بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / تَذْكِرَةُ السَّامِعِ والمُتَكَلِّم في أَدَب العَالِم والمُتَعَلِّم
المؤلف / الشيخ العالم بدر الدين أبو عبد الله
محمد بن إبراهيم بن سعد الله
ابن جماعة الكناني
المتوفى سنة 733هـ
عدد الأجزاء / 1
مكتبة مشكاة الإسلامية(1/1)
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد:
فإن الله تعالى قد خلق الناس في هذه الدار متفاوتين خلقًا وخُلقًا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات فَمَنَّ على أهل الاستقامة بالدرجات العلى، حيث كَرُمَ أدبهم، وحَسُنَ خلقهم. ولذلك كان أتقى الخلق - صلى الله عليه وسلم - أحسنهم خلقًا. يقول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقًا" فكان أحسن الناس خلقًا مع الله، وكان أحسن الناس خلقًا مع عباد الله.
وخيار المؤمنين أحسنهم أخلاقًا، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا)".
والمرء في طريق سيره إلى الله تعالى لابد له من علم نافع صحيح يبصره الحق ويهديه الطريق، وعمل صالح يستعين به على قطع الطريق.
وعلى قدر قوة علم الإنسان وقوة عمله تكون سرعته في سلوك هذا الطريق، وسهولته عليه، والأدب ملازم للعلم النافع والعمل الصالح. ولا يخفى ما فضل الله تعالى به العلم وأهله العاملين به، الداعين إليه، فالعلم نور يهدي به الله من شاء من خلقه إلى صراطه المستقيم، والعلماء هم ورثة الأنبياء، فإذا كان الناس أمواتًا فإن العلماء أحياء.
مَا الفَخْرُ إلا لأَهْلِ العِلْمِ إنَّهُمُ
وقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كان يُحْسِنُهُ
فَفُزْ بِعِلْمٍ تِعِشْ حَيًّا بِه أَبَدا
على الهُدَى لِمَن اسْتَهْدَى أَدِلاَّءُ
والجَاهِلُون لأَهْلِ العِلْمِ أَعْدَاءُ
النَّاسُ مَوْتى وأَهْلُ العِلْمِ أَحْيَاءُ
(1/1)(1/2)
لذلك فإن العلماء وطلبة العلم هم أولى الناس وأحقهم بالأدب وحسن الخلق؛ لأنهم أعلم الناس بالحق، ولمكانهم بين الخلق حيث ينظر الناس إليهم نظرة خاصة، فإن أحسنوا كان ذلك سببًا لمحبة الناس لهم وقبول الحق منهم، وإن أساءوا كان ذلك سببًا لبعد الناس عنهم وكراهية ما هم عليه من الهدى.
يا أيها الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى
اِبدَأْ بِنَفسِكَ فَانْهَهَا عَن غَيِّهَا
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقتَدَى
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ
هَلاَّ لِنَفسِكَ كان ذَا التَّعلِيمُ
كَيمَا يَصِحّ بِهِ وَأَنتَ سَقِيمُ
فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنتَ حَكِيمُ
بِالقَوْلِ مِنْكَ ويُقْبَلُ التَّعلِيمُ
عَارٌ عَلَيكَ إِذَا فَعَلتَ عَظِيمُ
ولقد اهتم العلماء الربانيون، والأئمة المهديون بتعليم العلم والأدب جميعًا؛ لأن المقصود الأعظم من العلم هو العمل به، والتقرب إلى الله تعالى بمقتضى هذا العلم. وليس المقصود أن يكون الإنسان مجرد مخلاة للعلوم، فكم من إنسان حوى من العلوم ما لا يعلمه إلا الله، فهو يسرد الأدلة سردًا، ويؤصل المسائل تأصيلاً، لكنه سيئ الخلق قليل الأدب، فهذا قد يكون سببًا في إعراض الناس عن الهدى، وكراهيتهم للحق.
وكم من إنسان ليس عنده من العلم إلا ما يبصره طريق الحق، لكنه على خلق حسن وأدب قويم، تراه مشمرًا عن ساعد الجد، مجتهدًا في العمل تقربًا إلى الله تعالى، داعيًا إليه، مجاهدًا في سبيله، مقيمًا للسنة، مميتًا للبدعة، تجده قانتًا خاشعًا، أسبق الناس إلى الخير وأبعدهم عن الشر، يُهْتَدى بِسَمْتِهِ وإن كان صامتًا.
وهناك أقوام امتن الله عليهم بهمة عالية، يطلبون المجد والعلا في كل ما يرضي الله تعالى، الحكمة ضالتهم، أنى وجدوها بادروا إليها واغتنموها، فهؤلاء ينظرون إلى من فوقهم علمًا وأدبًا فيتعلمون من علمهم ويتخلقون بأخلاقهم.
(1/2)(1/3)
مَنْ شَاءَ عَيْشًا هَنِيئًا يَسْتَفيدُ بِهِ
فَلْيَنْظُرَنَّ إلى مَنْ فَوْقَهُ أَدَبًا
في دِينِهِ ثُمَّ في دُنْيَاهُ إقْبَالا
وَلْيَنْظُرَنَّ إلى مَنْ دُونَهُ مَالا
ومن المصنفات النافعة جدًا لطلبة العلم والعلماء في هذا الباب كتاب "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العلم والمتعلم" لابن جماعة رحمه الله، فهو كتاب نفيس جمع آدابًا كريمة، ينبغي لأهل العلم التحلي بها، وأشار إلى أخطاء منكرة ينبغي أن يتنزهوا عنها.
وهذا الكتاب وغيره من كتب الآداب والأخلاق التي صنفها علماء الإسلام، ينبغي لطلبة العلم والعلماء مذاكرتها والنظر فيها، وخاصة كتب السلف الصالح فإنهم كانوا أخلص قلوبًا، وأصدق بيانًا، وأعظم أدبًا وامتثالاً.
والله تعالى نسأل أن يَمُنَّ علينا وعلى سائر المسلمين بحُسْنِ الخُلُق
وصَلِّ اللهم وسَلِّم وبارِك على عبدِكَ ورسولِكَ مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبهِ أجمعين
محمود بن محمد العبد
- - -
مقدمة المصنف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه توفيقي
الحمد لله البر الرحيم، الواسع العليم، ذي الفضل العظيم، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد النبي الكريم، المنزل عليه في الذكر الحكيم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وعلى آله وأصحابه الكرام جواره في دار النعيم.
أما بعد، فإن من أهم ما يبادر به اللبيب شرخ شبابه ويدئب نفسه في تحصيله واكتسابه حسن الأدب الذي شهد الشرع والعقل بفضله، واتفقت الآراء والألسنة على شكر أهله، وإن أحق الناس بهذه الخصلة الجميلة وأولاهم بحيازة هذه المرتبة الجليلة أهل العلم الذين جلوا به ذروة المجد والسناء وأحرزوا به قصبات السبق إلى وراثة الأنبياء لِعِلْمهم بمكارم أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآدابه وحسن سيرة الأئمة الأطهار من أهل بيته وأصحابه وبما كان عليه أئمة علماء السلف واقتدى بهديهم فيه مشايخ الخلف.
(1/3)
قال ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهدى كما يتعلمون العلم.(1/4)
وقال الحسن: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين.
وقال سفيان بن عيينة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الميزان الأكبر وعليه تعرض الأشياء على خلقه وسيرته وهديه فما وافقها فهو الحق وما خالفها فهو الباطل.
وقال حبيب بن الشهيد لابنه: يا بني اصحب الفقهاء والعلماء وتعلم منهم وخذ من أدبهم؛ فإن ذلك أحب إليّ من كثير من الحديث.
وقال بعضهم لابنه: يا بني لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم.
وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث.
وقيل للشافعي رضي الله عنه: كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعًا فتنعم به. قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره.
ولما بلغت رتبة الأدب هذه المزية وكانت مدارك مفضلاته خفية دعاني ما رأيته من احتياج الطلبة إليه وعسر تكرار توقفهم عليه، أما الحياء فيمنعهم الحضور، أو الجفاء فيورثهم النفور، إلى جمع هذا المختصر مذكرًا للعالم ما جُعِل إليه ومنبهًا للطالب على ما يتعين عليه وما يشتركان فيه من الأدب وما ينبغي سلوكه في مصاحبة الكتب، ثم أدب من سكن المدارس منتهيًا أو طالبًا لأنها مساكن طلبة العلم في هذه الأزمنة غالبًا.
وجمعت ذلك مما اتفق في المسموعات أو سمعته من المشايخ السادات أو مررت به في المطالعات أو استفدته في المذاكرات وذكرته محذوف الأسانيد والأدلة كيلا يطول على مطالعه أو يمله.
وقد جمعت فيه بحمد الله تعالى من تفاريق آداب هذه الأبواب ما لم أره مجموعًا في كتاب وقدمت على ذلك بابًا مختصرًا في فضل العلم والعلماء على وجه التبرك والاقتداء.
وقد رتبته على خمسة أبواب تحيط بمقصود الكتاب:
الباب الأول: في فضل العلم وأهله (وشرف العالم ونسله).
(1/4)
الباب الثاني: في آداب العالم في نفسه ومع طلبته ودرسه.
الباب الثالث: في أدب المتعلم في نفسه ومع شيخه ورفقته ودرسه.
الباب الرابع: في مصاحبة الكتب وما يتعلق بها من الأدب.
الباب الخامس: في آداب سكنى المدارس وما يتعلق به (من النفائس).
وقد سميته "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم"، والله تعالى يوفقنا للعلم والعمل ويبلغنا من رضوانه نهاية الأمل.(1/5)
الباب الأول في فضل العلم والعلماء
وفضل تعليمه وتعلمه
الباب الأول
في فضل العلم والعلماء وفضل تعليمه وتعلمه
قال الله تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة: 11] قال ابن عباس: العلماء فوق المؤمنين مائة درجة ما بين الدرجتين مائة عام.
قال تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ } [آل عمران: 18] الآية. بدأ سبحانه بنفسه وثَنَّى بملائكته وثَلَّثَ بأهل العلم وكفاهم ذلك شرفًا وفضلاً وجلالة ونبلاً.
وقال تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9]، وقال تعالى: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43]. وقال تعالى: { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43]، وقال تعالى: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [العنكبوت: 49]، وقال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28]، وقال تعالى: { أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } [البينة: 7] إلى قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [البينة: 8].
فاقتضت الآيتان أن العلماء هم الذين يخشون الله تعالى وأن الذين يخشون الله تعالى هم خير البرية فينتج أن العلماء هم خير البرية.
(1/5)(1/6)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: العلماء ورثة الأنبياء وحسبك هذه الدرجة مجدًا وفخرًا وبهذه الرتبة شرفًا وذكرًا فكما لا رتبة فوق رتبة النبوة فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة.
وعنه - صلى الله عليه وسلم - لما ذُكِرَ عنده رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.
وعنه - صلى الله عليه وسلم -: من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضى الله عنه وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ واف.
واعلم أنه لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء له وتضع له أجنحتها، وأنه لَيُنَافَسُ في دعاء الرجل الصالح أو مَنْ يُظَنُّ صلاحه فكيف بدعاء الملائكة، وقد اختلف في معنى وضع أجنحتها فقيل: التواضع له، وقيل: النزول عنده والحضور معه، وقيل: التوقير والتعظيم له، وقيل: معناه تحمله عليها فتعينه على بلوغ مقصده.
وأما إلهام الحيوانات بالاستغفار لهم فقيل: لأنها خلقت لمصالح العباد ومنافعهم والعلماء هم الذين يبينون ما يحل منه وما يحرم ويوصون بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها.
وعنه - صلى الله عليه وسلم - يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء، قال بعضهم: هذا مع أن أعلى ما للشهيد دمه وأدنى ما للعالم مداده.
وعنه - صلى الله عليه وسلم - ما عُبد الله بشيء أفضل من فقه في دين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
(1/6)(1/7)
وعنه - صلى الله عليه وسلم - يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. وفي حديث: يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء، وروى: العلماء يوم القيامة على منابر من يوم.
ونقل القاضي حسين بن محمد رحمه الله في أول تعليقه أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من أحب العلم والعلماء لم تكتب عليه خطيئة أيام حياته.
قال: وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: من أكرم عالمًا فكأنما أكرم سبعين نبيًا ومن أكرم متعلمًا فكأنما أكرم سبعين شهيدًا، وأنه قال: من صلى خلف عالم فكأنما صلى خلف نبي ومن صلى خلف نبي فقد غفر له.
ونقل الشرمساحي المالكي في أول كتابه نظم الدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من عظم العالم فكأنما يعظم الله تعالى ومن تهاون بالعالم فإنما ذلك استخفاف بالله تعالى وبرسوله.
وقال علي رضي الله عنه: كفى بالعلم شرفًا أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذمًا أن يتبرأ منه من هو فيه. وقال بعض السلف: خير المواهب العقل وشر المصائب الجهل. وقال أبو مسلم الخولاني: العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا بدت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عليهم تحيروا.
وقال أبو الأسود الدؤلي: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.
وقال وهب: يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيًا، والعز وإن كان مهينًا، والقرب وإن كان قصيًا، والغنى وإن كان فقيرًا، والمهابة وإن كان وضيعًا.
وعن معاذ رضي الله عنه: تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وبذله قربة وتعليمه من لا يعلمه صدقة.
وقال الفضيل بن عياض: عالم معلم يدعى كثيرًا في ملكوت السماء.
(1/7)(1/8)
وقال سفيان بن عيينة: أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء ـ وقال أيضًا: لم يعط في الدنيا شيئًا أفضل من النبوة، وما بعد النبوة شيء أفضل من العلم والفقه، فقيل: عمن هذا؟ قال: عن الفقهاء كلهم.
وقال سهل: من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء فاعرفوا لهم ذلك.
وقال الشافعي رضي الله عنه: إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء الله فليس لله ولي.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة.
وعن سفيان الثوري والشافعي رضي الله عنهما: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
وعن الزهري رحمه الله: ما عُبد الله بمثل الفقه.
وعن أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعًا، وباب من العلم نعلمه عُمِلَ به أو لم يُعْمَلْ أحب إلينا من مائة ركعة تطوعًا.
وقد ظهر بما ذكرناه أن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوافل العبادات البدنية من صلاة وصيام وتسبيح ودعاء ونحو ذلك؛ لأن نفع العلم يعم صاحبه والناس والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها؛ ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات فهي تفتقر إليه وتتوقف عليه ولا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه، وغيره من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن في بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة.
- - -
فصل
واعلم أن جميع ما ذُكِرَ من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم، لا من طلبه بسوء نية أو خبث طوية أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب.
(1/8)(1/9)
فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يكاثر به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار. أخرجه الترمذي.
وعنه - صلى الله عليه وسلم -: من تعلم علمًا لغير الله أو أراد به غير وجه الله فليتبوأ مقعده من النار. رواه الترمذي.
وروي من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة. أخرجه أبو داود.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة, وذكر الثلاثة، وفيه رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها قال: تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت؛ ولكن تعلمت ليقال عالم، وقرأت ليقال قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. أخرجه مسلم والنسائي.
وعن حماد بن سلمة: من طلب الحديث لغير الله تعالى مكر به.
وعن بشر: أوحى الله إلى داود لا تجعل بيني وبينك عالمًا مفتونًا فيصدك بشك عن محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي.
- - -
الباب الثاني في أدب العالم في نفسه
ومراعاة طالبه ودرسه
الباب الثاني
في أدب العالم في نفسه ومراعاة طالبه ودرسه
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في آدابه في نفسه
وهو اثنا عشر نوعًا:
النوع الأول:
دوام مراقبة الله تعالى في السر والعلن والمحافظة على خوفه في جميع حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله فإنه أمين على ما أودع من العلوم وما منح من الحواس والفهوم، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنفال:27]، وقال تعالى: { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [المائدة: 44].
(1/9)(1/10)
وقال الشافعي: ليس العلم ما حُفِظَ, العلم ما نَفَعَ. ومن ذلك دوام السكينة، والوقار والخشوع والتواضع لله والخضوع.
ومما كتب مالك إلى الرشيد: إذا علمت علمًا فَلْيُرَ عليك علمه وسكينته وسمته ووقاره وحلمه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: العلماء ورثة الأنبياء.
وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار.
وعن السلف: حق على العالم أن يتواضع لله في سِرِّه وعلانيته ويحترس من نفسه ويقف على ما أشهر عليه.
الثاني:
أن يصون العلم كما صانه علماء السلف ويقوم له بما جعله الله تعالى له من العزة والشرف فلا يذله بذهابه ومشيه إلى غير أهله من أبناء الدنيا من غير ضرورة أو حاجة أو إلى من يتعلمه منه منهم وإن عظم شأنه وكبر قدره.
