بسم الله الرحمن الرحيم
(( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ))
قال أبو عيسى الترمذى : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ ، فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ ، فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ )) .
مَا البابليةُ فى صَفَاءِ مِزاجِها والشربُ بين تَنافسٍ وسباقِ
بألذ من خلقٍ كريمٍ طاهرٍ قد مازجتُه سلامةُ الأذواقِ
فإذا رُزقتَ خليقةً محمودةً فقد اصَطفاكَ مقسِّمُ الأرزاقِ
فالناسُ هذا حظُّه مال وذا علمُ وذاك مكارمُ الأخلاقِ
والمالُ إن لم تدخره محصَّناً بالعلمِ كانَ نهايةَ الإملاقِ
والعلمُ إن لم تكتنفه شمائلٌ تُعليه كان مَطيةَ الإخفاقِ
لا تحسبنَّ العلمَ ينفعُ وحدَه مَا لم يُتوَّجْ ربُّه بخَلاقِ
*** *** ***
أحبُّ مكارمَ الأخلاقِ جَهدى وأكره أن أَعِيبَ وأنْ أعَابا
وأصفحُ عن سبابِ الناسِ حِلماً وشرُّ الناسِ من يهوى السِّبابا
ومن هابَ الرجالَ تهيَّبوه ومن حَقَرَ الرجالَ فلنْ يُهابا
*** *** ***
كم فاقةٍ مستورةٍ بمروءةٍ وضرورةٍ قد جُملتْ بتَحَمُّلِ
ومن إبتسامٍ تحتَه قلبٌ شجىٍ قد خامرتُه لوعةٌ ما تنجلى
*** *** ***
هذه مشاركات هادفة . أودعتها فوائد نافعة . ولطائف جامعة . وكان الناشرُ عطرَ أريجها . والكاشفُ عما احتوته من دقائق مُلَحِها . هذا الملتقى المبارك أهلُه .
*****************(1/1)
المشاركة الأولى
تقريظ كتب الشيخ أبى محمد السكندرى الألفى
بقلم / ابن الشيخ وبكر أولاده محمد أحمد شحاته
الحمد لله العزيز الوهاب . القاهر الغلاب . والصلاة والسلام على نبىِّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم المبعوث بأفصح خطاب . وعلى آله وصحبه ذوى الشمائل الغرِّ ومكارم الأخلاق والآداب .
وبعد .. يقول ابن الشيخ وبكر أولاده محمد أحمد شحاته :
لم ينثر والدى الشيخ أبو محمد أحمد شحاته السكندرى من كنانة علمه إلا النزر اليسير . فى تواليفٍ كأنَّها الخرائد . وتصانيفٍ أبهى من القلائد فى نحور الولائد . وضعها فى فنونٍ مختلفةٍ وأنواع . وأودعها ما شاء من إتقانٍ وإبداع . فكم من تصنيف له رائعٍ فائق . يحمل من نظر فيه على النطق بلسانٍ وامقٍ :
تصنيفُ أبى محمَّدٍ من أرْعَاه مُقْلَتَه ودَّتْ جوارحُه لو أصبحتْ مُقَلا
فالدرُّ يصفرُّ لاستحسانِه حَسَدَا والوردُ يحمرُّ من إبداعِه خَجَلا
فكتبُهُ فى الحديث ظاهرُها ديباجٌ مرقوم . وباطنُها لؤلؤٌ منظوم . تشهدُ له بأذلقِ لسانٍ . وأصدقِ بيانٍ . أنه أبو عُذْرتِها . ومالكُ جملتِها . وقادمة ُجناحِها . وصبا رياحها . فهى لواءٌ على الرؤوسِ مرفوع . وحلل سندسية تزرى بالوشى المصنوع . يتصرف فيها تصرَّف من إذا حاك الكلام طرَّز . وإذا جرى مع الأقران فاق وبرَّز . ومن تأملها وقد اشتملتْ حللَ البهاء . فوق أردية الثناء . نادى بلسانِ الأوَّه . يا أبا محمَّدٍ ! لك الله .. لك الله .
فقد أبرز لطائف علوم الحديث وجلَّاها . فى صور العرائس الأبكار وحلَّاها . ببراعةٍ يصف لسانُ يراعها نفثات السحر . وبيانٍ كنضيد الجُمان أحاط بالجيد والنحر . لا زالت روضاتُ الفصاحة برشحاتِ أقلامِه زاهرة . وحدقاتُ ذوى الجدِّ والتشمير إلى بحرِه الزاخرِ ناظرة .
بحرٌ من العلمِ الغزيرِ خِضَمُّه طَامى العُبَابِ ومَالهَُ من سَاحِلِ
ولا زال طلبة العلم يرجعون إلى روايته الحديث بأسانيد مسلمٍ والجعفى . رجوع أهل الفقه إلى مالكٍ والشافعى . حتى ملأ المسامع والمجامع بيانُه . وسار فى نواحى القطر ذكرُه وشانُه . أدام الله على العز والارتقاء صعودَه . وأعلى على مر الأيام راياتِه وبنودَه .
ومراسلات الشيخ فى الإخوانيات لم تنسج على منوال . فهى أنموذجٌ فى الأدب الراقى ومثال . فمما كتبه إلى تلميذه وخريجه الشيخ أبى عبد الرحمن محمد بن مصطفى السكندرى المقيم بدولة الإمارات : (( كتابى إلى النجم الراقى فى المعالى . الواقى من داء الليالى . ومن لا زال النسيم فى البكور والعشيَّات . يُهدى إليه أزكى التحيات . ومن شموسُ معارفِه لا يعتريها كسوف . وقمرُ سعدِه بالغٌ حدَّ التمام فلا يخالطُه خسوف . ومن له لطفُ خلقٍ يسعى اللطفُ لينظرَ بهاءه . ورقيقُ شمائل يقفُ البيانُ متحيِّراً إزاءه .
حفظ الله على الدوام عُلاك . وأعاذك من الحسد وعافاك . وسلَّمك وحيَّاك . وحفظ دينك ودنياك . ووجَّه إليك وفودَ السلامة . وقلَّدك من العافية طوقَ الحمامة . وأمدَّك من الفضائل بالمزيد . ومن الأجل بالعمر المديد . وسدَّد بالتوفيق كلَّ سهامِك . إلى مرامى أحلامِك .
يا فاضلاً قد جلَّتْ أبكارُ فكرته غرَّ المعانى بها فى أحسنِ الصُّورِ
لا زال يسمو إلى العلياءِ مرتقباً بسؤددِ مجدِه عالٍ على الزَّهرِ
ما فاضلٌ قطّ جاراه إلى أمدٍ فى الفضلِ إلا انثنى بالعىّ والحَصرِ
وسلامى إلى من رياضُ علمه بالأزاهير أنيقة . ودوحة فضله وارفة الظلال وريقة . ومن إذا مسَّ أقلام التحبير سجدت فى محاريب التحرير هُنالك . وتصرَّف فى الإجادة والإفادة تصرُّفَ مالك . وتزينت بدرر ألفاظه عقود المُلح . واتسع صدر قارئه وانشرح .
بنى داراً يحارُ الطرفُ فيها وتهواها المحاسنُ والمسرَّه
كأنَّ الجنَّةَ اشتاقتْهُ حتَّى له نزلتْ أطالَ اللهُ عمرَه
نحن بحمد الله نتدانى إخلاصا . وإن تناءينا أشخاصا . فليس بضائرٍ تنائى الأشباح . إذا تقاربت الأرواح . فالأرواح جنود مجنَّدة . تعبر عما فى حنايا الأفئدة . وما بيننا من المودَّة لا تحدُّه مدَّة . ولا تخلق له جدَّة . وأنا أعيذها من التجديد . أو استدعاء المزيد . فلا الأفئدة عنها بحائدة . ولا المواصلة لها بزائدة .
نسيبى فى رأيى وعلمى ومذهبى وإن باعدتنا فى الأصولِ المناسبُ
علم الله أن شوقى إلى لقاءك . كحرصى على بقاءك . وكلفى بشهودك .كشغفى بوجودك . فلك فى القلب من الحب ما زكَّاه وفاؤك . وفى الصدر من التقدير ما غذاه سناؤك . ولك الفضل دوما فى دوام المراسلة . والسبق إلى أريحية المجاملة . فداوِ تقصيرى بالصبر دون الملام . فإن الصبر ترياقُ الكرام . فمكانُك عندى لا ينكر . وعهدُك لدى لا يُخفر .
سألتنى ـ وإجابتك فرضٌ ـ أن أكتب مقدمةٍ لكتابك فى تخريج (( زوائد الأدب المفرد على الصحيحين )) . وبدأتني ـ أعزَّك الله ـ من الوصف بما رفعنى عن مكاني . وكاد من الخجل يضيق صدري ولا ينطلق لساني . وحمَّلت كاهلي من المنن ما لم يستطع . وضربت لذكري في الآفاق نوبةً خليلية لا تنقطع . وسألتني مع ما عندك من المحاسن أن أجيبك وأجيزك . وأوزان بمثقال كلمي الحديد إبريزك . فتحيرت بين أمرين كليهما مُر . ووقع ذهني السقيم بين داءين كليهما ضر . فإن فعلت فأنا أذن من الظالمين . وإن امتنعت فما أنا من المتأدبين . فالإقدام جراءة . والإحجام دناءة . وقد ترجح عندي أن أجيب السؤال . وأقابل بالامتثال .
فوالذى أقسمَ بالعصر . كتابُك عليه بصمة أهلِ مصر . وفى طياته تحقيقاتٌ بارعات . ولطائف إبداعات . وإن كانت عاجلة . لكنها شاملة . وهى فى الحقَّ قصار . لكنها رياحين وأزهار .
فلله درّكِ يا مصرَ الأمصار . وموطنَ العلمِ وحملةِ الآثار . بلد الحديث المسند الموصول وأئمة الفقه وعلماء الأصول . زبدة الأقطار . وبقعة الأنوار . وخزانة الآداب . ومنزل الكملة وذوى الألباب . والكنانة المحروسة . والمدينة المأنوسة .
طيفٌ ألمَّ بسُحرة الأوقات فأثار ما فى القلب من روعاتِهْ
يا طيفُ عرِّج بالديار وحيِّ ما غذَّاه نيلُ الخير من خيراتِهْ
إن الذى قاتَ الخلائقَ صانها من مُرِّ أقدارٍ ومن ويلاتِهْ
أبناء مصر حفدة عمرو بن العاص السهمى . وتلامذة الليث بن سعدٍ الفهمى . أيَّدهم الله بذكاء القرائح . ومنَّ عليهم بالفهم اللائح . فهم ذوو قلوبٍ واعيه . نارٌ حامية ، فما أدراك ما هيه ! .
رحم المهيمنُ ناظماً بقريضه قولاً بروح القدس صار مؤيَّدا
أرضٌ إذا ما جئتَها متقلباً فى محنةٍ ردتك شهماً سيَّدا
وإذا دهاك الهمُّ قبل دخولِها فدخلتها صافحتَ سعداً سرمدا
وأما (( الأدب المفرد )) . فالكتاب الذى تحاسدت الأقلام على تحريره . وتنافست مشارق الأنوار على نظم سطوره . كيف لا ، وقد أضاءت أنواره بالجلالة فأشرقت . وهطلت أنواؤه بالإحسان فأغدقت . فما أبهاها روضةً أضحت النفائسُ المحمَّديَّة لها خميلة ! . وما أزهاه بدراً أمست المشكاة النَّبويَّة له حميلة ! . وما أبهرَها معجزةً أيَّدت حواريِّيها بمائدةٍ كانت لهم عيدا . وزادتهم مع إيمانهم إيماناً ونصراً وتأييدا .
هذا كتابُ فوائدٍ مجموعةٍ جُمعت بكدِّ جوارح الأبدانِ
وبدائمِ الإدلاج فى غَسَقِ الدجى والسيرِ بين مناكبِ البلدانِ
فهو ضالة الأريب . ومأدبة اللبيب . وصفوة العلم ونقاوة العمل . ومنتهى المأمول وغاية الأمل . وزبدة التذكير والإرشاد . وخلاصة الزاد ليوم الميعاد .
فيا أيها المنتاب . لهذا الجناب . خذ من الكتاب ما أعطاك . واستخرج بفهمك ما أخطاك . فالصبح لا يُتمارى فى إسفاره . ولا يفتقر إلى دليلٍ على إشراق أنواره . وفى التصانيف مهاجرون وأنصار . وكواكبُ وأقمار . وأسودٌ وفرسان . وقلائدُ وعقيان . أما قرأت البدور السافرة . والنجوم الزاهرة . ألم تتصفح كتائبَ الأعلام الأخيار . ودرر البحار فى الأحاديث القصار . ألم يأتك نبأ عقد الجمان . وقلائد العقيان فى محاسن الأعيان .
و (( الأدب المفرد )) من لم يرو منه . ويصدر عنه . فكأنه لم يحط من الكتب إلا بالغلاف . أو تناول الكأس بغير سُلاف . فأحْسِنْ به لعاقلٍ يحسنُ العمل . وغافلٍ يفتتن بالأمل . ووَرِعٍ يسد عما رابه الذريعة . ومستشفٍ يعالج النفس الوجيعة . وكارعٍ في حياض الشريعة . وراتعٍ برياض الآداب المريعة . ومقتبسٍ من نبراس الرواية . وملتمسٍ لدقائق التأويل وحقائق الدراية . وواعظٍ ذكَّر بأيام الله وخوَّف . ومشغولٍ بلذاته طالما أخَّر المتاب وسوَّف .
أسبغ الله إمام المحدثين بوابل رحماته وشآبيب الغفران . وقدَّس ثراه وجعله روضةً من رياض الجنان . والله يقضى له ولنا بالهبات الوافرة . ويجمعنا به فى مستقر النعيم فى الآخرة )) اهـ .
مصنفات الشيخ
مصنفات علل الحديث
(1) إرشاد السالك إلى علل أحاديث أنس بن مالك .
(2) كشف الباس عن علل أحاديث ابن عباس .
(3) كشف النقاب عن علل أحاديث عبد الله بن عمر بن الخطاب .
(4) كشف السر عن علل أحاديث أبى هر .
(5) الكوكب الدرى ببيان علل أحاديث أبى سعيد الخدرى .
(6) اللطائف الوثيقة ببيان علل أحاديث عائشة الصديقة
(7) قرة العين ببيان علل أحاديث عمران بن حصين .
(8) الوافى بالعهود ببيان علل أحاديث ابن مسعود .
(9) هداية السارى ببيان علل أحاديث جابر الأنصارى .
(10) إمتاع الألحاظ ببيان أوهام الحفاظ .
(11) تفصيل المقال بأن أكثر وهم شعبة فى أسماء الرجال .
(12) التعقب الحثيث ببيان أقسام علل الحديث .
(13) ترجمان الأفذاذ ببيان الأحاديث الشواذ
مصنفات الأحاديث المتواترة
(1) إتحاف الأفئدة بفضل من بنى لله مسجدا .
(2) إتحاف القائم الأوَّاه بطرق حديث إن الله زادكم صلاة .
(3) إعلام المؤمن المودود بطرق حديث الحوض المورود .
(4) إيضاح الحُجَّة بأن عمرة رمضان تعدل حجَّة .
(5) التعليق المأمول على كتاب النزول .
تحقيق وإيضاح (( كتاب النزول )) للإمام الحافظ أبى الحسن الدارقطنى .
(6) بسط القول فى الزجر عن ترك الاستبراء من البول .
(7) دقائق النظر فيما تواتر من حديث المهدى المنتظر.
(8) قلائد العقيق فى النهى عن صيام أيام التشريق .
(9) إعلام اللبيب بحكم خليط التمر والزبيب .
دقائق الفكر فى علوم الأثر
(1) إعلام الخريج بدقائق علم التخريج .
(2) المنهج المأمول ببيان معنى قول ابن حجر مقبول .
(3) الإكليل ببيان احتجاج الأئمة بروايات المجاهيل .
(4) التعقب المتوانى على السلسلة الضعيفة للألبانى .
(5) مشارق الأنوار وخزائن الأسرار فى كلام الترمذى على مراتب الأخبار .
(6) الكوكب السارى فى وحدان البخارى .
(7) إرشاد المحتذى إلى وحدان الترمذى .
(8) الطارف التليد بترتيب جامع الترمذى على المسانيد .
(9) التصريح بضعف أحاديث صلاة التسابيح .
(10) إعلام أهل العصر بما فى الكتب الستة من أسانيد أهل مصر .
(11) مشارق الأنوار فى فتاوى الأحاديث والأخبار .
مصنفات فقهية ومتنوعة
(1) البشائر المأمولة فى آداب العمرة المقبولة .
(2) النبذة اللطيفة فى فضائل المدينة الشريفة .
(3) السعى المحمود بتخريج وإيضاح مناسك ابن الجارود .
(4) منتهى الغايات فيما يجوز وما لا يجوز من المسابقات .
(5) طوق الحمامة فى التداوى بالحجامة .
مصنفات أدبية
(1) مقامات السكندرى .
(2) تلقيح الألباب بغرر مراثى الأحباب .
(3) إنباء الضنين بغرر مراثى البنين .
وكتبه ابن الشيخ محمد أحمد شحاته
*****************(1/2)
المشاركة الثانية
بيان صحة حديث السجود على الحجر الأسود
الحمد لله بالعشى والإشراق ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على من وقع على محبته الإتفاق ، وطلعت شموس أنواره في غاية الإشراق ، وتفرد فى ميدان الكمال بحسن الإستباق ، الناصح الأمين الذي اهتدى الكون كله بعلمه وعمله ، والقدوة المكين الذي اقتدي الفائزون بحاله وقوله ، ناشر ألوية العلوم والمعارف ، ومسدي الفضل للأسلاف والخوالف ، الداعي على بصيرة إلى دار السلام ، والسراج المنير والبشير النذير ، علم الأئمة الأعلام ، الآخذ بحُجُزِ مُصَدِّقيِّه عن التهافت في مداحض الأقدام ، والتتابع في مزلات الجرأة على العصيان والآثام .
وبعد . فهذه نبذة مختصرة عن تصحيح حديث السجود على الحجر الأسود ، وبيان صحة نسبته إلى النبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قال أبو محمد الدارمى (1865) : أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ : رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ ثُمَّ يُقَبِّلُهُ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ ، فَقُلْتُ لَهُ : مَا هَذَا ؟ ، فَقَالَ : رَأَيْتُ خَالَكَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَفْعَلُهُ ، ثُمَّ قَالَ : رَأَيْتُ عُمَرَ فَعَلَهُ ، ثُمَّ قَالَ : إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ هَذَا .
وقال أبو بكر البزار (1/332/215) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نَا أَبُو عَاصِمٍ نَا جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ المخزومي قال : : رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَبَّلَ الْحَجَرَ ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ ، قلت : مَا هَذَا ؟ ، قال : رَأَيْتُ خَالَكَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَبَّلَ الْحَجَرَ ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ ، وقال : رَأَيْتُ عُمَرَ قَبَّلَه ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ ، وقال : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَه ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ .
وأخرجه كذلك ابن خزيمة (2714) ، والفاكهى (( أخبار مكة ))(76) ، والبيهقى (( الكبرى ))(5/74) جميعاًَ من طريق أبى عاصم النبيل عن جعفر بن عبد الله بن عثمان به بنحو حديث البزار .
وأخرجه الحاكم (1/625) من طريق أبى عاصم بإسناده ومتنه نحوه ، إلا أنه قال (( جعفر بن عبد الله هو ابن الحكم )) ، فتوهمه (( ابن الحكم السلمى )) ، فأخطأ .
قلت : وهذا إسناد متصل صحيح ، رجاله ثقات كلهم . وقد أقام أبو عاصم النبيل إسناده ، وجوَّد سياقه ومتنه ، وإليه المرجع فى صحة هذا الحديث . وجعفر بن عبد الله بن عثمان حجازى مخزومى ثقة . قال ابن أبى حاتم (( الجرح والتعديل ))(2/482/1963) : (( جعفر بن عبد الله بن عثمان بن حميد القرشي المخزومي الحجازي ، يقال له : جعفر الحميدي . روى عن : عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير . روى عنه : أبو داود ، وأبو عاصم ، وعبد الله بن داود . أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلىِّ قال : سألت أبى عن شيخ روى عنه أبو داود الطيالسي يقال له : جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي ؟ ، فقال أبى : جعفر ثقة )) .
وذكره البخارى فى (( التاريخ الكبير ))(2/194/2170) ، وذكر اختلاف أبى عاصم وأبى داود وعبد الله بن داود ثلاثتهم على اسمه ، ثم قال : والقول ما قاله أبو عاصم .
وذكره مسلم فى (( الكنى والأسماء ))(1/484/1872) ، وكنَّاه أبا عبد الله .
وذكره ابن حبان فى (( الثقات ))(8/159/12741) .
وللحديث إسنادان آخران :
( الأول ) قال أبو داود الطيالسى (28) : حدثنا جعفر بن عثمان القرشي من أهل مكة قال : رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَبَّلَ الْحَجَرَ وَسَجَدَ عَلَيْهِ ، ثم قال : رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَبَّلَه وَسَجَدَ عَلَيْهِ ، فقال ابن عباس : رأيت عمر بن الخطاب قَبَّلَه وَسَجَدَ عَلَيْهِ ، ثم قال عمر : لو لمْ أرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَه مَا قبِّلتُهُ .
وأخرجه كذلك أبو يعلى (1/192/219) ، والبيهقى (5/74) ، والضياء (( المختارة ))(1/384/173) جميعاً من طريق الطيالسى به .
وفى روابة أبى يعلى وحده (( جعفر بن محمد )) ، ولعلها تصحيف ، فهى خلاف الثابت عن الطيالسى فى (( مسنده )) .
وهكذا قال الطيالسى (( جعفر بن عثمان )) ، فلعله نسبه إلى جده ، كما قال أبو بكر البيهقى ، وإلا فهو خلاف المحفوظ (( جعفر بن عبد الله بن عثمان )) ، كما رجحه البخارى فى (( التاريخ الكبير )) فقال : (( والقول ما قاله أبو عاصم )) .
( الثانى ) قال الفاكهى (( أخبار مكة ))(77) : حدثنا محمد بن أبان ثنا عبد الله بن داود الخريبي عن جعفر قال : رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَبَّلَ الْحَجَرَ ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ الحديث بنحو رواية أبى عاصم .
هكذا أبهمه الخريبى (( عن جعفر )) ، فلم ينسبه .
والصواب من هذه الأوجه الثلاث ، هو (( جعفر بن عبد الله بن عثمان )) ، إذ باقى الأوجه ترجع إليه بنوع تأويلٍ .
فإذا بان ذلك ووضحت دلالته ، علمت أن تضعيف الشيخ أبى إسحاق الحوينى للحديث فى (( تنبيه الهاجد ))( 1/71) غير سديد ، وكذلك جزمه بوهم الحافظ الهيثمى لتجويده طريق البزار بعيد عن النظر الممعن لأسانيد الحديث ، واختلاف الرواة الثلاثة عليه ، وإقامة أبى عاصم النبيل إسناده وإتقانه متنه .
وسياقة الشيخ للحديث من طريقى أبى عاصم وأبى داود معاً (( عن جعفر بن محمد المخزومى )) ، يدل على عدم ملاحظة الفارق الواضح بين إسناد أبى عاصم ، وإسناد الطيالسى ، فقد أقامه الأول فقال (( عن جعفر بن عبد الله بن عثمان )) ، وقال الثانى (( عن جعفر بن عثمان )) ، وليس كما نقل الشيخ . ولهذا توهم الشيخ أبو إسحاق أنه (( جعفر بن محمد بن عباد بن جعفر )) ، والصواب أن الحديث ليس له ، وإنما هو لثقةٍ غيره كما أوضحناه !! .
والخلاصة ، فهذا الحديث صحيح ، وإسناد أبى عاصم غاية ، وإليه المرجع وعليه الاعتماد فى تصحيحه ، كما حكم له الحافظ الهيثمى (( مجمع الزوائد ))(3/241) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
*****************(1/4)
المشاركة الثالثة
(( طعنُ القَنَا فى صدر مفترى : يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْنَا ))
الحمد لله ناصر الحق ورافعِى لوائِه . والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أتقى خلقه وأوليائِه .
وبعد ..
أورد الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقى فى ثنايا تفسير قَوْلِ اللهِ تَعَالَى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) من (( تفسيره ))(1/448) : (( روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال أملي عليَّ عبدُ الله بنُ المبارك هذه الأبياتَ بطرطوس ، وودعتُه للخروج وأنشدها معي إلى الفضل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة :
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتَْنا ... لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه ... فنحورنُا بدمائِنا تَتَخْضَبُ
أوكان يتعبُ خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا ... رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتانا من مقالِ نبيِنا ... قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا يستوي غبارُ أهلِ الله في ... أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا كتابُ الله ينطقُ بيننا ... ليسَ الشهيدُ بميتٍ لا يكذبُ
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه ، وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ ، قال : قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليَّ الفضيل بن عياض قال حدثنا منصور عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله ؟ ، فقال : (( هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ )) ، فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت ثواب المجاهدين في سبيل الله ، أمَا علمت أن المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات )) اهـ .
