قِصَصٌ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ -3-
لا يُفْتَى وَمَالِكٌ فِي المَدِينَةِ
الحمد لله وبعد ؛
الكلُ يعلمُ ما للإمامِ مالكٍ إمامِ دارِ الهجرةِ من مكانةٍ عظيمةٍ ، فهو إمامٌ متبعٌ ، أحدُ أئمةِ المذاهبِ الأربعةِ المعروفةِ في بلادِ المسلمين ، وقد ورد حديثٌ حملهُ كثيرٌ من أهلِ العلمِ على أن المقصودَ به هو الإمامُ مالكٌ .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً : يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ ، يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ ، فَلَا يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ .
رواه الترمذي (2680) ، وأحمد (2/299) ، وابن حبان (3728) ، والحاكم (1/90 – 91) .
وقد اختُلف في رفعه ووقفه فرجح الإمام أحمد وقفه كما في " المنتخب من العلل للخلال " (67) لابن قدامة المقدسي ، وقال الشيخ طارق عوض الله في تحقيقه لـ " المنتخب " ( ص 138) : وذكر محقق " تهذيب الكمال " (27/117) أن الإمام أحمد أعل هذا الحديث بالوقف ، ولم يعز ذلك إلى مصدر ، فإن صح هذا عن أحمد فهو يؤكد ما سبق ، على أن ظاهر صنيع أحمد هنا ، وكذا في " المسند " يدل على ذلك . والله أعلم .ا.هـ.
وقال الشيخ سليمان العلوان في " شرحه لجامع الترمذي " ( الحديث الثاني ) : بيد أن هذا الخبر مختلف في صحته . فقد أعل بعنعنة ابن جريج ، وهذا ليس بشيء ، وأعل بعنعنة أبي الزبير ، وهذا ليس بشيء ، بينما أعله الإمام أحمد بالوقف على أبي هريرة كما في " المنتخب من علل الخلال " للإمام الحافظ ابن قدامة ، وللموقوف حكم المرفوع ، إذ لا مجال لإجتهاد هنا .ا.هـ.(1/1)
قال الترمذي عقب الحديث : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا : سُئِلَ مَنْ عَالِمُ الْمَدِينَةِ ؟ فَقَالَ : إِنَّهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، و قَالَ إِسْحَقُ بْنُ مُوسَى : سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ : هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، و سَمِعْت يَحْيَى بْنَ مُوسَى يَقُولُ : قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : هُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . وَالْعُمَرِيُّ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ .ا.هـ.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوى " (20/323 - 325) أن المقصود بالحديث هو الإمام مالك بن أنس فقال : وَهَذَا يُصَدِّقُ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَا يَجِدُونَ عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ " فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ كَابْنِ جريج وَابْنِ عيينة وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ مَالِكٌ .
وَاَلَّذِينَ نَازَعُوا فِي هَذَا لَهُمْ مَأْخَذَانِ :
أَحَدُهُمَا : الطَّعْنُ فِي الْحَدِيثِ فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ مَالِكٍ كَالْعُمَرِيِّ الزَّاهِدِ وَنَحْوِهِ .
فَيُقَالُ : مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَأَنَّهُ مَالِكٌ أَمْرٌ متقرر لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَبِالتَّوَاتُرِ لِمَنْ كَانَ غَائِبًا ؛ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ مَالِكٍ أَحَدٌ ضَرَبَ إلَيْهِ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ أَكْثَرُ مِنْ مَالِكٍ .
وَهَذَا يُقَرَّرُ بِوَجْهَيْنِ :(1/2)
أَحَدُهُمَا : بِطَلَبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى مِثْلِ الثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَاللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَالِكًا تَأَخَّرَ مَوْتُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ ذَلِكَ .
فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَّةِ أَعْلَمُ مِنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَهَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رُحِلَ إلَى أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ مَا رُحِلَ إلَى مَالِكٍ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ رُحِلَ إلَيْهِ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَرَحَلَ إلَيْهِ النَّاسُ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ وَالْمُلُوكِ وَالْعَامَّةِ وَانْتَشَرَ مُوَطَّؤُهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى لَا يُعْرَفَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ كِتَابٌ بَعْدَ الْقُرْآنِ كَانَ أَكْثَرَ انْتِشَارًا مِنْ الْمُوَطَّأِ وَأَخَذَ الْمُوَطَّأَ عَنْهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِنْ أَصْغَرِ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَمْثَالُهُمَا وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إذَا حَدَّثَ بِالْعِرَاقِ عَنْ مَالِكٍ وَالْحِجَازِيِّينَ تَمْتَلِئُ دَارُهُ وَإِذَا حَدَّثَ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقِلُّ النَّاسُ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ عِلْمَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ .
وَأَجَلُّ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ الْعِلْمَ اثْنَانِ مَالِكٌ وَابْنُ عيينة . وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ مَالِكًا أَجَلُّ مِنْ ابْنِ عيينة حَتَّى إنَّهُ كَانَ يَقُولُ :
إنِّي وَمَالِكًا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :(1/3)
وَابْنُ اللَّبُونِ إذَا مَا لَزَّ فِي قَرْنٍ * * * لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبَزْلِ القناعيس
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الَّذِي ضُرِبَتْ إلَيْهِ أَكْبَادُ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا زَاهِدًا آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ النَّاسَ احْتَاجُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وَلَا رَحَلُوا إلَيْهِ فِيهِ .
وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَمْرًا يَسْتَشِيرُ مَالِكًا وَيَسْتَفْتِيهِ كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُ لَمَّا كَتَبَ إلَيْهِ مِنْ الْعِرَاقِ أَنْ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ فَقَالَ : حَتَّى أُشَاوِرَ مَالِكًا ، فَلَمَّا اسْتَشَارَهُ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَتْرُكُهُ وَلَدُ الْعَبَّاسِ حَتَّى تُرَاقَ فِيهِ دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ وَذَكَرَ لَهُ مَا ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - لَمَّا قِيلَ لَهُ : وَلِّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ - أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَا يَدَعُونَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تُرَاقَ فِيهِ دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ .
وَهَذِهِ عُلُومُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُتْيَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُلُومِ ؛ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا عَنْ الْعُمَرِيِّ الزَّاهِدِ مِنْهَا مَا يُذْكَرُ فَكَيْفَ يُقْرَنُ هَذَا بِمَالِكِ فِي الْعِلْمِ وَرِحْلَةِ النَّاسِ إلَيْهِ ؟ .(1/4)
ثُمَّ هَذِهِ كُتُبُ الصَّحِيحِ الَّتِي أَجَلُّ مَا فِيهَا كِتَابُ الْبُخَارِيِّ أَوَّلُ مَا يَسْتَفْتِحُ الْبَابَ بِحَدِيثِ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ لَا يُقَدِّمُ عَلَى حَدِيثِهِ غَيْرَهُ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ ضَرَبُوا أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَمْ يَجِدُوا عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ مَالِكٍ فِي وَقْتِهِ .ا.هـ.
ومن العبارات التي اشتهرت عند القاصي والداني في بيان قدر الإمام مالك في الفتوى : " لا يُفْتَى وَمَالِكٌ فِي المَدِينَةِ " ، ونسمع كثيرا من الوعاظ والخطباء يوردون قصةً بسبب العبارة ، فما هي هذه القصة المنسوبة إلى الإمام مالك ؟ والتي بسببها قيل في حقه : " لا يفتى ومالك في المدينة " ، هذا ما ستعرفه في السطور التالية .