قال الزهري: هَوَانٌ بالعلم أن يحمله العالم إلى بيت المتعلم، وأحاديث السلف في هذا النوع كثيرة، وقد أحسن القائل أبو شجاع الجرجاني:
لأَخْدِمَ من لاقيت لكن لأُخْدَما
إذًا فاتباعُ الجهل قد كان أَحْزَما
ولو عظموه في النفوس لعظما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلة
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
فإن دعت حاجة إلى ذلك أو ضرورة أو اقتضته مصلحة دينية راجحة على مفسدة بذله وحسنت فيه نية صالحة فلا بأس به إن شاء الله تعالى وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض أئمة السلف من المشي إلى الملوك وولاة الأمر كالزهري والشافعي وغيرهما لا على أنهم قصدوا بذلك فُضُول الأغراض الدنيوية وكذلك إذا كان المَأْتيُّ إليه من العلم والزهد في المنزلية العَلِيَّة والمحل الرفيع فلا بأس بالتردد إليه لإفادته فقد كان سفيان الثوري يمشي إلى إبراهيم بن أدهم ويفيده وكان أبو عبيد يمشي إلى علي بن المديني يُسْمِعه غريب الحديث.
الثالث:
(1/10)(1/11)
أن يتخلق بالزهد في الدنيا والتقلل منها بقدر الإمكان الذي لا يضر بنفسه أو بعياله فإن ما يحتاج إليه لذلك على الوجه المعتدل من القناعة ليس يُعَدُّ من الدنيا وأقل درجات العالم أن يستقذر التعلق بالدنيا لأنه أعلم الناس بخستها وفتنتها وسرعة زوالها وكثرة تعبها ونَصَبِهَا فهو أحق بعدم الالتفات إليها والاشتغال بهمومها.
وعن الشافعي رضي الله عنه: لو أوصى إلى أعقل الناس صرف إلى الزهاد فليت شعري من أحق بالعلماء بزيادة العقل وكماله.
وقال يحيى بن معاذ: لو كانت الدنيا تِبْرًا يفنى والآخرة خَزَفًا يبقى لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني فكيف والدنيا خزفٌ فانٍ والآخر تِبْرٌ باقٍ.
الرابع:
أن ينزه علمه عن جعله سلمًا يتوصل به إلى الأغراض الدنيوية من جاه أو مال أو سمعة أو شهرة أو خدمة أو تقدم على أقرانه.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إليَّ حرف منه، وكذلك ينزهه عن الطمع في رفق من طلبته بمال أو خدمة أو غيرهما بسبب اشتغالهم عليه وترددهم إليه، كان منصور لا يستعين بأحد يختلف إليه في حاجة.
وقال سفيان بن عيينة: كنت قد أوتيت فهم القرآن فلما قَبِلْتُ الصرة من أبي جعفر سُلِبْتُهُ فنسأل الله تعالى المسامحة.
الخامس:
أن يتنزه عن دنى المكاسب ورذيلها طبعًا، وعن مكروهها عادة وشرعًا كالحجامة والدباغة والصرف والصياغة، وكذلك يتجنب مواضع التهم وإن بعدت ولا يفعل شيئًا يتضمن نقص مروءة أو ما يُسْتَنْكَرُ ظاهرًا وإن كان جائزًا باطنًا فإنه يُعَرِّضُ نفسه للتهمة وعرضه للوقيعة ويوقع الناس في الظنون المكروهة وتأثيم الوقيعة فإن اتفق وقوع شيء من ذلك لحاجة أو نحوها أخبر من شاهده بحلمه وبعذره ومقصوده كيلا يأثم بسببه أو يَنْفر عنه فلا ينتفع بعلمه وليستفيد ذلك الجاهل به.
(1/11)(1/12)
ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجلين لما رأياه يتحدث مع صفية فَوَلَّيَا: "على رسلكما إنها صفية"، ثم قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فَخِفْتُ أن يقذف في قلوبكما شيئًا" أو قال: "فتهلكا".
السادس:
أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام كإقامة الصلاة في المساجد للجماعات وإفشاء السلام للخواص والعوام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى بسبب ذلك صادعًا بالحق عند السلاطين باذلاً نفسه لله لا يخاف فيه لومة لائم ذاكرًا قوله تعالى: { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [لقمان: 17]. وما كان سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء عليه من الصبر على الأذى وما كانوا يتحملونه في الله تعالى حتى كانت لهم العقبى وكذلك القيام بإظهار السنن وإخمال البدع والقيام لله في أمور الدين وما فيه مصالح المسلمين على الطريق المشروع والمسلك المطبوع. ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها فإن العلماء هم القدوة وإليهم المرجع في الأحكام وهم حجة الله تعالى على العوام وقد يراقبهم للأخذ عنهم من لا ينظرون، ويقتدي بهديهم من لا يعلمون. وإذا لم ينتفع العالم بعلمه فغيره أبعد عن الانتفاع به، كما قال الشافعي رضي الله عنه: ليس العلم ما حُفِظَ، العلم ما نَفَعَ، ولهذا عظمت زلة العالم لما يترتب عليها من المفاسد لاقتداء الناس به.
السابع:
أن يحافظ على المندوبات الشرعية القولية والفعلية فيلازم تلاوة القرآن، وذكر الله تعالى بالقلب واللسان، وكذلك ما ورد من الدعوات والأذكار في آناء الليل والنهار، ومن نوافل العبادات من الصلاة والصيام وحج البيت الحرام والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن محبته وإجلاله وتعظيمه واجب والأدب عند سماع اسمه وذكر سنته مطلوب وسنة.
(1/12)(1/13)
كان مالك رضي الله تعالى عنه إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يتغير لونه وينحني، وكان جعفر بن محمد إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده اصفر لونه، وكان ابن القاسم إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يجف لسانه في فيه هيبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وينبغي له إذا تلا القرآن أن يتفكر في معانيه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده والوقوف عند حدوده وليحذر من نسيانه بعد حفظه فقد ورد في الأخبار النبوية ما يزجر عن ذلك.
والأولى أن يكون له منه في كل يوم وِرْدٌ راتب لا يخل به فإن غلب عليه فيوم ويوم فإن عجز ففي ليلتي الثلاثاء والجمعة لاعتياد بطالة الاشغال فيهما، وقراءة القرآن في كل سبعة أيام ورد حسن وورد في الحديث وعمل به أحمد بن حنبل، ويقال: من قرأ القرآن في كل سبعة أيام لم ينسه قط.
الثامن:
معاملة الناس بمكارم الأخلاق من طلاقة الوجه، وإفشاء السلام وإطعام الطعام، وكظم الغيظ، وكف الأذى عن الناس، واحتماله منهم والإيثار، وترك الاستئثار، والإنصاف، وترك الاستنصاف، وشكر التفضل، وإيجاد الراحة، والسعي في قضاء الحاجات، وبذل الجاه في الشفاعات، والتلطف بالفقراء، والتحبب إلى الجيران والأقرباء، والرفق بالطلبة، وإعانتهم وبرهم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وإذا رأى من لا يقيم صلاته أو طهارته أو شيئًا من الواجبات عليه إرشاده بتلطف ورفق كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الأعرابي الذي بال في المسجد، ومع معاوية بن الحكم لما تكلم في الصلاة.
التاسع:
(1/13)(1/14)
أن يطهر باطنه وظاهره من الأخلاق الرديئة ويعمره بالأخلاق المرضية فمن الأخلاق الرديئة الغل والحسد والبغي والغضب لغير الله تعالى والغش والكبر والرئاء والعجب والسمعة والبخل، والخبث والبطر والطمع والفخر والخيلاء والتنافس في الدنيا والمباهاة بها والمداهنة والتزين للناس، وحب المدح بما لم يفعل، والعمى عن عيوب النفس والاشتغال عنها بعيوب الخلق، والحمية والعصبية لغير الله، والرغبة والرهبة لغير الله، والغيبة والنميمة والبهتان والكذب والفحش في القول، واحتقار الناس، ولو كانوا دونه فالحذر الحذر من هذه الصفات الخبيثة والأخلاق الرذيلة، فإنها باب كل شر، بل هي الشر كله.
وقد بُليَ بعض أصحاب النفوس الخبيثة من فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات إلا من عصم الله تعالى ولاسيما الحسد والعجب والرئاء واحتقار الناس وأدوية هذه البلية مستوفى في كتب الرقائق فمن أراد تطهير نفسه منها فعليه بتلك الكتب ومن أنفعها كتاب الرعاية للمحاسبي رحمه الله.
يقال: ومن أدوية الحسد الفكر بأنه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في حكمته المقتضية تخصيص المحسود بالنعمة كما قال الشاعر العربي:
فلله إذ لم يرضكم كان أبصرا
فإن تغضبوا من قسمة الله بيننا
ومن أدوية العجب يذكر أن علمه وفهمه وجودة ذهنه وفصاحته وغير ذلك من النعم فضل من الله عليه وأمانة عنده ليرعاها حق رعايتها، وأن مُعْطِيه إياها قادر على سلبها منه في طرفة عين كما سلب بلعام ما علمه في طرفة عين وما ذلك على الله بعزيز { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } [الأعراف: 99].
(1/14)(1/15)
ومن أدوية الرئاء الفكر بأن الخلق كلهم لا يقدرون على نفعه بما يقضه الله له ولا على ضيره بما لم يقدره الله تعالى عليه فَلِمَ يُحْبِطُ عمله ويضير دينه ويُشْغِلُ نفسه بمراعاة من لا يملك له في الحقيقة نفعًا ولا ضرًا مع أن الله تعالى يطلعهم على نيته وقبح سريرته كما صح في الحديث: "من سمّع سمّع الله به ومن راءى راءى الله به".
ومن أدوية احتقار الناس تدبر قوله تعالى: { لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ } الآية [الحجرات: 11]، { إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]، { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 32]، وربما كان المحتقر أطهر عند الله قلبًا وأزكى عملاً وأخلص نية كما قيل: إن الله تعالى أخفى ثلاثة في ثلاثة؛ وليه في عباده، ورضاه في طاعاته، وغضبه في معاصيه.
ومن الأخلاق المرضية دوام التوبة، والإخلاص، واليقين، والتقوى، والصبر، والرضا، والقناعة، والزهد، والتوكل، والتفويض، وسلامة الباطن، وحسن الظن، والتجاوز، وحسن الخلق، ورؤية الإحسان، وشكر النعمة، والشفقة على خلق الله تعالى، والحياء من الله تعالى ومن الناس، ومحبة الله تعالى هي الخصلة الجامعة لمحاسن الصفات كلها وإنما تتحقق بمتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [آل عمران: 31].
العاشر:
دوام الحرص على الازدياد بملازمة الجد والاجتهاد والمواظبة على وظائف الأوراد من العبادة والاشتغال والإشغال قراءة وإقراء ومطالعة وفكرًا وتعليقًا وحفظًا وتصنيفًا وبحثًا.
(1/15)(1/16)
ولا يضيع شيئًا من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم والعمل إلا بقدر الضرورة من أكل أو شرب أو نوم أو استراحة لملل أو أداء حق زوجة أو زائر، أو تحصيل قوت وغيره مما يحتاج إليه أو لألم أو غيره مما يتعذر معه الاشتغال فإن بقية عمر المؤمن لا قيمة له ومن استوى يوماه فهو مغبون وكان بعضهم لا يترك الاشتغال لعروض مرض خفيف أو ألم لطيف بل كان يستشفى بالعلم ويشغل بقدر الإمكان كما قيل:
ونترك الذكر إخلالاً فننتكس
إذا مرضنا تداوينا بذكركم
وذلك لأن درجة العلم درجة وراثة الأنبياء، ولا تنال المعالي إلا بشق الأنفس، وفي صحيح مسلم عن يحيى بن أبي كثير، قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم،وفي الحديث: "حفت الجنة بالمكاره".
ولابد دون الشهد من إِبَرِ النحل
تريدين إدراك المعالي رخيصة
وكما قيل:
لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله
وقال الشافعي رضي الله عنه: حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصًا واستنباطًا والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه، وقال الربيع: لم أر الشافعي رضي الله عنه آكلاً بنهار ولا نائمًا بليل لاشتغاله بالتصنيف.
ومع ذلك فلا يحمل نفسه من ذلك فوق طاقتها كيلا تسأم وتمل، فربما نفرت نفرة لا يمكنه تداركها، بل يكون أمره في ذلك قصدًا وكل إنسان أبصر بنفسه.
الحادي عشر:
أن لا يستنكف أن يستفيد ما لا يعلمه ممن هو دونه منصبًا أو نسبًا أو سنًا، بل يكون حريصًا على الفائدة حيث كانت والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها.
قال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالمًا ما تعلم فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون، وأنشد بعض العرب:
تمام العمى طول السكوت على الجهل
وليس العمى طول السؤال وإنما
(1/16)(1/17)
وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم ما ليس عندهم، قال الحميدي وهو تلميذ الشافعي: صحبت الشافعي من مكة إلى مصر فكنت أستفيد منه المسائل وكان يستفيد مني الحديث.
وقال أحمد بن حنبل: قال لنا الشافعي: أنتم أعلم بالحديث مني، فإذا صح عندكم الحديث فقولوا لنا حتى آخذ به.
وصح رواية جماعة من الصحابة عن التابعين وأبلغ من ذلك كله قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبيّ، وقال: أمرني الله أن أقرأ عليك { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } [البينة: 1]، قالوا: من فوائده أن لا يمتنع الفاضل من الأخذ عن المفضول.
الثاني عشر:
الاشتغال بالتصنيف والجمع والتأليف، لكن مع تمام الفضيلة، وكمال الأهلية، فإنه يطلع على حقائق الفنون ودقائق العلوم للاحتياج إلى كثرة التفتيش والمطالعة والتنقيب والمراجعة وهو كما قال الخطيب البغدادي: يثبت الحفظ ويذكي القلب ويشحذ الطبع ويجيد البيان ويكسب جميل الذكر وجزيل الأجر ويخلده إلى آخر الدهر.
والأولى أن يعتني بما يعم نفعه وتكثر الحاجة إليه وليكن اعتناؤه بما لم يُسْبَق إلى تصنيفه متحريًا إيضاح العبارة في تأليفه معرضًا عن التطويل الممل والإيجاز المخلف مع إعطاء كل مُصَنَّفٍ ما يليق به.
ولا يُخرج تصنيفه من يده قبل تهذيبه وتكرير النظر فيه وترتيبه، ومن الناس من ينكر التصنيف والتأليف في هذا الزمان على من ظهرت أهليته وعرفت معرفته، ولا وجه لهذا الإنكار إلا التنافس بين أهل الأعصار وإلا فمن إذا تصرف في مداده وورقه بكتابة ما شاء من أشعار وحكايات مباحة أو غير ذلك لا يُنكر عليه، فلمَ إذا تصرف فيه بتسويد ما ينتفع به من علوم الشريعة يُنكر ويُستهجن.
أما من لم يتأهل لذلك فالإنكار عليه نتيجة لما يتضمنه من الجهل وتقرير من يقف على ذلك التصنيف به ولكونه يضيع زمانه فيما لم يتقنه ويدع الإتقان الذي هو أحرى به منه.
- - -
الفصل الثاني في آداب العالم في درسه
(1/17)
وفيه اثنا عشر نوعًا:
الأول:(1/18)
إذا عزم على مجلس التدريس تطهر من الحدث والخبث وتنظف وتطيب ولبس من أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل زمانه قاصدًا بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة.
كان مالك رضي الله عنه إذا جاءه الناس لطلب الحديث اغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا ووضع رداءه على رأسه ثم يجلس على منصة ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ، وقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم يصلي ركعتي الاستخارة إن لم يكن وقت كراهة وينوي نشر العلم وتعليمه وبث الفوائد الشرعية وتبليغ أحكام الله تعالى التي اؤتمن عليها وأمر ببيانها والازدياد من العلم وإظهار الصواب والرجوع إلى الحق والاجتماع على ذكر الله تعالى والسلام على إخوانه من المسلمين والدعاء للمسلمين وللسلف الصالحين.
الثاني:
إذا خرج من بيته دعا بالدعاء الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو: اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ثم يقول: بسم الله وبالله، حسبي الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اللهم اثبت جناني وأدر الحق على لساني.
ويديم ذكر الله تعالى إلى أن يصل إلى مجلس التدريس فإذا وصل إليه سلم على من حضر وصلى ركعتين إن لم يكن وقت كراهة فإن كان مسجدًا تأكدت الصلاة مطلقًا، ثم يدعو الله تعالى بالتوفيق والإعانة والعصمة.
