا أَو امْرَأَة ينْكِحهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ» . وَلَفظ مُسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّة وَإنِّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوى» ، الحَدِيث. وللبخاري: «العَمَلُ بِالنِّيَّةِ» . وَله: «إِنَّمَا
(1/656)
الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، كَمَا سبق. وَله: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّة» . وَله: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّة» ، كَلَفْظِ مُسلم. وَله: «يَا أَيُّهَا النَّاسِ إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّة» .
وَأما الَّذِي وَقع فِي أول كتاب «الشهَاب» للقضاعي: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات» ، فَجمع الْأَعْمَال والنيات، وَحذف «إِنَّمَا» . فَنقل النَّوَوِيّ فِي كِتَابه الْمُسَمَّى «ببستان العارفين» وإملائه عَلَى هَذَا الحَدِيث وَلم يكملهما، عَن الْحَافِظ أبي مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ أَنه قَالَ: لَا يَصح إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، وَأقرهُ عَلَيْهِ. وَفِيمَا قَالَه نظر، فقد أخرجه كَذَلِك حَافِظَانِ وَحكما بِصِحَّتِهِ.
أَحدهمَا: أَبُو حَاتِم بن حبَان فَإِنَّهُ أوردهُ فِي «صَحِيحه» عَن عَلّي بن مُحَمَّد (القبابي) ، ثَنَا عبد الله بن هَاشم الطوسي، [حَدَّثَنَا يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان] ، ثَنَا يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن عَلْقَمَة بن وَقاص، عَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات» ، الحَدِيث بِطُولِهِ.
الثَّانِي: الْحَاكِم أَبُو عبد الله فَإِنَّهُ أوردهُ فِي كتاب «الْأَرْبَعين فِي شعار
(1/657)
أهل الحَدِيث» ، عَن أبي بكر بن خُزَيْمَة، ثَنَا أَبُو مُسلم، ثَنَا القعْنبِي، ثَنَا مَالك، عَن يَحْيَى بن سعيد، كَمَا ذكره ابْن حبَان سَوَاء ثمَّ حكم بِصِحَّتِهِ.
وَرَوَاهُ ابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» ، بِلَفْظ آخر وَهُوَ: «إِنَّ الأَعْمَال بِالنِّيَّة وَإنَّ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مَا نَوى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهجرَته إِلَى (مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ اِمْرَأةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلىَ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
تَنْبِيهَات مهمة: أَحدهَا: هَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غير عمر بن الْخطاب من الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم نَحْو عشْرين صحابيًا، وَإِن كَانَ الْبَزَّار قَالَ: لَا نعلم يروي هَذَا الْكَلَام إلاَّ عَن عمر بن الْخطاب عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِهَذَا الإِسناد. وَكَذَا ابْن السكن فِي كِتَابه الْمُسَمَّى ب «السّنَن الصِّحَاح» ، حَيْثُ قَالَ: وَلم (يروه) عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِإِسْنَاد غير عمر بن الْخطاب.
ذكر الْحَافِظ أَبُو يعْلى الْقزْوِينِي فِي كِتَابه «الإِرشاد» من رِوَايَة مَالك، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ عَن زيد بن أسلم (بِوَجْه) ، فَهَذَا مِمَّا أَخطَأ فِيهِ الثِّقَة عَن الثِّقَة.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «أَحَادِيث مَالك الَّتِي لَيست فِي الْمُوَطَّأ» وَلَفظه: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ اِمْرِئٍ مَا نَوى» ، إِلَى آخِره. ثمَّ قَالَ:
(1/658)
تفرد بِهِ (عبد الْمجِيد عَن) مَالك وَلَا نعلم حدَّث بِهِ عَن عبد الْمجِيد غير نوح بن حبيب وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد العتيقي.
وَقَالَ ابْن مَنْدَه الْحَافِظ فِي جمعه لطرق هَذَا الحَدِيث: رَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غير عمر: سعد بن أبي وَقاص، وَعلي بن أبي طَالب، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَعبد الله بن مَسْعُود، وَعبد الله بن عمر، وَأنس، وَابْن عَبَّاس، وَمُعَاوِيَة، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَعبادَة بن الصَّامِت، وَعتبَة بن عبد السّلمِيّ، وهلال بن سُوَيْد، وَعقبَة بن عَامر، وَجَابِر بن عبد الله، وَأَبُو ذَر، وَعتبَة بن النُّدَّر، وَعقبَة بن مُسلم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
قُلْتُ: وَله شَاهِدَانِ (أَيْضا) صَحِيحَانِ: حَدِيث: «وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنَيِةٌ» ؛ وَحَدِيث: «يُبْعَثُونَ عَلَى نِيِّاتِهِم» .
(1/659)
الثَّانِي: هَذَا الحَدِيث فَرد غَرِيب باعتبارٍ، مَشْهُور باعتبارٍ آخر وَلَيْسَ بمتواتر، بِخِلَاف مَا يَظُنّهُ بعض النَّاس، فإنَّ مَدَاره عَلَى يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ كَمَا سلف.
قَالَ الْحفاظ: لَا يَصح هَذَا الحَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إلاَّ من جِهَة عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَلَا عَن عمر إلاَّ من جِهَة عَلْقَمَة، وَلَا عَن عَلْقَمَة إلاَّ من جِهَة مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، وَلَا عَن مُحَمَّد إِلَّا من جِهَة يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَعَن يَحْيَى اشْتهر، فَرَوَاهُ جماعات لَا يُحصونَ فَوق الْمِائَتَيْنِ كَمَا أسلفته، وَأَكْثَرهم أَئِمَّة معروفون. نَبَّه عَلَى ذَلِكَ النَّوَوِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا ذكرت هَذَا لِأَنَّهُ قد يخْفَى عَلَى بعض من لَا يعاني الحَدِيث، فيتوهم أَنه متواتر لشدَّة شهرته وَعدم مَعْرفَته بفقد شَرط التَّوَاتُر (فِي أَوله) .
قُلْتُ: وَقد توبع عَلْقَمَة والتيمي وَيَحْيَى بن سعيد عَلَى روايتهم. قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عَن عمر غير عَلْقَمَة: ابْنه عبد الله، وَجَابِر، وَأَبُو جُحَيْفَة، وَعبد الله بن عَامر بن ربيعَة، وَذُو الكلاع، وَعَطَاء بن يسَار، و (نَاشِرَة بن سمي) ، وواصل بن (عَمْرو) الجذامي، وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر. وَرَوَاهُ عَن عَلْقَمَة غير التَّيْمِيّ: سعيد بن الْمسيب، وَنَافِع مولَى ابْن عمر. وتابع يَحْيَى بن سعيد عَلَى رِوَايَته (عَن التَّيْمِيّ) مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَلْقَمَة أَبُو الْحسن اللَّيْثِيّ، وَدَاوُد
(1/660)
بن أبي الْفُرَات، وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن يسَار، وحجاج بن أَرْطَاة وَغَيرهم.
الثَّالِث: هَذَا الحَدِيث اسْتحبَّ الْعلمَاء أَن تستفتح بِهِ المصنفات وَمِمَّنْ ابْتَدَأَ بِهِ: إِمَام الحَدِيث بِلَا مدافعة أَبُو عبد الله البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَنقل جماعات من السّلف (أَنهم) كَانُوا يستحبون افْتِتَاح الْكتب بِهَذَا الحَدِيث تَنْبِيها للطَّالِب عَلَى تَصْحِيح النِّيَّة. وَقَالَ الإِمام أَبُو سعيد عبد الرَّحْمَن بن مهْدي: من أَرَادَ أَن يصنف كتابا فليبدأ بِهَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: لَو صنفت كتابا لبدأت فِي كل بَاب مِنْهُ بِهَذَا الحَدِيث.
وَقَالَ الْخطابِيّ: كَانَ المتقدمون من شُيُوخنَا يستحبون تَقْدِيم هَذَا الحَدِيث أَمَام كل شَيْء (يُنشأ ويُبتدأ) من أُمُور الدَّين لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ فِي جَمِيع أَنْوَاعهَا.
الرَّابِع: هَذَا الحَدِيث أحد الْأَحَادِيث الَّتِي عَلَيْهَا مدَار الإِسلام، وَقد اخْتلف فِي عَدِّها. فَقيل ثَلَاثَة: هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يعْنِيهِ» ، وَحَدِيث «الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» .
قَالَ الْحَافِظ حَمْزَة بن مُحَمَّد الْكِنَانِي: سَمِعت أهل الْعلم يَقُولُونَ:
(1/661)
هَذِه الثَّلَاثَة أَحَادِيث هِيَ الإِسلام. وكل حَدِيث مِنْهَا ثلث الإِسلام، وَقيل أَرْبَعَة قَالَه أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيرهمَا، بِزِيَادَة (حَدِيث) : «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبكَ اللهُ» . وَقيل اثْنَان، وَقيل وَاحِد.
وَقَالَ أَبُو بكر الْخفاف من قدماء أَصْحَابنَا: رُوِيَ عَن الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: مدَار الإِسلام عَلَى أَرْبَعمِائَة حَدِيث. ثمَّ نقل عَن ابْن الْمَدِينِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي أَن مَدَاره عَلَى أَرْبَعَة أَحَادِيث «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، و «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَث» ، و «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ» ، و «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» .
ثمَّ نقل عَن إِسْحَاق أَنه قَالَ: مَدَاره عَلَى ثَلَاثَة: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات» ، وَحَدِيث عَائِشَة: «مَنْ أَدْخَلَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهْوَ رَدٌّ» ،
(1/662)
وَحَدِيث النُّعْمَان: «الحَلاَل بَيِّنٌ» . نقلت ذَلِكَ كُله من كتاب: الْأَقْسَام والخصال، وَلم أرَ لغيره تعرضًا لذَلِك، فاستفده.
قَالَ الشَّافِعِي: يدْخل هَذَا الحَدِيث - (أَعنِي حَدِيث إِنَّمَا الْأَعْمَال بالنيَّات) - فِي سبعين بَابا من الْفِقْه. وَقَالَ أَيْضا: هُوَ ثلث الْعلم.
وَكَذَا قَالَه الإِمام أَحْمد وَغَيره.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: سَببه أَن كسب العَبْد بِقَلْبِه وَلسَانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثَّلَاثَة وأرجحها لِأَنَّهَا تكون عبَادَة بانفرادها بِخِلَاف الْقسمَيْنِ الْأَخيرينِ. وَلِهَذَا كَانَ نِيَّة الْمُؤمن خير من عمله، وَلِأَن القَوْل وَالْعَمَل يدخلهما الْفساد بالرياء، بِخِلَاف النِّيَّة.
وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي: يدْخل هَذَا الحَدِيث فِي ثَلَاثِينَ بَابا من (الإِرادات والنيات) .
وَقَالَ عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ: أُمَّهَات الحَدِيث أَرْبَعَة، هَذَا أَحدهَا.
وَقَالَ أَبُو عبيد: لَيْسَ من أَخْبَار النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَدِيث أجمع وَأكْثر فَائِدَة وأبلغ من هَذَا الحَدِيث.
الْخَامِس: لَفْظَة «إِنَّمَا» مَوْضُوعَة للحصر تثبت الْمَذْكُور وتنفي مَا سواهُ، هَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور من أهل اللُّغَة وَالْأُصُول وَغَيرهم.
(1/663)
قَالَ الْعلمَاء: وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ أَنه لَا يكون الْعَمَل (شَرْعِيًّا) يتَعَلَّق بِهِ عِقَاب، وَلَا ثَوَاب إلاَّ بِالنِّيَّةِ.
قَالَ الْخطابِيّ: وَأفَاد قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «وإِنَّمَا لِكُلِّ اِمْرِئٍ مَا نَوى» ، فَائِدَة لم تحصل بقوله: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» (وَهِي) : أَن تعْيين الْعِبَادَة المنوية شرطٌ لصحتها» .
وَقَالَ غَيره: مَعْنَى الحَدِيث: لَا يَصح عمل من غير نِيَّة، فَإِن صورته تُوجد من غير نِيَّة. فنفى الحكم وأكده بقوله: «وَإنِّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوى» .
السَّادِس: أصل الْهِجْرَة التّرْك. وَالْمرَاد بهَا ترك الوطن والانتقال إِلَى غَيره. وَهَذَا الحَدِيث ورد عَلَى سَبَب. وَهُوَ أَن امْرَأَة كَانَت بِالْمَدِينَةِ يُقَال لَهَا أم قيس. وَيُقَال أَن اسْمهَا قيلة، فَهَاجَرَ بَعضهم إِلَى الْمَدِينَة بنية (التَّزَوُّج) بهَا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (ذَلِكَ) ، فَسُمي مهَاجر أم قيس.
السَّابِع: قَوْله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ -: «إِلَى دُنْيَا» هُوَ مَقْصُور غير منون عَلَى الْمَشْهُور، وَيجوز فِي لُغَة غَرِيبَة تنوينها. (وَفِي) حَقِيقَة الدُّنْيَا قَولَانِ لِأَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمين:
أَحدهمَا: مَا عَلَى الأَرْض مَعَ الْهَوَاء والجو.
وَالثَّانِي: كل الْمَخْلُوقَات من الْجَوَاهِر والأعراض الْمَوْجُودَة قبل الدَّار الْآخِرَة. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر.
هَاهُنَا سُؤال مَشْهُور، وَهُوَ: كَيفَ ذكرت الْمَرْأَة مَعَ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهَا
(1/664)
دَاخِلَة (فِيهَا) ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من أوجه:
أَحدهَا: أَنه لَا يلْزم دُخُولهَا فِي هَذِه الصِّيغَة؛ لِأَن لَفْظَة دنيا نكرَة وَهِي لَا تعم فِي الْإِثْبَات، فَلَا يلْزم دُخُول الْمَرْأَة فِيهَا.
الثَّانِي: أَن هَذَا الحَدِيث قد ورد عَلَى سَبَب كَمَا مر فَذكرت الْمَرْأَة لأجل تَبْيِين السَّبَب.
الثَّالِث: أَنه للتّنْبِيه عَلَى زِيَادَة التحذير من الْمَرْأَة، وَقد جَاءَ ذكر الْخَاص بعد الْعَام تَنْبِيها عَلَى مزيته فِي عدَّة آيَات من الْقُرْآن.
مِنْهَا قَوْله - تَعَالَى -: (حَافظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى) .
وَمِنْهَا قَوْله - تَعَالَى -: (وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح) الْآيَة.
وَمِنْهَا قَوْله - تَعَالَى -: (من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله) .
وَلَيْسَ من هَذَا قَوْله - تَعَالَى -: (فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان) وَإِن كَانَ بعض النَّاس يغلط فيعده مِنْهُ، لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق الإِثبات، فَلَا عُمُوم فِيهَا، فَلَا يلْزم أَن يكون النّخل وَالرُّمَّان (داخلين) فِي الْفَاكِهَة. لَكِن قد يُقَال إِنَّهَا ذكرت فِي معرض الْمِنَّة (فَيعم) .
وَقد جَاءَ أَيْضا فِي الْقُرْآن عكس هَذَا، وَهُوَ ذكر الْعَام بعد الْخَاص. كَقَوْلِه تَعَالَى إِخْبَارًا عَن إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ -: (رَبنَا اغْفِر
(1/665)
لي ولوالدي وَلِلْمُؤْمنِينَ) .
وَقَوله - تَعَالَى - إِخْبَارًا عَن نوح: (رب اغْفِر لي ولوالدي وَلمن دخل بَيْتِي مُؤمنا وَلِلْمُؤْمنِينَ) .
فَهَذِهِ أحرف مختصرة من الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث وَقد نبهنا بِمَا ذكرنَا عَلَى مَا أهملنا، وَلَوْلَا خوف الإِطالة وَخُرُوج الْكتاب عَن مَوْضُوعه لذكرنا هُنَا نفائس، وَهَذَا الْقدر فِي هَذَا (التصنيف) كافٍ - إِن شَاءَ الله - وَقد أوضحته أحسن إِيضَاح فِي كتابي الْمُسَمَّى ب «الإِعلام (بفوائد) عُمْدَة الْأَحْكَام» ، (وَهُوَ كتاب جليل أعَان الله عَلَى إكماله وَقد فعل) ، وَكَذَا فِي «شرح البُخَارِيّ» أعَان الله عَلَى إكماله وَقد فعل.
الحَدِيث الثَّانِي
رُوِيَ «أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأَى رَجُلًا غَطَّى لِحْيَتَهُ وَهْوَ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ: اِكْشِفْ لِحْيَتَكَ فَإِنَّها مِنْ الْوَجْهِ» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب جدا لَا أعلم من خرَّجه. قَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين: قَالَ الْحَازِمِي: هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، وَله إِسْنَاد مظلم، وَلَا يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي هَذَا الْبَاب شَيْء، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» : ذكر الْحَازِمِي - وَكَانَ ثِقَة من حفاظ عصرنا - أَن هَذَا حَدِيث ضَعِيف، وَأَنه لَا يثبت فِي هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْء.
(1/666)
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث وجد فِي أَكثر النّسخ من الْمُهَذّب، وَلم يُوجد فِي بَعْضهَا. وَكَذَا لم يَقع فِي نُسْخَة قيل إِنَّهَا مقروءة عَلَى المُصَنّف قَالَ: وَهُوَ مَنْقُول عَن رِوَايَة ابْن عمر، ثمَّ نقل كَلَام الْحَازِمِي الْمُتَقَدّم. وصرَّح فِي «الْخُلَاصَة» بضعفه أَيْضا، فَإِنَّهُ ذكره فِي فصل الضَّعِيف.
الحَدِيث الثَّالِث
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأَ فَغَرَفَ غُرْفَةً غَسَلَ بِهَا وَجْهَهُ وَكَانَ كَثَّ اللِّحْيَةِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَنه تَوَضَّأ فَأخذ غرفَة من مَاء فَتَمَضْمَض بهَا واستنشق، ثمَّ أَخذ غرفَة من مَاء فَجعل بهَا هَكَذَا، أضافها إِلَى يَده الْأُخْرَى فَغسل بهَا وَجهه، ثمَّ أَخذ غرفَة من مَاء فَغسل بهَا يَده الْيُمْنَى، ثمَّ أَخذ غرفَة من مَاء فَغسل بهَا يَده الْيُسْرَى، ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ، ثمَّ أَخذ غرفَة من مَاء فرش بهَا عَلَى رجله الْيُمْنَى حَتَّى غسلهَا، ثمَّ أَخذ غرفَة من مَاء فَغسل بهَا رجله - يَعْنِي الْيُسْرَى - ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يتَوَضَّأ» .
هَذَا لفظ رِوَايَة البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» . وَأما أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ كث اللِّحْيَة: فَصَحِيح مَعْرُوف. قَالَ القَاضِي عِيَاض: ورد ذَلِكَ (فِي)
(1/667)
حَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة بأسانيد صَحِيحَة. انْتَهَى.
وَمن ذَلِكَ مَا أخرجه مُسلم فِي أَفْرَاده من حَدِيث جَابر بِلَفْظ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَثِيرُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ» .
وَفِي «دَلَائِل النُّبُوَّة» للبيهقي، من حَدِيث عَلّي - كرَّم الله وَجهه - قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (ضَخْمُ) الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ» .
وَفِي رِوَايَة: « (كَثُّ) اللِّحْيَةِ» ، وَفِي رِوَايَة: «عَظِيمُ اللِّحْيَةِ» .
وفيهَا أَيْضا من حَدِيث أم معبد الْخُزَاعِيَّة لما وَصفته (كُله: و) فِي لحيته كَثَافَة. وفيهَا أَيْضا من حَدِيث هِنْد بن أبي هَالة أَنه ذكر فِي صفته (، «أَنَّهُ كَانَ كَثَّ اللِّحْيَةِ» .
وفيهَا أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا وَصفته (بذلك (أَيْضا) . وَفِيه: «والكث الْكثير النَّابِت الشّعْر، المُلْتَفُّهَا» .
وَفِي إِسْنَاد هَذَا الطَّرِيق رجل لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ.
وفيهَا أَيْضا فِي بَاب صفته (فِي التَّوْرَاة وَغَيرهَا عَن مقَاتل بن حَيَّان، قَالَ: «أَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَم: صَدِّقُوا النَّبِيَّ
(1/668)
الأُمِّيَّ الْعَرَبِيَّ» ، ثُمَّ ذَكَرَ صِفَتَهُ، وَفِيهِ: «الْكَثّ اللِّحْيَةِ» .
وعزى هَذَا الحَدِيث - أَعنِي الَّذِي ذكره الإِمام الرَّافِعِيّ - الشَّيْخ زكي الدَّين فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب إِلَى النَّسَائِيّ وَحده، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ، فعزوه إِلَى البُخَارِيّ أولَى.
الحَدِيث الرَّابِع
رُوِيَ «أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذَا تَوَضّأَ (أَدَارَ) المَاءَ عَلَى مرْفَقَيْهِ» ، وَيُروَى «أَنَّهُ (أَدَارَ) المَاءَ عَلَى مرْفَقَيْهِ، ثَمَّ (قَالَ) : هَذَا وضُوءٌ لاَ يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأوَّل: الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من رِوَايَة عباد بن يَعْقُوب، ثَنَا الْقَاسِم بن مُحَمَّد (بن عبد الله بن مُحَمَّد) بن عقيل، عَن جدِّه، عَن جَابر بن عبد الله، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَن سُوَيْد بن سعيد، عَن الْقَاسِم بالسند الْمَذْكُور عَن جَابر، قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُدِيرُ المَاءَ عَلَى المرْفَقِ» . وَسكت الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن هَذَا الحَدِيث، وَلم يعقباه بتصحيح وَلَا بِتَضْعِيف. وَذكره الشَّيخ زكي الدَّين فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» بِإِسْنَادِهِ، ثمَّ بَيَّضَ لَهُ بَيَاضًا. وكأنَّه - وَالله أعلم - إنَّما فعل ذَلِكَ
(1/669)
(لضَعْفه) ، وَهُوَ ضَعِيف كَمَا صرح بِهِ الشَّيخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» وَلم يبَيِّن سَبَب ضعفه.
وَأَقُول: سَببه أَن فِي إِسْنَاده (ثَلَاثَة) رجال مُتَكَلم فيهم.
أحدهم: عباد بن يَعْقُوب الروَاجِنِي، رَوَى لَهُ البُخَارِيّ مَقْرُونا بآخر، قَالَ فِي حقِّه ابْن حبَان: إِنَّه رَافِضِي دَاعِيَة، يروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير، فاستحقَّ التَّرك.
الثَّانِي: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عقيل، قَالَ ابْن عدي: قَالَ الإِمام أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ الْعقيلِيّ: قَالَ عبد الله بن أَحْمد: سَأَلت يَحْيَى بن معِين عَنهُ فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: أَحَادِيثه مُنكرَة، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث. وَخَالف أَبُو حَاتِم (بن حبَان) ، فَذكره فِي «ثقاته» فِي أَتبَاع التَّابعين. وَهَذِه قولة مِنْهُ تفرد بهَا. وَقد نصَّ غير وَاحِد من الْحفاظ عَلَى ضعف هَذَا الحَدِيث بِسَبَب الْقَاسِم هَذَا. فَقَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» بعد استدلاله بِهِ: هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، ثمَّ ذكر مقَالَة أَحْمد وَأبي حَاتِم فِي الْقَاسِم.
(1/670)
وَقَالَ الشَّيخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» - بعد رِوَايَته لَهُ من طَرِيق الدَّارقطني وَالْبَيْهَقِيّ -: سكت عَنهُ الْبَيْهَقِيّ، وَلم يتعرَّض لَهُ بِشَيْء. ثمَّ نقل مَا قدمْنَاهُ عَن الْأَئِمَّة فِي تَضْعِيف الْقَاسِم.
وَقَالَ ابْن الصّلاح، ثمَّ النَّووي فِي كَلَامهمَا عَلَى «الْمُهَذّب» : إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ضَعِيف.
وَالثَّالِث: جده عبد الله بن مُحَمَّد (بن عقيل) . وَفِيه مقَال قريب سَنذكرُهُ وَاضحا - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - فِي أخريات هَذَا الْبَاب.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : فِي بَاب لَا يتَطَهَّر بِالْمُسْتَعْملِ لم يكن بِالْحَافِظِ وَأهل الْعلم (مُخْتَلفُونَ) فِي الِاحْتِجَاج بِرِوَايَاتِهِ.
وسُويد (بن سعيد) ، (فِي الراوية الْأُخْرَى) وَإِن أخرج لَهُ مُسلم، فقد قَالَ ابْن معِين: هُوَ حَلَال الدَّم. (وَقَالَ) : كَذَّاب سَاقِط، لَو كَانَ (فِي يَدي) فرس ورمح (كنت) أغزوه. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق وَكَانَ كثير
(1/671)
التَّدليس. وَقيل: إِنَّه عمي فِي آخر عمره، فَرُبمَا لقن مَا لَيْسَ فِي حَدِيثه، فَمن سمع مِنْهُ وَهُوَ بَصِير فَحَدِيثه عَنهُ حسن. وَقَالَ أَحْمد: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ البُخَارِيّ: كَانَ قد عمي فتلقن مَا (لَيْسَ) من حَدِيثه.
وَقَالَ ابْن حبَان: يَأْتِي بالمعضلات عَن الثِّقَات، يجب مجانبة مَا رَوَى. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ ثِقَة، (غير أَنه لما كبر) قُرئ عَلَيْهِ حَدِيث فِيهِ بعض (النكارة) فيجيزه.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب من قَالَ لَا يقْرَأ: تغيَّر بِأخرَة، فَكثر الْخَطَأ فِي رِوَايَته.
قُلْتُ: ويغني عَن هَذَا الحَدِيث فِي الدّلَالَة عَلَى دُخُول الْمرْفقين فِي غسل الْيَد حَدِيث أبي هُرَيْرَة الثَّابِت فِي «صَحِيح مُسلم» : «أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغََسَلَ يَدَيهِ حتَّى أَشْرَعَ فِي العَضدَيْنِ، وَغَسَلَ رِجْلَيهِ حتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَتَوَضَّأ» .
وَسَيَأْتِي بِطرقِهِ عقب هَذَا الحَدِيث. فَثَبت بِهَذَا أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غسل مرفقيه، وَفعله بَيَان للْوُضُوء الْمَأْمُور بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: (وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق) ، وَلم ينْقل تَركه ذَلِكَ.
(1/672)
الحَدِيث الْخَامِس
قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فَمَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وَلَفظ البُخَارِيّ: عَن نعيم بن عبد الله المجمر، قَالَ: «رقيت مَعَ أبي هُرَيْرَة عَلَى ظهر الْمَسْجِد، فتوضَّأ ثمَّ قَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِين مِنْ آثَارِ الوضُوءِ. فَمَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ (وَتَحْجِيلَهُ) فَلْيَفْعَلْ» .
وَلَفظ مُسلم: عَن نعيم المجمر، قَالَ: «رَأَيْت أَبَا هُرَيْرَة يتوضَّأ فَغسل وَجهه فأسبغ الْوضُوء، ثمَّ غسل يَده الْيُمْنَى حتَّى أشرع فِي الْعَضُد، ثمَّ (غسل) يَده الْيُسْرَى حتَّى أشرع فِي الْعَضُد، ثمَّ مسح رَأسه، ثمَّ غسل رجله الْيُمْنَى حتَّى أشرع فِي السَّاق، ثمَّ غسل رجله الْيُسْرَى حتَّى أشرع فِي السَّاق ثمَّ قَالَ: (هَكَذَا رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتوضَّأ، وَقَالَ) قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُون يَوْمَ الْقِيَامَةِ [من إسباغ الْوضُوء] ، فَمَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وتَحْجِيلِهِ» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن نعيم: «رَأَيْت أَبَا هُرَيْرَة يتوضَّأ، فَغسل وَجهه وَيَديه حتَّى كَاد يبلغ الْمَنْكِبَيْنِ، ثمَّ غسل رجلَيْهِ حتَّى رفع إِلَى السَّاقين، ثمَّ
(1/673)
قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِين مِنْ أَثَرِ الوضُوءِ، فَمَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» .
قَوْله: «أشرع» هُوَ بالشين الْمُعْجَمَة. قَالَ بَعضهم: الْمَعْرُوف شرع. وَقد حُكيَ فِيهِ شرع وأشرع. وَهَذِه اللَّفْظَة مَوْجُودَة فِي «الْمُسْتَخْرج» لأبي نعيم عَلَى كتاب مُسلم: (أَسْبغ) فِي الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة، بدل «أشرع» . أَفَادَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» .
قَالَ أهل اللُّغَة: الغرَّة بَيَاض فِي (جبهة) الْفرس، والتَّحجيل بَيَاض فِي يَديهَا ورجليها. قَالَ الْعلمَاء: يُسمى النُّور الَّذِي يكون عَلَى مَوَاضِع الْوضُوء يَوْم الْقِيَامَة غرَّة وتحجيلًا تَشْبِيها بغرَّة الْفرس وتحجيلها.
ونعيم المُجْمِر الرَّاوِي عَن أبي هُرَيْرَة: بِضَم الْمِيم الأولَى وَإِسْكَان الْجِيم وَكسر الْمِيم الثَّانِيَة. وَيُقَال لَهُ المُجَمِّر، بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم الثَّانِيَة الْمَكْسُورَة. وَقيل لَهُ المجمر؛ لأنَّه كَانَ يجمر مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَي يبخره. كَذَا قَالَه النَّووي فِي «شَرحه لمُسلم» .
وَقَالَ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان: وَإِنَّمَا قيل المجمر؛ لِأَن أَبَاهُ كَانَ أَخذ المجمرة قُدَّام عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إِذا خرج إِلَى الصَّلَاة فِي (شهر) رَمَضَان.
(1/674)
و (اعْلَم) : أنَّ المجمر وصف لعبد الله، كَمَا قَرّرته، (وَيُطلق) عَلَى ابْنه نعيم مجَازًا.
الحَدِيث السّادس
«أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَسَحَ فِي وضُوئِهِ (بِنَاصِيَتِهِ) وَعَلَى عمَامَتِهِ (وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ) » .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة حَمْزَة بن الْمُغيرَة بن شُعْبَة، عَن أَبِيه «أَنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّين وَمقدمِ رَأْسِهِ وَعَلَى عمَامَتِهِ» .
وَرَوَاهُ مُسلم، أَيْضا من رِوَايَة عُرْوَة بن الْمُغيرَة عَن أَبِيه قَالَ: «تخلف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَتَخَلَّفت مَعَه، فَلَمَّا قَضَى حَاجته قَالَ: (أَمَعَكَ) مَاء؟ ، فَأَتَيْته بمطهرة فَغسل كفيه [وَوَجهه، ثمَّ ذهب يحسر عَن ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كم الْجُبَّة] ، فَأخْرج يَده من تَحت الْجُبَّة فَألْقَى الْجُبَّة عَلَى مَنْكِبَيْه، وَغسل ذِرَاعَيْهِ وَمسح بناصيته وَعَلَى الْعِمَامَة، وَعَلَى خفيه، ثمَّ ركب، وَركبت ... » الحَدِيث.
وممّا يَنْبَغِي لَك أَن تتنبَّه لَهُ أَيهَا الْفَقِيه الْمُحدث أنَّ الشَّيْخ زكي الدَّين
(1/675)
فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب، قَالَ بعد أَن أخرج هَذَا الحَدِيث: اتَّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه، وَهَذَا وهم مِنْهُ، فَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ أصلا، فاستفد ذَلِكَ وَإِيَّاك والتَّقليد فِي شَيْء من النُّقول فإنَّه مَذْمُوم، ثمَّ رَأَيْت بعد ذَلِكَ مَا لَعَلَّه سَبَب وهمه، وَهُوَ أَن الشَّيْخ جمال الدَّين ابْن الْجَوْزِيّ وَقع لَهُ ذَلِكَ فِي «تَحْقِيقه» ، فَقَالَ عقبه: أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَكَثِيرًا مَا يقلده الشَّيْخ زكي الدَّين فِي الْكتاب الْمَذْكُور.
الناصية: مقدم الرَّأْس. وَجَاء عَنهُ (مَا ظَاهره إِفْرَاد الناصية بِالْمَسْحِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن أَحْمد بن صَالح، (ثَنَا) ابْن وهب، حَدَّثَنَي مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن عبد الْعَزِيز بن مُسلم، عَن أبي معقل، عَن أنس قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ وَعَلِيهِ عِمَامَة قطرية فَأدْخل يَده من تَحت الْعِمَامَة، فَمسح مقدم رَأسه وَلم ينْقض الْعِمَامَة» .
كل رِجَاله فِي الصَّحِيح إلاَّ عبد الْعَزِيز بن مُسلم وَأَبا معقل، وهما مستوران لَا أعلم من جرحهما وَلَا من وثقهما. وَإِن وثق الأوَّل ابْن حبَان وَحده.
والأصحَّ أنَّه لَا يجوز الِاحْتِجَاج بهما وَالْحَالة هَذِه. لَا جرم، قَالَ ابْن الْقطَّان: إِنَّه حَدِيث لَا يَصح، قَالَ ابْن السكن: لم يثبت إِسْنَاده. قَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ كَمَا قَالَ، أَبُو معقل: مَجْهُول الِاسْم وَالْحَال.
(1/676)
وَعبد الْعَزِيز ذكره البُخَارِيّ بِهَذَا الحَدِيث، وَقَالَ [ابْن أبي حَاتِم] : رَوَى عَنهُ ابْن إِسْحَاق وَمُعَاوِيَة بن صَالح، وَلم يزدْ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : ولعلَّه عبد الْعَزِيز بن مُسلم الْقَسْمَلِي الْبَصْرِيّ الثِّقَة العابد الْمخْرج حَدِيثه فِي الصَّحِيحَيْنِ.
القِطريَّة: بِكَسْر الْقَاف نوع من البرود. قَالَ الْخطابِيّ: فِيهَا حمرَة.
الحَدِيث السّابع
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة يعْلى بن أُميَّة، قَالَ: «قُلْتُ لعمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إِنَّمَا قَالَ الله: (لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ) ، فقد أَمن النَّاس؟ فَقَالَ: عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[عَن ذَلِكَ] فَقَالَ: صَدَقَة تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» .
وَفِي «صَحِيح ابْن حبَان» : «فَاقْبَلُوا رُخْصَتَهُ» ، وَترْجم عَلَيْهِ أنَّه أَرَادَ بِالصَّدَقَةِ الرُّخْصَة. وَفِي «صَحِيحه» عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» .
(1/677)
وَأخرجه من حَدِيث ابْن عمر أَيْضا.
الحَدِيث الثّامن
رَوَى النُّعْمَان بن بشير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِإِقَامَة الصُّفُوف. فَرَأَيْت الرجل منا يلزق مَنْكِبه بمنكب أَخِيه وكعبه بكعبه» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» ، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من رِوَايَة أبي الْقَاسِم الجدلي، قَالَ: سَمِعت النُّعْمَان بن بشير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَقُول: «أقبل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَلَى النَّاس بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ - ثَلاَثًا - وَاللهِ (لَتُسَوُّنَّ) صُفُوَفكُمْ اَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» . قَالَ: فَرَأَيْت الرجل يلزق كَعبه بكعب صَاحبه (وركبته بركبة صَاحبه) ومنكبه بمنكبه» .
وَذكره ابْن السكن أَيْضا (فِي صحاحه) .
وَأخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه) تَعْلِيقا بِصِيغَة جزم، فَقَالَ فِي (أَبْوَاب) تَسْوِيَة الصّفوف: وَقَالَ النُّعْمَان بن بشير: رَأَيْت الرجل منا
(1/678)
يلصق كَعبه بكعب صَاحبه) . وتعليقات البُخَارِيّ إِذا كَانَت بِصِيغَة الْجَزْم تكون صَحِيحَة يحتجّ بهَا.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَلَفظه: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بِيْنَ (قُلُوبِكُمْ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَقَد رَأَيْت الرجل منا يلْتَمس منْكب أَخِيه بمنكبه وركبته بركبته وَقدمه بقدمه» .
قَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» : أَبُو الْقَاسِم (الجدلي) هَذَا هُوَ (حُسَيْن) بن الْحَارِث من جديلة قيس، رَوَى عَنهُ زَكَرِيَّا وَأَبُو مَالك - يَعْنِي الْأَشْجَعِيّ - وحجاج بن أَرْطَاة، وَعَطَاء بن السَّائب، عداده فِي الْكُوفِيّين.
وَقَالَ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : أَبُو الْقَاسِم هَذَا اسْمه (حُسَيْن) بن قيس من جديلة قيس، من (كبار التَّابِعين) .
وَقَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين: (اسْم) أبي الْقَاسِم (حُسَيْن) بن الْحَارِث، وَقد سمع من النُّعْمَان بن بشير، يعد فِي الكوفيِّين.
قَالَ: وَقَالَ الْحَازِمِي: لَا أعرف لَهُ عَن النُّعْمَان حَدِيثا مُسْندًا سُوَى هَذَا الحَدِيث.
(1/679)
وَاعْلَم: أَن الإِمام الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أورد هَذَا الحَدِيث محتجًا بِهِ عَلَى أَن الكعب هُوَ الْعظم الناتىء عِنْد مفصل السَّاق والقدم، رادًا عَلَى من يَقُول: إنَّه مجمع (عِنْد مفصل السّاق والقدم) ، وَكَذَلِكَ ترْجم لَهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» .
وممَّا يستدلّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضا - وَهُوَ غَرِيب عَزِيز - الحَدِيث الصَّحِيح، حَدِيث طَارق الْمحَاربي قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (مر) فِي سوق ذِي الْمجَاز وَعَلِيهِ حلَّة حَمْرَاء، وَهُوَ يَقُول: أَيُّهَا النَّاسُ: قُولُوا لاَ إِلهَ إِلاَّ الله تُفْلِحُوا، وَرجل يتبعهُ ويرميه بِالْحِجَارَةِ، وَقد أدْمَى (كَعبه وعرقوبه) وَهُوَ يَقُول: يَا أيّها النَّاس: لَا تطيعوه، فإنَّه كَذَّاب. فَقلت: من هَذَا؟ فَقَالُوا: إنَّه غُلَام بني عبد الْمطلب. فَقلت: من هَذَا الَّذِي يتبعهُ ويرميه بِالْحِجَارَةِ؟ فَقَالُوا: عبد الْعُزَّى أَبُو لَهب» .
اسْتدلَّ بذلك إِمَام الأئمَّة أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» . عَلَى أَن الكعب مَا قدمْنَاهُ، من حَيْثُ أَن الرَّمية إِذا (جَاءَت) من وَرَاء (المرمى) لَا تصيب ظهر الْقدَم، إِذا السَّاق مَانع أَن تصيب الرَّمية ظهر الْقدَم.
وَاسْتدلَّ لذَلِك ابْن خُزَيْمَة أَيْضا فِي «صَحِيحه» - وَتَبعهُ عَلَى ذَلِكَ
(1/680)
ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا - بِحَدِيث حمْرَان «أَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه دَعَا يَوْمًا بِوضُوء ... » ، فَذكر الحَدِيث فِي صفة وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى أَن قَالَ: «ثمَّ غسل رجله الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاث مَرَّات، واليسرى مثل ذَلِكَ» .
قَالَ ابْن خُزَيْمَة: فِيهِ دلَالَة عَلَى أَن الْكَعْبَيْنِ هما العظمان الناتئان فِي جَانِبي الْقدَم. إِذْ لَو كَانَ الْعظم الناتئ عَلَى ظهر الْقدَم لَكَانَ للرجل الْيُمْنَى كَعْب لَا كعبان.
الحَدِيث التَّاسِع
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَأُحِثْي عَلَى رَأْسِي ثَلاَثَ حثْيَاتٍ ثُمَّ أُفِيضُ، فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، مَرْوِيّ بِدُونِ هَذِه اللَّفْظَة الْأَخِيرَة، وَهُوَ قَوْله: «فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ» .
رَوَى البُخَارِيّ وَمُسلم فِي « (صَحِيحَيْهِمَا» ) من رِوَايَة جُبَير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أنَّه ذكر عِنْده الْغسْل من الْجَنَابَة، فَقَالَ: «أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلاثَ أَكُفٍّ» . وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: «أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلاَثًا» وَأَشَارَ بيدَيْهِ كلتيهما.
وَفِي رِوَايَة للإِمام أَحْمد فِي «مُسْنده» بِإِسْنَاد صَحِيح: «أَمَّا أَنَا
(1/681)
فَآخُذُ مِلْءَ كَفِّي ثَلاَثًا فَأَصُبّ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أُفِيضُ بَعْدَهُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِي» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه من حَدِيث جَابر «قُلْتُ: يَا رَسُول الله إنّا فِي أَرض بَارِدَة، فَكيف الْغسْل من الْجَنَابَة؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَحْثُوا عَلَى رَأْسِي ثَلاَثًا» . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «فَأَمَّا أَنَا (فَأَحْفِنُ) عَلَى رَأْسِي ثَلاَثًا» .
وأمَّا اللَّفْظَة الَّتِي ذكرهَا الإِمام الرَّافِعِيّ فِي آخر الحَدِيث وَهِي: «فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ» (فمروي) مَعْنَاهَا من حَدِيث أمّ سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها الثَّابِت فِي (صَحِيح) مُسلم، «قُلْتُ: يَا رَسُول الله: إنّي امْرَأَة أَشد ضفر رَأْسِي، أفأنقضه لغسل الْجَنَابَة؟ قَالَ: (لَا) إِنَّمَا يِكْفِيكِ أَنْ تُحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حثيَاتٍ ثُمَّ (تُفِيضِين) عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِين» .
وَجبير بن مُطْعِم، وَالِده بِضَم الْمِيم وَكسر الْعين. قَالَ النَّووي فِي «شرح المهذَّب» : لَا خلاف فِي ذَلِكَ، قَالَ: وإنَّما نبهت عَلَى (كسر الْعين) مَعَ أنَّه ظَاهر؛ لِأَنِّي رَأَيْت بعض من جمع (فِي) أَلْفَاظ
(1/682)
الْفِقْه، قَالَ: يُقَال بِفَتْح الْعين، قَالَ: وَهَذَا غلط لَا شكَّ فِيهِ وَلَا اخْتِلَاف.
الحَدِيث الْعَاشِر
رُوِيَ أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلَاة اِمْرِئٍ حتَّى يَضَعَ الطهورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِل وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيهِ ثُمَّ يَمْسَح رَأْسَهُ ثُمَّ يَغْسِل رِجْلَيهِ» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب بِهَذَا اللَّفْظ، لَا أعلم من خرَّجه كَذَلِك. وَقَالَ النَّووي فِي «شرح الْمُهَذّب» : إنَّه ضَعِيف غير مَعْرُوف. قُلْتُ: لَكِن رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ والنَّسائي عَن رِفَاعَة بن رَافع، قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْمَسْجِد، فَدخل رجل فَصَلى فِي نَاحيَة الْمَسْجِد، فَجعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرمقه، ثمَّ جَاءَ فَسلم فَرد عَلَيْهِ، وَقَالَ: اِرْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَرجع فَصَلى ثمَّ جَاءَ فَسلم عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: اِرْجِعْ (فَصَلِّ) فَإِنَّكَ لَمْ (تُصَلِّ) مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَة أَو الرَّابعة: وَالَّذِي بَعثك بالحقِّ لقد اجتهدت فِي نَفسِي، فعلمني وَأَرِنِي فَقَالَ: إِذَا أَردتَ أَنْ تُصَلِّي فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللهُ ... » الحَدِيث.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن (صَحِيح) .
وَفِي رِوَايَة للدارقطني: «لَا تتمَّ صَلَاة أحدكُم حتَّى يسبغ الْوضُوء
(1/683)
كَمَا أمره الله - تَعَالَى - فَيغسل وَجهه وَيَديه إِلَى الْمرْفقين وَيمْسَح بِرَأْسِهِ وَرجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» .
وَأورد هَذَا الحَدِيث أَبُو محمّد بن حزم فِي كِتَابه «المحلَّى» بِلَفْظ: «ثمَّ يغسل وَجهه» ، وَلَا يعرف ذَلِكَ. وَالْمَعْرُوف: «فَيغسل» ، بِالْفَاءِ، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَهُوَ أحد الْمَوَاضِع الَّتِي انتقدها عَلَيْهِ ابْن مفوز الْحَافِظ.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «السِّوَاكُ مَطُهَرِةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» .
هَذَا الحَدِيث مَشْهُور (وَارِد) من طرق، الَّذِي يحضرنا مِنْهَا سَبْعَة:
أَحدهَا، وَلَعَلَّه أشهرها: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «السِّوَاكُ مطهرةٌ لِلْفَمِّ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أبي عَتيق، قَالَ: سَمِعت أبي، قَالَ: سَمِعت عَائِشَة، فَذَكرته.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : الصَّحِيح أَن ابْن أبي عَتيق سَمعه من عَائِشَة وَذكر الْقَاسِم فِيهِ غير مَحْفُوظ.
(1/684)
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عَبدة بن سُلَيْمَان الْكلابِي، ثَنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن عبد الله بن مُحَمَّد، قَالَ: سَمِعت عَائِشَة تَقول: فَذَكرته.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» : أَبُو عَتيق هَذَا اسْمه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر بن أبي قُحَافَة، لَهُ من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رُؤْيَة. قَالَ: وَهَؤُلَاء (أَرْبَعَة) فِي نسق وَاحِد لَهُ كلهم رُؤْيَة من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَبُو قُحَافَة وَابْنه أَبُو بكر الصّديق (وَابْنه عبد الرَّحْمَن) وَابْنه أَبُو عَتيق. قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا لأحد فِي هَذِه الأمَّة (غَيرهم) .
قُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِك، فعبد الله بن الزبير أمه أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق وأبوها وجدهَا، فهم أَرْبَعَة متوالدون من الصَّحابة، وَلم أرَ لأبي عَتيق رُؤْيَة وَلَا صُحْبَة، وكأنَّه كَانَ صَغِيرا جدًّا عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. لَا جرم لم يذكرهُ ابْن مَنْدَه.
(أمَّا) من رَوَى عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (هُوَ) وَولده، وَولد وَلَده فهم أَرْبَعَة أخر، ذكرهم الْحَافِظ ابْن مَنْدَه أَبُو زَكَرِيَّا فِي جُزْء مُفْرد وهم: أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة، وحَنْظَلَة بن حذيم بن حنيفَة الْمَالِكِي، ومعن بن يزِيد بن الْأَخْنَس السّلمِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَلّي بن شَيبَان (الْحَنَفِيّ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
(1/685)
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا نعلم خَليفَة وَرثهُ أَبوهُ غير أبي بكر الصّديق، لأنَّه توفّي وَأَبُو قُحَافَة حَيّ فورثه.
وَرَوَاهُ الإِمام الشَّافِعِي، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن ابْن إِسْحَاق، عَن ابْن أبي عَتيق، عَن عَائِشَة.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن يَحْيَى بن أبي عمر، عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن مسعر، عَن ابْن إِسْحَاق، عَن عبد الله بن أبي عَتيق، عَن عَائِشَة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : (ورأيته) فِي مُسْند ابْن أبي عمر، كَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن ابْن عُيَيْنَة.
ورويناه من «مُسْند الْحميدِي» ، نَا سُفْيَان، نَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق، فَصرحَ ابْن عُيَيْنَة بالسمَّاع من ابْن إِسْحَاق، فَزَالَتْ الْوَاسِطَة.
(وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» من حَدِيث دَاوُد بن الْحصين، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِهِ) .
وَعَزاهُ غير وَاحِد إِلَى صَحِيح الإِمام أبي بكر ابْن خُزَيْمَة مِنْهُم ابْن الْأَثِير، (والمصنِّف) - أَعنِي الإِمام الرَّافِعِيّ - فِي (شرحي) الْمسند، وَابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْمُهَذّب» ، وَالنَّوَوِيّ فِي
(1/686)
كتبه، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي كِتَابيه «الإِمام» و «الإِلمام» وَغَيرهم، قَالُوا: رَوَاهُ من حَدِيث (ابْن) عُمَيْر، عَن عَائِشَة.
وَهُوَ كَمَا قَالُوا، فقد رَأَيْته كَذَلِك فِيهِ بالقدس الشريف فِي رحلتي إِلَيْهَا.
فَأخْرجهُ من حَدِيث سُفْيَان، عَن ابْن جريج، عَن عُثْمَان بن أبي سُلَيْمَان، عَن عبيد بن عُمَيْر عَنْهَا، مَرْفُوعا بِهِ.
وَذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» فِي كتاب الصّيام تَعْلِيقا، فَقَالَ: وَقَالَت عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «السِّوَاكُ مطهرةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» . وَهَذَا التَّعليق صَحِيح لأنَّه بِصِيغَة جزم، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح من غير شكّ وَلَا مرية، وَلَا يضرّهُ كَونه فِي بعض أسانيده ابْن إِسْحَاق كَرِوَايَة ابْن عُيَيْنَة ومسعر، فإنَّ إِسْنَاد البَاقِينَ ثَابت صَحِيح لَا مطْعن لأحد فِي رِجَاله، وَقد شهد لَهُ بذلك غير وَاحِد.
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي «شرح السّنة» : هُوَ حَدِيث حسن. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب: هَذَا حَدِيث (ثَابت) . وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَيْهِ أَيْضا: رجال إِسْنَاده كلهم ثِقَات. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : إِسْنَاده (جيد) .
(1/687)
قَالَ: وَلِهَذَا أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِيمَا بَلغنِي. وَكَلَام البُخَارِيّ يشْعر بِصِحَّتِهِ فإنَّه أوردهُ بِصِيغَة الْجَزْم.
قُلْتُ: وَهَذَا الحَدِيث لم أره فِي الْمُسْتَدْرك فِيمَا وقفت عَلَيْهِ من النُّسخ الشاميَّة والمصرية، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يجْزم بعزوه إِلَيْهِ، وإنَّما تردد فِيهِ، لكنه جزم بذلك فِي «الإِلمام» . وَقد عثر بعض شُيُوخنَا الْحفاظ، فَجزم بأنَّه فِي الْمُسْتَدْرك تقليدًا مِنْهُ، فتنبَّه لذَلِك.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَلَيْكُمْ بالسِّوَاكِ فَإِنَّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ عزَّ وجلَّ» . أخرجه أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» .
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أبي بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» . رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» والدّارقطني فِي «علله» وَأَبُو نعيم من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ابْن أبي عَتيق، عَن أَبِيه، عَن أبي (بكر) بِهِ.
قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَن هَذَا الحَدِيث، (فَقَالَا) : هُوَ خطأ، إنَّما هُوَ ابْن أبي عَتيق، عَن أَبِيه، عَن
(1/688)
عَائِشَة. قَالَ أَبُو زرْعَة: أَخطَأ فِيهِ حَمَّاد (وَقَالَ أبي: الْخَطَأ من حَمَّاد) أَو ابْن أبي عَتيق.
وَقَالَ الدّارقطني فِي «علله» : [يرويهِ] حَمَّاد بن سَلمَة (هَكَذَا) - يَعْنِي بِإِسْنَادِهِ عَن أبي بكر مَرْفُوعا - وَخَالفهُ جمَاعَة من أهل الْحجاز وَغَيرهم، فَرَوَوْه عَن ابْن أبي عَتيق، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا وَهُوَ الصّواب.
قُلْتُ: وأمّا ابْن السَّكن فإنَّه ذكره فِي «صحاحه» .
الطَّرِيق الرّابع: عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «عَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ فَإِنَّهُ مَطْيَبَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى» .
رَوَاهُ الإِمام أَحْمد فِي «مُسْنده» . وَفِيه ابْن لَهِيعَة، وَسَيَأْتِي بَيَان حَاله فِي الْبَاب.
وَذكره ابْن عدي فِي «كَامِله» فِي تَرْجَمَة مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة النَّيْسَابُورِي: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» .
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يستاك وَهُوَ صَائِم وَيَقُول: هُوَ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث هِشَام بن سُلَيْمَان، ثَنَا يزِيد الرقاشِي،
(1/689)
عَن أنس بِهِ. وَيزِيد هَذَا قَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: مَتْرُوك.
الطَّرِيق السَّادس: عَن أبي أُمَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تَسَوَّكُوا فَإِنَّ السِّوَاكَ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ، وَمَا جَاءنِي جِبْرِيلُ إِلاَّ أَوْصَانِي بِالسِّوَاكِ؛ حتَّى لَقَدْ خَشيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي، وَلَوْلا أَنِّي أَخَافُ أَنْ (أَشُقَّ) عَلَى أُمَّتِي لَفْرَضته لَهُم، وَإِنِّي لأَسْتَاكُ حتَّى لَقَدْ خَشيتُ أَنْ أُحْفِيَ مَقَادمَ فَمِي» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن ابْن هِشَام بن عمار - وَهُوَ حَافظ أخرج لَهُ البُخَارِيّ محتجًا بِهِ - عَن مُحَمَّد بن (شُعَيْب) - وَهُوَ ابْن شَابُور الدِّمَشْقِي، أخرج لَهُ الْأَرْبَعَة وَوَثَّقَهُ ابْن الْمُبَارك ودحيم. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ أثبت من بَقِيَّة وَابْن حمير - عَن عُثْمَان بن أبي العاتكة وَهُوَ الدِّمَشْقِي (الْقَاص) ، ضعفه النَّسَائِيّ وَوَثَّقَهُ غَيره - عَن عَلّي بن يزِيد - وَهُوَ الْأَلْهَانِي، ضعفه جمَاعَة. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : صَالح - عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن أَبُو عبد الرَّحْمَن لَقِي جمَاعَة من الصَّحَابَة، وَمِنْهُم أَبُو أُمَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، كَذَلِك من حَدِيث الْوَلِيد
(1/690)
بن مُسلم عَن عُثْمَان (بِهِ) مثله إلاَّ أنَّه (قَالَ) «مطيبة» ، بدل «مطهرة» .
ثمَّ أخرجه من حَدِيث سعيد بن أبي مَرْيَم، نَا يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن (عبيد الله) بن زحر، عَن عَلّي بن يزِيد، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» .
وَهَذَا سَنَد واه. ثمَّ أخرجه من حَدِيث بَقِيَّة عَن إِسْحَاق بن مَالك الْحَضْرَمِيّ، عَن يَحْيَى بن الْحَارِث، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: «السَّوَاكُ مَطْيَبَةً لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» .
الطَّرِيق السّابع: عَن عَطاء، (عَن) ابْن عَبَّاس من قَوْله: «السَّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» .
رَوَاهُ أَبُو بكر الْبَزَّار فِي «مُسْنده» ، ثمَّ قَالَ: لَا نعلم حدَّث (بِهِ) عَن ابْن جريج إلاَّ الرّبيع بن بدر، وَلم يَك بِالْحَافِظِ.
(و) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن حنين، عَن أَبِيه، عَن جدِّه، عَن ابْن عَبَّاس أنَّه سمع النَّبي
(1/691)
(يَقُول: «السَّوَاكُ يُطَيِّبُ الْفَمْ وَيُرْضِي الرَّبَ» .
(و) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجم شُيُوخه» من حَدِيث (بَحر بن كنيز) السقاء الْمَتْرُوك، عَن جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: «السَّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ وَمَجْلاَةٌ لِلْبَصَرِ» . وَسَيَأْتِي من طَرِيق آخر مَرْفُوعا من حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي فصل مَنَافِع جَاءَت فِي السِّواك - إِن شَاءَ الله - والاعتماد فِي (هَذِه الطّرق) عَلَى الطَّرِيقَيْنِ الْأَوَّلين والبواقي متابعات وشواهد لَهَا.
والمطهرة: بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا، لُغَتَانِ: حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي وَابْن السّكيت. وَغَيرهمَا. وَالْفَتْح أفْصح. وَهِي كل مَا يتَطَهَّر بِهِ.
قَالَ ابْن السّكيت: من كسر جعلهَا آلَة، وَمن فتحهَا جعلهَا موضعا يفعل فِيهِ. شبَّه السِّوَاك (بهَا) لأنَّه ينظف الْفَم. وَالطَّهَارَة: النَّظَافَة.
الحَدِيث الثَّانِي عشر
أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح. رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من حَدِيث سعيد بن الْمسيب أنَّه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -:
(1/692)
«قَالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ (الصَّوْم) فُهوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. وَ (لَخَلُوفُ) فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عَنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» .
وَفِي رِوَايَة لَهما: «فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «لَخلْفَةُ» .
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: فَذكر حَدِيثا فِيهِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ منْ رِيحِ المِسْكِ» .
وروياه جَمِيعًا من حَدِيث أبي صَالح الزيات أنَّه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «قَالَ الله عزَّ وجلَّ: الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ، يدع شَهْوَته وَأكله وشربه من أَجلي، وَالصَّوْم جنَّة، وللصائم فرحتان، فرحة حِين يفْطر وفرحة حِين يلقى الله عزَّ وجلَّ. ولخلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك» . زَاد مُسلم: يَوْم الْقِيَامَة. (وَأخرجه مُسلم من رِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَيْضا مُنْفَردا بِهِ) .
(1/693)
قَالَ عبد الْحق: انْفَرد بهَا (م) . وأمَّا الْحميدِي فعزاها إِلَيْهِمَا.
وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من رِوَايَة عَلّي - كرَّم الله وَجهه - مَرْفُوعا بِهَذَا اللَّفْظ، ثمَّ قَالَ: لَا (نعلمهُ) يرْوَى عَن عَلّي إلاَّ من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الإِسناد.
وَأخرجه أَحْمد من رِوَايَة الْحَارِث بن مَالك الْأَشْعَرِيّ، وَلَفظه: «وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ منْ رَائِحَةِ المِسْكِ» . وَهُوَ حَدِيث طَوِيل.
وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» أَيْضا بِطُولِهِ. وَأخرجه أَحْمد أَيْضا من حَدِيث ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا بِلَفْظ: «وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ منْ رِيحِ المِسْكِ» .
فَائِدَة: الخُلوف - مضموم الْخَاء لَا غير -: التَّغَيُّر فِي الْفَم، يُقَال: خَلَفَ يَخْلُفُ - بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالضَّم فِي الْمُسْتَقْبل - خلوفًا، كقعد يقْعد قعُودا.
وَعَن بعض الْمُحدثين أَنه فتح (الْخَاء) فخطأ فِيهِ، قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي «الْمَشَارِق» : قيدناه عَن (المتقنين) بِضَم الْخَاء، وَأكْثر الْمُحدثين يَرْوُونَهُ بِفَتْح الْخَاء، وَهُوَ خطأ عِنْد أهل الْعَرَبيَّة، وبالوجهين
(1/694)
ضبطناه عَن الْقَابِسِيّ. وَكَذَا قَالَ ابْن الصّلاح: كثير من الْمُحدثين يفتحون الْخَاء، وَهُوَ خطأ، وَالْمعْنَى يُفْسِدهُ؛ فَإِن الخلوف بِفَتْح الْخَاء: هُوَ الشَّخْص الَّذِي يكثر خَلفه فِي وعده. ذكر ذَلِكَ الْخطابِيّ عادًا لَهُ فِي غلطاتهم.
فَائِدَة أُخْرَى لَهَا تعلق بِهَذَا الحَدِيث، وَهِي: اخْتلف الْعلمَاء فِي مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «كُلُّ عَمَلِ اِبْنِ آدَمَ لَهُ إلاَّ الصَّوم، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» عَلَى أَقْوَال كَثِيرَة.
ذكر أَبُو الْخَيْر الطَّالقَانِي فِيهِ خَمْسَة وَخمسين قولا. وَمن أحْسنهَا قَولَانِ:
(أَحدهمَا) : - وَهُوَ الْمَشْهُور - أَن الْحَسَنَة بِعشْرَة أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف إلاَّ الصَّوم.
الثَّانِي: أنَّه يَوْم الْقِيَامَة (يتَعَلَّق) خصماؤه بِجَمِيعِ أَعماله، إلاَّ الصَّوْم، فَلَا سَبِيل لَهُم عَلَيْهِ، فإنَّه لله، (فَإِذا) لم يبْق إلاَّ الصَّوْم (فيتحمل) الله مَا بَقِي من الْمَظَالِم، ويدخله الجنَّة بالصَّوم. قَالَه سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
قَالَ الْحَافِظ محب الدَّين الطَّبَرِيّ: أحسن مَا أول الحَدِيث بِهِ أنَّ
(1/695)
الصَّوْم لم يُعْبَد (بِهِ) غير الله - تَعَالَى - وَمَا عداهُ من الْعِبَادَات تقربُوا بهَا إِلَى آلِهَتهم. وَالصَّوْم صَبر. قَالَ - تَعَالَى -: (إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب) .
(فَائِدَة ثَالِثَة) : وَقع نزاع بَين الشَّيْخَيْنِ الإِمامين العالِمين، تَقِيّ الدَّين أبي عَمْرو بن الصّلاح وَعز الدَّين أبي مُحَمَّد بن عبد السَّلام فِي أنَّ هَذَا الطّيب فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أم فِي الْآخِرَة خَاصَّة؟ فَقَالَ الشَّيْخ عز الدَّين: فِي الْآخِرَة خَاصَّة، مستدلًا بِرِوَايَة مُسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ منْ رِيحِ المِسْكِ يَوْم الْقِيَامَة» . وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: عَام فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. مستدلًا بأنَّ الإِمام أَبَا حَاتِم ابْن حبَان قَالَ فِي «صَحِيحه» بَاب فِي كَون ذَلِكَ (فِي) يَوْم الْقِيَامَة.
ثمَّ رُوِيَ (بِسَنَدِهِ) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ منْ رِيحِ المِسْكِ» . (ثمَّ قَالَ) : بَاب فِي كَونه فِي الدُّنيا.
ثمَّ رَوَى فِي هَذَا الْبَاب بِإِسْنَادِهِ الثَّابِت من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ حِينَ يَخْلُفُ من الطّعَامِ أَطْيَبُ عِنْدَ
(1/696)
اللهِ منْ رِيحِ المِسْكِ» .
وَرَوَى الإِمام الْحسن بن سُفْيَان فِي «مُسْنده» عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أنَّ) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أُعْطِيتْ أُمَّتِي فِي شَهْرِ رَمَضَان خَمْسًا. وَأَمَّا الثَّانِيَة فَإِنَّهُم يُمْسُون وُخُلوفُ أَفْواهِهِمْ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ منْ رِيحِ المِسْكِ» .
قَالَ السَّمْعَانِيّ فِي «أَمَالِيهِ» : هَذَا حَدِيث حسن. وكلّ وَاحِد من الْحَدِيثين مُصَرِّح بأنَّه فِي وَقت وجود الخلوف فِي الدُّنْيَا يتحقّق وَصفه بِكَوْنِهِ أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك. قَالَ: وَقد (قَالَ) الْعلمَاء شرقًا وغربًا مَعْنَى مَا ذكرته فِي تَفْسِيره، ثمَّ عدد أَقْوَالهم. ثمَّ قَالَ: لم يذكر أحد مِنْهُم تَخْصِيصًا. وإنَّما جزموا بأنَّه عبارَة عَن الرِّضَى وَالْقَبُول وَنَحْوهمَا مِمَّا هُوَ ثَابت فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. قَالَ: وأمَّا ذكر يَوْم الْقِيَامَة (فِي تِلْكَ الرِّوَايَة) فلأنَّه يَوْم الْجَزَاء. وَفِيه يظْهر رُجْحَان الخلوف فِي الْمِيزَان عَلَى الْمسك الْمُسْتَعْمل لدفع الرَّائِحَة الكريهة طلبا لرضى الله - تَعَالَى - حَيْثُ يُؤمر باجتنابها (وَاخْتِلَاف) الرَّائِحَة الطّيبَة كَمَا فِي (الْمَسَاجِد) والصلوات وَغَيرهَا من الْعِبَادَات، فخصَّ يَوْم الْقِيَامَة بالذِّكر فِي رِوَايَة كَذَلِك كَمَا خصَّ فِي قَوْله تَعَالَى: (إِن رَبهم بهم يَوْمئِذٍ لخبير) ، وَأطلق فِي بَاقِي الرِّوَايَات نظرا إِلَى أنَّ أصل أفضليته ثَابت فِي الدَّارين.
فَائِدَة رَابِعَة: لما اسْتدلَّ الرَّافِعِيّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى كَرَاهَة السِّواك للصَّائِم بعد الزَّوال، قَالَ: وَجه الدّلَالَة أنَّه أثر عبَادَة مشهود لَهُ
(1/697)
بالطيب، فكره إِزَالَته كَدم الشَّهيد. وَأَشَارَ بِطيب دم الشَّهِيد إِلَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أنَّه قَالَ: «لَا (يُكْلَمُ) أحدٌ فِي سَبِيل الله عزَّ وجلَّ، وَالله أعلم بِمن يكلم فِي سَبيله، إلاَّ جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وجرحه يثعب، اللَّوْن لون الدَّم وَالرِّيح ريح الْمسك» ، متَّفق عَلَيْهِ.
وَلَو عبر الإِمام الرَّافِعِيّ بدل قَوْله: «فكره إِزَالَته» بقوله: «فَكَانَ إبقاؤه راجحًا عَلَى إِزَالَته» ، لَكَانَ أولَى لِأَن إِزَالَة دم الشَّهِيد حرَام لَا مَكْرُوهَة، فَلم يستو الْمَقِيس (و) الْمَقِيس عَلَيْهِ فِي الحكم.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق، وَالَّذِي يحضرنا (مِنْهَا) أحد عشر طَرِيقا:
أَحدهَا: عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي ... » ، الحَدِيث بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره المصنِّف سَوَاء.
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة عَن عبد الله بن يُوسُف، عَن مَالك بِهِ.
(1/698)
وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن أبي الزِّنَاد بِإِسْنَادِهِ وَلَفظه، ذكره فِي الطَّهَارَة.
قَالَ ابْن مَنْدَه: وَإِسْنَاده مجمع عَلَى صِحَّته. قَالَ النَّوَوِيّ: وَقد غلط بعض الْأَئِمَّة الْكِبَار، فَزعم أنَّ البُخَارِيّ لم يروه وَجعله من أَفْرَاد مُسلم، وَهُوَ خطأ مِنْهُ.
وَفِي رِوَايَة للنسائي، وَابْن خُزَيْمَة، وَالْبُخَارِيّ تَعْلِيقا: «عِنْد كلِّ وضوء» .
وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد - بِإِسْنَاد صَحِيح -: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ بِوضُوءٍ وَمَعَ كُلِّ وضوءٍ بِسواكٍ» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعا من حَدِيث مَالك فِي كِتَابه «أَحَادِيث مَالك الَّتِي لَيست فِي الْمُوَطَّأ» ، (وَأخرجه مَالك فِي «الْمُوَطَّأ» ) ، عَن ابْن شهَاب، عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي هُرَيْرَة أنَّه قَالَ: «لَوْلاَ أَنْ يشقَّ عَلَى أمَّتِهِ لأَمَرَهُم بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وضوءٍ» .
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَهَذَا يدْخل فِي الْمسند لاتصاله من غير مَا وَجه وَلما يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك مَرْفُوعا.
(1/699)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه «شعب الإِيمان» : رَوَى مَالك خَارج موطئِهِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفرضتُ عَلَيهِم السِّوَاكَ معَ الوضوءِ» . وَرَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأ» مَوْقُوفا، والْحَدِيث فِي الأَصْل مَرْفُوع (من غير هَذَا الْوَجْه) .
وَهُوَ فِي حَدِيث سعيد بن أبي هِلَال، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ الوضوءِ» .
قَالَ ابْن خُزَيْمَة: يشبه أَن يكون (مَالك) قد (كَانَ) حَدَّث بِهِ مَرْفُوعا، ثمَّ شكَّ فِي رَفعه فَوَقفهُ. كَمَا قَالَ الشَّافِعِي: كَانَ مَالك إِذا شكّ فِي الشَّيْء (انخفض) وَالنَّاس إِذا شكّوا ارتفعوا.
وَفِي البُخَارِيّ، فِي كتاب الصَّوم، بَاب سواك الرطب واليابس (للصَّائِم) : وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وضوءٍ» . قَالَ: وَيروَى نَحوه عَن جَابر وَزيد بن خَالِد عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلم يخص الصَّائِم من غَيره.
وَأغْرب عبد الحقِّ، فَقَالَ فِي كِتَابه «الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ» : حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا أسْندهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَحَدِيث عَائِشَة - يَعْنِي الَّذِي (قيد السِّوَاك بطهرة الْفَم) - أسْندهُ البُخَارِيّ خاصَّة.
(1/700)
قُلْتُ: الأوَّل لم يخرجَاهُ البتَّة بِهَذَا اللَّفْظ الْمَذْكُور، وَهُوَ: «عندَ كُلِّ وضوءٍ» . وَالثَّانِي لم يسْندهُ البُخَارِيّ أصلا، وإنَّما ذكره (مُعَلّقا) كَمَا ذكره عَنهُ.
فَمَا أَدْرِي مَا هَذَا القَوْل من عبد الحقّ - سامحنا الله وإياه.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» .
(رَوَاهُ) أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث عَمْرو بن (خليف) ، ثَنَا يَعْقُوب بن دَاوُد بن مطرف، حَدَّثَنَي أَبُو غَسَّان مُحَمَّد بن مطرف، عَن أبي حَازِم، عَن سهل بِهِ.
الثَّالِث: عَن عبد الله بن عَمْرو أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي ... » ، بِمثل الَّذِي قبله.
رَوَاهُ أَبُو نعيم أَيْضا بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث مُعَاوِيَة بن صَالح، حَدَّثَنَي عبد الرَّحْمَن بن جُبَير بن نفير، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بِهِ.
الرَّابع: عَن أمِّ حَبِيبَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي ... » ، بِمثلِهِ.
رَوَاهُ (أَحْمد) من حَدِيث ابْن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن يزِيد بن ركَانَة، عَن سَالم بن عبد الله، عَن أبي الْجراح مولَى أمّ حَبِيبَة، عَنْهَا بِهِ.
(1/701)
رَوَاهُ الإِمام أَحْمد مرّة بِهَذَا السَّنَد وَزَاد بعد (أبي الْجراح) : عَن زَيْنَب بنت جحش فَجعله من مسندها، وَزَاد بعد قَوْله: «كل صَلَاة» : « [كَمَا] يَتَوَضَّئُونَ» .
الْخَامِس: عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ (عَلَى أمتِي)
» مثله.
رَوَاهُ أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ. وَفِيه إِسْحَاق بن مُحَمَّد الْفَروِي. وَقد أخرج لَهُ البُخَارِيّ وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان وَتكلم فِيهِ غَيرهمَا.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: لَيْسَ بِمَحْفُوظ وَهُوَ مُرْسل أشبه.
السَّادِس: عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا لَكُم تدخلُون عَلَيَّ قلحًا؟ ! لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم، وَفِي إِسْنَاده (إِبْرَاهِيم) بن إِسْمَاعِيل بن أبي حَبِيبَة، وَقد تقدم أَقْوَال الأئمَّة (فِيهِ) فِي بَاب المَاء النَّجس.
السَّابِع: عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح.
(1/702)
قَالَ: وَقَالَ البُخَارِيّ: إِنَّه أصح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
الثَّامِن: عَن عبد الله بن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَفِي إِسْنَاده مَجْهُول.
التَّاسِع: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أنْ تضعفوا لأمرتُكم بالسِّوَاكِ عندَ كُلِّ صلاةٍ» .
رَوَاهُ الْبَزَّار وَقَالَ: هَذَا الحَدِيث قد رُوِيَ بِنَحْوِ كَلَامه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من غير وَجه بِهَذَا اللَّفْظ، وَلَا يحفظ عَن ابْن عَبَّاس بِهَذَا اللَّفْظ إلاَّ من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَمُسلم الْملَائي فِي إِسْنَاده، وَلَيْسَ بِهِ بَأْس، رَوَى عَنهُ جماعات وَاحْتَملُوا حَدِيثه.
(وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من هَذَا الطَّرِيق بلفظين:
أَحدهمَا: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لجعلت عَلَيْهِم السِّوَاك عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» .
وَالثَّانِي: «لَوْلاَ أَنْ تَضْعف أُمتي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» ) .
(1/703)
الْعَاشِر: عَن عَلّي - كرَّم الله وَجهه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» .
رَوَاهُ الإِمام أَحْمد.
الْحَادِي عشر: عَن جَعْفَر بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «استاكوا، لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» .
ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» وَذكر اخْتِلَافا فِي إِسْنَاده. وظفرت بطرِيق ثَانِي عشر، وَهُوَ: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث أَرْطَاة أبي حَاتِم، ثَنَا عبيد الله بن (عمر) (عَن نَافِع عَن بن عمر) قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» .
وأرطأة هَذَا قَالَ ابْن عدي: لَهُ أَحَادِيث [فِي] بَعْضهَا خطأ وَغلط. ثمَّ أخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث سعيد بن رَاشد، عَن عَطاء، عَن ابْن عمر مثله مَرْفُوعا، وَسَعِيد هَذَا تَركه النَّسَائِيّ.
وَسَيَأْتِي لَهُ طَرِيق ثَالِث عشر (فِي) الْفُصُول الَّتِي (سأعقدها)
(1/704)
فِي السِّواك فِي فصل: فِي السِّواك عِنْد (اللَّازِم وَتغَير) الْفَم.
الحَدِيث الرَّابِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا اسْتَيْقَظَ (بِاللَّيْلِ) استاك» .
وَفِي رِوَايَة: «إِذا قَامَ من (النَّوم) يشوص فَاه بالسِّواك» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق، الَّذِي يحضرني مِنْهَا ستَّة:
أَحدهَا: عَن حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا قَامَ من (اللَّيْل) يشوص فَاه بالسِّواك) .
رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا قَامَ ليتهجد يشوص فَاه بالسِّواك» .
واستغرب ابْن مَنْدَه هَذِه الزِّيَادَة وَهِي قَوْله: «ليتهجد» وصححها ابْن خُزَيْمَة فإنَّه أوردهَا كَذَلِك فِي «صَحِيحه» .
وَفِي رِوَايَة للطبراني لَيْسَ فِيهَا ذكر الْقيام من اللَّيْل، وَهَذَا لَفظه:
(1/705)
عَن حُذَيْفَة (قَالَ: (كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يشوص فَاه بالسِّواك) .
وَفِي رِوَايَة للنسائي عَن حُذَيْفَة) : «كنّا نؤمر بالسِّواك إِذا قمنا من اللَّيْل» .
«الشوص» بالشين الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة وَالصَّاد الْمُهْملَة: دلك الْأَسْنَان بِالسِّوَاكِ عرضا. قَالَه غير وَاحِد وَقَالَ الْهَرَوِيّ: الْغسْل. وَقَالَ أَبُو عبيد: التنقية. وَقَالَ أَبُو (عمر) : الحك. وَقيل هُوَ الاستياك من سفل إِلَى علو. نَقله القَاضِي عِيَاض، وَلما حَكَى قَول الحك قَالَ: وتأوله بَعضهم أنَّه بإصبعه، وَأَنه يُغني ذَلِكَ عَن السِّواك.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أنَّه) بَات عِنْد نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذَات لَيْلَة. (فَقَامَ) نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من آخر اللَّيْل، فَخرج ينظر فِي السَّمَاء، ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة فِي آل عمرَان: (إِن فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتلف اللَّيْل وَالنَّهَار ( [حتَّى بلغ] ، (فقنا عَذَاب النَّار) ، ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَيْت [فَتَسَوَّكَ] وتوضَّأ ثمَّ قَامَ فَصَلى، ثمَّ اضْطجع، ثمَّ
(1/706)
قَامَ فَخرج فَنظر إِلَى السَّمَاء، ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة، ثمَّ رَجَعَ (فَتَسَوَّكَ) وَتَوَضَّأ، ثمَّ قَامَ فصلَّى) .
رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «بِتُّ [لَيْلَة] عِنْد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ من مَنَامه أَتَى طهوره، فَأخذ سواكه فاستاك ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَات: (إِن فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار لآيَة لأولي الْأَلْبَاب) حتَّى قَارب أَن يخْتم السّورة أَو خَتمهَا، ثمَّ تَوَضَّأ فَأَتَى مُصَلَّاهُ فَصَلى رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ رَجَعَ إِلَى فرَاشه فَنَامَ مَا شَاءَ الله، ثمَّ اسْتَيْقَظَ فَفعل مثل ذَلِكَ كلّ ذَلِكَ يستاك وَيُصلي رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ أوتر» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يصلِّي بِاللَّيْلِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ (ينْصَرف) فيستاك» .
وَأخرج هَذِه الرِّوَايَة (الْحَاكِم) فِي «الْمُسْتَدْرك» ، ثمَّ قَالَ: صَحِيحَة عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم.
(1/707)
وَفِي رِوَايَة لأبي (نعيم) : «بت عِنْد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَقَامَ من اللَّيْل، ثمَّ عمد إِلَى مَاء مُعَلّق فتسوَّك» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «رُبمَا استاك النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي اللَّيْلَة أَربع مَرَّات» .
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» : «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستاك من اللَّيْل مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن الْفضل بن عَبَّاس قَالَ: «لم يكن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقوم إِلَى الصَّلَاة بِاللَّيْلِ إلاَّ (اسْتنَّ) » .
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن (سعد) بن هِشَام، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يُوضع لَهُ وَضُوءه وسواكه، فَإِذا قَامَ من اللَّيْل تخلى ثمَّ استاك» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد جيِّد.
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَنْدَه عَنْهَا: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يرقد، فنضع لَهُ سواكه وَطهُوره، فيبعثه الله إِذا شَاءَ أَن يَبْعَثهُ فَيقوم فيتسوَّك ثمَّ يتَوَضَّأ» . قَالَ ابْن مَنْدَه: «وإسنادها مجمع عَلَى صِحَّته» .
وَعَن الحَرِيش - بحاء مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء مُهْملَة مَكْسُورَة ثمَّ يَاء مثناة تَحت ثمَّ شين مُعْجمَة - ابْن الخِرِّيت - بخاء مُعْجمَة مَكْسُورَة
(1/708)
وَتَشْديد الرَّاء الْمُهْملَة الْمَكْسُورَة، ثمَّ يَاء مثناة تَحت، ثمَّ تَاء مثناة فَوق - أَخُو الزبير بن الخريت، حَدَّثَنَي ابْن أبي مليكَة، عَن عَائِشَة (قَالَت) : «كُنَّا نضع لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاثَة آنِية مخمرة: وَاحِد لوضوئه، وَوَاحِد لسواكه، وَوَاحِد لشرابه» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» . ثمَّ قَالَ: «لم يروِ هَذَا الحَدِيث عَن ابْن أبي ملكية إلاَّ الْحَرِيش، تفرد بِهِ حرمي بن عمَارَة» .
قُلْتُ: حرمي بن عمَارَة ثِقَة احتجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ (وَغَيرهمَا) لَكِن الشَّأْن فِي حريش بن الخريت. قَالَ البُخَارِيّ: فِيهِ نظر. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: واهي الحَدِيث. لَكِن الْحَاكِم أخرجه فِي «مُسْتَدْركه» من طَرِيقه وَقَالَ: صَحِيح الإِسناد. وَذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» (أَيْضا) .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث همام، (عَن) عَلّي بن زيد، عَن أمِّ مُحَمَّد، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَا يرقد من ليل وَلَا نَهَار فيستيقظ إلاّ تسوَّك قبل أَن يتوضَّأ» .
أمّ مُحَمَّد هَذِه امْرَأَة عَلّي بن زيد بن عبد الله بن جدعَان. وَعلي
(1/709)
بن زيد صُوَيْلِح الحَدِيث، وَقَالَ أَحْمد وَيَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَوَّاه غَيرهمَا.
وَأخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» من حَدِيث همام، عَن عَلّي بن زيد، ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن عَلّي بن زيد إلاَّ همام.
وَرَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة: «أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يرقد، فَإِذا اسْتَيْقَظَ تسوَّك ثمَّ تَوَضَّأ وصلَّى ثَمَان رَكْعَات» .
وَاعْلَم: أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - أورد فِي «مهذبه» حَدِيث عَائِشَة: «أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا قَامَ من (النَّوم) يشوص فَاه بِالسِّوَاكِ» . فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شَرحه لَهُ: قيل: إِن ذكر عَائِشَة وهم (من) المُصَنّف وعدوه من غلطاته، وَهُوَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من رِوَايَة حُذَيْفَة (وَقَالَ فِي كِتَابه «تَهْذِيب الْأَسْمَاء» : كَذَا هَذَا الحَدِيث فِي الْمُهَذّب عَن عَائِشَة، وإنَّما هُوَ من رِوَايَة حُذَيْفَة) ، كَذَا هُوَ فِي
(1/710)
(الصَّحِيحَيْنِ) وَغَيرهمَا من كتب الحَدِيث. فَإِن أَرَادَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الإِنكار عَلَى الشَّيْخ أَن هَذَا اللَّفْظ لَا يعرف إلاَّ (فِي) حَدِيث حُذَيْفَة فَمُسَلَّم، وَإِن أَرَادَ (رِوَايَتهَا) فقد ذَكرْنَاهُ من (رِوَايَتهَا) من طرق.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا ينَام إلاَّ والسواك عِنْده، فَإِذا اسْتَيْقَظَ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ» .
رَوَاهُ الإِمام أَحْمد.
(وَفِي رِوَايَة: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا ينَام إلاَّ والسواك عِنْده» .
رَوَاهُ ابْن عدي) .
وَفِي رِوَايَة: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لايستيقظ من اللَّيْل إلاَّ استاك» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» . وَفِي إِسْنَاده فرات بن السَّائِب الْجَزرِي وَهُوَ ضَعِيف.
وَرَوَاهُ أَبُو نعيم وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث حسام بن مصك، عَن عَطاء، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (لَا يتعار) من اللَّيْل إلاَّ أَجْرَى السِّوَاك عَلَى فِيهِ» . زَاد
(1/711)
الطَّبَرَانِيّ بعد قَوْله: من اللَّيْل: سَاعَة.
وَهَذِه الرِّوَايَة ضَعِيفَة جدًّا؛ لأنَّ (حسام) بن مصك بن ظَالِم بن شَيْطَان أَبُو سهل الْبَصْرِيّ ضَعِيف جدًّا، قَالَ أَحْمد: مطروح الحَدِيث. وَقَالَ غنْدر: أسقطنا حَدِيثه. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء. وَقَالَ البُخَارِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: واهي الحَدِيث. وَقَالَ الفلاس وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف.
وَقَالَ ابْن حبَان: كثير الْخَطَأ فَاحش الْوَهم (خرج) عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» : «كَانَ لَا يقْعد سَاعَة من اللَّيْل إلاَّ (أمرَّ) السِّواك عَلَى فِيهِ» .
وَفِي سَنَده سعيد بن رَاشد الْمَازِني السماك، وَقد تَركه النَّسَائِيّ، وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء.
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «رُبمَا استاك (فِي اللَّيْل أَربع مرَّات ... » .
وَفِي إسنادها: مُوسَى بن (مطير) ، قَالَ غير وَاحِد: مَتْرُوك
(1/712)
الحَدِيث، مِنْهُم (س) ، وَقَالَ يَحْيَى: كذَّاب.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن أبي أَيُّوب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يستاك فِي اللَّيْلَة مرَارًا» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث عُثْمَان بن أبي شيبَة، ثَنَا مُحَمَّد بن عبيد، عَن وَاصل بن السَّائِب الرقاشِي، عَن أبي (سُورَة) ، عَن أبي أَيُّوب (بِهِ) .
وواصل مَتْرُوك، كَمَا قَالَه النَّسَائِيّ وَغَيره.
وَأَبُو (سُورَة) مَجْهُول.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن أنس بن مَالك، وَله طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: عَن قُرَّة بن حبيب [القنوي] بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ «أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا قَامَ من اللَّيْل استاك» . قَالَ أنس: وَهُوَ من السّنة. رَوَاهُ أَبُو نعيم.
(1/713)
وقرة بن حبيب [القنوي] ، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي « (الإِمام» ) : مُتَكَلم فِيهِ.
قُلْتُ: قد أخرج عَنهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه محتجًّا بِهِ.
قَالَ: وَعبد الحكم الرَّاوِي عَن أنس تكلمُوا فِيهِ.
قُلْتُ: هُوَ الْقَسْمَلِي الْبَصْرِيّ، يروي عَن أنس مَا لَيْسَ من حَدِيثه. قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الرَّازِيّ: كَذَلِك، (وَزَاد) : ضَعِيف. (وَقَالَ ابْن حبَان) : لَا يحل كِتَابَة حَدِيثه إلاَّ عَلَى التَّعَجُّب.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن ثَابت، [عَن] أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَهُ إِنَاء يعرض عَلَيْهِ سواكه، فَإِذا (قَامَ) من اللَّيْل تخلى واستنجى وَاسْتَاك وَتَوَضَّأ ثمَّ بعث يطْلب الطّيب فِي رباع نِسَائِهِ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم أَيْضا بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث أبي بشر صَاحب الْبَصْرِيّ، عَن ثَابت بِهِ.
(1/714)
وَله طَرِيق ثَالِث: عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أَخذ مضجعه من اللَّيْل وضع طهوره وسواكه ومشطه، فَإِذا أهبه الله من اللَّيْل استاك وَتَوَضَّأ وامتشط. قَالَ: وَرَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يمتشط بِمشْط عاج» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ، و «الخلافيات» وَضَعفه فيهمَا. وَقَالَ عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ: هَذَا حَدِيث مُنكر.
وَفِي «مُسْند أَحْمد» طَرِيق سَابِع من رِوَايَة ابْنه عبد الله أَنا القواريري، ثَنَا عبد الله بن جَعْفَر، أَخْبرنِي مُحَمَّد بن يُوسُف عَن عبد الله بن الْفضل، عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، عَن صَفْوَان بن الْمُعَطل السّلمِيّ قَالَ: «كنت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر، (فرمقت) صلَاته لَيْلَة فَصَلى الْعشَاء الْآخِرَة، ثمَّ نَام فَلَمَّا كَانَ نصف اللَّيْل اسْتَيْقَظَ فَتلا الْآيَات الْعشْر آخر سُورَة آل عمرَان ثمَّ تسوك ثمَّ تَوَضَّأ فَصَلى رَكْعَتَيْنِ، فَلَا أَدْرِي أقيامه أم رُكُوعه أم سُجُوده أطول، ثمَّ انْصَرف فَنَامَ ثمَّ اسْتَيْقَظَ فَتلا الْآيَات ثمَّ تسوك ثمَّ تَوَضَّأ ثمَّ قَامَ، يَعْنِي وَصَلى، ثمَّ اسْتَيْقَظَ، فَفعل ذَلِكَ (ثمَّ) لم يزل يفعل كَمَا فعل أوَّل مرَّة حتَّى صلَّى إِحْدَى عشرَة رَكْعَة» .
(1/715)
الحَدِيث الْخَامِس عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بِتَأْخيرِ العشاءِ والسِّوَاكِ عندَ كُلِّ وضوءٍ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» ، عَن عَلّي بن حمشاد، ثَنَا إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق القَاضِي، ثَنَا عَارِم بن الْفضل، ح قَالَ (وحَدَّثَني) مُحَمَّد بن صَالح بن (هَانِئ) ، نَا يَحْيَى بن مُحَمَّد بن يَحْيَى، نَا عبد الله بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي قَالَا: ثَنَا حَمَّاد بن زيد، نَا عبد الرَّحْمَن بن السراج، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لفرضتُ عَلَيهِمْ السِّوَاكَ معَ الوضوءِ، ولأخرتُ صَلاَةَ العشاءِ إِلَى نصفِ الليلِ» . وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يخرجَاهُ، وَلَيْسَ لَهُ عِلّة، وَقد خرجا حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الْبَاب وَلم يخرجَا لفظ الْفَرْض فِيهِ. قَالَ: وَله شَاهد بِهَذَا اللَّفْظ فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لفرضت عَلَيهِم السِّوَاكَ عندَ كُلِّ صلاةِ كَمَا فرضت عَلَيْهِم الوضُوء» .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره
(1/716)
شَيْخه الْحَاكِم وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن يَحْيَى، أَنا [عبيد الله] ، حَدَّثَنَي سعيد بن (أبي) سعيد بِهِ بِلَفْظ: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بالسِّوَاكِ مَعَ (كُلِّ) وضوءٍ، ولأخرتُ العشاءَ إِلَى ثُلثِ الليلِ أَوْ إِلى شطرِ الليلِ» .
وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» من حَدِيث عبيد الله بن [عمر] ، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بالسِّوَاكِ عندَ كُلِّ وضوءٍ ولأخرت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل» .
وَرَوَاهُ أَبُو نعيم الْحَافِظ من حَدِيث أبي معشر، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي أَوْ عَلَى النَّاسِ لأمرتُهم عِنْد كلِّ صلاةِ وضُوءًا، وَمَعَ كلِّ صلاةِ سِوَاكًا، ولأخرت صلاةَ العشاءِ إِلَى نصفِ الليلِ» .
وَفِي رِوَايَة: «لأمرتُهم بالسِّوَاكِ عندَ كُلِّ صلاةٍ» .
(1/717)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : وَهُوَ من جَمِيع طرقه أسانيده جيِّدة.
والقطعة الأولَى الَّتِي أوردهَا الإِمام الرَّافِعِيّ مَوْجُودَة فِي حديثين صَحِيحَيْنِ.
(أَحدهمَا من) حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بِتَأْخيرِ العشاءِ إِلى ثُلثِ اللّيلِ أَو نصفِهِ» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حسن [صَحِيح] ، وَابْن مَاجَه وَلَفظه: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأخرتُ صلاةَ العشاءِ إِلَى ثلثِ الليلِ أَو نصف اللّيلِ» .
والإِمام أَحْمد، وَلَفظه: «لأخرتُ العِشاءَ إِلى ثلثِ اللَّيلِ» .
وَأَبُو دَاوُد، وَلَفظه: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى الْمُؤمنِينَ لأمرتُهم بِتَأْخيرِ العشاءِ، وبالسِّوَاكِ عندَ كُلِّ صلاةٍ» .
وَالْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ، وَابْن حبَان بِلَفْظ أَحْمد.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بِالسِّوَاكِ عندَ كُلِّ صلاةٍ،
(1/718)
ولأخرتُ العشاءَ إِلَى ثلثِ اللَّيلِ» .
(رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن صَحِيح. وموجودة أَيْضا فِي حَدِيث ثَالِث مُتَكَلم فِيهِ وَهُوَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أنْ يثقلَ عَلَى أُمَّتي لفرضتُ السِّوَاكَ ولأخرتُ العشاءَ إِلى ثلثِ اللَّيلِ» ) .
قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : «سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث وَقد رَوَاهُ مَرْوَان الْفَزارِيّ، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن مهْرَان، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، فَقَالَ أبي: هُوَ خطأ، رَوَاهُ الثِّقَات عَن المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة، وَبَعْضهمْ يَقُول عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ الصَّحِيح. وموجودة أَيْضا فِي حَدِيث رَابِع أخرجه البزَّار من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، قَالَ: حَدَّثَنَي عبد الرَّحْمَن بن يسَار، عَن عبيد الله بن أبي رَافع، عَن أَبِيه، عَن عَلّي بن أبي طَالب مَرْفُوعا: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بِالسِّوَاكِ عندَ كُلِّ صلاةٍ، ولأخرتُ العِشَاءَ إِلَى ثلثِ اللَّيلِ، فإِنَّه إِذا مضَى ثلثُ اللَّيلِ الأوَّلُ هبطَ الربُّ تَبَاركَ وتَعَالَى إِلى سَمَاءِ الدُّنْيَا فلمْ يزلْ هُنَالِكَ حتَّى يطلعَ الفجرُ فَيَقُول: أَلا سائِلٌ فَيُعْطَى، أَلا داعٍ (يُجَاب) ، أَلاَ مُسْتشفعٌ فَيشفع، أَلا تَائبٌ مُسْتغفرٌ فَيغْفر (لَهُ) » .
(1/719)
قَالَ الْبَزَّار: «قد رَوَى هَذَا الحَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من وُجُوه، وَلَا نعلمهُ رُوِيَ عَن عَلّي مَرْفُوعا إلاَّ من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الإِسناد» . وَأخرجه أَحْمد بِنَحْوِهِ.
والقطعة الْأَخِيرَة من الحَدِيث مَوْجُودَة أَيْضا فِي حديثين صَحِيحَيْنِ:
أَحدهمَا: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وضوءٍ» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» وَابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» مُسْندًا وَالْبُخَارِيّ تَعْلِيقا.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» : أسانيده (صَحِيحَة) ، وَقد تقدَّم الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث وَاضحا فِي أثْنَاء الْكَلَام عَلَى الحَدِيث الثَّالِث عشر من هَذَا الْبَاب.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بِالسِّوَاكِ مَعَ الْوضُوء عندَ كُلِّ صلاةٍ» .
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» .
وممَّا يَنْبَغِي أَن تتنبه لَهُ - رحمنا الله وإيّاك - مَا وَقع لِلشَّيْخَيْنِ الإِمامين: تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح ومحيي الدَّين النَّوَوِيّ - رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا - فِي الحَدِيث الْمُتَقَدّم الَّذِي ذكره الإِمام الرَّافِعِيّ، فَإِنَّهُ وَقع لَهما شَيْء عَجِيب فِيهِ يجب التّنبيه عَلَيْهِ، وَهُوَ أَن الإِمام الْغَزالِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
(1/720)
قَالَ فِي «الْوَسِيط» فِي كتاب الصَّلَاة، مستدلًا لأحد قولي الشَّافِعِي فِي أنَّ تَأْخِير الْعشَاء أفضل، قَالَ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صلاةٍ، ولأخرتُ العِشَاءَ إِلَى نصفِ اللَّيلِ» . فَاعْترضَ عَلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي «مشكلات الْوَسِيط» . (فَقَالَ) : وأمّا قَول المصنِّف: «لقَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بِالسِّوَاكِ عندَ كُلِّ صلاةٍ، ولأخرتُ العِشاءَ إِلى نصفِ اللَّيلِ» ، إنَّما هُوَ فِي «صَحِيح مُسلم» وَغَيره من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بِتَأْخيرِ العشاءِ، والسِّوَاكِ عندَ كُلِّ صلاةٍ» ، قَالَ: وَلم أجد مَا ذكره مَعَ شدَّة الْبَحْث فِي كتب الحَدِيث، فليحتج لَهُ بِحَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وقتُ العِشاءِ إِلى نِصْفِ اللَّيلِ» ، أخرجه مُسلم وَهُوَ مُتَأَخّر نَاسخ. انْتَهَى.
وَاعْترض عَلَى الْغَزالِيّ أَيْضا النَّوَوِيّ - وَلَعَلَّه أَخذه من الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح، فإنَّه يتبعهُ فِي غَالب مقولاته ومنقولاته - فَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وأمّا الحَدِيث الْمَذْكُور فِي «النِّهَايَة والوسيط» : «لَوْلاَ أنْ أشقَّ علَى أُمَّتي لأمرتُهم بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صلاةٍ، ولأَخَّرتُ العِشاءَ إلَى نصفِ اللَّيلِ» ، فَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظ حَدِيث مُنكر لَا يعرف، وَقَول إِمَام الْحَرَمَيْنِ إِنَّه حَدِيث صَحِيح لَيْسَ بمقبول مِنْهُ. فَلَا يغترّ بِهِ. هَذَا لَفظه برمَّته ... وَالْعجب مِنْهُمَا - رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا - إِنْكَار هَذِه الرِّوَايَة، وَهِي صَحِيحَة لَا مطْعن لأحد فِيهَا، كَمَا (قدمْنَاهُ) بالإِسناد. وموجودة فِي عدَّة كتب
(1/721)
مِنْهَا: «الْمُسْتَدْرك» للْحَاكِم، لكنهما قَلِيلا النَّقل مِنْهُ، لَكِن سنَن الْبَيْهَقِيّ نصب أعينهما سِيمَا الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فإنَّه عَلَى مَا يُقَال كَانَ يُقَارب أَن يحفظها لِكَثْرَة مَا ينْقل مِنْهَا واعتنائه بهَا. فصحَّ حينئذٍ قَول إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إنَّه حَدِيث صَحِيح. وإيراد الْغَزالِيّ لَهُ، لأنَّه متابع لإِمامه، وإيراد الإِمام الرَّافِعِيّ (لَهُ) لأنَّه متابع لَهُ. فَافْهَم مَا قَرَّرْنَاهُ لَك فإنَّه مَوضِع مُهِمّ يُرحل إِلَيْهِ يسر الله بإيضاحه وَله الْحَمد والمنَّة عَلَى ذَلِكَ.
الحَدِيث السَّادِس عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: قَالَ: «اِسْتَاكُوا عَرْضًا» .
هَذَا الحَدِيث أوردهُ الإِمام الرَّافِعِيّ تبعا لصَاحب «الْمُهَذّب» وَغَيره من الْأَصْحَاب.
زَاد فِي «الْمُهَذّب» : «وادَّهِنوا (غبًّا) واكْتَحِلُوا وِتْرًا» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب: هَذَا الحَدِيث بحثت عَنهُ فَلم أجد لَهُ أصلا وَلَا ذكرا فِي كتب الحَدِيث. وَجَمَاعَة عنوا بتخريج أَحَادِيث «الْمُهَذّب» فَلم أجدهم ذَكرُوهُ أصلا. وَعقد
(1/722)
الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن الْكَبِير» بَابا فِي الاستياك عرضا فَلم يُورد فِيهِ حَدِيثا يحتجّ بِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث ضَعِيف غير مَعْرُوف وَلَا اعْتِمَاد عَلَيْهِ وَلَا يحْتَج بِهِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا مَا عدا لَفْظَة (استاكوا عرضا) . فَإِن أَبَا دَاوُد رَوَاهَا فِي «مراسيله» ، عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، عَن هشيم، عَن مُحَمَّد بن خَالِد الْقرشِي، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذَا شربتُمْ فَاشْرَبُوا مَصًا، وَإِذا استكتم فاسْتَاكُوا عَرْضًا» .
