ويحلف المنكر في كل حق آدمي يقصد منه المال : كالديون ، والجنايات ، والإتلاف لعموم الخبر ، وهو ظاهر في القصاص ، لقوله : لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم .
فإن نكل عن اليمين قضى عليه بالحق لما تقدم عن عثمان ، رضي الله عنه .
وإذا حلف على نفي فعل نفسه ، أو نفي دين عليه : حلف على البت أي : القطع ،
لحديث ابن عباس أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، استحلف رجلاً ، فقال : قل : والله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شئ رواه أبو داود . ولأن له طريقاً إلى العلم به ، فلزمه القطع بنفيه .
وإن حلف على نفي دعوى على غيره : كمورثه ورقيقه وموليه : حلف على نفي العلم نص عليه أحمد ، وذكر حديث النسائي عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي ، صلى الله عليه وسلم : لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون وفي حديث الحضرمي . . . . ولكن أحلفه : والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه رواه أبو داود . ولأنه لا يمكنه الإحاطة بفعل غيره ، فلم يكلف ذلك ، بخلاف فعل نفسه . وعنه : اليمين كلها على نفي العلم . وبه قال : الشعبي والنخعي . ذكره في الشرح .
ومن أقام شاهداً بما عداه : حلف معه على البت فيما يقبل فيه الشاهد واليمين .
ومن توجه عليه حلف لجماعة : حلف لكل واحد يميناً لأن حق كل منهم غير حق البقية ، وهو منكر للجميع .
ما لم يرضوا بواحدة فيكتفى بها ، لأن الحق لهم ، وقد رضوا بإسقاطه فسقط .
فصل(2/353)
واليمين المشروعة التي يبرأ بها المطلوب هي : اليمين بالله تعالى لقوله عز وجل : فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً [ المائدة : 106] وقوله : فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما [ المائدة : 107] وقوله : وأقسموا بالله جهد أيمانهم [ الأنعام : 109] قال بعض المفسرين : من أقسم بالله فقد أقسم بالله جهد اليمين واستحلف النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ركانة بن عبد يزيد في الطلاق : والله ما أردت إلا واحدة ؟ فقال : والله ما أردت إلا واحدة وقال عثمان لابن عمر تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه .
وسواء كان الحالف مسلماً أو كافراً ، عدلاً أو فاسقاً ، لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لما قال للحضرمي : فلك يمينه فقال : إنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه ، قال : ليس لك إلا ذلك وقال الأشعث بن قيس : كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني ، فقدمته إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : هل لك بينة ؟ فقال : لا ، قال لليهودي احلف ثلاثاً ، قلت : إذاً يحلف فيذهب بمالي . فأنزل الله تعالى : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً [ آل عمران : 77] إلى آخر الآية رواه أبو داود . وأين حلف ، ومتى حلف أجزأ وحلف عمر في حكومته لأبي في النخل في مجلس زيد ، فلم ينكره أحد .
وللحاكم تغليظ اليمين فيما له خطر ، كجناية لا توجب قوداً وعتق ، ومال كثير قدر نصاب الزكاة لا فيما دون ذلك ، لأنه يسير .
فتغليظ يمين المسلم أن يقول : والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، الطالب الغائب ، الضار النافع ، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
لحديث ابن عباس السابق . وقال الشافعي : رأيتهم يؤكدون اليمين
بالمصحف ، ورأيت ابن مارن قاضي صنعاء يغلظ اليمين به . قال ابن المنذر : لا نترك سنة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لفعل ابن مارن ولا غيره .(2/354)
ويقول اليهودي : والله الذي أنزل التوراة على موسى ، وفلق له البحر ، وأنجاه من فرعون وملئه ، ويقول النصراني : والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، وجعله يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص
لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، - يعني : لليهود - نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى : ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ رواه أبو داود . وتغليظها في الزمان : أن يحلف بعد العصر ، لقوله تعالى : تحبسونهما من بعد الصلاة [ المائدة : 106] قال بعض المفسرين : أي : صلاة العصر . ولفعل أبي موسى ، وفي المكان بين الركن والمقام بمكة ، لزيادة فضيلته ، وبالقدس عند الصخرة ، لفضيلتها .
