مَقَامَاتُ السَّكَنْدَرِىِّ
الشيخ
أبو محمد أحمد شحاته السكندرى
الدعوة السلفية بالإسكندرية
مقدمة المقامات
***
بسم الله الرحمن الرحيم
عُونَكَ اللهمَّ وتوفيقَكَ
نحمدك يا ذا الجلال والإكرام . ونستهديك لما فيه صلاح أمة الإسلام . ونسترشدك إلى ما يعصمنا من الفتن والبلايا . ونسألك الإعاذة من الشرور والمصائب والرزايا ، إنَّك أهلُ التقوى والمغفرة . وواهبُ الخيرات في الدُّنيا والآخرة .
وبعد ...
فهذه مقامات قصار . أنشأتها على وجه الاضطرار . واقتبستها من بعض دلائل الأخبار . وأقمتها إقامة السهم والسنان . وأودعتها خلاصة معارفى عن النَّاس والزَّمان .
وقديماً عابوا الزمان بتغير أحوال بنيه . وبخفوت صوت العاقل وعلو صوت السفيه . فقال قائلُهم :
إذا كَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ عُكْلٍ وَتَيْمٍ فالسَّلامُ عَلَى الزَّمَانِ
زَمَانٌ صَارَ فِيْه العِزُّ ذُلاً وَصَارَ الزُّجُّ قُدَّامَ السِّنَانِ
وللَّه درُّ الشهابُ الخفاجى . الذى اعتلى من الأدب برجَه العاجى . فقد قابله رفقاء زمانه بكيدهم . فقال متأففاً من جهلهم ومكرهم :
رأيتُ الدَّهرَ يرفعُ كلَّ وَغْدٍ ويخفضُ كلَّ ذى شِيْمٍ شَرِيفَةْ
كَمِثْل البَحْرِ يَغْرَقُ فيه حَىٌّ ولا ينفكُ تطفو فيه جِيفَةْ
أو الميزانِ يخفضُ كلَّ وافٍ ويرفعُ كلَّ ذى زِنَةٍ خَفِيفَةْ
وهذا حين الشروع فيما قصدت . وعلى الله الكريم اعتمدت . وبعونه وتوفيقه اعتضدت . والله الموفق لا رب سواه . ولا معبود بحق الإ ايَّاه .
المقامة الأولى
الشكاية بمظاهر الإنحراف عن طرق الهداية
قال إمام المحدثين ، أبوعبد اللَّه البخارى (( الجامع الصحيح ))(6697،6696) :(1/1)
حَدَّثنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ ، وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ } .
حَدَّثَنَا خَلَّادٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : { إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } .
*** *** ***
حدَّثنى صدقة بنُ قوَّال . وكان لا يكذب قطُّ فى الأقوال . قال : إنَّ قلبى لجريح . فقد انتشر الداءُ القبيح . الذى وردت بشأنه صادقاتُ الأخبار. بأنَّ أهله فى الدرك الأسفل من النَّار . وكثر أشياعُه حتَّى بلغ السيلُ الزُّبى . وتحكموا فى الرقاب والبلاد واستولوا على الوديان والرُّبَى . ولولا أنى على الحياة حريص . لأمليت من أخبارهم أقاصيص . وهاأنذا أبثك بعض ما عندى من اللأولاء . عن مضمون هذه القضية الشوهاء . بكلام أخشى لو سمعوه . أهدروا دمى وأهرقوه . فقلت : قل وأنا لك الفدا . مما تخاف من كيد العدا . ولا تخشى فى اللَّه لوما . فقد خاب من حمل ظلما . فبُثنى شكواك . واللَّه يرعانى ويرعاك .(1/2)
فقال : لا حول ولا قوة إلا باللَّه الواحد . اشتبه الموحِّد بالملحد الجاحد . وعلت أصوات النفاق وآذت الأسماع . وصارت معارف أهل الإيمان من سقط المتاع . وتسنَّم الذروة من كان فى النفاق ضليعا . فلو قيس به أبى بن سلول لكان وضيعا . ممن يقول بحلِّ أموال نسل القردة والخنازير . ويصحِّح القول بجواز بيع الخمر والخنزير . ويحسن الركوع و السجود والجهر بفرائض الطاعات . ولكن فى غير قبلة الصلاة ومساجد الجماعات . فهو أحرُّ من الجمر على الصدور والأفئدة . وأطيش من فراشة أبصرت ناراً موقدة . رقية البهتان والضلال . وقائد جيش الأعور الدجال . يفنى عدد الرمال ونجوم السماء . ولا تفنى معائبُه التى عجزعنها العد والإحصاء . فصدارته معرة المديح والفخر . أرخصت ثمن اللؤلؤ والمرجان وأغلت ثمن الحصى والصخر .
ومن يكنْ الغرابُ له دليلا يمرُّ به على جيفِ الطيورِ
فمن كانت له دعوة مستجابة . فليقل فى ساعة الإجابة . يا رياح اقلعيه . ويا أرض ابلعيه . وأريحى العباد من شروره . واستريحى من زهوه وغروره .
وقد ناب عنه من كان من الرياء وافر المحصول . ممن ركل بكلتا رجليه كتب الفروع والأصول . ومزَّق القاموسَ المحيط ومختارَ الصحاح ولسانَ العرب . وحرَّق صبح الأعشى وعيون الأخبار ونهاية الأرب . فهو عدو الأدب والأدباء . وذبابة طمعٍ وأدواء . مفلس من الدين والعقل . وعدو للسمعيات والنقل .
كأنَّه هامانُ إلا أنَّه يبنى صروحَ الجهلِ والفحشاءِ
فمن سمعه فليتعوذ باللَّه من الخبث والخبائث . وليستعن باللَّه على طارقات الحوادث .(1/3)
وتولى بقية المناصب من قال بتناسخ الأديان . وأجاز التعبد بأعراف الدبلوماسية وقرارات حقوق الإنسان . وجهر بتفضيل أرسطو وافلاطون على البصرى والنخعى . ونادى بإحياء تراث هولاكو ونابليون وإبطال فقه مالك والشافعى . وعلت الأوباشُ المنابر والكراسى . واستوى الأعمى والبصيرُ والذاكرُ والناسى . وكان الامتحانُ من جامع البيان والنسفى ومراقى السعود . فصار من أناجيل النصارى وتلمود اليهود . وكُذب القائلون أنَّ الصدق فضيلة . وقيل لابد من النفاق لتولى المناصب الجليلة . ونسى الجميعُ حقَّ اللَّه وعظَّموا شأن القوت . وصارت بطونُهم أوسع من بطن الحوت . ونبذوا فقه مالكٍ وأحمد والشافعى وأبي حنيفة . فهؤلاء موتى فكيف ينتفع الحىُّ بجيفة ! . واعتقدوا أنهم العباقرة فى تقدير أنفسهم والحسبان . وكل من عداهم فكمٌ مهملٌ فى زوايا النسيان .
وأعوروا عيون أهل الحل والعقد . ونطقوا بتوقير البخل وأبطلوا زكاة النقد . وتلوْا آياتِ القرآن بالتبديل . وحرفوه عن مواضعه فى محكم التنزيل . ومالوا بدلائله وبراهينه إلى مسالك مسدودة . وشروه بثمن بخسٍ دراهم معدودة .
وصار التشبه بأهل الإلحاد قصداً مقصودا . والانحراف عن طرائق الإرشاد نهجاً مورودا . وأمسى التزلف لحضارة الغرب واجبا . وأضحى لأجل ذلك وجه الإيمان شاحبا . واستنصر المتفيهقون بكل ملعونٍ وطريد . واستفتحوا وخاب كلُّ جبارٍ عنيد . وباعوا فى سوقٍ قد خلت إلا منهم القطران فى صورة العنبر . وقد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر .
ويحكم ! ماذا تبغون . وبأى نقدٍ دين اللَّه تبيعون . أتجحدون ميثاق اللَّه . أم تريدون أن تطفئوا نور اللَّه . فاللَّه متمُّ نورِه ولورغمت الأنوف . ومتبِّرٌ ما أنتم فيه ولو عظُمت الزيوف .
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هلالَها
أو تجحدون مقالةً من ربكم جبريل بلَّغها النبىَّ فقالَها
حفظ الأوائل للشريعة قدرها وأتيتُمُ فأردتُمُ إبطالَها(1/4)
تباً لهاتيك الأيادى الجائرة قطع الإلهُ يمينَها وشمالَها
والعجب من أهل الإيمان كيف يسمعون لمن نهى منهم وزجر . وعندنا فى الكتاب من أنباءهم مزدجر . فسورة البقرة قد هتكت الحجاب عن خفايا قلوبهم وما يضمرون . { فى قلوبهم مرض فزادهم اللَّه مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } . وبراءة حذَّرت من الوقوع فى شباك الفتنة التى نصبوها للمؤمنين . { ويحلفون باللَّه ليرضوكم واللَّه ورسوله أحقّ أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } . وسورة المنافقون شهدت على كذبهم وصرَّحت بإفكهم وما يصنعون . { هم العدو فاحذرهم قاتلهم اللَّه أنى يؤفكون } .
فيا أهلَ الإيمان ! قابلوهم بما يُتلى عليكم فى آياتِ الكتاب . { ذلك بأنهم شاقوا اللَّه ورسوله ومن يشاقق اللَّه ورسوله فإن اللَّه شديد العقاب } . وإذا لقيتموهم فتعوذوا منهم بخواتيم القرآن . فإنهم أبعد الخلق عن بنى البشر وأقربهم شبهاً بالشياطين والجان .
