بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم تسليما
حفظ الله بمنه حضرة الشيخ الإمام، بهجة الأيام؛ المولى جمال الدين القاسمي...
أنهي لسيادتكم الكريمة من الثناء أوفره، ومن السلام أعطره، وأسأله تبارك وتعالى لكم كمال الترقي في معارج الصعود، والقيام بما أمرنا به مولانا جل ذكره في الصدور والورود.
وقد وصلتني رسالتكم البهية، ضمن "الأجوبة المرضية"، وقد طالعتها فإذا بالجمال أكساها من الحسن جلبابا، وأودعها من النفائس ما بهر به عقولا وألبابا، وفتح فيها للوصول إلى بناء الفروع على الأصول بابا فبابا. فجازاكم الله على الانتصار للسنة خيرا، ووقانا وإياك سوءا وضيرا...آمين.
إلا أنه ظهر لي فيه - بحسب فكري القاصر - بعض أغلاط وأوهام، وذلك مما لا يخلو عنه أحد من الأنام، وقديما قيل: "ليس الفاضل من لا تعد غلطاته، إنما الفاضل من تعد هفواته". ولعلمي بما أنتم عليه من حرية الضمير، والاتصاف بالإنصاف في ميدان التحرير، أردت عرض ذلك عليكم لعله يُلفي القبول لديكم، فما كان صوابا فاقبلوه، وما كان خطأ فاهملوه:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
1- فمنها: قولكم في الصحيفة (4)، في السطر الثاني: "ذهب الإمام الشافعي".
هذا يرد عليه ما أوردته على الكمال في ذكره مالكا بدون تفصيل، فإن النووي في "شرح مسلم" حكى عن أصحابهم في المسألة وجهين، أحدهما: لا يستحب، وأصحهما عند المحققين يُستحب. فكان الأولى تتميم النقل.
على أنه عبر بقوله: "وفي المسألة وجهان لأصحابنا"، وهذا يفيد أنهما لغير الشافعي، لأن الوجه عندهم هو: قول غير الشافعي من أهل مذهبه. ولم أر من ذكر الشافعي لا مع من نفى ولا مع من أثبت، فكان الأولى حذف الشافعي والتعبير ببعض الشافعية.
ثم رأيت الحافظ في "الفتح" ذكر الشافعي في جانب من نفى. فإن أريد أن الإثبات قول له باعتبار قوله: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، فكان يجب البيان.(1/1)
وعبارة النووي في "شرح مسلم" ما نصه: "وفي المسألة وجهان لأصحابنا، أشهرهما: لا يستحب، وأصحهما عند المحققين: يستحب. لهذه الأحاديث. وفي المسألة مذهبان للسلف، فاستحبهما [1] جماعة من الصحابة والتابعين، ومن المتأخرين: أحمد وإسحاق، ولم يستحبهما أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وآخرون من الصحابة، ومالك وأكثر الفقهاء، وقال النخعي: هي بدعة".هـ.
فانظر قوله: "وفي المسألة مذهبان للسلف"، فما أنصفه، لا كما فعل الكمال حيث ذكر السلف في جانب المنكرين فانتقدتم ذلك عليه. على أن الكمال عبر بقوله: "كثير من السلف"، فمفهومه أن من السلف من ذهب إلى مندوبيتهما، إلا أنهم قليلون. وهذا صحيح لا ارتياب فيه.
بل قال الإمام الحافظ أبو بكر ابن العربي – رحمه الله: "اختلف فيها الصحابة ولم يفعلها أحد بعدهم". لكنه تعقبه الحافظ في "الفتح" بأن محمد بن نصر روى فعلها عن جماعة من الصحابة والتابعين، فذكر من الصحابة خمسة، ومن التابعين ستة. ومثل هذا العدد من التابعين لا يخدش في كلام ابن العربي، لأن الحكم للغالب والنادر لا حكم له كما تقرر. فقول الحافظ: "إن كلام ابن العربي مردود"، غير متجه.
2- ومنها: قولكم في الصحيفة (5) في السطر 3: "الحديث الأول: رواه مسلم – أيضا – عن عبد الله بن مغفّل، فهو متفق عليه".
هذا – وإن قاله الخطيب التبريزي في "مشكاة المصابيح"، وأقره علي القاري عليه – ففيه نظر. فقد اقتصر على عزوه للبخاري فقط غير واحد من الحفاظ؛ منهم: ابن حجر، والنووي في "شرح مسلم"، بل قال العلامة الزرقاني في "شرح المواهب" ما نصه: "ولم يخرجه مسلم".هـ.(1/2)
وقد راجعت صحيح مسلم فلم أر له فيه ذكرا، إنما فيه حديث: "بين كل أذانين صلاة لمن شاء"، فهذا هو المتفق عليه، وأما: "صلوا قبل المغرب، ثم قال: صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء". كراهية أن يتخذها الناس سنة؛ فقد انفرد به البخاري. فمن قال: إنه متفق عليه. فقد وهم والتبس عليه أحد الحديثين بالآخر، حيث كان صحابيهما واحدا، وهو: عبد الله بن مغفّل.