وَمُحَمّد بن خَالِد هَذَا لَا يعرف حَاله وَلَا يعرف رَوَى عَنهُ (غير) هشيم، قَالَه ابْن الْقطَّان فِي «الْوَهم والإِيهام» .
قَالَ: وَبِذَلِك ذكر فِي كتب الرِّجَال من غير مزِيد. انْتَهَى.
قُلْتُ: وَقد رَوَى عَن مُحَمَّد بن خَالِد: عبد الله بن الْأسود (أَيْضا) وَهَذَا الْمُرْسل قد يعتضد بِأَحَادِيث وَارِدَة فِي ذَلِك وَإِن كَانَت كلهَا (ضَعِيفَة) .
أَحدهَا: عَن بهز بن حَكِيم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستاك عرضا وَيشْرب مصًّا ويتنفس (ثَلَاثًا) وَيَقُول: «هُوَ أَهْنأ، وأَمْرَأ، (وأَبْرَأ) » .
(1/723)
رَوَاهُ الْحفاظ: ابْن عدي، وَابْن مَنْدَه وَالطَّبَرَانِيّ، وَالْبَغوِيّ، وَأَبُو نعيم، وَابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» ، وَالْبَيْهَقِيّ، وَابْن عبد الْبر.
قَالَ الْبَغَوِيّ: لَا أعلم رَوَى بهز غير هَذَا وَهُوَ مُنكر. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا أحتج بِمثلِهِ. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لم يرو عَن بهز غير سعيد - وَلم ينْسبهُ - وَإسْنَاد حَدِيثه لَيْسَ بالقائم.
قُلْتُ: وَسبب هَذِه المقالات أَن فِي إِسْنَاده ثُبَيْت - بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة - وَقيل: نبيت بالنّون فِي أوَّله، حَكَاهُ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» - ثمَّ بَاء موحَّدة مَفْتُوحَة، ثمَّ يَاء مثناة تَحت سَاكِنة، ثمَّ تَاء مثناة فَوق - ابْن كثير الضَّبِّيّ الْبَصْرِيّ.
قَالَ ابْن عدي: ضعفه الإِمام أَحْمد. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ إِذا انْفَرد. وَقَالَ ابْن طَاهِر: مُنكر الحَدِيث عَلَى قلته. وَفِيه أَيْضا: الْيَمَان بن عدي أَبُو عدي الْحَضْرَمِيّ الْحِمصِي.
(1/724)
قَالَ أَحْمد: هُوَ ضَعِيف رفع حَدِيث التَّفليس. قَالَ فِيهِ: عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا: ضَعِيف. وَضَعفه بَعضهم من وَجه ثَالِث. فإنَّ فِيهِ يَحْيَى بن عُثْمَان الْحِمصِي، وَقد (كتبه) أَبُو زرْعَة.
قُلْتُ: أخرج لَهُ أَصْحَاب السّنَن خلا التِّرْمِذِيّ وَهُوَ ثِقَة عَابِد يُعَد من الأبدال. وَأعله أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ الْحَافِظ فِي «الْمعرفَة» من وَجه رَابِع. فَقَالَ: رَوَاهُ (ثبيت) بن كثير، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن ابْن الْمسيب، عَن بهز - غير مَنْسُوب - كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بن عُثْمَان، عَن الْيَمَان بن عدي، عَن (ثبيت) ، وَرَوَاهُ عباد بن يُوسُف، عَن ثبيت، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن (ابْن) الْمسيب، عَن الْقشيرِي، وَرَوَاهُ (سُلَيْمَان) بن سَلمَة، عَن الْيَمَان بن عدي، فَقَالَ: عَن مُعَاوِيَة الْقشيرِي.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «معرفَة الصَّحَابَة» : بهز وَقيل الْبَهْزِي، ثمَّ ذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ مخيس بن تَمِيم، عَن بهز بن حَكِيم، عَن جده.
(1/725)
قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَن يحفظ وَرَاء هَذَا كُله أنَّه لَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اسْمه بهز غير هَذَا.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن ربيعَة بن أَكْثَم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستاك عَرْضًا وَيشْرب مَصًّا وَيَقُول: هُوَ أَهْنَأ وَأَمْرأ وَأَبْرَأ» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، والعقيلي، وَأَبُو نعيم، وَابْن عبد الْبر.
قَالَ الْعقيلِيّ فِي «الضُّعَفَاء» : فِي إِسْنَاده عَلّي بن ربيعَة الْقرشِي وَهُوَ مَجْهُول، وَحَدِيثه غير مَحْفُوظ، وَهَذَا حَدِيث لَا يصحّ.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: «ربيعَة بن أَكْثَم رَوَى عَنهُ سعيد بن الْمسيب، وَلَا يحتجّ بحَديثه هَذَا لِأَن من دون سعيد لَا يوثق بهم لضعفهم. وَلم يره سعيد وَلَا أدْرك زَمَانه، لأنَّه ولد زمن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» . وَمن دون سعيد لَا يوثق بهم لضعفهم.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : «إنَّما قَالَ أَبُو عمر: وَلم يدْرك زَمَانه لأنَّ ربيعَة الْمَذْكُور اسْتشْهد بِخَيْبَر» .
وأجمل الْحَافِظ أَبُو عبد الله (الْمَقْدِسِي) القَوْل فِي ضعفه. فَقَالَ فِي «الْأَحْكَام» : «إِسْنَاده ضَعِيف» .
(1/726)
الحَدِيث الثَّالِث: عَن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - (قَالَت) : «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستاك عَرْضًا وَلَا يستاك طولا» . رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث عبد الله بن حَكِيم، عَن هِشَام (بن) عُرْوَة، عَن أَبِيه عَنْهَا. وَعبد الله هَذَا ضَعِيف.
قَالَ أَحْمد: يروي أَحَادِيث مُنكرَة، لَيْسَ (هُوَ) بِشَيْء. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِثِقَة. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّسَائِيّ. وَقَالَ عَلّي: لَيْسَ بِشَيْء، لَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ السَّعْدِيّ: كذَّاب مُصَرح. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: يضع الحَدِيث عَلَى الثِّقَات.
فَإِذا عُلمَ ضعف الحَدِيث تعين الِاسْتِدْلَال فِي الْمَسْأَلَة بِالْمَعْنَى، وَهُوَ (أنَّه) يخْشَى من الاستياك طولا إدماء اللثة، وإفساد عُمُور الْأَسْنَان، وَهُوَ (اللَّحْم) النَّابِت (بَينهَا) .
قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ نقلا عَن صَاحب «التَّتِمَّة» وَغَيره: أنَّهم رووا الْخَبَر أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اسْتَاكُوا عَرْضًا لَا طُولًا» .
وَهَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة لَا أعلم من خَرَّجَها بهذااللفظ مَعَ الْبَحْث وَالسُّؤَال عَنْهَا من الْحفاظ الأكابر.
(1/727)
فصل:
اعْلَم أَن الإِمام الرَّافِعِيّ - قَدَّس الله روحه ونَوَّر ضريحه - لما ذكر أوَّل حَدِيث فِي هَذَا الْفَصْل - أَعنِي فصل السِّوَاك - قَالَ: وَالْأَخْبَار (فِيهِ) كَثِيرَة. فلنذكر نبذة مهمة من تِلْكَ الْأَخْبَار الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا، فَلَا تسأم أَيهَا النَّاظر مِنْهَا، وأسرد ذَلِكَ فِي فُصُول ليَكُون أجمع لضبطها وَأقرب لتناولها.
فصل:
فِي أنَّ السِّوَاك (من) سنَن من قبلنَا
عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَرْبَعِ منْ سُنَنِ المُرْسَلِين، الخِتَان والسِّوَاك والتَّعَطّر والنِّكَاح» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن مَكْحُول، عَن أبي الشِمَال - بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْمِيم - ابْن ضِباب - بِكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة - عَن أبي أَيُّوب. وَقَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب.
قَالَ: وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن مَكْحُول، عَن أبي أَيُّوب من غير ذكر أبي الشمَال. والأوَّل أصحّ.
قُلْتُ: أخرجه أَحْمد فِي «الْمسند» كالثاني، فَقَالَ: ثَنَا يزِيد، ثَنَا
(1/728)
الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن مَكْحُول، قَالَ: قَالَ أَبُو أَيُّوب: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَذكره سَوَاء إلاَّ أنَّه (قَالَ) : «العِطْر» بدل «التَّعَطّر» و «الحَيَاء» بدل «الخِتَان» .
قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «الْأَطْرَاف» : وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن (عبيد الله) (الْعَرْزَمِي) ، عَن مَكْحُول، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلا.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» - فِيمَا رَأَيْت -: هَذَا الِاخْتِلَاف هُوَ من حجاج بن أَرْطَاة فإنَّه كثير الْوَهم.
قُلْتُ: وينكر عَلَى (التِّرْمِذِيّ) تحسينه لهَذَا الحَدِيث، فَإِن الْحجَّاج بن أَرْطَاة ضَعِيف جدًّا، وَأَبُو الشمَال مَجْهُول، سُئِلَ عَنهُ أَبُو زرْعَة فَقَالَ: لَا أعرفهُ إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث وَلَا أعرف اسْمه. فَلَعَلَّهُ اعتضد عِنْده بطرِيق آخر فَصَارَ حسنا. والطريقة الَّتِي أفادها الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي لَا تقويه؛ لأنَّ الْعَرْزَمِي أَضْعَف من الْحجَّاج بِكَثِير. وَقد سبق بالاعتراض عَلَى التِّرْمِذِيّ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «شرح الْمُهَذّب» .
وَاعْلَم: أَن الَّذِي رَأَيْنَاهُ فِي نُسْخَة من التِّرْمِذِيّ مُعْتَمدَة: (الحَيَاء) بياء مثناة تَحت بعد الْحَاء. فإيَّاك أَن تصحفه «بِالْحِنَّاءِ» كَمَا سُبِقْتَ بِهِ.
(1/729)
(ثمَّ) رَأَيْته فِي التِّرْمِذِيّ الْخِتَان بالنُّون فِي الآخر.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : «الحَيَاء» بِالْيَاءِ لَا بالنُّون. قَالَ: وإنَّما ضبطته لأنِّي رَأَيْت من صَحَّفَه فِي عصرنا. وَقد سبق بتصحيفه. وَقَالَ: وَقد ذكر الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كِتَابه الِاسْتِغْنَاء فِي اسْتِعْمَال الْحِنَّاء وأوضحه، وَقَالَ: هُوَ مُخْتَلف فِي إِسْنَاده وَمَتنه، يرْوَى عَن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَأنس وجد مَلِيح كلهم عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى لفظ «الحَيَاء» ، قَالَ: وَكَذَا أوردهُ الطَّبَرَانِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مَنْدَه، وَأَبُو نعيم وَغَيرهم من الْحفاظ والأئمَّة، وَكَذَا هُوَ فِي «مُسْند الإِمام أَحْمد» وَغَيره من الْكتب. وَهُوَ كَمَا قَالَ: فقد رَأَيْته كَذَلِك فِي التَّأْلِيف الْمَذْكُور، وأنَّ بعض المصنِّفين صَحَّف «الْحيَاء» ب «الْحِنَّاء» . وأنَّ بعض هَؤُلَاءِ الروَاة ذكر «الْحلم» ، وَبَعْضهمْ ذكر «الْخِتَان» و «الْحجامَة» .
وَقد وَقع فِي هَذَا التَّصْحِيف، الْحَافِظ محب الدَّين الطَّبَرِيّ فِي «أَحْكَامه الْكَبِير» . فَقَالَ بعد أَن أخرج الحَدِيث من طَرِيق التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ «الْحِنَّاء» قَالَ: المُرَاد بِالْحِنَّاءِ، - وَالله أعلم - الخضاب فِي الرَّأْس واللحية لَا فِي الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ تَوْفِيقًا بَينه وَبَين غَيره من الأدلَّة. وَهُوَ غَرِيب.
(1/730)
(وَحَدِيث جد) مليح الَّذِي ذكره أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ رَوَاهُ أَبُو بكر بن (أبي) خَيْثَمَة، أَي فِي «تَارِيخه» ، وَأَبُو نعيم فِي «الْمعرفَة» من حَدِيث مَلِيح - بِفَتْح الْمِيم وَكسر اللاّم - بن عبد الله الخطمي، عَن أَبِيه، عَن جدِّه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «خَمْس مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِين: الحَيَاء، والحلم، والحجَامَة، والسِّوَاك، والتَّعَطّر» . وَرَوَاهُ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي الأَصْل السَّادس وَالسِّتِّينَ وَالْمِائَة من «نَوَادِر الْأُصُول» .
وَرَأَيْت بِخَط الصريفيني الْحَافِظ فِي كِتَابه: «أَسمَاء (رُوَاة) الْكتب الْأَحَد عشر» : «المجمر» بدل «الْحلم» . قَالَ: (وَعَن مليح بن عبد الله) . (و) حَدِيث بن عَبَّاس رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو نعيم من حَدِيث ابْن عَبَّاس بِمثل حَدِيث مليح. وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ أَيْضا بِمثلِهِ وَزَاد «وكَثْرة الأَزْوَاجِ» .
(1/731)
فصل:
فِي أنَّ السِّوَاك من الْفطْرَة
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «عَشرٌ مِنَ الفِطْرةِ: قَصُّ الشَّارِب، (وإعْفَاءُ) اللّحْيَة، والسِّوَاك، واِسْتِنْشَاقُ المَاءِ، وقَصُّ الأَظفارِ، وغَسْلُ البراجم، ونتفُ الإِبطِ، وحَلْقُ العَانَة، وانتقاص المَاءِ» .
قَالَ مُصعب بن شيبَة: «ونسيت الْعَاشِرَة إلاَّ أَن تكون الْمَضْمَضَة» . وَقَالَ وَكِيع: انتقاص المَاء: الِاسْتِنْجَاء. رَوَاهُ مُسلم.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره من رِوَايَة عمار، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب الْكَلَام عَلَيْهِ حَيْثُ ذكره الإِمام الرَّافِعِيّ.
وَعَن عبد الله (بن جَراد) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «السِّوَاكُ مِنَ الْفِطْرَةِ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي كِتَابه الَّذِي جمعه فِي «فضل الاستياك وآدابه وَمَا رَوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيهِ وَأَحْكَامه» . وَجَمِيع مَا نعزيه فِي هَذِه الْمَوَاضِع وَمَا سبق فَهُوَ مِنْهُ.
(2/5)
فصل:
فِي أنَّه طَهَارَة
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الطَّهَارَاتُ أَرْبع: قَصُّ الشَّارِبِ، وحَلْقُ العَانةِ، وتَقْلِيمُ الأَظفِارِ، والسِّوَاكُ» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَزَّار فِي كتاب الطَّهَارَة من «سنَنه» من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، عَن أبي سَلمَة عَنهُ.
وَعَن أبي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الطَّهَارَاتُ أَرْبَع» . فَذَكرهنَّ مثل الَّذِي قبله.
رَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا فِي الْكتاب الْمَذْكُور من حَدِيث مُعَاوِيَة بن يَحْيَى، عَن يُونُس بن ميسرَة، عَن أبي إِدْرِيس عَنهُ. وَكَذَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» .
فصل:
فِي وَصِيَّة جِبْرِيل عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام
سيد الْأمة - أعطَاهُ الله الْوَسِيلَة والفضيلة - باستدامة السِّوَاك
عَن أمِّ سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا زَالَ جِبريل يُوصِينِي بالسِّوَاكِ حتَّى خشيتُ أَنْ (يدردني) » .
(2/6)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي كتاب النِّكَاح. وَقَالَ: قَالَ البُخَارِيّ: حَدِيث حسن.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، (و) هَذَا لَفظه: «حتَّى خفتُ عَلَى (أَضْرَاسِي) » .
وَعَن أبي أُمَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «تَسَوَّكُوا فإنَّ السِّواكَ مَطهرةٌ للفمِ، مرضاةٌ للربِّ. مَا جَاءني جبريلُ إِلاَّ أَوْصَانِي بالسِّواكِ؛ حتَّى (لقدْ) خشيتُ أَنْ يُفْرَضَ عليَّ وعَلَى أمَّتي. ولَوْلا أنِّي أَخَافُ أَنْ أشقَّ عَلَى أمَّتي لفرضته عَلَيْهِم، وإِنِّي لأَستاكُ حتَّى لقد خشيتُ أنْ (يدرد) مقادم فَمِي» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَقد سبق الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الحَدِيث الْحَادِي عشر من هَذَا الْبَاب.
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث عبيد الله بن زحر، عَن عَلّي بن يزِيد، عَن الْقَاسِم، عَن أبي
(2/7)
أُمَامَة مَرْفُوعا: «مَا جَاءنِي جبريلُ قَطّ إِلاَّ أمَرني بالسِّوَاكِ حتَّى (لقدْ) خشيتُ أنْ أحفي (مقادمَ) فَمِي» . وَهَذَا سَنَد واهٍ.
وَعَن نَافِع بن جُبَير، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَقْدَ أُمِرْتُ بالسِّوَاكِ حتَّى خشيتُ أَنْ (يدردني) » .
رَوَاهُ أَبُو نعيم مَرْفُوعا هَكَذَا بعد أَن رَوَاهُ مُرْسلا. وَفِي إِسْنَاده اثْنَان قد ضُعِّفا، أَحدهمَا: أَبُو الْحُوَيْرِث؛ الثَّانِي: أَبُو معشر نُجيح.
وَعَن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَمَرِني جبريلُ بالسِّوَاكِ حتَّى ظننتُ أّنِّي (سَأدرد) » .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» . وَفِي سَنَده عبيد بن وَاقد الْقَيْسِي، (ضعفه أَبُو حَاتِم. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ.
وَعَن ابْن عَبَّاس) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا زَالَ جِبْريلُ يُوصِينِي بالسِّوَاكِ حتَّى خشيتُ أَنْ يحفى فمي» .
(2/8)
رَوَاهُ أَبُو نعيم كَذَلِك وَالطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: «أُمِرْتُ بالسِّوَاكِ حتَّى خفتُ عَلَى أَسْنَانِي» وَفِي هَذَا عَطاء بن السَّائِب.
وَرَوَاهُ أَحْمد بِلَفْظ: «لَقدْ أُمْرْتُ بالسِّوَاكِ حتَّى ظننتُ أَنَّه سَيَنْزِل [بِهِ] عَلَيَّ قرآنٌ أَوْ وَحْيٌ» .
وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا زَالَ جبريلُ يُوصِينِي بالسِّواكِ [ويأمرني بِهِ] حتَّى كَادَ أنْ (يدردني) » .
وَعَن سعيد وعامر بن وَاثِلَة يرفعانه عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَقَدْ أُمِرْتُ بالسِّواكِ حتَّى خشيتُ عَلَّى فَمِي» .
وَعَن أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَقَدْ أُمِرْتُ بالسِّوَاكِ حتَّى خشيتُ عَلى لثتِي وَأَسْنَانِي» .
وَعَن الْمطلب بن عبد الله أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ) : «لَقَدْ (لزمتُ) السَّواكَ حتَّى لَقَدْ خشيتُ أَنْ (يدردني) » .
وَعَن عَائِشَة أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَقَدْ لزمتُ السِّوَاكَ حتَّى تَخَوَّفْتُ أنْ (يدردني) » .
(2/9)
رَوَاهَا كلهَا أَبُو نعيم بأسانيده، والأخير ابْن السكن فِي «صحاحه» .
قَالَ السَّرقسْطِي فِي كتاب «الدَّلَائِل» : «الدرد أَن تسْقط الْأَسْنَان، ومغارس الْأَسْنَان يُقَال لَهَا الدرد» .
وَيُقَال للشَّيْخ: مَا بَقِي إلاَّ درده.
وَيُقَال للصَّبِيّ قبل أَن تطلع أَسْنَانه: هُوَ يمضغ عَلَى دردره.
فصل:
فِي الْمُحَافظَة عَلَيْهِ حضرا وسفرًا
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا سَافر حمل الْمشْط والسواك والقارورة والمرآة والمكحلة» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «خمس لم يكن يُفَارِقهُنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر وَلَا حضر: الْمرْآة، والمشط، والمكحلة، والسواك، و (المدرى) » .
وَرَوَى هَذِه الرِّوَايَة الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «الكنى» ، والعقيلي فِي «الضُّعَفَاء» ، وَقَالَ: لَا يحفظ هَذَا الْمَتْن بِإِسْنَاد جيِّد. وَابْن الْجَوْزِيّ
(2/10)
وَقَالَ: لَا يصحّ. وعَلَّلها بِأَيُّوب بن وَاقد، وَسليمَان الشَّاذكُونِي.
وَفِي رِوَايَة: «سبع لم يكن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتركهنَّ فِي سفر وَلَا حضر: القارورة، والمشط، والمرآة، والمكحلة، والسواك، و (المقصّ) ، والمدرى» . قيل لهشام: المدرى مَا باله؟ قَالَ: حَدَّثَنَي أبي عَن عَائِشَة: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَهُ وفرة إِلَى شحمة أُذُنَيْهِ وَكَانَ يحركها بالمدرى» .
وَفِي رِوَايَة: «سبع لم يفتن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر وَلَا حضر: الْمرْآة، والقارورة، والمشط، والمكحلة، والمقراضان، والسواك» .
رَوَاهُمَا ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» ، وَضعفهمَا بِحُسَيْن بن علوان فِي الأول (و) بِيَعْقُوب بن (الْوَلِيد) فِي الثَّانِي، (و) قَالَ: لَا يصحان.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث عَائِشَة
(2/11)
(هَذَا) ، فَقَالَ: هُوَ حَدِيث مَوْضُوع وَفِي إِسْنَاده رجل كَذَّاب.
(وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كنت أَضَع للنَّبِي (ثَلَاثَة آنِية مخمرة: إِنَاء لطهوره، وإناء لسواكه، وإناء لشرابه» . رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث حريش بن الخريت الْبَصْرِيّ، وَقد انْفَرد بالإِخراج عَنهُ، وَهُوَ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ خَ: فِيهِ نظر. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: واهي الحَدِيث) .
وَعَن سُلَيْمَان بن صرد، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «اسْتَاكُوا وتَنَظَّفُوا، وأَوْتِرُوا فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» ، وَقَالَ: «لَا يرْوَى عَن سُلَيْمَان إلاَّ بِهَذَا الإِسناد» .
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما (أنَّ جِبْرِيل أَبْطَأَ عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فذُكر ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: وَكَيفَ لاَ يُبْطِئُ عَنْكُمْ وأَنْتُمْ حَوْلِي لاَ تَسْتَنُون، وَلاَ تُقْلِّمُون أَظْفَارَكُم، وَلَا (تشفون) شَوَارِبَكُمْ وَلَا تحفون حواجبكم» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم وَفِيه إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش. وَكَذَا أخرجه أَحْمد فِي «الْمسند» من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن ثَعْلَبَة بن مُسلم
(2/12)
(الْخَثْعَمِي) ، عَن أبي كَعْب مولَى ابْن عَبَّاس عَنهُ بِهِ، (بِلَفْظ) : «وَلَا تَقُصُّون شَوَارِبَكُمْ وَلَا تُنَقُّون رواجبكم» .
الرَّواجب: مَا بَين عقد الْأَصَابِع.
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يُفَارق مُصَلَّاهُ سواكه ومشطه وَكَانَ يكثر تَسْرِيح لحيته» .
رَوَاهُ ابْن طَاهِر فِي «صفوة التصوف» (وَفِيه خَارِجَة بن مُصعب وَقد ضَعَّفُوهُ) .
فصل:
فِيمَا جَاءَ فِي فضل الصَّلَاة الَّتِي يُتَسوك لَهَا
(عَلَى الصَّلَاة الَّتِي لَا يُتَسوك لَهَا)
فِيهِ أَحَادِيث:
(أَحدهَا: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وَقد رُوِيَ عَنهُ من طرق) :
أَحدهَا: عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب الْمَغَازِي، قَالَ: ذكر مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها
(2/13)
قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فَضْلُ الصَّلاَةِ الَّتِي يُسْتَاكُ لَهَا عَلَى (الصَّلاَةِ) التِي لاَ يُسْتَاكُ لَهَا (سبعين) ضعفا» .
أخرجه (الْأَئِمَّة) : أَحْمد فِي «مُسْنده» وَابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» ، وَقَالَ: فِي (الْقلب) من هَذَا الْخَبَر شَيْء فإنِّي أَخَاف أنَّ مُحَمَّد بن إِسْحَاق لم يسمع من الزُّهْرِيّ. وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» ، وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَالْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ: هَذَا الحَدِيث أحد مَا يُخاف أَن يكون من تدليسات مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار وأنَّه لم يسمعهُ (من الزُّهْرِيّ. وَذكر عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل، عَن أَبِيه أنَّه قَالَ: إِذا قَالَ ابْن إِسْحَاق: وذكرَ [فلَان] فإنَّه لم يسمعهُ) .
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُعَاوِيَة بن يَحْيَى (الصَّدَفِي) ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة. وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، قَالَ الزُّهْرِيّ: عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة.
(2/14)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَيُقَال إِن مُحَمَّد بن إِسْحَاق أَخذه من مُعَاوِيَة بن يَحْيَى الصَّدَفِي لأنَّه كَانَ (رسيله) إِلَى الرّيّ فِي صحابة الْمهْدي، وَمُعَاوِيَة ضَعِيف.
قُلْتُ: وَمِنْهُم من يوثقه كَمَا سَيَأْتِي، لَا جرم. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين (بن) الصّلاح: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث لَا يقوى. وَكَذَا قَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين، فَحِينَئِذٍ (يُنْكَر) عَلَى الْحَاكِم أبي عبد الله فِي تَصْحِيحه لَهُ؛ لِأَن ابْن إِسْحَاق أحد مَا (يُنبز) بِهِ التَّدْلِيس وَلَا خلاف أَن المدلس إِذا لم يذكر (سَمَاعا) لَا يحْتَج بروايته. وَقد قَالَ فِيهِ: ذكر الزُّهْرِيّ - أَو قَالَ الزُّهْرِيّ - وَفِي كَونه - عَلَى تَقْدِير صِحَّته - عَلَى شَرط مُسلم نظر؛ لِأَن ابْن إِسْحَاق لم يرو لَهُ مُسلم شَيْئا محتجًا بِهِ، وإنَّما رَوَى (لَهُ) مُتَابعَة.
وَقد عُلِمَ من عَادَة مُسلم وَغَيره من أهل الحَدِيث أنَّهم يذكرُونَ فِي المتابعات من لَا يحْتَج بِهِ للتقوية لَا للاحتجاج، وَيكون اعتمادهم عَلَى الإِسناد الأوَّل، وَهَذَا مَشْهُور مَعْرُوف عِنْدهم. نعم: هَذِه عَادَة أبي عبد الله الْحَاكِم، يُطلق عَلَى من أخرج لَهُ فِي الصَّحِيح اسْتِشْهَادًا وَنَحْوه أنَّه عَلَى شَرطه، كَذَا استقرأته من «مُسْتَدْركه» .
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن مُعَاوِيَة بن يَحْيَى الصَّدَفِي، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة قَالَت: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «تَفْضُل الصَّلاَةُ التِي يُسْتَاكُ لَهَا عَلَى الصَّلاَةِ التِي لاَ يُسْتَاكُ لَهَا سبعين ضعفا» .
(2/15)
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَابْن عدي، وَأَبُو نعيم، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «شعب الإِيمان» ، وَمُعَاوِيَة بن يَحْيَى هَذَا ضَعِيف، قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ مرّة: هَالك. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ السَّعْدِيّ: ذَاهِب الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يَشْتَرِي الْكتب وَيحدث بهَا، ثمَّ تغير حفظه وَكَانَ يحدث بالوهم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح.
قُلْتُ: لَكِن قَالَ البُخَارِيّ: (أَحَادِيثه) عَن الزُّهْرِيّ مُسْتَقِيمَة كأنَّها من كتاب. وَهَذَا من حَدِيثه عَنهُ، كَمَا تقدم، وَأخرج لَهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك (أَيْضا) .
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن سُفْيَان، عَن مَنْصُور (عَن الزُّهْرِيّ) ، عَن
(2/16)
عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رَكْعَتِين بِالسِّوَاكِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعين رَكْعَة (بِلاَ) سِوَاك» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم عَن أبي بكر الطلحي، ثَنَا سهل بن الْمَرْزُبَان، عَن مُحَمَّد التَّمِيمِي الْفَارِسِي، ثَنَا عبد الله بن الزبير الْحميدِي، ثَنَا سُفْيَان. وَهَذِه الطَّرِيق أَجود الطّرق، فَمن الْحميدِي إِلَى عَائِشَة (أَئِمَّة) ثِقَات.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن ابْن لَهِيعَة عَن (أبي) الْأسود، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رَكْعَتَان عَلَى أَثَرِ السِّوَاكِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِين رَكْعَة بِغَيرِ سِوَاك» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه «الْمُتَّفق والمفترق» من جِهَة (سعيد بن عفير) عَن ابْن لَهِيعَة.
وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيّ إِلَى هَذِه الطَّرِيقَة، وَقَالَ: إنَّها ضَعِيفَة، وَلَا شكّ فِي ذَلِكَ لما لَا يخْفَى.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن عبد الله بن أبي يَحْيَى، عَن أبي الْأسود، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «رَكْعَتَان بَعدَ السِّوَاكِ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ
(2/17)
سبعين رَكْعَة قَبْلَ السِّوَاك» .
رَوَاهُ الْحَارِث بن أبي أُسَامَة فِي «مُسْنده» ، والخطيب فِي كِتَابه «غنية الملتمس فِي إِيضَاح الملتبس» ، وَهُوَ فِي بعض نسخ الْبَيْهَقِيّ، وَفِيه مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ وَهُوَ مَشْهُور الْحَال، وَقد وثق وَكذب.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن فرج بن فضَالة، عَن عُرْوَة بن رُوَيْم، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّها قَالَت: «صَلاَةٌ عَلَى سِواكٍ أَفْضَلُ مِن صَلاةٍ عَلَى غَيرِ سِوَاكٍ بِسَبْعين دَرَجَة» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث هَاشم بن الْقَاسِم (الحَرَّاني) ، ثَنَا عِيسَى بن يُونُس عَن فرج بِهِ. وَفرج ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره، وقَوَّاه أَحْمد.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي بعض نسخ «السّنَن» بِهَذَا السَّنَد، وَلَفظه: «صَلاَةٌ بِسِوَاكٍ خَيرٌ من سَبْعين صَلاَة بِغَيرِ سِوَاكٍ» . قَالَ: وَهَذَا إِسْنَاد غير قوي.
الطَّرِيق السَّابِع: عَن مسلمة بن عَلّي الْخُشَنِي، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: «رَكْعَتَان بِسِوَاكٍ أفضلُ مِنْ سَبْعين رَكْعَة بِغَيرِ سِوَاكٍ» .
(2/18)
قَالَ ابْن طَاهِر فِي كِتَابه «التَّذْكِرَة فِي الْأَحَادِيث المعلولة» : إنَّما هُوَ عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن حسان بن عَطِيَّة، أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ مُرْسل، وَصله هَذَا وَلَيْسَ هُوَ بِشَيْء فِي الحَدِيث. و (أجمل) يَحْيَى بن معِين إِمَام هَذَا الْفَنّ القَوْل فِي هَذَا الحَدِيث، (فَقَالَ) : لَا يَصح حَدِيث «الصَّلَاة بإثر سواك أفضل من الصَّلَاة بِغَيْر سواك» . وَهُوَ بَاطِل.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «صَلاَةٌ بِسِوَاكٍ أفضلُ مِنْ (خَمْسٍ) وسَبْعِين صَلاَة بِغَيرِ سِوَاكِ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ وَفِيه سعيد بن سِنَان (أَبُو مهْدي الْحِمصِي، وَهُوَ ضَعِيف كَمَا قَالَ أَحْمد، وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء) لَيْسَ بِثِقَة أَحَادِيثه بَوَاطِيلُ. وَقَالَ البُخَارِيّ والرازي: مُنكر الحَدِيث. (وَقَالَ عَلّي بن الْجُنَيْد وَالنَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كَانَ يتهم بِوَضْع الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّالِث: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّ رَسُول الله
(2/19)
(قَالَ: «لِأَن أُصَلِّي (رَكْعَتَين) بِسِوَاكٍ أَحَبُّ إَلَيَّ مِنْ أنْ أُصَلِّي (سَبْعِين) رَكْعَة بِغَيرِ سِوَاكٍ» . وَفِي رِوَايَة بعد ذَلِكَ: «إِنَّ العبدَ إِذَا تَسَوَّك ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ أَتَاهُ الْملك حتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ» .
أخرجهُمَا أَبُو نعيم عَن مُحَمَّد بن حبَان، عَن أبي بكر بن [أبي] عَاصِم، عَن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي، عَن يزِيد بن عبد الله، ثَنَا عبد الله بن أبي الْحَوْرَاء أنَّه سمع سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، الحَدِيث.
الحَدِيث الرَّابِع: عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «رَكْعَتَان بِالسِّوَاكِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِين رَكْعَةٍ بِغَيرِ سِوَاكٍ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم أَيْضا عَن أَحْمد بن بنْدَار، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا، عَن جَعْفَر بن أَحْمد، عَن أَحْمد بن صَالح، عَن طَارق بن عبد الرَّحْمَن، عَن مُحَمَّد بن عجلَان، عَن أبي الزبير، عَن جَابر.
وَمُحَمّد بن عجلَان صَدُوق، قَالَ الْحَاكِم وَغَيره: سيِّئ الْحِفْظ، وَأخرج لَهُ مُسلم ثَلَاثَة عشر حَدِيثا.
وَرَوَى أَبُو نعيم أَيْضا فِي ذَلِكَ عَن جُبَير بن نفير مَرْفُوعا مُرْسلا.
(2/20)
الحَدِيث الْخَامِس: وَهُوَ غَرِيب جدًّا، عَن أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «صَلاةٌ بِسِوَاكٍ تَعْدِلُ أَرْبَعمِائَة صَلَاة بِغَيرِ سِوَاكٍ، وخَرَجَ أَهْلُهَا مِنَ الذّنُوبِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ، وإِنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ فَلَيسَ لَهُ عَلَيهِمْ سَبِيلٌ» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي، فِيمَا خرجه لأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن الْخطاب الرَّازِيّ المشتهر ب «سداسيات الرَّازِيّ» ، وَقد وَقع لنا هَذَا (الْخَبَر) بعلو. أخبرنيه الْمسند أَحْمد بن كشتغدي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، أَنا أَبُو البركات أَحْمد بن عبد الصَّمد بن النّحاس قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع سنة سبعين وسِتمِائَة أَنا ابْن موفا، أَنا (أَبُو) عبد الله الرَّازِيّ، أَنا مُحَمَّد بن أَحْمد الْبَغْدَادِيّ، أَنا ابْن (عَرَفَة) السمسار بِبَغْدَاد، ثَنَا أَبُو عَمْرو أَحْمد بن الْفضل النفري بِنَفر، نَا عمار بن يزِيد، ثَنَا مُوسَى بن هِلَال (الطَّوِيل عَن أنس فَذكره، كَمَا قَدَّمناه، وَآفَة هَذَا السَّنَد من مُوسَى بن هِلَال) هَذَا.
قَالَ ابْن حبَان: هُوَ شيخ كَانَ يزْعم أنَّه سمع من أنس بن مَالك، رَوَى عَنهُ أَشْيَاء مَوْضُوعَة كَانَ يَضَعهَا أَو وُضِعت لَهُ فَحَدَّثَ بهَا، لَا يحل كَتْبُ حَدِيثه إلاَّ عَلَى جِهَة التَّعَجُّب، رَوَى عَنهُ نُسْخَة مَوْضُوعَة أكره ذكرهَا لشهرتها عِنْد من هَذَا الشَّأْن صناعته.
(وَقَالَ الْحَافِظ رشيد الدَّين الْعَطَّار فِي «الثمانيات» تَخْرِيجه: هَذَا حَدِيث غَرِيب جدا وَفِي إِسْنَاده نظر) .
(2/21)
الحَدِيث السَّادِس: عَن عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أنَّه أَمر بِالسِّوَاكِ وَقَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنَّ العبدَ إِذَا تَسَوَّكَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَامَ المَلَكُ خَلْفه يَسْمَعُ القُرآنَ، فَلاَ يَزَالُ عَجَبه بالقرآنِ يُدْنِيهِ حتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ، فَمَا يَخْرُجُ منْ فِيهِ شيءٌ مِنَ القُرآنِ إِلاَّ صَارَ فِي جَوْفِ ذَلِكَ المَلَكِ، فَطَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ لِلْقُرْآنِ» .
(وَفِي رِوَايَة مَوْقُوفَة عَلَيْهِ - كرَّم الله وَجهه - أَيْضا: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيلِ فَلْيتَسَوَّك، فَإِنَّه إِذَا قَرَأ القرآنَ دَنَى مِنهُ المَلَكُ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَدْنُو حتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ» ) .
وَفِي رِوَايَة عَن جَابر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيلِ يُصَلِّي فَلْيَسْتَاك فَإِنَّه إِذَا قَامَ يُصَلِّي أَتَاهُ مَلَكٌ (فَيَضَع) فَاهُ عَلَى فِيهِ فَلاَ يَخْرُجُ شَيءٌ مِنْ فِيهِ إلاَّ وَقَعَ فِي (فِيِّ) المَلَكِ» .
(رَوَاهَا) أَبُو نعيم، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : وَإسْنَاد رِوَايَة جَابر كلهم موثقون.
فصل:
فِي مَنَافِع جَاءَت فِي السِّوَاك وخصال أُخر
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فِي
(2/22)
السِّوَاكِ عَشْر خِصَالٍ: يُطَيِّبُ الْفَمَ، ويشد اللّثَةَ، ويَجْلُو البَصَر، ويُذهِبُ البَلْغَم، ويُذْهِبُ (الْحفر) ، وَيُوَافَقُ السُّنَّة، ويُفْرِحُ المَلاَئِكة، ويُرْضِي الرَّبَ، وَيزِيدُ فِي الْحَسَنَاتِ، وَيُصَحِّحُ المَعِدة» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث الْخَلِيل بن مرّة، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ كَذَلِك فِي «شعب الإِيمان» ، إلاَّ أنَّه قَالَ بدل: «وَيُوَافِقُ السُّنَّةَ» : «وَهوَ مِنَ السُّنَّةِ» ، وَبدل: «يُطَهِّرُ الفَم ويُرْضِي الرَّبَّ» : «مَطْهَرة لِلْفَمِ، مَرْضَاة لِلرَّبِّ» ، وَبدل «يُفْرِحُ المَلائِكَة» : «مَفْرَحَة للمَلائِكةِ» ، وَالْمعْنَى وَاحِد ثمّ (قَالَ) : تفرد بِهِ الْخَلِيل بن مرّة وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث.
(قُلْتُ: هُوَ كَمَا قَالَ، فقد ضعفه يَحْيَى بن معِين وَالنَّسَائِيّ. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث) . وَقَالَ ابْن حبَان: مُنكر الحَدِيث عَن الْمَشَاهِير، كثير الرِّوَايَة عَن المجاهيل. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: شيخ صَالح. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن عدي: لَيْسَ بمتروك.
وَرَوَى هَذَا الحَدِيث مَوْقُوفا عَلَى ابْن عَبَّاس الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، وَهَذَا لَفظه: «فِي السِّواكِ عَشر خِصَال: مَرْضَاةٌ للرَّبِّ،
(2/23)
مَسْخَطَةٌ للشَيْطان، مَفْرَحَةٌ للمَلائِكَةِ، (جَيِّد) (للثة) ، و (يُذْهبُ الْحفر) ، ويَجْلو الْبَصَرَ، ويُطَيّبُ الْفَم و (يُقِلُّ) البلغمَ، وَهُوَ مِنَ السُّنةِ، ويَزِيدُ فِي الحَسَنَاتِ» .
وَهُوَ من رِوَايَة (مُعلى) بن مَيْمُون، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث كَمَا قَالَه أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن عدي: أَحَادِيثه مَنَاكِير، غير (مَحْفُوظَة) .
وَذكر هَذِه الرِّوَايَة ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ كَمَا تقدم، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث (لَا يصحّ) ، وَعلله بِمَا قدمْنَاهُ وَالَّذِي رَأَيْته فِي «سنَنه» مَا قَدمته.
وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (السِّوَاكُ يَزِيدُ الرَّجلُ فَصَاحَةً» .
رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَبُو جَعْفَر الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» ، وَأَبُو يعْلى فِي «مُعْجَمه» ، والخطيب فِي «تلخيصه» من رِوَايَة (مُعلى) بن مَيْمُون.
(2/24)
وَهُوَ واهٍ كَمَا تقدم، عَن [عمر] بن دَاوُد، عَن سِنَان بن أبي سِنَان، عَن أبي هُرَيْرَة.
قَالَ الْعقيلِيّ: (عمر) وَسنَان مَجْهُولَانِ، والْحَدِيث مُنكر غير مَحْفُوظ، ومُعَلَّى ضَعِيف، وَلَا يعرف الحَدِيث إلاَّ [بعمر] .
وَقَالَ الْخَطِيب: (عمر) بن دَاوُد مَجْهُول، والْحَدِيث مَعْلُول.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث (لَا أصل) لَهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
و (أمّا) الصغاني فَقَالَ: إنَّه مَوْضُوع.
وَرَوَى أَبُو نعيم عَن سُلَيْمَان بن أَحْمد (عَن أَحْمد) بن عبد الْوَهَّاب بن نجدة، ثَنَا عبد الْوَهَّاب بن نجدة، ثَنَا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن ثَوْر بن يزِيد، عَن خَالِد بن معدان أنَّ أَبَا الدَّرْدَاء قَالَ: «عَلَيْكُم بِالسِّوَاكِ فَلَا تغفلوه [وأديموا بِهِ] . (فإنَّ فِي السِّوَاك أَرْبعا
(2/25)
وَعشْرين) خصْلَة، أفضلهَا خصْلَة، وأعلاها دَرَجَة (أنَّه) يُرضي الرَّحْمَن، وَمن أَرْضَى الرَّحْمَن فإنَّه يحل الْجنان، وَالثَّانيَِة أنَّه يُصِيب السنَّة، وَالثَّالِثَة أنَّه تضَاعف صلَاته سبعا وَسبعين ضعفا، وَالرَّابِعَة يورثه إدمان السِّوَاك السعَة والغنى، وَالْخَامِسَة يطيب نكهته، وَالسَّادِسَة (يشد) لثته حتَّى لَا تسترخي مَعَ إدمان السِّوَاك، وَالسَّابِعَة يذهب عَنهُ الصداع، ويسكن عروق رَأسه فَلَا يضْرب عَلَيْهِ عرق سَاكن، ولايسكن عَلَيْهِ عرق ضَارب، وَالثَّامِنَة يذهب عَنهُ وجع الضرس حتَّى لَا يجده، والتاسعة تصافحه الْمَلَائِكَة لما يُرى من النُّور عَلَى وَجهه، والعاشرة ينقي (أَسْنَانه) حتَّى تبرق، والحادية (عشرَة) تشيعه الْمَلَائِكَة إِذا خرج إِلَى مَسْجده لصلاته فِي الْجمع، وَالثَّانيَِة (عشرَة) تستغفر لَهُ (حَملَة) الْعَرْش عِنْد رفع أَعماله فِي الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس، وَالثَّالِثَة (عشرَة) تفتح لَهُ أَبْوَاب الرَّحْمَة، وَالرَّابِعَة (عشرَة) يُقَال لَهُ: هَذَا مقتد بالأنبياء يقفو آثَارهم ويلتمس هديهم، و (الْخَامِسَة) (عشرَة) يكْتب لَهُ أجر من تسوَّك فِي يَوْمه ذَلِكَ فِي كلِّ يَوْم، و (السَّادِسَة) عشرَة تغلق عَنهُ أَبْوَاب
(2/26)
الْجَحِيم، و (السَّابِعَة) (عشرَة) تستغفر لَهُ الْأَنْبِيَاء وَالرسل، وَالثَّامِنَة (عشرَة) لَا يخرج من الدُّنْيَا إلاَّ (طَاهِرا) مطهّرًا، والتاسعة (عشرَة) أَنه لَا يعاين ملك الْمَوْت عِنْد قبض روحه إلاَّ فِي الصُّورَة الَّتِي تقبض فِيهَا روح الْأَنْبِيَاء، وَالْعشْرُونَ أَن لَا يخرج من الدُّنْيَا حتَّى يُسْقَى شربة من حَوْض النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ الرَّحِيق الْمَخْتُوم، والحادية وَالْعشْرُونَ أَن (قَبره) يُوسع عَلَيْهِ وتكلمه الأَرْض من تَحْتَهُ وَتقول: كنت أحب (نِعْمَتك) عَلَى ظَهْري فلأتسعن عَلَيْك الْيَوْم وَأَنت فِي بَطْني (بِمَا) يقصر عَنهُ مناك، وَالثَّانيَِة وَالْعشْرُونَ أَن قَبره يصير عَلَيْهِ أوسع من مد الْبَصَر، وَالثَّالِثَة وَالْعشْرُونَ أَن الله عزَّ وجلَّ يقطع عَنهُ كل دَاء ويعقبه كل صِحَة عرفهَا فِي نَفسه من صغره إِلَى كبره، وَالرَّابِعَة وَالْعشْرُونَ أنَّه يكسى إِذا كسي الْأَنْبِيَاء، وَيكرم إِذا أكْرمُوا، وَيدخل الجنَّة مَعَهم بِغَيْر حِسَاب» .
وَذكر هَذَا الْأَثر الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي كِتَابه «الإِمام» ، ثمَّ قَالَ: «فِي مَتنه نَكَارَة وَهُوَ مَوْقُوف غير مَرْفُوع» .
وَفِي «الْحَاوِي» للماوردي: رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إنَّه مثراةٌ للمَالِ مَنماةٌ للعدد» .
(2/27)
وَذكر الشَّيْخ نصر الْمَقْدِسِي الزَّاهِد فِي «تهذيبه» : إِن فِي السِّوَاك عشر خِصَال. فعدَّ مِنْهَا: أنَّه (يفتح) الْمعدة، ويصفي الذِّهْن، وَيُطلق عقدَة اللِّسَان، وَيزِيد فِي الْحِفْظ. رَوَى أَخْبَارًا فِي ذَلِكَ.
و (ذكر) التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم أنَّه ينْبت الشّعْر ويصفي اللَّوْن.
وَذكر الْخفاف من قدماء أَصْحَابنَا فِي كتاب «الْخِصَال» : يزِيد فِي الْعقل أَيْضا، وَذكر غَيره: أنَّه يهون النزع ويبطئ الشيب و (يُسَوِّي الظّهْر) .
وَذكر بَعضهم من فَوَائده: إِجَابَة الدُّعَاء وَقَضَاء الْحَوَائِج.
فصل:
فِيمَا اسْتدلَّ بِهِ عَلَى أنَّ السِّوَاك كَانَ وَاجِبا
عَلَى سيِّدنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -
عَن عبد الله بن حَنْظَلَة بن أبي عَامر، (ابْن) الغسيل (أنَّ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (كَانَ يُؤْمَر بِالْوضُوءِ لكلّ صَلَاة طَاهِرا كَانَ أَو غير طَاهِر، فلمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) أُمِر بالسِّواك عِنْد كلّ صَلَاة، (وَوضع عَنهُ الْوضُوء إلاَّ من حدث) » .
(2/28)
رَوَاهُ (أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» ) وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح عَلَى (شَرط مُسلم) وَلم يخرجَاهُ.
وَفِي (رِوَايَة) أبي دَاوُد وَكَذَا أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالْحَاكِم: وَكَانَ عبد الله بن عمر (يرَى) أنَّ (بِهِ قُوَّة) عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ يَفْعَله حتَّى مَاتَ.
وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مَرْفُوعا: « (ثَلاثٌ) هُنَّ عَلَيَّ فَرَيضَةٌ وهُنَّ لَكُمْ سُنَّةٌ: السِّواكُ، والوِتْرُ، وقِيَامُ اللَّيلِ» .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَهُوَ حَدِيث لَا يَنْبَغِي الِاحْتِجَاج بِهِ أوردته للتّنْبِيه عَلَى ضعفه، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِي إِسْنَاده مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن - يَعْنِي الصَّنْعَانِيّ - وَهُوَ ضَعِيف جدا. قَالَ: وَلم يثبت فِي هَذَا إِسْنَاد.
وسنوضح الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب النِّكَاح حَيْثُ ذكره المُصَنّف - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(2/29)
فصل:
فِيمَا يسْتَدلّ بِهِ عَلَى أنَّه لَيْسَ وَاجِبا عَلَيْهِ (
(عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) : «أُمِرتُ بالسِّواكِ حتَّى خَشيت أَنْ يُكْتَبَ عَلَيَّ» .
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَذَلِك من طَرِيقين مدارهما عَلَى لَيْث. وَقد تَقَدَّم حَدِيث أبي أُمَامَة فِي فصل وَصِيَّة جِبْرِيل نبيّنا عَلَيْهِمَا أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالسِّوَاكِ، وَفِيه: «وَمَا جَاءنِي جِبْرِيلُ إِلاَّ أَوْصَانِي بالسِّواكِ حتَّى لَقَدْ خَشيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي» . وَقد تقدّم الْكَلَام عَلَى إِسْنَاده. وَعَلَى تَقْدِير صِحَة هذَيْن الْحَدِيثين فليسا يقاومان حَدِيث عبد الله بن حَنْظَلَة الْمُتَقَدّم.
فصل:
فِي (حجَّة) من قَالَ بِوُجُوبِهِ فِي حقّنا
عَن عبد الله بن عَمْرو بن حلحلة وَرَافِع بن خديج رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما (قَالَا) : قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «السِّوَاك وَاجِب (السِّوَاكُ وَاجِبٌ) ، وَغسلُ الجُمْعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» .
(2/30)
رَوَاهُ أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْقَاسِم بن مَالك الْمُزنِيّ، نَا (مُحَمَّد بن مسلمة بن عبد الْعَزِيز) عَنْهُمَا بِهِ.
فصل:
فِي (حجَّة) من قَالَ بِعَدَمِ وُجُوبه فِي حقّنا
عَن أبي أُمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أَنْ أشقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفْرَضتُ عَلَيهم السِّوَاكَ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث عُثْمَان بن أبي العاتكة، عَن عَلّي بن (يزِيد) ، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة. والأوّلان تُكلِّمَ فيهمَا. وتقدَّم قَرِيبا من رِوَايَة ابْن مَاجَه أَيْضا.
وَقد تقدَّم فِي الحَدِيث الْخَامِس عشر حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أَنْ أشقَّ علَى أمتِي لَفرضتُ عَلَيهِم السِّوَاكَ مَعَ الوضُوءِ ... » الحَدِيث.
وَعَن جرير، (عَن) الْأَعْمَش، عَن عبد الله بن يسَار الْجُهَنِيّ، عَن
(2/31)
ابْن أبي لَيْلَى، عَن أَصْحَاب مُحَمَّد «قَالَ) : قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أَنْ أشقَّ علَى أمتِي لَفرضتُ عَلَيهِم السِّوَاكَ كَمَا فرضَ عَلَيهِم الوضُوءِ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم وَإِسْنَاده جيّد.
فصل:
فِي السِّوَاك للصَّائِم
عَن عَامر بن ربيعَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «رَأَيتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا لاَ أُحْصِي يَتَسَّوَكُ وَهوَ صَائِمٌ» .
رَوَاهُ (أَحْمد و) التِّرْمِذِيّ، وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد وَلَفظه: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يستاك) وَهُوَ صَائِم مَا لَا أعد وَلَا أحصي» .
وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» بلفظين:
أَحدهمَا: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستاك وَهُوَ صَائِم مَا لَا أحصي» .
(وَالثَّانِي: «مَا أحصي» ) ، وَقَالَ: «أَكثر مَا رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستاك وَهُوَ صَائِم» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن.
قُلْتُ: إنَّما لم يُصَحِّحهُ؛ لأنَّ فِي إِسْنَاده عَاصِم بن عبيد الله
(2/32)
بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب ضَعَّفَه (النَّاس) ، قَالَ البُخَارِيّ وَأَبُو زرْعَة، وَأَبُو حَاتِم: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ يَحْيَى: ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ سيِّء الْحِفْظ كثير الْوَهم فَاحش الْخَطَأ مَتْرُوك. وَقَالَ س: لَا نعلم مَالِكًا رَوَى عَن إِنْسَان ضَعِيف مَشْهُور بالضعف إلاَّ عَاصِم بن (عبيد الله) هَذَا، وَجَمَاعَة أخر فَذكرهمْ، وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ عَن مَالك: أنَّه ضعفه. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: عَاصِم غير قوي. وَخَالف الْعجلِيّ، فَقَالَ: لَا بَأْس بِهِ. وَالتِّرْمِذِيّ فصحح حَدِيث الْأَذَان فِي أذن الْحُسَيْن.
وَأخرجه - (أَعنِي) ابْن خُزَيْمَة - فِي «صَحِيحه» ، وَقَالَ: (أَنا بَرِيء) من عُهْدَة عَاصِم، سَمِعت مُحَمَّد بن يَحْيَى يَقُول: عَاصِم هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ قِيَاس، وَسمعت مُسلم بن الْحجَّاج يَقُول: سَأَلنَا يَحْيَى بن معِين فَقُلْنَا عبد الله بن عقيل أحب إِلَيْك أم عَاصِم هَذَا؟ قَالَ: لست أحب وَاحِدًا مِنْهُمَا. قَالَ ابْن خُزَيْمَة: كنت لَا أخرج حَدِيث عَاصِم هَذَا فِي هَذَا الْكتاب - يَعْنِي «صَحِيحه» - ثمَّ نظرت فَإِذا شُعْبَة وَالثَّوْري قد رويا عَنهُ، وَيَحْيَى بن سعيد وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي - وهما إِمَامًا أهل
(2/33)
[زمانهما]- رويا عَن الثَّوْريّ عَنهُ. وَقد رَوَى عَنهُ [مَالك] خَبرا فِي غير «الْمُوَطَّأ» . انْتَهَى كَلَام ابْن خُزَيْمَة.
وَقَالَ عَفَّان: كَانَ شُعْبَة يَقُول: عَاصِم بن (عبيد الله) (لَو) قُلْتُ لَهُ: من بنى مَسْجِد الْبَصْرَة؟ فَقَالَ: ثَنَا فلَان عَن فلَان أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بناه. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ مغفَّل.
وَأخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» تَعْلِيقا، فَقَالَ: ويُذْكَر (عَن) عَامر بن ربيعَة، قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستاك وَهُوَ صَائِم مَا لَا أعد وَلَا أحصي» .
وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من خير خِصَال الصَّائِم السِّوَاك» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ، وَفِي إِسْنَاده مجَالد، وَفِيه مقَال، وَأخرج (لَهُ) مُسلم، (و) قَالَ الْبَيْهَقِيّ: غَيره أثبت مِنْهُ.
(2/34)
كَذَا قَالَ فِي الصَّوْم من «سنَنه» . وَقَالَ فِي بَاب الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة: ضعف.
قُلْتُ: وَيروَى بِدُونِهِ من طَرِيق مَسْرُوق عَنْهَا، «قُلْتُ: يَا رَسُول الله، السِّوَاك للصَّائِم؟ قَالَ: إِنَّه مِنْ أَحَبِّ خِصَالِهِ إِلَيَّ» . لَكِن فِي إِسْنَاده السّري بن إِسْمَاعِيل قَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث.
وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ أَحْمد: ترك الناسُ حَدِيثه.
وَفِي رِوَايَة لأبي (نعيم) عَن عَائِشَة قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إنَّك تديم السِّوَاك. قَالَ: «يَا عَائِشَة، لَو اِسْتَطَعْتُ أَنْ أَسْتَاكَ مَعَ كُلِّ شَفْعٍ لَفَعَلْت، وإِنَّ خَيرَ خِصَالِ الصائِمِ السِّواكَ» .
وَعَن إِبْرَاهِيم بن بيطار الْخَوَارِزْمِيّ، عَن عَاصِم الْأَحول قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك: أيستاك الصَّائِم؟ قَالَ: نعم. قُلْتُ: برطب السِّوَاك ويابسه؟ قَالَ: نعم. قُلْتُ: فِي أوَّل النَّهَار وَآخره؟ قَالَ: نعم. قُلْتُ لَهُ: عمَّن؟ قَالَ: عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «الكنى» ، وَقَالَ: إِبْرَاهِيم هَذَا مُنكر الحَدِيث.
وَقَالَ الْعقيلِيّ فِي «الضُّعَفَاء» - بعد أَن (أوردهُ) -: هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ وَإِبْرَاهِيم هَذَا لَيْسَ بِمَشْهُور بِالنَّقْلِ.
وَقَالَ ابْن عدي: إِبْرَاهِيم هَذَا لَهُ أَحَادِيث غير مَحْفُوظَة.
(2/35)
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث انْفَرد بِهِ إِبْرَاهِيم بن بيطار وَيُقَال: إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن - قَاضِي خوارزم - حَدَّث ببلخ عَن عَاصِم الْأَحول بِالْمَنَاكِيرِ، لَا يحْتَج بِهِ، قَالَ: وَرُوِيَ من طَرِيق آخر عَنهُ فَذكرهَا وضَعَّفَها.
قُلْتُ: جَعلهمَا رجلا وَاحِدًا، وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» جَعلهمَا رجلَيْنِ، وَكَذَلِكَ الذَّهَبِيّ فِي «الضُّعَفَاء» ، و «الْمِيزَان» ، لكنَّه فِي الْمِيزَان قَالَ فِي تَرْجَمَة إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن: إنَّه (هُوَ) الأوَّل. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «التَّحْقِيق» : هَذَا حَدِيث لَا يَصح. ثمَّ غلا فَذكره فِي «الموضوعات» ، وكأنَّه تبع ابْن حبَان فإنَّه قَالَ: لَا أصل لهَذَا من حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا من حَدِيث أنس، وَإِبْرَاهِيم بن بيطار يروي عَن عَاصِم الْمَنَاكِير الَّتِي لَا يجوز الِاحْتِجَاج بهَا، وَجزم بمقالة ابْن حبَان، ابْن طَاهِر فِي «التَّذْكِرَة» كعادته.
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تسوك وَهُوَ صَائِم» . رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بن مَنْدَه الْحَافِظ فِي بعض «أَمَالِيهِ» ، عَن عُثْمَان بن مُحَمَّد بن سعيد، ثَنَا (عبيد الله) بن يَعْقُوب، حَدَّثَنَي
(2/36)
جدي، حَدَّثَنَا أَحْمد بن منيع، ثَنَا الْهَيْثَم بن خَارِجَة، ثَنَا يَحْيَى بن حَمْزَة، عَن النُّعْمَان بن الْمُنْذر، عَن عَطاء، وَطَاوُس وَمُجاهد عَن ابْن عَبَّاس (بِهِ) .
وَعَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «لَك السِّوَاك إِلَى الْعَصْر، فَإِذا صليت الْعَصْر فألقه فإنِّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ الله أَطيبُ مِنْ رِيحِ المِسْكِ» » .
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَفِي سَنَده عمر بن قيس سندل الْمَكِّيّ وَهُوَ واه.
قَالَ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا: مَتْرُوك. زَاد أَحْمد: أَحَادِيثه بَوَاطِيلُ لَا تَسَاوِي شَيْئا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب: من بنى أَو غرس فِي غير أرضه: ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ. وَسكت عَنهُ هُنَا وَلَعَلَّه لأجل أنَّه من فَضَائِل الْأَعْمَال.
وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة خلاف هَذَا، قَالَ ابْن أبي شيبَة فِي «المُصَنّف» : ثَنَا وَكِيع، عَن سعيد بن بشير، عَن قَتَادَة، عَن أبي هُرَيْرَة (سُئِلَ عَن السِّوَاك للصَّائِم، فَقَالَ: أدميت فمي الْيَوْم مرَّتَيْنِ) . وَهَذَا سَنَد حسن إلاَّ أنَّه مُرْسل. وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن قَتَادَة. وَتقدم فِي طرق حَدِيث «السِّوَاك مطهرة للفم مرضاة للرب) من حَدِيث أنس: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يستاك وَهُوَ صَائِم» .
(2/37)
وَسَيَأْتِي فِي كتاب الصّيام - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - حَدِيث خباب وَابْن عمر فِي الْبَاب حَيْثُ ذكرهمَا المصنِّف وهما جَمِيعًا ضعيفان.
وَفِي «المعجم الْكَبِير» للطبراني، عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم، قَالَ: «سَأَلت معَاذ بن جبل أتسوك وَأَنت صَائِم؟ قَالَ: نعم، قُلْتُ: أَي النَّهَار أتسوك؟ قَالَ: أَي النَّهَار شِئْت [إِن شِئْت] غدْوَة وَإِن شِئْت عَشِيَّة. قُلْتُ: فَإِن النَّاس يكرهونه عَشِيَّة. قَالَ: ولِمَ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ الله أَطيبُ مِنْ رِيحِ المِسْكِ. فَقَالَ: سُبْحَانَ الله لقد أَمرهم [رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -] بِالسِّوَاكِ [حِين أَمرهم] وَهُوَ يعلم أنَّه لابد أَن يكون بفي الصَّائِم خلوف وإنْ استاك، وَمَا كَانَ بِالَّذِي يَأْمُرهُم أَن ينتنوا أَفْوَاههم عمدا. مَا فِي ذَلِكَ من الْخَيْر شَيْء. بل فِيهِ شَرّ إلاَّ من ابْتُلِيَ ببلاء لَا يجد مِنْهُ بُدًّا) .
وَفِي سَنَده بكر بن خُنَيْس، وَهُوَ واهٍ. قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَسُئِلَ ابْن الْمَدِينِيّ عَنهُ فَقَالَ: للْحَدِيث رجال. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك.
فصل:
فِي الاستياك قبل النَّوم
عَن مُحرز رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا نَام لَيْلَة حتَّى يسْتَنَّ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» .
(2/38)
وَرُوِيَ أَيْضا عَن (حرَام) - بِالْحَاء و (الرَّاء) الْمُهْمَلَتَيْنِ - بن عُثْمَان - وَهُوَ مَتْرُوك - عَن (ابْن) عَتيق، عَن جَابر «أنَّه كَانَ يستاك إِذا أَخذ مضجعه وَإِذا قَامَ من اللَّيْل وَإِذا خرج إِلَى الصُّبْح. فَقلت لَهُ: قد شققت عَلَى نَفسك بِهَذَا السِّوَاك، فَقَالَ: إنَّ أُسَامَة أَخْبرنِي أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يستاك هَذَا) السِّوَاك» .
وَرُوِيَ أَيْضا عَن عَائِشَة قَالَت: «مَا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يصنع شَيْئا بعد الْوتر إلاَّ أَن يستاك» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَوْلاَ أَنْ أشقَّ عَلَى أمَّتِي لأمرتُهم بِالسِّوَاكِ» . فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة عِنْد ذَلِكَ يخبر عَن نَفسه: (وَالله لقد استكت قبل أَن آكل وَبعد أَن آكل وَقبل أَن أرقد وَحين (أستيقظ)) .
فصل:
فِي السِّوَاك بالأسحار
عَن عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أشقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُم أَنْ يَسْتَاكُوا بِالأَسْحَارِ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم وَفِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة، وَسَيَأْتِي بَيَان حَاله.
(2/39)
فصل:
فِي السِّوَاك عِنْد الأزم (و) تغيّر الْفَم
عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: «أَتَى رجلَانِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حاجتهما وَاحِدَة، فَتكلم أَحدهمَا فَوجدَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي فِيه أخلافًا. فَقَالَ لَهُ: أَمَا تَسْتَاكُ؟ فَقَالَ: بلَى. وَلَكِنِّي لم أطْعم مُنْذُ ثَلَاث، فَأمر رجلا من أَصْحَابه فآواه وَقَضَى حَاجته» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ، وَفِي إِسْنَاده قَابُوس بن أبي ظبْيَان. قَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحْتَج بِهِ.
وَعَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كَانُوا يدْخلُونَ عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يستاكوا، فَقَالَ: تَدْخُلُونَ عَلَيَّ قلحًا، اِسْتَاكُوا، فَلَوْلاَ أَنْ أشقَّ عَلَى (أمَّتِي) لفرضتُ عَلَيهِم السِّوَاكَ عَنْدَ كُلِّ صلاةٍ (كَمَا) فرضت عَلَيْهِم الوضُوء» .
(و) رَوَاهُ الْبَغَوِيّ فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَابْن أبي خَيْثَمَة فِي «تَارِيخه» وَالْبَزَّار. وَاللَّفْظ الَّذِي قدمْنَاهُ
(2/40)
هُوَ لَفظه. وَلَفظ البَاقِينَ بِنَحْوِهِ. قَالَ ابْن السكن: هَذَا حَدِيث مُضْطَرب، وَفِيه نظر.
وَقَالَ الْبَزَّار: لَا نعلم يرْوَى هَذَا الْفظ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إلاَّ عَن الْعَبَّاس عَنهُ بِهَذَا الإِسناد.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: مُخْتَلف فِي إِسْنَاده. وَقَالَ ابْن الصّلاح مثله (قَالَ) : إلاَّ أنَّه - وَالله أعلم - حَدِيث حسن.
قُلْتُ: فِيهِ وَقْفَة، (فَفِيهِ) - مَعَ الِاخْتِلَاف - أَبُو عَلّي (الصيقل) ، وَلَا يُعرف لَهُ حَال وَلَا اسْم كَمَا ذكر ابْن السكن، (وَتَبعهُ) ابْن الْقطَّان.
وَقَالَ عبد الحقّ فِي «الْأَحْكَام» : فِي إِسْنَاده ابْن كَرَان - بالراء الْخَفِيفَة وبالنّون - وَهُوَ بَصرِي لَا بَأْس بِهِ.
قَالَ ابْن الْقطَّان: هَذَا الضَّبْط خطأ، بل هُوَ بتَشْديد الرَّاء كَمَا قَالَه ابْن مَاكُولَا، وَفِي آخِره زَاي.
قَالَ الْعقيلِيّ: الْغَالِب عَلَى حَدِيثه الْوَهم.
وَقَالَ الفلاس: بَصرِي لَيْسَ بِهِ بَأْس.
(2/41)
(وَوَقع لِابْنِ الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» أَن أَبَا حَاتِم قَالَ فِيهِ: إنَّه ضَعِيف. وَهُوَ من أغلاطه فإنَّ هَذِه التَّرْجَمَة - أَعنِي سُلَيْمَان بن كران - لم يذكرهَا ابْن أبي حَاتِم فِي كِتَابه أصلا.
نعم قَالَه فِي سُلَيْمَان بن أبي كَرِيمَة فَلَعَلَّهُ الْتبس عَلَيْهِ) .
قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : وَقد رَوَاهُ فُضَيْل بن عِيَاض عَن مَنْصُور، عَن أبي (عَلّي) (الصيقل) فخلص مِنْهُ سُلَيْمَان.
وَرَوَاهُ الإِمام أَحْمد من حَدِيث تَمام بن الْعَبَّاس قَالَ: (أَتَوا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَو أَتَى - فَقَالَ: مَا (لِي) أَرَاكُم تَأْتُوني قلحًا؟ اِسْتَاكُوا، لَوْلاَ أَنْ أشقَّ عَلَى أُمَّتِي لفرضتُ عَلَيْهِم السِّوَاكَ كَمَا فرضت عَلَيْهِم الوضُوء» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيثه أَيْضا، وَهَذَا لَفظه: عَن جَعْفَر (بن) تَمام بن عَبَّاس، عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «مَا لَكُمْ تَدْخُلُون عَلَيَّ قلحًا، اِسْتَاكُوا فَلَوْلا أنْ أشقَّ عَلَى أمَّتِي لأَمَرْتُهُم بالسِّوَاكِ عندَ كُلِّ طهورٍ» . (وَفِي رِوَايَة: «صَلَاة» ) .
(2/42)
وَرَوَاهُ أَيْضا من رِوَايَة جَعْفَر بن تَمِيم أَو تَمام. لكنَّه قَالَ: «كَمَا فرضت عَلَيْهِم الصَّلاة» .
وَرَوَاهُ ابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» أَيْضا وَلَفظه: عَن جَعْفَر بن تَمام، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا لَكُمْ تَدْخُلُون عَلَيَّ قلحًا؟ اِسْتَاكُوا، لَولاَ أنْ أشقَّ عَلَى أمَّتِي لفرضتُ عَلَيْهِم السِّوَاكِ كَمَا فُرِضَ الوضوءُ» .
وَحَكَى ابْن الْقطَّان عَن ابْن السكن: أَن تَمَّامًا كَانَ أَصْغَر ولد الْعَبَّاس. وَلَيْسَ يُحفظ لَهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَماع من وَجه ثَابت. وَقَالَ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» : تَمام بن الْعَبَّاس، وَقيل: ابْن قثم، تفرد بالرواية عَنهُ ابْنه جَعْفَر، مُخْتَلف فِي صحبته. ثمَّ ذكر لَهُ الحَدِيث الْمَذْكُور وَبَين الِاخْتِلَاف فِيهِ.
القَلَح - بِفَتْح الْقَاف وَاللَّام - صفرَة تعلو الْأَسْنَان، قَالَه الْجَوْهَرِي وَغَيره.
وَادَّعَى ابْن الرّفْعَة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْكِفَايَة» أنَّ هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ، فَقَالَ: ويتأكد (السِّوَاك) فِي حَال اصفرار الْأَسْنَان. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيشْهد لَهُ قَوْله « (مَا لَكُمْ تَدْخُلُون عَلَيَّ قلحًا، اِسْتَاكُوا» ، انْتَهَى.
وَهَذَا لم يُرَ فِي شَيْء من نسخ الرَّافِعِيّ.
(2/43)
فصل:
فِي السِّوَاك عَلَى اللِّسَان
عَن أبي مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ، قَالَ: «دخلت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وطرف السِّوَاك عَلَى لِسَانه» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «رَأَيْته يستن بسواك بِيَدِهِ يَقُول: أع أع والسواك فِي فِيهِ كأنَّه يتهوع) .
وَفِي رِوَايَة للنسائي وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان: «عأ عأ» .
وَفِي رِوَايَة للجوزقي (فِي) «صَحِيحه» : «أَخ أَخ أَخ» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «أُه أُه» بِهَمْزَة مَضْمُومَة، وَقيل: مَفْتُوحَة وَالْهَاء سَاكِنة.
وَفِي رِوَايَة للإِمام أَحْمد: «دخلت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يستاك، وَهُوَ وَاضع طرف السِّوَاك عَلَى لِسَانه يستن إِلَى فَوق. فوصف حَمَّاد كأنَّه
(2/44)
يرفع سواكه. قَالَ حَمَّاد: وَوَصفه لنا غيلَان قَالَ: كأنَّه (يستن) طولا» .
وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» عَن أبي مُوسَى، قَالَ: «أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (نستحمله) فرأيته يستاك عَلَى لِسَانه» .
فصل:
فِي غسل السِّوَاك وتطييبه
عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستاك فيعطيني السِّوَاك لأغسله فأبدأُ بِهِ فأستاك ثمَّ أغسله فأدفعه [إِلَيْهِ] » .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد جيِّد.
وعنها قَالَت: «دخل عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وَمَعَهُ سواك يستن بِهِ، فَنظر إِلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقلت: أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاك فأعطانيه فقضمته، ثمَّ (مضغته فأعطيته) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فاستن (بِهِ) وَهُوَ مُسْتَند إِلَى صَدْرِي» .
(2/45)
رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَلمُسلم (نَحوه) . واستدركه الْحَاكِم عَلَيْهِمَا، وَقَالَ: إنَّه صَحِيح عَلَى شَرطهمَا (وإنَّهما لم يخرجَاهُ. وَهَذَا عَجِيب) .
وَفِي رِوَايَة للعقيلي عَن عَائِشَة قَالَت: «لما مرض رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، قَالَ: «يَا عَائِشَة، آتِيني بِسِوَاكٍ رطبٍ، (امضغِيهِ) ثُمَّ آتيني بِهِ أمضغه؛ لِكَي يَخْتَلِطُ رِيقي بِرِيقِكِ لكَي يُهَوَّن بِهِ عَليّ عندَ الْمَوْتِ» » .
ثمَّ قَالَ: رَوَى هَذَا سُهَيْل بن إِبْرَاهِيم (الجارودي) ، وَلَا يُتَابع عَلَيْهِ.
قُلْتُ: الشَّأْن فِي الَّذِي رَوَى عَنهُ (سُهَيْل) بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ عبد الله بن دَاوُد الوَاسِطِيّ التمار، قَالَ خَ: فِيهِ نظر. وَقَالَ النَّسَائِيّ:
(2/46)
ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِقَوي، فِي أَحَادِيثه مَنَاكِير. وَتكلم فِيهِ (ابْن) حبَان وَابْن عدي.
فصل:
فِيمَا جَاءَ فِي إِعْطَاء السِّوَاك لغيره
عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَرَاني فِي المَنَامِ أتسوكُ بِسِوَاكٍ، فَجَاءنِي رَجُلاَن أَحَدُهُمَا أَكْبِرُ مِنْ الآخرِ، فناولتُ السِّواكَ للأصغرِ مِنْهُما. (فَقِيلَ) لِي: كَبِّر. فَدَفَعْتُه إِلَى الأكبرِ» .
رَوَاهُ مُسلم مُسْندًا وَالْبُخَارِيّ تَعْلِيقا.
وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عمر أَيْضا أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي السِّوَاك: «نَاوله أَكْبَرَ الْقَوْمِ» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت البُخَارِيّ عَنْهَا. فَقَالَ: حَدِيث حسن.
وَعَن حَمْزَة بن عبد الله بن عمر، عَن أَبِيه (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دخل غيضة فاجتنى سواكين، أَحدهمَا مُسْتَقِيم وَالْآخر معوج، وَمَعَهُ إِنْسَان، فَأعْطَاهُ الْمُسْتَقيم وَحبس المعوج فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَنْت أحقّ
(2/47)
بالمستقيم منّي. فَقَالَ: إِنَّه ليسَ (مِنْ صَاحِبٍ يُصَاحِبُ) صَاحِبًا وَلَو سَاعَةً إِلاَّ سَأَلَهُ اللهُ عَنْ (مُصَاحَبتِهِ) إِيَّاهُ» . حَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «ضُعَفَائِهِ» .
وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستن وَعِنْده رجلَانِ أَحدهمَا أكبر من الآخر، فأُوِحيَ إِلَيْهِ فِي فضل السِّوَاك أَن كَبِّر، أعْط السِّوَاك أكبرهما» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (بِإِسْنَاد حسن) .
وَفِي «علل ابْن أبي حَاتِم» ، «سُئِلَ أبي عَن حَدِيث (عبد الله بن مُحَمَّد) بن زَاذَان الْمَدِينِيّ، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يستن وَعِنْده رجلَانِ، فأُوحي إِلَيْهِ أَن كَبِّر، وَأعْطَى السِّوَاك حِين فرغ للرجلين» . فَقَالَ أبي: هَذَا خطأ إنَّما هُوَ عَن عُرْوَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسل، وَعبد الله ضَعِيف الحَدِيث. أه.
فصل:
فِي السِّوَاك يَوْم الْجُمُعَة
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الغُسْلُ يومَ
(2/48)
الجُمْعَةِ وَاجِبٌ [عَلَى كل محتلم] ، وأَنْ يَسْتَنَّ، وأَنْ يمسَّ طِيبًا إِنْ قَدر عَلَيه» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَهَذَا (لَفظه، وَمُسلم) وَلَفظه: «غُسْلُ [يَوْم] الجمعةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وسواكٌ، ويمس مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَر عَلَيه» .
وَفِي رِوَايَة لمَالِك عَن ابْن شهَاب، عَن (ابْن) السّبَّاق (أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي جُمُعَة من الْجمع: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِين إِنَّ هَذَا يَوم جَعَله اللهُ عِيدًا، فاغْتَسِلُوا، ومَنْ كَانَ عِندَه طيبٌ فَلاَ (يضرّهُ أَنْ) يمسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُم بالسِّواكِ» .
قَالَ عبد الْحق: ابْن السباق، اسْمه عبيد وَهُوَ من بني عبد الدَّار وَحَدِيثه هَذَا مُرْسل، إنَّما يروي عَن أُسَامَة بن زيد وَابْن عَبَّاس (ومَيْمُونَة) وَغَيرهم.
وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَوَهَّم رَاوِيه الدَّارَقُطْنِيّ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : الصَّحِيح أنَّه مُرْسل، وَقد رُوِيَ مَوْصُولا وَلَا يَصح وَصله.
(و) رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «إِنَّ هَذَا يَوم
(2/49)
عيدٍ جَعَلَه اللهُ للنَّاسِ، فَمَن جَاءَ الجمعةَ فَلْيغْتَسِل، فَإِنْ كَانَ طِيبًا فليمس مِنْهُ، وعَلَيكَ بالسِّوَاكِ» . وَسَيَأْتِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد فِي ذَلِكَ فِي كتاب الْجُمُعَة حَيْثُ ذكره المصنِّف إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَلَا عَلَيْك أَن تتمهل.
فصل:
فِي السِّوَاك عِنْد إِرَادَة (قِرَاءَة) الْقُرْآن
عَن أبي رَجَاء عَن وضين قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «طَيبُوا أَفْوَاهَكُم، فَإِنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُق القُرآنِ» .
رَوَاهُ مُسلم (الْكشِّي) فِي «سنَنه» وَأَبُو نعيم وَفِي إِسْنَاده منْدَل وَهُوَ ضَعِيف.
وَعَن سعيد بن جُبَير عَن عَلّي بن أبي طَالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُقٌ (للقُرآنِ) ، فَطَهورها بالسِّوَاكِ» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم وَالْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «الكنى» ، وَفِي إِسْنَاده بَحر بن كَنِيز - بِفَتْح الْكَاف وَكسر النُّون ثمَّ يَاء مثناة تَحت ثمَّ زَاي مُعْجمَة - وَهُوَ ضَعِيف.
(2/50)
قَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد: (هَذَا حَدِيث مُنكر جدًّا) ، لم يدْرك سعيد بن جُبَير عليا وَلم يره.
(وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» مَوْقُوفا عَن عَلّي كرَّم الله وَجهه من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة) .
و (فِي) رِوَايَة لأبي نعيم وَالْبَزَّار، عَن عَلّي «أنَّه أَمر بِالسِّوَاكِ وَقَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنَّ العبدَ إِذَا تَسَوَّكَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَامَ المَلَكُ خلفَهُ (يَسْمَع) القرآنَ، فَلَا يزالُ (عجبه) بِالقُرآنِ يُدنِيهِ، حتَّى يضعَ فَاهُ عَلى فِيهِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ شَيءٌ مِنْ القُرآنِ (إِلاَّ) صَارَ فِي جَوفِ ذَلِكَ المَلَكِ، فَطَهرُوا (أَفْوَاهُكُمْ لِلْقُرآنِ) » .
قَالَ الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ يُروى عَن عَلّي بِأَحْسَن من هَذَا الإِسناد.
وَرُوِيَ عَنهُ مَوْقُوفا (عَلَيْهِ) أَيْضا.
قُلْتُ: رجال الْمَرْفُوع رجال الصَّحِيح، مِنْهُم: (فُضَيْل)
(2/51)
بن سُلَيْمَان، أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ وَضَعفه الْحفاظ. وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي فضل الصَّلَاة الَّتِي (يتَسَوَّك) لَهَا.
وَفِي رِوَايَة لأبي نعيم، عَن الزُّهْرِيّ (قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) : «إِذَا تَسَوَّكَ أَحَدُكُمْ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ طَافَ بِهِ مَلَكٌ (يستمع) القُرآنَ، حتَّى يَجْعَلَ فَاهُ عَلَى فِيهِ» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : هَذَا صَحِيح مُرْسل.
فصل:
فِي اسْتِحْبَاب السِّوَاك عِنْد دُخُول الإِنسان منزله
عَن شُرَيْح بن هَانِئ (قَالَ: «سَأَلت عَائِشَة) قُلْتُ: بِأَيّ شَيْء كَانَ يبْدَأ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا دخل بَيته؟ قَالَت: بِالسِّوَاكِ» . رَوَاهُ مُسلم.
وَفِي رِوَايَة عَنْهَا: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا دخل بَيته يبْدَأ بِالسِّوَاكِ» .
(رَوَاهَا) ابْن حبَان فِي صَحِيحه. وَالله عزَّ وجلَّ أعلم.
(2/52)
فصل:
فِي اسْتِحْبَابه مُطلقًا فِي كلِّ وَقت وَحَال
عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَكْثَرْتُ عَلَيكُمْ (فِي) السِّوَاكِ» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وَعَن سُلَيْمَان (بن صرد) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «اسْتَاكُوا وَتَنَظَّفُوا وأَوتِرُوا، فإنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ» .
رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «الكنى» (وَغَيره) ، كَمَا تقدم فِي فصل فِي الْمُحَافظَة عَلَيْهِ سفرا وحضرًا.
وَعَن أبي أَيُّوب خَالِد بن زيد الْأنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «عَلَيكُمْ بِالسِّوَاكِ» . ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» وَقَالَ: سَأَلت أَبَا زرْعَة عَنهُ فَقَالَ: الصَّوَاب إرْسَاله.
وَعَن ابْن السباق أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَلَيكُمْ بِالسِّوَاكِ» . رَوَاهُ مَالك كَمَا تقدَّم قَرِيبا فِي فضل السِّوَاك يَوْم الْجُمُعَة.
(وَعَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْمَكِّيّ، حَدَّثَنَا عبد الله بن مَيْمُون القداح، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عَلّي أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اغسلوا ثيابكم، وخذوا شعوركم، واستاكوا وتزينوا، فَإِن بني إِسْرَائِيل لم يَكُونُوا يَفْعَلُونَ فزنت نِسَاؤُهُم» حَدِيث لَا يَصح) .
(2/53)
فصل:
فِي أَن السنَّة كالفرض
فِي اسْتِحْبَاب السِّوَاك عِنْدهَا
عَن مُعَاوِيَة قَالَ: «أَمرنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن لَا آتِي أَهلِي فِي غرَّة الْهلَال وَأَن لَا أتوضأ فِي [طهرة] النّحاس وَأَن أستن كلما قُمْت من سِنتِي» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، عَن الْحُسَيْن بن إِسْحَاق التسترِي، ثَنَا أَبُو كريب، ثَنَا (عُثْمَان) بن عبد الرَّحْمَن، عَن عُبَيْدَة بن حسان، عَن عَطاء عَنهُ بِهِ.
وَهَذَا سَنَد ضَعِيف، عُبَيْدَة بن حسان مُنكر الحَدِيث، قَالَه أَبُو حَاتِم، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَن الثِّقَات.
وَعُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن هُوَ الطرائفي، فِيهِ خلف، قَالَ ابْن معِين: صَدُوق. وَقَالَ أَبُو عرُوبَة: لَا بَأْس بِهِ يَأْتِي عَن قوم مجهولين بِالْمَنَاكِيرِ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: أنكر أبي (عَلَى) البُخَارِيّ إِدْخَاله فِي الضُّعَفَاء
(2/54)
وَقَالَ: هُوَ صَدُوق.
قُلْتُ: مَا قَالَه البُخَارِيّ فِيهِ أَكثر من هَذَا: كَانَ يحدث عَن قوم ضِعَاف. وأسرف ابْن نمير فِيهِ فَقَالَ: كَذَّاب، والأزدي فَقَالَ: مَتْرُوك.
وأمَّا ابْن حبَان فإنَّه تقَعْقع فِيهِ كعادته، كَمَا قَالَ الذَّهَبِيّ فِي «مِيزَانه» فَقَالَ فِيهِ: يروي عَن قوم ضِعَاف (أَشْيَاء يدلسها) عَن الثِّقَات حتَّى إِذا سَمعهَا المستمع لم يشك فِي وَضعهَا، فلماكثر ذَلِكَ فِي أخباره (التزقت) بِهِ تِلْكَ الموضوعات، وَحمل عَلَيْهِ النَّاس فِي الْجرْح، فَلَا يجوز عِنْدِي الِاحْتِجَاج بروايته كلهَا (بِحَال) .
فصل:
فِيمَا جَاءَ فِي الاستياك بِفضل الْوضُوء
عَن أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يستاك بِفضل وَضُوئِه» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَفِيه عِلَّتَانِ:
إِحْدَاهمَا: أَن فِي إِسْنَاده يُوسُف بن خَالِد (السَّمْتِي) ، قَالَ
(2/55)
ابْن معِين: كذَّاب، (زنديق) .
وَالثَّانيَِة: أنَّه من رِوَايَة الْأَعْمَش عَن أنس، وَقد رَآهُ وَلم يسمع مِنْهُ.
وسُئل الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ، فَقَالَ فِي «علله» : رَوَاهُ (يُوسُف) بن خَالِد، عَن الْأَعْمَش، عَن أنس. وَخَالفهُ سعيد بن الصَّلْت، فَرَوَاهُ عَن الْأَعْمَش، عَن مُسلم الْأَعْوَر، عَن أنس وَهُوَ أصحّ.
وَأخرجه من هَذِه الطَّرِيق أَيْضا فِي «سنَنه» وَالله أعلم.
فصل:
فِي الاستياك بالأصبع
عَن عَلّي بن أبي طَالب - كَرَّم الله وَجهه - «أنَّه دَعَا بكوز من مَاء فَغسل وَجهه وكَفَّيه ثَلَاثًا، وتمضمض فَأدْخل بعض أَصَابِعه فِي فِيه، واستنشق ثَلَاثًا، وَغسل ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، وَمسح رَأسه مرّة وَاحِدَة ... » وَذكر بَاقِي الحَدِيث وَقَالَ: «هَذَا وضوء نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
رَوَاهُ الإِمام أَحْمد فِي «مُسْنده» .
وَعَن (عبد الرَّحْمَن) الْقَسْمَلِي، عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «يُجْزِئُ مِنَ السِّوَاكِ الأَصَابِعُ» .
(2/56)
رَوَاهُ ابْن عدي (من حَدِيث عِيسَى بن شُعَيْب، عَن (القَسْملي) ، - وَهُوَ بِفَتْح الْقَاف - قَالَ البُخَارِيّ: إنَّه مُنكر الحَدِيث) .
وَرَوَاهُ (الْبَيْهَقِيّ) من حَدِيث عِيسَى الْمَذْكُور عَن ابْن الْمثنى، عَن النَّضر بن أنس، عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «يُجْزِئُ مِنَ السِّوَاكِ الأصابِعُ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد عِيسَى بالإِسنادين جَمِيعًا. قَالَ: وَالْمَحْفُوظ من حَدِيث ابْن الْمثنى قَالَ: حَدَّثَنَي بعض أهل بَيْتِي عَن أنس بن مَالك «أنَّ (رجلا) من الْأَنْصَار من بني عَمْرو بن عَوْف قَالَ: يَا رَسُول الله، إنَّك (رغبت) فِي السِّوَاك فَهَل دون ذَلِكَ من شَيْء؟ قَالَ: أصبعُك سِوَاكٌ عندَ وضُوءِكَ (تَمرّ بِهَا) عَلَى أَسْنانِكَ، إِنَّه لَا عَمَل لِمَن لَا نِيَّة لَهُ، وَلاَ أَجْر لِمَن لاَ حَسَنَة لَهُ» .
ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الله بن الْمثنى عَن ثُمَامَة، عَن أنس مَرْفُوعا: «الأصبعُ يُجْزِئُ (مِنَ) السِّوَاكِ» .
قَالَ (الشَّيْخ تَقِيّ) الدَّين فِي «الإِمام» : وَله طَرِيق آخر عَن
(2/57)
أنس من جِهَة (الحكم بن عِيسَى) ، عَن (أبي) هُرْمُز الحَمَّال، قَالَ: سَمِعت أنس بن مَالك يَقُول: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَا يجزئُ من السِّوَاك؟ قَالَ: الأصَابِعُ» . وَذكرهَا هُنَا عَن أَحْمد أنَّه (قَالَ) : لَيْسَ بِصَحِيح. أَبُو هُرْمُز لَيْسَ بِثِقَة.
وَرَوَى أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ عَن عَائِشَة (أنَّها سَأَلت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الرجل ينفض فَاه فَلَا يَسْتَطِيع أَن يمر السِّوَاك عَلَى أَسْنَانه؟ قَالَ: يُجْزِئُهُ الأصَابِعُ» . فِي إِسْنَاده الْمثنى بن الصَّباح، وَهُوَ ضَعِيف.
وَرَوَاهُ (الطَّبَرَانِيّ) فِي «أَوسط معاجمه» من طَرِيق الْوَلِيد بن مُسلم، ثَنَا عِيسَى بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن عَائِشَة قَالَت: «قُلْتُ: يَا رَسُول الله الرجل [يذهب] فوه، يستاك؟ قَالَ: نَعَم. قُلْتُ: كَيفَ يصنع؟ قَالَ: يُدْخِل أصبعَهُ (فِي) فِيهِ (فَيُدلكه) » .
(2/58)
(وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عدي من هَذِه الطَّرِيقَة «قُلْتُ: بِأَيّ شَيْء يصنع؟ قَالَ: يُدْخِل أصبعَهُ فِي فِيهِ) فَيدلكهُ هَكَذَا وَأَشَارَ بإصبعه إِلَى فِيهِ) .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يروه عَن عَطاء إلاَّ عِيسَى بن عبد الله، تَفَرَّد بِهِ الْوَلِيد، ولايروى عَن عَائِشَة إلاَّ بِهَذَا الإِسناد. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ عِيسَى لَا يُتَابع عَلَيْهِ.
وَعَن كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ، عَن أَبِيه، عَن جدِّه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الأَصَابِعُ تَجْرِي مَجْرَى السِّوَاكِ إِذَا لمْ يكنْ سِوَاك» .
رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث هَارُون بن مُوسَى الْفَروِي، ثَنَا أَبُو غزيَّة مُحَمَّد بن مُوسَى، ثَنَا كثير. ثمَّ قَالَ: تَفَرَّد بِهِ هَارُون عَن أبي (غزيَّة) .
قُلْتُ: وَكثير ضَعِيف بِمرَّة حتَّى قَالَ الشَّافِعِي فِيهِ: إنَّه أحد أَرْكَان الْكَذِب، وَذكر الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين الْمَقْدِسِي فِي كِتَابه «الْأَحْكَام» حَدِيث أنس الْمُتَقَدّم بِسَنَد لَهُ وَقَالَ: هَذَا إِسْنَاد لَا أرَى بِهِ بَأْسا.
وَمَا وَقع فِي «الْهِدَايَة» عَلَى مَذْهَب الإِمام أبي حنيفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -
(2/59)
استاك بِأُصْبُعِهِ» ، فقد يشْهد لَهُ (مَا قَدَّمناه) من حَدِيث عليّ، وَكَذَا الحَدِيث الرَّابِع عشر من أَحَادِيث الْبَاب الْمَذْكُور فِيهِ (أنَّه كَانَ يشوص فَاه بِالسِّوَاكِ) عَلَى قَول من تأوَّل الشوص بالأصبع. وَفِي كتاب «الطّهُور» لأبي عبيد عَن رهيمة خَادِم عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَت: «كَانَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إِذا تَوَضَّأ (يشوص) فَاه بِأُصْبُعِهِ» .
فصل:
فِي الإِباحة للإِمام أَن يستاك بِحَضْرَة رَعيته
إِذا لم يكن (يحتشمهم) فِيهِ
كَذَا ترْجم ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» . ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ من طَرِيق ابْن خُزَيْمَة بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ: «أَقبلت إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ومعيَ رجلَانِ من الْأَشْعَرِيين، (أَحدهمَا) عَن يَمِينه وَالْآخر عَن يسَاره وَرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يستاك فكلاهما (سَأَلَا) الْعَمَل، قُلْتُ: وَالَّذِي بَعثك بالحقّ، مَا أطلعاني عَلَى مَا فِي أَنفسهمَا، وَمَا شَعرت أَنَّهُمَا يطلبان الْعَمَل.
(2/60)
فكأنّي أنظر إِلَى سواكه تَحت شفته قلصت، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: إِنَّا (لَا - أَو لن - نستعينُ) عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَه، لَكِن اِذْهَبْ أَنْتَ، فَبَعثه عَلَى الْيمن، ثمَّ أردفه معَاذ بن جبل) .
فصل:
فِي أولَى مَا يُستاك بِهِ
وَمَا لَا يَنْبَغِي أَن يُستاك بِهِ
فِيهِ أَحَادِيث: الأول: عَن معَاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «نِعْم السواكُ الزَّيتونُ، مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، يُطَيِّبُ الفْمَ، ويُذْهِبُ بالحفرِ، وَهُوَ سِواكِي وسِوَاكُ الأنبياءِ قَبْلِي» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» عَن [أَحْمد بن] عَلّي الأَبَّار، عَن مُعَلَّل بن نفَيْل، عَن (مُحَمَّد بن مُحصن) ، عَن إِبْرَاهِيم بن أبي عبلة، (عَن عبد الرَّحْمَن بن الديلمي) ، عَن عبد الرَّحْمَن
(2/61)
بن غنم، عَن معَاذ. وَقَالَ: لم يروه عَن إِبْرَاهِيم بن أبي عبلة إلاَّ ابْن (مُحصن) .
وَرَوَاهُ أَبُو نعيم مثله وَقَالَ فِي أوَّله عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم، قَالَ: «رُبمَا سَافَرت مَعَ معَاذ بن جبل فيمر بشجرة الزَّيْتُون فَيَأْخُذ مِنْهَا الْقَضِيب فيستاك بِهِ وَيَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » ، فَذكر الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّانِي عَن زر عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «كُنْتُ أَجْتَنِي لِرسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سِوَاكًا مِنْ أرَاك» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» وَأَبُو يعْلى الْموصِلِي وَصَححهُ ابْن حبَان، لأنَّه أخرجه فِي «صَحِيحه» . لَا جرم، قَالَ الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين الْمَقْدِسِي فِي «أَحْكَامه» : «رِجَاله عَلَى شَرط الصَّحِيح» .
وَرَوَاهُ الإِمام أَحْمد عَن ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ «أنَّه كَانَ يجتني سواكًا من أَرَاك» .
الحَدِيث الثَّالِث عَن أبي خيرة - بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الْيَاء
(2/62)
الْمُثَنَّاة تَحت - الصُباحي - بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة بعْدهَا بَاء مُوَحدَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة - قَالَ: « (كنت) فِي الْوَفْد (الَّذِي) أَتَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من عبد الْقَيْس فزودنا الْأَرَاك وَقَالَ: اِسْتَاكُوا بِهَذَا» . وَفِي رِوَايَة: «يستاك بِهِ» .
رَوَاهُمَا البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» .
وَقَالَ خَليفَة بن خياط عَلَى مَا نَقله الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «كناه» : أَبُو خيرة الصباحي وَكَانَ فِي وَفد عبد الْقَيْس رَوَى: «اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِعَبْدِ قَيس» ، وَقَالَ: «زودنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْأَرَاك نستاك بِهِ» .
قَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد: قَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل - يَعْنِي البُخَارِيّ -: قَالَ خَليفَة: ثَنَا عون بن كهمس، ثَنَا دَاوُد بن الْمسَاوِر، عَن مقَاتل (بن) همام، عَن أبي خيرة قَالَ: «كنت فِي الْوَفْد الَّذين أَتَيْنَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من عبد الْقَيْس فزودنا بالأراك» .
(وَذكره أَبُو نعيم فِي «الْمعرفَة» فِي تَرْجَمَة أبي خيرة وَلَفظه: «فزودنا بالأراك) نستاك بِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله عندنَا الجريد وَلَكِن نقبل كرامتك وعطيتك، ثمَّ دَعَا لَهُم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَكُنَّا
(2/63)
أَرْبَعِينَ رجلا، وَقُلْنَا: إِن عندنَا العُسُب وَنحن نجتزئ بِهِ» ، وَهَذِه أخرجهَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَفِيه: «ثمَّ أَمر لنا بأراك فَقَالَ: اِسْتَاكُوا بِهَذَا. فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، إِن عندنَا (العسب) وَنحن نجتزئ بِهِ فَرفع يَدَيْهِ ودعا لَهُم» . ثمَّ أخرج الأولَى أَيْضا مثلهَا سَوَاء.
وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْمُهَذّب» : رَأَيْت بِخَط أبي مَسْعُود الدِّمَشْقِي الْحَافِظ عَن أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ: «أنَّه كَانَ فِي الْوَفْد - وَفد عبد الْقَيْس - الَّذين أَتَوا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ: فَأمر لنا بأراك فَقَالَ: اِسْتَاكُوا بِهَذَا» .
قَالَ ابْن مَاكُولَا: لَيْسَ يرْوَى لأبي خيرة هَذَا سُوَى حَدِيث وَاحِد. وَلَا رَوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من قَبيلَة صباح غَيره.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَهَذَا الحَدِيث هُوَ مُسْتَند قَول أَصْحَاب «التَّنْبِيه» و «الإِيضاح» و «الْحَاوِي» حَيْثُ استحبوه. قَالَ: وَلم أجد فِيهِ فِي كتب الحَدِيث سُوَى هَذَا الحَدِيث.
قُلْتُ: وَقد (ذكرت) لَك أيُّها النَّاظر حَدِيثا أصح مِنْهُ وَهُوَ حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمُتَقَدّم. وَذكر الْمَاوَرْدِيّ فِي «حاويه» حَدِيث أبي خيرة هَذَا بِلَفْظ: «كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يستاك بالأراك فإنْ تَعَذَّر عَلَيْهِ استاك بعراجين النّخل،
(2/64)
فإنْ تعذر استاك بِمَا وجده» .
الحَدِيث الرَّابِع: عَن أبي زيد الغافقي، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: « (الأسوكةُ) ثلاثةٌ: أرَاك، فَإِنْ لمْ يكنْ أَرَاكَ فعَنَم أَبُو بطم» . قَالَ (أَبُو) وهب: العنم الزَّيْتُون.
رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة أبي زيد الغافقي من حَدِيث سعيد بن عفير، ثَنَا (أَبُو) وهب الغافقي (عَن عَمْرو بن شرَاحِيل الْمعَافِرِي عَنهُ بِهِ) .