وقد أجاد الشهابُ الخفاجى . الذى اعتلى من الأدب برجَه العاجى . فقد قابله أشباهُ هؤلاء بكيدهم . فقال متأففاً من جهلهم ومكرهم :
رأيتُ الدَّهرَ يرفعُ كلَّ وَغْدٍ ويخفضُ كلَّ ذى شِيْمٍ شَرِيفَةْ
كَمِثْل البَحْرِ يَغْرَقُ فيه حَىٌّ ولا ينفكُ تطفو فيه جِيفَةْ
أو الميزانِ يخفضُ كلَّ وافٍ ويرفعُ كلَّ ذى زِنَةٍ خَفِيفَةْ
فالحمد للَّه الذى جعل الدنيا الخافضة الرافعة للسفل الأنذال . لا تستقر على حالٍ فتسلم من الفناء والزوال . فمثل قوله أقول . ولى فى ساحة العذر فضول . والسلام على من اتَّبع الهدى . فمن جانب أمثال هؤلاء اهتدى .(1/5)
ولما فرغ الراوى من الإدلاء بشكايته . قال قد بثثتُك بعض ما عندى من الداء وعلته . وقد أجزتك أن تروى عنى كلَّ ذلك . وأن تبلِّغه أهل الإيمان كذلك . على ألا تنسبها إلىَّ بوصفٍ ولا تسميَّة . فلى ولك مندوحة فى التوريَّة . فقد سرَّنى أن أكون مجهولا . كما سرَّ المنافق أن يكون مشهورا . وادع لى ألا يحرمنى اللَّه من واسع عفوه وسابغه . وألا يجعلنى كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه . فقلت : سمعاً لك وطاعة . وقانى اللَّه وإيَّاك أشراط السَّاعة . فقد مضت أكثرُها منذ أزمانٍ ونحن بانتظار الطارق . كالدابة والدجال وطلوع الشمس من المشارق . ورزقنى وإيَّاك البصيرة الناقدة . وصرف عنا أذى العيون الحاسدة . وبصَّرنا سبل المهتدين . ودفع عنا كيد المفسدين . ممن ينسب إلى علمٍ لا ينفع . ويحمل بين ضلوعه قلباً لا يخشع . ويتيمم بغسالة نعل السلطان ويزعم أنَّه الماء الطهور . ويطوف بالقبور ويقبل الأعتاب ويعتقد أنهما كالمقام والبيت المعمور . إنَّه مجيب الدعاء . واسع الفضل والعطاء .
تمت المقامة المسمَّاة بـ { تلقيح الفهوم بمساوئ علماء الرسوم }
أو { الشكاية بمظاهر إنحراف علماء الوقت عن طرق الهداية }
المقامة الثانية
احذر دعاة الضلالة .. لا يقذفوك فى جهنم
قال إمام المحدثين أبو عبد الله البخارى فى باب : كيف الأمر إذا لم تكن جماعة من (( كتاب الفتن )) :(1/6)
حدثنا محمد بن المثنى حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ابن جابر حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة ابن اليمان يقول : كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ ، مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ ، قَالَ : { نَعَمْ } ، قُلْتُ : وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ ؟ ، قَالَ : { نَعَمْ ، وَفِيهِ دَخَنٌ } ، قُلْتُ : وَمَا دَخَنُهُ ؟ ، قَالَ : { قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ } ، قُلْتُ : فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ ، قَالَ : { نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا } ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا ، قَالَ : { هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا } ، قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ ؟ ، قَالَ : { تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ } ، قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ ؟ ، قَالَ : { فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ } .
* * * * *(1/7)
دعى داعٍ . وسعى ساعٍ . لا أنجح الله مساعيه . ولا أقرَّ عينَه ببلوغ أمانيه . إذ قام على باب جهنم داعياً إلى الضلالة والردى . ويزعم أنه قد رزق التوفيق واهتدى . فما قام ليدعو إلى المنهج القويم . ولكن ليصرف الوجوه عن الصراط المستقيم . وسيعلم الناعق حين ينكشف الغطاء . أن دعوته كانت سراباً بقيعةٍ يحسبه الظمآنُ ماء . ولولا أنه قد خلا له الجو . ما كان بمسموع الصوت بأرضٍ ولا جوّ .
يا لكِ من قُبَّرةٍ بمعمرِ خلا لكِ الجوُّ فبيضى واصفرى
ونقِّرى ما شئتِ أن تنقِّرى قد رُفع الفخُّ فماذا تحذُرى
لا بد يوماً أن تُصَادى فاصبرى !
وأظنك أيها الداعى الغبى . الذى يظن أنه الأصمعى . قد غرَّك رهطٌ احتفوا بك فى مجلسك . وألقوْا السمع إلى هَوَسِك . يصدقونك فى كل هَذَر . ويصوبونك فى كل ما تأتى وتذرّ . ويطئون عَقِبَك فى المسير . ويأتمرون بأمرك فى الجليل والحقير . ويعظِّمونك فى الخطاب . ويمثِّلونك بذوى الألباب . ويلقِّبونك بالإمام اللوذعى . ويرفعونك فوق رتبة الشافعى . وأظنك لم تقارع الأبطال اللهاميم . ولم يدفع بك إلى فارسٍ يعركك عَرْك الأديم . فظننت لجدك العاثر بنفسك الظنون . ورسخ فى دماغك هذا الجنون . ولم تُرزق لشئوم حظِّك ناصحاً رحيماً . ولا مرشداً بأدواء النفوس عليماً . يصرفك عن هواك وعصبيتك . ويحثُّك على التوبة من خطيئتك . ويرشدك إلى المناهج السويَّة . ويلحقك بذوى الآداب المرعيَّة . ويوقظك من غَفَلاتك ويقول :
أراك على شفا خطرٍ مهولِ بما آذيت راسَكَ من فُضولِ
ألم تعلم أنه فيما حولك فحولٌ ولكنهم صامتون . ونحاريرُ علمٍ ولكنهم متواضعون . لا يُشقُّ لهم غُبَار . ولا يُجرى معهم فى مِضْمَار . فإن كنت رأيت نفسك فوق الكلّ . فما أشبهك بضلِّ ابن ضل . أنفٌ فى السماء وإستٌ فى الماء . فلا يغْررُك ما أقامك أشياعُك فيه . فإنَّ قدركَ لا يخفى على العاقلِ النبيه .(1/8)
ألم تعلم أن من لم يأمن مع الدَّعْدَعة سُرعة العِثار . ويحتاج إلى مصباحٍ يهديه فى ضوء النهار . أنَّه إذا سابق فى المضمار العِتَاق الجياد . وناضل عند الرِّهَان ذوى البأس الشداد . فقد جعل نفسه سخرةً للساخرين . وأضحوكةً للضاحكين وغرضاً للسهام . وكرةً بين الأقدام .
فأقبلْ منِّى النصيحة . واتقِ الخزى والفضيحة . { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } . لا من كان ضبَّ العشيَّات وحِرْباء الظَّهائر . ولا يُستفتى من ركب بحرَ الأهوال . حتى وصل إلى ساحل الضلال . ولا من أمعن السير فى التِّيه حتى لم يجد للهداية طرقا . فإن المُنْبَتَ لا طريقاً قطع ولا ظهراً أبقى . ولا من تأبط كتباً أفطر عليها الجُرْذان . وافتخر بحيازته إيَّاها ونادى وأسمع الآذان :
هى كتبى فليس تصلُحُ من بعدى لغير العطَّارِ والإسكافى
هى إمَّا مزاودُ للعقاقيرِ وإمَّا بطائنُ للخِفافِ
فلله درُّ القائل . حزناً على الكرام الأوائل :
خلتْ الدِّيارُ فلا كريمٌ يُرتجَى منه النوالُ ولا مليحٌ يعشقُ
ومن العجائب أنَّه لا يُشترى ويُخانُ فيه مع الكساد ويُسرقُ
فإن لم يكن عندك شئٌ من خبرك . فلأمرٍ ما تلطَّف العارفون فى أمرك . فقد جال فيك الصِّدقُ جولةً فأرْدَاك . ولو كانت منه جولاتٌ لأسلمك إلى مثواك . وأنبأنا أن الدين عُدل به عن نبلاء المحسنين . إلى الدخلاء الأمِّيين . { الذين لايعلمون الكتاب إلا أمانى } . ولايُدركون بأفهامهم إلا المَرئى . فحديثهم ملئٌ بالعجز والتشغيب . والحيدة عن القياس المصيب .
فلا تكن كمن أسلمته ملائكةُ الموت إلى منكرٍ ونكير . وهما أديَّا أمانتَهما إلى مالكٍ خازنِ السعير . ولا تلقى بيدك إلى التهلكة والفساد . واسمع نصيحتى ولا تتمادى فى العناد . فإن عدت إلى رشدك فأنا لك صديق . وقانا الله وأهل الإسلام مزالق الطريق .
تمت المقامة المسمَّاة بـ { احذر دعاة الضلالة .. لا يقذفوك فى جهنم } .(1/9)
رسالة إلى مجلةالأزهر
***
فضيلة الدكتور .. رئيس تحرير الأزهر .
تحية تقدير واحترام . وسلام اللَّه عليكم ورحمته وبركاته .
وبعد .. فقد طالعتنا مجلتكم الزاهرة ، فى عددها ذى الحجة 1416هـ ، بمقالٍ للشيخ / عبد الفتاح السيد جمعان ، بعنوان (( نظرات فى ألفاظ القرآن )) / مادة حجَّ . وقد استرعى انتباهنا أنَّ فضيلته تطرق إلى ذكر اختلاف العلماء فى أيهما أفضل : الحج ماشياً أم راكباً ؟ .
ورغم أنَّه ذكر أنَّ الجمهور على القول : بأن الحجَّ راكباً أفضل اقتداءاً برسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ، مع كمال قوته وقدرته على المشى ، إلا أنَّه ذكر احتجاج المخالفين بحديث ابن عبَّاسٍ مرفوعاً (( للماشى سبعمائة حسنة من حسنات الحرم )) ، ولم يعلِّق عليه بشئٍ !! .
وربما أوهم ذلك كثيراً من القرَّاء صحة الحديث ، فإن عزوه لمخرجيه مع السكوت عنه مشعرٌ بذلك . فرأيت أنَّ من الواجب التنبيه على ما بالحديث من ضعفٍ يوجب بطلان حجيته فى موطن الخلاف ، إذ الأحاديث الضعيفة لها عند معارضتها للصحاح حكم بخلاف حكمها إذا ما لم تُعارض بأصحِّ منها .
وإنما قال جماعة من المتأخرين بموجبه ؛ لعدم وقوفهم على ضعف الحديث وانتفاء حجيته ، وأكتفى هاهنا بذكر كلام الحافظ المناوى فى (( فيض القدير ))(2/497) ، فقد قال : (( وهذا كما ترى صريح في أن الحجَّ ماشياً أفضل . وبه أخذ جمع ، وهو وجه عند الشافعية ، وذلك لكثرة الأجر بكثرة الخطا . وعكس آخرون ؛ لكون الركوب أبعد عن الضجر وأقل للأذى ، وأقرب للسلامة ، وفي ذلك تمام حجه . وتوسط آخرون بحمل الأول على من سهل عليه المشي ، والثاني على خلافه . والمصحَّح عند الشافعية الثاني بإطلاقه )) .