وفي سنن ابن ماجه مرفوعاً : هي من الجنة وعند المنبر في سائر البلاد ،
لما روى مالك والشافعي وأحمد عن جابر مرفوعاً من حلف على منبري هذا يميناً آثمةً فليتبوأ مقعده من النار وقيس عليه باقي منابر المساجد . ويحلف الذمي بموضع يعظمه . قال الشعبي لنصراني : اذهب إلى البيعة . وقال كعب بن سوار في نصراني : اذهبوا به إلى المذبح . ولأنه ثبت التغليظ في أهل الذمة ، فنقيس عليهم غيرهم . قاله في الكافي .
ومن أبى التغليظ لم يكن ناكلاً عن اليمين ، لأنه بذل الواجب عليه فوجب الإكتفاء به ،
لحديث ابن عمر مرفوعاً : ومن حلف له بالله فليرض رواه ابن ماجه .
وإن رأى الحاكم ترك التغليظ فتركه كان مصيباً لموافقته مطلق النص .
كتاب الإقرار
وهو : الإعتراف بالحق . والحكم به واجب ، لقوله ، صلى الله عليه وسلم : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا : فإن اعترفت فارجمها ورجم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ماعزاً والغامدية ولجهنية بإقرارهم ولأنه إذا وجب الحكم بالبينة فلأن يجب بالإقرار مع بعده من الريبة أولى . قاله في الكافي .(2/355)
لا يصح الإقرار إلا من مكلف مختار
لحديث رفع القلم عن ثلاثة وتقدم . وحديث : عفي لأمتي عن الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه رواه سعيد .
ولو هازلاً بلفظ أو كتابة لا بإشارة ، إلا من أخرس إذا كانت مفهومة ، لقيامها مقام نطقه ككتابته .
لكن لو أقر صغير أو قن ، أذن لهما في تجارة في قدر ما أذن لهما فيه : صح لفك الحجر عنهما فيه ، ولأنه يصح تصرفهما فيه فصح إقرارهما به .
ومن أكره ليقر بدرهم فأقر بدينار ، أو ليقر لزيد فأقر لعمرو : صح ولزمه لأنه غير مكره على ما أقر به .
وليس الإقرار بإنشاء تمليك بل إخبار بما في نفس الأمر .
فيصح حتى مع إضافة الملك لنفسه ، كقوله : كتابي هذا لزيد لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة ، فلا تنافي الإقرار به .
ويصح إقرار المريض بمال لغير وارث حكاه ابن المنذر إجماعاً ، لأنه غير متهم في حقه .
ويكون من رأس المال كإقراره في صحته .
وبأخذ دين من غير وارث لما تقدم ، ولأن حالة المرض أقرب إلى الإحتياط لنفسه ، وتحري الصدق : فكان أولى بالقبول ، بخلاف الإقرار لوارث فإنه متهم فيه .
لا إن أقر لوارث إلا ببينة أو إجازة باقي الورثة ، كالوصية . وقال مالك : يصح إذا لم يتهم إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل : فيصح في قول الجميع إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل : فيصح في قول الجميع إلا الشعبي . ذكره في الشرح .
والإعتبار يكون من أقر له وارثاً أو حال الإقرار لا الموت لأنه قول تعتبر فيه التهمة فاعتبرت حالة وجوده ، كالشهادة .
عكس الوصية فإن الإعتبار فيها بحال الموت - تقدم - فلو أقر لوارثه ، فلم يمت حتى صار غير وارث : لم يصح ، وإن أقر لغير وارث ، فصار وارثاً قبل الموت : صح إقراره له . نص عليه أحمد ، لأن إقراره لوارث في الأولى ، ولغير وارث في الثانية ، متهم في الأولى غير متهم في الثانية ، فأشبه الشهادة . قاله في الكافي .
وإن كذب المقر له المقر بطل الإقرار بتكذيبه ،(2/356)
وكان للمقر أن يتصرف فيما أقر به بما شاء لأنه مال بيده لا يدعيه غيره ، أشبه اللقطة ، والوجه الثاني : يحفظه الإمام حتى يظهر مالكه ، لإنه بإقراره خرج عن ملكه ، ولم يدخل في ملك المقر له ، وكل واحد منهما ينكر ملكه ، فهو كالمال الضائع . قاله في الكافي .
