رَفعُ الهِمَّة
في
بيانِ صحَّة حديثِ (( لقد ضُمَّ ضَمَّة ))
بقلم
أبي محمد
إبراهيم بن شريفٍ الميلي ثمَّ الجزائريّ
نزيلِ الكُوَيت ـ حرسَهَا اللهُ تعالى و سائر بلاد المسلمين ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي شرحَ صُدُورَ أهلِ الإسلام للسُّنَّة فانقادت لاتباعها ، وارتاحت
لسماعها ، وأمات نفوس أهل الطغيان بالبدعة بعد أن تمادت في نزاعها ، و تغالَت في ابتداعها ؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العالمُ بانقياد الأفئدة
وامتناعها ، المطَّلعُ علىضمائر القلوب في حالتي افتراقها واجتماعها ، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه الذي انخفضَت بحقه كلمةُ الباطل بعد ارتفاعها ، واتصلت بإرساله أنوارُ الهدى وظهرت حجتها بعد انقطاعها - صلى الله عليه وسلم -ما دامتِ السَّماء والأرض ، هذه في سُمُوِّهَا ، وهذه في اتساعها .
وعلى آله وصحبه الذين كسَروا جيوشَ المردةِ وفتحوا حصونَ قِلاعِهَا وهجَرُوا في محبة
داعيهم إلى الله الأوطار و الأوطان ولم يعاودوها بعد وداعها ، وحفظوا على أتباعهم
أقواله وأفعاله و أحواله حتى أُمِنَت بهم السُّنن الشريفة من ضياعها .
أما بعدُ :
فقد سألتني ـ نفعي الله وإياك وسائر الأصحاب بنافع العلم و رزقنا جميعاً صائب
الفهم ـ عن صحة حديث : (( إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ )) .
فأقول ـ مستعيناً بالله وحده ـ :
هذا الحديث فيما وقفت عليه ـ و لله الحمد و المنة ـ قد جاء من رواية جمع من الصحابة و التابعين ، هذا تفصيلها :
الحديث الأول : عن ابن عمر رضي الله عنهما ، و لفظه مرفوعا إليه - صلى الله عليه وسلم -هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفا من الملائكة لقد ضُمَّ ضَمَّةً ثم فرِّجَ عنه يعني سعدَ بنَ معاذٍ رضي الله عنه )) .(1/1)
أخرجه النسائي في (( المجتبى )) (رقم :2055) و في (( الكبرى )) (رقم : 2182) وابن سعد في (( الطبقات )) (3/430 ) من طريق عبد الله بن إدريس ، حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر به .
و هذا إسنادٌ صحيح ، ابن إدريس ثقة حجة لا يختلف فيه ، و قد خولف في إسناده ،
خالفه :
1 ـ يحيى بن سعيد القطان ، فرواه عن عبيد الله عن نافع ، قال : أخبرت ..فذكره.
2 ـ و محمد بن بشر العبدي : علقه عنهما ابن أبي حاتم في (( علله )) (2/362) .
3 ـ و عبدة بن سليمان : أخرجه هناد في (( الزهد )) ( رقم : 358 ) .
4 ـ و عبد الله بن نمير : أخرجه ابن سعد في (( الطبقات )) (3/430 ).
قلت : و الوصل هنا مقبول لثلاثة أمور :
الأول : أن الواصل ثقة ثبت حجة ، معه زيادة حفظ و علم ، و قد قال غير واحد من أئمة هذا الشأن كأبي زرعة و غيره : (( زيادة الحافظ على الحافظ مقبولة )) .
و ابن إدريس لا ريب أنه من الحفاظ الثقات :
قال الإمام أحمد عن ابن إدريس :كان نسيج وحده .
و قال ابن معين في رواية عثمان الدارمي : ثقة في كل شيء ، و وثقه في رواية إسحاق بن منصور .
و قال أبو جعفر الجمال : كان ابن إدريس حافظا لما يحفظ .
و قال أبو حاتم - و هو مَنْ هو في شدَّتِه ؟ - : حديثُ ابن إدريس حجة يحتج بها وهو
إمام من أئمة المسلمين ، ثقة .
و قال العجلي : عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي ثقة ثبت صاحب سنة .
وقال جعفر الفريابي سألت ابن نمير عن عبد الله بن إدريس وحفص فقال : حفص أكثر حديثا ولكن ابن إدريس ما خرج عنه فإنه فيه أثبت وأتقن .
وقال النسائي : ثقةٌ ثبتٌ .
و قال ابن سعد : وكان ثقةً مأموناً كثيَر الحديث حجةً صاحبَ سنة وجماعةٍ .
و وثقه ابنُ المديني و ابنُ خِراش و ابن حِبَّان و غيرُهم .
وقال الخليليُّ : ثقةٌ متفقٌ عليه .