الحَدِيث الْخَامِس عَن ضَمرَة بن حبيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن السِّوَاك بِعُود الريحان وَقَالَ: إنَّه يُحَرك عرق الجذام» .
رَوَاهُ الْحَارِث بن أبي أُسَامَة فِي «مُسْنده» ، عَن الحكم بن مُوسَى، عَن عِيسَى بن يُونُس، عَن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مَرْيَم الغساني، عَن ضَمرَة بِهِ.
(2/65)
(رَوَاهُ) أَبُو نعيم فِي كتاب «الطِّبّ» أَيْضا.
فَائِدَة: قَالَ أَبُو الْخطاب ابْن دحْيَة فِي (كتاب «مرج الْبَحْرين» ) : كَأَن السِّوَاك الْمَذْكُور فِي حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور فِي فضل غسل السِّوَاك وتطييبه من عسيب النّخل كَمَا رَوَاهُ الإِمام أَبُو الْقَاسِم بن الْحسن. قَالَ: وَالْعرب تستاك بالعسيب. قَالَ: وَكَانَ أحب السِّوَاك إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صُرُع الْأَرَاك، وواحدها صَرِيع وَهُوَ قضيب ينطوي من الْأَرَاك حتَّى يبلغ التُّرَاب فَيَبْقَى فِي ظلها وَهُوَ أَلين من (فروعها) .
قُلْتُ: وَوَقع فِي البُخَارِيّ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أَن هَذَا السِّوَاك كَانَ جَرِيدَة رطبَة. وَفِي «صَحِيح الْحَاكِم» أنَّه كَانَ من أَرَاك رطب. ثمَّ قَالَ: صَحِيح الإِسناد وَلم يخرجَاهُ.
فصل:
فِي أَيْن يوضع السِّواك
عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن أبي جَعْفَر، عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: «كَانَ السِّوَاك من أذن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مَوضِع الْقَلَم من أذن الْكَاتِب» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث رَفعه مُحَمَّد بن إِسْحَاق. وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يروه عَن سُفْيَان إلاَّ يَحْيَى. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَيَحْيَى
(2/66)
بن الْيَمَان لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سُئِلَ أَبُو زرْعَة عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إنَّه وهم من يَحْيَى بن يمَان.
وَقد رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ ذَلِكَ عَن أبي سَلمَة، عَن زيد، كَمَا رويا عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ مَرْفُوعا: «لَوْلاَ أنْ أشقَّ عَلَى أُمَّتي لأمرتُهم بالسِّوَاكِ عندَ كل صَلاةٍ» . قَالَ أَبُو سَلمَة: فَرَأَيْت زيدا يجلس فِي الْمَسْجِد وإنَّ السِّوَاك (فِي) أُذُنه مَوضِع القلمِ من أُذنِ الْكَاتِب. وَكلما قَامَ إِلَى الصَّلَاة استاك» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
قُلْتُ: وَفِيه ابْن إِسْحَاق وَقد عنعن.
وَعَن أبي هُرَيْرَة: «كَانَ) أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أسوكتهم خلف آذانهم يَسْتَنُّون بهَا لكلِّ صَلَاة) .
رَوَاهُ الْخَطِيب فِي كتاب «من رَوَى عَن مَالك» من حَدِيث يَحْيَى بن ثَابت، عَن مَالك، عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج عَنهُ بِهِ.
وَرَوَى ابْن (شعْبَان) الْفَقِيه الْمَالِكِي بِسَنَدِهِ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَجْعَل
(2/67)
السِّوَاك مَوضِع الْقَلَم من أذن الْكَاتِب» .
هَذَا آخر مَا قصدته (وإبراز مَا أردته) فِيمَا يتَعَلَّق بِالسِّوَاكِ، وَهُوَ مُهِمّ جدًّا، وَقد اجْتمع بِحَمْد الله وعونه من الْأَحَادِيث من حِين شرع المصنّف فِي ذكر السِّوَاك إِلَى هَذَا الْمَكَان زِيَادَة عَلَى مائَة حَدِيث كلّها فِي السِّوَاك ومتعلقاته، وَهَذَا عَظِيم جسيم، (فواعجبًا) سنة وَاحِدَة تَأتي فِيهَا هَذِه الْأَحَادِيث (ويهملها) كثير من النَّاس بل كثير من الْفُقَهَاء المشتغلين. (وَهِي) خيبة عَظِيمَة نسْأَل الله المعافاة مِنْهَا، وَإِيَّاك أيُّها النَّاظر أَن تسأم مِمَّا أوردناه لَك، وإنْ رَأَيْت أحدا من أهل الغباوة والجهالة قَالَ: طولت أيُّها المصنّف وَعَابَ (فَذَلِك) ممَّا يزيدك فِي النفرة مِنْهُ وَقلة الاكتراث بِهِ، وَكنت أود لَو كَانَ هَذَا الْكتاب كُله (هَكَذَا) نذْكر مَا أوردهُ الإِمام الرَّافِعِيّ موضحين لَهُ ثمَّ نتبعه بِمَا أغفله فِي كل بَاب وَمَسْأَلَة، وَلَكِن يُخاف من السَّآمَة، ومنهاجنا هَذَا الَّذِي نمشي عَلَيْهِ متوسط بَين الطَّرِيقَيْنِ، وَخير الْأُمُور أوسطها، أعَاد الله علينا ثَوَاب ذَلِكَ، وَلَا يَجعله حجَّة علينا، بل لنا بمنِّه وَكَرمه.
وَنَرْجِع الْآن إِلَى كلامنا عَلَى الْكتاب متوكلين عَلَى الْملك الْوَهَّاب.
(2/68)
الحَدِيث (السَّابِع) عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لاَ وضوءَ لِمْنَ لمْ (يسم) الله عَلَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث مَشْهُور، وَله طرق مُتَكَلَّمٌ فِي كلّها، وَالَّذِي يحضرنا الْآن (مِنْهَا) ستَّة:
أَحدهَا: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَله طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: عَن قُتَيْبَة بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن مُوسَى، عَن يَعْقُوب بن سَلمَة، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لاَ صَلاَةَ لِمْنَ لاَ وضوءَ لَهُ وَلاَ وضوءَ لِمْن لمْ يَذْكر اسْمَ الله عَلَيْهِ» .
أخرجه الإِمام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد هَكَذَا عَن قُتَيْبَة.
وَأخرجه ابْن مَاجَه، عَن أبي كريب و [عبد الرَّحْمَن] بن إِبْرَاهِيم، قَالَا: ثَنَا ابْن أبي فديك، (عَن مُحَمَّد بن مُوسَى (بِإِسْنَادِهِ) وَلَفظه.
(2/69)
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ) فِي «علله» ، عَن قُتَيْبَة بِمثلِهِ.
وَأخرجه الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من طريقي قُتَيْبَة وَابْن أبي فديك، لكنَّه قَالَ: فيهمَا يَعْقُوب بن أبي سَلمَة بِزِيَادَة «أبي» وَالْمَوْجُود فِي سَائِر رِوَايَات هَذَا الحَدِيث غَيره «ابْن سَلمَة» بِحَذْف «أبي» .
وَحَاصِل مَا يُعلل بِهِ هَذَا الحَدِيث: الضعْف والانقطاع، أمّا الضعْف فيعقوب بن سَلمَة لَا أعرف حَاله، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : شيخ لَيْسَ (بعمدة) .
وأمّا (أَبوهُ) سَلمَة فَلم يعرف حَاله الْمزي وَلَا الذَّهَبِيّ، وإنَّما قَالَ فِي «الْمِيزَان» : لم يرو عَنهُ غير وَلَده. وَقد ذكره أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ: ربَّما أَخطَأ.
وأمَّا الِانْقِطَاع فَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «علله» : «سَأَلت مُحَمَّدًا - يَعْنِي البُخَارِيّ - عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: مُحَمَّد بن مُوسَى المَخْزُومِي لَا بَأْس بِهِ مقارب الحَدِيث، وَيَعْقُوب بن سَلمَة الْمدنِي لَا يُعرف لَهُ سَماع من أَبِيه وَلَا يعرف لِأَبِيهِ سَماع من أبي هُرَيْرَة. وَخَالف الْحَاكِم، فَقَالَ فِي «الْمُسْتَدْرك» : «هَذَا حَدِيث صَحِيح الإِسناد. قَالَ: وَقد احْتج
(2/70)
مُسلم بِيَعْقُوب بن أبي سَلمَة الْمَاجشون وَاسم أبي سَلمَة دِينَار وَلم يخرجَاهُ قَالَ: (وَله) شَاهد. فَذكر حَدِيث أبي سعيد الَّذِي سَيَأْتِي.
وَاعْترض النَّاس عَلَى الْحَاكِم فِي تَصْحِيحه لهَذَا الحَدِيث (وأنَّه عَلَى) شَرط مُسلم؛ فَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح: وَلَا يستشهد عَلَى ثُبُوت هَذَا الحَدِيث بِكَوْن الْحَاكِم حكم بِصِحَّة إِسْنَاده؛ لأنَّا نَظرنَا فِيهِ فَوَجَدنَا إِسْنَاده قد انْقَلب عَلَيْهِ.
قَالَ الصريفيني - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابه « (رُوَاة) الْكتب الْأَحَد عشر» عقب قَول الْحَاكِم: وَاسم أبي سَلمَة دِينَار. كَذَا ذكره، وَالصَّوَاب الَّذِي عِنْد (الْجَمَاعَة) يَعْقُوب بن سَلمَة اللَّيْثِيّ إِن شَاءَ الله. وَقَالَ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَول الْحَاكِم: «هَذَا حَدِيث صَحِيح» لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَنَّهُ انْقَلب عَلَيْهِ إِسْنَاده واشتبه، كَذَا قَالَه الْحَافِظ. وَلم يبين ابْن الصّلاح وَجه الانقلاب وَلَا النَّوَوِيّ وَجه الِاشْتِبَاه، وَبَينه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» فَقَالَ بعد أَن ذكر مقَالَة الْحَاكِم الْمُتَقَدّمَة: وليعلم أَن مُسلما لم يحْتَج بِيَعْقُوب بن سَلمَة اللَّيْثِيّ، عَن أَبِيه وَهُوَ رَاوِي هَذَا الحَدِيث، كَذَلِك رَوَاهُ عَنهُ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ - يَعْنِي وَغَيرهمَا كَمَا قدمْنَاهُ - وَيَعْقُوب بن سَلمَة لم يحْتَج بِهِ مُسلم. قَالَ: وَالَّذِي نرَاهُ أَن الحَدِيث ليعقوب بن سَلمَة وأنَّه وَقع انْتِقَال ذهني من يَعْقُوب بن سَلمَة إِلَى يَعْقُوب بن أبي سَلمَة.
(2/71)
قَالَ: وَلَو سُلِّم أنَّه يَعْقُوب بن أبي سَلمَة فَيحْتَاج إِلَى معرفَة حَال أَبِيه أبي سَلمَة واسْمه دِينَار ثمَّ ذكر مقَالَة البُخَارِيّ الْمُتَقَدّمَة فِي تَعْلِيل هَذَا الحَدِيث.
قُلْتُ: وَهَذَا متين، فقد كَشَفْتُ كتب الْأَسْمَاء جرحا وتعديلًا فَلم أرَ (دِينَارا) هَذَا، بل لم أرَ أحدا قَالَ: إِن الْمَاجشون (يروي) عَن أَبِيه. فتعيَّن غلط الْحَاكِم، وَلَو صَحَّ لتوجه الِاعْتِرَاض عَلَى الْحَافِظ (عبد الْغَنِيّ والصريفيني) وجمال الدَّين الْمزي وتلميذه الذَّهَبِيّ حَيْثُ لم يذكرُوا (لوالد) أبي سَلمَة فِي كتبهمْ تَرْجَمَة، وَأغْرب أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ فَقَالَ فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» : هَذَا حَدِيث جيِّد.
والْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث أَجود أَحَادِيث الْبَاب. قَالَ: وَقد رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنى أَحَادِيث لَيست بمستقيمة.
قَالَ شَيخنَا أَبُو (الْفَتْح) الْيَعْمرِي: وَفِيمَا قَالَه الْمُنْذِرِيّ نظر، لانْقِطَاع حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا (من وَجْهَيْن) .
(2/72)
قُلْتُ: لَا شكّ فِيهِ بل هُوَ ضَعِيف لوَجْهَيْنِ كَمَا قَرّرته (لَك) وأمَّا ابْن السكن فإنَّه ذكره فِي «صحاحه» ، وَهُوَ تساهل مِنْهُ كَمَا يعرف ذَلِكَ من نظر فِي كِتَابه هَذَا.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن (مَحْمُود) بن مُحَمَّد الظفري، عَن أَيُّوب [بن] النجار، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (قَالَ) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَا تَوَضَّأَ مَن لمْ يَذْكرْ اسْمَ اللهِ عَلَيهِ، وَمَا صَلَّى مَن لمْ يَتَوَضَّأْ» .
أخرجه هَكَذَا الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمَا» ، ومحمود هَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِيهِ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، فِيهِ نظر. وَأعله الْبَيْهَقِيّ بِأَن قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث لَا يعرف من حَدِيث يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي سَلمَة إلاَّ من هَذَا الْوَجْه، وَكَانَ أَيُّوب [بن] النجار يَقُول: لم أسمع من يَحْيَى بن أبي كثير إلاَّ حَدِيثا وَاحِدًا: «التقَى آدم ومُوسَى عَلَيْهِمَا (وَعَلَى نَبينَا) الصَّلَاة وَالسَّلَام ... ) ذكره يَحْيَى بن معِين فِيمَا رَوَاهُ (عَنهُ)
(2/73)
ابْن أبي مَرْيَم، فَكَانَ حَدِيثه هَذَا مُنْقَطِعًا، وَالله أعلم» .
الطَّرِيق (الثَّالِث) من أصل طرق هَذَا الحَدِيث: عَن كَثير - بِفَتْح الْكَاف، ثمَّ ثاء مُثَلّثَة - بن زيد، عَن رُبَيْح - بِضَم الرَّاء الْمُهْملَة، ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَفْتُوحَة، ثمَّ يَاء مثناة تَحت (سَاكِنة) ، ثمَّ حاء مُهْملَة - بن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد (الْخُدْرِيّ، عَن أَبِيه، عَن أبي سعيد) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لاَ وضوءَ لِمْنَ لمْ يَذْكر اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ» .
أخرجه الإِمام أَحْمد، والدارمي فِي «مسنديهما» ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي «علله» ، وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، وَعبد بن حميد فِي «مُسْنده» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» ، وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» (مستشهدًا) بِهِ، وَأخرجه ابْن عدي فِي «كَامِله» وَقَالَ: لَا (أعلم) يروي هَذَا الحَدِيث عَن ربيح غير كثير، وَلَا عَن كثير غير زيد بن الْحباب. كَذَا قَالَ، وَقد رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي عَامر الْعَقدي عَن كثير.
(2/74)
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي أَحْمد الزبيري، عَن كثير، فاستفد ذَلِكَ.
وللحفاظ فِي هَذَا الحَدِيث مقالتان:
إِحْدَاهمَا: أنَّه حَدِيث حسن، قَالَ شَيخنَا أَبُو الْفَتْح الْيَعْمرِي رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ أَجود من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأبي ثفال الْآتِي، وذَلِكَ أنَّ كثير بن زيد ذكر ابْن أبي خَيْثَمَة، عَن يَحْيَى بن معِين أنَّه قَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ مُعَاوِيَة بن صَالح عَنهُ: صَالح. وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عمار عَنهُ: هُوَ ثِقَة. وَحَكَى ابْن الْجَوْزِيّ، عَن ابْن معِين توثيقه. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق وَفِيه لين. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح لَيْسَ بِالْقَوِيّ يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ كثير الحَدِيث.
وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات.
قُلْتُ: وَقَالَ أَحْمد: مَا أرَى بحَديثه بَأْسا. وَربيح وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: شيخ. وَابْن حبَان وَالْحَاكِم يخرجَانِ حَدِيثه فِي (الصَّحِيح) .
(2/75)
وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أنَّه لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّد بن عمار: ثِقَة.
وَقَالَ ت: قَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث.
وَهَذَا (قد) يُعَارض مَا نَقله ابْن الْجَوْزِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: أنَّه أحسن شَيْء فِي الْبَاب، كَمَا سَيَأْتِي، (و) يُورث عنْدك شُبْهَة احْتِمَال غلطه فِي النَّقْل عَنهُ، وَقَول الإِمام أَحْمد فِيهِ أنَّه لَيْسَ بِمَعْرُوف لَيْسَ بقادح؛ فقد عرفه غَيره وَرَوَى عَنهُ جمَاعَة كَثِيرَة. (وَقَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» : فِيهِ مقَال قريب، وَكثير بن زيد، قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: ليِّن.
وَقَالَ الإِمام أَحْمد وَالْبُخَارِيّ: إنَّه أحسن شَيْء فِي هَذَا الْبَاب) .
قُلْتُ: هَذَا مُخَالف لما نَقله التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ، كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيث زيد.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَقد قَالُوا فِي ربيح: إنَّه لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ أَبُو بكر الْأَثْرَم: سَمِعت أَبَا عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول فِي هَذَا - يَعْنِي فِي وجوب التَّسْمِيَة -: لَيْسَ فِيهِ حَدِيث يثبت، وأحسنها هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَإِنَّا لَا نأمره بالإِعادة، وَأَرْجُو أَن يُجزئهُ الْوضُوء؛ لأنَّه لَيْسَ هَذَا
(2/76)
حَدِيث نحكم بِهِ.
وَكَذَا نقل الإِمام الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ، عَن الإِمام أَحْمد أنَّه قَالَ: لَا أعلم فِي التَّسْمِيَة حَدِيثا أَقْوَى من حَدِيث كثير هَذَا.
وَكَذَا نقل الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» أنَّه لما سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث قَالَ: إنَّه أحسن شَيْء فِي الْبَاب.
وَقَالَ (أَحْمد) بن حَفْص السَّعْدِيّ: سُئِلَ أَحْمد عَن التَّسْمِيَة فِي الْوضُوء. فَقَالَ: لَا أعلم فِيهِ حَدِيثا (يثبت) . أَقْوَى شَيْء فِيهِ حَدِيث كثير بن زيد، عَن ربيح. وَقَالَ الْحَافِظ مجد الدَّين ابْن تَيْمِية فِي «أَحْكَامه» : سُئِلَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: أَي حَدِيث أصح فِي التِّسمية؟ فَذكر هَذَا الحَدِيث. قَالَ الْحَافِظ: وَفِيه مقَال قريب. و (ذكره) ابْن السكن فِي صحاحه.
الْمقَالة الثَّانِيَة: أنَّه حَدِيث لَا يصحّ.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي « (الْعِلَل) المتناهية فِي الْأَحَادِيث الْوَاهِيَة» : هَذَا حَدِيث لَا يثبت عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ المرّوزي: لم يُصَحِّحهُ أَحْمد. وَقَالَ: ربيح لَيْسَ بِمَعْرُوف وَلَيْسَ الْخَبَر بِصَحِيح، (وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء يثبت) .
(2/77)
وَقَالَ الْعقيلِيّ فِي «الضُّعَفَاء» : الْأَسَانِيد فِي هَذَا الْبَاب فِيهَا لين. وَرَوَى الْبَزَّار هَذَا الحَدِيث فِي «سنَنه» ، وَقَالَ: لَا نعلمهُ يرْوَى عَن أبي سعيد إلاَّ بالإِسناد الْمَذْكُور. وَكثير بن زيد قد رَوَى عَنهُ جمَاعَة من أهل الْعلم وَاحْتَملُوا حَدِيثه، وَربيح بن عبد الرَّحْمَن رَوَى عَنهُ فليح بن سُلَيْمَان، وَعبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي، وَكثير بن عبد الله بن عَمْرو.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة، عَن أبي ثِفَال - بِكَسْر الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَيُقَال بضَمهَا وَبعدهَا فَاء - المري - بالراء الْمُهْملَة - عَن رَبَاح - بِفَتْح الرَّاء (الْمُهْملَة) بعْدهَا بَاء مُوَحدَة - ابْن عبد الرَّحْمَن بن أبي سُفْيَان بن حويطب، عَن جدته، عَن أَبِيهَا، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لاَ وضوءَ لِمْنَ لمْ يَذْكر اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» هَكَذَا.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه من حَدِيث يزِيد بن عِيَاض، عَن أبي ثفال، عَن رَبَاح بن عبد الرَّحْمَن بن أبي سُفْيَان أنَّه سمع جدته بنت سعيد بن زيد تذكر أنَّها سَمِعت أَبَاهَا سعيد بن زيد يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وضوءَ لَهُ، وَلاَ وضُوءَ لِمْنَ لمْ يَذْكر اسْمَ اللهِ عَلَيه» .
وَأخرجه الإِمام أَحْمد من هَذَا الطَّرِيق بِهَذَا الإِسناد والأوَّل أَيْضا.
وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» بالإِسناد الأوَّل وَاللَّفْظ إلاَّ أنَّه زَاد: «وَلاَ
(2/78)
صَلاَة لِمَن لَا وضُوءَ لَهُ» .
وَرَوَاهُ ابْن قَانِع فِي «مُعْجَمه» بِإِسْنَاد التِّرْمِذِيّ، ولفظُهُ: «مَا آمنَ بِاللهِ مَن لمْ يُؤْمِنْ بِي، وَلاَ آمنَ بِي مَنْ لمْ يحبّ الأنْصَارَ، وَلاَ صَلاةَ إِلاَّ (بوضوءٍ، وَلاَ) وضُوءَ لِمْنَ لمْ يَذْكرْ اسْمَ اللهِ عَلَيه» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» والعقيلي فِي «تَارِيخه» ، عَن عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة أنَّه سمع أَبَا ثِفال يَقُول: سَمِعت رَبَاح بن عبد الرَّحْمَن بن أبي سُفْيَان يَقُول: حَدَّثتنِي جدَّتي أنَّها سَمِعت أَبَاهَا يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لاَ صَلاَةَ لِمَن لَا وضُوءَ لَهُ، وَلاَ وضُوءَ لِمْنَ لمْ يَذْكر اسْمَ اللهِ عَلَيه، وَلاَ يُؤْمِن بِاللهِ مَن لَا (يُؤْمِن) بِي، وَلاَ يُؤْمِن بِي مَن لَا يُحِبُّ الأَنْصَارَ» .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» من حَدِيث سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن أبي ثِفال قَالَ: سَمِعت رَبَاح بن عبد الرَّحْمَن يَقُول: حَدَّثتنِي جدَّتي أَسمَاء بنت سعيد بن زيد بن عَمْرو أنَّها سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول، فَذكره بِلَفْظ الْعقيلِيّ، (كَذَا) ذكره فِي ترجمتها بِإِسْقَاط اسْمهَا.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: أحسن شَيْء (فِي) هَذَا الْبَاب هَذَا الحَدِيث.
(2/79)
قَالَ التِّرْمِذِيّ: ورباح بن عبد الرَّحْمَن (هُوَ) أَبُو بكر بن حويطب، وَمِنْهُم من رَوَى هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: عَن أبي بكر بن حويطب فنسبه إِلَى جدِّه، وَأَبُو جدَّته هُوَ سعيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل. وَأَبُو ثفال اسْمه ثُمَامَة بن حُصَيْن.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» وَقد سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث (فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث) يرويهِ أَبُو ثِفال المري وَاخْتلف عَنهُ؛ فَرَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة الْأَسْلَمِيّ عَن أبي ثفال وَاخْتلف عَنهُ وَقَالَ وهيب وَبشر بن الْمفضل وَابْن أبي فديك، وَسليمَان بن بِلَال: عَن (ابْن) حَرْمَلَة، عَن أبي ثفال، عَن رَبَاح بن عبد الرَّحْمَن بن أبي سُفْيَان بن حويطب، عَن جدته، عَن أَبِيهَا، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وأبوها هُوَ سعيد بن زيد. وَخَالفهُم حَفْص بن ميسرَة وَأَبُو معشر نجيح وَإِسْحَاق بن حَازِم. فَرَوَوْه عَن (ابْن) حَرْمَلَة، عَن أبي ثفال، عَن [رَبَاح] ، عَن جدته أنَّها سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلم يذكرُوا أَبَاهَا فِي الإِسناد.
(2/80)
وَرَوَاهُ يزِيد بن عِيَاض وَالْحسن بن [أبي] جَعْفَر وَعبد الله بن جَعْفَر بن نجيح الْمَدِينِيّ، عَن أبي ثفال، عَن رَبَاح، عَن جدته (عَن أَبِيهَا سعيد كَقَوْل وهيب وَمن تَابعه عَن (ابْن) حَرْمَلَة) .
وَرَوَاهُ الدَّرَاورْدِي عَن أبي ثفال، عَن رَبَاح، عَن ابْن ثَوْبَان مُرْسلا، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن صَدَقَة مولَى آل الزبير، عَن أبي ثفال، عَن أبي بكر بن حويطب مُرْسلا، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَالصَّحِيح قَول وهيب وَبشر بن الْمفضل وَمن تابعهما.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : قَالَ أبي: الصَّحِيح حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة، عَن أبي ثفال، عَن رَبَاح بن عبد الرَّحْمَن بن حويطب، عَن جدته، عَن أَبِيهَا سعيد بن زيد مَرْفُوعا قَالَ: وَمن قَالَ عَن عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة الْأَسْلَمِيّ، عَن ثفال، عَن رَبَاح، عَن أمِّه بنت زيد بن نفَيْل مَرْفُوعا فقد أَخطَأ فِي مَوَاضِع.
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر من «علله» : سَأَلت أبي وَأَبا زرْعَة عَنهُ فَقَالَا: لَيْسَ عندنَا بذلك الصَّحِيح، أَبُو ثفال ورباح مَجْهُولَانِ.
(2/81)
و (ذكره) أَبُو الْحسن بن الْقطَّان، وَقَالَ عَن عبد الحقّ حِين أخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيق التِّرْمِذِيّ وَذكر كَلَامه عَلَيْهِ كَمَا سقناه: فإنْ كَانَ اعْتمد قَول البُخَارِيّ فقد يُوهم أنَّه حسن، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَمَا هُوَ إلاَّ ضَعِيف جدًّا، وإنَّما مَعْنَى كَلَام البُخَارِيّ أنَّه أحسن مَا فِي الْبَاب عَلَى علاته.
قُلْتُ: وَمِمَّا يُقَوي هَذَا أنَّ الْعقيلِيّ رَوَى عَن البُخَارِيّ أنَّه قَالَ: (فِي) حَدِيث أبي ثفال نظر. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَإِن اعْتمد قَول الإِمام أَحْمد حَيْثُ قَالَ: لَا أعلم فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثا لَهُ إِسْنَاد جيِّد فقد بَقِي عَلَيْهِ أَن يبين علته. وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي قصدت بَيَانه لتكمل الْفَائِدَة، وَفِي إِسْنَاده ثَلَاثَة مَجَاهِيل الْأَحْوَال:
أوَّلهم: جدة رَبَاح فإنَّها لَا تعرف (بِغَيْر هَذَا) وَلَا يُعرف (لَهَا لَا) اسْم وَلَا حَال، وَغَايَة مَا يعرفنا بِهَذَا أنَّها ابْنة لسَعِيد بن زيد.
قُلْتُ: وَلِهَذَا الْوَجْه ذكره أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي كِتَابه «الطّهُور» . فَقَالَ: وَقد كَانَ بعض أهل الحَدِيث يطعن فِيهِ لمَكَان الْمَرْأَة المجهولة.
(2/82)
الثَّانِي: رَبَاح الْمَذْكُور فإنَّه مَجْهُول الْحَال كَذَلِك، وَلم يَعْرِفْ ابْن أبي حَاتِم من حَاله بِأَكْثَرَ ممَّا أَخذ من هَذَا الإِسناد من رِوَايَته عَن جدته، وَرِوَايَة أبي ثفال عَنهُ.
الثَّالِث: (أَبُو) ثفال الْمَذْكُور فإنَّه أَيْضا مَجْهُول الْحَال كَذَلِك وَهُوَ أشهرهم لرِوَايَة جمَاعَة عَنهُ مِنْهُم: عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة، وَسليمَان بن بِلَال، وَصدقَة مولَى الزبير [والدراوردي] وَالْحسن بن أبي جَعْفَر، وَعبد الله بن عبد الْعَزِيز. انْتَهَى مَا ذكره ابْن الْقطَّان.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : أَبُو ثِفال اسْمه: ثُمَامَة بن الْحصين قَالَه التِّرْمِذِيّ، وَقيل: ثُمَامَة بن وَائِل.
قُلْتُ: وَكَذَا سَمَّاه أَبُو عبيد فِي رِوَايَته فِي (كتاب) «الطّهُور» لَهُ. قَالَ: وَمَا ذكره ابْن الْقطَّان من جَهَالَة حَاله مَعَ رِوَايَة جمَاعَة عَنهُ هِيَ طَرِيقَته.
وَرَأَيْت فِي «علل ابْن أبي حَاتِم» مَا يُوَافقهُ، فإنَّه سَأَلَ أَبَاهُ وَأَبا زرْعَة عَن حَدِيث أبي ثفال هَذَا. فَقَالَا: لَيْسَ عندنَا بِذَاكَ الصَّحِيح، أَبُو ثفال مَجْهُول ورباح مَجْهُول. وَقد تقدم هَذَا عَنهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَبُو ثفال لَيْسَ بِمَعْرُوف.
قُلْتُ: قد ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ: لست (بالمعتمد) عَلَى مَا تفرد بِهِ.
(2/83)
قَالَ الشَّيْخ: وأمَّا مَا ذكره ابْن الْقطَّان فِي أَمر رَبَاح وَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامه من أنَّه لم يرو إلاَّ عَن جدته وَلَا رَوَى عَنهُ (إلاَّ) أَبُو ثفال، فقد قَالَ صَاحب «الْكَمَال» : (إنَّه) رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا، و (أَن) الحكم (بن) الْقَاسِم الأويسي وَصدقَة - غير مَنْسُوب - رويا عَنهُ.
قُلْتُ: (فترتفع عَنهُ) الْجَهَالَة العينية وَتَبقى الْجَهَالَة الحالية، وَقد صرح برفعها (عَنهُ) ابْن حبَان فإنَّه ذكره فِي «ثقاته» . لَكِن ذكره فِي الطَّبَقَة الثَّالِثَة وَكَانَ يَنْبَغِي ذكره فِي الثَّانِيَة فِي التَّابِعين لروايته عَن أبي هُرَيْرَة.
قَالَ شَيخنَا فتح الدَّين الْيَعْمرِي: «وَقَول ابْن الْقطَّان (إِن) جدة رَبَاح لَا يعرف لَهَا اسْم، لَيْسَ كَذَلِك. فقد ذكر الْبَيْهَقِيّ أنَّ اسْمهَا: أَسمَاء. وقَالَ: «وَيُؤَيّد تَفْسِير (ابْن) الْقطَّان؛ لقَوْل البُخَارِيّ فِي هَذَا الحَدِيث مَا نَقله أَيْضا الْعقيلِيّ. فَقَالَ: قَالَ البُخَارِيّ: أَبُو ثفال المري عَن رَبَاح بن عبد الرَّحْمَن فِي حَدِيثه نظر.
قُلْتُ: وَجدّة رَبَاح ذكرهَا ابْن حبَان فِي «ثقاته» أَيْضا.
وَذكر هَذَا الحَدِيث ابْن السكن فِي «صحاحه» من هَذَا الْوَجْه أَيْضا.
(2/84)
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَابْن تَيْمِية، الأوَّل فِي «التَّحْقِيق» وَالثَّانِي فِي «الْمُنْتَقَى» : فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث مقَال قريب. وإنَّما قَالَا ذَلِكَ تَقْوِيَة لمذهبهما - فِي إِحْدَى الراويتين عَن الإِمام أَحْمد - (فِي) أنَّ التَّسْمِيَة وَاجِبَة فِي الْوضُوء، وَسَيَأْتِي عَن أَحْمد قَرِيبا أنَّه قَالَ (فِيهِ) : إنَّه حَدِيث لَا يثبت.
وَلَقَد وُفِّق ابْن الْجَوْزِيّ للصَّوَاب فِي كِتَابه «الْعِلَل المتناهية» فَقَالَ فِيهِ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ الإِمام أَحْمد: من أَبُو ثفال؟ قَالَ: وَيروَى مُرْسلا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: والأوَّل أصحّ، وَفِي إِسْنَاد الْمُرْسل صَدَقَة مولَى آل الزبير، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ مَجْهُول. وَقَالَ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» : قَالَ الإِمام أَحْمد: هَذَا حَدِيث لَا يثبت.
قُلْتُ: وَله قولة أُخْرَى فِيهِ.
قَالَ الْأَثْرَم: قُلْتُ لأبي عبد الله: التَّسْمِيَة فِي الْوضُوء. قَالَ: أحسن ذَلِكَ حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ. قُلْتُ: فَمَا رَوَى عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة؟ قَالَ: لَا يثبت. وَرَوَى هَذَا الحَدِيث أَيْضا أَبُو بكر الْبَزَّار من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَتيق بن نجيح، ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة، عَن أبي ثِفال كَمَا تقدم، ثمَّ قَالَ: وَحَدِيث حَرْمَلَة هَذَا رَوَاهُ جمَاعَة (ثِقَات)
(2/85)
عَن (ابْن) حَرْمَلَة. وَأَبُو ثفال مَشْهُور، ورباح بن عبد الرَّحْمَن وجدته لَا نعلمهما رويا إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَلَا حَدَّث عَن رَبَاح إلاَّ أَبُو ثفال.
فَالْخَبَر من جِهَة النَّقْل لَا يثبت لِلْعِلَّةِ الَّتِي وَصفنَا، وَقد رُوِيَ عَن كثير بن زيد (عَن الْوَلِيد) عَن رَبَاح، عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا بَدَأَ بِالْوضُوءِ سمَّى» .
قَالَ الْبَزَّار: فِي إِسْنَاده حَارِثَة بن مُحَمَّد، وَقد حَدَّث عَنهُ جمَاعَة. وَعِنْده أَحَادِيث لم يُتَابع عَلَيْهَا.
قَالَ عبد الحقّ: وثَّقَه الدَّارَقُطْنِيّ (وَحده) فِيمَا أعلم وَضَعفه النَّاس.
قَالَ الْبَزَّار: كل مَا رُوي فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ بِقَوي الإِسناد وَإِن تأيدت هَذِه الْأَسَانِيد.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن عبد الْمُهَيْمِن بن عَبَّاس بن سهل (السَّاعِدِيّ) عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لاَ صَلاَةَ لِمَن لاَ وضُوَء لَهُ، وَلاَ وضُوءَ لِمن لمْ يَذْكر اسْمَ اللهِ (عَلَيْهِ) وَلاَ صَلاَةَ لِمَن (لمْ يصلِّ) عَلَى
(2/86)
نَبِي الله «وَ) لاَ صَلاَةَ لِمَن (لمْ يصلِّ عَلَى) الأَنْصَارِ» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَذَلِك وَابْن مَاجَه أَيْضا، وَلَكِن لَفظه: «وَلاَ صَلاَةَ لِمَن لمْ يُحبّ الأَنْصَار» .
وَعبد الْمُهَيْمِن هَذَا واه، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ عَلّي بن الْجُنَيْد: ضَعِيف، وَالنَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَالدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَابْن حبَان: لما فحش الْوَهم فِي رِوَايَته بَطل الِاحْتِجَاج بِهِ.
قُلْتُ: لَكِن رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة أَخِيه أُبيّ بن عَبَّاس، عَن أَبِيه، عَن جدَّه أَيْضا.
وأُبيّ أخرج لَهُ البُخَارِيّ، وتكلَّم فِيهِ أَحْمد وَيَحْيَى بن معِين، وَسَيَأْتِي فِي آخر كتاب صفة الصَّلَاة مزِيد إِيضَاح لهَذَا الحَدِيث.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن عِيسَى بن سُبْرَة، عَن أَبِيه، عَن جدّه، قَالَ: «صعد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمِنْبَر ذَات يَوْم، فَحَمدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ (ثمَّ) قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاس، لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بوضُوءٍ، وَلاَ وضُوءَ لِمَن لمْ يَذكُر اسْمَ اللهِ عَليه) وَلم يُؤمن بِاللَّه من لم يُؤمن بِي، وَلم يُؤمن بِي من لم يعرف حقّ الْأَنْصَار» .
(2/87)
رَوَاهُ الدولابي فِي «الْأَسْمَاء والكنى» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» وَقَالَ: لم يُرو هَذَا الحَدِيث عَن (أبي) سُبْرَة إلاَّ بِهَذَا الإِسناد.
وَأخرجه فِي «أكبر معاجمه» بِدُونِ الْخطْبَة.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن عِيسَى بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عمر بن عَلّي بن أبي طَالب، عَن أَبِيه، عَن جدَّه، عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لاَ صَلاَةَ لِمَن لاَ وضُوءَ لَهُ، وَلاَ وضُوءَ لِمْن لمْ يَذْكُر (اللهَ) عَلَيْهِ» .
رَوَاهُ أَبُو أَحْمد بن عدي وَقَالَ: إِسْنَاده لَيْسَ بِمُسْتَقِيم.
وَلِلْحَدِيثِ طَريقَة سابعة ذكرهَا الْحَافِظ عبد الحقّ فِي «الْأَحْكَام» عَن أَسد بن مُوسَى، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا إِيمْانَ لِمَن لمْ يُؤْمِنْ بِي، وَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ بوضُوءٍ، وَلاَ وضُوءَ لِمَن لمْ يُسَم اللهَ» .
قَالَ الْحَافِظ عبد الْحق: ذكر هَذِه الطَّرِيق عبد الْملك بن حبيب.
قُلْتُ: وَهَذِه الطَّرِيق حَسَنَة، فأسد بن مُوسَى هُوَ الملقب بأسد السّنة حَافظ صَنَّف وَجمع، قَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مَشْهُور الحَدِيث. وَاسْتشْهدَ بِهِ أَيْضا، وَاحْتج بِهِ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، قَالَ ابْن يُونُس: هُوَ
(2/88)
ثِقَة، وَحدث بِأَحَادِيث مُنكرَة، فالآفة من غَيره وَمَا علمت بِهِ بَأْسا. إلاَّ (أَن) ابْن حزم طعن فِيهِ، فَقَالَ: مُنكر الحَدِيث. وَفِي مَوضِع آخر: (ضَعِيف) وَهَذَا تَضْعِيف مَرْدُود، وَبَاقِي السَّنَد كَالشَّمْسِ لَا يُسأل عَنهُ.
وَله أَيْضا طَريقَة ثامنة ذكرهَا الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» فِي تَرْجَمَة أم سُبْرَة أنَّها سَمِعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَا وضُوءَ لَهُ وَلاَ [وضُوءَ] لمن لم يذكر الله - عزَّ وجلَّ - وَلَا يُؤمن بِي من لَا يحبّ الْأَنْصَار» ثمَّ قَالَ: فِي (إِسْنَاد) حَدِيث أمّ سُبْرَة هَذَا نظر.
فَإِذا علمتَ - وفقك الله - هَذِه الْأَحَادِيث وعللها وأنَّها من جَمِيع طرقها مُتَكَلم فِيهَا، وَأَن بعض الْأَئِمَّة (ضعف بَعْضهَا) وَحسن بَعْضهَا، بَقِيْتَ متطلعًا لما يسْتَدلّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَاب التَّسْمِيَة.
ولتعلم أَن النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: «لَيْسَ فِي أَحَادِيث التَّسْمِيَة (عَلَى) الْوضُوء حَدِيث صَحِيح صَرِيح» . وكأنَّه تبع فِي هَذِه القولة قَول
(2/89)
الإِمام أَحْمد فِيمَا نَقله التِّرْمِذِيّ عَنهُ: «لَا أعلم فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثا لَهُ إِسْنَاد جيِّد» .
وَقد ذكرنَا من الْأَحَادِيث (مَا) يسْتَدلّ الْفُقَهَاء بِمثلِهِ و (يسْتَند) الْعلمَاء فِي الْأَحْكَام إِلَيْهِ، فَلَيْسَ من شَأْنهمْ أَن لَا يحتجوا إلاَّ بِالصَّحِيحِ بل أَكثر احتجاجهم بالْحسنِ، وَلَا يَخْلُو هَذَا الْبَاب (فِي) ذَلِكَ من حسن صَرِيح، كَمَا قَدمته لَك.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي «مُشكل الْوَسِيط» : رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من وُجُوه فِي كلِّ مِنْهَا نظر، لكنَّها غير مطرحة، وَهِي من قبيل مَا يثبت باجتماعه الحَدِيث ثُبُوت الحَدِيث الموسوم بالْحسنِ.
قُلْتُ: بل وجد فِي (التَّسْمِيَة) حَدِيث صَحِيح من غير شكّ وَلَا مرية، لَكِن لَيْسَ بِصَرِيح؛ بل يسْتَدلّ بِعُمُومِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة وَاحْتَجُّوا بِهِ: النَّسَائِيّ، وَابْن مَنْدَه، وَابْن خُزَيْمَة، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، من حَدِيث معمر، عَن ثَابت وَقَتَادَة عَن أنس، قَالَ: «طلب بعض أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وضُوءًا فَلم يَجدوا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُم مَاءٌ؟ فَوضع يَده فِي الإِناء وَقَالَ: تَوَضَّئوا بِاسْمِ اللهِ. فَرَأَيْت المَاء يخرج من بَين أَصَابِعه حتَّى توضئوا من عِنْد آخِرهم. قَالَ [ثَابت] : قُلْتُ لأنس: كم تراهم؟ قَالَ: نَحوا من سبعين» .
(2/90)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا أصح مَا فِي التَّسْمِيَة. وَقَالَ الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين الْمَقْدِسِي فِي «أَحْكَامه» : إِسْنَاده جيِّد. وَكَذَا قَالَ النَّووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْمَجْمُوع» و «الْخُلَاصَة» وَاحْتج بِهِ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه «معرفَة السّنَن والْآثَار» .
وأصل هَذَا الحَدِيث عَن أنس متَّفق عَلَيْهِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وإنَّما الْمَقْصُود بِرِوَايَة معمر هَذِه اللَّفْظَة الَّتِي ذكر فِيهَا التَّسْمِيَة.
وَأخرج أَحْمد فِي «مُسْنده» مثله من حَدِيث الْأسود بن قيس عَن نُبيح الْعَنزي، عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: «غزونا مَعَ رَسُول الله وَنحن يَوْمئِذٍ (بضعَة عشر) و [مِائَتَان] [فَحَضَرت الصَّلَاة فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَل فِي الْقَوْم من مَاء؟ فجَاء رجل يسْعَى بإداوة فِيهَا شَيْء من مَاء، قَالَ: فَصَبَّهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي قدح، قَالَ: فَتَوَضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ انْصَرف وَترك الْقدح، فَركب النَّاس الْقدح: تَمسحُوا تَمسحُوا! فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: عَلَى رسلكُمْ حِين سمعهم يَقُولُونَ ذَلِكَ، قَالَ] فَوضع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَفه فِي المَاء والقدح، ثمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ. ثمَّ قَالَ: أَسْبِغُوا الْوضُوءَ. فوالذي ابتلاني (ببصري) لقد رَأَيْت المَاء
(2/91)
يَوْمئِذٍ يخرج من بَين أَصَابِع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَمَا رَفعهَا حتَّى توضئوا أَجْمَعُونَ» . ونبيح هَذَا قَالَ (عَلّي) بن الْمَدِينِيّ: مَجْهُول. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: كُوفِي ثِقَة، لم يرو عَنهُ غير الْأسود بن قيس، وَقد رَوَى عَنهُ [أَبُو خَالِد] الدالاني [أَيْضا] . وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان. قَالَ النَّووي فِي «شرح الْمُهَذّب» : يُمكن أَن يحْتَج فِي الْمَسْأَلَة بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللهِ فَهوَ أَجْذَم» ، وَهَذَا الحَدِيث ذكر أَصله الإِمام الرَّافِعِيّ فِي كتاب النِّكَاح، وسنتكلم عَلَيْهِ هُنَاكَ - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ: وَيروَى فِي بعض الرِّوَايَات: «لاَ وضُوءَ كَامِل لِمَن لمْ يَذْكُر اسْمَ اللهِ عَلَيهِ» . وَهَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة جدًّا لَا أعلم من خرجها بِهَذَا اللَّفْظ مَعَ الْبَحْث عَنْهَا. لَكِن الحَدِيث الْآتِي بعد هَذَا هُوَ بمعناها.
وَحَكَى أَبُو دَاوُد عَن ربيعَة أَن تَفْسِير الحَدِيث الَّذِي مر: «لاَ وضُوءَ لِمَن لمْ يَذْكُر اسْمَ اللهِ عَلَيه» أنَّه الَّذِي يتَوَضَّأ ويغتسل وَلَا يَنْوِي وضُوءًا للصَّلَاة وَلَا (غسلا للجنابة) .
وَادَّعَى الشَّيْخ زكي الدَّين فِي «اختصاره للسنن» ظُهُور هَذَا التَّأْوِيل، وَالله الْمُوفق للصَّوَاب.
(2/92)
الحَدِيث الثَّامِن عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللهِ عَلَيه كَانَ طهُورًا لِجَميعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلمْ يَذْكُر اسْمَ اللهِ عَلَيه كَانَ طهُورًا لأَعْضَاء وضُوئِهِ» .
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق كلهَا ضَعِيفَة.
أَحدهَا: عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إِذَا تَطَهَّرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُر اسْمَ اللهِ فَإِنَّه يطهرُ جَسَده كُلّه، وإْنَ لمْ يَذْكُرْ أَحَدُكُمْ اسْمَ اللهِ عَلَى طهورِهِ لمْ يطهرْ مِنْه إِلاَّ مَا مَرَّ عَلَيهِ المَاءُ؛ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طهورِهِ فَلْيَشْهَد أَن لَا إلهَ إِلاَّ الله وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فِإذَا قَالَ (ذَلِكَ) فُتحتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَهَذَا لَفظه، وَالْبَيْهَقِيّ بِمثلِهِ وَزَاد بعد وَرَسُوله: «ثُمَّ ليصَلِّ عَلَيَّ، فَإِذَا قَالَ (ذَلِكَ) فُتحتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف لَا أعلم رَوَاهُ (عَن) الْأَعْمَش إلاَّ يَحْيَى بن هَاشم وَيَحْيَى مَتْرُوك الحَدِيث.
قُلْتُ: يَحْيَى بن هَاشم (هَذَا) هُوَ ابْن كثير بن قيس أَبُو زَكَرِيَّا السمسار الغساني الْبَغْدَادِيّ وَهُوَ ضَعِيف بِمرَّة، قَالَ يَحْيَى: هُوَ دجال
(2/93)
هَذِه الأمَّة. وَنسبه ابْن عدي وَابْن حبَان إِلَى وضع الحَدِيث.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَنْ تَوَضَّأَ وَذَّكَرَ اسْمَ اللهِ عَلَى وضُوئِهِ كَانَ طهُورًا لِجَسَدِهِ، وَمَن تَوضَّأَ وَلمْ يَذْكُر اسْمَ اللهِ عَلَى وضُوئِهِ كَانَ طهُورًا لأَعْضَائِهِ» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن (حَكِيم) - بِفَتْح الْحَاء - عَن عَاصِم بن مُحَمَّد، عَن نَافِع عَنهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَعبد لله بن (حَكِيم) هُوَ أَبُو بكر الداهري وَهُوَ غير ثِقَة عِنْد أهل الحَدِيث.
قُلْتُ: بل هُوَ ضَعِيف جدًّا، مَنْسُوب إِلَى (الْوَضع) .
قَالَ أَحْمد وَيَحْيَى: لَيْسَ هُوَ بِشَيْء. زَاد أَحْمد: يروي أَحَادِيث (مَنَاكِير. وَقَالَ السَّعْدِيّ: كَذَّاب مُصَرح. وَقَالَ ابْن حبَان: يضع الحَدِيث) عَلَى الثِّقَات.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللهِ يطهرُ جَسَده كُلَّه وَمَن تَوَضَّأَ، وَلمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللهِ لمْ يطهرْ إِلا مَوضِعَ الوضُوءِ» .
(2/94)
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة مرداس بن مُحَمَّد بن عبد الله بن [أبي بردة] عَن مُحَمَّد بن أبان، عَن أَيُّوب بن عَائِذ الطَّائِي، عَن مُجَاهِد، عَن أبي هُرَيْرَة.
قَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» : هُوَ حَدِيث ضَعِيف.
وَقَالَ عبد الحقّ فِي «الْأَحْكَام» : «مُحَمَّد بن أبان لَا أعرفهُ الْآن، وأمّا أَيُّوب فمعروف ثِقَة. قَالَ (ابْن) الْقطَّان فِي «علله» : وَلَقَد جَهِلَ من قَالَ أَن مُحَمَّد بن أبان (مَجْهُول) وإنْ كَانَ يغلب عَلَى الظَّن أنَّه مُحَمَّد بن أبان الْجعْفِيّ، جد مشكدانة (الْحَافِظ) ، وَهُوَ كُوفِي ضَعِيف كَانَ رَأْسا فِي المرجئة، فَترك لأجل ذَلِكَ حَدِيثه. ثمَّ نقل عَن البُخَارِيّ أنَّه قَالَ فِي أَيُّوب بن عَائِذ كُوفِي مرجئ. قَالَ: ووراء هَذَا كُله أنَّ فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث من لَا يُعرف البتَّة، وَهُوَ مرداس بن مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي بردة.
وَلِهَذَا الحَدِيث طَريقَة رَابِعَة: أَشَارَ إِلَيْهَا الْحَافِظ عبد الحقّ فِي «الْأَحْكَام الْوُسْطَى» فَقَالَ: ذكر عبد الْملك (بن) حبيب من حَدِيث
(2/95)
إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن أبان، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَعْنِي: بِمثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
قَالَ: وَهَذَا ضَعِيف جدًّا.
وخامسة: ذكرهَا أَبُو عبيد فِي كتاب «الطّهُور» فَقَالَ: روينَا عَن أبي بكر الصّديق حَدِيثا قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ الرَّجُلُ فَذَكَرَ اسْمَ اللهِ عَلَى وضُوئِهِ طهر جَسده كُلّه، وإنْ لمْ يذكرُ اسْمَ اللهِ عَلَيه لمْ يطهرْ مِنْه إِلاَّ مَوَاضِعَ الوضُوءِ» .
قَالَ أَبُو عبيد: سَمِعت خلف بن خَليفَة (يحدث) بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي بكر؛ فَلَا أجدني أحفظه.
قَالَ النَّووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَعْنَى هَذَا الحَدِيث: كَانَ طهُورا لجَمِيع بدنه أَو لما مر عَلَيْهِ (المَاء أَي) [مطهرًا] من الذُّنُوب الصَّغَائِر.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يغسل يَدَيْهِ إِلَى كوعيه قبل الْوضُوء» .
هَذَا (حَدِيث) صَحِيح ثَابت مَشْهُور، مستفيض من حَدِيث جماعات من الصَّحَابَة كَحَدِيث عُثْمَان الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ»
(2/96)
وَغَيرهمَا: «أنَّه دَعَا بِمَاء فأفرغ عَلَى كفيه ثَلَاث مرَّاتٍ فغسلهما» وَقَالَ فِي آخِره: «هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتوضَّأ» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: « (فأفرغ) بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، ثمَّ غسلهمَا إِلَى الكوعين» . وَقَالَ فِي آخِره: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ مثل مَا رَأَيْتُمُونِي تَوَضَّأت» .
وَحَدِيث عبد الله بن زيد الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» (أَيْضا) : أنَّه قيل لَهُ: (تَوَضَّأ لنا وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَدَعَا بِإِنَاء فأكفأ عَلَى يَدَيْهِ فغسلهما ثَلَاثًا ... » الحَدِيث.
وَقَالَ فِي آخِره: «هَكَذَا كَانَ وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وَغير ذَلِكَ من الْأَحَادِيث الَّتِي ستأتي فِي الْبَاب.
الحَدِيث الْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحدُكُم مِن نومِهِ فَلاَ يَغْمِس يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حتَّى (يَغْسِلهَا) ثَلاثًا؛ فإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَقد تقدم بَيَانه وَاضحا بِطرقِهِ فِي بَاب النَّجَاسَات.
(2/97)
الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يتمضمض ويستنشق فِي وضوئِهِ» .
هَذَا صَحِيح مَشْهُور مستفيض من فعله عَلَيْهِ الصَّلَاة والسَّلام من رِوَايَة جمَاعَة من الصَّحَابَة، كعلي وَعُثْمَان وَعبد الله بن زيد وَغَيرهم.
وَسَيَأْتِي قَرِيبا رواياتهم مستوفاة.
الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ
رُوي أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَشْر مِنَ (الْفِطْرَةِ) وعَدَّ مِنْهَا الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق» .
هَذَا الحَدِيث وَارِد من طَرِيقين:
أَحدهمَا: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «مِنَ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ، وإِعْفَاءُ اللحيةِ، والسِّواكُ، واسْتِنْشَاقُ المَاءِ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ، وغسلُ البراجم، ونتفُ الإِبِطِ، وحلقُ العَانَةِ، وانتقَاصُ الماءِ قَالَ مُصعب بن شيبَة - أحد رُوَاته -: ونسيت الْعَاشِرَة إلاَّ أَن تكون الْمَضْمَضَة» وَقَالَ وَكِيع - وَهُوَ أحد رُوَاته -: «انتقاص (المَاء) : الِاسْتِنْجَاء» .
رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» كَمَا تقدَّم فِي الْفُصُول (الْمُتَقَدّمَة) فِي السِّواك.
(2/98)
والانتقاص: بِالْقَافِ وَالصَّاد الْمُهْملَة.
وَنقل الْعقيلِيّ عَن الإِمام أَحْمد أنَّه قَالَ: مُصعب بن شيبَة أَحَادِيثه مَنَاكِير، مِنْهَا هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يحمدونه، وَلَيْسَ بِقَوي.
ولعلَّ البُخَارِيّ إنَّما ترك (إِخْرَاجه) فِي «صَحِيحه» لأَجله، أَو لأجل رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيّ لَهُ عَن طلق مُرْسلَة، كَمَا قَالَه ابْن مَنْدَه.
والتيمي أجلُّ من مُصعب بِلَا شكّ، فقد اتّفق عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، وَقَالَ شُعْبَة: مَا رَأَيْت أحدا أصدق مِنْهُ.
الطَّرِيق الثَّانِي: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَدَاوُد بن (شبيب) قَالَا: ثَنَا حَمَّاد، عَن عَلّي بن زيد، عَن سَلمَة بن مُحَمَّد بن عمار بن يَاسر - قَالَ مُوسَى: عَن أَبِيه. وَقَالَ دَاوُد: عَن عمار بن يَاسر - أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِنَّ مِنَ الْفِطْرَةِ: المَضْمَضَةُ والاسْتِنْشَاقُ ... » فَذكر نَحوه - يَعْنِي: حَدِيث عَائِشَة الْمُتَقَدّم - قَالَ: وَلم يذكر «إعفاء اللِّحْيَة» زَاد «والختان» وَقَالَ: «والانتضاح» وَلم يذكر «انتقاص المَاء - يَعْنِي: الِاسْتِنْجَاء» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» عَن سهل بن أبي سهل وَمُحَمّد بن يَحْيَى، نَا أَبُو الْوَلِيد، نَا حَمَّاد، عَن عَلّي بن زيد، عَن سَلمَة
(2/99)
بن مُحَمَّد بن عمار بن يَاسر، عَن عمار بن يَاسر، أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مِنَ الْفِطْرَةِ: المَضْمَضَةُ والاسْتِنْشَاقُ، والسِّوَاكُ، وقَصُّ الشَّارِبِ، وتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، ونَتْفُ الإِبِطِ، والاستحدادُ، وغَسْلُ البراجم، والانتضاحُ، والاخْتِتَانُ» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عَفَّان، ثَنَا حَمَّاد بِهِ إلاَّ أنَّه قَالَ: «إِنَّ مِنَ الْفِطْرَةِ ... ) أَو (الْفطْرَة ... » (فَذكرهَا) .
وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف لَا يصلح للاحتجاج بِهِ لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن عَلّي بن زيد بن جدعَان ضَعِيف، وإنْ كَانَ بَعضهم قَوَّاه.
قَالَ ابْن الْقطَّان فِي «علله» : عَلّي بن زيد تَركه قوم وَضَعفه آخَرُونَ، وَوَثَّقَهُ جمَاعَة ومدحوه، و (جملوا) أمره، أَنه كَانَ يرفع الْكثير مِمَّا يقفه غَيره، وَاخْتَلَطَ (آخرا) وَلَا يتهم بِالْكَذِبِ وَكَانَ من الْأَشْرَاف.
الْوَجْه الثَّانِي: أَنه مُنْقَطع؛ لِأَن سَلمَة لمن يسمع عمارًا.
قَالَ ابْن الْقطَّان: قَالَ البُخَارِيّ: لَا يُعرف أنَّه سمع من عمار أم لَا. و (قَالَ) الشَّيْخ (زكي) الدَّين وَغَيره: قَالَ البُخَارِيّ: لَا يعرف أَن سَلمَة بن مُحَمَّد سمع عمارًا.
(2/100)
وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْحفاظ: لم يسمع سَلمَة عمارًا.
وَوجه ثَالِث: من التَّعْلِيل أَن سَلمَة هَذَا لَا يُعرف حَاله، كَمَا قَالَه ابْن الْقطَّان فِي «علله» . لَكِنَّهَا عرفت.
قَالَ ابْن حبَان: لَا يحْتَج بِهِ.
وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمِيزَان» : صَدُوق (فِي نَفسه) ، [رِوَايَته عَن جده مُرْسلَة] وَعنهُ ابْن جدعَان وَحده ثمَّ ذكر كَلَام ابْن حبَان.
وَوجه رَابِع: أنَّ رِوَايَة أبي دَاوُد عَن سَلمَة بن مُحَمَّد بن عمار بن يَاسر، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلَة.
قَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين فِي «مُخْتَصر السّنَن» : حَدِيث سَلمَة بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه مُرْسل؛ لأنَّ أَبَاهُ لَيست لَهُ صُحْبَة.
لَا جرم أنَّ عبد الحقّ فِي «الْأَحْكَام» قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا يقطع بِهِ حكم.
وَخَالف الشَّيْخ زكي الدَّين (فَقَالَ) فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» : هَذَا حسن غَرِيب. قَالَ: وَقد اخْتلف فِيهِ عَلَى حَمَّاد. قَالَ: وَقَالَ البُخَارِيّ: لَا يعرف أَن سَلمَة بن مُحَمَّد سمع عمارًا. (ثمَّ) قَالَ فِي «مُخْتَصر السّنَن» - كَمَا تقدم عَنهُ -: «حَدِيث سَلمَة عَن أَبِيه
(2/101)
مُرْسل؛ لِأَن أَبَاهُ لَيست لَهُ صُحْبَة، وَحَدِيثه عَن جده عمار قَالَ ابْن معِين: مُرْسل. وَقَالَ غَيره: لم يره.
وَخَالف الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فَقَالَ فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» : إِن هَذَا الحَدِيث قريب من الصِّحَّة. قَالَ: وَأَصَح مِنْهُ حَدِيث عَائِشَة. قَالَ: وَهُوَ بِمَعْنَاهُ.
قُلْتُ: وأمَّا ابْن السكن فِي «صحاحه» (فَذكره) .
الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ
وَهُوَ يجمع سِتَّة أَحَادِيث، وَكَلَام الإِمام الرَّافِعِيّ فِيهِ مُرْتَبِط بعضه بِبَعْض، وَفِيه تكْرَار فِي الْأَحَادِيث، فَالْوَجْه أَن نذْكر عبارَة الرَّافِعِيّ برمتها ثمَّ نشفعها بِمَا وَقع فِيهَا من الْأَحَادِيث فَنَقُول:
قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ: أصل اسْتِحْبَاب الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق يتَأَدَّى بإيصال المَاء إِلَى الْفَم وَالْأنف، سَوَاء كَانَ بغرفة وَاحِدَة أَو بِأَكْثَرَ، لَكِن اخْتلفُوا فِي الْكَيْفِيَّة الَّتِي هِيَ أفضل عَلَى طَرِيقين:
أصَحهمَا: أَن فِيهِ قَوْلَيْنِ: أصَحهمَا: أَن الْفَصْل بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق أفضل؛ لما رُوِيَ (عَن) طَلْحَة بن مصرف، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يفصل بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق» وَيُقَال: إِن عُثْمَان وعليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما كَذَلِك روياه، ولأنَّه أقرب إِلَى النَّظافة.
(2/102)
وَالثَّانِي: الْجمع بَينهمَا أفضل؛ لما رُوِيَ عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي وصف وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أنَّه تمضمض مَعَ الِاسْتِنْشَاق بِمَاء وَاحِد» .
وَنقل مثله عَن وصف عبد الله بن زيد، وَالرِّوَايَة عَنهُ وَعَن عَلّي وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم فِي الْبَاب مُخْتَلفَة.
وَالطَّرِيق الثَّانِي: أَن الْفَصْل أفضل بِلَا خلاف، وَحَيْثُ ذكر الْجمع أَرَادَ بَيَان الْجَوَاز، فَإِن قُلْنَا بِالْفَصْلِ فَفِي كيفيته وَجْهَان:
أصَحهمَا: أنَّه يَأْخُذ غرفَة يتمضمض مِنْهَا ثَلَاثًا، وغرفة أُخْرَى يستنشق مِنْهَا ثَلَاثًا؛ لأنَّ عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَذَلِك رَوَاهُ.
وَالثَّانِي: أنَّه يَأْخُذ ثَلَاث غرفات للمضمضة وَثَلَاثًا للاستنشاق؛ لأنَّه أقرب إِلَى النَّظافة وأيسر، وَعَلَى هَذَا القَوْل تقدم الْمَضْمَضَة عَلَى الِاسْتِنْشَاق، وَهَذَا التَّقْدِيم مُسْتَحقّ فِي أظهر الْوَجْهَيْنِ؛ لأنَّهما عضوان فيتعيَّن التَّرْتِيب بَينهمَا كَسَائِر الْأَعْضَاء.
وَالثَّانِي: أنَّه مُسْتَحبّ؛ لأنَّهما لتقاربهما بِمَنْزِلَة الْعُضْو الْوَاحِد كاليمين مَعَ الْيَسَار.
وَإِن قُلْنَا بِالْجمعِ فَفِي كيفيته وَجْهَان أَيْضا:
أظهرهمَا: أنَّه يَأْخُذ غرفَة يتمضمض مِنْهَا، ثمَّ يستنشق، ثمَّ يَأْخُذ غرفَة أُخْرَى يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق، ثمَّ يَأْخُذ غرفَة ثَالِثَة يفعل بهَا مثل ذَلِكَ، كَذَلِك رُوِيَ عَن وصف عبد الله بن زيد.
وَالثَّانِي: أنَّه يَأْخُذ غرفَة وَاحِدَة يتمضمض مِنْهَا ثَلَاثًا، ويستنشق ثَلَاثًا، رُوِيَ فِي بعض الرِّوَايَات أَيْضا.
هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ برمّته، وَقد اشْتَمَل عَلَى سِتَّة أَحَادِيث (كَمَا أسلفناها) .
(2/103)
أَحدهَا: حَدِيث طَلْحَة بن مصرف، عَن أَبِيه، عَن جده. وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن شَيْخه حميد بن مسْعدَة، نَا مُعْتَمر، قَالَ: سَمِعت ليثًا يذكر (عَن طَلْحَة) عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: «دخلت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يتوضَّأ وَالْمَاء يسيل من وَجهه ولحيته عَلَى صَدره، فرأيته يفصل بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق» .
و (هُوَ) حَدِيث ضَعِيف؛ لأنَّ لَيْث بن أبي سليم ضَعِيف عِنْد الْجُمْهُور، وَقَالَ الإِمام أَحْمد: هُوَ مُضْطَرب الحَدِيث، وَلَكِن قد حدث عَنهُ النَّاس. وَضَعفه أَيْضا ابْن عُيَيْنَة وَالنَّسَائِيّ. وَقَالَ السَّعْدِيّ: يضعف حَدِيثه. وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة الرازيان: لَا يشْتَغل بِهِ هُوَ مُضْطَرب الحَدِيث.
وَقَالَ ابْن حبَان: اخْتَلَط فِي آخر عمره، وَكَانَ يقلب الْأَسَانِيد وَيرْفَع الْمَرَاسِيل، وَيَأْتِي عَن الثِّقَات بِمَا لَيْسَ من حَدِيثهمْ، تَركه يَحْيَى الْقطَّان وَيَحْيَى بن معِين وَابْن مهْدي وَأحمد.
وَأخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا. وَقَالَ صَاحب «الْكَمَال» : (أخرج) لَهُ الشَّيْخَانِ.
وَفِي «معرفَة الرِّجَال» (للبلخي) قَالَ صَدَقَة بن الْفضل: هُوَ (أَضْعَف) الْعَالمين.
(2/104)
وسُئل وَكِيع عَنهُ، فَقَالَ: لَيْث لَيْث.
وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: صَدُوق ضَعِيف الحَدِيث.
وَفِي «الموضوعات» لِابْنِ الْجَوْزِيّ: هُوَ عِنْدهم فِي غَايَة الضعْف.
وَنقل النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي « (التَّهْذِيب» ) وَكَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد اتِّفَاق الْعلمَاء عَلَى ضعفه واضطراب حَدِيثه واختلال ضَبطه.
قُلْتُ: قد قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَقه: كَانَ صَاحب سنة يخرج حَدِيثه (إنَّما أَنْكَرُوا عَلَيْهِ الْجمع بَين عَطاء وَطَاوُس وَمُجاهد حسب) .
وَقَالَ الْعجلِيّ: «جَائِز الحَدِيث» (وَقَالَ الذَّهَبِيّ) فِي «الضُّعَفَاء» : هُوَ حسن الحَدِيث (وإنَّما ضعفه الِاخْتِلَاط بِأخرَة) .
وَقَالَ الْبَزَّار: هُوَ أحد الْعباد إلاَّ أنَّه كَانَ (قد) أَصَابَهُ اخْتِلَاط فاضطرب فِي حَدِيثه، وإنَّما تكلم فِيهِ أهل الْعلم بِهَذَا، وَإِلَّا فَلَا نعلم أحدا ترك حَدِيثه.
(2/105)
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «علله الْكَبِير» : قَالَ مُحَمَّد - يَعْنِي: البُخَارِيّ -: هُوَ عِنْدِي صَدُوق ذكره بعد نَقله أنَّ أَحْمد قَالَ فِيهِ: لَا يفرح بحَديثه.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ أعلم أهل (الْمَدِينَة) بالمناسك. قَالَ: وَسَأَلت يَحْيَى عَنهُ فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْس.
وَقَالَ السَّاجِي: صَدُوق (فِيهِ) ضعف، كَانَ سيئ الْحِفْظ كثير الْغَلَط.
وَقَالَ ابْن شاهين: (قَالَ عُثْمَان بن أبي شيبَة) : هُوَ ثِقَة صَدُوق، وَلَيْسَ بحجَّة.
وَقد ضعفه بَعضهم من وَجه آخر) وَهُوَ أَن جدّ طَلْحَة لم ير النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وليعلم أَن هَذَا (الْأَمر) قد اخْتلف فِيهِ. (فَقَالَ) أَبُو دَاوُد فِي حَدِيث آخر لليث بن أبي سليم عَن طَلْحَة بن مصرف، عَن أَبِيه، عَن جده
(2/106)
فِي الْوضُوء، قَالَ مُسَدّد: فَحدثت [بِهِ] يَحْيَى - يَعْنِي: الْقطَّان - فَأنكرهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَسمعت أَحْمد يَقُول: ابْن عُيَيْنَة (زَعَمُوا) كَانَ يُنكره، وَيَقُول: أيش هَذَا طَلْحَة بن مصرف، عَن أَبِيه، عَن جدِّه؟ .
وَقَالَ عَبَّاس الدوري - فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِم عَن الْأَصَم عَنهُ -: قُلْتُ ليحيى بن معِين: طَلْحَة بن مصرف، عَن أَبِيه، عَن جده رَأَى جده النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ فَقَالَ يَحْيَى: المحدثون يَقُولُونَ هَذَا وَأهل بَيت (طَلْحَة) يَقُولُونَ: لَيست لَهُ صُحْبَة.
وَهَذَا يُخَالِفهُ مَا ذكره الْخلال، عَن أبي دَاوُد: سَمِعت رجلا من ولد طَلْحَة بن مصرف يذكر أنَّ جده لَهُ صُحْبَة، وَقَالَ: رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَرَوَى الْحَاكِم أَيْضا عَن الطرائفي، قَالَ: سَمِعت الدَّارمِيّ يَقُول: سَمِعت عَلّي بن الْمَدِينِيّ يَقُول: قُلْتُ لِسُفْيَان: إِن ليثًا رَوَى عَن طَلْحَة بن مصرف، عَن أَبِيه، عَن جده (أنَّه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ ... ) فَأنْكر ذَلِكَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَسَأَلت عبد الرَّحْمَن - يَعْنِي: ابْن مهْدي - عَن نسب جد طَلْحَة؟ فَقَالَ: عَمْرو بن كَعْب - أَو كَعْب بن عَمْرو - وَكَانَت لَهُ صُحْبَة. وَقَالَ غَيره: عَمْرو بن كَعْب. لم يشك فِيهِ، ذكر ذَلِكَ الْبَيْهَقِيّ.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث فَلم يُثبتهُ، وَقَالَ: طَلْحَة هَذَا يُقَال إنَّه رجل من الْأَنْصَار، وَمِنْهُم من يَقُول: هُوَ طَلْحَة بن مصرف. قَالَ: وَلَو كَانَ
(2/107)
طَلْحَة بن مصرف لم يخْتَلف فِيهِ.
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الحقّ فِي «الْأَحْكَام» : طَلْحَة هَذَا يُقَال: هُوَ رجل من الْأَنْصَار؛ وَيُقَال: هُوَ طَلْحَة بن مصرف، وَلَا (نَعْرِف) لجده صُحْبَة.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا التَّرَدُّد من عبد الحقِّ فِيهِ نظر؛ فإنَّه الثَّانِي بِلَا شكّ، وَهُوَ قد تَابع ابْن أبي حَاتِم فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَعلة الْخَبَر عِنْدِي: الْجَهْل بِحَال مصرف بن عَمْرو وَالِد طَلْحَة بن مصرف. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا إِسْنَاد لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَلَا يحتجّ بِهِ. وَقَالَ فِي «الْخُلَاصَة» : ضَعِيف.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْوَسِيط» : إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَخَالف فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» فَقَالَ: هُوَ حَدِيث حسن، عَلَى أنَّ بعض الأئمَّة أنكرهُ.
وَفِي «تَهْذِيب الْمزي» : طَلْحَة عَن أَبِيه عَن جده فِي مسح الرَّأْس، وَعنهُ لَيْث بن أبي سليم، قيل: (إِنَّه) ابْن مصرف. وَقيل: غَيره، وَهُوَ الْأَشْبَه بالصَّواب. هَذَا لَفظه، وَهُوَ مُخَالف لما سلف إِنَّه ابْن مصرف بِلَا شكّ.
وَلما ذكر الْبَغَوِيّ تَرْجَمَة عَمْرو بن كَعْب جد طَلْحَة بن مصرف سَاقه.
(2/108)
وَقَالَ أَبُو زرْعَة: سمَّاه بَعضهم طَلْحَة بن مصرف.
وَكَذَا صرح بِهِ أنَّه ابْن مصرف: ابْن السكن فِي كِتَابه «الْحُرُوف» وَابْن مرْدَوَيْه فِي «أَوْلَاد الْمُحدثين» (والعسكري) وَيَعْقُوب بن سُفْيَان، وَأحمد فِي «مُسْنده» وَابْن أبي خَيْثَمَة فِي «تَارِيخه» ، وَابْن (الْمُقْرِئ) فِي «مُعْجَمه» وَالْبَزَّار فِي «أَمَالِيهِ» وَأَبُو نعيم الْحَافِظ من رِوَايَة عبد الْوَارِث. زَاد (رَوَاهُ) الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان [وَحَفْص بن غياث] وَإِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا، عَن لَيْث، عَن طَلْحَة بن مصرف بِنَحْوِهِ.
وَفِي كتاب «الزّهْد» لِأَحْمَد: أخْبرت عَن ابْن (عُيَيْنَة أنَّه) قيل لَهُ: إنَّ ليثًا يحدث عَن طَلْحَة بن مصرف، عَن أَبِيه، عَن جدّه أنَّه رَأَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَأنْكر سُفْيَان أَن يكون لَهُ صُحْبَة.
وأمَّا الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّالِث: وهما حَدِيث عَلّي وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّهما رويا الْفَصْل بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق أَيْضا، فَذكره الإِمام الرَّافِعِيّ تبعا (وَهُوَ تَابع للإِمام؛ فإنَّه ذكره كَذَلِك فِي «النّهاية»
(2/109)
وَأنْكرهُ) الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْوَسِيط» فَقَالَ: هَذَا الْمَنْقُول عَن عَلّي وَعُثْمَان لَا يعرف وَلَا يثبت (بل) رَوَى أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن عَلّي ضد ذَلِكَ «أنَّه وصف وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتَمَضْمَض مَعَ الِاسْتِنْشَاق بِمَاء وَاحِد» .
قُلْتُ: لَكِن قد رَوَى ابْن مَاجَه عَن عَلّي - كرَّم الله وَجهه - «أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ فَمَضْمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا من كف وَاحِدَة» .
وَظَاهر ذَلِكَ (الْفَصْل) بل فِي «مُسْند الإِمام أَحْمد» مَا هُوَ كَالصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ حَيْثُ رَوَى بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ «أنَّه دَعَا (بكوز من) مَاء فَغسل وَجهه وكفيه ثَلَاثًا وتمضمض (ثَلَاثًا) فَادْخُلْ بعض (أَصَابِعه فِي) فِيه واستنشق ثَلَاثًا وَغسل ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا وَمسح رَأسه وَاحِدَة» وَذكر بَاقِي الحَدِيث، وَقَالَ: «هَذَا وضوء نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
وَفِي «سنَن أبي دَاوُد» من حَدِيث عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن التَّيْمِيّ، قَالَ: «سُئِلَ ابْن أبي مليكَة عَن الْوضُوء فَقَالَ: رَأَيْت عُثْمَان بن عَفَّان يُسأل عَن الْوضُوء، فَدَعَا بِمَاء (فَأتي) بميضأة فأصغاها
(2/110)
(عَلَى) يَده الْيُمْنَى، ثمَّ أدخلها فِي المَاء فَتَمَضْمَض ثَلَاثًا، واستنثر ثَلَاثًا، وَغسل وَجهه ثَلَاثًا ... » إِلَى أَن قَالَ: «هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتوضَّأ» .
وَظَاهر هَذِه الرِّوَايَة أَخذ مَاء للمضمضة بمفردها ثمَّ مَاء آخر للاستنشاق بمفرده إِذْ الِاسْتِنْشَاق هُوَ الاستنثار، كَمَا هُوَ مَفْهُوم فِي غسل الْوَجْه (وَغَيره) .
لَا جرم اسْتدلَّ الْمَاوَرْدِيّ لقَوْل الْفَصْل بِهَذَا الحَدِيث، وَقَالَ ابْن دَاوُد: إنَّه مَذْهَب عُثْمَان فاستفد ذَلِكَ. ثمَّ رَأَيْت بعد ذَلِكَ فِي «سنَن ابْن السكن» الْمُسَمَّاة ب «الصِّحَاح المأثورة» مَا نَصه: رَوَى شَقِيق بن سَلمَة قَالَ: شهِدت (عَلّي) بن أبي طَالب وَعُثْمَان بن عَفَّان توضئا ثَلَاثًا (ثَلَاثًا) وأفردا الْمَضْمَضَة من الِاسْتِنْشَاق. ثمَّ قَالَ: هَكَذَا تَوَضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» ثمَّ قَالَ: «رُوِيَ عَنْهُمَا من وُجُوه» .
وأمَّا الحَدِيث الرَّابِع: وَهُوَ حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فَلهُ طرق وَاخْتِلَاف أَلْفَاظ فلنذكره مُسْتَوفى؛ لأنَّه أحد الْأَحَادِيث الَّتِي عَلَيْهَا مدَار بَاب الْوضُوء، فَنَقُول: لَهُ طرق:
أَحدهَا: عَن أبي حَيَّة - بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت المفتوحتين - قَالَ: «رَأَيْت عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه تَوَضَّأ فَغسل كفيه حتَّى أنقاهما، ثمَّ تمضمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا، وَغسل وَجهه ثَلَاثًا وذراعيه ثَلَاثًا، وَمسح
(2/111)
بِرَأْسِهِ مرّة، ثمَّ غسل قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ قَامَ فَأخذ [فضل] طهوره فشربه وَهُوَ قَائِم، ثمَّ قَالَ: أَحْبَبْت أَن أريكم كَيفَ كَانَ طهُور رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي إِسْحَاق، عَن عبد خير، أنَّه ذكر عَن عَلّي مثل حَدِيث أبي حَيَّة إِلَّا أنَّ عبد خير (قَالَ) : « (كَانَ) إِذا فرغ من (طهوره) أَخذ من فضل طهوره بكفه فشربه» ثمَّ قَالَ: «هَذَا حَدِيث رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق الْهَمدَانِي عَن أبي حيَّة وَعبد خير والْحَارث عَن عَلّي. وَقد رَوَاهُ (زَائِدَة بن قدامَة) وَغير وَاحِد، عَن خَالِد بن عَلْقَمَة، عَن عبد خير، عَن عَلّي حَدِيث الْوضُوء بِطُولِهِ، وَهَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
ثمَّ رَوَى عَن أبي إِسْحَاق، عَن أبي حَيَّة، عَن عَلّي «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا أحسن شَيْء فِي الْبَاب وأصحّ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة أبي حيَّة قَالَ: «رَأَيْت عليًّا تَوَضَّأ ...
(2/112)
فَذكر وضوءه كُله ثَلَاثًا ثَلَاثًا، قَالَ: ثمَّ مسح (رَأسه) ثمَّ غسل رجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثمَّ قَالَ: إنَّما (أَحْبَبْت) أَن أُريكم طهُور رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من طرق عَن عَلّي، فِي بَعْضهَا: «ثمَّ أَدخل يَده الْيُمْنَى فِي الإِناء فَمَلَأ فَمه فَمَضْمض، ثمَّ استنشق ونثر بِيَدِهِ الْيُسْرَى ثَلَاث مَرَّات» (ثمَّ) قَالَ فِي آخِره: «هَذَا طهُور نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» (وَفِي بَعْضهَا: «وَمسح رَأسه ثَلَاثًا» .
وَاعْترض أَبُو الْحسن بن الْقطَّان عَلَى تَصْحِيح أبي حَيَّة هَذَا بِأَن قَالَ: «أَبُو حَيَّة الوادعي قَالَ فِيهِ أَحْمد بن حَنْبَل: شيخ. قَالَ: وَمَعْنى ذَلِكَ عِنْدهم أنَّه لَيْسَ من أهل الْعلم، وإنَّما وَقعت لَهُ رِوَايَة لحَدِيث أَو أَحَادِيث فَأخذت عَنهُ، وهم يَقُولُونَ: لَا تقبل رِوَايَة الشُّيُوخ فِي الْأَحْكَام. وَقد رَأَيْت من قَالَ فِي هَذَا الرجل أنَّه مَجْهُول، وَأَبُو الْوَلِيد الفرضي مِمَّن قَالَ ذَلِكَ، وَلَا يروي عَنهُ - فِيمَا أعلم - غير أبي إِسْحَاق، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لَا يُسمى. وَوَثَّقَهُ بَعضهم. قَالَ: وَصحح من حَدِيثه «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ
(2/113)
ثَلَاثًا» : ابْن السكن. قَالَ: وَأتبعهُ التِّرْمِذِيّ بأنَّه أحسن شَيْء فِي الْبَاب، وَهُوَ بِاعْتِبَار حَال أبي حَيَّة، وَبِاعْتِبَار حَال أبي إِسْحَاق واختلاطه حسن، فإنَّ أَبَا الْأَحْوَص وَزُهَيْر بن مُعَاوِيَة سمعا مِنْهُ [بعد] الِاخْتِلَاط، قَالَه ابْن معِين.
وَاعْترض شَيخنَا فتح الدَّين ابْن سيد النَّاس - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى ابْن الْقطَّان، فَقَالَ: «أما تحسينه إِيَّاه فَلَيْسَ بِمُسْتَقِيم؛ لأنَّ ابْن السكن وَابْن عبد الْوَاحِد الْمَقْدِسِي صَحَّحَاهُ.
وأمَّا قَول التِّرْمِذِيّ: أحسن شَيْء فِي الْبَاب. فَلَا يدل ذَلِكَ عَلَى أنَّه حسن عِنْده وإنْ كَانَ قد يُفِيد التحسين فَلم يقْتَصر عَلَى هَذِه اللَّفْظَة؛ بل قَالَ: أحسن شَيْء فِي هَذَا الْبَاب وأصحَّ. فَإِن كَانَ اسْتَفَادَ التحسين من قَوْله: «أحسن» فليستفد التَّصْحِيح من قَوْله: «وأصحّ» وَلَا فرق، بل قد صَححهُ التِّرْمِذِيّ فِي بَاب وضوء النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) كَيفَ كَانَ» .
قَالَ: وأمَّا الْكَلَام فِي أبي حَيَّة فقد وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان، وَلَيْسَ فِي الْجَهَالَة الَّتِي حَكَاهَا عَن ابْن الفرضي وَلَا فِي قَول الإِمام أَحْمد عَنهُ: «شيخ» مَا يُعَارض التَّوثيق الْمَذْكُور، وأمَّا قَوْله «إنَّه لم يروِ عَنهُ غير أبي إِسْحَاق» فقد رَوَى أَبُو أَحْمد الْحَاكِم هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة الْمنْهَال بن عَمْرو عَن أبي حَيَّة (فَهَذَا راوٍ ثانٍ) عَن أبي حَيَّة، لَكِن الْحَاكِم أَبُو أَحْمد قَالَ فِي تَرْجَمته: إِن كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا ... ثمَّ سَاقه
(2/114)
بِسَنَدِهِ.
وسُئل أَبُو زرْعَة عَن حَدِيث الْمنْهَال بن عَمْرو، عَن زر بن حُبَيْش (قَالَ) : «جَاءَ رجل إِلَى عَلّي يسْأَله عَن وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: إنَّما يرْوَى عَن الْمنْهَال بن عَمْرو عَن أبي حَيَّة عَن عَلّي، وَهُوَ أشبه.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، نَا أَبُو (نعيم) نَا ربيعَة الْكِنَانِي، عَن الْمنْهَال بن عَمْرو، عَن زر بن حُبَيْش (أَنه سمع عليًّا - وَسُئِلَ عَن وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... ) وَذكر الحَدِيث.
وأمَّا (التَّضْعِيف) بِرِوَايَة زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق وأنَّه سمع مِنْهُ بعد الِاخْتِلَاط، فَلَا (تشأ) أَن ترَى فِي «الصَّحِيحَيْنِ» حَدِيثا من رِوَايَة زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق إِلَّا رَأَيْته. وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث مِمَّا انْفَرد بِهِ زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق.
فقد رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن مُحَمَّد بن بشار، عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، عَن سُفْيَان، عَن أبي إِسْحَاق.
وَذكر الْحَافِظ أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب «الْعِلَل» وُجُوهًا عديدة من الِاخْتِلَاف عَلَى أبي إِسْحَاق فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وأصحها كلهَا قَول من قَالَ عَن أبي حيَّة عَن عَلّي «أنَّه تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» .
(2/115)
فَائِدَة:
أَبُو حَيَّة اسْمه: عَمْرو (بن) عبد الله. قَالَه ابْن حبَان فِي «ثقاته» .
وَقَالَ الْأَمِير: أَبُو حَيَّة الوادعي الْهَمدَانِي مُخْتَلف فِي اسْمه، فَيُقَال: عَمْرو بن نصر، وَقيل: عَامر بن الْحَارِث.
وَقَالَ أَبُو زرْعَة وَالْحَاكِم أَبُو أَحْمد: لَا يعرف اسْمه.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن خَالِد بن عَلْقَمَة عَن عبد خير قَالَ: «أَتَانَا عَلّي وَقد صَلَّى فَدَعَا بِطهُور (فَقُلْنَا) مَا يصنع (بِهِ) وَقد صَلَّى؟ مَا يُرِيد إِلَّا ليعلمنا، فَأتي بِإِنَاء فِيهِ مَاء و (طست) فأفرغ من الإِناء عَلَى يَمِينه فَغسل يَدَيْهِ ثَلَاثًا (ثمَّ) تمضمض واستنشق - وَفِي لفظ: واستنثر ثَلَاثًا، فَمَضْمض ونثر من الْكَفّ الَّذِي يَأْخُذ فِيهِ - ثمَّ غسل وَجهه ثَلَاثًا، وَغسل يَده الْيُمْنَى ثَلَاثًا، وَغسل يَده الشمَال ثَلَاثًا، ثمَّ جعل يَده فِي الإِناء فَمسح بِرَأْسِهِ مرّة وَاحِدَة، ثمَّ غسل رجله الْيُمْنَى ثَلَاثًا وَرجله الشمَال ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ: من سره أَن يعلم وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَهُوَ هَذَا» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي «سُنَنهمَا» .
(2/116)
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: « [فَتَمَضْمَض] ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا» .
وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «تمضمض مَعَ الِاسْتِنْشَاق بِمَاء وَاحِد» .
قَالَ الْخَطِيب فِي «المدرج» : قَالَ ابْن أبي دَاوُد (هَذِه سنة تفرد بهَا أهل الْكُوفَة) فِي الْجمع بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق بكفّ وَاحِد.
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه: «تَوَضَّأ فَمَضْمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا من كف وَاحِد» وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: «فَمَضْمض واستنشق ثَلَاثًا» .
وَفِي رِوَايَة للبزار: «ثمَّ أَدخل يَده فِي الإِناء فَمَلَأ فَمه فَمَضْمض واستنشق ونثر بِيَدِهِ الْيُسْرَى ثَلَاث مَرَّات» وَفِي آخِره: «غسل قَدَمَيْهِ بِيَدِهِ الْيُسْرَى» .
وَفِي رِوَايَة لأبي عبيد فِي (كِتَابه) «الطّهُور» : «ثمَّ أَدخل يَده الْيُمْنَى فِي الإِناء فَمَضْمض واستنشق ونثر بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَفعل ذَلِكَ ثَلَاث مَرَّات» .
وَعبد خير كنيته: أَبُو عمَارَة [الخَيْواني]- بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقبل يَاء النِّسْبَة نون - وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين،
(2/117)
وَأحمد بن عبد الله الْكُوفِي، وَهُوَ مخضرم، وَسَيَأْتِي تَفْسِير المخضرم فِي آخر بَاب الآذان - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وخَالِد بن عَلْقَمَة وَثَّقَهُ (يَحْيَى) بن معِين. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ. لَا جرم أَن ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان أخرجَا الحَدِيث فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من طريقهما.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: «اتّفق رُوَاة هَذَا الحَدِيث عَلَى مسح الرَّأْس مرّة وَاحِدَة. إِلَّا أَبَا حنيفَة فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَته عَن خَالِد بن عَلْقَمَة، عَن عبد خير «أنَّه مسح رَأسه ثَلَاثًا» . وَخَالف فِي هَذَا؛ فَزعم أَن السّنة مرّة وَاحِدَة.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن زر بن حُبَيْش «أنَّه سمع عليًّا - وَسُئِلَ عَن وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكر الحَدِيث، قَالَ: «وَمسح عَلَى رَأسه حتَّى لما يقطر، وَغسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: (هَكَذَا) وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقد تقدَّم الْكَلَام قَرِيبا عَلَى هَذِه الطَّرِيق.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى قَالَ: «رَأَيْت عليًّا تَوَضَّأ فَغسل وَجهه ثَلَاثًا، وَغسل ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، وَمسح بِرَأْسِهِ وَاحِدَة، وَقَالَ: هَكَذَا تَوَضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَن زِيَاد بن أَيُّوب الطوسي - وَهُوَ الْحَافِظ،
(2/118)
احْتج بِهِ البُخَارِيّ - نَا عبيد الله بن مُوسَى - وَهُوَ الْعَبْسِي، احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ - نَا فطر بن خَليفَة - وَهُوَ صَدُوق، وَثَّقَهُ ابْن معِين وَأحمد، واحتجَّ بِهِ البُخَارِيّ - عَن أبي فَرْوَة - وَهُوَ عُرْوَة بن الْحَارِث الْهَمدَانِي - احتجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين - عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن يزِيد بن ركَانَة، عَن (عبيد الله) الْخَولَانِيّ، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (دخل عليَّ عليّ - يَعْنِي: ابْن أبي طَالب - وَقد أهراق المَاء، فَدَعَا بِوضُوء فأتيناه بتور فِيهِ مَاء حتَّى وضعناه بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ: ابْن عَبَّاس، أَلا أريك كَيفَ كَانَ يتوضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قُلْتُ: بلَى. قَالَ: فأصغي الإِناء عَلَى (يَدَيْهِ فغسلهما) ثمَّ أَدخل يَده الْيُمْنَى فأفرغ بهَا عَلَى الْأُخْرَى، ثمَّ غسل كفيه، ثمَّ تمضمض واستنثر، ثمَّ أَدخل يَدَيْهِ فِي الإِناء جَمِيعًا فَأخذ بهما حفْنَة من مَاء فَضرب بهَا عَلَى وَجهه، ثمَّ (ألقم) إبهاميه مَا أقبل من أُذُنَيْهِ، ثمَّ الثَّانِيَة ثمَّ الثَّالِثَة مثل ذَلِكَ، ثمَّ أَخذ بكفه الْيُمْنَى قَبْضَة من مَاء فصبها عَلَى
(2/119)
ناصيته فَتَركهَا (تستن) عَلَى وَجهه، ثمَّ غسل ذِرَاعَيْهِ إِلَى الْمرْفقين ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ وَظُهُور أُذُنَيْهِ، ثمَّ أَدخل يَدَيْهِ جَمِيعًا، ثمَّ أَخذ حفْنَة من مَاء فَضرب بهَا عَلَى رجله وفيهَا النَّعْل (فغسلها) بهَا، ثمَّ الْأُخْرَى مثل ذَلِكَ. قُلْتُ: وَفِي النَّعْلَيْنِ؟ قَالَ: و (فِي) النَّعْلَيْنِ. قُلْتُ: وَفِي النَّعْلَيْنِ؟ قَالَ: وَفِي النَّعْلَيْنِ. (قُلْتُ: وَفِي النَّعْلَيْنِ؟ قَالَ: وَفِي النَّعْلَيْنِ) » .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَمسح بِرَأْسِهِ مرّة» وَفِي رِوَايَة لَهُ «وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا» . وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَزَّار وَقَالَ: لَا نعلم أحدا رَوَى هَذَا الْكَلَام فِي صفة وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا من حَدِيث عبيد الله الْخَولَانِيّ، وَلَا نعلم أنَّ أحدا رَوَاهُ عَن عبيد الله الْخَولَانِيّ إلاَّ [مُحَمَّد بن طَلْحَة] .
قُلْتُ: عبيد الله مُتَّفق عَلَى الِاحْتِجَاج بِهِ، و [مُحَمَّد بن طَلْحَة
(2/120)
بن يزِيد] وَثَّقَهُ يَحْيَى وَجَمَاعَة.
وَمُحَمّد بن إِسْحَاق (فسنعقد لَهُ فصلا مُسْتقِلّا) فِي أَقْوَال الأئمَّة فِيهِ فِي بَاب مَوَاقِيت الصَّلَاة - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقد صرَّح ابْن إِسْحَاق بِالتَّحْدِيثِ، كَمَا قَالَ صَاحب «الإِمام» فَسلم الحَدِيث من احْتِمَال التَّدْلِيس، لَا جرم أَن ابْن حبَان أخرجه فِي «صَحِيحه» لَكِن مُخْتَصرا، وَهَذَا لَفظه: عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «دخل عليٌّ (بَيْتِي) وَقد بَال، فَدَعَا بِوضُوء فجئناه بِقَعْبٍ (يَأْخُذ المُدَّ) حتَّى وضع بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَلا أتوضأ لَك وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ فَقلت: فدَاك أبي وأمّي. قَالَ: فَغسل يَدَيْهِ، ثمَّ مضمض واستنشق واستنثر، ثمَّ أَخذ بِيَمِينِهِ المَاء فصك بِهِ وَجهه حتَّى فرغ من وضوئِهِ» .
لَكِن قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي «مُخْتَصر السّنَن» : قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَنهُ - يَعْنِي: هَذَا الحَدِيث - فضعفه، وَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن النزال بن سُبْرَة قَالَ: «صليت مَعَ عَلّي بن أبي طَالب الظّهْر، ثمَّ انْطلق إِلَى مجْلِس لَهُ كَانَ يجلسه فِي الرحبة، فَقعدَ
(2/121)
وقعدنا حوله حتَّى حضرت الْعَصْر، فَأتي بِإِنَاء فِيهِ مَاء فَأخذ (مِنْهُ) كفًّا فَتَمَضْمَض واستنشق، وَمسح وَجهه وذراعيه وَمسح بِرَأْسِهِ وَمسح رجلَيْهِ، ثمَّ قَامَ فَشرب فضل إنائه، ثمَّ قَالَ: إنِّي حدثت أَن رجَالًا يكْرهُونَ أَن يشرب أحدهم وَهُوَ قَائِم. وَإِنِّي رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعل كَمَا فعلت، وَهَذَا وضوء من لم يحدث» .
رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» .
(وَأخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ) فِي كتاب الْأَشْرِبَة، وَهَذَا لَفظه: عَن النزال بن سُبْرَة «أنَّ عليا صلَّى الظّهْر ثمَّ قعد فِي حوائج النَّاس فِي رحبة الْكُوفَة حتَّى حضرت صَلَاة الْعَصْر، ثمَّ أَتَى بِمَاء فَشرب وَغسل وَجهه وَيَديه - ثمَّ (ذكر) رَأسه وَرجلَيْهِ - ثمَّ قَامَ فَشرب فَضله وَهُوَ قَائِم، ثمَّ قَالَ: إنَّ نَاسا يكْرهُونَ الشّرْب قَائِما (و) إنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صنع مِثْلَمَا صنعت» .
وأمّا الحَدِيث الْخَامِس، وَهُوَ حَدِيث عبد الله بن زيد، فَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَن عبد الله بن زيد بن عَاصِم «أنَّه قيل لَهُ: تَوَضَّأ لنا وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَدَعَا بِإِنَاء فأكفأ [مِنْهَا] عَلَى
(2/122)
يَدَيْهِ فغسلهما ثَلَاثًا، ثمَّ (أَدخل) يَده فاستخرجها فَمَضْمض واستنشق من كف وَاحِدَة [فَفعل] ذَلِكَ ثَلَاثًا ثمَّ أَدخل (يَده) فاستخرجها فَغسل وَجهه ثَلَاثًا، ثمَّ أَدخل يَده فاستخرجها فَغسل (يَدَيْهِ) إِلَى الْمرْفقين مرَّتَيْنِ (مرَّتَيْنِ) ثمَّ أَدخل يَده فاستخرجها فَمسح بِرَأْسِهِ فَأقبل بيدَيْهِ وَأدبر، ثمَّ غسل رجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «ثمَّ أَدخل يَمِينه فِي الإِناء فَمَضْمض واستنشق [واستنثر] ثَلَاثًا بِثَلَاث غرفات من مَاء» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَمَضْمض و (استنشق) ثَلَاث مَرَّات (من) غرفَة وَاحِدَة، ثمَّ أَدخل يَده فاغترف بهَا، فَغسل وَجهه ثَلَاث مَرَّات» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم فِي مسح الرَّأْس: «بَدَأَ بِمقدم رَأسه، ثمَّ ذهب بهما إِلَى قَفاهُ، ثمَّ ردهما حتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَأقبل (بيدَيْهِ) وَأدبر مرّة وَاحِدَة» .
(2/123)
وَفِي رِوَايَة لَهُ وللبخاري: «فَمَضْمض واستنشق واستنثر من ثَلَاث غرفات» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فَمَضْمض، ثمَّ استنثر، ثمَّ غسل وَجهه ثَلَاثًا، وَيَده الْيُمْنَى ثَلَاث، وَالْأُخْرَى ثَلَاثًا، وَمسح رَأسه بِمَاء غير فضل يَده» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: «ثمَّ أَدخل يَده فِي الإِناء فَتَمَضْمَض واستنشق ثَلَاث مَرَّات من ثَلَاث حفنات» .
وأمَّا الحَدِيث السَّادِس: وَهُوَ حَدِيث عُثْمَان فَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة حمْرَان مولَى عُثْمَان بن عَفَّان، (عَنهُ) «أنَّه دَعَا بِوضُوء فَتَوَضَّأ فَغسل كفيه ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ (مضمض) واستنثر، ثمَّ غسل وَجهه ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ غسل يَده الْيُمْنَى إِلَى الْمرْفق ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ غسل يَده الْيُسْرَى، ثمَّ مسح رَأسه، ثمَّ غسل رجله الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ غسل رجله الْيُسْرَى مثل ذَلِكَ، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ نَحْو وضوئي هَذَا، ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَنْ تَوَضَّأَ
(2/124)
نَحْو وضُوئِي هَذَا (ثُمَّ قَامَ) فَرَكَعَ رَكْعَتَين لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسه غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَهَذَا اللَّفْظ الَّذِي سقناه هُوَ لمُسلم، وَأخرجه ابْن حبَان مُخْتَصرا، وَهَذَا (لَفظه) : عَن حمْرَان «رَأَيْت عُثْمَان قَاعِدا فِي المقاعد فَدَعَا، بِوضُوء فَتَوَضَّأ ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ فِي مقعدي هَذَا مثل وضوئي (هَذَا) ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (مَنْ تَوَضَّأَ مِثْل وضُوئِي هَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مَنْ ذَنْبِهِ، ثمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام) : وَلاَ تَغْتَرُّوا» .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم وَالْبُخَارِيّ، عَن حمْرَان «أنّه رَأَى عُثْمَان دَعَا بِإِنَاء، فأفرغ عَلَى كفيه ثَلَاث مَرَّات فغسلهما، ثمَّ أَدخل يَمِينه فِي الإِناء فَمَضْمض و (استنشق) (وَغسل وَجهه» .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «ثمَّ تمضمض واستنشق) واستنثر» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «فَتَمَضْمَض ثَلَاثًا واستنثر ثَلَاثًا» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «ثمَّ تمضمض واستنثر ثَلَاثًا» .