ولما كان ذلك كذلك ، وجب التنبيه بهذا البيان :
(( فصل البيان بضعف أحاديث فضل مشاة الحجاج على الركبان ))
احتج القائلون بأفضلية المشى فى الحج بثلاثة أحاديث ، فهاكها مع بيان تخريجاتها :(1/1)
(1) (( من حج من مكَّة ماشياً حتى يرجع إلى مكَّة كتب اللَّه له بكل خطوةٍ سبعمائة حسنة ، كلّ حسنة مثل حسنات الحرم . قيل : وما حسنات الحرم ؟ ، قال : لكل حسنة مائة ألف حسنة )) .
منكر . أخرجه ابن خزيمة (2791) ، والبزار كما فى (( كشف الأستار))(2/25/1120) ، والدولابى (( الكنى ))(2/13) ، والطبرانى (( الكبير ))(12/105/12606) و(( الأوسط )) (3/122/2675) ، والحاكم (1/461) ، والبيهقى (( الكبرى ))(4/331) و(( شعب الإيمان )) (7/538/3695) جميعا من طريق عيسى بن سوادة عن إسماعيل بن أبى خالد عن زاذان عن ابن عباس مرفوعاً به .
قال أبو بكر بن خزيمة : (( إن صحَّ الخبر ، فإن فى القلب من عيسى بن سوادة شيئاً )) .
وقال أبو عبد اللَّه الحاكم : (( صحيح الإسناد )) ، فتعقبه الحافظ الذهبى فى (( التلخيص )) بقوله : (( ليس بصحيح ، أخشى أن يكون كذباً ، وعيسى منكر الحديث )) .
قلت : هو كما قال ، منكر الإسناد والمتن . وآفته عيسى بن سوادة النخعى .
قال ابن أبى حاتم (( الجرح والتعديل ))(6/277/1539) : (( عيسى بن سوادة بن الجعد النخعي . كوفى سكن الري . روى عن : ليث بن أبى سليم ، وعامر بن عبد الله بن الزبير ، وعمرو بن دينار ، والزهري ، وعبد الله بن الحسن ، ومحمد بن المنكدر ، وأبى حازم بن دينار وإسماعيل بن أبى خالد ، وجعفر بن سليمان الضبعي . روى عنه : هشام بن عبيد الله ، ومحمد ابن عبد الله بن أبى جعفر الرازي ، وزنيج ، وعمرو بن رافع ، ويوسف بن واقد ، وعلى بن سعيد سنان ، وأبو سعيد وعثمان . سمعت بعض ذلك من أبى ، وبعضه من قبلى . وسألت أبى عنه فقال : هو منكر الحديث ضعيف ، روى عن إسماعيل بن أبى خالد عن زاذان عن ابن عباس عن النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم حديثاً منكراً )) .(1/2)
وقال الحافظ الذهبى (( ميزان الاعتدال ))(5/377/6575) : (( عيسى بن سوادة النخعي عن الزهري . قال أبو حاتم منكر الحديث ، وعنه : زنيج ، وعمرو بن رافع ، وأهل الري . وقال ابن معين : كذاب رأيته )) .
ثم قال (5/377/6576) : (( عيسى بن سواء ـ هكذا بالهمزة المفردة ـ . عن إسماعيل بن أبي خالد ، وعنه محمد بن حميد . قال البخاري في (( الضعفاء الكبير )) : منكر الحديث . حدثني عبد الله حدثنا محمد بن حميد حدثنا عيسى بن سواء حدثنا إسماعيل بن أبي خالد البجلي عن زاذان قال : مرض ابن عباس فجمع أهله ، فقال : يا بني سمعت رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقول : (( من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إلى المنتهى ؛ كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم ، الحسنة بمائة ألف حسنة )) . قلت : هذا ليس بصحيح )) .
قلت : هكذا جعله الذهبى ترجمتين : ابن سوادة ، وابن سواء ، ونسب الحديث لابن سواء على ما ورد بـ (( الضعفاء الكبير )) ، والظاهر أنه ابن سوادة ، وإنما وقع هكذا فى رواية ابن حميد عند البخارى .
والخلاصة ، فالحديث منكر بهذا الإسناد ، ولا تنتهض الحجة بمثله .
(2) (( إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة ، وللماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم . قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم ؟ . قال : الحسنة بمائة ألف حسنة )) .
ضعيف جداً . أخرجه الفاكهى (( أخبار مكَّة ))(1/392/832) ، وأبو الوليد الأزرقى (( أخبار مكَّة ))(2/7) ، وأبو نعيم (( أخبار أصبهان ))(2/354) ، والمقدسى (( الأحاديث المختارة ))(10/51/45) من طرق عن يحيى بن سُليم الطائفى عن محمد بن مسلم الطائفى عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن جبير قال قال ابن عبَّاس لبنيه : يا بني أخرجوا من مكة مشاةً حتى ترجعوا الى مكة مشاة ، فإني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : فذكره .(1/3)
وتابعه عن محمد بن مسلم : عبد الله بن محمد بن ربيعة المصيصى ، وحجاج بن نصير ، وخالفاه على الإسناد والمتن .
أخرجه ابن عدى (( الكامل ))(4/258) ، وأبو القاسم الأصبهانى (( الترغيب والترهيب )) (2/7/1037) كلاهما عن عبد الله بن محمد بن ربيعة المصيصى عن محمد بن مسلم الطائفى عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما آسى على شيءٍ إلا على أني لم أحج ماشياً ، إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : (( من حج راكبا كان له بكل خطوة حسنة ، ومن حج ماشياٍ كان له بكل خطوة يخطوها سبعون حسنة من حسنات الحرم )) .
وأخرجه ابن الجوزى (( العلل المتناهية ))(2/567/932،931) من طريق حجاج بن نصير عن محمد بن مسلم عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( من حج من منى الى عرفة ماشيا ؛ كانت له مائة حسنة من حسنات الحرم . قالوا : يا رسول الله وما حسنات الحرم ؟ . قال : الحسنة بألف حسنة )) . قلت : وهذه إسانيد ضعاف كلها لا يصحُّ منها شئ ، ولها ثلاث آفات :
[[ الأولى ]] ضعف الإسناد . يحيى بن سُليم ، وحجاج بن نصير ، وعبد الله بن محمد بن ربيعة المصيصى ثلاثتهم ضعاف كثيرو الوهم والخطأ ، وعامة أحاديثهم غير محفوظة . وأشدهم ضعفاً المصيصى . قال ابن حبان (( المجروحين ))(2/39) : (( كان تُقلب له الأخبار فيجيب فيها ، لا يحل ذكره فى الكتب إلا على سبيل الاعتبار . ولعله أُقلب له على مالك أكثر من مائةٍ وخمسين حديثاً فحدَّث بها كلها ، وعن إبراهيم بن سعد الشئ الكثير )) .
وقال الحافظ ابن حجر (( لسان الميزان ))(3/335) : (( وقال الحاكم والنقاش : روى عن مالك أحاديث موضوعة . وقال الخليلي : أخذ أحاديث الضعفاء من أصحاب الزهرى ، فرواها عن مالك . وقال السمعاني في (( الأنساب )) : كان يقلب الأخبار لا يحتج به . وقال أبو نعيم الأصبهاني : روى المناكير )) .(1/4)
وأما محمد بن مسلم الطائفى ، فإنَّه وإن وثَّق ، واحتج به مسلم ، ففيه ضعف من قبل حفظه . قال عباس بن محمَّدٍ الدورى عن يحيى بن معين : ثقة لا بأس به وابن عيينة أثبت منه ، وكان إذا حدث من حفظه يخطىء ، وإذا حدث من كتابه فليس به بأس . وقال الميموني : ضعفه أحمد بن حنبل على كل حال من كتابٍ وغير كتابٍ . وقال ابن حبان لما ذكره في (( الثقات )) : يخطىء .
قلت : وإنما احتج به مسلم فى (( صحيحه )) فى المتابعات ، وليس له عنده سوى حديثاً واحداً . أخرجه فى (( الحيض )) ، قال : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ مَوْلَى آلِ السَّائِبِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَائِطِ ، فَلَمَّا جَاءَ قُدِّمَ لَهُ طَعَامٌ ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا تَوَضَّأُ ؟ ، قَالَ : (( لِمَ ؟ ، أَلِلصَّلاةِ )) .
[[ الثانية ]] الاضطراب على متنه وإسناده . فأما المتن ، فظاهر من سياقة ألفاظه على الاختلاف بين روايات يحيى بن سليم ، وحجاج بن نصير ، وعبد الله بن ربيعة المصيصى . فمرة (( سبعمائة حسنة )) ، وثانية (( سبعون حسنة )) ، وثالثة (( مائة حسنة )) !! .
وأما الإسناد : فعلى أربعة ألوان :
[ الأول ] (( عن إبراهيم بن ميسرة )) كما سلف .
[ الثانى ] (( عن إسماعيل بن أميَّة )) بدل (( إبراهيم بن ميسرة )) . أخرجه هكذا الطبرانى (( الكبير ))(12/75/12522) ، والمقدسى (( الأحاديث المختارة ))(10/54/47) كلاهما من طريق إبراهيم بن زياد سبلان ثنا يحيى بن سليم عن محمد بن مسلم الطائفي عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً .(1/5)
[ الثالث ] (( عن إسماعيل بن إبراهيم )) بدل (( إسماعيل بن أمية )) . أخرجه هكذا البزار كما فى (( كشف الأستار ))(2/26/1121) .
[ الرابع ] بإسقاط هؤلاء جميعاً ، وروايته (( عن محمد بن مسلم عن سعيد بن جبير )) بلا واسطة . ذكره هكذا ابن أبى حاتم (( علل الحديث ))(1/279/826) قال : (( سئل أبي عن حديث رواه يحيى بن سليم الطائفي عن محمد بن مسلم الطائفي عن سعيد بن جبير أن عبد الله ابن عباس قال : يا بني أخرجوا من مكَّة مشاة ؛ حتى ترجعوا مشاة حاجين ، فإنِّي سمعت رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : ... فذكر نحوه .
قال أبى : محمد بن مسلم عن سعيد بن جبير مرسل . وهذا حديث يروى عن رجل مجهول ، وليس هو بصحيح )) .