كما أن زيادتَه لا تُنافي روايةَ الآخرين ، ذلكَ أنَّ الراوي قد ينشطُ أحيانا فيوصِلُ ، و(1/2)
يكسلُ أخرى فيرسلُ ، و ليس هذا بمستقيمٍ دائماً ، لكنْ ها هُنَا القرائنُ قد حفَّته و قوَّتْه .
الثاني : أنَّ الحديثَ جاء عن نافعٍ على أوجهٍ مختلفةٍ بألفاظٍ متعددةٍ ، مما يدلُّك على اعتنائهِ بهذا الأمرِ و تتبعِه له ، و لذا فهو يرويه بصيغٍ متنوعةٍ ، حسبَ ما يقتضيه الحال ، فإن كان الحال حالَ الرواية : نشط و إن كان الحال حال الحكاية و الاستشهاد : قصَّر، فتجده يقول : أخبرت ، و تارة : بلغني ، و أخرى : عن ابن عمر ، و في حديث آخر : عن صفية ..- كما سيأتي تفصيله - ، و هكذا .
الثالث : أنني لم أقف إلى ساعتي هذه على مَنْ أَعَلَّ هذه الرواية مِمَّن تقدَّم من أئمة هذا الشأن ، بل الأمرُ على خلافِ ذلك :
فقد أخرج الرواية الموصولةَ و اختارَهَا: النَّسَائيُّ ـ أحَدُ أئمَّةِ النَّقد ، ممَّنْ برَع في علم
العلل و برّزَ فيه ـ و لم يلتفت إلى ما عداها ، و قد نصَّ جمعٌ من الأئمَّة على صحَّة ما اختاره النسائي في (( المجتبى )) دون ما علله فيه .
و نحا الزيلعيُّ نحوَ ما ذكرنا هُنا ، فقد ذكرَ الحديثَ في (( نصب الراية )) (2/286) ، ثمَّ قال : (( وهذا ذكره ابن أبي حاتم في (( علله)) ، وذكر في إسناده اختلافا ولم يضعفه ولا جعله منكرا )) .
قلت : لم يشر ابن أبي حاتم في (( علله )) (2/362) للرواية الموصولة ، و اكتفى برواية محمد بن بشر في سياقه للاختلاف الواقع في حديث محمد بن عمرو الآتي شرحه قريبا!
و قال النووي في (( الخلاصة )) ( 2 / 1043 ) : إسناده صحيح .
و قال ابن حجر في (( القول المسدد )) ص:83 : رجاله ثقات محتج بهم في الصحيح. قلت : و للحدبث طريق أخرى عن ابن عمر ، و لفظه (( دخلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبره يعني سعد بن معاذ فاحتبس فلما خرج ، قيل يا رسول الله ! ما حبسك قال : ضمَّ سعدٌ في القبر ضمةً فدعوتُ الله فكشفَ عنه )).
أخرجه ابن سعد ( 3 / 433 ) قال : أخبرنا محمد بن فضيل بن غزوان ؛ و ابن حبان(1/3)
(رقم :7034 ) قال : أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ؛ و
الحاكم ( 3/228 ) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة - وهو في (( مسنده )) - كما في (( إتحاف الخيرة )) (3/270 ) ثلاثتهم قالوا :حدثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر به ، و لفظ ابن أبي شيبة : (( اهتز لحب لقاء الله العرش يعني السرير قال : ورفع أبويه على العرش تفسخت أعواده قال ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبره فاحتبس فلما خرج قيل يا رسول الله ما حبسك قال ضم سعد في القبر ضمة فدعوت الله أن يكشف عنه )).
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قلت : عطاء كان قد اختلط ، و ابن فضيل ممن روى عنه بعد اختلاطه كذا قال
البوصيري في (( الإتحاف )) (3/270) و غيره ؛ لكن لم أجد من نصَّ على ذلك سوى عبارة أبي حاتم : (( و ما روى عنه ابن فضيل ، ففيه غلط و اضطراب ، رفع أشياء كان يرويها عن التابعين فرفعه إلى الصحابة )) ( الجرح 6/333).
قلت : فهي على هذا سالمةٌ من كثرةِ الغَلَطِ و الاضْطِرَابِ ، و قد عُلِمَ أنَّ الضَّعيفَ من
حديث المختَلِط : ما أُنْكِرَ عليه بعدَ اخْتِلاطِه .
الحديث الثاني : عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا : (( إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجيا منها نجا سعد بن معاذ )).
أخرجه الإمام أحمد في (( المسند )) (رقم : 24328 ) و في (( فضائل الصحابة)) (رقم: 1501) و في (( السنة )) لابنه ( 2/286) ، حدثنا يحيى ؛ و إسحاق بن راهوية في (( مسنده)) (رقم : 1114) : أخبرنا وهب بن جرير ؛ و أحمد أيضا : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، ثلاثتهم : حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن نافع عن عائشة به .