(2/125)
وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «ثمَّ تمضمض واستنثر ثَلَاث مَرَّات» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة: «فَمَضْمض، ثمَّ استنثر، ثمَّ غسل وَجهه ثَلَاثًا وَيَده الْيُمْنَى ثَلَاثًا وَالْأُخْرَى ثَلَاثًا، وَمسح رَأسه بِمَاء غير فضل يَدَيْهِ، وَغسل رجلَيْهِ حتَّى أنقاهما» .
انْقَضَى الْكَلَام عَلَى الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرهَا الإِمام الرَّافِعِيّ - بِحَمْد الله وعونه - وَالرِّوَايَات الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا كلهَا دَاخِلَة فِي ضمن مَا ذَكرْنَاهُ من الْأَحَادِيث؛ فتفطن لأخذها.
الحَدِيث التَّاسِع وَالْعشْرُونَ
عَن لَقِيط بن صبرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُول الله، أَخْبرنِي عَن الْوضُوء، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أَسْبِغ الوضُوءَ، وخَلل بينَ الأَصَابِعِ، وبَالغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أنْ تكونَ صَائِمًا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَئِمَّة: الشَّافِعِي وَأحمد، والدارمي (فِي «مسانيدهم» ) وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» وَأَبُو دَاوُد،
(2/126)
وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن الْكُبْرَى» و «الْمعرفَة» وَغَيرهمَا، وَبَعْضهمْ يزِيد عَلَى بعض، وَصَححهُ الْأَئِمَّة.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْبَغَوِيّ وَابْن الْقطَّان: «هُوَ حَدِيث صَحِيح» وَأخرجه أَيْضا الإِمام أَبُو عبد الله الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» . ثمَّ قَالَ: «هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلم يخرجَاهُ، وَهُوَ فِي جملَة مَا قُلْنَا أنَّهما أعرضا عَن الصَّحَابِيّ الَّذِي لَا يروي عَنهُ غير الْوَاحِد، فقد احتجّا جَمِيعًا بِبَعْض هَذَا النَّوع. قَالَ: وَأَبُو هَاشم إِسْمَاعِيل بن كثير الْقَارِي - يَعْنِي: الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده - من كبار المكيين، رَوَى عَنهُ هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه جمَاعَة غير الثَّوْريّ، مِنْهُم ابْن جريج، وَدَاوُد بن عبد الرَّحْمَن الْعَطَّار، وَيَحْيَى بن سليم وَغَيرهم. ثمَّ سَاق ذَلِكَ (بأسانيده) إِلَيْهِم. ثمَّ قَالَ: وَله أَيْضا شَاهد عَن ابْن عَبَّاس. ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي غطفان المري، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اسْتَنْثِرُوا مَرتين بالغتين أَوْ ثَلاَثًا» .
ثمَّ أخرجه الْحَاكِم بعد ذَلِكَ بِنَحْوِ من (كراسين) ، عَن لَقِيط
(2/127)
بن صبرَة مَرْفُوعا مُخْتَصرا: «إِذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِلْ (بَينَ) الأَصَابِع» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث قد احتجا بِأَكْثَرَ (رُوَاته) ثمَّ لم يخرجَاهُ؛ لِتَفَرُّد عَاصِم بن لَقِيط بن عَامر بن صبرَة عَن أَبِيه بالرواية) .
ثمَّ قَالَ: وَله شَاهد. فَذكر بِإِسْنَادِهِ إِلَى صَالح، عَن ابْن عَبَّاس أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِلْ بَينَ أَصَابِع يَدَيك وَرِجْلَيْك» .
قَالَ الْحَاكِم: صَالح هَذَا أَظُنهُ مولَى التوءمة؛ فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَيْسَ من شَرط هَذَا الْكتاب، وإنَّما أخرجته شَاهدا.
قُلْتُ: وَإسْنَاد لَقِيط بن صبرَة هَذَا رِجَاله رجال الصَّحِيح إِلَّا إِسْمَاعِيل بن كثير الْمَكِّيّ، وَقد رَوَى عَن مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَعَاصِم بن لَقِيط بن صبرَة، وَرَوَى عَنهُ ابْن جريج وَالثَّوْري وَيَحْيَى بن سليم الطَّائِفِي وَدَاوُد بن عبد الرَّحْمَن الْعَطَّار. قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح. وَقَالَ ابْن سعد: ثِقَة كثير الحَدِيث.
وَإِلَّا عَاصِم بن لَقِيط بن صبرَة، وَقد وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَابْن حبَان، وَأخرج حَدِيثه فِي «صَحِيحه» . وَكَذَلِكَ شَيْخه ابْن خُزَيْمَة وَلَا نعلم جرحا فِيهِ.
لَا جرم أَن ابْن الْقطَّان قَالَ فِي «علله» : إِنَّه حَدِيث صَحِيح. وَأفَاد أَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي ذكر عَن الثَّوْريّ زِيَادَة فِيهِ وَهِي الْأَمر بالمبالغة
(2/128)
فِي الْمَضْمَضَة أَيْضا، وَابْن مهْدي أحفظ من وَكِيع - الَّذِي لم يذكرهَا - قَالَ أَبُو بشر الدولابي - فِيمَا (جمع) من حَدِيث الثَّوْريّ -: ثَنَا مُحَمَّد بن بشار، نَا ابْن مهْدي، عَن سُفْيَان، عَن أبي هَاشم، عَن عَاصِم بن لَقِيط، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأْتَ (فَأَبلغْ) المَضْمَضَةَ والاسْتِنْشَاقَ مَا لَمْ تَكُنْ (صَائِمًا) » قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا صَحِيح.
وممَّا يَنْبَغِي أَن يتَنَبَّه لَهُ - رحمنا الله وَإِيَّاك - أَن صَاحب «الْمُهَذّب» قَالَ فِي آخر هَذَا الحَدِيث: «وَلَا يُستقصى فِي الْمُبَالغَة فَيصير سَعُوطًا» وَهَذَا من كَلَامه - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَيْسَ من الحَدِيث، وَهُوَ بِالْوَاو فِي أوَّل يستقصى لَا بِالْفَاءِ، ويستقصى بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة تَحت أوَّله لَا بِالتَّاءِ بِالْمُثَنَّاةِ فَوق، كَذَا ضَبطه النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وإنَّما (ضبطته) هَكَذَا لأنَّ القلعي وَغَيره غلطوا فِيهِ، فجعلوه بِالْفَاءِ وَالتَّاء
(2/129)
وجعلوه من الحَدِيث، وَهَذَا خطأ فَاحش. وَكَذَا نبه عَلَى ذَلِكَ قبله الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى المهذّب» .
و «صَبِرة» بِفَتْح الصَّاد وَكسر الْبَاء، وَيجوز إسكان الْبَاء مَعَ فتح الصَّاد وَكسرهَا، أَفَادَهُ النَّوَوِيّ فِي « (التَّهْذِيب» ) وَهُوَ لَقِيط بن عَامر بن صبرَة بن عبد الله بن المنتفق الْعقيلِيّ أَبُو رزين، وَقيل: لَقِيط بن عَامر غير لَقِيط بن صبرَة. قَالَ ابْن عبد الْبر وَغَيره: وَهَذَا غلط؛ بل هما وَاحِد. و (ذكره) ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «جَامع المسانيد» وَقَالَ: لَقِيط بن عَامر بن المنتفق الْعقيلِيّ، وَذكر لَهُ عدَّة أَحَادِيث، وَهُوَ أَبُو زرين. ثمَّ قَالَ: مُسْند لَقِيط بن صبرَة بن المنتفق (بن) عَاصِم. وَذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث وَحده من طَرِيق (آخر) .
ثمَّ قَالَ يَحْيَى بن معِين: هُوَ أَبُو رزين الْعقيلِيّ؛ فَمَا يعرف لَقِيط غير أبي رزين.
قَالَ: وَإِلَى نَحْو هَذَا ذهب البُخَارِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَقِيط بن عَامر، وَيُقَال: ابْن صبرَة. وَخَالَفَهُمَا عَلّي بن الْمَدِينِيّ، وَخَلِيفَة بن خياط، وَمُحَمّد بن سعد، وَأَبُو بكر البرقي، فجعلوهما اثْنَيْنِ، وَهُوَ الصَّحِيح.
(2/130)
قُلْتُ: وَقَالَ عبد الْغَنِيّ الْمصْرِيّ: أَبُو رزين الْعقيلِيّ هُوَ لَقِيط بن عَامر بن المنتفق، وَهُوَ لَقِيط بن صبرَة.
الحَدِيث الثَّلَاثُونَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: هَذَا وضُوئِي وَوضُوءُ الأنبِيَاءِ قَبلِي وَوضُوءُ خَلِيلِي إِبرَاهِيمَ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، عَن أبي بكر بن خَلاد الْبَاهِلِيّ، حَدَّثَنِي مَرْحُوم بن عبد الْعَزِيز الْعَطَّار، حَدَّثَنِي عبد الرَّحِيم (بن) زيد الْعمي، عَن أَبِيه، عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة، عَن ابْن عمر قَالَ: «تَوَضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَاحِدَة وَاحِدَة، فَقَالَ: هَذَا وضُوءُ مَن لَا يقبلُ اللهُ (مِنْه) صَلَاة إِلاَّ بِهِ. ثمَّ تَوَضَّأ (اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ) فَقَالَ: هَذَا وضُوءُ القَدْرِ من الوضُوءِ. وَتَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: هَذَا أَسْبَغ الوضُوء، ووضُوء خَلِيل اللهِ إِبْرَاهِيم، وَمن تَوَضَّأ هَكَذَا ثمَّ قَالَ عِنْد فَرَاغه: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أنَّ مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله فُتِحَ لَهُ ثَمَانِيَة أَبْوَاب الْجنَّة يدْخل من أَيهَا شَاءَ» .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» من رِوَايَة مَرْحُوم بن عبد الْعَزِيز، عَن عبد الرَّحِيم بن زيد الْعمي، عَن أَبِيه، عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة،
(2/131)
عَن أَبِيه، عَن جده. قَالَ: «تَوَضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَاحِدَة وَاحِدَة فَقَالَ: هَذَا وضوءُ من لَا يقبلُ اللهُ (مِنْهُ صَلَاة) إِلاَّ بِهِ. ثمَّ تَوَضَّأ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَقَالَ: مَن تَوضَّأ هَكَذَا ضاعفَ اللهُ لهُ أَجْرَه مَرَّتَيْن. ثمَّ تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَقَالَ: هَذَا إسباغُ الوضُوءِ وهَذَا وُضُوئِي ووُضُوءُ خَلِيلِ اللهِ إِبرَاهِيمَ ... » وَذكر بَاقِي الحَدِيث.
وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» إِلَى قَوْله: «ووضوء الْأَنْبِيَاء قبلي» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن الْفضل، عَن زيد الْعمي، عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة، عَن ابْن عمر (أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دَعَا) بِمَاء فَتَوَضَّأ مرّة مرّة، ثمَّ قَالَ: (هَذَا) وَظِيفَةُ الوُضُوءِ الَّذِي لَا يقبلُ اللهُ صَلاةً إِلاَّ بِهِ. ثمَّ دَعَا بِمَاء فَتَوَضَّأ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ ثمَّ سكت سَاعَة ثمَّ قَالَ: هَذَا وضُوءُ من تَوَضَّأَ بِهِ كَانَ لَه أَجْرُهُ مَرَّتَينِ. ثمَّ دَعَا بِمَاء فَتَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ: (هَذَا) وضُوئِي ووضُوءُ الأنبياءِ مِن قَبْلِي» .
وَرَوَاهُ أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ (أَيْضا) من حَدِيث الْأسود بن عَامر، عَن أبي إِسْرَائِيل عَن زيد الْعمي، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن
(2/132)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من تَوَضَّأ (مرّة مرّة) [فَتلك] وَظِيفَة الْوضُوء الَّتِي لَا بُد مِنْهَا، وَمن تَوَضَّأ ثِنْتَيْنِ فَلهُ كفلان، وَمن تَوَضَّأ ثَلَاثًا فَذَلِك وضوئي ووضوء الْأَنْبِيَاء قبلي» .
وَرَوَاهُ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ فِي كتاب «إِيضَاح الإِشكال» من حَدِيث عباد بن صُهَيْب، عَن مسعر بن كدام، عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة، عَن عبد الله بن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أنَّه تَوضَّأَ مرّة مرّة فَقَالَ: هَذِهِ فَرَيضَةُ الوُضُوءِ وهوَ وضُوئِي، وهُوَ الذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلاةَ إلاَّ بِهِ، ثمَّ تَوَضَّأ مَرَّتَينِ مَرَّتينِ فَقَالَ: هَذَا وضُوء مَرتَين، وَمَنْ تَوضَّأَ هَكَذَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ، ثُمَّ تَوضَّأَ ثَلاثًا ثَلاثًا وَقَالَ: هَذَا وضُوئِي ووضُوءُ الأَنبياءِ قَبْلي، ووضُوءُ (أبِي) إِبْرَاهيمَ خَليلِ الرَّحْمَن» .
وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف بِمرَّة لَا يَصح من جَمِيع هَذِه الطّرق. أمَّا (عبد الرَّحِيم) بن زيد الْعمي فَهُوَ مَتْرُوك واه، قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ مرّة: كَذَّاب. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: ترك حَدِيثه. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: (جدًّا) . وَقَالَ البُخَارِيّ: تَرَكُوهُ. وَقَالَ السَّعْدِيّ: غير ثِقَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: ضَعِيف.
وَأما وَالِده زيد فالأكثر عَلَى تَضْعِيفه، قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء.
(2/133)
وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي عَن أنس أَشْيَاء مَوْضُوعَة لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: واهي الحَدِيث. وَحَكَى ابْن أبي حَاتِم أَنه إِنَّمَا قيل (لَهُ) (زيد) الْعمي؛ لِأَنَّهُ كَانَ كلما سُئِلَ عَن شَيْء قَالَ: (حتَّى) أسأَل عمي. وَقَالَ ابْن عدي: لَعَلَّ شُعْبَة لم يروِ عَن أَضْعَف مِنْهُ. وَقَالَ الإِمام أَحْمد: هُوَ صَالح. وَقَالَ الْحسن بن سُفْيَان: ثِقَة. وَلَا أعلم من وَثَّقَهُ غَيرهمَا.
وَأما مُحَمَّد بن الْفضل الْمُتَقَدّم فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فضعيف جدًّا، كَانَ أَبُو بكر بن أبي شيبَة شَدِيد الْحمل عَلَيْهِ، وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ حَدِيثه حَدِيث أهل الْكَذِب. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء وَلَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ مرّة: كَانَ كذابا. وَكَذَلِكَ قَالَ السَّعْدِيّ وَعَمْرو بن عَلّي وَيَحْيَى بن الضريس، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات، لَا يحل كَتْب حَدِيثه إلاَّ عَلَى سَبِيل الِاعْتِبَار. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ فِي «علله» : هَذَا حَدِيث يرويهِ زيد الْعمي، عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة، عَن ابْن عمر. وَأَبُو إِسْرَائِيل الْملَائي، عَن زيد الْعمي، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر وَوهم فِيهِ، وَالصَّوَاب قَول من قَالَ: عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة، عَن عبيد بن عُمَيْر، عَن أبي بن كَعْب وَلم يُتَابع عَلَيْهِ.
(2/134)
وَأما عباد بن صُهَيْب الْمَذْكُور فِي رِوَايَة عبد الْغَنِيّ فمتروك، كَمَا قَالَه البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: ذهب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير حتَّى إِذا سَمعهَا الْمُبْتَدِئ شهد لَهَا بِالْوَضْعِ.
قُلْتُ: ووراء هَذَا كُله عِلّة أُخْرَى وَهِي الِانْقِطَاع، فَإِن مُعَاوِيَة بن قُرَّة لم يدْرك ابْن عمر.
قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: (عبد الرَّحِيم) بن زيد مَتْرُوك الحَدِيث، وَزيد الْعمي ضَعِيف الحَدِيث، وَلَا يَصح هَذَا الحَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ: وسُئل أَبُو زرْعَة عَن هَذَا الحَدِيث أَيْضا فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي حَدِيث واهٍ، وَمُعَاوِيَة بن قُرَّة لم يلْحق ابْن عمر.
قُلْتُ لأبي: فإنَّ الرّبيع بن سُلَيْمَان حَدَّثَنَا بِهَذَا الحَدِيث عَن أَسد بن مُوسَى، عَن سَلام بن سليم، عَن زيد بن أسلم، عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا. فَقَالَ: هُوَ سَلام الطَّوِيل وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث وَهُوَ زيد الْعمي وَهُوَ (مَتْرُوك) الحَدِيث.
وَذكر هَذَا الحَدِيث الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» مستشهدًا بِهِ وسَمَّاه مُرْسلا، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَوْصُولا من رِوَايَة أبي إِسْرَائِيل، عَن زيد الْعمي،
(2/135)
عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا كَمَا تقدم، وَمن حَدِيث الْمسيب بن وَاضح، عَن حَفْص بن ميسرَة، عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِنَحْوِ الَّذِي قبله. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ الْمسيب عَن حَفْص، وَالْمُسَيب ضَعِيف.
(قُلْتُ: وَقد وثق أَيْضا، قَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق. وَقَالَ (ابْن) عدي: كَانَ النَّسَائِيّ حسن الرَّأْي فِيهِ، وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه.
لَا جرم) قَالَ الْحَافِظ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» : هَذِه الطَّرِيق أحسن طرق الحَدِيث. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الْعقيلِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث نظر.
وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «مرج الْبَحْرين» : انْفَرد بِهِ زيد بن الْحوَاري، وَهُوَ حَدِيث لَا يَصح أصلا.
قُلْتُ: لم ينْفَرد (بِهِ) ، بل تَابعه مسعر بن كدام كَمَا تقدم.
قُلْتُ: وَلِلْحَدِيثِ طَريقَة أُخْرَى، رَوَاهَا ابْن مَاجَه عَن جَعْفَر بن مُسَافر، نَا إِسْمَاعِيل بن قعنب (أَبُو) بشر، نَا عبد الله بن عَرَادَة
(2/136)
الشَّيْبَانِيّ، عَن زيد بن الْحوَاري، عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة، عَن عبيد (بن) عُمَيْر، عَن أبي بن كَعْب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - دَعَا بِمَاء فَتَوَضَّأ مرّة مرّة فَقَالَ: هَذَا وظيفةُ الوضُوءِ - أَو قَالَ: وضُوءٌ مَنْ لمْ يَتَوَضَّأه لمْ يقبل اللهُ لَهُ صَلاَةً - ثمَّ تَوَضَّأ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ ثمَّ قَالَ: هَذَا وضُوءٌ مَنْ (تَوَضَّأه) أَعْطَاه اللهُ كِفْلَينِ مِنَ الأَجْرِ، ثمَّ تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَقَالَ: هَذَا وضُوئِي ووضُوءُ المُرْسَلِين قَبْلي» .
وَهَذِه الطَّرِيقَة لَا شكّ فِي اتصالها لَكِنَّهَا ضَعِيفَة لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: زيد بن الْحوَاري وَقد تقدم.
وَالثَّانِي: عبد الله بن عَرَادَة وَهُوَ واه، قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ (يقلب) الْأَخْبَار، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخه» بعد أَن سَاق هَذَا الحَدِيث بِإِسْنَادِهِ: هَذَا الحَدِيث فِيهِ نظر، وَعبد الله بن عَرَادَة يُخَالف فِي حَدِيثه (ويهم كثيرا) .
فتلخص أَن هَذَا الحَدِيث من جَمِيع طرقه لَا يَصح.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه «معرفَة السّنَن والْآثَار» : هَذَا الحَدِيث رُوِيَ
(2/137)
من أوجه كلهَا ضَعِيفَة.
وَقَالَ فِي «السّنَن الْكَبِير» : هَذَا الحَدِيث - يَعْنِي الأول - رَوَاهُ عبد الرَّحِيم بن زيد الْعمي [عَن أَبِيه] وَخَالَفَهُمَا غَيرهمَا، وَلَيْسوا فِي الرِّوَايَة بأقوياء.
وَقَالَ فِي «خلافياته» : هَذَا حَدِيث غير ثَابت فَإِن زيد الْعمي لَيْسَ بِقَوي.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي: هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الإِسناد لايعرف إلاَّ من جِهَة ابْن الْحوَاري وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث. قَالَ: وَقد رُوِيَ من أوجه عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة وَكلهَا ضَعِيفَة، قَالَ: وَحَدِيث ابْن عمر فِي الْبَاب نَحْو حَدِيث أبي وَلَيْسَ فِي حَدِيثهمَا: «ووضوء خليلي إِبْرَاهِيم» .
وَاعْترض النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» عَلَى الْحَازِمِي فِي قَوْله: لَيْسَ فِي حَدِيثهمَا «ووضوء خليلي إِبْرَاهِيم» . فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيح، بل ذَلِكَ مَوْجُود فِي حَدِيث ابْن عمر، رَوَاهُ أَبُو يعْلى الْموصِلِي فِي «مُسْنده» . كَذَلِك رَأَيْته فِيهِ
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الإِمام الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «معرفَة السّنَن والْآثَار» : قَالَ الشَّافِعِي فِي (رِوَايَة) حَرْمَلَة، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه تَوَضَّأ مرّة مرّة ثمَّ قَالَ:
(2/138)
هَذَا وضُوءٌ لَا يقبل اللهُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِهِ. ثمَّ تَوَضَّأ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ ثمَّ قَالَ: مَنْ تَوضَّأَ مَرَّتَين آتاهُ اللهُ أَجْرَهُ مَرَّتين ثمَّ تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَقَالَ: هَذَا وضُوئِي ووضُوءُ الأنبياءِ قَبْلي، ووضُوءُ خلِيلِي إِبْرَاهيمَ» .
هَذَا لفظ رِوَايَة الشَّافِعِي.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب (فِي «تلخيصه» ) لَكِن قَالَ: «خَلِيل الله إِبْرَاهِيم» . وَهَذَا لَفظه: عَن ابْن عمر، قَالَ: «تَوَضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مرّة مرّة فَقَالَ: هَذَا الوضُوءُ (الذِي) لاَ يقبل الله الصَّلاَة إِلاَّ بِهِ. ثمَّ تَوَضَّأ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ فَقَالَ: هَذَا القصدُ مِنَ الوضُوءِ. ثمَّ تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَقَالَ: هَذَا وضُوئِي ووضُوءُ (خليلِ اللهِ) إبراهيمَ، ووضُوءُ الْأَنْبِيَاء قَبْلِي، وهوَ وَظِيفَة الوضُوءِ، فَمَنْ تَوَضَّأَ وضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَن لَا إِلَه إلاَّ الله وأَشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورَسُولُهُ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَة أَبْوَاب الْجنَّة يَدْخُل مِنْ أَيها شَاءَ» .
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» بِلَفْظ: «ووضُوءُ خَلِيلِ اللهِ إِبْرَاهِيمَ» ، كَمَا تقدم فِي الطَّرِيق الأول.
فصحَّ حينئذٍ رِوَايَة المُصَنّف لهَذَا الحَدِيث بِهَذِهِ اللَّفْظَة.
وَلِلْحَدِيثِ أَيْضا طَريقَة ثَالِثَة:
قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سُئِلَ أَبُو زرْعَة عَن حَدِيث يَحْيَى بن مَيْمُون، عَن ابْن جريج، عَن عَطاء، عَن عَائِشَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «فِي صفة الْوضُوء مرّة مرّة، فَقَالَ: (هَذَا الذِي افْتَرَضَ اللهُ عَلَيكُمْ. ثمَّ تَوَضَّأ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: مَنْ ضَعَّفَ ضَعَّفَ اللهُ لَهُ. ثمَّ أَعَادَهُ ثَلَاثًا فَقَالَ:
(2/139)
هَذَا وضُوءنَا مَعْشَر الأَنْبَيَاء» فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر واهٍ ضَعِيف.
ورابعة: عَن عَلّي بن الْحسن السَّامِي، ثَنَا مَالك، عَن ربيعَة، عَن ابْن الْمسيب، عَن زيد بن ثَابت وَأبي هُرَيْرَة، عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَنه دَعَا بِمَاء فَتَوَضَّأ مرّة مرّة فَقَالَ: هَذَا الذِي لاَ يَقْبِل اللهُ العَمَلَ إِلاَّ بِهِ. وَتَوَضَّأ مرَّتَيْنِ فَقَالَ: هَذَا يُضَاعِفُ الأَجْرَ. وَتَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَقَالَ: هَذَا وضُوئِي ووضُوءُ الأنبياءِ قَبْلي» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كتاب «أَسمَاء الروَاة عَن مَالك» بِإِسْنَادِهِ كَذَلِك، ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ عَن مَالك عَلّي بن الْحسن السَّامِي وَغَيره أوثق مِنْهُ.
وَله طَريقَة خَامِسَة: ذكرهَا الْحَافِظ أَبُو عَلّي بن السكن فِي كِتَابه الْمُسَمَّى ب «السّنَن الصِّحَاح المأثورة» ، عَن أنس قَالَ: «دَعَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِوضُوء فَغسل وَجهه (مرّة) وَيَديه مرّة وَرجلَيْهِ مرّة مرّة وَقَالَ: هَذَا وضُوء من لَا يَقْبَل اللهُ منهُ غَيره. ثمَّ مكث سَاعَة ودعا بِوضُوء فَغسل وَجهه وَيَديه (وَرجلَيْهِ) مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ ثمَّ قَالَ: هَذَا وضُوءُ مَنْ يُضَاعِفُ اللهُ لَهُ الأَجْرَ. ثمَّ مكث سَاعَة ثمَّ دَعَا بِوضُوء فَغسل وَجهه ثَلَاثًا وَيَديه ثَلَاثًا وَرجلَيْهِ ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ: هَذَا وضُوءُ نَبِيكُمْ ووضُوءُ النَّبيين (قَبْلنا) - أَو قَالَ: هَذَا وضُوءُ النَّبِيين قَبْلي» .
وَكَذَا ذكره بِإِسْقَاط مسح الرَّأْس فِي الْكل.
وَاعْلَم أَنه يُغني عَن (كل) هَذَا الحَدِيث فِي الدّلَالَة أَحَادِيث صَحِيحَة:
(2/140)
أَحدهَا: عَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» . رَوَاهُ مُسلم.
وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «أَن عُثْمَان تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ لأَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَل رَأَيْتُمْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعل هَذَا؟ قَالُوا: نعم» .
الثَّانِي: عَن عَلّي - كرَّم الله وَجهه - قَالَ: «تَوَضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاثًا ثَلَاثًا» .
رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: إِنَّه أحسن شَيْء فِي الْبَاب وَأَصَح.
وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» بِإِسْنَاد صَحِيح عَن شَقِيق بن سَلمَة قَالَ: «رَأَيْت عُثْمَان وعليًّا يتوضآن ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ويقولان: هَكَذَا وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
الثَّالِث: عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أَنه تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَرفع ذَلِكَ (إِلَى) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِسَنَد صَحِيح.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد حسن، وَفِيه الْوَلِيد بن مُسلم وَهُوَ
(2/141)
مُدَلّس لكنه صرح بِالتَّحْدِيثِ.
الرَّابِع: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» .
رَوَاهُ الْبَزَّار وَقَالَ: لَا نعلمهُ يرْوَى عَن أبي هُرَيْرَة بِأَحْسَن من هَذَا الإِسناد. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : إِسْنَاده جيد.
قُلْتُ: وَصَححهُ ابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي «تهذيبه» .
وَفِي الْبَاب غير ذَلِكَ من الْأَحَادِيث، كَحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب الْآتِي بعد هَذَا.
فَائِدَة (مهمة) : وَهِي: هَل فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَذَا الْوضُوء فِي مجْلِس وَاحِد أَو مجَالِس؟
وليعلم أَن النَّوَوِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ نقل فِي «شرح الْمُهَذّب» عَن القَاضِي حُسَيْن أَنه حَكَى فِي تَعْلِيقه فِي ذَلِكَ خلافًا لِأَصْحَابِنَا، فَمنهمْ من قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِي مجَالِس؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِكَ فِي مجْلِس لصار غسل كل عُضْو سِتّ مَرَّات، وَذَلِكَ مَكْرُوه. وَمِنْهُم من قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِي مجْلِس وَاحِد، واغتفر ذَلِكَ لأجل التَّعْلِيم. وَرجح الرَّوْيَانِيّ من أَصْحَابنَا فِي «الْبَحْر» كَونه فِي (مجْلِس) .
قَالَ النَّوَوِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الظَّاهِر أَن هَذَا الْخلاف لم (ينقلوه) عَن رِوَايَة، بل قَالُوهُ بِالِاجْتِهَادِ.
وَظَاهر رِوَايَة ابْن مَاجَه وَغَيره أَنه كَانَ فِي مجْلِس وَاحِد.
(2/142)
قَالَ: وَهَذَا كالمتعين؛ لِأَن التَّعْلِيم لَا يكَاد يحصل إِلَّا فِي مجْلِس.
قُلْتُ: وَرِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ الَّتِي قدمناها صَرِيحَة فِي كَونهَا فِي مجْلِس وَاحِد.
وَلم يظفر بهَا النَّوَوِيّ فَهِيَ رَافِعَة لهَذَا الْخلاف، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - توضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَقَالَ: من زَاد عَلَى هَذَا فقد أَسَاءَ وظلم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، عَن مُسَدّد، ثَنَا أَبُو عوَانَة، عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ الطّهُور؟ فَدَعَا بِمَاء فِي إِنَاء فَغسل كفيه ثَلَاثًا، ثمَّ غسل وَجهه ثَلَاثًا، ثمَّ غسل ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ وَأدْخل أصبعيه السباحتين فِي أُذُنَيْهِ، وَمسح بإبهاميه عَلَى ظَاهر أُذُنَيْهِ، وبالسباحتين بَاطِن أُذُنَيْهِ، ثمَّ غسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوضُوء، فَمن زَاد عَلَى هَذَا (أَو نقص) فقد أَسَاءَ وظلم - أَو ظلم وأساء» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مُوسَى (بن) أبي عَائِشَة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ:
(2/143)
«جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يسْأَله عَن الْوضُوء فَأرَاهُ [الْوضُوء] ثَلَاثًا (ثَلَاثًا) ثمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوضُوء فَمن زَاد عَلَى هَذَا فقد أَسَاءَ وتعدَّى وظلم» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، عَن عَلّي بن مُحَمَّد، نَا خَالِي يعْلى، عَن سُفْيَان، عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: « (جَاءَ) أَعْرَابِي ... » الحَدِيث بِلَفْظ النَّسَائِيّ إلاَّ أَنه قَالَ: «فقد أَسَاءَ أَو تعدى، أَو ظلم» ، بِلَفْظ «أَو» . وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» بِسَنَد النَّسَائِيّ وَلَفظه، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِلمام» : إِسْنَاده صَحِيح إِلَى عَمْرو. فَمن احْتج بنسخة عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، فَهُوَ عِنْده صَحِيح.
قلت: احْتج بهَا الْأَكْثَرُونَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبا، لَا جرم أَن ابْن خُزَيْمَة أخرجه فِي «صَحِيحه» من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة بِلَفْظ «أَن أعرابيًّا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فَسَأَلَهُ عَن الْوضُوء فَتَوَضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاثًا ثَلَاثًا، فَقَالَ: من زَاد فقد أَسَاءَ وظلم - أَو اعْتَدَى وظلم» ، ثمَّ قَالَ: لم يوصله غير الْأَشْجَعِيّ ويعلى.
(2/144)
وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كِتَابه «الطّهُور» ، عَن الحكم بن بشير بن سُلَيْمَان، عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا: «الْوضُوء ثَلَاث، فَمن زَاد أَو نقص، فقد أَسَاءَ وظلم - وَقَالَ الحكم: أَو قَالَ: ظلم وأساء» .
وَزعم أَبُو دَاوُد فِي كتاب (التفرد) أَنه من مُفْرَدَات أهل الطَّائِف، وَأما صَاحب «القبس» فَقَالَ: صَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تَوَضَّأ مرّة مرّة، ومرتين مرَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا وَثَلَاثًا (قَالَ) : وَرُوِيَ: «فَمن زَاد أَو اسْتَزَادَ فقد تعدى وظلم» . قَالَ: وَهَذَا لم يَصح.
وَالظَّاهِر أَن مُرَاده رِوَايَة ذَلِكَ إِثْر الحَدِيث السالف قبل هَذَا الحَدِيث.
فَائِدَة: (اخْتلف) أَصْحَابنَا فِي مَعْنَى قَوْله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ -: «أَسَاءَ وظلم» عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن الإِساءة فِي النَّقْص، وَالظُّلم فِي الزِّيَادَة، فَإِن الظُّلم مُجَاوزَة الْحَد وَوضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، وَهَذَا يدل لَهُ صَرِيحًا رِوَايَة أبي عبيد.
الثَّانِي: عَكسه؛ لِأَن الظُّلم يسْتَعْمل بِمَعْنى النَّقْص كَقَوْلِه تَعَالَى: (آتت أكلهَا وَلم تظلم مِنْهُ شَيْئا) .
الثَّالِث: أَسَاءَ وظلم فِي النَّقْص، وأساء وظلم فِي الزِّيَادَة.
حَكَى هَذِه الْأَقَاوِيل الثَّلَاثَة النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» . قَالَ:
(2/145)
وَاخْتَارَ ابْن الصّلاح الثَّالِث؛ لِأَنَّهُ ظَاهر الْكَلَام، قَالَ: وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة الْأَكْثَرين: «فَمن زَاد فقد أَسَاءَ وظلم» وَلم يذكرُوا النَّقْص، وَهَذِه الإِساءة وَالظُّلم مَعْنَاهُمَا أَنه مَكْرُوه (كَرَاهِيَة) تَنْزِيه، هَذَا قَول الْجُمْهُور.
وَقيل: تحرم الزِّيَادَة عَلَى الثَّلَاث.
وَقيل: لَا تحرم وَلَا تكره لَكِنَّهَا خلاف الأولَى. وَالصَّوَاب الأول، فَلَو زَاد أَو نقص لم يبطل وضوءه عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء. وَحَكَى الدَّارمِيّ عَن قوم أَنه يبطل كَمَا لَو زَاد فِي الصَّلَاة رَكْعَة أَو نقص مِنْهَا، هَذَا غلط فَاحش.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمَشْهُور فِي كتب الْفِقْه وشروح الحَدِيث وَغَيرهَا لِأَصْحَابِنَا وَغَيرهم أَن قَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فَمن زَاد أَو نقص» مَعْنَاهُ زَاد عَلَى الثَّلَاث أَو نقص مِنْهَا، وَلم يذكر أَصْحَابنَا وَغَيرهم غير هَذَا الْمَعْنى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن الْكَبِير» : يحْتَمل أَن المُرَاد بِالنَّقْصِ نقص الْعُضْو.
وَجزم بِهَذِهِ الْمقَالة الشَّيْخ زكي الدَّين فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا تَأْوِيل غَرِيب ضَعِيف مَرْدُود. قَالَ: وَمُقْتَضَاهُ أَن تكون الزِّيَادَة فِي الْعُضْو وَهِي غسل مَا فَوق الْمرْفق والكعب إساءة وظلمًا وَلَا سَبِيل إِلَى ذَلِكَ، بل (هُوَ) مُسْتَحبّ، وَالْبَيْهَقِيّ مِمَّن نَص عَلَى اسْتِحْبَابه وَعقد فِيهِ بَابَيْنِ:
(2/146)
أَحدهمَا: بَاب اسْتِحْبَاب إمرار المَاء عَلَى الْعَضُد.
وَالثَّانِي: بَاب الإشراع فِي السَّاق. وَذكر (فِيهَا) حَدِيث أبي هُرَيْرَة السَّابِق.
قَالَ النَّوَوِيّ: فَإِن قيل كَيفَ يكون النَّقْص عَن الثَّلَاث إساءة وظلمًا ومكروهًا وَقد ثَبت أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، فعله كَمَا (جَاءَ) فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة؟ قُلْنَا: ذَلِكَ الِاقْتِصَار كَانَ لبَيَان الْجَوَاز فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْحَال أفضل؛ لِأَن الْبَيَان وَاجِب.
فصل
هَذَا أول حَدِيث أوردهُ الإِمام الرَّافِعِيّ من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده وَهِي تَرْجَمَة اخْتلف فِي الِاحْتِجَاج بهَا ولنلخص الْكَلَام فِيهَا فِي مقامين:
أَحدهمَا: هَل يحْتَج بِهِ هُوَ نَفسه وَفِي ذَلِكَ مقَال.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «الضُّعَفَاء» : قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ: كنت إِذا [أَتَيْته] غطيت رَأْسِي حَيَاء من النَّاس. وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد: هُوَ عندنَا واهٍ. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: رُبمَا احتججنا بِهِ، وَرُبمَا وَحش فِي الْقلب مِنْهُ شَيْء، وَله مَنَاكِير. وَقَالَ فِي رِوَايَة: لَيْسَ بِحجَّة. وَقَالَ فِي رِوَايَة: هُوَ ثِقَة فِي نَفسه إِنَّمَا بلي بِكِتَاب عَن أَبِيه عَن جده. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: إِنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ أَنه رَوَى صحيفَة كَانَت عِنْده. انْتَهَى مَا نَقله
(2/147)
ابْن الْجَوْزِيّ. وَقَالَ سُفْيَان: كَانَ مُغيرَة لَا يعبأ بِصَحِيفَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده.
وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: حَدِيثه عَن أَبِيه عَن جده (عِنْد) النَّاس فِيهِ شَيْء.
وَقَالَ ابْن عدي: قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ أَحْمد: أَصْحَاب الحَدِيث إِذا شَاءُوا احْتَجُّوا بحَديثه عَن أَبِيه عَن جده، وَإِذا شَاءُوا تَرَكُوهُ. هَذَا كَلَام من طعن فِيهِ.
وَلَكِن الْجُمْهُور وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الِاحْتِجَاج بِهِ، كَمَا قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد قَالَ البُخَارِيّ: رَأَيْت أَحْمد بن حَنْبَل وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يحتجون بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده. قَالَ البُخَارِيّ: مَن النَّاس بعدهمْ؟ .
قلت: وَمَعَ هَذَا (القَوْل) فَمَا احْتج بِهِ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ، نعم احْتج بِهِ فِي كتاب «الْقِرَاءَة خلف الإِمَام» .
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سُئِلَ يَحْيَى بن معِين عَنهُ فَغَضب وَقَالَ: مَا شَأْنه؟ ! رَوَى عَنهُ الْأَئِمَّة، وَرَوَى مَالك عَن رجل عَنهُ.
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن ابْن معِين قَالَ: إِذا حَدَّث عَن أَبِيه عَن جده
(2/148)
فَهُوَ كتاب. قَالَ: فَمن هَذَا جَاءَ ضعفه.
وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: مَا رَأَيْت أحدا من أَصْحَابنَا مِمَّن ينظر فِي الحَدِيث وينتقي الرِّجَال، يَقُول فِي عَمْرو بن شُعَيْب شَيْئا، وَحَدِيثه صَحِيح وَهُوَ ثِقَة ثَبت (و) الْأَحَادِيث الَّتِي أَنْكَرُوا من حَدِيثه إنَّما هِيَ لقوم ضعفاء رووها عَنهُ، وَمَا رَوَى عَنهُ الثِّقَات فَصَحِيح.
وَسُئِلَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: أَيّمَا أحب إِلَيْك عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده (وبهز بن حَكِيم، عَن أَبِيه عَن جده؟) فَقَالَ: عَمْرو أحب إِلَيّ.
(وَقَالَ أَبُو زرْعَة: رَوَى عَنهُ الثِّقَات وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ كَثْرَة رِوَايَته عَن أَبِيه عَن جده. وَإِنَّمَا سمع أَحَادِيث [يسيرَة] وَأخذ صحيفَة كَانَت عِنْده فرواها) . وَقَالَ أَبُو زرْعَة أَيْضا: هُوَ مكي ثِقَة فِي نَفسه. وَقَالَ أَحْمد الْعجلِيّ: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان: هُوَ ثِقَة يحْتَج بِهِ. وَفِي رِوَايَة عَنهُ قَالَ: هُوَ واهي الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارمي: هُوَ ثِقَة، رَوَى عَنهُ الَّذين نظرُوا فِي أَحْوَال الرِّجَال كأيوب وَالزهْرِيّ وَالْحكم، وَاحْتج أَصْحَابنَا بحَديثه.
(2/149)
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب الطَّلَاق قبل النِّكَاح: وَقَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: (عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده) (إِذا كَانَ الرَّاوِي عَن عَمْرو ثِقَة فَهُوَ) كأيوب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. وَهَذَا فِي التَّشْبِيه نِهَايَة الْجَلالَة من مثل هَذَا الإِمام.
وَقَالَ ابْن عدي: رَوَى عَنهُ أَئِمَّة النَّاس وثقاتهم [وَجَمَاعَة من الضُّعَفَاء] وَلَكِن أَحَادِيثه عَن أَبِيه عَن جده - مَعَ احتمالهم إِيَّاه - لم يدخلوها فِي الصِّحَاح.
قلت: بل أدخلوها فِي الحسان المحتج بهَا.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ: سَمِعت عدَّة من أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ يذكرُونَ (أَن) عَمْرو بن شُعَيْب فِيمَا رَوَاهُ عَن سعيد بن الْمسيب وَغَيره فَهُوَ صَدُوق، وَمَا رَوَاهُ عَن أَبِيه عَن جده يجب التَّوَقُّف فِيهِ.
وَقَالَ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» : عَمْرو بن شُعَيْب ثِقَة، وَإِنَّمَا تكلم فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يحدث عَن صحيفَة جده.
وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي كتاب الْهِبَة: لَا أعلم خلافًا فِي عَدَالَة عَمْرو بن شُعَيْب؛ إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي سَماع أَبِيه من جده.
وَقَالَ الْحَافِظ شمس الدَّين الذَّهَبِيّ فِي جُزْء «فِيمَن تكلم فِيهِ وَهُوَ
(2/150)
موثق» عَمْرو بن شُعَيْب صَدُوق فِي نَفسه لَا يظْهر لي تَضْعِيفه بِحَال وَحَدِيثه قوي.
الْمقَالة الثَّانِيَة: أنَّ هَذِه التَّرْجَمَة نسبت إِلَى الإِرسال والانقطاع.
قَالَ أَبُو حَاتِم (بن حبَان) : لَا يجوز الِاحْتِجَاج عِنْدِي بِمَا رَوَاهُ عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده؛ لِأَن هَذَا الإِسناد لَا يَخْلُو من أَن يكون مُرْسلا أَو مُنْقَطِعًا (لِأَنَّهُ) عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ. فَإِذا رَوَى عَن أَبِيه عَن جده، (فَأَرَادَ بجده مُحَمَّدًا) فمحمد لَا صُحْبَة لَهُ. وَإِن أَرَادَ عبد الله فأبوه شُعَيْب لم يلق عبد الله، والمنقطع والمرسل لَا تقوم بهما حجَّة؛ لِأَن الله - تَعَالَى - لم يُكَلف عباده أَخذ الدَّين (عَمَّن) لَا يعرف.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: جده الْأَدْنَى مُحَمَّد وَلم يدْرك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وجده الْأَعْلَى عَمْرو بن الْعَاصِ وَلم (يُدْرِكهُ) شُعَيْب. وجده الْأَوْسَط عبد الله وَقد أدْركهُ. فَإِذا لم يسم جدّه احْتمل أَن يكون مُحَمَّدًا، وَاحْتمل أَن يكون عمرا فَيكون فِي الْحَالين مُرْسلا، وَاحْتمل أَن يكون عبد الله الَّذِي أدْركهُ فَلَا يَصح الحَدِيث وَيسلم من الإِرسال إلاَّ أَن يَقُول عَن جدِّه عبد الله بن عَمْرو.
وَقَالَ الإِمام الشَّافِعِي فِيمَا نَقله ابْن معن الدِّمَشْقِي فِي كِتَابه الْمُسَمَّى
(2/151)
ب «التنقيب» والقلعي فِي كَلَامه كِلَاهُمَا عَلَى الْمُهَذّب: «لَا أحتج بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب حَتَّى أعلم عَن أَي جديه يروي، فإنْ رَوَاهُ عَن جده مُحَمَّد بن عبد الله فَهُوَ مُرْسل لَا أحتج بِهِ، وإنْ رَوَاهُ عَن جد أَبِيه فجد أَبِيه عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فَهُوَ صَحِيح يجب الْعَمَل (بِهِ) .
وَنقل الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّافِعِي نَحْو هَذَا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَاب زَكَاة الذَّهَب وَالْفِضَّة.
وَنقل أَبُو عبد الله الْقطَّان فِي «مَنَاقِب الشَّافِعِي» (أَن الشَّافِعِي) غمض عَلَى عَمْرو بن شُعَيْب.
وَالْجَوَاب: أَنه قد صَحَّ وَثَبت أَن شعيبًا سمع من جده عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فروَى الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن الْكَبِير» فِي الْحَج وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي الْبيُوع عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه «أَن رجلا أَتَى عبد الله بن عَمْرو (يسْأَله) عَن محرم وَقع (بامرأته) فَأَشَارَ إِلَى عبد الله بن عمر، فَقَالَ: (اذْهَبْ) إِلَى ذَلِكَ فَاسْأَلْهُ. قَالَ شُعَيْب: فَلم يعرفهُ الرجل فَذَهَبت مَعَه فَسَأَلَ ابْن عمر، فَقَالَ: بَطل حجك. قَالَ الرجل: فَمَا أصنع؟ قَالَ: (اخْرُج) مَعَ النَّاس واصنع مَا يصنعون، فَإِذا أدْركْت [قَابلا فحج] واهد، فَرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو وَأَنا مَعَه فَأخْبرهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى عبد الله بن عَبَّاس فَاسْأَلْهُ. [قَالَ شُعَيْب:
(2/152)
فَذَهَبت مَعَه إِلَى ابْن عَبَّاس فَسَأَلَهُ] فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ ابْن عمر، فَرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو وَأَنا مَعَه فَأخْبرهُ بِمَا قَالَ ابْن عَبَّاس، ثمَّ قَالَ: مَا تَقول أَنْت؟ قَالَ: قولي مثل مَا قَالَا» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث رُوَاته ثِقَات حفاظ وَهُوَ كالأخذ بِالْيَدِ فِي صِحَة سَماع شُعَيْب بن مُحَمَّد من جده عبد الله بن عَمْرو. قَالَ: وَقد كنت أطلب الْحجَّة الظَّاهِرَة فِي سَماع شُعَيْب بن مُحَمَّد (عَن) عبد الله بن عَمْرو (فظفرت بهَا الْآن) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده صَحِيح. قَالَ: وَفِيه دَلِيل عَلَى صِحَة سَماع (شُعَيْب) بن مُحَمَّد بن عبد الله من جده عبد الله بن عَمْرو.
وَهَذِه الْمقَالة الْمُتَقَدّمَة من الْحَاكِم تكون رُجُوعا عَمَّا قَالَه فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي كتاب الصَّلَاة حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا قَالُوا فِي تَرْجَمَة عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده للإِرسال فَإِنَّهُ عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَشُعَيْب لم يسمع من جده عبد الله. وَقَالَ فِيهِ فِي الْهِبَة: أَنا عَلّي بن عمر الْحَافِظ سَمَاعا سَمِعت أَبَا بكر بن زِيَاد الْفَقِيه النَّيْسَابُورِي يَقُول: (سَمِعت) مُحَمَّد بن عَلّي
(2/153)
بن حمدَان الْوراق يَقُول: قلت لِأَحْمَد بن حَنْبَل: عَمْرو بن شُعَيْب سمع من أَبِيه شَيْئا؟ فَقَالَ: هُوَ عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو، وَقد صَحَّ سَماع عَمْرو بن شُعَيْب من أَبِيه شُعَيْب، وَصَحَّ سَماع شُعَيْب من جده عبد الله بن عَمْرو (بن الْعَاصِ) . وَنقل نَحْو ذَلِكَ عَن الإِمام أَحْمد ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب «التَّحْقِيق» ، فَإِنَّهُ قَالَ: أثبت أَحْمد سَماع شُعَيْب من جده عبد الله بن عَمْرو.
وَقَالَ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» : سمع شُعَيْب من عبد الله بن عَمْرو، وَقَالَ لنا (أَبُو) حَيْوَة عَن زِيَاد بن عَمْرو: سَمِعت شُعَيْب بن مُحَمَّد أَنه سمع عبد الله بن عَمْرو. وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: سَمِعت عَلّي بن الْمَدِينِيّ يَقُول: قد سمع أَبوهُ شُعَيْب من جده عبد الله. (قَالَ) عَلّي: وَعَمْرو عندنَا ثِقَة، وَكتابه صَحِيح.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا الَّذِي قَالَه ابْن حبَان من أَنه لم يَصح سَماع شُعَيْب من جده عبد الله بن عَمْرو خطأ، فقد رَوَى عبيد الله بن عمر الْعمريّ - وَهُوَ من الْأَئِمَّة الْعُدُول - عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه قَالَ: كنت جَالِسا عِنْد عبد الله بن (عمر) فجَاء رجل فاستفتاه فِي مَسْأَلَة فَقَالَ (لي) : يَا شُعَيْب امْضِ مَعَه إِلَى ابْن عَبَّاس.
(2/154)
فَهَذَا صَرِيح فِي سَماع شُعَيْب من جده عبد الله.
وَقَالَ (الْبَيْهَقِيّ) فِي بَاب الطَّلَاق قبل النِّكَاح: (مَضَى) فِي بَاب وَطْء الْمحرم، وَبَاب الْخِيَار مَا دلّ عَلَى سَماع شُعَيْب (من) جده إِلَّا أَنه (إِذا) قيل: عَن أَبِيه عَن جده. يشبه أَن يُرَاد بالجد مُحَمَّد بن عبد الله وَلَيْسَت لَهُ صُحْبَة، فَيكون الْخَبَر مُرْسلا، وَإِذا قيل: عَن جده عبد الله. زَالَ الإِشكال واتصل الحَدِيث.
وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي «عُلُوم الحَدِيث» : احْتج بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَكثر الْمُحدثين (حملا لجده عَلَى عبد الله دون التَّابِعِيّ) لما ظهر لَهُم من إِطْلَاقه ذَلِكَ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «التَّهْذِيب» : أنكر بَعضهم سَماع شُعَيْب من جده عبد الله بن (عَمْرو) ، وَقَالَ: إِنَّمَا سمع أَبَاهُ مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو فَتكون رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُرْسلَة، وَهَذَا إِنْكَار ضَعِيف، وَأثبت الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره من الْأَئِمَّة سَماع شُعَيْب من عبد الله، وَقَالَ أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي (عَلَى مَا نقل الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب الطَّلَاق قبل النِّكَاح) : صَحَّ سَماع عَمْرو من أَبِيه شُعَيْب وَسَمَاع شُعَيْب من جده عبد الله. قلت: وَقد ظَفرت بِحَدِيث آخر
(2/155)
فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» يدل صَرِيحًا عَلَى أَن المعني بجد شُعَيْب عبد الله بن عَمْرو، وَأَن عمرا سمع من أَبِيه، وَأَن أَبَاهُ سمع من جده، وَلَعَلَّه الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ فِيمَا تقدم.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: نَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي [نَا عبد الله بن مُحَمَّد بن زِيَاد] نَا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن وهب، حَدَّثَني عمي، حَدَّثَني مخرمَة بن بكير، عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت عَمْرو بن شُعَيْب يَقُول: سَمِعت شعيبًا يَقُول: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «أَيّمَا رجل ابْتَاعَ من رجل بيعا فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ حَتَّى (يَتَفَرَّقَا من مكانهما) إِلَّا أَن تكون صَفْقَة خِيَار، وَلَا يحل لأحد أَن يُفَارق صَاحبه مَخَافَة أَن يقيله» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَوْله «يقيله» أَرَادَ بِهِ - وَالله أعلم - يفسخه، فَعبر بالإِقالة عَن الْفَسْخ.
قلت: وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى عَمْرو بن شُعَيْب عَلَى شَرط مُسلم.
وَأخرجه أَيْضا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة، عَن اللَّيْث، عَن ابْن عجلَان، عَن عَمْرو بِهِ.
(2/156)
وَرَوَى أَيْضا أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه التَّصْرِيح بِسَمَاع شُعَيْب من جده من غير طَرِيق ابْنه، روياه من حَدِيث ثَابت يَعْنِي الْبنانِيّ، عَن (شُعَيْب) بن عبد الله، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو يَقُول: «مَا رُئي النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَأْكُل مُتكئا، وَلَا يطَأ عقبه رجلَانِ» . فقد ثَبت بأقاويل (هَؤُلَاءِ) الْأَئِمَّة وَبِمَا قَرَّرْنَاهُ أَن عَمْرو بن شُعَيْب ثِقَة وَأَن رِوَايَة شُعَيْب عَن جده عبد الله بن (عَمْرو) صَحِيحَة لَا إرْسَال فِيهَا، وَأَن عمرا سمع من أَبِيه، وَأَن أَبَاهُ سمع من جده، فاضبط مَا حققناه لَك.
وَمن رِوَايَات عَمْرو بن شُعَيْب المستغربة مَا رَوَاهَا أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب الرجل يَبِيع مَا لَيْسَ عِنْده، عَن زُهَيْر بن حَرْب، ثَنَا إِسْمَاعِيل، (عَن) أَيُّوب، حَدَّثَني عَمْرو بن شُعَيْب، حَدَّثَني أبي، عَن أَبِيه حَتَّى ذكر عبد الله بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا يحل سلف وَبيع، وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع، وَلَا ربح مَا لم يضمن، وَلَا بيع مَا لَيْسَ عنْدك» .
قَالَ (السُّهيْلي) فِي «الرَّوْض الْأنف» : هَكَذَا وَقع فِي «سنَن
(2/157)
أبي دَاوُد» عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه شُعَيْب، عَن أَبِيه مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو، عَن أَبِيه عبد الله بن عَمْرو، وَهِي رِوَايَة مستغربة جدًّا؛ لِأَن الْمَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث أَن شعيبًا إِنَّمَا يروي عَن جده عبد الله لَا عَن أَبِيه مُحَمَّد؛ لِأَن مُحَمَّدًا أَبَاهُ مَاتَ قبل جده عبد الله، وَلِهَذَا قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: لم يقل أحد إِن شعيبًا يروي عَن أَبِيه مُحَمَّد، وقلَّ من عمل لمُحَمد تَرْجَمَة، (قَالَ: فَدلَّ) عَلَى أَن عَمْرو بن شُعَيْب، (عَن أَبِيه) ، عَن جده عبد الله صَحِيح مُتَّصِل.
قلت: وَحَدِيثه هَذَا: «لَا يحل سلف وَبيع» ، رَوَاهُ مَعَ أبي دَاوُد التِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد بن منيع، عَن إِسْمَاعِيل بِهِ، (ثمَّ) قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث يزِيد بن زُرَيْع وَمعمر كِلَاهُمَا عَن أَيُّوب، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده كالروايات الْمَعْرُوفَة.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث حَمَّاد بن زيد، عَن أَيُّوب، وَمن حَدِيث أبي كريب، عَن إِسْمَاعِيل بن علية، عَن أَيُّوب. فَلم يتَّفق فِيهِ عَلَى إِسْمَاعِيل بِزِيَادَة ذكر مُحَمَّد بن عبد الله.
وَرَوَى النَّسَائِيّ من حَدِيث وهيب، عَن عبد الله بن طَاوس، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن أَبِيه مُحَمَّد بن عبد الله، وَقَالَ مرّة: عَن
(2/158)
أَبِيه، وَقَالَ مرّة: عَن جده فِي النَّهْي عَن لُحُوم الْحمر والجلال.
كَذَا رَوَاهُ أَبُو عَلّي الأسيوطي عَن النَّسَائِيّ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث يَعْقُوب بن عَطاء - وَقد ضَعَّفُوهُ، وَأما ابْن حبَان فَإِنَّهُ وَثَّقَهُ - عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَنه دخل عَلَى (عَمْرو بن الْعَاصِ) وَهُوَ يتغدى يَوْم عَرَفَة فَدَعَاهُ إِلَى الْغَدَاء فَقَالَ: إِنِّي صَائِم. فَقَالَ: أما علمت أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن صِيَام هَذَا الْيَوْم؟ يَعْنِي بِعَرَفَة» . وكل هَذِه (الرِّوَايَات) خلاف الجادة عَنهُ.
هَذَا آخر مَا أردته من ذكر هَذِه التَّرْجَمَة وإيضاحها، وَإِنَّمَا طولت الْكَلَام فِيهَا (لِأَنَّهَا) متكررة فِي كتَابنَا هَذَا وَغَيره كثيرا، فَأَرَدْت إيضاحها وتقريرها فِي أول مَوضِع ليحال مَا (يَقع) بعد ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح بِرَأْسِهِ مرّة وَاحِدَة» .
اعْلَم: أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي عدد تكْرَار مسح الرَّأْس عَلَى قمسين:
(2/159)
أَحدهمَا: (مَا) لم يُصَرح فِيهِ بِعَدَمِ التّكْرَار؛ بل أطلق ذكر الْمسْح إطلاقًا مَعَ ذكر الْعدَد فِي غَيره، وَذَلِكَ فِي أَحَادِيث:
أَحدهَا: عَن الْمِقْدَام - بِالْمِيم فِي آخِره - بن معدي كرب - رَضي اللهُ عَنهُ - قَالَ: «أُتِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِوضُوء فَتَوَضَّأ فَغسل كفيه ثَلَاثًا، وَغسل وَجهه ثَلَاثًا، ثمَّ غسل ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا (ثَلَاثًا) ثمَّ تمضمض واستنشق (ثَلَاثًا) ، ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظاهرهما و (باطنهما) » .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن الْمِقْدَام، قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (تَوَضَّأ) فَلَمَّا (بلغ) مسح رَأسه وضع كفيه عَلَى مقدم رَأسه، فأمرَّهما حَتَّى بلغ الْقَفَا، ثمَّ ردهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَمسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما وَأدْخل (أَصَابِعه) فِي صماخ أُذُنَيْهِ» .
وَأخرجه ابْن مَاجَه مُخْتَصرا وَلَفظه «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ، فَمسح بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما» .
روياه من حَدِيث الْوَلِيد، نَا حرِيز - بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، وَكسر
(2/160)
الرَّاء الْمُهْملَة، وَفِي آخرهَا زَاي (مُعْجمَة) - (بن عُثْمَان) بن [جبر] (الرَّحبِي) بتحريك الْحَاء (بِالْفَتْح) عَن عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة، عَن الْمِقْدَام.
وَعَلَى هَذَا السَّنَد اعْتِرَاض وَجَوَاب، سنذكرهما فِي مسح الْأُذُنَيْنِ - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الحَدِيث الثَّانِي: حَدِيث عُثْمَان - رَضي اللهُ عَنهُ - الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» «أَنه وصف وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَغسل أعضاءه ثَلَاثًا ثَلَاثًا» وَقَالَ فِي مسح الرَّأْس: «وَمسح بِرَأْسِهِ» من غير ذكر عدد.
وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث بِطُولِهِ فِي الْبَاب، لَكِن رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ «أَنه خرج (فِي) نفر من أَصْحَابه حَتَّى جلس عَلَى المقاعد فَدَعَا بِوضُوء فَغسل يَدَيْهِ ثَلَاثًا وتمضمض إِلَى أَن قَالَ: وَمسح بِرَأْسِهِ مرّة وَاحِدَة وَغسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ» .
وَسَيَأْتِي قَرِيبا من رِوَايَة أبي دَاوُد «أَنه مسح رَأسه ثَلَاثًا» .
الحَدِيث الثَّالِث: حَدِيث عَلّي - رَضي اللهُ عَنهُ - لَكِن قد جَاءَت عَنهُ رِوَايَات فِي أَحدهَا: «أَنه مسح رَأسه مرّة» وَفِي بَعْضهَا: و «مسح رَأسه» من غير ذكر
(2/161)
عدد، وَفِي بَعْضهَا: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» .
وكل هَذِه الرِّوَايَات قد قدمناها قَرِيبا.
الحَدِيث الرَّابِع: حَدِيث عبد الله بن زيد أَيْضا كَذَلِك.
رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم بِذكر التّكْرَار فِي سَائِر الْأَعْضَاء إِلَّا مسح الرَّأْس، فَلم يذكرَا (فِيهَا) عددا.
نعم فِي رِوَايَة لمُسلم: «وَمسح بِرَأْسِهِ مرّة وَاحِدَة» .
قَالَ ابْن عبد الْبر: وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة، فَذكر فِيهِ مسح الرَّأْس مرَّتَيْنِ، وَهُوَ وهم (مِنْهُ) .
الْقسم الثَّانِي: مَا صرح (فِيهِ) بِعَدَمِ التّكْرَار، وَهُوَ عَلَى قسمَيْنِ:
أَحدهمَا: مَا ذكر مَعَ التّكْرَار فِي غير الرَّأْس من الْأَعْضَاء (وَذَلِكَ) فِي أَحَادِيث:
(أَحدهَا) : حَدِيث عبد الله بن زيد، عَلَى إِحْدَى روايتي مُسلم الْمُتَقَدّمَة.
الثَّانِي: حَدِيث عُثْمَان، عَلَى رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ الْمُتَقَدّمَة.
الثَّالِث: حَدِيث أنس - رَضي اللهُ عَنهُ - «أَنه تَوَضَّأ فَمَضْمض ثَلَاثًا، واستنشق ثَلَاثًا، وَغسل وَجهه ثَلَاثًا، ثمَّ أخرج يَده الْيُمْنَى فغسلها ثَلَاثًا، ثمَّ غسل الْيُسْرَى ثَلَاثًا، ثمَّ مسح (بِرَأْسِهِ) مرّة وَاحِدَة، غير أَنه أمرّهما عَلَى أُذُنَيْهِ
(2/162)
فَمسح عَلَيْهِمَا، ثمَّ أَدخل [كفيه جَمِيعًا] فِي المَاء، ثمَّ قَالَ: هَذَا وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» من حَدِيث أبي مُحَمَّد الحِمَّاني - بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم - وَبعد الْألف نون.
قَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ صَالح الحَدِيث.
الرَّابِع: حَدِيث عبد الله بن أبي أَوْفَى - رَضي اللهُ عَنهُ - قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمسح رَأسه مرّة» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث فائد بن عبد الرَّحْمَن عَنهُ. وفائد مَتْرُوك الحَدِيث.
الْخَامِس: عَن رُزَيْق بن حَكِيم عَن رجل من الْأَنْصَار، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنه كَانَ يتَوَضَّأ ثَلَاث مَرَّات ويستنشق (ويستنثر) وَيمْسَح بِرَأْسِهِ مرّة وَاحِدَة» .
رَوَاهُ ابْن السكن، كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» وَسَيَأْتِي قَرِيبا فِي إِحْدَى رِوَايَات الرّبيع بنت معوذ «وَيمْسَح رَأسه (مرّة» مَعَ) ذكر الْغسْل ثَلَاثًا ثَلَاثًا.
(2/163)
الْقسم الثَّانِي: مَا ذكر فِيهِ مسح الرَّأْس مرّة من غير ذكر التّكْرَار فِي غَيره من الْأَعْضَاء، وَمن ذَلِكَ حديثان:
أَحدهمَا: حَدِيث أبي حَيَّة، عَن عَلّي - كرَّم الله وَجهه -: «أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح رَأسه مرّة» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه مُخْتَصرا، وَقد سبق خِلَافه فِي الْقسم الأول.
الثَّانِي: حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ، فَمسح رَأسه مرّة» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه، هَذَا كُله مَعَ أَحَادِيث صَحِيحَة وَارِدَة فِي الْبَاب «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ مرّة مرّة» فَيدْخل (مسح الرَّأْس) فِي إِطْلَاقهَا، من ذَلِكَ حَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ مرّة مرّة» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّه أحسن شَيْء فِي الْبَاب، وَأَصَح.
وَأخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» بِلَفْظ: «أَنا أعلمكُم بِوضُوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتَوَضَّأ مرّة مرّة» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ من رِوَايَة عمر.
(2/164)
وَرَوَاهُ الْبَزَّار من رِوَايَة جَابر وَأبي رَافع وَسليمَان بن (بُرَيْدَة) عَن أَبِيه، وَعبد الله بن عمر.
وَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ من حَدِيث ابْن الْفَاكِه.
وَرَوَاهُ الْخَطِيب (من حَدِيث) عكراش بن ذُؤَيْب، كلهم عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أنَّه تَوَضَّأ مرّة مرّة» .
الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ
عَن عُثْمَان - رَضي اللهُ عَنهُ - «أنَّه لما وصف وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح بِرَأْسِهِ مرّة وَاحِدَة» .
(هَذَا الحَدِيث صَحِيح، تقدم بَيَانه فِي الحَدِيث الَّذِي قبله وَاضحا) .
الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
عَن عَلّي - كرم الله وَجهه - «أنَّه لما وصف (وضوء) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح بِرَأْسِهِ (مرّة) وَاحِدَة» .
هَذَا الحَدِيث تقدَّم بَيَانه قَرِيبا فِي الحَدِيث الَّذِي قبل هَذَا.
(2/165)
الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ
عَن الرُّبَيِّع بنت معوذ بن عفراء - رَضي اللهُ عَنها - قَالَت: «مسح رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَأسه مرَّتَيْنِ» .
هَذَا الحَدِيث رُوِيَ عَنْهَا من طرق، باخْتلَاف أَلْفَاظ.
فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد، نَا بشر بن الْمفضل، نَا عبد الله بن مُحَمَّد (بن) عقيل، عَن الرّبيع بنت معوذ بن عفراء، قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يأتينا (فحدثتنا) أنَّه قَالَ: «اسكبي لي وضُوءًا ... » فَذكرت وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَت فِيهِ: «فَغسل كفيه ثَلَاثًا، ووضَّأ وَجهه ثَلَاثًا، ومضمض واستنشق مرّة، ووضَّأ (يَدَيْهِ) ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمسح (بِرَأْسِهِ) مرَّتَيْنِ يبْدَأ بمؤخر رَأسه ثمَّ بمقدمه، وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما، ووضَّأ رجلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: « (تمضمض واستنثر) ثَلَاثًا» .
وَفِي رِوَايَة: «فَمسح الرَّأس كُله من قرن الشَّعر كل نَاحيَة لِمُنْصَبِّ الشّعْر لَا يُحَرك الشّعْر عَن هَيئته» .
(2/166)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة، ثَنَا بشر بن الْمفضل، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن الرُّبيع بنت معوذ بن عفراء «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح بِرَأْسِهِ مرَّتَيْنِ بَدَأَ بمؤخر رَأسه ثمَّ بمقدمه، وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن.
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد قَالَا: ثَنَا وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن الرّبيع بنت معوذ بن عفراء قَالَت: «تَوَضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَمسح رَأسه مرَّتَيْنِ» .
وَرَوَاهُ الإِمام أَحْمد من هَذَا الْوَجْه مطولا، وَفِيه: «وَمسح رَأسه بِمَا بَقِي من وضوئِهِ فِي يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ، بَدَأَ بمؤخره ثمَّ (رَدَّ) يَده عَلَى ناصيته» هَذِه الرِّوَايَات كلهَا عَن الرّبيع بنت معوذ مُوَافقَة لما أوردهُ المُصَنّف.
وَقد رُوِيَ عَنْهَا «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح رَأسه مرّة وَاحِدَة» فروَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة بن سعيد، عَن بكر بن مُضر، عَن ابْن عجلَان، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَنْهَا أنَّها أخْبرته قَالَت: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ قَالَت: فَمسح رَأسه وَمسح مَا أقبل مِنْهُ وَمَا أدبر وصدغيه وَأُذُنَيْهِ مرّة وَاحِدَة» .
قَالَ ابْن عَسَاكِر: وجدت فِي نُسْخَة من طَرِيق اللؤْلُؤِي: عَن ابْن عقيل، عَن أَبِيه، عَن ربيع وَهُوَ وهم.
(2/167)
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه الإِمام أَحْمد أَيْضا.
وَرُوِيَ عَنْهَا مَا إِطْلَاقه يَقْتَضِي مسح الرَّأْس ثَلَاثًا.
فروَى ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن الرّبيع بنت معوذ بن عفراء: «أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» .
والرُبَيِّع: بِضَم الرَّاء وَفتح الْبَاء وَكسر الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت، ومُعَوِّذ: بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين وَكسر الْوَاو الْمُشَدّدَة بعْدهَا ذال مُعْجمَة، وَحَكَى صَاحب «الْمطَالع» فتح الْوَاو وَكسرهَا، وَعَن بَعضهم أنَّه لَا يُجِيز الْكسر، وعفراء: بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَإِسْكَان الْفَاء، وَهِي الرّبيع بنت معوذ بن الْحَارِث الْأَنْصَارِيَّة، من المبايعات تَحت الشَّجَرَة بيعَة الرضْوَان.
فصل
اعْلَم أنَّ مدَار هَذَا الحَدِيث بِطرقِهِ عَلَى عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل - وَقد أَثْنَى عَلَيْهِ قوم وَتكلم فِيهِ آخَرُونَ - فلنذكر فِي هَذَا الْموضع مقالات الْحفاظ فِيهِ ليحال مَا يَقع بعده عَلَيْهِ، فَنَقُول: هُوَ (عبد الله بن مُحَمَّد) بن عقيل بن أبي طَالب أَبُو مُحَمَّد الْمدنِي الْهَاشِمِي التَّابِعِيّ، رَوَى عَن جماعات من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَرَوَى عَنهُ الْأَئِمَّة.
(2/168)
قَالَ الْحَاكِم: كَانَ أَحْمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق يحتجان بحَديثه، وَلَيْسَ بالمتين عِنْدهم.
وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: كَانَ كثير الْعلم، وَكَانَ مُنكر الحَدِيث لَا يحْتَج بحَديثه.
وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: هُوَ ضَعِيف الحَدِيث.
وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: ضَعِيف. وَضَعفه أَيْضا: ابْن عُيَيْنَة وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة وَابْن خُزَيْمَة.
وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ رَدِيء الْحِفْظ، يحدث عَلَى التَّوَهُّم فَيَجِيء بالْخبر عَلَى غير سنَنه، فلمَّا كثر ذَلِكَ فِي أخباره وَجب مجانبتها والاحتجاج بغَيْرهَا.
وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي «التَّذْكِرَة» : هُوَ ضَعِيف جدًّا.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ صَدُوق، وَقد تكلم فِيهِ بعض أهل الْعلم من قبل حفظه. قَالَ: وَسمعت البُخَارِيّ يَقُول: كَانَ أَحْمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم والْحميدِي يحتجون بحَديثه. قَالَ البُخَارِيّ: وَهُوَ مقارب الحَدِيث - يَعْنِي: بِكَسْر الرَّاء، وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ (مَحْمُول) عِنْدهم عَلَى مقاربة الصِّحَّة.
قَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي «شرح التِّرْمِذِيّ» : رُوِيَ مقارب - بِفَتْح الرَّاء وَكسرهَا - وَبِفَتْحِهَا قرأته؛ فَمن فتح أَرَادَ أَن غَيره يُقَارِبه فِي
(2/169)
الْحِفْظ، وَمن كسر أَرَادَ (أَنه) يُقَارب غَيره، فَهُوَ فِي الأوَّل مفعول، وَفِي الثَّانِي فَاعل، وَالْمعْنَى وَاحِد.
قلت: فكلاهما تَوْثِيق لَهُ لَكِن (الْفَتْح) أشدّ توثيقًا.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» : هُوَ مُسْتَقِيم فِي الحَدِيث مقدم فِي الشّرف. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب لَا يتَطَهَّر بِالْمُسْتَعْملِ: أهل الْعلم (مُخْتَلفُونَ) فِي (جَوَاز) الِاحْتِجَاج بِرِوَايَاتِهِ. وَقَالَ فِي بَاب الدَّلِيل عَلَى أنَّه يَأْخُذ لكلّ عُضْو مَاء جَدِيدا: لم يكن بِالْحَافِظِ. وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: شرِيف عَالم لَا يطعن عَلَيْهِ إِلَّا مُتَحَامِل، وَهُوَ أَقْوَى من كلِّ من ضعفه وَأفضل.
قلت: وَالتِّرْمِذِيّ - كَمَا نرَى - تَارَة يحسن حَدِيثه وَتارَة يُصَحِّحهُ، كَمَا تقدم.
وَقد ذكر لَهُ أَيْضا حَدِيثا فِي (أَبْوَاب) الْفَرَائِض و (حكم) عَلَيْهِ بالْحسنِ وَالصِّحَّة. وَذكر لَهُ حَدِيث حمْنَة فِي الِاسْتِحَاضَة وَفعل فِيهِ كَمَا فعل فِي هَذَا.
(2/170)
وَحَكَى (عَن البُخَارِيّ) أنَّه حسنه، وَعَن أَحْمد أنَّه صَححهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «شرح الْمُهَذّب» : اخْتلف الْعلمَاء فِي الِاحْتِجَاج بِمُحَمد بن عقيل. قَالَ: واحتجَّ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وَحسن التِّرْمِذِيّ أَحَادِيث من رِوَايَته.
الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ
عَن عُثْمَان - ذِي النّورين رَضي اللهُ عَنهُ لقب بذلك لأنَّه تزوج بِنْتي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رقية، وأمّ كُلْثُوم، وَلم يتَّفق لأحد من لدن آدم عَلَيْهِ السَّلَام نِكَاح بِنْتي نَبِي إِلَّا لَهُ، وَمِمَّنْ أَفَادَهُ: الرَّافِعِيّ فِي «أَمَالِيهِ» - «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ فَمسح رَأسه ثَلَاثًا» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» وَالْبَزَّار فِي «مُسْنده» كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، ثَنَا الضَّحَّاك بن مخلد، نَا عبد الرَّحْمَن بن وردان، حَدَّثَني أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، حَدَّثَني حمْرَان قَالَ: «رَأَيْت عُثْمَان بن عَفَّان تَوَضَّأ ... » فَذكر نَحوه - يَعْنِي حَدِيثا قبله - لم يذكر الْمَضْمَضَة و (الاستنثار) قَالَ فِيهِ: «وَمسح رَأسه ثَلَاثًا ثمَّ غسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ: رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ هَكَذَا وَقَالَ: من تَوَضَّأ دون هَذَا كَفاهُ» هَذَا لفظ أبي دَاوُد.
وَلَفظ الْبَزَّار: «رَأَيْت عُثْمَان تَوَضَّأ فَغسل يَدَيْهِ ثَلَاثًا، وَغسل وَجهه
(2/171)
ثَلَاثًا، وَغسل ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، وَمسح رَأسه ثَلَاثًا، وَغسل رجلَيْهِ ... » وَالْبَاقِي مثله.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» كَذَلِك وَرُوَاته عَن آخِرهم ثِقَات.
أمَّا مُحَمَّد بن الْمثنى؛ فَهُوَ الْحَافِظ الثِّقَة الْوَرع، وَكَذَلِكَ الضَّحَّاك بن مخلد، بَصرِي حَافظ احتجّ (بِهِ) البُخَارِيّ وَمُسلم وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة، وأمَّا عبد الرَّحْمَن بن وردان؛ فَهُوَ أَبُو بكر (الْمعَافِرِي) الْمُؤَذّن، صَدُوق، قَالَ أَبُو حَاتِم: مَا بِهِ بَأْس. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: صَالح. وأمَّا أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن؛ فَهُوَ أحد الْأَعْلَام أخرج لَهُ السِّتَّة، و (كَذَا) حمْرَان، فإسناد هَذَا الحَدِيث عَلَى شَرط «الصَّحِيحَيْنِ» ، وَبَاقِي «الْكتب السِّتَّة» إِلَّا ابْن وردان، فَلم يخرج لَهُ إِلَّا أَبُو دَاوُد وَحده.
وَقد وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين والإِمام أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ كَمَا تقدم، وهما إِمَامًا هَذَا الْفَنّ وَسكت عَنهُ أَبُو دَاوُد؛ فَهُوَ حسن عِنْده أَو صَحِيح، وَأقرهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي «اختصاره للسنن» وَلم يعقبه بِشَيْء.
وَقَالَ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «كَلَامه عَلَى أبي دَاوُد» : إِسْنَاد هَذَا
(2/172)
الحَدِيث حسن، كل رِجَاله فِي «الصَّحِيحَيْنِ» إِلَّا ابْن وردان، وَقد وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين وَأَبُو حَاتِم قَالَ: فَالْحَدِيث حسن بِهَذِهِ الزِّيَادَة.
وَقَالَ شَيخنَا أَبُو الْفَتْح الْيَعْمرِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا الحَدِيث فِي إِسْنَاده: عبد الرَّحْمَن بن وردان وَقد قَالَ يَحْيَى: صَالح. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَا بِهِ بَأْس. وَغَيره من رجال هَذَا الإِسناد مَشْهُور، فلولا مُخَالفَة عبد الرَّحْمَن الثِّقَات فِي انْفِرَاده بالتثليث لَكَانَ صَحِيحا أَو حسنا.
قلت: لم ينْفَرد بهَا عبد الرَّحْمَن. فقد رَوَاهَا جماعات كروايته:
فروَى أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن هَارُون بن عبد الله، ثَنَا يَحْيَى بن آدم، نَا إِسْرَائِيل، عَن عَامر بن شَقِيق بن جَمْرَة - بِالْجِيم، وَالرَّاء الْمُهْملَة - عَن شَقِيق بن سَلمَة قَالَ: «رَأَيْت عُثْمَان بن عَفَّان - رَضي اللهُ عَنهُ - غسل ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعل هَذَا» .
وَرَوَاهُ أَيْضا كَذَلِك الدَّارَقُطْنِيّ إِسْنَادًا ومتنًا، وَهَذَا إِسْنَاد كلّ رِجَاله فِي «الصَّحِيحَيْنِ» إِلَّا هَارُون، فَفِي مُسلم، وَإِلَّا عَامر بن شَقِيق؛ فَهُوَ صَدُوق، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان، وَإِن كَانَ أَبُو حَاتِم قَالَ: لَيْسَ بقويّ. وَابْن معِين قَالَ: ضَعِيف. فَلم يبيِّن سَبَب ضعفه، وَلَا يقبل (إِلَّا) مُفَسرًا، لَا جرم قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» بعد ذكر هَذِه الطَّرِيق: قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: لَا أعلم فِي عَامر طَعنا بِوَجْه من
(2/173)
الْوُجُوه (ثمَّ) قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِسْنَاده قد احتجا - يَعْنِي: البُخَارِيّ وَمُسلم - بِجَمِيعِ رُوَاته غير عَامر بن شَقِيق.
وَعَلَى الْبَيْهَقِيّ اعْتِرَاض فِي قَوْله أنَّهما احتجا بِجَمِيعِ رُوَاته. فهارون بن عبد الله لم يخرج لَهُ البُخَارِيّ رَأْسا، لكنَّه حَافظ، وَهُوَ الْمَعْرُوف بالحَمَّال - بِالْحَاء الْمُهْملَة.
وَأخرج هَذَا الحَدِيث إِمَام الْأَئِمَّة أَبُو بكر بن خُزَيْمَة (فِي «صَحِيحه» ) من طَرِيق أبي دَاوُد بِزِيَادَة فِيهِ، وَهَذَا (سِيَاق) مَتنه: عَن إِسْرَائِيل، عَن عَامر بن شَقِيق (عَن شَقِيق) بن سَلمَة، عَن عُثْمَان «أنَّه تَوَضَّأ فَغسل وَجهه ثَلَاثًا، واستنشق ثَلَاثًا، ومضمض ثَلَاثًا، وَمسح بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما وَرجلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وخلل لحيته وأصابع الرجلَيْن، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ) ثمَّ قَالَ: عَامر هَذَا هُوَ عَامر بن شَقِيق بن جَمْرَة الْأَسدي، لَيْسَ شَقِيق بن سَلمَة. انْتَهَى.
وَهَذَانِ الطريقان هما أَجود طرق هَذَا الحَدِيث، وَله طرق أُخْرَى:
أَحدهَا: عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي مَرْيَم، قَالَ: «دخلت عَلَى ابْن دارة فَقَالَ: رَأَيْت عُثْمَان دَعَا بِوضُوء فَمَضْمض ثَلَاثًا، واستنشق ثَلَاثًا، وَغسل وَجهه ثَلَاثًا، وذراعيه ثَلَاثًا، وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا، وَغسل قَدَمَيْهِ ثمَّ قَالَ: من أحب أَن ينظر إِلَى وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَهَذَا وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
(2/174)
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن صَفْوَان بن عِيسَى، عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي مَرْيَم (بِهِ) .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن [الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل] عَن مُحَمَّد بن عبد الله المخرمي، عَن صَفْوَان بِهِ.
وَأخرج هَذِه الطَّرِيقَة، ابْن السكن فِي كِتَابه الْمُسَمَّى ب «السّنَن الصِّحَاح المأثورة» .
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن إِسْحَاق بن يَحْيَى، عَن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب، عَن أَبِيه عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب، عَن عُثْمَان بن عَفَّان «أنَّه تَوَضَّأ فَغسل (يَدَيْهِ) ثَلَاثًا كلّ (وَاحِدَة) مِنْهُمَا، واستنثر ثَلَاثًا، ومضمض ثَلَاثًا، وَغسل وَجهه ثَلَاثًا، وَغسل ذِرَاعَيْهِ كلّ (وَاحِدَة) مِنْهُمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا، وَغسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا كلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتوضَّأ هَكَذَا» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل، ثَنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن يُوسُف السّلمِيّ، نَا أَيُّوب بن سُلَيْمَان بن بِلَال،
(2/175)
حَدَّثَني أَبُو بكر، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، عَن إِسْحَاق بن يَحْيَى بِهِ. ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد لم يخْتَلف فِيهِ، إِلَّا أنَّ إِسْحَاق بن يَحْيَى لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قلت: إِسْحَاق هَذَا أخرج لَهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ: يحْتَج بِهِ فِيمَا وَافق الثِّقَات.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن (صَالح) بن عبد الْجَبَّار، نَا (ابْن) الْبَيْلَمَانِي - بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، ثمَّ يَاء مثناة تَحت سَاكِنة، ثمَّ لَام ثمَّ مِيم، ثمَّ ألف، ثمَّ نون، ثمَّ يَاء مثناة تَحت - عَن أَبِيه، عَن عُثْمَان بن عَفَّان «أنَّه تَوَضَّأ بالمقاعد - والمقاعد بِالْمَدِينَةِ حَيْثُ يصلى عَلَى الْجَنَائِز عِنْد الْمَسْجِد - فَغسل كفيه ثَلَاثًا ثَلَاثًا، واستنثر ثَلَاثًا، وتمضمض ثَلَاثًا، وَغسل وَجهه ثَلَاثًا، وَيَديه إِلَى الْمرْفقين ثَلَاثًا، وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا، وَغسل قَدَمَيْهِ ثَلَاثًا، وسلَّم عَلَيْهِ رجل وَهُوَ يتَوَضَّأ فَلم يرد عَلَيْهِ حَتَّى فرغ، فَلَمَّا فرغ كَلَّمه يعْتَذر إِلَيْهِ، وَقَالَ: لم يَمْنعنِي أَن أرد عَلَيْك إِلَّا أنّي سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: من تَوَضَّأ هَكَذَا وَلم يتَكَلَّم ثمَّ قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وأنَّ مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، غفر لَهُ مَا بَين الوضوئين» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل، نَا شُعَيْب
(2/176)
بن مُحَمَّد (الْحَضْرَمِيّ) نَا الرّبيع بن سُلَيْمَان الْحَضْرَمِيّ، ثَنَا صَالح بِهِ. وَابْن الْبَيْلَمَانِي هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، أخرج لَهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وَهُوَ ضَعِيف.
قَالَ (التِّرْمِذِيّ) : قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي كِتَابه الْأَوْسَط: كل من قلت فِيهِ مُنكر الحَدِيث، لَا يحل الرِّوَايَة عَنهُ. وَأَبوهُ عبد الرَّحْمَن أخرج لَهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، قَالَ أَبُو حَاتِم: لين. وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» وَقَالَ ابْن الْقطَّان: صَالح مَجْهُول الْحَال، لَا أعرفهُ إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث «أنكحوا الْأَيَامَى» .
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن حمْرَان، عَن عُثْمَان «أنَّه أُتِي بِمَاء فَمَضْمض واستنشق، وَغسل وَجهه (ثَلَاثًا وَيَديه) ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا حَتَّى أَتَى عَلَى الْوضُوء وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ» .
رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» هَكَذَا عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل الْهَبَّاري، نَا أَبُو أُسَامَة، عَن هِشَام بِهِ.
(2/177)
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن اللَّيْث بن سعد، عَن خَالِد، عَن (سعيد بن أبي) هِلَال، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح «أَن عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ أُتِي بِوضُوء ... » (فَذكر) الحَدِيث، (قَالَ) : «ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا حَتَّى قَفاهُ، وَأُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما» وَفِي آخِره النِّسْبَة إِلَى وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن» وخرجه فِي «الخلافيات» وَهُوَ مُنْقَطع فِيمَا بَين عَطاء بن أبي رَبَاح وَعُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ.
وكشفت أَنا «الخلافيات» للبيهقي فَلم أرَ لهَذِهِ الطَّرِيقَة فِيهِ ذكرا، فَلَعَلَّهُ فِي غير المظنة، نعم هُوَ فِي السّنَن.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن عُثْمَان «أنَّه تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (تَوَضَّأ) » .
رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَمْرو بن عَلّي، قَالَا: ثَنَا عُثْمَان بن عمر، ثَنَا فليح بن سُلَيْمَان، عَن سعيد بن الْحَارِث، عَن خَارِجَة بن زيد بن ثَابت، عَن أَبِيه، عَن عُثْمَان (بِهِ) ثمَّ قَالَ: (هَذَا) حَدِيث حسن الإِسناد، وَلَا نعلم رَوَى (زيد بن ثَابت، عَن
(2/178)
عُثْمَان حَدِيثا مُسْندًا إِلَّا هَذَا الحَدِيث وَلَا لَهُ إِسْنَاد، عَن زيد بن) ثَابت إِلَّا هَذَا الإِسناد.
قلت: وَقد تقدم فِي الحَدِيث (الثَّلَاثِينَ) أنَّ مُسلما وَالْبَيْهَقِيّ روياه أَيْضا.
الطَّرِيق السَّابِع: عَن عبد الْكَرِيم، عَن حمْرَان، قَالَ: «تَوَضَّأ عُثْمَان فَغسل وَجهه ثَلَاثًا، وَيَديه ثَلَاثًا، وَمسح بِرَأْسِهِ، وَغسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: تَوَضَّأت كَمَا توضَّأ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» .
رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» أَيْضا، عَن مُحَمَّد بن (مَرْزُوق) نَا عبد الله بن رَجَاء، ثَنَا عبد الْعَزِيز الْمَاجشون، عَن عبد الْكَرِيم بِهِ.
الطَّرِيق الثَّامِن: عَن [عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر] عَن أبي عَلْقَمَة مولَى ابْن عَبَّاس، عَن عُثْمَان «أنَّه دَعَا بِوضُوء وَعِنْده نَاس من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فأفرغ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وغسلهما ثَلَاثًا، ومضمض ثَلَاثًا، واستنشق ثَلَاثًا، وَغسل وَجهه ثَلَاثًا، وَيَديه إِلَى الْمرْفقين ثَلَاثًا، ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ وَغسل رجلَيْهِ فأنقاهما، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ مثل هَذَا الْوضُوء» .
(2/179)
رَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا، عَن مُحَمَّد بن مَرْزُوق، ثَنَا مُحَمَّد بن بكر البرْسَانِي، ثَنَا (عبيد الله) بن أبي (زِيَاد) القداح، أَخْبرنِي [عبد الله] (بِهِ) .
فتلخص من هَذَا كُله أنَّ حَدِيث عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ الَّذِي أوردهُ الإِمام الرَّافِعِيّ لَهُ طرق (عشر) وَفِي بَعْضهَا ضعف يسير، فَلَا تقدح فِيمَا حسناه مِنْهَا؛ بل تِلْكَ جابرة لَهَا، كَيفَ وأئمة هَذَا الْفَنّ يَقُولُونَ أَن الحَدِيث الضَّعِيف إِذا رُوِيَ من طرق يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا.
قَالَ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «شرح الْمُهَذّب» : حَدِيث عُثْمَان هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد حسن. قَالَ: وَذكر أَيْضا الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح أَنه حَدِيث حسن، وَرُبمَا ارْتَفع من الْحسن إِلَى الصِّحَّة بشواهده وَكَثْرَة طرقه. قَالَ: [فَإِن] الْبَيْهَقِيّ وَغَيره رَوَوْهُ من طرق كَثِيرَة غير طَرِيق أبي دَاوُد. انْتَهَى مَا نَقله النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ.
(2/180)
فَإِن قلت: يقْدَح فِيمَا قَرّرته أَيهَا المُصَنّف من حسن هَذَا الحَدِيث قَول أبي دَاوُد فِي «سنَنه» : أَحَادِيث عُثْمَان الصِّحَاح كلهَا تدل عَلَى مسح الرَّأْس أنَّه مرّة؛ فَإِنَّهُم ذكرُوا الْوضُوء ثَلَاثًا قَالُوا فِيهَا «وَمسح رَأسه» لم يذكرُوا عددا كَمَا ذكرُوا فِي غَيره.
وَقَول الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن الْكَبِير» : وَرُوِيَ من أوجه غَرِيبَة، عَن عُثْمَان (وفيهَا مسح الرَّأْس ثَلَاثًا) إِلَّا أَنَّهَا مَعَ خلاف الْحفاظ الثِّقَات لَيست بِحجَّة عِنْد أهل الْمعرفَة، وَإِن كَانَ بعض أَصْحَابنَا يحْتَج بهَا.
قلت: لَا تنَافِي بَين قَوْلنَا وَقَول أبي دَاوُد؛ لأَنا قَررنَا حسن الحَدِيث، وَأَبُو دَاوُد قَالَ: أَحَادِيث عُثْمَان الصِّحَاح، فَأَبُو دَاوُد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم ينفِ حسنه؛ وإنَّما نَفَى صِحَّته. (بل لَو ادعيت) صِحَّته من طريقيه الْأَوَّلين لم أبعد؛ بل هُوَ - إِن شَاءَ الله - كَمَا قَرّرته، عَلَى أَن أَحَادِيث الصِّحَاح لَيْسَ فِيهَا نفي الْعدَد، وَحَدِيثه هَذَا من جَمِيع طرقه فِيهَا إثْبَاته؛ فَقدم عَلَى الأوَّل، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : مَا رُوِيَ فِي حَدِيث عُثْمَان وَغَيره من الْمسْح مرّة وَاحِدَة فَلَيْسَ فِيهِ نفي عدد، وَفِيمَا رَوَيْنَاهُ إثْبَاته سنة، وَالْأولَى بِنَا الْجمع بَين الْخَبَرَيْنِ.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» : وأمّا من رَوَى عَن عُثْمَان أنَّه لم يذكر فِي الْمسْح عددا فَلَا حجَّة فِي ذَلِكَ، من
(2/181)
(ذكر) الْعدَد مقدم القَوْل. وأمَّا قولة الْبَيْهَقِيّ فيعارضها بِأَنَّهُ ذكر من تِلْكَ الْأَحَادِيث فِي «خلافياته» حديثين محتجًا بهما، وهما: حَدِيث عَامر [عَن] شَقِيق بن سَلمَة، وَقَالَ: إِسْنَاده قد احتجا بِجَمِيعِ رُوَاته غير عَامر بن شَقِيق. ثمَّ ذكر قولة الْحَاكِم الْمُتَقَدّمَة فِي عَامر.
والْحَدِيث الثَّانِي: حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن (عَن حمْرَان الْمُتَقَدّم) فَلَعَلَّهُ يكون قَالَ ذَلِكَ قبل تصنيفه «الخلافيات» جمعا بَين كلاميه.
عَلَى أَن ذكر مسح الرَّأْس ثَلَاثًا قد ورد فِي غير مَا حَدِيث (غير حَدِيث) عُثْمَان مِنْهَا: حَدِيث عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ وَقد تقدم ذكر اخْتِلَاف طرقه فِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين من هَذَا الْبَاب، وَأَن الإِمام أَبَا حنيفَة رَوَى التَّثْلِيث فِي مسح الرَّأْس وَرَوَاهُ غَيره أَيْضا.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: خَالفه جمَاعَة من الْحفاظ الثِّقَات فَقَالُوا فِيهِ: «وَمسح رَأسه مرّة» . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَكثر الروَاة رَوَوْهُ عَن عَلّي دون ذكر التّكْرَار. قَالَ: وَأحسن مَا رُوِيَ عَن عَلّي فِيهِ مَا رَوَاهُ (عَنهُ) ابْنه (الْحسن) بن عَلّي ... فَذكره بِإِسْنَادِهِ عَنهُ، وَذكر مسح الرَّأْس ثَلَاثًا
(2/182)
وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ. وَإِسْنَاده حسن، وَمِنْهَا: حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن (بن) الْبَيْلَمَانِي، عَن أَبِيه عَن ابْن عمر - رَضي اللهُ عَنهما - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من تَوَضَّأ فَغسل كفيه ثَلَاثًا (واستنثر ثَلَاثًا) وَغسل وَجهه وَيَديه ثَلَاثًا [ثَلَاثًا] وَمسح رَأسه ثَلَاثًا وَغسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا [ثَلَاثًا] ثمَّ قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وأنَّ مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله قبل أَن يتكلَّم غفر لَهُ مَا بَين الوضوءين» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَتقدم الْكَلَام فِي ابْن الْبَيْلَمَانِي وَأَبِيهِ.
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس «أنَّه وصف وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَمسح رَأسه ثَلَاثًا وَكَذَلِكَ سَائِر أَعْضَائِهِ» .
رَوَاهُ الْبَزَّار فِي «مُسْنده» من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن ركَانَة، عَن عبيد الله الْخَولَانِيّ (عَن ابْن عَبَّاس، ثمَّ قَالَ: لَا نعلمهُ يرْوَى هَكَذَا إِلَّا بِهَذَا الإِسناد. والخولاني) لَا نعلم أنَّ أحدا يروي عَنهُ غير مُحَمَّد بن طَلْحَة. قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَمِنْهَا حَدِيث أبي رَافع وَابْن أبي أَوْفَى «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ، فَمسح رَأسه ثَلَاثًا» . قَالَ: وَاعْتمد الإِمام الشَّافِعِي فِي اسْتِحْبَاب التَّثْلِيث فِي الْمسْح: حَدِيث عُثْمَان الثَّابِت فِي مُسلم وَغَيره من الْأَحَادِيث الْمُتَقَدّمَة «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - توضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» ، وَوجه الدّلَالَة مِنْهُ أنَّ قَوْله: تَوَضَّأ يَشْمَل الْغسْل
(2/183)
وَالْمسح. وَمنع الْبَيْهَقِيّ وَغَيره الدّلَالَة من هَذَا؛ لأنَّها رِوَايَة مُطلقَة، وَجَاءَت الرِّوَايَات الثَّابِتَة فِي الصَّحِيح مصرحة بأنَّه غسل الْأَعْضَاء ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَمسح الرَّأْس مرّة. وَاعْترض ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» عَلَى الْقَائِل بِهَذَا فَقَالَ: قَول من ذكر الْعدَد مقدم عَلَى من لم يذكرهُ (قَالَ) . وَعَلَى تَقْدِير التَّصْرِيح بالمرة، فَيحمل عَلَى بَيَان الْجَوَاز. ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: التَّثْلِيث يُصَيِّر الْمسْح غسلا، وَالْمسح مَبْنِيّ عَلَى التَّخْفِيف فَيخرج عَن مَوْضُوعه. قلت: (هَذِه) عبَادَة لَا يعقل مَعْنَاهَا.
وَقد رَوَى أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ، ثَنَا ربيعَة بن عتبَة الْكِنَانِي، عَن الْمنْهَال بن عَمْرو، عَن زر بن حُبَيْش قَالَ: «مسح عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ رَأسه فِي الْوضُوء حَتَّى أَرَادَ أَن يقطر، وَقَالَ: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - هَكَذَا يتَوَضَّأ» .
قَالَ أَحْمد: وثنا عَلّي بن بَحر، نَا الْوَلِيد بن مُسلم (عَن) عبد الله بن الْعَلَاء، عَن أبي الْأَزْهَر، عَن مُعَاوِيَة «أنَّه ذكر لَهُم وضوء النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وأنَّه مسح بغرفة من مَاء حَتَّى يقطر المَاء عَن رَأسه أَو كَاد يقطر» .
قلت: وَفِي رِوَايَة (للبزار) «ثمَّ مسح (بِرَأْسِهِ) حَتَّى كَاد يقطر»
(2/184)
وَإسْنَاد الأوَّل صَحِيح، وَالثَّانِي فِي حسنه وَقْفَة؛ لعنعنة الْوَلِيد، وَقد عرف تدليسه وتسويته.
قَالَ النَّووي فِي «كَلَامه عَلَى أبي دَاوُد» فِي الأوَّل: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح كلّ رِجَاله فِي الصَّحِيح مَشْهُور إِلَّا ربيعَة بن عتبَة الْكِنَانِي وَقد وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين وَلم يجرحه غَيره. فَالْحَدِيث صَحِيح.