هكذا أورد هذه الحكاية برمتها الحافظ أبو الفداء ، ولم يعلِّق عليها بشئٍ ! ، فأوهم صنيعُه ذا جماهرَ من الوعاظ والخطباء ، ممن يعتمدون على (( تفسيره )) ، ويحتجون بأقواله ، أوهمهم صدقَ هذه الحكاية ! ، فتناقلوها فى مجالس الترغيب والترهيب ، وعلى منابر الوعظ والتذكير ، وفى أهازيجهم وأناشيدهم ، ترغيباً فى الجهاد والمرابطة ، ولعلَّ أكثرهم لم ينظر ، ولو لمرة واحدة ، فى مصدر الحكاية ومخرجها ، اعتماداً على نقل الحافظ إيَّاها ، وسكوته عنها ، ولم تتمعر وجوهُهُم غيرةً على مقامات الرفعة ومراتب الإحسان ، وأفضلها ملازمة الحرمين الشريفين : مكة وطيبة ، زادهما الله تشريفاً وتكريماً ومهابةً وعزاً .
وكذلك أوردها بعض من ترجم للإمام الحجة الفقيه المجاهد عبد الله بن المبارك المروزى ، ومنهم الحافظ الذهبى فى (( سير أعلام النبلاء ))(8/412) ، والإمام أبو القاسم الرافعى القزوينى فى (( التدوين فى أخبار قزوين ))(3/236) .
ولا يُحصى من استروح إلى هذه الحكاية ، فأودعها عن رضاً واقتناعً كتابَه ، أو صدَّر بها مصنفَه . وجميعهم ، لعله لم يتسائل ما إسنادها ، وما صحتُه ، وما صحتُها ؟! ، ومشَّاها على ما بها من وهنٍ واقتراء وتجنىً على الإمامين السيدين : الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر الإمام القدوة الثبت أبو علي التميمي اليربوعي الخراساني المجاور بحرم الله المعظَّم ، وعبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلى المروزى علم المجاهدين شيخ الإسلام .
فما دلائل وهن هذه الحكاية ، وهل يجوز الجزم بنسبة هذه الأبيات المفتريات إلى الإمام السيد الجليل ابن المبارك ، وما حكاية هذه الأشعار التى حُشى بها ديوان الشعر المنسوب إليه ، وما موقف أهل التحقيق من هذا الديوان ؟ . هذا ما نرجو إيضاحه فى هذا البيان (( طعنُ القَنَا فى صدر مفترى : يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْنَا )) .
أقول والله المستعان : أخرج الحافظ أبو القاسم بنُ عساكر فى (( تاريخ دمشق ))(32/449) من طريقين عن أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني قال أملى علينا عبد الله بن محمد بن سعيد بن يحيى الكريزى القاضي قال أملاه علىَّ محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال أملى عليَّ عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس ، وودعته للخروج ، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، أو سنة سبع وسبعين ومائة :
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتَْنا ... لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه ... فنحورنُا بدمائِنا تَتَخْضَبُ
أوكان يتعبُ خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا ... رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتانا من مقالِ نبيِنا ... قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا يستوي غبارُ أهلِ الله في ... أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا كتابُ الله ينطقُ بيننا ... ليسَ الشهيدُ بميتٍ لا يكذبُ
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه ، وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ ، قال : قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليَّ الفضيل بن عياض قال حدثنا منصور عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله ؟ ، فقال : (( هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ )) ، فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت ثواب المجاهدين في سبيل الله ، أمَا علمت أن المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات )) .
قلت : وهذا إسناد واهٍ بمرة . والمتهم به واحد من اثنين :
( الأول ) محمد ـ وقد يقال أحمد ـ ابن إبراهيم بن أبي سكينة ، لا يشبه حديثه حديث أثبات أصحاب عبد الله بن المبارك .
قال الأمير أبو نصر بن ماكولا (( الإكمال ))(4/317) : (( محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة أبو عبد الله . روى عن : فضيل بن عياض ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، ومحمد بن سلمة الحراني . روى عنه : يحيى بن علي بن محمد بن هاشم ، وعبد الله بن سعيد الكريزي الرقي ، والفضل بن محمد العطار الأنطاكي )) .
قلت : وكذلك روى عن : هشيم ، وأبى يوسف القاضى ، وعيسى بن يونس ، وعلى بن ظبيان الكوفى ، وغيرهم . وفى روايته عن مالك بن أنسٍ نظر .
قال الحافظ العسقلانى (( لسان الميزان ))(5/20/79) : (( محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة . يروي عن : هشيم ، وأبي يوسف . عنه : عمر بن سنان ، وابن ابنته يحيى بن علي بن هاشم . ربما أخطأ ، ذكره ابن حبان في (( الثقات )) . قلت : وروى أيضا عن مالك . روى عنه : محمد بن مبارك الصوري . وقد تقدمت الإشارة الى ذلك في من اسمه أحمد )) اهـ .
وقوله (( وقد تقدمت الإشارة الى ذلك في من اسمه أحمد )) : يعنى قوله تعقيباً على مقال الحافظ الذهبى فى (( الميزان ))(1/210/279) : (( أحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة الحلبى ، وبعضهم يسميه محمداً . قاله الخطيب . يروي عن مالك . قلت : ما رأيت لهم فيه كلاما )) . فقال متعقباً فى (( لسان الميزان ))(1/131/405) : (( ثم أعاده ولم يسم بجده ، فقال : أحمد بن إبراهيم الحلبى . عن : علي بن عاصم ، وقبيصة . قال أبو حاتم : أحاديثه باطلة تدل على كذبه . قلت : هو ابن أبي سكينة الذى تقدم . وقال في (( المغني )) : أحمد بن إبراهيم الحلبى عن قتيبة وطبقته كذاب انتهى .
فهذا من العجب يقول : ما رأيت لهم فيه كلاما ، ثم يجزم بأنه الذي قال فيه أبو حاتم ما قال ، ولفظ ابن أبي حاتم : أحمد بن إبراهيم الحلبى . روى عن : علي بن عاصم ، والهيثم بن جميل ، وقبيصة ، والنفيلي . روى عنه : أحمد بن شيبان الرملي . سألت أبي عنه وعرضت عليه حديثه ، فقال : لا أعرفه وأحاديثه باطلة كلها ليس لها أصل ، فدل على أنه كذاب . والذي يروي عن مالك أقدم من الذي يروي عن طبقة قتيبة ، فلعلهما اثنان والله أعلم . وذكر الدارقطني والخطيب أن محمد بن المبارك الصوري روى عن أحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة ، ولم يذكرا له شيئا منكراً )) اهـ .
فإن قيل : فما تقولون فى هذا المذكور عن الخطيب والدارقطنى أنهما (( لم يذكرا له شيئا منكراً )) .
قلنا : إنما ذكره أبو بكر الخطيب عرضاً فى ترجمة محمد بن المبارك الصورى ، ولم يذكره بترجمة مستقلة ، فقال (( تاريخ بغداد )) : (( محمد بن المبارك الصورى . حدثنا عبد الغفار بن محمد بن جعفر المؤدب ثنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي ثنا محمد بن جعفر بن محمد البغدادي ثنا محمد بن المبارك الصورى حدثنا أحمد بن إبراهيم بن أبى سكينة ثنا مالك بن أنس عن الزهرى عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يغلق الرهن )) اهـ .
وسياق هذه الترجمة لا يدل دلالةً ما على ما ذكره الحافظ أنه لا يروى المنكر ، بل إن هذا الحديث المذكور منكر بهذا الإسناد الموصول المرفوع عن مالك ، فإن أثبات أصحاب مالكٍ إنما يروونه مرسلاً ، وإنما يثبت رفعه من غير طريق مالك بن أنس .
قال يحيى بن يحيى (( الموطأ )) : حدثنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ )) .
وقال أبو الحسن الدارقطنى فى (( العلل ))(9/168) بعد ذكره للاختلاف على روايات الحديث عن مالك : (( وأما أصحاب الموطأ ، فرووه عن مالك عن الزهري عن سعيد مرسلا ، وهو الصواب عن مالك )) .
وقد سبرت بعض أحاديث ابن أبي سكينة ، فوجدتها كما قال أبو حاتم الرازى باطلة ليس لها أصل . ولتجتزئ منها :
(1) ما أخرجه البيهقى (( شعب الإيمان ))(5/68/5803) من طريق عبد الله بن سعيد بن يحيى القاضي ثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة ثنا الفضيل بن عياض ثنا هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين )) .
(2) ما أخرجه ابن عدى (( الكامل ))(7/73) قال : ثنا يحيى بن علي بن هاشم الخفاف بحلب ثنا جدي محمد بن إبراهيم بن أبى سكينة ثنا الوليد بن محمد الموقرى ثنا الزهري أخبرنا سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أربع مدائن من مدائن الجنة في الدنيا : مكة ، والمدينة ، وبيت المقدس ، ودمشق . وأربع مدائن من مدائن النار في الدنيا : القسطنطينية ، والطوانة ، وإنطاكية المحترقة ، وصنعاء )) .
وأخرجه من طريق ابن عدى : ابن الجوزى (( الموضوعات ))(2/51) ، وجزم ببطلانه ووضعه .
وقال أبو أحمد بن عدى : (( هذا منكر لا يرويه عن الزهرى غير الموقرى )) .
قلت : ولا يرويه عن الموقرى بهذا الإسناد غير ابن أبى سكينة ، وغيره يرويه عن الموقرى (( عن الزهرى عن ابن المسيب عن أبى هريرة )) ، ولا يذكر سليمان بن يسار .
والخلاصة ، فإن محمد بن إبراهيم بن أبى سكينة راوى هذه الحكاية ليس ممن يوثق بروايته عن ابن المبارك ، لشدة وهنه وروايته ما ليس له أصل ، وروايته ما لم يروه أثبات أصحاب ابن المبارك .
( الثاني ) محمد بن عبد الله بن المطلب أبو المفضل الشيباني الكوفى نزيل بغداد ، كذاب دجال ، كذَّبه أبو الحسن الدارقطنى ، وأبو القاسم الأزهرى . قال الخطيب (( تاريخ بغداد ))(5/466) : ((كان يروي غرائب الحديث ، وسؤالات الشيوخ ، فكتب الناس عنه بانتخاب الدارقطني ، ثم بأن كذبه ، فمزقوا حديثه وأبطلوا روايته ، وكان بعد يضع الأحاديث للرافضة ويملي في مسجد الشرقية )) .
وقال أبو بكر الخطيب : (( سمعت الأزهري ذكر أبا المفضل فأساء ذكره ثم قال : وقد كان يحفظ ، وقال أبو الحسن الدارقطني : أبو المفضل يشبه الشيوخ حدثني القاضي أبو العلاء الواسطي قال : كان أبو المفضل حسن الهيئة جميل الظاهر نظيف اللبسة ، وسمعت الدارقطني سئل عنه فقال : يشبه الشيوخ سألت حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق عن أبي المفضل فقال : كان يضع الحديث وقد كتبت عنه ، وكان له سمت ووقار . أخبرنا أبو الفتح محمد بن الحسين العطار قطيط حدثنا محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى بن العراد الكبير حدثنا محمد بن الحسن بن شمون البصري حدثنا أبو شعيب حميد بن شعيب حدثني أبو جميلة عن أبان بن تغلب عن محمد بن علي أبي جعفر عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( قال الله تعالى : ما تحبب إلىَّ عبدي بأحب إلي من أداء ما افترضت عليه ... )) وذكر الحديث ، سمعت من يذكر أن أبا المفضل لما حدث عن ابن العراد قيل له : من أيهما سمعت الأكبر أو الأصغر وكانا أخوين ؟ ، قال : فسئل عن السنة التي سمع منه فيها ، فذكر وقتا مات ابن العراد قبله بمدة ، فكذبه الدارقطني فى ذلك وأسقط حديثه .
وقال لي الأزهري : كان أبو المفضل دجالا كذابا ، ما رأينا له أصلا قط ، وكان معه فروع فوائد قد خرجها في مائة جزء ، فيها سؤالات كل شيخ ، ولما حدث عن أبي عيسى بن العراد كذبه الدارقطني في روايته عنه ، لأنه زعم أنه سمع منه في سنة عشر وثلاثمائة ، وكانت وفاته سنة خمس وثلاثمائة )) .
وقال الحافظ الذهبى (( الميزان ))(6/215/7808) : (( محمد بن عبد الله أبو المفضل الشيباني الكوفي . عن البغوي وابن جرير وخلائق . وله رحلة إلى مصر والشام . قال الخطيب : كتبوا عنه بانتخاب الدارقطني ثم بان كذبه فمزقوا حديثه وكان بعد يضع الأحاديث للرافضة . مات سنة سبع وثمانين وثلثمائة وله تسعون سنة . فمن موضوعاته بإسناد له : أن نبياً شكا إلى الله جبن قومه فقال له : (( مرهم أن يستقوا الحرمل ، فإنه يذهب الجبن )) اهـ .
ونقل الحافظ ابن حجر عُظم ما ذكره الخطيب فى ترجمته فى (( لسان الميزان ))(5/231/811) ، وزاد عليه : (( وقال أبو ذر الهروي :كتبت عنه في المعجم للمعرفة ، ولم أخرج عنه في تصانيفي شيئا ، وتركت الرواية عنه لأني سمعت الدارقطني يقول : كنت أتوهمه من رهبان هذه الأمة ، وسألته الدعاء لي فتعوذ بالله من الحور بعد الكور . وقال أبو ذر : سبب ذلك أنه قعد للرافضة ، وأملى عليهم أحاديث ذكر فيها مثالب الصحابة ، وكانوا يتهمونه بالقلب والوضع ، وحدَّث بحديث كان الإمام ابن خزيمة تفرد به ، فقيل له : لو أخرجت أصولك بهذا ، فإن هذا حديث ابن خزيمة ، فكان جوابه للذي قال له ذلك : أنت تنتسب إلى قيس بن سعد بن عبادة وهو عقيم !! )) .
قلت : ولا أستبعد أن يكون أبو المفضل الشيبانى الرافضى هو واضع هذه الحكاية كيداً للإمامين المتحابين المتصافيين : ابن المبارك ، والفضيل بن عياض . ولا يتصور فى حق ابن المبارك أن تصدر عنه أمثال هذه المجازفات ، سيما قوله (( فى العبادة تلعب )) ، ففيه من الاستخفاف بشأن العبادة والمجاورة بالحرم ما لا يخفى على من علم تحرى ابن المبارك فى أقواله وأحكامه ، فضلاً عن محبته الصادقة الناصحة لأصحابه : الفضيل بن عياض ، وإسماعيل بن علية ، والثورى ، وابن عيينة ، ومحمد بن السماك ، وغيرهم من أفاضل عبَّاد زمانهم .
*****************(1/5)
المشاركة الرابعة
بيان صحة الحديث القدسى (( أنا ثالث الشريكين ))
الحمد لله الهادى من استهداه . والواقى من اتقاه . والصلاة والسلام على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم أفضل خلق الله . وبعد
قال أبو داود (( السنن ))(3383) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمِصِّيصِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ : (( إِنَّ اللهَ يَقُولُ : أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا )) . وأخرجه كذلك الدارقطنى (3/35/139) ، والحاكم (2/52) ، والبيهقى (6/78) ، والمزى (( تهذيب الكمال ))(10/401) من طريق محمد بن الزبرقان أبى همام عن أبى حيان التيمى عن أبيه عن أبى هريرة قال : قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : فذكره .
قلت : والحديث بهذا الإسناد يذكر فى الوحدان ، فليس فى (( الكتب الستة )) بهذا الإسناد غير هذا الحدبث ، تفرد بتخريجه أبو داود ، وليس لأبى حيان التيمى عن أبيه عن أبى هريرة غيره .
وقال الحاكم : (( صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه )) .
فتعقبه الشيخ الألبانى ـ طيَّب الله ثراه ـ فى (( إرواء الغليل ))(5/288/1468) بقوله :
(( وأقول : بل ضعيف الإسناد ، وفيه علتان :
( الأولى ) الجهالة ، فإن أبا حيان التيمى اسمه يحيى بن سعيد بن حيان . وأبوه سعيد ، أورده الذهبى فى (( الميزان )) وقال : (( لا يكاد يُعرف ، وللحديث علَّة )) . وأما الحافظ ، فقال فى (( التقريب )) : (( وثََّقه العجلى )) .
قلت : وهو من المعروفين بالتساهل فى التوثيق ، ولذلك لم يتبن الحافظ توثيقه ، وإلا لجزم به فقال : (( ثقة )) ؛ كما هى عادته فيمن يراه ثقة ، فأشار إلى هذا لأنه ليس كذلك عنده ، بأن حكى توثيق العجلى له .
( الثانية ) الاختلاف فى وصله . فرواه ابن الزبرقان هكذا موصولاً ، وهو صدوق يهم كما قال الحافظ ، وخالفه جرير فقال (( عن أبى حيان التيمى عن أبيه قال قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : فذكره )) أخرجه هكذا الدارقطنى من طريق لوين محمد بن سليمان ، ثم قال : (( لم يسنده أحد إلا أبو همام وحده )) .
قلت : وأبو همام فيه ضعفٌ ، ولعل مخالفه جرير ، وهو ابن عبد الحميد الضبى خير منه ، فقد ترجمه الحافظ : (( ثقة صحيح الكتاب ، وقيل : كان فى آخر عمره يهم من حفظه )) . وجملة القول أن الحديث ضعيف ، للاختلاف فى وصله وإرساله ، ولجهالة راويه )) اهـ .
وأقول : والشيخ الألبانى ـ طيَّب الله ثراه ـ مسبوق بهذا التعليل والتضعيف ، بما ذكره العلامة أبو الحسن بن القطان فى كتاب (( الوهم والإيهام )) . ونص عبارة ابن القطان : (( وهو حديث يرويه أبو حيان التيمى عن أبيه عن أبى هريرة . وأبو حيان هو يحيى بن سعيد بن حيان أحد الثقات ، ولكن أبوه لا يُعرف حاله ، ولا يُعرف من روى عنه غير ابنه . ويرويه عن أبى حيان : أبو همام بن الزبرقان . وحكى الدارقطنى عن لُوين أنه قال : لم يسنده غير أبى همام ، ثم ساقه من رواية أبى ميسرة النهاوندى ثنا جرير عن أبى حيان عن أبيه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مرسل )) اهـ كما فى (( نصب الراية )) للحافظ الزيلعى .
قلت : وهذا الذى ذكره أبو الحسن بن القطان فى إعلال الحديث مشهور مستفيض عنه ، نقله عنه الكثيرون من الحفاظ ، كالحافظ ابن الملقن (( خلاصة البدر المنير ))(2/93) ، والحافظ عمر بن على الوادياشى (( تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج ))(2/271) ، والحافظ ابن حجر فى(( تلخيص الحبير ))(3/49) ، والحافظ المناوى فى (( فيض القدير ))(2/308) ، والأمير الصنعانى فى (( سبل السلام ))(3/46) ، والقاضى الشوكانى فى (( نيل الأوطار ))(5/390) ، وشمس الحق العظيم آبادى فى (( عون المعبود ))(9/170) وغيرهم ، إلا أن الحافظ ابن الملقن الشافعى تعقبه بقوله : (( أعله ابن القطان بما بان أنه ليس بعلة )) ، وكذا قال الحافظ الوادياشى الأندلسى .
قلت : وهو كما قالا ، والحديث صحيح ولا عبرة فى تضعيفه للوجوه الآتية :
( أولاً ) سعيد بن حيان التيمى الكوفى ، والد يحيى بن حيان ، لا يتوجه القول بتضعيفه بمجرد القول : (( لا يكاد يُعرف )) ، فإنها ليست من عبارات التضعيف ، كما هو معروف فى (( قواعد الجرح والتعديل )) .
وإنما يخالف فى هذا المتأخرون الذين يضعفون المجاهيل بلا حجة . ومفهومها عند قائلها ، وهو الحافظ الذهبى ، ما بيَّنه فى خاتمة (( ديوان الضعفاء ))(ص374) : (( وأما المجهولون من الرواة ، فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقى بحسن الظن ، إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ )) . فلماذا تغاضى الشيخ الألبانى عن هذه القاعدة الذهبية المفسِّرة لقوله (( لا يكاد يُعرف )) ؟! .
علماً بأن سعيد بن حيان كما قال الحافظ فى (( التقريب ))(1/293) : (( من الثالثة )) يعنى من أوساط التابعين كالحسن البصرى وابن سيرين . وإنما نقول هذا رداً على من ضعَّفه ، وإلا فالرجل فى غنيةٍ عن هذا الدفاع ، فقد وثَّقه اثنان : العجلى فى (( معرفة الثقات ))(1/396) ، وابن حبان فى (( الثقات ))(4/280/2901) .
وقال الحافظ (( تهذيب التهذيب ))(4/17/26) : (( لم يقف ابن القطان على توثيق العجلى ، فزعم أنه مجهول )) ، وأما اقتصاره فى (( التقريب )) على ذكر توثيق العجلى فلهذه العلَّة التى بيَّنها ، وليس كما زعم الألبانى أنه لم يتبين له توثيقه !! ، سيما وقد ذكر فى (( التهذيب )) أن العجلى وابن حبان وثَّقاه ، ولا يخفاك أن (( تقريب التهذيب )) اختصار للـ(( التهذيب )) . وأما الحافظ الذهبى الذى ذكر فى (( الميزان )) أنه (( لا يكاد يُعرف )) بناءً على قاعدته الآنفة فى (( ديوان الضعفاء )) ، فقد أعاد ذكره فى (( الكاشف ))(1/434/1871) فقال : (( ثقة )) ، فبان بهذا أن قوله عن الراوى (( لا يكاد يُعرف )) ؛ ليس تضعيفاً كما يتصوره الشيخ الألبانى ـ طيَّب الله ثراه ـ ! .
وقد ذكر سعيداً هذا البخارى فى (( التاريخ ))(3/463/1539) ، وابن أبى حاتم فى (( الجرح والتعديل ))(4/12/44) ، فلم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً .
والخلاصة ، فإن سعيد بن حيان التيمى ، والد أبى حيان التيمى ، ثقة مرضىٌّ ، وإن تفرد عنه ابنه ، وحديثه متلقى بالقبول .
( ثانياً ) محمد بن الزبرقان أبو همام الأهوازى ، ثقة من رجال (( الصحيحين )) ، وثَّقه على بن المدينى ، والبخارى ، وابن حبان ، والدارقطنى . وقال أبو حاتم الرازى : صالح الحديث صدوق . وقال أبو زرعة : صالح وسط . وقال النسائى : ليس به بأس . وقال ابن حبان : ثقة ربما أخطأ .
ولأجل ذلك ، وتوفيقاً بين كلام الأئمة ، قال الحافظ ابن حجر (( التقريب ))(2/161) : (( صدوق ربما وهم )) . وفرقٌ بين هذا وبين ما نقله عنه الشيخ الألبانى بالمعنى بقوله (( صدوق يهم )) ، فإن الحكم الصحيح ينبؤ عن قلة وهمه أو ندرته ، بينما ينبؤ الثانى عن الكثرة واللزوم !! .
وعليه ، فالأهوازى ثقة ربما أخطأ كما يخطئ غيرُه من الثقات ، فمثله ما لم يخالفه من هو أوثق منه متلقى حديثه بالقبول والتصحيح ، وإن تفرد ، كما هو معلوم من (( قواعد علم المصطلح )) .
فلننظر فى حديث جرير الذى ظنَّ الشيخ الألبانى ـ طيَّب الله ثراه ـ أنه يعارض حديث أبى همام الأهوازى الثقة الصدوق ، ولو أنَّه طالع (( سنن الدارقطنى )) ، ما خفى عليه ضعفه .
أخرجه الدارقطنى (3/35/140) قال : حدَّثنا هبيرة بن محمد بن أحمد الشيبانى نا أبو ميسرة النهاوندى نا جرير عن أبى حيان التيمى عن أبيه قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( يدُ الله على الشريكين ما لم يخُنْ أحدُهما صاحبَه ، فإذا خانَ أحدُهما صاحبَه رفعَها عنْهُما )) .
قلت : فمن أبو ميسرة هذا الذى أدخل هذا الحديث على جرير بن عبد الحميد ؟؟ ، وهل تقوى روايته المرسلة مع شدة ضعفه على معارضة رواية أبى همام الثقة الصدوق ؟! .
قال ابن حبان فى (( المجروحين والمتروكين ))(1/144) : (( أحمد بن عبد اللَّه بن ميسرة الحرانى ، أبو ميسرة النهاوندى . يأتى عن الثقات بما ليس من أحاديث الأثبات ، لا يحل الاحتجاج به )) ، وذكر له حديثين عن ابن عمر ، وقال : (( هذان خبران باطلان رفعهما )) .
وقال أبو أحمد بن عدى فى (( الكامل فى الضعفاء ))(1/176) : (( كان بهمدان . حدَّث عن الثقات بالمناكير، ويحدِّث عمن لا يعرف ويسرق حديث الناس )) .