[[ الثالثة ]] الاختلاف على رفعه ووقفه . فقد رواه موقوفاً أبو الوليد الأزرقى (( أخبار مكَّة ))(2/7) من طريق زيد الحوارى عن سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس أنَّه جمع بنيه عند
موته ، فقال : يا بنى لست آسى على شئٍ كما آسى على أن لا أكون حججت ماشياً ، فحجُّوا مشاةً ، قالوا : ومن أين ؟ ، قال : من مكَّة حتى ترجعوا إليها ، فإن للراكب بكلِّ قدمٍ سبعين حسنة ، وللماشى بكلِّ قدمٍ سبعمائة حسنة من حسنات الحرم )) .
قلت : هكذا رواه موقوفاً ولم يرفعه . وفى إسناده زيد العمى ، وهو ضعيف . وللحديث عن ابن عباس موقوفاً طرق ، ذكرها الطبرى فى (( تفسيره )) ، وليس يصح منها شئ .
*** *** ***
(3) (( للماشى أجر سبعين حجَّة ، وللراكب أجر ثلاثين حجَّة )) .(1/6)
موضوع . أخرجه الطبرانى (( الأوسط ))(7/134/7083) و(( مسند الشاميين ))(1/59/60) قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر السراج ثنا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني ثنا محمد بن محصن العكَّاشي ثنا إبراهيم بن أبي عبلة عن عبد الواحد بن قيس قال سمعت أبا هريرة يقول : قدم على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم جماعة من مزينة ، وجماعة من هذيل ، وجماعة من جهينة ، قالوا : يا رسول الله ! إنا خرجنا إلى مكَّة مشاة ، وقوم يخرجون ركباناً ، فقال النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم : (( للماشي أجر سبعين حجة ، وللراكب أجر ثلاثين حجة )) .
قلت : هذا إسناد واهٍ بمرة . محمد بن محصن هو محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن عكاشة بن محصن الأسدي ؛ مجمع على تركه ، لم يرضه أحد .
قال يحيى بن معين وأبو حاتم : كذاب . وقال ابن عدى : أحاديثه كلها مناكير موضوعة . وقال ابن حبان : يضع الحديث على الثقات ، لا يحل ذكره إلا على سبيل القدح فيه . وقال الدارقطني : متروك يضع .
*** *** ***
وهناك حديث رابع ، وإن لم يذكره القائلون بأفضلية المشى ، ولكنه مندرج فى الباب ، وهو :
(4) (( إن الملائكة لتصافح ركَّاب الحجاج ، وتعتنق المشاة )) .
موضوع . أخرجه البيهقى (( شعب الإيمان))(3/474/4099) من طريق أبى على حامد بن محمد الرفا وأبى الحسن أحمد بن إسحاق الطيبى ، كلاهما عن محمد بن يونس نا موسى بن هارون بن أبي الجراح بن خالد بن عثمة نا يحيى بن محمد المديني نا صفوان بن سُليم عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( إن الملائكة لتصافح ركاب الحجاج ، وتعتنق المشاة )) .
قال أبو بكر : (( إسناده فيه ضعف )) .
وقال الحافظ المناوى (( فيض القدير ))(2/393) : (( وسبب ضعفه أن فيه محمد بن يونس .
فإن كان الجمال فهو يسرق الحديث كما قال ابن عدي ، وإن كان المحاربي فمتروك الحديث(1/7)
كما قال الأزدي ، وإن كان القرشي فوضاع كذاب كما قال ابن حبان )) اهـ .
قلت : والحاصل أن راويه على كل احتمال مما يقضى على حديثه بالوضع ، وعلامات الوضع على هذا الحديث لائحة ، لا تخفى على من له بصيرة بعلم الحديث . وإن كنت أكاد أجزم بأنَّه محمد بن يونس القرشى الكديمى المتهم بالوضع ، وذلك لأن كلاً من : أبى على حامد ابن محمد الرفا ، وأبى الحسن أحمد بن إسحاق الطيبى من المعروفين بالرواية عنه . والله أعلم
وكتبه
الشيخ أحمد شحاته الألفى
سيدى بشر قبلى . الإسكندرية(1/8)
رسالة إلى مجلة العربى الكويتية
***
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
سعادة الدكتور .. رئيس تحرير (( العربى )) .
تحية تقدير واحترام . وبعد !
فقد طالعتنا مجلتكم الموسوعية ، فى عددها الصادر فى إبريل عام 1996م ، بمقال للمستشار الوراثى الدكتور/ غسَّان حتحات ، حول زواج الأقارب ، وما يصاحبه من احتمالات إنجاب أطفال مرضى وراثياً . وقد صوَّر الأستاذ الدكتور هذا النوع من الزواج بأنَّه علاقة تختلط فيها المأساة بالمهزلة ، وأن ظلال الأمراض تخيِّم على أجوائه ، والمعاناة تعشش بأطنابه !! .
زواج الأقارب بين الحقيقة الشرعية والوهم العلمى
وإن كان ثمة تعليقٍ من الناحية العلمية والدراسة الأكاديمية ، فلنكتفى من ذلك بزبدة دراسةٍ علميةٍ ، أجراها الأستاذ الدكتور أحمد الكباريتى ؛ أستاذ علوم الوراثة بجامعة الكويت سابقاً ، وقد نشرتها مجلة (( القبس )) الكويتية ؛ فى عددها الصادر فى25 من ديسمبر لسنة 1977م . وقد انتهى الأستاذ الدكتور الكباريتى إلى توصيةٍ هامةٍ ، خالف فيها هذا الاعتقاد الشائع عن زواج الأقارب أنَّه مصحوب بانتشار الأمراض الوراثية ، فقال :
(( إنَّ هذا اعتقادٌ خاطئٌ ))
وقال الأستاذ الكباريتى : (( إنه نتيجة البحث العلمى فى مجتمع ينتشر فيه زواج الأقارب ، وآخر يكثر فيه زواج الأباعد ، وثالث يكثر فيه الزواج بين أجناس مختلفة ، ثبت عدم وجود أى فرق بين هذه المجتمعات من ناحية انتشار الأمراض الوراثية )) . وانتهى إلى أنَّ :
(( زواجُ الأقاربِ لا يشكلُ أىَّ خطورةٍ على الأجيالِ المتعاقبةِ ))
فهذه زبدة البحث العلمى ، الذى أجراه أستاذ علم الوراثة الدكتور أحمد الكباريتى .
الاستدلال القرآنى على الترغيب فى الزواج بالأقارب(1/1)
ولنا فى الدلالة على الترغيب فى الزواج بالقرابة القريبة ، قول اللَّه جلَّ ذكرُه لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم (( إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمِّك وبنات عمَّاتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك )) ( الأحزاب :50) .
وقد يقال : إنَّ إحلال بنات الأعمام والعمات ، والأخوال والخالات ، إنما هو من خصوصياته صلَّى الله عليه وسلَّم ؛ بدلالة قوله تعالى بعده فى الآية (( وامرأةً مؤمنة إن وهبت نفسها للنَّبىِّ إن أراد النَّبىُّ أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين ))( الأحزاب :50) ! .
فنقول : هذا زعم خاطئ ، وتأويل بعيد عن واقع حال عموم المكلفين من أهل التوحيد ، فقد زوَّج النَّبىُّ ابنته فاطمة رضى الله عنها من ابن عمِّها على بن أبى طالب رضى الله عنه ، وقد تزوَّج كثير من الصحابة من بنات الأعمام والعمَّات ، وأقرَّه صلَّى الله عليه وسلَّم وباركه .
ولا يعوزنا ذكر هذه الزيجات المباركات ، التى أثمرت نسلاً باهت به أمَّة الإسلام ، وفاخرت أمم الأرض ، فهى فوق العدَّ والإحصاء ، وهى فى واقع الأمر التطبيق الفقهى العملى لهذه الآية من سورة الأحزاب .
فمنها زواج عمر بن الخطاب العدوى رضى الله عنه بابنة عمِّه عاتكة بنت زيد بن عمرو ابن نفيل العدوية ، أخت سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين . وزواج سعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل العدوى رضى الله عنه بابنة عمِّه فاطمة بنت الخطاب أخت عمر ، وزواج الحارث ابن هشام بن المغيرة المخزومى رضى الله عنه بابنة عمِّه فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومية ، أخت خالد بن الوليد رضى الله عنه .(1/2)
وإن تعجب ، فعجب قول حجَّة الإسلام أبى حامد الغزالى ، عند الكلام على الخصال التى لابد من مراعاتها فى المرأة المنكوحة ليدوم العقد ، وتُحمد العشرة ، وتتواصل الوشائجُ . فقد قال فى (( إحياء علوم الدين )) : (( الثامنة : أن لا تكون من القرابة القريبة ، فإن ذلك يقلِّل الشهوة ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم (( لا تنكوا القرابة القريبة ، فإن الولد يُخلق ضاوياً )) أى نحيفاً ، وذلك لتأثيره فى تضعيف الشهوة ، فإن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإحساس بالنظر ، وإنما يقوَى الإحساسُ بالأمر الغريب الجديد ، فأما المعهود الذى دام النظر إليه مدَّة ، فإنَّه يضعف الحسَّ عن تمام إدراكه والتأثر به ، ولا تنبعث به الشهوة )) اهـ بنصه .
وسوف أغضُّ الطرف عما فى كلام حجَّة الإسلام الغزالى من الأمور النفسانية التى تتأثر بها بواعث الشهوة قوةً وضعفاً ، فما أبعده عن البرهان والدليل على الأحكام الشرعية التكليفية ! . والذى ينبغى توسيع دائرة انتقاده من كلام حجَّة الإسلام ـ رحمه الله ـ ، هو نسبة هذا النهى عن الزواج بالقرابة إلى النَّبىِّ المعصوم صلَّى الله عليه وسلَّم ، والجزم بأن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد قال هذا الكلام ، الذى لا يصدر مثلُه عن مشكاة النُّبوة ، وقد قامت الحجَّة من السنَّة الفعلية على بطلان هذه النسبة ، إذ كيف ينهى النبىُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عما نُدب إليه وأُمر بفعله بنص القرآن العظيم ؟!! .