كَذَا قَالَ النَّووي، وادَّعى ابْن الْقطَّان أَن البُخَارِيّ أخرج لِرَبِيعَة هَذَا، وَهُوَ غلط مِنْهُ؛ بل لم يخرج لَهُ أحد من «الْكتب السِّتَّة» غير أبي دَاوُد. قَالَ: وَلَا أعلم لَهُ عِلّة إِلَّا الْمنْهَال؛ فَإِن ابْن حزم قد قَالَ فِيهِ: لَا يقبل فِي باقة بقل. قَالَ: وَالرجل قد وَثَّقَهُ جماعات: ابْن معِين وَغَيره. فَافْهَم مَا قَرَّرْنَاهُ لَك أيَّها النَّاظر فِي هَذَا الْموضع؛ فَإِنَّهُ مُهِمّ يرحل إِلَيْهِ، جعل الله ذَلِكَ خَالِصا لوجهه بِمُحَمد وَآله.
الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
عَن عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخلّل لحيته» .
هَذَا الحَدِيث حسن.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث إِسْرَائِيل، عَن عَامر بن شَقِيق، عَن أبي وَائِل، عَن عُثْمَان. وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من هَذِه الطَّرِيق، وَلَفظه: عَن أبي وَائِل قَالَ: «رَأَيْت عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ تَوَضَّأ فخلل لحيته ثَلَاثًا، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله
(2/185)
«فعله) » .
وَرَوَاهُ (الدَّارمِيّ) فِي «مُسْنده» وَلَفظه: عَن شَقِيق بن سَلمَة قَالَ: «رَأَيْت عُثْمَان تَوَضَّأ (فخلل لحيته، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ) .
وَرَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار والدَّارقطني، وَصَححهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من رِوَايَة إِسْرَائِيل، عَن عَامر بن شَقِيق [عَن شَقِيق] بن سَلمَة قَالَ: «رَأَيْت عُثْمَان تَوَضَّأ فَغسل وَجهه واستنشق ومضمض ثَلَاثًا وَمسح بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما، وخلل لحيته ثَلَاثًا حِين غسل وَجهه قبل أَن يغسل قَدَمَيْهِ، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يفعل الَّذِي رَأَيْتُمُونِي» .
(وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة أَيْضا فِي «صَحِيحه» وَلَفظه كَمَا تقدم) فِي طرق الحَدِيث الَّذِي قبله، قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : هَذَا حَدِيث
(2/186)
حسن صَحِيح. قَالَ: وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل - يَعْنِي: البُخَارِيّ -: أصح شَيْء فِي هَذَا الْبَاب هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: بَلغنِي عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ أنَّه سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: هُوَ حسن. وَقَالَ الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ (يرْوَى) عَن عُثْمَان إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الإِسناد. وَقَالَ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» : قد اتّفق الشَّيْخَانِ - يَعْنِي: البُخَارِيّ و (مُسلما) - عَلَى إِخْرَاج طرق حَدِيث عُثْمَان فِي ذكر وضوئِهِ، وَلم يذكرَا فِي روايتهما تَخْلِيل اللِّحْيَة [ثَلَاثًا] وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح قد احتجا بِجَمِيعِ رُوَاته غير عَامر بن شَقِيق، وَلَا أعلم فِي عَامر بن شَقِيق طَعنا بِوَجْه من الْوُجُوه.
قَالَ: وَله فِي تَخْلِيل اللِّحْيَة شَاهد صَحِيح عَن عمار بن يَاسر وَأنس بن مَالك وَعَائِشَة. أمَّا حَدِيث عمار، فَرَوَاهُ عبد الْكَرِيم الْجَزرِي عَن حسان بن (بِلَال) «أنَّه رَأَى عمار بن يَاسر يتَوَضَّأ فخلل (لحيته، وَقَالَ) : وَمَا يَمْنعنِي وَقد رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يخلل لحيته» .
قلت: عبد الْكَرِيم هَذَا هُوَ أَبُو أُميَّة بن أبي الْمخَارِق، كَمَا أخرجه التِّرْمِذِيّ، وَهُوَ أحد الضُّعَفَاء، وَلم يسمعهُ من حسان. قَالَه
(2/187)
ابْن عُيَيْنَة وَالْبُخَارِيّ، فَأَيْنَ الصِّحَّة؟ نعم أخرجه ابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة، عَن حسان. وَادَّعَى ابْن حزم جَهَالَة حسان هَذَا، وَقد رَوَى عَنهُ جمَاعَة، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: ثِقَة. ثمَّ قَالَ ابْن حزم: لَا يعرف لحسان لِقَاء لعمَّار.
قلت: هَذَا عَجِيب؛ فَفِي التِّرْمِذِيّ عَن حسان قَالَ: «رَأَيْت عمار بن يَاسر ... » فَذكر الحَدِيث، وَفِي الطَّبَرَانِيّ نَحوه فاستفده.
وأمَّا حَدِيث أنس فَرَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَنهُ قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ وخلل لحيته بأصابعه من تحتهَا» وَإِسْنَاده صَحِيح كَمَا قَالَه ابْن الْقطَّان فِي «علله» .
وَرَوَاهُ [مُوسَى بن أبي] عَائِشَة، عَن أنس قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ وخلل لحيته وَقَالَ: بِهَذَا أَمرنِي ربّي» .
وأمَّا حَدِيث عَائِشَة؛ فَرَوَاهُ طَلْحَة بن عبيد الله بن كريز عَنْهَا قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا تَوَضَّأ خلل [لحيته] » .
قلت: وَله أَيْضا شَاهد من حَدِيث أمّ سَلمَة وَأبي أَيُّوب وَأبي أُمَامَة وَابْن عمر وَجَابِر وَعلي بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَجَرِير وَابْن أبي أَوْفَى وَغَيرهم رَضي اللهُ عَنهم.
(2/188)
أمَّا حَدِيث أمِّ سَلمَة، فَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَلم يذكرَا لَفظه.
وأمَّا حَدِيث أبي أَيُّوب؛ فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه والعقيلي من حَدِيث أبي سُورَة عَنهُ قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ فخلل لحيته» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالتِّرْمِذِيّ فِي «علله» وَلَفْظهمَا: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا تَوَضَّأ، تمضمض ومسَّ لحيته بِالْمَاءِ من تحتهَا» ، ثمَّ قَالَ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لَا شَيْء. فَقلت: أَبُو سُورَة مَا اسْمه؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا يصنع بِهِ، عِنْده مَنَاكِير، لَا يعرف لَهُ سَماع من أبي أَيُّوب. انْتَهَى.
وَأَبُو سُورَة هَذَا هُوَ ابْن أخي أبي أَيُّوب. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَجْهُول. وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان.
وأمَّا حَدِيث أبي أُمَامَة؛ فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي «مُصَنفه» نَا زيد بن الْحباب، عَن عمر بن سليم الْبَاهِلِيّ، قَالَ: حَدَّثَني أَبُو غَالب قَالَ: «قلت لأبي أُمَامَة: أخبرنَا عَن وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتَوَضَّأ ثَلَاثًا وخلل لحيته، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يفعل» .
زيد بن الْحباب احْتج بِهِ مُسلم ووثق، وَعمر بن سليم الْبَاهِلِيّ سُئِلَ
(2/189)
أَبُو زرْعَة عَنهُ فَقَالَ: صَدُوق. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ.
وَأَبُو غَالب اخْتلف فِي اسْمه؛ فَقيل: حَزَوَّر - بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمُعْجَمَة مَعًا، وَتَشْديد الْوَاو الْمَفْتُوحَة وَآخره رَاء مُهْملَة - وَقيل: سعيد. وَهُوَ صَالح الحَدِيث. وَقد صحّح التِّرْمِذِيّ حَدِيثه. فإسناد هَذَا الطَّرِيق حسن.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي «أكبر معاجمه» عَن عبيد بن غَنَّام، نَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة. و (عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى الْمروزِي) نَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله الْهَرَوِيّ، قَالَا: نَا زيد بن الْحباب فَذكره.
وأمَّا حَدِيث ابْن عمر؛ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» من حَدِيث مؤمَّل بن إِسْمَاعِيل، نَا عبد الله بن عمر الْعمريّ، عَن نَافِع عَنهُ «أنَّه كَانَ إِذا تَوَضَّأ خلل لحيته وأصابع رجلَيْهِ، وَيَزْعُم أنَّه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يفعل ذَلِكَ» ثمَّ قَالَ: لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن عبد الله بن عمر إِلَّا مُؤَمل.
قلت: قَالَ أَبُو حَاتِم فِي مُؤَمل: إنَّه صَدُوق، شَدِيد فِي السّنة، كثير الْخَطَأ.
وَرَوَاهُ الْخلال مَوْقُوفا عَلَى ابْن عمر «أنَّه كَانَ إِذا تَوَضَّأ خلل لحيته» قَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد المخرمي: قَالَ أَحْمد: لَيْسَ فِي التَّخْلِيل
(2/190)
أصحّ من هَذَا. وَسَيَأْتِي لحَدِيث ابْن عمر طَريقَة أُخْرَى بعد هَذَا - إِن شَاءَ الله.
وأمَّا حَدِيث جَابر؛ فَذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» من رِوَايَة الْحسن عَنهُ، وَمن طَرِيق لَا يعول عَلَيْهَا: قَالَ: «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ فخلل لحيته كأنَّها أَنْيَاب مشط» .
وأمَّا حَدِيث عَلّي؛ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ - فِيمَا انتقاه أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه عَلَيْهِ، فِيمَا انتقاه هُوَ عَن أهل الْبَصْرَة - من حَدِيث أبي البخْترِي الطَّائِي قَالَ: «رَأَيْت عليًّا يخلل لحيته إِذا تَوَضَّأ وَيَقُول: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يفعل» .
وأمَّا حَدِيث ابْن عَبَّاس؛ فَرَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي تَرْجَمَة نَافِع مولَى يُوسُف السّلمِيّ قَالَ: رُوِيَ عَن ابْن سِيرِين، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَطَهَّر ثمَّ يخلل لحيته وَيَقُول: بِهَذَا أَمرنِي ربّي» .
قَالَ: وَلَا يُتَابع عَلَيْهِ بِهَذَا الإِسناد. وَالرِّوَايَة فِي هَذَا الْبَاب فِيهَا (لين) .
قَالَ البُخَارِيّ: وَنَافِع مُنكر الحَدِيث.
وأمَّا حَدِيث جرير؛ فَرَوَاهُ ابْن عدي فِي «كَامِله» من طَرِيق ياسين الزيات عَن ربعي بن حِراش عَنهُ مَرْفُوعا، ثمَّ قَالَ: ياسين مَتْرُوك.
وَأما حَدِيث ابْن أبي أَوْفَى؛ فَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ وَهُوَ مَوْجُود فِي
(2/191)
نُسْخَة أبي أَيُّوب سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن التَّيْمِيّ، عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ، نَا فائد عَنهُ «أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ» وَفِيه: «فَمسح رَأسه وَاحِدَة، ويخلل لحيته بأصابعه ثَلَاثًا» .
وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كتاب «الطّهُور» عَن مَرْوَان أَيْضا عَن أبي الورقاء الْعَبْدي، عَن عبد الله بن أبي أَوْفَى «أَنه تَوَضَّأ (فخلل) لحيته فِي غسل وَجهه ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يفعل هَكَذَا» .
فَهَذَا اثْنَا عشر شَاهدا لحَدِيث عُثْمَان رَضِي اللهُ عَنْهُ فَكيف لَا يكون صَحِيحا وَالْأَئِمَّة قد صححوه: التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه» وَإِمَام الْأَئِمَّة مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة و (أَبُو حَاتِم) بن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَالدَّارَقُطْنِيّ كَمَا تقدم عَنهُ، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «مُسْتَدْركه» وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح، وَشهد لَهُ إِمَام هَذَا الْفَنّ أَبُو عبد الله البُخَارِيّ بأنَّه حَدِيث حسن وبأنَّه أصحّ (حَدِيث) فِي الْبَاب، فلعلَّ مَا نَقله ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه من قَوْله: إنَّه لَا يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي تَخْلِيل اللِّحْيَة حَدِيث. وَمن قَول الإِمام أَحْمد حَيْثُ سَأَلَهُ ابْنه: لَا يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي تَخْلِيل اللِّحْيَة شَيْء (أَن يكون) المُرَاد بذلك غير حَدِيث عُثْمَان.
وَقد قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : ذكر عَن أبي دَاوُد أنَّه قَالَ: قَالَ أَحْمد: تَخْلِيل اللِّحْيَة قد رُوِيَ فِيهِ أَحَادِيث لَيْسَ يثبت فِيهِ حَدِيث وَأحسن شَيْء فِيهِ حَدِيث شَقِيق عَن عُثْمَان «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ فخلل
(2/192)
لحيته» وَقد قَالَ ابْن الْقطَّان - وَهُوَ الإِمام المدقق فِي النّظر فِي علل الحَدِيث -: إِسْنَاد حَدِيث أنس عِنْدِي صَحِيح. ثمَّ أوضح ذَلِكَ، وَفِي كل هَذَا رد عَلَى مَا قَالَه ابْن حزم فِي «الْمُحَلَّى» : أنَّ حَدِيث عُثْمَان هَذَا رَوَاهُ إِسْرَائِيل، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ عَن عَامر بن شَقِيق، وَلَيْسَ مَشْهُورا بِقُوَّة النَّقْل. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر مِنْهُ: عَامر (بن شَقِيق) ضَعِيف.
قَالَ ابْن عبد الحقّ فِي الرَّد عَلَى المحلَّى: هَذَا من أعجب مَا يسمع؛ يُقَال فِي إِسْرَائِيل بن يُونُس: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقد خرج عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَقَالَ فِيهِ أَحْمد بن حَنْبَل: شيخ ثِقَة. وَعجب من حفظه، وفَضَّله عَلَى شريك وَعَلَى يُونُس فِي أبي إِسْحَاق، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ثِقَة متقن من أتقن أَصْحَاب أبي إِسْحَاق. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل أَيْضا: مَا أثبت حَدِيث إِسْرَائِيل وأصحَّه.
وَوَثَّقَهُ ابْن نمير وَغَيره، قَالَ: وَلَا يحفظ عَن أحد فِيهِ تجريح إِلَّا مَا ذكر عَن يَحْيَى بن سعيد، وَلم يعرج عَلَيْهِ أحد!
قلت: وعامر بن شَقِيق وَثَّقَهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم كَمَا تقدم قَرِيبا، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَعَن ابْن معِين تَضْعِيفه.
الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخلل لحيته ويدلك عارضيه بعض الدَّلك» .
(2/193)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» من حَدِيث عبد الحميد بن حبيب، نَا الْأَوْزَاعِيّ، نَا عبد الْوَاحِد بن قيس، حَدَّثَني نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا تَوَضَّأ عَرك عارضيه بعض العرك، ثمَّ شَبكَ لحيته بأصابعه من تحتهَا» .
(وأعل) بِثَلَاث علل:
أَحدهَا: عبد الحميد بن حبيب هَذَا هُوَ ابْن أبي الْعشْرين، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لم يكن صَاحب حَدِيث، وَضَعفه دُحَيْم. وَقَالَ النَّسَائِيّ: (لَيْسَ) بِالْقَوِيّ. وَعَن أَحْمد توثيقه.
الثَّانِيَة: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: اخْتلفُوا فِي عَدَالَة عبد الْوَاحِد بن قيس؛ فوثقه يَحْيَى بن معِين. و (أَبَاهُ) يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ. انْتَهَى كَلَامه.
وَقَالَ النَّسَائِيّ فِيهِ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يحتجّ بِهِ.
(2/194)
وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ، عَن يَحْيَى بن معِين أنَّه مرّة ضعفه وَمرَّة وَثَّقَهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أنَّه لَا بَأْس بِهِ.
وَتَركه البرقاني. وَقَالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم: مُنكر الحَدِيث.
الْعلَّة الثَّالِثَة: التَّعْلِيل بالإِرسال وَالْوَقْف. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ ابْن أبي حَاتِم: - ورأيته أَنا بعد ذَلِكَ فِي «علله» - قَالَ (أبي) : رَوَى هَذَا الحَدِيث الْوَلِيد، عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن [عبد الْوَاحِد] (عَن) يزِيد الرقاشِي وَقَتَادَة قَالَا: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » مُرْسلا [وَهُوَ أشبه بِالصَّوَابِ] .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَرَوَاهُ أَبُو الْمُغيرَة، عَن الْأَوْزَاعِيّ مَوْقُوفا. ثمَّ أسْندهُ عَن ابْن عمر من [غير] طَرِيق ابْن أبي الْعشْرين. وصَوَّب الدَّارَقُطْنِيّ الْمَوْقُوف، وَأخرج هَذَا الحَدِيث عبد الحقّ فِي «أَحْكَامه
(2/195)
الصُّغْرَى» . قَالَ: وَالصَّحِيح أنَّه فعل ابْن عمر غير مَرْفُوع إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ ابْن الْقطَّان: هَذَا نَص كَمَا ذكر وَلم يبين علته، وَقد يظنّ أنَّ تَعْلِيله إِيَّاه هُوَ مَا ذكر من وَقفه وَرَفعه، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيح، فإنَّه إنَّما يَصح أَن يكون هَذَا عِلّة لَو كَانَ رافعه ضَعِيفا وواقفه ثِقَة، فَفِي مثل هَذَا الْحَال كَانَ يصدق قَوْله: «الصَّحِيح مَوْقُوف من (فعل) ابْن عمر» أمَّا إِذا كَانَ رافعه ثِقَة وواقفه ثِقَة فَهَذَا لَا يضرّهُ، وَلَا هُوَ عِلّة فِيهِ، وَهَذَا حَال هَذَا الحَدِيث، فإنَّ رافعه عَن الْأَوْزَاعِيّ هُوَ عبد الحميد بن حبيب بن أبي الْعشْرين كَاتبه، وواقفه عَنهُ هُوَ أَبُو الْمُغيرَة، وَكِلَاهُمَا ثِقَة، فالقضاء للْوَاقِف عَلَى الرافع يكون خطأ، وَبعد هَذَا فعلة الْخَبَر هِيَ غير ذَلِكَ، وَهِي: ضعف عبد الْوَاحِد بن قيس رَاوِيه عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، وَعنهُ رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ فِي الْوَجْهَيْنِ، قَالَ يَحْيَى بن معِين: عبد الْوَاحِد بن قيس الَّذِي (رَوَى) عَنهُ الْأَوْزَاعِيّ: شبه لَا شَيْء. وَإِذا الْمَوْقُوف الَّذِي صحّح لابدَّ فِيهِ من عبد الْوَاحِد (بن قيس) فَلَيْسَ إِذا بِصَحِيح، وَالدَّارَقُطْنِيّ لم يقل فِي الْمَوْقُوف: صَحِيح وَلَا أصحّ، إنَّما قَالَ: إنَّ رِوَايَة (أبي) الْمُغيرَة بوقفه هُوَ الصَّوَاب؛ فَاعْلَم ذَلِكَ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : عبد الحقّ تبع الدَّارَقُطْنِيّ فِيمَا
(2/196)
قَالَ. وَقَول ابْن الْقطَّان: «إنَّما كَانَ يَصح أَن يكون هَذَا عِلّة، لَو كَانَ رافعه ضَعِيفا وَوَافَقَهُ ثِقَة» فِي هَذَا الْحصْر نظر، فقد يَأْخُذُونَ ذَلِكَ من كَثْرَة الواقفين، أَو تَقْدِيم مرتبَة الْوَاقِف عَلَى الرافع، ولعلَّ هَذَا مِنْهُ عِنْد من قَالَ ذَلِكَ، فإنَّ أَبَا الْمُغيرَة عبد القدوس بن الْحجَّاج احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَعبد الحميد رَوَى لَهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَوَثَّقَهُ الرَّازِيّ، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ الْعجلِيّ قَرِيبا مِنْهُ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ البُخَارِيّ: شَامي رُبمَا يُخَالف فِي حَدِيثه. وقَدَّمه هِشَام بن (عمار) عَلَى أَصْحَاب الْأَوْزَاعِيّ فَقَالَ فِي حِكَايَة: «أوثق أَصْحَابه كَاتبه عبد الحميد» قَالَ الشَّيْخ: وَلَعَلَّ أَبَا الْحسن بن الْقطَّان أَرَادَ إنَّما يَصح ذَلِكَ فِي النّظر الصَّحِيح عِنْده.
(وَقَالَ) شَيخنَا أَبُو الْفَتْح الْيَعْمرِي: أمَّا مَا ذكره ابْن الْقطَّان فَلَيْسَ بَعيدا من حَيْثُ النّظر، إِذا اسْتَويَا فِي مرتبَة الثِّقَة وَالْعَدَالَة أَو تقاربا، كَمَا هُوَ هَا هُنَا؛ لأنَّ الرّفْع زِيَادَة عَلَى الْوَقْف، وَقد جَاءَ عَن ثِقَة فسبيله الْقبُول، وَهَذَا هُوَ الَّذِي زَعمه ابْن الصّلاح، فَإِن كَانَ نظرا مِنْهُ فَهُوَ نظر صَحِيح، وَإِن كَانَ نقلا عَمَّن تقدمه فَلَيْسَ للنَّاس فِي ذَلِكَ عمل مطرد، وَأَبُو الْمُغيرَة احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَابْن أبي الْعشْرين رَوَى لَهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ الْعجلِيّ قَرِيبا من ذَلِكَ. وَذكر مقَالَة النَّسَائِيّ وَالْبُخَارِيّ الْمُتَقَدّمَة، ثمَّ قَالَ: فَإِن كَانَ عبد القدوس مرجحًا عَلَى عبد الحميد فإنَّ لعبد الحميد اختصاصًا بالأوزاعي يُوجب لَهُ مزية فِيمَا يروي عَنهُ - كَانَ كَاتبه - وقَدَّمه هِشَام بن عمار عَلَى أَصْحَاب
(2/197)
الْأَوْزَاعِيّ، [فَقَالَ فِي حِكَايَة: أوثق أَصْحَابه كَاتبه عبد الحميد] وَعرف عَن يَحْيَى بن معِين أنَّ قَوْله: «لَيْسَ بِهِ بَأْس» يَعْنِي بِهِ الثِّقَة، فَلَيْسَ (يقصر) فِي الْأَوْزَاعِيّ عَن دَرَجَة (أبي) الْمُغيرَة وَإِن احْتمل أَن يقصر عَنهُ فِي غَيره. قَالَ: وأمَّا رد ابْن الْقطَّان الْخَبَر بِعَبْد الْوَاحِد بن قيس فَلَيْسَ فِي عبد الْوَاحِد كَبِير أَمر، عبد الْوَاحِد مُخْتَلف فِي حَاله، وَثَّقَهُ ابْن معِين وأباه البُخَارِيّ وَيَحْيَى الْقطَّان، وَقَالَ ابْن عدي: ضَعِيف، وَإِذا رَوَى عَنهُ الْأَوْزَاعِيّ فَهُوَ صَالح. وَهَذَا من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَنهُ، وأمَّا أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق فإنَّه قد صحّح ذَلِكَ عَن ابْن عمر من فعله، وَلَيْسَ إِلَّا الِاعْتِمَاد عَلَى الدَّارَقُطْنِيّ فِي تَرْجِيح مَوْقُوف هَذَا الْخَبَر عَلَى مرفوعه، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي تَصْحِيح الْمَوْقُوف مُطلقًا.
فتلخص أَن للحفاظ فِي هَذَا الحَدِيث اضْطِرَاب تَرْجِيح، وَأَرْجُو أَن يكون حسنا، وَذكره ابْن السكن فِي «صحاحه» وتنبه لأمر آخر (يتعلَّق) بِالْكِتَابَةِ، وَهُوَ أَن الحَدِيث الَّذِي أوردته مَوْجُود كَذَلِك فِي عدَّة نسخ من الرَّافِعِيّ وَفِي بَعْضهَا ضرب عَلَى قَوْله: «كَانَ يخلل لحيته» وَوصل (الثَّانِي) بِحَدِيث عُثْمَان الْمُتَقَدّم. وَهُوَ هَكَذَا فِي هَذِه النُّسْخَة، وَعَن عُثْمَان: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يخلل لحيته ويدلك (عارضيه) » وَهَذِه النُّسْخَة معتنى بهَا؛ فَإِن صَحَّ ذَلِكَ فَلم أر هَذِه الْجُمْلَة فى حَدِيث عُثْمَان، فَاعْلَم ذَلِكَ.
(2/198)
الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ
«كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يحب التَّيَامُن فِي كلّ شَيْء حَتَّى فِي وضوئِهِ وانتعاله» .
هَذَا صَحِيح.
رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَابْن مَنْدَه، وَابْن حبَان من حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يحب التَّيَمُّن فِي شَأْنه كلّه: فِي تنعله وَترَجله وَطهُوره» . هَذَا لفظ البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَفِي رِوَايَة لَهما: «إنْ كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ليحبّ التَّيَمُّن فِي طهوره إِذا تطهر، وَفِي ترجله إِذا ترجل، وَفِي انتعاله إِذا تنعل» .
(وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «يُعجبهُ التَّيَمُّن» .
وَفِي رِوَايَة: «يحب التَّيَمُّن مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنه كُله ... » الحَدِيث، ذكره فِي بَاب التَّيَمُّن فِي دُخُول الْمَسْجِد) وَفِي لفظ ابْن مَنْدَه: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يحب التَّيَمُّن فِي الْوضُوء والانتعال» وَلَفظ ابْن حبَان: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يحب التَّيَامُن فِي كل شَيْء حَتَّى فِي التَّرَجُّل والانتعال» .
(2/199)
وَهَذِه الرِّوَايَة أقرب إِلَى مَا أوردهُ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب، وَفِي رِوَايَة (لَهُ) : «يحب (التَّيَمُّن) مَا اسْتَطَاعَ فِي طهوره وتنعله وَترَجله» وَفِي لفظ لَهُ: «وشأنه كلّه» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد زِيَادَة: «وسواكه» . (زَادهَا) مُسلم بن إِبْرَاهِيم أحد رُوَاته عَن شُعْبَة، ثمَّ قَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ عَن شُعْبَة معَاذ وَلم يذكر «سواكه» .
الحَدِيث الْأَرْبَعُونَ
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا توضأتم فابدءوا بميامنكم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» وَالْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي «الْأَسْمَاء والكنى» .
(2/200)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» وَهُوَ حقيق بِأَن يصحح. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح - ثمَّ النَّووي -: وَهُوَ حَدِيث حسن وَإِسْنَاده جيِّد.
وَلَفظه فِي أَكثر هَذِه الْأُصُول: «إِذا لبستم وَإِذا توضأتم فابدءوا بأيامنكم» وَفِي بَعْضهَا «بميامنكم» وَكِلَاهُمَا صَحِيح، فالأوَّل: جمع «أَيمن» وَالثَّانِي: جمع «ميمنة» وَكَذَا حسنه الشَّيْخ زكي الدَّين فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» قَالَا - أَعنِي النَّوَوِيّ والزكي -: وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي اللبَاس.
قلت: لم يروه التِّرْمِذِيّ بِالْكُلِّيَّةِ. ذَاك حَدِيث آخر رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي الْموضع الْمشَار إِلَيْهِ من حَدِيث عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا لبس قَمِيصًا بَدَأَ بميامنه» . وَرَوَاهُ كَذَلِك النَّسَائِيّ فِي «الزِّينَة» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: قد رَوَى هَذَا الحَدِيث غير وَاحِد عَن شُعْبَة بِهَذَا الإِسناد لم يرفعهُ، وإنَّما رَفعه عبد الصَّمد. انْتَهَى.
وَعبد الصَّمد هَذَا من الثِّقَات (الَّذين) اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَى الِاحْتِجَاج بهم، لَا جرم أَن ابْن حبَان أخرجه فِي «صَحِيحه» من طَرِيقه مَرْفُوعا حَاكما عَلَيْهَا بِالصِّحَّةِ؛ فتنبَّه لذَلِك كلّه.
(2/201)
الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ
أنَّ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن أمتَّى يدعونَ يَوْم الْقِيَامَة غرًّا محجلين من آثَار الْوضُوء - قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فكنّا نغسل بعد ذَلِكَ أَيْدِينَا إِلَى الآباط) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِنَحْوِهِ مُسلم فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة أبي حَازِم، قَالَ: «كنت خلف أبي هُرَيْرَة وَهُوَ يتَوَضَّأ للصَّلَاة فَكَانَ [يمد] يَده حَتَّى يبلغ إبطَيْهِ، فَقلت: يَا أَبَا هُرَيْرَة مَا هَذَا الْوضُوء؟ فَقَالَ: يَا بني فرّوخ أَنْتُم هَا هُنَا لَو علمت أَنكُمْ هَا هُنَا مَا تَوَضَّأت هَذَا الْوضُوء. فَقَالَ: سَمِعت خليلي (يَقُول: تبلغ الْحِلْية من الْمُؤمن حَيْثُ يبلغ الْوضُوء» .
قَالَ النَّووي: وَرَوَاهُ البُخَارِيّ بِمَعْنَاهُ فِي أَوَاخِر الْكتاب فِي (بَاب نقض [الصُّور] من) «صَحِيحه» ، وَفِيه التَّصْرِيح ببلوغ أبي هُرَيْرَة بِالْمَاءِ إبطَيْهِ (عَن أبي زرْعَة «أنَّ أَبَا هُرَيْرَة دَعَا بتور من مَاء فَغسل يَدَيْهِ حَتَّى بلغ إبطه، فَقلت: يَا أَبَا هُرَيْرَة أَشَيْء سمعته من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ قَالَ: مُنْتَهى الْحِلْية» ) .
وَفِي رِوَايَة لأبي حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «تبلغ حلية أهل الْجنَّة مبلغ الْوضُوء» .
(2/202)
وَفِي رِوَايَة (لَهُ) من حَدِيث ابْن مَسْعُود: «يَا رَسُول الله، كَيفَ تعرف من لم تَرَ من أمَّتك؟ قَالَ: غر محجلون (بلق) من (آثَار الْوضُوء) » .
فَرُّوخ: بِفَتْح الْفَاء وَضم الرَّاء الْمُشَدّدَة، وَآخره خاء مُعْجمَة.
وَقد قدمنَا أَيْضا فِي أَوَائِل هَذَا الْبَاب طرفا من طَرِيق حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَمن أَوْهَام ابْن بطال الْمَالِكِي: إِنْكَاره عَلَى أبي هُرَيْرَة بُلُوغ المَاء إبطَيْهِ، وَأَن أحدا لم يُتَابِعه عَلَيْهِ، وَقد قَالَ بِهِ جمَاعَة من أَصْحَابنَا أَيْضا.
الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ
عَن عبد الله بن زيد «فِي صفة وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: أنَّه مسح بيدَيْهِ فَأقبل بهما وَأدبر، بَدَأَ بِمقدم رَأسه ثمَّ ذهب بهما إِلَى قَفاهُ ثمَّ ردهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
وَقد تقدم بَيَانه فِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين من هَذَا الْبَاب. قَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ أصح شَيْء فِي الْبَاب وَأحسن.
(2/203)
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: جَاءَ فِي كَيْفيَّة مسح الرَّأْس أَحَادِيث:
أَحدهَا: حَدِيث عبد الله بن زيد الْمَذْكُور.
ثَانِيهَا: حَدِيث الرّبيع بنت معوذ «أنَّه عَلَيْهِ السَّلَام مسح بِرَأْسِهِ مرَّتَيْنِ، بَدَأَ بمؤخر رَأسه ثمَّ بمقدمه» .
(رَوَاهُ) أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الله بن عقيل عَنْهَا.
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «مسح الرَّأْس كُله من قرن الشّعْر كل نَاحيَة (لمنصب) الشّعْر، لَا يُحَرك الشّعْر عَن هَيئته» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «مسح رَأسه مَا أقبل مِنْهُ وَمَا أدبر» .
(وَفِي رِوَايَة للطبراني: «بَدَأَ بمؤخر رَأسه ثمَّ جَرّه إِلَى (مقدمه) ثمَّ جَرّه إِلَى مؤخره» ) .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ أبي شيبَة: «بَدَأَ بمؤخره ثمَّ رد بيدَيْهِ عَلَى ناصيته» .
الثَّالِث: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة «أنَّه عَلَيْهِ السَّلَام وضع يَدَيْهِ (فِي) النّصْف من رَأسه ثمَّ جَرَّهما إِلَى مقدم رَأسه ثمَّ أعادهما إِلَى (ذَلِكَ) الْمَكَان
(2/204)
(وجرهما) إِلَى صدغيه» .
رَوَاهُ عبد الْبَاقِي بن قَانِع الْحَافِظ فِي الْجُزْء الأوَّل من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن مُحَمَّد بن عجلَان، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة (بِهِ.
الثَّانِيَة) : اعْلَم أَن عبد الله بن زيد هَذَا هُوَ رَاوِي حَدِيث صَلَاة الاسْتِسْقَاء الْآتِي (فِي بَابه) وَهُوَ غير عبد الله بن زيد رَاوِي حَدِيث الْأَذَان، فهما مشتركان فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا اسْمه: عبد الله بن زيد، وَهُوَ أَنْصَارِي، لَكِن يفترقان فِي الْجد والقبيلة؛ فَإِن الْمَذْكُور هُنَا هُوَ عبد الله بن زيد بن عَاصِم الْمَازِني الْمدنِي، وَذَاكَ عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأوسي - وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي بَاب الْأَذَان حَيْثُ ذكر المُصَنّف حَدِيثه - إِن شَاءَ الله ذَلِكَ وَقدره - فَافْهَم مَا قَرَّرْنَاهُ لَك؛ فإنَّه قد غلط فِي ذَلِكَ كبار.
قَالَ ابْن عبد الْبر: وهم ابْن عُيَيْنَة فِي هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: عَن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وَهَذَا خطأ؛ وإنَّما هُوَ عبد الله بن زيد بن عَاصِم؛ وَذَاكَ هُوَ الَّذِي أرِي الْأَذَان فِي النَّوم، وَهُوَ أقلّ رِوَايَة من الأوَّل.
قَالَ: وَقد كَانَ أَحْمد بن زُهَيْر يزْعم أَن إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق وهم فيهمَا فجعلهما وَاحِدًا فِيمَا حَكَى قَاسم بن أصبغ عَنهُ، والغلط لَا يسلم مِنْهُ أحد. قَالَ: فَإِذا كَانَ ابْن عُيَيْنَة مَعَ جلالته يغلط فِي ذَلِكَ فإسماعيل بن إِسْحَاق أَيْن يَقع من (سُفْيَان) بن عُيَيْنَة، إِلَّا أَن الْمُتَأَخِّرين أوسع
(2/205)
علما وَأَقل عذرا.
قلت: وَمن ذَلِكَ جعل أبي الْقَاسِم الْبَغَوِيّ أَنهم ثَلَاثَة؛ فإنَّه ذكر عبد الله بن زيد بن عبد ربه، صَاحب حَدِيث الْأَذَان، ثمَّ ذكر بعده عبد الله بن زيد بن عَمْرو الْمَازِني، وَذكر لَهُ حَدِيثا وَاحِدًا فِي الْأَذَان وَقَالَ: لَيْسَ (لَهُ) غَيره، وَعقد لعبد الله بن زيد بن عَاصِم تَرْجَمَة ثَالِثَة وَذكر من حَدِيثه وَحَكَى وَفَاته.
الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح فِي وضوئِهِ بناصيته وَعَلَى عمَامَته» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضي اللهُ عَنهُ وَقد تقدَّم فِي الحَدِيث السَّادِس من هَذَا الْبَاب بِلَفْظِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْمسْح عَلَى الْعِمَامَة، عَن عَمْرو بن أُميَّة وسلمان وثوبان وَأبي أُمَامَة، وبلال رَضي اللهُ عَنهم وَوَقع فِي كَلَام ابْن حزم (أنَّ) هَذَا الْفِعْل كَانَ فِي (مَرَّات) مُخْتَلفَة، لَا أنَّه مسح عَلَى الناصية والعمامة مَعًا؛ بل مسح عَلَى الْعِمَامَة مرّة وَعَلَى الناصية (مرّة) أُخْرَى.
(2/206)
الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح فِي وضوئِهِ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما، وَأدْخل أصبعيه فِي صماخي أُذُنَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث حسن، مَرْوِيّ من طرق.
أَحدهَا: عَن الْمِقْدَام بن معدي كرب - رَضي اللهُ عَنهُ - قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ، فَلَمَّا بلغ مسح رَأسه وضع كفيه عَلَى مقدم رَأسه فأمَرَّهُما حَتَّى بلغ الْقَفَا، ثمَّ ردهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، وَمسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وَأدْخل أَصَابِعه فِي صماخ أُذُنَيْهِ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مَحْمُود بن خَالِد، وَيَعْقُوب بن كَعْب الْأَنْطَاكِي قَالَا: ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم عَن حَريز - بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي فِي آخِره - بن عُثْمَان، عَن عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة، عَن الْمِقْدَام بِهِ.
وَلابْن مَاجَه من هَذَا الحَدِيث «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ، ظاهرهما وباطنهما» رَوَاهُ عَن هِشَام بن عمار، نَا الْوَلِيد بن مُسلم، نَا حريز بالسند الَّذِي قبله.
وَهَذَا حَدِيث سكت (عَلَيْهِ) أَبُو دَاوُد وَعبد الحقّ فَيكون محتجًا بِهِ عِنْدهمَا، إِمَّا صَحِيحا أَو حسنا عِنْد أبي دَاوُد، وإمَّا صَحِيحا عِنْد عبد الحقّ.
(2/207)
وَاعْترض ابْن الْقطَّان عَلَى عبد الْحق حَيْثُ سكت عَلَى هَذَا الحَدِيث بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة الرَّاوِي عَن الْمِقْدَام مَجْهُول الْحَال لَا يعرف رَوَى عَنهُ إِلَّا حريز بن عُثْمَان، وَإِلَى ذَلِكَ؛ فَإِن حريز بن عُثْمَان كَانَ لَهُ - فِيمَا زَعَمُوا - رَأْي سوء فِي الصَّحَابَة.
الثَّانِي: أَن فِيهِ الْوَلِيد بن مُسلم، وَكَانَ يُدَلس وَيُسَوِّي، وَلم يقل فِي هَذَا الحَدِيث «أَنا» وَلَا «ثَنَا» وَلَا «سَمِعت» وَلَا ذكر عَن حريز أنَّه قَالَ ذَلِكَ، فَمن حَيْثُ هُوَ مُدَلّس يُمكن أَن يكون قد أسقط بَينه وَبَين حريز وَاسِطَة، وَمن حَيْثُ هُوَ مسوٍّ يُمكن أَن يكون قد اسقط بَين حريز وَبَين عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة وَاسِطَة، وَلَقَد زعم الدَّارَقُطْنِيّ أنَّه كَانَ يفعل هَذَا فِي أَحَادِيث الْأَوْزَاعِيّ، يعمد إِلَى أَحَادِيث رَوَاهَا الْأَوْزَاعِيّ، عَن أَشْيَاخ لَهُ ضعفاء، عَن أشيخ لَهُ ثِقَات، فَيسْقط الضُّعَفَاء من الْوسط ويرويها عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن أشياخه الثِّقَات كَأَنَّهُ سَمعهَا مِنْهُم.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَيُمكن أَن يُقَال بِسُقُوط وصمة التَّدْلِيس والتسوية جَمِيعًا. فقد قَالَ فِيهِ أَبُو دَاوُد: من رِوَايَة مَحْمُود بن خَالِد، نَا الْوَلِيد، أَخْبرنِي حريز - ثمَّ أحَال أَبُو دَاوُد فِيمَا بعد عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن مُحَمَّد بن مَيْمُون الْبَغْدَادِيّ، نَا الْوَلِيد بن مُسلم، ثَنَا حريز بن عُثْمَان - وَرَوَاهُ أَبُو الْمُغيرَة، عَن حريز، حَدَّثَني عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة الْحَضْرَمِيّ، قَالَ: سَمِعت الْمِقْدَام ... فَذكره، فَالْحَدِيث إِسْنَاده وَاحِد اخْتلف فِي بعض أَلْفَاظه وَفِي اختصاره وإكماله،
(2/208)
فَإِذا كَانَ كَذَلِك فبرواية مَحْمُود عَن الْوَلِيد - وَكَذَلِكَ رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الله الْبَغْدَادِيّ (عَنهُ) - يَزُول التَّدْلِيس، وبرواية أبي الْمُغيرَة عَن حريز تَزُول التَّسْوِيَة.
قلت: وَكَذَلِكَ رِوَايَة هِشَام بن عمار عَن الْوَلِيد الْمُتَقَدّمَة عَن ابْن مَاجَه مِمَّا يزِيل التَّدْلِيس، وَلم يجب الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَّا عَن الْوَجْه الثَّانِي من اعْتِرَاض ابْن الْقطَّان، وأمَّا الْوَجْه الأوَّل: فَالْجَوَاب عَنهُ أنَّ عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة لَيْسَ بِمَجْهُول؛ بل هُوَ مَعْرُوف ثِقَة، ذكره أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «ثقاته» وَقَوله: «إنَّه لَا يعرف رَوَى عَنهُ إِلَّا حريز» لَيْسَ كَذَلِك؛ فقد رَوَى عَنهُ ثَوْر بن يزِيد، ذكره الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «تهذيبه» فقد ارْتَفَعت عَنهُ جَهَالَة عينه وحاله، فَإِذا الحَدِيث حسن.
لَا جرم أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح قَالَ فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» : إنَّه حَدِيث حسن (وَتَبعهُ عَلَى ذَلِكَ النَّوَوِيّ فِي «شرح المهذَّب» ) .
وَقَالَ (النَّوَوِيّ) فِي «الْخُلَاصَة» : رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح، لَكِن وَقع لَهما - رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا - سَهْو فِي هَذَا الحَدِيث؛ فعزياه إِلَى «سنَن النَّسَائِيّ» وَلَيْسَ هُوَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَتنبه لذَلِك واحفظه؛ فإنِّي مَا جزمت بذلك إلاَّ بعد تتبع الْأُصُول، وَلم يعزه أَيْضا أحد من
(2/209)
أَصْحَاب الْأَطْرَاف إِلَيْهِ.
والمقدام: بِالْمِيم فِي آخِره، وإنَّما قيدته؛ لِئَلَّا يتصحف عَلَى من لَا أنس لَهُ بِهَذَا الْفَنّ بالمقداد - بِالدَّال فِي آخِره.
وكَرِب: بِفَتْح الْكَاف وَكسر الرَّاء، وَيجوز صرفه وَترك صرفه، وَجْهَان لأهل الْعَرَبيَّة، وَفِيه وَجه ثَالِث، أَن الْبَاء مَضْمُومَة بكلّ حَال، وياء «معدي» سَاكِنة بِكُل حَال.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن الرّبيع بنت معوذ رَضي اللهُ عَنهُا: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ وَأدْخل أصبعيه فِي حجري أُذُنَيْهِ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه بِهَذَا اللَّفْظ، وَالتِّرْمِذِيّ وَلَفظه: «مسح رَأسه مَا أقبل وَمَا أدبر وصدغيه وَأُذُنَيْهِ مرّة وَاحِدَة» وَالْبَيْهَقِيّ وَلَفظه: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ فَأدْخل أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ» وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» وَلَفظه: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: لم يحْتَجَّا - يَعْنِي: البُخَارِيّ وَمُسلمًا - بِابْن عقيل وَهُوَ مُسْتَقِيم الحَدِيث مقدم فِي الشّرف. وَقد تقدم قَرِيبا كَلَام الْأَئِمَّة فِي ابْن عقيل (هَذَا) وعقدنا لَهُ فصلا فِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ.
(2/210)
(وَقَالَ ابْن الْقطَّان: إِسْنَاده صَحِيح إِلَى ابْن عقيل) .
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أنس رَضي اللهُ عَنهُ: «أنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ فَمسح بَاطِن أُذُنَيْهِ وظاهرهما» .
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» من حَدِيث زَائِدَة، عَن سُفْيَان بن سعيد، عَن حميد الطَّوِيل، عَن أنس بِهِ. قَالَ: وَكَانَ ابْن مَسْعُود يَأْمر بذلك.
قَالَ الْحَاكِم: وزائدة بن قدامَة ثِقَة مَأْمُون، قد أسْندهُ عَن الثَّوْريّ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث (ابْن) صاعد، عَن بنْدَار، عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، نَا حميد، عَن أنس «أنَّه كَانَ يتَوَضَّأ، فَمسح أُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما ثمَّ قَالَ: رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعل ذَلِكَ» قَالَ ابْن صاعد: هَكَذَا يَقُول الثَّقَفِيّ، وَغَيره يرويهِ عَن أنس عَن ابْن مَسْعُود من فعله.
ثمَّ خرجه من طَرِيق هشيم عَن حميد الطَّوِيل قَالَ: «رَأَيْت أنس بن مَالك يتَوَضَّأ فَمسح أُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما، ثمَّ قَالَ: إِن ابْن مَسْعُود كَانَ يَأْمر بالأذنين» .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من فعل أنس من طَرِيقين، وَلم يذكر رِوَايَة الرّفْع، وَهِي صَحِيحَة.
(2/211)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» : رجال رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ كلهم ثِقَات، وَبُنْدَار فَمن فَوْقه من رجال «الصَّحِيحَيْنِ» قَالَ: وَكَأن الْحَاكِم لم يعلله بِرِوَايَة من وَقفه. وَرِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تؤيّدها.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن إِسْرَائِيل عَن عَامر بن شَقِيق، عَن شَقِيق بن سَلمَة قَالَ: «رَأَيْت عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ تَوَضَّأ فَمسح رَأسه وَأُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما، وَقَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - صنع كَمَا صنعت» رَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» بِهَذَا اللَّفْظ، وَأحمد وَالْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَسبق بلفظهم فِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أنَّ رجلا أَتَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: كَيفَ الطّهُور؟ فَدَعَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَاء فَتَوَضَّأ فَأدْخل أصبعيه السبابتين فِي أُذُنَيْهِ، فَمسح بإبهاميه ظَاهر أُذُنَيْهِ وبالسبابتين باطنهما» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، وَبَقِي من طرق هَذَا الحَدِيث طَريقَة صَحِيحَة، سنذكرها بعد هَذَا الحَدِيث حَيْثُ ذكرهَا المُصَنّف - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ
عَن عبد الله بن زيد فِي صفة وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (أنَّه تَوَضَّأ، فَمسح أُذُنَيْهِ بِمَاء غير الَّذِي مسح بِهِ الرَّأْس» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
(2/212)
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» عَن أبي الْوَلِيد الْفَقِيه، ثَنَا الْحسن بن سُفْيَان، ثَنَا حَرْمَلَة بن يَحْيَى، ثَنَا ابْن وهب، عَن عَمْرو بن الْحَارِث، عَن حبَان بن وَاسع، أنَّ اباه حَدثهُ، أنَّه سمع عبد الله - رَضي اللهُ عَنهُ - يَقُول: «إنَّ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح أُذُنَيْهِ (بِغَيْر) المَاء الَّذِي مسح بِهِ رَأسه» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا صَحِيح مثل الَّذِي قبله. وَكَانَ ذكر قبله حَدِيثا من حَدِيث ابْن وهب بِمثلِهِ، وَقَالَ فِيهِ: إنَّه صَحِيح عَلَى شَرط [الشَّيْخَيْنِ] إِن سلم من مُحَمَّد بن أَحْمد بن (أبي) عبيد الله، وَقد احتجا جَمِيعًا بِجَمِيعِ رُوَاته.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي كِتَابه «عُلُوم الحَدِيث» عَن أبي (عَلّي) الْحُسَيْن بن عَلّي الْحَافِظ، ثَنَا أَبُو الطَّاهِر مُحَمَّد بن أَحْمد الْمدنِي، نَا حَرْمَلَة ... فَذكره كَمَا تقدم إِلَّا أنَّ لَفظه: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ وَأخذ مَاء لأذنيه خلاف الَّذِي مسح بِهِ رَأسه» ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذِه سنة غَرِيبَة تفرد بهَا أهل مصر وَلم يشركهم فِيهَا أحد.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن شَيْخه الْحَاكِم، عَن أبي الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَبدُوس، عَن الدَّارمِيّ، عَن الْهَيْثَم بن خَارِجَة، عَن
(2/213)
عبد الله بن وهب قَالَ: أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث، عَن حبَان بن وَاسع الْأنْصَارِيّ أنَّ أَبَاهُ حَدثهُ أنَّه سمع عبد الله بن زيد يذكر: «أنَّه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ؛ فَأخذ لأذنيه مَاء خلاف الَّذِي أَخذ لرأسه» ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح.
قَالَ: وَكَذَلِكَ يرْوَى عَن عبد الْعَزِيز بن عمرَان بن مِقْلَاص وحرملة بن يَحْيَى، عَن ابْن وهب.
وَذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» أنَّه رَآهُ فِي رِوَايَة ابْن الْمُقْرِئ، عَن حَرْمَلَة، عَن ابْن وهب بِهَذَا الإِسناد، وَفِيه: «وَمسح رَأسه بِمَاء غير فضل يَدَيْهِ» لم يذكر الْأُذُنَيْنِ.
قلت: وَكَذَا رَأَيْته فِي صَحِيح ابْن حبَان فَقَالَ: أخبرنَا ابْن سلم، عَن حَرْمَلَة (بِهِ) وَهَذَا حَدِيث آخر لَا يقْدَح فِي (صِحَة الأول) فقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» عَن الْحَاكِم وَأبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، عَن أبي (عَلّي) الْحُسَيْن بن عَلّي الْحَافِظ، عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي (عبيد الله) عَن عبد الْعَزِيز وحرملة، ثمَّ ذكره كَمَا سَاقه فِي «سنَنه» ثمَّ سَاقه عَن الْحَاكِم بالطريقة الْمُتَقَدّمَة الَّتِي نقلناها عَن «الْمُسْتَدْرك» ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي السَّادِس عشر من «الأمالي الْقَدِيمَة» من حَدِيث
(2/214)
الْهَيْثَم بن خَارِجَة كَمَا ذَكرْنَاهُ، فَثَبت بذلك صِحَة طَرِيقه إِلَى عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ.
تَنْبِيهَانِ:
أَحدهمَا: قَالَ الْحَافِظ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» : وَقد ورد أَيْضا الْأَمر بتجديد المَاء للأذنين من حَدِيث نمران بن جَارِيَة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ إِسْنَاد ضَعِيف.
وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان فَقَالَ: هَذَا الَّذِي قَالَه لَا يُوجد أصلا. قَالَ: وَلم يعزه إِلَى مَوضِع فنتحاكم إِلَيْهِ، وَأَحَادِيث نمران بن جَارِيَة، عَن أَبِيه جَارِيَة بن ظفر محصورة [مَعْرُوفَة] يَرْوِيهَا عَنهُ ابْن قُرَّان - يَعْنِي: بِضَم الْقَاف، وَتَشْديد الرَّاء الْمُهْملَة، وَآخره نون وَهُوَ ضَعِيف، وَهِي أَرْبَعَة أَو نَحْوهَا، وَقد ذكر مِنْهَا حَدِيث «الْقَضَاء للَّذي يَلِيهِ معاقد القُمُط» وَحَدِيث «العَبْد الَّذِي قطع يَد رجل، ثمَّ شج آخر» وَأرَاهُ اخْتَلَط عَلَيْهِ هَذَا الَّذِي أنكرناه عَلَيْهِ، بِمَا رَوَى عَنهُ دهثم بن قرَان، عَن أَبِيه، عَن جَارِيَة بن ظفر، أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «خُذ للرأس مَاء جَدِيدا» وَهُوَ حَدِيث مَعْرُوف من جملَة مَا رَوَى عَنهُ، ذكره الْبَزَّار، وأمَّا الْأَمر بتجديد المَاء للأذنين فَلَا وجود لَهُ فِي علمي؛ فابحث عَنهُ. انْتَهَى مَا ذكره ابْن الْقطَّان وَحَدِيث عبد الله بن زيد الَّذِي قدمْنَاهُ بأسانيده، لَا شكَّ فِي صِحَّته واتصاله وَهُوَ مغنٍ عَنهُ.
الثَّانِي: قَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب»
(2/215)
بعد أَن أخرج حَدِيث عبد الله بن زيد الْمُتَقَدّم وَنقل عَن الْبَيْهَقِيّ تَصْحِيحه: وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطَّهَارَة، عَن ابْن (خشرم) عَن ابْن وهب، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
قلت: ذَاك حَدِيث آخر فِيهِ أنَّه أَخذ لرأسه مَاء جَدِيدا، وَالَّذِي أوردهُ عَن الْبَيْهَقِيّ إنَّما هُوَ فِي أَخذ المَاء للأذن، فَكيف يحسن ذَلِكَ مِنْهُ؟ ! وَهَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ: ثَنَا عَلّي بن خشرم، نَا عبد الله بن وهب، نَا عَمْرو بن الْحَارِث، عَن حبَان بن وَاسع، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن زيد «أنَّه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ وأنَّه مسح رَأسه بِمَاء غير فضل يَدَيْهِ» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. قَالَ ذَلِكَ بعد أَن بوب: بَاب مَا جَاءَ أنَّه يَأْخُذ لرأسه مَاء جَدِيدا، فَتنبه لذَلِك.
(2/216)
بِسم [1] الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا (
الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ
رُوِيَ «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أمسك سبابتيه وإبهاميه عَن الرَّأْس لمسح الْأُذُنَيْنِ، فَمسح بسبابتيه باطنهما وبإبهاميه ظاهرهما» .
هَذَا الحَدِيث هَكَذَا ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي «الْمُهَذّب» وَلَفظه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح بِرَأْسِهِ وَأمْسك بمسبحتيه لأذنيه» .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» : إِن هَذَا الحَدِيث لَا يُعرف وَلَا يثبت. قَالَ: (وتوهم) أَبُو بكر الْحَازِمِي - من حفاظ الْعَصْر - فِيمَا خرجه من أَحَادِيث «الْمُهَذّب» أَن مَعْنَاهُ مَوْجُود فِي حَدِيث الرّبيع بنت معوذ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ (عَنْهَا قَالَت) : « (رَأَيْت) رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ فَمسح مقدم رَأسه ومؤخره وصدغيه، ثمَّ أَدخل أصبعيه السبابتين، فَمسح أُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما» .
قَالَ: وَهَذَا وهم من الْحَازِمِي؛ فَإِنَّهُ لَا دلَالَة فِي هَذَا عَلَى مَا أوردهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق من أَنه مسح الْأُذُنَيْنِ بِغَيْر المَاء الَّذِي مسح بِهِ رَأسه
(2/217)
قَالَ: وَهَاهُنَا نُكْتَة خفيت عَلَى أهل الْعِنَايَة بالمهذب، وَهِي أَن مُصَنفه رَجَعَ عَن الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث وأسقطه من الْمُهَذّب فَلم يفد ذَلِك (بعد انتشار) الْكتاب. قَالَ: وَوجدت بِخَط بعض (تلامذته) فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من تَعْلِيقه عَلَى الْحَاشِيَة عِنْد استدلاله بِهَذَا الحَدِيث قَالَ الشَّيْخ: لَيْسَ لَهُ أصل فِي السّنَن، فَيجب أَن تضربوا عَلَيْهِ فِي «الْمُهَذّب» فَإِنِّي صنفته من (عشر سِنِين) ، وَمَا عَرفته. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: وَبَلغنِي أَن هَذَا الحَدِيث مَضْرُوب عَلَيْهِ فِي أصل المُصَنّف الَّذِي هُوَ بِخَطِّهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث مَوْجُود فِي بعض نسخ الْمُهَذّب (الْمَشْهُورَة) وَلَيْسَ مَوْجُودا فِي بعض النّسخ الْمُعْتَمدَة. قَالَ: وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف أَو بَاطِل لَا يعرف. وَجزم فِي «الْخُلَاصَة» بضعفه.
قلت: ورد (من) حَدِيث ابْن عَبَّاس من طرق عَنهُ (مَا) ظَاهرهَا لما رده هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة، رَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» عَن عَلّي بن أَحْمد
(2/218)
بن عَبْدَانِ الْأَهْوَازِي، أَنا أَحْمد بن [عبيد الصفار] ، نَا إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق، ثَنَا عَلّي بن الْمَدِينِيّ، نَا عبد الله بن إِدْرِيس، نَا مُحَمَّد بن عجلَان، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ فغرف غرفَة؛ فَمَضْمض واستنشق ... » وَذكر الحَدِيث (وَقَالَ) : «ثمَّ أَخذ (شَيْئا من مَاء فَمسح بِهِ رَأسه، وَقَالَ: بالوسطيين من أَصَابِعه فِي بَاطِن) أُذُنَيْهِ والإبهامين من وَرَاء أُذُنَيْهِ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا: فَكَأَنَّهُ كَانَ يعْزل من كل يَد أصبعين؛ فَإِذا فرغ من مسح الرَّأْس مسح [بهما] أُذُنَيْهِ (قَالَ: وَقد رُوِيَ فِي هَذَا الحَدِيث «مسح أُذُنَيْهِ) داخلهما بالسبابتين وَخَالف بإبهاميه فَمسح باطنهما وظاهرهما» .
قلت: وَهَذِه الزِّيَادَة رَوَاهَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة (فِي «مُصَنفه» ) وَمن جِهَته أخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» فَإِنَّهُ أخرجه عَن أَحْمد بن عَلّي بن الْمثنى، نَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، نَا ابْن إِدْرِيس، عَن
(2/219)
ابْن عجلَان، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ فغرف غرفَة (فَغسل) وَجهه، ثمَّ غرف غرفَة فَغسل يَده الْيُمْنَى [ثمَّ غرف غرفَة فَغسل يَده الْيُسْرَى] ثمَّ غرف غرفَة فَمسح بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ داخلهما بالسبابتين، وَخَالف بإبهاميه إِلَى ظَاهر أُذُنَيْهِ فَمسح ظاهرهما وباطنهما، ثمَّ غرف غرفَة فَغسل رجله الْيُمْنَى، ثمَّ غرف غرفَة فَغسل رجله الْيُسْرَى» .
وَرَوَاهُ ابْن مَنْدَه الْحَافِظ أَيْضا من حَدِيث ابْن إِدْرِيس أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عجلَان، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ فَمسح رَأسه وَأُذُنَيْهِ ... » فَقَالَ: «بالوسطى من أَصَابِعه فأبطن بأذنيه» . وَقَالَ: «بالإبهامين من وَرَاء أُذُنَيْهِ» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة، وَلَفظه: «ثمَّ مسح رَأسه وَأُذُنَيْهِ باطنهما بالسبابتين وظاهرهما بإبهاميه» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : ابْن عجلَان أخرج لَهُ مُسلم، وَبَاقِي إِسْنَاده لَا يسْأَل عَنهُ. وَقد أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة، وَلَفظه عَن ابْن عَبَّاس «رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ ... » فَذكر الحَدِيث وَفِيه «وغرف غرفَة فَمسح رَأسه وباطن أُذُنَيْهِ وظاهرهما، وَأدْخل أصبعيه فيهمَا» .
(2/220)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: قَالَ ابْن مَنْدَه: لَا يعرف مسح الْأُذُنَيْنِ من وَجه يثبت إِلَّا من هَذِه الطَّرِيق.
قلت: فَهَذِهِ الطّرق الصَّحِيحَة (ظَاهِرَة) فِيمَا قصدناه، وَقَالَ ابْن الرّفْعَة فِي «الْمطلب» عقب كَلَام ابْن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ: وَأَنا أَقُول الْخَبَر إِن لم يكن بِهَذَا اللَّفْظ مَذْكُورا فِي كتب الحَدِيث فَفِيهَا مَا ينطبق ظَاهره عَلَى مَعْنَاهُ. ثمَّ سَاق حَدِيث الْمِقْدَام (بن معدي كرب) وَهُوَ الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ الْمُتَقَدّم، وَقد قدمْنَاهُ أَيْضا فِي الحَدِيث الَّذِي قبله أَنه صَحَّ عَنهُ « (أَنه أَخذ لأذنيه مَاء جَدِيدا» .
الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ
رُوِيَ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مسح الرَّقَبَة أَمَان من الغل» .
هَذَا الحَدِيث غَرِيب جدًّا لَا أعلم من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، وَأوردهُ المُصَنّف تبعا للغزالي فِي «وسيطه» فَإِنَّهُ كَذَلِك أوردهُ، وَالْغَزالِيّ تبع فِي إِيرَاده القَاضِي (حُسَيْنًا) ، فَإِنَّهُ كَذَا أوردهُ بعد أَن قَالَ: إِن مسح الْعُنُق لم يرد فِيهِ سنة. وَكَذَا قَالَ (الفوراني) من أَصْحَابنَا: إِنَّه لم يرد فِيهِ
(2/221)
خبر بعد أَن قَالَ: إِنَّه يسْتَحبّ بِمَاء جَدِيد.
وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ حَكَى عَن شَيْخه أَنه كَانَ يَحْكِي وَجْهَيْن فِي أَنه سنة أَو أدب، وَأَنه كَانَ يروي أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «مسح الرَّقَبَة أَمَان من الغل» لكنه كَانَ يَقُول: لم (ترتض) أَئِمَّة الحَدِيث إِسْنَاده، وَإِن سَبَب التَّرَدُّد هَذَا. قَالَ الإِمَام: لست (أرَى) لهَذَا التَّرَدُّد حَاصِلا وَلم يجر مثله فِي غير هَذَا - يَعْنِي: لم يجر للأصحاب تردد فِي حكم مَعَ تَضْعِيف الحَدِيث الَّذِي يدل عَلَيْهِ - فَكَذَا يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا. وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: لم ترد فِيهِ سنة ثَابِتَة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْوَسِيط» : هَذَا الحَدِيث هُوَ غير مَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَهُوَ من قَول بعض السّلف.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا حَدِيث مَوْضُوع لَيْسَ من كَلَام رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَقَالَ فِي «كَلَامه عَلَى الْوَسِيط» : هَذَا حَدِيث (بَاطِل) مَوْضُوع، إِنَّمَا هُوَ من كَلَام بعض السّلف. قَالَ: وَلم يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي مسح الرَّقَبَة شَيْء، وَلَيْسَ هُوَ سنة؛ بل هُوَ بِدعَة، وَلم يذكرهُ الشَّافِعِي وَلَا جُمْهُور الْأَصْحَاب، وَإِنَّمَا قَالَه ابْن الْقَاص وَطَائِفَة يسيرَة، وَهُوَ غلط لقَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فَمن زَاد عَلَى هَذَا فقد أَسَاءَ وظلم» .
قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي «الْمطلب» : الْبَغَوِيّ من أَئِمَّة الحَدِيث، وَقد قَالَ
(2/222)
باستحبابه وَلَا مَأْخَذ لاستحبابه إِلَّا خبر أَو أثر؛ لِأَن هَذَا لَا مجَال للْقِيَاس فِيهِ، وَإِن كَانَ مَا أوردهُ الْغَزالِيّ من الْخَبَر مَوْضُوع، فَهُوَ أثر عَن بعض السّلف كَمَا قَالَ ابْن الصّلاح، وَهَذَا الحَدِيث وَصفه المتقدمون بإنهم ارتضوا إِسْنَاده دون الْوَضع. قَالَ: وَالْأَشْبَه عِنْدِي إِن لم يكن سنة فَهُوَ مُسْتَحبّ، وَصَاحب «التَّتِمَّة» و «التَّهْذِيب» عَلَّلَاهُ بتطويل الْغرَّة. قَالَ: فيقوي الْخَبَر الْمَذْكُور؛ إِذْ الْحِلْية الْمَطْلُوبَة وَالْغسْل لَا يَجْتَمِعَانِ فِي غسل وَاحِد فِي الْقيمَة.
الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من تَوَضَّأ وَمسح عُنُقه وُقِي الغل يَوْم الْقِيَامَة» .
هَذَا الحَدِيث أَيْضا غَرِيب، وَهُوَ مثل الَّذِي قبله، وَعَزاهُ الرَّوْيَانِيّ - من أَصْحَابنَا - إِلَى تصنيف أَحْمد بن فَارس، فَقَالَ: رَأَيْت فِي تصنيف أَحْمد بن فَارس بِإِسْنَادِهِ عَن فليح بن سُلَيْمَان، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من تَوَضَّأ وَمسح بيدَيْهِ عَلَى عُنُقه وقِي الغل يَوْم الْقِيَامَة» . قَالَ الرَّوْيَانِيّ: وَهَذَا صَحِيح - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قلت: وفليح هَذَا أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ، وَتكلم فِيهِ النَّسَائِيّ وَغَيره، وليت الرَّوْيَانِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر لنا بَاقِي إِسْنَاده لنَنْظُر (فِي) حَاله.
(2/223)
وَرَوَاهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي كِتَابه «الطّهُور» من كَلَام مُوسَى بن طَلْحَة فَقَالَ: وَأما مسح الْقَفَا فَإِن عَلّي بن ثَابت وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي حدثانا عَن المَسْعُودِيّ، عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن، عَن مُوسَى بن طَلْحَة قَالَ: «من مسح قَفاهُ مَعَ رَأسه وقِي الغل يَوْم الْقِيَامَة» .
قَالَ: وثنا الْحجَّاج عَن المَسْعُودِيّ عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن أَنه قَالَ مثل ذَلِك، قَالَ حجاج: وَلَا أحفظ عَنهُ مُوسَى بن طَلْحَة.
قلت: وَالظَّاهِر أَن هَذَا لَا يَقُوله إِلَّا عَن تَوْقِيف، وروينا فِي «مُسْند الإِمَام أَحْمد» و «سنَن أبي دَاوُد» و «جَامع التِّرْمِذِيّ» عَن حَدِيث طَلْحَة بن مصرف، عَن أَبِيه، عَن جده «أَنه رَأَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يمسح رَأسه
(2/224)
حَتَّى بلغ القذال وَمَا يَلِيهِ من مقدم الْعُنُق» .
(وَهُوَ) حَدِيث ضَعِيف، فِي إِسْنَاده: لَيْث بن أبي سليم، وَقد صرح الْبَيْهَقِيّ بِضعْف هَذَا الحَدِيث، وَنقل النَّوَوِيّ الِاتِّفَاق عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي فِي آخر الْبَاب فِي أثْنَاء (الخاتمة) الأولَى فِي الطَّرِيق الثَّالِث من حَدِيث عَلّي رفع مسح الْعُنُق إِلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِسَنَد ضَعِيف.
الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ للقيط بن صبرَة: إِذا تَوَضَّأت، فخلل الْأَصَابِع» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي هَذَا الْبَاب، وَهُوَ الحَدِيث (التَّاسِع و) الْعشْرُونَ (مِنْهُ) .
الحَدِيث الْخَمْسُونَ
قَالَ الإِمَام الرَّافِعِيّ: الأحب فِي كَيْفيَّة تَخْلِيل أَصَابِع الرجلَيْن أَن يخلل بخنصر الْيَد الْيُسْرَى من أَسْفَل الْأَصَابِع، مبتدئًا بخنصر أَصَابِع الرجل الْيُمْنَى، مختتمًا بخنصر الْيُسْرَى، (ورد) الْخَبَر بذلك عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
هَذَا كَلَام الرَّافِعِيّ وَهَذِه الْكَيْفِيَّة لَا أعلم من رَوَاهُ فِي حَدِيث وَلَا
(2/225)
أثر، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ قَالَ فِي «نهايته» : صَحَّ فِي السّنة من كَيْفيَّة التَّخْلِيل مَا سنصفه؛ فليقع التَّخْلِيل من أَسْفَل الْأَصَابِع والبداية بالخنصر من الْيَد، وَلم يثبت عِنْدهم فِي تعْيين إِحْدَى الْيَدَيْنِ شَيْء. انْتَهَى.
وَالْمَعْرُوف عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ أَحَادِيث لَيْسَ فِي وَاحِد مِنْهَا هَذِه الْكَيْفِيَّة.
أَحدهَا: عَن الْمُسْتَوْرد بن شَدَّاد رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا تَوَضَّأ يدلك أَصَابِع رجلَيْهِ بِخِنْصرِهِ» .
رَوَاهُ (أَبُو دَاوُد) من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن يزِيد بن عَمْرو الْمعَافِرِي، عَن أبي عبد الرَّحْمَن الحبلي عَنهُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ كَذَلِك إِسْنَادًا ومتنًا، وَكَذَلِكَ أَيْضا ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَفِي رِوَايَة لَهُ «يخلل أَصَابِع رجلَيْهِ بِخِنْصرِهِ» . وَأخرجه أَحْمد بِهَذَا اللَّفْظ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث ابْن لَهِيعَة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : أَنا أَبُو حَازِم [عمر] بن أَحْمد
(2/226)
الْحَافِظ (أَنا أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن [مُحَمَّد بن أَحْمد] الْحَافِظ) ، أَنا أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس الْحَنْظَلِي بِالريِّ، نَا أَحْمد - يَعْنِي: ابْن عبد الرَّحْمَن بن وهب - قَالَ: سَمِعت عمي يَقُول: سَمِعت مَالِكًا سُئِلَ عَن تَخْلِيل أَصَابِع الرجلَيْن فِي الْوضُوء، فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِك عَلَى النَّاس. فتركته حَتَّى خف النَّاس، وَقلت: يَا أَبَا عبد الله سَمِعتك تُفْتِي فِي مَسْأَلَة فِي تَخْلِيل أَصَابِع الرجلَيْن زعمت أَن لَيْسَ ذَلِك عَلَى النَّاس، وَعِنْدنَا فِي ذَلِك سنة! فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقلت: حَدَّثَنَا اللَّيْث بن سعد وَابْن لَهِيعَة وَعَمْرو بن الْحَارِث عَن يزِيد بن [عَمْرو] الْمعَافِرِي، عَن أبي عبد الرَّحْمَن الحبلي، عَن الْمُسْتَوْرد بن شَدَّاد الْقرشِي قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يدلك بِخِنْصرِهِ مَا بَين أَصَابِع رجلَيْهِ» . فَقَالَ: إِن هَذَا الحَدِيث حسن، وَمَا سَمِعت بِهِ قطّ إِلَّا السَّاعَة. ثمَّ سمعته سُئِلَ بعد ذَلِك
(2/227)
فَأمر بتخليل الْأَصَابِع. قَالَ عمي: مَا أقل من يتَوَضَّأ (إِلَّا) ويخطئه الْخط الَّذِي تَحت الْإِبْهَام فِي الرجل، فَإِن النَّاس يثنون إبهامهم عِنْد الْوضُوء، فَمن تفقد ذَلِك فقد سلم.
قلت: فَالْحَدِيث حسن صَحِيح، حَيْثُ لم ينْفَرد ابْن لَهِيعَة (بِهِ) ، وحاول ابْن الْقطَّان تَصْحِيحه، فَوقف (عَن ذَلِك) لفصل أشكل عَلَيْهِ (وَهُوَ سَماع ابْن أبي حَاتِم من أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن وهب؛ فَإِنَّهُ أشكل عَلَيْهِ) هَل سمع أَو رَوَى عَنهُ إجَازَة، فَإِن ابْن الْقطَّان ذكره من طَرِيق أبي دَاوُد، نَا قُتَيْبَة، عَن ابْن لَهِيعَة - كَمَا تقدم - وَضَعفه من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة، ثمَّ قَالَ: فَأَما الْإِسْنَاد الصَّحِيح، فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: أَنا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أخي ابْن وهب ... فَذكر نَحْو مَا ذَكرْنَاهُ. ثمَّ قَالَ: أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن قد وَثَّقَهُ أهل زَمَانه، وَإِنَّمَا يجب أَن يتفقد من أَمر هَذَا الحَدِيث قَول أبي مُحَمَّد بن أبي حَاتِم: «أَنا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن» فَإِنِّي أَظُنهُ - يَعْنِي: بِالْإِجَازَةِ - فَإِنَّهُ (لما) ذكره فِي بَابه قَالَ: إِن أَبَا زرْعَة أدْركهُ وَلم يكْتب عَنهُ، وَأَن أَبَاهُ قَالَ: أَدْرَكته وكتبت عَنهُ. فَظَاهر هَذَا أَنه لم يسمع (مِنْهُ) ، فَإِنَّهُ لم يقل: كتبت عَنهُ مَعَ أبي - كَمَا هِيَ عَادَته.
وَقد استغنينا عَن هَذَا التفقد الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن الْقطَّان بِرِوَايَة الْبَيْهَقِيّ الْمُتَقَدّمَة حَيْثُ قَالَ: «حَدثنِي أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن
(2/228)
بن وهب» .
وَكَذَا أَيْضا رَوَاهُ عَن ابْن أخي ابْن وهب أَبُو بشر أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَمَّاد الدولابي، حدث بِهِ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «غرائب مَالك» عَن أبي جَعْفَر الأسواني عَن الدولابي، نَا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن وهب، ثَنَا عمي ... فَذكر مَعْنَى الْخَبَر والقصة عَن ابْن لَهِيعَة وَاللَّيْث بن سعد، لم يذكر عَمْرو بن الْحَارِث، فَهَذَا أَبُو مُحَمَّد بن أبي حَاتِم وَأَبُو بشر الدولابي كل مِنْهُمَا يَقُول: حَدَّثَنَا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن.
نبَّه عَلَى ذَلِك شَيخنَا (أَبُو الْفَتْح) الْيَعْمرِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «شرح التِّرْمِذِيّ» وَأَخذه من شَيْخه تَقِيّ الدَّين ابْن دَقِيق الْعِيد فَإِنَّهُ ذكره كَذَلِك فِي كتاب «الإِمَام» .
الحَدِيث الثَّانِي: عَن عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه خلل أَصَابِع قَدَمَيْهِ ثَلَاثًا وَقَالَ: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فعل كَمَا فعلت» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» بِإِسْنَاد جيدٍ، وَقد تقدم فِي الحَدِيث
(2/229)
السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ من هَذَا الْبَاب من رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة فِي حَدِيث عُثْمَان تَخْلِيل الرجلَيْن.
الحَدِيث الثَّالِث: عَن الرّبيع بنت معوذ رَضي اللهُ عَنه قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يأتينا ويغشانا فَإِذا حضرت الصَّلَاة وَضعنَا لَهُ إِنَاء، حزرناه يَأْخُذ مدًّا أَو مدًّا وَنصفا، فَيغسل كفيه ثَلَاثًا، (ويتمضمض) ثَلَاثًا، ويستنشق ثَلَاثًا، وَيغسل وَجهه ثَلَاثًا [ثمَّ يغسل يَدَيْهِ ثَلَاثًا] وَيمْسَح رَأسه مرّة، وَيغسل أُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما وغضونهما، وَيغسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا يخلل [بَين] أَصَابِعه» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن النُّعْمَان بن سَالم إِلَّا لَيْث بن أبي سليم، وَلَا عَن لَيْث إِلَّا يزِيد بن إِبْرَاهِيم التسترِي، وَلَا عَن يزِيد إِلَّا الْحجَّاج بن الْمنْهَال الْأنمَاطِي، تفرد بِهِ ابْنه.
الحَدِيث الرَّابِع: عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتَوَضَّأ ويخلل بَين أَصَابِعه ويدلك عَقِبَيْهِ وَيَقُول: خللوا أصابعكم لَا يخلل الله (بَينهَا) بالنَّار ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَفِي إِسْنَاده عمر بن قيس، قَالَ البُخَارِيّ:
(2/230)
مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف.
الحَدِيث الْخَامِس: عَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ واستنثر وخلل أَصَابِعه بأصابعه» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن مَنْدَه الْأَصْبَهَانِيّ، ثَنَا أَبُو كريب، ثَنَا مُعَاوِيَة بن هِشَام، عَن شَيبَان، عَن جَابر، (عَن) عبد الْجَبَّار بِهِ.
فصل: وَقع فِي الحَدِيث الأول من هَذِه الْأَحَادِيث ذكر ابْن لَهِيعَة فلنذكر مقالات أهل الْفَنّ فِيهِ مَجْمُوعَة، هَذَا (ليحال) مَا يَقع بعده عَلَيْهِ فَنَقُول: هُوَ عبد الله بن لَهِيعَة بن عقبَة أَبُو عبد الرَّحْمَن الْحَضْرَمِيّ - وَيُقَال: الغافقي - قَاضِي مصر وعالمها، قَالَ يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان: قَالَ لي بشر بن السّري: لَو رَأَيْت ابْن لَهِيعَة لم تحمل عَنهُ حرفا. وَكَانَ يَحْيَى بن سعيد لَا يرَاهُ شَيْئا. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: أنكر أهل مصر احتراق كتبه وَالسَّمَاع مِنْهُ وَاحِد: الْقَدِيم والْحَدِيث، هُوَ ضَعِيف. قَالَ الفلاس: احترقت كتبه، وَمن كتب عَنهُ قبل ذَلِك كَابْن الْمُبَارك والمقرئ أصح مِمَّن كتب بعد احتراقها، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو
(2/231)
زرْعَة: سَماع الْأَوَائِل (و) الْأَوَاخِر مِنْهُ سَوَاء إِلَّا ابْن الْمُبَارك وَابْن وهب، كَانَا يتبعان أُصُوله وَلَيْسَ [مِمَّن] يحْتَج بِهِ. وَقَالَ (ابْن) بكير: احْتَرَقَ منزل ابْن لَهِيعَة وَكتبه سنة سبعين وَمِائَة. وَقَالَ البُخَارِيّ نَحوه، وَقَالَ السَّعْدِيّ: لَا يَنْبَغِي أَن يحْتَج بروايته وَلَا يعْتد بهَا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ضَعِيفا، وَعِنْده حَدِيث كثير، وَمن سمع مِنْهُ فِي أول أمره أحسن (حَالا) مِمَّن سمع مِنْهُ بِآخِرهِ. وَأما أهل مصر فَيذكرُونَ أَنه لم يخْتَلط وَلم يزل أول أمره وَآخره وَاحِدًا، وَإِنَّمَا كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ من حَدِيثه [فيسكت عَلَيْهِ] فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: وَمَا ذَنبي إِنَّمَا يجيئوني بِكِتَاب يقرءونه ويقومون، وَلَو سَأَلُونِي لأخبرتهم أَنه لَيْسَ من حَدِيثي. وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان: سبرت
(2/232)
أخباره فرأيته يُدَلس عَن أَقوام ضعفاء عَلَى أَقوام ثِقَات قد رَآهُمْ، ثمَّ كَانَ لَا يُبَالِي مَا دفع إِلَيْهِ قَرَأَهُ سَوَاء كَانَ من حَدِيثه أَو لم يكن من حَدِيثه، فَوَجَبَ التنكب عَن رِوَايَة الْمُتَقَدِّمين عَنهُ قبل احتراق كتبه، لما فِيهَا من الْأَخْبَار المدلسة عَن المتروكين، وَوَجَب ترك الِاحْتِجَاج بِرِوَايَة الْمُتَأَخِّرين بعد احتراق كتبه؛ لما فِيهَا مِمَّا لَيْسَ من حَدِيثه.
وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : هُوَ سَاقِط. وَقَالَ مرّة: لَا شَيْء. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: أجمع أَصْحَاب الحَدِيث عَلَى ضعفه وَترك الِاحْتِجَاج بِمَا ينْفَرد بِهِ. وَوَقع ذكره فِي «صَحِيح مُسلم» فِي الْمُتَابَعَة مَقْرُونا بِعَمْرو بن الْحَارِث، وَذكره البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَلم يسمه، فَقَالَ مرّة: عَن حَيْوَة بن شُرَيْح وَفُلَان، وَمرَّة عَن عَمْرو بن الْحَارِث وَرجل آخر (وَقَالَ ابْن وهب: كَانَ صَادِقا) وَقَالَ ابْن عدي: حدث عَنهُ الثِّقَات:
(2/233)
الثَّوْريّ وَشعْبَة وَمَالك وَعَمْرو بن الْحَارِث وَاللَّيْث بن سعد قَالَ: وَأَحَادِيثه حسان، وَمَا قد ضعفه السّلف، وَهُوَ حسن الحَدِيث يكْتب حَدِيثه، وَقد حدث عَنهُ الثِّقَات كَمَا مر، وَحَدِيثه حسن كَأَنَّهُ يستأن عَمَّن رَوَى عَنهُ، وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه. قَالَ السُّهيْلي: وَكَانَ مَالك يحسن القَوْل فِيهِ، وَيُقَال: إِنَّه الَّذِي رَوَى عَنهُ حَدِيث العربان فِي «الْمُوَطَّأ» عَن الثِّقَة عِنْده عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: أنكر ابْن أبي مَرْيَم احتراق كتبه، وَقَالَ: لم يَحْتَرِق لَهُ وَلَا كتاب، إِنَّمَا أَرَادوا أَن (يرفقوا) عَلَيْهِ أَمِير مصر فَأرْسل إِلَيْهِ (خَمْسمِائَة) دِينَار. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَسمعت (أَحْمد) يَقُول: من كَانَ مثل ابْن لَهِيعَة بِمصْر فِي كَثْرَة حَدِيثه وَضَبطه وإتقانه؟ ! وَحدث عَنهُ أَحْمد بِحَدِيث كثير. وَرَوَى الْفضل بن زِيَاد عَن أَحْمد قَالَ: من سمع مِنْهُ قَدِيما فسماعه صَحِيح. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: عِنْد ابْن لَهِيعَة الْأُصُول وَعِنْدنَا الْفُرُوع. وَقَالَ: حججْت حجًّا لألقى ابْن لَهِيعَة. وَقَالَ روح بن صَلَاح: لَقِي ابْن لَهِيعَة اثْنَيْنِ وَسبعين تابعيًّا.
قلت: فتحصلنا فِي أمره عَلَى ثَلَاثَة مَذَاهِب: الْقبُول، وَالرَّدّ، وَالتَّفْصِيل بَين أول أمره وَآخره.
(2/234)
الحَدِيث الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ
عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا تَوَضَّأت فخلل أَصَابِع يَديك ورجليك» .
قَالَ الإِمَام الرَّافِعِيّ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» . وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن (سعيد) ، نَا (سعد) بن عبد الحميد بن جَعْفَر، نَا عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن صَالح مولَى التوءمة، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» كَذَلِك إِسْنَادًا ومتنًا. وَأخرجه أَيْضا الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن [سُلَيْمَان بن دَاوُد الْهَاشِمِي] ، نَا عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، عَن مُوسَى بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّه حَدِيث حسن غَرِيب. (وَقَالَ فِي «علله» : سَأَلت مُحَمَّدًا - يَعْنِي البُخَارِيّ - عَنهُ فَقَالَ: حَدِيث حسن) ومُوسَى بن عقبَة سمع من صَالح مولَى التوءمة قَدِيما،
(2/235)
وَكَانَ (أَحْمد) يَقُول: من سمع من صَالح مولَى التوءمة قَدِيما فسماعه حسن، وَمن سمع مِنْهُ أخيرًا - فَكَأَنَّهُ يضعف سَمَاعه - وَابْن أبي ذِئْب سمع مِنْهُ أخيرًا، ويروي عَنهُ مَنَاكِير. هَذَا آخر كَلَام البُخَارِيّ، وَسَنذكر فِي آخر كتاب الْجَنَائِز أَقْوَال الْأَئِمَّة فِي صَالح هَذَا - إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقدره.
ابْن أبي الزِّنَاد وَثَّقَهُ مَالك، وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيره: لَا يحْتَج بِهِ. وَأخرج هَذَا الحَدِيث أَيْضا الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» مستشهدًا بِهِ، وَقَالَ: صَالح هَذَا أَظُنهُ مولَى التوءمة - قلت: هُوَ قطعا كَمَا تقدم فِي رِوَايَة الْأَوَّلين - فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَيْسَ من شَرط الْكتاب، وَإِنَّمَا أخرجته شَاهدا.
الحَدِيث الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - تَوَضَّأ عَلَى سَبِيل الْمُوَالَاة، وَقَالَ: هَذَا وضوء لَا يقبل الله الصَّلَاة إِلَّا بِهِ» .
أما كَونه (تَوَضَّأ عَلَى سَبِيل الْمُوَالَاة فَصَحِيح ثَابت فِي غير مَا حَدِيث مستفيض، فَكل من وصف وضوءه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام (لم) يصفه إِلَّا متواليًا مُرَتبا.
وَأما أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «هَذَا وضوء لَا يقبل الله الصَّلَاة إِلَّا بِهِ» فَتقدم بَيَانه فِي حَدِيث ابْن عمر وَأبي بن كَعْب السَّابِقين حَيْثُ «تَوَضَّأ مرّة مرّة وَقَالَ: هَذَا وضوء لَا يقبل (الله) الصَّلَاة إِلَّا بِهِ» وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِمَا
(2/236)
وَاضحا فِي الْبَاب، وهما الحَدِيث الثَّلَاثُونَ مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ
«أَن رجلا تَوَضَّأ وَترك لمْعَة فِي عقبه، فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك أمره النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِغسْل ذَلِك الْموضع وَلم يَأْمُرهُ بالاستئناف» .
هَذَا الحَدِيث لَهُ طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رجلا تَوَضَّأ فَترك مَوضِع ظفر عَلَى قدمه فَأَبْصَرَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: ارْجع فَأحْسن وضوءك. فَرجع ثمَّ صَلَّى» رَوَاهُ مُسلم. وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَالْبَزَّار فِي «مسنديهما» «فَرجع فَتَوَضَّأ ثمَّ صَلَّى» .
قَالَ الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث لَا نعلم أحدا أسْندهُ عَن عمر إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَقد رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن عمر مَوْقُوفا.
قلت: فِي الأول ابْن لَهِيعَة، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه من طَرِيق ابْن لَهِيعَة عَن عمر قَالَ: «رَأَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رجلا يتَوَضَّأ فَترك مَوضِع الظفر عَلَى قدمه فَأمره أَن يُعِيد الْوضُوء وَالصَّلَاة» .
وَفِي رِوَايَة للدارقطني «أَن عمر بن الْخطاب رَأَى رجلا وبظهر قدمه لمْعَة لم يصبهَا المَاء قَالَ: فَقَالَ لَهُ عمر: أَبِهَذَا الْوضُوء تحضر الصَّلَاة؟ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، الْبرد شَدِيد وَمَا معي مَا يدفئني. فرق لَهُ
(2/237)
عمر بَعْدَمَا هم بِهِ، قَالَ: فَقَالَ (لَهُ) : اغسل مَا قد تركت من قدمك وَأعد الصَّلَاة. وَأمر لَهُ بخميصة» .
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أنس بن مَالك رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد تَوَضَّأ وَترك عَلَى (ظهر) قدمه مثل الظفر فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ارْجع فَأحْسن وضوءك» .
رَوَاهُ الْأَئِمَّة (أَحْمد) وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَابْن خُزَيْمَة، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: تفرد بِهِ جرير بن حَازِم، عَن قَتَادَة، عَن أنس وَهُوَ ثِقَة.
وَالْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» وَقَالَ: رُوَاته كلهم ثِقَات مجمع عَلَى عدالتهم. قَالَ: وَشَاهده مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن بَقِيَّة، عَن بحير - يَعْنِي: بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَآخره رَاء مُهْملَة، وَهُوَ ابْن سعد - (عَن) خَالِد بن معدان، عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -
(2/238)
رَأَى رجلا يُصَلِّي وَفِي ظهر قدمه لمْعَة قدر الدِّرْهَم لم يصبهَا المَاء، فَأمره رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُعِيد الْوضُوء وَالصَّلَاة» . (قَالَ) : وَهَذَا مُنْقَطع. وَقَالَ فِي «سنَنه» : مُرْسل. قَالَ: وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: «ارْجع فَأحْسن وضوءك» يُرِيد بِهِ - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - غسل مَا لم يصبهُ المَاء.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : يُرِيد الْبَيْهَقِيّ بقوله: «هُوَ مُرْسل» لعدم ذكر (الصَّحَابِيّ) الرَّاوِي، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَجْعَل الحَدِيث فِي حكم الْمُرْسل الْمَرْدُود عِنْد أهل الحَدِيث؛ فَإِن سَمَّاهُ مُرْسلا مَعَ أَن حكمه حكم الْمَوْصُول فَلَا يضر الْمُسْتَدلّ بِهِ.
وَكَذَا حكم عَلَيْهِ بِالْإِرْسَال ابْن الْقطَّان وَعَابَ عَلَى عبد الْحق حَيْثُ عقبه بِبَقِيَّة دونه.
وَقَالَ الْأَثْرَم: قلت لَهُ - يَعْنِي: أَحْمد - هَذَا إِسْنَاد جيد؟ قَالَ: نعم. قلت لأبي عبد الله: إِذا قَالَ رجل من التَّابِعين: حَدثنِي رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلم يسمه؛ فَالْحَدِيث صَحِيح؟ قَالَ: نعم. وَفِي هَذِه الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا الْأَثْرَم عَن أبي عبد الله تَعْلِيقا «أَن رجلا تَوَضَّأ وَترك موضعا من جسده ... » .
(2/239)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: وَقَالَ شَيخنَا - يَعْنِي: الشَّيْخ زكي الدَّين -: فِي إِسْنَاده بَقِيَّة، وَفِيه مقَال. قَالَ الشَّيْخ: قلت: فِي «الْمُسْتَدْرك» من طَرِيق بَقِيَّة «نَا بحير» فعلَى هَذَا سلم من تُهْمَة التَّدْلِيس من بَقِيَّة فِي رِوَايَته عَن بحير. انْتَهَى كَلَام الشَّيْخ.
وَقَوله: قلت فِي «الْمُسْتَدْرك» . لَعَلَّه وهم من النَّاسِخ، فَإِن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ لَهُ ذكر فِيهِ وَإِنَّمَا صَوَابه فِي «الْمسند» - يَعْنِي لِأَحْمَد بن حَنْبَل - فَإِنَّهُ أخرجه كَذَلِك فِيهِ، وَفِيه: «عَن بعض أَزوَاج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» بدل: «أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» وَقد وَقع عَلَى الصَّوَاب فِي «الْإِلْمَام» للشَّيْخ، فَتبين أَن الْمَذْكُور غلط من النَّاسِخ، وَقد تبع الشَّيْخ فِي هَذَا الْغَلَط إمامان من جلة شُيُوخنَا الْحفاظ، فإياك والتقليد.
وأعل ابْن حزم حَدِيث بَقِيَّة هَذَا، فَقَالَ فِي «محلاه» : خبر لَا يَصح؛ لِأَن رَاوِيه بَقِيَّة، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَفِي السَّنَد من لَا يُدرى من هُوَ. وَقد تقدم لَك الْجَواب عَن ذَلِك، وَأَن جَهَالَة الصَّحَابِيّ لَا تضر،
(2/240)
(كَيفَ) وَهُوَ يَقُول فِي «محلاه» فِي كتاب الصَّلَاة فِي مَسْأَلَة وَمَا (عمله) الْمَرْء فِي صلَاته: كل نسَاء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثِقَات فواضل عِنْد الله مقدسات بِيَقِين. وَقد علمت أَن أَحْمد رَوَاهُ عَن بعض أَزوَاج رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وأجمل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» القَوْل فِي تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: إِنَّه حَدِيث ضَعِيف الْإِسْنَاد. وَقد علمت حَاله، وَلِلْحَدِيثِ الَّذِي ذكره المُصَنّف - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ آخرَانِ:
أَحدهمَا: عَن الْمُغيرَة بن سِقلاب - بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة - عَن الْوَازِع بن نَافِع، عَن سَالم، عَن ابْن عمر، عَن أبي بكر وَعمر رَضي اللهُ عَنهما قَالَا: «جَاءَ رجل وَقد تَوَضَّأ وَبَقِي عَلَى ظهر قَدَمَيْهِ مثل ظفر إبهامه فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ارْجع فَأَتمَّ وضوءك فَفعل» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَقَالَ: الْوَازِع ضَعِيف. وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي «أَوسط معاجمه» لَكِن من رِوَايَة أبي بكر وَحده، ثمَّ قَالَ: لَا يرْوَى عَن أبي بكر إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد (وَإِن ابْن السقلاب تفرد بِهِ) . وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابِعه عَلَيْهِ إِلَّا من هُوَ مثله. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث بَاطِل بِهَذَا الْإِسْنَاد، والوازع بن نَافِع ضَعِيف الحَدِيث.
(2/241)
الطَّرِيق (الثَّانِي) : عَن أبي المتَوَكل عَلّي بن دَاوُد - وَيُقَال: ابْن دؤاد - قَالَ: «تَوَضَّأ عمر وَبَقِي عَلَى ظهر رجله لمْعَة لم يصبهَا المَاء فَأمره رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُعِيد الْوضُوء» .
رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» عَن أَبِيه، عَن قراد (أبي) نوح، عَن شُعْبَة، عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن أبي المتَوَكل ثمَّ قَالَ: قَالَ أبي: أَبُو المتَوَكل لم يسمع من عمر، وَإِسْمَاعِيل هَذَا لَيْسَ بِهِ بَأْس.
فَائِدَة: «اللمْعَة» المتكررة فِي هَذِه الْأَحَادِيث هِيَ - بِضَم اللَّام - وَهِي الْجُزْء.
الحَدِيث الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ
(رَوَى) أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «أَنا لَا أستعين فِي وضوئي بِأحد. قَالَه لعمر رَضي اللهُ عَنهُ وَقد بَادر ليصب المَاء عَلَى يَدَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث لم يُخرجهُ (أحد من أَصْحَاب الْكتب الْمُعْتَمدَة، وَذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي كتاب «الأمالي الشارحة لمفردات الْفَاتِحَة» فَقَالَ فِي الْمجْلس السَّادِس: قَرَأت عَلَى عَلّي بن عبيد الله، أَنا مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الزَّعْفَرَانِي - إجَازَة - أَنا القَاضِي أَبُو عَلّي الْحسن بن عَلّي الصفار، ثَنَا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن جَعْفَر الْجِرْجَانِيّ، ثَنَا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد
(2/242)
الجلاد بتنيس، وَمُسلم بن الْفضل الْآدَمِيّ بِمصْر قَالَا: نَا مُحَمَّد بن عُثْمَان، ثَنَا عبد الله بن عمر بن أبان، ثَنَا النَّضر بن مَنْصُور الْفَزارِيّ، نَا عقبَة بن عَلْقَمَة - وَهُوَ أَبُو الْجنُوب - قَالَ: «رَأَيْت عليًّا رَضي اللهُ عَنهُ يَسْتَقِي مَاء لوضوئه، فبادرت أستقي لَهُ فَقَالَ: مَه! إِنِّي رَأَيْت عمر بن الْخطاب يَسْتَقِي مَاء لوضوئه فبادرت أستقي لَهُ فَقَالَ: مَه يَا أَبَا الْحُسَيْن! إِنِّي رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَسْتَقِي مَاء لوضوئه من مَاء زَمْزَم فِي ركوة فبادرت أستقي لَهُ فَقَالَ: مَه يَا عمر! فَإِنِّي أُرِيد أَلا يُعِيننِي عَلَى صَلَاتي أحد ... » وَذكره أَيْضا بِهَذِهِ السِّيَاقَة من حَدِيث النَّضر بن مَنْصُور الشيخُ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» ثمَّ قَالَ: رَوَاهُ أَبُو عَلّي الْحسن بن [عَلّي بن شبيب] المعمري وَاللَّفْظ لروايته فِي كتاب الطَّهَارَة من «السّنَن» قَالَ: وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَزَّار من حَدِيث النَّضر بن مَنْصُور - أَيْضا - عَن أبي الْجنُوب قَالَ: «رَأَيْت عليًّا رَضي اللهُ عَنهُ يَسْتَقِي مَاء لوضوئه فَأَرَدْت أَن أعينه عَلَيْهِ فَقَالَ: إِن عمر بن الْخطاب رَضي اللهُ عَنهُ استقى مَاء لوضوئه فَقلت: أَلا أعينك عَلَيْهِ؟ قَالَ لَهُ: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَسْتَقِي مَاء لوضوئه، فَأَرَدْت أَن أعينه عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي لَا أحب أَن يُعِيننِي عَلَى وضوئي أحد» رَوَاهُ عبد الله بن سعيد الْكِنْدِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى النَّضر، وقَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ يرْوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَأَبُو الْجنُوب لَا نعلم حدث عَنهُ إِلَّا النَّضر بن مَنْصُور، وَالنضْر قد حدث عَنهُ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة. وَرَوَاهُ
(2/243)
ابْن عدي أَيْضا من حَدِيث أبي هِشَام الرِّفَاعِي، عَن النَّضر، عَن أبي الْجنُوب عقبَة بن عَلْقَمَة قَالَ: «رَأَيْت عليًّا يَسْتَقِي مَاء لوضوئه فبادرته استقي لَهُ فَقَالَ: مَه يَا أَبَا الْجنُوب! فَإِنِّي سَمِعت عمر يَقُول: رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَسْتَقِي مَاء لوضوئه فبادرته أستقي لَهُ فَقَالَ: مَه يَا عمر! فَإِنِّي أكره أَن يشركني فِي (طهوري) أحد» ثمَّ رَوَى ابْن عدي، عَن مُحَمَّد بن عَلّي، عَن عُثْمَان بن سعيد قلت ليحيى بن معِين: النَّضر بن مَنْصُور تعرفه، رَوَى عَنهُ ابْن أبي معشر، عَن أبي الْجنُوب، عَن عَلّي من هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ حمالَة الْحَطب. وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَن رُوَاته النَّضر بن مَنْصُور عَن أبي الْجنُوب عَن عَلّي، وهما غير حجَّة فِي الدَّين، وَلَا يعْتد بنقلهما.
