من كتاب هدم المنارة
الأحاديث التي يستشهد بها القبوريون
الحديث الأول:
وهو ما أخرجه البخاري في "الصحيح" (فتح: 2 /494):
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، قال: سمعت ابن عمر يتمثل يشعر أبي طالب:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثِمال اليتامى عصمة للأرامل
وقال عمر بن حمزة: حدثنا سالم، عن أبيه:
ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:
وأبيض يُستسقي الغمام بوجهه ثِمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب.
قال المؤلف ( (ص: 116): (وهو نص صريح في توسل ابن عمر رضي الله عنهما بذاته ).
قلت: هذه مجازفة، فليس في الخبر ما يدل على ذلك البتة، والشعر في نفسه لا يدل على أنهم كانوا يستسقون بوجه وذات عبد المطلب، وإنما كان يخرج هو بنفسه فيستسقي لهم، ويدعو الله لهم وهو ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية عمر بن حمزة، فإنه قد ورد فيها: »ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستقي«.
فدلت هذه العبارة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقي، وهذا مقتضاه الدعاء، فلا أدري أين التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم ؟! فإن كان يقصد المؤلف أنه قد وقع من ابن عمر، فمحال؛ لأنه إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، وهم يؤمنون على دعائه، ويبعد كل البعد، أن يفارق ابن عمر التأمين على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لكي يدعو منفرداً، ويتوسل بجاهه، هذا أمر.
وأمر آخر فهذا الشعر لا يدل على التوسل بالجاه، وإنما ذُكر فيه الوجه، وهو كناية على الاستقبال بالدعاء، لا التوسل بالجاه، فتنبه إلى هذا المعنى.
الحديث الثاني
وهو ما أخرجه البخاري في "الصحيح" (فتح: 2/494) من طريق: ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس:(1/1)
أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال:
اللهم! إنا كنَّا نتوسل إليك بنبينا فتسقنا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون.
قال المؤلف:
(وهو صريح في التوسل بالصالحين، لاسيما إذا كانوا من أهل البيت النبوي عليهم السلام، قال الحافظ في "الفتح" (2/497): "ويُستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيه فضل العباس، وفضل عمر لتواضعه للعباس، ومعرفته بحقه").
قلت: هذا الكلام منتقض بأن الأثر وإن كان صريحاً في التوسل بالصالحين، إلا أن توسلهم كان على غير الهيئة المبتدعة التي يروِّج لها المؤلف، من التوسل بالجاه، وإنما كانت بالتوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر جداً من مجموع الأحاديث الواردة في الاستسقاء.
وقد أخرج البخاري في "الصحيح" (1/295)، ومسلم (2/614)، والنسائي (3/166) من طريق: الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس – رضي الله عنه – قال: أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة، قام أعرابي، فقال: يا رسول الله! هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه، وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده! ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي – أو قال: غيره – فقال: يا رسول الله! تهدّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه، فقال: "اللهم! حوالينا ولا علينا"… الحديث.(1/2)
فدلَّ هذا الحديث دلالة قوية ظاهرة على أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم كان توسلاً بدعائه، لا بجاهه، وهذا ظاهر من قوله: »فادع الله لنا«، ولو كان التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم مشروعاً لما تأخروا في ذلك لاسيما مع عظم المصيبة أولاً بالقحط، وأخراً بالهدم والغرق.
فكان توسل الصحابة بعده عليه السلام في حادثة القحط بدعاء العباس، لا بجاهه، كما سوف يأتي تقريره بدليله.
وأما استدلال المؤلف بقول الحافظ ابن حجر السابق ذكره فهو من باب التدليس، فإن الحافظ لم يستدل بهذا الحديث على جواز التوسل بالجاه، وإنما استدل به على جواز الاستشفاع بأهل الخير، والاستشفاع لا يأتي بمعنى التوسل بالجاه، وإنما يأتي بمعنى التوسل بالدعاء كما سوف يأتي تقريره قريباً إن شاء الله تعالى.
ثم إن قصة عمر في توسله بالعباس – رضي الله عنهما – لا تدل بحال أنه كان توسلاً بجاهه، بل هو على اليقين توسلاً بدعائه جرياً على ما كانوا يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم، من التوسل بدعائه.
وقد نقل الحافظ في الفتح ما يدل على ذلك، فقال (2/577):
» وقد بيَّن الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر، قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال، حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس «.
قلت: فهذا دليل ظاهر على ما ذكرنا وتؤيد هذه الرواية ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (3/92) من حديث ابن عباس: أن عمر استسقى بالمصلى، فقال للعباس: قم فاستسق، فقام العباس، فقال: - فذكر فيه دعاءً آخر.
إلا أن سنده ضعيف جداً، فهو من رواية إبراهيم الأسلمي، وهو واهٍ.
وقد حمل البيهقي هذا الأثر على ما حملناه عليه، فبوَّب له في "السنن الكبرى" (3/52):(1/3)
[ باب: الاستسقاء بمن تُرجى بركة دعائه ].
وكذا فعل الموفق المقدسي – رحمه الله – فقال في "المغني" (2/439):
» ويُستحب أن يُستسقى بمن ظهر صلاحه، لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء، فإن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر: استسقى عمر عام الرمادة بالعباس، فقال: اللهم! إن هذا عم نبيك صلى الله عليه وسلم، نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله عز وجل، وروي أن معاوية خرج يستسقي فلما جلس على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فقام يزيد، فدعاه معاوية، فأجلسه عند رجليه، ثم قال: اللهم! إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود، يا يزيد! ارفع يديك، فرفع يديه ودعا الله تعالى، فثارت إلى الغرب سحابة مثل الترس، وهب لها ريح، فسقوا حتى كادوا لا يبلغون منازلهم، واستسقي به الضحاك مرة أخرى «.
قلت: أثر معاوية مع يزيد الجرشي، أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (7/2/155): أخبرت عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر الخبائزي، أن السماء قحطت مخرج معاوية… فذكره بنحوه.
قلت: وهذا سند صحيح لولا ما فيه من الانقطاع بين ابن سعد وبين أبي اليمان الحكم ابن نافع.
وهذا يدل على أن المستقر عند أهل العلم في فهم هذا الأثر وأشباهه التوسل بالدعاء، لا التوسل بالجاه.
وإن كان توسلاً بجاه، فما كان عمر في حاجة إلى تقديم العباس للدعاء، وإنما كان يكفيه أن يدعو هو متوسلاً بجاه العباس، ولا اعتبار حينئذ بوجوده أو عدم وجوده، وإن كان الأمر كذلك فقد كان حريًّا بعمر – رضي الله عنه – أن يتوسل بجاه النبي × لأفضليته، فلما لم يقع ذلك، ثبت القول بأنه كان توسلاً بالدعاء، لا بالجاه.(1/4)
ودلَّ أثر معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – في توسله بيزيد بن الأسود الجرشي أنه توسل بدعائه، لا بجاهه، هذا مع تقدم معاوية في الفضل على يزيد، لكونه من الصحابة، من جهة، ومن جهة أخرى فهو خال المؤمنين، ومن كُتَّاب الوحي.
وقد وقعت رواية واهية لهذا الأثر عند الطبراني في "الدعاء" (221)، والحاكم في "المستدرك" (3/334) من طريق:
الزبير بن بكار، حدثني ساعدة بن عبيد الله المزني، عن داود بن عطاء المدني، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، أنه قال:
استسقى عمر عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم! هذا عم نبيك العباس، نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله، قال: فخطب عمر الناس، فقال: أيها الناس! إن رسول الله × كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده، يعظمه، ويفخمه، ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله × في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله عز وجل فيما نزل بكم.
قال الذهبي في "تلخيص المستدرك":
"هو في جزء البانياسي بعلو، وصح نحوه من حديث أنس، فأما داود فمتروك".
قلت: قد وهاه الأئمة، فقال البخاري وأبو زرعة: "منكر الحديث"، وقال أحمد: "ليس بشيء"، وقال الدارقطني: "متروك".
وأما المؤلف، فقد أورد هذا الأثر، وهوَّن من ضعفه لكي يسوغ له الاحتجاج به بمجموع الطرق، فقال (ص: 119):
(فيه داود بن عطاء المدني، ضعيف، وقد ضعّفه به الذهبي في تلخيص المستدرك، وأما الحاكم فلم يتكلم عليه).
قلت: هكذا لتكن الأمانة في النقل والوصف!! فإنه لم ينقل عبارة الذهبي – رحمه الله – لئلا تنكشف حيلته في تقوية هذه الرواية برواية أخرى هي عنده من قبيل الضعف المحتمل، وفي حقيقة أمرها هي مضطربة، وفيها نكارة.
وهذه الرواية الثانية هي التي أشار إليها ابن حجر في "الفتح" (2/577)، وعزاها إلى البلاذري، من طريق: هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، فقال: عن أبيه، بدلاً عن "ابن عمر".
قال الحافظ: "فيحتمل أن يكون لزيد فيه شيخان".(1/5)
وقد تلقَّف المؤلف هذه العبارة من الحافظ، فقال (ص: 120): (واحتمال الحافظ قوي وله نظائر).
قلت: يا للعجب! من هذه المغالطات، بل قول الحافظ لا يُعرَّج عليه بحال، ولا يُشتغل به إلا على وجه التعجب، فكيف يكون لزيد فيه شيخان، والأثر الأول لا يصح عن زيد من أصله، ومثله الأثر الثاني، فإن هشام بن سعد هذا ضعيف، عامة أهل العلم على تضعيفه، بل قال ابن معين: "ليس بشيء".
إلا أنه دون داود بن عطاء في الضعف، فإن داود بن عطاء شديد الضعف، ولا تنفعه المتابعة بحال، فإنه منكر الحديث متروكة.
وعليه فالأصح رواية هشام بن سعد، وهي مردودة أيضاً، فمرد الخبر إلى وجه واحد بهذا اللفظ.
ثم وجدت ما يدل على تناقض المؤلف، فإنه قال عقب ما نقلناه عنه:
(والعجب أن الألباني لم يذكر هذا الاحتمال القوي في توسله! ولذلك وجه آخر: وهو أن هشام بن سعد من رجال مسلم، فالقول قوله).
فدلَّ ذلك على أنه نقض تقويته لكلام الحافظ، بترجيحه لرواية هشام بن سعد، ورواية هشام بن سعد هذه لم يورد الحافظ متنها حتى يُتبين إن كان منها محل الشاهد.
وعلى التسليم له بصحة هذه الرواية، فلا مجال للاستدلال بها على جواز التوسل بالجاه، وذلك لأن الخبر صريح في أنه توسل به لمكانته من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا محمول على تقديم التوسل به حيًّ لا ميتاً، إذ لو كان ميتاً لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالتقديم منه لعلو منزلته، وسمو مكانته عند الله تعالى على سائر الأنبياء، فكيف بمقارنته بسائر البشر؟!
وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا مجال للقول بأن التوسل به حيًّا هو توسل بجاهه؛ لأنه إذا كان كذلك، فيجب تقديم التوسل بجاه النبي × وإن كان ميتاً، فإن جاهه عظيم عند الله تعالى حيًّا وميتاً، وما كان الله تعالى يقدِّم عليه أحداً من البشر في التفضيل والمكانة حيًّا أو ميتاً، في حياته أو في موته، فإذا تقرر ذلك، فلا مجال إلا القول بتوسلهم بدعائه – رضي الله عنه -.(1/6)
وبذلك يتبين لك وهاء ما احتج به المؤلف على جواز التوسل بالجاه من حيث السند تارة، ومن حيث وجه الدلالة تارة أخرى.
وأما ما ختم به المؤلف بحثه في هذا الحديث من كلامه الساقط (ص: 121):
(وفيه أيضاً أن التوسل كان بالعباس، وليس بدعائه، بدليل قول عمر: واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم، فالضمير يعود على شخص العباس قولاً واحداً، إلا عند أهل التحريف).
فهذا من باب الشغب والتهويل، فإن الضمير وإن كان عائداً على العباس – رضي الله عنه-، إلا أن تقدير الكلام يكون:
"واتخذوه وسيلة إلى الله بدعائه"، كما أيدته بعض الروايات التي سبق ذكرها، وكما استقر عند الصحابة في هذا المعنى، وكما رجحه أهل العلم كالبيهقي والموفق- رحمهما الله – من أن التوسل بالدعاء لا بالجاه، ولما ذكرناه من أن على القائل بأن التوسل الذي توسل به عمر بالعباس إذا كان توسل بالجاه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى به وإن كان ميتاً، مما يدل على أن التوسل لم يكن بالجاه إلا في عقول أهل التخريف.
الحديث الثالث
وهو حديث عثمان بن حنيف – رضي الله عنه -:
أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم! إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي، اللهم! فشفعه فيَّ.
وهذا الحديث أخرجه أحمد (4/138)، والترمذي (3578)، والنسائي في "اليوم والليلة" (663و 664)، وابن ماجة (1385) بسند صحيح، وإن كان في طرقه بعض الاختلاف.
إلا أن هذا الحديث حجة عليه فيما ادعاه من جواز التوسل بالجاه وهذا ظاهر جداً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، ومن جواب الرجل عليه: "فادعه".(1/7)
فإن التوسل هنا مختص بالدعاء، ويؤيده قول الرجل في دعائه: "اللهم! فشفعه فيَّ"، وهذا مقتضاه حصول الدعاء من النبيصلى الله عليه وسلمإلى ربه لأجل هذا الرجل في محنته.
لأن مقتضى الشفاعة ومعناها: الدعاء والطلب للغير.
قال ابن منظور في "لسان العرب" (4/2289):
"وروي عن المبرد وثعلب أنهما قالا في قوله تعالى: ] مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) قالا: الشفاعة: الدعاء ها هنا، والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، وشفع إليه: في معنى طلب إليه... ".
قلت: وهذا يؤيده:
ما رواه الشيخان (البخاري: 4/385، ومسلم: 1/180) من طريق: قتادة، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه -:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يجمع الله المؤمنين يوم القيامة، كذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم أما ترى الناس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا عند ربك، حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناك... ".
فهذا ظاهر جداً على أن الاستشفاع لا يكون توسلاً بالجاه، وإنما هو بالدعاء، فلو كان بالجاه لكفاهم أن يتوسلوا بجاه أحد الأنبياء دون الحاجة إلى التردد بين الأنبياء جميعاً، كما ورد في متن الحديث، وهذا لم يقع منهم، ومن ثَمَّ فلا شفاعة بغير دعاء أو طلب أو سؤال.
ولكن احتج المؤلف على أن الاستشفاع المذكور هنا والتوسل مختص بالجاه بما أخرجه الطبراني في "الصغير" (الروض الداني: 508).
حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري التميمي، حدثنا أصبغ بن الفرج، حدثنا عبد الله بن وهب، وعن شبيب بن سعيد المكي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف:(1/8)
أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان – رضي الله عنه – في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف، فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين، ثم قل: اللهم! إني أسألك، وأتوجه إليك بنبينا نبي الرحمة، يا محمد! إني أتوجه بك إلى ربك ربي جل وعز، فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إليَّ حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له عثمان، ثم أتى باب عثمان، فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: حاجتك، فذكر حاجته، فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إليَّ حتى كلمته فيَّ، فقال عثمان بن حنيف: والله! ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير..... فذكر الحديث المرفوع.
قال الطبراني:
"لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي، وهو ثقة، وهو الذي يحدِّث عنه ابن أحمد بن شبيب، عن أبيه، عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة، عن أبي جعفر الخطمي، واسمه عمير بن يزيد، وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمر بن فارس، عن شعبة، والحديث صحيح، وروى هذا الحديث عون بن عمارة، عن روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، وهم فيه عون بن عمارة، والصواب حديث شبيب بن سعيد".