أمرٌ ثانٍ ، وهو أن هذا الحديث باطل ليس مما يعتمد عليه فى ثبوت النهى المذكور ، فقد قال الحافظ زين الدين العراقى فى (( تخريج الإحياء )) : (( قال أبو عمرو بن الصلاح : لم أجد له أصلاً معتمداً . قلت : إنما يعرف من قول عمر أنه قال لآل السائب : قد أضويتم ، فانكحوا فى النوابغ )) . رواه إبراهيم الحربى فى (( غريب الحديث )) ، وقال : معناه تزوجوا الغرائب . وقال : يقال : اغتربوا ولا تضووا )) اهـ .(1/3)
وقد بيَّن الحافظ ابن حجر فى (( تلخيص الحبير )) أن قول عمر هذا رواه إبراهيم الحربى فى (( غريب الحديث )) عن عبد الله بن المؤمَّل عن ابن أبى مليكة قال : قال عمر لآل السائب فذكره .
ومن له معرفة بعلم تخريج الأحاديث ، يعلم يقيناً أن الحجة لا تنتهض بمثل هذا الإسناد ، فإن عبد الله بن المؤمَّل المخزومى قد ضعَّفه الأئمة ، لأن عامة أحاديثه غير محفوظة .
وأما قوله (( اغتربوا ولا تضووا )) فهو كذلك ليس من قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فقد ذكره الإمام ابن قتيبة الدينورى فى (( غريب الحديث )) ، فى قسم أحاديث سمع أصحاب اللغة يذكرونها ولايعرف أصحابها .
والخلاصة أن صاحب الشريعة لم ينهى عن الزواج من الأقارب ، بل أكدت سنته الفعلية وقوعه وإقراره ، إذ لم يتعلق التحريم بمسألة القرابة والغرابة فى قبيل ولا دبير ، بينما تعلق التحليل بالقرابة تعلقاً وثيقاً فى قوله تعالى (( إنا أحللنا لك )) فذكره جل ذكره (( وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك )) .
وختاماً ، فالمسألة مثار بحث لايقتصر النظر فيه على علماء الطب وحدهم ، بل ينبغى التعرف على فتاوى علماء الشريعة فيه ، لتعلقه بمهمات مصالح المتعبدين .
والحمد لله أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً ،
كتبه الشيخ أحمد شحاته
مصر . الإسكندرية . سيدى بشر
مسجد الإمام البخارى(1/4)
رسالة إلى مجلة الأزهر
***
ذكر الشيخ الألبانى فى (( إرواء الغليل ))(5/288/1468) :
حديث (( يقول اللَّه تعالى : أنا ثالث الشريكين ، ما لم يخن أحدهما صاحبه ، فإذا خان أحدهما صاحبه خرجتُ من بينهما )) .
فقال : (( ضعيف . أخرجه أبو داود (33383) ، والدارقطنى (303) ، والحاكم (2/52) ، والبيهقى (6/78) من طريق محمد ابن الزبرقان أبى همام عن أبى حيان التيمى عن أبى هريرة قال : قال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : فذكره .
وقال الحاكم : (( صحيح الإسناد )) ، ووافقه الذهبى ! .
وأقرَّه المنذرى فى (( الترغيب والترهيب ))(3/31) ! .
وأقول : بل ضعيف الإسناد ، وفيه علتان :
( الأولى ) الجهالة ، فإن أبا حيان التيمى اسمه يحيى بن سعيد بن حيان . وأبوه سعيد ، أورده الذهبى فى (( الميزان )) ، وقال : (( لا يكاد يُعرف ، وللحديث علَّة )) . وأما الحافظ ، فقال فى (( التقريب )) : (( وثَّقه العجلى )) .
قلت : وهو من المعروفين بالتساهل فى التوثيق ، ولذلك لم يتبن الحافظ توثيقه ، وإلا لجزم به فقال : (( ثقة )) كما هى عادته ، فيمن يراه ثقة ، فأشار إلى هذا لأنه ليس كذلك عنده ، بأن حكى توثيق العجلى له .
( الثانية ) الاختلاف فى وصله . فرواه ابن الزبرقان هكذا موصولاً ، وهو صدوق يهم كما قال الحافظ ، وخالفه جرير فقال : (( عن أبى حيان التيمى عن أبيه قال قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : فذكره )) . أخرجه هكذا الدارقطنى من طريق لوين محمد بن سليمان ، ثم قال : (( لم يسنده أحد إلا أبو همام وحده )) .
قلت : وأبو همام فيه ضعفٌ ، ولعل مخالفه جرير ، وهو ابن عبد الحميد الضبى خير منه . فقد ترجمه الحافظ : (( ثقة صحيح الكتاب ، وقيل : كان فى آخر عمره يهم من حفظه )) .
وجملة القول أن الحديث ضعيف ، للاختلاف فى وصله وإرساله ، ولجهالة راويه )) اهـ .
*********(1/1)
قلت : لم يصنع الشيخ الألبانى بعد ذكره لمصادر تخريج الحديث شيئاً ، سوى صياغة ما استفاده من كلام ابن القطان فى (( كتاب الوهم والإيهام )) ، بعبارة فيها كثير من اللف والنشر، مع تقليده له على تضعيف الحديث !! .
ونص عبارة ابن القطان : (( وهو حديث يرويه أبو حيان التيمى عن أبيه عن أبى هريرة . وأبو حيان هو يحيى بن سعيد بن حيان أحد الثقات ، ولكن أبوه لا يُعرف حاله ، ولا يُعرف من روى عنه غير ابنه . ويرويه عن أبى حيان : أبو همام بن الزبرقان . وحكى الدارقطنى عن لُوين أنه قال : لم يسنده غير أبى همام ، ثم ساقه من رواية أبى ميسرة النهاوندى ثنا جرير عن أبى حيان عن أبيه أن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مرسل )) اهـ .
قلت : وهذا الذى ذكره أبو الحسن بن القطان فى إعلال الحديث مشهور مستفيض عنه ، نقله عنه الكثيرون من الحفاظ ، كالحافظ ابن الملقن(( خلاصة البدر المنير ))(2/93) ، والحافظ عمر بن على الوادياشى (( تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج ))(2/271) ، والحافظ ابن حجر فى (( تلخيص الحبير ))(3/49) ، والحافظ المناوى فى (( فيض القدير ))(2/308) ، والأمير الصنعانى فى (( سبل السلام ))(3/46) ، والقاضى الشوكانى فى (( نيل الأوطار ))(5/390) ، وشمس الحق العظيم آبادى فى (( عون المعبود ))(9/170) وغيرهم ، إلا أن الحافظ ابن الملقن الشافعى تعقبه بقوله : (( أعله ابن القطان بما بان أنه ليس بعلة )) ، وكذا قال الحافظ الوادياشى الأندلسى .
قلت : وهو كما قالا ، والحديث صحيح ولا عبرة فى تضعيفه للوجوه الآتية :(1/2)
[ أولاً ] سعيد بن حيان التيمى الكوفى ، والد يحيى بن حيان ، لا يتوجه القول بتضعيفه بمجرد القول : (( لا يكاد يُعرف )) ، فإنها ليست من عبارات التضعيف ، كما هو معروف فى (( قواعد الجرح والتعديل )) ، وإنما يخالف فى هذا المتأخرون الذين يضعفون المجاهيل مطلقاً بلا حجة ، من غير تفريق بين كبارهم وصغارهم . ومفهومها عند قائلها ، وهو الحافظ الذهبى ، ما بيَّنه فى خاتمة (( ديوان الضعفاء ))(ص374) : (( وأما المجهولون من الرواة ، فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقى بحسن الظن ، إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ )) . فلماذا تغاضى الألبانى عن هذه القاعدة الذهبية المفسِّرة لقوله (( لا يكاد يُعرف )) ؟! .
علماً بأن سعيد بن حيان كما قال الحافظ فى (( التقريب ))(1/293) : (( من الثالثة )) يعنى من أوساط التابعين كالحسن البصرى وابن سيرين . وإنما نقول هذا رداً على من ضعَّفه ، وإلا فالرجل فى غنيةٍ عن هذا الدفاع ، فقد وثَّقه اثنان : العجلى فى (( معرفة الثقات ))(1/396) ، وابن حبان فى (( الثقات )) (4/280/2901) ، وقال الحافظ (( تهذيب التهذيب ))(4/17/26) : (( لم يقف ابن القطان على توثيق العجلى ، فزعم أنه مجهول )) ، وأما اقتصاره فى (( التقريب )) على ذكر توثيق العجلى فلهذه العلَّة التى بيَّنها ، وليس كما زعم الألبانى أنه لم يتبين له توثيقه !! ، سيما وقد ذكر فى (( التهذيب )) أن العجلى وابن حبان وثَّقاه ، ولا يخفى أن (( التقريب )) اختصار للـ(( التهذيب )) .
وأما الحافظ الذهبى الذى ذكر فى (( الميزان )) أنَّه (( لا يكاد يُعرف )) بناءً على قاعدته الآنفة فى (( ديوان الضعفاء )) ، فقد أعاد ذكره فى (( الكاشف ))(1/434/1871) فقال : (( ثقة )) .
وقد ذكر سعيداً هذا البخارى فى (( التاريخ ))(3/463/1539) ، وابن أبى حاتم فى (( الجرح والتعديل ))(4/12/44) فلم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً .(1/3)
والخلاصة ، فإن سعيد بن حيان التيمى ، والد أبى حيان التيمى ، ثقة مرضىٌّ ، وإن تفرد عنه ابنه ، وحديثه متلقى بالقبول .
[ ثانياً ] محمد بن الزبرقان أبو همام الأهوازى ، ثقة من رجال (( الصحيحين )) ، وثقه على بن المدينى ، والبخارى ، وابن حبان ، والدارقطنى . وقال أبو حاتم الرازى : صالح الحديث صدوق . وقال أبو زرعة : صالح وسط . وقال النسائى : ليس به بأس . وقال ابن حبان : ثقة ربما أخطأ . ولأجل ذلك ، وتوفيقاً بين كلام الأئمة ، قال الحافظ ابن حجر (( التقريب ))(2/161) : (( صدوق ربما وهم )) وفرقٌ بين هذا وبين ما نقله عنه الألبانى بالمعنى بقوله (( صدوق يهم )) ، فإن الحكم الصحيح ينبؤ عن قلة وهمه أو ندرته ، بينما ينبؤ الثانى عن الكثرة واللزوم !! .
وعليه ، فالأهوازى ثقة ربما أخطأ كما يخطئ غيرُه من الثقات ، فمثله ما لم يخالفه من هو أوثق منه متلقى حديثه بالقبول والتصحيح ، وإن تفرد ، كما هو معلوم من (( قواعد علم المصطلح )) .
فلننظر فى حديث جرير الذى زعم الألبانى أنه يعارض حديث أبى همام الأهوازى الثقة الصدوق .