قلت: وَالنضْر بن مَنْصُور ضَعِيف جدًّا، قَالَ البُخَارِيّ فِيهِ: إِنَّه مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ فِيهِ الرَّازِيّ: مَجْهُول يروي أَحَادِيث مُنكرَة. وَقَالَ فِيهِ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يحْتَج بِهِ وَلَا يعْتَبر بحَديثه. وَأَنا أتعجب من الشَّيْخ زكي الدَّين - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَيفَ سَاق هَذَا الحَدِيث فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» ساكتًا عَنهُ وحاله مَا ذكرت، وَقد خرج غير وَاحِد من الْأَئِمَّة تَضْعِيفه! قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل بن طَاهِر الْمَقْدِسِي فِي «التَّذْكِرَة فِي الْأَحَادِيث المعلولة» : النَّضر بن مَنْصُور هَذَا الَّذِي لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «الْإِعْلَام فِي
(2/244)
نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه» : هَذَا حَدِيث لَيْسَ بِقَوي. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» : هَذَا لم أجد لَهُ أصلا وَلَا وجدت لَهُ ذكرا فِي شَيْء من كتب الحَدِيث الْمُعْتَمدَة قَالَ: وَلَو ثَبت فَهُوَ غير مُنَاقض للأحاديث الصَّحِيحَة المثبتة لاستعانته (فِي وضوئِهِ، وسبيل الْجمع بَينهمَا أَن يحمل تِلْكَ عَلَى بَيَان الْجَوَاز وَيحْتَمل هَذَا عَلَى سَبِيل الِاسْتِحْبَاب. قَالَ) الشَّيْخ أَبُو حَامِد مَعْنَى «أَنا لَا أستعين» لَا أستحب.
وَقَالَ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «شرح الْمُهَذّب» : فَهَذَا حَدِيث بَاطِل لَا أصل لَهُ.
فَإِن قلت: قد ورد فِي (هَذَا) الْبَاب حَدِيث قريب من هَذَا، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي جَمْرَة - بِالْجِيم وَالرَّاء الْمُهْملَة - عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَا يكل طهوره إِلَى أحد، وَلَا صدقته الَّتِي يتَصَدَّق بهَا حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي يتولاها بِنَفسِهِ» .
قلت: هُوَ أَيْضا حَدِيث ضَعِيف؛ لِأَن فِي إِسْنَاده: مطهر - بِضَم الْمِيم وبالطاء (الْمُهْملَة) وَالْهَاء - بن الْهَيْثَم، قَالَ ابْن حبَان: يَأْتِي
(2/245)
عَن مُوسَى بن عَلّي بِمَا لَا يُتَابع عَلَيْهِ، وَعَن غَيره من الثِّقَات بِمَا لَا يشبه حَدِيث الْأَثْبَات. وَقَالَ أَبُو سعيد بن يُونُس: هُوَ مَتْرُوك الحَدِيث نقلهما ابْن الْجَوْزِيّ فِي «الضُّعَفَاء» ثمَّ الشَّيْخ فِي «الإِمَام» .
وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي «الْحَاوِي الْكَبِير» للماوردي عَلَى نمط آخر؛ فَإِنَّهُ قَالَ: «رُوِيَ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضي اللهُ عَنهُ هم بصب المَاء عَلَى يَد رَسُول الله فَقَالَ: لَا أحب أَن يشاركني فِي وضوئي أحد» وَالَّذِي فِي الرَّافِعِيّ وَغَيره كَمَا سلف أَنه وَقع ذَلِك لعمر؛ فلتطلب هَذِه الرِّوَايَة.
الحَدِيث الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتَعَانَ بأسامة فِي صب المَاء عَلَى يَدَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنهُ «أَنه صب عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي وضوئِهِ فِي حجَّة الْوَدَاع بعد دَفعه من عَرَفَة بَينهَا وَبَين الْمزْدَلِفَة» .
وَهَذَا لفظ مُسلم: عَن أُسَامَة بن زيد «أَنه كَانَ رَدِيف رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حِين أَفَاضَ من عَرَفَة، فَلَمَّا جَاءَ الشّعب أَنَاخَ رَاحِلَته ثمَّ (ذهب) إِلَى الْغَائِط، فَلَمَّا رَجَعَ صببت عَلَيْهِ من الْإِدَاوَة (فَتَوَضَّأ) ثمَّ ركب حَتَّى أَتَى
(2/246)
الْمزْدَلِفَة فَجمع بهَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء» .
وَلَفظ البُخَارِيّ: عَن أُسَامَة بن زيد: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لما أَفَاضَ من عَرَفَة عدل إِلَى الشّعب فَقَضَى حَاجته، قَالَ أُسَامَة: فَجعلت أصب عَلَيْهِ وَيتَوَضَّأ فَقلت: يَا رَسُول الله، أَتُصَلِّي؟ قَالَ: المصلىأمامك» .
الحَدِيث السَّادِس وَالْخَمْسُونَ
«أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتَعَانَ بِالربيعِ بنت معوذ فِي صب المَاء عَلَى يَدَيْهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» عَن زَكَرِيَّا بن عدي، ثَنَا عبيد الله بن [عَمْرو] ، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن الرّبيع بنت معوذ بن عفراء قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يأتينا فِي منزلنا، فآخذ ميضأة لنا تكون مدًّا وَثلث مد - (أَو ربع) - فأسكب عَلَيْهِ فيتوضأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى، ثَنَا الْهَيْثَم بن جميل، نَا شريك، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن الرّبيع بنت معوذ قَالَت: «أتيت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بميضأة، فَقَالَ: اسكبي. فَسَكَبت فَغسل وَجهه وذراعيه، وَأخذ مَاء جَدِيدا فَمسح (بِهِ) رَأسه، مقدمه ومؤخره، وَغسل قَدَمَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» .
(2/247)
قد تقدم الْكَلَام فِي ابْن عقيل قَرِيبا فِي الْبَاب.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَرَوَاهُ أَبُو مُسلم الْكشِّي عَن [أبي] عمر، عَن بشر بن الْمفضل، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن الرّبيع بنت معوذ بن عفراء قَالَت: «صببت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتَوَضَّأ وَقَالَ لي: اسكبي عليّ» . وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح وَالشَّيْخ زكي الدَّين فِي «كَلَامهمَا عَلَى الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ.
قلت: أما أَبُو دَاوُد فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهَا أحضرت لَهُ المَاء، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا صبَّتْ عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظ أبي دَاوُد عَن الرّبيع قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يأتينا ... » فحدثتنا أَنه قَالَ: اسكبي لي وضُوءًا ... .» فَذكر وضوء رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِيهِ: «فَغسل كفيه ثَلَاثًا ... » إِلَى آخِره، فَلَا يحسن مِنْهُ أَن يُورِدهُ عقب قَول صَاحب «الْمُهَذّب» : إِن الرّبيع صبته عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
وَأما (التِّرْمِذِيّ) فَلم يُخرجهُ بِالْكُلِّيَّةِ، ذَاك حَدِيث آخر أخرجه التِّرْمِذِيّ عَنْهَا «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مسح بِرَأْسِهِ مرَّتَيْنِ بَدَأَ بمؤخر رَأسه ثمَّ بمقدمه، وبأذنيه (كلتاهما) ظهورهما وبطونهما» .
وَالْعجب من الشَّيْخ زكي الدَّين - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَمر آخر وَرَاء هَذَا
(2/248)
وَهُوَ أَنه لما أخرج هَذَا الحَدِيث فِي «تَخْرِيج أَحَادِيث الْمُهَذّب» قَالَ فِي أول كَلَامه: هَذَا حَدِيث حسن. ثمَّ قَالَ فِي آخِره: وَعبد الله بن عقيل ضَعِيف. فَكيف يكون الحَدِيث حسنا ومداره عَلَى ضَعِيف كَمَا يزْعم! وَقد قدمنَا فِي الْبَاب اخْتِلَاف أهل (هَذَا) الْفَنّ فِي تَضْعِيفه وتوثيقه، وَأَن التِّرْمِذِيّ تَارَة يحسن حَدِيثه وَتارَة يُصَحِّحهُ، فَهَذَا الحَدِيث عَلَى رَأْيه إِمَّا حسن وَإِمَّا صَحِيح، وَقد (صرح) بِأَنَّهُ حسن الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» .
الحَدِيث السَّابِع وَالْخَمْسُونَ
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اسْتَعَانَ بالمغيرة بن شُعْبَة لمَكَان جُبَّة ضيقَة الكمين كَانَ قد لبسهَا، فعسر عَلَيْهِ الإسباغ مُنْفَردا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من طرق عَن الْمُغيرَة مِنْهَا رِوَايَة مَسْرُوق بن الأجدع الْهَمدَانِي، عَن الْمُغيرَة قَالَ: «كنت مَعَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي سفر فَقَالَ يَا مُغيرَة: خُذ الْإِدَاوَة. فأخذتها ثمَّ خرجت مَعَه فَانْطَلق رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَتَّى توارى عني حَتَّى قَضَى حَاجته، ثمَّ جَاءَ وَعَلِيهِ جُبَّة شامية ضيقَة الكمين، فَذهب يخرج يَده من كمها [فضاقت] فَأخْرج يَده من أَسْفَلهَا، فَصَبَبْت عَلَيْهِ فَتَوَضَّأ
(2/249)
(وضوءه للصَّلَاة) ثمَّ مسح عَلَى خفيه ثمَّ صَلَّى» اللَّفْظ لمُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ نَحوه. وَفِي رِوَايَة لَهما: «جُبَّة من صوف» . وَفِي رِوَايَة للطبراني فِي «أكبر معاجمه» «جُبَّة رُومِية» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «شامية أَو رُومِية» .
وَاعْلَم أَن السَّبَب الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ فِي الِاسْتِعَانَة تبع فِيهِ الْغَزالِيّ فِي «وسيطه» وَهُوَ تبع إِمَامه. قَالَ ابْن الصّلاح: فِي بعض طرق حَدِيث الْمُغيرَة. وَذكر السَّبَب الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ فِي الِاسْتِعَانَة (مشْعر بوجودها) مِنْهُ (لَا لضيق الكمين نَفسه فَحسب؛ فَإِنَّهُ اسْتَعَانَ فِي غسل وَجهه بِهِ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى غسل يَدَيْهِ (ضَاقَتْ كماه) فَلم يسْتَطع أَن يخرج يَدَيْهِ مِنْهُمَا فأخرجهما من أَسْفَل الْجُبَّة (وغسلهما) .
فَائِدَة: الْمُغيرَة - بِضَم الْمِيم وَكسرهَا - (حَكَاهُمَا) ابْن السّكيت وَغَيره، وَالضَّم أشهر، كنيته أَبُو عِيسَى، أحد دهاة الْعَرَب الْأَرْبَعَة، أسلم عَام الخَنْدَق، وَتُوفِّي سنة خمسين، وَمن طرف أخباره (أَنه حَكَى) أَنه أحصن فِي الْإِسْلَام ثَلَاثمِائَة امْرَأَة، وَقيل: ألف امْرَأَة.
(2/250)
فَائِدَة أُخْرَى: أَشَارَ الإِمَام الرَّافِعِيّ إِلَى أَن سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قد اسْتَعَانَ أَحْيَانًا أخر؛ فَإِنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِ السَّلَام اسْتَعَانَ أَحْيَانًا مِنْهَا عَن أُسَامَة وَالربيع والمغيرة.
وَقد رُوِيَ أَنه اسْتَعَانَ فِي مَرَّات أخر، فَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» من حَدِيث (حُذَيْفَة) ابْن أبي حُذَيْفَة عَن صَفْوَان بن عَسَّال رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «صببت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -[المَاء] فِي الْحَضَر وَالسّفر فِي الْوضُوء» .
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» فِي تَرْجَمَة (حُذَيْفَة) بن أبي حُذَيْفَة وَأَشَارَ إِلَى تَضْعِيفه فَقَالَ: وَلم يذكر حُذَيْفَة سَمَاعا [من صَفْوَان] .
وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» أَيْضا عَن أم عَيَّاش - بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة تَحت وبالشين الْمُعْجَمَة - رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كنت أوضئ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنا قَائِمَة وَهُوَ قَاعد» .
فِي إِسْنَاده عبد الْكَرِيم بن روح الْبَصْرِيّ قَالَ الرَّازِيّ: مَجْهُول. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف.
وَعَن عمَارَة بن خُزَيْمَة بن ثَابت، عَن رجل من قيس قَالَ: «صببت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتَوَضَّأ» .
(2/251)
وَعَن أُمَيْمَة مولاة رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَت: «كنت أوضئ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أفرغ عَلَى يَده المَاء» .
وَعَن عُلَي - بِضَم الْعين وَفتح اللَّام عَلَى الْمَشْهُور - بن رَبَاح - بِالْبَاء الْمُوَحدَة - عَن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «صببت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَتَوَضَّأ ثمَّ قَالَ: يَا عَمْرو، لعَلي أَبْعَثك عَلَى جَيش فيسلمك الله وأزعب لَك فِيهِ زعبة من المَال. قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي لم أسلم رَغْبَة فِي المَال. قَالَ: نعما بِالْمَالِ الصَّالح للرجل الصَّالح» .
ذكر هَذِه الْأَحَادِيث الثَّلَاث الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» قَالَ: وأزعب - بالزاي الْمُعْجَمَة الساكنة وَبعدهَا عين مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ بَاء - قَالَ الْفَارِسِي: قَالَ الْأَصْمَعِي: مَعْنَاهُ أُعْطِيك دفْعَة من المَال.
الحَدِيث الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ
وَهُوَ يجمع ثَلَاثَة أَحَادِيث؛ فَإِن الإِمَام الرَّافِعِيّ قَالَ: هَل يسْتَحبّ ترك تنشيف الْأَعْضَاء؟ (فِيهِ) وَجْهَان.
أظهرهمَا: نعم؛ لما رُوي عَن أنس رَضي اللهُ عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ لَا ينشف أعضاءه» . وَعَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يصبح جنبا، فيغتسل ثمَّ يخرج إِلَى الصَّلَاة وَرَأسه يقطر مَاء» .
وَالثَّانِي: لَا يسْتَحبّ ذَاك، وَعَلَى هَذَا اخْتلفُوا؛ فَمنهمْ من قَالَ: لَا يسْتَحبّ التنشيف أَيْضا، وَقد رُوِيَ من فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - التنشيف
(2/252)
(وَتَركه، وكل) حسن وَلَا تَرْجِيح. وَمِنْهُم من قَالَ: يسْتَحبّ التنشيف؛ لما فِيهِ من الِاحْتِرَاز عَن التصاق الْغُبَار، فَإِذا فرعنا عَلَى الْأَظْهر - وَهُوَ اسْتِحْبَاب التّرْك - فَهَل نقُول التنشيف مَكْرُوه أم لَا؟ فِيهِ ثَلَاثَة أوجه:
أظهرها: لَا؛ لِأَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - «اغْتسل فَأتي بملحفة ورسية فالتحف بهَا حَتَّى رئي أثر الورس عَلَى عكنه» وَلَو كَانَ مَكْرُوها مَا فعل.
وَالثَّانِي: نعم؛ لِأَنَّهُ إِزَالَة لأثر الْعِبَادَة فَأشبه إِزَالَة الخلوف للصَّائِم.
وَالثَّالِث: حُكِيَ عَن القَاضِي حُسَيْن: أَنه إِن كَانَ فِي الصَّيف كره، وَإِن كَانَ فِي الشتَاء لم يكره لعذر الْبرد.
هَذَا آخر كَلَام الرَّافِعِيّ، وَهُوَ يشْتَمل عَلَى ثَلَاثَة أَحَادِيث.
الأول: حَدِيث أنس رَضي اللهُ عَنهُ وَهُوَ حَدِيث غير مَشْهُور فِي كتب الْأُصُول حَتَّى إِن بَعضهم أَشَارَ إِلَى الْإِنْكَار عَلَى الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي رِوَايَته لَهُ، وَقد رَوَاهُ (الْحَافِظ) أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «الْإِعْلَام بناسخ الحَدِيث ومنسوخه» عَن مُحَمَّد بن نَاصِر، نَا أَبُو مَنْصُور بن عبد الرَّزَّاق، ثَنَا أَبُو بكر بن الْأَخْضَر، أَنا ابْن شاهين، نَا أَحْمد بن (سُلَيْمَان) ، نَا مُحَمَّد بن عبد الله بن سُلَيْمَان، نَا عقبَة بن مكرم، نَا يُونُس بن بكير، عَن سعيد بن ميسرَة، عَن أنس رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يكن يمسح وَجهه بالمنديل بعد الْوضُوء، وَلَا أَبُو بكر وَلَا عمر وَلَا عَلّي و [لَا]
(2/253)
ابْن مَسْعُود» .
وَرَأَيْت بعد ذَلِك فِي «النَّاسِخ والمنسوخ» لِابْنِ شاهين بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور وَهُوَ قد أَخذه مِنْهُ.
قلت: (قد) رُوِيَ عَن أنس بن مَالك مَا يُخَالف هَذَا. قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَمِعت أبي ذكر حَدِيثا رَوَاهُ عبد الْوَارِث، عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، عَن أنس رَضي اللهُ عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَت لَهُ خرقَة (يمسح) بهَا» فَقَالَ: رَأَيْت فِي بعض الرِّوَايَات عَن عبد الْعَزِيز «أَنه كَانَ لأنس بن مَالك خرقَة» وَالْمَوْقُوف أشبه، وَلَا يحْتَمل أَن يكون مُسْندًا.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : عبد الْوَارِث وَعبد الْعَزِيز من الثِّقَات عِنْدهم، فَإِذا صَحَّ الطَّرِيق إِلَى عبد الْوَارِث فلقائل أَن يحكم بِصِحَّتِهِ وَلَا يعلله (بِتِلْكَ) الرِّوَايَة الْمَوْقُوفَة. وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» فَإِنَّهُ لما ذكر حَدِيث عَائِشَة الضَّعِيف «كَانَت لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خرقَة ينشف بهَا بعد الْوضُوء» قَالَ: فِي إِسْنَاده أَبُو معَاذ الْفضل بن ميسرَة رَوَى عَنهُ يَحْيَى بن سعيد وَأَثْنَى عَلَيْهِ، قَالَ: وَقد رُوي عَن
(2/254)
أنس بن مَالك وَغَيره، وَلم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ.
قلت: لَكِن قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» : لَا يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - شَيْء فِي هَذَا الْبَاب - يَعْنِي أَنه تنشف بعد وضوء - قَالَ: وَرخّص قوم من أهل الْعلم من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَمن (بعدهمْ) فِي التمندل بعد الْوضُوء، وَمن كرهه إِنَّمَا كرهه من قبل أَن الْوضُوء يُوزن. قَالَ الزُّهْرِيّ: إِنَّمَا كره المنديل بعد الْوضُوء؛ لِأَن الْوضُوء يُوزن.
وَأما الحَدِيث الثَّانِي: وَهُوَ حَدِيث عَائِشَة فَغَرِيب (جدًّا) لَا أعلم من رَوَاهُ عَنْهَا بعد الْبَحْث التَّام عَنهُ.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث مَيْمُونَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «ناولت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بعد اغتساله ثوبا فَلم يَأْخُذهُ وَانْطَلق وَهُوَ ينفض يَدَيْهِ» هَذَا لفظ البُخَارِيّ، وَلَفظ مُسلم «أتيت بالمنديل فَلم يمسهُ وَجعل يَقُول بِالْمَاءِ هَكَذَا - يَعْنِي ينفضه» .
وَأما الحَدِيث الثَّالِث: فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي هَذَا الْبَاب عَن عَلّي بن مُحَمَّد، ثَنَا وَكِيع، ثَنَا ابْن أبي لَيْلَى، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن (أسعد) بن زُرَارَة، عَن مُحَمَّد بن شُرَحْبِيل، عَن قيس بن سعد
(2/255)
قَالَ: «أَتَانَا النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَوَضَعْنَا لَهُ مَاء فاغتسل، ثمَّ أتيناه بملحفة ورسية فَاشْتَمَلَ بهَا، فَكَأَنِّي أنظر إِلَى أثر الورث عَلَى عكنه» .
(رَوَاهُ) ابْن مَاجَه أَيْضا فِي اللبَاس بالسند الْمَذْكُور وَاللَّفْظ، إِلَّا أَنه قَالَ: «فَوَضَعْنَا لَهُ مَاء يتبرد بِهِ فاغتسل، ثمَّ أَتَيْته بملحفة صفراء فَرَأَيْت أثر الورس عَلَى عكنه» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن الْمثنى و (هِشَام بن عمار) الْمَعْنى، قَالَ مُحَمَّد: نَا الْوَلِيد بن مُسلم، أَنا الْأَوْزَاعِيّ، سَمِعت يَحْيَى بن أبي كثير يَقُول: حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أسعد بن زُرَارَة، عَن قيس بن سعد قَالَ: «زارنا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي منزلنا فقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله. قَالَ: فَرد سعد ردًّا خفيًّا. قَالَ قيس: فَقلت: أَلا تَأذن لرَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -؟ فَقَالَ: ذره يكثر علينا من السَّلَام. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله. فَرد سعد ردًّا خفيًّا، ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله. ثمَّ رَجَعَ رَسُول الله، وَأتبعهُ سعد فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي كنت أسمع تسليمك وأرد عَلَيْك ردًّا خفيًّا لتكثر علينا من السَّلَام. قَالَ: فَانْصَرف مَعَه رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَأمر لَهُ سعد بِغسْل فاغتسل، ثمَّ نَاوَلَهُ ملحفة مصبوغة بزعفران أَو ورس فَاشْتَمَلَ بهَا، ثمَّ رفع رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ (اجْعَل) صلواتك ورحمتك عَلَى
(2/256)
آل سعد بن عبَادَة قَالَ: ثمَّ أصَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الطَّعَام، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَاف قرب لَهُ سعد حمارا قد وطأ عَلَيْهِ بقطيفة، فَركب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ سعد: يَا قيس، اصحب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قَالَ قيس: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: اركب. فأبيت، ثمَّ قَالَ: إِمَّا أَن تركب وَإِمَّا أَن تَنْصَرِف. (فَانْصَرَفت) » .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» كَذَلِك سَوَاء إِلَّا أَنه قَالَ: «ثمَّ نَاوَلَهُ - أَو ناولته الْمَرْأَة - ملحفة مصبوغة بورس وزعفران» من غير تردد وَلَا شكّ، وَكَذَا هُوَ فِي «مُسْند الإِمَام أَحْمد» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: (رَوَاهُ) عمر بن عبد الْوَاحِد وَابْن سَمَّاعَة، عَن الْأَوْزَاعِيّ [مُرْسلا] لم (يذكرَا) قيس بن سعد. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي كِتَابه «عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة» مُتَّصِلا ومرسلاً.
قَالَ الْحَازِمِي: هَذَا الحَدِيث مُخْتَلف فِي سَنَده: رَوَاهُ وَكِيع، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أسعد بن زُرَارَة، عَن مُحَمَّد بن شُرَحْبِيل، عَن قيس بن سعد. وَرَوَاهُ عَلّي بن هَاشم بن الْبَرِيد، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن سعد بن زُرَارَة، عَن قيس بن سعد لم يذكر ابْن شُرَحْبِيل بَينهمَا.
(2/257)
وَسَيَأْتِي اخْتِلَاف آخر أَيْضا فِي إِسْنَاده، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن الصّلاح: إِن إِسْنَاده مُخْتَلف وَتَابعه النَّوَوِيّ عَلَى ذَلِك وَزَاد: وَأَنه ضَعِيف. وَجزم فِي «الْخُلَاصَة» (بضعفه) وحاشاه من ضعف الْإِسْنَاد؛ فأسانيده إِمَّا حَسَنَة وَإِمَّا صَحِيحَة، أما إِسْنَاد ابْن مَاجَه فَحسن لَيْسَ فِيهِ من تكلم فِيهِ إِلَّا ابْن أبي لَيْلَى، وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، وَقد قَالَ أَبُو حَاتِم فِيهِ: مَحَله الصدْق.
وَأما إِسْنَاد أبي دَاوُد فَصَحِيح كل رِجَاله فِي «الصَّحِيحَيْنِ» إِلَّا هِشَام بن عمار فَانْفَرد بِالْإِخْرَاجِ لَهُ البُخَارِيّ، وَهُوَ حَافظ ثِقَة وَكلهمْ ثِقَات لَا نعلم فيهم طَعنا بِوَجْه من الْوُجُوه إِلَّا الْوَلِيد بن مُسلم فَإِنَّهُ قد رمي بالتدليس، وَقد صرح بِالتَّحْدِيثِ فِي رِوَايَته فارتفعت وصمة التَّدْلِيس.
وَأما إِسْنَاد النَّسَائِيّ: فَرَوَاهُ (أَولا) عَن أبي يُوسُف مُحَمَّد بن أَحْمد الصيدلاني الرقي، عَن عِيسَى بن يُونُس، عَن ابْن أبي لَيْلَى، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن سعد (بن) زُرَارَة، عَن (عَمْرو)
(2/258)
بن شُرَحْبِيل، عَن قيس بن سعد بن عبَادَة «جَاءَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى سعد ... » الحَدِيث.
والصيدلاني هَذَا كَانَ حَافِظًا، رَوَى عَنهُ أَبُو حَاتِم وصدَّقه، وَأخرج لَهُ مَعَ النَّسَائِيّ ابْن مَاجَه. وَعِيسَى بن يُونُس هُوَ ابْن أبي إِسْحَاق أحد الْإِعْلَام (فِي الْحِفْظ) وَالْعِبَادَة، احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ وَغَيرهمَا. وَعَمْرو بن شُرَحْبِيل احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَمُحَمّد كَذَلِك، وَابْن أبي لَيْلَى تقدم تَوْثِيق أبي حَاتِم لَهُ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى كَرِوَايَة أبي دَاوُد سَوَاء.
وَرَوَاهُ أَيْضا عَن شُعَيْب بن شُعَيْب - وَهُوَ ثِقَة - عَن عبد الْوَهَّاب بن سعيد - وَهُوَ ثِقَة (أخرج لَهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا - عَن شُعَيْب بن إِسْحَاق - وَهُوَ ثِقَة) احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ - عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أسعد بن زُرَارَة قَالَ: «زار رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سعد بن عبَادَة ... » فَذكره مُرْسلا.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن (مُحَمَّد بن حَاتِم - وَهُوَ الْمروزِي، لَا
(2/259)
أعلم فِيهِ جرحا وَلَا تعديلاً - عَن ابْن الْمُبَارك) عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَى (سَعْدا) زَائِرًا. .» مُرْسل.
قلت: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث من جَمِيع طرقه لَيْسَ فيهم من طعن فِيهِ إِلَّا ابْن أبي لَيْلَى، وَغَيرهَا من الطّرق جَائِزَة لَهَا، فَالصَّوَاب إعلال هَذَا الحَدِيث باخْتلَاف إِسْنَاده كَمَا اقْتصر عَلَيْهِ الحافظان الْحَازِمِي وَابْن الصّلاح، وَعَلَى أَن الِاخْتِلَاف إِذا كَانَ من ثِقَة غير قَادِح، وَقد أخرج الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» هَذَا الحَدِيث من طَرِيق ابْن مَاجَه، وَلم يعقبها بِشَيْء وَلم يذكر سواهَا.
فَإِذا وضح لَك ذَلِك فلنعد إِلَى تَفْسِير غَرِيب مَا وَقع فِي هَذَا الحَدِيث. فَنَقُول: الملحفة - بِكَسْر الْمِيم - مُشْتَقَّة من الالتحاف وَهُوَ الاشتمال. والورس ثَمَر أصفر - وَيُقَال: أَحْمَر - بشجر يكون بِالْيمن يصْبغ بِهِ وَهُوَ مَعْرُوف، يُقَال إِنَّه إِذا زرع فِي الأَرْض سنة أَقَامَ عشر سِنِين ينْبت ويثمر.
وَوَقع فِي الحَدِيث الْمُتَقَدّم من طَرِيق ابْن مَاجَه (وَرسِيّة) : - بواو
(2/260)
مَفْتُوحَة، ثمَّ رَاء سَاكِنة، ثمَّ سين مَكْسُورَة، ثمَّ يَاء مُشَدّدَة - وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» . قَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمَشْهُور فِي كتب اللُّغَة ملحفة وريسة - بِكَسْر الرَّاء وَبعدهَا يَاء سَاكِنة، ثمَّ سين مَفْتُوحَة، ثمَّ هَاء - وَمَعْنَاهُ مصبوغة بالورس.
وَقَوله: «عَلَى عُكَنه» هُوَ - بِضَم الْعين وَفتح الْكَاف - جمع عُكْنة - بِضَم الْعين وَإِسْكَان الْكَاف - قَالَ الْأَزْهَرِي: قَالَ اللَّيْث وَغَيره: العكنة (الانطواء) فِي (بطن) الْجَارِيَة من السّمن، وَوَاحِدَة العكن: عكنة. وَيُقَال: تعكن الشَّيْء تعكنًا إِذا (ركم) بعضه عَلَى بعض فانثنى. قَالَ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقد رَأَيْت لبَعض مصنفي أَلْفَاظ (الْمُهَذّب) إنكارًا عَلَى الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فِي هَذِه اللَّفْظَة فَقَالَ: هَذِه زِيَادَة لَيست فِي هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَهَذَا الْإِنْكَار غلط مِنْهُ؛ بل هَذِه اللَّفْظَة مَوْجُودَة فِي الحَدِيث مُصَرح بهَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ.
قلت: و «سنَن ابْن مَاجَه» كَمَا تقدم. وَقَوله: «وَأمر لَهُ سعد بغُسل» هُوَ بِضَم الْغَيْن؛ أَي: مَا يغْتَسل بِهِ، وَلَفْظَة الْغسْل مُثَلّثَة؛ فَهِيَ بِكَسْر الْغَيْن: اسْم لما يغسل بِهِ الرَّأْس من سدر أَو خطمي وَنَحْوهَا، وَبِفَتْحِهَا: مصدر، وَهُوَ اسْم للْفِعْل بِمَعْنى الِاغْتِسَال، وَبِضَمِّهَا: مُشْتَرك بَين الْفِعْل وَالْمَاء، وَالثَّانِي هُوَ المُرَاد بِهِ فِي حَدِيث قيس هَذَا قَالَ ذَلِك كُله
(2/261)
ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْمُهَذّب» ثمَّ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» لَهُ قَالَ: فَحصل فِي الْفِعْل لُغَتَانِ: الْفَتْح وَالضَّم. قَالَ: وَزعم جمَاعَة مِمَّن صنف فِي أَلْفَاظ الْفِقْه أَن الْفِعْل لَا يُقَال إِلَّا بِالْفَتْح، وغلطوا الْفُقَهَاء فِي قَوْلهم بَاب غُسل الْجَنَابَة وَالْجُمُعَة وَنَحْوه - بِالضَّمِّ - وَهَذَا الْإِنْكَار غلط؛ بل هما لُغَتَانِ كَمَا ذكرنَا.
الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتُّونَ
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا توضأتم فَلَا تنفضوا أَيْدِيكُم؛ فَإِنَّهَا مراوح الشَّيْطَان» .
هَذَا الحَدِيث أنكر بَعضهم وجوده، وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا فلنذكر أَولا مقالاتهم ثمَّ نبين مَا يسر الله بِهِ علينا فَنَقُول: قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي (كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» : حَدِيث «إِذا توضأتم فَلَا تنفضوا أَيْدِيكُم» لم أجد لَهُ أصلا، وَهَكَذَا جمَاعَة اعتنوا بِالْحَدِيثِ. وَقَالَ: قد ذكر بعض الْفُقَهَاء فِي آخِره «فَإِنَّهَا مراوح الشَّيْطَان» وَقَالَ فِي (كَلَامه عَلَى الْوَسِيط» : حَدِيث «لَا تنفضوا أَيْدِيكُم» لَا صِحَة لَهُ، وَلم أجد لَهُ أَنا فِي جمَاعَة اعتنوا بالبحث عَن أَمْثَاله أصلا، وَزَاد بعض الْفُقَهَاء فِي آخِره «فَإِنَّهَا مراوح الشَّيْطَان» . قَالَ بعض المصنفين: هَذَا شَيْء يُوجد فِي كتب الْفِقْه، وَلم أظفر لَهُ بِأَصْل من كتب الحَدِيث.
قلت: واعجباه من هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة حَيْثُ لم يَجدوا لَهُ أصلا، وَمن
(2/262)
ابْن الصّلاح كَيفَ يَقُول: وَزَاد بعض الْفُقَهَاء فِي آخِره «فَإِنَّهُ مراوح الشَّيْطَان» ! وَقد رَوَى الحَدِيث بِطُولِهِ إمامان جليلان مشهوران بِزِيَادَة فِيهِ.
أَحدهمَا: الإِمَام عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم؛ فَإِنَّهُ ذكره فِي كتاب «الْعِلَل» - وَمَا أَكثر فَوَائده - من حَدِيث هِشَام بن عمار، عَن البخْترِي بن عبيد، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا توضأتم فأشربوا أعينكُم من المَاء وَلَا تنفضوا أَيْدِيكُم من المَاء؛ فَإِنَّهَا مراوح الشَّيْطَان» .
الثَّانِي: الإِمَام أَبُو حَاتِم بن حبَان؛ فَإِنَّهُ أخرج فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» فِي تَرْجَمَة البخْترِي بن عبيد، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِذا توضأتم فَلَا تنفضوا أَيْدِيكُم فَإِنَّهَا مرواح الشَّيْطَان» .
وَذكره الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي كِتَابه «تَخْرِيج أَحَادِيث الْمُهَذّب» بِإِسْنَادِهِ إِلَى هِشَام بن عمار كَمَا أخرجه ابْن حبَان سَوَاء وَسكت عَلَيْهِ، وَهُوَ عَجِيب؛ فَإِنَّهُ ضَعِيف بِمرَّة، كَمَا صرح بِهِ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة.
قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: هَذَا حَدِيث مُنكر، والبختري ضَعِيف الحَدِيث، وَأَبوهُ مَجْهُول. وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان: البخْترِي بن عبيد
(2/263)
بن سلمَان ضَعِيف الحَدِيث ذَاهِب، لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ، إِذا انْفَرد فَلَيْسَ (بعدلٍ) فقد رَوَى عَن (أَبِيه) عَن أبي هُرَيْرَة نُسْخَة فِيهَا عجائب. وَقَالَ ابْن عدي: رَوَى عَن أَبِيه قدر عشْرين حَدِيثا (عامتها) مَنَاكِير مِنْهَا هَذَا الحَدِيث، وَمِنْهَا «الأذنان من الرَّأْس» .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: البخْترِي ضَعِيف، وَأَبوهُ مَجْهُول. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: كَذَّاب سَاقِط. وَقَالَ أَبُو نعيم الْحَافِظ: رَوَى عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَوْضُوعَات. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي كِتَابه «التَّذْكِرَة فِي الْأَحَادِيث المعلولة» بعد ذكره: لَا يحل الِاحْتِجَاج بالبختري إِذا انْفَرد. وَقَالَ الْحَافِظ شمس الدَّين الذَّهَبِيّ: أنكر مَا رَوَى عَن أَبِيه هَذَا الحَدِيث. وَذكر هَذَا الحَدِيث الْحَافِظ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «الْعِلَل المتناهية فِي الْأَحَادِيث الْوَاهِيَة» وَنقل فِيهِ مقَالَة ابْن حبَان الْمُتَقَدّمَة وَحدهَا، وَقد أخرج ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» للبختري بن عبيد الْمَذْكُور.
قلت: وَلم ينْفَرد بِهِ البخْترِي؛ بل تَابعه عبيد الله بن مُحَمَّد (الطَّائِي) وَإِن كَانَ مَجْهُولا عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ ابْن طَاهِر فِي
(2/264)
كِتَابه «صفوة التصوف» وَترْجم عَلَيْهِ: السّنة فِي مسحهم أَعينهم من بَلل الْيَد وكراهيتهم نفض الْيَد. ثمَّ سَاق من حَدِيث أبي الْحسن بن حجر الْعَسْقَلَانِي قَالَ: «كنت مَعَ جدي لأمي فِي وَلِيمَة فِيهَا مُحَمَّد بن المتَوَكل بن أبي السّري، فَقدم الْغسْل (يَعْنِي) ليغسل النَّاس أَيْديهم للطعام، فقدمه الْخَادِم بَين يَدي ابْن أبي السّري، فَقَالَ لَهُ ابْن أبي السّري: قدم بَين يَدي الشَّيْخ - يَعْنِي جدي - فقدمه وَغسل يَدَيْهِ (ونفضهما) فَقَالَ لَهُ ابْن أبي السّري: لَا (تنفض) يَا أَبَا فلَان! حَدَّثَنَا عبيد الله بن مُحَمَّد (الطَّائِي) عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا توضأتم فأشربوا أعينكُم المَاء وَلَا تنفضوا أَيْدِيكُم؛ فَإِنَّهَا مرواح الشَّيْطَان» . فَقَالَ لَهُ (جدي) : فِي الضَّوْء وَغَيره؟ قَالَ: أعده عَلّي ابْن ابْنَتي لنحفظه. فَأَعَادَهُ (عَلّي) فَحفِظت» فَعلم بِهَذَا كُله أَن الحَدِيث مَوْجُود فِي كتب الحَدِيث مَعْرُوف وَإِن كَانَ ضَعِيفا، وَالْإِنْكَار إِنَّمَا وَقع فِي وجوده وَفِي زِيَادَة بعض الْفُقَهَاء فِيهِ، وَقد تقرر أَن هَذِه الزِّيَادَة من نَفْس الحَدِيث، وَمن الدَّلِيل الْوَاضِح عَلَى ضعفه أَيْضا حَدِيث مَيْمُونَة الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» الَّذِي تقدم فِي الْبَاب قَرِيبا حَيْثُ «أُتِي بِخرقَة فَلم يردهَا وَجعل ينفض المَاء (بِيَدِهِ) » .
(2/265)
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب، وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثرين:
أَحدهمَا: عَن عَلّي - كرم الله وَجهه - أَنه قَالَ: «مَا أُبَالِي بيميني بدأت أم بشمالي إِذا أكملت الْوضُوء» .
هَذَا الْأَثر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد الوَاسِطِيّ، نَا مُوسَى بن إِسْحَاق، نَا أَبُو بكر، نَا مُعْتَمر بن سُلَيْمَان، عَن عَوْف، عَن عبد الله بن عَمْرو بن هِنْد قَالَ: قَالَ عَلّي: «مَا أُبَالِي إِذا أتممت وضوئي بِأَيّ أعضائي بدأت» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» و «سنَنه» : هَذَا مُنْقَطع. قَالَ: وَرَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل عَن [الْأنْصَارِيّ عَن] عَوْف (عَن) عبد الله بن عَمْرو بن هِنْد قَالَ: قَالَ عَلّي «مَا أُبَالِي بِأَيّ أعضائي بدأت إِذا أتممت الْوضُوء» .
قَالَ عَوْف: وَلم يسمعهُ من عَلّي - يَعْنِي: عبد الله بن عَمْرو بن هِنْد -
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ثمَّ إِن هَذَا (مُطلق) وَأَظنهُ أَرَادَ مَا رُوِيَ عَن زِيَاد مولَى بني مَخْزُوم قَالَ: «قيل لعَلي رَضي اللهُ عَنهُ: إِن أَبَا هُرَيْرَة يبْدَأ بميامنه فِي الْوضُوء! فَدَعَا بِمَاء فَتَوَضَّأ بمياسره» .
قلت: وَزِيَاد هَذَا فِيهِ مقَال، قَالَ فِيهِ يَحْيَى بن معِين: لَا شَيْء.
(2/266)
وَذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته» .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا بِإِسْنَادِهِ عَن (زِيَاد) قَالَ: قَالَ عَلّي: «مَا أُبَالِي لَو بدأت بالشمال قبل الْيَمين إِذا تَوَضَّأت» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «جَاءَ رجل إِلَى عَلّي بن أبي طَالب فَسَأَلَهُ عَن الْوضُوء، فَقَالَ: ابدأ بِالْيَمِينِ (قبل) الشمَال فأضرط عَلّي بِهِ ثمَّ دَعَا بِمَاء فَبَدَأَ بالشمال قبل الْيَمين» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «سَأَلَ رجل عليًّا: أبدأ بشمالي قبل يَمِيني فِي الْوضُوء؟ فأضرط بِهِ عَلّي، ثمَّ دَعَا بِمَاء فَبَدَأَ بِشمَالِهِ قبل يَمِينه» .
قلت: وَرُوِيَ مثل ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي العبيدين - عَلّي صِيغَة تَصْغِير عَبْدَيْنِ - عَن عبد الله بن مَسْعُود «أَنه سُئِلَ عَن رجل تَوَضَّأ فَبَدَأَ بمياسره فَقَالَ: لَا بَأْس بِهِ» .
قَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة: سَأَلت يَحْيَى بن معِين عَن أبي العبيدين، فَقَالَ: اسْمه: مُعَاوِيَة بن سُبْرَة، وَهُوَ ثِقَة.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا عَن مُجَاهِد عَنهُ أَنه قَالَ: «لَا بَأْس أَن تبدأ بِرِجْلَيْك قبل يَديك» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا مُرْسل.
الْأَثر الثَّانِي: عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما «أَنه كَانَ يتَوَضَّأ فِي سوق
(2/267)
الْمَدِينَة فدعي إِلَى جَنَازَة وَقد بَقِي من وضوءه فرض الرجلَيْن، فَذهب مَعهَا إِلَى الْمُصَلى ثمَّ مسح عَلَى خفيه، وَكَانَ لابسًا» .
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث مَالك بن أنس رَضي اللهُ عَنهُ وعنى بِهِ فِي «موطئِهِ» - الَّذِي قَالَ فِيهِ إمامنا الشَّافِعِي: أَنه أصح كتاب بعد كتاب الله تَعَالَى - عَن نَافِع «أَن عبد الله بن عمر بَال بِالسوقِ، ثمَّ تَوَضَّأ فَغسل وَجهه وَيَديه، ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ، ثمَّ دَعَا بِجنَازَة ليُصَلِّي عَلَيْهَا حِين دخل الْمَسْجِد، فَمسح عَلَى خفيه ثمَّ صَلَّى عَلَيْهَا» .
وَهَذَا الْإِسْنَاد لَا يشْتَبه عَلَى أحد صِحَّته، وَيُسمى هَذَا الْإِسْنَاد: سلسلة الذَّهَب مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر؛ بل هُوَ أصح الْأَسَانِيد (مُطلقًا عَلَى قَول إِمَام هَذَا الْفَنّ البُخَارِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا أصح الْأَسَانِيد) : الشَّافِعِي، عَن مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. وَقد أخرجه عَنهُ الشَّافِعِي فِي الْبُوَيْطِيّ، وَفِي «الْأُم» (أَيْضا) فِي كتاب اخْتِلَاف مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي بَاب نوم الْجَالِس، وَذكر فِي «الْأُم» فِي كتاب اخْتِلَاف أبي حنيفَة وَابْن أبي لَيْلَى فِي بَاب صَلَاة الْخَوْف أَنه رُوِيَ عَن ابْن عمر «أَنه تَوَضَّأ وَخرج إِلَى السُّوق ثمَّ دعِي بِجنَازَة، فَمسح (عَلَى خفيه و) صَلَّى» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : هَذَا الْأَثر صَحِيح عَن ابْن عمر،
(2/268)
مَشْهُور بِهَذَا اللَّفْظ، قَالَ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهُوَ دَلِيل حسن لمن لم يُوجب الْمُوَالَاة؛ فَإِن ابْن عمر فعله بِحَضْرَة حاضري الْجِنَازَة وَلم يُنكر عَلَيْهِ، وَرَأَيْت فِي الْبَيَان للعمراني - من أَصْحَابنَا - أَن ابْن عمر رَوَى ذَلِك (من) فعل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سَوَاء، وَعَزاهُ بَعضهم إِلَى الْبَغَوِيّ، وَلم أر هَذَا فِي كتاب حَدِيث، وَإِنَّمَا (نعرفه) من فعل ابْن عمر فَليتبعْ.
وَأما البُخَارِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ علق أثر ابْن عمر هَذَا بِصِيغَة التمريض (ذكره) بِلَفْظ آخر؛ فَإِنَّهُ قَالَ: بَاب تَفْرِيق الْوضُوء وَالْغسْل. وَيذكر عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه غسل قَدَمَيْهِ بَعْدَمَا جف وضوءه» كَذَا ذكره بِلَفْظ «غسل» بدل «مسح» وَالدّلَالَة حَاصِلَة أَيْضا بِهِ.
وَتبع ابنُ الرّفْعَة صاحبَ الْبَيَان فَذكره مَرْفُوعا (ثمَّ) قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي: وَبَين ذَهَابه من السُّوق إِلَى الْمَسْجِد تَفْرِيق (كثير) قَالَ: وَقد رُوِيَ ذَلِك (مَوْقُوفا) عَلَى ابْن عمر، وَهَذَا قد يُؤذن بِأَن الشَّافِعِي (رَوَاهُ) مَرْفُوعا، وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ مَوْقُوفا كَمَا سلف.
ولنختم الْبَاب بخاتمتين مهمتين:
أَحدهمَا: قَالَ الإِمَام الرَّافِعِيّ: من السّنَن أَن يحافظ عَلَى الدَّعْوَات الْوَارِدَة فِي الْوضُوء فَيَقُول فِي غسل الْوَجْه: اللَّهُمَّ بيض
(2/269)
(وَجْهي) يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه. وَعند غسل الْيَد الْيُمْنَى: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كتابي بيميني وحاسبني حسابا يَسِيرا. وَعند غسل الْيَد الْيُسْرَى: اللَّهُمَّ لَا تعطني كتابي بشمالي وَلَا من وَرَاء ظَهْري. وَعند مسح الرَّأْس: اللَّهُمَّ حرم شعري وبشري من النَّار - وَرُوِيَ: اللَّهُمَّ احفظ رَأْسِي وَمَا حوى وبطني وَمَا وعى. وَفِي «الْإِحْيَاء» يَقُول: اللَّهُمَّ غشني بِرَحْمَتك وَأنزل عليَّ من بركاتك، وأظلني تَحت عرشك يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظلك - وَعند مسح الْأُذُنَيْنِ: اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه. وَعند غسل الرجلَيْن: اللَّهُمَّ ثَبت قدمي عَلَى الصِّرَاط يَوْم تزل فِيهِ الْأَقْدَام. قَالَ الرَّافِعِيّ: ورد (بهَا) الْأَثر عَن السّلف الصَّالِحين. انْتَهَى مَا أوردهُ الرَّافِعِيّ.
وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ: يَقُول عِنْد غسل الْيَدَيْنِ: اللَّهُمَّ احفظ يَدي من مَعَاصِيك كلهَا. وَيَقُول عِنْد الْمَضْمَضَة: اللَّهُمَّ أجر عَلَى لساني الصدْق وَالصَّوَاب وَمَا ينفع النَّاس - وَقَالَ صَاحب «الْإِحْيَاء» : يَقُول: اللَّهُمَّ أَعنِي عَلَى تِلَاوَة كتابك وَكَثْرَة الذّكر لَك. وَقَالَ (غَيرهمَا) : يَقُول: اللَّهُمَّ اسْقِنِي من حَوْض نبيك (كأسًا لَا أظمأ بعده أبدا وَيَقُول عِنْد الِاسْتِنْشَاق: اللَّهُمَّ لَا تحرمني رَائِحَة نعيمك وجناتك، اللَّهُمَّ أوجدني رَائِحَة الْجنَّة وَأَنت عني رَاض. وَعند الاستنثار: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من رَوَائِح النَّار وَسُوء الدَّار. وَيَقُول عِنْد مسح الْعُنُق: اللَّهُمَّ فك رقبتي من
(2/270)
النَّار وَأَعُوذ بك من السلَاسِل والأغلال. إِذا تقرر ذَلِك قَالَ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الرَّوْضَة» : وَهَذَا الدُّعَاء لَا أصل لَهُ، وَلم يذكرهُ الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور. وَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الدُّعَاء لَا أصل لَهُ، وَذكره كَثِيرُونَ من الْأَصْحَاب وَلم يذكرهُ المتقدمون، وَزَاد فِيهِ الْمَاوَرْدِيّ فَقَالَ: «يَقُول عِنْد الْمَضْمَضَة: اللَّهُمَّ اسْقِنِي من حَوْض نبيك كأسًا لَا أظمأ بعده. وَعند الِاسْتِنْشَاق: اللَّهُمَّ لَا تحرمني رَائِحَة نعيمك وجناتك» وَكَذَا (قَالَ) فِي غَيرهمَا من كتبه أَن هَذَا الدُّعَاء لَا أصل لَهُ.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» : الدُّعَاء عَلَى أَعْضَاء الْوضُوء لم يَصح فِيهِ حَدِيث. وَقَالَ فِي «كَلَامه عَلَى الْوَسِيط» بعد قَول الْغَزالِيّ: «أَنه ورد فِي ذَلِك أَخْبَار دَالَّة عَلَى كَثْرَة فَضِيلَة الْأَدْعِيَة عَلَى الْأَعْضَاء» : لَا يَصح فِيهَا حَدِيث.
وَاعْلَم - رحمنا الله وَإِيَّاك وهدانا لطاعته - أَنه ورد فِي الدُّعَاء عَلَى أَعْضَاء الْوضُوء (عدَّة) أَحَادِيث:
أَحدهَا: (عَن عَلّي بن أبي طَالب - كرم الله وَجهه - وَله طرق
أَحدهَا: عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي رَفعه إِلَى عَلّي بن أبي طَالب - كرم الله وَجهه - قَالَ: «عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَلِمَات أقولهن عِنْد الْوضُوء فَلم أنسهن، كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أُتِي بِمَاء فَغسل كفيه ثمَّ قَالَ: بِسم الله الْعَظِيم، وَالْحَمْد لله عَلَى الْإِسْلَام، اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين واجعلني من المتطهرين، واجعلني من الَّذين إِذا أَعطيتهم شكروا، وَإِذا ابتليتهم
(2/271)
صَبَرُوا. فَإِذا غسل فرجه قَالَ: اللَّهُمَّ حصن فَرجي (ثَلَاثًا) وَإِذا (تمضمض) قَالَ: اللَّهُمَّ أَعنِي عَلَى تِلَاوَة (كتابك و) ذكرك. وَإِذا استنشق قَالَ: اللَّهُمَّ أرحني رَائِحَة الْجنَّة. وَإِذا غسل وَجهه قَالَ: اللَّهُمَّ بيض وَجْهي يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه. وَإِذا غسل يَمِينه قَالَ: اللَّهُمَّ آتني كتابي بيميني وحاسبني حسابا يَسِيرا. وَإِذا غسل شِمَاله قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تعطني كتابي بشمالي وَلَا من وَرَاء ظَهْري. وَإِذا مسح رَأسه قَالَ: اللَّهُمَّ غشني بِرَحْمَتك. وَإِذا مسح أُذُنَيْهِ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه. وَإِذا غسل رجلَيْهِ قَالَ: اللَّهُمَّ (اجْعَلْهُ) سعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا وتجارة لن تبور. ثمَّ رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي رَفعهَا بِغَيْر عمد. قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: وَالْملك قَائِم عَلَى رَأسه يكْتب مَا يَقُول فِي ورقة ثمَّ يختمه، فيرفعه فيضعه تَحت الْعَرْش فَلَا يفك خَاتمه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» .
ذكر هَذِه الطَّرِيق الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» فَقَالَ: عَن أبي الْفضل مُحَمَّد بن نعيم بن عَلّي البُخَارِيّ، نَا أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن (حم) الصفار اللَّخْمِيّ، ثَنَا أَبُو مقَاتل سُلَيْمَان بن الْفضل، ثَنَا
(2/272)
أَحْمد بن مُصعب الْمروزِي، ثَنَا حبيب بن أبي حبيب الشَّيْبَانِيّ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاق السبيعِي فَذكره.
قَالَ (الشَّيْخ) : وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي عَن عَلّي مُنْقَطع، وَفِي إِسْنَاده غير وَاحِد يحْتَاج إِلَى مَعْرفَته والكشف عَن حَاله.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن عَلّي بن أبي طَالب - كرم الله وَجهه - قَالَ: «عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَوَاب الْوضُوء فَقَالَ: يَا عَلّي، إِذا قربت وضوءك فَقل: بِسم الله الْعَظِيم ... » مثل الطَّرِيق الَّتِي قبله إِلَّا أَنه لم يقل فِيهَا «واجعلني من التوابين» وَقَالَ: «إِذا غسلت رجليك فَقل: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ سعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا وَعَملا متقبلاً، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك لَا إِلَه إِلَّا أَنْت أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك، اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين المتطهرين، وَالْملك قَائِم عَلَى رَأسه يكْتب مَا يَقُول، ثمَّ يختمه بِخَاتم، ثمَّ يعرج بِهِ إِلَى السَّمَاء، فيضعه تَحت عرش الرَّحْمَن، فَلَا يفك ذَلِك الْخَاتم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» .
ذكره أَبُو الْعَبَّاس الْحَافِظ جَعْفَر بن مُحَمَّد المستغفري فِي كِتَابه «الدَّعْوَات» - كَمَا أَفَادَهُ صَاحب «الإِمَام» ثمَّ رَأَيْته بعد ذَلِك فِيهِ - من حَدِيث القَاضِي أبي سعيد الْخَلِيل بن أَحْمد، أبنا أَبُو (عَمْرو) التمار مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، ثَنَا (الْحُسَيْن بن حميد، ثَنَا) الْحُسَيْن بن الْحسن (الْمروزِي) نَا المغيث بن بديل، عَن خَارِجَة، عَن يُونُس،
(2/273)
عَن الْحسن الْبَصْرِيّ (عَن) عَلّي.
وَرَوَاهُ المستغفري أَيْضا عَن الْحسن بن (عبد الله) بن عمر، عَن أَحْمد بن أحيد، عَن صَالح بن مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، عَن عُثْمَان بن غياث، عَن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس، عَن المغيث، عَن خَارِجَة بِإِسْنَادِهِ نَحوه.
قلت: وَهَذَا مُرْسل أَيْضا؛ لِأَن عليًّا رَضي اللهُ عَنهُ خرج إِلَى الْعرَاق عقب بيعَته، وَأقَام الْحسن الْبَصْرِيّ بِالْمَدِينَةِ فَلم يلقه بعد ذَلِك. قَالَه أَبُو زرْعَة وَغَيره.
(الطَّرِيق الثَّالِث) : عَن مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة قَالَ: «دخلت عَلَى وَالِدي عَلّي بن أبي طَالب وَإِذا عَن يَمِينه إِنَاء من مَاء، فَسَمَّى ثمَّ سكب عَلَى يَمِينه، ثمَّ استنجى (و) قَالَ: (اللَّهُمَّ) حصن فَرجي، واستر عورتي، وَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء. ثمَّ تمضمض واستنشق وَقَالَ: اللَّهُمَّ لقني حجتي وَلَا تحرمني رَائِحَة الْجنَّة. ثمَّ غسل وَجهه وَقَالَ: اللَّهُمَّ بيض وَجْهي يَوْم تسود الْوُجُوه وَلَا تسود وَجْهي يَوْم تبيض الْوُجُوه. ثمَّ سكب عَلَى يَمِينه وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كتابي بيميني والخلد بشمالي (ثمَّ سكب عَلَى شِمَاله وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تعطني كتابي بشمالي) وَلَا تجعلها مغلولة إِلَى عنقِي. ثمَّ مسح رَأسه وَقَالَ: اللَّهُمَّ (غَشنَا) بِرَحْمَتك؛ فَإنَّا نخشى عذابك، اللَّهُمَّ لَا تجمع بَين نواصينا وأقدامنا. ثمَّ مسح عُنُقه وَقَالَ: اللَّهُمَّ
(2/274)
نجنا من مفظعات النيرَان وأغلالها. ثمَّ غسل قَدَمَيْهِ ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ثَبت قدمي عَلَى الصِّرَاط يَوْم تزل فِيهِ الْأَقْدَام. ثمَّ اسْتَوَى قَائِما ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ كَمَا طهرتنا بِالْمَاءِ فطهرنا من الذُّنُوب. ثمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا يقطر المَاء من أنامله، ثمَّ قَالَ: يَا بني، افْعَل كفعلي هَذَا؛ فَإِنَّهُ مَا من قَطْرَة تقطر من أناملك إِلَّا خلق الله مِنْهَا ملكا يسْتَغْفر الله لَك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة (وَيكون تَسْبِيح ذَلِك الْملك لَك يَوْم الْقِيَامَة) يَا بني، من فعل كفعلي هَذَا تساقطت عَنهُ الذُّنُوب كَمَا يتساقط الْوَرق (من) الشّجر يَوْم الرّيح العاصف» .
رَوَاهُ حَافظ الشَّام ومؤرخها أَبُو الْقَاسِم عَلّي بن الْحسن بن هبة الله الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن عَسَاكِر فِي «أَمَالِيهِ» من حَدِيث أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن مَنْصُور بن يزِيد الْمُقْرِئ، نَا دَاوُد بن سُلَيْمَان، عَن شيخ من أهل الْبَصْرَة يكنى أَبَا الْحسن، عَن أَصْرَم بن حَوْشَب الهمذاني، عَن أبي عَمْرو بن قُرَّة، عَن أبي جَعْفَر الْمرَادِي، عَن مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة ... فَذكره (عَنهُ) .
وَذكره عَنهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» وَسكت عَلَيْهِ، وَذكره أَيْضا الْحَافِظ قطب الدَّين بن الْقُسْطَلَانِيّ فِي كِتَابه الموسوم «بالأدوية الشافية فِي الْأَدْعِيَة الكافية» .
قلت: لَكِن أَصْرَم بن حَوْشَب الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده هُوَ قَاضِي همذان وَهُوَ هَالك. قَالَ يَحْيَى: كَذَّاب خَبِيث. وَقَالَ خَ، م، س: مَتْرُوك.
(2/275)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ السَّعْدِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يضع الحَدِيث عَلَى الثِّقَات. وَقَالَ الفلاس: مَتْرُوك يُرْمَى بالإرجاء.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُ: يَا عَلّي، إِذا تَوَضَّأت فَقل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك تَمام الْوضُوء وَتَمام مغفرتك ورضوانك» .
ذكره الْحَافِظ قطب الدَّين بن الْقُسْطَلَانِيّ فِي الْكتاب الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة لَهُ «يَا عَلّي إِذا تَوَضَّأت فَقل: بِسم الله وَالصَّلَاة عَلَى رَسُول الله» .
ورأيته بعد من حَدِيث جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن الْحسن بن عَلّي، عَن عَلّي قَالَ: «أَوْصَانِي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِوَصِيَّة ... .» فَذكرهَا بِطُولِهَا، وَذكر هَذَا فِي آخرهَا.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن أنس رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «دخلت عَلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَبَين يَدَيْهِ إِنَاء من مَاء فَقَالَ لي: يَا أنس، ادن مني أعلمك مقادير الْوضُوء. فدنوت من رَسُول الله، فَلَمَّا أَن غسل يَدَيْهِ قَالَ: بِسم الله وَالْحَمْد لله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه (الْعلي الْعَظِيم) فَلَمَّا استنجى قَالَ: اللَّهُمَّ (حصن فَرجي وَيسر لي أَمْرِي. فَلَمَّا أَن تمضمض واستنشق قَالَ: اللَّهُمَّ) لقني حجتي وَلَا تحرمني (رَائِحَة الْجنَّة. فَلَمَّا أَن غسل وَجهه قَالَ: اللَّهُمَّ بيض) وَجْهي يَوْم تبيض الْوُجُوه. فَلَمَّا أَن غسل ذِرَاعَيْهِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كتابي بيميني. فَلَمَّا أَن مسح يَدَيْهِ عَلَى رَأسه قَالَ: اللَّهُمَّ غَشنَا بِرَحْمَتك وجنبنا عذابك. (فَلَمَّا أَن غسل قَدَمَيْهِ) قَالَ: اللَّهُمَّ ثَبت قدمي يَوْم (تَزُول)
(2/276)
فِيهِ الْأَقْدَام. ثمَّ قَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نبيًّا مَا من عبد قَالَهَا عِنْد وضوئِهِ لم يقطر من خلل أَصَابِعه قَطْرَة إِلَّا خلق الله مِنْهَا ملكا يسبح الله - عَزَّ وجَلَّ - بسبعين لِسَانا، يكون ثَوَاب ذَلِك التَّسْبِيح لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» .
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» عَن يَعْقُوب بن إِسْحَاق، ثَنَا أَحْمد بن هَاشم الْخَوَارِزْمِيّ، ثَنَا عباد بن صُهَيْب، عَن حميد الطَّوِيل، عَن أنس ... فَذكره. وَذكره أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «الْعِلَل المتناهية فِي الْأَحَادِيث الْوَاهِيَة» عَن ابْن خيرون، عَن الْجَوْهَرِي، عَن الدَّارَقُطْنِيّ، عَن ابْن حبَان بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح وَقد اتهمَ بِهِ أَبُو حَاتِم بن حبَان عباد بن صُهَيْب، واتهم بِهِ الدَّارَقُطْنِيّ أَحْمد بن (هَاشم) .
فَأَما عباد بن صُهَيْب، فَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: ذهب حَدِيثه. وَقَالَ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير حَتَّى إِذا سَمعهَا الْمُبْتَدِئ شهد لَهَا بِالْوَضْعِ. (قلت) : لَكِن قَالَ أَبُو دَاوُد: صَدُوق قدري. وَقَالَ أَحْمد: مَا كَانَ (بِصَاحِب) كذب. وَأما أَحْمد بن هَاشم: فَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يَكْفِيهِ اتهام الدَّارَقُطْنِيّ. قلت: وَثَّقَهُ الْحَاكِم.
(2/277)
الحَدِيث الثَّالِث: عَن الْبَراء بن عَازِب رَضي اللهُ عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: «مَا من عبد يَقُول حِين يتَوَضَّأ: بِسم الله، ثمَّ يَقُول لكل عُضْو: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. ثمَّ يَقُول حِين يفرغ: اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين واجعلني من المتطهرين. إِلَّا فتحت لَهُ ثَمَانِيَة أَبْوَاب (من) الْجنَّة يدْخل من أَيهَا شَاءَ؛ فَإِن قَامَ من فوره ذَلِك فَصَلى رَكْعَتَيْنِ يقْرَأ فيهمَا وَيعلم مَا يَقُول انْفَتَلَ من صلَاته كَيَوْم وَلدته أمه، ثمَّ يُقَال لَهُ: اسْتَأْنف الْعَمَل» .
أخرجه المستغفري - كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» ثمَّ رَأَيْته بعد فِيهِ - عَن أبي الْعَبَّاس جَعْفَر بن مُحَمَّد الْمَكِّيّ، عَن أبي بكر مُحَمَّد بن حَامِد بن حَفْص البيكندي، عَن أبي مُحَمَّد إِسْحَاق بن حَمْزَة بن يُوسُف بن فروخ، عَن عِيسَى بن مُوسَى غُنْجَار، عَن أبي حَمْزَة عبد الله بن مُسلم، عَن سَالم بن أبي الْجَعْد، عَن الْبَراء. ثمَّ قَالَ المستغفري: حَدِيث حسن غَرِيب.
الحَدِيث الرَّابِع: عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «أتيت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِوضُوء فَتَوَضَّأ فَسَمعته يَدْعُو يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذُنُوبِي، ووسع لي فِي دَاري، وَبَارك لي فِي رِزْقِي. فَقلت: يَا نَبِي الله، لقد سَمِعتك تَدْعُو بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: وَهل تراهن تركن من شَيْء» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَصَاحبه ابْن السّني فِي كِتَابَيْهِمَا «عمل الْيَوْم
(2/278)
وَاللَّيْلَة» قَالَ النَّوَوِيّ فِي «الْأَذْكَار» : وَإِسْنَاده صَحِيح. وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِن رِجَاله رجال الصَّحِيح خلا عباد بن عباد بن عَلْقَمَة، وَهُوَ ثِقَة كَمَا قَالَه أَبُو دَاوُد وَيَحْيَى بن معِين، وَذكره أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «ثقاته» .
وَهَذَا الذّكر يحْتَمل أَن يكون قَالَه (بَين) ظهراني وضوئِهِ أَو بعده، وَقد بوّب الْحفاظ (لَهُ) عَلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا.
وَفِي «المعجم الصَّغِير للطبراني» من حَدِيث عَلّي بن ثَابت، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يَا أَبَا هُرَيْرَة، إِذا تَوَضَّأت فَقل: بِسم الله وَالْحَمْد لله؛ فَإِن حفظتك لَا تستريح، تكْتب لَك الْحَسَنَات حَتَّى تحدث من ذَلِك الْوضُوء» .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يروه عَن عَلّي بن ثَابت أخي [عزْرَة] بن ثَابت إِلَّا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْبَصْرِيّ تفرد بِهِ عَمْرو بن أبي سَلمَة.
وَفِي «التَّلْخِيص» لِلْحَافِظِ أبي بكر الْخَطِيب، عَن أنس بن مَالك قَالَ: «من قَرَأَ «قل هُوَ الله أحد» مِائَتي مرّة عَلَى وضوئِهِ فِيمَا بَينه وَبَين
(2/279)
نَفسه، يعلم قلبه أَن الَّذِي يَقُوله حق، وَيبدأ بِفَاتِحَة الْكتاب يغْفر لَهُ ذَنْب خمسين سنة، إِلَّا الدِّمَاء وَالْأَمْوَال، وَيرْفَع لَهُ من عمله يَوْمئِذٍ عمل الصّديق، وَله بِكُل مرّة مِنْهَا بَيت فِي الْجنَّة (عرضه) فَرسَخ وَطوله فِي السَّمَاء ميل» .
فَهَذِهِ أَحَادِيث وَارِدَة عَن سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَعْضهَا ضَعِيف، وَبَعضهَا شهد لَهُ بالْحسنِ المستغفري، وَبَعضهَا لَا أعلم بِهِ بَأْسا، فَكيف يَقُول الشَّيْخ محيي الدَّين - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا أصل لَهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقد أَتَى بِعِبَارَة فِي كتاب «الْأَذْكَار» يزِيد فِي الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ فَقَالَ: الدُّعَاء الْوَارِد عَلَى أَعْضَاء الْوضُوء لم يَجِيء فِيهِ شَيْء عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد قَالَ الْفُقَهَاء: (يسْتَحبّ) فِيهِ دعوات جَاءَت عَن السّلف. هَذَا لَفظه بِحُرُوفِهِ - سامحنا الله وإياه - وَقد نَص الْعلمَاء رَضي اللهُ عَنهم عَلَى أَنه يتَسَامَح فِي الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي فَضَائِل الْأَعْمَال. ذكر الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي كِتَابه «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» فِي أول كتاب الدُّعَاء بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي قَالَ: إِذا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَحْكَام شددنا فِي الْأَسَانِيد وانتقدنا الرِّجَال، وَإِذا روينَا فِي فَضَائِل الْأَعْمَال وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب والمباحات والدعوات تساهلنا فِي الْأَسَانِيد.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح: نقاد أهل الحَدِيث يتسامحون فِي أَسَانِيد الرغائب والفضائل. وَالْعجب أَن النَّوَوِيّ مِمَّن نقل ذَلِك عَن
(2/280)
الْعلمَاء؛ فَقَالَ فِي كتاب «الْأَذْكَار» - وَغَيره من كتبه -: قَالَ الْعلمَاء من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء وَغَيرهم: يجوز وَيسْتَحب الْعَمَل فِي الْفَضَائِل وَالتَّرْغِيب والترهيب بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف مَا لم يكن مَوْضُوعا، وَأما الْأَحْكَام كالحلال وَالْحرَام وَالْبيع وَالنِّكَاح وَالطَّلَاق وَغير ذَلِك؛ فَلَا يعْمل فِيهَا إِلَّا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح أَو الْحسن إِلَّا أَن يكون فِي الِاحْتِيَاط شَيْء من ذَلِك، كَمَا إِذا ورد حَدِيث ضَعِيف بِكَرَاهَة بعض الْبيُوع أَو الْأَنْكِحَة؛ فَإِن الْمُسْتَحبّ أَن يتنزه عَنهُ و (لَكِن) لَا يجب.
هَذَا لَفظه برمتِهِ فِي كِتَابه الْأَذْكَار، وَيُمكن أَن يُجَاب عَن كَلَامه الْمُتَقَدّم بِأَن هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي أوردناها غَرِيبَة عزيزة فِي خبايا وزوايا، وَلَيْسَت فِي كتب السّنَن وَالْمَسَانِيد الْمَشْهُورَة؛ فلأجل ذَلِك قَالَ مَا قَالَ، رحمنا الله وإياه.
(الخاتمة) الثَّانِيَة: قَالَ الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمن المندوبات أَن يَقُول بعد الْوضُوء مُسْتَقْبل الْقبْلَة أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين واجعلني من المتطهرين، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك. انْتَهَى كَلَام الرَّافِعِيّ.
وَهَذَا الدُّعَاء وَارِد فِي عدَّة أَحَادِيث مَعَ زِيَادَة:
(أَحدهَا) : رَوَى مُسلم عَن مُحَمَّد بن حَاتِم بن مَيْمُون، ثَنَا عبد
(2/281)
الرَّحْمَن بن مهْدي، نَا (مُعَاوِيَة) بن صَالح، عَن ربيعَة (يَعْنِي) بن يزِيد، عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ، عَن عقبَة بن عَامر قَالَ: وحدَّثَني أَبُو عُثْمَان عَن جُبَير بن نفير، عَن عقبَة بن عَامر قَالَ: «كَانَت علينا رِعَايَة الْإِبِل، فَجَاءَت نوبتي فروحتها بعشي، فأدركت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَائِما يحدث النَّاس، فأدركت من قَوْله: مَا من مُسلم يتَوَضَّأ فَيحسن وضوءه ثمَّ يقوم فَيصَلي رَكْعَتَيْنِ مُقبلا عَلَيْهِمَا (بِقَلْبِه وَوَجهه) إِلَّا وَجَبت لَهُ الْجنَّة. قَالَ: فَقلت: مَا أَجود هَذِه؛ فَإِذا قَائِل بَين يَدي يَقُول: الَّتِي قبلهَا أَجود. فَإِذا عمر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: إِنِّي قد رَأَيْتُك جِئْت آنِفا، قَالَ: مَا مِنْكُم من أحد يتَوَضَّأ فَيبلغ أَو يسبغ الْوضُوء ثمَّ يَقُول: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله إِلَّا فتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة الثَّمَانِية يدْخل من أَيهَا شَاءَ» .
(قَالَ) : وحدثناه أَبُو بكر بن أبي شيبَة، نَا زيد بن الْحباب، نَا مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن ربيعَة بن يزِيد، عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ وَأبي عُثْمَان، عَن جُبَير بن نفير بن مَالك الْحَضْرَمِيّ، عَن عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: ... فَذكر مثله، غير أَنه قَالَ: «من تَوَضَّأ فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله» .
(2/282)
وَأخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من الطَّرِيق الأولَى الَّتِي لمُسلم إِلَّا أَن لَفظه «قلت: مَا هُوَ [يَا] أَبَا حَفْص؟ قَالَ: إِنَّه قَالَ آنِفا قبل أَن تَجِيء: مَا من أحد يتَوَضَّأ فَيحسن الْوضُوء ثمَّ يَقُول حِين يفرغ ... » فَذكره بِمثلِهِ، ثمَّ قَالَ: أَبُو عُثْمَان هَذَا يشبه أَن يكون حريز بن عُثْمَان الرَّحبِي وَإِنَّمَا الِاعْتِمَاد عَلَى الْإِسْنَاد الأول - يَعْنِي: الَّذِي أخرجه مُسلم - لِأَن حريز بن عُثْمَان لَيْسَ بِشَيْء فِي الحَدِيث.
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ رفع نظره إِلَى السَّمَاء فَقَالَ ... » وسَاق الحَدِيث.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» وَقَبله الْمُنْذِرِيّ فِي «اختصاره للسنن» : فِي إِسْنَاد هَذِه الرِّوَايَة رجل مَجْهُول.
(2/283)
قلت: هَذِه الرِّوَايَة أخرجهَا أَبُو دَاوُد عَن الْحُسَيْن بن عِيسَى البسطامي - وَهُوَ ثِقَة مَأْمُون أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ - عَن أبي عبد الرَّحْمَن عبد الله بن يزِيد الْمُقْرِئ - وَهُوَ ثِقَة احْتج بِهِ الشَّيْخ - عَن حَيْوَة بن شُرَيْح - وَهُوَ فَقِيه مصر وزاهدها ومحدثها، احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ أَيْضا - عَن أبي عقيل - واسْمه: زهرَة بن معبد التَّيْمِيّ، كَانَ من الْأَوْلِيَاء، احْتج بِهِ البُخَارِيّ - عَن ابْن عَمه - (وَهُوَ) مَجْهُول كَمَا اعتقداه، لَكِن هُوَ أَبُو بكر الصّديق رَضي اللهُ عَنهُ كَمَا أَفَادَهُ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي - عَن عقبَة بن عَامر، فَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وأخرجها أَحْمد فِي «مُسْنده» أَيْضا.
وَوَقع فِي «الْمُهَذّب» للشَّيْخ أبي إِسْحَاق فِي هَذَا الحَدِيث زِيَادَة غَرِيبَة، وَهِي: «من تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. صَادِقا من قلبه ... » الحَدِيث، هَذِه الزِّيَادَة لم أرها فِي شَيْء من رِوَايَات هَذَا (الحَدِيث) فِي الْكتب الْمَشْهُورَة، وَذكرهَا فِيهِ الْحَافِظ قطب الدَّين ابْن الْقُسْطَلَانِيّ فِي كِتَابه الموسوم «بالأدوية الشافية فِي الدَّعْوَات الكافية» وَلم يذكرهَا بِإِسْنَاد
(2/284)
حَتَّى نَنْظُر فِيهِ فَإِن الْكتاب الْمَذْكُور جَمِيعه بِغَيْر إِسْنَاد، وَأفَاد الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي بِأَن هَذِه الزِّيَادَة مَوْجُودَة لَكِنَّهَا ضَعِيفَة، فَقَالَ مَا نَصه: هَذِه الزِّيَادَة غير مَحْفُوظَة من طَرِيق الثِّقَات الْمُعْتَمد عَلَى حَدِيثهمْ. وَخَالف النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذِه اللَّفْظَة لَيست مَوْجُودَة فِي كتب الحَدِيث وَلكنهَا شَرط بِلَا شكّ.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين واجعلني من المتطهرين. فتحت لَهُ ثَمَانِيَة أَبْوَاب الْجنَّة يدْخل من أَيهَا شَاءَ» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عمرَان الثَّعْلَبِيّ الْكُوفِي، نَا زيد بن (حبَان) عَن مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن ربيعَة بن (يزِيد) الدِّمَشْقِي، عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ وَأبي عُثْمَان، عَن عمر. . فَذكره.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث فِي إِسْنَاده اضْطِرَاب، وَلَا يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي هَذَا الْبَاب كَبِير شَيْء [قَالَ مُحَمَّد] : وَأَبُو إِدْرِيس لم يسمع من عمر شَيْئا.
قلت: وَطَرِيق حَدِيث مُسلم الْمُتَقَدّمَة سَالِمَة من هَذَا الِاعْتِرَاض؛
(2/285)
فَإِنَّهُ ذكرهَا عَن ربيعَة، عَن [أبي] إِدْرِيس وَأبي عُثْمَان، عَن جُبَير بن نفير، عَن عقبَة. وَطَرِيق التِّرْمِذِيّ هَذِه معللة (بالانقطاع) بَين (أبي) إِدْرِيس وَعمر، وَذكر الْحَافِظ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» هَذَا الحَدِيث وَسكت (عَنهُ) وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان وَقَالَ: سكت عَنهُ مصححًا لَهُ وَهُوَ مُنْقَطع. قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي «علله» : سَأَلت مُحَمَّدًا عَنهُ فَقَالَ: هُوَ خطأ، إِنَّمَا هُوَ مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن ربيعَة بن يزِيد، عَن أبي إِدْرِيس، عَن عقبَة، عَن عمر وَمُعَاوِيَة، عَن ربيعَة بن يزِيد، عَن أبي عُثْمَان، عَن جُبَير بن نفير، عَن عمر. قَالَ: وَلَيْسَ لأبي إِدْرِيس سَماع من عمر. قلت: من أَبُو عُثْمَان هَذَا؟ قَالَ: شيخ لم أعرفهُ. وَقد نَص التِّرْمِذِيّ فِي «جَامعه» (عَلَى) أَن أَبَا إِدْرِيس لم يسمع من عمر، وَالْقَوْل بِأَن أَبَا عُثْمَان لم يسمعهُ من عمر هُوَ لأجل (إِدْخَال) جُبَير بن نفير بَينهمَا.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : لمن صَححهُ أَن يَجْعَل رِوَايَة أبي إِدْرِيس وَأبي عُثْمَان عَن عمر مُرْسلَة، وَيَأْخُذ بِالزِّيَادَةِ فِي إِثْبَات عقبَة
(2/286)
بن عَامر بَين (أبي) إِدْرِيس وَعمر، وَإِثْبَات جُبَير بن نفير بَين أبي عُثْمَان وَعمر، فَإِن الْأَخْذ بِالزَّائِدِ أولَى. قَالَ: وَلما أخرجه ابْن مَنْدَه قَالَ: هَذَا حَدِيث مَشْهُور من طرق عَن عقبَة بن عَامر وَعَن عمر بن الْخطاب، أخرجه مُسلم، وَهُوَ صَحِيح عَلَى رسم أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ، وَفِيه زيادات.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَرويت الزِّيَادَة الَّتِي زَادهَا التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة جمَاعَة من الصَّحَابَة غير عمر.
الحَدِيث الثَّالِث: عَن ثَوْبَان رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ رفع بَصَره إِلَى السَّمَاء فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. فتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة يدْخل من أَيهَا شَاءَ» .
رَوَاهُ أَبُو بكر الْبَزَّار فِي «سنَنه» - كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» - قَالَ الْبَزَّار: لَا نعلمهُ يرْوَى عَن ثَوْبَان إِلَّا من هَذَا الْوَجْه.
قلت: (ورأيته) فِي أَوَائِل الْجُزْء الثَّانِي انتقاء الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ قَالَ عقبه: هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث (أبي) سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، تفرد بِهِ أَبُو سعد الْبَقَّال سعيد بن الْمَرْزُبَان.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» (من) الطَّرِيق الْمَذْكُورَة
(2/287)
وَلَفظه: «من تَوَضَّأ فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله. فتحت لَهُ (أَبْوَاب) الثَّمَانِية من الْجنَّة يدْخل من أَيهَا شَاءَ» .
وَرَوَاهُ المستغفري فِي الدَّعْوَات بِلَفْظ: «من تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين واجعلني من المتطهرين ... » الحَدِيث.
الحَدِيث الرَّابِع: عَن أنس بن مَالك رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ قَالَ ثَلَاث مَرَّات: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله (وَحده لَا شريك لَهُ) وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. فتحت لَهُ ثَمَانِيَة أَبْوَاب الْجنَّة من أَيهَا شَاءَ دخل» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَابْن السّني فِي «عمل يَوْم وَلَيْلَة» وَفِي إِسْنَاده: زيد الْعمي، وَقد تقدم أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ فِي الْبَاب.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَأخرجه المستغفري فِي الدَّعْوَات وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن.
قلت: رَأَيْته فِيهِ، وَأخرجه أَحْمد فِي «الْمسند» بالسند الْمَذْكُور وَأسْقط «أشهد» من الثَّانِيَة، وَقَالَ: «فتح لَهُ من الْجنَّة ثَمَانِيَة أَبْوَاب من أَيهَا شَاءَ دخل» .
الحَدِيث الْخَامِس: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من تَوَضَّأ فَقَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت،
(2/288)
أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك. كتب فِي (رق) ثمَّ طبع بِطَابع فَلم يكسر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «الْيَوْم وَاللَّيْلَة» هَكَذَا من حَدِيث يَحْيَى بن كثير أبي غَسَّان عَن (شُعْبَة) عَن أبي هَاشم، عَن أبي مجلز، عَن قيس بن عباد، عَن أبي سعيد. ثمَّ رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن (بشار) عَن [مُحَمَّد عَن] شُعْبَة عَن أبي هَاشم قَالَ: سَمِعت أَبَا مجلز يحدث عَن قيس بن عباد، عَن أبي سعيد قَالَ: «مَا من (مُسلم) يتَوَضَّأ وَيَقُول: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِك ... » ذكره مَوْقُوفا.
وَإسْنَاد هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ - أَعنِي المرفوعة والموقوفة - صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم لَا نعلم طَعنا فِي وَاحِد من رِجَاله، بل هم أَئِمَّة أَعْلَام ثِقَات.
(وَرَوَاهُ) المستغفري فِي «دعواته» «من قَالَ إِذا تَوَضَّأ: بِسم الله. وَإِذا فرغ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أستغفرك
(2/289)
وَأَتُوب إِلَيْك. طبع عَلَيْهَا بِطَابع، وَوضعت تَحت الْعَرْش، فَلَا تكسر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي سعيد مَوْقُوفَة «من تَوَضَّأ ففرغ من وضوئِهِ فَقَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك. ختم عَلَيْهَا بِخَاتم ثمَّ وضعت تَحت الْعَرْش فَلَا يكسر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» .
ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث رَفعه قيس وَوَقفه سُفْيَان الثَّوْريّ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي «أَوسط معاجمه» بعد أَن رَوَاهُ: لم يروه مَرْفُوعا عَن شُعْبَة إِلَّا يَحْيَى بن كثير. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْخَبَر الأول) من فَوَائِد أبي إِسْحَاق الْمُزَكي من حَدِيث عِيسَى بن شُعَيْب، عَن روح بن الْقَاسِم، عَن (أبي هَاشم) مَرْفُوعا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَهُوَ غَرِيب عَن روح بن الْقَاسِم، تفرد بِهِ عِيسَى بن شُعَيْب. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» : هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ الْحَازِمِي: إِسْنَاده حسن ثَابت وَقد رُوِيَ مَرْفُوعا، وَرَفعه ضَعِيف.
قلت: حكمه عَلَى رِوَايَة الرّفْع بالضعف خطأ، وَكَذَلِكَ قَول ابْن الصّلاح فِيهِ: «رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد لَيْسَ بِالْقَوِيّ» لَيْسَ بجيد مِنْهُ،
(2/290)
وَكَذَلِكَ حكم النَّوَوِيّ فِي «الْأَذْكَار» و «الْخُلَاصَة» عَلَيْهِ بالضعف لَا يقبل، وَأغْرب من ذَلِك قَوْله فِي «شرح الْمُهَذّب» : رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة» بِإِسْنَاد غَرِيب ضَعِيف، رَوَاهُ مَرْفُوعا وموقوفًا (عَلَى) أبي سعيد، وَكِلَاهُمَا ضَعِيف الْإِسْنَاد. هَذَا لَفظه، وواعجباه؛ كَيفَ يكون إِسْنَاده غَرِيبا أَو ضَعِيفا؟ ! فرجاله أَئِمَّة أَعْلَام ثِقَات، وهاك سبر أَحْوَالهم لنقضي الْعجب من هَذِه المقالات ونثلج إِلَى قَلْبك الْيَقِين.
أما يَحْيَى بن كثير أَبُو غَسَّان فَأخْرج لَهُ الشَّيْخَانِ وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة وَهُوَ ثِقَة. وَأما شُعْبَة فَهُوَ ابْن الْحجَّاج الْعَتكِي الْحَافِظ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث أخرج لَهُ السِّتَّة أَيْضا. وَأما أَبُو هَاشم فَهُوَ (الرماني) الوَاسِطِيّ اسْمه: يَحْيَى، وَقيل: نَافِع، ثِقَة أخرج لَهُ السِّتَّة أَيْضا. و (أما أَبُو مجلز فاسمه) لَاحق بن حميد السدُوسِي (ثِقَة) أخرج لَهُ السِّتَّة أَيْضا. وَأما قيس بن عباد فَهُوَ الْقَيْسِي أَبُو عبد الله ثِقَة مُتَألِّه، أخرجُوا لَهُ ماعدا التِّرْمِذِيّ.
هَذَا حَال رِوَايَة الرّفْع، وَأما رِوَايَة الْوَقْف فمحمد بن بشار هُوَ الْحَافِظ، أخرج لَهُ السِّتَّة وَبَاقِي الْإِسْنَاد مثل الأول فَهَذَا الْإِسْنَاد من
(2/291)
طريقيه كَالشَّمْسِ لَا جرم أخرجه الْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» فِي فَضَائِل الْقُرْآن فِي ذكر فَضَائِل سور وآي مُتَفَرِّقَة عَن أبي الْحُسَيْن أَحْمد بن [عُثْمَان] الْمُقْرِئ، نَا أَبُو قلَابَة عبد الْملك بن مُحَمَّد، ثَنَا يَحْيَى بن كثير، نَا شُعْبَة، عَن أبي هَاشم، [عَن أبي مجلز] عَن (قيس) بن عباد، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من قَرَأَ سُورَة الْكَهْف كَمَا أنزلت كَانَت لَهُ نورا يَوْم الْقِيَامَة من مقَامه إِلَى مَكَّة، وَمن قَرَأَ عشر آيَات من آخرهَا ثمَّ خرج الدَّجَّال لم يُسَلط عَلَيْهِ، وَمن تَوَضَّأ ثمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، لَا إِلَه إِلَّا أَنْت أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك. كتب برق ثمَّ طبع بِطَابع فَلم يكسر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. قَالَ: سُفْيَان الثَّوْريّ رَوَاهُ عَن أبي هَاشم فَوَقفهُ. ثمَّ أخرجه عَن الْقطيعِي، عَن عبد الله بن أَحْمد، عَن أَبِيه، عَن ابْن مهْدي، عَن سُفْيَان، عَن أبي هَاشم، عَن أبي مجلز، عَن قيس بن عباد، عَن أبي سعيد قَالَ: «من قَرَأَ سُورَة الْكَهْف ... » فَذكر نَحوه.
وَرَأَيْت فِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» أَن وقف هَذَا الحَدِيث هُوَ الصَّوَاب.
وَعَن (النَّسَائِيّ) أَن رَفعه خطأ وَأَن الصَّوَاب وَقفه، وَلَك أَن
(2/292)
تَقول: أَي دَلِيل عَلَى صَوَاب رِوَايَة الْوَقْف وَخطأ رِوَايَة الرّفْع، ورواة هَذِه هم رُوَاة هَذِه؟ وَالْحق - إِن شَاءَ الله - الَّذِي لَا يَتَّضِح غَيره أَن رِوَايَة الرّفْع (صَرِيحَة) صَحِيحَة كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
«الطابع» الْمَذْكُور فِي الحَدِيث: بِفَتْح الْبَاء وَكسرهَا لُغَتَانِ فصيحتان، وَهُوَ الْخَاتم، وَمَعْنى طبع: ختم. و «الرَق» الْمَذْكُور فِيهِ مَفْتُوح الرَّاء.
وَقَوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «فَلم يكسر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» مَعْنَاهُ لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ إبِْطَال وإحباط.
الحَدِيث السَّادِس: عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْبَيْلَمَانِي، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «من تَوَضَّأ وَغسل كفيه ثَلَاثًا، واستنثر ثَلَاثًا [ومضمض ثَلَاثًا] وَغسل وَجهه وَيَديه ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمسح رَأسه ثَلَاثًا، وَغسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. قبل أَن يتَكَلَّم غفر لَهُ مَا بَين الوضوءين» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَقد تقدم فِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ من هَذَا الْبَاب مثل (هَذَا الحَدِيث، من) حَدِيث عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ وتكلمنا هُنَاكَ عَلَى ابْن الْبَيْلَمَانِي وَأَبِيهِ.
الحَدِيث السَّابِع: عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -:
(2/293)
«إِذا فرغ أحدكُم من طهوره فَلْيقل: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. ثمَّ ليصل عليَّ؛ فَإِذا قَالَ ذَلِك فتحت لَهُ أَبْوَاب الرَّحْمَة» .
رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي «جمعه» لحَدِيث الْأَعْمَش - كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخ فِي «الإِمَام» - وَفِي إِسْنَاده عَمْرو بن شمر، وَهُوَ مَتْرُوك عِنْدهم.
قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث يَحْيَى بن هَاشم الغساني، نَا سُلَيْمَان (الْأَعْمَش، عَن شَقِيق) ، عَن عبد الله قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إِذا تطهر أحدكُم فليذكر الله فَإِنَّهُ يطهر جسده كُله، فَإِن لم يذكر أحدكُم اسْم الله عَلَى طهوره لم يطهر إِلَّا مَا مر عَلَيْهِ المَاء، فَإِذا فرغ أحدكُم من طهوره فليشهد. .» بِمثل الَّذِي قبله.
وَيَحْيَى بن هَاشم قَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث.
قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ (عبد الله بن مُحَمَّد بن جَعْفَر) من حَدِيث مُحَمَّد بن جَابر - وَهُوَ (اليمامي) مُتَكَلم فِيهِ - عَن الْأَعْمَش، عَن أبي وَائِل، عَن عبد الله مَرْفُوعا مثل الأول.
قَالَ: وَأخرجه أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ من جِهَة أبي الشَّيْخ وَقَالَ: هَذَا حَدِيث مَشْهُور لَهُ طرق عَن عمر بن الْخطاب وَعقبَة بن (عَامر)
(2/294)
وثوبان وَأنس، لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا ذكر الصَّلَاة إِلَّا فِي هَذِه الرِّوَايَة.
الحَدِيث الثَّامِن: عَن عَلّي - كرم الله وَجهه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «يَا عَلّي، إِذا فرغت من وضوئك فَقل: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين واجعلني من المتطهرين. تخرج من ذنوبك كَيَوْم وَلدتك أمك، وَيفتح لَك ثَمَانِيَة أَبْوَاب الْجنَّة يُقَال لَك: ادخل من أَيهَا شِئْت»
رَوَاهُ الْحَافِظ قطب الدَّين بن الْقُسْطَلَانِيّ فِي كِتَابه الموسوم «بالأدوية الشافية فِي الْأَدْعِيَة الكافية» .
هَذَا آخر مَا (أردناه) من إِيرَاد هَاتين الخاتمتين، ختم الله لنا وللناظر فيهمَا بخاتمة الْخَيْر، وبوأنا بهما جنَّة عدن، إِنَّه ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ.
(2/295)
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم رب أعن)
بَاب الِاسْتِنْجَاء
ذكر فِيهِ - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - من الْأَحَادِيث تِسْعَة وَعشْرين حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «وليستنج أحدكُم بِثَلَاثَة أَحْجَار» .
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح بعض من حَدِيث طَوِيل رَوَاهُ الْأَئِمَّة: الشَّافِعِي فِي «مُسْنده» ، وَإِمَام الْأَئِمَّة مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي (صَحِيحَيْهِمَا) من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِنَّمَا أَنا لكم مثل الْوَالِد، فَإِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْغَائِط فَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا يستدبرها، وَلَا يستطب بِيَمِينِهِ. وَكَانَ يَأْمر بِثَلَاثَة أَحْجَار وَينْهَى عَن الروث والرمة» .
هَذَا لفظ ابْن حبَان، وَلَفظ الشَّافِعِي: «إِنَّمَا أَنا لكم بِمَنْزِلَة الْوَالِد - وَفِي رِوَايَة: مثل الْوَالِد - فَإِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْغَائِط فَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا يستدبرها بغائط وَلَا بَوْل، وليستنج بِثَلَاثَة أَحْجَار: وَنَهَى عَن الروثة والرمة، وَأَن يستنجي الرجل بِيَمِينِهِ» .
(2/296)
كَذَا هُوَ فِي «الْمسند» و «الْأُم» وَكَذَا هُوَ فِي «الْمُخْتَصر» إِلَّا أَن لَفظه: «ويستنجي بِثَلَاثَة أَحْجَار» .
وَلَفظ ابْن خُزَيْمَة: «إِنَّمَا أَنا لكم مثل الْوَالِد لوَلَده؛ فَلَا يسْتَقْبل أحدكُم (الْقبْلَة) وَلَا يستدبرها - يَعْنِي: فِي الْغَائِط - وَلَا يسْتَنْج بِدُونِ ثَلَاثَة أَحْجَار، لَيْسَ فِيهَا رَوْث وَلَا رمة» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان «إِنِّي أَنا لكم مثل الْوَالِد أعلمكُم، إِذا أتيتم الْغَائِط؛ فَلَا تستقبلوا الْقبْلَة وَلَا تستدبروها، وَلَا يستنجي أحدكُم بِيَمِينِهِ وَكَانَ يَأْمر بِثَلَاثَة أَحْجَار، وَينْهَى عَن الروث والرمة» .
وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» وَهَذَا لَفظه: «إِنَّمَا أَنا لكم مثل الْوَالِد [للْوَلَد] أعلمكُم؛ فَلَا تستقبلوا (الْقبْلَة) وَلَا تستدبروها، وَإِذا استطبت فَلَا تستطب بيمينك. وَكَانَ (يَأْمُرنَا) بِثَلَاثَة أَحْجَار، وَينْهَى عَن الروث والرمة» .
وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ الأول الَّذِي ذكره ابْن حبَان إِلَّا أَنه قَالَ فِي أَوله: «إِنَّمَا أَنا لكم بِمَنْزِلَة الْوَالِد أعلمكُم؛ فَإِذا أَتَى أحدكُم الْغَائِط ... » بِمثلِهِ سَوَاء.
(2/297)
وَابْن مَاجَه فِي «سنَنه» وَهَذَا لَفظه: «إِنَّمَا أَنا لكم (بِمَنْزِلَة) الْوَالِد (لوَلَده) أعلمكُم، إِذا أتيتم الْغَائِط فَلَا تستقبلوا الْقبْلَة وَلَا تستدبروها. وَأمر بِثَلَاثَة أَحْجَار، وَنَهَى عَن الروث والرمة، وَنَهَى أَن يَسْتَطِيب الرجل بِيَمِينِهِ» .
وَالنَّسَائِيّ فِي «سنَنه» وَهَذَا لَفظه: «إِنَّمَا أَنا لكم مثل الْوَالِد أعلمكُم، فَإِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْخَلَاء فَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا يستدبرها، وَلَا يستنجي بِيَمِينِهِ. وَكَانَ يَأْمر بِثَلَاثَة أَحْجَار، وَكَانَ ينْهَى عَن الروث والرمة» .
وَأَسَانِيده كلهَا صَحِيحَة، وَأَصله فِي «صَحِيح مُسلم» وَلَفظه فِيهِ: «إِذا جلس أحدكُم (لِحَاجَتِهِ) فَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا يستدبرها» .
وَقد شهد لَهُ بِالصِّحَّةِ إمامنا، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «معرفَة السّنَن والْآثَار» : قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: هَذَا حَدِيث ثَابت.
«الرِّمَّةِ» - بِكَسْر الرَّاء وَتَشْديد الْمِيم - الْعظم الْبَالِي. قَالَه جماعات، قَالَ الْخطابِيّ: وَيُقَال: إِنَّمَا سميت رمة؛ لِأَن الْإِبِل ترمها أَي: تأكلها. قَالَ: وَقَوله: «إِنَّمَا أَنا لكم بِمَنْزِلَة الْوَالِد» كَلَام بسط وتأنيس للمخاطبين (لِئَلَّا) يحتشموه وَلَا يستحيوا عَن مَسْأَلته فِيمَا يعرض لَهُم
(2/298)
من أَمر (دينهم كَمَا لَا يستحي الْوَلَد عَن مَسْأَلَة الْوَالِد فِيمَا عَنَّ وَعرض لَهُ) من أَمر. وَذكر صَاحب الْحَاوِي مَعَ هَذَا تَأْوِيلا آخر أَن يكون مَعْنَاهُ يلْزَمنِي تأديبكم وتعليمكم أَمر دينكُمْ كَمَا يلْزم الْوَالِد ذَلِك.
قَالَ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيجوز أَن يكون كالوالد فِي الْأَمريْنِ، وَفِي ثَالِث أَيْضا، وَهُوَ الْحِرْص عَلَى مصلحتكم والشفقة عَلَيْكُم.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من أَتَى الْغَائِط (فليستتر) فَإِن لم يجد إِلَّا أَن يجمع كثيبًا من رمل فَلْيفْعَل» .
هَذَا الحَدِيث بعض من حَدِيث طَوِيل، وَقد فرقه الإِمَام الرَّافِعِيّ فَذكر بعضه هُنَا وَبَعضه فِي آخر الْبَاب وَترك بعضه؛ فلنذكره هُنَا بِكَمَالِهِ فَنَقُول: رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد والدارمي فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي
(2/299)
«صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» مطولا ومختصرًا، وَهَذَا لفظ أبي دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن وَمن لَا فَلَا حرج، وَمن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن وَمن لَا فَلَا حرج، وَمن أكل (فَمَا تخلَّل) (فليلفظ) وَمَا لاك بِلِسَانِهِ فليبتلع، من فعل فقد أحسن وَمن لَا فَلَا حرج، وَمن أَتَى الْغَائِط فليستتر؛ فَإِن لم يجد إِلَّا أَن يجمع كثيبًا من رمل فليستدبره؛ فَإِن الشَّيْطَان يلْعَب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن وَمن لَا فَلَا حرج» .
هَذَا أكمل رِوَايَات هَذَا الحَدِيث، وَلَفظ البَاقِينَ مُخْتَصرا، وَبَعْضهمْ يزِيد عَلَى بعض، وَالْحَاكِم ذكر قصَّة الْأكل مِنْهُ (لَيْسَ إِلَّا) ومداره عَلَى أبي سعيد الحبراني الْحِمصِي وَيُقَال: أَبُو سعد الْخَيْر الْأَنمَارِي، واسْمه: زِيَاد. قَالَه الْمزي، وَقيل: عَامر بن (سعد) ، وَقيل: عمر بن سعد - رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة.
قَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم: أَبُو سعيد الحبراني سَأَلت أَبَا زرْعَة عَنهُ فَقَالَ: لَا أعرفهُ. فَقلت: ألقِي أَبَا هُرَيْرَة؟ فَقَالَ: عَلَى هَذَا
(2/300)
يوضع. وَذكر أَبُو حَاتِم بن حبَان أَبَا سعيد هَذَا فِي «ثقاته» فِي التَّابِعين، وَذكره فِي «الصَّحَابَة» أَبُو نعيم وَابْن مَنْدَه وَابْن عبد الْبر وَقَالَ ابْن قَانِع: أَبُو سعد الْخَيْر الْأَنمَارِي اسْمه بحير، وَسَماهُ مُعَاوِيَة بن سَلام: بحيرًا.