نَصُ القِصَّةِ :
قال الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " (6/304 – 305) : " قرأت بخط الحافظ قطب الدين الحلبي ما نصه : وسيدي أبي عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سعيد وجدت بخط عمي بكر بن محمد بن سعيد بن يعقوب بن إسحاق بن حجر العسقلاني إملاء قال : ثنا إبراهيم بن عقبة ، حدثني المسيب بن عبد الكريم الخثعمي ، حدثتني أمة العزيز امرأة أيوب بن صالح صاحب مالك قالت : غسلنا امرأة بالمدينة فضربت امرأة يدها على عجيزتها فقالت : " ما علمتك إلا زانية أو مأبونة " . فالتزقت يدها بعجيزتها ، فأخبروا مالكا ، فقال : " هذه المرأة تطلب حدّها ، فاجتمع الناس ، فأمر مالك أن تُضرب الحدّ فضربت تسعة وسبعين سوطا ، ولم تنتزع اليد ، فلما ضربت تمام الثمانين انتزعت اليد ، وصلي على المرأة ودفنت " .(1/5)
وقال الخطيب الشربيني في " مغنى المحتاج " (1/358) : غريبة : حُكي أن امرأة بالمدينة في زمن مالك غسلت امرأة ، فالتصقت يدها على فرجها ، فتحير الناس في أمرها هل تقطع يد الغاسلة أو فرج الميتة ؟ فاستفتي مالك في ذلك فقال : سلوها ما قالت لما وضعت يدها عليها ، فسألوها فقالت : قلت طالما عصى هذا الفرج ربه ، فقال مالك : هذا قذف ، اجلدوها ثمانين تتخلص يدها ، فجلدوها ذلك فخلصت يدها . فمن ثم قيل : " لا يفتى ومالك بالمدينة " .
نَقْدُ العُلَمَاءِ لِلقِصَّةِ :
قال الشيخ مشهور حسن في " قصص لا تثبت " (2/78 – 79) : هذه القصة مكذوبة مفترة على الإمام مالك ، ففيها يعقوب بن إسحاق العسقلاني ، ترجمه الذهبي في " الميزان " (4/449) فقال عنه : " كذاب " ، وقال الحافظ ابن حجر في اللسان " (6/304) قبل أن يذكرها عنه : " وقد وجدت له حكاية تشبه أن تكون من وضعه " وسردها .ا.هـ.
وساقها الخطيب الشربيني بصيغة التمريض " حُكي " ، وقوله قبلها " غريبة " دالٌ على ضعفها عنده .
ومع قصة أخرى في سلسلة الدفاع عن أئمة المذاهب الأربعة مما ينسبه إليهم أهل البدع .
تَبَرُّكُ الشَّافِعِيِّ بِقَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ
http://saaid.net/Doat/Zugail/202.htm
قِصَةُ الإِمَامِ مَالِكٍ مَعَ الخَلِيفَةِ أبِي جَعْفرٍ المَنْصُورِ
http://saaid.net/Doat/Zugail/203.htm
رابط الموضوع
http://alsaha.fares.net/sahat?128@7.6p1CfOEewkd.5@.1dd3c96e
عبد الله زقيل
zugailam@yahoo.com(1/6)
قِصَصٌ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ -2-
قِصَةُ الإِمَامِ مَالِكٍ مَعَ الخَلِيفَةِ أبِي جَعْفرٍ المَنْصُورِ
الحمد لله وبعد ؛ لازلنا مع سلسلةِ الدفاعِ عن أئمةِ المذاهبِ الأربعةِ ، والردِ على ما تشدق به أهلُ البدعِ من نسبةِ أمورٍ إليهم هي أوهى من بيتِ العنكبوتِ كما قال تعالى : " وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " [ العنكبوت : 41 ] ، وهذه القصص التي يوردونها على أهل السنة والجماعة لأمرين :
الأمر الأول : التسويغ لأنفسهم بما يقومون به من البدع باسم الدين .
الأمر الثاني : التلبيس على العامة بأن أئمة المذاهب قاموا بهذه الأمور فلماذا النكير عليهم – زعموا - ؟ .
ولقد تصدى علماء أهل السنة – ولله الحمد - لمثل هذه الشبهات والقصص المكذوبة بتفنيدها ، ونقضها من أساسها .
والقصة التي بصدد ذكرها هي حوارٌ حدث بين الإمامِ مالك والخليفةِ أبي جعفر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، جعلها أهل البدع دليلا على استقبال قبر النبي صلى الله عليه وسلم حال الدعاء عنده ، ويحتج بها القبوريون على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد موته عند قبره .