أخرجه الدارقطنى (3/35/140) قال : حدَّثنا هبيرة بن محمد بن أحمد الشيبانى نا أبو ميسرة النهاوندى نا جرير عن أبى حيان التيمى عن أبيه قال : قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : (( يد اللَّه على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه ، فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما )) .
قلت : فمن أبو ميسرة هذا الذى أدخل هذا الحديث على جرير بن عبد الحميد ؟؟ ، وهل تقوى روايته المرسلة مع شدة ضعفه على معارضة رواية أبى همام الثقة الصدوق ؟! .
قال ابن حبان فى (( المجروحين والمتروكين ))(1/144) : (( أحمد بن عبد اللَّه بن ميسرة الحرانى ، أبو ميسرة النهاوندى . يأتى عن الثقات بما ليس من أحاديث الأثبات ، لا يحل الاحتجاج به )) ، وذكر له حديثين عن ابن عمر ، ثم قال : (( هذان خبران باطلان رفعهما )) .(1/4)
وقال أبو أحمد بن عدى فى (( الكامل فى الضعفاء ))(1/176) : (( كان بهمدان . حدَّث عن الثقات بالمناكير ، ويحدِّث عمن لا يعرف ويسرق حديث الناس )) .
قلت : فهذه رواية واهية بمرة ، لا يحل الاحتجاج بها لحال أبى ميسرة النهاوندى . والذى أعتقده أن الألبانى لم ينظر فى إسناد الدارقطنى ، ولو فعل فلم يكن ليخفى عليه شدة ضعف رواية أبى ميسرة ، وإنما قال ما قاله تحسيناً للظن بابن القطان ، وتقليداً له !! .
فإذ قد بان أن الحديث الموصول لا يعارض بهذه الرواية الواهية ، فقد ثبتت صحته ، ووجب الاحتجاج به .(1/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقامة الحديثيّة
لمّا رأيتُ كثيرًا من المستشعرين للسنّة ، والمتسمّين بالحديث (والمشدّد الميم دون التّاء) ، ناكصينَ عن سُنَّةِ من سلفَ إلى المهيَع الحديث ، ورأيتُهم استناموا إلى السَّلاسِل والتَّخاريج ، وبخلوا على المطوّلات بالتّعريج ، فرأينا مقالات لهم كالتّهريج ؛
فهذا يقول : "ما هكذا تُعلُّ الأحاديث يا ابن المديني" ، فأشهدكم أنّ دينه في الحديث غير ديني.
وذاك يقول : "عجبًا للبخاريِّ كيف أنكر حديث كذا؟!!" ، فليت القائل تأمّل قبل ما هذى.
وثالثٌ ينادِي ويفاخر "كم ترك الأوّل للآخر" ، وجهِلَ أنّ المعوّل على الأوّل ، والآخِرُ عالةٌ عليه ولو تقوّل.
أولئك قوم أنسوا إلى النزهة والتّقريب ، واستبدلوا الإرخاء بالتقريب ، ووجدوا في مراجعة الأصول تعبًا ، وفي مخالفة المألوف حرْبًا وحَرَبًا ، وضاقت فهومهم عن التحقيق ، واتّسعت ذممهم للتّلفيق.
فاتّبعوا ما خُطَّ لهم من القواعد ، ورضوا بأن يكونوا مع القواعد.
وإذا كلّمته قال : لا حجّة عندنا بالرِّجال ، ولم يُغلق قطُّ للاجتهاد مجال ، وليس في العلم مُحال.
قلت باذلاً له المِقة : فما دليلك على ما تذهب إليه في زيادة الثِّقة؟ قال قاله الألباني ، الفرد الّذي ماله ثاني.
فإن وجدتَ من فاقه رتبه ، وعلا كعبُه في العلم كعبَه ، قال وقوله النّكبة : قرأتُه في النُّخبة ، قلت فهلاّ راجعت النُّكَت ، ولم تكن كالّذي قرأ أوَّلَ الماعُون ثمّ سكت؟
هذه مسألة من مسائل ، ودليلٌ تتبعه دلائل ، والقوم قد زاغوا عن سنّة الأوائل ، في دقيق الأمور قبل الجلائل.
رجعت إلى صاحبي فناديته وهو قريب ، وأسمعته لو كان يجيب :
إنّ أمارة صحّة دعواك ، وشرط التّسليم بمدّعاك : أن تطّرد أصولُك ، ولا تختلف نقولُك ، فهل أنت معطيَّ هذه الخصلة ، وموافقي عليها في الجملة؟
... قال : نعم ونعمة عين ، فمتى اضطربت قواعدي وأين؟(1/1)
قلت : على رسلِك ، فقد استعجلتَ أجَلَك بإجْلِك ، فأخبرني عن أصول ما ترجع إليه عند تخريج الحديث؟
فبادرني الجواب لا يريث :
أبحث في رجاله وإمكان اتّصاله ، فإن كان الراوي ثقة أو صدوقًا ، يرويه عمّن يستطيع له إدراكًا ولحوقًا ، صحّحته وإن لم أكن مسبوقًا ، ولم يردّني أن أجد الإجماع على ضعفه مسُوقًا.
ثمّ زاد جذلان طرِبا ، وقد بلغ السيل منّي الزُّبى :
البيّنة على المدّعي ، وبيّنتي في كلّ أمري معي ، وإن نقلتَ علّة الحديث عن أحد ، فاسأله البيّنة على ما وجد.
أمّا الدّعاوى المرسَلة ، والتعليلات المجملة ، بأنّ هذا يشبه حديث فلان ، ولعلّ فلانًا غلط فيه ولان ، وأنّ الثّقات يروونه على خلافه ، ولم يروِه أهل بلده ومخلافه ، فكلام سخيف وتافِه ، يغني عرضه عن نقضه وإتلافِه.
وقد ثبتت ثقة الراوي بيقين ، فلا تزول إلاّ بيقين.
قاطعته وما كان لي السكوت ، وكدت أبخع نفسي وأموت:
مهلاً هداك الله ، وخلّص من أمثالك أولِياه:
لا يعيب الدّليل أنّك لم تفهم الدّلالة ، وذو الفم المريض يعاف من الماء زُلاله.
عِبت الدّعوى وعليها اعتمادك ، وأنكرت أرضًا فيها ضُرِبت أوتادك.
- أنّى لك معرفة الثِّفة من الرّجال؟
- وكيف تثبت ما تشترطه من إمكان سماع واتّصال؟
أليس حول هذين الركنين طوافُك ، وعندهما في التخريج رحلتك وإيلافك؟!
فأبِن لي أيها الفارس الطعّان ، واشرح وأنت على النقّاد المنتقدُ الطّعّان:
كيف استفدت ثقة الراوي؟ ومن أين حصلت لك معرفةُ الحافظ من الكذّاب الغاوي؟
هل في أصول شيوخِك تتبّعُ أحاديثِهِم؟ والفحص عن هناتهم وأنابيثهم؟
هل حصّلت من الصّناعة ، أم هل اشتغلتَ ولو ساعة ، بما يعينك على الحكم من استقراء المرويّات ، وعرض أحاديث الرّاوي على الثِّقات؟
أنّى ، وبُعدًا ، وهيهات ، وإنّما يعرف حديث الرّاوي بالمخالفة والزيادات ، وأنتم تصحّحون ذلك ، ولا ترون معنى للمخالفة هنالك.
فأجب الآن عن السؤال ، واختم بذلك المقال؟(1/2)
فسكت ووجم ، واستبدل دعاوى البليغ ، بطمطمة العجم.
قلت : جوابي عنك قبل جوابِك ، ولسان حالك إن أكدى لسان خطابِك: أنّك قلّدتَهُم في الحكم على الرّجل ، واكتفيت بما قالوا وجاوزت على عجل.
فأنت تقلّدُهم في الحكم على الرّاوي ، وتخالفهم في الدّليل ، وتقبل بلا حجّة تجريحهم والتعديل ، لأنّك ما علمت أين يحومون ، ولم تدرِ عمَّ يصدرون.
فإذا وجدت كلامهم على الإسناد قلت محال وباطل ، وجرّأك عليه أنّك تعلم ظاهرًا من المصطلح وأنت عن العلل غافل.
فلمّا قالوا في شيء من حديث الثقة هذا من وهمه وتخليطه ، نازعتهم متحذلقًا بأنّه ثقة لا دليل على تغليطِه ، ولم تأتِ بتوثيقه من كيسِك ، ولم تنقله عن إمامك ورئيسِك ، وإنّما استبضعت دقل التمر إلى هجَر والقصيم ، وزوّرت الحليّ على صانعه العليم.
وكلّ ما في الأمْر ، وإن أعماك عنه السُّكر : أنّه وثّقه لغلبة صوابه بعد أن تتبّع ، وعلّل ما غلط فيه ممّا بان حال التتبُّع.
فتتبّعه دليل واحد دلّ على حكمين : ثقة الراوي ، وتغليطه ، قكذّبت بما لم تُحِط بعلمِه ، وقلّدته في نصف دعواه ، وشطر حُكمِه.
قال : قولك يشبه الصّواب ، وربّ سمٍّ في الشّهد مذاب ، فأزل ملتبس الأمر ، بحجّة تثلج وحرَ الصّدر.
قلت : سألت نصَفًا ، وما قلت فنَدًا ولا خرفًا ، وحقٌّ لطالب الحجّة بتجرُّد ، أن يعطى سؤله ولا يُحرَد.
أرأيت قولك الّذي ردّدته وما فهمته ، ثمّ بالتّحقيق وسمتَه : لا نغلِّط الرّاوي إلاّ ببيّنة.
قاطعني فقال ، وهو يبري النِّصال : وآخر بدعِكُم يا منتحلي منهج المتقدّمين ، أنْ أنكرتم هذه القاعدة من قواعد الدين؟!
قلت : روَيدَكَ فما أنكرناها ، وإنّما اجتنبنا إهمالها وأعملناها ، وقيّدناها بقيدٍ متّفقٍ على أصلِه ، وإسنادٍ مجمعٍ على صحّته ووصله.
بل إهمالها حقّ الإهمال ، ما تدعو إليه من أقوال ، وستزول الشُّبهة التي معَك ، إذا ناولتني وأنت شهيد مسمعَك.(1/3)
قال : هاتِ وناول ، فكلامك بالحقِّ أشبه منه بالباطل.