قلت : فهذه رواية واهية بمرة ، لا يحل الاحتجاج بها لحال أبى ميسرة النهاوندى . والذى أعتقده أن الألبانى لم ينظر فى إسناد الدارقطنى ، ولو فعل فلم يكن ليخفى عليه شدة ضعف رواية أبى ميسرة ، وإنما قال ما قاله تحسيناً للظن بابن القطان ، وتقليداً له !! .
فإذ قد بان أن الحديث الموصول لا يعارض بهذه الرواية الواهية ، فقد ثبتت صحته ، ووجب الاحتجاج به .
وتمام البحث ، أن نقول (( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله )) ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
*****************(1/7)
المشاركة الخامسة
حسان عبد المنان وصنيعه بكتاب (( رياض الصالحين ))
لشيخ الإسلام أبى زكريا النووى
الحمد لله ناصر الحق ورافعِى لوائِه . والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أتقى خلقه وأوليائِه .
ذكر أبو زكريا النووى فى كتابه البديع (( رياض الصالحين )) :
183 : باب الحث على سور وآيات مخصوصة
(1018) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله قَالَ : وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، وَقُلْتُ : وَاللهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ ، وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ ، قَالَ : فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ! مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ ؟ )) ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً ، فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ ، قَالَ : (( أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ ، وَسَيَعُودُ )) ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهُ سَيَعُودُ ، فَرَصَدْتُهُ ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، فَقُلْتُ : لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ ، لا أَعُودُ ! ، فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ ، فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ! مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ ؟ )) ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً ، فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ : (( أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ )) ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، فَقُلْتُ : لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاثِ مَرَّاتٍ : أَنَّكَ تَزْعُمُ لا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ ، قَالَ : دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا ، قُلْتُ : مَا هُوَ ؟ ، قَالَ : إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ (( اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )) حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ ، وَلا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ ، فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ ؟ )) ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ ، قَالَ : مَا هِيَ ؟ , قُلْتُ : قَالَ لِي : إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ (( اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )) ، وَقَالَ لِي : لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ ، وَلا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ )) ، قَالَ : لا ، قَالَ : (( ذَاكَ شَيْطَانٌ )) . رواه البخارى .
ضعَّف هذا الحديث حسان عبد المنان فى ذيل (( كتاب رياض الصالحين )) له ، طبعة المكتبة الإسلامية بالأردن .
وقال : (( ولعل تعليق البخارى له بسبب ضعف عثمان بن الهيثم )) . وزعم أن : (( البخارى يتساهل أحياناً فى (( صحيحه )) فى ذكر أشياء فى الترغيب والترهيب فيها كلام )) .
وإنما قلت : له ـ أعنى لحسان ـ ، ولم أقل لشيخ الإسلام أبى زكريا النووى ، لأن الشيخ حسان ـ سامحه الله ـ عمد إلى الكتاب ، فمسخه مسخاً ـ ولا أدرى من سمح له أو لغيره بالتلاعب فى كتب التراث بمثل هذا ؟!! ـ ، ثم شطره قسمين :
[ القسم الأول ] الأصل المهذََّب ، وأسمَّاه (( تهذيب الكتاب )) . وقال بلفظه : (( تهذيب الكتاب بصورة لا تخل بالمقصود ، بل تزيده دقة وفائدة ، ويسهل تناوله أكثر بين الناس دون إنقاص فائدة من فوائده ، لكى يقرأ الكتاب دون ملل فى وقت قصير )) . ثم ذكر صنيعه لتحقيق هذه المقاصد :
1ـ (( حذف الآيات المتكررة المعنى واللفظ )) .
2ـ (( حذف المكرر من الحديث فى الباب الواحد والاكتفاء منها بالأتم الأوفى )) .
3ـ (( حذف المكرر من روايات الحديث الواحد إذا استوفت إحداها المعنى بتمامه )) .
4ـ (( حذف الأحاديث الضعيفة من الكتاب كله )) .
5ـ (( حذف أحاديث الباب بكاملها ، إذا كان الباب مكرَّراً فى معناه فى الكتاب )) .
6ـ (( حذف تخريجات الإمام النووى ، والاكتفاء برموز ـ ذكرها ـ الرواة ، لأنى التزمت أن أحذف الأحاديث الضعيفة كلها من الكتاب )) .
7ـ (( حذف شرح الإمام النووى عقب الحديث ، أو تغيير عباراته إن كان فيها غموض بعبارات أحسن وأوضح وأتمَّ )) .
وهذه البنود المذكورة كلها بلفظ الشيخ حسان ـ سامحه الله ـ وعباراته ، حذف .. حذف .. حذف .. حذف .. ، ويبدو أن حساناً هذا مغرم بالحذف والشطب والكشط والمحو ، ولو كان ذلك تشويهاً لكتب التراث ومسخاً لأصولها . وأنا ، والذى أخافه وأخشاه ولا أعبد إلا إيَّاه ، لا أظلمه ولا أحاكمه ، والكتاب مطبوع ومتداول بأيدى طلبة العلم والعوام ، وإنما أترك الأمر لأساتذة تحقيق كتب التراث ومصنفات الأئمة الأفذاذ ، ووالله إننى لفى حاجة ماسة إلى مطالعة تعليقاتهم على هذا الصنيع بكتب الأسلاف ، وأسائلهم : هل تقبلون هذا وترضونه ؟ .
[ القسم الثانى ] ذيل الكتاب . (( بيان الأحاديث الضعيفة من الكتاب الأصل )) .
وفى هذا القسم ما فيه من الجرأة ، والإقدام ، وسلوك أوعر الطرق فى الحكم على الأحاديث المصطفوية ، والأخبار النبوية .
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هلالَها
أو تجحدون مقالةً من ربكم جبريل بلَّغها النبىَّ فقالَها
حفظ الأوائل للشريعة قدرها وأتيتُمُ فأردتُمُ إبطالَها
ووالله لا أريد أن أسترسل مع خواطرى تجاه هذه الأغلاط ، رجاء رجوع الشيخ وغيره إلى الصواب .
والقصد الآن : بيان الرد على تضعيف حدبث أبى هريرة المذكور ، والذى علَّقه إمام المحدثين فى (( صحيحه )) .
فقد أخرجه البخارى فى (( كتاب الوكالة )) :
بَاب إِذَا وَكَّلَ رَجُلا فَتَرَكَ الْوَكِيلُ شَيْئًا فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو عَمْرٍو ثنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه قَالَ : وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فذكره بهذا السياق .
وأعاد ذكره معلَّقا فى موضعين من (( فضائل القرآن )) ، و(( بدء الخلق )) .
قلت : وهذا إسناد معلَّق صحيح ، وعثمان بن الهيثم العبدى أبو عمرو المؤذن البصرى من قدامى شيوخ البخارى ، ومن طريقه وصله ابن خزيمة فى (( صحيحه ))(2424) قال : حدثنا هلال بن بشر البصري بخبر غريب غريب حدثنا عثمان بن الهيثم مؤذن مسجد الجامع حدثنا عوف به مثله .
وأخرجه كذلك النسائى (( الكبرى ))(6/238/10795) و(( عمل اليوم والليلة ))(959) عن إبراهيم بن يعقوب ، والدارقطنى (( مجلس إملاء فى رؤية الله تبارك وتعالى ))(548) عن إسحاق بن الحسن الحربى ، والبيهقى(( شعب الإيمان ))(2/456/2388) و(( دلائل النبوة )) عن السرى بن خزيمة ، جميعاً عن عثمان بن الهيثم به .
وهذا الحديث أحد تعاليق البخارى عن مشايخه ، ولم يوصله لإحدى ثلاثة أسباب :
( أولها ) إما أنه لم يسمعه من شيخه ، وإنما حمله عن أحد شيوخه الثقات عنه .
( ثانيها ) وإما أنه سمعه منه فى المذاكرة ، ولم يرى أن يسوقه مساق الأصول .
( ثالثها ) وإما أنه سمعه منه وشكَّ وتردد فى سماعه ، فعلَّقه عنه ولم يسنده .
فإن يكن الأول ، فأقرب من رواه منهم بالبخارى : هلال بن بشر البصرى ، وهو ثقة متقن ، ولم يروى عنه فى (( الصحيح )) ، وإنما روى عنه فى (( التاريخ الكبير )) .
قال الحافظ ابن حجر(( تغليق التعليق ))(3/295) :(( هذا الحديث قد ذكره ـ يعنى البخارى ـ في مواضع من كتابه مطولا ومختصرا ، ولم يصرح في موضع منها بسماعه إياه من عثمان ابن الهيثم . وقد وصله أبو ذر الهروى فقال : حدثنا أبو إسحاق المستملي ثنا محمد بن عقيل ثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب قال ثنا عثمان بن الهيثم بهذا الحديث بتمامه .
وأخبرني به أبو بكر بن إبراهيم بن محمد بن أبي عمر بقراءتي عليه أخبركم أبو نصر بن جميل في كتابه عن أبي القاسم بن أبي الفرج أن يحيى بن ثابت بن بندار أخبره أنا أبي أنا الحافظ أبو بكر بن غالب أنا الحافظ أبو بكر الإسماعيلي ثنا عبيد الله بن محمد بن النضر اللؤلؤي ثنا الحارث بن محمد ثنا عثمان بن الهيثم المؤذن ح قال الإسماعيلي وأخبرني الحسن بن سفيان حدثني عبد العزيز بن سلام سمعت عثمان بن الهيثم ثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخبرنا به عاليا عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبيد الله عن زينب بنت الكمال أن يوسف بن خليل الحافظ كتب إليهم أنا أبو جعفر محمد ابن إسماعيل الطرسوسي عن أبي علي الحداد أنا أبو نعيم ثنا محمد بن الحسن ثنا محمد بن غالب بن حرب ثنا عثمان بن الهيثم فذكره بطوله.
ورواه ابن خزيمة عن هلال بن بشر الصواف ، والنسائي عن إبراهيم بن يعقوب كلاهما عن عثمان بن الهيثم به ، فوقع لنا بدلا عاليا )) اهـ .
قلت : فهؤلاء ثمانية من الأثبات الرفعاء أسندوه عن عثمان : هلال بن بشر البصرى ، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجانى ، وإسحاق بن الحسن الحربى ، والسرى بن خزيمة ، وعبد العزيز بن المنيب ، وعبد العزيز بن سلام ، والحارث بن محمد بن أبى أسامة ، ومحمد ابن غالب تمتام .
ورجال هذا الإسناد ثقات مشاهير ، خلا عثمان بن الهيثم بن جهم بن عيسى بن حسان ابن المنذر بن عائذ العبدى العصرى ، أبو عمرو البصرى المؤذن ، فإنه ثقة يخطئ وربما خالف ، قال أبو حاتم : كان بأخرة يُلَقَّن . وقال الدارقطني : صدوق كثير الخطأ .
وذكره ابن حبان فى (( ثقاته ))(8/453/14393) ، واحتج به هو وشيخه أبو بكر بن خزيمة فى (( صحيحهما )) ، وسبقهما إلى ذلك إمام المحدثين أبى عبد الله البخارى .
فقد أخرج له البخارى فى (( صحيحه )) خمسة أحاديث مسندة موصولة ، هاك بيانها :
( الأول ) قال البخارى فى (( كتاب الحج )) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ (( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ )) فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ .
( الثانى ) وقال فى (( كتاب اللباس )) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ سَمِعَ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمَ يُخْبِرَانِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ بِذَرِيرَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالإِحْرَامِ .
( الثالث ) وقال فى (( كتاب الأيمان والنذور )) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : كُنْتُ أَحْسِبُ يَا رَسُولَ اللهِ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا لِهَؤلاء الثَّلاث ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( افْعَلْ وَلا حَرَجَ )) لَهُنَّ كُلِّهِنَّ يَوْمَئِذٍ ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلا قَالَ : (( افْعَلْ وَلا حَرَجَ )) .
( الرابع ) وقال (( كتاب المغازى )) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ : لَقَدْ نَفَعَنِي اللهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْجَمَلِ ، بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ ، قَالَ : لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ : (( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً )) .
( الخامس ) وقال (( كتاب النكاح )) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ )) .
فهذه جملة أحاديث عثمان بن الهيثم البصرى المسندة الموصولة فى (( الجامع الصحيح )) وكلها قد توبع عليها ولم يتفرد ، مما يدل على :
( أولاً ) ضبطه وحفظه وموافقته فى الأغلب للحفاظ من أصحاب : ابن جريج ، وعوف الأعرابى .
( ثانياً ) انتقاء إمام المحدثين لأحاديثه التى أتقنها وضبطها ولم يُخالفْ عليها ، ومجانبته أوهامه وما أخطأ فيه ، وخالف سائر الحفاظ الأثبات .
وبهذين الاعتبارين ، جزم إمام المحدثين بصحة تعليق حديثه عن أبى هريرة السالف ، سيما وقد توبع عليه ، كما سيأتى بيانه .
وأما قول أبى حاتم عنه : صدوق كان يتلقن بآخرة ، وقول الدارقطني : كان صدوقا كثير الخطأ ، فأعدل وأحكم دلالة لمعناهما أنه ينبغى تمييز صحيح حديثه من سقيمه ، وأعرف الناس بذلك البخارى ، فهو من قدماء شيوخه ، وقد سبر أحوالهم ، وعرف أقدارهم ، وميز أحاديثهم ، فحمل منها أصحها ، وجانب ضعافها وما يُنكر منها .
ونزيدك بياناً وإيضاحاً لهذه الدلالة ، بذكر أربعة أحاديث مما أنكروا على عثمان بن الهيثم البصرى ، فجانبها إمام المحدثين :
( الأول ) أخرج الطبرانى (( الكبير ))(7/225/6937) قال : حدثنا علي بن عبد العزيز والفضل بن الحباب قالا ثنا عثمان بن الهيثم المؤذن ثنا هشام بن حسان القردوسي عن الحسن عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه )) .
وأخرجه الحاكم (4/408) من طريق محمد بن يحيى بن المنذر ومحمد بن غالب بن حرب قالا ثنا عثمان بن الهيثم المؤذن ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه )) .
قلت : وهذا منكر من حديث أبى هريرة ، ومحفوظ من حديث سمرة ، وكأن عثمان بن الهيثم كان يخطئ فيه أحياناً .
( الثانى ) أخرج البيهقى (( شعب الإيمان ))(2/118/1345) من طريق السري بن خزيمة نا عثمان بن الهيثم ثنا عوف عن محمد عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بلال ، وعنده صبرة من تمر ، فقال : (( ما هذا يا بلال )) ، قال : تمر ادخرته ، قال : (( أما تخشى يا بلال أن يكون له بخار في نار جهنم ، أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش أقلالا )) .
قال أبو بكر : (( خالفه روح بن عبادة ، فرواه عن عوف عن محمد قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بلال فوجد تمرا ادَّخره ... فذكره مرسلاً )) اهـ .
( الثالث ) أخرجته بيبى بنت عبد الصمد الهرثمية (( جزء بيبى ))(111) من طريق عباد بن الوليد بن يزيد الغبري حدثنا عثمان بن الهيثم المؤذن ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( سبعة في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله : رجل ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه ، ورجل يحب عبدا لله لا يحبه إلا لله عزَّ وجلَّ ، ورجل قلبه معلق بالمساجد من شدة حبه إيَّاها ، ورجل يعطي الصدقة بيمينه يكاد أن يخفيها من شماله ، وإمام مقسط في رعيته ، ورجل عرضت امرأة نفسها عليه ذات جمال ومنصب فتركها لجلال الله عز وجل ، ورجل كان في سرية قوم فالتقوا العدو فانكشفوا فحمى أدبارهم حتى نجا ونجوا واستشهد )) .
قلت : وهذا منكر إسناداً ومتناً ، وفى ألفاظه غرابة ، والمحفوظ حديث خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبى هريرة ، ومن هذه الطريق رواه الشيخان .
( الرابع ) أخرجه أبو بكر القطيعى (( جزء الألف دينار ))(210) قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عامر بن قيس بن عاصم المنقري البصري حدثنا عثمان بن الهيثم المؤذن حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن عن جابر بن سمرة قال : رأيت رسول الله ليلة إضحيان وعليه حلة حمراء ، وكنت أنظر إليه وإلى القمر ، فكان في عيني أزين من القمر .
قلت : وخالفه أشعث بن سوار ، فرواه عن أبى إسحاق السبيعى عن جابر بن سمرة ، وهو المحفوظ .
وقد أردنا مما ذكرناه من أوهام عثمان بن الهيثم التوثق لصنيع البخارى فى انتقائه لأحاديث شيوخه الصحاح ومجانبة ضعاف أحاديثهم ، ومن جملة هؤلاء عنده عثمان بن الهيثم .
ومما يليق ذكره بهذا المقام ، ما قاله الحافظ ابن حجر عن عبد الله بن صالح كاتب الليث فى (( مقدمة الفتح ))(1/414) : (( ما يجئ من روايته عن أهل الحذق كيحيى بن معين ، والبخارى ، وأبى زرعة ، وأبى حاتم فهو من صحيح حديثه ، وما يجئ من رواية الشيوخ عنه فيتوقف فيه )) اهـ .
وهذا التعليل الفائق الصحة مستغنٍ بوضوحه عن بيان دلالته عند من له إلمام ولو يسير بمعارف أهل الجرح والتعديل ، ومن خالف وجه دلالته فليس له معرفة بأصول هذا العلم الدقيق من علوم الشريعة .
ومن نوافل الإفادة أن نوقفك على بعض دلالات هذا التعليل ، بذكر راوٍ ممن أخرج له البخارى فى (( صحيحه )) حديثاً واحداً على وجه الإنتقاء والاحتجاج ، مع الجزم بضعفه وشدة وهيه وتدليسه الفاحش ؛ أعنى الحسن بن ذكوان وهو صاحب أوابد كما قال يحيى بن معين ، وقال الأثرم : (( قلت لأبى عبد الله أحمد بن حنبل : ما تقول فى الحسن بن ذكوان ؟ ، قال : أحاديثه أباطيل ! يروى عن حبيب بن أبى ثابت ولم يسمع من حبيب ، إنما هذه أحاديث عمرو بن خالد الواسطى )) ، ونقلوا عن يحيى القطان قوله عنه : يحدث عندنا بعجائب ! . فإذا كان هذا حال الحسن بن ذكوان عند هؤلاء سيما يحيى القطان إمام النقاد ورأس طائفة الجرح والتعديل ، فما تأويل قول ابن عدى فى (( كامله ))(2/317) : (( أن يحيى القطان حدَّث عنه بأحرفٍ ، ولم يكن عنده بالقوى )) ؟
وإذا كان الحسن بن ذكوان موسوماً بالتدليس مشهوراً به ، وقد أورد له أبو أحمد بن عدى فى (( كامله ))(5/125) أربعة أحاديث دلسها عن عمرو بن خالد الواسطى الكذاب الوضاع :
[ أولها ] الحسن عن حبيب بن أبى ثابت عن عاصم بن ضمرة عن على عن النَّبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم : (( من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضخ جهنم ، قال : وما ظهر غنى ؟ ، قال : عشاء ليلة )) .
قال أبو أحمد : (( قال لنا ابن صاعد : وهذا الحديث رواه الحسن بن ذكوان عن عمرو بن خالد عن حبيب بن أبي ثابت بهذا الإسناد )) يعنى أنه دلَّسه ، فأسقط منه عمرو ليوهم حمله وروايته عن حبيب ! .
[ ثانيها ] بهذا الإسناد قال : (( نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم عن كل سبع ذي ناب ، وكل ذي مخلب من الطير ، وعن ثمن الميتة ، وعن لحوم الحمر الأهلية ، وعن كسب البغي وعسب الفحل )) ، وفى رواية (( وعن المياثر الأرجوان )) ، وفى أخرى (( وثمن الخمرة )) .
قال أبو أحمد : (( وهذا الحديث يرويه الحسن بن ذكوان عن عمرو بن خالد ، وعمرو متروك الحديث ، ويسقطه الحسن من الإسناد لضعفه )) .
[ ثالثها ] الحسن عن حبيب بن أبى ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : (( أنَّ النَّبىَّ صلَّى الله عليه وسلَّم نهى أن ينتفض فى برازٍ حتى يتنحنح )) .
[ رابعها ] بهذا الإسناد والسياق وبزيادة (( ونهى أن يمشى فى خفٍ واحدٍ أو فى نعلٍ واحدٍ ، وأن ينام على طريق ، وأن يلقى عدواً له وحده إلا ان يضطر ، فيدفع عن نفسه )) .
وقال أبو أحمد : (( وهذه الأحاديث التي يرويها الحسن بن ذكوان عن حبيب بن أبي ثابت نفسه ، بينهما عمرو بن خالد ، فلا يسميه لضعفه )) .
فإذا كان ذلك كذلك ، فما وجه رواية إمام النقاد يحيى القطان عن الحسن بن ذكوان هذا الحديث الواحد الذى انتقاه إمام المحدثين أبى عبد الله ، وأودعه (( كتاب الرقاق )) من (( صحيحه ))(4/139. سندى ) فقال :
حَدَّثنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى ـ يعنى القطان ـ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ حَدَّثنَا أَبُو رَجَاءٍ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ )) .
ربما يكتفى بعضهم بما ذكره الحافظ ابن حجر فى (( هدى السارى )) بقوله : (( والحسن بن ذكوان تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما ، وليس له فى البخارى سوى هذا الحديث برواية القطان عنه مع تعنته فى الرجال ، ومع ذلك فهو متابعة )) ! .
وأقول : وتمام هذا التوجيه وكماله أن نقول :
(1) أن الحسن بن ذكوان قد صرَّح فى الحديث بالسماع ، فانتفت تهمة تدليسه .
(2) أن كون الحديث من رواية يحيى القطان عنه ، وهو أعرف الناس بما يصح من حديثه ، وما ينكر ، فهو من صحاح حديثه .(1/8)
ومما يفيده هذا التوجيه : أن انتقاء الصحيح من أحاديث الضعفاء والمجروحين هو مما توافرت عليه همم الجهابذة النقاد أمثال : يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدى ، ويحيى بن معين ، والبخارى ، وأبى حاتم وغيرهم من أئمة هذا الشأن . ومن لم يقف على مثل هذه المعرفة الدقيقة الواعية ، فليس ممن مارس هذا العلم ، فضلاً عن إتقانه ، بله الولوج فى معترك المناظرة مع هؤلاء الفحول الجهابذة فيما ذهبوا إليه من تصحيح الأخبار المصطفوية .
والخلاصة ، فإن حديث عثمان بن الهيثم الذى علَّقه إمام المحدثين ، واحتج به فى (( صحيحه )) ، هو من الصحيح المنتقى من أحاديث عثمان بن الهيثم ، وعليه علامة تصحيح إمام المحدثين وأستاذ العارفين أبى عبد الله البخارى .
*****************(1/9)
المشاركة السادسة
احتجاج الإمام مالك فى (( الموطأ )) بنسوةٍ مجهولاتٍ لم يرو عنهن إلا واحد
الحمد لله العزيز الغفار ، الذى نصب فى كلّ جيلٍ طائفةً ليتفقهوا فى الدين ويستقرئوا سالف الآثار ، وهيأهم لإدراك الصحيح والضعيف من السنن والأخبار ، أولئك الذين تنجلى بهم الظلم ، وتنكشف بهم الغمم ، ويُهتدَى بهم على كرِّ الدهور والأعصار .
أحمده وهباته تنزل تترى على توالى الليل والنهار ، وأرجوه وأخافه وبيده مقاليد الأمور ويعلم كمائن الأسرار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادةً دلائلها مشرقة الأنوار ، ونتيجة اعتقادها مباينة أهل العناد من المشركين والكفار ، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه المجتبى ونبيُّه المختار . وبعد !
لما كان للمتأخرين مذهب مرجوح فى تضعيف أحاديث التابعيات المجهولات ممن لا يعرفن بجرحٍ ولا عدالةٍ ، فقد أردنا أن نوقفك على وعورة هذا المسلك ، مع بيان أنه خلاف الراجح مما كان عليه سلف الأئمة من تلقى أحاديثهن بالقبول والتصحيح والاحتجاج بها .
فهذا (( موطأ )) إمام الأئمة وحبر الأمة مالك بن أنس . ولا يغيبنَّ عنك أن مالكاً كان شديد التحرى فى البحث عن الرجال ، فلم يدخل فى (( موطئه )) إلا الثقات . وقد قال أبو سعيد بن الأعرابى : كان يحيى بن معين يوثق الرجل لرواية مالك عنه ، سئل عن غير واحد ، فقال : ثقة روى عنه مالك . وقال الأثرم : سألت أحمد بن حنبل عن عمرو بن أبى عمرو مولى المطلب ، فقال : يزين أمره عندى أن مالكاً روى عنه . فهذان إماما أئمة الجرح والتعديل : أحمد ويحيى قد رضيا مالكاً حكماً لهما فى توثيق الرجال ، ونزلا على حكمه . وكفى بصنيعهما هذا دلالة ! .
وقال شعبة بن الحجاج : كان مالك بن أنس أحد المميزين ، ولقد سمعته يقول : ليس كل الناس يكتب عنهم ، وإن كان لهم فضل فى أنفسهم ، إنما هى أخبار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فلا تؤخذ إلا من أهلها .