قلت :هذا إسنادٌ - في الظاهر - صحيحٌ ، و لذا صحَّحه جمعٌ من أهل العلم :
قال الذهبي : إسناده قوي ( السير 1/291)
و قال العراقي : إسناده جيد ( القول المسدد ص:81)
و تبعه ابن حجر ، و انظر سياق كلامه فيما يأتي قريبا .(1/4)
قلت : لكن رواه محمد بن جعفر الملقب بـ: غندر عن شعبة عن سعد عن نافع عن إنسان عن عائشة : أخرجه الإمام أحمد ( رقم : 24707 و 24328 ) .
قال ابن حجر : (( وهذه الرواية تدل على أن نافعا لم يسمعه من عائشة رضي الله عنها ، و ما رواه يعقوب ويحيى هو الراجح ، و يمكن أن يكون نافع سمعه عن إنسان عن عائشة ثم سمعه عنها أيضا فرواه بالوجهين )) ( القول المسدد ص:82) .
قلتُ : قد عُلِمَ المبهمُ في هذا السند فزال الإشكال ، فقد رواه ابن حبان (7 / رقم : 3112 ) من طريق عبد الملك بن الصباح ؛ و البغوي في (( الجعديات )) ( رقم : 2548) : حدثنا علي - يعني : ابن الجعد - ؛ و الحارث في (( مسنده )) ( رقم : 279 0 بغية ) : ثنا عاصم بن علي ؛ و البيهقي في (( شعبه )) ( 1/358) من طريق هاشم بن القاسم ؛ و الذهبي في (( سيره )) ( 1 / 291 ) عن ابن أبي عدي - معلقا - ؛ خمستهم عن شعبة عن سعد عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد - امرأة ابن عمر - عن عائشة به .
قلت : و هذا سند صحيح على شرط مسلم :
صفية : تابعيةٌ كبيرةٌ ثقةٌ ، قال العجليُّ : مدنيةٌ تابعيةٌ ثقةٌ ، و ذكرها ابنُ حِبَّان في (( الثقات )) .
روَتْ عن عمرَ و حكتْ عنه ، و عن بعضِ أمهَّات المؤمنين و سمعت منهُنَّ ، و روى عنها جمعٌ من ثقاتِ التابعين ، فيهم : سالم بن عبد الله بن عمر و نافع و عبد الله بن دينار ، في آخرين كلُّهم ثقاتٌ .
و قد احتجَّ بها مسلمٌ في (( صحيحه )) ( 1490) ، و مالك في (( الموطأ )) في ست مواضع أو أكثر ، فهي عندهما ثقة - لا ريب - ، و صحح لها ابن خزيمة (2686) و ابن حبان ( 3742 و 4302) في (( صحيحيهما " ، و الضياء في (( المختارة )) (138 ) ، و البيهقي - كما في (( نصب الراية )) (3/207 و 4/ 250) .
و قد ذكرها ابن عبد البر في الصحابة ، و أثبت ابن مندة لها الإدراك ، و نفاه
الدارقطني .(1/5)
قلت : و هي زوج ابن عمر تزوجها في خلافة أبيه ، و أصدقها عمر بن الخطاب صداق ابنه، و هي أم أولادٍ له ، و هُم :أبو بكر و أبو عبيدة و واقد وعبد الله و عمر و حفصة و سودة ( الطبقات الكبرى 4/142و 8/472) .
و بعد هذا : فلا يرتابُ أحدٌ ممَّن ذاق طعمَ الحديث و عقلَ تصرُّفات الأئمَّة في نقد الرجال : أنها ثقة !
تنبيهات مهمَّة :
الأول :وقع في (( زوائد مسند الحارث : شبيب ، بدل شعبة ، و هو تحريف قبيح ، لم ينتبه له المحقق !!
الثاني : فقد أخرج الطبرانيُّ في (( المعجم الأوسط )) (رقم : 1159 ) قال - وأحال على إسناده - : حدثنا أحمد ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا زيد بن أبي أنيسة - عن جابر عن نافع قال : أتينا صفية بنت أبي عبيد فحدثتنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنْ
كنت أرى لو أن أحدا أعفي من ضغطه القبر لعوفي سعد بن معاذ ، لقد ضُمَّ ضَمَّةً )). و إسناده إلى زيد صحيح ، لولا أن شيخَ الطبراني - وهو : أحمد بن عبد الرحمن بن عقال الحراني - قال فيه أبو عروبة : ليس بمؤتمن على دينه .
قلت : ذكر له ابن حجر حديثا منكرا ، و قال : (( ولم أر له أنكر من هذا وهو ممن يكتب حديثه )) ( لسان الميزان 1 / 213) .
قلت : و لعله أخطأَ في هذا الحديث أيضاً ، فقد رواه عليُّ بنُ معبد - كما في (( الروح )) لابن القيم ص: 56 - قال : حدثنا عبيد الله عن زيد بن أبي أنيسة عن جابر عن نافع قال أتينا صفية بنت أبي عبيد امراة عبد الله عمر وهي فزعة فقلنا :ما شأنك ؟ فقالت : جئتُ مِنْ عند بعضِ نساء - صلى الله عليه وسلم - قالت فحدثتني أنَّ رسول الله قال (( إن كنت لأرى لو أن أحد أعفي من عذاب القبر لأعفي منه سعد بن معاذ لقد ضم فيه ضمة )).