قَالَ أَبُو دَاوُد - عَلَى مَا نَقله الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «تَهْذِيب الْكَمَال» -: أَبُو (سعد) الْخَيْر من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. (ثمَّ) ذكر الشَّيْخ جمال الدَّين الْمزي عَن أبي (سعد) الْخَيْر حديثين فِي أَحدهمَا: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قلت: وَزعم العسكري أَن الصَّحَابِيّ المكنى أَبَا سعيد الْأَنمَارِي و (الْمُسَمَّى) عَامِرًا أَو عمرا هُوَ المكنى أَيْضا أَبَا كَبْشَة.
وَاخْتلف الْحفاظ فِي تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث وتضعيفه بِحَسب تَوْثِيق بعض الْأَئِمَّة لأبي (سعد) الْخَيْر وجهالة بَعضهم إِيَّاه.
فَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَيْسَ إِسْنَاده بالقائم فِيهِ مَجْهُولَانِ. كَأَنَّهُ عَنى
(2/301)
بِالْمَجْهُولِ الآخر (حُصَيْن) الْحِمْيَرِي (الحبراني) الرَّاوِي عَن أبي (سعد) الْخَيْر، وَلَيْسَ هُوَ مَجْهُولا؛ فقد ذكره أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي كِتَابه «الثِّقَات» فِي أَتبَاع التَّابِعين فَقَالَ: كنيته أَبُو سعيد، رَوَى عَنهُ ثَوْر بن يزِيد، وَرَوَى عَن أبي (سعد) الْخَيْر. وَقَالَ أَبُو زرْعَة فِي حَقه: شيخ مَعْرُوف. وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان الْفَسَوِي فِي «تَارِيخه» : لَا أعلم إِلَّا خيرا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: شيخ. وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» : فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث الْحصين الحبراني وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَقَالَ ابْن حزم فِي «محلاه» : (الْحصين) مَجْهُول وَأَبُو سعيد - (أَو) أَبُو سعد - (الْخَيْر) كَذَلِك. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : لم يحْتَج بِإِسْنَاد هَذَا الحَدِيث (وَاحِد من الشَّيْخَيْنِ) وَأَبُو (سعد) لَيْسَ بِمَشْهُور. هَذِه أَقْوَال من ضعفه، وَالْحق أَنه حَدِيث صَحِيح لاسيما
(2/302)
عَلَى قَول أبي دَاوُد أَن أَبَا سعيد صَحَابِيّ، وَلَا يلْزم من عدم احتجاجهما بِسَنَدِهِ ضعفه، وَقد صَححهُ جماعات مِنْهُم الإِمَام أَبُو حَاتِم بن حبَان فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» من الطَّرِيق الْمَذْكُور، وَكَذَلِكَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» فِي آخر كتاب الْأَطْعِمَة، وَقَالَ بعد إِخْرَاجه: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ فِي «شرح مُسلم» : إِنَّه حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث «الْمُهَذّب» : هُوَ حَدِيث حسن. هَذَا كُله مَعَ سكُوت أبي دَاوُد (عَنهُ) .
وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ فِي «علله» : يرويهِ ثَوْر بن يزِيد، وَاخْتلف عَنهُ: فَرَوَاهُ عبد الْملك بن الصَّباح وَالْحسن بن عَلّي بن عَاصِم، عَن ثَوْر، عَن حُصَيْن الحبراني، عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ عِيسَى بن يُونُس، عَن ثَوْر، عَن حُصَيْن، عَن أبي سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة،
(2/303)
وَالصَّحِيح عَن أبي سعيد.
«الْكَثِيب» الْمَذْكُور فِي الحَدِيث - بالثاء الْمُثَلَّثَة - قِطْعَة من الرمل مستطيلة مَحْدُود بِهِ تشبه الربوة.
الحَدِيث الثَّالِث
«ورد النَّهْي عَن اسْتِقْبَال الشَّمْس وَالْقَمَر بالفرج» .
هَذَا غَرِيب لم أَقف عَلَى من خرجه بعد شدَّة الْبَحْث عَنهُ، وَفِي «النِّهَايَة» لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن الْعِرَاقِيّين رووا هَذَا الْخَبَر (وَكَذَا قَالَ الْمحَامِلِي فِي «الْمَجْمُوع» أَنه فِيهِ خَبرا. وَكَذَا قَالَ الْغَزالِيّ) فِي «وسيطه» وتبعهم الرَّافِعِيّ، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى «الْوَسِيط» : إِنَّه ضَعِيف لَا يعرف، رُوِيَ فِي كتاب فِي «المناهي» مَرْفُوعا: «نهي أَن يَبُول الرجل وفرجه باد للشمس، وَنهي أَن يَبُول وفرجه باد للقمر» .
(2/304)
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا حَدِيث بَاطِل لَا يعرف.
قلت: وَقَول الإِمَام الرَّافِعِيّ: إِن فِي الْخَبَر مَا يدل عَلَى أَن النَّهْي عَام فِي الِاسْتِقْبَال والاستدبار فِيهِ نظر فَتَأمل ذَلِك.
الحَدِيث الرَّابِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْغَائِط فَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا يستدبرها بغائط وَلَا بَوْل» .
هَذ (الحَدِيث) صَحِيح، رَوَاهُ الإِمَام الشَّافِعِي فِي «الْأُم» و «مُسْنده» من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء بِإِسْنَاد صَحِيح. وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» بِمَعْنَاهُ دون قَوْله: «بغائط وَلَا بَوْل» . وَرَوَى هَذَا الحَدِيث لغابط - بِاللَّامِ وبالباء - وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
الحَدِيث الْخَامِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا تستقبلوا الْقبْلَة بغائط وَلَا بَوْل وَلَكِن شرقوا أَو غربوا» .
(هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا أتيتم الْغَائِط فَلَا تستقبلوا
(2/305)
الْقبْلَة وَلَا تستدبروها ببول وَلَا غَائِط، وَلَكِن شرقوا أَو غربوا) قَالَ أَبُو أَيُّوب: فقدمنا الشَّام فَوَجَدنَا مراحيض قد بنيت قبل (الْقبْلَة) فننحرف عَنْهَا، ونستغفر الله - عَزَّ وجَلَّ» .
الحَدِيث السَّادِس
عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما قَالَ: «رقيت السَّطْح مرّة فَرَأَيْت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جَالِسا عَلَى لبنتين مُسْتَقْبلا بَيت الْمُقَدّس» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة وَفِي رِوَايَة لَهُم «مُسْتَقْبل الشَّام مستدبر الْكَعْبَة» .
وَوَقع فِي «صَحِيح ابْن حبَان» « (مُسْتَقْبل) الْقبْلَة مستدبر الشَّام» فاعلمه.
ورقيت (بِكَسْر الْقَاف) عَلَى أشهر اللُّغَات، وَثَانِيا بِفَتْحِهَا بِغَيْر همز، وَثَالِثهَا مثلهَا إِلَّا أَنَّهَا بِالْهَمْز. حَكَاهُمَا صَاحب «مطالع الْأَنْوَار» وَاخْتِيَار ثَعْلَب فِي «فصيحه» كسر الْقَاف، وَالَّذِي فتحهَا من الرّقية. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: حَكَى بَعضهم رَقَيت فِي السّلم - بِفَتْح الْقَاف - وَلَا أعلم
(2/306)
صِحَّته. وَفِي «الْجَامِع» : رقأت، ورقيت (بِالْفَتْح) أفْصح. وَخَالف ذَلِك كرَاع فَقَالَ: رقأت بِالْهَمْز أَجود.
واللبنة مَعْرُوفَة. وَبَيت الْمُقَدّس يشدد ويخفف، وَمَعْنَاهُ (المطهر) .
الحَدِيث السَّابِع
عَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «نَهَانَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نستقبل الْقبْلَة بفروجنا، ثمَّ رَأَيْته قبل مَوته بعام مُسْتَقْبل الْقبْلَة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» وَإِمَام الْأَئِمَّة مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» (وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» ) و «خلافياته» وَفِي لفظ بَعضهم زِيَادَة: «أَو تستدبر» بعد «وَأَن نستقبل الْقبْلَة» .
وَلَفظ ابْن حبَان «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينهانا أَن نستقبل الْقبْلَة
(2/307)
ونستدبرها بفروجنا إِذا أهرقنا المَاء، ثمَّ رَأَيْته قبل مَوته بعام يَبُول مُسْتَقْبل الْقبْلَة» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «الخلافيات» : قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا - يَعْنِي: البُخَارِيّ - عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: حَدِيث صَحِيح. وَكَذَا نقل هَذِه الْمقَالة عَن البُخَارِيّ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» وَقَالَ الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث لَا نعلم يرْوَى عَن جَابر بِهَذَا اللَّفْظ بِإِسْنَاد أحسن من هَذَا الْإِسْنَاد. وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح المأثورة» وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. (وَفِي كَونه عَلَى شَرطه نظر؛ لِأَن فِي إِسْنَاده: ابْن إِسْحَاق، وَلم يحْتَج بِهِ مُسلم) إِنَّمَا أخرج لَهُ مُتَابعَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد» : فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ابْن إِسْحَاق عَن أبان، وَابْن إِسْحَاق مُدَلّس، والمدلس إِذا قَالَ: «عَن» لَا يحْتَج بِهِ، فَكيف حسنه التِّرْمِذِيّ؟ ! (وَأجَاب عَن هَذَا بِأَن قَالَ: لَعَلَّه اعتضدا وَعلم أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ) بطرِيق آخر أَن ابْن إِسْحَاق سَمعه من أبان.
قلت: زَالَ هَذَا الْإِشْكَال و (التَّمَنِّي) بِأَن أَحْمد فِي « (الْمسند» ) وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» وَابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ قَالُوا كلهم فِي روايتهم لهَذَا الحَدِيث: «عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، حَدثنِي أبان» فارتفعت وصمة التَّدْلِيس. وَزعم ابْن عبد الْبر أَن هَذَا الحَدِيث لَا يَصح؛ لضعف أبان بن صَالح، وَهَذَا
(2/308)
تَعْلِيل سَاقِط؛ فَإِن أبان هَذَا لم يُضعفهُ أحد، وَهُوَ أبان بن صَالح بن عُمَيْر الْقرشِي مَوْلَاهُم أَبُو بكر الْمدنِي، قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «التَّهْذِيب» : أخرج لَهُ البُخَارِيّ تَعْلِيقا. وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَثَّقَهُ المزكون يَحْيَى بن معِين وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم الرازيان. وَقَالَ ابْن عبد الْحق - فِيمَا رده عَلَى ابْن حزم -: لم يجرح (أَبَانَا هَذَا أحد) فِيمَا أعلم. وَفِي هَذَا رد عَلَى قَول (أبي مُحَمَّد بن حزم) أَيْضا حَيْثُ قَالَ: أبان هَذَا لَيْسَ بالمشهور.
قلت: فتلخص من هَذَا كُله أَن الحَدِيث صَحِيح مَعْمُول بِهِ، وَأما قَول ابْن عبد الْحق - فِيمَا رده عَلَى ابْن حزم -: إِن الحَدِيث غير صَحِيح؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق، وَلَيْسَ هُوَ عندنَا مِمَّن يحْتَج بحَديثه. فَلَا يقبل مِنْهُ؛ لِأَن الْمَحْذُور الَّذِي يخَاف (من) ابْن إِسْحَاق (زَالَ) فِي هَذَا الحَدِيث.
الحَدِيث الثَّامِن
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اتَّقوا الْملَاعن» .
(2/309)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي «سنَنَيْهِمَا» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من حَدِيث أبي سعيد الْحِمْيَرِي، عَن معَاذ بن جبل رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «اتَّقوا الْملَاعن الثَّلَاث: البرَاز فِي الْمَوَارِد، والظل، وقارعة الطَّرِيق» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: وَكَذَا صَححهُ ابْن السكن حَيْثُ ذكره فِي «صحاحه المأثورة» وَفِي ذَلِك نظر؛ فَأَبُو سعيد هَذَا قيل: لم يسمع من معَاذ فَيكون مُنْقَطِعًا. قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: أَبُو سعيد هَذَا أرَاهُ لم يدْرك معَاذ بن جبل. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : أَبُو سعيد قيل: لم يسمع من معَاذ. وَبِذَلِك جزم عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» وَعَن كتاب «التفرد» لأبي دَاوُد لما ذكر هَذَا الحَدِيث بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُور قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِمُتَّصِل.
وَذكر ابْن الْقطَّان: أَن أَبَا سعيد هَذَا لَا يعرف فِي غير هَذَا الْإِسْنَاد (وَلم يزدْ ابْن أبي حَاتِم فِي ذكره إِيَّاه عَلَى مَا أَخذ من هَذَا
(2/310)
الْإِسْنَاد) وَذكره أَيْضا كَذَلِك من غير مزِيد ابْن عبد الْبر فِي «الكنى الْمُجَرَّدَة» قَالَ: فَهُوَ مَجْهُول.
وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة حَدثنِي ابْن هُبَيْرَة، أَخْبرنِي من سمع ابْن عَبَّاس يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: « (اتَّقوا) الْملَاعن الثَّلَاث قيل: وَمَا الْملَاعن يَا رَسُول الله؟ قَالَ: أَن يقْعد أحدكُم فِي ظلّ يستظل بِهِ، أَو فِي طَرِيق، أَو فِي نقع مَاء» .
وَفِي «علل الدَّارَقُطْنِيّ» عَن قيس، عَن سعد بن أبي وَقاص أَظُنهُ رَفعه قَالَ: «إيَّاكُمْ والملاعن: أَن يلقِي أحدكُم أَذَاهُ فِي الأَرْض فَلَا يمر بِهِ أحد إِلَّا قَالَ: من فعل هَذَا لَعنه الله!» ثمَّ قَالَ: رُوِيَ مَوْقُوفا، وَهُوَ الْمَحْفُوظ. انْتَهَى.
وَقد وَردت أَحَادِيث أخر فِي النَّهْي عَن البرَاز فِي أَمَاكِن؛ فَفِي «صَحِيح مُسلم» عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «اتَّقوا اللعانين. قَالُوا: وَمَا اللعانان يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الَّذِي يتخلى فِي طرق النَّاس أَو فِي ظلهم» . وَفِي رِوَايَة لِابْنِ السكن «طَرِيق المسملين» بدل «النَّاس» . وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: «فِي طَرِيق النَّاس وأفنيتهم» . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالْحَاكِم: «اتَّقوا اللاعنين. قَالُوا: وَمَا اللاعنان يَا رَسُول الله؟ قَالَ:
(2/311)
الَّذِي يتخلى فِي طَرِيق النَّاس (أَو) فِي ظلهم» . قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم (قَالَ:) وَقد أخرجه هُوَ عَن قُتَيْبَة.
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» : «اجتنبوا اللعانين قَالُوا: وَمَا اللعانان يَا رَسُول الله؟ ! قَالَ: الَّذِي يتبرز عَلَى طَرِيق النَّاس أَو فِي مجْلِس قوم» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَنْدَه: «اتَّقوا اللاعنين. قَالُوا: وَمَا اللاعنان يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الَّذِي يتخلى فِي طَرِيق الْمُسلمين أَو مجَالِسهمْ» قَالَ ابْن مَنْدَه: إِسْنَاده صَحِيح.
وَفِي «الْمُسْتَدْرك» للْحَاكِم و «السّنَن الْكَبِير» للبيهقي عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من سل (سخيمته) عَلَى طَرِيق عَامر من (طرق) الْمُسلمين؛ فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ» . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح إِسْنَاده.
وَفِي «السّنَن الْأَرْبَعَة» - أَعنِي: «سنَن أبي دَاوُد» وَالتِّرْمِذِيّ
(2/312)
وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه (و «مُسْند أَحْمد» ) و «مُسْتَدْرك الْحَاكِم» عَن عبد الله بن مُغفل مَرْفُوعا: «لَا يبولن أحدكُم فِي مستحمه ثمَّ يتَوَضَّأ فِيهِ؛ فَإِن (عَامَّة) الوسواس مِنْهُ» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث (غَرِيب) وَقَالَ الْحَاكِم: حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَأعله عبد الْحق بِمَا بَين ابْن الْقطَّان أَنه غلط من جِهَة النَّقْل.
وَفِي «مُسْند أَحْمد بن منيع الْبَغَوِيّ» عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من جلس عَلَى قبر يتغوط أَو يَبُول فَكَأَنَّمَا جلس عَلَى جَمْرَة» .
إِسْنَاده ضَعِيف، وَقد صَحَّ النَّهْي عَن فعل ذَلِك عَلَى الْقَبْر، كَمَا سَيَأْتِي فِي كتاب الْجَنَائِز من حَدِيث جَابر: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يجصص الْقَبْر، وَأَن يُبْنَى عَلَيْهِ، وَأَن يقْعد عَلَيْهِ» قَالَ مَالك والهروي: المُرَاد بالقعود الْحَدث. وَقد خولفا فِي ذَلِك، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي الْموضع الْمَذْكُور.
(2/313)
وَفِي «ضعفاء الْعقيلِيّ» عَن ابْن عمر قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يتخلى الرجل تَحت شَجَرَة مثمرة أَو ضفة نهر جاري» .
فِي إِسْنَاده فرات بن السَّائِب قَالَ البُخَارِيّ: كُوفِي تَرَكُوهُ.
وَفِي «كَامِل» بن عدي عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يتغوط الرجل فِي القرع من الأَرْض، قيل: وَمَا القرع؟ قَالَ: أَن يَأْتِي أحدكُم الأَرْض فِيهَا النَّبَات كَأَنَّمَا قُمْت قمامتها فَتلك مسَاكِن إخْوَانكُمْ من الْجِنّ» .
فِي إِسْنَاده سَلام بن مُسلم قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَحْمد: مُنكر الحَدِيث.
وَفِي «سنَن ابْن مَاجَه» عَن جَابر بن عبد الله مَرْفُوعا: «إيَّاكُمْ والتعريس عَلَى جواد الطَّرِيق (وَالصَّلَاة) عَلَيْهَا فَإِنَّهَا مأوى الْحَيَّات وَالسِّبَاع، وَقَضَاء الْحَاجة عَلَيْهَا فَإِنَّهَا الْملَاعن» . إِسْنَاده صَحِيح.
وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» (بِزِيَادَة فِيهِ) .
وفيهَا أَيْضا عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن
(2/314)
يصلى عَلَى قَارِعَة الطَّرِيق أَو (يضْرب) الْخَلَاء عَلَيْهَا أَو يبال فِيهَا» .
فِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة وقرة، وَضعفهمَا مَشْهُور، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : رَفعه غير ثَابت.
وَفِي «الْمَرَاسِيل» لأبي دَاوُد عَن مَكْحُول «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يبال بِأَبْوَاب الْمَسَاجِد» .
وفيهَا أَيْضا عَن أبي مجلز «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَمر عمر أَن ينْهَى أَن يبال فِي قبْلَة الْمَسْجِد» .
وَسَيَأْتِي حَدِيث عبد الله بن سرجس فِي النَّهْي عَن الْبَوْل فِي الْجُحر، حَيْثُ ذكره المُصَنّف، وَحَدِيث الْبَوْل فِي المَاء الراكد بعد هَذَا.
ولنذكر مَا وَقع فِي هَذِه الْأَحَادِيث من إِيضَاح غَرِيب وَضبط لفظ؛ فَإِنَّهُ مُهِمّ فَنَقُول:
الْملَاعن: مَوضِع اللَّعْن، جمع ملعنة، فَإِذا مر بِهِ النَّاس لعنُوا فَاعله. واللعانان: هما صاحبا اللَّعْن الَّذِي يلعنهما النَّاس كثيرا. وَمَعْنى رِوَايَة أبي دَاوُد وَالْحَاكِم «اتَّقوا اللاعنين» الْأَمْرَانِ الجالبان للعن؛ لِأَن من فعلهمَا لَعنه النَّاس فِي الْعَادة، فَلَمَّا صَارا سَبَب اللَّعْن أضيف اللَّعْن إِلَيْهِمَا، قَالَ الْخطابِيّ: وَقد يكون اللاعن بِمَعْنى الملعون؛ فالتقدير: اتَّقوا الملعون فاعلهما.
وَأما البرَاز؛ قَالَ الْخطابِيّ: هُوَ بِفَتْح الْبَاء هُنَا، وَهُوَ الفضاء
(2/315)
الْوَاسِع من الأَرْض كنوا بِهِ عَن قَضَاء الْحَاجة (كَمَا) كنوا عَنهُ بالخلاء، وَيُقَال: تبرز الرجل إِذا تغوط، كَمَا يُقَال: تخلى [إِذا صَار إِلَى الْخَلَاء] . قَالَ: وَأهل الحَدِيث يَرْوُونَهُ: البرَاز - بِكَسْر الْبَاء - وَهُوَ غلط، إِنَّمَا البرَاز - بِالْكَسْرِ - مصدر بارزت برازًا. وَكَذَا قَالَ ابْن بري وتابعهما عَلَى ذَلِك الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى «الْمُهَذّب» وَقَالَ الشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : قَالَ غير الْخطابِيّ: (الصَّوَاب) البرَاز - بِكَسْر الْبَاء - وَهُوَ الْغَائِط نَفسه، كَذَا ذكره أهل اللُّغَة. قَالَ: فَإِذا كَانَ البرَاز - بِالْكَسْرِ - فِي اللُّغَة هُوَ الْغَائِط، و (قد) اعْترف الْخطابِيّ بِأَن الروَاة رَوَوْهُ بِالْكَسْرِ، تعين الْمصير إِلَيْهِ. قَالَ: فَحصل أَن الْمُخْتَار كسر الْبَاء. وَقَالَ نَحوا من هَذَا (فِي كِتَابه «تَهْذِيب اللُّغَات» .
وَأما الْمَوَارِد) : فَقَالَ الْخطابِيّ: (هِيَ) طرق المَاء (وَاحِدهَا) موردة.
وَالْمرَاد بالظل: مستظل النَّاس الَّذين اتخذوه مقيلاً ومناخًا ينزلونه ويقعدون تَحْتَهُ، وَلَيْسَ كل ظلّ يمْنَع قَضَاء الْحَاجة (تَحْتَهُ) فقد قعد
(2/316)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (لِحَاجَتِهِ) تَحت حائش النّخل ثَبت ذَلِك فِي «صَحِيح مُسلم» والحائش ظلّ بِلَا شكّ.
وقارعة الطَّرِيق: أَعْلَاهُ. قَالَه الْأَزْهَرِي والجوهري وَغَيرهمَا، وَقيل: صَدره. وَقيل: مَا برز مِنْهُ. وَكله مُتَقَارب.
والسخيمة - بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة -: هِيَ الْغَائِط.
وضفة النَّهر - بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَتَشْديد الْفَاء الْمَفْتُوحَة -: شاطئه. (قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» ) وَجزم الْجَوْهَرِي بِكَسْر الضَّاد، وَحَكَاهُ مَعَ الْفَتْح ابْن الْأَثِير (فِي «النِّهَايَة» ) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: والقرع - بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء الْمُهْملَة (الْمَفْتُوحَة) وَالْعين الْمُهْملَة -: الْكلأ الَّذِي فِيهِ قطع لَا نَبَات فِيهِ.
الحَدِيث التَّاسِع
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم» .
(2/317)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يجرى ثمَّ يغْتَسل (فِيهِ) » . وَقَالَ مُسلم: «يغْتَسل مِنْهُ» .
وَله: «لَا يغْتَسل (أحدكُم) فِي (المَاء) الدَّائِم وَهُوَ جنب. قَالَ: كَيفَ يفعل يَا أَبَا هُرَيْرَة؟ قَالَ: يتَنَاوَلهُ تناولاً» .
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْن حبَان: «لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء (الدَّائِم) وَلَا يغْتَسل فِيهِ من الْجَنَابَة» .
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ: «لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ أَو يشرب» .
قَالَ الإِمَام الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ: «لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الراكد» .
(2/318)
قلت: هَذِه الرِّوَايَة صَحِيحَة، رَوَاهَا ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، ثَنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر، عَن ابْن عجلَان، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ سَوَاء.
وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن أَيُّوب، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة - رَفعه - بِزِيَادَة: «ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ» .
وَرَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» من رِوَايَة جَابر رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يبال فِي المَاء الراكد» .
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من هَذِه الطَّرِيق، وَلَفظه: «زجر رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يبال فِي المَاء الراكد» (وَهُوَ) من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة عَن أبي الزبير عَنهُ.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «مُعْجَمه الْأَوْسَط» عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «نهَى - أَو نُهي - أَن يَبُول الرجل فِي المَاء الدَّائِم أَو الراكد، ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ أَو يغْتَسل مِنْهُ» .
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يجوده عَن ابْن عون (غير) أبي عبد الرَّحْمَن الْمُقْرِئ.
(2/319)
قلت: وَلِهَذَا الحَدِيث طَريقَة أُخْرَى رَوَاهَا ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى، نَا مُحَمَّد بن الْمُبَارك، ثَنَا يَحْيَى بن حَمْزَة، ثَنَا ابْن أبي فَرْوَة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: «لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الناقع» .
وَطَرِيقَة أُخْرَى رَوَاهَا الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» من حَدِيث الْحَارِث بن يزِيد الْجُهَنِيّ رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ينْهَى أَن يبال فِي المَاء الْمُجْتَمع (و) المستنقع» .
فَائِدَة: قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ «ثمَّ يغْتَسل فِيهِ» قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح مُسلم» : الرِّوَايَة «يغْتَسل» مَرْفُوع؛ أَي: لَا تبل ثمَّ أَنْت تَغْتَسِل مِنْهُ. وَكَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي كِتَابه «الْمُفْهم» أَن الرِّوَايَة الصَّحِيحَة: «يغتسلُ» مَرْفُوع اللَّام. قَالَ النَّوَوِيّ: وَذكر شَيخنَا أَبُو عبد الله بن مَالك أَنه يجوز أَيْضا جزمه عطفا عَلَى يبولن، ونصبه بإضمار «أَن» وَإِعْطَاء «ثمَّ» حكم وَاو الْجمع. قَالَ: فَأمر الْجَزْم فَظَاهر، وَأما النصب فَلَا يجوز؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن الْمنْهِي عَنهُ الْجمع بَينهمَا دون إِفْرَاد أَحدهمَا، وَهَذَا لم يقلهُ أحد؛ بل الْبَوْل فِيهِ مَنْهِيّ عَنهُ سَوَاء أَرَادَ الِاغْتِسَال فِيهِ أَو (مِنْهُ أم) لَا. انْتَهَى كَلَام النَّوَوِيّ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يجوز النصب (إِذْ لَا ينْتَصب) بإضمار «أَن» بعد «ثمَّ» . قَالَ: والجزم لَيْسَ بِشَيْء إِذْ لَو أَرَادَ ذَلِك لقَالَ: ثمَّ لَا يغتسلن؛ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاك يكون عطف فعل عَلَى فعل لَا عطف جملَة (عَلَى جملَة)
(2/320)
وَحِينَئِذٍ يكون الأَصْل مُسَاوَاة الْفِعْلَيْنِ فِي النَّهْي عَنْهُمَا، وتأكيدهما بالنُّون الشَّدِيدَة، فَإِن الْمحل الَّذِي توارد عَلَيْهِ شَيْء وَاحِد وَهُوَ المَاء فعدوله عَن «ثمَّ لَا يغتسلن» دَلِيل عَلَى أَنه لم يرد الْعَطف، وَإِنَّمَا جَاءَ «ثمَّ يغْتَسل» عَلَى التَّنْبِيه عَلَى حَال الْحَال، وَمَعْنَاهُ: أَنه إِذا بَال فِيهِ قد يحْتَاج إِلَيْهِ فَيمْتَنع عَلَيْهِ اسْتِعْمَاله لما أوقع فِيهِ من الْبَوْل، انْتَهَى كَلَام الْقُرْطُبِيّ.
قَالَ شَيخنَا فتح الدَّين: وَالتَّعْلِيل الَّذِي علل بِهِ النَّوَوِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ امْتنَاع النصب ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكثر من كَون (هَذَا) الحَدِيث لَا يتَنَاوَل النَّهْي عَن الْبَوْل فِي المَاء الراكد مفرده، وَلَيْسَ يلْزم أَن يدل عَلَى الْأَحْكَام المتعددة بِلَفْظ وَاحِد فَيُؤْخَذ النَّهْي عَن الْجمع من هَذَا الحَدِيث وَالنَّهْي عَن الْإِفْرَاد من حَدِيث آخر.
الحَدِيث الْعَاشِر
عَن قَتَادَة عَن عبد الله بن سرجس رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يبال فِي الْجُحر؟ ! قَالُوا لِقَتَادَة: مَا يكره من الْبَوْل فِي الْجُحر (قَالَ: يُقَال) : إِنَّهَا مسَاكِن الْجِنّ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد (وَالنَّسَائِيّ) فِي «سنَنَيْهِمَا» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك
(2/321)
عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بأسانيد صَحِيحَة، وكل رجالها ثِقَات. قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم؛ فقد احتجا بِجَمِيعِ رُوَاته. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : رجال الْإِسْنَاد فِيهِ إِلَى ابْن سرجس ثِقَات إِلَّا (أَن) ابْن (أبي) حَاتِم قَالَ: أَنا حَرْب بن إِسْمَاعِيل - فِيمَا كتب إليَّ - قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: مَا أعلم قَتَادَة رَوَى عَن أحد من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا عَن أنس. قيل لَهُ: فَابْن سرجس! فَكَأَنَّهُ لم (يره) سَمَاعا.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: لَيْسَ فِيمَا قَالَ أَحْمد جزم بالانقطاع؛ فَإِن (أمكن) اللِّقَاء من قَتَادَة لعبد الله بن سرجس فَهُوَ مَحْمُول عَلَى الِاتِّصَال عَلَى طَريقَة مُسلم.
قلت: زَالَ هَذَا الْإِشْكَال؛ فَإِنَّهُ قد ثَبت سَماع قَتَادَة من عبد الله بن سرجس، قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ بعد أَن أخرج هَذَا الحَدِيث فِي أَحَادِيث «الْمُهَذّب» وَقَالَ: إِسْنَاده كلهم ثِقَات. قَالَ الطَّبَرَانِيّ: سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْبَراء يَقُول: قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: سمع قَتَادَة من عبد الله بن سرجس. وَعَن أبي حَاتِم الرَّازِيّ أَنه قَالَ: لم يلق قَتَادَة من
(2/322)
الصَّحَابَة إِلَّا أنس بن مَالك وَعبد الله بن سرجس، وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» : لَعَلَّ مُتَوَهمًا (يتَوَهَّم) أَن قَتَادَة لم يذكر سَمَاعه من عبد الله بن سرجس وَلَيْسَ هَذَا بمستبدع؛ فقد سمع قَتَادَة جمَاعَة من الصَّحَابَة لم يسمع مِنْهُم عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول، وَقد احْتج مُسلم بِحَدِيث عَاصِم عَن عبد الله بن سرجس، وَهُوَ من سَاكِني الْبَصْرَة. قَالَ الْحَاكِم: سَمِعت أَبَا زَكَرِيَّا الْعَنْبَري يَحْيَى بن مُحَمَّد يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة يَقُول: أنهَى عَن الْبَوْل فِي الأجحرة؛ لخَبر عبد الله بن سرجس أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا يبولن أحدكُم فِي الْجُحر» وَقَالَ قَتَادَة: «إِنَّهَا مسَاكِن الْجِنّ» وَلست (أثبت) القَوْل أَنَّهَا مسَاكِن الْجِنّ؛ فَإِن هَذَا من قَول قَتَادَة. وَذكر هَذَا الحَدِيث ابْن السكن فِي «صحاحه المأثورة» ثمَّ قَالَ: يَعْنِي أَنه مقْعد الْجِنّ، وَيَأْخُذ مِنْهُ الوساوس.
الحَدِيث الْحَادِي عشر
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «استنزهوا من الْبَوْل؛ فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَله طرق كثيرات بِأَلْفَاظ مختلفات، وَفِي الْمَعْنى متفقات.
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن عبد الْبَاقِي بن قَانِع، نَا عبد الله بن مُحَمَّد بن صَالح السَّمرقَنْدِي، نَا مُحَمَّد بن الصَّباح السمان الْبَصْرِيّ، ثَنَا أَزْهَر بن سعد السمان، عَن ابْن عون، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ سَوَاء.
(2/323)
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» عَن الْأَصَم، نَا حمدَان، نَا عَفَّان، نَا أَبُو عوَانَة، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة - رَفعه -: «أَكثر عَذَاب الْقَبْر من الْبَوْل» .
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا فِي «سنَنه» عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، ثَنَا عَفَّان، ثَنَا أَبُو عوَانَة ... بِمثلِهِ إِسْنَادًا ومتنًا.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا فِي «سنَنه» عَن أبي عَلّي الصفار، عَن حمدَان بِهِ سَوَاء.
وَكَذَا أَحْمد فِي «مُسْنده» عَن يَحْيَى بن حَمَّاد، عَن أبي عوَانَة.
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم، وَلَا أعلم لَهُ عِلّة، وَلم يخرجَاهُ.
وَقَالَ الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين الْمَقْدِسِي: إِسْنَاده حسن.
قَالَ الْحَاكِم: وَله شَاهد من حَدِيث أبي يَحْيَى القَتَّات، أخبرنَا عَلّي بن عِيسَى، نَا أَبُو إِبْرَاهِيم بن أبي طَالب، نَا مُحَمَّد بن رَافع، نَا إِسْحَاق بن مَنْصُور (نَا إِسْرَائِيل) عَن أبي يَحْيَى، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس رَفعه إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «عَامَّة عَذَاب الْقَبْر من الْبَوْل» .
وَرَوَى هَذَا أَيْضا الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن أَحْمد بن عَمْرو
(2/324)
بن عُثْمَان، نَا مُحَمَّد بن عِيسَى الْعَطَّار، نَا إِسْحَاق بن مَنْصُور ... فَذكره، وَزَاد فِي آخِره: «فتنزهوا من الْبَوْل» .
وَخَالف أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ ابْنه فِي «علله» : سَأَلته عَن حَدِيث رَوَاهُ (عَفَّان) عَن أبي عوَانَة، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «أَكثر عَذَاب الْقَبْر فِي الْبَوْل» فَقَالَ أبي: هَذَا حَدِيث بَاطِل. قَالَ ابْنه: يَعْنِي: مَرْفُوعا.
وَالْحق مَا قَالَه الْحَاكِم والضياء الْمَقْدِسِي، فَإِن إِسْنَاده حسن؛ بل صَحِيح كَمَا ذَكرْنَاهُ بِطرقِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» عقب إِيرَاد الشَّيْخ أبي إِسْحَاق لهَذَا الحَدِيث بِلَفْظ «تنزهوا من الْبَوْل؛ فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ» : رَوَاهُ عبد بن حميد - شيخ البُخَارِيّ وَمُسلم - فِي «مُسْنده» من رِوَايَة ابْن عَبَّاس بِإِسْنَاد كلهم عدُول ضابطون بِشَرْط «الصَّحِيحَيْنِ» إِلَّا رجلا وَاحِدًا، وَهُوَ أَبُو يَحْيَى القَتَّات فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فجرحه الْأَكْثَرُونَ، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين فِي رِوَايَة عَنهُ، وَرَوَى لَهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» وَله متابع عَلَى حَدِيثه وشواهد تَقْتَضِي مجموعها حسنه وَجَوَاز الِاحْتِجَاج بِهِ.
قلت: وَهُوَ كَمَا قَالَ، لكنه أبعد النجعة فِي (عزو) هَذَا الحَدِيث (إِلَى) مُسْند عبد بن حميد، وَهُوَ فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» و «مُسْتَدْرك
(2/325)
الْحَاكِم» كَمَا تقدم، وَترك لَهُ إِسْنَادًا أصح مِنْهُ كَمَا تقدم من طريقهما أَيْضا (وعقب) مَا ذكره بِأَن قَالَ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة أنس وَقَالَ فِيهَا: الْمَحْفُوظ أَنه مُرْسل. فَرُبمَا أوهم هَذَا أَنه لَيْسَ فِي الدَّارَقُطْنِيّ إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، نعم حَدِيث أنس هَذَا الْأَصَح إرْسَاله، كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، وَكَذَا قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» عَن أَبِيه أَنه الْأَشْبَه، لكنه نقل عَن أبي زرْعَة أَن الْمَحْفُوظ رَفعه.
قلت: وَيروَى أَيْضا من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت أخرجه الْبَزَّار (فِي «مُسْنده» ) .
الحَدِيث الثَّانِي عشر
رَوَى «أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يتمخر الرّيح - أَي: ينظر أَيْن مجْراهَا - لِئَلَّا يرد عَلَيْهِ الْبَوْل» .
هَذَا الحَدِيث لَا أعلم من رَوَاهُ مَرْفُوعا من فعل سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَإِنَّمَا ورد من أمره، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ أَحْمد بن ثَابت فرخويه، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر،
(2/326)
عَن سماك بن الْمفضل، عَن أبي رشدين الجندي، عَن سراقَة بن مَالك، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (إِذا أَتَى أحدكُم الْغَائِط فَلَا تستقبلوا الْقبْلَة، وَاتَّقوا مجَالِس اللَّعْن: الظل وَالْمَاء وقارعة الطَّرِيق، واستمخروا الرّيح، واستشبوا عَلَى سوقكم، وَأَعدُّوا النبل» فَقَالَ أبي: إِنَّمَا يرويهِ مَوْقُوفا وأسنده عبد الرَّزَّاق بِأخرَة.
وَذكره الْخطابِيّ فِي «غَرِيبه» وَقَالَ: قَوْله: «استمخروا الرّيح» أَي: استقبلوها. وَقَالَ: قَوْله: «واستشبوا عَلَى سوقكم» أَي: انتصبوا عَلَى سوقكم، يُرِيد الاتكاء عَلَيْهَا فِي قَضَاء الْحَاجة، وَمِنْه شبوب الْفرس، وَهُوَ أَن يرفع يَدَيْهِ ويعتمد عَلَى رجلَيْهِ.
وَرَوَى أَبُو عبيد فِي كِتَابه «غَرِيب الحَدِيث» عَن عباد بن عباد، عَن وَاصل مولَى أبي عُيَيْنَة قَالَ: «كَانَ يُقَال: إِذا أَرَادَ أحدكُم الْبَوْل فليتمخر الرّيح» قَالَ أَبُو عبيد: يَعْنِي أَن ينظر من أَيْن مجْراهَا فَلَا يستقبلها وَلَكِن يستدبرها كي لَا ترد عَلَيْهِ الرّيح الْبَوْل.
قلت: وَقَوله: «استمخروا» هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، كَذَا ضَبطه الْهَرَوِيّ فِي «غَرِيبه» ، فَإِنَّهُ ذكره فِي بَاب الْمِيم مَعَ الْخَاء (والمخر) أَصله الشق قَالَ تَعَالَى: (وَترَى الْفلك مواخر فِيهِ) أَي شاقات.
وَقد جَاءَت أَحَادِيث فِي كَرَاهِيَة الْبَوْل فِي الْهَوَاء لَكِنَّهَا ضَعِيفَة:
أَحدهَا: عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يكره الْبَوْل فِي الْهَوَاء» .
(2/327)
رَوَاهُ ابْن عدي والعقيلي وَالْبَيْهَقِيّ، وَفِي إِسْنَاده يُوسُف بن السّفر - بِفَتْح السِّين وَإِسْكَان الْفَاء - أَبُو الْفَيْض الشَّامي، قَالَ أَبُو زرْعَة وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ دُحَيْم: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مُنكر الحَدِيث جدًّا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ مرّة أُخْرَى: مَتْرُوك يكذب. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ بِحَال. (وَقَالَ الْعقيلِيّ: يحدث بمناكير) قَالَ: وَهَذَا حَدِيث لَا يُتَابع عَلَيْهِ. قَالَ: وَهُوَ لَا يُقيم من الحَدِيث (شَيْئا) . وَنقل الْبَيْهَقِيّ عَن الْحَافِظ أبي أَحْمد بن عدي أَنه قَالَ فِيهِ: إِنَّه حَدِيث مَوْضُوع.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن مَحْفُوظ بن عَلْقَمَة، عَن الْحَضْرَمِيّ - وَكَانَ من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا بَال أحدكُم فَلَا يسْتَقْبل الرّيح ببوله فَيردهُ عَلَيْهِ» .
رَوَاهُ ابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أَبَا زرْعَة عَنهُ (فَقلت) : مَا حَال مَحْفُوظ؟ فَقَالَ: لَا
(2/328)
بَأْس بِهِ وَلَكِن الشَّأْن فِي يُوسُف بن خَالِد - يَعْنِي: ابْن عمر السَّمْتِي الْبَصْرِيّ الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده الَّذِي رَوَاهُ عَن عَمْرو بن سُفْيَان بن أبي البكرات، عَن مَحْفُوظ - كَانَ يَحْيَى بن معِين يَقُول: يكذب.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّهُ هَالك، وَلَفظ أَحْمد فِيهِ: كَذَّاب خَبِيث عَدو الله رجل سوء، لَا يحدث عَنهُ أحد فِيهِ خير. وَقَالَ مرّة: زنديق لَا يكْتب حَدِيثه. وَرَوَى عَنهُ الشَّافِعِي وَقَالَ: كَانَ ضَعِيفا. وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي: كَانَ يكذب. وَقَالَ النَّسَائِيّ: كَذَّاب مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: ذَاهِب الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يضع الْأَحَادِيث عَلَى الشُّيُوخ وَيقْرَأ عَلَيْهِم ثمَّ يَرْوِيهَا عَنْهُم (لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ) .
الحَدِيث الثَّالِث: عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: «مر سراقَة بن مَالك المدلجي عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَسَأَلَهُ عَن التغوط فَأمره أَن يتنكب الْقبْلَة وَلَا يستقبلها وَلَا يستدبرها، وَلَا يسْتَقْبل الرّيح، وَأَن يستنجي بِثَلَاثَة أَحْجَار لَيْسَ فِيهَا رجيع، أَو ثَلَاثَة أَعْوَاد أَو ثَلَاث حثيات من تُرَاب» .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن سُلَيْمَان
(2/329)
النعماني، نَا أبوعتبة أَحْمد بن الْفرج، ثَنَا بَقِيَّة، حَدثنِي مُبشر بن عبيد، حَدثنِي الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن هِشَام بِهِ. ثمَّ قَالَ: لم يروه غير مُبشر بن عبيد وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث. زَاد ابْن الْجَوْزِيّ فِي «الضُّعَفَاء» عَنهُ: يضع الْأَحَادِيث ويكذب.
الحَدِيث الرَّابِع: عَن يزِيد (بن) يَحْيَى بن أبي كثير، عَن خَلاد أَنه سمع أَبَاهُ يَقُول: «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ يَقُول: إِذا خرج أحدكُم يتغوط أَو يَبُول فَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا يستدبرها، وَلَا يسْتَقْبل الرّيح، وليمسح ثَلَاث مَرَّات، وَإِذا خرج الرّجلَانِ جَمِيعًا فليتفرقا، وَلَا يجلس أَحدهمَا قَرِيبا من صَاحبه وَلَا يتحدثان؛ فَالله يمقت عَلَى ذَلِك» .
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بشر الدولابي فِي «الْأَسْمَاء والكنى» عَن إِبْرَاهِيم بن هَانِئ النَّيْسَابُورِي، نَا مُحَمَّد بن يزِيد بن سِنَان، نَا يزِيد (بن) يَحْيَى بن أبي كثير قَالَ: أَخْبرنِي خَلاد فَذكره. وَعَزاهُ صَاحب «الإِمَام» إِلَى
(2/330)
الْحَافِظ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي جمعه لحَدِيث يَحْيَى بن أبي كثير قَالَ: وَفِي إِسْنَاده يزِيد بن سِنَان الرهاوي وَفِيه ضعف. وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي كِتَابه «التَّذْكِرَة فِي الْأَحَادِيث المعلولة» بعد أَن ذكر هَذَا الحَدِيث: يزِيد هَذَا لَيْسَ بِشَيْء فِي الحَدِيث.
وَجَاء عَن حسان بن عَطِيَّة التَّابِعِيّ أَنه قَالَ: «يكره للرجل أَن يَبُول فِي هَوَاء، وَأَن يتغوط عَلَى رَأس جبل كَأَنَّهُ طير وَاقع» رَوَاهُ ابْن عدي.
فَإِذا علم ضعف هَذِه الْأَحَادِيث تعين (الِاحْتِجَاج) بِالْمَعْنَى الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ الإِمَام الرَّافِعِيّ أَولا، وَهُوَ لِئَلَّا ترد الرشاش عَلَيْهِ فيتنجس، ويستأنس بِهَذِهِ الْأَحَادِيث.
الحَدِيث الثَّالِث عشر
عَن سراقَة بن مَالك رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «علمنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أَتَيْنَا الْخَلَاء أَن نتوكأ عَلَى الْيُسْرَى» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي عَاصِم، نَا
(2/331)
(مُعَاوِيَة بن صَالح) عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن المدلجي، عَن رجل من بني مُدْلِج، عَن أَبِيه قَالَ: «قدم علينا سراقَة بن جعْشم، (فَقَالَ: «علمنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا أَرَادَ أَحَدنَا الْخَلَاء أَن يعْتَمد الْيُسْرَى وَينصب الْيُمْنَى» ) ترْجم عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ: بَاب الِاعْتِمَاد عَلَى الرجل الْيُسْرَى إِذا قعد إِن صَحَّ الْخَبَر فِيهِ. وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ مُحَمَّد بن أبي عبد الرَّحْمَن وَلَفظه «لقد أمرنَا أَن نتوكأ عَلَى الْيُسْرَى، وَأَن ننصب الْيُمْنَى» .
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي: لَا نعلم فِي هَذَا الْبَاب غير هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ حَدِيث غَرِيب جدًّا، لَا يرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَمُعَاوِيَة بن صَالح الْمَكِّيّ: لين ضَعِيف، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن: مَجْهُول لَا يعرف؛ فَالْحَدِيث مُنْقَطع. قَالَ الْحَازِمِي: وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : هَذَا الحَدِيث فِي حكم الْمُنْقَطع؛ لجَهَالَة الرجل من بني مُدْلِج. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ فِي «الْخُلَاصَة» : ضَعِيف. وَلما ذكر ابْن الرّفْعَة فِي «الْمطلب»
(2/332)
حَدِيث سراقَة هَذَا وَلم يعزه؛ بل قَالَ: إِنَّه حَدِيث لَا يثبت. قَالَ: ورُوي عَن أنس نَحوه. انْتَهَى.
فَليُحرر هَذَا مَعَ قَول الْحَازِمِي: «لَا نعلم فِي الْبَاب غير هَذَا الحَدِيث» .
الحَدِيث الرَّابِع عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «اتَّقوا الْملَاعن وَأَعدُّوا النبل» .
هَذَا الحَدِيث تبع الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي إِيرَاده إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ غَرِيب، وَلم يُخرجهُ أحد من أَصْحَاب السّنَن (وَلَا) المسانيد، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» كَمَا تقدم قَرِيبا فِي الحَدِيث الثَّانِي عشر، وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ.
وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، عَن الشّعبِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أبعدوا الْآبَار إِذا ذهبتم الْغَائِط، وَأَعدُّوا النبل - يَعْنِي: الْحِجَارَة الَّتِي يتمسح بهَا - وَاتَّقوا الْملَاعن: لَا يتغوط أحدكُم تَحت شَجَرَة ينزل تحتهَا أحد، وَلَا عِنْد مَاء يُشرب مِنْهُ، فَيدعونَ الله عَلَيْكُم» .
وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي «غَرِيب الحَدِيث» عَن مُحَمَّد بن الْحسن، عَن عِيسَى بن أبي عِيسَى الْخياط، عَن الشّعبِيّ، عَمَّن سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «اتَّقوا الْملَاعن وأعدو النبل» .
(2/333)
وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف بِمرَّة؛ فَإِن عِيسَى بن أبي عِيسَى الْمَذْكُور ضَعِيف وَيُقَال فِيهِ: الْخياط والحناط والخباط، كَانَ فِي أول أمره خياطًا، ثمَّ صَار حناطًا يَبِيع الْحِنْطَة، ثمَّ صَار خباطًا يَبِيع الْخبط. قَالَ النَّسَائِيّ: هُوَ مَتْرُوك. وَقَالَ أَحْمد: لَا يُسَاوِي شَيْئا. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ سيء الْحِفْظ والفهم؛ فَاسْتحقَّ التّرْك. وَقد صرح غير وَاحِد من الْأَئِمَّة بِأَن هَذَا حَدِيث ضَعِيف. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: رَوَاهُ بعض أَصْحَاب الْغَرِيب وَلم أَجِدهُ ثَابتا. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِثَابِت، وَلَا يحْتَج بِهِ.
قلت: وَلم يظفرا - رحمهمَا الله - بِالطَّرِيقِ الَّتِي قدمناها عَن «علل ابْن أبي حَاتِم» وَلَا شكّ وَلَا مرية فِي كَونهَا أَجود من هَذِه الطَّرِيق الَّتِي ذكرهَا أَبُو عبيد، وَلم يعللها ابْن أبي حَاتِم إِلَّا بِأَن عبد الرَّزَّاق أسْندهُ، وَإِنَّمَا يَرْوُونَهُ مَوْقُوفا، وَلَك أَن تَقول الرّفْع زِيَادَة من ثِقَة، وَهِي مَقْبُولَة عَلَى مَا تقرر غير مرّة. قَالَ أَبُو عبيد: وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أرَى النُّبَل - بِضَم النُّون وَفتح الْبَاء - يُقَال: نبلني أحجارًا للاستنجاء، أَي: أعطنيها. (قَالَ أَبُو عبيد: وَسمعت مُحَمَّد بن الْحسن يَقُول: النبل هِيَ حِجَارَة الِاسْتِنْجَاء) قَالَ أَبُو عبيد: والمحدثون يَقُولُونَ: النَّبل بِالْفَتْح -
(2/334)
يَعْنِي: بِفَتْح النُّون - أَيْضا ونراها إِنَّمَا سميت نبْلًا لصغرها وَهَذَا من الأضداد. فِي كَلَام الْعَرَب أَن يُقَال للعظام: نبل، وللصغار: نبل. وَقَالَ الْخطابِيّ فِي «إصْلَاح الْأَلْفَاظ الَّتِي (يصحفها) الروَاة» : يرْوَى «النبل» بِضَم النُّون وَفتحهَا، وَأكْثر الْمُحدثين يروونها بِالْفَتْح، والأجود الضَّم.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : النبل - بِضَم النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة - الْأَحْجَار الصغار. وَلم يذكر غير هَذَا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «نهايته» فِي هَذَا الحَدِيث: النبل هِيَ الْحِجَارَة الصغار الَّتِي يُستَنْجَى بهَا، وَاحِدهَا نبلة، كغرفة وغرف، والمحدثون يفتحون النُّون وَالْبَاء كَأَنَّهُ (جمع) نبيل فِي التَّقْدِير، والنبل بِالْفَتْح فِي غير هَذَا (الْكِبَار) من الْإِبِل وَالصغَار. وَهُوَ من الأضداد. وَفِي «شرح التَّعْجِيز» لمصنفه: النبل - بِضَم الْبَاء - جمع نبيل كسرير (وسرر) . وَقَالَ الْجَوْهَرِي: المحدثون يَقُولُونَهُ بِفَتْح الْبَاء جمع (نبيل) كسورة وسور.
قلت: ويغني عَن هَذَا الحَدِيث فِي الدّلَالَة مَا رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد
(2/335)
والدرامي فِي «مسنديهما» وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا (ذهب) أحدكُم إِلَى الْغَائِط فليذهب مَعَه بِثَلَاثَة أَحْجَار يَسْتَطِيب بِهن؛ فَإِنَّهَا تُجزئه» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» : إِسْنَاده (حسن) ، وَقَالَ فِي «علله» : إِسْنَاد مُتَّصِل صَحِيح.
الحَدِيث الْخَامِس عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا دخل الْخَلَاء وضع خَاتمه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه الأول والأخير فِي هَذَا الْبَاب و (الثَّانِي فِي)
(2/336)
اللبَاس وَالثَّالِث فِي الزِّينَة، من رِوَايَة أنس رَضي اللهُ عَنهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَاخْتلف الْحفاظ فِي تَصْحِيحه (وتضعيفه) فضعفه جمَاعَة، قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَإِنَّمَا يُعرف عَن ابْن جريج، عَن زِيَاد بن سعد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - اتخذ خَاتمًا من وَرِقٍ ثمَّ أَلْقَاهُ» وَالوهم فِيهِ من همام، وَلم يروه إِلَّا همام.
وَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث يروه هَكَذَا همام عَن ابْن جريج، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس مَرْفُوعا، رَوَاهُ عَنهُ كَذَلِك سعيد بن عَامر وهدبة بن خَالِد، وَخَالَفَهُمَا عَمْرو بن عَاصِم؛ فَرَوَاهُ عَن همام، عَن ابْن جريج، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس (مَرْفُوعا) ، وَلم يُتَابع عَلَيْهِ. قَالَ: وَرَوَاهُ جماعات عَن ابْن جريج، عَن زِيَاد بن سعد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس «أَنه رَأَى فِي يَد النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - خَاتمًا من ذهب فَرَمَى بِهِ وَقَالَ: وَالله لَا ألبسهُ أبدا» قَالَ: وَهُوَ الْمَحْفُوظ وَهُوَ الصَّحِيح عَن ابْن جريج. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هُوَ الْمَشْهُور عَن ابْن جريج دون حَدِيث همام.
وَذكره ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» (وَقَالَ: هُوَ وهم) وَقَالَ الْحَازِمِي: لم يرو هَذَا الحَدِيث بِهَذَا السِّيَاق إِلَّا همام. وَوهم فِي ذَلِك.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث ضعفه أَبُو دَاوُد
(2/337)
وَالنَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ، وَخَالفهُم التِّرْمِذِيّ فصححه. (و) قَالَ فِي «الْخُلَاصَة» : وَهُوَ مَرْدُود عَلَيْهِ. انْتَهَى من ضعفه.
وَالصَّوَاب أَنه حَدِيث صَحِيح بِلَا شكّ وَلَا مرية، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب عِنْدِي؛ فَإِن رُوَاته كلهم ثِقَات أثبات. وَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى «مُخْتَصر سنَن أبي دَاوُد» : همام هَذَا هُوَ (أَبُو) عبد الله همام بن يَحْيَى بن دِينَار الْأَزْدِيّ العوذي مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ، وَإِن كَانَ قد تكلم فِيهِ بَعضهم فقد اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَى الِاحْتِجَاج بحَديثه، وَقَالَ يزِيد بن هَارُون: همام قوي فِي الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: (ثِقَة) صَالح. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: ثَبت فِي كل الْمَشَايِخ. وَقَالَ ابْن عدي الْجِرْجَانِيّ: همام أشهر وأصدق من أَن يذكر لَهُ حَدِيثا مُنْكرا، أَو لَهُ حَدِيث مُنكر؟ ! وَأَحَادِيثه مُسْتَقِيمَة عَن قَتَادَة، وَهُوَ مقدم أَيْضا فِي يَحْيَى بن أبي كثير، وَعَامة مَا يرويهِ مُسْتَقِيم. قَالَ (الْحَافِظ) أَبُو مُحَمَّد (وَهُوَ) الْمُنْذِرِيّ: فَإِذا كَانَ حَال همام كَذَلِك فيترجح مَا قَالَه (التِّرْمِذِيّ) (وتفرده بِهِ لَا يوهن الحَدِيث، وَإِنَّمَا يكون غَرِيبا كَمَا قَالَ
(2/338)
التِّرْمِذِيّ) .
قلت: لم يتفرد همام بِهِ، وَكَأن الْحَافِظ أَبَا مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ تبع فِي ذَلِك مقَالَة أبي دَاوُد الَّتِي قدمناها عَنهُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : تَابعه عَلَيْهِ يَحْيَى بن الضريس، عَن ابْن جريج. وَيَحْيَى بن الضريس ثِقَة، وَتَابعه أَيْضا يَحْيَى بن المتَوَكل وَهُوَ ثِقَة - كَمَا سَيَأْتِي - فعلَى هَذَا انْتَفَى دَعْوَى التِّرْمِذِيّ غرابته. ويرجح مَا جنح إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ من تَصْحِيحه أَيْضا مَا قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» وَهُوَ ضعف الْقَرِينَة الدَّالَّة عَلَى وهم همام؛ فَإِن انْتِقَال الذِّهْن من قَوْلنَا: «اتخذ خَاتمًا من ورق ثمَّ أَلْقَاهُ» إِلَى قَوْله: «كَانَ إِذا دخل الْخَلَاء وضع خَاتمه» لَا يكون إِلَّا عَن غَفلَة شَدِيدَة لَا يحْتَمل (مثل) همام مثلهَا، نعم فِي رِوَايَة هدبة [بن] خَالِد، عَن همام: وَلَا أعلمهُ إِلَّا عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس، وَهَذِه عبارَة تشعر بِعَدَمِ تَيَقّن، فَإِن كَانَ قَائِل هَذَا الْكَلَام (هُوَ) هدبة فَلَا يضر، وَإِن كَانَ هُوَ همام فقد يضم إِلَى مُخَالفَة الْجُمْهُور لَهُ ويوقع شَيْئا فِي الْوَهم، وَعَلَى الْجُمْلَة فالجاري عَلَى قَوَاعِد الْفِقْه وَالْأُصُول قبُول رِوَايَة الثِّقَة فِي مثل هَذَا، مَعَ أَن لَهُ شَاهدا من رِوَايَة يَعْقُوب بن كَعْب الْأَنْطَاكِي، عَن يَحْيَى بن المتَوَكل الْبَصْرِيّ، عَن ابْن جريج، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لبس خَاتمًا نقشه: مُحَمَّد رَسُول الله. فَكَانَ إِذا دخل الْخَلَاء وَضعه» . أخرجه الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ: هَذَا شَاهد ضَعِيف.
(2/339)
قلت: (فِيهِ) نظر إِذْ لَيْسَ فِي إِسْنَاده من تكلم فِيهِ، وَيَحْيَى بن المتَوَكل لَا أعلم فِيهِ إِلَّا قَول ابْن حبَان: إِنَّه يُخطئ. وَصَححهُ الْحَاكِم من طَرِيقه - كَمَا سَيَأْتِي - وَلَيْسَ هَذَا بِيَحْيَى بن المتَوَكل الَّذِي (يُقَال) لَهُ أَبُو عقيل، ذَاك ضَعِيف كَمَا نَص عَلَيْهِ ابْن الْمُبَارك وَأحمد [و] ابْن الْمَدِينِيّ وَابْن معِين وَغَيرهم، وَقد فرق بَينهمَا الْمزي وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ.
وَله شَاهد ثَان من حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَن نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا دخل الْخَلَاء نزع خَاتمه» رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الجوزقاني فِي كتاب «الموضوعات» رادًّا بِهِ عَلَى حَدِيث عَلّي الَّذِي سأذكره آخر الْبَاب من حَدِيث (أبي) مُعَاوِيَة، عَن الْأَعْمَش، عَن الْمنْهَال (بن عَمْرو) ، عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ.
وَقد صحّح الحَدِيث الْمَذْكُور مَعَ التِّرْمِذِيّ إمامان جليلان، أَحدهمَا أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» فَإِنَّهُ أخرجه بعد أَن ترْجم «الْخَبَر الدَّال عَلَى نفي إجَازَة دُخُول الْخَلَاء بِشَيْء فِيهِ ذكر الله» عَن عمرَان بن مُوسَى بن مجاشع، ثَنَا هدبة بن خَالِد، ثَنَا همام بن يَحْيَى، عَن ابْن جريج، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا دخل
(2/340)
الْخَلَاء وضع خَاتمه» .
ثمَّ قَالَ: ذكر السَّبَب الَّذِي (من أَجله) كَانَ يضع (خَاتمه عِنْد دُخُول الْخَلَاء، أَنا مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي [عون] ثَنَا أَحْمد بن الْحسن التِّرْمِذِيّ، ثَنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، ثَنَا أبي، عَن ثُمَامَة، عَن أنس قَالَ: «كَانَ نقش خَاتم رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثَلَاث أسطر: مُحَمَّد سطر، وَرَسُول سطر، وَالله سطر» .
(وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ فِي «أَخْلَاق سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» من حَدِيث أنس أَيْضا، وَلَفظه «كَانَ فص خَاتم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - حبشِي وَكَانَ مَكْتُوب عَلَيْهِ: لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله. لَا إِلَه إِلَّا الله سطر، وَمُحَمّد رَسُول الله سطر» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن ثُمَامَة، عَن أنس قَالَ: «كَانَ نقش خَاتم رَسُول الله ثَلَاثَة أسطر: مُحَمَّد سطر، وَرَسُول سطر، وسطر الله» .) .
وَالثَّانِي: الْحَاكِم أَبُو عبد الله فَإِنَّهُ أخرجه فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» عَن عَلّي بن حمشاذ الْعدْل، ثَنَا عبد الله بن أَيُّوب بن زَاذَان ح.
قَالَ: وَأخْبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن بَالَوَيْهِ، نَا عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَا: ثَنَا هدبة بن خَالِد، نَا همام (نَا) ابْن جريج، عَن الزُّهْرِيّ - قَالَ: وَلَا أعلمهُ إِلَّا عَن الزُّهْرِيّ - عَن أنس «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -
(2/341)
كَانَ إِذا دخل الْخَلَاء وضع خَاتمه» .
قَالَ الْحَاكِم: وثنا عَلّي بن حمشاذ، ثَنَا عبيد بن عبد الْوَاحِد، ثَنَا يَعْقُوب بن كَعْب الْأَنْطَاكِي، ثَنَا يَحْيَى بن المتَوَكل الْبَصْرِيّ، عَن ابْن جريج، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لبس (خَاتمًا) نقشه: مُحَمَّد رَسُول الله. فَكَانَ إِذا دخل الْخَلَاء وَضعه» . قَالَ الْحَاكِم فِي هَذَا الْبَاب: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم، وَإِنَّمَا أخرجَا حَدِيث نقش الْخَاتم فَقَط.
فتلخص من كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة أَنه حَدِيث صَحِيح مُحْتَج بِهِ، وَهُوَ الْحق - إِن شَاءَ الله - لَا جرم ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن دَقِيق الْعِيد فِي آخر كِتَابه «الاقتراح» فِي الْقسم الرَّابِع فِي أَحَادِيث رَوَاهَا من أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) وَلم يخرجَا تِلْكَ الْأَحَادِيث.
(قَالَ الإِمَام الرَّافِعِيّ: وَإِنَّمَا نزع خَاتمه لِأَنَّهُ (كَانَ) عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول الله) .
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ فقد أخرجه بِهَذِهِ الزِّيَادَة الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ كَمَا مر، وَأما النَّوَوِيّ فَقَالَ كَمَا قَالَ صَاحب الْمُهَذّب: وَإِنَّمَا نَزعه؛ لِأَنَّهُ
(2/342)
كَانَ عَلَيْهِ: مُحَمَّد رَسُول الله. قَالَ: هَذَا هُوَ من كَلَام المُصَنّف لَا من الحَدِيث. قَالَ: لكنه صَحِيح؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» «أَن نقش خَاتمه كَانَ: مُحَمَّد رَسُول الله» هَذَا لَفظه برمتِهِ، وَكَذَلِكَ فصل الْمُنْذِرِيّ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» (فجعلهما) حديثين، وَقد مر فِي رِوَايَة الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ أَن ذَلِك كُله ورد فِي حَدِيث وَاحِد.
وَمن الْأَحَادِيث الْوَاهِيَة فِي هَذَا الْبَاب مَا ذكره ابْن الجوزقاني فِي «مَوْضُوعَاته» وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» - وَضَعفه - عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا دخل الْخَلَاء حول خَاتمه فِي يَمِينه؛ فَإِذا خرج وَتَوَضَّأ حوله فِي يسَاره» .
وَفِي «كَامِل ابْن عدي» من حَدِيث ابْن عمر قَالَ: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يتختم فِي خِنْصره الْأَيْمن؛ فَإِذا دخل الْخَلَاء جعل الْكِتَابَة مِمَّا يَلِي كَفه» ذكره فِي تَرْجَمَة مُحَمَّد بن (عبيد الله) الْعَرْزَمِي، وَهُوَ مَتْرُوك.
فَائِدَة: فِي الْخَاتم لُغَات شهيرة، مِنْهَا أَربع لُغَات: فتح التَّاء
(2/343)
وَكسرهَا، وخاتام (وخيتام) وَفِي «الْمدْخل» لِابْنِ هِشَام لُغَتَانِ أخرتان: ختام وَختم.
وَقَوله: (إِذا دخل) : إِذا أَرَادَ (الدُّخُول) . والخلاء - بِالْمدِّ -: الْموضع الْخَالِي.
الحَدِيث السَّادِس عشر
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فلينتر ذكره» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «الْمسند» وَأَبُو دَاوُد فِي «الْمَرَاسِيل» وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» وَأَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» وَابْن قَانِع فِي «مُعْجَمه» والعقيلي فِي «تَارِيخه» من رِوَايَة يزْدَاد - وَيُقَال: أزداد - بن فساءة الْفَارِسِي مولَى بحير بن ريسان الْيَمَانِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا بَال أحدكُم فلينتر ذكره ثَلَاثًا» .
هَذَا لَفظهمْ، وَفِي إِحْدَى روايتي ابْن قَانِع وَأبي نعيم وَلَفظ الْعقيلِيّ:
(2/344)
«أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا بَال نتر ذكره ثَلَاثًا» .
قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «الْأَطْرَاف» : قَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم: هَذَا الحَدِيث مُرْسل. وَقَالَ فِي كِتَابه «تَهْذِيب الْكَمَال» : اخْتلف فِي صُحْبَة يزْدَاد.
قلت: ذكره فِي الصَّحَابَة: ابْن مَنْدَه، وَأَبُو نعيم، وَابْن عبد الْبر وَقَالَ: قَالَ ابْن معِين: لَا يعرف عِيسَى وَلَا أَبوهُ. وَهُوَ تحامل مِنْهُ، وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الْعقيلِيّ: عِيسَى بن يزْدَاد الْيَمَانِيّ، عَن أَبِيه لَا يُتَابع عَلَيْهِ وَلَا يعرف إِلَّا بِهِ. قَالَ البُخَارِيّ: عِيسَى بن يزْدَاد، عَن أَبِيه، رَوَى عَنهُ زَمعَة، وَلَا يَصح. ثمَّ ذكر الْعقيلِيّ هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ ابْن حبَان فِي «ثقاته» : [يزْدَاد] بن فساءة يُقَال أَن لَهُ صُحْبَة، إِلَّا أَنِّي لست أحتج بِخَبَر زَمعَة بن صَالح.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد [فِي الْمَرَاسِيل] وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنه ضَعِيف (وَقَالَ) الْأَكْثَرُونَ: هُوَ مُرْسل وَلَا صُحْبَة لِيَزْدَادَ. قَالَ: وَمِمَّنْ نَص عَلَى أَنه لَا صُحْبَة لَهُ: البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ
(2/345)
وَابْنه عبد الرَّحْمَن وَأَبُو دَاوُد وَابْن عدي الْحَافِظ وَغَيرهم. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين وَغَيره: لَا نَعْرِف يزْدَاد. قَالَ النَّوَوِيّ: ويزداذ - بزاي ثمَّ دَال مُهْملَة ثمَّ ألف ثمَّ ذال مُعْجمَة - وفساءة - بِالْفَاءِ وَالسِّين الْمُهْملَة المخففة (و) بِالْمدِّ - وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» عَن أَبِيه أَنه قَالَ فِي حَدِيث عِيسَى بن يزْدَاد عَن أَبِيه: إِن يزْدَاد لَيست لَهُ صُحْبَة، وَمن النَّاس من يدْخلهُ فِي الْمسند، وَهُوَ وَأَبوهُ مَجْهُولَانِ. وَقَالَ عبد الْحق. هَذَا حَدِيث لَا يَصح. قَالَ ابْن الْقطَّان: لِأَن عِيسَى وأباه لَا يُعرفان، وَلَا يُعلم لَهما غير هَذَا الحَدِيث.
قلت: ويغني عَن هَذَا الحَدِيث فِي الدّلَالَة عَلَى أصل الِاسْتِبْرَاء الحَدِيث الصَّحِيح الْمُتَّفق عَلَى صِحَّته وثبوته من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «مر النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بحائط من حيطان مَكَّة - أَو الْمَدِينَة - فَسمع صَوت إنسانين (يعذبان) فِي قبورهما، فَقَالَ: يعذبان، وَمَا يعذبان فِي كَبِير؛ بلَى كَانَ أَحدهمَا لَا يستبرئ من بَوْله، وَكَانَ الآخر يمشي بالنميمة. ثمَّ دَعَا بجريدة فَكَسرهَا كسرتين، ثمَّ وضع عَلَى كل قبر مِنْهَا كسرة، فَقيل لَهُ: يَا رَسُول الله، لم فعلت هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّه يُخَفف عَنْهُمَا مَا لم ييبسا - أَو إِلَى أَن ييبسا» . رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من طرق، وَفِي رِوَايَة لَهما:
(2/346)
«لَا يسْتَتر من بَوْله» وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «لَا يستنزه عَن الْبَوْل - أَو من الْبَوْل» . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «لَا يستبرئ» .
وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد من حَدِيث أبي بكرَة عَلَى شَرط الصَّحِيح: «إِن عذابهما كَانَ من الْغَيْبَة وَالْبَوْل» .
وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: «عذَابا شَدِيدا فِي ذَنْب هَين ... » الحَدِيث بسياقة الصَّحِيح.
وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث عَلّي بن يزِيد، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة «إِن القبرين بِالبَقِيعِ» .
وَهُوَ فِي بعض طرق البُخَارِيّ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام خرج من بعض حيطان (الْمَدِينَة) فَسمع صَوت (إنسانين) يعذبان فِي قبورهما ... » الحَدِيث.
الحَدِيث السَّابِع عشر
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْغَائِط فليذهب مَعَه بِثَلَاثَة أَحْجَار يَسْتَطِيب بِهن؛ فَإِنَّهَا تُجزئ عَنهُ» .
هَذَا الحَدِيث حسن، وَتقدم بَيَانه فِي آخر الحَدِيث الرَّابِع عشر.
(2/347)
الحَدِيث الثَّامِن عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الِاسْتِنْجَاء (بالروث) والرمة» .
(هَذَا حَدِيث) صَحِيح رَوَاهُ جماعات من الْأَئِمَّة، وَقد تقدم بِطُولِهِ فِي أول هَذَا الْبَاب.
الحَدِيث التَّاسِع عشر
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى عَن الِاسْتِنْجَاء بالعظم، وَقَالَ: إِنَّه زَاد إخْوَانكُمْ من الْجِنّ» .
أما النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بالعظم فَصَحِيح، رَوَاهُ جماعات من الصَّحَابَة، مِنْهُم: أَبُو هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» (فِي هَذَا الْبَاب) من رِوَايَة (يَحْيَى بن سعيد) عَنهُ قَالَ: «اتبعت النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَخرج لِحَاجَتِهِ، فَكَانَ لَا يلْتَفت، فدنوت مِنْهُ فَقَالَ: أبغني أحجارًا أستنفض بهَا أَو نَحوه، وَلَا تأتني بِعظم وَلَا رَوْث. فَأَتَيْته بأحجار بِطرف ثِيَابِي (فَوَضَعتهَا) إِلَى جنبه وأعرضت عَنهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجته اتبعته
(2/348)
بِهن» . (زَاد فِي بَاب ذكر الْجِنّ) : «فَقلت: مَا بَال الْعظم والروثة؟ فَقَالَ: هما من طَعَام الْجِنّ، وَإنَّهُ أَتَانِي وَفد (جن) نَصِيبين - وَنعم الْجِنّ - فسألوني الزَّاد، فدعوت الله - عَزَّ وجَلَّ - أَن لَا يمروا بِعظم وَلَا بروثة إِلَّا وجدوا عَلَيْهَا طَعَاما» .
قَالَ أَبُو عبد الله (الْقَزاز) فِي «تَفْسِير غَرِيب البُخَارِيّ» : هَكَذَا رُوِيَ « (استنفض) » كَأَنَّهُ أستفعل من (النفض) وَهُوَ أَن يهز الشَّيْء ليطرد غباره أَو يَزُول مَا عَلَيْهِ وَهَذَا مَوضِع أستنظف بهَا، أَي: أنظف نَفسِي بهَا من الْحَدث، وَلَكِن هَكَذَا رُوِيَ.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «جَامع المسانيد» : انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ البُخَارِيّ، وَمَعْنى (أستنفض) بهَا أزيل بهَا عني الْأَذَى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : ورأيته: أستنظف فِي غير «كتاب البُخَارِيّ» .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة أبي حَازِم، عَن أبي هُرَيْرَة «أَن رَسُول
(2/349)
الله (نهَى أَن يستنجى بروث (أَو) عظم، وَقَالَ: إنَّهُمَا لَا تطهران» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده صَحِيح.
قلت: فِي سَنَده سَلمَة بن رَجَاء، قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن عدي: حدث بِأَحَادِيث لَا يُتَابع عَلَيْهَا. (و) ذكره ابْن حبَان فِي «الثِّقَات» وَرَوَى لَهُ البُخَارِيّ فِي «الصَّحِيح» (وَفِيه) أَيْضا يَعْقُوب بن كاسب، قيل: رَوَى عَنهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» أَيْضا وَلم ينْسبهُ. وَقَالَ يَحْيَى وَالنَّسَائِيّ: لَيْسَ بِشَيْء. وَوَثَّقَهُ يَحْيَى مرّة.
وَمِنْهُم: عبد الله بن مَسْعُود رَضي اللهُ عَنهُ رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» عَنهُ من حَدِيث طَوِيل، وَفِيه: «وسألوه - يَعْنِي الْجِنّ - الزَّاد، فَقَالَ: لكم كل عظم ذكر اسْم الله عَلَيْهِ يَقع فِي أَيْدِيكُم أوفر مَا يكون لَحْمًا، وكل بَعرَة علف لدوابكم. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَلَا تستنجوا بهما (فَإِنَّهُمَا) طَعَام إخْوَانكُمْ» .
وَوَقع فِي مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه بدل «وَذكر اسْم الله» : «لم يذكر اسْم الله» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَنهُ قَالَ: «قدم وَفد الْجِنّ عَلَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، اِنْهَ أمتك أَن يستنجوا بِعظم أَو رَوْثَة أَو
(2/350)
حُممة؛ فَإِن الله جعل لنا فِيهَا رزقا. فَنَهَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن ذَلِك» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا وَقَالا: إِسْنَاده شَامي لَيْسَ بِثَابِت. وَقَالَ الْحَازِمِي: لَا يعرف مُتَّصِلا (إِلَّا) من حَدِيث الشاميين، وَهُوَ عَلَى شَرط أبي دَاوُد.
الحُمَمَة - بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الميمين مَعَ التَّخْفِيف - (الفحم) . وَيُقَال (إِنَّه) الرخو الَّذِي (لَا) يقْلع النَّجَاسَة.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» عَن أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح، عَن ابْن وهب، عَن يُونُس، عَن ابْن شهَاب، عَن أبي عُثْمَان بن سنّة الْخُزَاعِيّ الدِّمَشْقِي، عَن ابْن مَسْعُود «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يَسْتَطِيب أحدكُم بِعظم أَو (رَوْث) » .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي أَوَاخِر كتاب التَّفْسِير بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَإِسْنَاده لَا أعلم بِهِ بَأْسا.
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (أَيْضا) من حَدِيث مُوسَى بن عُلَي - بِضَم الْعين وَفتح اللَّام عَلَى الْمَعْرُوف - عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن مَسْعُود «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يستنجى بِعظم حَائِل أَو رَوْثَة أَو حممة» ثمَّ قَالَ: عَلّي
(2/351)
بن رَبَاح لَا يثبت سَمَاعه من ابْن مَسْعُود.
وَأخرجه أَبُو نعيم فِي «معرفَة الصَّحَابَة» من حَدِيث حَرْمَلَة، ثَنَا ابْن وهب، عَن يُونُس، عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْن سنة الْخُزَاعِيّ أَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: «قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لأَصْحَابه وَهُوَ بِمَكَّة: من أحب مِنْكُم أَن يحضر اللَّيْلَة أَمر الْجِنّ فَلْيفْعَل ... » ثمَّ ذكر الحَدِيث قَالَ: «فَأَعْطَاهُمْ عظما وَرَوْثًا زادًا، ثمَّ نهَى رَسُول (أَن يَسْتَطِيب أحد بِعظم أَو رَوْث» .
ثمَّ قَالَ ابْن مَنْدَه: هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَرُوِيَ بِإِسْقَاط ابْن مَسْعُود، ذكره أَبُو نعيم فِي تَرْجَمَة أبي عُثْمَان بن سنة الْخُزَاعِيّ الصَّحَابِيّ.
وَمِنْهُم: سلمَان رَضي اللهُ عَنهُ رَوَاهُ مُسلم، وَسَيَأْتِي قَرِيبا حَيْثُ ذكره المُصَنّف.
وَمِنْهُم: جَابر بن عبد الله - رَضي اللهُ عَنهُ - رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق، نَا أَبُو الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: «نهَى رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن نتمسح بِعظم أَو ببعر» .
وَمِنْهُم: رويفع بن ثَابت رَضي اللهُ عَنهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد جيد عَنهُ قَالَ: «قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا رويفع، لَعَلَّ الْحَيَاة ستطول بك بعدِي، فَأخْبر النَّاس أَن من عقد لحيته أَو تقلد وترا أَو استنجى برجيع دَابَّة أَو عظم؛ فَإِن مُحَمَّدًا بَرِيء مِنْهُ» .
(2/352)
قَالَ صَاحب «الدَّلَائِل فِي غَرِيب الحَدِيث» بعد رِوَايَته لَهُ: هَكَذَا فِي الحَدِيث «من عقد لحيته» وَصَوَابه - وَالله أعلم -: «من عقد لحاء» من قَوْلك لحيت الشّجر إِذا قشرته، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يعقدون لحاء الْحرم فيقلدونه (فِي) أَعْنَاقهم فيأمنون بذلك، وَهُوَ قَول الله - تَعَالَى -: (لَا تحلوا شَعَائِر الله وَلَا الشَّهْر الْحَرَام وَلَا الْهَدْي وَلَا القلائد) فَلَمَّا أظهر الله الْإِسْلَام نهَى عَن ذَلِك. قَالَ السّديّ: شَعَائِر الله: حرم الله. وَأما الْهَدْي والقلائد؛ فَإِن الْعَرَب كَانُوا يقلدون من لحاء الشّجر - شجر مَكَّة - فيقيم الرجل بِمَكَّة حَتَّى إِذا انفضت الْأَشْهر الْحرم وَأَرَادَ أَن يرجع إِلَى أَهله قلد نَفسه وناقته من لحاء الشّجر، فَيَأْمَن حَتَّى يَأْتِي أَهله.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَمَا أشبه مَا قَالَه بِالصَّوَابِ، لَكِن لم نره فِيمَا وقفنا عَلَيْهِ فِي رِوَايَة.
وَمِنْهُم: سهل بن حنيف رَضي اللهُ عَنهُ رَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» عَن أبي عَاصِم، عَن ابْن جريج، عَن عبد الْكَرِيم - وَهُوَ ابْن أبي الْمخَارِق - عَن الْوَلِيد بن مَالك، عَن عبد الْقَيْس، عَن مُحَمَّد بن قيس مولَى سهل بن حنيف، عَن سهل بن حنيف أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ لَهُ: «أَنْت رَسُولي إِلَى أهل مَكَّة، فَقل: إِن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يقْرَأ عَلَيْكُم السَّلَام، ويأمركم أَن لَا تستنجوا بِعظم وَلَا ببعر» . قَالَ أَبُو عَاصِم مرّة: و «يَنْهَاكُم» أَو «يَأْمُركُمْ» .
(2/353)
وَأخرجه أَحْمد فِي «الْمسند» عَن عبد الرَّزَّاق، أَنا ابْن جريج، نَا عبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق أَن الْوَلِيد بن مَالك أخبرهُ أَن مُحَمَّد بن قيس ... . فَذكر الحَدِيث إِلَّا أَنه قَالَ: «يَأْمُركُمْ بِثَلَاث: لَا تحلفُوا بِغَيْر الله، وَإِذا تخليتم فَلَا تستقبلوا الْقبْلَة [وَلَا تستدبروها] وَلَا تستنجوا بِعظم وَلَا ببعرة» .
وَمِنْهُم رجل من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن مُوسَى بن أبي إِسْحَاق الْأنْصَارِيّ، عَن (عبد الله بن) عبد الرَّحْمَن، عَن رجل من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الْأَنْصَار أخبرهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - « (أَنه) نهَى أَن يَسْتَطِيب أحد بِعظم أَو رَوْث أَو جلد» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده غير ثَابت. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَسَببه جَهَالَة مُوسَى وَعبد الله.
وَأما قَول الإِمَام الرَّافِعِيّ وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن الْعظم زَاد إخْوَانكُمْ من الْجِنّ» فَصَحِيح أَيْضا رَوَى مُسلم فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الشّعبِيّ، عَن عَلْقَمَة، عَن ابْن مَسْعُود، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي حَدِيث
(2/354)
طَوِيل قَالَ فِي آخِره: وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تستنجوا بالعظم والبعر؛ فَإِنَّهُمَا طَعَام إخْوَانكُمْ - يَعْنِي: من الْجِنّ» كَمَا تقدم. ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق آخر، وَلم يذكر هَذِه الزِّيَادَة فِيهِ، وَرَوَاهُ من طَرِيق ثَالِث عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن الشّعبِيّ وَلم يذكر هَذِه الزِّيَادَة ثمَّ قَالَ: قَالَ الشّعبِيّ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «لَا تستنجوا بالعظم والبعر» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: كَأَن هَذِه الرِّوَايَة أصح - يَعْنِي: فَيكون مُرْسلا - قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : لَا نوافق التِّرْمِذِيّ عَلَى ذَلِك؛ بل الْمُخْتَار أَن هَذِه الزِّيَادَة مُتَّصِلَة.
قلت: وَقد حكم أَيْضا أَبُو حَاتِم بن حبَان للطريقة الموصولة بِالصِّحَّةِ فَإِنَّهُ أخرجهَا فِي «صَحِيحه» بالطريقة الأولَى الَّتِي ذكرهَا مُسلم، ولفظها إِلَّا أَنه قَالَ: «زَاد» بدل «طَعَام» وَالْمعْنَى وَاحِد.
وَفِي «تَلْخِيص الْخَطِيب» من حَدِيث يَحْيَى بن عبد الله بن بكير، أَنا ابْن لَهِيعَة (عَن أَحْمد بن خازم) - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة - عَن صَالح مولَى التوءمة، عَن ابْن عَبَّاس، عَن ابْن مَسْعُود، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنه جعل زَاد الْجِنّ الروث وَالْعِظَام، لَا يَمرونَ عَلَى شَيْء مِنْهُ إِلَّا وجدوه لَحْمًا طريًّا» .
وَفِي «الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير» من حَدِيث بَقِيَّة، نَا نمير بن يزِيد، نَا أبي،
(2/355)
ثَنَا (قُحَافَة) بن ربيعَة، ثَنَا الزبير بن الْعَوام مَرْفُوعا - فِي حَدِيث طَوِيل فِيهِ -: «أُولَئِكَ - يَعْنِي: الْجِنّ - من وَفد نَصِيبين سَأَلُونِي الزَّاد، فَجعلت لَهُم كل عظم وروثة. قَالَ الزبير: فَلَا يحل لأحد أَن يستنجي بِعظم (وَلَا) رَوْثَة أبدا» .
وَفِيه أَيْضا من حَدِيث مُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي عَن (سعيد) بن الْحَارِث، عَن أبي الْمُعَلَّى، عَن (عبد الله) بن مَسْعُود «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لجن نَصِيبين: لكم الرجيع وَمَا أتيتم عَلَيْهِ من عظم فلكم عَلَيْهِ (لَحْمًا) وَمَا أتيتم عَلَيْهِ من رَوْث فَهُوَ لكم تَمرا» .
الحَدِيث الْعشْرُونَ
(رُوِيَ أَنه) «قَالَ) : «إِذا جلس أحدكُم لِحَاجَتِهِ فليمسح ثَلَاث مسحات» .
(2/356)
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل فِي «مُسْنده» عَن حسن بن الأشيب، عَن ابْن لَهِيعَة، نَا أَبُو الزبير، عَن جَابر قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إِذا تغوط أحدكُم فليمسح ثَلَاث مَرَّات، وَنَهَى أَن يستنجى ببعرة أَو عظم» ابْن لَهِيعَة قد علمت حَالَته.
وَرَوَاهُ جماعات بِمَعْنَاهُ كَحَدِيث عَائِشَة الْمُتَقَدّم: «إِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْغَائِط فليذهب مَعَه (بِثَلَاث أَحْجَار يَسْتَطِيب بِهن» وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور فِي أول الْبَاب: «وليمسح) بِثَلَاثَة أَحْجَار» وَحَدِيثه السَّابِق أَيْضا: «كَانَ يَأْمُرنَا بِثَلَاثَة أَحْجَار» وَحَدِيث سلمَان وَسَهل بن سعد السَّاعِدِيّ الآتيين قَرِيبا، وَحَدِيث خُزَيْمَة الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - سُئِلَ عَن الاستطابة فَقَالَ: بِثَلَاثَة أَحْجَار» . وَحَدِيث خَلاد أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «إِذا تغوط أحدكُم فليستجمر ثَلَاثًا» رَوَاهُ ابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» وَقَالَ: خَلاد هَذَا أَحْسبهُ ابْن رَافع بن مَالك أَخُو رِفَاعَة بن رَافع الْأنْصَارِيّ.
وَرَوَى هَذَا الحَدِيث الْخَطِيب فِي كِتَابه «موضح أَوْهَام الْجمع والتفريق» بِخَطِّهِ، لَكِن من حَدِيث خَلاد الْجُهَنِيّ، عَن أَبِيه السَّائِب أَن نَبِي الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا دخل أحدكُم الْخَلَاء فليتمسح بِثَلَاثَة أَحْجَار» وَهُوَ فِي «جمع من رَوَى عَنهُ ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ وَمن رَوَى عَن الزُّهْرِيّ» للنسائي من حَدِيث أبي غَسَّان مُحَمَّد بن يَحْيَى، أَخْبرنِي أبي، عَن ابْن أخي ابْن شهَاب (عَن ابْن شهَاب) قَالَ: أَخْبرنِي خَلاد بن السَّائِب أَن أَبَاهُ
(2/357)
سمع النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (قَالَ:) «إِذا تغوط أحدكُم فليتمسح ثَلَاث مَرَّات» .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو نعيم وَابْن مَنْدَه وَابْن عبد الْبر كَذَلِك بِلَفْظ: «فليتمسح بِثَلَاثَة أَحْجَار» .
وَفِي «الْمُحَلَّى» لِابْنِ حزم مَا نَصه: فَإِن ذكرُوا حَدِيثا (رَوَاهُ) ابْن أخي الزُّهْرِيّ مُسْندًا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «إِذا تغوط أحدكُم فليمسح ثَلَاث مَرَّات» قيل: ابْن أخي الزُّهْرِيّ ضَعِيف، وَالَّذِي رَوَاهُ عَنهُ مُحَمَّد بن يَحْيَى الْكِنَانِي: مَجْهُول.
قلت: ابْن أخي الزُّهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن مُسلم، احْتج بِهِ أَصْحَاب «الْكتب السِّتَّة» وَوَثَّقَهُ الْأَئِمَّة. وَمَا ذكره ابْن حزم هُوَ إِحْدَى رِوَايَات أَرْبَعَة عَن ابْن معِين، رَوَاهُ الدَّارمِيّ عَنهُ. وَقَوله: وَالَّذِي رَوَاهُ عَنهُ مُحَمَّد بن يَحْيَى مَجْهُول. فَفِيهِ نظر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن مُحَمَّدًا يرويهِ عَن أَبِيه، عَن ابْن أخي (الزُّهْرِيّ) كَذَا رَأَيْته وَلم أر أحدا سَاقه من حَدِيث مُحَمَّد هَذَا عَن ابْن أخي الزُّهْرِيّ (كَمَا) هُوَ ظَاهر كَلَام ابْن حزم.
الثَّانِي: قَوْله فِي مُحَمَّد بن يَحْيَى: أَنه مَجْهُول. وَلَا أعلم لَهُ مُوَافقا.
(2/358)
مُحَمَّد هَذَا احْتج بِهِ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان، فَأخْرج عَنهُ حَدِيثا فِي «صَحِيحه» وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَرَوَى عَنهُ خلق وَهُوَ أَبُو غَسَّان مُحَمَّد بن يَحْيَى بن عَلّي.
الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ
عَن سلمَان رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن (لَا) نجتزئ بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أَحْجَار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» مُنْفَردا (بِهِ) من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن يزِيد قَالَ: «قيل لسلمان الْفَارِسِي رَضي اللهُ عَنهُ: قد علمكُم نَبِيكُم كل شَيْء حَتَّى الخراءة! فَقَالَ: أجل؛ لقد نَهَانَا أَن نستقبل الْقبل بغائط أَو بَوْل، أَو أَن نستنجي بِالْيَمِينِ، أَو أَن نستنجي بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أَحْجَار، أَو أَن نستنجي برجيع أَو عظم» .
وَفِي رِوَايَة لَهُ قَالَ: «قَالَ لنا الْمُشْركُونَ: إنى أرَى صَاحبكُم يعلمكم حَتَّى يعلمكم الخراءة! فَقَالَ: أجل، إِنَّه نَهَانَا أَن يستنجي أَحَدنَا بِيَمِينِهِ، أَو يسْتَقْبل الْقبْلَة، وَنَهَى عَن الروث وَالْعِظَام، وَقَالَ: لَا يستنجي أحدكُم بِدُونِ ثَلَاثَة أَحْجَار» .
(2/359)
وَمن الغلطات الْمَعْرُوفَة لِابْنِ حزم الظَّاهِرِيّ فِي هَذَا الحَدِيث أَنه عزاهُ إِلَى مُسلم بِلَفْظ: «لقد نَهَانَا أَن يستنجي أَحَدنَا بِيَمِينِهِ، أَو مُسْتَقْبل الْقبْلَة» كَذَا فِي كِتَابه «مُسْتَقْبل الْقبْلَة» بِالْمِيم، وَهَذَا لَا يُوجد فِي مُسلم، وَالَّذِي فِيهِ مَا سلف وَوَقع فِي «شرح التَّنْبِيه» للمحب الطَّبَرِيّ عزو حَدِيث سلمَان (هَذَا) إِلَى البُخَارِيّ، وَهُوَ وهم مِنْهُ.
فَائِدَة: الرجيع: الروث، والخراءة بِالْمدِّ، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض فِي «الْمَشَارِق» : هِيَ (لَهُنَّ جلْسَة التخلي) لقَضَاء الْحَاجة أَو (هُوَ صفة) التَّنْظِيف مِنْهُ. قَالَ الْخطابِيّ فِي «إصْلَاح الْأَلْفَاظ المصحفة» : عوام الروَاة يفتحون الْخَاء؛ فيفحش مَعْنَاهُ» ، وَإِنَّمَا هُوَ الخِراءة - مكسور الْخَاء مَمْدُود الْألف - يُرِيد: الجلسة للتخلي، والتنظف مِنْهُ. وَقَالَ ابْن بري ردًّا عَلَى الْخطابِيّ: يُقَال: خرئ خِراءة وخُراءة وخروءًا وخرءًا.
وأَجَلْ - بِفَتْح الْهمزَة وَالْجِيم وَتَخْفِيف اللَّام مَعَ السّكُون - مَعْنَاهَا: نعم.
وسلمان رَضي اللهُ عَنهُ من فضلاء الصَّحَابَة، وعمّر عمرا طَويلا جدًّا، قَالَ النَّوَوِيّ فِي «التَّهْذِيب» : ونقلوا اتِّفَاق الْعلمَاء عَلَى أَنه عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخمسين سنة، وَاخْتلفُوا فِي الزِّيَادَة عَلَيْهَا فَقيل: ثَلَاثمِائَة وَخمسين سنة،
(2/360)
وَقيل: أَنه أدْرك (وَحي) عِيسَى ابْن مَرْيَم، وَهُوَ أول مكَاتب فِي الْإِسْلَام، قَالَه ابْن شعْبَان. وَقيل: (ابْن) مُؤَمل، حَكَاهُمَا ابْن الطلاع فِي «أَحْكَامه» قَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» : وإسلامه بِالْمَدِينَةِ أثبت من (قَول من) قَالَ إِنَّه بِمَكَّة.
(2/361)
الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن وَمن لَا فَلَا حرج» .
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي أَوَائِل الْبَاب، وَهُوَ (الحَدِيث) الثَّانِي مِنْهُ.
الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فليستنج بِثَلَاثَة أَحْجَار، لَيْسَ فِيهَا رجيع وَلَا عظم» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ جماعات (بِمَعْنَاهُ) وَقد تقدم بِطرقِهِ فِي الحَدِيث التَّاسِع عشر فِي أول الْبَاب، وَمِمَّا لم نقدمه - وَهُوَ بِمَعْنى هَذَا الحَدِيث - حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضي اللهُ عَنهُ وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَى الْغَائِط فَأمرنِي أَن آتيه بِثَلَاثَة أَحْجَار، فَوجدت حجرين والتمست الثَّالِث فَلم أَجِدهُ، فَأخذت رَوْثَة [فَأَتَيْته] بهَا فَأخذ الحجرين وَألقَى الروثة وَقَالَ: إِنَّهَا ركس» .
وَفِي رِوَايَة للدارقطني (وَغَيره) «إِنَّهَا ركس، ائْتِنِي بِحجر» يَعْنِي: ثَالِثا. وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا: «ائْتِنِي بغَيْرهَا» .
وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ من طَرِيق أبي إِسْحَاق، عَن عَلْقَمَة وَقد
(2/362)
(سكت) عَنْهَا الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي هَذَا الْبَاب، وَهِي مُنْقَطِعَة فِيمَا بَين أبي إِسْحَاق وعلقمة؛ فَإِنَّهُ لم يسمع مِنْهُ شَيْئا بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفسه بذلك. قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «مراسيله» : قَالَ أبي وَأَبُو زرْعَة: لم يسمع من عَلْقَمَة شَيْئا (قَالَ:) وثنا أبي، نَا مُحَمَّد بن بشار، نَا أُميَّة بن خَالِد، نَا شُعْبَة: قَالَ رجل لأبي إِسْحَاق الهمذاني: (شُعْبَة) يَقُول: (إِنَّك) لم تسمع (من) عَلْقَمَة قَالَ: صدق.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب الدِّيَة أَخْمَاس: أَبُو إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة مُنْقَطع؛ لِأَنَّهُ (رَآهُ) وَلم يسمع مِنْهُ. وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله الْعجلِيّ: لم يسمع (أَبُو) إِسْحَاق من عَلْقَمَة شَيْئا.
قلت: لَكِن قَالَ الْكَرَابِيسِي فِي كتاب «المدلسين» : أَبُو إِسْحَاق يَقُول فِي هَذَا الحَدِيث: حَدثنِي عَلْقَمَة عَن عبد الله. فَهَذَا تَصْرِيح بِسَمَاع
(2/363)
أبي إِسْحَاق من عَلْقَمَة، وَعَلَى تَقْدِير تَسْلِيم عدم السماع فَلَا حجَّة (للخصم) فِي الرِّوَايَة الأولَى؛ إِذْ يجوز أَن يكون أحد الحجرين لَهُ أحرف؛ فاستوفى بهَا الْعدَد، يدل عَلَى ذَلِك حَدِيث سلمَان (الثَّانِي) فِي النَّهْي عَن الِاكْتِفَاء بِدُونِ ثَلَاثَة أَحْجَار، وَقد ذكر ذَلِك الإِمَام الْخطابِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ.
الحَدِيث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا استجمر أحدكُم فليستجمر وترا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: «من استجمر فليوتر» وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة جَابر رَضي اللهُ عَنهُ إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: «ثَلَاثًا» بدل «وترا» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة (فِي «صَحِيحه» ) بِهَذَا اللَّفْظ. ورأيته أَنا بعد ذَلِك فِيهِ، وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا فِي «صَحِيحه» عَنهُ مَرْفُوعا، لَكِن لَفظه: «من استجمر فليوتر» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الرِّوَايَة الأولَى تبين أَن المُرَاد بالإيتار فِي هَذِه الرِّوَايَة مَا زَاد عَلَى الْوَاحِد. وَهُوَ فِي «مُسلم» أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ
(2/364)
(و) رَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد فِي حَدِيث وَاحِد، وَفِي «جَامع التِّرْمِذِيّ» و «سنَن النَّسَائِيّ» وَابْن مَاجَه عَن سَلمَة بن قيس مَرْفُوعا: «إِذا تَوَضَّأت فانثر، وَإِذا استجمرت فأوتر» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : رجال إِسْنَاده ثِقَات.
قلت: لَا جرم أخرجه ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» وَفِي «صحيحي ابْن حبَان وَالْحَاكِم» عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِذا استجمر أحدكُم فليوتر؛ فَإِن الله وتر يحب الْوتر، أما ترَى السَّمَوَات سبعا وَالْأَرضين سبعا وَالطّواف سبعا ... » وَذكر أَشْيَاء. قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. قَالَ: لم يخرجَاهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ، إِنَّمَا اتفقَا عَلَى: «من استجمر فليوتر» فَقَط.
قلت: فِي طَرِيق الْحَاكِم: الْحَارِث بن أبي أُسَامَة - وَلَيْسَ بعمدة -
(2/365)
وَطَرِيق ابْن حبَان صَحِيحَة، و (أخرجه) كَذَلِك (شَيْخه) ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» .
وَفِي «أَفْرَاد مُسلم» مثل هَذَا من حَدِيث جَابر رَفعه «الِاسْتِجْمَار تو، وَرمي الْجمار تو، وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة تو، وَالطّواف تو؛ وَإِذا استجمر أحدكُم فليستجمر بتو» . يَعْنِي: الْوتر، زَاد البرقاني: «والكحل تو» يَعْنِي: ثَلَاثًا ثَلَاثًا.