3- ومنها: سلوككم مسلك الترجيح بين حديث ابن عمر وحديث أنس، مع أنه إنما يصار إلى الترجيح عند تعذر الجمع، ومتى أمكن الجمع؛ تعين المصير إليه، لما في ذلك من الأخذ بكلا الدليلين، والجمع هاهنا ممكن، وقول من قال: "عدم الرؤية لا تستلزم العدم"، غير ظاهر، بل عدم رؤية ابن عمر تستلزم العدم في الوقت الذي أخبر عنه، لأنه لا يخبر بعدم الرؤية إلا عن حضور ومشاهدة، ولا يصح أن يخبر بعدم الرؤية مع عدم حضوره.
ولهذا قال العلامة الزرقاني في "شرح المواهب" معترضا على مسلك من سلك الترجيح بين حديثي أنس وابن عمر بأن الأول مثبت والثاني ناف، والمثبت مقدم على النافي، لأن معه مزيد علم؛ ما نصه: "لكن هذا في غاية البعد، إذ ابن عمر لا شك أنه كان يصلي مع المصطفى، فلو واظبوا عليها لرآهم يوما من الدهر، فتعين الجمع بينه وبين إثبات أنس بأنهم فعلوها مدة، فلم يرهم ابن عمر لعذر منعه، ثم تركوها وابن عمر حاضر، فنفى رؤيته. ولا يصح أن ينفيهما مع عدم حضوره، لأنه يكون من باب الحائط لا يبصر، ومعلوم أنه متى أمكن الجمع تعين المصير إليه". انتهى كلامه. فابن عمر أخبر عما رأى، وأنس أخبر عما رأى، فلا تعارض بينهما كما هو الظاهر.
4- ومنها: تصريحكم بأن ما سكت عنه [2] أبو داود محتمل للصحة والحسن والضعف، فلا يُجزم فيه بواحد منها.
فيه نظر؛ وهو أنه إذا صححه غيره أو حسنه أو تعقبه فإنه يجزم فيه بذلك. فسكوته عنه لا ينافي تصحيح غيره أو تحسينه له جزما.(1/3)
على أن كون ما سكت عنه محتملا لما ذكر ليس على إطلاقه، وفي كل حديث سكت عنه، فإن المسكوت عنه قد يكون في الصحيحين معا، أو في أحدهما، فهل يقال فيه: "إنه محتمل للثلاثة؟"، كلا.
وقد يكون ليس فيهما ولكنه صححه غيره من الأيمة المعتمدين أو حسنه، أفيقال فيه: إنه محتمل؟. لا لا.
وقد يكون ما سكت عنه مما ضعفه غيره، وهذا نادر الوجود في كتابه، ومع ذلك يرتقي إلى الحسن بمقوياته فيكون حسنا لغيره.
وحينئذ؛ فما وجد في كتابه مسكوتا عنه ولم يكن بأحد الصحيحين، ولا صححه غيره من المعتمدين ولا ضعفه؛ فهو حسن عنده.
وحينئذ؛ فالحديث المذكور حسن عند أبي داود إذا لم يضعفه أحد من الحفاظ، بل منهم من حسنه. على أن ابن مَندة وابن السكن أطلقا الصحة على جميع ما في سنن أبي داود، ووافقهما الحاكم.
واعلم أن ما سكت عنه فيه أقوال:
أحدها: قول ابن عبد البر: أنه صحيح عنده، سيما إن لم يكن في الباب غيره.
ثانيها: قول ابن الصلاح أنه: حسن.
ثالثها: قول المنذري: لا ينزل عن درجة الحسْن. ونحوه قول النووي: "ما رواه في سننه ولم يذكر ضعفه، هو عنده صحيح أو حسن".
رابعها: حسن إن لم يكن في أحد الصحيحين، ولم يصححه غيره من المعتمدين ولا ضعفه. ذكره بعض مشايخنا.
خامسها: قول الذهبي: "ما سكت عنه لا يكون حسنا عنده ولا بد، بل قد يكون فيه ضعف".
فهذه أقوال خمسة في ما سكت عنه أبو داود، وظهر من حكاية هذه الأقوال أن الحديث المذكور حسن أو صحيح على الأربعة الأول، ومحتمل للضعف على القول الخامس، وأي قوة تعادل قوة ما اتفق عليه أربعة أقوال وكان محتملا للضعف على قول؟.(1/4)
وقد أشعر كلامكم بالحط من مرتبة سنن أبي داود، وذلك مما لا يليق بكم ولا ينبغي صدوره عنكم، فقد أثنى عليها غير واحد من الحفاظ والأيمة، وعلى صاحبها، حتى قال إسماعيل الهروي: "سنن أبي داود عندي أنفع من كتابي البخاري ومسلم، لأنهما لا يقف على الفائدة منهما إلا المتبحر العالم، وهو يصل إلى الفائدة منه كل أحد من الناس". هـ.