نَصُ القِصَّةِ :
روى القاضي عياض في " الشفا " (2/595 – 596) بسنده فقال :(1/1)
حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري ، وأبو القاسم أحمد بن بَقِي الحاكم ، وغير واحد ، فيما أجازُونيه ؛ قالوا : أنبأنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دِلهات ؛ قال : حدثنا أبو الحسن علي بن فِهر ، حدثنا أبو بكر محمد بن الفرج ، حدثنا أبو الحسن بن المُنتاب ، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا ابن حميد قال : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في المسجد ، فإن الله تعالى أدب قوما فقال : " لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ " [ الحجرات : 2 ] .
ومدح قوما فقال : " إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ " [ الحجرات : 3 ] .
وذم قوما فقال : " إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ " [ الحجرات : 4 ] .
وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً . فاستكان لها أبو جعفر ، وقال : يا أبا عبد الله ؛ أأستقبل القبلة وأدنو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى إلى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به ، فيشفعك الله ؛ قال تعالى : " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا " [ النساء : 64 ] .
نَقْدُ العُلَمَاءِ لِلقِصَّةِ :
• انتقد شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية نقدا جعل كل من جاء بعده عالةً عليه ، فقد انتقدها من عدة أوجه :(1/2)
• الوجهُ الأولُ : نقدها من جهةِ السندِ :
قال في " الفتاوى " (1/228) :
فَهَذَا كُلُّهُ نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفَةِ ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةً بِإِسْنَادِ غَرِيبٍ مُنْقَطِعٍ رَوَاهَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ إجَازَةً ... فذكرها بسندها عن القاضي عياض ، ثم قال : قُلْت : وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ حميد الرَّازِيَّ لَمْ يُدْرِكْ مَالِكًا ، لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ ، فَإِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ ، وَتُوُفِّيَ مَالِكٌ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ . وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ حميد الرازي سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَلَدِهِ حِينَ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا وَهُوَ كَبِيرٌ مَعَ أَبِيهِ ، وَهُوَ مَعَ هَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، كَذَّبَهُ أَبُو زُرْعَةَ ، وَابْنُ وارة ، وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأسدي : مَا رَأَيْت أَحَدًا أَجْرَأَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ وَأَحْذَقَ بِالْكَذِبِ مِنْهُ . وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَبِيبَةَ : كَثِيرُ الْمَنَاكِيرِ . وَقَالَ النسائي : لَيْسَ بِثِقَةِ . وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يَنْفَرِدُ عَنْ الثِّقَاتِ بِالْمَقْلُوبَاتِ . وَآخِرُ مَنْ رَوَى الْمُوَطَّأَ عَنْ مَالِكٍ هُوَ أَبُو مُصْعَبٍ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ . وَآخِرُ مَنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ أَحْمَدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ السَّهْمِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ ، وَفِي الْإِسْنَادِ أَيْضًا مَنْ لَا تُعْرَفُ حَالُهُ .ا.هـ.
وقال أيضا في " الفتاوى " (1/225) :(1/3)
وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ سُؤَالَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ أَوْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ - غَيْرِ مَالِكٍ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنْ بَعْضُ الْجُهَّالِ يَنْقُلُ هَذَا عَنْ مَالِكٍ ، وَيَسْتَنِدُ إلَى حِكَايَةٍ مَكْذُوبَةٍ عَنْ مَالِكٍ ... وَأَصْلُهَا ضَعِيفٌ .ا.هـ.
وقال أيضا في " الفتاوى " (1/353) :
وَالْحِكَايَةُ الَّتِي تُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لِلْمَنْصُورِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ وَقَالَ : " هُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ " كَذِبٌ عَلَى مَالِكٍ ، لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ .
• الوجهُ الثاني : نقدها من جهةِ نقلها عن أصحابِ مالك :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (1/228) :
وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفِينَ بِالْأَخْذِ عَنْهُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حميد ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ إذَا أَسْنَدَ ، فَكَيْفَ إذَا أَرْسَلَ حِكَايَةً لَا تُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ؟ هَذَا إنْ ثَبَتَ عَنْهُ ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ بِمِثْلِ هَذَا النَّقْلِ لَا يَثْبُتُ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ فِي الْفِقْهِ ؛ بَلْ إذَا رَوَى عَنْهُ الشَّامِيُّونَ كَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، وَمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطاطري ضَعَّفُوا رِوَايَةَ هَؤُلَاءِ ، وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ فَكَيْفَ بِحِكَايَةِ تُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ الْمَعْرُوفَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ رَوَاهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُراسانِيِّينَ لَمْ يُدْرِكْهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ؟ .ا.هـ.(1/4)
• الوجهُ الثالثُ : سببُ إيرادِ القاضي عياضٍ لها :
قال في " الفتاوى " (1/225 – 226) :
وَالْقَاضِي عِيَاضٌ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي كِتَابِهِ فِي بَابِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ ؛ بَلْ ذَكَرَ هُنَاكَ مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي سِيَاقِ أَنَّ حُرْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَوْقِيرَهُ وَتَعْظِيمَهُ لَازِمٌ ؛ كَمَا كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِهِ وَذِكْرِ حَدِيثِهِ وَسُنَّتِهِ وَسَمَاعِ اسْمِهِ .ا.هـ.
• الوجهُ الرابعُ : أن الثابتَ عن مالكٍ خلافُ القصةِ :
قال في " الفتاوى " (1/353) :
وَهُوَ خِلَافُ الثَّابِتِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ بِأَسَانِيدِ الثِّقَاتِ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ كَمَا ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِثْلَ مَا ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَقْوَامٍ يُطِيلُونَ الْقِيَامَ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ، فَأَنْكَرَ مَالِكٌ ذَلِكَ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَقَالَ : لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ ، فَإِنَّ الْآثَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِمْ وَعَادَتِهِمْ ، وَلَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ الْحُجْرَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ مَشْرُوعًا لَكَانُوا هُمْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ ، وَكَانُوا أَسْبَقَ إلَيْهِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَالدَّاعِي يَدْعُو اللَّهَ وَحْدَهُ .ا.هـ.
• الوجهُ الخامسُ : نقدُ شيخِ الإسلامِ لبعضِ عباراتها :(1/5)
وقف شيخ الإسلام مع بعض عباراتها بشيء من التفصيل والإيضاح ، فمن ذلك أنه قال (1/229 – 230) :
مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ " وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَوَسُّلِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهَذَا هُوَ التَّوَسُّلُ بِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهَذَا حَقٌّ ؛ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ حِينَ تَأْتِي النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آدَمَ لِيَشْفَعَ لَهُمْ فَيَرُدَّهُمْ آدَمَ إلَى نُوحٍ ثُمَّ يَرُدَّهُمْ نُوحٌ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ إلَى مُوسَى وَمُوسَى إلَى عِيسَى وَيَرُدَّهُمْ عِيسَى إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ : " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ " ، وَلَكِنَّهَا مُنَاقِضَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : قَوْلُهُ " أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللَّهِ وَأَدْعُو ؟ " فَقَالَ " وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ " فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، وَسَائِر السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الدَّاعِيَ إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ، وَيَدْعُو فِي مَسْجِدِهِ ، وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ ؛ بَلْ إنَّمَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ السَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ لَهُ .ا.هـ.(1/6)
وقال أيضا (1/233) بعد تقرير طويل لمذهب مالك في المسألة :
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فِي الْحِكَايَةِ الْمُنْقَطِعَةِ مِنْ قَوْلِهِ : " اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ " كَذِبٌ عَلَى مَالِكٍ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَفْعَالِهِمْ الَّتِي يَفْعَلُهَا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَنَقَلَهَا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ إذْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ الْقَبْرَ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ وَيَسْتَشْفِعَ بِهِ يَقُولُ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ اشْفَعْ لِي أَوْ اُدْعُ لِي ، أَوْ يَشْتَكِي إلَيْهِ مَصَائِبَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، أَوْ يَطْلُبُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَا يَرَاهُمْ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُ ، أَوْ يَشْتَكِيَ إلَيْهِمْ الْمَصَائِبَ ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ فِعْلِ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ مُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؛ لَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ ، وَلَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ إذْ كَانَ يَسْمَعُ السَّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ الْقَرِيبِ وَيُبَلَّغُ سَلَامَ الْبَعِيدِ .ا.هـ.