قلت : هذه البيّنة التي تطلبها على تغليط الراوي ، هل لك أن تضرب لها مثلاً ، وسنضرب لك في طلبها أجلاً؟
قال : والله إنه لأمر عجب ، فإنّها ما خطرت ببالي على كثرة بحثي في الحديث واشتغالي بالكتب.
عاجلته الجواب ، وقد بدا غسق الصواب : أما رأيت كيف عطّلتم هذا الحكم وغرضكم تحرّيه ، كما عطّل الجهميّة الصفات بحجّة التنزيه؟
أتريدون في غلط الثقة شاهدين عدلينِ يشهدان أن فلان بن فلان غلط في هذا الحديث؟
أم تجتزئون بشاهدٍ ويمين؟!
أما استغربتم حين أصّلتم فأغربتم : أنّ الراوي الثقة لا يغلط عندكم أبدًا؟ هبه سلّم لكم في سفيان وشعبة؟ فكيف تطردون هذا الأصل حتّى في الصدوق ومن خفّ ضبطه؟
- أليس من سنّة الفقهاء أنّ بيِّنَةَ كُلِّ شَيءٍ بحسبه؟ والبيّنة كلّ ما يبيّن الحقَّ ويوضحه كما ذكر ابن القيم.
- ألم يعمل القضاة والحكّام في أصول الأحكام بالقرائن القويّة إذا عدموا البيّنة أو كانت خفيّة؟
- أليست تقبل شهادة القابلة في ثبوت الفراش والنسب؟
- وشهادةُ الصِّبْيَان في جراحاتهم إذا لم يتفرّقوا على الصّحيح الّذي ذهب إليه جمع من المحقّقين؟
ألا يكفيك من البيّنة على غلط الراوي أنّ أعرف النّاس به ، وهو الّذي قبلت توثيقه له دون سؤال عن سببه ، أخبرك أنّه غلِط؟
ألم ترَ البيّنة بيّنةً حين جاء الثّقة إلى شيخٍ حافظٍ له أصحابٌ حفَّاظ ، يلازمونه الليل والنهار لا يفترون ، ويضبطون حديثه كتابًا ويحفظون ، ثمّ روى عنه ما لم يروه غيره دون أن يشاركهم في حديثه المشهور؟
ألم ترَه روى الحديث بأصحّ إسناد وأشهر ، ورواه أصحاب الشيخ بإسناد غريب مستنكر؟
أتُراهم أعرضوا عن صحيح حديث شيخهم وتتّبعوا مناكيره؟ أم عرفوا نوادر مرويِّه وجهلوا مشاهيره؟(1/4)
قاطعني فقال : حقٌّ ما تقُول ، وثابتٌ ثمّ مقبول ، فأنا راجع عمّا كُنتُ عليه ، قابلٌ ما دعوتني إليه ، فلا أفتأ مقلِّدًا للحفّاظ ، واقفًا عند معانيهم والألفاظ ، لا أحاول مخالفَتَهُم ، ولا أسألهم أدلَّتَهُم.
فقلت مهلاً مهلاً ، فقد بنيت أصلاً وهدمت أصلاً.
لسنا ندعوك إلى التقليد ، ولا نعود على الاجتهاد بالتقييد ؛ لكنّ في الأمر طريقةً وسطًا ، لا تقبل زيغًا ولا شططًا.
إنّ للحفّاظ طريقة يختطّونها ، ومنهجًا يحملون رحالهم فيه ويحطّونها ، يتبع آخرُهم الأُلّ ، ويجتمع عليه الكلّ.
وللطريق رواحلُ لا تقطع إلا بها ، ومراحلُ ترتحلُ في طلبِها ، فإن أصبتها فبها ، وإن كنت راجلاً فترجّل عن دربِها.
فحصِّل أوّل ما تحصّل راحلة الطريق ، واسع في تطلّبها سعي الغريق.
والعمدة في هذا الفنّ وليس بالسهل الطّيِّع ، ما قاله أبو عبد الله الحاكم ابن البيِّع :
... "الحفظ والفهم والمعرفة لا غير" ، فحصّلها قبل أن تستدرك إن كان فيك خير.
فإذا حصّلت الرّاحلة فاعرف طرائقهم ، واستهدِ بهم في طريقك ، وخذ منهم أصول الفنّ المطّردة ، وقواعده المتّفق عليها.
وستجد بعد مدّة ، أنّه صار لك نَفَسٌ في هذا العلم ، وفقه نفْسٍ يعينك على الفَهم ، وملَكةٌ حديثيّة ، تعرف بها مقولاتهم ، ولم قالوها ، وسُنَنهم ، وكيف استنّوها.
إذ ذاك يقال : للآخِر أن يستدرِكَ علََى الأوّل ، إذا نبغ وتأهّل ، وفهم كلام الأوّل ومراده ، وأسلم إليه في التأصيل قياده ، على أنْ لا يؤدّي استدراكه إلى محظور من محظورات علم الحديث ، ولا يخالف إجماعًا استقرّ قبل غرائب هذا العصر الحديث.
ومن محظورات الحديث : أن يوجد طريقٌ صحيح لا علّة له ، ولا يشتهر مع كونه في مظنّة الشهرة.
وأن يقول الحافظ المتتبّع المطّلع : لا يروى حديث كذا إلا من طريق كذا ، ثمّ يستدرك عليه العصريّ بأنّه وجده في فوائد تمّام ، أو في الثاني والثلاثين من حديث أسامة ، ونحو ذلك.(1/5)
قال : أفلا ترى أنّ عسيرًا على بني العصر أن يحفظوا مائتي ألف حديثٍ بأسانيدها ، ويعرفوا الرجال وأحوالهم على تفاصيلها ، وهنا يحلّ للعصريِّ كما تزعم أن يتكلّم على الإسناد؟
قلت : هذا بيت القصيد ، والغاية التي ليس بعدها مزيد ، وهنا زلّت أقدام وتتابع على الغلط أقوام ، وليس هذا الموضع مختصًّا بعلم الحديث ، بل لكلّ علمٍ منه حظّ.
وذلك أنّ رتبة الاجتهاد على الاستقلال المحض ، لم يصلها أحد من الأمّة بعد الصّحابة ، والدّعوة إلى التّقليد لم يقل بها ذو فطنة ونجابة ، بل سار الأوّلون والآخرون على طريقةٍ وسطٍ ، جفا جافٍ وغلا غالٍ فيها فغلط.
قال : أبِنْ ليْ هُديت ، فقد جئت بما لم يطرق أذنيّ.
قلت : وما أخشى إلاّ نفرة الأذن من الغريب ، ودعوى استحداث قول لم يقل به عريب.
لكن بين يديَّ ابنُ القيّم حاكيًا : "وما من أحد من أئمّة الدّين إلا هو مقلّد في بعض المسائل من هو أعلم منه".
وهذا أحمد إمامنا يقول "إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها شيئًا أخذت فيها بقول الشافعي"
ومن تتبّع آثار السلف ، ومن سار سيرتهم من الخلف – علم أنّ هذه كانت طريقتهم.
فكان بالكوفة أصحاب ابن مسعود ، يتابعونه في أقواله ، ويتّبعونه في غالب أحواله ، ثمّ كان على ذلك أهل الكوفة.
وبالبصرة على قول أنس وابن سيرين والحسن.
وبالمدينة كان الناس على قول زيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر ، وكثر تمسّكهم بفتاوى الفاروق ، ثمّ أقوال فقهاء المدينة السّبعة.
وبمكّة كان الناس على قول ابن عبّاس في الغالب ، ثمّ على قول أصحابه كطاوس وعطاء ثمّ ابن دينار وابن جريج.
ومعاذ الله أن يفهم من هذا الدعوة إلى التقليد إلا من في قلبه مرض ، أو له من وراء ذلك غرض.
وإنّما نقول ، يجتهد الطالب قدر استطاعته ؛ فمتى كان الإسناد معروفًا لديه ، وحال الراوي ماثلاً بين يديه ، بما حصل له من دربة ، وما ادّخره في الجعبة ، أقدمَ فحكم.(1/6)
وإن التبس الأمر عليه ، فليقلّد العارف ، وليسلم الأمر إليه ، وإن كان مقلّدًا ولا بدّ ، فعليه بالحفّاظ ذوي النّقد.
فقال : وفقك الله ، وجزاك خيرًا ، ولك عليَّ أن أتمسّك بمنهج السلف والمحققين ، في الدقيق والجليل من أمور الدين.
قلت : مجلسي هذا مثالٌ تقيس عليه ، وأصلٌ تردّ المسائل إليه ، وإنما مثّلنا بزيادة الثقة والمخالفة لشهرتها وكثرة طرقها بين الفريقين ، ولأنّها أمارةٌ ظاهرة تميّز الطريقين ، فامشِ رعاك الله في درب العلم ، ولا تأتمّ إلاّ بمن به مؤتمّ.
هذا ، والله أعلم ، ورد العلم إليه أحكم وأسلم ، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
وكتب/
أبو عمر البكري
الخميس 25 ربيع الأول 1423
... ...(1/7)
المقامَة النَّبويَّة
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }
صلى عليك الله يا علم الهدى
هتفت لك الأرواح من أشواقها ... واستبشرت بقدومك الأيامُ
وازينت بحديثك الأقلامُ
ما أحسن الاسم والمسمَّى ، وهو النبي العظيم في سورة عمّ ، إذا ذكرته هلت الدموع السواكب ، وإذا تذكرته أقبلت الذكريات من كل جانب .
وكنت إذا ما اشتدّ بي الشوق والجوى
أُعلِّل نفسي بالتلاقي وقربه ... وكادت عرى الصبر الجميل تفصمُ
وأوهمها لكنّنها تتوهم
المتعبد في غار حراء ، صاحب الشريعة الغراء ، والملة السمحاء ، والحنيفية البيضاء ، وصاحب الشفاعة والإسراء ، له المقام المحمود ، واللواء المعقود ، والحوض المورود ، هو المذكور في التوراة والإنجيل ، وصاحب الغرة والتحجيل ، والمؤيد بجبريل ، خاتم الأنبياء ، وصاحب صفوة الأولياء ، إمام الصالحين ، وقدوة المفلحين { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } .
السماوات شيّقات ظِماءُ
كلها لهفة إلى العلَم الها ... والفضا والنجوم والأضواءُ
دي وشوق لذاته واحتفاءُ
تنظم في مدحه الأشعار ، وتدبج فيه المقامات الكبار ، وتنقل في الثناء عليه السير والأخبار ، ثم يبقى كنزاً محفوظاً لا يوفّيه حقه الكلام ، وعلماً شامخاً لا تنصفه الأقلام ، إذا تحدثنا عن غيره عصرنا الذكريات ، وبحثنا عن الكلمات ، وإذا تحدثنا عنه تدفق الخاطر ، بكل حديث عاطر ، وجاش الفؤاد ، بالحب والوداد ، ونسيت النفس همومها ، وأغفلت الروح غمومها ، وسبح العقل في ملكوت الحب ، وطاف القلب بكعبة القرب ، هو الرمز لكل فضيلة ، وهو قبة الفلك خصال جميلة ، وهو ذروة سنام المجد لكل خلال جليلة .
إنْ كان أحببت بعد الله مثلك في
فلا اشتفى ناظري من منظرٍ حسنٍ ... بدو وحضر وفي عرب وفي عجمِ
ولا تفوه بالقول السديد فمي
مرحباً بالحبيب والأريب والنجيب الذي إذا تحدثت عنه تزاحمت الذكريات ، وتسابقت المشاهد والمقالات .(1/1)
صلى الله على ذاك القدوة ما أحلاه ، وسلم الله ذاك الوجه ما أبهاه ، وبارك الله على ذاك الأسوة ما أكمله وأعلاه ، علم الأمة الصدق وكانت في صحراء الكذب هائمة ، وأرشدها إلى الحق وكانت في ظلمات الباطل عائمة ، وقادها إلى النور وكانت في دياجير الزور قائمة .
وشب طفل الهدى المحبوب متشحاً ... بالخير متزّراً بالنور والنار
في كفه شعلة تهدي وفي دمه ... عقيدة تتحدى كل جبارِ
كانت الأمة قبله في سبات عميق ، وفي حضيض من الجهل سحيق ، فبعثه الله على فترة من المرسلين ، وانقطاع من النبيين ، فأقام الله به الميزان ، وأنزل عليه القرآن ، وفرق به الكفر والبهتان ، وحطمت به الأوثان والصلبان ، للأمم رموز يخطئون ويصيبون ، ويسدّدون ويغلطون ، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم معصوم من الزلل ، محفوظ من الخلل ، سليم من العلل ، عصم قلبه من الزيغ والهوى ، فما ضل أبداً وما غوى ، إنْ هو إلا وحي يوحى .
للشعوب قادات لكنهم ليسوا بمعصومين ، ولهم سادات لكنهم ليسوا بالنبوة موسومين ، أما قائدنا وسيدنا فمعصوم من الانحراف ، محفوف بالعناية والألطاف .
أثني على مَنْ أتدري من أبجله ... أما علمت بمن أهديتُه كلمي
في أصدق الناس لفظاً غير متَّهمٍ ... وأثبت الناس قلباً غير منتقم
قصارى ما يطلبه سادات الدنيا قصور مشيدة ، وعساكر ترفع الولاء مؤيدة، وخيول مسومة في ملكهم مقيدة ، وقناطير مقنطرة في خزائنهم مخلدة ، وخدم في راحتهم معبدة.
أما محمّد عليه الصلاة والسلام فغاية مطلوبه ، ونهاية مرغوبه ، أن يعبد الله فلا يشرك به معه أحد ، لأنه فرد صمد ،لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد .
يسكن بيتاً من الطين ، وأتباعه يجتاحون قصور كسرى وقيصر فاتحين ، يلبس القميص المرقوع ، ويربط على بطنه حجرين من الجوع ، والمدائن تفتح بدعوته ، والخزائن تقسم لأمته .
إن البرية يوم مبعث أحمد
بل كرم الإنسان حين اختار من
لبس المرقع وهو قائد أمة
لما رآها الله تمشي نحو(1/2)
ظر الإله لها فبدّل حالها
خير البرية نجمها وهلالها
جبت الكنوز فكسّرت أعلامها
لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
?
ماذا أقول في النبي الرسول ؟ هل أقول للبدر حييت يا قمر السماء ؟أم أقول للشمس أهلاً يا كاشفة الظلماء، أم أقول للسحاب سلمت يا حامل الماء ؟
يا من تضوّع بالرضوان أعظمه
??
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فطاب من طيب تلك القاع والأكمُ
?فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ?
اسلك معه حيثما سلك ، فإن سنته سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلك ، نزل بزُّ رسالته في غار حراء ، وبيع في المدينة ، وفصل في بدر ، فلبسه كل مؤمن فيا سعادة من لبس ، ويا خسارة من خلعه فقد تعس وانتكس ، إذا لم يكن الماء من نهر رسالته فلا تشرب ، وإذا لم يكن الفرس مسوَّماً على علامته فلا تركب ، بلال بن رباح صار باتباعه سيداً بلا نسب ، وماجداً بلا حسب ، وغنيّاً بلا فضة ولا ذهب ، أبو لهب عمه لما عصاه خسر وتبّْ ، سيصلى ناراً ذات لهب .
الفرس والروم واليونان إن ذكروا
هم نمقوا لوحة بالرق هائمة ... فعند ذكرك أسمال على قزم
وأنت لوحك محفوظ من التهمِ
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ، وإنك لعلى خلق عظيم ، وإنك لعلى نهج قويم ، ما ضلّْ ، وما زلّْ ، وما ذلّْ ، وما غلّْ ، وما ملّْ ، وما كلّْ ، فما ضلّ لأن الله هاديه، وجبريل يكلمه ويناديه ، وما زلّ لأن العصمة ترعاه ، والله أيده وهداه ، وما ذلّ لأن النصر حليفه ، والفوز رديفه ، وما غلّ لأنه صاحب أمانة ، وصيانة ، وديانة، وما ملّ لأنه أعطي الصبر ، وشرح له الصدر ، وما كلّ لأن له عزيمة ، وهمة كريمة ، ونفس طاهرة مستقيمة .
كأنك في الكتاب وجدت لاءً ... محرمة عليك فلا تحلُّ
إذا حضر الشتاء فأنت شمس ... وإن حل المصيف فأنت ظلُّ(1/3)
صلى الله عليه وسلم ما كان أشرح صدره ، وأرفع ذكره ، وأعظم قدره ، وأنفذ أمره ، وأعلى شرفه ، وأربح صفقه ، من آمن به وعرفه ، مع سعة الفناء ، وعظم الآناء ، وكرم الآباء ، فهو محمد الممجد ، كريم المحتد ، سخي اليد ، كأن الألسنة والقلوب ريضت على حبه ، وأنست بقربه ، فما تنعقد إلا على وده ، ولا تنطق إلا بحمده ، ولا تسبح إلا في بحر مجده .
نور العرارة نوره ونسيمه
وعليه تاج محبة من ربه ... نشر الخزامى في اخضرار الآسي
ما صيغ من ذهب ولا من ماسي
إن للفطر السليمة ، والقلوب المستقيمة ، حب لمنهاجه ورغبة عارمة لسلوك فجاجه ،فهو القدوة الإمام ،الذي يهدى به من اتبع رضوانه سبل السلام .
صلى الله عليه وسلم علم اللسان الذكر ، والقلب الشكر ، والجسد الصبر ، والنفس الطهر ، وعلم القادة الإنصاف ، والرعية العفاف ، وحبب للناس عيش الكفاف ، صبر على الفقر ، لأنه عاش فقيرا ، وصبر على جموع الغنى لأنه ملك ملكاً كبيرا ، بعث بالرسالة ، وحكم بالعدالة ، وعلم من الجهالة ، وهدى من الضلالة ، ارتقى في درجات الكمال حتى بلغ الوسيلة ، وصعد في سلّم الفضل حتى حاز كل فضيلة .
أتاك رسول المكرمات مسلماً
فأقبل يسعى في البساط فما درى ... يريد رسول الله أعظم متقي
إلى البحر يسعى أم إلى الشمس يرتقي(1/4)
هذا هو النور المبارك يا من أبصر ، هذا هو الحجة القائمة يامن أدبر ، هذا الذي أنذر وأعذر ، وبشر وحذر ، وسهل ويسر ، كانت الشهادة صعبة فسهّلها من أتباعه مصعب ، فصار كل بطل بعده إلى حياضه يرغب ، ومن مورده يشرب ، وكان الكذب قبله في كل طريق ، فأباده بالصديق ، من طلابه أبو بكر الصديق ، وكان الظلم قبل أن يبعث متراكماً كالسحاب ، فزحزحه بالعدل من تلاميذه عمر بن الخطاب ، وهو الذي ربى عثمان ذو النورين ، وصاحب البيعتين ، واليمين والمتصدق بكل ماله مرتين ، وهو إمام علي حيدره ، فكم من كافر عفرّه ، وكم من محارب نحره ، وكم من لواء للباطل كسره ، كأن المشركين أمامه حمر مستنفرة ، فرت من قسوره .
إذا كان هذا الجيل أتباع نهجه
وقد حكموا السادات في البدو والحَضَرْ
فقل كيف كان المصطفى وهو رمزهم
مع نوره لا تذكر الشمس والقَمرْ
كانت الدنيا في بلابل الفتنة نائمة ، في خسارة لا تعرف الربح ، وفي اللهو هائمة ، فأذّن بلال بن رباح ، بحي على الفلاح ، فاهتزت القلوب ، بتوحيد علاّم الغيوب ، فطارت المهج تطلب الشهادة ، وسبحت الأرواح في محراب العبادة ، وشهدت المعمورة لهم بالسيادة .
كل المشارب غير النيل آسنة ... وكل أرض سوى الزهراء قيعان
لا تنحر النفس إلا عند خيمته ... فالموت فوق بلاط الحب رضوان
أرسله الله على الظلماء كشمس النهار ، وعلى الظمأ كالغيث المدرار ، فهز بسيوفه رؤوس المشركين هزّاً ، لأن في الرؤوس مسامير اللات والعزى ، عظمت بدعوته المنن ، فإرساله إلينا أعظم منّة ، وأحيا الله برسالته السنن ، فأعظم طريق للنجاة إتباع تلك السنة . تعلم اليهود العلم فعطلوه عن العمل ، ووقعوا في الزيغ والزلل ، وعمل النصارى بضلال ، فعملهم عليهم وبال ، وبعث عليه الصلاة والسلام بالعلم المفيد ، والعلم الصالح الرشيد .
أخوك عيسى دعا ميْتاً فقام له ... وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
قحطان عدنان حازوا منك عزّتهم ... بك التشرف للتاريخ لا بهمِ(1/5)