قلت: لا معارضة فيما حكم به الطبراني رحمه الله بالصحة على الحديث، إلا أن تلك القصة الموقوفة هي محل النظر، فقد تفرد بها شيخ الطبراني، طاهر بن عيسى بن قيرس، وهو في عداد المجاهيل، فقد تفرد الطبراني بالرواية عنه، ولم يتعرض له أحد بجرح أو تعديل، وإنما ذكره الذهبي في "تاريخ الإسلام" (وفيات: 291 – 300هـ) (ص:169).(1/9)
وأما المؤلف، فقال (ص: 127):
(من علل الحديث بجهالة شيخ الطبراني أبعد جداً عن معرفة الحديث، وغاير قواعده، فإن القصة الموقوفة تفرّد بها شبيب، ثم رواها عن شبيب ثلاثة، ورواها عن الثلاثة المذكورين ثلاثة آخرون، وعنهم آخرون، فلم يتفرد أحد برواية القصة إلا شبيب، فلا مدخل لشيخ الطبراني هنا فتأمل.
قد صحح الطبراني الحديث، وتصحيحه يعني توثيق رجال إسناده، ومنهم شيخه طاهر بن عيسى المصري وهو أعلم به من غيره).
قلت: وهذا الكلام فيه مغالطات من وجوه:
الأول: أن هذه القصة الموقوفة قد تفرد بها شيخ الطبراني طاهر بن عيسى، ولم يتابعه عليها إلا من هو في مثل حاله.
وإنما رواه ثلاثة عن شبيب، أحدهم ابن وهب من طريق طاهر بن عيسى، والآخران هما:
1- أحمد بن شبيب بن سعيد، عن أبيه.
أخرجه الحاكم (1/526)، وابن السني في "اليوم والليلة" (628)، باللفظ المرفوع فقط دون الموقوف، وثمة رواية أخرى زعم المؤلف أنها موقوفة، وسوف يرد الرد عليه فيها.
2- إسماعيل بن شبيب، عن أبيه.
أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة " (6/167) من طريق:
محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي القفال، قال: أنبأنا أبو عروبة، حدثنا العباس بن الفرج، حدثنا إسماعيل بن شبيب بالحديث المرفوع، والقصة الموقوفة أيضاً.
قلت: وإسماعيل هذا ليس له ذكر في كتب التراجم، ولا ذُكر ضمن الرواة عن شبيب ابن سعيد، ولم يذكر المترجمون لشبيب أن له ابناً اسمه إسماعيل.
وفي هذا السند محمد بن علي بن إسماعيل، الشاشي القفال، وهو من كبار الشافعية وأئمتهم، إلا أن من ترجمه لم يذكر فيه ما يدل على ضبطه، وجل عنايته كانت بالفقه، وهو مبرَّز فيه، فلعله وقع منه الوهم في هذا السند.
ثم تبين لي بعد ذلك أنه قد وهم فيها ولا ريب، فقد خالفه في هذه الرواية ابن السني في "اليوم والليلة" (628)، وهو حافظ كبير، فرواه عن أبي عروبة به، وقال: حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، باللفظ المرفوع فقط، هذا من جهة.(1/10)
ومن جهة أخرى فالرواية بالقصة الموقوفة معلولة من كل وجه.
فأما رواية ابن وهب التي عند الطبراني في الصغير، فقد خولف فيها شيخ الطبراني طاهر بن عيسى بن قيرس.
خالفه عبد المتعال بن طالب، حدثنا ابن وهب، عن أبي سعيد، عن روح بسنده، دون القصة الموقوفة.
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/3/210).
وعبد المتعال بن طالب هذا من الثقات، وترجمته في "التهذيب" مبسوطة.
وكذلك فرواية أحمد بن شبيب تؤيد القول بالوقف، لأنه على فرض التسليم بأن ابن وهب قد رواه باللفظ الزائد، فأحمد بن شبيب أوثق من ابن وهب في أبيه، يدل على ذلك ما ذكره ابن عدي في ترجمته من "الكامل" (4/1346)، قال:
"حدَّث عنه ابن وهب بالمناكير".
وإنما كان يحدِّث ابنه أحمد من نسخة صحيحة من كتب أخيه.
قال ابن المديني – رحمه الله – كما في "الكامل":
"شبيب بن سعيد بصري، ثقة كان يختلف في تجارة إلى مصر وكتابه كتاب صحيح، قال علي: وقد كتبها عنه – في المطبوعة: عن وهو تصحيف – ابنه أحمد بن شبيب".
الثاني: أن تصحيح الطبراني للحديث لا يقتضي توثيق رجاله، لأنه إنما حكم بالصحة على الحديث، وهذا حكم عام، لا على هذا السند خاصة، وفرق بين الحكم بالصحة على الحديث، وبين الحكم بالصحة على السند، فكل حديث صحيح لا يقتضي أن يكون رواته في عموم الأسانيد والمتابعات ثقات، بل ربما ورد من بعض الطرق الضعيفة أو الواهية، فهذا الوصف (حديث صحيح) مختص بالمتن، أي أنه ثابت، وهذه مسألة بديهية عند أهل العلم بالحديث، وقد أشار إليها العلماء في مصنفاتهم، وعلى رأسهم الإمام مسلم – رحمه الله – حينما أنكر عليه أبو زرعة الرازي – رحمه الله – إخراج حديث جماعة من الضعفاء في "جامعه الصحيح"، فأجاب عن ذلك كما في "تاريخ بغداد" (4/274) بسند صحيح، قال:(1/11)
"إنما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إليّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات".
فبيَّن أن وصف الحديث بالصحة لا يقتضي أن يكون السند المروي به رواته من الثقات، لأن هذا حكم متعلق بالمتن.
وانظر ما علَّقه ابن الصلاح في "علومه" (ص:38)، وما أورده الحافظ في "النكت" (1/474) على هذه المسالة.
الثالث: أن الطبراني إنما قال: "والحديث صحيح"، وهذا ينصرف إلى تصحيح المتن المرفوع وحده دون القصة الموقوفة، لأنه لا يُقال للموقوف: حديث، بل يُقال فيه: أثر، وربما يُطلق عليه خبر، وأما الحديث فهو مختص بالمرفوع.
وتبقى مغالطة أخرى وقع فيها المؤلف، وهي جعله الاختلاف في الحديث على أحمد ابن شبيب من باب تحديث الراوي الحديث على وجهين، فقال (ص: 139):
(وجواب هذا الاختلاف الذي ارتآه الألباني فقط: أن أحمد بن شبيب كان يحدِّث الحديث بطوله، وفيه قصة مجيء الرجل لعثمان بن عفان – رضي الله عنه – حدَّث بذلك الحافظ الثقة المتقن يعقوب بن سفيان الفسوي كما في دلائل النبوة للبيهقي (6/168).
وكان أحمد أحياناً أخرى لا ينشط، فيقتصر على أصل الحديث فقط، أخرج ذلك ابن السني والحاكم، فكان ماذا؟ والرجل، أي أحمد ثقة، اللهم إلا التعنت والتعصب).
قلت: وهذا الكلام ظاهر الفساد على مذهب المحققين من أهل الحديث، فإنهم يرجحون في مثل هذه الحالات من الاختلاف بالحفظ والكثرة.
وهذه الرواية التي أشار إليها المؤلف هي ما أخرجه البيهقي عقب رواية إسماعيل بن شبيب، فقال:
أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، أنبأنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد... فذكره بطوله، وهذه زيادة ألحقتها به في شهر رمضان سنة أربع وأربعين.(1/12)
ولو تدبر القارئ الكريم قول البيهقي: "وهذه زيادة ألحقتها به في شهر رمضان سنة أربع وأربعين" لظهر له أن إيراد هذه الزيادة من هذا الوجه إنما هو من تصرف البيهقي – رحمه الله -، لا أن هذه الزيادة من أصل الحديث، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فعلى تسليم الأمر بأن الزيادة من أصل هذا الطريق، فلا بد من الترجيح بالقرائن.
فممن رواه عن أحمد بن شبيب بغير هذه الزيادة:
1- محمد بن علي بن زيد الصائغ.
عند الحاكم (1/526).
2- العباس بن فرج الرياشي، والحسين بن يحيى الثوري.
عند ابن السني (628).
وهؤلاء الثلاثة اثنان منهم من الثقات، والثالث لم أقف له على ترجمة، وقد خالفهم يعقوب بن سفيان – على فرض التسليم للمؤلف بهذا -، وقد رجح المؤلف رواية يعقوب على رواية الجماعة، وقال (ص:140):
(1 ـ هؤلاء الثلاثة الذين قال عنهم: ثقات إذا أضيف إليهم مثلهم لم يرجحوا على الإمام الحافظ العلم يعقوب بن سفيان الفسوي، فهو ثقة، وفوق الثقة، وقد قال أبو زرعة الدمشقي: قدم علينا رجلان من نبلاء الناس أحدهما وأرجلهما يعقوب بن سفيان، يعجز أهل العراق أن يروا مثله رجلاً.
ومن المعروف أن الشيوخ إذا خالفهم حافظ، يرجح قول الحافظ على الشيوخ، فالقول قول الحافظ، وإن اجتمع الشيوخ عليه، ويعقوب الفسوي إمام حافظ، وفوق الحافظ).
قلت: وهذه محاولة عجيبة في ترجيح رواية يعقوب بن سفيان علي رواية الأكثر، وهذا مخالف للقواعد الحديثية.
وكون الراوي من الحفاظ، أو وصف بعضهم له بالحفظ فهذا لا يقتضي الإتقان والضبط، وكم من راوٍ وصف أنه من الحفاظ وكان متكلماً في حفظه، وربما في عدالته، كسليمان الشاذكوني، وعثمان بن مقسم البري، وعثمان بن أبي شيبة، ونحوهم.
وليست هذه محاولة للطعن في الإمام الحافظ يعقوب الفسوي، وإنما هذا تقرير لبعض ما تغاضى عنه المؤلف.(1/13)
وأما أن رواية الحافظ تُقدَّم على رواية الشيوخ، فهذا على وجه الانفراد، أما على وجه الاجتماع، فرواية الشيوخ الثقات تؤيد بعضها بعضاً، وترجح على رواية الحافظ بالكثرة؛ لأنه إنما وصف بالحفظ لكثرة روايته وسعتها، وأما الضبط فهم جميعاً مشتركون فيه، لاسيما وأن الحديث من جميع طرقه ورد بالرواية الناقصة المرفوعة، دون الرواية الموقوفة.
ثم قال المؤلف (ص: 141):
(2- العباس بن فرج روى الوجهين، فقد أسند القصة عن إسماعيل بن شبيب، عن أبيه، أخرجها البيهقي في "دلائل النبوة"، فوافق الحجة العلم يعقوب بن سفيان الفسوي).
قلت: قد تقدَّم إعلال هذه الرواية بالمخالفة، وهي رواية منكرة بذكر إسماعيل هذا، والحمل فيها على الفقيه الشاشي، وقد خالف ابن السني الحافظ الكبير، كما تقدَّم ذكره وبيانه.
ويبقى الآن الكلام على رواية شاذة أخرى، نافح عنها المؤلف منافحة المستميت لإثبات صحتها، وهي:
ما أخرجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه":
حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا أبو جعفر الخطمي، عن عمارة ابن خزيمة، عن عثمان بن حنيف – رضي الله عنه -: أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
إني أُصبت في بصري، فادع الله لي، قال:
"اذهب فتوضأ، وصلِّ ركعتين، ثم قل: اللهم! إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد! إني استشفع بك على ربي في ردِّ بصري، اللهم! فشفعني في نفسي، وشفِّع نبيي في ردِّ بصري، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك".
وهذه الرواية كان قد أعلها العلاَّمة الألباني – حفظه الله – في "التوسل" (ص:83) تبعاً لشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "التوسل والوسيلة" (ص:102) بتفرد حماد بن سلمة بزيادة:
"وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك".
وهي محل الشاهد الذي احتج به المؤلف على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد حشد المؤلف كل ما يملك في إبطال هذا الإعلال.(1/14)
والصواب: أن الحمل في هذا الحديث ليس على حماد بن سلمة – رحمه الله -، وإنما هو على من رواه عنه، وهو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو وإن كان من الثقات، إلا أنه قد خالفه من هو أوثق منه في الضبط، وهو حبان بن هلال الباهلي البصري، فرواه عن حماد بن سلمة بسنده ومتنه، دون هذه الزيادة.
أخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (663).
وحبان بن هلال وثقة ابن معين، والترمذي والنسائي، وقال أحمد: "إليه المنتهى في التثبت بالبصرة"، وقال البزار: "ثقة مأمون على ما يحدث به"، وقال الخطيب: "كان ثقةً ثبتاً".
ويؤيد هذه الرواية رواية شعبة لهذا الحديث دون هذه الزيادة.
ثم وجدت متابعة لحبان بن هلال عند البخاري في "التاريخ الكبير" (2/3/209) من رواية: شهاب بن عباد العبدين، عن حماد به دون الزيادة.
وشهاب بن عباد من شيوخ الشيخين، وهو ثقة رضي.
فهذا يدل على شذوذ الزيادة.
ولا يُقعقع بما قعقع به المؤلف، من أن الزيادة من الثقة مقبولة، فهذا المذهب مذهب جماعة الفقهاء، وأما المحققين من أهل الحديث لاسيما المتقدمين فلا يقبلون الزيادة إلا من الثقة الحافظ الثبت، بل منهم من لا يقبل الزيادة من الحافظ إن كانت تفيد حكماً زائداً، حتى يتابع عليها، كما توقف الإمام أحمد في زيادة: "من المسلمين" في حديث صدقة الفطر الذي يرويه الإمام مالك من حديث ابن عمر، حتى تابعه عليها العمريان، والمسألة فيها تفصيل كبير محله كتب المصطلح.
الحديث الرابع
وهو ما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (24/352) قال: حدثنا أحمد بن حماد ابن زغبة، حدثنا روح بن صلاح، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك، قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عند رأسها، فقال:
"رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة".(1/15)
ثم أمر أن تُغسّل ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور، سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه، فألبسها إياه، وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، وأبا أيوب الأنصاري، وعمر بن الخطاب، وغلاماً أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيهن ثم قال:
"الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين".
وكبَّر عليها أربعاً، وأدخلوها اللحد، هو والعباس، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم.
ومن طريقة أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/121)، وقال:
"غريب من حديث عاصم والثوري لم نكتبه إلا من حديث روح بن صلاح، تفرد به".
ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/269).
قال المؤلف (ص: 148):
(وهو حديث حسن).
قلت: هذا الحكم فيه مجازفة كبيرة، فقد تفرد روح بن صلاح بهذا الحديث عن سفيان الثوري، ولم يشاركه أحد من أصحاب سفيان الثقات الحفاظ فيه، وعلى التسليم للمؤلف أن روح هذا صدوق حسن الحديث فلا يُقبل منه مثل هذا التفرد عن الثوري، بل عد مسلم مثل هذا التفرد منكراً، فقال في مقدمة "الصحيح" (1/7):
"فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه، وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس".(1/16)
فهذا على فرض التسليم للمؤلف بأن روح هذا صدوق، وأما على التحقيق، فهو ضعيف الحديث، لا يقوم بما تفرد به حجة، لاسيما إن كان فيه مثل هذه النكارة اللائحة على السند والمتن.
وروح هذا ضعّفه ابن عدي في "الكامل" (3/1005) وأورد له حديثين منكرين، وقال: "في بعض حديثه نكرة".
وقال الدارقطني: "ضعيف في الحديث"، وقال ابن ماكولا: "ضعفوه"، وقال ابن يونس: "رويت عنه مناكير".
وأما ابن حبان فأورده في الثقات جرياً على قاعدته، وقال الحاكم: "ثقة مأمون".
وقد تمسك المؤلف بقول الحاكم، وبذكر ابن حبان له في "الثقات"، وبرواية يعقوب بن سفيان الفسوي عنه استدلالاً على ثقته وضبطه، بل اعتبر ما ورد فيه من جرح مبهماً، ولا يعتد بالجرح المبهم إذا خالفه التوثيق.
وهذه مغالطات مجتمعة، وتدليسات مجموعة لا تنطلي على من اشتغل بعلم الحديث الشريف.
بل أقول: إن طريقته هذه في تقوية المناكير ليس فيها شيء من النزاهة التي يجب على طالب العلم – فضلاً عن طالب الحديث – أن يتحلى بها، والإنصاف من أهم ما يجب على طالب الحديث أن يترسمه في خطاه في التصحيح والتضعيف، فإن الأمر صعب، ويُخشى على مثل هذا أن يندرج تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
فمن هذه المغالطات:
اعتداده بذكر ابن حبان له في الثقات، وابن حبان من المشهورين بالتساهل، إلا أن يرد في عبارته ما يدل على أنه قد سبر حال الراوي، وهذا منتف في ترجمته لروح بن صلاح، فقد قال في "الثقات" (8/244):
"روح بن صلاح: من أهل مصر، يروي عن يحيى بن أيوب، وأهل بلده، روى عنه محمد بن إبراهيم البوشنجي، وأهل مصر".