فصل
والإقرار لقن غيره إقرار لسيده لأنه الجهة التي يصح الإقرار لها ، ولأن يد العبد كيد سيده .
ولمسجد أو مقبرة أو طريق ونحوه كثغر وقنطرة
يصح ، ولو أطلق فلم يعين سبباً ، كغلة وقف ونحوه ، لأنه إقرار ممن يصح إقراره ، أشبه ما لو عين السبب ، ويكون لمصالحها .
ولدار أو بهيمة : لا لأن الدار لا تجري عليها صدقة غالباً ، بخلاف المسجد ، ولأن البهيمة لا تملك ، ولا لها أهليه الملك .
إلا إن عين السبب كغصب أو استئجار - زاد في المغني : لمالكها - وإلا لم يصح .
ولحمل آدمية بمال ، وإن لم يعزه إلى سبب ، لأنه يجوز أن يملك بوجه صحيح فصح له الإقرار المطلق ، كالطفل
فإن ولد ميتاً أو لم يكن حمل : بطل لأنه إقرار لمن لا يصح أن يملك ، وإن ولدت حياً وميتاً : فالمقر به للحي بلا نزاع . قاله في الإنصاف ، لفوات شرطه في الميت .
و إن ولدت
حياً فأكثر : فله بالسوية ولو كانا ذكراً وأنثى ، كما لو أقر لرجل وامرأة بمال ، لعدم المزية .
وإن أقر رجل أو امرأة بزوجية الآخر فسكت صح وورثه بالزوجية ، لقيامها بينهما بالإقرار ،
أو جحده ، ثم صدقه : صح الإقرار ،
وورثه لحصول الإقرار ، والتصديق . ولا يضر جحده قبل إقراره ، كالمدعى عليه يجحد ، ثم يقر .
لا إن بقي على تكذيبه حتى مات المقر : فلا يرثه ، لأنه متهم في تصديقه بعد موته .
باب ما يحصل به الإقرار وما يغيره
من ادعى عليه بألف ، فقال : نعم ، أو صدقت ، أو : أنا مقر ، أو : خذها ، أو : اتزنها ، أو اقبضها : فقد أقر لأن هذه الألفاظ تدل على تصديق المدعي ، وتنصرف إلى الدعوى ، لوقوعها عقبها ، لا إن قال : أنا أقر فليس إقراراً بل وعد .(2/357)
أو : لا أنكر لأنه لا يلزم من عدم الإنكار الإقرار ، لأن بينهما قسماً آخر ، وهو السكوت ، ولأنه يحتمل : لا أنكر بطلان دعواك .
أو : خذ لاحتمال أن يكون مراده خذ الجواب مني
أو : اتزن ، أو : افتح كمك لاحتمال أن يكون لشئ غير المدعى به ، أو : اتزن من غيري ، أو : افتح كمك للطمع .
و : بلى ، في جواب : أليس لي عليك كذا ؟ إقرار بلا خلاف ، لأن نفي النفي إثبات .
لا : نعم ، إلا من عامي فيكون إقراراً ، كقوله : عشرة غير درهم - بضم الراء - : يلزمه تسعة ، لأن ذلك لا يعرفه إلا الحذاق من أهل العربية . وفي حديث عمرو بن عبسة . . . فدخلت عليه ، فقلت : يا رسول الله : أتعرفني ؟ فقال : نعم أنت الذى لقيتني بمكة ، قال : فقلت : بلى قال في شرح مسلم : فيه صحة الجواب ببلى ، وإن لم يكن قبلها نفي ، وصحة الإقرار بها ، قال : وهو الصحيح من مذهبنا ، أي : مذهب الشافعية .
وإن قال : اقض دين عليك ألفاً ، أو : هل لي : أو لي عليك ألف ؟ فقال : نعم فقد أقر له ، لأن نعم صريحة في تصديقه .
أو قال : أمهلني يوماً ، أو حتى أفتح الصندوق فقد أقر ، لأن طلب المهلة يقتضي أن يالحق عليه .