وقال مطرف بن عبد الله المدني : قال لي مالك بن أنس : عطاف ـ يعنى ابن خالد ـ يحدِّثُ ؟ ، قلت : نعم ، فأعظم ذلك إعظاما شديداً ، ثم قال : لقد أدركت أناسا ثقات يحدثون ما يؤخذ عنهم ، قلت : كيف وهم ثقات ؟ ، قال : مخافة الزلل .
وقال عبد الله بن أحمد بن شبويه عن مطرف بن عبد الله : سمعت مالك بن أنس يقول : ويكتب عن مثل عطاف بن خالد ! ، لقد أدركت في هذا المسجد سبعين شيخا كلهم خير من عطاف ما كتبت عن أحد منهم ، وإنما يكتب العلم عن قوم قد حوى فيهم العلم مثل عبيد الله بن عمر وأشباهه .
ففى (( الموطأ )) من هؤلاء التابعيات المجهولات اللاتى لا يعرفن بجرحٍ ولا عدالةٍ جماعة ، نذكر منهن :
(1) كبشة بنت كعب بن مالك لم يرو عنها إلا حميدة بنت عبيد بن رفاعة(1)
(2) حميدة أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف(2)
لم يرو عنها غير محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى
(3) مرجانة أم علقمة مولاة عائشة لم يرو عنها غير ابنها علقمة(3)
(4) أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان(4)
لم يرو عنها غير ابنها محمد
*****************
__________
(1) أخرج حديثها محمد بن الحسن فى (( الموطأ )) : عن مالك عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة عن حُميدة بنت عبيد بن رفاعة عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري أنها أخبرتها أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءاً ، فجاءت هرة لتشرب منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت ، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ! قالت : فقلت : نعم ، فقال : إنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : (( إنها ليست بنجس ، إنَّما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات )) .
وأخرجه كذلك الشافعى (( المسند ))(ص9) و(( الأم ))(1/5) ، وعبد الرزاق (1/101/353) ، وابن أبى شيبة (1/36/325 و7/308/36348) ، وأحمد (5/303،309) ، والدارمى (736) ، وابن سعد (( الطبقات الكبرى ))(8/478) ، وأبو داود (75) ، والترمذى (92) ، والنسائى (( المجتبى ))(1/5) و(( الكبرى ))(1/76/63) و(( الصغرى ))(184) ، وابن ماجه (367) ، وابن الجارود (60) ، وابن خزيمة (104) ، وابن المنذر (( الأوسط ))(1/303) ، والطحاوى (( شرح المعانى ))(1/19:18) ، وابن حبان (1296) ، والدارقطنى (1/70/22) ، والحاكم (1/263) ، والبيهقى (( الكبرى ))(1/245) ، وابن عبد البر (( التمهيد ))(1/319) ، وابن الجوزى (( التحقيق فى أحاديث الخلاف )) (1/79/61) ، والمزى (( تهذيب الكمال )) (35/290) جميعاً من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب عن أبى قتادة به .
وقال أبو عيسى الترمذى : (( هذا حديث حسن صحيح . وقد جوَّد مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، ولم يأت به أحد أتم من مالك )) .
وقال أبو عبد الله الحاكم : (( هذا حديث صحيح ولم يخرجاه ، على أنهما قد شهدا جميعا لمالك بن أنس أنه الحكم في حديث المدنيين ، وهذا الحديث مما صححه مالك ، واحتج به في (( الموطأ )) ، ومع ذلك فإنَّ له شاهدا بإسنادٍ صحيح )) .
قلت : وقد حكم جماهير الأئمة للحديث بالصحة : البخارى ، والترمذى ، والعقيلى ، وابن خزيمة ، وابن الجارود ، وابن حبان ، والدارقطنى ، والحاكم ، وكذلك أكابر الحفاظ : النووى ، والمزى ، وابن تيميه ، وابن دقيق العيد ، وابن الملقن ، والزيلعى ، وابن حجر وكثيرون .
على أن فى إسناده كبشة بنت كعب بن مالك الأنصارية لم يرو عنها إلا ابنة أختها حُميدة بنت عبيد .
وقد زعم الإمام ابن منده أنهما مجهولتان . قال الحافظ ابن الملقن (( خلاصة البدر المنير ))(1/19) : (( وخالف ابن منده ، فأعلَّه بأن قال : في سنده حميدة وكبشة ، ومحلهما محل جهالة .
قلت : لا بل ذكرهما ابن حبان في (( ثقاته )) ، وروي عن حميدة ثلاثة .
ثم قال : ولا يعرف لها رواية إلا في هذا الحديث .
قلت : لا ، فلحميدة ثلاثة أحاديث ، هذا أحدها .
قال : ولا يثبت هذا الخبر من وجه من الوجوه وسبيله سبيل المعلول .
قلت : لا واللَّه ، فله طريق آخر لا شك في صحتها ، وقد أوضحت ذلك كله في الأصل بزيادة فوائد )) .
وقال الحافظ ابن حجر (( تلخيص الحبير ))(1/42) : (( أما قوله : إنهما لا يعرف لهما إلا هذا الحديث ، فمتعقب بأن لحميدة حديثا آخر في تشميت العاطس . رواه أبو داود ، ولها ثالث رواه أبو نعيم في (( المعرفة )) . وأما حالهما فحُميدة روى عنها مع إسحاق ابنُه يحيى وهو ثقة عند ابن معين ، وأما كبشة فقيل : إنها صحابية ، فإن ثبت فلا يضر الجهل بحالها والله أعلم . وقال ابن دقيق العيد : لعل من صحَّحه اعتمد على تخريج مالك ، وأن كل من خرج له فهو ثقة عند ابن معين )) .
قلت : لم يبق من كلام ابن منده مما لا يتوجه دفعه بسهولةٍ إلا وصفه كبشة بنت كعب بالجهالة ، فهى كذلك على الأرجح ، وأما القول بصحبتها فهو قول ابن حبان ، وذلك مصيراً منه إلى أنها زوجة أبى قتادة الأنصارى ، وهو وهم .
قال فى (( الثقات ))(3/357/1181) : (( كبشة بنت كعب بن مالك ، كانت تحت أبى قتادة الأنصارى . لها صحبة )) . والصواب أنها تابعية ، كانت تحت ابن أبى قتادة ، كما هو ثابت فى الحديث من رواية القعنبى ، وزيد ابن حباب وجماعة عن مالك ، وقد خولفوا والصواب قولهم .
قال أبو داود (75) : حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب بن مالك ـ وكانت تحت ابن أبي قتادة ـ أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءاً ، فجاءت هرة فشربت منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت ، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ! فقلت : نعم ، فقال : إن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : (( إنَّها ليست بنجسٍ ، إنها من الطوافين عليكم والطوافات )) .
قال أبو القاسم الرافعى : (( ويدل عليه أن أبا قتادة قال لها : يا ابنة أخى ، ولا يحسن نسبة الزوجة باسم المحارم )) .
وقال أبو الحجاج المزى (( تهذيب الكمال ))(35/290/79164) : (( كبشة بنت كعب بن مالك الأنصارية . روت عن أبى قتادة . وكانت تحت عبد اللَّه بن أبى قتادة . روت عنها بنت أختها حُميدة بنت عبيد بن رفاعة زوجة إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة . ذكرها ابن حبان فى (( الثقات )) . روى لها الأربعة )) .
قلت : فإذ قد ثبت أن كبشة بنت كعب بن مالك تابعية لم يرو عنها إلا واحد ، فقد ثبت أن محلها محل الجهالة ، ومع هذا فقد خرَّج مالك حديثها فى (( الموطأ )) ، وصحَّحه الأماثل من الأئمة وأودعوه (( صحاحهم )) .
( بيان وإيضاح ) أكثر العلماء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، والتابعين ، ومن بعدهم كمالكٍ والشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وأبى يوسف : لم يروا بسؤر الهرة بأسا . وأصحٌّ ما احتجوا به فى ذلك حديث كبشة بنت كعب . وخالفهم أبو حنيفة فكره سؤر الهرة وأوجب منه .
(2) أخرج حديثها يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(1/47. تنوير الحوالك) : عن مالك عن محمد بن عمارة عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر ، قالت أم سلمة : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( يطهره ما بعده )) .
وأخرجه الشافعى (( المسند ))(ص50) ، وإسحاق بن راهويه (( مسنده ))(1/90/43) ، والدارمى (742) ، وأبو داود (383) ، والترمذى (143) ، وابن ماجه (531) ، والطبرانى (( الكبير )) (23/359/845) ، وأبو نعيم (( الحلية ))(6/338) ، والبيهقى (( الكبرى ))(2/406) ، وابن عبد البر (( التمهيد ))(13/104) ، وابن بشكوال (( غوامض الأسماء المبهمة ))(1/434) ، والمزى (( تهذيب الكمال ))(26/169) جميعاً من طريق مالك عن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أم سلمة .
قال الحافظ أبو الحجاج المزى (( تهذيب الكمال ))(35/159/7823) : (( حميدة أنها سألت أم سلمة فقالت : إني امرأة طويلة الذيل الحديث . وعنها : محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، قاله الحسين بن الوليد النيسابوري عن مالك عن محمد بن عمارة عن محمد بن إبراهيم ، وقال سائر الرواة عن مالك عن محمد بن عمارة عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أم سلمة . روى لها النسائي في حديث مالك )) .
وقال الحافظ الذهبى (( ميزان الإعتدال ))(7/468/10958) : (( حميدة سألت أم سلمة . هي أم ولد لإبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف ، تفرد عنها محمد بن إبراهيم التيمي )) .
وقال الحافظ ابن حجر (( تقريب التهذيب ))(1/746/8569) : (( حميدة عن أم سلمة . يقال هي أم ولد إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف . مقبولة من الرابعة )) .
قلت : فإذا كانت حميدة أو أم ولد إبراهيم بن عبد الرحمن قد تفرد بالرواية عنها محمد بن إبراهيم التيمى ، فقد ثبت أن محلها محل الجهالة ، ومع ذا أخرج مالك حديثها فى (( موطئه )) ، وفى ذاك الصنيع من إمام أئمة التزكية والتعديل توثيق لها ، وإقرار بحجيَّة حديثها .
وتابع مالكاً عن محمد بن عمارة : عبد الله بن إدريس .
أخرجه ابن أبى شيبة (1/58/615) ، وأحمد (6/290) ، وإسحاق بن راهويه (1/89/42) ، وابن الجارود (142) ، وأبو يعلى (12/356،416/6925،6981) ، والطبرانى (( الكبير ))(23/359/846) جميعاً من طريق عبد الله بن إدريس عن محمد بن عمارة عن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن عن أم ولد إبراهيم بن عبد الرحمن عن أم سلمة بنحوه .
(3) ولها فى (( الموطأ )) سبعة أحاديث :
( الحديث الأول )
أخرجه يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(1/239. تنوير الحوالك) : عن مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمِّه أنها قالت سمعت عائشة زوج النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تقول : (( قام رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ذات ليلةٍ ، فلبس ثيابه ، ثم خرج ، قالت : فأمرت جاريتي بريرة تتبعه حتًّى جاء البقيع ، فوقف في أدناه ما شاء اللَّه أن يقف ، ثم انصرف ن فسبقته بريرة ، فأخبرتني ، فلم أذكر له شيئاً حتى أصبح ، ثمَّ ذكرت ذلك له ، فقال : (( إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم )) .
وأخرجه كذلك ابن سعد (( الطبقات))(2/203) ، والنسائى (( الكبرى ))(1/656/2165) و(( المجتبى ))(4/93) ، وابن حبان (3740) ، والحاكم (1/488) ، وابن بشكوال (( غوامض الأسماء المبهمة ))(2/586) جميعا من طريق مالك عن علقمة عن أمه عن عائشة به .
وقال أبو عبد الله الحاكم : (( هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه )) .
قلت : وهو كما قال ، وكيف لا ، وقد أودعه مالك فى (( الموطأ )) ! . على أن فى إسناده أم علقمة مولاة عائشة لم يرو عنها غير ابنها علقمة بن أبى علقمة .
قال الحافظ أبو الحجاج المزى (( تهذيب الكمال ))(35/304/7928) : (( مرجانة والدة علقمة بن أبي علقمة . روت عن : معاوية بن أبي سفيان ، وعائشة زوج النبي . روى عنها : ابنها علقمة بن أبي علقمة . ذكرها ابن حبان في (( كتاب الثقات )) . روى لها البخاري في كتاب رفع اليدين في الصلاة ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي )) .
قال الحافظ ابن حجر (( تقريب التهذيب ))(1/753/8680) : (( مرجانة والدة علقمة ، تكنى أم علقمة . علَّق لها البخاري في (( الحيض )) . وهي مقبولة من الثالثة )) . وقال الحافظ الذهبى (( الكاشف ))(2/517/7076) : (( مرجانة عن عائشة ومعاوية ، وعنها علقمة بن أبي علقمة . وثقت )) .
قلت : هى ثقة ، فقد وثَّقها العجلى وابن حبان ، وقد سبقهما إلى هذا إمام دار الهجرة بتخريج أحاديثها فى (( الموطأ )) ، ولا يُدخل فيه إلا الثقات ، كما قال أبو زكريا يحيى بن معين . ذكرها العجلى فى (( معرفة الثقات ))(2/461/2364) فقال : (( أم علقمة مدنية تابعية ثقة )) . وقال ابن حبان فى (( الثقات ))(5/466/5755) : (( مرجانة أم علقمة بنت أبى علقمة ، تروى عن عائشة . روى عنها علقمة بن أبى علقمة )) .
قلت : فإذ قد بان أن أم علقمة مولاة عائشة تابعية لم يرو عنها إلا ابنها علقمة ، فمحلها محل الجهالة ، ومع ذا أخرج مالك حديثها فى (( الموطأ )) ، وصحَّحه جمع من الأئمة .
( الحديث الثانى )
أخرجه يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(1/119. تنوير الحوالك) : عَنْ مَالِك عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : أَهْدَى أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمِيصَةً شَامِيَّةً ، لَهَا عَلَمٌ ، فَشَهِدَ فِيهَا الصَّلاةَ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ، قَالَ : (( رُدِّي هَذِهِ الْخَمِيصَةَ إِلَى أبِي جَهْمٍ ، فَإِنِّي نَظَرْتُ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلاةِ ، فَكَادَ يَفْتِنُنِي )) .
وأخرجه كذلك أحمد (6/177) ، وابن سعد (( الطبقات ))(1/457) ، وابن حبان (2332) ، والبيهقى (( الكبرى ))(2/349) جميعاً من طريق مالك عن علقمة عن أمه عن عائشة به .
قلت : هذا حديث صحيح ولم يخرِّجه الشيخان فى (( صحيحهما )) ، وإنما خرَّجا حديث عروة عن عائشة : (( أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم صلَّى في خميصةٍ لها أعلام ، فنظر إلى أعلامها نظرة ، فلما انصرف ، قال : اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم ، وأتوني بأنبجانية أبي جهم ، فإنَّها ألهتني آنفاً عن صلاتي )) .
أخرجه الحميدى (172) ، وأحمد (6/37) ، وإسحاق بن راهويه (( مسنده ))(2/136/621،622) ، وابن سعد (( الطبقات ))(1/457) ، والبخارى (1/78،137. سندى) ، ومسلم (5/43،44. نووى ) ، وأبو داود (914) ، والنسائى (( الكبرى ))(1/197،277/553،847) و(( المجتبى ))(2/72) ، وابن ماجه (3550) ، وابن خزيمة (928) ، وأبو يعلى (7/386/4414) ، وأبو عوانة (1/401،402) ، وأبو نعيم (( المسند المستخرج على مسلم ))(2/156/1217،1218،1219) ، والبيهقى (( الكبرى ))(2/282،349) ، وابن عبد البر (( التمهيد ))(17/391) من طرق عن عروة عن عائشة به .
( الحديث الثالث )
أخرجه يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(1/77. تنوير الحوالك) : عَنْ مَالِك عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ مَوْلاةِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدِّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ ، فِيهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ ، يَسْأَلْنَهَا عَنِ الصَّلاةِ ، فَتَقُولُ لَهُنَّ : (( لا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ )) تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَةِ .
وأخرجه كذلك ابن المنذر (( الأوسط ))(2/234) ، والبيهقى (( الكبرى ))(1/335) من طريق مالك عن علقمة عن أمه عن عائشة به .
وعلَّقه البخارى فى (( كتاب الحيض )) من (( صحيحه ))(1/67. سندى) : باب إقبال المحيض وإدباره . وكن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة فتقول : لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ـ تريد بذلك الطهر من الحيضة ـ .
( الحديث الرابع )
أخرجه يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(3/103. تنوير الحوالك) : عن مالك عن علقمة ابن أبي علقمة عن أمه أنها قالت : دخلت حفصة بنت عبد الرحمن على عائشة زوج النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ، وعلى حفصة خمار رقيق ، فشقته عائشة ، وكستها خماراً كثيفاً .
وأخرجه ابن سعد (( الطبقات ))(8/71) ، والبيهقى (2/235) من طريق مالك عن علقمة به .
( الحديث الخامس )
أخرجه يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(1/328) : عن مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه أنها قالت : سمعت عائشة زوج النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تُسألُ عن المُحْرِم أيحك جسده ؟ ، فقالت : نعم فليحككه ، وليشدد ، ولو ربطت يدايَّ ولم أجد إلا رجلي لحككت .
وأخرجه البيهقى (( الكبرى ))(5/64) من طريق يحيى بن بكير ثنا مالك به .
وعلَّقه البخارى فى (( كتاب الحج )) من (( صحيحه ))(1/316) : باب الاغتسال للمحرم . قال : ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأساً .
( الحديث السادس )
أخرجه يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(1/313) : عن مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمِّه عن عائشة أم المؤمنين : أنها كانت تنزل من عرفة بنمرة ، ثم تحولت إلى الأراك . قالت : وكانت عائشة تُهلُّ ما كانت في منزلها ، ومن كان معها ، فإذا ركبت فتوجهت إلى الموقف تركت الإهلال . قالت : وكانت عائشة تعتمر بعد الحج من مكة في ذي الحجة ، ثم تركت ذلك فكانت تخرج قبل هلال محرم حتى تأتي الجحفة ، فتقيم بها حتى الهلال ، فإذا رأت الهلال أهلَّتْ بعمرةٍ .
( الحديث السابع )
أخرجه البخارى (( الأدب المفرد ))(1274) قال : حدَّثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمِّه عن عائشة رضي الله عنها أنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا فيها ، عندهم نَرْدٌ ، فأرسلت إليهم : لئن لم تخرجوها ، لأخرجنكم من داري ، وأنكرت ذلك عليهم .
وأخرجه كذلك يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(3/131. تنوير الحوالك) ، والبيهقى (( الكبرى ))(10/216) و(( شعب الإيمان ))(5/239/6505) جميعا عن مالك عن علقمة عن أمِّه عن عائشة به .
قلت : فهذا تمام سبعة أحاديث صحاح أودعها مالك (( موطأه )) ، وصحَّحها الأئمة ، وكلها من حديث أم علقمة مرجانة مولاة عائشة ، التى تفرد بالرواية عنها ابنها علقمة بن أبى علقمة .
(4) أخرج حديثها يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(2/44. تنوير الحوالك) : عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أمِّه عن عائشة زوج النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم : (( أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت )) .
وأخرج كذلك الشافعى (( المسند ))(ص10) و(( الأم ))(1/7) ، والطيالسى (1568) ، وعبد الرزاق (1/63/191) ، وابن أبى شيبة (5/162/24777) ، وأحمد (6/73،104،148،153) ، وإسحاق بن راهويه (( مسنده ))(3/986/1710) ، وأبو داود (4124) ، والنسائى (( الكبرى ))(3/86/4578) و(( المجتبى ))(7/176) ، وابن ماجه (3612) ، وابن المنذر (( الأوسط ))(2/261) ، وابن حبان (1283) ، وأبو نعيم (( الحلية ))(6/355) ، والبيهقى (( الكبرى ))(1/17) ، وابن الجوزى (( التحقيق فى أحاديث الخلاف ))(1/88/77) ، والذهبى (( تذكرة الحفاظ ))(3/1080) و(( سير أعلام النبلاء )) (17/161) جميعاً من طريق مالك عن يزيد بن عبد اللَّه بن قسيط عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أمِّه عن عائشة به .
قال الحافظ أبو الحجاج المزى (( تهذيب الكمال ))(35/395/8029) : (( أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن عائشة . روى عنها ابنها محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان . روى لها أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه )) .
وقال الحافظ الذهبى (( الكاشف ))(2/529/7165) : (( أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن عائشة . وعنها هو . روى لها أبو داود ، والنسائى ، وابن ماجه )) .
وقال الحافظ ابن حجر (( تقريب التهذيب ))(1/758/8767) : (( مقبولة من الثالثة )) .
قلت : يعنى بقوله (( من الثالثة )) أنها فى الطبقة الوسطى من التابعيات مثل : حفصة بنت سيرين ، وحفصة بنت عبد الرحمن بن أبى بكر ، وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة وأمثالهن .
وإذ لم يرو عنها إلا ابنها محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، فقد ثبت أن محلها محل الجهالة ، ومع ذا أخرج مالك حديثها فى (( الموطأ )) ، وفى ذلك توثيق لها .(1/10)
المشاركة السابعة
نظرات فى تصحيح الأحاديث وتضعيفها 1
نظرات فى تصحيح الأحاديث وتضعيفها من خلال دراسة أحاديث بعض من تُكلم قيهم
الحمد لله بالعشى والإشراق ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على من وقع على محبته الإتفاق ، وطلعت شموس أنواره في غاية الإشراق ، وتفرد فى ميدان الكمال بحسن الإستباق ، الناصح الأمين الذي اهتدى الكون كله بعلمه وعمله ، والقدوة المكين الذي اقتدي الفائزون بحاله وقوله ، ناشر ألوية العلوم والمعارف ، ومسدي الفضل للأسلاف والخوالف ، الداعي على بصيرة إلى دار السلام ، والسراج المنير والبشير النذير ، علم الأئمة الأعلام . وبعد ..
فإنى أثناء مراجعتى كتاب (( زوائد الأدب المفرد )) للشيخ أبى عبد الرحمن محمد بن مصطفى السكندرى ـ أحسن الله مثوبته ـ ، كتبت تعليقاً وجيزاً على حديث دراج أبى السمح عن عيسى بن هلال الصدفى عن عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم : (( إن روحي المؤمنين ليلتقيان في مسيرة يوم ، وما رأى أحدهما صاحبه )) ، وقد حكم عليه الشيخ بالضعف ترجيحا لأقوال من ضعَّف دراجاً بإطلاقٍ .
غير أن الشيخ أبا عبد الرحمن آثر أن ينقل ما علقتُه بنصه بالحاشية ، إذ قلت : (( الخلاف فى دراج أبى السمح المصرى الواعظ الزاهد ، أوسع من أن يحكم معه بإطلاق الضعف عليه ، وتوهين أخباره ، سيما والإمام الجهبذ أبا حاتم بن حبان يصحح أحاديثه خاصة (( دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد )) ، فقد أخرج بهذا الإسناد فى (( صحيحه )) ثمانية أحاديث ، وكان الإمام أبو زكريا يحيى بن معين يصحح هذا الإسناد ، كما أسنده أبو عبد الله الحاكم فى (( المستدرك ))(2/247:246) قال : سمعت أبو العباس محمد بن يعقوب يقول سمعت العباس بن محمد الدورى يقول : سألت يحيى بن معين عن أحاديث دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد فقال : هذا إسناد صحيح .
وأنا ، إن أذن الله لى بتوفيقه وعونه ، عازم على تسطير بحث بعنوان (( الابتهاج ببيان صحاح أحاديث دراج )) ، وذلك لأنه تصفو له جملة من الأحاديث الحسان ، وأما مناكيره فمعروفة عند أهل التحقيق )) اهـ .
قلت : هذا ما كتبته على عجل ، راجياً أن يفسح الله لى فى الأجل ، لانجاز ما وعدت ، وتحقيق ما رجوت ، خاصة وأنا انظر إلى أحكام الأئمة المتقدمين بعين الإنصاف ، وابتعد بنفسى فى حضرتهم عن أحكام التعنت والاعتساف . ولست أعنى أن من ضعَّفه لم يكن منصفاً ، إذ كثير من أحكام الجرح لها محامل خاصة ، وليس كما يعتقد المتأخرون عمومها ، سيما قول الإمام أحمد : أحاديثه مناكير أو منكر الحديث . فمثل هذا يقوله الإمام أحمد عن جماعة من الثقات أمثال : محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى ، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، والمغيرة بن زياد البجلى ، ونحوهم ممن وثقوا ، ولم يضعف الأئمة من أحاديثهم إلا ما تيقنوا نكارته ، فقد يروى الثقة المناكير .
وقد حفزنى ما قوبل به هذا التعليق ، وما وصلنى من رسائل خاصة ، لا داعى لذكر محتواها من الغمز واللمز ، والاستخفاف بما وصفتُه تحقيقاً وإنصافاً ، حفزنى ذلك على التوطئة للاحتجاج بما عزمت عليه ، بذكر هذه اللمحة الوجيزة عن صنيع الأئمة النقاد مع أحاديث من اختلفوا عليه من الرواة ، ولم يجمعوا على جرحه وتوهينه ، فوثَّقه بعضهم ، ووهَّنه بعضهم .