ويجلس مستقبل القبلة إن أمكن بوقار وسكينة وتواضع وخشوع متربعًا أو غير ذلك مما لم يكره من الجلسات، ولا يجلس مقعيًا ولا مستوفزًا ولا رافعًا إحدى رجليه على الأخرى، ولا مادًا رجليه أو إحداهما من غير عذر، ولا متكئًا على يده إلى جنبه وراء ظهره.
(1/18)
وليصن بدنه عن الزحف والتنقل عن مكانه ويديه عن العبث والتشبيك بها، وعينيه عن تفريق النظر من غير حاجة، ويتقي المزاح وكثرة الضحك فإنه يقلل الهيبة ويسقط الحشمة كما قيل: من مزح استخف به ومن أكثر من شيء عرف به.(1/19)
ولا يدرس في وقت جوعه أو عطشه أو همه أو غضبه أو نعاسه أو قلقه، ولا في حال برده المؤلم وحره المزعج؛ فربما أجاب أو أفتى بغير الصواب، ولأنه لا يتمكن مع ذلك من استيفاء النظر.
الثالث:
أن يجلس بارزًا لجميع الحاضرين ويوقر أفاضلهم بالعلم والسن والصلاح والشرف ويرفعهم على حسب تقديمهم في الإمامة ويتلطف بالباقين ويكرمهم بحسن السلام وطلاقة الوجه ومزيد الاحترام، ولا يكره القيام لأكابر أهل الإسلام على سبيل الإكرام، وقد ورد في إكرام العلماء وإكرام طلبة العلم نصوص كثيرة.
ويلتفت إلى الحاضرين التفاتًا قصدًا بحسب الحاجة ويخص من يكلمه أو يسأله أو يبحث معه على الوجه عند ذلك بمزيد التفات إليه وإقبال عليه وإن كان صغيرًا أو وضيعًا، فإَّن تَرْكَ ذلك من أفعال المتجبرين المتكبرين.
الرابع:
أن يقدم على الشروع في البحث والتدريس قراءة شيء من كتاب الله تعالى تبركًا وتيمنًا وكما هو العادة فإن كان ذلك في مدرسة شرط فيها ذلك اتبع الشرط ويدعو عقيب القراءة لنفسه وللحاضرين وسائر المسلمين.
ثم يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويسمي الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه، ويترضى عن أئمة المسلمين ومشايخه، ويدعو لنفسه وللحاضرين ولوالديهم أجمعين وعن واقف مكانه إن كان ذلك في مدرسة أو نحوها جزاء لحسن فعله وتحصيلاً لقصده.
(1/19)
وكان بعضهم يؤخر ذكر نفسه في الدعاء عن الحاضرين تأدبًا وتواضعًا، لكن الدعاء لنفسه قربة وبه إليه حاجة والإيثار بالقرب وبما يحتاج إليه شرعًا خلاف المشروع ويؤيده قوله تعالى: { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم: 6]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"، وهذا الحديث وإن ورد في الإنفاق فالمحققون يستعملونه في أمور الآخرة، وبالجملة فالكل حسن وقد عمل بالأول قوم وبالثاني آخرون.
الخامس:(1/20)
إذا تعددت الدروس قدم الأشرف فالأشرف والأهم فالأهم؛ فيقدم تفسير القرآن ثم الحديث ثم أصول الدين ثم أصول الفقه ثم المذهب ثم الخلاف أو النحو أو الجدل.
وكان بعض العلماء الزهاد يختم الدروس بدرس رقائق يفيد به الحاضرين تطهير الباطن ونحو ذلك من عظة ورقة وزهد وصبر.
فإن كان في مدرسة ولواقفها في الدروس شرط اتبعه ولا يخل بما هو أهم ما بنيت له تلك البنية ووقفت لأجله.
ويصل في درسه ما ينبغي وصله ويقف في مواضع الوقف ومنقطع الكلام.
ولا يذكر شبهة في الدين في درس ويؤخر الجواب عنها إلى درس آخر بل يذكرهما جميعًا أو يدعهما جميعًا، ولا يتقيد في ذلك لمصنف يلزم منه تأخير جواب الشبهة عنها لما فيه من المسألة، لاسيما إذا كان الدرس يجمع الخواص والعوام.
وينبغي أن لا يطيل الدرس تطويلاً يمل، ولا يقصره تقصيرًا يخل، ويراعي في ذلك مصلحة الحاضرين في الفائدة في التطويل، ولا يبحث في مقام أو يتكلم على فائدة إلا في موضع ذلك فلا يقدمه عليه ولا يؤخره عنه إلا لمصلحة تقتضي ذلك وترجحه.
السادس:
أن لا يرفع صوته زائدًا على قدر الحاجة ولا يخفضه خفضًا لا يحصل معه كمال الفائدة.
روى الخطيب في الجامع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يحب الصوت الخفيض ويبغض الصوت الرفيع".
قال أبو عثمان محمد بن الشافعي: ما سمعت أبي يناظر إلى قط فرفع صوته، قال البيهقي: أراد والله أعلم فوق عادته.
(1/20)
والأولى أن لا يجاوز صوته مجلسه ولا يقصر عن سماع الحاضرين فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمعه، فقد روي في فضيلة ذلك حديث, ولا يسرد الكلام سردًا بل يرتله ويرتبه ويتمهل فيه ليفكر فيه هو وسامعه.
وقد روي أن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فصلاً يفهمه من سمعه، وأنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا لتفهم عنه.(1/21)
وإذا فرغ من مسألة أو فصل سكت قليلاً حتى يتكلم من في نفسه، لأنا سنذكر إن شاء الله أنه لا يقطع على العالم كلامه فإذا لم يسكت هذه السكتة ربما فاتت الفائدة.
السابع:
أن يصون مجلسه عن اللغط؛ فإن الغلط تحت اللغط، وعن رفع الأصوات واختلاف جهات البحث.
قال الربيع: كان الشافعي إذا ناظره إنسان في مسألة فعدا إلى غيرها يقول: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد.
ويتلطف في دفع ذلك من مباديه قبل انتشاره وثوران النفوس ويذكر الحاضرين بما جاء في كراهية المماراة لاسيما بعد ظهور الحق، وأن مقصود الاجتماع ظهور الحق وصفاء القلوب وطلب الفائدة وأنه لا يليق بأهل العلم تعاطي المنافسة والشحناء؛ لأنها سبب العداوة والبغضاء بل يجب أن يكون الاجتماع ومقصوده خالصًا لله تعالى ليميز الفائدة في الدنيا والسعادة في الآخرة، ويتذكر قوله: { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [الأنفال:8]، فإن ذلك مفهم أن إرادة إبطال الحق أو تحقيق الباطل صفة إجرام، فليحذر منه.
الثامن:
أن يزجر من تعدى في بحثه أو ظهر منه لدد في بحثه أو سوء أدب أو ترك الإنصاف بعد ظهور الحق، أو أكثر الصياح بغير فائدة، أو أساء أدبه على غيره من الحاضرين أو الغائبين، أو ترفع في المجلس على من هو أولى منه، أو نام أو تحدث مع غيره، أو ضحك أو استهزأ بأحد من الحاضرين، أو فعل ما يخل بأدب الطالب في الحلقة. وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى، هذا كله بشرط أن لا يترتب على ذلك مفسدة تربو عليه.
(1/21)
وينبغي أن يكون له نقيب فطن كيس، درب يرتب الحاضرين ومن يدخل عليهم على قدر منازلهم ويوقظ النائم ويشير إلى من ترك ما ينبغي فعله أو فعل ما ينبغي تركه، ويأمر بسماع الدروس والإنصات لها.
التاسع:
أن يلازم الإنصاف في بحثه وخطابه ويسمع السؤال من مورده على وجهه وإن كان صغيرًا ولا يترفع على سماعه فيحرم الفائدة.(1/22)
وإذا عجز السائل عن تقرير ما أورده أو تحرير العبارة فيه لحياء أو قصور ووقع على المعنى عبر عن مراده وبين وجه إيراده ورد على من عليه ثم يجيب بما عنده أو يطلب ذلك من غيره ويتروى فيما يجيب به رده.
وإذا سئل عن ما لم يعلمه قال لا أعلمه، أو لا أدري؛ فمن العلم أن يقول لا أعلم، وعن بعضهم: لا أدري نصف العلم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقالته وقيل: ينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري لكثرة ما يقولها. قال محمد بن عبد الحكم: سألت الشافعي رضي الله عنه عن المتعة أكان فيها طلاق أو ميراث أو نفقة تجب أو شهادة؟ فقال: والله ما ندري.
واعلم أن قول المسئول لا أدري لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه لأنه دليل عظيم على عظم محله وقوة دينه وتقوى ربه وطهارة قلبه وكمال معرفته وحسن تثبته. وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته وقلت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورقة دين وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فر منه ويتصف عندهم بما احترز عنه، وقد أدب الله تعالى العلماء بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، حين لم يرد موسى عليه الصلاة والسلام العلم إلى الله تعالى لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك.
العاشر:
أن يتودد لغريب حضر عنده وينبسط له ليشرح صدره؛ فإن للقادم دهشة، ولا يكثر الالتفات والنظر إليه استغرابًا له فإن ذلك مخجله.
(1/22)
وإذا أقبل بعض الفضلاء وقد شرع في مسألة أمسك عنها حتى يجلس وإذا جاء وهو يبحث في مسألة أعادها له أو مقصودها.
وإذا أقبل فقيه وقد بقي لفراغه وقيام الجماعة بقدر ما يصل الفقيه إلى المجلس، فليؤخر تلك البقية ويشتغل عنها ببحث أو غيره إلى أن يجلس الفقيه ثم يعيدها أو يتم تلك البقية كيلا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.(1/23)
وينبغي مراعاة مصلحة الجماعة في تقديم وقت الحضور وتأخيره إذا لم يكن عليه فيه ضرورة، ولا مزيد كلفة، وأفتى بعض أكابر العلماء أن المدرس إذا ذكر الدرس في مدرسة قبل طلوع الشمس أو أخره إلى بعض الظهر لم يستحق معلوم التدريس إلا أن يقتضيه شرط الواقف لمخالفة العرف المعتاد في ذلك.
الحادي عشر:
جرت العادة أن يقول المدرس عند ختم كل درس: والله أعلم، وكذلك يكتب المفتي بعد كتابة الجواب؛ لكن الأولى أن يقال قبل ذلك كلام يشعر بختم الدرس كقوله: وهذا آخره، أو ما بعده يأتي إن شاء الله تعالى، ونحو ذلك ليكون قوله: والله أعلم خالصًا لذكر الله تعالى، ولقصد معناه، ولهذا ينبغي أن يستفتح كل درس ببسم الله الرحمن الرحيم ليكون ذاكرًا لله تعالى في بدايته وخاتمته.
والأولى للمدرس أن يمكث قليلاً بعد قيام الجماعة فإن فيه فوائد وآدابًا وله ولهم، منها عدم مزاحمتهم، ومنها إن كان في نفس أحد بقايا سؤال سأله، ومنها عدم ركوبه بينهم إن كان يركب وغير ذلك. ويستحب إذا قام أن يدعو بما ورد به الحديث سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الثاني عشر:
أن لا ينتصب للتدريس إذا لم يكن أهلاً له ولا يذكر الدرس مِنْ عِلْمٍ لا يعرفه، سواء أشرطه الواقف أو لم يشرطه فإن ذلك لعب في الدين وازدراء بين الناس.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
وعن الشبلي: من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه.
(1/23)(1/24)
وعن أبي حنيفة: من طلب الرياسة في غير حينه لم يزل في ذلٍّ ما بقي، واللبيب من صان نفسه عن تعرضها لما يعد فيه ناقصًا وبتعاطيه ظالمًا وبإصراره عليه فاسقًا فإنه متى لم يكن أهلاً لما شرطه الواقف في وقفه أو لما يقتضيه عرفٌ مثله كان بإصراره على تناول ما لا يستحقه فاسقًا، فإن كان في الوقف أن يكون المدرس عاميًا أو جاهلاً لم يصح شرطه، وإن شرط جعل ناقص مخصوص مدرسًا سقط اسم الفسق وحظر الإثم، ويبقى التنقص به والاستهزاء به بحاله، ولا يرضى ذلك لنفسه أريب، ولا يتعاطاه مع الغنى عنه لبيب، ولا يَظْهَرُ مِنْ واقفٍ شَرَطَ قَصْدُ ذلك قصد الانتفاع ولا يؤول أمر وقفه إلا إلى ضياع، وأقل مفاسد ذلك أن الحاضرين يفقدون الإنصاف لعدم من يرجعون إليه عند الاختلاف لأن رب الصدر لا يعرف المصيب فينصره أو المخطئ فيزجره.
وقيل لأبي حنيفة رحمه الله: في المسجد حلقة ينظرون في الفقه, فقال: ألهم رأس؟ قالوا: لا، قال: لا يفقه هؤلاء أبدًا، ولبعضهم في تدريس من لا يصلح:
جهول يسمى بالفقيه المدرس
ببيت قديم شاع في كل مجلس
كلاها وحتى سامها كل مفلس
تصدر للتدريس كل مهوس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
- - -
الفصل الثالث في أدب العالم مع طلبته مطلقًا في حلقته
وهو أربعة عشر نوعًا:
الأول:
أن يقصد بتعليمهم وتهذيبهم وجه الله تعالى ونشر العلم وإحياء الشرع ودوام ظهور الحق وخمول الباطل ودوام خير الأمة بكثرة علمائها واغتنام ثوابهم وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه من بعضهم وبركة دعائهم له وترحمهم عليه ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينهم وعداده في جملة مبلغي وحي الله تعالى وأحكامه؛ فإن تعليم العلم من أهم أمور الدين وأعلى درجات المؤمنين.
(1/24)(1/25)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها يصلون على معلم الناس الخير، لعمرك ما هذا إلا منصب جسيم وإن نيله لفوز عظيم نعوذ بالله من قواطعه ومكدراته وموجبات حرمانه وفواته.
الثاني:
أن لا يمتنع من تعليم الطالب لعدم خلوص نيته، فإن حسن النية مرجو له ببركة العلم، قال بعض السلف: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله، قيل: معناه فكان عاقبته أن صار لله، ولأن إخلاص النية لو شرط في تعليم المبتدئين فيه مع عسره على كثير منهم لأدى ذلك إلى تفويت العلم كثيرًا من الناس لكن الشيخ يحرض المبتدى على حسن النية بتدريج قولاً وفعلاً ويعلمه بعد أنسه به أنه ببركة حسن النية ينال الرتبة العلية من العلم والعمل وفيض اللطائف وأنواع الحكم وتنوير القلب وانشراح الصدر وتوفيق العزم وإصابة الحق وحسن الحال والتسديد في المقال وعلو الدرجات يوم القيامة.
الثالث:
أن يرغبه في العلم وطلبه في أكثر الأوقات بذكر ما أعد الله تعالى للعلماء من منازل الكرامات وأنهم ورثة الأنبياء وعلى منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء أو نحو ذلك مما ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات والآثار والأخبار والأشعار.
ويرغبه مع ذلك بتدريج على ما يعين على تحصيله من الاقتصار على الميسور وقدر الكفاية من الدنيا والقناعة بذلك عن شغل القلب بالتعلق بها وغلبة الفكر وتفريق الهم بسببها فإن انصراف القلب عن تعلق الأطماع بالدنيا والإكثار منها والتأسف على فائتها أجمع لقلبه وأروح لبدنه وأشرف لنفسه وأعلى لمكانته وأقل لحساده وأجدر لحفظ العلم وازدياده، ولذلك قل من نال من العلم نصيبًا وافرًا إلا من كان في مبادئ تحصيله على ما ذكرت من الفقر والقناعة والإعراض عن طلب الدنيا وعرضها الفاني، وسيأتي في هذا النوع أكثر من هذا في أدب المتعلم إن شاء الله تعالى.
الرابع:
(1/25)(1/26)
أن يحب لطالبه ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث، ويكره له ما يكره لنفسه، قال ابن عباس: أكرم الناس عَلَيَّ جليسي الذي يتخطى رقاب الناس إليّ لو استطعت أن لا يقع الذباب عليه لفعلت, وفي رواية: إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني.
وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة عليه والإحسان إليه، والصبر على جَفَاءٍ ربما وقع منه نقص لا يكاد يخلو الإنسان عنه وسوء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بحسب الإمكان ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف لا بتعنيف وتعسف قاصدًا بذلك حسن تربيته وتحسين خلقه وإصلاح شأنه، فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة فلا حاجة إلى صريح العبارة، وإن لم يفهم ذلك إلا بصريحها أتى بها، وراعى التدريج في التلطف ويؤدبه بالآداب السنية ويحرضه على الأخلاق المرضية ويوصيه بالأمور العرفية على الأوضاع الشرعية.