فهذا لا يدل بحال على أنه قد سبر حاله، بل في هذه الترجمة ما يدل على أن حديثه هذا من جملة مناكيره، وهو أنه قد روى عن أهل مصر، وروى عنه أهل مصر، وهذا الحديث إنما يرويه عن الثوري، وفي هذا غرابة ظاهرة، وقد أشار إلى ذلك أبو نعيم في "الحلية" كما تقدَّم.(1/17)
وأما الحاكم فهو أشد تساهلاً من ابن حبان.
وقد نقل السيوطي في "التدريب" (1/108) عن الحافظ العراقي قوله: "الحاكم أشد تساهلاً منه".
وقد عقد الحافظ ابن حجر – رحمه الله – فصلاً في مقدمة "اللسان" (1/25) في بيان تساهل ابن حبان في مذهبه في التعديل، وأن ذلك قائم عنده بمجرد ارتفاع جهالة العين، وقال الحافظ:
"والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات الذي ألفه".
إلا أن المؤلف قد حاول جاهداً على إعمال توثيق ابن حبان ومثله توثيق الحاكم، فقال (ص: 151):
(فتوثيق ابن حبان على قسمين نصَّ عليهما في مقدمة ثقاته:
فالأول: من اختلف فيه علماء الجرح والتعديل، فإذا ثبت عنده أنه ثقة أدخله في ثقاته، وإلا فأودعه كتابه الآخر.
الثاني: من لم يُعرف بجرح ولا تعديل، وكان كل من شيخه، والراوي عنه ثقة، ولم يأتِ بحديث منكر، فهو ثقة عنده، ولم ينفرد ابن حبان بذلك المذهب، ولكن هذا النوع من الرواة عند الجمهور يكون مجهول الحال.
وأما نسبة التساهل إليه فبالنظر للنوع الثاني فقط، فإهدار توثيق ابن حبان مطلقاً خطأ، ولا تصح نسبة التساهل إليه مطلقاً..
إذا علم ذلك، فإن رد توثيق ابن حبان لروح بن صلاح بدعوى تساهله فيه نظر، فروح بن صلاح روى عنه يعقوب بن سفيان الحافظ، ومحمد بن إبراهيم البوشنجي الفقيه الحافظ، وأحمد بن حماد بن زغبة صاحب النسائي الثقة، وأحمد بن رشدين، وابنه عبد الرحمن، وعيسى بن صالح المؤذن، وفيه جرح وتعديل، وبعضهم سبق ابن حبان في الكلام عليه، كابن يونس).
قلت: وهذا الكلام المذكور منتقض في حق روح بن صلاح، فكون أن ابن يونس أن ابن عدي قد تقدَّما ابن حبان بجرحه، فليس بالضرورة أنه قد وقف على جرحهما له، ولم يرد ما يدل على ذلك البتة، ولو صح أنه قد وقف على جرحهما له، فلا يمنع هذا أن جرحهما مقدَّم على توثيقه، ولا يدفع عنه الوصف بالتساهل في التعديل، وجَعْلُ ما تقدَّم نقله عن المؤلف قاعدة مطردة فيه نظر كبير.(1/18)
وأما توثيق الحاكم، فقال المؤلف (ص:153):
(تساهل الحاكم خاص بالحكم على الأحاديث في المستدرك... أما كلامه في غير المستدرك فكغيره من الأئمة النقاد).
قلت: وهذا أيضاً منازع فيه، وهي دعوى مجردة، ويدرؤها قول الحازمي: "ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم".
وهذا على العموم، لا على خصوص كتابيهما في الحديث.
وبتتبع سؤالات مسعود بن علي السجزي للحاكم، والتي ورد فيها توثيق روح بن صلاح يظهر تساهل الحاكم – رحمه الله -.
وأنا أضرب على ذلك بعض الأمثلة:
1- أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، قال الحاكم (20):
"كثير السماع والطلب، متقن فيه، من بيت الحديث والزهد والتصوف".
قلت: هو متكلم فيه، قال محمد بن يوسف القطان: "كان يضع الحديث للصوفية"، وقال الذهبي: "ليس بعمدة".
2- محمد بن ثابت البناني، قال الحاكم (33):
"لا بأس به، فإنه لم يأتِ بحديث منكر، لكن الشيخين لم يخرجاه، وهو عزيز الحديث، أسند خمسة عشر حديثاً".
قلت: عامة أهل العلم على ضعفه، بل قال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال أبو حاتم: "منكر الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به"، وقال البخاري: "فيه نظر".
3- عبد العزيز بن يحيى المدني، قال الحاكم (127):
"صدوق لم يُتهم في رواياته عن مالك".
وقد أنكر عليه الذهبي – رحمه الله – هذا القول ، فقال في "الميزان" (2/636):
"كذا قال بسلامة باطن".
قلت: قد كذبه إبراهيم بن المنذر الحزامي، وقال أبو حاتم: "ضعيف"، وقال البخاري: "يضع الحديث".
4- حسين بن قيس الرحبي، قال الحاكم (187):
"بصري ثقة".
قلت: هو متفق على وهائه وسقوطه، وانظر ترجمته من "التهذيب" (2/313-314).
وبعد؛ فهذه الأمثلة تدل ولا شك على تساهل الحاكم – رحمه الله – في التوثيق، ومخالفته للجمهور في مواضع كثيرة.(1/19)
وعلى فرض التسليم للمؤلف بأن ما وقع للحاكم من التساهل إنما هو في "المستدرك" وحده، فهذا لا يمنع من تأخير قوله بتوثيق روح بن صلاح، لكونه خالف الأكثر ممن جرحوه، بل هذا الحديث الذي هو قيد البحث لأدل دليل على قلة ضبط روح لاسيما وقد تفرد به عن الثوري دون باقي أصحابه، وتفرد بمتن فيه نكارة ظاهرة.
وأما احتجاج المؤلف على توثيق روح بن صلاح برواية الفسوي عنه فهذا من باب المجازفة، والحشد بغير تحقيق.
قال المؤلف (ص: 148):
(وروى عنه يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ، فهو ثقة عنده، قال الفسوي: كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات).
قلت: هذا التنصيص فيه نظر، لأن الرواية في ذلك منكرة.
وقد أوردها الحافظ المزي – رحمه الله – في "تهذيب الكمال" (32/324) من رواية:
عبد الله بن عمر بن عبد الله بن الهيثم الأصبهاني، حدثنا أبو بكر الحافظ، قال: سمعت أبا عبد الرحمن النهاوندي الحافظ يقول: سمعت يعقوب بن سفيان، يقول: كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات.
وقد استنكر الحافظ الذهبي هذه القصة، فقال في "السير" (13/181):
"قلت: ليس في مشيخته إلا نحو من ثلاثمائة شيخ، فأين الباقي، ثم في المذكورين جماعة قد ضُعِّفوا".
قلت: الحمل فيها على عبد الله بن عمر الأصبهاني، فإنه في عداد مجهولي الحال، وقد ترجمه الذهبي في "السير" (20/576)، ولم يورد فيه جرحاً ولا تعديلاً، فلا يصح الاحتجاج برواية الفسوي عن روح بن صلاح على توثيقه له.
وبهذا يظهر للقارئ الكريم ما يغالط به المؤلف القراء حتى يتسنى له إثبات مذهبه في هذه المسألة.
الحديث الخامس
وهو ما أخرجه البزار (كشف الأستار: 845):
حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله، عن النبي ×، قال:
"إن لله ملائكة سياحيين يبلغوني عن أمتي السلام".
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/20)
"حياتي خير لكم، تُحدثون، ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم، يُعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم".
قال البزار:
" لا نعلمه يُروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد".
قلت: قد أورد المؤلف هذا الحديث في كتابه، مدافعاً عن صحته، وابتدأ كلامه عليه ببتر الجزء الأول من الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سياحيين يبلغوني عن أمتي السلام".
وذلك ليروج على القراء الكرام بأن هذا حديث مستقل بذاته، ومن ثم فلا يجوز إعلاله بالمخالفة.
فهذا الحديث قد أخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (66) من طريق: عبد الله بن المبارك، عن الثوري، بسنده بالشطر الأول فقط دون الشطر الثاني من الحديث، الذي هو محل الشاهد عند المؤلف.
وتابع ابن المبارك وكيع وعبد الرزاق ومعاذ بن معاذ عند النسائي في "المجتبى" (3/43) باللفظ الناقص.
وتابعهم أبو إسحاق الفزاري عنده في "الكبرى" كما في "التحفة" (7/21).
وهؤلاء من الحفاظ الأثبات الثقات، ومن كبار أصحاب الثوري، وقد خالفهم عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وهو وإن كان ثقة إلا أنه قد روى بعض الأحاديث التي غلط فيها، وخالف الثقات، منها الحديث الفرد المعروف الصحيح: "إنما الأعمال بالنيات..".
وهو لا يُقارن بهؤلاء في الحفظ والتثبت والتقدم في الثوري، فهذا يدل دلالة قوية على شذوذ هذا الحرف.
إلا أن المؤلف قد ساغ له اعتبار أن هذا المتن حديث آخر، لا زيادة من زيادات الحديث، والجواب عن ذلك:(1/21)
بأن عبد المجيد وسائر أصحاب الثوري لا يروون عنه صحيفة، فيقال: إن بعضهم قد روى هذا الحديث، ولم يرو الآخر، ورواهما عبد المجيد معاً، كما هو الحال مثلاً في صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة، وإنما هذا الحديث مما تعلقوه عنه سماعاً، وهمم الأصحاب متوافرة على رواية حديث الشيخ، ولا يظن بأن عبد المجيد بن أبي رواد تعلو همته فيروي هذا الحديث بهذا اللفظ الزائد، وتفتر همم أصحاب الثوري في روايته.
وحتى على تسليم الأمر للمؤلف بأن هذه الزيادة حديث مستقل، فهو أيضاً معلول بتفرد عبد المجيد به دون باقي أصحاب الثوري، وقد تقدَّم النقل عن الإمام مسلم – رحمه الله – ما يدل على هذه القاعدة.
وكذلك فالحديث من هذا الوجه بهذه الزيادة قد تفرد بها البزار – رحمه الله -، وهو وإن كان من الحفاظ العارفين بالعلل والرجال، إلا أنه متكلم في حفظه وضبطه بما لا يجوز رده، وقد حدَّث بالمسند بمصر من حفظه فأخطأ في أحاديث كثيرة.
قال أبو أحمد الحاكم: "يخطئ في الإسناد والمتن"، وقال الدارقطني: "يخطئ في الإسناد والمتن، حدَّث بالمسند بمصر حفظاً، ينظر في كتب الناس، ويحدِّث من حفظه، ولم يكن معه كتب، فأخطأ في أحاديث كثيرة، جرحه النسائي، وهو ثقة يخطئ كثيراً".
وللحديث شواهد ثلاثة ذكرها المؤلف، وهي:
الأول: مرسل بكر بن عبد الله المزني.
أخرجه إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" (ص: 38 و39) بسند صحيح.
الثاني: عن أنس بن مالك – رضي الله عنه -:
أخرجه المخلص في "الفوائد" بسند ساقط عن مالك بن دينار، عنه به.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/945) من وجه آخر من طريق: أبي سعيد العدوي، عن خراش بن عبد الله، عن أنس به.
وقد أغفل المؤلف الكلام على علة ضعف هذا السند، وهو وهاء خراش هذا، قال الذهبي:
"ساقط عدم، ما أتى به غير أبي سعيد العدوي الكذاب".
الثالث: عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، بنحوه.(1/22)
وقد عزاه المؤلف إلى أبي جعفر الطوسي في أماليه تبعاً لشيخه أحمد بن الصديق الغماري في "الاكتفاء في تخريج أحاديث الشفاء"، وأعلّه بوهاء أحد رواته.
فمما سبق يتبين أن الحديث لا يصح من أي وجه من الوجوه، كما لا يصح تقوية طرقه بعضها ببعض، وإن كان مرسل بكر المزني صحيحاً لأن باقي الطرق ما بين ساقطة، أو ملفقة، أو شاذة.
إلا أن المؤلف قد خالف القواعد الحديثية، وأبعد القول بإلزام الشيخ الألباني – حفظه الله – بتقوية مرسل بكر المزني بحديث ابن مسعود – رضي الله عنه – فقال (ص: 168):
(قد تقرر أن الحديث المرسل يتقوى بأمور، منها إذا ورد هذا المرسل من طريق آخر موصول ضعيف تقوى المرسل به، وصار من باب الحسن لغيره، وبه تقوم الحجة، ويلزم العمل به، وإذا كان الموصول الذي فيه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد من قسم الضعيف كما ارتآه الألباني – دفعاً بالصدر! – فإن المرسل الصحيح إذا ضُمَّ إليه صار من قسم الحسن المقبول الذي يجب العمل به اتفاقاً.
ولم أجد مبرراً عند الألباني يبعده عن إتباع القواعد الحديثية هنا إلا التعنت، وإتباع الهوى في رد مثل هذه الأحاديث).
قلت: هذه مغالطة بيِّنة أراد بها المؤلف النيل من العلاَّمة الألباني – حفظه الله -، فإن خبر ابن مسعود من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ضعفه غير محتمل، بل ضعفه شديد، لأنه شاذ، ومن شروط التقوية التي وضعها الترمذي وتبعه عليها أكثر أهل العلم أن لا يكون الحديث شاذًّا ولا معللاً.
ومن ثم فهذا يُظهر دقة نظر الألباني – حفظه الله – في عدم تقوية المرسل بخبر ابن أبي رواد من رواية ابن مسعود، والله أعلم.
هذا من جهة.
ومن جهة أخرى؛ فليس ثمة دلالة من هذا الحديث على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما غايته إثبات فضل حياته صلى الله عليه وسلم، وفضل مماته على المسلمين.
الحديث السادس(1/23)
وهو ما أخرجه أحمد (3/21)، وابن ماجه (778)، وابن خزيمة في "التوحيد" (1/42)، والطبراني في "الدعاء" (421) من طريق: فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم! إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ أقبل الله عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك".
وقد حسَّن المؤلف إسناد هذا الخبر، موافقة للحافظ الدمياطي، وأبو الحسن القدسي شيخ المنذري، والعراقي، والحافظ ابن حجر.
قلت: وهذه مجازفة، وقد حاول الحافظ ابن حجر – رحمه الله – دفع الضعف عن عطية العوفي في "نتائج الأفكار" (1/271)، فقال:
"ضعف عطية إنما جاء من قبل التشيع ومن قبل التدليس، وهو في نفسه صدوق، وقد أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأخرج له أبو داود أحاديث ساكتاً عليها، وحسَّن له الترمذي عدة أحاديث بعضها في أفراده".
قلت: وهذا الكلام منتقض من وجوه:
أولها: أن الحافظ نفسه قد وصفه في "التقريب" بقلة الضبط، فقال: "صدوق يخطئ كثيراً".
والخطأ الكثير لا تعلق له بالتدليس، ولا بالتشيع، بل هو متعلق بالضبط ولا شك.
ثانيها: أن تعليق ضعفه بالتشيع وبالتدليس تنقضه أقوال أهل العلم فيه.
ثالثها: أن إخراج أبي داود لأحاديثه وسكوته عليها لا يرقي أمره، لأنه قد تكلم عليه بما يغني عن الإعادة في "السنن"، فقد قال فيه" "ليس بالذي يُعتمد عليه".(1/24)
رابعها: أن تحسين الترمذي لحديثه لا يعني تقوية أمره، فالترمذي قد يحسن أحاديث جماعة من الضعفاء، وقد أشار إلى ذلك الحافظ في "النكت"، بل إخراجه لأفراده وتحسينه لها يدل دلالة قوية على أنه أراد بذلك المعنى اللغوي، لا الاصطلاحي، إذ لو كان الاصطلاحي للزم توفر شروطه التي اشترطها الترمذي، ومنها أن يرد من غير وجه، فلما كان من أفراده دلَّ على أنه أراد بذلك معنىً آخر غير الاصطلاح.