على أنى أقطع فى نفسى ، من خلال نظرةٍ فاحصةٍ لواقع اليوم ، أن الأغلب الأعم من طلبة هذا العلم الشريف ، بل وكثير من فضلاء علماء زماننا ، يبادرون إلى تضعيف أحاديث أمثال هؤلاء الرواة ـ أعنى المتكلم فيهم ـ عملاً بظاهر كلام أئمة الجرح وأحكامهم ، من غير إمعان النظر فى مروياتهم ، وموافقتها أو مخالفتها لروايات أهل الضبط والتيقظ ، وإن شئت فقل : من غير سبر الروايات والوقوف على ما يحتف بها من قرائن مؤثرة فى الحكم عليها .
ولله در الحافظ العسقلانى إذ يقول فى (( النكت ))(1/4045) : (( صحة الحديث وحسنه ليس تابعاً لحال الراوي فقط ، بل لأمور تنضم إلى ذلك من المتابعات والشواهد ، وعدم الشذوذ والنكارة )) .
فما أيسره عملاً ، وأسهله منهجاً ، أن يعمد أحدهم إلى الحديث وقد اطَّلع على بعض مصادره ، فيتعرف على رجال إسناده ، ثم يقابلهم بما اختصره الحافظ المزى أو الذهبى أو العسقلانى من مراتبهم فى الجرح والتعديل ، ويحكم بمقتضى ذلك على الحديث بالضعف أو الصحة ، كنحو قوله (( هذا حديث ضعيف ، لأن راويه ضعيف )) ، و (( هذا حديث منكر ، لأن راويه يروى المناكير )) ، و (( هذا حديث موضوع ، لأن راويه كذاب أو وضاع )) .
وقد أفرزت هذه السطحية والظاهرية كماً هائلاً من الأحكام الخاطئة على الأحاديث النبوية ، والآثار المصطفوية ، حتى تطرق ذلك إلى أحاديث (( الصحيحين )) ، و (( السنن الأربعة )) ، وصحيحى ابن خزيمة وابن حبان ، والكثير من الأحاديث التى احتج بها أكثر أهل العلم من المحدثين والفقهاء والأصوليين . ومن محدثات الأمور فى ذلك أن حُملتْ أحكام أئمة الجرح والتعديل على غير محاملها ، وصُرفتْ إلى غير معانيها ، وحُرفتْ عن مواضعها ، فضلاً عن الآراء المنحرفة فى حقِّ الكثير من رفعاء الأئمة وعلماء الأمة .
ومما يحسُن نقله هاهنا ، قول الإمام أبى الحسين مسلم بن الحجاج فى مقدمة (( الصحيح )) حيث قال : (( وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ مُنْتَحِلِي الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا فِي تَصْحِيحِ الأَسَانِيدِ وَتَسْقِيمِهَا بِقَوْلٍ ، لَوْ ضَرَبْنَا عَنْ حِكَايَتِهِ وَذِكْرِ فَسَادِهِ صَفْحًا ، لَكَانَ رَأْيًا مَتِينًا وَمَذْهَبًا صَحِيحًا ، إِذِ الإِعْرَاضُ عَنِ الْقَوْلِ الْمُطَّرَحِ أَحْرَى لإِمَاتَتِهِ ، وَإِخْمَالِ ذِكْرِ قَائِلِهِ ، وَأَجْدَرُ أَنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْجُهَّالِ عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّا لَمَّا تَخَوَّفْنَا مِنْ شُرُورِ الْعَوَاقِبِ ، وَاغْتِرَارِ الْجَهَلَةِ بِمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ ، وَإِسْرَاعِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ خَطَإِ الْمُخْطِئِينَ ، وَالأَقْوَالِ السَّاقِطَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، رَأَيْنَا الْكَشْفَ عَنْ فَسَادِ قَوْلِهِ ، وَرَدَّ مَقَالَتِهِ بِقَدْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الرَّدِّ أَجْدَى عَلَى الأَنَامِ وَأَحْمَدَ لِلْعَاقِبَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ )) .
وهذا حين الشروع فى ذكر الأمثلة على ما تختلف فيه الأحكام ، باختلاف القرائن المحيطة بأحاديث الرواة المتكلم فيهم .
ولنبدأ من ذلك بـ (( قرَّة بن عبد الرحمن بن حيوئيل أبو محمد المعافرى )) . فنقول والله المستعان :
أخرج الترمذى (700) قال : حدثنا إسحق بن موسى الأنصاري ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًاً )) .
وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا أبو عاصم وأبو المغيرة عن الأوزاعي بهذا الإسناد نحوه .
وأخرجه كذلك أحمد (2/237،329) ، والعقيلى (( الضعفاء الكبير ))(3/485) ، وأبو يعلى (10/378/5974) ، وابن حبان (3498) وصحَّحه ، والبيهقى (( السنن الكبرى ))(4/237) ، وابن عبد البر (( التمهيد ))(20/23) ، وابن عبد الغنى البغدادى (( التقييد ))( ص208) من طرق عن الأوزاعى عن قرَّة بن عبد الرحمن عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة مرفوعاً به .
قال أبو عيسى الترمذى : (( هذا حديث حسن غريب )) .
وقال أبو جعفر العقيلى : (( لا يتابع قرَّة عليه ، وهو يروى من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا )) .
قلت : أما أبو عيسى ، فقد أراد بالحسن تعدد مخارج الحديث ، وبالغرابة تفرد قرة بن عبد الرحمن بهذا الوجه عن الزهرى . وكلام أبى جعفر العقيلى من أوضح الأدلة على إرادته هذا المعنى . فهذا الحديث عند أبى عيسى حديث يُروى من غير وجهٍ نحوه ، ولكنه بهذا الإسناد عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة ، لم يروه عنه غير قرَّة بن عبد الرحمن المعافرى .
وأما أبو جعفر ، فلعلَّه أراد إسناداً ليس للزهرى ولا لقرَّة فيه ذكر ، ولم أقف عليه مع شدَّة التحرى لطلبه .
فإن قيل : فقد أخرجه الطبرانى فى (( الأوسط ))(1/54/149) ، وابن عدى (( الكامل ))(6/314) كلاهما من طريق مسلمة بن على الخشنى عن محمد بن الوليد الزبيدى عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة مرفوعاً بمثله .
وقال أبو القاسم الطبرانى : (( لم يرو هذا الحديث عن الزبيدى إلا مسلمة بن على )) .
فهذا معارض لكلام أبى عيسى وأبى جعفر ، ومنافٍ لمرادهما من تفرد قرَّة عن الزهرى به ! .
قلت جواباً على هذا الاعتراض : لستُ أعلم أحداً أثنى على الخشنى أو رضيه ، وذلك أنه يروى الأباطيل والمناكير ويركِّبها على أسانيد الثقات المشاهير من أهل الشام كالأوزاعى والزبيدى . قال أبو حاتم بن حبان : (( كان ممن يروى عن الثقات ما ليس من أحاديثهم توهماً ، فلما كثر ذلك منه بطل الاحتجاج به )) .
وقال الحافظ الذهبى فى (( الميزان ))(6/423/8533) : (( مسلمة بن على الخشنى ؛ شامى واهٍ تركوه . قال دحيم : ليس بشئٍ . وقال أبو حاتم : لا يشتغل به . وقال البخارى : منكر الحديث . وقال النسائى : متروك . وقال ابن عدى : عامة أحاديثه غير محفوظة )) .
فلا يبعد أن يكون الخشنى سرق حديث قرَّة بن عبد الرحمن ، وركَّبه على هذا الإسناد عن الزبيدى عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة . وعليه فالحديث باقٍ على غرابته لتفرد قرَّة عن الزهرى به .
وأما قرَّة بن عبد الرحمن بن حيوئيل المصرى . فقد ضعَّفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وأبو داود والنسائى . وقوَّى أمرَه عند مصححى حديثه هذا وغيرِه :
(1) ثناء الأوزاعى عليه ، وهو من أعرف الناس به وأرواهم لحديثه .
(2) تخريج مسلم حديثاً له فى المتابعات مقروناً بعمرو بن الحارث المصرى . فقد قال الإمام مسلم فى (( كتاب المساقاة ))(1591) : حدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب عن قرة بن عبد الرحمن المعافري وعمرو بن الحارث وغيرهما أن عامر بن يحيى المعافري أخبرهم عن حنش أنه قال : كنا مع فضالة بن عبيد في غزوة فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق وجوهر فأردت أن أشتريها ، فسألت فضالة بن عبيد فقال : انزع ذهبها فاجعله في كفة ، واجعل ذهبك في كفة ، ثم لا تأخذن إلا مثلاً بمثل ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، فَلا يَأْخُذَنَّ إِلا مِثْلاً بِمِثْلٍ )) .
(3) تصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والضياء المقدسى جملةً من أحاديثه .
وأما كلام من ضعَّفه ولم يقبله بمرة ، فقال أحمد بن حنبل : (( منكر الحديث جداً )) . وقال يحيى بن معين : (( ضعيف الحديث )) . وقال أبو حاتم الرازى والنسائى : (( ليس بقوى )) . وقال أبو زرعة : (( أحاديثه مناكير )) . وقال أبو داود : فى حديثه نكارة .
ففى (( الجرح والتعديل ))(7/131/751) لابن أبى حاتم : (( قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل بن ناشرة المعافري المزني المصري . روى عن الزهرى . روى عنه الأوزاعي ، وحيوة بن شريح ، وسويد بن عبد العزيز ، وعبد الله بن وهب . وأخبرنا أبى نا إبراهيم بن الوليد بن سلمة الطبراني نا أبو مسهر نا يزيد بن السمط قال : كان الأوزاعي يقول ما أحد أعلم بالزهرى من قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل . وأخبرنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني فيما كتب إلىَّ قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : قرة بن عبد الرحمن صاحب الزهرى منكر الحديث جداً . وأخبرنا أبو بكر بن أبى خيثمة فيما كتب إلىَّ قال : سئل يحيى بن معين عن قرة بن عبد الرحمن فقال : ضعيف الحديث . وسألت أبى عن قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل فقال : ليس بقوي . وسئل أبو زرعة عن قرة بن حيوئيل فقال : الأحاديث التي يرويها مناكير )) .
وأما من وثَّقه ، فقد قال أبو عمرو الأوزاعى : ما أحد أعلم بالزهرى من قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل . وقال أبو حاتم بن حبان : (( من ثقات أهل مصر )) . وقال أبو أحمد بن عدى : (( ولقرَّة أحاديث صالحة ، وأرجو أنه لا بأس به )) .
وربما يحمل كلام الأوزاعى على علمه بحال الزهرى لا بأحاديثه ، فإن أعلم الناس بحديث الزهرى : مالك بن أنس ، وابن عيينة ، ومعمر ، ليس قرَّة ولا غيره . قال أبو حاتم بن حبان (( الثقات ))(7/342) : (( سمعت عمر بن حفص البزار بجنديسابور يقول سمعت إسحاق بن ضيف يقول سمعت أبا مسهر يقول سمعت يزيد بن السمط يقول : أعلم الناس بالزهرى قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل . قال أبو حاتم : هذا الذي قاله يزيد بن السمط ليس بشيء يحكم به على الإطلاق ، وكيف يكون قرة بن عبد الرحمن أعلم الناس بالزهرى ، وكل شيء روى عنه لا يكون ستين حديثا ، بل أتقن الناس في الزهرى : مالك ، ومعمر ، والزبيدى ، ويونس ، وعقيل ، وابن عيينة ، هؤلاء الستة أهل الحفظ والإتقان والضبط والمذاكرة ، وبهم يعتبر حديث الزهرى ، إذا خالف بعض أصحاب الزهرى بعضا في شيء يرويه )) .
قلت : وهذا الذى ذكره أبو حاتم هو الغاية فى الإجادة والإفادة ، ولكن لا يسقط به الاحتجاج بأحاديث قرَّة عن الزهرى ، سيما إذا توبع ولم يتفرد .
ومما يقتضيه النظر الممعن فيما حُكى من الاختلاف على جرح أو توثيق قرَّة بن عبد الرحمن ، ألا يطرح حديثُه بمرَّة ، بل يُحتج بما وافق فيه الثقات ، كنحو صنيع الإمام مسلم فى احتجاجه بحديثه عن عامر بن يحيى المعافرى عن حنشٍ الصنعانى عن فضالة بن عبيد أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، فَلا يَأْخُذَنَّ إِلا مِثْلاً بِمِثْلٍ )) .
وسبيل هذا الإيضاح كما فى الحديث التالى :
فقد أخرج الدارمى (1958) قال : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي ثنا ابن وهب عن قرَّة بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر : أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِثَرِيدٍ أَمَرَتْ بِهِ ، فَغُطِّيَ حَتَّى يَذْهَبَ فَوْرَةُ دُخَانِهِ ، وَتَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( هُوَ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ )) .
وأخرجه كذلك ابن أبى الدنيا (( الجوع )) ، وابن أبى عاصم (( الآحاد والمثانى ))(5/453/3140) ، وابن حبان وصححه ، والطبرانى (( الكبير ))(24/84/226) ، والحاكم (4/118) ، والبيهقى (( الكبرى ))(7/280) و (( شعب الإيمان ))(5/93/5909) من طرق عن عبد الله بن وهبٍ به بنحوه .
وقال أبو عبد الله الحاكم : (( هذا حديث صحيح على شرط مسلم في الشواهد ، ولم يخرجاه )) .
قلت : هو كما قال ، وذلك أنه لم يتفرد به عن الزهرى ، فقد تابعه : عقيل بن خالد الأيلى .
أخرجه أحمد (6/350) قال : حدثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أسماء بنت أبي بكر : أنها كانت إذا ثردت غطته شيئا ، حَتَّى يَذْهَبَ فَوْرُهُ ، ثم تقول إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( إنَّه أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ )) .
حدثنا قتيبة بن سعيد ثنا ابن لهيعة عن عقيل ح وحدثنا عتَّاب ثنا عبد الله ـ يعنى ابن المبارك ـ أنبأنا ابن لهيعة حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر : أنها كانت إذا ثردت غطته فذكر مثله .
قلت : وهذا من صحاح أحاديث ابن لهيعة ، فإنه من رواية عبد الله بن المبارك ، وهو من قدماء أصحابه الذين رووا عنه قبل اختلاطه ، وعتَّاب هو ابن زياد الخراسانى أبو عمرو المروزى . قال ابن أبى حاتم (( الجرح والتعديل ))(7/13/58) : (( عتاب بن زياد المروزي . سمع ابن المبارك ، وأبا حمزة السكري . كتب عنه أبى بالري ، وروى عنه . وسئل أبى عنه ، فقال : ثقة )) . وذكره ابن حبان فى (( الثقات ))(8/522) .
ومن شواهد الحديث الصحيحة : حديث أبى هريرة موقوفاً .
أخرجه البيهقى (( الكبرى ))(7/280) قال : أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي نا أبو العباس محمد بن يعقوب نا بحر بن نصر نا ابن وهب حدثني الليث عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة أنه كان يقول : لا يُؤْكَلُ طَعَامٌ حتَّى يذهبَ بُخَارُهُ .
قلت : وهذا إسناد صحيح غاية ، رجاله ثقات كلهم ، المزكى فما فوقه ، وهو على رسم البخارى من راويه عبد الله بن وهبٍ إلى أبى هريرة . وقد روى نحوه عن أبى هريرة مرفوعاً بإسناد ليس بالقائم .
فقد أخرجه الطبرانى (( الصغير ))(934) ، ومن طريقه ابن عساكر (( تاريخ دمشق ))(10/522) من طريق عبد الله بن يزيد البكري ثنا يعقوب بن محمد بن طحلاء المديني ثنا بلال بن أبي هريرة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصفحة تفور ، فرفع يده منها ، فقال : (( اللهم لا تطعمنا نارا )) .
وقال أبو القاسم : (( لم يروه عن بلال بن أبي هريرة إلا يعقوب بن محمد ، ولا عنه إلا عبد الله بن يزيد . وبلال قليل الرواية عن أبيه )) .
قال ابن أبى حاتم (( الجرح والتعديل ))(5/201/940) : (( عبد الله بن يزيد البكري . روى عن : عكرمة بن عمار ، وشعيب بن أبى حمزة ، وسليمان بن راشد البصري . روى عنه : هشام بن عمار . سألت أبى عنه ، فقال : ضعيف الحديث ذاهب الحديث )) .
والخلاصة ، فحديث قرَّة (( هُوَ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ )) صحيح فى المتابعات ، وأمثل شواهده حديث أبى هريرة موقوفاً .
ولأحاديث قرَّة بقية إن شاء الله تعالى .
*****************(1/11)
المشاركة الثامنة
نظرات فى تصحيح الأحاديث وتضعيفها 2
الحمد لله الهادى إلى سبل الرشاد . نستعينُه ونستهديه ونسترفدُه العونَ والسداد . والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث بالهدى والخير والرحمة إلى كلِّ العباد . وبعد ..
فلا يذهبنَّ عنك ما قررته آنفاَ بقولى : (( ما أيسره عملاً ، وأسهله منهجاً ، أن يعمدَ أحدُهم إلى الحديث ، وقد اطَّلع على بعض مصادره ، فيتعرف على رجال إسناده ، ثم يقابلهم بما اختصره الحافظ المزى أو الذهبى أو العسقلانى من مراتبهم فى الجرح والتعديل ، ويحكم بمقتضى ذلك على الحديث بالضعف أو الصحة .
وقد أفرزت هذه السطحية والظاهرية كماً هائلاً من الأحكام الخاطئة على الأحاديث النبوية ، والآثار المصطفوية ، حتى تطرق ذلك إلى أحاديث (( الصحيحين )) ، و (( السنن الأربعة )) ، وصحيحى ابن خزيمة وابن حبان ، والكثير من الأحاديث التى احتج بها أكثر أهل العلم من المحدثين والفقهاء والأصوليين .
ومن محدثات الأمور فى ذلك أن حُملتْ أحكام أئمة الجرح والتعديل على غير محاملها ، وصُرفتْ إلى غير معانيها ، وحُرفتْ عن مواضعها ، فضلاً عن الآراء المنحرفة فى حقِّ الكثير من رفعاء الأئمة وعلماء الأمة )) .
وكذلك لا يغيبنّ عنك ما أثبتُه فى حق قرَّة بن عبد الرحمن المعافرى بقولى : (( ومما يقتضيه النظر الممعن فيما حُكى من الاختلاف على جرح أو توثيق قرَّة بن عبد الرحمن ، ألا يطرح حديثُه بمرَّة ، بل يُحتج بما وافق فيه الثقات ، كنحو صنيع الإمام مسلم فى احتجاجه بحديثه عن عامر بن يحيى المعافرى عن حنشٍ الصنعانى عن فضالة بن عبيد أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، فَلا يَأْخُذَنَّ إِلا مِثْلاً بِمِثْلٍ )) .
وتتمةً لما سبق بيانه ، أقول والله المستعان وعيه التكلان :
وأما الحديث الثانى من أحاديث قرَّة بن عبد الرحمن المعافرى :
قال أبو داود (3722) : حدثنا أحمد بن صالح ثنا عبد الله بن وهب أخبرني قرة بن عبد الرحمن عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي سعيد الخدري أنه قال : نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ ، وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ .
وأخرجه كذلك أحمد (3/80) ، وعبد الله بن أحمد (( زوائد المسند ))(3/80) ، وابن حبان (5315) وصحَّحه ، والبيهقى (( شعب الإيمان ))(5/117/6019) من طرق عن عبد الله بن وهبٍ أخبرنى قرَّة به مثله .
قلت : هذا إسناد رجاله كلهم ثقات رجال البخارى ، خلا قرَّة بن عبد الرحمن المعافرى ، وقد وثق ، ولم يتفرد بهذا المتن ، بل توبع عليه .
فمما يشهد للشطر الأول منه : حديث أبى هريرة .
أخرجه عبد الرزاق (( جامع معمر ))(10/427) ، ومن طريقه الخطيب (( موضح الأوهام ))(1/534) عن معمر ، والطبرانى (( الأوسط ))(7/55/6833) عن عبد الله بن المبارك عن معمر ، عن جعفر بن برقان الجزرى عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال : (( نهي أنْ نَشْرَبَ مِنْ كَسْرِ الْقَدَحِ )) .
ولفظ عبد الرزاق (( كره أنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْرِ الْقَدَحِ ، أو يتوضأ منه )) .
قلت : وهذا إسناد صحيح على رسم مسلم ، وحكمه الرفع . ولهذا قال الحافظ الهيثمى (( مجمع الزوائد ))(5/78) : (( رواه الطبراني في (( الأوسط )) ، ورجاله ثقات رجال الصحيح )) .
ومما يشهد للشطر الثانى منه : حديث أبى سعيد الخدرى .
أخرجه يحيى بن يحيى (( موطأ مالك ))(1718) : عن مالك عن أيوب بن حبيب مولى سعد بن أبي وقاص عن أبي المثنى الجهني أنه قال : كنت عند مروان بن الحكم ، فدخل عليه أبو سعيد الخدري ، فقال له مروان بن الحكم : أَسَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ ؟ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سَعِيدٍ : نَعَمْ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي لا أَرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( فَأَبِنِ الْقَدَحَ عَنْ فِيكَ ، ثُمَّ تَنَفَّسْ )) ، قَالَ : فَإِنِّي أَرَى الْقَذَاةَ فِيهِ ، قَالَ : (( فَأَهْرِقْهَا )) .
وأخرجه كذلك ابن أبى شيبة (5/107/24178) ، وأحمد ( 3/26،32،57 ) ، والدارمى (2040،2029) ، وعبد بن حميد (980) ، والترمذى (1887) ، وأبو يعلى (1301) ، وابن حبان (5327) ، والحاكم (4/155) ، والبيهقى (( شعب الإيمان ))(5/114/6005) من طرق عن مالك بإسناده نحوه ، وأكثرهم يرويه مختصراً .
قال أبو عبد الله الحاكم : (( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه )) .
قلت : وهو كما قال ، ويكفى تخريج إمام دار الهجرة إيَّاه فى (( موطئه )) . وأبو المثنى الجهنى ممن يذكر فى الوحدان ، ليس له فى (( الكتب الستة )) إلا هذا الحديث . وهو ثقة لذكر الإمام مالك إيَّاه فى (( الموطأ )) ، إذ لا يذكر فيه إلا الثقات . قال ابن أبى حاتم (( الجرح والتعديل ))(9/444/2241) : (( أبو المثنى الجهني مدينى . سمع سعد بن أبى وقاص ، وأبا سعيد الخدري . روى عنه : أيوب بن حبيب ، ومحمد بن أبى يحيى سمعت أبى يقول ذلك . وذكره أبى عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين قال : أبو المثنى الذي يروى عنه أيوب بن حبيب ثقة )) . وذكره كذلك ابن حبان فى (( الثقات ))(5/565) وصحَّح حديثه .
وفى النهى عن النفخ فى الشراب والإناء أحاديث عن : ابن عباس ، وابن عمر ، وأبى قتادة ، وليس ذا موضع بسطها .
فإن قيل : قد أخرج الحديث بتمامه الطبرانى (( الكبير ))(6/125/5722) قال : حدثنا عبدان بن أحمد ثنا أبو مصعب ثنا عبد المهيمن عن أبيه عن جده ـ يعنى سهل بن سعد ـ : أنَّ النَّبيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ ، وَأَنْ يُشْرَبُ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ .
قلنا : هذا إسناد ليس بالقائم ، والحديث منكر بهذا الإسناد . وإن كان كلُّ رجاله موثقين : عبدان المروزى فما فوقه ، إلا أن عبد المهيمن بن العباس بن سهل بن سعد الساعدى واهٍ بمرَّة ، لا أعلم أحداً رضيه أو حمده ، له نسخة عن أبيه عن جده فيها مناكير ، قاله أبو زكريا الساجى . وقال البخارى وأبو حاتم الرازى : منكر الحديث . وقال الحافظ ابن الجوزى (( الضعفاء والمتروكين ))(2/154/2193) : (( عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي منكر الحديث . قال علي بن الحسين بن الجنيد : ضعيف الحديث . وقال النسائي : متروك الحديث . وقال ابن حبان : لما فحش الوهم في روايته بطل الاحتجاج به . وقال الدارقطني : ليس بالقوي )) .
قلت : عبارة ابن حبان فى (( المجروحين ))(2/148) : (( ينفرد عن أبيه بأشياء مناكير لا يتابع عليها من كثرة وهمه ، فلما فحش ذلك في روايته بطل الاحتجاج به )) .
وأما الحديث الثالث من أحاديث قرَّة بن عبد الرحمن المعافرى :
قال أبو بكر بن خزيمة (1595) : أخبرنا عيسى بن إبراهيم الغافقي ثنا ابن وهب عن يحيى بن حميد عن قرة بن عبد الرحمن عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها ، قبل أن يقيم الإمام صلبه )) .