الخامس:
أن يسمح له بسهولة الإلقاء في تعليمه وحسن التلطف في تفهيمه لاسيما إذا كان أهلاً لذلك لحسن أدبه وجودة طلبه ويحرضه على طلب الفوائد وحفظ النوادر الفرائد ولا يدخر عنه من أنواع العلوم ما يسأله عنه وهو أهل له لأن ذلك ربما يوحش الصدر وينفر القلب ويورث الوحشة.
وكذلك لا يلقي إليه ما لم يتأهل له لأن ذلك يبدد ذهنه ويفرق فهمه فإن سأله الطالب شيئًا من ذلك لم يجبه، ويعرفه أن ذلك يضره ولا ينفعه، وأن منعه إياه منه لشفقة عليه ولطف به لا بخلاً عليه، ثم يرغبه عند ذلك في الاجتهاد والتحصيل ليتأهل لذلك وغيره، وقد روي في تفسير الرباني أنه الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
السادس:
أن يحرص على تعليمه وتفهيمه ببذل جهده وتقريب المعنى له من غير إكثار لا يحتمله ذهنه أو بسط لا يضبطه حفظه ويوضح لمتوقف الذهن العبارة ويحتسب إعادة الشرح له وتكراره.
(1/26)(1/27)
ويبدأ بتصوير المسائل ثم يوضحها بالأمثلة وذكر الدلائل، ويقتصر على تصوير المسألة وتمثيلها لمن لم يتأهل لفهم مأخذها ودليلها، ويذكر الأدلة والمأخذ لمحتملها، ويبين له معاني أسرار حكمها وعللها وما يتعلق بتلك المسألة من فرع وأصل ومن وهم فيها في حكم أو تخريج أو نقل بعبارة حسنة الأداء بعيدة عن تنقيص أحد من العلماء، ويقصد ببيان ذلك الوهم طريق النصيحة وتعريف النقول الصحيحة، ويذكر ما يشابه تلك المسألة ويناسبها وما يفارقها ويقاربها ويبين مأخذ الحكمين والفرق بين المسألتين.
ولا يمتنع من ذكر لفظة يستحي من ذكرها عادة إذا احتيج إليها ولم يتم التوضيح إلا بذكرها، فإن كانت الكناية تفيد معناها وتحصل منتهاها تحصيلاً بينًا لم يصرح بذكرها بل يكتفي بالكناية عنها، وكذلك إذا كان في المجلس من لا يليق ذكرها بحضوره لحيائه أو لجفائه فيكنى عن تلك اللفظة بغيرها، ولهذه المعاني واختلاف الحال والله تعالى أعلم. ورد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التصريح تارة والكناية أخرى.
السابع:
إذا فرغ الشيخ من شرح درس فلا بأس بطرح مسائل تتعلق به على الطلبة يمتحن بها فهمهم وضبطهم لما شرح لهم، فمن ظهر استحكام فهمه له بتكرار الإصابة في جوابه شكره، ومن لم يفهمه تلطف في إعادته له، والمعنى بطرح المسائل أن الطالب ربما استحيا من قوله لم أفهم إما لرفع كل الإعادة على الشيخ أو لضيق الوقت أو حياء من الحاضرين أو كيلا تتأخر قراءتهم بسببه.
ولذلك قيل: لا ينبغي للشيخ أن يقول للطالب هل فهمت إلا إذا أمن من قوله نعم قبل أن يفهم، فإن لم يأمن من كذبه لحياء أو غيره فلا يسأله عن فهمه لأنه ربما وقع في الكذب بقوله نعم لما قدمناه من الأسباب، بل يطرح عليه مسائل كما ذكرناه، فإن سأله الشيخ عن فهمه فقال نعم فلا يطرح عليه المسائل بعد ذلك إلا أن يستدعي الطالب ذلك لاحتمال خجله بظهور خلاف ما أجاب به.
(1/27)(1/28)
وينبغي للشيخ أن يأمر الطلبة بالمرافقة في الدروس كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وبإعادة الشرح بعد فراغه فيما بينهم ليثبت في أذهانهم ويرسخ في أفهامهم ولأنه يحثهم على استعمال الفكر ومؤاخذة النفس بطلب التحقيق.
الثامن:
أن يطالب الطلبة في بعض الأوقات بإعادة المحفوظات ويمتحن ضبطهم لما قدم لهم من القواعد المهمة والمسائل الغريبة ويختبرهم بمسائل تبنى على أصل قرره أو دليل ذكره.
فمن رآه مصيبًا في الجواب ولم يخف عليه شدة الإعجاب شكره وأثنى عليه بين أصحابه ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد، ومن رآه مقصرًا ولم يخف نفوره عنفه على قصوره وحرضه على علو الهمة ونيل المنزلة في طلب العلم لاسيما إن كان ممن يزيده التعنيف نشاطًا والشكر انبساطًا ويعيد ما يقتضي الحال إعادته ليفهمه الطالب فهمًا راسخًا.
التاسع:
إذا سلك الطالب في التحصيل فوق ما يقتضيه حاله أو تحمله طاقته وخاف الشيخ ضجره أوصاه بالرفق بنفسه وذَكَّرَهُ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، ونحو ذلك مما يحمله على الأناة والاقتصاد في الاجتهاد، وكذلك إذا ظهر له منه نوع سآمة أو ضجر ومبادى ذلك أمره بالراحة، وتخفيف الاشتغال، ولا يشير على الطالب بتعليم ما لا يحتمله فهمه أو سنه ولا بكتاب يقصر ذهنه عن فهمه.
فإن استشار الشَّيْخَ مَنْ لا يعرف حاله في الفهم والحفظ في قراءة فن أو كتاب لم يشر عليه بشيء حتى يجرب ذهنه ويعلم حاله، فإن لم يحتمل الحال التأخير أشار عليه بكتاب سهل من الفن المطلوب، فإن رأى ذهنه قابلاً وفهمه جيدًا نقله إلى كتاب يليق بذهنه وإلا تركه، وذلك لأن نقل الطالب إلى ما يدل نقله إليه على جودة ذهنه يزيد انبساطه، وإلى ما يدل على قصوره يقلل نشاطه.
ولا يمكن الطالب من الاشتغال في فنين أو أكثر إذا لم يضبطها بل يقدم الأهم فالأهم كما سنذكر إن شاء الله تعالى.
(1/28)(1/29)
وإذا علم أو غلب على ظنه أنه لا يفلح في فن أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فيه فلاحه.
العاشر:
أن يذكر للطلبة قواعد الفن التي لا تنخرم إما مطلقًا كتقديم المباشرة على السبب في الضمان، أو غالبًا كاليمين على المدعى عليه إذا لم تكن بينة إلا في القسامة، والمسائل المستثناة من القواعد كقوله العمل بالجديد من كل قولين قديم وجديد إلا في أربع عشرة مسألة، ويذكرها وكل يمين على نفي فعل للغير فهي على نفي العلم إلا من ادعى عليه أن عبده جني فيحلف على البت على الأصح، وكل عبادة يخرج منها بفعل منها فيها ومبطلها إلا الحج والعمرة، وكل وضوء يجب فيه الترتيب إلا وضوءًا تحمله غسل الجنابة وأشباه ذلك. ويبين مأخذ ذلك كله وكذلك كل أصل وما يبنى عليه من كل فن يحتاج إليه من علمي التفسير والحديث وأبواب أصول الدين والفقه والنحو والتصريف واللغة ونحو ذلك إما بقراءة كتاب في الفن أو بتدريج على الطول.
وهذا كله إذا كان الشيخ عارفًا بتلك الفنون وإلا فلا يتعرض لها بل يقتصر على ما يتقنه منها، ومن ذلك نوادر ما يقع من المسائل الغريبة والفتاوى العجيبة والمعاني (القحتة) ونوادر الفروق والمعاياة.
ومن ذلك ما لا يسع الفاضل جهله كأسماء المشهورين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين وكبار الزهاد والصالحين كالخلفاء الأربعة وبقية العشرة المبشرة، والنقباء الاثنى عشر والبدريين والمكثرين، والعبادلة، والفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة فيضبط أسماءهم وكناهم وأعمارهم ووفياتهم وما يستفاد من محاسن آدابهم ونوادر أحوالهم فيحصل له مع الطول فوائد كثيرة النفع ونفائس عزيزة الجمع.
وليحذر كل الحذر من مناقشة بعضهم لكثرة تحصيله أو زيادة فضائله لأن ثواب فضائلهم عائد إليهم، وحسن ترتيبهم محسوب عليه. وله من جهتهم في الدنيا الدعاء والثناء والذكر الجميل، وفي الآخرة الثواب الجزيل.
الحادي عشر:
(1/29)(1/30)
أن لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودة أو اعتناء مع تساويهم في الصفات من سن أو فضيلة أو تحصيل أو ديانة فإن ذلك ربما يوحش منه الصدر وينفر القلب، فإن كان بعضهم أكثر تحصيلاً وأشد اجتهدًا أو أبلغ اجتهادًا أو أحسن أدبًا فأظهر إكرامه وتفضيله وبين أن زيادة إكرامه لتلك الأسباب فلا بأس بذلك؛ لأنه ينشط ويبعث على الاتصاف بتلك الصفات.
وكذلك لا يقدم أحدًا في نوبة غيره أو يؤخره عن نوبته إلا إذا رأى في ذلك مصلحة تزيد على مصلحة مراعاة النوبة، فإن سمح بعضهم لغيره في نوبته فلا بأس، وسنذكر ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى.
وينبغي أن يتودد لحاضرهم ويذكر غائبهم بخير وحسن ثناء وينبغي أن يستعلم أسماءهم وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم ويكثر الدعاء لهم بالصلاح.
الثاني عشر:
أن يراقب أحوال الطلبة في آدابهم وهديهم وأخلاقهم باطنًا وظاهرًا، فمن صدر منه من ذلك ما لا يليق من ارتكاب محرم أو مكروه أو ما يؤدي إلى فساد حال أو ترك اشتغال أو إساءة أدب في حق الشيخ أو غيره أو كثرة كلام بغير توجيه ولا فائدة أو حرص على كثرة الكلام أو معاشرة من لا تليق عشرته أو غير ذلك مما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في آداب المتعلم، عَرَّضَ الشيخ بالنهي عن ذلك بحضور مَنْ صدر منه غير مُعَرِّضٍ به ولا معين له، فإن لم ينته نهاه عن ذلك سرًا، ويكتفي بالإشارة مع من يكتفي بها، فإن لم ينته نهاه عن ذلك جهرًا ويغلظ القول عليه إن اقتضاه الحال لينزجر هو وغيره ويتأدب به كل سامع، فإن لم ينته فلا بأس حينئذ بطرده والإعراض عنه إلى أن يرجع، ولاسيما إذا خاف على بعض رفقائه وأصحابه من الطلبة موافقته.
وكذلك يتعاهد ما يعامل به بعضهم بعضًا من إفشاء السلام وحسن التخاطب في الكلام والتحابب والتعاون على البر والتقوى وعلى ما هم بصدده، وبالجملة فكما يعلمهم مصالح دينهم لمعاملة الله تعالى يعلمهم مصالح دنياهم لمعاملة الناس لتكمل لهم فضيلة الحالتين.
(1/30)(1/31)
الثالث عشر:
أن يسعى في مصالح الطلبة وجمع قلوبهم ومساعدتهم بما تيسر عليه من جاه ومال عند قدرته على ذلك وسلامة دينه وعدم ضرورته فإن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله تعالى في حاجته، ومن يسر على معسر يسر الله عليه حسابه يوم القيامة ولاسيما إذا كان ذلك إعانة على طلب العلم الذي هو من أفضل القربات.
وإذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة زائدًا عن العادة سأل عنه وعن أحواله وعن من يتعلق به، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه أو قصد منزله بنفسه وهو أفضل.
فإن كان مريضًا عاده وإن كان في غم خفض عليه، وإن كان مسافرًا تفقد أهله ومن يتعلق به وسأل عنهم وتعرض لحوائجهم ووصلهم بما أمكن، وإن كان فيما يحتاج إليه فيه أعانه، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد عليه ودعا له.
واعلم أن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه وأقرب أهله إليه.
ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى، فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاثة؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
(1/31)(1/32)
وأنا أقول: إذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم؛ أما الصدقة فاقراؤه إياه العلم وإفادته إياه، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في المصلي وحده: من يتصدق على هذا، أي بالصلاة معه لتحصل له فضيلة الجماعة، ومعلم العلم يحصل للطالب فضيلة العلم التي هي أفضل من صلاة في جماعة وينال بها شرف الدنيا والآخرة، وأما العلم المنتفع به فظاهر لأنه كان سببًا لإيصال ذلك العلم إلى كل من انتفع به.
وأما الدعاء الصالح له فالمعتاد المستقرأ على السنة أهل العلم والحديث قاطبة من الدعاء لمشايخهم وأئمتهم وبعض أهل العلم يدعون لكل من يذكر عنه شيء من العلم وربما يقرأ بعضهم الحديث بسنده فيدعو لجميع رجال السند فسبحان من اختص من شاء من عباده بما شاء من جزيل عطائه.
الرابع عشر:
أن يتواضع مع الطالب وكل مسترشد سائل إذا قام بما يجب عليه من حقوق الله تعالى وحقوقه، ويخفض له جناحه ويلين له جانبه، قال الله تعالى لنبيه: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء:215]، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى أوحى إليَّ أن تواضعوا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، وهذا لمطلق الناس فكيف بمن له حق الصحبة وحرمة التردد وصدق التودد وشرف الطلب، وفي الحديث: لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه، وعن الفضيل: من تواضع لله ورثه الله الحكمة.
(1/32)(1/33)
وينبغي أن يخاطب كلاً منهم لاسيما الفاضل المتميز بكنية ونحوها من أحب الأسماء إليه وما فيه تعظيم له وتوقير، فعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكني أصحابه إكرامًا لهم. وكذلك ينبغي أن يترحب بالطلبة إذا لقيهم وعند إقبالهم عليه ويكرمهم إذا جلسوا إليه ويؤنسهم بسؤاله عن أحوالهم وأحوال من يتعلق بهم بعد رد سلامهم، وليعاملهم بطلاقة الوجه وظهور البشر وحسن المودة وإعلام المحبة وإضمار الشفقة؛ لأن ذلك أشرح لصدره وأطلق لوجهه وأبسط لسؤاله، ويزيد في ذلك لمن يرجى فلاحه ويظهر صلاحه، وبالجملة فهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون على الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرًا.
وكان البويطي يدني القُرَّاء ويقربهم إذا طلبوا العلم ويعرفهم فضل الشافعي رضي الله عنه وفضل كتبه ويقول: كان الشافعي يأمر بذلك ويقول: اصبر للغرباء وغيرهم من التلاميذ. وقيل: كان أبو حنيفة أكرم الناس مجالسة وأشدهم إكرامًا لأصحابه.
- - -
الباب الثالث في أدب المتعلم في نفسه
ومع شيخه ورفقته ودرسه
الباب الثالث
(في أدب المتعلم في نفسه ومع شيخه ورفقته ودرسه)(1)
وفيه ثلاثة فصول في آداب المتعلم:
الفصل الأول في آدابه في نفسه
وفي عشرة أنواع:
الأول:
أن يطهر قلبه من كل غش ودنس وغلّ وحسد وسوء عقيدة وخلق؛ ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه، والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإن العلم ـ كما قال بعضهم ـ صلاة السر وعبادة القلب وقربة الباطن، وكما لا تصلح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث فكذلك لا يصح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديئها.
__________
(1) ... العنوان من وضع المحقق.
(1/33)(1/34)
وإذا طيب القلب للعلم ظهرت بركته ونما، كالأرض إذا طيبت للزرع نما زرعها وزكا، وفي الحديث: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد كله ألا وهي القلب"، وقال سهل: "حرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله عز وجل".
الثاني:
حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى والعمل به وإحياء الشريعة، وتنوير قلبه وتحلية باطنه والقرب من الله تعالى يوم القيامة والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه وعظيم فضله.
قال سفيان الثوري: "ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي". ولا يقصد به الأغراض الدنيوية من تحصيل الرياسة والجاه والمال، ومباهاة الأقران، وتعظيم الناس له، وتصديره في المجالس ونحو ذلك، فيستبدل الأدنى بالذي هو خير.
قال أبو يوسف ـ رحمه الله ـ: يا قوم أريدوا بعلمكم الله تعالى فإني لم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح.
والعلم عبادة من العبادات وقربة من القرب فإن خلُصَت فيه النية قُبِلَ وزكى ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله تعالى حبط وضاع، وخسرت صفقته وبما تفوته تلك المقاصد ولا ينالها فيخيب قصده ويضيع سعيه.
الثالث:
أن يبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل ولا يغتر بخدع التسويف والتأميل؛ فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدَلَ لها ولا عوض عنها، ويقطع ما يقدر عليه من العلائق الشاغلة والعوائق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل فإنها كقواطع الطريق، ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن؛ لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق وغموض الدقائق وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وكذلك يقال: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلّك.