فوصله بذكر الواسطة بين صفية و النبي - صلى الله عليه وسلم - ،وقد تقدم أنها عائشة رضي الله عنها .(1/6)
قلت : و لولا أن جابرا الذي في إسناده هو : ابن يزيد الجعفي الرافضيُّ الضَّعيف ، لكانت متابعة قوية لسعد ؛ غير أنني أخاف أن يكون دلّس فيه ، و لم يسمعه من نافع ، و هذا الأليقُ به ، كما فعل فيمن حدّثت صفية ، فلم يصرّح باسمها لرفضه و غلوّه في التشيع.
الثالث : فقد أخرج الطبراني في (( المعجم الأوسط )) ( رقم :4627 ) ، قال :حدثنا عبيدالله بن محمد بن عبدالرحيم البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن خالد الحرانى قال : حدثنا ابن لهيعة عن عقيل أنه سمع سعد بن إبراهيم يخبر عن عائشة بنت سعد أنها حدثته عن عائشة أم المؤمنين قالت : دخلت على يهودية فحدثتني وقالت في بعض قولها : أي والذي يقيك فتنة القبر ، قالت : فانتهرتها ، وقلت :ما هو بأول كذبكم على الله ورسوله ولو كان للقبر عذابا لأخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت اليهودية (( إنا لنزعم أن له عذابا قالت عائشة : فلما دخل علي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته بقولها فلم يرجع إليَّ شيئا ، فلما كان بعد ذلك قال : يا عائشة ، تعوذي بالله من عذاب القبر ، فإنه لو نجا منه أحدٌ نجا منه سعد بن معاذ ، و لكنه لم يزد على ضمَّة )) .
قال الطبراني : لم يرو هذا الحديث عن عائشة بنت سعد إلا سعد بن إبراهيم ، و لا
رواه عن سعد إلا عقيل ، و تفرد به ابنُ لهيعة .
قلت : عبيد الله : صدوق ، و شيخه : ثقة ، و الحديث أخطأ فيه ابن لهيعة سندا و
متنا ، فقد كان يلقن في آخر عمره ما ليس من حديثه ، و قد جمع في الحديث متنين لحديثين بإسنادين مختلفين !
و لعله مما دلَّسه ، فقد كان مدلسا ، و لم يصرح بالسماع و التحديث .
كما أنَّ السند هكذا : عقيل عن سعد عن عائشة : لا يجيء .(1/7)
الرابع : فقد أخرج أبو نعيم في (( الحلية )) ( 3 /173 174 )، قال : حدثنا أحمد بن القاسم بن الريان ، حدثنا إسحاق بن الحسين الحربي حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا سفيان الثوري عن سعد بن إبراهيم عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لو أن أحدا نجا من عذاب القبر لنجا منه سعد بن معاذ وقال
بأصابعه الثلاثة فجمعها كأنه يقللها ثم قال ضغط ثم عوفي )).
قلت : و هذا الحديث بهذا الإسناد : خطأٌ من أبي حذيفة ، فقد كان كثير الوهم و التصحيف عن الثوريِّ .
و قد أشار إلى إعلاله برواية شعبة : أبو نعيم ، فقال عقب إخراجه : (( كذا رواه أبو حذيفة عن الثوريِّ عن سعدٍ ، و رواه غُندر و غيرُه عن شعبةَ عن سعدٍ عن نافعٍ عن إسنان ( الأصل : سنان ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها )) ، و انظر التنبيه الخامس .
الخامس : فقد أخرجه أيضا الخطيب في (( المتفق و المفترق )) ( 3/ رقم : 1793 ) ، قال : أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن بن علي الخلال ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان الصفار ، حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد الزعفراني ، [ حدثنا ] محمد بن ماهان ، حدثنا يزيد بن أبي زياد ، أبو الحسن ، حدثنا شعبة ، عن سعد ( الأصل : سعيد ) ، قال : حدثنا نافع ، عن عبد الله بن عمر عن عائشة ، قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ )).
قلت : و إسناده إلى محمد بن ماهان : صحيح ، و محمد بن ماهان ، هو السمسار : ثقةٌ ، وثقه ابنُ حبَّان ( الثقات 9/149 ) و الدَّارقطنيُّ و البرقانيُّ ( تاريخ بغداد 3/293 ) ، و جهَّله أبو حاتم ( الجرح 8/105 ) - فلم يصب - و تبعه ابن الجوزي ( الضعفاء 3/ 95) و الذهبي .