وأخرجه كذلك العقيلى (( الضعفاء الكبير ))(4/398) ، وابن عدى (( الكامل ))(7/228) ، والدارقطنى (1/346/1) ، والبيهقى (( الكبرى ))(2/89) من طرق عن ابن وهب عن يحيى بن حميد عن قرَّة به مثله .
قلت : وهذا الحديث مستفيض مشهور من حديث الزهرى بدون هذه الزيادة (( قبل أن يقيم الامام صلبه )) ، والحمل فيه على يحيى بن حميد شيخ ابن وهب ، فإنه غير معروف بحمل العلم ، وليس له من المسندات غير هذا الحديث ، ولم يتابع عليه .
وذكره ابن حبان فى (( الثقات ))(9/251) . وقال أبو عبد الرحمن بن يونس المصرى كما فى (( لسان الميزان ))(6/250) : (( يحيى بن حميد بن أبي سفيان المعافري . أسند حديثاً واحداً ، وله مقطعات )) .
وقال أبو أحمد بن عدى : (( وهذه الزيادة : (( قبل أن يقيم الامام صلبه )) يقولها يحيى بن حميد ، وهو مصري ، ولا أعرف له إلا هذا الحديث )) اهـ .
وبيَّن ذلك أبو جعفر العقيلى غاية البيان ، فقال : (( رواه معمر ومالك ويونس وعقيل وابن جريج وابن عيينة والأوزاعي وشعيب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )) ، ولم يذكر أحد منهم هذا اللفظ (( قبل أن يقيم الإمام صلبه )) ، ولعل هذا من كلام الزهري ، فأدخله يحيى بن حميد في الحديث ، ولم يبينه )) .
قلت : وهذا من أوضح وأبين ما عُلل به هذا الحديث ، وسبيل إيضاحه أن نقول :
أخرج يحيى بن يحيى (( موطأ مالك ))(15) : عَنْ مَالِك عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ )) .
وأخرجه كذلك البخارى (580) ، ومسلم (607) ، وأبو داود (1121) ، والنسائى (( الكبرى ))(1/481/1537) و (( المجتبى ))(1/274) ، وأبو عوانة (( المسند ))(1530،1529) ، والطحاوى (( السنن المأثورة عن الشافعى ))(110) ، وابن حبان (1483) ، وأبو نعيم (( المسند المستخرج ))(2/203/1349) ، والبيهقى (( الكبرى ))(1/386) من طرق عن مالك عن الزهرى أخبرنى أبو سلمة عن أبى هريرة به .
وتابع مالكاً عن الزهرى جماعة كثيرون : عبيد الله بن عمر ، وابن عيينة ، ومعمر ، والأوزاعى ، وابن جريج ، ويونس بن يزيد ، وشعيب بن أبى حمزة ، وعقيل بن خالد ، ويزيد بن عبد الله بن الهاد ، وإبراهيم بن أبى عبلة ، وثابت بن ثوبان ، ومعاوية بن يحيى الصدفى ، وكلهم يقول (( مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ )) . وسبيل تخريج أحاديثهم يطول .
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى .
*****************(1/12)
المشاركة التاسعة
بيان ضعف حدبث ابن مسعود فى ليلة الجن (( تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ ، وَمَاءٌ طَهُورٌ ))
الحمد لله الهادى إلى سبل الرشاد . نستعينه ونستهديه ونسترفده العون والسداد . وبعد ..
فهذا بيان حدبث ابن مسعود فى ليلة الجن (( تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ ، وَمَاءٌ طَهُورٌ )) . وله ست طرق :
[ الطريق الأولى ] قال الإمام أحمد (1/398) : حدثنا يحيى بن إسحاق ثنا ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود : أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا عَبْدَ اللهِ أَمَعَكَ مَاءٌ ؟ ، قَالَ : مَعِي نَبِيذٌ فِي إِدَاوَةٍ ، فَقَالَ : (( اصْبُبْ عَلَيَّ )) ، فَتَوَضَّأَ ، قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ ، شَرَابٌ وَطَهُورٌ )) .
أخرجه كذلك ابن ماجه (385) ، والبزار (1437) ، والطحاوى (( شرح المعانى ))(1/94) ، والطبرانى (( الكبير )) (10/63/9961) ، والدارقطنى (1/76/11،10) ، وابن الجوزى (( التحقيق فى أحاديث الخلاف ))(1/52/32) من طرق عن ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود به .
ورواه عن ابن لهيعة : مروان بن محمد الطاطرى ، ويحيى بن إسحاق السيلحينى ، ويحيى بن بكير ، وعثمان بن سعيد الحمصي ، وأسد بن موسى . واكثرهم يقول (( تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ ، وَمَاءٌ طَهُورٌ )) .
وقال أبو بكر البزار : (( وهذا الحديث لا يثبت لابن لهيعة ، لأن ابن لهيعة كانت قد احترقت كتبه ، فكان يقرأ من كتب غيره ، فصار في أحاديثه أحاديث مناكير ، وهذا منها . ولا نعلم روى ابن عباس عن عبد الله بن مسعود إلا هذين الحديثين )) .
[ الطريق الثانية ] قال الترمذى (88) : حدثنا هناد ثنا شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن عبد الله بن مسعود قال : سَأَلَنِي النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَا فِي إِدَاوَتِكَ ؟ )) ، فَقُلْتُ : نَبِيذٌ ، فَقَالَ : (( تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ ، وَمَاءٌ طَهُورٌ )) ، قَالَ : فَتَوَضَّأَ مِنْهُ .
وأخرجه كذلك عبد الرزاق (1/179/693) ، وابن أبى شيبة (1/31/263) ، وأحمد (1/402،449،450،458) ، وأبو داود (84) ، وابن ماجه (384) ، وأبو يعلى (5301) ، والهيثم بن كليب (( المسند ))(822،827،828) ، وابن المنذر (( الأوسط ))(173) ، وابن حبان (( المجروحين ))(3/158) ، والطبرانى (10/66:63/9967:9962) ، وابن عدى (( الكامل ))(7/291) ، وابن شاهين (( ناسخ الحديث ومنسوخه ))(94) ، والبيهقى (( الكبرى ))(1/9) ، وابن الجوزى (( العلل المتناهية ))(587) و (( التحقيق فى أحاديث الخلاف ))(1/52/30) ، والمزى (( تهذيب الكمال ))(33/332) من طرق عن أبى فزارة العبسى عن أبى زيدٍ مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود بنحوه .
ورواه عن أبى فزارة : عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود ، والثورى ، وإسرائيل ، وشريك النخعى ، والجراح بن المليح الرؤاسى . وأكثرهم استقصاءاً لهذا الحديث : عتبة بن عبد الله المسعودى .
قال الإمام أحمد (1/458) : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني أبو عميس عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود عن أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث المخزومي عن عبد الله بن مسعود قال : بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ، وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، إِذْ قَالَ : لِيَقُمْ مَعِي رَجُلٌ مِنْكُمْ ، وَلا يَقُومَنَّ مَعِي رَجُلٌ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْغِشِّ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ، قَالَ : فَقُمْتُ مَعَهُ ، وَأَخَذْتُ إِدَاوَةً وَلا أَحْسَبُهَا إِلا مَاءً ، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَعْلَى مَكَّةَ ؛ رَأَيْتُ أَسْوِدَةً مُجْتَمِعَةً ، قَالَ : فَخَطَّ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ، ثُمَّ قَالَ : قُمْ هَاهُنَا حَتَّى آتِيَكَ ، فَقُمْتُ وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ ، فَرَأَيْتُهُمْ يَتَثَوَّرُونَ إِلَيْهِ ، قَالَ فَسَمَرَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلاً طَوِيلاً ، حَتَّى جَاءَنِي مَعَ الْفَجْرِ ، فَقَالَ لِي : مَا زِلْتَ قَائِمًا يَا ابْنَ مَسْعُودٍ ، قَالَ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ أَوَلَمْ تَقُلْ لِي قُمْ حَتَّى آتِيَكَ ! ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ لِي : هَلْ مَعَكَ مِنْ وَضُوءٍ ؟ ، قَالَ : فَقُلْتُ : نَعَمْ ، فَفَتَحْتُ الإِدَاوَةَ ، فَإِذَا هُوَ نَبِيذٌ ، قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَاللهِ لَقَدْ أَخَذْتُ الإِدَاوَةَ وَلا أَحْسَبُهَا إِلا مَاءً ، فَإِذَا هُوَ نَبِيذٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ )) ، قَالَ : ثُمَّ تَوَضَّأَ مِنْهَا ، فَلَمَّا قَامَ يُصَلِّي أَدْرَكَهُ شَخْصَانِ مِنْهُمْ ، قَالا لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَؤُمَّنَا فِي صَلاتِنَا ، قَالَ : فَصَفَّهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ، ثُمَّ صَلَّى بِنَا ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ، قُلْتُ لَهُ : مَنْ هَؤُلاءِ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ ، قَالَ : هَؤُلاءِ جِنُّ نَصِيبِينَ ، جَاءُوا يَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ فِي أُمُورٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ ، وَقَدْ سَأَلُونِي الزَّادَ ، فَزَوَّدْتُهُمْ ، قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ : وَهَلْ عِنْدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ تُزَوِّدُهُمْ إِيَّاهُ ، قَالَ : فَقَالَ : قَدْ زَوَّدْتُهُمُ الرَّجْعَةَ ، وَمَا وَجَدُوا مِنْ رَوْثٍ وَجَدُوهُ شَعِيرًا ، وَمَا وَجَدُوهُ مِنْ عَظْمٍ وَجَدُوهُ كَاسِيًا ، قَالَ : وَعِنْدَ ذَلِكَ نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُسْتَطَابَ بِالرَّوْثِ وَالْعَظْمِ .
قلت : أبو زيد مجمع على جهالته عند أهل الحديث ، ومخالفة روايته للأصول من القرآن والسنن الصحيحة ، ولا يعرف إلا بهذا الحديث ، وحديثه منكر لا يصح . وأما أبو فزارة العبسى راشد بن كيسان ؛ فهو كوفى ثقة ، له حديث فى (( صحيح مسلم )) .
قال أبو أحمد بن عدى : (( سمعت ابن حماد يقول : قال البخاري : أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : (( تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ ، وَمَاءٌ طَهُورٌ )) رجل مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله . وروى علقمة عن عبد الله أنه قال : لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال البخاري : حدثنا يحيى بن يحيى ثنا خالد بن عبد الله عن أبى معشر عن إبراهيم عن علقمة . قال البخاري : حدثنا بشر بن الفضيل ثنا داود عن عامر عن علقمة قال : قلت لعبد الله بن مسعود : أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن ، قال : لا ، ولكنا فقدناه ... الحديث . ورواه شعبة عن عمرو بن مرة قال فسألت أبا عبيدة : أكان عبد الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ ، قال : لا )) .
وقال أَبو عيسى : (( وَأَبُو زَيْدٍ رَجُلٌ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لا تُعْرَفُ لَهُ رِوَايَةٌ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ )) .
وقال ابن أبى حاتم (( الجرح والتعديل ))(9/373/1721) : (( أبو زيد مولى عمرو بن حريث . روى عن : عبد الله بن مسعود . روى عنه : أبو فزارة . سمعت أبا زرعة يقول : أبو زيد هذا مجهول لا يعرف ، ولا أعرف اسمه )) .
وقال ابن حبان : (( أبو زيد يروي عن ابن مسعود ما لم يتابع عليه ، ليس يدري من هو ، لا يعرف أبوه ، ولا بلده ، والإنسان إذا كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبرا واحدا ؛ خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس والنظر والرأي يستحق مجانبته فيها ولا يحتج به )) .
وقال أبو أحمد بن عدى : (( وهذا الحديث مداره على أبى فزارة عن أبى زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود . وأبو فزارة مشهور ، واسمه راشد بن كيسان ، وأبو زيد مولى عمرو بن حريث مجهول ولا يصح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو خلاف القرآن . وقد رواه ابن لهيعة عن حنش عن أبى هبيرة عن ابن عباس عن ابن مسعود شبه من هذا المتن ، وهو غير محفوظ أيضاً )) .
وأما مخالفة الحديث للثابت من الأحاديث والآثار الصحاح أن أحداً لم يشهد ليلة الجن مع رسول الله ، لا ابن مسعود ولا غيره ففما يدل عليه ، ما أخرجه مسلم (450) قال : حدثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الأعلى عن داود عن عامر ـ يعنى الشعبى ـ قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن ؟ ، فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود ، فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن ؟ ، قال : لا ، وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَفَقَدْنَاهُ ، فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ ، فَقُلْنَا : اسْتُطِيرَ أَوِ اغْتِيلَ ، فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ، إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلَ حِرَاءٍ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ ، فَلَمْ نَجِدْكَ ، فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ ، فَقَالَ : (( أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ )) ، قَالَ : فَانْطَلَقَ بِنَا ، فَأَرَانَا آثَارَهُمْ ، وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ ، فَقَالَ : (( لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا ، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ )) ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( فَلا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا ، فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ )) . وحَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ دَاوُدَ بِهَذَا الإِسْنَادِ إِلَى قَوْلِهِ (( وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ )) ، ثم قَالَ الشَّعْبِيُّ : وَسَأَلُوهُ الزَّادَ وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ مُفَصَّلاً مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ .
وتخريج طرق هذا الحديث وأشباهه مما تنفى شهود الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن طويلة مستفيضة ويحتاج يسطها إلى مقام آخر ، وبها يُعلّ حديث ابن مسعود هذا بجميع طرقه المذكورة .
قال أبو الوليد بن رشد (( بداية المجتهد ))(1/24) : (( ردَّ أهل الحديث هذا الحديث ولم يقبلوه ، لضعف رواته ، ولأنه قد روي من طرق أوثق من هذه الطرق أن ابن مسعود لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن . واحتجّ الجمهور لردِّ هذا الحديث بقوله تعالى (( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا )) ، فلم يجعل ها هنا وسطا بين الماء والصعيد ، وبقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( الصعيد الطيب وضوء المسلم ، وإن لم يجد الماء إلى عشر حجج ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته )) .
[ الطريق الثالثة ] قال الإمام أحمد (1/455) : حدثنا أبو سعيد مولى بنى هاشم ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي رافع عن ابن مسعودٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ خَطَّ حَوْلَهُ ، فَكَانَ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ مِثْلُ سَوَادِ النَّخْلِ ، وَقَالَ لِي : لا تَبْرَحْ مَكَانَكَ ، فَأَقْرَأَهُمْ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَلَمَّا رَأَى الزُّطَّ ، قَالَ : كَأَنَّهُمْ هَؤُلاءِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أَمَعَكَ مَاءٌ )) ، قُلْتُ : لا ، قَالَ : (( أَمَعَكَ نَبِيذٌ ؟ )) ، قُلْتُ : نَعَمْ ، فَتَوَضَّأَ بِهِ .
وأخرجه كذلك الطحاوى (( شرح المعانى ))(1/95) ، وأبو يعلى (( معجم شيوخه ))(27) ، والدارقطنى (1/77/15،14،13) ، وابن شاهين (( ناسخ الحديث ومنسوخه ))(95) ، وابن الجوزى (( العلل المتناهية ))(588) و (( التحقيق فى أحاديث الخلاف )) (1/53/33) جميعاً من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي رافع عن ابن مسعودٍ به .
وقال أبو الحسن الدارقطنى : (( علي بن زيد ضعيف . وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود . وليس هذا الحديث في مصنفات حماد بن سلمة )) .
قلت : هو كما قال ، أبو رافع عبد الله بن رافع مولى أم سلمة مدني تابعي ثقة ، ولكن لا سماع له من ابن مسعود . وإنما علة الحديث وآفته على بن زيد بن جدعان سئ الحفظ ليس بالقوى ، وكان رفَّاعاً كما وصفه شعبة .
[ الطريق الرابعة ] قال الدارقطنى (1/77/16) : ثنا محمد بن أحمد بن الحسن ثنا الفضل بن صالح الهاشمي نا الحسين بن عبيد الله العجلي نا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل سمعت بن مسعود يقول : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، فأتاهم فقرأ عليهم القرآن ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الليل : (( أَمَعَكَ مَاءٌ يا ابنَ مسعودٍ )) ، قلت : لا ، والله يارسول الله ، إلا إداوة فيها نبيذ ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ ، وَمَاءٌ طَهُورٌ )) ، فتوضأ به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وأخرجه ابن الجوزى (( العلل المتناهية ))(589) و (( التحقيق فى أحاديث الخلاف ))(1/53/34) من طريق الدارقطنى به .
وقال أبو الحسن : (( الحسين بن عبيد الله هذا يضع الحديث على الثقات )) .
[ الطريق الخامسة ] قال الدارقطنى (1/78/17) : نا عمر بن أحمد الدقاق نا محمد بن عيسى بن حيان ثنا الحسن بن قتيبة نا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عبيدة وأبي الأحوص عن ابن مسعود قال : مر بي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقال : (( خذ معك إداوة من ماء )) ، ثم انطلق وأنا معه ، فذكر حديثه ليلة الجن ... قال : فلما أفرغت عليه من الإداوة ، فإذا هو نبيذ ، فقلت : يا رسول الله أخطأت بالنبيذ ! ، فقال : (( تمرة حلوة ، وماء عذب )) .
وأخرجه ابن الجوزى (( العلل المتناهية ))(590) و (( التحقيق فى أحاديث الخلاف ))(1/53/35) من طريق الدارقطنى به .
وقال أبو الحسن : (( تفرد به الحسن بن قتيبة عن يونس عن أبي إسحاق . والحسن بن قتيبة ، ومحمد بن عيسى ضعيفان )) .
[ الطريق السادسة ] قال الدارقطنى (1/78/18) : حدثني محمد بن أحمد بن الحسن نا إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان نا هشام بن خالد الأزرق ثنا الوليد نا معاوية بن سلام عن أخيه زيد عن جده أبي سلام عن فلان بن غيلان الثقفي أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول : دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن بوضوء ، فجئته بإداوة ، فإذا فيها نبيذ ، فتوضأ رسولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وأخرجه ابن الجوزى (( التحقيق فى أحاديث الخلاف ))(1/54/36) من طريق الدارقطنى به .
والخلاصة : كل طرق هذا الحديث واهية لا ينتهض بمثلها الحجة ، وهى مخالفة للثابت الصحيح أنه لم يشهد أحد من الصحابة ليلة الجن من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
[ إيضاح ] قال أبو جعفر الطحاوى : (( ذهب قوم إلى أن من لم يجد إلا نبيذ التمر في سفره توضأ به . واحتجوا في ذلك بهذه الآثار ، وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة . وخالفهم في ذلك آخرون ، فقالوا : لا يتوضأ بنبيذ التمر ، ومن لم يجد غيره تيمم ، ولا يتوضأ به . وممن ذهب إلى هذا القول أبو يوسف . وكان من الحجة لأهل هذا القول على أهل القول الأول أن هذه الطرق التى ذكرنا من حديث ابن مسعود لا تقوم بها الحجة )) .
*****************(1/13)
المشاركة العاشرة
حديثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِى المَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ
الحمد لله الهادى من استهداه . والواقى من اتقاه . والصلاة والسلام على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم أفضل خلق الله .
وبعد . فهذا جوابٌ عن حديث المغيرة بن شعبة فى المسح على الخفين ، إن لم يصح لشذوذه المانع من ثبوته وعدم حجيته ، فكيف صحَّ العمل بمعناه على ما ذهب إليه أكثر أهل العمل ، وقال أبو عيسى الترمذى : (( وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَبِهِ يَقُولُ : سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَقُ . قَالُوا : يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ )) ؟ .
( أولاً ) بيان الحديث ووجه شذوذه
أخرج ابن أبى شيبة (1/171/1973و7/309/36353) ، وأحمد (4/252) ، وعبد بن حميد (( المنتخب ))(398) ، ومسلم (( التمييز ))(ص202) ، وأبو داود (159) ، والترمذى (99) والنسائى (( الكبرى ))(1/92/130) ، وابن ماجه (559) ، وابن خزيمة (198) ، وابن المنذر (( الأوسط ))(1/465/488) ، والطحاوى (( شرح المعانى ))(1/97) ، والعقيلى (( الضعفاء )) (2/327) ، وابن حبان (1338) ، والطبرانى (( الكبير ))(20/415/996) و(( الأوسط )) (3/112/2645) ، وابن حزم (( المحلى ))(2/82) ، والبيهقى (( الكبرى ))(1/283) ، وابن الجوزى (( التحقيق فى أحاديث الخلاف ))(248) من طرق عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي قَيْسٍ الأَوْدِيِّ ـ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَرْوَانَ ـ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ .
وقد رواه عن الثورى : عبد الله بن المبارك ، ووكيع ، وأبو عاصم النبيل ، وزيد بن حباب ، وعبيد الله الأشجعى ، إلا أن أبا عاصمٍ قال فى حديثه (( جوربيه ونعليه )) .
قال أَبو عِيسَى الترمذى : (( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَبِهِ يَقُولُ : سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَقُ . قَالُوا : يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَعْلَيْنِ ، إِذَا كَانَا ثَخِينَيْنِ )) .
قَال أَبو عِيسَى : سَمِعْت صَالِحَ بْنَ مُحَمَّدٍ التِّرْمِذِيَّ قَال سَمِعْتُ أَبَا مُقَاتِلٍ السَّمَرْقَنْدِيَّ يَقُولُ : دَخَلْتُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ، وَعَلَيْهِ جَوْرَبَانِ ، فَمَسْحَ عَلَيْهِمَا ، ثُمَّ قَالَ : فَعَلْتُ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ أَكُنْ أَفْعَلُهُ مَسَحْتُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَهُمَا غَيْرُ مُنَعَّلَيْنِ )) .
قلت : والحديث بهذا الإسناد غريب ، لم يروه عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة غير أبى قيس ، تفرد به عنه الثورى . ورجاله ثقات كلهم ، الثورى فما فوقه . وهزيل بن شرحبيل ، وأبو قيس عبد الرحمن بن ثروان الأوديان ، احتج بهما البخارى فى (( صحيحه )) ، فأخرج لهما أصلين :
[ الأول ] فى (( كتاب الفرائض ))(6736) : حَدَّثَنَا آدَمُ ثَنَا شُعْبَةُ ثَنَا أَبُو قَيْسٍ سَمِعْتُ هُزَيْلَ بْنَ شُرَحْبِيلَ قَالَ : سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ بِنْتٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ ؟ ، فَقَالَ : لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلأُخْتِ النِّصْفُ ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي ، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى ، فَقَالَ : لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلابْنَةِ النِّصْفُ ، وَلابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلأُخْتِ ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى ، فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَقَالَ : لا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ .
[ الثانى ] فيه أيضاً (6753) قال : حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ ـ يعنى ابن مسعود ـ قَالَ : إِنَّ أَهْلَ الإِسْلامِ لا يُسَيِّبُونَ ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُسَيِّبُونَ .
وبهذا الاعتبار ـ يعنى بالنظر إلى جودة سنده ـ ، صحَّحه أبو عيسى الترمذى .
ووافقه على تصحيحه : ابن خزيمة ، وابن حبان ، وطائفة ممن دونهما . وخالف هؤلاء جماعة من رفعاء الأئمة وكبرائهم ، فقضوا بشذوذ الحديث لتفرد أبى قيسٍ به ، ومخالفته عامة الرواة عن المغيرة : أن النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وقالوا : هذا هو المحفوظ عنه ، وما عداه فهو منكر أو شاذ .
قال الإمام مسلم (( التمييز ))(ص204) : (( أخبرنى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ عَنْ عَلِيِّ بْنُ الْحَسَنِ بن شَقِيقٍ قَالَ : قَالَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ : عرضت هَذَا الْحَدِيْث - يعني حَدِيْثَ المغيرةِ من رِوَايَة أبي قَيْسٍ - عَلَى الثوري ، فَقَالَ : لَمْ يجئ بِهِ غَيْرُه ، فعَسَىَ أنْ يَكُوْن وهماً )) .
وقال أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد (( العلل ومعرفة الرجال ))(3/366/5612) : (( حدَّثت أبي بحديث الأشجعي ووكيع عن سفيان عن أبي قيس عن هزيل عن المغيرة بن شعبة قال : مَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ . قال أبي : ليس يروى هذا إلا من حديث أبي قيس . قال أبي : أبى عبد الرحمن بن مهدي أن يحدِّث به ، يقول : هو منكر ـ يعني حديث المغيرة هذا ـ لا يرويه إلا من حديث أبي قيس )) .
وقَالَ أَبو دَاود : (( كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ لا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، لأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ )) .
وقَالَ أَبو عَبْد الرَّحْمَنِ النسائى : (( مَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ أَبَا قَيْسٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَالصَّحِيحُ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ )) .
وقال أبو بكر البيهقى (( السنن الكبرى ))(1/284) : (( أخبرنا أبو سعيد عثمان بن محفوظ الفقيه الجنزروذي ثنا أبو محمد يحيى بن منصور قال : رأيت مسلم بن الحجاج ضعَّف هذا الخبر ، وقال : أبو قيس الأودي ، وهزيل بن شرحبيل لا يحتملان هذا ، مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة ، فقالوا (( مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ )) ، وقال : لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس ، وهزيل . فذكرت هذه الحكاية عن مسلمٍ لأبي العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي ، فسمعته يقول : علي بن شيبان يقول سمعت أبا قدامة السرخسي يقول : قال عبد الرحمن بن مهدي : قلت لسفيان الثوري : لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منك ؟ ، فقال سفيان : الحديث ضعيفٌ أو واهٍ أو كلمةً نحوها .