وقد دلَّت كلمات الحفاظ الكبار وأئمة الشأن على ضعف ووهاء العوفي، أما المؤلف فقد تناولها بالتأويل تارة، وبالطعن فيها أخرى، وبلي عنقها ثالثة حتى يتسنى له توثيق العوفي.
وأنا أذكر هنا – إن شاء الله تعالى – أقوال أهل العلم في تجريح عطية العوفي، وما تناولها به المؤلف، والرد عليه في ذلك.
1- قال البخاري في "التاريخ الأوسط" (1/412):
قال علي: عن يحيى: عطية، وأبو هارون العبدي، وبشر بن حرب عندي سواء، وكان هُشيم يتكلم فيه يعني عطية.
قلت: علي هو ابن المديني، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وليس ابن معين كما ظنه المؤلف.
قال المؤلف (ص: 208):
(معناه – والله أعلم – أنهم سواء في الطبقة والمذهب، فهم من شيعة التابعين، ويشتركون في الرواية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وكيف يسوي يحيى بن معين بين أبي هارون العبدي، وعطية العوفي، وقد قال عن أولهما: غير ثقة، وكان يكذب، بينما وثق الثاني ورفع شأنه).
قلت: المؤلف أحق بكلمته التي شان نفسه بها في كتابه (ص:220):
"لا أدري لماذا يسارع هؤلاء بالتصنيف؟ للدعاوي الفارغة، أم للتجارة البائرة".
وكان ينبغي للمؤلف قبل أن ينسب هذا القول أن يتأكد من نسبة يحيى الوارد في هذا الأثر، لاسيما مع وروده في "التاريخ" مهملاً.
وابن المديني إنما يروي عن يحيى بن سعيد القطان، ولم يذكر في الرواة عن ابن معين، ولا ذكر ابن معين في شيوخه، وإن كانا متعاصريْن.(1/25)
ومما يدل على أن يحيى هذا هو ابن سعيد ما نقله الحافظ في "التهذيب" (7/361) في ترجمة عمارة بن جوين أبي هارون العبدي:
"قال ابن المديني: عن يحيى بن سعيد، ضعفه شعبة".
فإذا علمت ذلك تبين لك أن التسوية بينهم في الضعف لا في الرواية عن أبي سعيد، فإنه لا وجه لمساواتهم في ذلك جميعاً، بل كلمة القطان أن هشيم كان يتكلم في عطية يدل على أن ذلك مختص بالرواية والأداء لا التشيع، ولذلك فقد بتر المؤلف هذه العبارة الأخيرة لكي لا يستبين القارئ الفَهِم حيلته وتدليسه.
2- وعن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، قال: كان سفيان الثوري يضعف حديث عطية، وسمعت أبي وذكر حديث عطية العوفي، قال: هو ضعيف الحديث.
وقد روى عبد الله في "العلل" (1307) عن أبيه، عن أبي أحمد الزبيري، قال: سمعت الثوري، قال: سمعت الكلبي قال: كناني عطية "أبا سعيد".
وقال الإمام أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي، فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه بأبي سعيد.
قلت: وهذا الطعن مفسر، وهو كاف كما قال العلامة الألباني لتهمة العوفي، لاسيما فيما يرويه عن أبي سعيد الخدري.
إلا أن المؤلف قد نحا منحىً عجيباً في ردِّ هذا التضعيف، فقال (ص: 184):
(أنت أيها القارئ المنصف إذا نظرت بعين الناقد المتجرد تجد أن أحمد قد ضعف عطية العوفي، ثم ذكر مستنده في تضعيفه وهي حكاية الكلبي، وهي سبب كلام هشيم في عطية، وحكى أحمد تضعيف الثوري لعطية بعد أن أسند البلاغ من طريق الثوري، فحكاية الكلبي هي أصل مستند الثوري أيضاً في تضعيفه عطية العوفي..
وهذا الذي اعتمدوا عليه فيه نظر، ولا يصح سنده، لأن مداره على محمد بن السائب الكلبي، وحاله معروف، فهو تالف متهم بالكذب، فالسند الذي يكون فيه ذلك الرجل لا يُنظر إليه ولا يُعتمد عليه في شيء، ومع ذلك فقد سارت الركبان بمقولته التالفة، وتوارد البعض على حكايتها..).(1/26)
قلت: ثمة فرق بين حكاية المتهم حكاية تقع موقع السرد والأداء، وبين حكايته ما يقع موقع الإقرار.
فحكم من راوٍٍ من الكذابين، قد تركه العلماء، ووهنوا أمره باعترافه بوضع الحديث، فهل ردوا اعترافه هذا بسبب كذبه؟
لا، لأن ذلك يقع موقع الإقرار، وإنما اعتمدوا قوله في إقراره هذا، لأن رده بجواز كذبه فيه؛ فيه فتح لأبواب السفسطة.
وقد أنكر الحافظ الذهبي – رحمه الله – في "الموقظة" (ص: 37) على شيخه ابن دقيق العيد في قوله:
"إقرار الراوي بالوضع، في رده ليس بقاطع في كونه موضوعاً، لجواز أن يكذب في الإقرار".
قال الحافظ الذهبي:
"هذا فيه بعض ما فيه، ونحن لو افتتحنا باب التجويز والاحتمال البعيد لوقعنا في الوسوسة والسفسطة".
قلت: هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الثوري يستحيل عليه، وكذا على من تبعه من علماء الأمة أن يتواطئوا على الخطأ في الاحتجاج بهذه الحكاية كما يزعم المؤلف، وإنما كان يعلم الثوري بصدق ما يرويه الكلبي من كذبه.
فقد أخرج ابن حبان في "المجروحين" (2/256) قال: قال لنا الثوري: اتقوا الكلبي، فقيل له: إنك تروي عنه؟ قال: أنا أعرف صدقه من كذبه.
ومن جهة ثالثة فإن اعتماد أهل الشأن لهذه الحكاية يؤكد صدقها لاسيما وأن الكلبي والعوفي على دين واحد تقريباً، فليس ثمة داع يدعوه إلى الافتراء عليه، لاسيما وأن الافتراء عليه في هذا الباب سوف يكون سبباً لهدر روايات العوفي عن أبي سعيد، والتي منها روايات الكلبي المدلَّسة.
ثم إن أهل الحديث قد اتفق عامتهم على جرحه وإن كان بمثل هذه الحكاية، واتفاقهم على الشيء حجة.
قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (2/156) في سماع حبيب بن أبي ثابت من عروة ابن الزبير:
"قال ابن أبي حاتم في كتاب "المراسيل":أهل الحديث اتفقوا على ذلك، قال: واتفاقهم على الشيء يكون حجة".
قلت: وأما المؤلف فقد رمى أئمة الحديث على مدى العصور بالخطأ، والتتابع على تضعيف حديث العوفي بغير حجة !! قال (ص:185):(1/27)
(ولم أجد من تنبه لهذا الخطأ من أهل الحديث إلا اثنين:
أولهما: الحافظ البارع أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي..
ثانيهما: الحافظ السيد أحمد بن الصديق الغماري..).
وكأن علماء الأمة اعتمدوا هذه الحكاية وحدها دون سبر حديثه، وتتبع رواياته، فوقع الثوري، والقطان، وأحمد، وهشيم، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وكل من ضعفه في هذا الخطأ وتابعهم عليه أئمة الحديث ممن جاءوا بعدهم، فلكأن الأمة اجتمعت على ضلالة والعياذ بالله، حتى أتى من لا يفرق بين يحيى القطان ويحيى بن معين فأزال عنهم الغمة!!
أقول: ومما يدل على أن هؤلاء العلماء إنما ضعفوا أحاديثه من قبل حفظه – أيضاً – بعد السبر:
3- أن الإمام البخاري – رحمه الله – قال في "الأوسط" (1/412):
وقال أحمد في حديث عبد الملك، عن عطية ، عن أبي سعيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تركت فيكم الثقلين" أحاديث الكوفيين هذه مناكير.
قلت: وهذا ظاهر على أن الإمام أحمد قد سبر حديثه، ولم يضعفه اعتماداً على رواية الكلبي وحدها.
إلا أن هذا النقل لم يسلم من تأويلات المؤلف، ولو سلمت نصوص الكتاب والسنة من تأويلاته وتأويلات مشايخه لسلم هذا النقل.
قال المؤلف (ص: 196) بعد أن أورد عبارة الإمام أحمد – رحمه الله- المتقدِّمة:
(قلت : النكارة لها معان: أحدها: مرادفة الشاذ، ثانيها: مخالفة الضعيف لمن هو أوثق منه، ثالثها: تفرد الضعيف الذي لا يُحتمل تفرده، ولا يوجد من يتابعه أو يشهد له، رابعها: كون المتن غريباً ومخالفاً للأصول مع ركاكة الألفاظ، خامسها: مطلق التفرد ولو بوجه من الوجوه.(1/28)
أما عن الأول: وهو مرادفته للشاذ، فلم يخالف عطية العوفي أحداً لا في متن ولا في إسناد ، وعن الثاني: فمثله، وعن الثالث: فالحديث ليس فرداً فلا ينطبق عليه، وعن الرابع: فإنه منتف تماماً هنا ف لاتعارض بينه وين غيره، بل هو مفيد للعلم، فلم يبق إلا الوجه الخامس: وهو مطلق التفرد من جهة عطية، عن أبي سعيد الخدري، وهذا الوجه يجب أن يحمل عليه قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى).
قلت: هذا الترجيح الذي رجحه المؤلف لا وزن له، لأن عطية قد تفرد بهذا الحديث عن أبي سعيد، وهو ضعيف عند الإمام أحمد كما تقدَّم النقل عنه، فالنكارة هنا بمعناها الاصطلاحي، وهو تفرد الضعيف بما لا يحتمل منه التفرد به.
وأما ذلك القيد الذي وضعه المؤلف في حد النكارة:
(ولا يوجد من يتابعه أو يشهد له).
ليس على إطلاقه، فليس كل متابعة تفيد، وأما الشاهد فقد يفيد من في حفظه ضعف يسير، وأما من في حال العوفي، فلا تقوية الشواهد.
وقد أعل غير واحد من أهل العلم أحاديثه التي يرويها، وليس الإمام أحمد وحده، أو ابن عدي وحده كما يروج المؤلف لتقوية حال العوفي هذا، وأنا أورد بعض ما حضرني في ذلك.
* الحافظ الذهبي – رحمه الله - :
أخرج الحاكم في "المستدرك" (4/222) حديثاً عن طريق العوفي، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة عليها الصلاة والسلام:
"قومي إلى أضحيتك، فاشهديها، فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها: يُغفر لك ما سلف من ذنوبك.. " الحديث.
قال الذهبي:
"عطية واه".
* الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
روى الفضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد: أن الخدري – رضي الله عنه – مرفوعاً:
"لو أن لابن آدم وادياً من مال لا بتغى إليه ثانياً.." الحديث.
قال السخاوي في الأجوبة المرضية" (1/187)، عقب أن أورد هذا الحديث: "وعطية ضعيف".
4 و 5 قال أبو زرعة: "ليِّن".
وقال أبو حاتم الرازي: "ضعيف الحديث، يكتبه حديثه".(1/29)
قال المؤلف (ص : 197):
(هذا من الجرح المبهم غير المفسر، فهو يرد كما تقرر في قواعد الحديث، وكما استقر العمل على ذلك، والأخذ في مقابل ذلك بالتعديل الوارد في عطية العوفي.. إن هذا الجرح غير المفسَّر في حقيقته يرجع إلى الأمرين اللذين ظُلم بسببهما، وهما التشيع والتدليس .... بقى أن تعلم أن أبا حاتم الرازي قد جاء عنه توثيق لعطية كما سيأتي إن شاء الله تعالى).
قلت: الجرح المبهم مردود إذا عارضه تعديل معتبر، وهذا منتف في حال العوفي هذا، فإن غالب من وثقه من المتساهلين كما سوف يأتي بيانه.
وأما ادعاؤه أن هذا الجرح بسبب التشيع والتدليس، فينقضه دلالة عبارة أبي حاتم، ووصف أبي زرعة، فهما مختصان بالضبط، لا بالتشيع ولا بالتدليس.
وأما توثيق أبي حاتم المزعوم، فقد احتج له المؤلف (ص: 209) بتمام عبارة أبي حاتم حين سئل عن عطية.
إلا أن المؤلف قد بتر العبارة عند ذكر الجرح ليتمكن من رد الجرح بالإبهام، ثم حرفها عند إثبات التعديل موهماً أن لأبي حاتم في الرجل قولين، فقال:
(قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن أبي نضرة، وعطية، فقال: أبو نضرة أحب إليَّ.
وهذا في حقيقته مقارنة بين ثقتين، فإن أبا نضرة المنذر بن مالك العبدي ثقة).
فانظر أيها القاريء الكريم إلى هذا التدليس والتحريف البيِّن لعبارة أبي حاتم، حتى يتمكن المؤلف من رد الجرح، بل وإثبات التعديل بالزور والبهتان.
فهذه العبارة مجتمعة كما نقلناها بنصها من "الجرح والتعديل" (1/3/383):
ضعيف الحديث، يكتب حديثه، وأبو نضرة أحب إليَّ من عطية.
تفيد ضعف عطية العوفي، بل وتدل على أن أبا حاتم قد صدر منه هذا الحكم بعد سبر وتتبع، وإلا فكيف يفاضل بينه وبين راو غيره إلا بالنظر في أحاديثهما.(1/30)
وعلى فرض التسليم للمؤلف في نقله، فإن المقارنة لا تدل على التوثيق، بل قد يوصف العالم الراوي بالثقة، وهو ضعيف من باب المقارنة، كما سوف يأتي بيانه قريباً، فكيف بهذه الحالة التي أثبت فيها أبو حاتم تقديم أبي نضرة على عطية، لا غير.
6- قال النسائي: "ضعيف".
7- وقال الساجي: "ليس بحجة، وكان يقدِّم عليً على الكل".
قلت : قد تناول المؤلف جرح الساجي هذا لعطية العوفي بالرد ، فقال (ص: 192):
(إن الساجي كان بصرياً، والبصريون كثر فيهم النصب، قال الحافظ في "اللسان" (4/439): النصب معروف في كثير من أهل البصرة.
وهم يفرطون فيمن تشيع لأنهم عثمانيون، وخاصة فيما كان بين أظهرهم، كذا في "التهذيب" (7/413).
والساجي – رحمه الله تعالى – كان شديداً متصلباً، فجرحه للكوفيين ينبغي التدقيق فيه، فإنه قد يجرح الرجل بسبب مذهبه كما حدث لعطية العوفي هنا، فإنه قال عنه: ليس بحجة، ثم أبان عن سبب قوله، فقال: وكان يقدِّم علياً على الكل، وإن كان الرجل شيعياً يقدِّم عليّاً على الكل، فلا بد أن يجرح عند المخالف لقوله، ولا يكون حجة عنده).
قلت: لم يوصف الساجي بالنصب، وإنما هو من أئمة أهل السنة والجماعة، وعنه أخذ الأشعري مقولة السلف في الصفات، ولم يتكلم عليه أحد بتصريح أو بتلميح، من قريب أو من بعيد بأنه ناصبي، أو أن فيه نصباً، وكون النصب معروفاً في كثير من أهل البصرة، فهذا لا يقتضي بحال أن يكون هو مذهب الساجي، والهمم متوافرة لنقل اعتقاده، لا سيما مع شهرته، وتقدمه في الحفظ والرواية، بل المشهور عنه أنه كان صلباً في السنة، فإن كانت الصلابة في السنة نصباً، فما سلم منه أحد من أهل السنة.(1/31)
وأما عبارته فلا تفيد أنه ضعفه لأجل التشيع، فإن الواو الفاصلة بين العبارتين تدل على العطف، لزيادة العلم، لا لتقرير سبب الجرح، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الساجي من أئمة الجرح والتعديل، وله كتاب في "الضعفا"، وقد اعتمد عليه ابن عدي في "كامله"، فهو أعلم من غيره بأن التشيع لا يضر الراوي إلا أن يكون داعيةً، ويروي ما يؤيد بدعته، وبذلك يظهر أن قوله: "ليس بحجة" متعلق بالضبط.