أو قال : له علي ألف إن شاء الله فقد أقر له به . نص عليه .
أو : إلا أن يشاء الله فقد أقر له به ، لأنه علق رفع الإقرار على أمر لا يعلمه ، فلا يرتفع .
أو قال : له علي ألف ، لا تلزمني إلا أن يشاء
زيد : فقد أقر له بالألف ، لما تقدم .(2/358)
وإن علق بشرط لم يصح ، سواء قدم الشرط ، كـ : إن شاء زيد فله علي دينار أو : إن قدم زيد فلعمرو علي كذا ، لأنه لم يثبت على نفسه شيئاً في الحال ، وإنما علق ثبوته على شرط ، والإقرار إخبار سابق ، فلا يتعلق بشرط مستقبل، بخلاف تعليقه على مشيئة الله عز وجل : فإنها تذكر في الكلام تبركاً وتفويضاً إلى الله تعالى ، كقوله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ الفتح : 27] وقد علم الله أنهم سيدخلونه بلا شك . وقال القاضي : يكون إقراراً صحيحاً ، لأن الحق الثابن في الحال . لا يقف على شرط مستقبل ، فسقط الإستثناء . قاله في الكافي .
أو أخوه ، كـ : له علي دينار إن شاء زيد أو : قدم الحاج أو : جاء المطر : فلا يصح الإقرار ، لما بين الإخبار والتعليق على شرط مستقبل من التنافي .
إلا إذا قال : إذا جاء وقت كذا فله علي دينار : فيلزمه فى الحال
لأنه بدأ بالإقرار فعمل به ، وقوله : إذا جاء وقت كذا ، يحتمل أنه أراد المحل : فلا يبطل الإقرار بأمر محتمل .
فإن فسره بأجل أو وصية : قبل بيمينه لأن ذلك لا يعلم إلا منه ، ويحتمله لفظه . وقال في الكافي : وإن قال : له علي ألف إذا جاء رأس الشهر : كان مقراً ، لأنه بدأ بالإقرار ، وبين بالثاني المحل . وإن قال : إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف : فليس بإقرار ، لأنه بدأ بالشرط ، وزخبر أن الوجوب إنما يوجد عند رأس الشهر ، والإقرار لا يتعلق على شرط . انتهى .
ومن ادعى عليه بدينار ، فقال : إن شهد به زيد فهو صادق : لم يكن مقراً لأن ذلك وعد بتصديقه له في شهادته لا تصديق .
باب فيما إذا وصل بالإقرار ما يغيره
إذا قال : له علي من ثمن خمر ألف : لم يلزمه شئ لأنه أقر بثمن خمر ، وقدره بالألف ، وثمن الخمر لا يجب .
وإن قال : له علي(2/359)
ألف من ثمن خمر : لزمه وكذا إن قال : له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه ، أو ألف لا تلزمني ، أو من مضاربة ، أو وديعة تلفت ، وشرط علي ضمانها ، ونحو ذلك ، لأن ما ذكر بعد قوله : علي ألف رفع لجميع ما أقر به فلا يقبل ، كاستثناء الكل .
ويصح استثناء النصف فأقل لأنه لغة العرب . قاله الله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً [ العنكبوت : 14] قال أبو إسحاق الزجاج : لم يأت الإستثناء إلا في القليل من الكثير ، فلو قال : مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلماً بالعربية .
فيلزمه عشرة في قوله
له علي عشرة إلا ستة لبطلان الإستثناء .و يلزمه خمسة في قوله
ليس لك علي عشرة إلا خمسة لأنه استثناء النصف ، والإستثناء من النفي إثبات
بشرط أو لا يسكت ما يمكنه الكلام فيه أو يأتي بكلام أجنبي بين المستثنى منه ، والمستثنى ، لأنه إذا سكت بينهما، أو فصل بكلام أجنبي : فقد استقر حكم ما أقر به ، فلم يرفع ، بخلاف ما إذا اتصل ، فإنه كلام واحد .
وأن يكون من الجنس والنوع أي : جنس المستثنى منه ونوعه .