(1/34)(1/35)
ونقل الخطيب البغدادي في الجامع عن بعضهم قال: لا ينال هذا العلم إلا من عطّل دكانه، وخرب بستانه، وهجر إخوانه، ومات أقرب أهله فلم يشهد جنازته، وهذا كله وإن كانت فيه مبالغة فالمقصود به أنه لابد فيه من جمع القلب واجتماع الفكر.
وقيل: أمر بعض المشايخ طالبًا له بنحو ما رواه الخطيب فكان آخر ما أمره به أن قال: اصبغ ثوبك كيلا يشغلك فكر غسله. ومما يقال عن الشافعي أنه قال: لو كُلِّفتُ شراء بصلة لما فهمت مسألة.
الرابع:
أن يقنع من القوت بما تيسر وإن كان يسيرًا، ومن اللباس بما يستر مثله وإن كان خلقًا، فبالصبر على ضيق العيش ينال سعة العلم ويجمع شمل القلب عن مفترقات الآمال فتتفجر فيه ينابيع الحكم.
قال الشافعي رحمه الله: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح. وقال: لا يصلح طلب العلم إلا لمفلس، قيل: ولا الغني المكفي، قال: ولا الغني المكفي.
وقال مالك: لا يبلغ أحد من هذا العلم ما يريد حتى يضربه الفقر ويؤثره على كل شيء.
وقال أبو حنيفة: يُستعان على الفقه بجمع الهم، ويستعان على حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة ولا يزد.
فهذه أقوال هذه الأئمة الذين لهم فيه القدح المعلي غير مدافع، وكانت هذه أحوالهم رضي الله عنهم.
قال الخطيب: ويستحب للطالب أن يكون عزبًا ما أمكنه لئلا يقطعه الاشتغال بحقوق الزوجية وطلب المعيشة عن إكمال الطلب، وقال سفيان الثوري: من تزوج فقد ركب البحر فإن ولد له ولد فقد كسر به، وبالجملة فترك التزويج لغير المحتاج إليه أو غير القادر عليه أولى لاسيما للطالب الذي رأس ماله جمع الخاطر وإجمام القلب واشتغال الفكر.
الخامس:
أن يقسم أوقات ليله ونهار ويغتنم ما بقي من عمره فإن بقية العمر لا قيمة له.
وأجود الأوقات للحفظ الأسحار وللبحث الإبكار وللكتاب وسط النهار وللمطالعة والمذاكرة الليل.
(1/35)(1/36)
وقال الخطيب: أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم وسط النهار ثم الغداة. قال: وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع.
قال: وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع بعيد عن الملهيات. قال: وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطريق وضجيج الأصوات لأنها تمنع من خلو القلب غالبًا.
السادس:
من أعظم الأسباب المعينة على الاشتغال والفهم وعدم الملال أكل القدر اليسير من الحلال.
قال الشافعي رضي الله عنه: ما شبعت منذ ست عشرة سنة، وسبب ذلك أن كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب، وكثرته جالبة للنوم والبلادة وقصور الذهن وفتور الحواس وكسل الجسم، هذا مع ما فيه من الكراهية الشرعية والتعرض لخطر الأسقام البدنية.
كما قيل:
يكون من الطعام أو الشراب
فإن الداء أكثر ما تراه
ولم ير أحد من الأولياء والأئمة العلماء يصف أو يوصف بكثرة الأكل ولا حمد به، وإنما يحمد كثرة الأكل من الدواب التي لا تعقل بل هي مرصدة للعمل، والذهن الصحيح أشرف من تبديده وتعطيله بالقدر الحقير من طعام يؤول أمره إلى ما قد علم، ولو لم يكن من آفات كثرة الطعام والشراب إلا الحاجة إلى كثرة دخول الخلاء لكان ينبغي للعاقل الللبيب أن يصون نفسه عنه، ومن رام الفلاح في العلم وتحصيله البغية منه مع كثرة الأكل والشرب والنوم فقد رام مستحيلاً في العادة.
والأولى أن يكون أكثر ما يأخذ من الطعام ما ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" رواه الترمذي.
فإن زاد على ذلك فالزيادة إسراف خارج عن السنة وقد قال الله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا } [الأعراف: 31]، قال بعض العلماء: جمع الله بهذه الكلمات الطب كله.
السابع:
(1/36)(1/37)
أن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه ويتحرى الحلال في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وفي جميع ما يحتاج إليه هو وعياله ليستنير قلبه ويصلح لقبول العلم ونوره والنفع به، ولا يقنع لنفسه بظاهر الحل شرعًا مهما أمكنه التورع ولم تلجئه حاجة أو يجعل حظه الجواز بل يطلب الرتبة العالية.
ويقتدي بمن سلف من العلماء الصالحين في التورع عن كثير مما كانوا يفتون بجوازه، وأحق من اقتدى به في ذلك سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث لم يأكل التمرة التي وجدها في الطريق خشية أن تكون من الصدقة مع بُعد كونها منها، ولأن أهل العلم يقتدى بهم ويؤخذ عنهم فإذا لم يستعملوا الورع فمن يستعلمه.
وينبغي له أن يستعمل الرخص في مواضعها عند الحاجة إليها ووجود سببها ليقتدي بهم فيه، "فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه".
الثامن:
أن يقلل استعمال المطاعم التي هي من أسباب البلادة وضعف الحواس كالتفاح الحامض والباقلا وشرب الخل، وكذلك ما يكثر استعماله البلغم المبلد للذهن المثقل للبدن ككثرة الألبان والسمك وأشباه ذلك.
وينبغي أن يستعمل ما جعله الله تعالى سببا لجودة الذهن كمضغ اللبان والمصطكى على حسب العادة، وأكل الزبيب بكرة والجلاب ونحو ذلك مما ليس هذا موضع شرحه.
وينبغي أن يجتنب ما يورث النسيان بالخاصة كأكل سور الفار, وقراءة ألواح القبور والدخول بين جملين مقطورين، وإلقاء القمل ونحو ذلك من المجربات فيه.
التاسع:
أن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة على ثمان ساعات وهو ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل منها فعل.
ولا بأس أن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا كلّ شيء من ذلك أو ضعف بتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمانه.
ولا بأس بمعاناة المشي ورياضة البدن به فقد قيل إنه ينعش الحرارة ويذيب فضول الأخلاط وينشط البدن.
(1/37)(1/38)
ولا بأس بالوطى الحلال إذا احتاج إليه، فقد قال الأطباء بأنه يجفف الفضول وينشط ويصفي الذهن إذا كان عند الحاجة باعتدال، ويحذر كثرته حذر العدو فإنه كما قيل: (ماء الحياة يصب في الأرحام) يضعف السمع والبصر والعصب والحرارة والهضم وغير ذلك من الأمراض الرديئة.
والمحققون من الأطباء يرون أن تركه أولى إلا لضرورة أو استشفاء وبالجملة فلا بأس أن يريح نفسه إذا خاف مللاً.
وكان بعض أكابر العلماء يجمع أصحابه في بعض أماكن التنزه في بعض أيام السنة ويتمازحون بما لا ضرر عليهم في دين ولا عرض.
العاشر:
أن يترك العشرة فإن تركها من أهم ما ينبغي لطالب العلم ولاسيما لغير الجنس وخصوصًا لمن كثر لعبه وقلت فكرته؛ فإن الطباع سراقة، وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة وذهاب المال والعرض إن كان لغير أهل، وذهاب الدين إن كانت لغير أهله.
والذي ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اغد عالمًا أو متعلمًا ولا تكن الثالث فتهلك".
فإن شرع أو تعرض لصحبة من يضيع عمره معه ولا يفيده ولا يستفيد منه ولا يعينه على ما هو بصدده فليتلطف في قطع عشرته من أول الأمر قبل تمكنها فإن الأمور إذا تمكنت عسرت إزالتها، ومن الجاري على ألسنة الفقهاء: الدفع أسهل من الرفع.
فإن احتاج إلى أن يصحبه فليكن صاحبًا صالحًا دينًا تقيًا ورعًا ذكيًا كثير الخير قليل الشر حسن المداراة قليل المماراة إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه وإن احتاج واساه وإن ضجر صبره.
ومما يروى عن علي رضي الله عنه:
وإياك وإياه
حليمًا حين واخاه
إذا ما هو ماشاه
فلا تصحب أخا الجهل
فكم من جاهل أردى
يقاس المرء بالمرء
ولبعضهم:
ومن يضر نفسه لينفعك
شتت شمل نفسك ليجمعك
إن أخاك الصدق من كان معك
ومن إذا ريب زمان صدعك
- - -
الفصل الثاني في آدابه مع شيخه وقدوته
وما يجب عليه من عظيم حرمته
وهو ثلاثة عشر نوعًا:
(1/38)
الأول:(1/39)
أنه ينبغي للطالب أن يقدم النظر ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته وتحققت شفقته وظهرت مروءته وعرفت عفته واشتهرت صيانته وكان أحسن تعليمًا وأجود تفهيمًا ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص في ورع أو دين أو عدم خلق جميل.
فعن بعض السلف: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
وليحذر من التقييد بالمشهورين وترك الأخذ عن الخاملين فقد عدّ الغزالي وغيره ذلك من الكبر على العلم وجعله عين الحماقة؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها ويغتنمها حيث ظفر بها، ويتقلد المنّة لمن ساقها إليه فإنه يهرب من مخافة الجهل كما يهرب من الأسد، والهارب من الأسد لا يأنف مِنْ دلالة مَنْ يدله على الخلاص كائنًا من كان.
فإذا كان الخامل ممن ترجى بركته كان النفع به أعم والتحصيل من جهته أتم، وإذا سبرت أحوال السلف والخلف لم تجد النفع يحصل غالبًا والفلاح يدرك طالبًا إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيب وافر، وعلى شفقته ونصحه للطلبة دليل ظاهر.
وكذلك إذا اعتبرت المصنفات وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى الأزهد أوفر والفلاح بالاشتغال به أكثر.
وليجتهد على أن يكون الشيخ ممن له على العلوم الشرعية تمام الإطلاع، وله مع من يوثق به من مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع، لا ممن أخذ عن بطون الأوراق ولم يعرف بصحبة المشايخ الحذاق. قال الشافعي رضي الله عنه: من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام. وكان بعضهم يقول: من أعظم البلية تشيخ الصحيفة. أي الذين تعلموا من الصحف.
الثاني:
أن ينقاد لشيخه في أموره ولا يخرج عن رأيه وتدبيره، بل يكون معه كالمريض مع الطبيب الماهر، فيشاروه فيما يقصده ويتحرى رضاه فيما يعتمده، ويبالغ في حرمته يتقرب إلى الله تعالى بخدمته، ويعلم أن ذله لشيخه عز، وخضوعه له فخر، وتواضعه له رفعة.
ويقال إن الشافعي رضي الله عنه عوتب على تواضعه للعلماء، فقال:
(1/39)(1/40)
ولن تكرم النفس التي لا تهينها
أهين لهم نفسي فهم يكرمونها
وأخذ ابن عباس رضي الله عنهما مع جلالته ومرتبته بركاب زيد بن ثابت الأنصاري وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.
وقال أحمد بن حنبل لخلف الأحمر: لا أقعد إلا بين يديك، أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه.
وقال الغزالي: لا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، قال: ومهما أشار عليه شيخه بطريق في التعليم فليقلده وليدع رأيه فخطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه، وقد نبه الله تعالى على ذلك في قصة موسى والخضر عليهما السلام بقوله: { إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [الكهف: 67]، هذا مع علو قدر موسى الكليم في الرسالة والعلم حتى شرط عليه السكوت فقال: { فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } [الكهف: 70].
الثالث:
أن ينظره بعين الإجلال ويعتقد فيه درجة الكمال فإن ذلك أقرب إلى نفعه به، وكان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدق بشيء وقال: اللهم استر عيب شيخي عني ولا تذهب بركة علمه مني.
وقال الشافعي رضي الله عنه: كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحًا رفيقًا هيبة له لئلا يسمع وقعها.
وقال الربيع: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له.
وحضر بعض أولاد الخليفة المهدي عند شريك فاستند إلى الحائط وسأله عن حديث فلم يلتفت إليه شريك، ثم عاد فعاد شريك بمثل ذلك، قال: تستخف بأولاد الخلفاء؟! قال: لا، ولكن العلم أجلّ عند الله من أن أضيعه، ويروى العلم أزين عند أهله من أن يضيعوه. وينبغي أن لا يخاطب شيخه بتاء الخطاب وكافه، ولا يناديه مِنْ بُعْدٍ بل يقول: يا سيدي ويا أستاذي.
وقال الخطيب: يقول: أيها العالم، وأيها الحافظ ونحو ذلك، وما تقولون في كذا وما رأيكم في كذا وشبه ذلك، ولا يسميه في غيبته أيضًا باسمه إلا مقرونًا بما يشعر بتعظيمه كقوله قال الشيخ أو الأستاذ كذا، وقال شيخنا أو قال حجة الإسلام أو نحو ذلك.
(1/40)(1/41)
الرابع:
أن يعرف له حقه ولا ينسى له فضله، قال شعبة: كنت إذا سمعت من الرجل الحديث كنت له عبدًا ما يحيا، وقال: ما سمعت من أحد شيئًا إلا واختلفت إليه أكثر مما سمعت منه.
ومن ذلك أن يعظم حرمته ويرد غيبته ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق ذلك المجلس.
وينبغي أن يدعو له مدة حياته ويرعى ذريته وأقاربه وأوداءه بعد وفاته، ويتعمد زيارة قبره والاستغفار له والصدقة عنه ويسلك في السمت والهدى مسلكه، ويراعي في العلم والدين عادته ويقتدي بحركاته وسكناته، في عاداته وعباداته، ويتأدب بآدابه ولا يدع الاقتداء به.
الخامس:
أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه أو سوء خلق ولا يصده ذلك عن ملازمته وحسن عقيدته، ويتأول أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جفوة الشيخ بالاعتذار والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجب إليه ويجعل العَتْبَ عليه فإن ذلك أبقى لمودة شيخه واحفظ لقلبه وأنفع للطالب في دنياه وآخرته.
وعن بعض السلف: من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة.
ولبعضهم:
واصبر لجهلك إن جفوت معلمًا
اصبر لدائك إن جفوت طبيبه
وعن ابن عباس: ذللت طالبًا فعززت مطلوبًا. وقال قبله:
لا ينصحان إذا هما لم يكرما
إن المعلم والطبيب كليهما
وقال معافى بن عمران: مثل الذي يغضب على العالم مثل الذي يغضب على أساطين الجامع.
وقال الشافعي رضي الله عنه: قيل لسفيان بن عيينة: إن قومًا يأتونك من أقطار الأرض تغضب عليهم يوشك أن يذهبوا أو يتركوك، فقال للقائل: هم حمقى إذًا مثلك إن تركوا ما ينفعهم لسوء خلقي.
وقال أبو يوسف رحمه الله: خمسة يجب على الإنسان مُدَاراتهم، وعد منهم العالم ليقتبس من علمه.
السادس:
(1/41)(1/42)
أن يشكر الشيخ على توقيفه على ما فيه فضيلة، وعلى توبيخه على ما فيه نقيصة، أو على كسل يعتريه، أو قصور يعاينه أو غير ذلك مما في إيقافه عليه وتوبيخه إرشاده وصلاحه، ويعد ذلك من الشيخ من نعم الله تعالى عليه باعتناء الشيخ به ونظره إليه، فإن ذلك أمثل إلى قلب الشيخ وأبعث على الاعتناء بمصالحه.
وإذا أوقفه الشيخ على دقيقة من أدب أو نقيصة صدرت منه وكان يعرفه من قبل فلا يظهر أنه كان عارفًا به وغفل عنه، بل يشكر الشيخ على إفادته ذلك واعتنائه بأمره، فإن كان له في ذلك عذر وكان إعلام الشيخ به أصلح فلا بأس به وإلا تركه، إلا أن يترتب على ترك بيان العذر مفسدة فيتعين إعلامه به.
السابع:
أن لا يدخل على الشيخ في غير المجلس العام إلا باستئذان سواء كان الشيخ وحده أو كان معه غيره، فإن استأذن بحيث يعلم الشيخ ولم يأذن له انصرف ولا يكرر الاستئذان، وإن شك في علم الشيخ به فلا يزيد في الاستئذان فوق ثلاث مرات أو ثلاث طرقات بالباب أو الحلقة، وليكن طرق الباب خفيًا بأدب بأظفار الأصابع، ثم بالأصابع، ثم بالحلقة قليلاً قليلاً، فإن كان الموضع بعيدًا عن الباب والحلقة فلا بأس برفع ذلك بقدر ما يسمع لا غير، وإذا أذن وكانوا جماعة يُقَدَّم أفضلهم وأسنهم بالدخول والسلام عليه، ثم سلم عليه الأفضل فالأفضل.