وقال أيضا (1/239) :(1/7)
وَمِمَّا يُوهِنُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا " وَلَمْ تَصْرِفْ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَتَوَسَّلُ النَّاسُ بِشَفَاعَتِهِ ، وَهَذَا حَقٌّ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ ، لَكِنْ إذَا كَانَ النَّاسُ يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا كَانَ أَصْحَابُهُ يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّمَا ذَاكَ طَلَبٌ لِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ فَنَظِيرُ هَذَا - لَوْ كَانَتْ الْحِكَايَةُ صَحِيحَةً - أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ قَبْرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ ، وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مَالِكٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مَالِكٍ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ إلَّا جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ ، وَلَا الْأَحْكَامَ الْمَعْلُومَةَ أَدِلَّتُهَا الشَّرْعِيَّةُ مَعَ عُلُوِّ قَدْرِ مَالِكٍ وَعِظَمِ فَضِيلَتِهِ وَإِمَامَتِهِ ، وَتَمَامِ رَغْبَتِهِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ ، وَذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا ؟ وَهَلْ يَأْمُرُ بِهَذَا أَوْ يَشْرَعُهُ إلَّا مُبْتَدِعٌ ؟ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ يُنَاقِضُ هَذَا لَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا .(1/8)
ثُمَّ قَالَ فِي الْحِكَايَةِ : " اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعْك اللَّهُ " وَالِاسْتِشْفَاعُ بِهِ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ كَمَا يَسْتَشْفِعُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَمَا كَانَ أَصْحَابُهُ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ .ا.هـ.
فهذا هو نقد شيخ الإسلام ابن تيمية للقصة ، رحمه الله رحمة واسعة .
• وممن نقد القصة أيضا الإمام ابن عبد الهادي في " الصارم المنكي في الرد على السبكي " ( ص 259 – 267) .
قال عن سندها ( ص 260) : ذكرها القاضي عياض ورواها بإسناده عن مالك ليست بصحيحة عنه ، وقد ذكر المعترض – يعني ابن عبد الهادي بالمعترض السبكي – في موضع من كتابه أن إسنادها إسناد جيد ، وهو مخطىء في هذا القول خطأ فاحشا ، بل إسنادها إسناد ليس بجيد ، بل هو إسناد مظلم منقطع ، وهو مشتمل على من يتهم بالكذب وعلى من يجهل حاله ، وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي ، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته ، ولم يسمع من مالك شيئا ولم يلقه ، بل روايته عنه منقطعة غير متصلة ، وقد ظن المعترض أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقات المخرج لهم في صحيح مسلم قال : فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك ، وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشا ووهم وهما قبيحا .ا.هـ.
ومع قصة أخرى في سلسلة الدفاع عن أئمة المذاهب الأربعة مما ينسبه إليهم أهل البدع .
تَبَرُّكُ الشَّافِعِيِّ بِقَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ
http://saaid.net/Doat/Zugail/202.htm
رابط الموضوع
http://alsaha.fares.net/sahat?14@100.En3geaej0GL.0@.1dd38165/1
عبد الله زقيل
zugailam@yahoo.com(1/9)
قِصَصٌ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ -1-
تَبَرُّكُ الشَّافِعِيِّ بِقَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ
إن مما لا شك فيه أن منهجَ أهلِ السنةِ والجماعةِ هو المنهجُ الحقُ الذي ارتضاهُ اللهُ لعبادهِ ، ولذا وجه أعداءُ أهلِ السنةِ والجماعةِ من المبتدعةِ وغيرِهم سهامهم للنيلِ منه ومن رموزهِ من العلماءِ والدعاةِ إلى اللهِ ، ورميهم بأبشعِ الألقابِ ، وقد نال أئمةُ المذاهبِ الأربعةِ - أبو حنيفةَ ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل - نصيبا من تلك السهام ، فنُسب إليهم زوراً وبهتاناً بعد التحققِ من صحةِ نسبتها بعضُ القصصِ والمروياتِ المكذوبةِ التي تقدح في عقائدهم ، ولكن هيهات هيهات أن ينالوا من أولئك الجبال الأعلام رحمهم الله .