فله علي هؤلاء العبيد العشرة إلا واحداً فاستثناؤه
صحيح لوجود شرائطه ، لأنه إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ بموضوعه ،
ويلزمه تسعة ويرجع إليه في تعيين المستثنى ، لأنه أعلم بمراده ، فلو ماتوا أو قتلوا أو غصبوا إلا واحداً ، فقال : هو المستثنى قبل منه ذلك بيمينه .(2/360)
وله علي مائة درهم إلا ديناراً : تلزمه المائة ولم يصح الإستثناء في إحدى الروايتين . اختارها أبو بكر ، لأنه استثناء من غير الجنس ، وغير الجنس ليس بداخل في الكلام ، وإنما سمي استثناءً تجوزاً ، وإنما هو استدراك ، ولا دخل له في الإقرار ، لأنه إثبات للمقر به ، فإذا ذكر الإستدراك بعده كان باطلاً . وعنه : يصبح . اختارها الخرقي ، لأن النقدين كالجنس الواحد ، لاجتماعهما في أنهما قيم المتلفات ، وأروش الجنايات ، ويعبر بأحدهما عن الآخر ، وتعلم قيمته منه ، فأشبه النوع الواحد بخلاف غيرهما .
وله هذه الدار إلا هذا البيت قبل ولو كان أكثرها أي : الدار ، لأن الإشارة جعلت الإقرار فيما عدا المستثنى فالمقر به معين ، فوجب أن يصح .
لا إن قال : إلا ثلثيها ، ونحوه كـ : إلا ثلاثة أرباعها ، فلا يصح ، لأن المستثنى شائع ، وهو أكثر من النصف .
وله الدار ثلثاها ، أو عارية ، أو هبة ، عمل بالثاني وهو قوله : ثلثاها ، أو عارية ، أو هبة ، ولا يكون إقراراً ، لأنه رفع بآخر كلامه ما دخل في أوله ، وهو بدل بعض في الأول ، واشتمال فيما بعده ، لأن قوله : له الدار ، يدل على الملك ، والهبة بعض ما يشتمل عليه ، كأنه قال : له ملك الدار هبة ، كقوله سبحانه يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه [ البقرة : 217] فهو في معنى الإستثناء في كونه إخراجاً للبعض ، ويفارقه في جواز إخراة أكثر من النصفت . قاله في الكافي .
ويصح الإستثناء من الإستثناء لقوله تعالى : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته [ الحجر : 58- 59- 60] فمن قال عن آخر : له علي سبعة إلا ثلاثة ، إلا درهماً : لزمه خمسة ، لأن الإستثناء إبطال ، والإستثناء منه رجوع إلى موجب الإقرار .
فصل
ومن باع أو وهب أو عتق عبداً ، ثم أقر به لغيره لم يقبل إقراره : لأنه إقرار غيره . وكذا لو ادعى بعد البيع ونحوه أن المبيع رهن ، أو أم ولد ونحوه مما يمنع صحة التصرف .(2/361)
ويغرمه للمقر به لأنه فوته عليه بتصرفه فيه .
وإن قال : غصبت هذا العبد من زيد لا بل من عمرو فهو لزيد ، لإقراره له به ، ولا يقبل رجوعه عنه ، لأنه حق آدمي ، ويغرم قيمته لعمرو .
أو : ملكه لعمرو ، وغصبته من زيد : فهو لزيد لإقراره باليد له ،
ويغرم قيمته لعمرو لإقراره له بالملك ، ولوجود الحيلولة بالإقرار باليد لزيد .
وغصبته من زيد ، وملكه لعمرو : فهو لزيد لإقراره باليد له ،
ولا يغرم لعمرو شيئاً لأنه إنما شهد له به ، أشبه ما لو شهد له بمال بيد غيره .
ومن خلف ابنين ومائتين ، فادعى شخص مائة دينار على الميت ، فصدقه أحدهما ، وأنكر الآخر : لزم المقر نصفها أي : المائة لإقراره بها على أبيه ، ولا يلزمه أكثر من نصف دين أبيه ، لأنه يرث نصف التركة ، ولأنه يقر على نفسه وأخيه فقبل على نفسه دون أخيه ،
إلا أن يكون المقر
عدلاً ، ويشهد ، ويحلف معه المدعي . فيأخدها وتكون المائة
الباقية بين الإثنين كما لو شهد بها غير الإبن ، وحلف المدعي .