و ليس هو القصباني - كما يظهر من صنيع الذهبي و ابن حجر ( لسان الميزان 5 / 357 ) ، فقد فرق بينهما ابن أبي حاتم في " الجرح )) .(1/8)
و علة هذا الإسناد : يزيد بن أبي زياد ، و هو : ابن السكن الخراساني المؤذن ، قال عنه أبو حاتم : صدوق وليس بالقوي ولاتقوم به الحجة ( الجرح 9/265 ) ، و قال الدارقطني في (( العلل )): شيخ ليس بثقة ( اللسان 6/287) .
قلت : و قد أخطأ الذهبي في كتابه (( المغني في الضعفاء )) ( 2 /749) حيث خلط بينه و بين آخر ، فقد ذكر في ترجمة من يروي عن محمد بن هلال ، قوله : (( قلت ويروي عن شعبة ، قال الدارقطني : ليس بثقة ، و قال البخاري : منكر الحديث )).
قلت : و الذي يروي عن شعبة هو المذكور هنا في هذا السند !
الحديث الثالث : عن جابر بن عبد الله قال (( لما دفن سعد ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبح الناس معه طويلا ثم كبر فكبر الناس ثم قالوا يا رسول الله مم سبحت قال لقد تضايق على هذا الرجل الصالح قبره حتى فرجه الله عز وجل عنه "؛ و في لفظ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش وفتحت
له أبواب السماء شدد عليه ففرج الله عنه وقال مرة فتحت وقال مرة ثم فرج الله عنه وقال مرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد يوم مات وهو يدفن)) .
رواه معاذ بن رفاعة الزرقي ، و اختلف عليه على وجهين :
الوجه الأولُ : ما رواه يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد و يحيى بن سعيد عنه عن جابر به : أخرجه الإمام أحمد ( رقم : 14545) و النسائي في (( الكبرى )) ( رقم : 8224 ) و ابن حبان ( رقم : 7033) و الحاكم (3/206) من طرق عن محمد بن عمرو بن علقمة عنهما به .
و علقه البخاري في (( التاريخ الكبير )) (1/148 ) عن ابن الهاد .
قلت : رواه عن محمد بن عمرو محمد بن خالد الوهبي و يزيد بن هارون ، و
الفضل بن موسى و محمد بن بشر العبدي.
و اختلف على محمد بن عمرو على أوجه - هذا أحدها - :(1/9)
و الثاني : ما رواه محمد بن بشر أيضا عن محمد بن عمرو عن أشعث بن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص به .
أخرجه إسحاق بن راهوية في (( مسنده )) (2/549) و علقه ابن أبي حاتم في (( علله )) ( 2 / 362 ) دون موضع الشاهد ، فقد رواه محمد بن بشر بإسناد آخر - سيأتي شرحه قريبا - .
و الثالث: ما رواه سعدان بن يحيى عن محمد بن عمرو عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف به ، علقه ابن أبي حاتم في (( علله)) (2/362) ، و سعدان : صدوق.
قال أبو زرعة : الحديث حديث محمد بن بشر - يعني الوجه الثاني - ( العلل ) ( 2 / 392 ) .
قلت : كذا قال ، و لم يذكر الوجه الأول ، و هو الأصحُّ ، فقد توبع عليه محمد بن بشر ؛ على أن الاضطراب فيه آتٍ من محمد بن عمرو فقد جرِّب عليه الخطأ و
الوهم.
الوجه الثاني : ما رواه ابن إسحاق عنه عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن
الجموح عن جابر به.
أخرجه الإمام أحمد ( رقم : 14916 و 15071 ) ، قال : حدثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق به .
و علقه البخاري في (( التاريخ الكبير )) ( 1 / 148 ) عن يحيى بن محمد عن ابن إسحاق به .
و أخرجه الطبراني في الكبير ( رقم : 5346 ) فقال : حدثنا أبو شعيب الحراني ثنا أبو جعفر النفيلي ثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني معاذ بن رفاعة عن محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح عن جابر ، فجعل اسم شيخ معاذ : محمداً .
و علقه البخاري في (( التاريخ الكبير )) ( 1 / 148 )عن إبراهيم وزياد وبكر جميعا عن ابن إسحاق به .
و أشار إليه المزي (( التحفة )) ( 2/379 ) .
قال ابن حجر : (( قلت : رجال الإسنادين ثقاتٌ ، و ابن إسحاق قد رواه بصيغة التحديث فانتفت تهمة التدليس ، ومعاذ بن رفاعة قد سمع من جابر بغير واسطة )) ( القول المسدد ص:81) .(1/10)
قلت : محمد و محمود شخص واحد اضطرب الرواة في اسمه ، و هو معروف النسب ، والده و جده معدودان في الصحابة ، ذكره البخاري في (( الكبير )) (1/148 ) و سكت عنه ، و ابن حبان في (( الثقات )) ( 5/373) ، و انظر : (( تعجيل المنفعة)) ( رقم : 1010 ) ، و (( تهذيب الكمال)) (28/121) .