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى قالا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول : حدثت أبي بهذا الحديث ، فقال أبي : ليس يروي هذا إلا من حديث أبي قيس ، وقال : أبي عبد الرحمن بن مهدي أن يحدث به ، يقول : هو منكر .
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا الحسن بن محمد الإسفرائيني أنا محمد بن أحمد بن البراء قال قال علي بن المديني : حديث المغيرة بن شعبة في المسح ، رواه عن المغيرة : أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة ، ورواه هزيل بن شرحبيل عن المغيرة إلا أنه قال : ومسح على الجوربين عدا الناس .
وأخبرنا عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار ببغداد ثنا أبو بكر الشافعي ثنا جعفر بن محمد بن الأزهر ثنا المفضل بن غسان قال : سألت أبا زكريا يحيى بن معين عن هذا الحديث ؟ ، فقال : الناس كلهم يروونه (( على الخفين )) غير أبي قيس )) .
وقال أبو الحسن الدارقطنى فى (( العلل ))(7/112/1240) ، وسئل عن هذا الحديث : (( وهو مما يُغمز عليه به ـ يعنى أبا قيسٍ ـ ، لأن المحفوظ عن المغيرة : المسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ )) .
فهؤلاء أكابر الأئمة الأعلام ومحدثى أمة الإسلام ، ورأسهم : سفيان بن سعيد الثورى ، وهو راوى الحديث ، وعبد الرحمن بن مهدى ، وعلى بن المدينى ، وأحمد بن حنبل ، وابن معين ، ومسلم بن الحجاج ، وأبو داود ، والنسائى ، والدارقطنى ، والبيهقى ، أطبقوا على شذوذ حديث أبى قيسٍ ، ومخالفته للمحفوظ عن المغيرة ، وهو المسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ .
قَالَ شيخ الإسلام النووي (( المجموع ))(1/500) : (( وهؤلاء هم أعلام أئمة الْحَدِيْث ، وإن كَانَ الترمذي قَالَ : حَدِيْث حسن صَحِيْح ، فهؤلاء مقدمون عَلَيْهِ )) .
قلت : فكأن من استنكر هذا الحديث اعتمد على أمرين :
( الأول ) مخالفة أبى قيس الأودى للثقات على متنه مع تفرده ، ولهذا ذكر ابن أبى حاتم فى ترجمته من (( الجرح والتعديل ))(5/218) : (( كتب إلىَّ عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل قال : سألت أبى عن أبى قيس عبد الرحمن بن ثروان ، فقال : روى عنه الأعمش وشعبة ، وهو يخالف في أحاديثه . وسألت أبى عنه ، فقال : ليس بقوي ، هو قليل الحديث ، وليس بحافظ . قيل له : كيف حديثه ؟ ، قال : صالح هو لين الحديث )) .
وقال العقيلى (( الضعفاء ))(2/327) : (( عبد الرحمن بن ثروان أبو قيس الأودي . حدَّثنا عبد الله بن أحمد قال : سألت أبى عن أبى قيس ، فقال : هو كذا وكذا ، أو حرَّك يده ، وهو يخالف في أحاديث )) . وقال ابن حجر (( التقريب ))(1/337) : (( صدوق ربما خالف )) .
وأما ابن معين والعجلى وابن حبان ، فقد أطلقوا القول بتوثيقه . وكأنى بأبى عبد الله البخارى يعتمده فى (( الصحيح )) بهذين الأصلين الآنف ذكرهما ، حيث لا مخالفة له عليهما .
( الثانى ) الاعتبار بالمحفوظ عن المغيرة من رواية أثبات الرواة عنه (( أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ )) . فقد استفاضت ، بل وتواترت الرواية عنه فى هذا المعنى ، حتى رواه عنه الجم الغفير ، ثلاثة وثلاثون نفساً أو يزيدون .
[ ثانياً ] ومع الحكم على حديث المغيرة فى (( المسح على الجوربين والنعلين )) بالشذوذ ، فإن العمل عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم ، على جواز المسح عليهما .
قال أَبو عِيسَى الترمذى : (( وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَبِهِ يَقُولُ : سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَقُ . قَالُوا : يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَعْلَيْنِ ، إِذَا كَانَا ثَخِينَيْنِ )) .
وقال أبو بكر بن المنذر (( الأوسط ))(1/462) : (( روى المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : علي ، وعمار ، وأبي مسعود الأنصاري ، وأنس ، وابن عمر والبراء ، وبلال ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وسهل بن سعد .
حدثنا محمد بن عبد الوهاب ثنا جعفر بن عون ثنا يزيد بن مردانية ثنا الوليد بن سعيد عن عمرو بن حريث قال : رأيت عليا بال ، ثم توضأ ، ومسح على الجوربين .
حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث عن أبي مسعود : أنه كان يمسح على الجوربين .
حدثنا إسحاق أنا عبد الرزاق أنا معمر عن قتادة عن أنس : أنه كان يمسح على الجوربين .
حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو نعيم ثنا أبو جعفر الرازي عن يحيى البكاء قال سمعت ابن عمر يقول : المسح على الجوربين كالمسح على الخفين .
حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال : رأيت البراء يمسح على حوربيه ونعليه .
حدثنا أبو أحمد أنا يعلى ثنا أبو سعيد البقال عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال : رأيت بلالا قضى حاجته ، ثم توضأ ، ومسح على جوربيه وخفيه .
حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا حجاج ثنا حماد عن أبي غالب عن أبي أمامة : أنه كان يمسح على الجوربين والخفين والعمامة .
وحدثت عن الدارمي ثنا حسان بن عبد الوارث عن أيوب عن يزيد بن معتق الحرثي عن مطرف قال : دخلت على عمار ، فرأيته يتوضأ ، ويمسح على الجوربين .
وحدثونا عن بندار ثنا عبد الرحمن ثنا هشام بن مسعد عن أبي حازم قال : رأيت سهلا يمسح على الجوربين )) .
قلت : قد حكاه أبو بكر بن المنذر عن تسعة نفرٍ ، وزاد فيما أسند عنهم عاشراً : أبا أمامة .
ولم يسنده عن عبد الله بن أبى أوفى .
وقد أسنده عبد الرزاق فى (( مصنفه ))(1/201:199) ، وابن أبى شيبة فى (( مصنفه )) (1/173:171) عن هؤلاء ، وزادا أربعةً : عمر بن الخطاب ، وسعد بن أبى وقاصٍ ، وعمرو بن حريث ، وابن مسعود ، وابن عباس .
قال ابن أبى شيبة (1/171/1974) : حدثنا وكيع عن أبي خباب عن أبيه عن خلاس بن عمرو : أن عمر توضأ يوم جمعة ، ومسح على جوربيه ونعليه .
وفال (1/172/1983) : حدثنا الثقفي عن إسماعيل بن أمية قال : بلغني أن البراء بن عازب كان لا يرى بأسا بالمسح على الجوربين ، وبلغني عن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن المسيب : أنهما كانا لا يريان بأسا بالمسح على الجوربين .
وقال عبد الرزاق (1/200/781) : عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم : أن ابن مسعود كان يمسح على خفيه ويمسح على جوربيه .
وقال (1/201/783) : عن معمر عن يزيد بن أبي زياد عن أبي ظبيان الجنبي قال : رأيت عليا بال قائما حتى أرغى ، ثم توضأ ومسح على نعليه ، ثم دخل المسجد ، فخلع نعليه ، فجعلهما في كمه ، ثم صلى . قال معمر : ولو شئت أن أحدث أن زيد بن أسلم حدثني عن عطاء بن يسار عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم صنع كما صنع علي فعلت .
قلت : فهؤلاء خمسة عشر صحابيا ، والعمدة في الجواز على هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين ، لا على حديث أبي قيس .
وأكثر هذه الأسانيد صحاح ، وإن كان فى بعضها ضعف أو انقطاع ، خاصة خلاس بن عمرو عن عمر ، والنخعى عن ابن مسعود ، لكنها محتملة ، ويقوى بعضها بعضاً ، فإن لم تثبت ، ففى الصحيح الثابت غنية عنها .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
*****************(1/14)
المشاركة الحادية عشرة
ذكر البيان بأن مالكاً احتج فى (( الموطأ )) برجال مجاهيل لم يرو عنهم
إلا واحد ، وقد وُثقوا لتخريج مالك أحاديثهم فى (( الموطأ ))
الحمد لله العزيز الغفار ، الذى نصب فى كلّ جيلٍ طائفةً ليتفقهوا فى الدين ويستقرئوا سالف الآثار ، وهيأهم لإدراك الصحيح والضعيف من السنن والأخبار ، أولئك الذين تنجلى بهم الظلم ، وتنكشف بهم الغمم ، ويُهتدَى بهم على كرِّ الدهور والأعصار .
أحمده وهباته تنزل تترى على توالى الليل والنهار ، وأرجوه وأخافه وبيده مقاليد الأمور ويعلم كمائن الأسرار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادةً دلائلها مشرقة الأنوار ، ونتيجة اعتقادها مباينة أهل العناد من المشركين والكفار ، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه المجتبى ونبيُّه المختار . وبعد !
فإنَّ للمتأخرين مذهباً مرجوحاً فى تضعيف أحاديث المجاهيل مطلقاً ، سواءاً كبارهم وصغارهم ، وسواءاً روى عنهم الثقات أو غيرهم ، وقد أردنا أن نوقفك على وعورة هذا المسلك ، مع بيان أنه خلاف الراجح مما كان عليه سلف الأئمة من تلقى أحاديث بعضهم بالقبول والتصحيح والاحتجاج بها ، وسوف نوقفك فى خاتمة هذا البحث على ثمانية مذاهب فى حكم رواية المجهول . وقد ذكرتُ فى مقالين سابقين أربعةً من النسوة المجهولات اللاتى احتجَّ بهن إمام دار الهجرة فى (( موطئه )) :
( الأولى ) كبشة بنت كعب بن مالك لم يرو عنها إلا حميدة بنت عبيد بن رفاعة .
( الثانية ) حميدة أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف لم يرو عنها غير محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى .
( الثالثة ) مرجانة أم علقمة مولاة عائشة لم يرو عنها غير ابنها علقمة .
( الرابعة ) أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان لم يرو عنها غير ابنها محمد .
واستقصيت أحاديثهن ، وبينت تصحيح الأئمة إيَّاها وتلقيهم لها بالقبول . وهذا حين الشروع فى ذكر جماعة من المجاهيل الذين وثقهم إمام أئمة التعديل والتزكية : مالك بن أنس ، بتخريجه لأحاديثهم فى (( موطئه )) . ولا يغيبنَّ عنك أن مالكاً كان شديد التحرى فى البحث عن الرجال ، فلم يدخل فى (( موطئه )) إلا الثقات . كما قال بشر بن عمر الزهرانى : سألت مالك بن أنس عن رجل ؟ ، فقال : هل رأيته في كتبي ؟ ، قلت : لا ، قال : (( لو كان ثقة لرأيته في كتبي )) . وقال على بن المدينى : لا أعلم مالكاً ترك إنساناً إلا إنساناً فى حديثه شئ .
(1) بسر بن محجن بن أبى محجن لم يرو عنه إلا زيد بن أسلم
أخرج حديثه يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(1/153. تنوير الحوالك) : عن مالك عن زيد بن أسلم عن رجل من بني الديل يقال له بسر بن محجن عن أبيه محجن أنه كان في مجلس مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فأذن بالصلاة ، فقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فصلَّى ، ثم رجع ومحجن في مجلسه لم يصل معه ، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( ما منعك أن تصلِّي مع الناس . ألست برجلٍ مسلمٍ ؟ )) فقال : بلى يا رسول الله ، ولكني قد صليت في أهلي ، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( إذا جئت فصلِّ مع الناس ، وإن كنت قد صليت )) .
وأخرجه كذلك الشافعى (( المسند ))(ص214) و(( الأم ))(7/191) ، وعبد الرزاق (2/420/3932 ، 3933) ، وأحمد (4/34) ، والنسائى (( الكبرى ))(1/299/930) و(( المجتبى ))(2/112) ، وابن أبى عاصم (( الآحاد والمثانى ))(2/206/958) ، وابن حبان كما فى (( موارد الظمآن ))(433) ، والطحاوى (( شرح المعانى ))(1/362،363) ، وابن قانع (( معجم الصحابة ))(3/68) ، والطبرانى (( الكبير ))(20/296:293/702:696) ، والعسكرى (( تصحيفات المحدثين ))(2/577) ، والدارقطنى (1/415/1) ، والحاكم (1/244) ، والبيهقى (2/300) ، وابن الجوزى (( التحقيق فى أحاديث الخلاف ))(1/448/631) من طرق عن زيد بن أسلم عن بسر أو بشر بن محجن الديلى عن أبيه به .
قال البخارى فى (( التاريخ الكبير ))(8/4/1929) : (( محجن الديلي له صحبة . قال لنا إسماعيل عن مالك عن زيد بن أسلم عن بسر بن محجن عن أبيه قال : صليت في أهلي ، ثم أتيت النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، فجلست ، فلما قضى الصلاة ، قال : (( ألست برجل مسلم ؟ )) ، قلت : نعم ، قال : (( فما منعك أن تصلَّي مع الناس ؟ )) ، قلت : صليت في أهلي ، قال : (( صلِّ ، وإن كنت صليت )) . وقال أبو نعيم عن سفيان عن زيد عن بشر بن محجن الديلي عن أبيه . قال أبو نعيم : وهم سفيان ، وإنما هو بسر )) .
وقال أبو عمر بن عبد البر (( التمهيد ))(4/223:222) : (( اختلف الناس عن زيد ابن أسلم في اسم هذا الرجل ، فقال مالك وأكثر الرواة له عن زيد فيه (( بسر بن محجن )) بالسين المهملة ، كذلك هو في (( الموطأ )) عند جمهور رواته ، وقيل فيه بشر بن عمر الزهراني عن مالك عن زيد بن أسلم عن (( بشر ابن محجن )) ، فقيل له في ذلك ، فقال : كان مالك بن أنس يروي هذا الحديث قديما عن زيد بن أسلم فيقول فيه (( بشر )) ، فقيل له هو (( بسر )) ، فقال عن (( بسر )) أو(( بشر )) ، وقال بعد ذلك عن زيد بن أسلم عن (( ابن محجن )) ، ولم يقل (( بسر )) ولا (( بشر )) . وقال فيه الثوري عن زيد بن أسلم عن (( بشر )) بالشين المنقوطة ، وكان أبو نعيم يقول : بالسين كما قال مالك ، ومن تابعه . ورواه الدراوردي عن زيد بن أسلم فقال فيه عن (( بشر )) بالمنقوطة كما قال الثوري . ورواه ابن جريج عن زيد بن أسلم فقال فيه (( بسر )) كما قال مالك . وروى هذا الحديث أيضا حنظلة بن علي الأسلمي عن (( بشر بن محجن )) ، ولم يذكر أباه ، ورواه عبد الله بن جعفر بن نجيح عن زيد بن أسلم عن (( بشر بن محجن )) عن أبيه بالمنقوطة كما قال الثوري في رواية أصحاب الثوري عنه ، وقد قيل فيه عن الثوري (( بسر )) أيضاً ))
قلت : والذى رجحه أكثر الأئمة (( بسر )) . قال أبو حاتم بن حبان (( الثقات ))(3/399/1315) : (( محجن الديلى ، والد بسر بن محجن ، له صحبة . ومن قال (( بشر )) فقد أخطأ )) . وكذا قال البخارى فى (( التاريخ الكبير ))(2/124/1915) ، وابن أبى حاتم فى (( الجرح والتعديل ))(2/423/1682) ، وأبو القاسم الطبرانى فى (( المعجم الكبير ))(20/294) .
والخلاصة أنه بسر بن محجن بن أبى محجن الديلى ، تفرد بالرواية عنه زيد بن أسلم . وذكره ابن حبان فى (( الثقات )) ، وقد تلقى جماهير الأئمة حديثه بالقبول ، والعمل بمقتضاه وإن اختلفوا فى بعض معانيه . وذكره الحافظ الذهبى فى (( المغنى فى الضعفاء ))(1/103) فقال : (( لا يكاد يعرف )) !! ، مع تخريج مالك حديثه فى (( الموطأ )) . والقاعدة عند الحافظ الذهبى فيمن (( لا يعرف )) ما قرره فى (( ديوان الضعفاء )) بقوله : (( وأما المجهولون من الرواة ، فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقى بحسن الظن ، إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ )) اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر (( التقريب ))(1/122/668) : (( صدوق من الرابعة )) ، يعنى من أوساط التابعين أمثال : إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة ، وصفوان بن سليم ، وعاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان ، وعامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام ، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث ، والنعمان بن أبى عياش الزرقى من المدنيين .
وإذ لم يرو عنه إلا زيد بن أسلم ، فقد ثبت أن محله محل الجهالة ، ومع ذا أخرج مالك حديثه فى (( الموطأ )) ، وفى ذلك توثيق له وأشباهه ممن تفرد بالرواية عنهم واحد .
رافع بن إسحاق الأنصارى مولى الشفاء لم يرو عنه إلا إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة
وله فى (( الموطأ )) حديثان :
( الحديث الأول )
أخرجه يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(1/199. تنوير الحوالك) : عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق مولى لآل الشفاء ـ وكان يقال له مولى أبي طلحة ـ أنه سمع أبا أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهو بمصر يقول : والله ما أدري كيف أصنع بهذه الكرابيس ، وقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( إذا ذهب أحدكم الغائط أو البول ، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه )) .
وأخرجه ابن أبى شيبة (1/139/1602) ، وأحمد (5/414،415) ، والنسائى (( المجتبى ))(1/21) ، والطحاوى (( شرح المعانى ))(4/232) و(( السنن المأثورة ))(1/189/112) ، والطبرانى (( الكبير ))(4/141/3931،3932،3933،3934) من طرق عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن رافع بن إسحاق عن أبى أيوب به .
قال أبو عمر بن عبد البر (( التمهيد ))(1/303) : (( هكذا قال مالك في هذا الحديث مولى لآل الشفاء . والشفاء اسم امرأة من الصحابة من قريش ، وهي الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس بن خالد من بنى عدي بن كعب ، وهي أم سليمان بن أبي خيثمة ، وقد ذكرناها في كتابنا في الصحابة . وكان حماد بن سلمة يقول عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع ابن إسحاق مولى أبي أيوب . وكان مالك يقول : وكان يقال له مولى أبي طلحة . وهو من تابعي أهل المدينة ثقة فيما نقل وحمل ، وحديثه هذا حديث متصل صحيح )) .
وقال البخارى (( التاريخ الكبير ))(3/305/1036) : (( رافع بن إسحاق مولى أبي أيوب الأنصاري ، قاله حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله ، وقال مالك عن إسحاق هو مولى الشفاء وكان يقال مولى أبي طلحة الأنصاري . سمع أبا أيوب الأنصاري ، وأبا سعيد الخدري . يُعد في أهل المدينة )) .
وذكره النسائى فى (( المنفردات والوحدان ))(1/187) فقال : (( وممن تفرد عنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة بالرواية : رافع بن إسحاق مولى الشفا )) .
قلت : ووثَّقه النسائى والعجلى وابن حبان ، وقبل توثيقهم إيَّاه كان مالك قد خرَّج حديثه فى (( الموطأ )) ، ولعلهم إنما وثَّقوه لما رأوا مالكاً قد احتج به ، وإلا فإنه على مذهب من أطلق القول بتضعيف المجهول الذى لم يرو عنه إلا واحد ، فلا مزية له على غيره سواءً أخرج له مالك أو غيره ! .
( الحديث الثانى )
أخرجه يحيى بن يحيى (( الموطأ ))(3/135. تنوير الحوالك) : عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن رافع بن إسحاق مولى الشفاء أخبره قال : دخلت أنا وعبد الله بن أبي طلحة على أبي سعيد الخدري نعوده ، فقال لنا أبو سعيد : أخبرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( أَنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ أَوْ صُورَةٌ )) شَكَّ إِسْحَقُ : لا يَدْرِي أَيُّهُمَا قَالَ .
وأخرجه أحمد (3/90) ، والترمذى (2805) ، وأبو يعلى (2/475/1303) ، وابن حبان (5849) من طرق عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة به مثله .
وقال أَبو عيسى الترمذى : (( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ )) .
وقال أبو عمر بن عبد البر : (( هذا أصح حديثٍ في هذا الباب ، وأحسنه إسناداً )) .
قلت : هو كما قالا ، وكفى بثبوت صحته وتوثيق رواته تخريج مالك إياه فى (( موطئه )) .
*****************(1/15)
المشاركة الثانية عشرة
بيان صحة حديث (( من أهل بحجةٍ أو عمرةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ))
وقد ضعَّفه الشيخ الألبانى ـ طيب الله ثراه ـ ، وخولف على تضعيفه
الحمد لله ناصر الحق ورافعِى لوائِه . والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أتقى خلقه وأوليائِه . وبعد ..
فهذا جوابٌ مقتضبٌ عن سؤالٍ عن حديث أم سلمة (( مَنْ أَهَلَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) ، والذى ذكره الشيخ الألبانى ـ طيَّب الله ثراه ، وجعل جنَّة الخلد مستقره ومثواه ـ فى (( السلسلة الضعيفة )) .
نقول والله المستعان . الحديث صحيح بلا شكٍ ولا ترددٍ .
أخرجه الإمام أحمد (6/299) : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ مَوْلَى آلِ حُنَيْنٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الأَخْنَسِيِّ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ حَكِيمٍ ابْنَةِ أُمَيَّةَ بْنِ الأَخْنَسِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( مَنْ أَهَلَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) . قَالَ : فَرَكِبَتْ أُمُّ حَكِيمٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى أَهَلَّتْ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ .
وأخرجه كذلك أبو يعلى (12/411/7009) ، وابن حبان كما فى (( الإحسان ))(3693) جميعاً من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق بإسناده ومتنه .
قلت : هذا إسناد رجاله كلهم موثقون ، غير أم حكيم بنت أميَّة بن الأخنس ، واسمها حُكيمة ـ بالتصغيرـ ، لم يذكرها أحد بجرح ، ولم يروى عنها إلا ابنها يحيى بن أبى سفيان الأخنسى ، وسليمان بن سحيم ـ إن كان محفوظاً ـ .
وقد ذكرها ابن حبان فى (( الثقات ))(4/195/2459) .
وقال الحافظ الذهبى (( الكاشف ))(2/506/6979) : (( حكيمة بنت أميَّة عن أم سلمة . وعنها يحيى بن أبى سفيان ، وسليمان . وثَّقت )) . وقال فى (( الميزان ))(7/465) : (( فصل فى النسوة المجهولات . وما علمت فى النساء من اتهمت ولا من تركوها )) ، وذكرها فى جملتهن (( الميزان ))(7/481/11061) .
قلت : وقد جوَّد إسنادَ هذا الحديث إبراهيمُ بن سعد الزهرى أبو إسحاق المدنى عن ابن إسحاق ، وصرَّح ابن إسحاق بالسماع ، فزالت تهمة تدليسه ، وأتقن متنه . وتابعه عن ابن إسحاق على هذا الوجه : سلمة بن الفضل ، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى من رواية محمد بن يحيى القطعى ، وعياش بن الوليد عنه .
فقد أخرجه الدارقطنى (2/284/212) من طريق سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق عن سليمان بن سحيم عن يحيى بن أبى سفيان عن أمِّه أم حكيم به مثل حديث إبراهيم بن سعد ، إلا أنه قال (( بيت المقدس )) .
وأخرجه البيهقى (( شعب الإيمان ))(3/448/4026) عن عيَّاش بن الوليد الرقام نا عبد الأعلى نا محمد ابن إسحاق نا سليمان بن سحيم عن يحيى عن أم حكيم بنت أبي أمية عن أم سلمة أن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : (( من أهلَّ بعمرةٍ أو حجةٍ من بيت المقدس غفر الله له )) ، فلم يذكر(( حجة )) .
وأخرجه الطبرانى (( الكبير ))(23/416/1006) ، والمقدسى (( فضائل بيت المقدس ))(58) ، والمزى (( تهذيب الكمال )) (31/360) جميعاً من طريق محمد بن يحيى القطعى عن عبد الأعلى به مثله .
وخالف جماعتهم : ابن أبى شيبة فأسقط من إسناده (( يحيى بن أبى سفيان )) ، وأحمد بن خالد الوهبى فأسقط منه (( سليمان بن سحيم )) .
فقد أخرجه ابن ماجه (3001 ) ، وأبو يعلى (12/327/6900) كلاهما عن ابن أبى شيبة عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق حدثنى سليمان بن سحيم عن أم حكيم به .
وأخرجه ابن ماجه (3002 ) عن أحمد بن خالد عن ابن إسحاق عن يحيى بن أبى سفيان عن أمه أم حكيم به .