باب الإقرار بالمجمل
وهو : ما احتمل أمرين فأكثر على السواء ، وقيل : ما لا يفهم معناه عند إطلاقه ضد المفسر .
إذا قال : له علي شئ وشئ أو كذا وكذا صح إقراره ،
وقيل له : فسر ويلزمه تفسيره . قال في الشرح : بغير خلاف .
فإن أبى حبس حتى يفسر لأنه امتنع من حق عليه فحبس به ، كما لوعينه وامتنع من أداءه . وقال القاضي : إذا امتنع من البيان قيل للمقر له : فسره أنت ، ثم يسأل المقر ، فإن صدقه ثبت عليه ، وإن أبى جعل ناكلاً ، وقضي عليه . قاله في الكافي .(2/362)
ويقبل تفسيره بأقل متمول لأنه شئ وكذا تفسيره بحد قذف ، وحق شفعة ، لأنه حق عليه ، ولا يقبل تفسيره بميتة نجسة ، وخمر وخنزير ، لأنها ليست حقاً عليه ، ولا برد سلام ، وتشميت عاطس ، ونحوه ، لأن ذلك لا يثبت في الذمة ، ولا بغير متمول ، كقشر جوزة ، وحبة بر ونحوهما ، لمخالفته لمقتضى الظاهر ، ولأن إقراره اعتراف بحق عليه ، وهذا لا يثبت في الذمة ، لأنه مما لا يتمول عادة .
فإن مات قبل التفسير : لم يؤاخذ وارثه بشئ ولو خلف تركة ، لاحتمال أن يكون حد قذف .
و : له علي مال عظيم ، أو خطير ، أو كثير ، أو جليل ، أو نفيس : قبل تفسيره بأقل متمول لأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه ، ويحتمل أنه أراد عظمه عنده ، لقلة ماله ، وفقر نفسه ، ولأنه لا حد له شرعاً ولا لغة ولا عرفاً ، ويختلف الناس فيه : فقد يكون عظيماً عند بعض حقيراً عند غيره .
وله دراهم كثيرة قبل تفسيره
بثلاثة دراهم فأكثر ، لأن الثلاثة أقل الجمع ، وهي اليقين ، فلا يجب ما زاد عليها بالإحتمال .
و : له علي كذا وكذا درهم بالرفع أو النصب : لزمه درهم أما في الرفع : فلأن تقديره : شئ هو درهم ، فالدرهم : بدل من كذا ، والتكرار للتأكيد لا يقتضي زيادة ، كأنه قال : شئ شئ : هو درهم . والتكرار مع الواو بمنزلة قوله : شيئان ، هما : درهم ، لأنه ذكر شيئين ، وأبدل منهما درهماً . وأما في النصب : فالدرهم : ممير لما قبله ، فهو مفسر ، والدرهم الواحد يجوز أن يكون تفسيراً لشيئين : كل واحد بعفو درهم . اختاره ابن حامد ، والقاضي. واختار التميمي : يلزمه درهمان ، لأنه ذكر جملتين فسرهما بدرهم فيعود التفسير إلى كل واحد منهما . قاله في الكافي . وقال بعض النحاة : هو منصوب على القطع كأنه قطع ما أقر به ، وأقر بدرهم .(2/363)
وإن قال : بالجر أو : وقف عليه : لزمه بعض درهم ، ويفسره لأنه في الجر مخفوض بالإضافة ، فالمعنى : له بعض درهم . وإذا كرر يحتمل أن يكون إضافة جزء إلى جزء ، ثم أضاف الجزء الأخير إلى الدرهم . وفي الوقف يحتمل أنه مجرور ، وسقطت حركته للوقف .