ومما ينبغي التنبيه عليه ما غالط به المؤلف اعتقاد أهل السنة والجماعة، مما يكنه في قلبه من التشيع الشديد، فقال (ص:192) في الحاشية تعليقاً على قول الساجي: "وكان يقدِّم علياً على الكل":
(وهذا مذهب عدد من الصحابة ، ذكرهم ابن عبد البر في الاستيعاب أثناء ترجمته لعلي عليه السلامن وفاته جماعة منهم (أبو جحيفة) انظر ترجمته في أسد الغابة).
قلت: قد تتبعت ما في ترجمة علي بن أبي طالب من "الاستيعاب" فلم أقف على مثل هذا الهراء، وحاشا الصحابة أن يقع منهم مثل هذه المخالفة التي يروج لها المؤلف، بل صح عن ابن عمر – رضي الله عنه – ما ينقضها.
فعند البخاري (3/8) من طريق : يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمرن قال:
كنا نخيِّر بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخيِّر ابا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان – رضي الله عنه-.
بل صح عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه قال:
ألا ولن يبلغني عن أحد يفضلني عليهما – أي أبي بكر وعمر – إلا جلدته حد المفترى.
أخرجه أبو إسحاق الفزاري في "السير" (ص: 327) – ومن طريقه الخطيب في "الكفاية" (ص:44) – بسند حسن.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "المذكِّر " (18)، والعشاري في "فضائل أبي بكر" (39) بسند فيه ضعف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في "مجموع الفتاوى" (4/421):(1/32)
"أما تفضيل أبي بكر، ثم عمر على عثمان وعلي: فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، والليث بن سعد، وأهل مصر، والأوزاعي، وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة، وأمثالهم من أهل العراق، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وإسحاق، ,أبي عبيد، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة، وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك، فقال: ما أدركت أحداً ممن أقتدي به يشك في تقديم أبي بكر وعمر".
وأما المؤلف فقد جعل حب العوفي لعلي سبباً لطعن أهل العلم فيه ، ومن ثم تضعيفه، بل زاد الطين بلة فوصفهم – بإطلاق بأنهم نواصب، قال (ص:193):
(ومما زاد في جرحهم لعطية أنه كان محباً لعلي بن أبي طالب عليه السلام بحيث عرض النواصب عليه سبه فأبى، وكان هذا ينبغي أن يحسب له، ولكن للنواصب شدة وصوله.
قال ابن سعد في "الطبقات" (6/403):
خرج عطية مع ابن الأشعث، فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم أن يعرضه على سب علي، فإن لم يفعل فاضربه أربع مائة سوط، وأحلق لحيته، فاستدعاه، فأبى أن يسب، فأمضى حكم الحجاج فيه).
قلت : هذا الجرح الذي أطلقه المؤلف أراد به كل من جرح عطية العوفي بما فيهم أئمة الشأن كالإمام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم والساجي وغيرهم، والتشيع معروف مشهور فيه وفي مشايخه ومن أتصل بهم كالسقاف البغيض المبتدع الأثيم، وطعنهم في معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – وفي أهل السنة مشهور، لا يخفى على طلاب العلم.
وأما الحكاية التي اعتمدها فلا يصح الاحتجاج بها، لأن ابن سعد لم يورد مستنده فيها، ثم إن اعتماد ابن سعد الأول على الواقدي المتهم الكذاب، ولا يُستبعد أن تكون هذه القصة مما تلقاه عنه.
8- ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود قوله:
" ليس بالذي يعتمد عليه".(1/33)
9- وقال ابن معين: "ضعيف"، وفي رواية: "ضعيف إلا أنه يكتب حديثه"، وفي رواية ابن الجنيد، عن ابن معين، قال:
"كان ضعيفاً في القضاء ضعيفاً في الحديث".
قلت: قد كان للمؤلف مع عبارات ابن معين في جرح العوفي خطباً جليلاً ليردها به، ويثبت أن ابن معين قد عدله.
قال (ص: 202 – 203):
(أما إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين فقد وثقه، ونقل عنه ذلك عدة مرات، ففي سؤالات الدوري (2/407) قيل ليحيى: كيف حديث عطية؟ قال: صالح.
وفيه أيضاً: سألت عن عطية، وعن أبي نضرة، فقال : أبو نضرة أحب إليَّ.
وهذا النص توثيق منه لعطية، لأن أبا نضرة ثقة عند يحيى بن معين كما في "التهذيب"، فهو في حقيقته مقارنة بين ثقتين.
وقال ابن أبي خيثمة: قيل لابن معين: عطية مثل أبي الوداك؟
قال: لا، قيل: فمثل أبي هارون، قال أبو الوداك ثقة، ما له ولأبي هارون. كذا في "التهذيب" (2/60)، فانظر إلى ارتضاء ابن معين لمقارنته بأبي الوداك الثقة، فهو توثيق لعطية العوفي.
ونظائره كثيرة جداً في كتب الجرح والتعديل في المقارنة بين الثقات، فيحيى بن معين يحب عطية العوفي، وأبو نضرة أحب إليه فتدبر).
قلت: وهذه مجازفات وظلمات بعضها فوق بعض.
فإن قول العالم في الراوي: "صالح الحديث" ليس معناه التوثيق الذي يُحتج بالموصوف به، وإنما هو ممن يُعمل النظر في رواياته، فهذا الوصف ليس بمرق لصاحبه إلى درجة الاحتجاج مطلقاً.
وقد قال ابن أبي حاتم: إذا قيل "صالح الحديث"، فإنه يكتب حديثه للاعتبار.
وقال ابن الصلاح في "علومه" (ص: 125):
"وجاء عن أبي جعفر أحمد بن سنان، قال: كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف، وهو رجل صدوق، فيقول: رجل صالح الحديث".
وقال الحافظ الذهبي في "الموقظة" (ص: 82):
"هذه العبارات كلها جيدة، ليست مضعفة لحال الشيخ، نعم ولا مرقية لحديثه إلى درجة الصحة الكاملة المتفق عليها، لكن كثير ممن ذكرنا متجاذب بين الاحتجاج به وعدمه".(1/34)
فهذه النقول تنقض قول المؤلف بأن هذا الوصف يقتضي التوثيق.
بل أزيد المؤلف بياناً، فأقول:
ثمة فرق بين الكلام على حال الرواي، وبين الكلام على حال مرويات الراوي، وما ورد في تاريخ الدوري مختص بمرويات العوفي، لا بحاله، والعبارة واضحة في ذلك، وهي:
قيل ليحيى: كيف حديث عطية؟ قال: صالح.
ومعنى قوله: "صالح" أي حديثه صالح للاعتبار وللمتابعة، وفي هذا دلالة على أنه العوفي عنده ضعيف إلا أن ضعفه محتمل، ولكنه لا يرتقي إلى درجة الاحتجاج، لا سيما إذا تفرد بحديث كالحديث الذي نحقق القول فيه، ومن ثم فلا عبرة بما ذكره المؤلف من أن عبارة ابن معين هذه تفيد توثيق العوفي.
يبقى الآن الكلام على مقارنة ابن معين للعوفي بأبي نضرة مرة، وبأبي الوداك مرة أخرى.
فأما مقارنته بأبي نضرة ، فلا يفيد توثيقاً ألبتة، وإنما كان قوله في تقديم أبي نضرة على عطية جواباً على سؤال من سأله عن ذلك، لكثرة رواية هذين الراويين عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه-.
وكثيراً ما يقع السؤال عن أصحاب الشيخ الواحد، أو الرواة الذين اشتركوا في الرواية عن صحابي معين، حتى يُعلم من يُقدَّم عند الترجيح، وقد يقع السؤال من غير عارف، فيكون الجواب كما سبق.
بل قد يجيب المجرِّح أو المعدِّل بالتوثيق، ولا يريد أنه ثقة، وإنما هو مقارنة بغيره، وقد وقع هذا من ابن معين، وأشار إليه أبو الوليد الباجي في "الجرح والتعديل"، وتابعه الحافظ في "اللسان"، فقال في مقدمته (1/28) :(1/35)
"وينبغي أن يتأمل أيضاً أقوال المزكين ومخارجها، فقد يقول المعدل: فلان ثقة، ولا يريد به أنه ممن يحتج بحديثه، وإنما ذلك على حسب ما هو فيه، ووجه السؤال له، فقد يُسأل عن الرجل الفاضل المتوسط في حديثه، فيقرن بالضعفاء، فيقال: ما تقول في فلان، وفلان، وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنه ليس من نمط من قرن به، فإذا سئل عنه بمفرده بيَّن حاله في التوسط، فمن ذلك: أن الدوري قال عن ابن معين أنه سئل عن ابن إسحاق، وموسى بن عبيدة الربذين أيهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة، وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده، فقال: صدوق، وليس بحجة، ... وهذا حكم على اختلاف السؤالن وعلى هذا يُحمل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة أهل الجرح والتعديل ممن وثق بجلاً في وقت ، وجرحه في وقت آخر".
قلت: وعلى هذا تُحمل أيضاً رواية أبي خالد الدقاق عن ابن معين (256) قال: عطية العوفي ليس به بأس، قيل: يُحتج به؟ قال: ليس به بأس.
قلت : هذا ظاهره التوقف، وإن وصفه بوصف من أوصاف التعديل، وإنما يُعمل به على التعديل إن ورد منفرداً أو معضداً بروايات أخرى عن ابن معين بالتوثيق، ولم يرد عنه التضعيف أو الجرح له.
وأما مقارنة ابن معين بين العوفي وأبي الوداك فلا يقتضي كذلك توثيقه للعوفي، بل قوله هذا يدل دلالة قوية على أنه لم يقر مساواته لأبي الوداك، لأن أبي الوداك ثقة، كما أنه لم يقر مساواته بأبي هارون العبدي المتروك، وهذا لا يدل ألبتة على أن العوفي ثقة.
وأما قول المؤلف: "فيحيى بن معين يحب عطية العوفي، وأبو نضرة أحب إليه".
فتمثيل غير صحيح، فالحب شيء، والضبط شيء آخر.
ثم وجدت المؤلف قد نقل نقلاً عن "التهذيب" (6/207)، فقال (ص: 203):
(وقال ابن الجنيد عن ابن معين: هو وعمرو بن أبي قيس لا بأس بهما، قلت: ثقتان، قال: ثقتان، كذا في"التهذيب" (6/207)، وهو ظاهر في ترادف اللفظين، فهو اصطلاح خاص بيحيى بن معين، ولا مشاحة فيه).(1/36)
هذه العبارة موهمة بان المقارنة بين العوفي، وبين عمرو بن أبي قيس، وأن التوثيق هنا مختص بالعوفي، وليس كذلك، وكان يجب على المؤلف أن يبين ذلكن ولكن لما كان هذا النقل المتصرف فيه يخدم قضيته، لم يتكلم عليه بأي بيان أو إيضاح.
ونص النقل كما في "سؤالات ابن الجنيد" (210):
قلت ليحيى بن معين: عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، فقال: رازي لا بأس به، قلت: عمرو بن أبي قيسظ قال: لا بأس به، قلت: ثقتان؟ قال: ثقتان.
فتبين أن المقارنة بين راو آخر غير العوفي وبين عمرو بن أبي قيس.
وأما كونه احتج به على أن وصف ابن معين للراوي بعبارة "لا بأس به" تفيد التوثيق، فهذا لا دافع له، لا سيما وقد نص هو نفسه على ذلك، ولكنه محمول على التوثيق في حالة عدم توقفه في الراوي كما وقع في رواية أبي خالد الدقاق عنه، وفي حالة عدم جرحه للراوي كما في باقي الرواياتز
وعلى فرض التسليم للمؤلف بثبوت تعديل ابن معين للعوفي، فلا بد من التوفيق بين الجرح والتعديل، وهذا لا يكون غلا بتقديم الجرح، لأن مقتضاه زيادة العلم على التوثيق كما بين ذلك أهل العلم، فإن قيل: فبعض العبارات وردت عنه مبهمة، فالجواب: إن ذلك لا يضر، لأنه اختلاف على المعدل في الجرح والتعديل، والأصل في الراوي عنده أن لا يكون مجروحاً، فإذا وثقه فقد وافق الأصل، وإن جرحه، فهذا مقتضاه أن يكون قد وقف على علم زائد بحاله اقتضى جرحه له، ومن ثم فجرحه مقدَّم على تعديله.
بقي الآن التعريج على ما احتج به المؤلف من النقول على تعديل جماعة من أهل العلم للعوفي، فمن هؤلاء:
1- ابن شاهين.
قال المؤلف (ص: 208):
(ومنهم ابن شاهين، وقد أدخل عطية العوفي في "الثقات"، فهو من موثقيه، فإن قيل: قد ذكره أيضاً في الضعفاء، فقال: ضعفه أحمد ويحيى.(1/37)
قلت: التوثيق هو الراجح، لما قد علمت مما سبق من اعتماد أحمد علي رواية محمد بن السائب الكلبين وهي رواية تالفة لا يُعتمد عليها في جرح عطية العوفي، وأن يحيى بن معين من موثقيه كما تقدَّم).
قلت: هذا الكلام فيه مناقشات:
أولها: أنه زعم أن ابن شاهين من الموثقين له بذكره في "الثقات"، والمعلوم أن ابن شاهين وإن كان من المحدثين والحفاظ إلا أنه ليس من أهل الشأن في الجرح والتعديل، فمثله مثل سالم المرادي الذي لم يرتض المؤلف قوله في جرح العوفي، وقال (ص: 191):
(المرادي هو ابن عبد الواحد الكوفي، ليس هو من الحفاظ، ولا من النقاد الذين يقف المرء عند قولهم في الجرح والتعديل).
وقد قال الذهبي فيه في "السير" (16/434):
"ما كان الرجل بالبارع في غوامض الصنعة، ولكنه راوية الإسلام رحمه الله".
ثانيها: أن اعتماد ابن شاهين في كتاب الثقات، ومثله الضعفاء على كتب الغير، لا سيما تواريخ ابن معين، فهو جمَّاع في هذا الباب، ولا يحرر حال الرجل، وهذا يبينه الذي بعده.
ثالثها: أنه قد نقل قول ابن معين من رواية أبي خالد الدقاق في العوفي، وليس هذا مقتضاه الإقرار، أو حتى التوثيق للرجل، وليس فيه التحرير أو التدقيق، وهذا يؤيده قوله في مقدمة كتابه (ص:25):
"كتاب الثقات ممن روى حديثاً ممن انتهى إلينا ذكره عن نقاد الحديث ممن قُبلت شهادته واشتهرت عدالته وعرف ونقل مثل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل...".
رابعها: أن الرواية التي اعتمدها في "الثقات" لا تقتضي التوثيق كما أثبتناه آنفاً.
خامسها: أنه قد أورد العوفي ف ي"الضعفاء"، مما يدل على أنه لم يحرر حاله، وإنما عمله في الكتابين الترتيب والجمع فقط، كما صرح بذلك في مقدمة "الضعفاء" (ص: 39) قال:
"وذكرت هؤلاء – [أي الضعفاء والهلكى]- في كتابي هذا على مثل ما ذكرت الثقات، ليقرب على المستفيد إدراك ما أراد من هؤلاء".(1/38)
ومن ثمَّ فلا يصح التعبير بأ، ابن شاهين قد وثقه، فإنه لم يفعل، وإنما أورده في الرواة الذين ورد فيهم صيغة توثيق، ثم أورده في الرواة الذين ورد فيهم صيغة تجريح.
2- أبو بكر البزار:
قال المؤلف (ص: 208 – 209):
(ومنهم صيغة تعديل تعادل قولهم: صالح الحديث، مقارب الحديث، ونحو ذلك كما يُعلم من قواعد الحديث).
قلت: هذه من عجائب المؤلف وأوابده، أن يجعل مثل هذا القول عبارة تدل على التوثيق، فرواية جلة من الناس عنه لا تقتضي أن يكون ثقة، لا سيما وإن كان مكثراً عن أبي سعيد الخدري كالعوفي، وكم من إمام كبير قد روى عن جماعة من الهلكى طلباً للغرائب، واعتباراً بحديثه، لكي لا يدلسه مدلس أو يهم فيه واهم فيجعله ثقة عن ثقة، وهذا هو الثوري مع جلالته قد روى عن جابر الجعفي.