وينبغي أن يدخل على الشيخ كامل الهيئة متطهر البدن والثياب نظيفهما بعدما يحتاج إليه من أخذ ظفر وشعر وقطع رائحة كريهة لاسيما إن كان يقصد مجلس العلم فإنه مجلس ذكر واجتماع في عبادة.
ومتى دخل على الشيخ في غير المجلس العام وعنده من يتحدث معه فسكتوا عن الحديث أو دخل والشيخ وحده يصلي أو يذكر أو يكتب أو يطالع فترك ذلك أو سكت ولم يبدأه بكلام أو بسط حديث فليسلم ويخرج سريعًا إلا أن يحثه الشيخ على المكث، وإذا مكث فلا يطيل إلا أن يأمره بذلك.
(1/42)(1/43)
وينبغي أن يدخل على الشيخ أو يجلس عنده وقلبه فارغ من الشواغل له وذهنه صاف لا في حال نعاس أو غضب أو جوع شديد أو عطش أو نحو ذلك؛ لينشرح صدره لما يقال ويعي ما يسمعه.
وإذا حضر مكان الشيخ فلم يجده جالسًا انتظره كيلا يفوت على نفسه درسه؛ فإن كل درس يفوت لا عوض له ولا يطرق عليه ليخرج إليه، وإن كان نائمًا صبر حتى يستيقظ أو ينصرف ثم يعود والصبر خير له، فقد روي عن ابن عباس كان يجلس في طلب العلم على باب زيد بن ثابت حتى يستيقظ فيقال له: ألا نوقظه لك؟ فيقول: لا، وربما طال مقامه وقرعته الشمس، وكذلك كان السلف يفعلون.
ولا يطلب من الشيخ إقراءه في وقت يشق عليه فيه أو لم تجر عادته بالإقراء فيه ولا يخترع عليه وقتًا خاصًا به دون غيره وإن كان رئيسًا كبيرًا لما فيه من الترفع والحمق على الشيخ والطلبة والعلم، وربما استحيا الشيخ منه فترك لأجله ما أهم عنده في ذلك الوقت فلا يفلح الطالب، فإن بدأه الشيخ بوقت معين أو خاص بعذر عائق له عن الحضور مع الجماعة أو لمصلحة رآها الشيخ فلا بأس بذلك.
الثامن:
أن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب كما يجلس الصبي بين يدي المقري أو متربعًا بتواضع وخضوع وسكون وخشوع ويصغي إلى الشيخ ناظرًا إليه ويقبل بكليته عليه متعقلاً لقوله بحيث لا يُحْوِجُه إلى إعادة الكلام مرة ثانية، ولا يلتفت من غير ضرورة، ولا ينظر إلى يمينه أو شماله أو فوقه أو قدامه بغير حاجة ولاسيما عند بحثه له أو عند كلامه معه.
فلا ينبغي أن ينظر إلا إليه ولا يضطرب لضجة يسمعها أو يلتفت إليها ولاسيما عند بحث له ولا ينفض كميه ولا يحسر عن ذراعيه ولا يعبث بيديه أو رجليه أو غيرهما من أعضائه ولا يضع يده على لحيته أو فمه أو يعبث بها في أنفه أو يستخرج منها شيئًا ولا يفتح فاه، ولا يقرع سنه، ولا يضرب الأرض براحته أو يخط عليها بأصابعه، ولا يشبك بيديه أو يعبث بأزراره.
(1/43)(1/44)
ولا يسند بحضرة الشيخ إلى حائط أو مخدة أو درابزين، أو يجعل يده عليها، ولا يعطي الشيخ جنبه أو ظهره، ولا يعتمد على يده إلى ورائه أو جنبه، ولا يكثر كلامه من غير حاجة، ولا يحكي ما يضحك منه أو ما فيه بذاءة أو يتضمن سوء مخاطبة أو سوء أدب، ولا يضحك لغير عجب، ولا يعجب دون الشيخ، فإن غلبه تبسم تبسمًا بغير صوت البتة.
ولا يكثر التنحنح من غير حاجة ولا يبصق ولا يتنخع ما أمكنه، ولا يلفظ النخامة من فيه بل يأخذها من فيه بمنديل أو خرقة أو طرف ثوبه ويتعاهد تغطية أقدامه وإرخاء ثيابه وسكون يديه عند بحثه أو مذاكرته، وإذا عطس خفض صوته جهده وستر وجهه بمنديل أو نحوه، وإذا تثاءب ستر فاه بعد رده جهده.
وعن علي رضي الله عنه قال: من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية وأن تجلس أمامه ولا تشيرن عنده بيديك ولا تغمز بعينيك غيره، ولا تقولن: قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تطلبن عثرته وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته ولا تسارّ في مجلسه ولا تأخذ بثوبه ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء، ولقد جمع رضي الله عنه في هذه الوصية ما فيه كفاية.
قال بعضهم: ومن تعظيم الشيخ أن لا يجلس إلى جانبه ولا على مصلاه أو وسادته، وإن أمره الشيخ بذلك فلا يفعله إلا إذا جزم عليه جزمًا يشق عليه مخالفته فلا بأس بامتثال أمره في تلك الحال ثم يعود إلى ما يقتضيه الأدب، وقد تكلم الناس في أي الأمرين أولى أن يعتمد: امتثال الأمر أو سلوك الأدب، والذي يترجح ما قدمته من التفصيل فإن جزم الشيخ بما أمره به بحيث يشق عليه مخالفته فامتثال الأمر أولى وإلا فسلوك الأدب أولى، لجواز أن يقصد الشيخ خيره وإظهار احترامه والاعتناء به فيقابل هو ذلك بما يجب من تعظيم الشيخ والأدب معه.
التاسع:
(1/44)(1/45)
أن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان ولا يقول له لم، ولا لا نسلم، ولا من نقل هذا، ولا أين موضعه وشبه ذلك فإن أراد استفادته تلطف في الوصول إلى ذلك، ثم هو في مجلس آخر أولى على سبيل الإفادة.
عن بعض السلف: من قال لشيخه لم، لم يفلح أبدًا، وإذا ذكر الشيخ شيئًا فلا يقل: هكذا قلت أو خطر لي أو سمعت أو هكذا قال فلان، إلا أن يعلم إيثار الشيخ ذلك، وهكذا لا يقول: قال فلان خلاف هذا، وروى فلان خلافه، أو هذا غير صحيح ونحو ذلك.
(1/45)(1/46)
وإذا أصر الشيخ على قول أو دليل ولم يظهر له أو على خلاف صواب سهوًا فلا يغير وجهه أو عينيه أو يشير إلى غيره كالمنكر لما قاله بل يأخذه ببشر ظاهر، وإن لم يكن الشيخ مصيبًا لغفلة أو سهو أو قصور نظر في تلك الحال فإن العصمة في البشر للأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وليتحفظ من مخاطبة الشيخ بما يعتاده بعض الناس في كلامه، ولا يليق خطابه به مثل: إيش بك، وفهمت، وسمعت، وتدري، ويا إنسان، ونحو ذلك، وكذلك لا يحكي له ما خوطب به غيره مما لا يليق خطاب الشيخ به، وإن كان حاكيًا مثل: قال فلان لفلان: أنت قليل البر، أو ما عندك خير وشبه ذلك، بل يقول إذا أراد الحكاية ما جرت العادة بالكناية به مثل: قال فلان لفلان الأَبْعَد قليل البر, وما عند البعيد خير وشبه ذلك. وليتحفظ من مفاجأة الشيخ بصورة رد عليه فإنه يقع ممن لا يحسن الأدب من الناس كثيرًا مثل أن يقول له الشيخ: أنت قلت كذا وكذا، فيقول: ما قلت كذا، ويقول له الشيخ: مرادك في سؤالك كذا، أو خطر لك كذا, فيقول: لا أو ما هذا مرادي، أو ما خطر لي هذا وشبه ذلك، بل طريقه أن يتلطف بالمعاسرة عن الرد على الشيخ، وكذلك إذا استفهم الشيخ استفهام تقرير وجزم كقوله: ألم تقل كذا، وأليس مرادك كذا، فلا يبادر بالرد عليه بقوله لا أو ما هو مرادي، بل يسكت أو يوري عن ذلك بكلام لطيف يفهم الشيخ قصده منه، فإن لم يكن بد من تحرير قصده وقوله، فليقل: فأنا الآن أقول كذا، وأعود إلى قصد كذا، ويعيد كلامه ولا يقل الذي قلته أو الذي قصدته ليضمنه الرد عليه.
وكذلك ينبغي أن يقول في موضع لم ولا نسلم فإن قيل لنا كذا أو فإن منعنا ذلك، أو فإن سئلنا عن كذا أو فإن أورد كذا وشبه ذلك ليكون مستفهمًا للجواب سائلاً له بحسن أدب ولطف عبارة.
العاشر:
إذا سمع الشيخ يذكر حكمًا في مسألة أو فائدة مستغربة أو يحكي حكاية أو ينشد شعرًا وهو يحفظ ذلك أصغى إليه إصغاء مستفيد له في الحال متعطش إليه فرح به كأنه لم يسمعه قط.(1/47)
(1/46)
قال عطاء: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئًا. وعنه قال: إن الشاب ليتحدث بحديث فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد.
فإن سأله الشيخ عند الشروع في ذلك عن حفظه له فلا يجيب بنعم لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه ولا يقل لا لما فيه من الكذب بل يقول أحب أن أسمعه من الشيخ، أو أن أستفيده منه، أو بعد عهدي أو هو من جهتكم أصح، فإن علم من حال الشيخ أنه يؤثر العلم بحفظه له مسرة به أو أشار إليه بإتمامه امتحانًا لضبطه وحفظه أو لإظهار تحصيله فلا بأس باتباع غرض الشيخ ابتغاء مرضاته وازدياد الرغبة فيه، ولا ينبغي للطالب أن يكرر سؤال ما يعلمه ولا استفهام ما يفهمه؛ فإنه يضيع الزمان وربما أضجر الشيخ، قال الزهري: إعادة الحديث أشد من نقل الصخر، وينبغي أن لا يقصر في الإصغاء والتفهم أو يشتغل ذهنه بفكر أو حديث ثم يستعيد الشيخ ما قاله لأن ذلك إساءة أدب بل يكون مصغيًا لكلامه حاضر الذهن لما يسمعه من أول مرة.
وكان بعض المشايخ لا يعيد لمثل هذا إذا استعاده ويزيده عقوبة له، وإذا لم يسمع كلام الشيخ لبعده أو لم يفهمه من الإصغاء إليه والإقبال عليه، فله أن يسأل الشيخ إعادته وتفهيمه بعد بيان عذره بسؤال لطيف.
الحادي عشر:
أن لا يسبق الشيخ إلى شرح مسالة أو جواب سؤال منه أو من غيره ولا يساوقه فيه ولا يظهر معرفته به أو إدراكه له قبل الشيخ، فإن عرض الشيخ عليه ذلك ابتداء والتمسه منه فلا بأس.
وينبغي أن لا يقطع على الشيخ كلامه؛ أي كلام كان، ولا يسابقه فيه ولا يساوقه بل يصبر حتى يفرغ الشيخ كلامه ثم يتكلم، ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه أو مع جماعة المجلس.
وليكن ذهنه حاضرًا في كل وقت بحيث إذا أمره بشيء أو سأله عن شيء أو أشار إليه لم يحوجه إلى إعادته ثانيًا بل يبادر إليه مسرعًا ولم يعاوده فيه أو يعترض عليه بقوله فإن لم يكن الأمر كذا.
الثاني عشر:
(1/47)(1/48)
إذا ناوله الشيخ شيئًا تناوله باليمين وإن ناوله شيئًا ناوله باليمين، فإن كان ورقة يقرؤها كفتيا أو قصة أو مكتوب شرعي ونحو ذلك نشرها ثم دفعها إليه ولا يدفعها إليه مطوية إلا إذا علم أو ظن إيثار الشيخ لذلك، وإذا أخذ من الشيخ ورقة بادر إلى أخذها منشورة قبل أن يطويها أو يتربها.
وإذا ناول الشيخ كتابًا ناوله إياه مهيئًا لفتحه والقراءة فيه من غير احتياج إلى إدارته فإن كان النظر في موضع معين فليكن مفتوحًا كذلك، ويعين له المكان، ولا يحذف إليه الشيء حذفًا من كتاب أو ورقة أو غير ذلك. ولا يمد يديه إليه إذا كان بعيدًا ولا يحوج الشيخ إلى مد يده أيضًا لأخذ منه أو عطاء بل يقوم إليه قائمًا ولا يزحف إليه زحفًا، وإذا جلس بين يديه لذلك فلا يقرب منه قربًا كثيرًا ينسب فيه إلى سوء أدب.
ولا يضع رجله أو يده أو شيئًا من بدنه أو ثيابه على ثياب الشيخ أو وسادته أو سجادته، ولا يشير إليه بيده أو يقربها من وجهه أو صدره أو يمس بها شيئًا من بدنه أو ثيابه.
وإذا ناوله قلمًا ليمد به فليمده قبل إعطائه إياه، وإن وضع بين يديه دواة فلتكن مفتوحة الأغطية مهيأة لكتابة منها، وإن ناوله سكينًا فلا يصوب إليه شفرتها ولا نصابها ويده قابضة على الشفرة، بل يكون عرضًا وحد شفرتها إلى جهته قابضًا على طرف النصاب مما يلي النصل جاعلاً نصابها على يمين الآخذ.
وإن ناوله سجادة ليصلي عليها نشرها أولاً والأدب أن يفرشها هو عند قصد ذلك، وإذا فرشها ثنى مؤخَّرَ طرفها الأيسر كعادة الصوفية فإن كانت مثنية جعل طرفيها إلى يسار المصلي وإن كانت فيه صورة محراب تحرى به جهة القبلة إن أمكن.
ولا يجلس بحضرة الشيخ على سجادة ولا يصلي عليها إذا كان المكان طاهرًا.
وإذا قام الشيخ بادر القوم إلى أخذ السجادة وإلى الأخذ بيده أو عضده إن احتاج، وإلى تقديم نعله إن لم يشق ذلك على الشيخ؛ ويقصد بذلك كله التقرب إلى الله وإلى قلب الشيخ.
(1/48)(1/49)
وقيل: أربعة لا يأنف الشريف منهن وإن كان أميرًا؛ قيامُه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم يتعلم منه، والسؤال عن ما لا يعلم، وخدمته للضيف.
الثالث عشر:
إذا مشى مع الشيخ فليكن أمامه بالليل وخلفه بالنهار إلا أن يقتضي الحال خلاف ذلك لزحمة أو غيرها ويتقدم عليه في المواطئ المجهولة الحال كوحل أو حوض، أو المواطئ الخطرة ويحترز من ترشيش ثياب الشيخ، وإذا كان في زحمة صانه عنها بيديه إما من قدامه أو من ورائه.
وإذا مشى أمامه التفت إليه بعد كل قليل، فإن كان وحده والشيخ يكلمه حالة المشي وهما في ظل فليكن في يمينه وقيل: عن يساره، متقدمًا عليه قليلاً ملتفتًا إليه ويُعَرِّف الشيخ بمن قرب منه أو قصده من الأعيان إن لم يعلم الشيخ به.
ولا يمشي لجانب الشيخ إلا لحاجة أو إشارة منه، ويحترز من مزاحمته بكتفه أو بركابه إن كانا راكبين وملاصقة ثيابه، ويؤثره بجهة الظل في الصيف وبجهة الشمس في الشتاء وبجهة الجدار في الرصفانات ونحوها، وبالجهة التي لا تقرع الشمس فيها وجهه إذا التفت إليه، ولا يمشي بين الشيخ وبين من يحدثه ويتأخر عنهما إذا تحدثا أو يتقدم، ولا يقرب ولا يستمع ولا يلتفت فإن أدخله في الحديث فليأت من جانب آخر ولا يشق بينهما، وإذا مشى مع الشيخ اثنان فاكتنفاه فقد رجَّح بعضهم أن يكون أكبرهما عن يمينه وإن لم يكتنفاه تقدم أكبرهما وتأخر أصغرهما.
وإذا صادف الشيخ في طريقه بدأه بالسلام، ويقصده بالسلام إن كان بعيدًا ولا يناديه ولا يسلم عليه من بعيد ولا من ورائه، بل يقرب منه ويتقدم عليه ثم يسلم، ولا يشير عليه ابتداء بالأخذ في طريق حتى يستشيره ويتأدب فيما يستشيره الشيخ بالرد إلى رأيه.
ولا يقول لما رآه الشيخ وكان خطأ هذا خطأ ولا هذا ليس برأي، بل يُحسن خطابه في الرد إلى الصواب كقوله: يظهر أن المصلحة في كذا، ولا يقول الرأي عندي كذا وشبه ذلك.