و الذي يظهر لي في هذا الإسناد أنه صالح ، لا بأس به ، فمعاذ : لا بأس به ، و قد سمع من جابر بغير واسطة ، و لو سلمنا رجحان رواية ابن إسحاق لكانت كذلك صالحة ، لحال ابن الجموح فهو مستور الحال ، و تنزل معاذ في الرواية عنه يقويه ، و الله أعلم .
تنبيه :
في باب حديث جابر ، ما أخرجه ابن سعد في (( الطبقات)) (3 /432) ، قال :
أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني إبراهيم بن الحصين بن عبد الرحمن عن داود بن الحصين عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه ، قال : لما انتهوا إلى قبر سعد نزل فيه أربعة نفر الحارث بن أوس بن معاذ وأسيد بن الحضير وأبو نائلة سلكان بن سلامة وسلمة بن سلامة بن وقش ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على قدميه فلما وضع في قبره تغير وجه رسول الله rوسبح ثلاثا فسبح المسلمون ثلاثا حتى ارتج البقيع ثم كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وكبر أصحابه ثلاثا حتى ارتج البقيع بتكبيره فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقيل يا رسول الله رأينا بوجهك تغيرا وسبحت ثلاثا قال : (( تضايق على صاحبكم قبره وضم ضمة لو نجا منها أحد لنجا سعد منها ثم فرج الله عنه )).
و إسناده تالف ، محمد بن عمر هو : الواقدي متروك .
الحديث الرابع : عن ابن عياش رضي الله عنه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لو أفلت
أحد من فتنة القبر أو ضمه لنجا سعد ولقد ضمَّ ضَمَّةً ثمَّ رُخي عنه )).
أخرجه الحكيم الترمذي - كما في (( القول المسدد ))ص: 82 - قال : حدثنا سفيان عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن زياد عن ابن عياش ( الأصل : عباس ) به .(1/11)
قلت : و هذا إسنادٌ ضعيف ، لأجل سفيان - شيح محمد بن علي ، الحكيم الترمذي - ، و هو : ابن وكيع بن الجراح ، ضعيف ، اتُّهِم ، و قد خالف في إسناده .
فقد رواه الطبرانيُّ في (( الأوسط)) ( رقم : 6593) ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ثنا خالد بن خداش ثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي النضر عن زياد مولى ابن عياش ( الأصل : عباس ) عن ابن عياش ( الأصل : عباس ) أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد
على قبر سعد بن معاذ فقال : (( لو نجا أحد من ضغطه القبر لنجا سعد ولقد ضم ضمة ثم رخي عنه ))
و قال : لم يرو هذا الحديث عن أبي النضر إلا عمرو بن الحارث ، تفرد به ابن وهب .
قلت : و هذا إسناد حسن ، رجاله ثقات ، و خالد ثقة ربما وهم .
و أبو النضر ، هو : سالم بن أبي أمية ، و ابن عياش عُدَّ في الصَّحابة .
و قد توبع عمرو عليه ، تابعه :
-سعيد بن أبي هلال : ثقة : أخرجه يعقوب بن سفيان في (( المعرفة )) ( 1/ ) ، - و من طريقه : ابن عساكر في (( تاريخه )) (19/236 ) - قال : حدثني أبو صالح
حدثني الليث حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي النضر عن زياد مولى ابن عياش عن ابن عياش : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قعد على قبر سعد بن معاذ ثم
استرجع فقال : (( لو نجا أحد من فتنة القبر أو ألمه أو ضمه لنجا سعد بن معاذ لقد
ضم ضمَّةً ثمَّ رُخِّيَ عنه)) .
قلت : و هذا سندٌ صالح جداًّ ، رجاله ثقات ، سوى أبي صالح ففيه كلام معروف ؛ لكن رواية الأئمة الحفاظ المتقنين عنه جيدة ، كما حرره ابن حجر في " مقدمة الفتح )) ، و الراوي عنه هنا : يعقوب الفسوي الإمام الناقد .
و على كلٍّ ، فهذه متابعة قوية لرواية ابن وهب .(1/12)
و تابعهما ابن لهيعة : فقد رواه الطبراني في (( الكبير )) ( رقم : 12975 ) ، قال : (( حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ثنا حسان بن غالب ثنا ابن لهيعة عن أبي النضر المديني عن زياد مولى مولى ابن عياش ( الأصل : عباس ) عن ابن عياش ( الأصل : عباس ) رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم توفي سعد بن معاذ وقف على قبره ثمَّ استرجع ثم قال : (( لو نجا من ضغطة القبر أحد لنجا سعد لقد ضغط ثم رخى عنه)).
و في إسناده حسان هذا : واهٍ ، و ابن لهيعة حاله معروفة .
الحديث الخامس : عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((صلى على صبي أو صبية قال لو نجا أحد من ضيقة أو ضغطة القبر لنجا هذا الصبي )).