ومقتضى هذه العبارة أن العوفي لم يُترك حديثه، وهذا لا يقتضي التوثيق، ولا يمنع من إعمال الجرح فيه، فليست هي من عبارات التوثيق كما يتوهم المؤلف، أو كما يُوهمز
3- أبو حاتم الرازي.
وقد تقدَّم بيان ما فيه.
4- يحيى القطان.
قال المؤلف (ص: 209):
(ومنهم يحيى بن سعيد القطان، فقد قال عن جبر بن نوف أبي الوداك كما في "التهذيب" (2/60) هو أحب إليَّ من عطية.
قلت: هذا أيضاً مقارنة بين ثقتين).
قلت: لا اعتبار بهذه المقارنة كما تقدمَّم بيانه من وجوه، ثم إن يحيى بن سعيد قد تقدَّم النقل عنه بجرح العوفي، إلا أن المؤلف قد وهم في معرفته، فظن أنه ابن معين.
فقد أخرج البخاري في "التاريخ الأوسط" (1/412):
قال علي: عن يحيى : عطية ، وأبو هارون العبدي، وبشر بن حرب عندي سواء.
فساواه القطان بأبي هارون العبدي المتهمن وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مقارنته بأبي الوداك لا تقتضي تعديلهن لا سيما وأن القطان لم يُنقل عنه قولاً بتعديل أبي الوداك هذا، فتنبه.
5- ابن خزيمة.
قال المؤلف (ص: 209) :(1/39)
(فإنه أخرج الحديث في صحيحه، قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/98): رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق: فضيل ابن مرزوق، فهو صحيح عنده.
قلت : فمقتضى تصحيح الحديث توثيق رجاله ومنهم عطية العوفي).
قلت: قد يخرج ابن خزيمة أحاديث بعض الضعفاء، ولكن ليس على سبيل الاعتداد والحجة، بل على سبيل الاستئناس، ويشير على أن في القلب من حديث فلان شيء، يعني أنه لا يخرجه احتجاجاً، وقد تكرر صنيعه هذا في مواطن كثيرةز
ومنها حديث عطية العوفي.
فقد ذكره المنذري – رحمه الله – في الرواة المختلف فيهم في آخر كتابه: "الترغيب والترهيب " (4/575)، وقثال:
"وأخرج حديثه ابن خزيمة في "صحيحه"، وقال: في القلب من عطية شيء؟.
فدل هذا على أن عطية ليس بثقة عند ابن خزيمة كما زعم المؤلف.
6- الإمام الترمذي:
قال المؤلف (ص:211):
(ومنهم الإمام أبو عيسى الترمذي، فإنه حسَّن له عدة أحاديث انفرد بها فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي – كما في الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه – انظرها في طتحفة الأشراف". ومقتضى ذلك التحسين أن يكون صدوقاً عند الترمذي، كما صرح بذلك الحافظ في "تعجيل المنفعة" ص:153).
قلت: قد تقدَّم الجواب عن ذلك، وأزيده إيضاحاً، فأقول:
لايقتضي تحسين الترمذي لأحاديث العوفي أن يكون صدوقاً عندهن لأن إطلاق الترمذي الحسن لا يقتضي الاحتجاج به عنده كما اشار الحافظ ابن حجر في "النكت" في مبحث الحسن.
إلا أن المؤلف تناقض فقال:
(وعليه: فعطية صدوق عند الترمذي، وهو شرط الحسن لذاته).
قلت: الحسن عند الترمذي معروف بشروط وضعها هو نفسه، وصرح بها في "العلل الصغيرط (الجامع: 5/758)، فقال:
" وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن، فإنما أردنا به حُسن إسناده عندنا: كل حديث يُروى لا يكون في إسناده من يُتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً ، ويروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن".(1/40)
وهذا الحد هو الذي اعتمده العلماء في الحسن بمجموع الطرق، لا الحسن لذاته كما يدعي المؤلف، ومن ثم فكون الترمذي قد حسن حديث العوفي فهذا معناه أنه غير متهم بالكذب عنده، وليس بكذاب، إلا أن الضعف لا ينفك عنه، وإلا لما وصف حديثه بالحسن.
وأما الأحاديث التي وصفها الترمذي بالحسن من أفراد العوفي فلا تنصرف إلى الحسن لذاته، لأن الترمذي قد حكى حد الحسن عنده، وما ذهب غليه المؤلف من اجتهاده، وكما قال المؤلف في كتابه (ص: 203):
(هذه حكاية عن نفسهن ونص من عنده، ولا اجتهاد مع وجود النص).
7- ابن سعد
فقد قال في "الطبقات الكبرى ": "وكان ثقة إن شاء الله".
قلت ك كما تقدَّم بيانه فإن اعتماد ابن سعد في كتابه على شيخه الواقدي، وهو متهم لا يُعول عليه، إلا أن المؤلف اعتذر عن ذلك (ص: 200- 201) بقوله : (أما عن اعتماد ابن سعد علي الواقدي غالباً فهو ما صرح به الحافظ، لكن هذا ليس على إطلاقه ، فإذا رأيت ابن سعد ترجم للرجل ترجمة عارف بأحواله وبحديثه وبكلام الناس فيه، فلا مدخل عند ذلك للواقدي).
قلت : ترجمة العوفي عند ابن سعد لا تتجاوز ثلاثة أرباع الصفحة، وليس فيها ما يدل على أنه قد سبر حاله كما يزعم المؤلف إلا قوله:
"وكان ثقة إن شاء الله وله أحاديث صالحة، ومن الناس من لا يحتج به".
والظاهر أنه أطلق التوثيق هنا بمعنى أنه لا يتهم بالكذب، ثم بين أن أحاديثه صالحة، أي للمتابعة والاعتبار ، لا أنها من الواهيات، فهذا مشعر انه ليس ممن يحتج به على الانفراد.
وعلى فرض التسليم للمؤلف فيما ادعاهن وأن ابن سعد قد وثقه عن عناية ومعرفة، فكذلك من ضعفه قد ضعفه بجرح مفسر- كما بيناه فيما سبق – غير مبهم.
ولا يعدل ابن سعد أئمة الشأن الكبار مثل: هشيم، ويحيى القطان، والثوري، وأحمد ، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وابن معين على الراجح، وابن عدي، وغيرهم، إذا اجتمعوا على جرح راوٍ. وممن لم يرد ذكرهم في "التهذيب":
1- الدارقطني:(1/41)
قال في "العلل" (4/6): "مضطرب الحديث".
وقال في "السنن" (4/39): "ضعيف".
2- البيهقي:
قال في "السنن الكبرى" (2/126 و6/30 و7/66 و 8/126):
" لا يُحتج به".
3- عبد الحق الإشبيلي:
نقله عنه الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (4/51)، وعزاه إلى "الأحكام"، قال:
"عطية العوفي لا يُحتج به، وإن كان الجلة قد رووا عنه".
وهذه العبارة تدل على أنه لا اعتبار برواية الناس عنه مع ثبوت ضعفه.
4- الحافظ الذهبي:
قال في "تلخيص المستدرك" (4/222):
"واهٍ".
وقال في "المغني" (2/436):
"مجمع على ضعفه".
والحاصل من ذلك أن كلمة العلماء مجتمعة ولا شك على ضعف العوفي وسقوط الاحتجاج به، لاسيما في روايته عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - .
وإن كان المؤلف قد سمى بحثه في تقوية حال العوفي الشيعي: "القول المستوفي في الانتصار لعطية العوفي".
فسمِّ هذا الرد إن شئت:
"الرد المغني ببيان ضعف عطية العوفي".
ويبقى الآن الكلام على ما وقع في هذا الحديث من الاختلاف.
فقد اختلف في هذه الرواية على فضيل بن مرزوق.
فأخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في "الصلا" – كما في "نتائج الأفكار" للحافظ ابن حجر (1/273) - : عن فضيل بسنده موقوفاً.
وتابعه عليه وكيع، عن فضيل به موقوفاً أيضاً.
أخرجه ابن أبي شيبة (6/25).
قال أبو حاتم الرازي في "العلل" لابنه (2048):
"موقوف أشبه".
إلا أن المؤلف لم يرَض بمثل هذا الترجيح، ولم يقنع به، لأنه سوف يفسد عليه استدلاله بالحديث، فحشد ما يرد به حكم غمام المحققين أبي حاتم الرازي، فاستدرك عليه !! بقوله (ص: 219):
(وللمحدثين في ذلك مسلكان كلاهما يقوي الرفع:
فأولهما: إن الرفع زيادة ثقة، وهي مقبولة، إذ إن الحكم لمن أتى بالزيادة، وهو مذهب الخطيب البغدادي وجماعة من أئمة الفقه والحديث والأصول.
وثانيهما: الترجيح باعتبار القرائن ، وهو ما يقوي الحكم بالرفع أيضاً، فإن من رفع الحديث أكثر عدداً، وهم ستة، ممن وقفه وهم اثنان فقط).(1/42)
قلت: كلام المؤلف هذا فيه مناقشات:
الأولى : أنه موهم بأن الأمر على التخيير بين المسلكين، وليس كذلك، فالمسلك الأول هو مسلك الفقهاء، وعنهم أخذه بعض أهل الحديث كالخطيب وغيرهن وقد أنكر المحققون إطلاق القول باستخدام هذا المسلك.
فقال الحافظ ابن حجر في "النزهة" (ص: 30):
"اشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقاً من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذاً، ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والعجيب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح، وكذا الحسن.
والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي والدارقطني، وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها، ولا يُعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة".
وقد تقدَّم النقل عن ابن دقيق العيد والعلائي ما يؤيد ذلك.
الثانية: أنه قد أوهم أن العلة في الاختلاف في الوقف والرفع إنما هي الخلاف بين الرواة عن فضيل بن مرزوق، وليست كذلكن بل هي من فضيل نفسه، فقد شك في روايته كما عند الإمام أحمد في "المسند" (3/21) قال:
حدثنا يزيد، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، فقلت لفضيل: رفعه، قال: أحسبه قد رفعه ... الحديث.
وأما المؤلف فقد نحى منحى غريباً في تأويل هذا الشكن فقال (ص:218):
(هذا ظن راجح تقوى "بقد" وهو حرف تحقيق هنا دخل على الماضي فقربه من الحالن وعليه فرواية يزيد بن هارون من قسم المرفوع، ولابد ، وهو صنيع من تكلم على الحديث ممن تأخر من الحفاظ).
قلت: وهذا اعتذار ساقط لا قيمة له، ذلك لأن كلمة: "أحسب" تفيد الظن ولا شك، والظن أكذب الحديث.(1/43)
وعلى فرض التسليم للمؤلف بأنه ظن راجح، فهذا لا ينفي ورود الظن على الفضيل فيهن وإن رجح الرفع بـ "قد"، وإن كان ذلك كذلك، فالعلة في الاختلاف قائمة عليه هو، لا على من رواه عنه.
وهذا يؤيده ترجيح أبي حاتم للموقوف، وهو من أئمة هذه الصنعة ، وممن أرسى قواعدها، فلا يقدَّم عليه فيها المتأخرون.
الثالثة: أنه على فرض التسليم بأنه مما أختلف فيه الرواة عن فضيل بن غزوان، وهم جميعاً ثقات سواءً من رواه بالرفع أو من رواه بالوقف، فإن كانوا كذلك، فطريقة المحققين من أهل العلم إعلال الحديث بمن ورد فيه نوع جرح بدلاً من تخطئة الثقات، وفضيل بن مرزوق قد تكلم بعض أهل العلم في حفظه، فتخطئته فيه بروايته مرفوعاً تارة، وموقوفاً تارة أخرى أولى من تخطئة حافظين، وهما أبو نعيم ووكيع، أو ستة من الرواة الثقات، فيهم حافظ كبير مثل يزيد بن هارون – رحمه الله -.
الرابعة: أن الفضل بن دكين الملائي من الحفاظ المتثبتين المقدَّمين على أقرانه، وقد قال يحيى القطان: "إذا وافقني هذا الأحول ما أبالي من خالفني"، وقال ابن معين: "ما رأيت أثبت من رجلين يعني في الأحياء أبي نعيم وعفان"، وقال الفسوي: "أجمع أصحابنا أن أبا نعيم كان غاية في الإتقان"، وقال أبو حاتم: "أبو نعيم حافظ متقن".
ومثله وكيع من الحفاظ الكبار، وقد خالفا خمسة من الثقات، والسادس وهو من الحفاظ وهو يزيد بن هارون في روايته شك وظن.
وقد تقدَّم أن المؤلف قد رجح رواية الفسوي على ثلاثة من الرواة؛ اثنين منهم من الثقات، فَلِمَ لم يرجح رواية حافظين كبيرين كابي نعيم ووكيع على هؤلاء الستة؟ إلا لأجل الانتصار لمذهبه الفاسد.
وللحديث شاهد واه من حديث بلال – رضي الله عنه – وفيه الوازع بن نافع العقيلي، وهو تالف الحال، قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال أحمد وابن معين: "ليس بثقة"، وقال النسائي: "متروك".
ومثل هذا الشاهد لا يصح التقوية به، والله أعلم.
الحديث السابع(1/44)
أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/267):
حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق، حدثنا معروف بن حسان السمرقندي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة، فليناد: يا عباد الله احبسوا عليَّ، فإن الله في الأرض حاضراً سيحبسه عليكم".
وأخرجه أبو يعلى في "المسند" (9/177): حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق... به.
ومن طريقه ابن السني (508) إلا أنه وقع فيه زيادة عن ابن بريدة، "عن أبيه"، فزاد (عن أبيه).
وأظنه من التحقيق فإن غالب النسخ المطبوعة غير مخدومة الخدمة العلمية اللائقة.
وقد هوَّن المؤلف من ضعف هذا السند، فقال (ص: 225):
(قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/132) بعد أن عزاه لأبي يعلى والطبراني: فيه معروف بن حسان وهو ضعيف، وكذا قال الحافظ البوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة...، وقال الحافظ في تخريج الأذكار 0شرح ابن علان 5/150) بعد أن عزاه لابن السني والطبراني: وفي السند انقطاع بين ابن بريدة وابن مسعود. أ.هـ.
ومع ذلك فللحديث طرق تقوية وترفعه من الضعف إلى الحسن المقبول المعمول به).
قلت: هذه العبارة الأخيرة فيها مجازفة كبيرة، وتدليس عريض.
فإنه يوهم القراء الكرام بان ضعف معروف بن حسان من قبيل الضعف المحتمل الذي يتقوى بمجيء مثله من وجه آخر وليس كذلك، بل لا أظنه قد خفي عن المؤلف حال معروف هذا، فإنه شديد الضعف.
فقد قال فيه أبو حاتم الرازي: "مجهول"، وقال ابن عدي: "منكر الحديث"، وكلاهما من قبيل التضعيف الشديد والمؤلف على معرفة تامة بذلكن وقد خطَّ بيده في كتابه ما يدل على ذلك، فقال (ص:149):(1/45)
(قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" كما في "نصب الراية" (1/179)، و"فتح المغيث" (1/347): قولهم: "روى مناكير" لا تقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي أن يُقال فيه: "منكر الحديث"، لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه أ.هـ.).
وقال ابن عدي أيضاً: "ومعروف هذا قد روى عن عمر بن ذر نسخة طويلة وكلها غير محفوظة". وقال الخليلي: "له في الحديث والأدب محل، وروى كتاب العين عن الخليل بن أحمد، روى عن عمر بن ذر نسخة لا يتابعه أحد".
قلت: قد تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه، دون باقي أصحاب سعيد بن أبي عروبة، والمتن فيه نكارة ظاهرة، ويكفي ما جُرِّح به الرجل حتى يُردُّ حديثه، ولا يُقوى بالمتابعة، فتنبه.
وأما الشواهد التي ذكرها المؤلف للتقوية فهي:
1- ما أخرجه الطبراني في "الكبير" (17/117-118):
حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي، حدثنا عبد الرحمن بن شريك – وتصحفت في المعجم إلى سهل - ، حدثني أبي، عن عبد الله بن عيسى، عن زيد بن علي، عن عتبة بن غزوان، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"إذا أضل أحدكم شيئاً، أو أراد أحدكم عوناً وهو بأرض ليس بها أنيس، فليقل: يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني، فإن لله عباداً لا نراهم". وقد جُرِّب ذلك.