- - -
الفصل الثالث في آدابه في دروسه وقراءته في الحلقة
(1/49)(1/50)
وما يعتمده فيها مع الشيخ والرفقة
وهو ثلاثة عشر نوعًا:
النوع الأول:
أن يبتدئ أولاً بكتاب الله العزيز فيتقنه حفظًا ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها.
ثم يحفظ من كل فن مختصرًا يجمع فيه بين طرفيه من الحديث وعلومه، والأصولين والنحو والتصريف، ولا يشتغل بذلك كله عن دراسة القرآن وتعهده وملازمة ورده منه في كل يوم أو أيام أو جمعة كما تقدم، وليحذر من نسيانه بعد حفظه فقد ورد فيه أحاديث تزجر عنه.
ويشتغل بشرح تلك المحفوظات على المشايخ وليحذر من الاعتماد في ذلك على الكتب أبدًا، بل يعتمد في كل فن من هو أحسن تعليمًا له وأكثر تحقيقًا فيه وتحصيلاً منه وأخبرهم بالكتاب الذي قرأه وذلك بعد مراعاة الصفات المقدمة من الدين والصلاح والشفقة وغيرها.
فإن كان شيخه لا يجد من قراءته وشرحه على غيره معه فلا بأس بذلك، وإلا راعى قلب شيخه إن كان أرجاهم نفعًا لأن ذلك أنفع له وأجمع لقلبه عليه، وليأخذ من الحفظ والشرح ما يمكنه ويطيقه حاله من غير إكثار يمل ولا تقصير يخل بجودة التحصيل.
الثاني:
أن يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقًا في العقليات والسمعيات؛ فإنه يحير الذهن ويدهش العقل، بل يتقن أولاً كتابًا واحدًا في فن واحد، أو كتبًا في فنون إن كان يحتمل ذلك على طريقة واحدة يرتضيها له شيخه، فإن كانت طريقة شيخه نقل المذاهب والاختلاف ولم يكن له رأي واحد، قال الغزالي: فليحذر منه فإن ضرره أكثر من النفع به.
وكذلك يحذر في ابتداء طلبه من المطالعات في تفاريق المصنفات فإنه يضيع زمانه ويفرق ذهنه بل يعطى الكتاب الذي يقرؤه أو الفن الذي يأخذه كليته حتى يتقنه، وكذلك يحذر من التنقل من كتاب إلى كتاب من غير موجب فإنه علامة الضجر وعدم الإفلاح.
(1/50)(1/51)
أما إذا تحقق أهليته وتأكدت معرفته فالأولى أن لا يدع فنًا من العلوم الشرعية إلا نظر فيه، فإن ساعده القدر وطول العمر على التبحر فيه فذاك وإلا فقد استفاد منه ما يخرج به من عداوة الجهل بذلك العلم، ويعتني من كل علم بالأهم فالأهم، ولا يغفلن عن العمل الذي هو المقصود بالعلم.
الثالث:
أن يصحح ما يقرؤه قبل حفظه تصحيحًا متقنًا إما على الشيخ أو على غيره مما يعينه، ثم يحفظه بعد ذلك حفظًا محكمًا ثم يكرر عليه بعد حفظه تكرارًا جيدًا، ثم يتعاهده في أوقات يقررها لتكرار مواضيه، ولا يحفظ شيئًا قبل تصحيحه لأنه يقع في التحريف والتصحيف، وقد تقدم أن العلم لا يؤخذ من الكتب فإنه من أضر المفاسد.
وينبغي أن يحضر معه الدواة والقلم والسكين للتصحيح ولضبط ما يصححه لغة وإعرابًا.
وإذا رد الشيخ عليه لفظه وظن أن رده خلاف الصواب أو علمه كرر اللفظة مع ما قبلها لينتبه لها الشيخ أو يأتي بلفظ الصواب على سبيل الاستفهام فربما وقع ذلك سهوًا أو سبق لسان لغفلة، ولا يقل بل هي كذا بل يتلطف في تنبيه الشيخ لها فإن لم ينتبه قال فهل يجوز فيها كذا، فإن رجع الشيخ إلى الصواب فلا كلام وإلا ترك تحقيقها إلى مجلس آخر بتلطف لاحتمال أن يكون الصواب مع الشيخ. وكذلك إذا تحقق خطأ الشيخ في جواب مسألة لا يفوت تحقيقه ولا يعسر تداركه فإن كان كذلك كالكتابة في رقاع الاستفتاء وكون السائل غريبًا أو بعيد الدار أو مشنعًا تعين تنبيه الشيخ على ذلك في الحال بإشارة أو تصريح، فإن ترك ذلك خيانة للشيخ فيجب نصحه بتلفظه لذلك بما أمكن من تلطف أو غيره.
وإذا وقف على مكان كتب قبالته بلغ العرض والتصحيح.
الرابع:
أن يبكر بسماع الحديث ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه والنظر في إسناده ورجاله ومعانيه وأحكامه وفوائده ولغته وتواريخه.
(1/51)(1/52)
ويعتني أولاً بصحيحي البخاري ومسلم، ثم ببقية الكتب الأعلام والأصول المعتمدة في هذا الشأن كموطأ مالك وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وجامع الترمذي ومسند الشافعي، ولا ينبغي أن يقتصر على أقل من ذلك.
ونعم المعين للفقيه كتاب السنن الكبير لأبي بكر البيهقي، ومن ذلك المسانيد كمسند أحمد بن حنبل وابن حميد والبزار.
ويعتني بمعرفة صحيح الحديث وحسنه وضعيفه ومسنده ومرسله وسائر أنواعه فإنه أحد جناحي العالم بالشريعة المبين لكثير من الجناح الآخر وهو القرآن.
ولا يقنع بمجرد السماع كغالب محدثي هذا الزمان بل يعتني بالدراية أشد من اعتنائه بالرواية، قال الشافعي رضي الله عنه: من نظر في الحديث قويت حجته لأن الدراية هي المقصود بنقل الحديث وتبليغه.
الخامس:
إذا شرح محفوظاته المختصرات وضبط ما فيها من الإشكالات والفوائد المهمات انتقل إلى بحث المبسوطات مع المطالعة الدائمة وتعليق ما يمر به أو يسمعه من الفوائد النفيسة والمسائل الدقيقة والفروع الغريبة وحل المشكلات والفروق بين أحكام المتشابهات من جميع أنواع العلوم، ولا يستقل بفائدة يسمعها أو يتهاون بقاعدة يضبطها بل يبادر إلى تعليقها وحفظها ولتكن همته في طلب العلم عالية فلا يكتفي بقليل العلم مع إمكان كثيره ولا يقنع من إرث الأنبياء صلوات الله عليهم بيسيره ولا يؤخر تحصيل فائدة تمكن منها أو يشغله الأمل والتسويف عنها فإن للتأخير آفات، ولأنه إذا حصلها في الزمن الحاضر حصل في الزمن الثاني غيرها.
(1/52)(1/53)
ويغتنم وقت فراغه ونشاطه وزمن عافيته وشرخ شبابه ونباهة خاطره وقلة شواغله قبل عوارض البطالة أو موانع الرياسة، قال عمر رضي الله عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا. وقال الشافعي رضي الله عنه: تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه. وليحذر من نظر نفسه بعين الجمال والاستغناء عن المشايخ فإن ذلك عين الجهل وقلة المعرفة وما يفوته أكثر مما حصله وقد تقدم قول سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالمًا ما تعلم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى أسوأ جهل ما يكون.
وإذا كملت أهليته وظهرت فضيلته ومر على أكثر كتب الفن أو المشهورة منها بحثًا ومراجعة ومطالعة اشتغل بالتصنيف، وبالنظر في مذاهب العلماء، سالكًا طريق الإنصاف فيما يقع له من الخلاف كما تقدم في أدب العالم.
السادس:
أن يلزم حلقة شيخه في التدريس والإقراء بل وجميع مجالسه إذا أمكن فإنه لا يزيده إلا خيرًا وتحصيلاً وأدبًا وتفضيلاً، كما قال علي رضي الله عنه في حديثه المتقدم. ولا تشبع من طول صحبته فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء، ويجتهد على مواظبته في خدمته والمسارعة إليها فإن ذلك يكسبه شرفًا وتبجيلاً.
ولا يقتصر في الحلقة على سماع درسه فقط إذا أمكنه فإن ذلك علامة قصور الهمة وعدم الفلاح وبطء التنبه بل يعتني بسائر الدروس المشروحة ضبطًا وتعليقًا ونقلاً، وإن احتمل ذهنه ذلك ويشارك أصحابها حتى كأن كل درس منها له ولعمري أن الأمر كذلك للحريص فإن عجز عن ضبط جمعها اعتنى بالأهم فالأهم منها.
وينبغي أن يتذاكر مواظبو مجلس الشيخ ما وقع فيه من الفوائد والضوابط والقواعد وغير ذلك، وأن يعيدوا كلام الشيخ فيما بينهم فإن في المذاكرة نفعًا عظيمًا، وينبغي المذاكرة في ذلك عند القيام من مجلسه قبل تفرق أذهانهم وتشتت خواطرهم وشذوذ بعض ما سمعوه عن أفهامهم ثم يتذاكرونه في بعض الأوقات.
(1/53)(1/54)
قال الخطيب: وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل، وكان جماعة من السلف يبدؤون في المذاكرة من العشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح.
فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه، وكرر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه ليعلق ذلك على خاطره فإن تكرار المعنى على القلب كتكرار اللفظ على اللسان سواء بسواء، وقل أن يفلح من يقتصر على الفكر والتعقل بحضرة الشيخ خاصة ثم يتركه ويقوم ولا يعاوده.
السابع:
إذا حضر مجلس الشيخ سلم على الحاضرين بصوت يسمع جميعه ويخص الشيخ بزيادة تحية وإكرام، وكذلك يسلم إذا انصرف.
وعد بعضهم حلق العلم في حال أخذهم فيه من المواضع التي لا يسلم فيها وهذا خلاف ما عليه العرف والعمل لكن يتجه ذلك في شخص واحد مشتغل بحفظ درسه وتكراره، وإذا سلم فلا يتخطى رقاب الحاضرين إلى قرب الشيخ من لم يكن منزلته كذلك، بل يجلس حيث انتهى به المجلس كما ورد في الحديث، فإن صرح له الشيخ والحاضرون بالتقدم أو كانت منزلته أو كان يعلم إيثار الشيخ والجماعة لذلك فلا بأس.
ولا يقيم أحدًا من مجلسه أو يزاحمه قصدًا، فإن آثره الغير بمجلسه لم يقبله إلا أن تكون في ذلك مصلحة يعرفها القوم وينتفعون بها من بحثه مع الشيخ لقربه منه أو لكونه كبير السن أو كثير الفضيلة والصلاح.
ولا ينبغي لأحد أن يؤثر بقربه من الشيخ ـ إلا لمن هو أولى بذلك لسنه أو علمه أو صلاحه بل يحرص على القرب من الشيخ ـ إذا لم يرتفع في المجلس على من هو أفضل منه.
وإن كان الشيخ في صدر مكان فأفضل الجماعة أحق بما على يمينه ويساره وإن كان على طرف صفة أو نحوها فالمبجلون مع الحائط أو مع طرفها قبالته.
وقد جرت العادة في مجالس التدريس بجلوس المتميز قبالة وجه المدرس أو المبجلين من معيد أو زائر عن يمينه أو يساره، وينبغي للرفقاء في درس واحد أو دروس أن يجتمعوا في جهة واحدة ليكون نظر الشيخ إليهم جميعًا عند الشرح ولا يخص بعضهم في ذلك دون بعض.
الثامن:
(1/54)(1/55)
أن يتأدب مع حاضري مجلس الشيخ فإنه أدب معه واحترام لمجلسه وهم رفقاؤه فيوقر أصحابه ويحترم كبراءه وأقرانه، ولا يجلس وسط الحلقة ولا قدام أحد إلا لضرورة كما في مجالس التحديث ولا يفرق بين رفيقين ولا بين متصاحبين إلا بإذنهما معًا ولا فوق من هو أولى منه.
وينبغي للحاضرين إذا جاء القادم أن يرحبوا به ويوسعوا له ويتوسعوا لأجله، ويكرموه بما يكرم به مثله، وإذا فسح له في المجلس وكان حرجًا ضم نفسه.
ولا يتوسع ولا يعطي أحدًا منهم جنبه ولا ظهره، ويتحفظ من ذلك ويتعهده عند بحث الشيخ له، ولا يجنح على جاره أو يجعل مرفقه قائمًا في جنبه أو يخرج عن نسق الحلقة بتقدم أو تأخر.
ولا يتكلم في أثناء درس غيره أو درسه بما لا يتعلق به أو بما يقطع عليه بحثه، وإذا شرع بعضهم في درس فلا يتكلم بكلام يتعلق بدرس فرغ ولا بغيره مما لا تفوت فائدة إلا بإذن من الشيخ وصاحب الدرس.
وإن أساء بعض الطلبة أدبًا على غيره لم ينهره غير الشيخ إلا بإشارته أو سرًا بينهما على سبيل النصيحة، وإن أساء أحد أدبه على الشيخ تعين على الجماعة انتهاره ورده والانتصار للشيخ بقدر الإمكان وفاء لحقه، ولا يشارك أحد من الجماعة أحدًا في حديثه ولا سيما الشيخ. قال بعض الحكماء: من الأدب أن لا يشارك الرجل في حديثه وإن كان أعلم به منه، وأنشد الخطيب في هذا المكان:
وإن عرفت فرعه وأصله
ولا تشارك في الحديث أهله
فإن علم إيثار الشيخ ذلك أو المتكلم فلا بأس، وقد تقدم ذلك مفصلاً في الفصل قبله.
التاسع:
(1/55)(1/56)
أن لا يستحيي من سؤال ما أشكل عليه وتفهم ما لم يتعقد بتلطف وحسن خطاب وأدب وسؤال. قال عمر رضي الله عنه: من رق وجهه رق علمه، وقد قيل: من رق وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال، وقال مجاهد: لا يتعلم العلم مستحيي ولا مستكبر. وقالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله نساء الأنصار لم يكن الحياء يمنعهن أن يتفقهن في الدين. وقالت أم سليم رضي الله عنها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله لا يستحيي من الحق، هل على امرأة من الغسل إذا احتلمت؟
ولبعض العرب:
تمام العمى طول السكوت على الجهل
وليس العمى طول السؤال وإنما
ولا يسأل عن شيء في غير موضعه إلا لحاجة أو علم بإيثار الشيخ ذلك، وإذا سكت الشيخ عن الجواب لم يلح عليه، وإن أخطأ في الجواب فلا يرد في الحال عليه وقد تقدم، وكما لا ينبغي للطالب أن يستحيي من السؤال فكذلك لا يستحيي من قوله لم أفهم إذا سأله الشيخ لأن ذلك يفوت عليه مصلحته العاجلة والآجلة، أما العاجلة فحفظ المسألة ومعرفتها واعتقاد الشيخ فيه الصدق والورع والرغبة، والآجلة سلامته من الكذب والنفاق واعتياده التحقيق.
قال الخليل: منزلة الجهل بين الحياء والأنفة، وقد تقدم في أدب العالم أنه لا يسأل المستحيي هل فهمت، بل يتوصل إلى العلم بفهمه بطرح المسائل فإن سأله فلا يقول نعم، حتى يتضح له المعنى اتضاحًا جليًا كيلا يفوته الفهم ويدركه بكذبه الإثم.
العاشر:
مراعاة نوبته فلا يتقدم عليه بغير رضا من هي له، روي أن أنصاريًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله وجاء رجل من ثقيف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أخا ثقيف إن الأنصاري قد سبقك بالمسألة فاجلس كيما نبدأ بحاجة الأنصاري قبل حاجتك.
قال الخطيب: يستحب للسابق أن يقدم على نفسه من كان غريبًا لتأكد حرمته ووجوب ذمته، وروي في ذلك حديثان عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
(1/56)(1/57)
وكذلك إذا كان للمتأخر حاجة ضرورية وعلمها المتقدم أو أشار الشيخ بتقدمه فيستحب إيثاره، فإن لم يكن شيء من ذلك ونحوه فقد كره قوم الإيثار بالنوبة لأن قراءة العلم والمسارعة إليه قربة والإيثار بالقرب مكروه، ويحصل تقدم النوبة بتقدم الحضور في مجلس الشيخ أو إلى مكانه، ولا يسقط حقه بذهابه إلى ما يضطر إليه من قضاء حاجة وتجدد وضوء إذا عاد بعده.
وإذا تساوق اثنان وتنازعا أقرع بينهما أو يقدم الشيخ أحدهما إن كان متبرعًا، وإن كان عليه إقراؤهما فالقرعة ومعيد المدرسة إذا شرط عليه إقراء أهلها فيها في وقت فلا يقدم عليهم الغرباء فيه بغير إذنهم.