و : له علي ألف ودرهم ، أو ألف ودينار ، أو ألف وثوب ، أو ألف إلا ديناراً : كان المبهم في هذه الأمثلة ونحوها
من جنس المعين لأن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى ، كقوله تعالى : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً [ الكهف : 25] والمراد : تسع سنين فاكتفى بذكره في الأول ولأنه ذكر مبهماً مع مفسر ، ولم يقم الدليل على أنه ليس من جنسه فوجب حمله عليه . وأما الإستثناء فلأن العرب لا تستثني الإثبات إلا من الجنس ، فمتى علم أحد الطرفين علم الآخر ، كما لو علم المستثنى منه . ويقال : الإستثناء معيار العموم . وأما إن قال : مائة وخمسون درهماً ، واحد وعشرون درهماً فالكل دراهم . قال في الشرح : بغير خلاف نعلمه . انتهى ، لقوله : تسع وتسعون نعجة [ ص من الآية : 23] و أحد عشر كوكباً [ يوسف : 4]
فصل
إذا قال : له علي ما بين درهم وعشرة : لزمه ثمانية لأنها ما بينهما ، وذلك هو مقتضى لفظه .
ومن درهم إلى عشرة لزمه تسعة .
أو : بين درهم إلى عشرة : لزمه تسعة لأنه جعل العشرة غاية ، وهي غير داخلة . قال الله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ البقرة : 187] بخلاف ابتداء الغاية : فإنه داخل في معناه .
و : له علي
درهم ، قبله درهم ، وبعده درهم ، أو : درهم ودرهم ودرهم : لزمه ثلاثة دراهم ، لأن قوله قبله ، وبعده ألفاظ تجري مجرى العطف ، لأن معناها الضم فكأنه أقر بدرهم ، وضم إليه الآخرين ، ولأن قبل وبعد يستعملان للتقديم والتأخير في الوجوب ، فيحمل عليه .
وكذا : درهم درهم درهم يلزمه ثلاثة دراهم ،(2/364)
فإن أراد التأكيد : فعلى ما أراد أي : قبل منه ذلك ، لأنه قابلة للتأكيد ، لعدم العاطف .
و : له درهم بل دينار : لزمه لأن الإضراب رجوع عما أقر به لآدمي ، ولا يصح فيلزمه كل منهما .
و : له درهم في دينار : لزمه درهم لأنه المقر به فقط ، وقوله : في دينار لا يحتمل الحساب ، ويجوز أن يريد : في دينار لي .
فإن قال : أردت العطف أي : درهم ودينار ونحوه ،
أو معنى : مع كـ : درهم مع دينار
لزماه أي : الدرهم والدينار ، كما لو صرح بحرف العطف أو بمع .
و : له درهم في عشرة : لزمه درهم لإقراره به ، وجعله العشرة محلاً له ، ولأنه يحتمل : في عشرة لي .
ما لم يخالفه عرف بلد المقر ، واستعمالهم
فيلزمه مقتضاه أي : عرفهم واستعمالهم
أو يريد الحساب ، ولو جاهلاً : فيلزمه عشرة دراهم ، لأنها حاصل الضرب عندهم .
أو يريد الجمع : فيلزمه أحد عشر لأنه أقر على نفسه بالأغلظ ، وكثير من العوام يريدون بهذا اللفظ هذا المعنى ، أي : درهم مع عشرة .
و : له تمر في جراب ، أو سكين في قراب ، أو ثوب في منديل : ليس بإقرار الثاني لأن إقراره لم يتناول الظرف، فيحتمل أنه أراد : في ظرف لي ، ولأنهما شيئان متغايران لا يتناول الأول منهما الثاني ، ولا يلزم أن يكون الظرف والمظروف لواحد ، والإقرار إنما يكون مع التحقيق لا مع الإحتمال .
و : له خاتم فيه فص ، أو سيف بقراب : إقرار بهما لأن الفص جزء من الخاتم ، أشبه ما لو قال : ثوب فيه علم . والباء في قوله : بقراب : باء المصاحبة ، فكأنه قال : سيف مع قراب ، بخلاف : تمر في جراب ، فإن الظرف غير المظروف .
وإقراره بشجرة ليس إقراراً بأرضها لأن الأصل لا يتبع الفرع ، بخلاف الإقرار بالأرض ، فإنه يشمل غرسها وبناءها ،
فلا يملك غرس مكانها لو ذهبت لأنه غير مالك للأرض . قال في الفروع : ورواية مهنا : هي له بأصلها ، فإن ماتت ، أو سقطت لم يكن له مرضها ،
ولا أتجرة على ربها(2/365)
ما بقيت وليس لرب الأرض قلعها ، وثمرتها للمقر له ، والبيع مثله .