وقال بعض الأعلام: "سننه أصل الأحكام، وصار لأهل الحديث كالمصحف". وحسبك ما ذكروه من أنه عرضه على الإمام أحمد فاستحسنه واستجاده، فهي شهادة وأي شهادة.
بل نقل غير واحد عن أبي العلاء الوادري قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: من أراد أن يتمسك بالسنن فليقرأ سنن أبي داود". فرضي الله عنه وأرضاه، وعن الإسلام وأهله خير الجزاء جازاه، بمنه وكرمه...آمين.
5- [4] ومنها: قولكم أن اعتماد أثر ابن عمر يشعر بتقليده فيه.
فهذا ساقط؛ لأن ابن عمر لم يقله من عند نفسه، بل أسنده إلى عهده صلى الله عليه وسلم، فهو في حكم المرفوع، وليس هذا تقليدا للصحابي بحال. فتأمله.
6- ومنها: قولكم أن أثر ابن عمر موقوف.
فيه نظر؛ بل هو في حكم المرفوع، لقوله فيه: "في عهد النبي صلى الله عليه وسلم"، وقد نص الأصوليون على أن ذلك من قبيل المرفوع، إلا أنه دون المرفوع في الرتبة، ونصوصهم حاضرة لديك فلا نطيل بسردها عليك.
7- ومنها: قولكم في صحيفة (21)، في السطر 10: "لأن حمادا لم يدرك...". إلخ.
صوابه: لأن النخعي لم يدرك. لأن حمادا روى ذلك عن النخعي.
8- ومنها: قولكم أن أكابر الصحب – كالشيخين – قد يتركون الشيء ترخصا مع معرفتهما مشروعيته.(1/5)
هذا ظاهر فيما إذا كان الترك في بعض الأحيان. أما الترك على سبيل المواظبة والاستمرار فلا يدل على الترخّص. بل الظاهر – وهو ما نص عليه القرافي في "الذخيرة" ونقله شراح "المختصر" في سجود التلاوة عند قوله: "لا ثانية الحج والنجم والانشقاق والقلم"..فليراجع – دلالته على النسخ، فإنهم لا يواظبون على الترك مع شدة عنايتهم بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله، وكثرة عباداتهم؛ إلا لما قام عندهم من الدليل الظاهر على نسخه.
ولذلك قال بعض أصحابنا المالكية: "إن أحاديث سنة المغرب القبلية منسوخة"، وتعقبه النووي فقال: "إن دعوى النسخ لا دليل عليها"، وهذا تعقب ساقط لما قدمناه.
وقد قال العلامة الزرقاني في "شرح المواهب": "وقول بعضهم: لو ثبت ما روي عن الخلفاء وغيرهم من تركها، لم يكن دليلا على نسخ ولا على كراهة، لاحتمال أنهم منعهم الشغل كما منع عقبة. فيه ما فيه، لأن الشغل لا يقتضي المواظبة على الترك مع كثرة عباداتهم مع أشغالهم". اهـ.
9- ومنها: قولكم: "إن القائل بالكراهة استند في ذلك لرأي رآه منابذا للأثر".
وهذا تشنيع عجيب، وكيف يصح أن ينسب لمسلم التمسك بمجرد الرأي المنابذ للأثر، ومعارضة الأحاديث الصحيحة به. {سبحانك هذا بهتان عظيم}؟.(1/6)
وقد استدل أصحابنا المالكية للكراهة بمخالفة عمل أهل المدينة، وهو حجة عندنا، خلافا لمن أنكره، بل هو عندنا مقدم على خبر الآحاد، لأنه لا يفيد إلا الظن، ولا كذلك العمل، فإنه يفيد القطع؛ لأنه في معنى المتواتر. والعمل الذي نقول بحجيته هو: عمل أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، ولا شك أن عمل تابع التابعين متلقى عن التابعين، وهو متلقى عن الصحابة. فمن ثم كان في معنى المتواتر. ولا يرد على ما ذكرناه من العمل كون بعض أفراد أهل المدينة على خلافه؛ فإن العبرة عندنا بالغالب، والنادر لا حكم له. والله أعلم..
17 صفر، عام 1327...
(انتهت الرسالة المباركة من خط راقمها الإمام أبي زيد عبد الرحمن بن جعفر بن إدريس الكتاني الحسني الإدريسي، المتوفى رحمه الله تعالى عن سبعة وثلاثين عاما فقط، سنة 1334، وكتبه حفيد حفيد أخي المؤلف الشريف حمزة بن علي بن محمد المنتصر بالله بن محمد الزمزمي بن محمد بن جعفر الكتاني. غفر الله له بمنه وكرمه).(1/7)