قلت : وهذا إسناد ضعيف، فقد تفرد به من هذا الوجه عبد الرحمن بن شريك، عن أبيه ، وكلاهما متكلم فيه.(1/46)
وقد صحَّف المؤلف اسم زيد بن علي إلى يزيد بن علي في موضعين، مع أنه قد ورد عند الطبراني على الوجه الصحيح، والظاهر أنه فعل ذلك تعمية لأمر زيد هذان فإن زيد هذا هو ابن علي بن الحسين، وبين ولادته وبين وفاة عتبة بن غزوان عمراً طويلاً، فزيد بن علي ولد سنة ثمانين، ووفاة عتبة بن غزوان سنة سبع عشرة وبينهما بون شاسع من الزمن، فالسند ليس أقل من أن يكون معضلاً، والمعضل شديد الضعف، ولا يتقوى بالمتابعة كما هو معلوم في علم الحديث.
2- مرسل أبان بن صالح.
وهو عند أبن أبي شيبة (10/424):
حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا نفرت دابة أحدكم أو بعيره بفلاة من الأرض لا يرى بها أحداً، فليقل: أعينوني عباد الله، فإنه سيعان".
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن محمد بن إسحاق صدوق، موصوف بالتدليس وقد عنعن هذا الخبر.
وأما المؤلف فقد لمز العلاَّمة الألباني – حفظه الله – فقال (ص: 226):
(وأعله الألباني في "ضعيفته" (2/109) بالإعضال وهو خطأ لأن أبان بن صالح من صغار التابعين).
قلت: هذه حجة من لا بضاعة له في هذا العلم ، فقد وصف – قبل الألباني – مراسيل هذه الطبقة من العلماء بالإعضال جماعة منهم الحافظ الذهبي، فقال في "الموقظة" (ص: 40):"من أوهى المراسيل عندهم: مراسيل الحسن.
وأوهى من ذلك: مراسيل الزهري، وقتادة، وحميد الطويل من صغار التابعين، وغالب المحققين يعدون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات، فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعي كبير، عن صحابي، فالظن بمرسله أنه أسقط من إسناده اثنين".
قلت: أبان بن صالح روى عن الزهري، وعن الحسن، فهما من شيوخه، وقد حكم المحققون على مراسيل هذين الراويين بأنها معضلات، فكيف بمرسل من يروي عنهما ؟! هذا من جهة.(1/47)
ومن جهة أخرى فإنه لم يصح له له الرواية عن أحد من الصحابة، وإنما ذكروا له حديثاً عن أنس بن مالك عند الترمذي: "الدعاء مخ العبادة"، وهو حديث ضعيف، روي من طريق ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن أبان به، ووصفه الترمذي بالغرابة، فقال: "غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة".
وقد رواه عن أبن لهيعة الوليد بن مسلم، وابن لهيعة حاله مشهورة، فالحديث ليس بحجة على ثبوت رواية أبان بن صالح عن أنسن ومن ثم فوصف مرسله هذا بأنه معضل هو الصواب، والمعضل لا يتقوى بالمتابعة.
3- حديث ابن عباس – رضي الله عنه - .
أخرجه البزار (كشف: 3128) من طريق:
حاتم بن إسماعيل ، عن أسامة بن زيد، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"إن لله ملائكة في الأرض، سوى الحفظة، يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة، فليناد: أعينوا عباد الله".
قلت: وهذا إسناد فيه ضعف، فإن أسامة بن زيد متكلم فيه، وله مناكير، وقد اختلف عليه فيه.
فرواه جعفر بن عون، وروح بن عبادة، وعبد الله بن فروخ، ثلاثتهم عن أسامة بن زيد بسنده موقوفاً.
ولقائل أن يقول: فالأصح على هذا الوقف لأنه قول الأكثر والأوثق؟!
فالجواب: هذا محتمل إن كان المختلف عليه ثقة، وأما إن كان ضعيفاً فالأولى الحمل عليه فيه، بدلاً من تخطئة الثقات الذين رووه عنه، وحينئذ يوصف بأنه قد اضطرب فيه.
وعلى أي وجه ترجح القول سواء بالرفع أو بالوقف فثمة مخالفة أخرى بين أسامة بن زيد وبين أبن إسحاق، فإن ابن إسحاق أوثق ولابد من أسامة، وقد أرسله، فهو المحفوظ إن شاء الله تعالى.
وأما المؤلف فقد كان له خطباً جليلاً مع هذا الحديث، فقال (ص:227):
(وأعل الألباني في ضعيفته (2/112) الطريق المرفوعة عن ابن عباس بهذه الموقوفة، فقال: جعفر بن عون أوثق من حاتم بن إسماعيل... ولذلك فالحديث عندي معلول بالمخالفة، والأرجح أنه موقوف .أ هـ.(1/48)
قلت: هذا خطأ من وجهين:
أولهما: تقرر في علم الحديث أنه إذا تعارض الرفع والوقف فالحكم فيه للرفع...
ثانيهما: إن حاتم بن إسماعيل لم ينفرد برفع الحديث، بل وافقه على الرفع محمد بن إسحاق كما تقدم بالإضافة إلى شاهد عبد الله ابن مسعود المذكور أولاً.
والصواب هنا أن يُقال: إن أبان بن صالح كان يرفعه أحياناً، وأحياناً أخرى لا ينشط لرفعه، ونظائره كثيرة جداً).
قلت: وهذا كلام ساقط كعامة منافحاته عن الأحاديث الساقطة في كتابه.
وقد ناقض نفسه بنفسه ، ودل على جهله بقلمه.
فالذي قرره في هذا الموضع أنه عند تعارض الرفع والوقف فالرفع مقدَّم، وقبلها بصفحات قليلة ناقض هذا القول، فقال (ص: 219) أن للمحدِّثين مسلكين في هذه المسالة، قال:
(فأولهما : إن الرفع زيادة ثقة، وهي مقبولة، إذ إن الحكم لمن أتى بالزيادة، وهو مذهب الخطيب البغدادي وجماعة من أئمة الفقه والحديث والأصول.
وثانيهما: الترجيح باعتبار القرائن...).
فلماذا لم يعتبر بالترجيح بالقرائن هنا كما فعل هناك ؟! لسبب بسيط، وهو أن الترجيح بالقرائن سوف يفسد عليه حديثه، لا سيما وأن ثلاثة من الرواة قد رووه عن أسامة بن زيد موقوفاً، وخالفهم واحد فقط، فيه كلام من حيث الضبط.
ثم إن الذي قرره هذا من تقديم الرفع على الوقف إنما هو قول الفقهاء لا قول المحققين من أهل الحديث، لا سيما الأئمة المتقدمين من أهل العلم، وقد تقدَّم النقل عن العلماء كابن دقيق العيد، والعلائي، والحافظ ابن حجر ما يدل على ذلك.
وأما ترجيحه المرفوع بتعضيده بالمرسل المرفوع وبالشاهد المنكر عن ابن مسعود فلم أر من أهل العلم من فعلها قبله، أن يعضد الراجح بالمرجوح والمنكر، وإنما أراد بذلك التمويه على من لا علم له بهذه الصناعة، فإن حديث ابن مسعود لا دخل له بهذا الحديث، ولا اشتراك بينهما في السند ألبتة، والمرسل متعارض مع الموصول المرفوع، فلا بد من الترجيح، لا التعضيد.(1/49)
وأخيراً: فعلى فرض التسليم له بصحة الحديث الأخير، فهو دال على أن ذلك استعانة بالمخلوقين الأحياءن وقد دلت رواية ابن عباس على أنهم من الملائكة، ولم يمنع أحد أن يستعين الناس بغيرهم من المخلوقين على ما يقدروا على فعله، وليس هو بمجيز للتوسل بالجاه، ولا هو من هذا الباب في شيء، فتنبه إلى ذلك ترشد إن شاء الله.
فصل
ومن أغرب الحجج التي احتج بها المؤلف على تقوية هذا الحديث: ادعاؤه بأن بعض الأمة قد انعقد عملها به، وأن ما انعقد به عمل الأمة من الأحاديث، وإن كانت ضعيفة السند، فهي مقبولة.
قال المؤلف (ص:229):
(إذا ورد حديث بسند ضعيف يصير من قسم المقبول الذي هو أعم من الصحيح والحسن إذا تلقته الأمة بالقبول، أما إذا عمل به بعض الأمة – كحديثنا هذا – ففي عملهم تقوية له).
وقال (ص: 230):
(والحاصل أن للناقد مسلكين في تقوية هذا الحديث:
أحدهما : تقويته بالشواهد، فيصير حسناً، ولا ريب في ذلك.
ثانيهما: تقويته بعمل الأمة به.
وأحد المسلكين أقوى من الآخر).
قلت: هذه المسألة، أقصد مسألة الحكم على الحديث بالقبول إذا تأيد بعمل الأمة مما تفرد به بعض المتأخرين، وأما المتقدمون، فلا يذهبون إلى مثل هذه التقوية، وتفصيل هذه المسألة كما يلي:
قال السيوطي في الحديث المقبول في "البحر الذي ذخر":
"ما تلقاه العلماء بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح".
وقال في "التعقبات على الموضوعات":
"قد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث قول أهل العلم به، وإن لم يكن له إسناد صحيح".
قلت: قد نُقلت بعض العبارات في ذلك عن ابن الهمام، وأبي إسحاق الأسفرائيني.
واغتر من أطلق القول بذلك ما ورد عن الشافعي – رحمه الله – أنه قال:
"وما قلت: يعني في تنجيس الماء بحلول النجاسة فيه من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه أو لونه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله، لكنه قول العامة، لا أعلم بينهم خلافه".(1/50)
وهذا القول إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الحجة في ذلك الاتفاق على ذات الأمر، والاتفاق وإن وافق معنى الحديث أو متنه فلا يدل على قبول الحديث بحال، ولا تثبيته، وإنما الحجة في الاتفاق، وما قامت الحجة بمدلوله إلا بقيام الاتفاق عليه.
والقبول إنما هو تثبيت نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ولا شك ليس من شروط الصحة في شيء، فإن أئمة الحديث لم يشترطوا ضمن شروط الصحة قبول الأمة واتفاقهم عليه، بل الأمة وقع بين علمائها الخلاف في تصحيح وتضعيف جملة كبيرة من الأحاديث.
ويؤيد ذلك ما نقله ابن القيم – رحمه الله – في الروح في حديث تلقين الميت، قال:
"سئل عنه الإمام أحمد – رحمه الله – فاستحسنه، واحتج عليه بالعمل".
قلت: والحديث المروي في الباب ضعيف، وإنما احتج عليه أحمد بعمل السلف، ولم ينقل عنه تصحيحه ألبتة.
وقد ذكر العراقي عن العز ابن عبد السلام: أن بعض المعتزلة يرون أن الأمة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحته، قال:
"وهو مذهب رديء".
والمسألة فيها تفصيل قد ذكرته في غير هذا الموضع.
والشاهد: أن هذا المذهب ضعيف، ولا تقوم به حجة يتقوى بها الحديث.
ولو سلمنا للمؤلف بهذا المذهب، فإن الأمة لم ينقل عنها العمل بهذا الحديث، وإنما حكاه عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى -، والطبراني، والنووي، وقد خالفهم فيه من هو أعلم منهم وأقدم وهو ابن المبارك – رحمه الله-.
فقد أخرج أبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام" (3/110):
أن ابن المبارك – رحمه الله – كان قد ضل في بعض أسفاره في طريق، وكان قد بلغه أن من اضطر إلى مفازة فنادى: عباد الله أعينوني، أُعين، قال: فجعلت أطلب الجزد، أنظر إسناده.
فلم يستجز أن يدعو بدعاء لا يرضى إسناده.
ثم احتج المؤلف على تثبيت هذا المذهب بأن ابن المبارك كان يصلي صلاة التسابيح، وأنه قد تداولها الصالحون بعضهم عن بعض.
قلت: وهذا تمويه عجيب، وقول مردود من وجوه:(1/51)
الأول: أن حديث صلاة التسابيح قد اختلف فيها العلماء، فمنهم من صححها، والأكثر على تضعيفها، ولها طريق يقرب من شرط الحسن من رواية ابن عباس – رضي الله عنه - ، وقد اغتر به بعض أهل العلم فصححوه، وخالفهم المحققون من المتقدمين والمتأخرين، فأعلوا هذه الرواية بالشذوذ.
الثاني: أن ابن المبارك لم يعمل بحديث صلاة التسابيح لما فيه من النكارة الظاهرة، لا سيما الجلوس بين كل ركعتين للتسبيح، وهي مذكورة في الأحاديث، إلا أن ابن المبارك لم يكن يفعل هذه الجلسة للتسبيح التي هي قبل القيام، وكان يفعل باقي التسابيح، لأنها تندرج تحت أصل أصيل وهو جواز التسبيح والتهليل والتكبير والحمد بعد القراءة، وأثناء السجود والركوع، وعليه فلا يتجه القول بأن ابن المبارك قد تداول هذه الصلاة على الصفة المذكورة في الأحاديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في "منهاج السنة" (4/116): "وأما ابن المبارك فلم يستحب الصفة المذكورة المأثورة التي فيها التسبيح قبل القيام، بل استحب صفة أخرى توافق المشروع لئلا تثبت سنة بحديث لا أصل له".
وقال – كما في "مجموع الفتاوى" (11/579)-:
"وأما ابن المبارك ، والمنقول عنه، فشيء مثل الصلاة المعروفة، فإن تلك فيها قعدة طويلة بعد السجدة الثانية، وهذا يخالف الأصول، فلا يجوز أن يثبت بمثل هذا الحديث".
الثالث: أن هذه الصلاة ليس فيها نقل صحيح عن الأئمة الأربعة إلا عن الإمام أحمد – رحمه الله – فقد ذهب إلى ضعف حديثها، وما ادعاه الحافظ ابن حجر برواية موهمة من رجوع الإمام أحمد عن تضعيفها فغير صحيح كما بيناه تفصيلاً في كتابنا : "النقد الصريح"، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأئمة لم يعتبروا بحديثها، ولم يتداولوها فيما بينهم، بل لم يعرِّجوا على ذكرها في كتبهم لا في أبواب التطوع، ولا في غيرها ، وإنما أوردها أصحاب الرواية والحديث، من باب جمع ما في الباب.(1/52)
ثم لو أننا سلمنا بهذا كله للمؤلف، فليس في الحديث ما يدل على جواز التوسل بالجاه، وإنما هو من قبيل طلب العون من الأحياء فيما يقدرون عليه، وهذا لم يمنع منه أحد ، ولا حتى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - ، وبون شاسع بين هذا وبين التوسل بجاه المخلوقين.
الحديث الثامن
أخرجه أبو يعلى الموصلي في "المسند" (4/418) :
حدثنا عقبة، حدثنا يونس، حدثنا سليمان الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"ليأتين على الناس زمان يخرج الجيش من جيوشهم، فيُقال: هل فيكم أحد صحب محمداً فتستنصرون به فَتُنصروا؟ ثم يقال: هل فيكم من صحب محمداً فيقال: لا ، فمن صحب أصحابه؟ فيُقال: لا ، فيُقال: من رأى من صحب أصحابه؟ فلو سمعوا به من وراء البحر لأتوه".
قال المؤلف (ص: 231):
(إسناده صحيح).
ثم أورد له متابعة عند أبي يعلى أيضاً (4/200) من طريق: محاضر بن المورع، عن الأعمش به.
قلت: السند الأول فيه يونس بن بكير، صدوق فيه ضعف، وقد تُكُلِّم في حفظه، وقد رواه عن الأعمش دون باقي أصحاب الأعمش الكبار.
وقد تفرد بلفظه: "فتستنصرون به فتنصروا".
وقد خالفه محاضر بن المورع، وهو وإن كان فيه بعض الكلام غلا أنه مقدَّم عليه في الأعمش.
قال ابن عدي: "روى عن الأعمش أحاديث صالحة مستقيمة".