وفي هذه السلسلةِ نستعرضُ قصصاً نُسبت إلى الأئمةِ الأربعةِ - أبي حنيفةَ ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل - في العقيدة وغيرها مع بيانِ عللها ، وكلام أهل العلم فيها ، ذباً عن عرضهم ، ونصحاً للأمةِ من الاغترارِ بها حين إيرادها من قِبل المبتدعةِ .
ونبدأ بقصةِ لا تثبتُ عن الإمامِ الشافعي ، يتشدقُ بها المبتدعة ُ من الصوفية ِ وغيرهم في مسألةِ التوسلِ بالأمواتِ الصالحين ، ولا تكاد تجدُ مبتدعاً يتكلمُ عن التوسلِ إلا ويوردُ قصة توسل الشافعي بقبرِ أبي حنيفة لكي يحتجُ بها على أهلِ السنةِ في تجويزِ التوسلِ بالصالحين .
ونقول كما قال الأولون : " أثبت العرش ثم انقش " .
نَصُ القِصَّةِ :
أخرجَ الخطيبُ البغدادي في " تاريخ بغداد " (1/123) بسنده فقال :(1/1)
أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري ، قال : أنبأنا عمر بن إبراهيم المقرئ قال : نبأنا مُكرم بن أحمد قال : أنبأنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال : نبأنا علي بن ميمون قال : سمعت الشافعي يقول : إني لأتبرك بأبي حنيفة ، وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائراً - فإذا عرضت لي حاجة صليتُ ركعتين وجئت إلى قبره ، وسألت الله تعالى عنده ، فما تبعد عني حتى تُقضى .
نَقْدُ العُلَمَاءِ لِلقِصَّةِ :
انتقد علماءُ أهلِ السنة القصة ، وطعنوا في صحتها ، وإليك أخي ما قاله أهل العلم فيها :
• كذب شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمه الله القصة ورد على ما جاء فيها فقال في " اقتضاء الصراط المستقيم " (2/692) :
" ... الثاني : أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنا لفعله المتقدمون ، ولم يفعلوه ، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات ، وهي لا تتناقض ، وإذا اختلف فيها التأخرون فالفاصل بينهم : هو الكتاب والسنة ، وإجماع المتقدمين نصا واستنباطا فكيف - والحمدلله - لم ينقل عن إمام معروف ولا عالم متبع . بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه ، مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي أنه قال : ...فذكره أو كلاما هذا معناه ، وهذا كذلك معلوم كذبه بالاضطرار عند من له معرفة بالنقل ، فإن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة ، بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا ، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين ، من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء . فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده . ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وطبقتهم ، ولم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند أبي حنيفة ولا غيره .(1/2)
ثم قد تقدم عند الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها ، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه . وإما ان يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف ،ونحن لو روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبه احاديث عمن لاينطلق عن الهوى لما جاز التمسك بها حتى تثبت . فكيف بالمنقول عن غيره ؟ ا.هـ.
• وقال الإمامُ ابنُ القيمِ في " إغاثة اللهفان " (1/246) : والحكايةُ المنقولةُ عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاءَ عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر .ا.هـ.
• وقال المعلمي في " طليعة التنكيل " ( ص58 - 60) بعد أن بين ضعف سندها ، وفصل فيه : هذا حال السند ، ولا يخفى على ذي معرفة أنه لا يثبت بمثله شيء ، ويؤكد ذلك حال القصة ، فإن زيارته قبر أبي حنيفة كل يوم بعيد في العادة ، وتحريه قصده للدعاء عنده بعيد أيضا ؛ إنما يعرف تحري القبور لسؤال الحوائج عندها بعد عصر الشافعي بمدة ، فأما تحري الصلاة عنده ، فأبعد وأبعد .ا.هـ.