الحَدِيث الْخَامِس وَالْعشْرُونَ
رُوِيَ أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «فليستنج بِثَلَاثَة أَحْجَار يقبل بِوَاحِد وَيُدبر بِوَاحِد ويحلق بالثالث» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ تبعا للغزالي فِي «وسيطه» وَهُوَ تبع الإِمَام إِذْ قَالَ: إِن الصيدلاني ذكره، وَلَا أعلم من خرجه من أَصْحَاب الْكتب الْمُعْتَمدَة وَلَا غَيرهَا. وَذكره الشَّيْخ زكي الدَّين فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» وَلم يعزه، وَقَالَ: لم يذكرهُ الْحَازِمِي. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح: هَذَا الحَدِيث لَا يُعرف، وَلَا يثبت فِي كتب الحَدِيث.
(2/366)
وَقَالَ (الشَّيْخ) تَاج الدَّين ابْن الفركاح فِي «الإقليد» : لَا أصل لَهُ، وَلَا يُعرف فِي كتب الحَدِيث. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : (هَذَا الحَدِيث ضَعِيف لَا أصل لَهُ. قَالَ: وينكر عَلَى صَاحب «الْمُهَذّب» ) حَيْثُ قَالَ: «لقَوْله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -» فَعبر عَنهُ بِصِيغَة الْجَزْم مَعَ أَنه حَدِيث مُنكر. وَقَالَ فِي «الْخُلَاصَة» : (إِنَّه) (حَدِيث) ضَعِيف لَا يُعرف. وَقَالَ الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي «الْكتاب» و «الشَّرْح الصَّغِير» أَيْضا: هَذَا الحَدِيث ثَابت. وَهُوَ عجب مِنْهُ كَيفَ يُطلق هَذِه الْعبارَة فِي حَدِيث لَا يعرف؟ ! وَقد سبق بالإنكار عَلَيْهِ النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَقَالَ) فِي «شرح الْمُهَذّب» : هَذَا غلط من الرَّافِعِيّ. قَالَ: وَقَوله: «يُحلِّق» - بِضَم الْيَاء وَكسر اللَّام الْمُشَدّدَة - أَي: يديره كالحلقة. قَالَ ابْن الرّفْعَة (فِي «الْمطلب» عقب مقَالَة الرَّافِعِيّ الْمَذْكُورَة: النَّوَوِيّ أقعد مِنْهُ بِالْحَدِيثِ. وَكَأن [ابْن] الرّفْعَة) لم يرَى كَلَام الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» وَلَا كَلَامه فِي «أَمَالِيهِ الشارحة لمفردات الْفَاتِحَة» فَمن رَأَى كَلَامه فيهمَا توقف فِي هَذِه القولة توقفًا قويًّا، وَمَشى الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي كِتَابه عَلَى عَادَة الْفُقَهَاء فِي إِيرَاد الْأَحَادِيث دون عزوها (و) لَا يُوجب فِيهِ هَذِه القولة. وَاعْلَم
(2/367)
أَن الإِمَام الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث (عَلَى) أصح الْأَوْجه فِي كَيْفيَّة الِاسْتِنْجَاء، وَفِيه وَقْفَة؛ لِأَن من تتمته أَنه يمسح بالثالث الصفحتين والمسربة وَقَوله: «ويحلق بالثالث» قد يكون المُرَاد بِهِ حَلقَة الدبر فَقَط، وَهِي المسربة كَمَا حَكَاهُ صَاحب «الْمُهَذّب» . وَأما الْمَاوَرْدِيّ فَإِنَّهُ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث للْوَجْه الثَّانِي، وَهُوَ قَول أبي إِسْحَاق: أَن حجرا للصفحة الْيُمْنَى وحجرًا (للصفحة الْيُسْرَى) وحجرًا للوسط. فقد وَقع نزاع فِي مَعْنَى الحَدِيث عَلَى تَقْدِير مَعْرفَته.
الحَدِيث السَّادِس وَالْعشْرُونَ
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «حجرا للصفحة الْيُمْنَى، وحجرًا للصفحة الْيُسْرَى، وحجرًا للوسط» .
هَذَا الحَدِيث حسن، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» و «الْعقيلِيّ فِي الضُّعَفَاء» من رِوَايَة أُبي (بن) الْعَبَّاس بن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الاستطابة فَقَالَ: أَو لَا يجد أحدكُم ثَلَاثَة أَحْجَار حجرين للصفحتين وحجرًا للمسربة؟» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده حسن. وَقَالَ الْحَازِمِي: لَا يرْوَى عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي «الْكتاب» و «الشَّرْح
(2/368)
الصَّغِير» : إِنَّه حَدِيث ثَابت. وَخَالف الْعقيلِيّ؛ فَقَالَ: رَوَى الِاسْتِنْجَاء بِثَلَاثَة أَحْجَار عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - جمَاعَة: مِنْهُم: أَبُو هُرَيْرَة، وسلمان، وَخُزَيْمَة بن ثَابت، وَعَائِشَة، والسائب بن خَلاد الْجُهَنِيّ، وَأَبُو أَيُّوب، لم يَأْتِ أحد مِنْهُم بِهَذَا، ولأُبي أَحَادِيث لَا يُتَابع مِنْهَا عَلَى شَيْء، قَالَ يَحْيَى بن معِين: هُوَ ضَعِيف.
قلت: وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هُوَ مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ والدولابي: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. قَالَ الْحَافِظ شمس الدَّين الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه «الْمِيزَان» : وأُبي هَذَا وَإِن لم يكن بالثبت فَهُوَ حسن بِالْحَدِيثِ.
وَاعْلَم أَنه وَقع فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ (وَالْبَيْهَقِيّ) «أَولا يجد أحدكُم حجرين وحجرًا» بِالنّصب كَمَا قدمْنَاهُ وَوَقع فِي «الْمُهَذّب» للشَّيْخ أبي إِسْحَاق «حجران وَحجر» بِالرَّفْع. قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» لَهُ: وَكِلَاهُمَا صَحِيح وَالْأول عَلَى الْبَدَل من ثَلَاثَة، وَالثَّانِي عَلَى الِابْتِدَاء.
قلت: وَقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ مرّة أَيْضا كَمَا ذكره الشَّيْخ وَهَذَا لَفظه «حجران للصفحتين وَحجر للمسربة» . وَقَالَ فِي الأول: كَذَا قَالَ فِي كِتَابه. رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي «تَارِيخ الضُّعَفَاء» (أَيْضا كَمَا) أوردهُ الشَّيْخ فِي «الْمُهَذّب» وَهَذَا لَفظه «أَولا يَكْتَفِي أحدكُم بِثَلَاثَة أَحْجَار حجران (للصفحتين) وَحجر للمسربة» وَقد جَاءَ الْقُرْآن (أَيْضا) بِالْوَجْهَيْنِ فالبدل فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: (إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولَى
(2/369)
صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى) والابتداء فِي قَوْله تَعَالَى: (قد كَانَ لكم آيَة فِي فئتين التقتا فِئَة تقَاتل) .
والمسربة هُنَا: مجْرى الْغَائِط (وَهُوَ) مَأْخُوذ من سرب المَاء، قَالَه ابْن الْأَثِير وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهمَا (قَالَ ابْن الْأَثِير: وَهُوَ بِضَم الرَّاء وَفتحهَا) .
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث احْتج بِهِ الإِمَام الرَّافِعِيّ؛ لقَوْل (أبي) إِسْحَاق: «أَن حجرا للصفحة الْيُمْنَى، وحجرًا لليسرى، وحجرًا للوسط» وَالْمَاوَرْدِيّ (من أَصْحَابنَا) احْتج بِهِ للراجح، وَهُوَ الْوَجْه الأول الَّذِي احْتج لَهُ الرَّافِعِيّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي قبل هَذَا، وَكِلَاهُمَا مُحْتَمل؛ فَإِنَّهُ لما قَالَ: حجران للصفحتين. (احْتمل) أَن يكون الْمَعْنى (حجرا للصفحة وحجرًا لِلْأُخْرَى، وَاحْتمل أَن يكون الْمَعْنى) كل (وَاحِد) مِنْهُمَا للصفحتين. وَابْن الصّلاح (وَافق المارودي) حَيْثُ قَالَ فِي «مُشكل الْوَسِيط» : قَوْله: حجران للصفحتين. مَعْنَاهُ: كل وَاحِد مِنْهُمَا للصفحتين.
(2/370)
الحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: « [كَانَت] يَد رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْيُمْنَى لطهوره وَطَعَامه، وَكَانَت الْيُسْرَى لخلائه وَمَا كَانَ من أَذَى» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي « (مُسْنده» ) وَأَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور (و) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: «كَانَ يفرغ (يَمِينه) لطعامه وَحَاجته، ويفرغ شِمَاله للاستنجاء وَمَا هُنَالك» .
قَالَ الدوري: قَالَ ابْن معِين: لم يسمع إِبْرَاهِيم من عَائِشَة، ومراسيله صَحِيحَة إِلَّا حَدِيث «تَاجر الْبَحْرين» .
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «مراسيله» : ثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْبَراء قَالَ: قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ لم يلق أحدا
(2/371)
من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -. قلت لَهُ: فعائشة؟ قَالَ: هَذَا لم يروه غير سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن أبي معشر، عَن إِبْرَاهِيم، وَهُوَ ضَعِيف.
قَالَ ابْن أبي حَاتِم: وَقُرِئَ عَلَى الْعَبَّاس (بن) مُحَمَّد الدوري، قَالَ: سَمِعت يَحْيَى بن معِين يَقُول: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أُدخل عَلَى عَائِشَة - أَظن يَحْيَى قَالَ وَهُوَ صبي - قَالَ ابْن أبي حَاتِم: وَسمعت أبي يَقُول: لم يلق إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا عَائِشَة، وَلم يسمع مِنْهَا شَيْئا؛ فَإِنَّهُ دخل عَلَيْهَا وَهُوَ صَغِير. وَكَذَا نَص غير وَاحِد من الْحفاظ عَلَى انْقِطَاع هَذَا الحَدِيث، مِنْهُم: الْحَازِمِي، وَالشَّيْخ زكي الدَّين وَالنَّوَوِيّ فِي كَلَامه عَلَى أبي دَاوُد، وَإِن كَانَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» لم يذكرهُ؛ بل قَالَ: رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح. وَلما أخرج أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث قَالَ: ثَنَا مُحَمَّد بن حَاتِم بن بزيع، نَا عبد الْوَهَّاب بن عَطاء، عَن سعيد، عَن أبي معشر، عَن إِبْرَاهِيم، عَن الْأسود، عَن عَائِشَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِمَعْنَاهُ.
فاتصل الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه وَظهر الْوَاسِطَة بَين إِبْرَاهِيم وَعَائِشَة، وَقَالَ الْحَازِمِي: هَذَا حَدِيث مُتَّصِل عَلَى شَرط أبي دَاوُد، حسن من هَذَا الْوَجْه.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي اللبَاس من حَدِيث مَسْرُوق، عَن عَائِشَة، وَمن هَذِه الطَّرِيقَة أخرجه الشَّيْخَانِ وَبَاقِي السّنَن، وَقد تقدم فِي بَاب
(2/372)
الْوضُوء، وَهُوَ الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ (مِنْهُ) وَمِمَّا يعضد حَدِيث عَائِشَة الَّذِي فِيهِ الِانْقِطَاع حَدِيث حَفْصَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَجْعَل يَمِينه لطعامه وَشَرَابه وثيابه، وَيجْعَل شِمَاله لما سُوَى ذَلِك» .
أخرجه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد، وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم.
الحَدِيث الثَّامِن وَالْعشْرُونَ
عَن أبي قَتَادَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِذا بَال أحدكُم فَلَا يمس ذكره بِيَمِينِهِ» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، فَلفظ البُخَارِيّ: «إِذا شرب أحدكُم فَلَا يتنفس فِي الْإِنَاء، وَإِذا أَتَى الْخَلَاء فَلَا يمس ذكره بِيَمِينِهِ، وَلَا (يستنجي بِيَمِينِهِ) » .
وَلَفظ مُسلم: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يتنفس فِي الْإِنَاء، وَأَن يمس ذكره بِيَمِينِهِ، وَأَن يَسْتَطِيب بِيَمِينِهِ» .
(وَفِي رِوَايَة: «لَا (يمس) أحدكُم ذكره بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُول، وَلَا
(2/373)
يتمسح من الْخَلَاء بِيَمِينِهِ، وَلَا يتنفس فِي الْإِنَاء» ) .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «إِذا دخل أحدكُم الْخَلَاء فَلَا يمس ذكره بِيَمِينِهِ» .
قَالَ ابْن مَنْدَه: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث مجمع عَلَى صِحَّته. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
الحَدِيث التَّاسِع وَالْعشْرُونَ
«إِن الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَثْنَى عَلَى أهل قبَاء - وَكَانُوا يجمعُونَ بَين المَاء و (الْأَحْجَار) - فَقَالَ تَعَالَى: (فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين» ) .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو بكر الْبَزَّار فِي «مُسْنده» فَقَالَ: نَا عبد الله بن شبيب، ثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز قَالَ: وجدت فِي كتاب أبي عَن الزُّهْرِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله، (عَن) ابْن عَبَّاس قَالَ: «نزلت هَذِه الْآيَة فِي أهل قبَاء (فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين) فَسَأَلَهُمْ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالُوا: إِنَّا نُتبع الْحِجَارَة المَاء» .
(2/374)
قَالَ الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث لَا نعلم أحدا رَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ إِلَّا مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز، وَلَا نعلم أحدا رَوَى عَنهُ إِلَّا ابْنه.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» بعد ذكر مَا تقدم: قَالَ ابْن أبي حَاتِم: قَالَ أبي: ثَلَاثَة إخْوَة ضعفاء: مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز هَذَا، وَعبد الله بن عبد الْعَزِيز، وَعمْرَان بن عبد الْعَزِيز، وَلَيْسَ لَهُم حَدِيث مُسْتَقِيم.
قَالَ الشَّيْخ: وَرَوَى أَبُو الْحسن الصفار فِي «مُسْنده» من حَدِيث زَائِدَة، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ: قَالَ عَلّي بن أبي طَالب: «إِنَّهُم كَانُوا يبعرون بعرًا وَأَنْتُم تثلطون ثلطًا، فأتبعوا الْحِجَارَة بِالْمَاءِ» .
قَالَ: وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا فِي «جمعه» لحَدِيث مسعر.
قلت: وَأخرج هَذَا الْبَيْهَقِيّ من جِهَة الصفار ثمَّ قَالَ: تَابعه مسعر عَن عبد الْملك، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق من حَدِيث الثَّوْريّ، عَن عبد الْملك. وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ: اخْتلف فِيهِ، فَقيل كَمَا مر، وَقيل: عَن زَائِدَة، عَن عبد الْملك، عَن كرْدُوس، عَن عَلّي. وَقيل: عَن جرير، عَن عبد الْملك، عَن رجل عَن عَلّي. وَقيل: عَن السّديّ، عَن عبد خير. وَلَا
(2/375)
يثبت فِي هَذَا عبد خير. ثمَّ سَاقه من حَدِيث سُفْيَان، عَن عبد الْملك، عَن عَلّي.
قَالَ الشَّيْخ: وَيُقَال: بعَر الْبَعِير يبعَر - بِفَتْح الْعين فِي الْمَاضِي والمستقبل - وثَلَط - بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح اللَّام أَيْضا - يثلِط - بِكَسْر اللَّام فِي الْمُسْتَقْبل - إِذا ألْقَى بعره رَقِيقا. انْتَهَى.
فرواية الْبَزَّار هَذِه مُوَافقَة لما أوردهُ الإِمَام الرَّافِعِيّ وَغَيره من الْفُقَهَاء، وَقد ورد قَرِيبا من ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث:
أَحدهَا: عَن يُونُس بن الْحَارِث، عَن إِبْرَاهِيم بن أبي مَيْمُونَة، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «نزلت هَذِه الْآيَة فِي أهل قبَاء (فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا) الْآيَة، وَكَانُوا يستنجون بِالْمَاءِ، فَنزلت فيهم هَذِه الْآيَة» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّه حَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه. وَلم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي إِسْنَاده رجلَانِ مُتَكَلم فيهمَا:
أَحدهمَا: يُونُس بن الْحَارِث الطَّائِفِي، قَالَ أَحْمد: أَحَادِيثه مضطربة (وَضَعفه) وَقَالَ النَّسَائِيّ: (ضَعِيف) وَقَالَ يَحْيَى: لَا شَيْء.
(2/376)
وَقَالَ فِي رِوَايَة: لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَيكْتب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: عِنْدِي أَنه لم تثبت عَدَالَته، وَلَيْسَ لَهُ من الحَدِيث إِلَّا الْيَسِير. قَالَه ابْن عدي، وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» عَن الْأَكْثَرين تَضْعِيفه.
الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن أبي مَيْمُونَة قَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ مَجْهُول لَا [يعرف] رَوَى عَنهُ غير يُونُس بن الْحَارِث (قَالَ:) وَالْجهل بِحَالهِ كَاف فِي تَعْلِيل الْخَبَر الْمَذْكُور.
قلت: إِبْرَاهِيم هَذَا ذكره الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي كتاب «التَّهْذِيب» وَقَالَ: رَوَى عَن أبي صَالح السمان رَوَى عَنهُ يُونُس بن الْحَارِث الطَّائِفِي، وَلم يعقبه بِجرح ولاتعديل (وَمَشى) عَلَى ذَلِك تِلْمِيذه الْحَافِظ شمس الدَّين الذَّهَبِيّ فِي كِتَابيه «التذهيب» و «الكاشف» وَقَالَ فِي «الكاشف» و «الْمِيزَان» : مَا نعلم رَوَى عَنهُ سُوَى يُونُس هَذَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : فِيهِ جَهَالَة. وَاعْترض (صَاحب) «الإِمَام» عَلَى ابْن الْقطَّان فِي دَعْوَاهُ جهالته بِأَن
(2/377)
قَالَ: إِبْرَاهِيم هَذَا ذكره أَبُو حَاتِم (بن حبَان) فِي «ثقاته» فِي أَتبَاع التَّابِعين، وَقَالَ: يروي عَن أبي صَالح عَن ابْن عمر، رَوَى عَنهُ يُونُس بن الْحَارِث الطَّائِفِي، وَهُوَ الَّذِي يروي عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «نزلت هَذِه الْآيَة: (فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا) كَانُوا يستنجون بِالْمَاءِ، فَنزلت هَذِه الْآيَة» .
وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّيْخ، وَقد رَأَيْته بعد ذَلِك فِيهِ، وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ فِي «علله» : يرويهِ شهر عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا مُتَّصِلا مرّة، وَأُخْرَى مُرْسلا (وَمرَّة) عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن سَلام عَن أَبِيه مَرْفُوعا، وأرسله غَيره.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن عُويم - بِضَم الْعين الْمُهْملَة ثمَّ وَاو ثمَّ يَاء مثناة تَحت ثمَّ مِيم - ابْن سَاعِدَة الْأنْصَارِيّ العقبي البدري رَضي اللهُ عَنهُ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَتَاهُم فِي مَسْجِد قبَاء فَقَالَ: إِن الله قد أحسن عَلَيْكُم الثَّنَاء فِي الطّهُور، فَمَا هَذَا الطّهُور الَّذِي تطهرون بِهِ؟ قَالُوا: وَالله يَا رَسُول الله مَا نعلم شَيْئا إِلَّا أَنه كَانَ لنا جيران من الْيَهُود و [كَانُوا] يغسلون أدبارهم [من الْغَائِط] فغسلنا كَمَا يغسلوا» .
(2/378)
رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أَصْغَر معاجمه» وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» وَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح. وَعَزاهُ أَيْضا الْمَقْدِسِي فِي «أَحْكَامه» وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» وَغَيرهمَا إِلَى «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» أَيْضا، ورأيته بعد ذَلِك فِيهِ، وَفِي صِحَّته عِنْدِي وَقْفَة؛ لِأَن فِي سَنَده: شُرَحْبِيل بن سعد الرَّاوِي عَن عويم، قَالَ ابْن أبي ذِئْب: كَانَ مُتَّهمًا. وَقَالَ مَالك: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ ابْن معِين وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَأما ابْن حبَان فَإِنَّهُ ذكره فِي «الثِّقَات» .
الحَدِيث الثَّالِث: عَن (عتبَة) بن أبي حَكِيم حَدثنِي طَلْحَة بن نَافِع، أَخْبرنِي (أَبُو) أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَجَابِر بن عبد الله وَأنس بن مَالك رَضي اللهُ عَنهم «أَن هَذِه الْآيَة نزلت (فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين) قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: يَا معشر الْأَنْصَار، قد أَثْنَى الله
(2/379)
عَلَيْكُم فِي الطّهُور، فَمَا طهوركم؟» قَالُوا: نَتَوَضَّأ للصَّلَاة، ونغتسل من الْجَنَابَة، ونستنجي بِالْمَاءِ. قَالَ: فَهُوَ ذَاك، فعليكموه» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِهَذَا اللَّفْظ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» بالسند الْمَذْكُور، وَلَفظه: «يَا معشر الْأَنْصَار، إِن الله قد أَثْنَى عَلَيْكُم خيرا فِي الطّهُور؛ فَمَا طهوركم هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - 1242) ، نَتَوَضَّأ للصَّلَاة، ونغتسل من الْجَنَابَة. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: هَل مَعَ ذَلِك غَيره؟ قَالُوا: لَا، غير أَن أَحَدنَا إِذا خرج من الْغَائِط أحب أَن يستنجي بِالْمَاءِ. قَالَ: هُوَ ذَاك» .
وَعتبَة بن أبي حَكِيم مُخْتَلف فِي توثيقه، ضعفه ابْن معِين (فِي أحد قوليه، وَلينه أَحْمد وَضَعفه) النَّسَائِيّ فَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ مرّة: ضَعِيف. وَفِي «الْمُغنِي» للذهبي عَنهُ أَنه قَالَ فِي حَقه: لَا بَأْس بِهِ. وَلم ينْقل هَذَا فِي «مِيزَانه» وَإِنَّمَا نقل عَنهُ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمين، وَقَالَ
(2/380)
السَّعْدِيّ: غير مَحْمُود فِي الحَدِيث. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْوتر: غير قوي. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح. وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. وَلم يبين من ضعفه سَبَب ضعفه، وَالْجرْح لَا يُقبل إِلَّا مُفَسرًا. وَنقل النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» عَن الْجُمْهُور توثيقه، وَقَالَ الْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» : هَذَا حَدِيث كَبِير صَحِيح فِي كتاب الطَّهَارَة؛ فَإِن مُحَمَّد بن شُعَيْب بن شَابُور - يَعْنِي: الَّذِي رَوَاهُ عَن عتبَة (وَهُوَ بالشين الْمُعْجَمَة - وَعتبَة) بن أبي حَكِيم من أَئِمَّة الشَّام، والشيخان إِنَّمَا أخذا (مخ) الرِّوَايَات، وَمثل هَذَا الحَدِيث لَا يتْرك لَهُ، قَالَ إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب: مُحَمَّد بن شُعَيْب أعرف النَّاس بِحَدِيث الشاميين. قَالَ الْحَاكِم: وَلِهَذَا الحَدِيث شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح. فَذكر حَدِيث عويم الَّذِي قدمْنَاهُ، وَذكره ابْن السكن أَيْضا فِي «صحاحه» .
الحَدِيث الرَّابِع: عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «لما نزلت (فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين) بعث رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَى عويم بن سَاعِدَة فَقَالَ: مَا هَذَا (الطُّهْر) الَّذِي أَثْنَى الله عَلَيْكُم بِهِ؟ فَقَالَ: يَا نَبِي الله، مَا خرج منا رجل وَلَا امْرَأَة من الْغَائِط إِلَّا غسل دبره - أَو قَالَ: مقعدته - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: فَفِي هَذَا» .
رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» بِهَذَا اللَّفْظ ثمَّ قَالَ:
(2/381)
هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.
قلت: فِي إِسْنَاده ابْن إِسْحَاق وعنعنه، لَكِن قَالَ الْحَاكِم: لَهُ شَاهد من حَدِيث أبي أَيُّوب. فَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُول الله، من هَؤُلَاءِ الَّذين قيل فيهم: (فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين (؟ قَالَ: كَانُوا يستنجون بِالْمَاءِ وَكَانُوا لَا ينامون اللَّيْل كُله» .
الحَدِيث الْخَامِس: عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن سَلام قَالَ: «لما قدم النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - علينا - يَعْنِي: قبَاء - قَالَ: إِن الله قد أَثْنَى عَلَيْكُم فِي الطّهُور خيرا؛ أَفلا تخبروني؟ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، إِنَّا نجد مَكْتُوبًا علينا فِي التَّوْرَاة: الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ» .
رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَأحمد فِي (مسنديهما) عَن يَحْيَى بن آدم، ثَنَا مَالك بن مغول، سَمِعت سيارًا أَبَا الحكم غير مرّة يحدث عَن شهر بن حَوْشَب، عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن سَلام بِهِ، وَرَوَاهُ ابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» بِهِ عَن سعيد بن عبدويه الصفار، نَا أَبُو همام، نَا عَنْبَسَة بن عبد الْوَاحِد، عَن مَالك بن مغول، عَن سيار أبي الحكم، عَن شهر بن حَوْشَب، عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن سَلام قَالَ: «لما قدم علينا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْمَدِينَة قَالَ: إِن الله - عَزَّ وجَلَّ - قد أَثْنَى عَلَيْكُم فِي الطّهُور، أَفلا تخبروني؟ قَالُوا: نجده مَكْتُوبًا عندنَا فِي التَّوْرَاة: الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ» .
(2/382)
وَرَوَاهُ بَعضهم عَن عبد الله بن سَلام،، عَن أَبِيه، وَذكر أَبُو نعيم فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك وَاضحا، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : وَهُوَ مُخْتَلف فِي إِسْنَاده، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَمِعت أَبَا زرْعَة يَقُول: الصَّحِيح عندنَا: مُحَمَّد بن [عبد الله بن] سَلام فَقَط، لَيْسَ فِيهِ: عَن أَبِيه.
قلت: وَكَذَا أخرجه ابْن السكن فِي «سنَنه الصِّحَاح» وَقَالَ أَبُو نعيم فِي كِتَابه «معرفَة الصَّحَابَة» : وهم فِي هَذَا الحَدِيث جَعْفَر بن عبد الله السالمي؛ فَرَوَاهُ عَن الرّبيع بن بدر، عَن رَاشد الْحمانِي عَن ثَابت الْبنانِيّ، عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي بن سلول قَالَ: «أَتَانَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: يَا معشر الْأَنْصَار، إِن الله قد أحسن عَلَيْكُم الثَّنَاء فِي الطّهُور فَكيف تَصْنَعُونَ؟ ... » فَذكر الحَدِيث وَصَوَابه مُحَمَّد بن عبد الله بن سَلام؛ لِأَنَّهُ لَا يعرف لعبد الله بن أبي بن سلول ابْن اسْمه مُحَمَّد.
قلت: وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث شهر بن حَوْشَب، عَن أبي أُمَامَة، فَهَذَا طَرِيق سادس، وإمامنا الشَّافِعِي ذكره فِي (الْأُم) بِغَيْر إِسْنَاد فَقَالَ: وَيُقَال: إِن قوما من الْأَنْصَار استنجوا بِالْمَاءِ، فَنزلت فيهم (فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين) .
(2/383)
تَنْبِيه: اعْلَم أَن الشَّيْخ محيى الدَّين النَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» عِنْد قَول الشَّيْخ أبي إِسْحَاق «وَالْأَفْضَل أَن يجمع بَين المَاء وَالْحجر؛ لِأَن الله - تَعَالَى - أَثْنَى عَلَى أهل قبَاء، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين) فَسَأَلَهُمْ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: مَا طهوركم؟ فَقَالُوا: نتبع الْحِجَارَة المَاء» : هَكَذَا يَقُوله أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي كتب الْفِقْه وَالتَّفْسِير. قَالَ: وَلَيْسَ لَهُ أصل فِي كتب الحَدِيث. قَالَ: وَكَذَا قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي «التَّعْلِيق» : إِن أَصْحَابنَا رَوَوْهُ. قَالَ: و (لَا) أعرفهُ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمَعْرُوف من طرق الحَدِيث أَنهم كَانُوا يستنجون بِالْمَاءِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنهم كَانُوا يجمعُونَ بَين المَاء والأحجار، ثمَّ ذكر من الْأَحَادِيث الَّتِي قدمناها حَدِيث أبي هُرَيْرَة وعويم وَأبي أَيُّوب، ثمَّ قَالَ: فَإِذا علم أَنه لَيْسَ (لَهُ أصل) من جِهَة الرِّوَايَة فَيمكن تَصْحِيحه من جِهَة الاستنباط؛ لِأَن الِاسْتِنْجَاء بِالْحجرِ كَانَ مَعْلُوما عِنْدهم وَأما الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ فَهُوَ الَّذِي انفردوا بِهِ وَلِهَذَا ذكر، وَلم يذكر الْحجر؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرك بَينهم وَبَين غَيرهم، ولكونه مَعْلُوما؛ فَإِن الْمَقْصُود بَيَان فَضلهمْ الَّذِي أَثْنَى الله عَلَيْهِم بِسَبَبِهِ. قَالَ: يُؤَيّد هَذَا قَوْلهم: «إِذا خرج أَحَدنَا من الْغَائِط (أحب) أَن يستنجي
(2/384)
بِالْمَاءِ» فَهَذَا يدل عَلَى أَن استنجاءهم بالماءكان بعد خُرُوجهمْ من الْخَلَاء، وَالْعَادَة جَارِيَة بِأَنَّهُ لَا يخرج من الْخَلَاء إِلَّا بعد (الْمسْح) بِمَاء أَو حجر، وَهَكَذَا يسْتَحبّ أَن يستنجى بِالْحجرِ فِي مَوضِع قَضَاء الْحَاجة وَيُؤَخر المَاء إِلَى أَن ينْتَقل إِلَى مَوضِع آخر. هَذَا آخر كَلَام النَّوَوِيّ. وَكَذَا قَالَ فِي غَيره من كتبه أَن الَّذِي اشْتهر فِي كتب الْفِقْه وَالتَّفْسِير من جمع أهل قبَاء بَين المَاء والأحجار بَاطِل لَا يُعرف. (وَتَبعهُ) الشَّيْخ نجم الدَّين بن الرّفْعَة فِي «الْمطلب» فَقَالَ: لَا يُوجد هَذَا فِي كتب الحَدِيث. وَقد تيَسّر - بِحَمْد الله وَمِنْه - إِخْرَاج الطَّرِيقَة الَّتِي أنكرها، وَادَّعَى عدم أصالتها فِي كتب الحَدِيث وَأَنَّهَا لَا (تلقى) فِي كتب الْفِقْه وَالتَّفْسِير، وَلَعَلَّه قلد فِي ذَلِك الشَّيْخ أَبَا حَامِد فِي قولته الْمُتَقَدّمَة، لَكِن أَبُو حَامِد لم ينف وجوده، وَإِنَّمَا نَفَى مَعْرفَته، وَلَا يلْزم من نفي الْمعرفَة نفي الْوُجُود، وَقَرِيب مِمَّا ذكره النَّوَوِيّ قَول الْحَافِظ محب الدَّين الطَّبَرِيّ فِي «شَرحه للتّنْبِيه» : كَذَا رَوَاهُ الْفُقَهَاء، وَالْمَشْهُور فِي كتب الحَدِيث الْمَشْهُورَة خِلَافه.
و (قد) قدمناها (نَحن لَك) فِي أول مَا ذكر الرَّافِعِيّ ذَلِك عَن «مُسْند الْبَزَّار» تَصْرِيحًا لَا يحْتَمل تأولاً، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن دَقِيق الْعِيد
(2/385)
هُوَ أول مُفِيد لذَلِك (فَإِنَّهُ ذكره كَذَلِك فِي كتاب «الإِمَام» الَّذِي لَيْسَ لَهُ نَظِير فِي بَابه، وَالنَّوَوِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعْذُور فِي ذَلِك) فَإِنَّهَا طَريقَة غَرِيبَة عزيزة فِي خبايا وزوايا، فَافْهَم مَا أوضحناه لَك؛ فَإِنَّهُ مُهِمّ عَظِيم، لَو طعنت فِيهِ أكباد الْإِبِل لَكَانَ قَلِيلا.
فَائِدَة: قبَاء الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْأَحَادِيث فِيهَا سِتّ لُغَات: التَّذْكِير والتأنيث، وَالْمدّ وَالْقصر، وَالصرْف وَعَدَمه، وَالأَصَح الْأَشْهر: مده وَصَرفه وتذكيره، وَمِمَّنْ حَكَى هَذِه اللُّغَات وأرجحيتها الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» (وَالنَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» ) وَهِي قَرْيَة عَلَى ثَلَاثَة أَمْيَال من الْمَدِينَة، وَقيل: أَصْلهَا اسْم بِئْر هُنَاكَ يُسمى: بِئْر (أريس) وَهِي (الَّتِي) وَقع فِيهَا خَاتم سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (من يَد عُثْمَان، وَثَبت فِي «الصَّحِيح» «أَن سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -) كَانَ يزور قبَاء كل سبت رَاكِبًا وماشيًا» هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب؛ فَالله الْمُوفق للصَّوَاب.
وَأما آثاره فَقَالَ الإِمَام الرَّافِعِيّ: سَبَب الْمَنْع فِي تَحْرِيم الِاسْتِقْبَال والاستدبار فِي الصَّحرَاء مَا ذكره الْأَصْحَاب: أَن الصَّحرَاء لَا تَخْلُو من مصلٍ من ملك أَو جني أَو إنسي؛ فَرُبمَا يَقع بَصَره عَلَى عَوْرَته، فَأَما فِي
(2/386)
الْأَبْنِيَة والحشوش فَلَا يحضرها إِلَّا الشَّيَاطِين، وَمن يُصَلِّي يكون خَارِجا مِنْهَا فيحول الْبناء بَينه وَبَين الْمُصَلِّي، وَلَيْسَ السَّبَب مُجَرّد احترام الْكَعْبَة. وَقد نقل مَا (ذَكرُوهُ) عَن الشّعبِيّ.
قلت: هُوَ كَذَلِك، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الصفار، ثَنَا الْعَبَّاس بن مُحَمَّد الدوري، نَا مُوسَى بن دَاوُد، نَا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل، عَن عِيسَى بن أبي عِيسَى قَالَ: قلت لِلشَّعْبِيِّ: «عجبت لقَوْل أبي هُرَيْرَة وَنَافِع عَن ابْن عمر. قَالَ: وَمَا قَالَا؟ قلت: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: «لَا تستقبلوا الْقبْلَة وَلَا تستدبروها» وَقَالَ نَافِع عَن ابْن عمر: «رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ذهب مذهبا مواجه الْقبْلَة» فَقَالَ: أما قَول أبي هُرَيْرَة فَفِي الصَّحرَاء، إِن لله خلقا من عباده يصلونَ فِي الصَّحرَاء؛ فَلَا تستقبلوهم وَلَا تستدبروهم، وَأما بُيُوتكُمْ هَذِه الَّتِي تتخذونها للنتن؛ فَإِنَّهُ لَا قبْلَة لَهَا» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: عِيسَى بن أبي عِيسَى الحناط، [وَهُوَ عِيسَى بن ميسرَة] وَهُوَ ضَعِيف. وَقد تقدم أَقْوَال الْأَئِمَّة فِي عِيسَى فِي هَذَا الْبَاب. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَنقل مَا ذَكرُوهُ عَن ابْن عمر أَيْضا.
قلت: لَا أعلم من (خرجه) عَنهُ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا التَّعْلِيل الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لَو قعد قَرِيبا من حَائِط واستقبله ووراءه فضاء وَاسع جَازَ بِلَا شكّ، كَمَا صرح بِهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغوِيّ وَغَيرهمَا،
(2/387)
وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن عمر «أَنه أَنَاخَ رَاحِلَته مُسْتَقْبل الْقبْلَة ثمَّ جلس يتبول إِلَيْهَا، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّمَا نهي عَن ذَلِك فِي الفضاء، فَإِذا كَانَ بَيْنك وَبَين الْقبْلَة شَيْء يسترك فَلَا بَأْس بِهِ» . وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي «صَحِيحه» وَالْحَاكِم فِي «مُسْتَدْركه» وَقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَفعل ابْن عمر هَذَا يبطل التَّعْلِيل الْمَذْكُور؛ فَإِنَّهُ لَو كَانَ صَحِيحا لم يجز فِي هَذِه الصُّورَة، فَإِنَّهُ مستدبر الفضاء الَّذِي فِيهِ المصلون. قَالَ: وَالتَّعْلِيل الصَّحِيح الَّذِي اعْتمد القَاضِي حُسَيْن وَالْبَغوِيّ (وَغَيرهمَا) أَن جِهَة الْقبْلَة معظمة؛ فَوَجَبَ صيانتها فِي الصَّحرَاء (وَرخّص فِيهَا فِي الْبناء) للْمَشَقَّة.
وَمِمَّا بَقِي من هَذَا الْبَاب مَا قد يُقَال: يجب علينا عزوه. وَهُوَ مَا نَقله الإِمَام الرَّافِعِيّ فِيمَا إِذا انْتَشَر الْخَارِج أَكثر من الْقدر الْمُعْتَاد وَلم يُجَاوز الأليتين، فَفِي جَوَاز الِاقْتِصَار فِيهِ عَلَى الْأَحْجَار قَولَانِ: أظهرهمَا الْجَوَاز، وَاحْتج الشَّافِعِي لَهُ بِأَن قَالَ: لم يزل فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَإِلَى الْيَوْم رقة الْبُطُون، وَكَانَ أَكثر أقواتهم التَّمْر، وَهُوَ مِمَّا يرقق الْبَطن، وَمن رق بَطْنه انْتَشَر الْخَارِج مِنْهُ عَن الْموضع وَمَا حواليه، وَمَعَ ذَلِك أمروا بالاستجمار. انْتَهَى.
(2/388)
وَهَذَا الِاسْتِدْلَال ذكره الشَّافِعِي فِي «الْأُم» وَقَالَ فِيهِ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : إِنَّه صَحِيح مَشْهُور. وَقَالَ الإِمَام الرَّافِعِيّ أَيْضا عقب الْكَلَام عَلَى النَّهْي عَن الْبَوْل فِي المَاء الراكد وإيراده الحَدِيث الْمُتَقَدّم فِيهِ: وَقيل: إِنَّه لِئَلَّا (يجن) فَيَنْبَغِي أَن يجْتَنب حِينَئِذٍ تَحَرُّزًا مِنْهُم. وَهَذَا الْمَذْكُور لَا أعلم من رَوَاهُ حَدِيثا وَلَا أثرا وَلَا خَبرا، نعم فِي «كَامِل ابْن عدي» من حَدِيث أبي الزبير، عَن جَابر مَرْفُوعا: «لَا يدْخل أحدكُم المَاء إِلَّا بمئزر؛ فَإِن للْمَاء عَامِرًا» . قَالَ ابْن عدي: فِيهِ يَحْيَى بن سعيد التَّمِيمِي الْمدنِي، مُنكر الحَدِيث ضَعِيف، وَلَيْسَ بِالْأَنْصَارِيِّ ذَلِك ثِقَة جليل.
وَفِي «الْمُسْتَدْرك» (عَن أبي الْعَبَّاس - هُوَ الْأَصَم -) ، ثَنَا الدوري، نَا الْهَمدَانِي، نَا زُهَيْر، عَن أبي الزبير، عَن جَابر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهَى أَن يدْخل المَاء إِلَّا بمئزر» ثمَّ قَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم (وَلم يخرجَاهُ) .
وَفِي «مُسْند أَحْمد» من حَدِيث عَلّي بن زيد، عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِن مُوسَى بن عمرَان كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يدْخل المَاء لم يلق ثَوْبه حَتَّى يواري عَوْرَته فِي المَاء» .
(2/389)
وَحَكَى أَحْمد عَن الْحسن وَالْحُسَيْن: «وَقد قيل لَهما، وَقد دخلا المَاء وَعَلَيْهِمَا بردَان، فَقَالَا: إِن للْمَاء سكانًا» .
خَاتِمَة لَا يَنْبَغِي إهمالها وَهِي: مَا يُقَال عِنْد دُخُول الْخَلَاء وَالْخُرُوج مِنْهُ، وَالْعجب أَن الإِمَام الرَّافِعِيّ أهمل (ذَلِك) وَذكره الشَّيْخ فِي «التَّنْبِيه» نعم ذكره فِي «الشَّرْح الصَّغِير» و «الْمُحَرر» وَقد ورد فِي ذَلِك عدَّة أَحَادِيث: (أَحدهَا) عَن أنس رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا دخل الْخَلَاء قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْخبث والخبائث» .
رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ تَعْلِيقا: «إِذا أَرَادَ أَن يدْخل ... » وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «أعوذ بِاللَّه من الْخبث والخبائث» وَفِي رِوَايَة لسَعِيد بن مَنْصُور وَأبي حَاتِم وَابْن السكن فِي «صحاحه» : «بِسم الله، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْخبث والخبائث» .
والخُبُث - بِضَم الْخَاء وَالْبَاء وَيجوز إسكانها - جمع خَبِيث، والخبائث جمع خبيثة، وَكَأَنَّهُ استعاذ من ذكران الشَّيَاطِين وإناثهم، وَغلط الْخطابِيّ من (أجَاز إسكان) الْبَاء فِي الْخبث، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن فُعُلا - بِضَم الْفَاء وَالْعين - يسكن عينه قِيَاسا، فَلَعَلَّ من سكنها جوز
(2/390)
ذَلِك، (لَا جرم أَن) أَبَا الْعَبَّاس الْقُرْطُبِيّ قَالَ: رَوَيْنَاهُ بِالضَّمِّ والإسكان.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن زيد بن أَرقم رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «إِن هَذِه الحشوش محتضرة؛ فَإِذا أَتَى أحدكُم الْخَلَاء فَلْيقل: أعوذ بِاللَّه من الْخبث والخبائث» .
رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: فِي إسناه اضْطِرَاب، وَسَأَلَ البُخَارِيّ عَنهُ فَقَالَ: لَعَلَّ قَتَادَة (سَمعه) من الْقَاسِم بن عَوْف الشَّيْبَانِيّ وَالنضْر بن أنس، عَن أنس وَلم يقْض فِي (هَذَا) بِشَيْء. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَزَّار: اخْتلفُوا فِي إِسْنَاده. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : قَالَ أَبُو زرْعَة: (هَذَا الحَدِيث) اخْتلفُوا فِي إِسْنَاده. وَقَالَ عبد الْحق: اخْتلف فِي إِسْنَاده، وَالَّذِي أسْندهُ ثِقَة.
قلت: فِي هَذِه الْعبارَة نظر؛ لِأَنَّهُ لم يرم بِالْإِرْسَال حَتَّى يكون الحكم لمن أسْندهُ، إِنَّمَا رمي بِالِاضْطِرَابِ عَن قَتَادَة، وَقد صَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم؛ فَإِنَّهُمَا أَخْرجَاهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» وَلَفظ
(2/391)
ابْن حبَان كَلَفْظِ أَحْمد: «فَإِذا أَرَادَ أحدكُم أَن يدْخل ... » الحَدِيث، وَكَذَا أخرجه أَحْمد، قَالَ ابْن حبَان: وَهَذَا حَدِيث مَشْهُور عَن شُعْبَة وَسَعِيد جَمِيعًا، وَهُوَ مِمَّا تفرد بِهِ قَتَادَة. ثمَّ أخرجه من طَرِيق آخر، وَلَفظه: «فَإِذا دَخلهَا أحدكُم فَلْيقل: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك ... » الحَدِيث، وَلَفظ الْحَاكِم من طَرِيق عَمْرو بن مَرْزُوق عَن شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن النَّضر [بن] أنس: «إِن هَذِه الحشوش محتضرة؛ فَإِذا أحدكُم دخل الْغَائِط فَلْيقل: أعوذ بِاللَّه من الرجس النَّجس من الشَّيْطَان الرَّجِيم» . قَالَ الْحَاكِم: قد احْتج مُسلم بِحَدِيث لِقَتَادَة، عَن النَّضر بن أنس [عَن زيد بن أَرقم] وَاحْتج البُخَارِيّ بِعَمْرو بن مَرْزُوق، وَهَذَا الحَدِيث مُخْتَلف فِيهِ (عَلَى) قَتَادَة، رَوَاهُ سعيد بن أبي عرُوبَة، عَن قَتَادَة، عَن الْقَاسِم بن عَوْف الشَّيْبَانِيّ، عَن زيد بن أَرقم - رَفعه -: «إِن هَذِه الحشوش محتضرة؛ فَإِذا أحدكُم دَخلهَا فَلْيقل: أعوذ بك من الْخبث والخبائث» ثمَّ قَالَ: كلا الإسنادين من شَرط الصَّحِيح، وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ.
الحَدِيث الثَّالِث: عَن أبي (أُمَامَة) رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا
(2/392)
يعجز أحدكُم إِذا دخل مرفقه (أَن يَقُول) : اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الرجس النَّجس الْخَبيث المخبث الشَّيْطَان الرَّجِيم» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» من حَدِيث (عبيد الله) بن زحر الأفريقي - وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ وَله مَنَاكِير، ضعفه أَحْمد، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ - عَن عَلّي بن يزِيد - وَهُوَ الْأَلْهَانِي وَقد ضعفه جمَاعَة - عَن الْقَاسِم (بن) عبد الرَّحْمَن، عَن أبي أُمَامَة. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله» عَن الْحسن «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذا أَرَادَ دُخُول الْخَلَاء قَالَ: ... » فَذكره بِمثلِهِ سَوَاء.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» : والرجس - بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْجِيم - وَالنَّجس - بِكَسْر النُّون وَإِسْكَان الْجِيم - إتباعًا للرجس.
الحَدِيث الرَّابِع: عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «ستر مَا بَين أعين الْجِنّ وعورات بني آدم إِذا دخل الكنيف أَن يَقُول: بِسم الله» .
رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
الحَدِيث الْخَامِس: عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كَانَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا خرج من الْغَائِط قَالَ: غفرانك» .
(2/393)
رَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» وَالنَّسَائِيّ فِي «الْيَوْم وَاللَّيْلَة» . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن [غَرِيب] .
قلت: وصحيح؛ فقد صَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم، وَلَفظ إِحْدَى روايتيه: «كَانَ إِذا قَامَ من الْغَائِط» بدل: «إِذا خرج» (زَاد) ابْن خُزَيْمَة «غفرانك رَبنَا وَإِلَيْك الْمصير» . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذِه [الزِّيَادَة] لم أَجدهَا إِلَّا فِي رِوَايَته وَهُوَ إِمَام [وَقد رَأَيْته] فِي نُسْخَة قديمَة من كِتَابه وَلم أجد هَذِه الزِّيَادَة، ثمَّ ألحقت فِي الْحَاشِيَة بِخَط آخر، فالأشبه أَن تكون مُلْحقَة بكتابه من غير علمه. قَالَ: وَقد أخبرنَا الصَّابُونِي، عَن مُحَمَّد بن الْفضل بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق
(2/394)
بن خُزَيْمَة، نَا جدي ... فَذكره بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة. وَقَالَ: فصح بذلك بطلَان هَذِه الزِّيَادَة فِي الحَدِيث.
قلت: وَلم أرها أَنا أَيْضا فِي نُسْخَة أَصْلِيَّة مِنْهُ، فتأيد مَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ. قَالَ التِّرْمِذِيّ - بعد إِخْرَاجه هَذَا الحَدِيث وَحكمه عَلَيْهِ بالْحسنِ والغرابة -: لَا نَعْرِف فِي هَذَا الْبَاب إِلَّا حَدِيث عَائِشَة. قَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين فِي «مُخْتَصر السّنَن» : وَفِي الْبَاب حَدِيث أبي ذَر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِذا خرج من الْخَلَاء قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي (أذهب) عني الْأَذَى وعافاني» .
قلت: أخرجه النَّسَائِيّ فِي «عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة» من حَدِيث أبي الْفَيْض عَنهُ. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَقد قيل إِن أَبَا الْفَيْض لم يدْرك أَبَا ذَر. وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» وَقَالَ: (وَقفه) عَلَى أبي ذَر أصح. كَمَا سَيَأْتِي، وَحَدِيث أنس بن مَالك عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - مثله، وَفِي لفظ: «الْحَمد لله الَّذِي أحسن (إليَّ فِي) أَوله وَآخره» - وَفِي اللَّفْظ (الأول) : أخرجه ابْن مَاجَه - وَحَدِيث عبد الله بن عمر «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَعْنِي: كَانَ إِذا خرج - قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي أذاقني لذته وَأَبْقَى مِنْهُ قوته، وأذهب عني أَذَاهُ» قَالَ: غير أَن هَذِه الْأَحَادِيث أسانيدها
(2/395)
ضَعِيفَة، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: أصح مَا فِيهِ حَدِيث عَائِشَة.
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا مِمَّا لم (يذكر) حديثان:
أَحدهمَا: حَدِيث طَاوس، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث زَمعَة بن صَالح، عَن سَلمَة بن (وهرام) قَالَ: سَمِعت طاوسًا قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «إِذا أَتَى أحدكُم البرَاز فَليُكرم قبْلَة الله؛ فَلَا تستقبلوها وَلَا تستدبروها، ثمَّ ليستطب بِثَلَاثَة أَحْجَار، أَو ثَلَاثَة أَعْوَاد، أَو ثَلَاثَة حثيات من تُرَاب، ثمَّ ليقل: الْحَمد لله الَّذِي أخرج عني مَا يُؤْذِينِي، وَأمْسك عَلّي مَا يَنْفَعنِي» ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق آخر بِذكر ابْن عَبَّاس فِيهِ (فَقَالَ: ثَنَا عبد الْبَاقِي) بن قَانِع، نَا أَحْمد بن الْحسن المضري، [أَنا أَبُو عَاصِم] أَنا زَمعَة بن صَالح، عَن سَلمَة بن وهرام، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «إِذا قَضَى أحدكُم حَاجته فليستنج بِثَلَاثَة أَحْجَار، أَو ثَلَاثَة أَعُود، أَو ثَلَاث حثيات من تُرَاب» . قَالَ زَمعَة: فَحدثت بِهِ ابْن طَاوس فَقَالَ: أَخْبرنِي [أبي] عَن ابْن عَبَّاس بِهَذَا سَوَاء.
زَمعَة أخرج لَهُ مُسلم مَقْرُونا، وَضَعفه أَحْمد وَابْن معِين وَقَالَ مرّة: صُوَيْلِح الحَدِيث. وَسَلَمَة بن وهرام أَكْثَرهم يوثقه، قَالَ
(2/396)
ابْن الْقطَّان: وَثَّقَهُ ابْن معِين وَضَعفه أَبُو دَاوُد. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يسْندهُ غير المضري، وَهُوَ كَذَّاب، وَغَيره يرويهِ عَن طَاوس مُرْسلا لَيْسَ فِيهِ ابْن عَبَّاس، وَقد رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة، عَن سَلمَة، عَن طَاوس قَوْله.
الحَدِيث الثَّانِي: عَن سُهَيْل بن أبي حثْمَة وَأبي ذَر عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «أَنه كَانَ إِذا خرج من الْغَائِط يَقُول: الْحَمد لله الَّذِي أذهب عني الْأَذَى وعافاني» .
ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» ثمَّ قَالَ: لَيْسَ هُوَ مَحْفُوظ. قَالَ: وَرَوَاهُ مَنْصُور عَن رجل - يُقَال لَهُ: الْفَيْض - عَن أبي حثْمَة، عَن أبي ذَر مَوْقُوفا، وَهُوَ أصح.
(2/397)
بِسم [1] الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة، وهيئ لنا من أمرنَا رشدا (.
بَاب الْأَحْدَاث
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا، أما الْأَحَادِيث، فَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا.
الحَدِيث الأول
عَن أنس - رَضي اللهُ عَنهُ -: «أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - احْتجم وَصَلى وَلم يتَوَضَّأ، وَلم يزدْ عَلَى غسل محاجمه» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدارقطني فِي «سنَنه» : عَن أبي سهل بن زِيَاد، ثَنَا صَالح بن مقَاتل (ثَنَا أبي) ثَنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد أَبُو أَيُّوب، عَن حميد، عَن أنس مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء، إِلَّا أَنه قَالَ: فَصَلى - «بِالْفَاءِ» ، بدل «الْوَاو» . وَلم يعقبه بتصحيح وَلَا تَضْعِيف.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : لما عقد الْخلاف بَيْننَا وَبَين أبي حنيفَة فِي نقض الْخَارِج بذلك؛ رَوَى عَن أنس بن مَالك صَرِيحًا - إِن
(2/398)
صَحَّ الطَّرِيق فِيهِ إِلَى حميد.
ثمَّ سَاقه من طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ الْمَذْكُورَة وَلَفظه.
ثمَّ قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو عبد الله الْحَاكِم قَالَ: سَأَلت الدَّارَقُطْنِيّ عَن صَالح بن مقَاتل بن صَالح، فَقَالَ: يحدث عَن أَبِيه، لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وأجمل فِي «سنَنه» القَوْل بتضعيفه، فَقَالَ: فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ضعف. وَلم يبين سَببه.
وَقَالَ فِي بَاب الْغسْل من غسل الْمَيِّت من «سنَنه» : صَالح بن مقَاتل بن صَالح، يروي الْمَنَاكِير.
قلت: وَسليمَان بن دَاوُد مَجْهُول، ووالد صَالح لَا يعرف. وَخَالف الْمُنْذِرِيّ فَقَالَ فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» بعد أَن أخرجه من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة: إِسْنَاده حسن. وَأغْرب من هَذَا قَول ابْن الْعَرَبِيّ فِي «خلافياته» أَن الدَّارَقُطْنِيّ رَوَاهُ بِإِسْنَاد صَحِيح. وَمِمَّنْ ضعفه من الْمُتَأَخِّرين: النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شرح الْمُهَذّب» : رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وضعفوه. وَلَعَلَّه أَرَادَ تَضْعِيف الدَّارَقُطْنِيّ فِي غير «سنَنه» . (أَو) أَرَادَ كَلَامه فِي صَالح، كَمَا نَقله الْحَاكِم فِيمَا أسلفناه عَنهُ، وَذكره فِي «خلاصته» فِي فصل (الضَّعِيف) ثمَّ قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ فِي نقض
(2/399)
الْوضُوء بالقيء وَالدَّم والضحك فِي الصَّلَاة، وَلَا عدم ذَلِك حَدِيث صَحِيح.
وَقَالَ ابْن (الحصَّار) فِي كِتَابه «تقريب المدارك» : لَا يَصح فِي الْوضُوء من الدَّم شَيْء إِلَّا وضوء الْمُسْتَحَاضَة. وَاعْلَم أَن الإِمَام الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى (أَن) الْحجامَة لَا تنقض الطَّهَارَة، وَقد عرفت حَاله، ثمَّ قَالَ: وَرَوَى مثل مَذْهَبنَا؛ أَي: فِي أَن الفصد والحجامة وكل خَارج من غير السَّبِيلَيْنِ لَا ينْقض الطَّهَارَة عَن: (عبد الله بن عمر) وَابْن عَبَّاس، وَابْن أبي أَوْفَى، وَأبي هُرَيْرَة (وَجَابِر بن عبد الله) وَعَائِشَة رَضي اللهُ عَنهم، وَزَاد النَّوَوِيّ فِي «شَرحه» : سعيد بن الْمسيب، وَسَالم بن عبد الله بن عمر، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وطاوسًا، وَعَطَاء، ومكحولاً، وَرَبِيعَة، ومالكًا، و (أَبَا) ثَوْر، وَدَاوُد.
وَقَالَ الْبَغَوِيّ: وَهُوَ قَول أَكثر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَبسط الْبَيْهَقِيّ دَلَائِل الْمَسْأَلَة فِي «خلافياته» فِي عدَّة أوراق بأسانيده عَلَى عَادَته، وَرَوَى فِيهَا وَفِي «سنَنه» من حَدِيث عبيد الله، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: «أَنه
(2/400)
كَانَ إِذا احْتجم غسل محاجمه» . (وَفِي البُخَارِيّ: وَقَالَ ابْن عمر وَالْحسن فِيمَن يحتجم: «لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا غسل محاجمه» ) .
وأسنده ابْن أبي شيبَة عَن (عمر) بِلَفْظ: «كَانَ إِذا احْتجم (غسل أثر) محاجمه» .
وَكَذَا أسْندهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم عَن بعض أَصْحَابهم، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: «أَنه كَانَ إِذا احْتجم غسل أثر المحاجم» .
وَفِي (الْمُحَلَّى) لِابْنِ حزم: مَسحه بحصاة فَقَط. وَاحْتج الشَّافِعِي رَضي اللهُ عَنهُ فِي الْمَسْأَلَة؛ بِأَن ابْن عمر عصر بثرة بِوَجْهِهِ فَخرج مِنْهَا دم فدلكه بَين أصبعيه، ثمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاة وَلم يغسل يَده. وَلقَوْل ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ: «اغسل أثر المحاجم عَنْك وحسبك» .
و (بِأَن ابْن) الْمسيب: «رعف فَمسح أَنفه بِخرقَة ثمَّ صَلَّى» . وَبِأَن الْقَاسِم قَالَ: «لَيْسَ عَلَى المحتجم وضوء» . وسَاق الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» ذَلِك خلا قَول أبي الْقَاسِم بأسانيده؛ ثمَّ رَوَى عَن
(2/401)
ابْن مَسْعُود، وَسَالم بن عبد الله، وَطَاوُس «ترك الْوضُوء من الدَّم» . زَاد فِي «سنَنه» : الْحسن؛ وَذكر قَول الْقَاسِم أَيْضا ثمَّ قَالَ: وَاسْتدلَّ أَصْحَابهم بِأَحَادِيث سقيمة رُويَتْ بأسانيد واهية فَذكرهَا وبيَّن عللها.
وَذكر فِي «سنَنه» عَن معَاذ أَنه قَالَ: «لَيْسَ الْوضُوء من الرعاف والقيء ... » إِلَى آخِره.
ثمَّ قَالَ: فِيهِ مطرِّف بن (مَازِن) وَقد تكلمُوا فِيهِ.
الحَدِيث الثَّانِي
عَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «الضحك ينْقض الصَّلَاة وَلَا ينْقض الْوضُوء» .
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث أبي شيبَة، عَن يزِيد أبي خَالِد، عَن أبي سُفْيَان، عَن جَابر مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء. ثمَّ قَالَ: خَالفه إِسْحَاق بن بهْلُول، عَن أَبِيه فِي لَفظه؛
(2/402)
فَرَوَاهُ عَن أبي شيبَة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور (لَكِن) بِلَفْظ: «الْكَلَام ينْقض الصَّلَاة وَلَا ينْقض الْوضُوء» .
وَرُوِيَ مثل ذَلِك من حَدِيث مُحَمَّد بن يزِيد بن سِنَان، عَن أَبِيه، عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، عَن أبي سُفْيَان، عَن جَابر رَفعه: «من ضحك مِنْكُم فِي صلَاته فَليَتَوَضَّأ ثمَّ ليعد الصَّلَاة» .
ثمَّ قَالَ: (قَالَ) لنا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي: هَذَا مُنكر، وَالصَّحِيح عَن جَابر خِلَافه.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَيزِيد بن سِنَان ضَعِيف جدًّا وَابْنه ضَعِيف أَيْضا، وَقد وهم فِي هَذَا الحَدِيث فِي موضِعين فِي رَفعه، وَلَفظه وَالصَّحِيح عَن الْأَعْمَش، عَن أبي سُفْيَان، عَن جَابر، من قَوْله: «من ضحك فِي الصَّلَاة أعَاد الصَّلَاة، وَلم يعد الْوضُوء» . كَذَلِك رَوَاهُ عَن الْأَعْمَش جمَاعَة من الرفعاء الثِّقَات، مِنْهُم: سُفْيَان الثَّوْريّ، ووكيع، وجماعات عَددهمْ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ شُعْبَة، وَابْن جريج، عَن يزِيد أبي خَالِد، عَن أبي
(2/403)
سُفْيَان، عَن جَابر، ثمَّ بسط ذَلِك.
وَلما ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» من طَرِيق الْأَعْمَش قَالَ، عَن الْحَاكِم: تفرد بِهِ يزِيد بن سِنَان أَبُو فَرْوَة الْكَبِير عَنهُ وَغَيره أوثق عندنَا مِنْهُ، وَكلهمْ ثِقَات إِلَّا هَذَا الْوَاحِد من بَينهم. (قَالَ) : وَقد خُولِفَ يزِيد فِي مَتنه. قَالَ: وَله شَاهد عَن يزِيد أبي خَالِد، عَن أبي سُفْيَان مُسْندًا إِن سلم الطَّرِيق إِلَيْهِ، ثمَّ أسْندهُ عَن جَابر مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَاضِي: «الْكَلَام ينْقض الصَّلَاة وَلَا ينْقض الْوضُوء» . قَالَ: وَرُوِيَ «الضحك» بدل «الْكَلَام» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِبْرَاهِيم بن عُثْمَان فِي هَذَا الطَّرِيق (وَالَّذِي قبله) هُوَ (أَبُو شيبَة الْعَبْسِي) جد (أبي بكر عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي شيبَة) غمزه شُعْبَة، وَيَحْيَى بن معِين.
قَالَ: وَرَوَاهُ شُعْبَة، عَن يزِيد أبي خَالِد من قَول جَابر (مَوْقُوفا) بِلَفْظ: «فِي الضحك وضوء» . قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ ابْن جريج. قَالَ: وَرُوِيَ من وَجه آخر صَحِيح عَن جَابر ... فَذكره من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، عَن حبيب الْمعلم، عَن عَطاء، عَن جَابر قَالَ: «كَانَ لَا يرَى عَلَى الَّذِي
(2/404)
يضْحك فِي الصَّلَاة وضُوءًا» .
قلت: وَأخرجه البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» (عَنهُ) مُعَلّقا بِصِيغَة جزم، وَلَفظه: وَقَالَ جَابر: «إِذا ضحك فِي الصَّلَاة أعَاد الصَّلَاة وَلم يعد الْوضُوء» وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي «سنَنه» : إِن رفع هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، وَوَقفه هُوَ الصَّحِيح.
وَمَا (نَقَلْنَاهُ) فِيمَا سلف من كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ فِي تَضْعِيف يزِيد بن سِنَان، نَقله الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي «خلافياته» عَنهُ، وَنقل قبله بأسطر عَن الْحَاكِم أَنه قَالَ فِي مدخله: إِنَّه ثِقَة. قَالَ: وَكَذَا ابْنه يزِيد بن مُحَمَّد، وَإِنَّمَا جده يزِيد بن سِنَان، يروي الْمَنَاكِير الْكثير.
فتلخص من كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة ضعف رفع هَذَا الحَدِيث (و) صِحَة وَقفه.
وَكَذَا نَص عَلَى ذَلِك من الْمُتَأَخِّرين الْحَافِظ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فَقَالَ فِي (تَحْقِيقه) هَذَا الحَدِيث: احْتج بِهِ أَصْحَابنَا. وَقد اخْتلف بِهِ عَن (أبي شيبَة) ، لكنه غلط فِي اسْم أبي شيبَة فِيمَا يظْهر فَقَالَ: إِن اسْمه عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وَهُوَ ضَعِيف، كَمَا قَالَه يَحْيَى، وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء، فَذكر الحَدِيث. انْتَهَى.
(2/405)
وَأَبُو شيبَة هَذَا إِنَّمَا هُوَ إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان، كَمَا نَص عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ فِيمَا مَضَى. وَقد غمزه غير وَاحِد كَمَا سلف، وَذَاكَ آخر، وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ فِي الْكتاب الْمَذْكُور عَن الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: لَيْسَ فِي الضحك حَدِيث صَحِيح.
قَالَ ذَلِك عَنهُ بعد أَن قَالَ: رُوِيَ مَرْفُوعا من سَبْعَة أوجه ومرسلاً من وُجُوه «الضحك فِي الصَّلَاة ينْقض الْوضُوء وَالصَّلَاة» ثمَّ ذكرهَا يعللها.
وَقَالَ ابْن عدي: كل رُوَاة هَذَا الحَدِيث يرجع إِلَى أبي الْعَالِيَة الريَاحي، وَمن أَجله تكلم فِيهِ.
قَالَ الشَّافِعِي: حَدِيث أبي الْعَالِيَة الريَاحي ريَاح. وقَالَ الذهلي: لم يثبت عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي الضحك فِي الصَّلَاة خبر (كَمَا) نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» .
وَاعْلَم أَن الإِمَام الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَن القهقهة لَا تنقض الْوضُوء، إِذا وجدت فِي الصَّلَاة، وَقد علمت حَاله.
وَقد أسلفنا (أَيْضا) عَن الذهلي أَنه قَالَ: لَا يثبت فِي الضحك فِي الصَّلَاة خبر؛ وَهُوَ كَاف فِي الرَّد عَلَى الْمُخَالف.
الحَدِيث الثَّالِث
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «توضئوا من لُحُوم الْإِبِل، وَلَا توضئوا من لُحُوم الْغنم» .
(2/406)
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَله طرق:
أَحدهَا: من رِوَايَة الْبَراء بن عَازِب رَضي اللهُ عَنهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن عبد الله بن عبد الله الرَّازِيّ، الثِّقَة، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَنهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْوضُوء من لُحُوم الْإِبِل فَقَالَ: توضئوا مِنْهَا. وَسُئِلَ عَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم فَقَالَ: لَا تتوضئوا مِنْهَا» .
هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ وَأبي دَاوُد، (وَزَاد) «وَسُئِلَ عَن الصَّلَاة فِي مبارك الْإِبِل فَقَالَ: لَا تصلوا فِي مبارك الْإِبِل؛ فَإِنَّهَا من الشَّيَاطِين. وسُئِل عَن الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم فَقَالَ: صلوا فِيهَا؛ فَإِنَّهَا بركَة» .
وَأخرج ابْن مَاجَه الْقطعَة الأولَى من (روايتي) التِّرْمِذِيّ وَأبي دَاوُد، وَلَفظ ابْن الْجَارُود فِي «الْمُنْتَقَى» : «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ (أأصلي) فِي مبارك الْإِبِل؟ قَالَ: لَا. قَالَ: (أفأتوضأ) من (لحومها) ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أُصَلِّي فِي مرابض الْغنم؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أفأتوضأ من لحومها؟ قَالَ: لَا» .
(2/407)
وَلَفظ ابْن حبَان: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... » فَذكره بِمثلِهِ إِلَّا أَنه قَالَ: «أعطان» بدل «مبارك» .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «سُئِلَ عَن الْوضُوء من لُحُوم الْإِبِل فَأمر بِهِ، وَسُئِلَ عَن الصَّلَاة فِي مبارك الْإِبِل فَنَهَى عَنْهَا» . وَفِي رِوَايَة لَهُ: «سُئِلَ عَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم فرخّص فِي الْوضُوء مِنْهَا، وَسُئِلَ عَن الصَّلَاة فِي مرابضها فَرخص فِيهَا» .
وَرَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي «مُسْنده» بِلَفْظ: «سُئِلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن الْوضُوء من لُحُوم الْإِبِل فَقَالَ: توضئوا مِنْهَا» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: بَلغنِي عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، أَنَّهُمَا قَالَا: قد صَحَّ فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث الْبَراء بن عَازِب، وَحَدِيث جَابر بن سَمُرَة.
قَالَ: وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: لم أر خلافًا بَين عُلَمَاء الحَدِيث أَن هَذَا الْخَبَر صَحِيح، من جِهَة النَّقْل (لعدالة) ناقليه، يَعْنِي: حَدِيث الْبَراء.
قلت: وَهَذِه الْمقَالة رَأَيْتهَا فِي «صَحِيحه» أَعنِي: «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» .
(2/408)
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رَوَى هَذَا الحَدِيث أَيْضا: الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن عبد الله بن عبد الله، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن أسيد بن حضير. وَالصَّحِيح: حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق قَالَ: وَرَوَى عُبَيْدَة الضَّبِّيّ، عَن عبد الله الرَّازِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن ذِي الْغرَّة - يَعْنِي: (عَن) النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ: وَرَوَى حَمَّاد بن سَلمَة هَذَا الحَدِيث، عَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة فَأَخْطَأَ فِيهِ، فَقَالَ: عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن أَبِيه، عَن أسيد بن حضير. قَالَ: وَالصَّحِيح عَن عبد الله بن عبد الله، (عَن) عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى، عَن الْبَراء. يَعْنِي (السالف) وَكَذَا قَالَ فِي «علله» وَزَاد بِأَن ذَا الْغرَّة لَا يُدْرَى من هُوَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْحجَّاج ضَعِيف، وَذُو الْغرَّة لَا يُدْرَى من هُوَ، وَعبيدَة الضَّبِّيّ لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَذكر ابْن أبي حَاتِم أَنه سَأَلَ أَبَاهُ عَنهُ بعد ذكر هَؤُلَاءِ الرِّوَايَات الثَّلَاث أَعنِي رِوَايَة الْبَراء، وَأسيد، وَذي الْغرَّة فَقَالَ: مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن عبد الله بن (عبد الله) عَن عبد الرَّحْمَن، عَن الْبَراء مَرْفُوعا،
(2/409)
وَالْأَعْمَش أحفظ. وَهُوَ مُوَافق لمقالة التِّرْمِذِيّ (السَّابِقَة) .
الطَّرِيق الثَّانِي: من رِوَايَة جَابر بن سَمُرَة رَضي اللهُ عَنهُ رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ من حَدِيث جَعْفَر بن أبي ثَوْر عَنهُ «أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: (أأتوضأ) من لُحُوم الْغنم؟ قَالَ: إِن شِئْت فَتَوَضَّأ، وَإِن شِئْت فَلَا تتوضأ. قَالَ: أتوضأ من لُحُوم الْإِبِل؟ قَالَ: نعم؛ فَتَوَضَّأ من لُحُوم الْإِبِل. قَالَ: أأصلي فِي مرابض الْغنم؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أأصلي فِي مبارك الْإِبِل؟ قَالَ: لَا» .
قَالَ ابْن حبَان: جَعْفَر هَذَا هُوَ أَبُو ثَوْر بن عِكْرِمَة؛ فَمن لم يحكم صناعَة الحَدِيث توهم أَنَّهُمَا رجلَانِ مَجْهُولَانِ. وأمّا عَلّي بن الْمَدِينِيّ فَقَالَ: جَعْفَر هَذَا رجل مَجْهُول، وَقد شَفَى فِي ذَلِك الْبَيْهَقِيّ.
وَصحح الحَدِيث أَيْضا مَعَ مُسلم: أَحْمد، وَإِسْحَاق - كَمَا أسلفناه عَنْهُمَا - وَابْن مَنْدَه أَيْضا. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ (فِي «علله» ) : أَخطَأ شُعْبَة، فِي حَدِيث سماك، عَن جَعْفَر بن أبي ثَوْر، عَن جَابر «فِي الْوضُوء من لُحُوم الْإِبِل» فَقَالَ: (عَن) سماك عَن أبي ثَوْر. قَالَ: وجعفر بن أبي ثَوْر رجل مَشْهُور، رَوَى عَنهُ سماك وَغَيره، وَهُوَ من ولد جَابر بن سَمُرَة.
الطَّرِيق الثَّالِث: من رِوَايَة ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما رَوَاهَا
(2/410)
ابْن مَاجَه من حَدِيث بَقِيَّة، عَن خَالِد بن يزِيد بن [عمر] (بن) هُبَيْرَة الْفَزارِيّ، عَن عَطاء بن السَّائِب، قَالَ: سَمِعت محَارب بن دثار قَالَ: سَمِعت (ابْن عمر) يَقُول: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَقُول: «توضئوا من لُحُوم الْإِبِل، وَلَا تتوضئوا من لُحُوم الْغنم. وَتَوَضَّئُوا من ألبان الْإِبِل، ولاتتوضئوا من ألبان الْغنم. وصلوا فِي مُراح الْغنم، وَلَا تصلوا فِي معاطن الْإِبِل» .
قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَمِعت أبي يَقُول: كنت أنكر هَذَا الحَدِيث؛ لِتَفَرُّدِهِ، فَوجدت لَهُ أصلا: نَا ابْن الْمُصَفَّى، عَن بَقِيَّة، حَدثنِي فلَان - سَمَّاهُ - عَن عَطاء بن السَّائِب، عَن محَارب بن دثار، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، بِنَحْوِهِ.
وحَدثني (عبيد الله بن سعد) الزُّهْرِيّ، حَدثنِي عمي يَعْقُوب، عَن أَبِيه، عَن ابْن إِسْحَاق، حَدثنِي عَطاء بن السَّائِب الثَّقَفِيّ، أَنه سمع محَارب بن دثار يذكر، عَن ابْن عمر، بِنَحْوِ هَذَا وَلم (يرفعوه) . قَالَ أبي: حَدِيث ابْن إِسْحَاق أشبه مَوْقُوف.
(2/411)
الحَدِيث الرَّابِع
عَن جَابر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - ترك الْوضُوء مِمَّا مست النَّار» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الْأَئِمَّة من حَدِيث (عَلّي) بن عَيَّاش - بالشين الْمُعْجَمَة - ثَنَا شُعَيْب بن أبي حَمْزَة، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر مَرْفُوعا بِهِ.
(رَوَاهُ) كَذَلِك أَبُو دَاوُد (عَن) مُوسَى بن سهل الرَّمْلِيّ، عَن عَلّي بِهِ، إِلَّا أَنه قَالَ: «غيرت» بدل «مست» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه الْكَبِير وَالصَّغِير» عَن عَمْرو بن مَنْصُور، عَن عَلّي بِهِ بِاللَّفْظِ الأول الَّذِي ذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ.
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» عَن ابْن خُزَيْمَة إِمَام الْأَئِمَّة، عَن مُوسَى بن سهل الْمَذْكُور أَولا. وبلفظ النَّسَائِيّ، ثمَّ رَأَيْته بعد ذَلِك فِي «صَحِيح ابْن خُزَيْمَة» كَمَا رَوَاهُ ابْن حبَان عَنهُ.
قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا اخْتِصَار من الحَدِيث الأول؛ يَعْنِي من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابر حَيْثُ «قَرَّب للنَّبِي (خبْزًا وَلَحْمًا فَأكل،
(2/412)
ثمَّ دَعَا بِوضُوء فتوضَّأ (ثمَّ صَلَّى) الظّهْر، ثمَّ دَعَا بِفضل طَعَامه فَأكل ثمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاة وَلم يتَوَضَّأ) .
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» : سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث يَعْنِي: حَدِيث «ترك الْوضُوء مِمَّا مست النَّار» فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُضْطَرب الْمَتْن؛ إِنَّمَا هُوَ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أكل كَتفًا وَلم يتَوَضَّأ» كَذَا رَوَاهُ الثِّقَات، عَن ابْن الْمُنْكَدر، عَن جَابر؛ وَيُمكن أَن يكون شُعَيْب حدث بِهِ من حفظه فَوَهم فِيهِ، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: إِنَّمَا هُوَ «أَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - أكل كَتفًا ثمَّ صَلَّى وَلم يتَوَضَّأ» .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي كِتَابه «الإِمَام» : الَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد أقرب مِمَّا قَالَه أَبُو حَاتِم؛ فَإِن المتنين متباعدي اللَّفْظ (أَعنِي) قَوْله: «آخر الْأَمريْنِ» وَقَوله: «أكل كَتفًا ثمَّ صَلَّى وَلم يتَوَضَّأ» وَلَا يجوز التَّعْبِير بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر (والانتقال) من أَحدهمَا إِلَى الآخر؛ إِنَّمَا يكون عَن غَفلَة شَدِيدَة، وَأما مَا ذكره أَبُو دَاوُد من (أَنه) اخْتِصَار من حَدِيثه الأول (فأقرب) لِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون (قد) عبَّر بِهَذِهِ الْعبارَة عَن مَعْنَى الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
(2/413)
قلت: وَفِي التَّعْبِير أَيْضا بذلك نظر، إِلَّا أَن تكون تِلْكَ الْحَالة آخر الْأَمر عِنْده؛ فَعبر بهَا. (ونحا) ابْن حبَان فِي «صَحِيحه» إِلَى مقَالَة أبي دَاوُد السالفة، فَقَالَ: هَذَا (خبر) مُخْتَصر من حَدِيث طَوِيل، اخْتَصَرَهُ شُعَيْب بن أبي حَمْزَة مُتَوَهمًا نسخ إِيجَاب الْوضُوء (مِمَّا مسته النَّار مُطلقًا، وَإِنَّمَا هُوَ نسخ لإِيجَاب الْوضُوء) مِمَّا مست النَّار خلا لحم الْجَزُور.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «إِعْلَامه بناسخ الحَدِيث ومنسوخه» : حَدِيث جَابر هَذَا وَمَا رُوِيَ مثله كَحَدِيث مُحَمَّد بن (مسلمة) كَانَ آخر الْأَمريْنِ من النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: ترك الْوضُوء مِمَّا مست النَّار. (وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة بِفِعْلِهِ، وَلم يتَوَضَّأ مفصحة بالنسخ ودالة عَلَى أَن مَا عارضها مَنْسُوخ، كَحَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَرْفُوع: «توضئوا مِمَّا مسته النَّار» ) .
وَحَدِيث عَائِشَة: «مَا ترك رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - الْوضُوء مِمَّا مست النَّار حَتَّى قبض» . وَقَالَ (الْجوزجَاني) فِي «مَوْضُوعَاته» : حَدِيث عَائِشَة هَذَا بَاطِل، وَحَدِيث جَابر يُخَالِفهُ وَهُوَ صَحِيح.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَقد رُوِيَ لنا حَدِيث يدل عَلَى أَن المُرَاد (بِالْوضُوءِ) : غسل الْيَد؛ فَحِينَئِذٍ لَا يتَوَجَّه نسخ، ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث النَّضر بن طَاهِر، عَن عبيد الله بن عكراش، عَن أَبِيه «أَنه أكل مَعَ
(2/414)
النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي قَصْعَة من ثريد، ثمَّ أُتِي بِمَاء فَغسل يَده وفمه، وَمسح بِوَجْهِهِ وَقَالَ: يَا عِكْراش، هَذَا الْوضُوء مِمَّا مست النَّار» . رَوَاهُ ابْن شاهين، عَن هَارُون بن أَحْمد النجراني، عَن النَّضر بِهِ.
قلت: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث الْعَلَاء بن الْفضل، عَن عبيد الله بِهِ، وَفِيه: «فَغسل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - (يَده) ثمَّ مسح ببلل كفيه وَجهه وذراعيه وَرَأسه، ثمَّ قَالَ: يَا عِكْراش، هَكَذَا الْوضُوء مِمَّا غيرت النَّار» . وَعبيد الله هَذَا ضَعِيف. قَالَ البُخَارِيّ: فِيهِ نظر، وَقَالَ (أَبُو) حَاتِم: مَجْهُول. وَقَالَ ابْن حبَان: مُنكر الحَدِيث.
وَأخرج التِّرْمِذِيّ طرفا مِنْهُ وَهُوَ: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُ فِي الثَّرِيد: «كل من مَوضِع واحدٍ» . ثمَّ قَالَ: غَرِيب تفرد بِهِ الْعَلَاء.
قلت: هُوَ صَدُوق؛ لَكِن قَالَ ابْن حبَان: كَانَ (مِمَّن) ينْفَرد بأَشْيَاء مَنَاكِير عَن أَقوام مشاهير، لَا يُعجبنِي الِاحْتِجَاج بأخباره الَّتِي انْفَرد بهَا، فَأَما مَا وَافق الثِّقَات فَإِن اعْتبر بهَا مُعْتَبر لم (أر) بذلك بَأْسا.
وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر الحَدِيث الَّذِي قبل هَذَا دَلِيلا لمن قَالَ بِالْوضُوءِ من أكل لحم الْجَزُور. ثمَّ ذكر حَدِيث جَابر هَذَا فِي أَنه لَا يتَوَضَّأ (مِنْهُ) .
(2/415)
وَقد أسلفت لَك من كَلَام أبي حَاتِم بن حبَان أَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة اخْتَصَرَهُ مُتَوَهمًا نسخ إِيجَاب الْوضُوء مِمَّا مست النَّار مُطلقًا (وَإِنَّمَا هُوَ نسخ لإِيجَاب الْوضُوء مِمَّا مست النَّار) خلا لحم الْجَزُور.
وَحِينَئِذٍ فَلَا يحسن من الرَّافِعِيّ الرَّد بِهِ (عَلَى) الْمُخَالف؛ لِأَن جِهَة كَونه ممسوسًا بالنَّار غير جِهَة كَونه لحم جزور، وَمن أوجب الْوضُوء (مِنْهُ) لَا يَجْعَل سَببه (ممسوسًا) بالنَّار؛ بل كَونه لحم جزور (مُطلقًا) فمنتقض مُطلقًا.
الحَدِيث الْخَامِس
«أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ فِي الرجل يُصِيبهُ الْمَذْي: ينضح فرجه وَيتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» من رِوَايَة عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كنت رجلا مذاء؛ فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأَل رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - لمَكَان ابْنَته، فَأمرت الْمِقْدَاد بن الْأسود. فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ» .
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «تَوَضَّأ (واغسل) ذكرك» وفيهَا: «فَأمرت رجلا» وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «تَوَضَّأ وانضح فرجك» وَهِي مُنْقَطِعَة كَمَا نبه
(2/416)
عَلَيْهَا الدَّارَقُطْنِيّ، وَقد بيّنت ذَلِك فِي كتَابنَا «الْإِعْلَام بفوائد عُمْدَة الْأَحْكَام» وَذكرت فِيهِ الْجمع بَين رِوَايَة «الصَّحِيحَيْنِ» : «فَأمرت الْمِقْدَاد» (وَرِوَايَة) أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان: «فَأمر عمار بن يَاسر» (وَرِوَايَة) ابْن خُزَيْمَة: «أَن عليًّا سَأَلَ بِنَفسِهِ» وَغير ذَلِك من الْفَوَائِد، فَبلغ الْكَلَام عَلَيْهِ نَحْو كراسة؛ فسارع إِلَى اقتناص (ذَلِك مِنْهُ، وَذكرت فِيهِ أَيْضا أَن فِي «أبي دَاوُد» الْأَمر بِغسْل الْأُنْثَيَيْنِ مَعَ الذّكر، وَأَنَّهَا مُنْقَطِعَة؛ لِأَنَّهَا من حَدِيث عُرْوَة عَن عليّ، وَعُرْوَة لم يسمع مِنْهُ.
قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي «مراسيله» : سَمِعت أبي يَقُول: عُرْوَة عَن عليّ مَرَاسِيل.
وَقَالَ عبد الْحق أَيْضا: لم يسمع مِنْهُ، قَالَ: وَالْمَحْفُوظ من رِوَايَة الثِّقَات أَنه قَول عُرْوَة. قَالَ: وَلَا يَصح أَيْضا عَن غَيره. ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق أبي دَاوُد، عَن مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن الْعَلَاء، عَن الْحَارِث، عَن (حرَام) بن حَكِيم، عَن عَمه عبد الله بن سعد قَالَ: «سَأَلت
(2/417)
رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن المَاء يكون بعد المَاء قَالَ: ذَاك الْمَذْي، وكل فَحل يمذي؛ فتغسل من ذَلِك فرجك (وأنثييك) وَتَوَضَّأ وضوءك للصَّلَاة» ثمَّ قَالَ: لَيْسَ يَصح غسل الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَيْسَ يحْتَج بِهَذَا الْإِسْنَاد فِي ذَلِك. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي «كِتَابه» : كَذَا قَالَ عبد الْحق، وَهُوَ كَذَلِك، وَلَكِن بَقِي عَلَيْهِ أَن يبين مِنْهُ مَوضِع الْعلَّة، وَهُوَ الْجَهْل بِحَال حرَام بن حَكِيم الدِّمَشْقِي، وَهُوَ حرَام - بالراء بعد الْحَاء - وَقد يصحف بحزام بن حَكِيم - بالزاي بعد الْحَاء الْمَكْسُورَة - وَكِلَاهُمَا فِي طبقَة وَاحِدَة. وَقَالَ: عَلَيْهِ مُؤَاخذَة فِي ذَلِك؛ فَإِنَّهُ يقبل رِوَايَة المستور، وَحرَام هَذَا رَوَى عَنهُ الْعَلَاء بن الْحَارِث وَزيد بن وَاقد وَعبد الله بن الْعَلَاء، وَرَوَى أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة.
قلت: كَذَا نسب ابْن الْقطَّان حرَام بن حَكِيم إِلَى الْجَهَالَة، وَأقرهُ عَلَى ذَلِك الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمَام» وَلَيْسَ كَذَلِك؛ فقد وَثَّقَهُ دُحَيْم كَمَا أَفَادَهُ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي «تهذيبه» ، وَابْن حزم؛ فَإِنَّهُ ضعفه، ثمَّ ظَفرت بعد ذَلِك بطريقة خَالِيَة من الِانْقِطَاع الْمَذْكُور وَعَن حرَام هَذَا فِي «صَحِيح أبي عوَانَة» رَوَاهَا من حَدِيث سُلَيْمَان بن (حَيَّان) ، عَن هِشَام بن حسان، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي، عَن عَلّي قَالَ: «كنت رجلا مذاء، فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأَل رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم، فَأرْسلت الْمِقْدَاد فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يغسل
(2/418)
أنثييه وَذكره وَيتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة» وَذكرت هَذِه الْفَائِدَة أَيْضا فِي الشَّرْح الْمَذْكُور، وَللَّه الْحَمد.
الحَدِيث السَّادِس
أنَّه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: «لَا وضوء إِلَّا من صَوت أَو ريح» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ بِإِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات، وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كتاب الطّهُور بِزِيَادَة وَلَفظه: «لَا وضوء إِلَّا من حدث أَو صَوت أَو ريح» .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «خلافياته» : هَذَا حَدِيث ثَابت قد اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاج مَعْنَاهُ من حَدِيث عبد الله بن زيد.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: إِسْنَاد حسن ثَابت. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي «الإِمَام» : إِسْنَاده عَلَى شَرط مُسلم. قَالَ: وَهُوَ - وَالله أعلم - مُخْتَصر بِالْمَعْنَى من حَدِيث أطول مِنْهُ أخرجه مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِذا وجد أحدكُم فِي بَطْنه شَيْئا فأشكل عَلَيْهِ أخرج مِنْهُ
(2/419)
شَيْء أم لَا؛ فَلَا يخْرجن من الْمَسْجِد حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا» .
قلت: قد سبق إِلَى هَذَا، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَمِعت [أبي]- وَذكر حَدِيث شُعْبَة، عَن سُهَيْل، عَن أَبِيه [عَن أبي هُرَيْرَة] مَرْفُوعا: «لَا وضوء إِلَّا من صَوت أَو ريح» قَالَ أبي: هَذَا وهم، اختصر شُعْبَة متن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: «لَا وضوء إِلَّا من صَوت أَو ريح» وَرَوَاهُ أَصْحَاب سُهَيْل، عَن سُهَيْل، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «إِذا كَانَ أحدكُم فِي الصَّلَاة فَوجدَ ريحًا من نَفسه؛ فَلَا يخرج حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا» .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي «سنَنه» هَذَا حَدِيث مُخْتَصر، وَتَمَامه، فِيمَا أخبرنَا أَبُو عبد الله، وَذكر الحَدِيث. وَفِي كَونه مُخْتَصرا مِنْهُ نظر؛ إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لوجد فِي الثَّانِي مَعَ زِيَادَة، وَعُمُوم الْحصْر الْمَذْكُور فِي الأول لَيْسَ فِي الثَّانِي؛ فَالظَّاهِر اخْتِلَافهمَا.
قلت: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث أَيْضا من غير طَرِيق أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن مَالك، أَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء حَدثهمْ قَالَ: رَأَيْت السَّائِب يشم ثَوْبه، فَقلت لَهُ فَلم ذَلِك؟ قَالَ: لِأَنِّي سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم يَقُول: «لَا وضوء إِلَّا من ريح أَو سَماع» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَابْن قَانِع فِي «مُعْجم الصَّحَابَة» ، وَأَبُو أَحْمد فِي
(2/420)
«كِتَابه» من حَدِيث هِشَام - يَعْنِي ابْن عمار - ثَنَا إِسْمَاعِيل - يَعْنِي ابْن عَيَّاش -، ثَنَا عبد الْعَزِيز بن عبيد الله، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو قَالَ: «رَأَيْت السَّائِب بن خباب وَهُوَ يشم ثِيَابه، فَقلت لَهُ: مِم ذَاك أصلحك الله؟ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم يَقُول: لَا وضوء إِلَّا من ريح أَو سَماع» .
الحَدِيث السَّابِع
رُوِيَ أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم قَالَ: «الْوضُوء مِمَّا خرج» .
هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ) دَلِيلا عَلَى (أَن) النَّادِر ينْقض، فَقَالَ: لنا ظَاهر مَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «الْوضُوء مِمَّا خرج» وَنَحْو ذَلِك. وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من حَدِيث الْفضل بن الْمُخْتَار، عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن شُعْبَة مولَى ابْن عَبَّاس، عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما مَرْفُوعا: «الْوضُوء مِمَّا يخرج وَلَيْسَ مِمَّا يدْخل» وَسبب ضعفه: الْفضل بن مُخْتَار وَشعْبَة هَذَا.
أما الأول: قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ مَجْهُول، وَأَحَادِيثه مُنكرَة يحدث بالأباطيل. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: مُنكر الحَدِيث جدًّا. وَقَالَ ابْن عدي: لَعَلَّ الْبلَاء فِي هَذَا الحَدِيث مِنْهُ لَا من شُعْبَة؛ لِأَن لَهُ أَحَادِيث (مُنكرَة)
(2/421)
وعامتها لَا يُتَابع عَلَيْهَا. قَالَ: وَالْأَصْل فِي هَذَا الحَدِيث أَنه مَوْقُوف.
وَأما الثَّانِي: فَقَالَ مَالك فِيهِ: لَيْسَ بِثِقَة. كَذَا نَقله ابْن الْجَوْزِيّ فِي «ضُعَفَائِهِ» عَنهُ، وَكَذَا عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» ، وَاعْترض ابْن الْقطَّان عَلَيْهِ فَقَالَ: هَذَا قلَّة إنصاف من عبد الْحق؛ فَإِن مَالِكًا لم يُضعفهُ، وَإِنَّمَا شح عَلَيْهِ بِلَفْظ «ثِقَة» وَقد كَانُوا بهَا أشحاء. وَقَالَ البُخَارِيّ: إِن مَالِكًا تكلم فِي شُعْبَة هَذَا، وَيحْتَمل مِنْهُ - يَعْنِي من شُعْبَة - وَنِهَايَة مَا يُوجد لمَالِك فِيهِ أَنه قَالَ: لم يكن يشبه الْقُرَّاء. وَقَالَ يَحْيَى فِيهِ: لَا يكْتب حَدِيثه.
وَقَالَ (مرّة) : لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَكَذَا قَالَ أَحْمد: (و) مُرَاد يَحْيَى بقوله: لَيْسَ بِهِ بَأْس أَنه ثِقَة، كَمَا نَقله عَنهُ ابْن أبي خَيْثَمَة. وَقَالَ السَّعْدِيّ وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ ابْن عدي: لم أر لَهُ حَدِيثا مُنْكرا جدًّا فأحكم عَلَيْهِ بالضعف، وَأَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ (وَلم أجد) لَهُ أنكر من هَذَا الحَدِيث، وَلَعَلَّ الْبلَاء فِيهِ من الْفضل.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث لَا يثبت عَن رَسُول الله صَلَّى الله
(2/422)
عَلَيْهِ وَآله وَسلم. قَالَ: وَرَوَاهُ وَكِيع، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي ظبْيَان، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه ذكر عِنْده الْوضُوء من الطَّعَام - قَالَ الْأَعْمَش (مرّة) : والحجامة للصَّائِم - فَقَالَ: إِنَّمَا الْوضُوء مِمَّا خرج وَلَيْسَ مِمَّا دخل، وَإِنَّمَا الْفطر مِمَّا دخل وَلَيْسَ مِمَّا خرج» .
قلت: و (أخرجه) شُعْبَة فِي «مُسْنده» ، عَن أبي إِسْحَاق، عَن يَحْيَى بن وثاب قَالَ: «سَأَلت ابْن عَبَّاس عَن الْوضُوء مِمَّا غيرت النَّار، قَالَ: لَا؛ إِنَّمَا الْوضُوء مِمَّا خرج وَلَيْسَ مِمَّا دخل، إِنَّمَا يدْخل طيبا وَيخرج خبيثًا» . وَقد ضعف طَريقَة الرّفْع من الْمُتَأَخِّرين: عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» ، وَابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه وَعلله» فَقَالَ فِي «تَحْقِيقه» بعد أَن ضعفه (بشعبة) وَالْفضل: (و) كَلَام ابْن عدي السالف إِنَّمَا يحفظ هَذَا الْكَلَام عَن ابْن عَبَّاس. كَذَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور، وَنقل فِيهِ عَن النَّسَائِيّ أَنه قَالَ فِي شُعْبَة السالف: لَيْسَ بِثِقَة، وَهُوَ خلاف مَا نَقله عَنهُ فِي «ضُعَفَائِهِ» من قَوْله: «إِنَّه لَيْسَ بِالْقَوِيّ» كَمَا أسلفناه.
وَقَالَ فِي «علله» : (هَذَا حَدِيث لَا يَصح ثمَّ ضعفه بِمَا سلف قَالَ
(2/423)
الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ أَيْضا عَن عَلّي) بن أبي طَالب من قَوْله قَالَ: (مُرَاده وَمُرَاد) ابْن عَبَّاس ترك الْوضُوء مِمَّا مست النَّار.
قلت: وَرُوِيَ أَيْضا عَن عبد الله بن مَسْعُود من قَوْله، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث الثَّوْريّ عَن وَائِل بن دَاوُد عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: «إِنَّمَا الْوضُوء مِمَّا خرج وَلَيْسَ مِمَّا دخل، وَالصَّوْم مِمَّا دخل وَلَيْسَ مِمَّا خرج» ثمَّ ظَفرت بعد ذَلِك (للْحَدِيث) بطرِيق أُخْرَى مَرْفُوعَة لَكِنَّهَا واهية جدًّا رَوَاهَا الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث (عبيد الله) بن زحر، عَن عَلّي بن [يزِيد] ، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أكل الْعرق وَأَتَاهُ الْمُؤَذّن (فَقَالَ) : الْوضُوء مِمَّا خرج وَلَيْسَ علينا فِيمَا (دخل) » .
(2/424)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: عبيد الله لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَعلي مَتْرُوك.
وَقَالَ ابْن حبَان: [عبيد الله] يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات، وَإِذا رَوَى عَن عَلّي أَتَى بالطامات. قَالَ: وَإِذا اجْتمع فِي إِسْنَاد خبر عبيد الله بن زحر، وَعلي بن يزِيد، وَالقَاسِم أَبُو عبد الرَّحْمَن لم يكن (متن) ذَلِك الْخَبَر إِلَّا مِمَّا عملته أَيْديهم.
قلت: قد اجْتَمعُوا هُنَا؛ فنسأل الله السَّلامَة. وَقَول الإِمَام الرَّافِعِيّ بعد إِيرَاد هَذَا الحَدِيث: وَنَحْو ذَلِك. أَرَادَ وَنَحْوه من الْأَدِلَّة، فيستدل لَهُ بِالْحَدِيثِ الْخَامِس «أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم أوجب من الْمَذْي الْوضُوء» وَقد تقدم وَاضحا، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يقْتَصر عَلَى هَذَا عوضا عَمَّا ذكره؛ فَإِنَّهُ حَدِيث ثَابت دون مَا اسْتدلَّ بِهِ لكنه تبع فِي ذَلِك بعض الْأَصْحَاب.
الحَدِيث الثَّامِن
أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم قَالَ: «العينان وكاء السه؛ فَإِذا نَامَتْ العينان اسْتطْلقَ الوكاء [فَمن نَام فَليَتَوَضَّأ] » .
(2/425)
هَذَا الحَدِيث ذكره الْمُزنِيّ فِي «الْمُخْتَصر» بِغَيْر إِسْنَاد، وَهُوَ مَرْوِيّ من حَدِيث (عَلّي بن) أبي طَالب وَمُعَاوِيَة رَضي اللهُ عَنهما أما حَدِيث عَلّي فَرَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سُنَنهمْ» من حَدِيث بَقِيَّة، عَن الْوَضِين بن عَطاء، عَن مَحْفُوظ بن عَلْقَمَة، عَن عبد الرَّحْمَن بن عايذ - بِعَين مُهْملَة ثمَّ ألف ثمَّ يَاء مثناة تَحت ثمَّ ذال مُعْجمَة - عَن عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم -: «الْعين وكاء السه؛ فَمن نَام فَليَتَوَضَّأ» (هَذَا لفظ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَلَفظ أبي دَاوُد «وكاء السه العينان؛ فَمن نَام فَليَتَوَضَّأ» وَلَفظ أَحْمد: «إِن السه وكاء الْعين؛ فَمن نَام فَليَتَوَضَّأ) » كَذَا هُوَ فِي «مُسْنده» وَكَأَنَّهُ مقلوب. وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله أَيْضا فِي كِتَابه «عُلُوم الحَدِيث» . والعقيلي فِي «تَارِيخه» كَمَا رَوَاهُ أَحْمد.
وَأما حَدِيث مُعَاوِيَة فَرَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد، والدارمي فِي «مسنديهما» ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم، عَن أبي بكر (بن عبد الله) بن أبي مَرْيَم، عَن عَطِيَّة بن قيس قَالَ: سَمِعت مُعَاوِيَة
(2/426)