وقد رواه بلفظ:
"يبعث بعث، فيقال لهم: هل فيكم أحد صحب محمداً؟ فيقال: نعم، فيُلتمس، فيوجد الرجل، فيستفتح، فيفتح عليهم..".وبون شاسع بين هذا اللفظ، وبين اللفظ الذي قبلهن ومما يؤيد هذا اللفظ أصل الحديث الذي في الصحيحين من رواية جابر عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - ، وهو:
"يأتي زمان يغزو فئام من الناس، فيُقال: فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟، فيقال: نعم، فيُفتح عليه..".
وفي رواية مسلم: "فيُفتح لهم".
وفي رواية ثانية عنده: "فيفتح لهم به".
أخرج البخاري (فتح:6/68)، ومسلم (نووي: 8/300).(1/53)
قلت: وهذا لا يدل ألبتة على أن الاستنصار كان بجاهه عند الله، ولا بالتوسل بجاهه، إذ لو كان كذلك فلا حاجة للسؤال عن وجوده أو عدم وجوده، وإنما هو بدعائه وإخلاصه، ولا قائل بالمنع من التوسل بدعاء الصالحين.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" في شرح الحديث:
"فإن كان القوي يترجح بفضل شجاعته، إن الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه".
قلت: ومما يدل على تدليس المؤلف أنه لم يورد الحديث الذي قبله في الباب الذي عند البخاري، وهو أظهر في الدلالة من هذا، وهو حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال:
رأى سعد- رضي الله عنه – أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم".
قلت: والنصر والرزق المعني هنا هو نفسه المعني في الحديث الذي قبلهن وهو نصر ورزق بإخلاصهم ودعائهم وصلاتهم، لا بالتوسل بجاههم كما يروج له المؤلف، ويدل على ذلك رواية النسائي (6/45) لهذا الحديث بسند صحيح ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم".
وهذا ظاهر من الحديث الذي ترجم به المؤلف، فإنما حصر الفتح والنصر بالقرون الثلاثة الأولى، لأن الإخلاص والصدق في الدعاء والالتزام بالشرائع أظهر فيهم من غيرهم، ولأجل هذا فُضلوا على غيرهم من القرون.
وبهذا يبطل الاستدلال بهذا الحديث على جواز التوسل بالجاه.
الحديث التاسع
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (1/292) من طريق:
عيسى بن يونس- [وهو ابن أبي إسحاق] – حدثني أبي، عن أبيه، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين.
قلت قد أعله المؤلف بعنعنة أبي إسحاق السبيعي، وقال (ص:233) : (ولولا عنعنة أبي إسحاق – فإنه مذكور في المرتبة الثالثة من المدلسين (ص:42) – لكان الحديث مرسلاً صحيح الإسناد).(1/54)
قلت : أمية بن عبد الله من التابعين، فحديثه هذا مرسل، وإن صح فيُحمل على ما حُمل عليه ما قبله.
ويدل على ذلك : ما أخرجه أبو داود (2594)، والترمذي (1702)، والنسائي (6/45 – 46) بسند صحيح من حديث أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ابغوني الضعيف، فإنكم إنما ترزقون وتُنصرون بضعفائكم".
وقد تقدَّم بيان أن ذلك بإخلاصهم، وبدعائهم، ولما علم فيهم الله تعالى من الضعف، لا بجاههم.
الحديث العاشر
أخرجه أحمد في "مسنده" (5/422):
حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا كثير بن زيد، عن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه، فإذا هو أبو أيوب، فقال: نعم، جئت رسول الله، ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله".
ومن هذا الوجه أخرجه الحاكم (4/515) وصححه.
قلت: وهذا سند منكر بمرة، غير معروف، بل هو من أوهام كثير بن زيد، فهو وإن كان صدوقاً في نفسه، إلا أنه قد تُكُلِّم في حفظه، قال أبو زرعة: "صدوق فيه لين"، وقال النسائي: "ضعيف"، وقال أبو حاتم: "صالح، ليس بالقوي، يُكتب حديثه"، وقال ابن معين في رواية ثالثة: "ليس به بأس"، وقال أحمد: "ما أرى به بأساً".
وأما المؤلف فخلط خلطاً عجيباً في تقوية هذا الحديث، ودلَّس تدليساً عريضاً لأجل الوصول إلى غرضه، فقال (ص: 234 – 235):
(داود بن أبي صالح قال عنه الذهبي في "الميزان" (2/9): "لا يُعرف"، وسكت عنه ابن أبي حاتم الرازي (الجرح 3/416).
وذكره الحافظ ابن حجر تمييزاً، وقال في "التقريب": مقبول.(1/55)
فإذا تشددت وأعرضت عن تصحيح الحاكم وموافقة الذهبي له لأن التصحيح هو توثيق للراوي، فهذا الإسناد فيه ضعف يسير يزول بالمتابعة، وداود بن أبي صالح قد تابعه المطلب بن عبد الله بن حنطب فيما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/189)، والأوسط (1/199)، وأبو الحسين يحيى بن الحسن في أخبار المدينة كما في شفاء السقام ص :152.
والمطلب بن عبد الله بن حنطب صدوق يدلس، ومثله يصلح للمتابعة، صرح بالسماع أو لم يصرح، أدرك أبا أيوب أو لم يدركه.
فغاية هذا الإسناد أن فيه انقطاعاً يسيراً قد زال بالمتابعة المتقدِّمة.
وبهذه المتابعة يثبت الحديث ويصير من قسم الحسن لغيره). وهذا الكلام فيه مغالطات ومناقشات:
أولها: أن داود بن أبي صالح هذا مجهول، لم يرو عنه إلا كثير بن زيد، ولم يوثقه معتبر، إلا تصحيح الحاكم لحديثه، والحاكم متساهل كما تقدَّم بيانه، وأما ما ادعاه المؤلف من موافقة الذهبي له فغير صحيح، وغنما غاية أمر الذهبي أنه يذكر في تلخيصه حكاية حكم الحاكم على الحديث، وإن أراد التعقيب قال: "قلت: ...."، ومن ثم فليس ذكره لحكم الحاكم على الحديث موافقة له، لا سيما وأنه قال فيه في الميزان: "حجازي ، لا يُعرف، له عن أبي أيوب الأنصاري، روى عنه الوليد بن كثير".
وهذا وهم من الحافظ الذهبي، كما بينه الحافظ في "التهذيب"، فإنما روى عنه كثير بن زيد، فانقلب الاسم على الذهبي ووهم فيه.
وأما قول الحافظ فيه: "مقبول" فغير مقبول، لأنه لم يرو عنه غير واحد، ولا وثق ولا ضعف، فالذي تقرر في المصطلح أن مثل هذا يكون مجهول العين، ومثله لا يحتج بحديثه، ولا تنفعه المتابعة ولا يتقوى بها.(1/56)
ثانيها: أن الراجح أن ذكر هذا الراوي بهذا الاسم وهم من كثير ابن زيد كما تقدَّم ذكره، وذلك أن الرواية قد اختلفت على كثير في تسمية شيخه، فرواه الطبراني في "الأوسط" (284 و9366)، وفي "الكبير" (4/158) من طريق : سفيان بن بشرن حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، قال: قال أبو أيوب لمروان... فذكره دون ذكر القصة التي هي محل الشاهد من الحديث، والتي يحتج بها المؤلف على جواز إتيان القبر والتوسل بالجاه، وإن كان بميت.
وهذا إن دل على شيء فيدل على أن كثيراً قد اضطرب في رواية هذا الحديث، على هذين الوجهين، ولا يُقال: إن له فيه شيخين، فليس هو من الحفاظ المكثرين الذين يجوز تعدد الأسانيد عنهم، وهذا الوجه الأخير هو الراجح، لأن الوجه الأول لما سمى فيه شيخه سمى شيخاً مجهولاً تفرد بالرواية عنه، ولا يُعرف عند أهل العلم، وقد رجح الطبراني هذا الوجه الثاني، فقال:"لا يُروى هذا الحديث عن أبي أيوب إلا بهذا الإسناد، تفرد به حاتم".
أي أنه لا يُعرف – بمعنى لا يُحفظ – إلا من هذا الوجه، ذلك لأن الوجه الآخر غير معروف، بل هو من أوهام كثير بن زيد.
ثالثها: على تقدير أن الروايتين محفوظتان، فإن الرواية الأولى التي قد تفرد بها داود بن أبي صالح المجهول هي التي حوت محل الشاهد، وأما الرواية الثانية فقد خلت من محل الشاهد فيكون داود قد تفرد بهذه القصة، فهي ضعيفة ولا شك.
رابعها: أن الرواية الأولى تفرد بها مجهول عين، والرواية الثانية منقطعة، ومجهول العين لا تتقوى روايتهن ولا تقوي غيرها كما تقرر في المصطلح.
الحديث الحادي عشر والحديث الثاني عشر
فأما الحديث الحادي عشر فهو:(1/57)
"اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل... أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، بكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك أن تقبلني في هذه الغداة أو في هذه العشية، وأن تجيرني من النار بقدرتك".
وأما الحديث الثاني عشر فهو:
"إذا ظنت أذن أحدكم فليذكرني، وليصلِّ عليَّ".
كلاهما قد وهاه المؤلف، فلا حاجة للتعليق عليهما.
الحديث الثالث عشر
أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/615):
حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل، حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري، حدثنا إسماعيل بن مسلمة، أنبأ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لما اقترف آدم الخطيئة قالك يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يارب لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق غليَّن ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك".
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أو حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب". وتعقبه الحافظ الذهبي فقال:
"قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ،...، رواه عبد الله ابن مسلم الفهري، ولا أدري من ذا، عن إسماعيل بن مسلمة، عنه".
وحكم عليه في "الميزان" بالبطلان، وأعله بالفهري هذا، وقال الحافظ في "اللسان" (3/442):
"لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله، فإنه من طبقته".
يشير بذلك إلى عبد الله بن مسلم بن رشيد، الذي يروي عن الليث ومالك.
قال ابن حبان: "يضع على ليث ومالك وابن لهيعة".
وأخرجه الآجري في "الشريعة" (2/248-249):(1/58)
حدثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: حدثنا أبو الحارث الفهري، قال: حدثني سعيد بن عمرو قال: حدثنا أبو عبد الرحمن بن عبد الله ابن إسماعيل بن بنت أبي مريم، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب موقوفاً به.
فاضطرب فيه الفهري أو وضع له سنداً، ثم رواه على التوهم، فزاد فيه سعيد بن عمرو، وأوقفه على عمر – رضي الله عنه -.
وكذلك ففي السند عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف جداً من قبل حفظه، وإن كنت أرجح أن هذا الخبر قد وُضع عليه، وما أظنه حدَّث به.
بل الذي أرجحه أن الفهري قد سرق هذا الحديث من عثمان بن خالد العثماني، وأنشأ له هذا الإسناد، ورفعه تارة، وأوقفه أخرى.
فقد أخرج الآجري في "الشريعة" (2/246) من طريق: عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: من الكلمات التي تاب الله بها على آدم عليه السلام قال:
"اللهم إني أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم عليك، قال الله عز وجل: يا آدم، وما يدريك بمحمد؟ قال: يارب، رفعت رأسي، فرأيت مكتوباً على عرشك لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك".
وعثمان بن خالد هذا متروك الحديث كما قال الحافظ في "التقريب"، وقد حدَّث عن مالك وغيره بأحاديث موضوعة وابن أبي الزناد متكلم فيه.
وقد ذكر المؤلف عدة متابعات واهية، وبيَّن ما فيها من الضعف، تبعاً لما ذكره العلامة الألباني – حفظه الله – في "التوسل".
إلا أنه عقب ذلك (ص: 247 – 248):
(وبعد كتابة ما تقدَّم ؛ وجدت لحديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم شاهداً قوياً.(1/59)
فقد أخرج الحافظ أبو الحسن بن بشران، قال حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، حدثنا محمد بن صالح، حدثنا محمد بن سنان العوقي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بُديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة، قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبياً؟ قال: "لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وخلق العرش كتب على ساق العرش: محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، فكتب أسمى على الأبواب، والأوراق، والقباب، والخيام، وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى: نظر إلى العرش ، فرأى اسمي، فأخبره الله أنه سيد ولدكن فلما غرهما الشيطان، تابا واستشفعا باسمي إليه".
وأخرجه ابن الجوزي في الوفا.....
وذكره شيخنا العلامة المحقق السيد عبد الله بن الصديق الغماري – نوَّر الله مرقده- في الرد المحكم المتين (ص:138 – 139)، وقال: إسناد هذا الحديث قوين وهو أقوى شاهد وقفت عليه لحديث عبد الرحمن بن زيد. أ. هـ.
وكذا قال الحافظ ابن حجر.
قلت: إسناده مسلسل بالثقات، ما خلا راو واحد صدوق).
قلت: بل الحديث منكر بمرة بهذا اللفظ، بل لا أستبعد أن يكون موضوعاً.
فقد أخرج البخاري في "التاريخ الكبير" (4/1/374) هذا الحديث عن محمد بن سنان العوقي، بسنده بلفظ:
"كنت نبيّاً وآدم بين الروح والجسد".
وتوارد الرواة على روايته عن العوقي بهذا اللفظ المختصر.
فأخرجه الحاكم (2/608)، والبيهقي في "الدلائل" (2/129): عن أبي النضر الفقيه، ومحمد بن سلمة العنزي، عن العوقي به باللفظ المختصر.
ثم تبين لي أن الحديث بهذا اللفظ المطول لا يُحفظ عن ابن بشران الذي عزى المؤلف الحديث إليه.
فقد أخرجه البيهقي في "الدلائل" (1/85):(1/60)
أخبرنا أبو الحسين بن بشران، ببغداد، قال: حدثنا أبو جعفر: محمد بن عمرو الرزاز، قال: حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح قال: حدثنا محمد بن سنان العوقي، قالك حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بُديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر، قال: قلت: يا رسول الله، متى كتبت نبياً؟ قال:
"وآدم بين الروح والجسد".
فهذا هو المحفوظ من رواية ابن بشران، وهو إسناد صحيح، وليست فيه تلك الزيادة المنكرة، ولا فيه ذلك الراوي الذي اضطرب المؤلف في تحديده: (محمد بن صالح)، بل قد صرح أحمد بن إسحاق بن صالح بالسماع من العوقي.
وتابع العوقي عن إبراهيم على هذا الحديث باللفظ المختصر:
عثمان بن سعيد الدارمي عند الحاكم والبيهقي، ومعاذ بن هانيء البهراني عند ابن سعد في "الطبقات" (7/41).
وهذا كله يؤكد أن الحديث لا يصح إلا باللفظ المختصر.
والظاهر أن العلة في اللفظ المطول ممن هم دون ابن بشران، وقد تفرد ابن الجوزي بروايته بهذا اللفظ المطول المنكر من طريق ابن بشران، وهذا غريب جداً.
وعندي أن المؤلف قد اطلع على الرواية المختصرة للحديث من طريق ابن بشران ولابد، لأنه قد عزى الحديث إليها في الحاشية (ص:248)، وإنما تغاضي عنها لأن فيها إعلال الحديث باللفظ المطول، فتنبه ، وتمعن .
فإذا علمت ما سبق تبين لك سقوط قول المؤلف (ص:249) :
(فالصواب أن هذا الإسناد من شرط الحسن على الأقل، ويصححه من يُدخل الحسن في الصحيح من الحفاظ كابن حبان والحاكم ) .
الحديث الرابع عشر
ومتنه:
"من أراد أن يؤتيه الله حفظ القرآن وحفظ العلم فيكتب هذا الدعاء في إناء نظيف بعسل، ثم يغسله بماء مطر، يأخذه قبل أن يقع إلى الأرض، ثم يشربه على الريق ثلاثة أيام، فإنه يحفظ بإذن الله:
اللهم إني أسألك بأنك مسؤول لم يُسأل مثلك، أسألك بحق محمد رسولك ونبيك، وإبراهيم خليلك وصفيك، وموسى كليمك ونجيك، وعيسى كلمتك وروحك..." الحديث.
قد حكم عليه المؤلف بالوضع، فلا تعقيب عليه فيه.(1/61)
( المرجع : كتاب : هدم المنارة لمن صحح أحاديث الزيارة ، للشيخ عمرو عبد المنعم سليم ، يرد فيه على القبوري المعاصر ممدوح سعيد ، ص 101 – 206 )(1/62)