• وقال العلامة الألباني عن سند هذه القصة في الضعيفة (1/31ح22) :
فهذه رواية ضعيفة بل باطلة فإن عمر بن إسحاق بن إبراهيم غير معروف وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال ، ويحتمل أن يكون هو " عمرو - بفتح العين - بن إسحاق بن إبراهيم بن حميد بن السكن أبو محمد التونسي وقد ترجمه الخطيب وذكر أنه بخاري قدم بغداد حاجا سنة 341هـ ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا فهو مجهول الحال ، ويبعد أن يكون هو هذا إذ أن وفاة شيخه علي بن ميمون سنة 247هـ على أكثر الأقوال فبين وفاتيهما نحو مائة سنة فيبعد أن يكون قد أن يكون قد أدركه .
وعلى كل حال فهي رواية ضعيفة لا يقوم على صحتها دليل .ا.هـ.
وقد رد العلامة الألباني على الكوثري في نفس الموضع فقال :
وأما قول الكوثري في مقالاته : وتوسل الإمام الشافعي بأبي حنيفة مذكور في أوائل تاريخ الخطيب بسند صحيح . فمن مبالغاته بل مغالطاته ا.هـ.(1/3)
• وقال محمد نسيب الرفاعي في " التوصل إلى حقيقة التوسل " ( ص 331 - 332) :
26- توسل الشافعي بأبي حنيفة رضي الله عنهما
قال ابن حجر المكي في كتابه المسمى (( الخيرات الحسان )) في مناقب أبي حنيفة النعمان في الفصل الخامس والعشرين أن الإمام الشافعي أيام هو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة يجيء إلى ضريحه يزوره فيسلم عليه ثم يتوسل إلى الله به في قضاء حاجاته .
الكلام على متن هذا الخبر
من المعلوم أن معنى التوسل هو القربى والمتوسل عليه ولا شك أن يتحرى في توسله أن يكون هذا من النوع الموافق لعقيدة هذا المتوسل به فإذا كان الذي يريد أن يتوسل به يكره ويحرم هذا النوع من التوسل فكيف يعقل من أحد أن يقدم على عمل هو مكروه عند التوسل به ؟ لأنه موقن بأن المتوسل إليه به لا يقبل قطعاً هذا التوسل لا سيما وقد منعه منعا باتاً على ألسنة رسله من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإن أبا حنيفة كان لا يجيز التوسل إلى الله بأحد من خلقه فقد ثبت عنه أنه قال : " لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول : أسألك بمعاقد العز من عرشك وأن يقول بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام " .
ولا شك أن الشافعي يعلم هذا من مذهب أبي حنيفة في التوسل فكيف يتوسل به وهو يكره هذا النوع من التوسل بل ويحرمه فهل من المعقول بعد أن يعلم الشافعي من أبي حنيفة ذلك أن يتوسل به هذا غير معقول البتة بل هو إغضاب لأبي حنيفة لأنه يكرهه ويحرمه لأن الله كرهه ويحرمه ولا شك أن الشافعي وأبا حنيفة رضي الله عنهما لا يحبان إلا ما يحب الله ولا يكرهان إلا ما يكرهه الله سبحانه وتعالى فكيف يتقرب الشافعي إلى الله بالتوسل بأبي حنيفة بما يغضب الله وأبا حنيفة حاشاه من ذلك وهو بريء مما نسب إليه ولكن ماذا نقول للكذابين والمفترين أننا نشكوهم إلى الله تعالى : اللهم عاملهم بما يستحقون .(1/4)
قال في (( تبعيد الشيطان )) : والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر . اهـ .
ومع قصة أخرى لا تثبت .
قِصَةُ الإِمَامِ مَالِكٍ مَعَ الخَلِيفَةِ أبِي جَعْفرٍ المَنْصُورِ
http://saaid.net/Doat/Zugail/203.htm
رابط الموضوع
http://alsaha.fares.net/sahat?128@100.En3geaej0GL.1@.1dd37e47
عبد الله زقيل
zugailam@yahoo.com(1/5)