وله علي درهم ، أو دينار : يلزمه أحدهما ، ويعينه ويرجع إليه في تعيينه ، كسائر المجملات .
إذا اتفقا على عقد من بيع أو إجارة أو غيرهما ، وادعى أحدهما فساده نحو : إنه كان حين العقد صبياً ، أو غير ذلك ،
والآخر صحته أي : العقد ، ولا بينة
فقول مدعي الصحة بيمينه على المذهب . نص عليه في رواية ابن منصور ، لأن الظاهر وقوع العقود على وجه الصحة دون الفساد . قاله في القواعد . وقال الشيخ تقي الدين : وهكذا يجيء في الإقرار ، وسائر التصرفات إذا اختلفا : هل وقعت بعد البلوغ ، أو قبله ؟ لأن الأصل في العقود الصحة ، مثل دعوى البلوغ بعد تصرف الولي ، أو تزويج ولي أبع منه لموليته . انتهى .
وإن ادعيا شيئاً بيد غيرهما شركة بينهما بالسوية ، فأقر لأحدهما بنصفه : فالمقر به بينهما بالسوية ، لاعترافهما أنه لهما على الشيوع فيكون الذاهب منهما ، والباقي بينهما .
ومن قال بمرض موته : هذا الألف لقطة فتصدقوا به ، ولا مال له غيره : لزم الورثة الصدقة بجميعه ، ولو كذبوه في أنه لقطة . قاله القاضي ، لأن أمره بالصدقة به يدل على تعديه فيه على وجه يلزمه الصدقة بجميعه ويقتضي زنه لم يملكه ، فيكون إقراراً لغير وارث فيجب امتثاله ، كإقراره في الصحة . وقال أبو الخطاب : يلزمهم الصدقة بثلثها ، لأنها جميع ماله ، فالأمر بالصدقة بها وصية بجميع المال : فلا يلزم منها إلا الثلث . قدمه في الكافي .
ويحكم بإسلام من أقر بالشهادتين ،
ولو مميزاً لأن علياً ، رضي الله عنه ، أسلم وهو ابن ثمان سنين وتقدم . وقال البخاري : وكان ابن عباس مع أمه من المستضعفين ، ولم يكن مع أبيه على دين قومه وقد صح عنه ، صلى الله عليه وسلم أنه عرض الإسلام على ابن صياد صغيراً متفق عليه .(2/366)
أو قبيل موته بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله لما في الصحيح أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عرض الإسلام على أبي طالب ، وهو في النزع وعن ابن مسعود أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، دخل الكنيسة ، فإذا هو بيهود ، وإذا يهودي يقرأ عليهم التوراة ، فلما أتوا على صفة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أمسكوا ، وفي ناحيتها رجل مريض ، فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : ما لكم أمسكتم ؟ فقال المريض : إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا ، ثم جاءه المريض يحبو ، حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وأمته فقال : هذه صفتك وصفة أمتك أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لأصحابه : لوا أخاكم رواه أحمد .
اللهم اجعلني من أقر بها مخلصاً في حياته ، وعند مماته ، وبعد وفاته ، واجعل اللهم هذا خالصاً لوجهك الكريم ، وسبباً للفوز لديك بجنات النعيم ، وصلى الله وسلم على أشرف العالم ، وسيد بن آدم ، وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين ، وعلى آل كل وصحبه أجمعين ، وعلى أهل طاعتك من أهل السموات وأهل الأرضين ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله .
وهذا آخر ما تيسر من شرح هذا الكتاب ، والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وأسأله حسن الخاتمة والمتاب ، وأن يتقبل ذلك بمنه وكرمه ، وهذا ما قدر العبد عليه ، ومن أتى بخير منه فليرجع إليه ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه الفقير إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان لنفسه ، ولمن شاء الله من بعده .
11 صفر سنة 1322 غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين ، آمين(2/367)