أخرجه عبد الله بن أحمد في (( السنة )) ( رقم : 1435 ) و أبو يعلى في (( مسنده الكبير )) - كما في (( المطالب العالية )) ( 5 / 67 )و (( إتحاف الخيرة )) (3/270 ) - و الضياء في (( المختارة )) ( رقم : 1824 و 1825 و 1826 ) من طريق إبراهيم بن الحجاج الناجي نا حماد بن سلمة عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن انس به .
قلت : و هذا إسناد جيد ، إبراهيم ثقة ، و ثمامة صدوق .
و قال ابن حجر : إسناده صحيح ( المطالب 5/97 ) .
و قال البوصيري : رجاله ثقات ( إتحاف الخيرة المهرة 3/270) .
قلت توبع إبراهيم عليه ، تابعه :
1 ـ وكيع : أخرجه عبد الله بن أحمد ( رقم : 1434 ) حدثني أبي ، حدثنا وكيع به .
2و3 ـ و المؤمل بن إسماعيل و العلاء بن عبد الجبار - كما في (( المختارة )) (5/201) - .
المؤمّل : صدوقٌ سيئُ الحفظ ، و العلاءُ : صدوق .
4و5 ـ و حرمي بن عمارة - و هو : صدوق ، يقع منه الوهم قليلا - و سعيد بن عاصم اللخمي - شيخٌ بصريٌّ - ، ذكره عنهما الدَّارَقطني ، ثم قال : (( وخالفهما وكيع وأبو عمر الحوضي روياه عن حماد عن ثمامة مرسلا ، وهو الصحيح )) .
قلت : فالظاهر أنه اختلف على وكيع ، فما وافق فيه الأكثر - وهم خمسة رواة(1/13)
الغالب عليهم الصدق - هو الأصحّ ، و الله أعلم.
و أماالمراسيل :
فالأول : عن ابن أبي مليكة قال : (( ما أجير من ضغطه القبر ولا سعد بن معاذ الذي منديل من مناديله خير من الدنيا وما فيها ما رأيناك صنعت هكذا قط قال إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة فدعوت الله أن يرفه عنه ذلك وذلك أنه كان لا يستبرىء من البول )) .
أخرجه هناد في (( الزهد )) (رقم:356 ) ، قال : حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن ابن أبي مليكة به .
و إسناد المرسل : حسن ، و هو مرسل كبير فابن أبي مليكة أدرك ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
و الثاني : عن محمد بن شرحبيل قال : (( اقتبض يومئذ إنسان قبضة من تراب ففتحها فإذا هي مسك ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سبحان الله سبحان الله حتى عرف ذلك في وجهه ثم قال : الحمد لله لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا منها سعد بن معاذ ولقد ضم ضمة ثم فرج الله عنه " .
أخرجه إسحاق بن راهويه في (( مسنده )) (رقم :1127 ) - و من طريقه : أبو نعيم في " معرفة الصحابة )) ( رقم : 697 ) دون موضع الشاهد - من طريق محمد بن بشر عن محمد بن عمرو حدثني محمد بن المنكدر عن محمود بن شرحبيل به .
و أخرج الجملة الأولى منه : ابن سعد (3/433) من طريق محمد بن عمرو عن محمد بن المنكدر عن محمد بن شرحبيل بن حَسَنَةَ أنَّ رجلاً أخذَ قبضةً ..
و إسنادُ المرسل :صحيحٌ إلى محمَّدٍ ، لكنَّ محمَّداً هذا في معرفته بعضُ النَّظر .
فقد أخرجه ابن مندة في (( معرفة الصحابة " - كما في (( الإصابة )) (6/339 ) - طريق عبيد الله بن موسى التيمي عن المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه [ عن محمد بن شرحبيل ] قال (( أخذت قبضة من تراب قبر سعد بن معاذ فوجدت منه ريح المسك)) .(1/14)
قلت : و بناءً على هذا الأثر عدَّه أبو نعيم في الصحابة ( 1/196)، و قد تعقبه ابن حجر بقوله : (( قلت : ليس في الأمر الذي ذكره ما يتمسك بكونه صحابيا لأن شم تراب القبر يتأتى لمن تراخى زمانه بعد الصحابة ومن بعدهم)) ( الإصابة 6/339 ).
قلت : لا يحتاجُ إلى هذا التأويل ، فالإسناد ضعيف ، لضعف المنكدر بن محمد ، و
الصواب فيه أنه عن محمد بن شرحبيل أن رجلا ..
و أما محمد بن شرحبيل ، فقد قال أبو نعيم : (( الصحيح : محمود بن شرحبيل ،
أخرج عنه هذا الحديث ، ثم ذكر حديث محمد بن عمرو عن محمد بن المنكدر ))اهـ قلت : لم أجد من ترجمه بترجمة مفردة سوى بعض من صنف في الصحابة ، و أقل أحواله أن يكون تابعيا كبيرا ، حالهُ مستورةٌ .