قلت : ولم يتفرد ابن إسحاق عن يحيى بن أبى سفيان ، بل تابعه عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يحنَّس الحجازى ، وهو ممن احتج بهم مسلم فى (( صحيحه )) ؛ روى له حديثاً فى فضل المدينة (( من أراد أهل هذه البلدة بسوء أذابه الله )) .
فقد أخرج البخارى (( التاريخ الكبير ))(1/161) ، وأبو داود (1741) ، والفاكهى (( أخبار مكَّة ))(1/411/885) ، وأبو يعلى (12/359/6923) ، والطبرانى (( الأوسط ))(6/319/6515) ، والدارقطنى ((2/283/210) ، والبيهقى (( الكبرى ))(5/30) و (( شعب الإيمان ))(3/448/4027) ، وابن عبد البر (( التمهيد ))(15/146) ، وأبو نصر بن ماكولا (( تهذيب مستمر الأوهام ))(1/173) ، والمقدسى (( فضائل بيت المقدس ))(59) من طرق عن محمد بن إسماعيل بن أبى فديك عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يحنَّس عن يحيى بن أبى سفيان عن جدته حكيمة عن أم سلمة أنها سمعت رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقول : (( من أهلَّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، أو وجبت له الجنة )) ، شك عبد الله أيتهما قال .
وقال أبو داود : (( يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس يعني إلى مكة )) .
قلت : هكذا رواه جماعة أكثرهم ثقات أثبات : أحمد بن صالح الطبرى ، وأبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح ، وأبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصى ، وسعيد بن سليمان سعدويه ، وأبو الفضل صالح بن مسمار وعباد بن موسى الختلى ، وعلى بن محمد بن معاوية ، وهارون بن عبد اللَّه الحمال ؛ جميعاً (( عن محمد بن إسماعيل بن أبى فديك عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يحنَّس )) ، وخالف جماعتهم أبو يعلى محمد بن الصلت ، فقال (( محمد بن عبد الرحمن بن يحنَّس عن أبى سفيان الأخنسى )) ، وهو وهم .
قال البخارى (( التاريخ الكبير ))(1/161/477) : (( محمد بن عبد الرحمن بن يحنَّس عن أبي سفيان الأخنسي عن جدته حكيمة بنت أمية عن أم سلمة سمعت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : (( من أهل بحجة أو عمرة من مسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه )) حدثناه أبو يعلى محمد بن الصلت عن ابن أبي فديك )) .
قلت : ولم يتفرد ابن أبى فديك عن ابن يحنََّس ، بل تابعه عبد العزيز بن محمد الدراوردى عنه ، إلا أنه قال (( عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عثمان )) ، وأراه خطأً من النسَّاخ ، كما سأبينه .
فقد أخرجه الطبرانى (( الكبير ))(23/361/849) ، ومن طريقه ابن عبد الغنى (( تكملة الإكمال ))(1/171) عن يحيى بن بكير ويحيى بن عبد الحميد الحمانى ، كلاهما عن الدراوردى عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عثمان عن يحيى بن أبى سفيان عن جدته حكيمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أهلَّ من بيت المقدس غفر له ما تقدم من ذنبه )) .
ولكن أخرجه المزى (( تهذيب الكمال ))(31/360) من طريق أبى بكر بن ريذة عن الطبرانى به ، فقال (( عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنَّس )) ، وهو الصحيح كرواية محمد بن إسماعيل بن أبى فديك .
قلت : والخلاصة ، فالحديث ثابت صحيح ، وأمثل أسانيده (( ابن إسحاق ثنى سليمان بن سحيم عن يحيى بن أبى سفيان عن أمِّه حُكيمة عن أم سلمة )) ، كما رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان وصحَّحه .
وأما الشيخ الألبانى ـ طيب الله ثراه ـ ، فقد قال فى (( الضعيفة ))(1/248/211) : (( وعلته عندى حكيمة هذه ، فإنها ليست بالمشهورة ، ولم يوثقها غير ابن حبان ، وقد نبهنا مراراً على ما فى توثيقه من التساهل ، ولهذا لم يعتمده الحافظ ، فلم يوثقها ، وإنما قال فى (( التقريب )) : (( مقبولة )) يعنى عند المتابعة ، وليس لها متابع هاهنا ، فحديثها ضعيف غير مقبول ، وهذا وجه الضعف عندى )) اهـ .
فقد بان أن الشيخ الألبانى ـ رحمه الله ـ احتج لقوله بتضعيف حديث حُكيمة بثلاثة أدلة :
( الأول ) أنها ليست مشهورة .
( الثانى ) أنه لم يوثقها غير ابن حبان .
( الثالث ) قول ابن حجر عنها (( مقبولة )) ، وأنها لم تتابع .
فإن كانت هذه الأدلة كافية فى الحكم على حديثٍ ما بالضعف ، فلماذا عكس الشيخ الألبانى الأمر ، فجعلها هى أدلة التصحيح لعددٍ لا يحصى من الأحاديث فى (( صحيحته )) وفى (( الإرواء )) ؟! .
ولنذكر على سبيل المثال ، أنه فى تقريره بطلان حديث (( نعم المذكر السبحة )) فى (( سلسلته الضعيفة ))(1/112) ، ذكر ما نصه : (( أنه مخالف لأمره صلَّى الله عليه وسلَّم ، حيث قال لبعض النسوة (( عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس ، ولا تغفلن فتنسين التوحيد ، واعقدن بالأنامل ، فإنهن مسئولات ومستنطقات )) . وهو حديث حسن ، أخرجه أبو داود وغيره ، وصحَّحه الحاكم والذهبى ، وحسَّنه النووى والعسقلانى )) اهـ .
وأقول : فالشيخ ـ طيَّب الله ثراه ـ هاهنا يعتمد تصحيح الحاكم والنووى والذهبى والعسقلانى ، وجميعهم معتمدون فى ذلك على تصحيح ابن حبان وحده ، الذى لا يعتمد الشيخ توثيقه ولا يرضاه ، ويقلده عليه أكثر فضلاء الوقت ورفعاؤه !! .
وذلك أن راوية الحديث : حميضة بنت ياسر مجهولة لم يرو عنها غير ابنها هانئ بن عثمان ، ولم يوثقها غير ابن حبان . وقال ابن حجر فى (( تقريب التهذيب ))(1/746/8570) : (( حميضة بنت ياسر. مقبولة من الرابعة )) .
وقد أخرج حديثها ابن أبى شيبة (2/160/7656 و6/53/29414 و7/168/35038) ، وأحمد (6/370) ، وإسحاق بن راهويه (1/199:198) ، وابن سعد (( الطبقات الكبرى ))(8/310) ، والدورى (( تاريخ يحيى بن معين ))(3/51) ، وعبد بن حميد (( المنتخب ))(1570) ، وأبو داود (1501) ، والترمذى (3583) ، وابن أبى عاصم (( الآحاد والمثانى )) (6/73/3285) ، وابن حبان كما فى (( موارد الظمآن ))(2333) ، والطبرانى (( الكبير ))(25/74/180) و(( الأوسط )) (5/182/5016) ، والحاكم (1/547) ، وأبو نعيم (( الحلية ))(2/68) ، والرافعى (( التدوين فى أخبار قزوين )) (3/52) ، والمزى (( تهذيب الكمال ))(30/141) جميعا من طريق هانئ بن عثمان عن أمه حميضة بنت ياسر عن جدتها يسيرة وكانت من المهاجرات قالت : قال لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( يا نساء المؤمنات ! عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس ، ولا تغفلن فتنسين الرحمة ، واعقدن بالأنامل ، فإنَّهن مسؤلات مستنطقات )) .
والحديث صحَّحه ابن حبان والحاكم ، وأقرهما الذهبى والنووى وابن حجر ، كما أقره الألبانى .
قلت : وفى إسناده حميضة بنت ياسر ، أحدى المجهولات اللاتى تفرد ابن حبان بتوثيقهن ، وقال عنها ابن حجر : (( مقبولة )) ! . فسبيلها فى قبول حديثها كسبيل حُكيمة لا يفترقان فى شئٍ البتة ، كلتاهما تابعية لم يوثقها غير ابن حبان ، وقال عنهما ابن حجر : (( مقبولة )) ، فكيف فرَّق بينهما الشيخ الألبانى ، فحسَّن حديث حميضة وضعَّف حديث حُكيمة ؟! . أليس هذا من الاعتداد بقول أئمة الجرح والتعديل ، ومنهم الإمام العلم أبى حاتم ابن حبان ، فى موضع ونقضه فى موضع آخر ؟! .
على أن ثمَّة أمرٍ آخر زائدٍ فى حديث حميضة ، الذى تلقاه الألبانى بالقبول وحسَّنه ، أن فى إسناده هانئ بن عثمان الجهنى وقد تفرد عن أمِّه حميضة ، ولم يوثقه إلا الإمام العلم الجهبذ ابن حبان ، ولهذا قال ابن حجر فى (( التقريب )) عنه : (( مقبول )) ! . فلماذا اعتمده الألبانى ، وتناسى ما يكثر أن يعلل به تضعيف أحاديث المجاهيل بقوله : (( توثيق ابن حبان لا يعُتمد ، لأنه متساهل فى التوثيق )) ! .
وعندى أن الحكم على الحديثين ـ حديث حُكيمة وحديث حُميضة ـ واحد ، كلاهما صحيح ، ولا يضر راويتهما تفرد ابن حبان بتوثيقهما ، عملاً بالمذهب الراجح أن تزكية المزكى الواحد تكفى فى تعديل الراوى المجهول ، كما ذكره إمام المحدثين فى (( صحيحه ))(2/106. سندى ) : باب : إذا زكَّى رجلٌ رجلاً كفاه .
ولنذكر مثالاً آخر ، أنه قال فى (( صحيحته ))(رقم307) ما نصه :
(( حديث (( تنكح المرأة على أحدى خصال ثلاثة ، تنكح المرأة على مالها ، وتنكح المرأة على جمالها ، وتنكح المرأة على دينها . فخذ بذات الدين والخلق ، تربت يمينك )) . أخرجه ابن حبان فى (( صحيحه ))(1231) ، والحاكم (2/161) ، وأحمد (3/80) من طريق سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته عن أبى سعيد الخدرى مرفوعاً به .
وقال الحاكم : (( صحيح الإسناد )) ووافقه الذهبى .
قلت : ورجاله ثقات معروفون ، غير عمة سعد ، واسمها زينب بنت كعب بن عجرة ، روى عنها ابنا أخويها : سعد بن إسحاق ، وسليمان بن محمد ابنا كعب بن عجرة . وذكرها ابن حبان فى (( الثقات )) . وهى زوجة أبى سعيد الخدرى ، وذكرها ابن الأثير وابن فتحون فى (( الصحابة )) . وقال ابن حزم : (( مجهولة )) ، كما فى (( الميزان )) للذهبى وأقرَّه ، ومع ذلك وافق الحاكم على تصحيحه )) اهـ .
وأقول : فالألبانى هاهنا يعتمد تصحيح ابن حبان والحاكم ، على أن زينب بنت كعب بن عجرة لم يوثقها إلا ابن حبان وحده ! . فإن قيل : إنما وثقها الألبانى لكونها صحابية ، وشهرة الصحابيات واستفاضة الثقة بهن قاضية برفع الجهالة وإثبات توثيقهن ، فلا يحتاج عندئذ إلى توثيق ابن حبان أو غيره .
فأقول : لو كان هذا صحيحاً ، فلماذا ذكر توثيق ابن حبان إياها ، وذكر عقبه قول ابن حزم : مجهولة ؟ . وأجيب : ذلك لقوة الخلاف فى إثبات الصحبة لها ، فالأكثرون على أنها تابعية . والحافظ ابن حجر نفسه الذى اعتمد عليه الألبانى فيما نقله عن ابن عبد البر وابن فتحون من القول بصحبتها فى (( تهذيب التهذيب ))(12/451/28024) ، قال فى (( تقريب التهذيب ))(2/600) : (( مقبولة من الثانية ويقال : لها صحبة )) .
فقوله (( مقبولة من الثانية )) يعنى جزمه بتابعيتها ، إذ لا يقال فى صحابية (( مقبولة )) ، والصحابة عند ابن حجر كلهم فى (( الطبقة الأولى )) ، وأما الثانية فهى طبقة كبار التابعين ، كابن المسيب ، وقيس ابن أبى حازم ، وأبى عثمان النهدى ، وأبى وائل شقيق بن سلمة من الرجال ، وكخيرة أم الحسن البصرى وصفية بنت أبى عبيد ، وأم بلال بنت هلال الأسدية من النساء .
وقال أبو زكريا النووى (( تهذيب الأسماء ))(2/613) : (( زينب بنت كعب بن عجرة . مذكورة فى باب المعتدة من (( المهذب )) . وهى تابعية . تروى عن الفريعة بنت مالك . يروى عنها : ابن أخيها سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة )) .
كما أشار الحافظ الذهبى إلى تابعيتها فى (( الكاشف ))(2/508) بقوله : (( وثقت )) ، فلو كانت صحابية ما قالها . ولهذا لما نقل قول ابن حزم (( مجهولة )) فى (( الميزان )) لم يتعقبه بشئٍ .
والخلاصة ، فإن زينب بنت كعب بن عجرة تابعية على الأرجح ، وإنما اعتمد الحفاظ تصحيح حديثها لتوثيق ابن حبان إياها ، ولهذا ذكره الشيخ الألبانى فى معرض الاحتجاج لقبول حديثها دفعاً لتجهيل ابن حزم إياها ، وإنما منعه من التصريح بقبول توثيق ابن حبان تمسكه بقاعدته (( توثيق ابن حبان لا يُعتمد لتساهله فى توثيق المجاهيل )) ! .
وأما القول بتضعيف الحافظ ابن حجر لحكيمة أم حكيم ، لمقاله عنها (( مقبولة )) ، فهو خطأ صدر عن عدم معرفة دلالة هذا المصطلح لدى الحافظ ، والمدققين العارفين بمعانى مصطلحاته فى كتابه الفذ (( تقريب التهذيب )) ، سيما وقد وصف به جمع من الثقات الذين احتج بهم الشيخان فى (( الصحيحين )) ، وعدتهم مائة وخمسة من الرواة ، وقد بيَّنته بياناً شافياً فى كتابى (( المنهج المأمول ببيان معنى قول ابن حجر مقبول )) .
[ تنبيه واجب ] هذا المقال (( توثيق ابن حبان لا يُعتمد لتساهله فى توثيق المجاهيل )) ، صار كالقاعدة التى لا يجوز الخروج عليها عند أكثر فضلاء الوقت من أهل الحديث !! . ولنا عليه تعقيبات وردود ومؤاخذات ، فيها تفصيل طويل وبيان واسع ، سيأتى إيضاحه بتوفيق الله وعونه .
[ تنبيه ثان ] تأويل مصطلح الحافظ ابن حجر البديع المثال (( مقبول )) ، محمول عند أكثر فضلاء الوقت من أهل الحديث على معنى التضعيف ما لم يتابع الراوى ، كقولهم : وقوله (( مقبول )) يعنى عند المتابعة وإلا فلين الحديث ، ولا يُحمل عند أكثرهم على أنه أحد مراتب التوثيق مطلقاً عند الحافظ واضع هذا المصطلح ، وأعرف الناس بدلالته . ولنا فى هذا بيان واسع مذكور فى (( المنهج المأمول ببيان معنى قول ابن حجر مقبول )) .
والله أسأله العفو عن الخطأ والزلات ، وآخر دعوانا أن الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات .
رد أول
أخى الحبيب الشيخ عبد الرحمن الفقيه
بديهتك حاضرة ، فما شاء الله ولا قوة إلا بالله . ولكن لا يخفاك أن الجواب عن الاعتراضين المذكورين ، سيما الاعتراض بدعوى اضطراب الإسناد ، مبثوث فى ثنايا البحث ، وإنما يحتاج إلى تدقيق يسير فى قراءة البحث ، مع إمعان النظر فى مصادر التخريج ، إذ لم يفوتُنى ذكرُ ما أورده إمام المحدثين فى (( تاريخه الكبير ))(1/161/477) .
ثم ألم أقل فى أول البحث (( هذا جوابٌ مقتضبٌ عن سؤالٍ عن حديث أم سلمة )) ، فها أنت تضطرنى إلى الخروج من الاقتضاب إلى الإسهاب ، فليكن الأمر كما أردتُ ، وليسعنى ويسعك ما وسع أئمتَنا الأعلامَ من المطارحات النافعة ، والمباحثات الهادفة ، فليس أحدٌ إلا يؤخذ منه ويرد عليه ، فأقول بتوفيق الله وعونه :
أعلمُ ولا يخفى علىَّ أنَّه قد وقع الخلاف :
( أولاً ) على العمل بدلالة هذا الحديث فى الصدر الأول من الصحابة والتابعين .
( ثانياً ) على صحته فيما بعد بين الأئمة الأعلام ، ومحدثى أمة الإسلام .
وذكرت كلا الخلافين بإسهابٍ فى كتابى (( السعى المحمود بتخريج وإيضاح مناسك ابن الجارود )) ، وبإيجاز فى كتابى (( البشائر المأمولة فى آداب العمرة المقبولة )) ، وثانيهما يتم تحميله على هذا الملتقى المبارك .
[ فأما الأول ] وهو الخلاف على متنه ودلالته ، فلما اشتهر واستفاض من أحاديث توقيت المواقيت لأهل الأقطار وقُطَّان الأمصار ، وأوسعها شهرة حديثا (( الصحيحين )) عن ابن عباس : (( وَقَّتَ رسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ حَيْثُ أنشأ ، فكذاكَ حتى أهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا )) ، وعن ابن عمر أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ )) ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ )) .
وأجمعوا بمقتضى هذين الحديثين : أنه لا يجوز لمن أراد حجاً أو عمرةً ألا يجاوز ميقاته الذى هو له ، أو الذى يمر به فى طريقه إلى مكة ، إلا محرماً . واختلفوا فيمن أحرم من وراء ميقاته ، من مصره أو دويرة أهله . فكره ذلك جماعة منهم : عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، والحسن البصرى ، وعطاء ، ومالك بن أنس ، وإسحاق بن راهويه . وأجازه ، بل وفعله : على بن أبى طالب ، وأبو موسى الأشعرى ، ومعاذ بن جبل ، وعمران بن حصين ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعثمان بن أبى العاص ، وعتبان بن مالك ، والحارث بن سويد ، وعمرو بن ميمون ، والأسود بن يزيد النخعى ، وعلقمة بن قيس ، وعبد الرحمن بن يزيد ، وخلائق لا يحصون كثرة . وهو قول : سفيان الثوري ، والحسن بن حي ، وأبى حنيفة ، والشافعي .
والآثار عن هؤلاء الصحابة والتابعين فى الإحرام من الأماكن البعيدة مبسوطة فى (( المصنف )) لابن أبى شيبة ، و (( المصنف )) لعبد الرزاق الصنعانى ، و(( شرح معانى الآثار )) لأبى جعفر الطحاوى .
وقال حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر فى (( التمهيد )) بعد أن نقل مذهب المانعين : (( وهذا من هؤلاء المانعين والله أعلم ؛ كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه ، وأن يتعرض لما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه ، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ، لأنه زاد ولم ينقص . ويدلك على ما ذكرنا أن ابن عمر روى المواقيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أجاز الإحرام قبلها من موضع بعيد . وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والحسن بن حي : المواقيت رخصة وتوسعة يتمتع المرء بحله حتى يبلغها ، ولا يتجاوزها إلا محرماً ، والإحرام قبلها فيه فضل لمن فعله ، وقوي عليه ، ومن أحرم من منزله فهو حسن لا بأس به . وروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وجماعة من السلف أنهم قالوا : في قول الله عز وجل (( وأتموا الحج والعمرة لله )) ، قالوا : إتمامها أن تحرم من دويرة أهلك .
وأحرم ابن عمر وابن عباس من الشام ، وأحرم عمران بن حصين من البصرة ، وأحرم عبد الله بن مسعود من القادسية . وكان الأسود ، وعلقمة ، وعبد الرحمن بن يزيد ، وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم )) اهـ .
وقال أبو بكر بن المنذر (( الأوسط )) : (( أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم ، ولكن الأفضل الإحرام من الميقات ويكره قبله )) .
وشذَّ ابن حزم الظاهرى كعادته ، فأبطل حجَّ وعمرة من أحرم قبل ميقاته ، وشنَّع على من اقتدى بهؤلاء النفر من الصحابة الذين أحرموا من محالهم وبلدانهم ، وفيهم الفقهاء الرفعاء الكبراء الذين يقتدى بفعالهم ، ويؤتسى بأحوالهم ، فقال فى (( المحلى ))(7/70) : (( فإن أحرم قبل شئ من هذه المواقيت ، وهو يمر عليها ، فلا إحرام له ، ولا حج له ، ولا عمرة له ، إلا أن ينوي إذا صار في الميقات تجديد إحرام ، فذلك جائز ، وإحرامه حينئذ تام وحجه تام وعمرته تامة . ومن كان من أهل الشام أو مصر ، فما خلفهما ، فأخذ على طريق المدينة ، وهو يريد حجا أو عمرة ، فلا يحل له تأخير الإحرام من ذي الحليفة ليحرم من الجحفة ، فإن فعل فلا حج له ، ولا إحرام له ، ولا عمرة له ، إلا أن يرجع إلى ذي الحليفة ، فيجدد منها إحراما ، فيصح حينئذ إحرامه وحجه وعمرته )) !! . وعلامتى التعجب عقب ما ذكره علامَّة الأندلس تغنى عن تكلف الرد على هذا الشذوذ .
وأما إمام المحدثين ـ عليه سحائب الرحمة وشآبيب المغفرة ـ ، فقد أخذ بقول المانعين ، وليس يخفاه ما ورد عن على بن أبى طالبٍ ، وأبى موسى ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس وغيرهم ، من المجوزين .(1/16)
وأما الإحرام من بيت المقدس خاصةً وما فيه من الفضل والثواب ، فقد فعله ابن عمر ، وعتبان بن مالك ، وأما ابن عباس فمن الشام من موضع قريب منه .
قال ابن أبى شيبة (3/124/12674) : ثنا حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : أنه أحرم من بيت المقدس .
وقال إمام الأئمة أبو عبد الله الشافعى (( الأم ))(7/253) : (( الإهلال من دون الميقات . قال الربيع : سألت الشافعي عن الإهلال من دون الميقات ؟ ، فقال : حسن ، قلت له : وما الحجة فيه ؟ ، قال : أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه أهل من إيلياء ـ يعنى المقدس ـ .
وإذا كان ابن عمر روى عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم : أنه وقت المواقيت ، وأهلَّ من إيلياء ، وإنما روى عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما وقت المواقيت قال : يستمتع الرجل من أهله وثيابه حتى يأتي ميقاته . فدل هذا على أنه لم يحظر أن يحرم من ورائه ، ولكنه يؤمر أن لا يجاوزه حاجٌ ولا معتمرٌ إلا بإحرام )) اهـ .
[ وأما الثانى ] وهو قول الحافظ الزكى المنذرى ـ طيَّب الله ثراه ـ : (( اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافا كثيراً )) ، وقول الحافظ شمس الدين ابن القيم ـ قدَّس الله روحه ـ : (( اضطربوا في متنه وإسناده اضطرابا شديداً )) . فقد وقع الجواب عن هذا الاعتراض فى ثنايا البحث ، حيث قلت : (( وقد جوَّد إسنادَ هذا الحديث إبراهيمُ بن سعد الزهرى أبو إسحاق المدنى عن ابن إسحاق ، وصرَّح ابن إسحاق بالسماع ، فزالت تهمة تدليسه ، وأتقن متنه . وتابعه عن ابن إسحاق على هذا الوجه : سلمة بن الفضل ، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى من رواية محمد بن يحيى القطعى ، وعياش بن الوليد عنه )) . وقلت فى خاتمة التخريج : (( وأمثل أسانيده (( ابن إسحاق ثنى سليمان بن سحيم عن يحيى بن أبى سفيان عن أمِّه حُكيمة عن أم سلمة )) ، كما رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان وصحَّحه )) .
وبيان ذلك أن الاضطراب الذى يعلُّ الحديث ويُحكم معه على الحديث بالضعف ، هو الذى لا يمكن معه ترجيح إحدى وجوه الرواية ، أما إذا ترجحت إحدى الروايات كما هاهنا فالاضطراب منتف ، والحديث ثابت بالرواية الراجحة . ألم بقل الإمام الجهبذ زين الدين العراقى فى (( الألفية )) الموسومة بـ (( التبصرة والتذكرة )) :
مُضْطَرِبُ الحَدِيثِ : مَا قَدْ وَرَدَا مُخْتَلِفاً مِنْ وَاحَدٍ فَأزْيَدَا
في مَتْنٍ أوْ في سَنَدٍ إنِ اتَّضَحْ فِيْهِ تَسَاوِي الخُلْفِ ، أَمَّا إِنْ رَجَحْ
بَعْضُ الوُجُوْهِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرِبَا وَالحُكْمُ للرَّاجِحِ مِنْهَا وَجَبَا
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
*****************(1/17)