و بعد هذا ؛ فلا شكَّ عندي أن هذا الإسناد صالحٌ للاعتبار ، فمرسله كبيرٌ ، محمدُ بنُ المنكدر سمعَ جماعةً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و شيوخه في التابعين ثقاتٌ ، و قد قال يعقوب بن شيبة : صحيح الحديث جدّاً ، و قال ابن عيينة :لم يُدرك أحدا أجدر أن يقبل الناس منه إذا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه .
قلت : فروايته عن محمد بن شرحبيل تقويه و ترفعه ، و الله أعلم.
و الثالث : عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - حين دفن سعد بن معاذ - : (( أنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة فدعوت الله أن يرفعه عنه وذلك أنه كان لا
يستبرىء من البول )) .
أخرجه هناد ( رقم : 357 ) و البيهقي عن ابن فضيل عن أبي سفيان عن الحسن به . و إسناد المرسل : ضعيف ، لحال أبي سفيان فهو ضعيف عند جماعة أهل الحديث ؛ لكن قال ابن عدي : (( روى عنه الثقات ، و إنما أنكر عليه في متون الأحاديث أشياء لم يأت بها غيره ، و أما أسانيده فهي مستقيمة ))اهـ .
قلت : و لعل من جملة منكراته قوله : (( وذلك أنه كان لا يستبرىء من البول ))، و لا تنفعه رواية أبي معشر الآتية ، فهما من بابة واحدة .(1/15)
و الرابع :عن سعيد المقبري قال لما دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعدا قال(( لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد ولقد ضم ضمة اختلفت منها أضلاعه من أثر البول )).
أخرجه ابن سعد (4/430) قال : أخبرنا شبابة بن سوار قال أخبرني أبو معشر عن سعيد المقبري به .
و إسناد المرسل :ضعيف ، لأجل أبي معشر .
و الخامس : عن جعفر بن برقان قال بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو قائم عند قبر سعد (( لقد ضغط ضغطة أو همز همزة لو كان أحد ناجيا منها بعمل لنجا منها سعد )).
أخرجه ابن سعد (4/430) قال : أخبرنا كثير بن هشام قال أخبرنا جعفر بن برقان به .
و إسناده صحيح إلى جعفر ، لكنه معضل ، و جعفرُ :صدوقٌ .
خاتمة :
فتحصل ممّا ذكرنا أن الحديث ثابت من رواية جمع من الصحابة ، بألفاظ مختلفة ،
فضمُّ القبر لمعاذ ثابث من حديث ابن عمر و عائشة و جابر و ابن عياش ، و المراسيل التي في الباب تقويه ـ فبعضها صحيح ـ ، و أما إثبات الضمة مطلقا بلفظ : إن للقبر ضمة ، فثابت من حديث عائشة و ابن عياش و أنس و بعض المراسيل .
و الحديث بشقيه المذكورين : قد صححه جمعٌ من أهل العلم ـ كما قدمنا ـ
و أختم هذا الجزء بمقالة الذهبيِّ في ترجمة سعد ، قال - رحمه الله تعالى و رضي عنه و عن شيخه ابن تيمية - : (( قلت : هذه الضمة ليست من عذاب القبر في شيء بل هو أمر يجده المؤمن كما يجد ألم فقد ولده وحميمه في الدنيا ، وكما يجد من ألم مرضه وألم خروج نفسه وألم سؤاله في قبره وامتحانه وألم تأثره ببكاء أهله عليه وألم قيامه من قبره وألم الموقف وهوله وألم الورود على النار ونحو ذلك فهذه الأراجيف كلها قد تنال العبد وما هي من عذاب القبر ولا من عذاب جهنم قط ولكن العبد التقي يرفق الله به في بعض ذلك أو كله ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه قال الله تعالى {وأنذرهم يوم الحسرة }وقال {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر } ، فنسأل الله(1/16)
تعالى العفو واللطف الخفي ومع هذه الهزات ، فسعد ممَّن نعلم أنه من أهل الجنة ، وأنَّه من أرفع الشهداء رضي الله عنه ، كأنك يا هذا تظنُّ أنَّ الفائز لا يناله هولٌ في الدَّارين ، ولا روعٌ ولا ألمٌ ولا خوفٌ سَلْ ربَّكَ العافيةَ ، وأن يحشرَنا في زُمرة سعد )) ( السير 1/290 -291 ) .
هذا ، و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحابته و سلم تسليما كثيرا إلى يوم الدِّين .
و كان آخرُ الانتهاءِ من تبييضِه بعدَ عِشاء يومِ السَّبت 27 من ذي الحجة 1420هـ ، و قد تمَّ بحثه على فترات متقطعة .
و كتب :
إبراهيمُ بنُ شريفٍ ، أبو تَيمِيَّةَ ، و أبو مُحَمَّدٍ المِيليُّ
عفا الله تعالى عنه و عن والديه و أهل و جميع المسلمين(1/17)