الحادي عشر:
أن يكون جلوسه بين يدي الشيخ على ما تقدم تفصيله وهيأته في أدبه مع شيخه ويحضر كتابه الذي يقرأ منه معه ويحمله بنفسه ولا يضعه حال القراءة على الأرض مفتوحًا بل يحمله بيديه ويقرأ منه، ولا يقرأ حتى يستأذن الشيخ، ذكره الخطيب عن جماعة من السلف، وقال: يجب أن لا يقرأ حتى يأذن له الشيخ.
ولا يقرأ عند شغل قلب الشيخ أو ملله أو غمه أو غضبه أو جوعه أو عطشه أو نعاسه أو استيفازه أو تعبه.
وإذا رأى الشيخ قد آثر الوقوف اقتصر ولا يحوجه إلى قوله اقتصر، وإن لم يظهر له ذلك فأمره بالاقتصار اقتصر حيث أمره ولا يستزيده، وإذا عين له قدرًا فلا يتعداه، ولا يقول طالب لغيره اقتصر، إلا بإذن الشيخ أو ظهور إيثاره ذلك.
الثاني عشر:
إذا حضرت نوبته استأذن الشيخ كما ذكرناه فإذا أذن له استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يسمي الله تعالى ويحمده، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه، ثم يدعو للشيخ ولوالديه ولمشايخه ولنفسه ولسائر المسلمين، وكذلك يفعل كلما شرع في قراءة درس أو تكراره أو مطالعته أو مقابلته في حضور الشيخ أو في غيبته إلا أن يخص الشيخ بذكره في الدعاء عند قراءته عليه.
(1/57)(1/58)
ويترحم على مصنف الكتاب عند قراءته، وإذا دعا الطالب للشيخ قال: ورضي الله عنكم أو عن شيخنا وإمامنا ونحو ذلك، ويقصد به الشيخ، وإذا فرغ من الدرس دعا للشيخ أيضًا، ويدعو الشيخ أيضًا للطالب كلما دعا له، فإن ترك الطالب الاستفتاح بما ذكرناه جهلاً أو نسيانًا نبهه عليه وعلمه إياه وذكره به، فإنه من أهم الآداب، وقد ورد الحديث في ابتداء الأمور المهمة بحمد الله تعالى، وهذا منها.
الثالث عشر:
أن يرغب بقية الطلبة في التحصيل ويدلهم على مظانه ويصرف عنهم الهموم المشغلة عنه ويهون عليهم مؤنته ويذاكرهم بما حصله من الفوائد والقواعد والغرائب وينصحهم بالدين، فبذلك يستنير قلبه ويزكو عمله ومن بخل عليهم لم يثبت علمه، وإن ثبت لم يثمر، وقد جرب ذلك جماعة من السلف، ولا يفخر عليهم أو يعجب بجودة ذهنه بل يحمد الله تعالى على ذلك ويستزيده منه بدوام شكره.
- - -
الباب الرابع في الآداب مع الكتب
وما يتعلق بها
الباب الرابع
في الآداب مع الكتب التي هي آلة العلم، وما يتعلق بتصحيها وضبطها وحملها ووضعها وشرائها وعاريتها ونسخها وغير ذلك
وفيه أحد عشر نوعًا:
الأول:
ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنه شراء وإلا فإجارة أو عارية لأنها آلة التحصيل ولا يجعل تحصيلها وكثرتها حظه من العلم وجمعها نصيبه من الفهم كما يفعله كثير من المنتحلين للفقه والحديث وقد أحسن القائل:
فجمعك للكتب لا ينفع
إذا لم تكن حافظًا واعيًا
وإذا أمكن تحصيلها شراء لم يشتغل بنسخها، ولا ينبغي أن يشتغل بدوام النسخ إلا فيما يتعذر عليه تحصيله لعدم ثمنه أو أجرة استنساخه، ولا يهتم المشتغل بالمبالغة في تحسين الخط وإنما يهتم بصحيحه، وتصحيحه، ولا يستعير كتابًا مع إمكان شرائه أو إجارته.
الثاني:
(1/58)(1/59)
يستحب إعارة الكتب لمن لا ضرر عليه فيها ممن لا ضرر منه بها، وكره قوم عاريتها، والأول أولى لما فيه من الإعانة على العلم مع ما في مطلق العارية من الفضل والأجر، قال رجل لأبي العتاهية: أعرني كتابك. فقال: إني أكره ذلك. فقال: أما علمت أن المكارم موصولة بالمكاره، فأعاره. وكتب الشافعي إلى محمد بن الحسن:
العلم يأبى أهله أن يمنعوه أهله
يا ذا الذي لم تر عين من رآه مثله
وينبغي للمستعير أن يشكر للمعير ذلك ويجزيه خيرًا.
ولا يطيل مقامه عنده من غير حاجة بل يرده إذا قضى حاجته ولا يحبسه إذا طلبه المالك أو استغنى عنه، ولا يجوز أن يصلحه بغير إذن صاحبه. ولا يحشيه ولا يكتب شيئًا في بياض فواتحه أو خواتمه إلا إذا علم رضا صاحبه، وهو كما يكتبه المحدث على جزء سمعه أو كتبه ولا يسوده ولا يعيره غيره ولا يودعه لغير ضرورة حيث يجوز شرعًا ولا ينسخ منه بغير إذن صاحبه.
فإن كان الكتاب وقفًا على من ينتفع به غير معين فلا بأس بالنسخ منه مع الاحتياط ولا بإصلاحه ممن هو أهل لذلك وحسن أن يستأذن الناظر فيه وإذا نسخ منه بإذن صاحبه أو ناظره فلا يكتب منه والقرطاس في بطنه أو على كتابته ولا يضع المحبرة عليه ولا يمر بالقلم الممدود فوق كتابته، وأنشد بعضهم:
ارض لي فيه ما لنفسك ترضى
أيها المستعير مني كتابًا
وأنشدوا في إعارة الكتب ومنعها قطعًا كثيرة لا يحتملها هذا المختصر.
الثالث:
إذا نسخ من الكتاب أو طالعه فلا يضعه على الأرض مفروشًا منشورًا بل يجعله بين كتابين أو شيئين أو كرسي الكتب المعروفة كيلا يسرع تقطيع حبله، وإذا وضعها في مكان مصفوفة فلتكن على كرسي أو تحت خشب أو نحوه، والأولى أن يكون بينه وبين الأرض خلو، ولا يضعها على الأرض كيلا تتندى أو تبلى.
وإذا وضعها على خشب ونحوه جعل فوقها أو تحتها ما يمنع تأكل جلودها به وكذلك يجعل بينها وبين ما يصادفها أو يسندها من حائط أو غيره.
(1/59)(1/60)
ويراعي الأدب في وضع الكتب باعتبار علومها وشرفها ومصنفها وجلالتهم فيضع الأشرف أعلى الكل ثم يراعي التدريج فإن كان فيها المصحف الكريم جعله أعلى الكل، والأولى أن يكون في خريطة ذات عروة في مسمار أو وتد في حائط طاهر نظيف في صدر المجلس، ثم كتب الحديث الصرف كصحيح مسلم ثم تفسير القرآن ثم تفسير الحديث ثم أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الفقه ثم النحو والتصريف ثم أشعار العرب ثم العروض.
فإن استوى كتابان في فن أعلي أكثرها قرآنًا أو حديثًا، فإن استويا فبجلالة المصنف، فإن استويا فأقدمهما كتابة وأكثرهما وقوعًا في أيدي العلماء والصالحين، فإن استويا فأصحهما.
وينبغي أن يكتب اسم الكتاب عليه في جانب آخر الصفحات من أسفل ويجعل رؤوس حروف هذه الترجمة إلى الغاشية التي من جانب البسملة وفائدة هذه الترجمة معرفة الكتاب وتيسر إخراجه من بين الكتب، وإذا وضع الكتاب على أرض أو تحت فلتكن الغاشية التي من جهة البسملة وأول الكتاب إلى فوق، ولا يكثر وضع الردة في أثنائه كيلا يسرع تكسيرها، ولا يضع ذوات القطع الكبير فوق ذوات الصغير كيلا يكثر تساقطها.
ولا يجعل الكتاب خزانة للكراريس أو غيرها ولا مخدة ولا مروحة ولا مكبسًا ولا مسندًا ولا متكأ ولا مقتلة للبق وغيره، ولاسيما في الورق فهو على الورق أشد.
ولا يطوي حاشية الورقة أو زاويتها ولا يعلم بعود أو شيء جاف بل بورقة أو نحوها وإذا ظفر فلا يكبس ظفره قويًا.
الرابع:
إذا استعار كتابًا فينبغي له أن يتفقده عند إرادة أخذه ورده، وإذا اشترى كتابًا تعهد أوله وآخره ووسطه وترتيب أبوابه وكراريسه ويصفح أوراقه واعتبر صحته ومما يغلب على الظن صحته إذا ضاق الزمان عن تفتيشه ما قاله الشافعي رضي الله عنه قال: إذا رأيت الكتاب فيه إلحاق وإصلاح فاشهد له بالصحة وقال بعضهم: لا يضيء الكتاب حتى يظلم يريد إصلاحه.
الخامس:
(1/60)(1/61)
إذا نسخ شيئًا من كتب العلوم الشرعية فينبغي أن يكون على طهارة مستقبل القبلة طاهر البدن والثياب بحبر طاهر ويبتدئ كل كتاب بكتابة: بسم الله الرحمن الرحيم فإن كان الكتاب مبدوءًا فيه بخطبة تتضمن حمد الله تعالى والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - كتبها بعد البسملة وإلا كتب هو ذلك بعدها. ثم كتب ما في الكتاب وكذلك يفعل في ختم الكتاب أو آخر كل جزء منه بعد ما يكتب آخر الجزء الأول أو الثاني مثلاً، ويتلوه كذا وكذا إن لم يكن تم الكتاب ويكتب إذا كمل: تم الكتاب الفلاني، ففي ذلك فوائد كثيرة.
وكلما كتب اسم الله تعالى اتبعه بالتعظيم مثل تعالى أو سبحانه أو عز وجل أو تقدس ونحو ذلك.
وكلما كتب اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب بعده الصلاة عليه والسلام عليه، ويصلي هو عليه بلسانه أيضًا.
وجرت عادة السلف والخلف بكتابة - صلى الله عليه وسلم - ولعل ذلك لقصد موافقة الأمر في الكتاب العزيز في قوله: { صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب: 56]، وفيه بحث يطول هاهنا.
ولا تختصر الصلاة في الكتاب ولو وقعت في السطر مرارًا كما يفعل بعض المحررين المتخلفين فيكتب: صلع، أو صلم، أو صلعم، وكل ذلك غير ليق بحقه - صلى الله عليه وسلم -، وقد ورد في كتابة الصلاة بكمالها وترك اختصارها آثار كثيرة.
وإذا مر بذكر الصحابي لاسيما الأكابر منهم كتب رضي الله عنه، ولا يكتب الصلاة والسلام لأحد غير الأنبياء والملائكة إلا تبعًا لهم. وكلما مر بذكر أحد من السلف فعل ذلك أو كتب رحمه الله ولاسيما الأئمة الأعلام وهداة الإسلام.
السادس:
(1/61)(1/62)
ينبغي أن يجتنب الكتابة الدقيقة في النسخ فإن الخط علامة فأبينه أحسنه، وكان بعض السلف إذا رأى خطأ دقيقًا قال: هذا خط من لا يوقن بالخلف من الله تعالى، وقال بعضهم: اكتب ما ينفعك وقت حاجتك إليه، ولا تكتب ما لا تنتفع به وقت الحاجة. والمراد وقت الكبر وضعف البصر، وقد يقصد بعض السفارة بالكتابة الدقيقة خفة المحمل فهذا وإن كان قصدًا صحيحًا إلا أن المصلحة الفائتة به في آخر الأمر أعظم من المصلحة الحاصلة بخفة الحمل.
والكتابة بالحبر أولى من المداد لأنه أثبت.
قالوا: ولا يكون القلم صلبًا جدًا فيمنع سرعة الجري ولا رخوًا فيسرع إليه الجفا.
وقال بعضهم: إذا أردت أن يجود خطك فأطل جلفتك واسمنها وحرف قطتك وايمنها.
ولتكن السكين حادة جدًا لبراية الأقلام وكشط الورق خاصة، ولا تستعمل في غير ذلك وليكن ما يقط عليه القلم صلبًا جدًا وهم يحمدون القصب الفارسي اليابس جدًا والآبنوس الصلب الصقل.
السابع:
إذا صحح الكتاب بالمقابلة على أصله الصحيح أو على شيخ فينبغي له أن يشكل المشكل ويعجم المستعجم ويضبط الملتبس ويتفقد مواضع التصحيح إذا احتاج ضبطه ما في متن الكتاب إلى ضبطه في الحاشية وبيانه فعل وكتب عليه بيانًا وكذا إن احتاج إلى ضبطه مبسوطًا في الحاشية وبيان تفصيله مثل أن يكون في المتن اسم حريز فيقول في الحاشية هو بالحاء المهملة وراء بعدها وبالياء الخاتمة بعدها زاي أو هو بالجيم والياء الخاتمة بين رائين مهملتين وشبه ذلك.
وقد جرت العادة في الكتابة بضبط الحروف المعجمة بالنقط وأما المهملة فمنهم من يجعل الإهمال علامة، ومنهم من ضبطه بعلامات تذكر عليها من قلب النقط أو حكاية المثل أو بشكلة صغيرة كالهلال وغير ذلك.
(1/62)(1/63)
وينبغي أن يكتب على ما صححه وضبطه في الكتاب وهو في محل شك عند مطالعته أو تطرق احتمال ح صغيرة ويكتب فوق ما وقع في التصنيف أو في النسخ وهو خطأ، كذا، صغيرة، ويكتب في الحاشية صوابه كذا إن كان يتحققه وإلا فيعلم عليه ضبة وهي صورة رأس صاد تكتب فوق الكتابة غير متصلة بها فإذا تحققه بعد ذلك وكان المكتوبة صوابًا زاد تلك الصاد حاء فتصير صح وإلا كتب الصواب في الحاشية كما تقدم.
وإذا وقع في النسخة زيادة فإن كانت كلمة واحدة فله أن يكتب عليها لا وأن يضرب عليها، وإن كانت أكثر من ذلك ككلمات أو سطر أو أسطر فإن شاء كتب فوق أولها من أو كتب لا وعلى آخرها إلى ومعناه من هنا ساقط إلى هنا، وإن شاء ضرب على الجميع بأن يخط عليه خطًا دقيقًا يحصل به المقصود ولا يسود الورق ومنهم من يجعل مكان الخط نقطًا متتالية.
وإذا تكررت الكلمة سهوًا من الكاتب ضرب على الثانية لوقوع الأولى صوابًا في موضعها إلا إذا كانت الأولى آخر سطر فإن الضرب عليها أولى صيانة لأول السطر إلا إذا كانت مضافًا إليها فالضرب على الثانية أولى لاتصال الأولى بالمضاف.
الثامن:
إذا أراد تخريج شيء في الحاشية ويسمى اللحق بفتح الحاء، علم له في موضعه بخط منعطف قليلاً إلى جهة التخريج وجهة اليمين أولى إن أمكن ثم يكتب التخريج من محاذاة العلامة صاعدًا إلى أعلى الورقة لا نازلاً إلى أسفلها لاحتمال تخريج آخر بعده ويجعل رؤوس الحروف إلى جهة اليمين سواء كان في جهة يمين الكتابة أم يسارها.
وينبغي أن يحسن الساقط وما يجيء منه من الأسطر قبل أن يكتبها فإن كان سطرين أو أكثر جعل آخر سطر منها يلي الكتابة إن كان التخريج عن يمينها وإن كان التخريج عن يسارها جعل أول الأسطر مما يليها.
ولا يوصل الكتابة والأسطر بحاشية الورقة بل يدع مقدارًا يحتمل الحك عند حاجته مرات ثم يكتب في آخر التخريج صح، وبعضهم يكتب بعد صح الكلمة التي تلي آخر الكلام في متن الكتاب علامة على اتصال الكلام.(1/64)
(1/63)
التاسع:
لا بأس بكتابة الحواشي والفوائد والتنبيهات المهمة على حواشي كتاب يملكه ولا يكتب في آخره صح فرقًا بينه وبين التخريج، وبعضهم يكتب عليه حاشية أو فائدة، وبعضهم يكتبه في آخرها، ولا يكتب إلا الفوائد المهمة المتعلقة بذلك الكتاب مثل تنبيه على إشكال أو احتراز أو رمز أو خطأ ونحو ذلك.
ولا يسوده بنقل المسائل والفروع الغريبة ولا يكثر الحواشي كثرة تظلم الكتاب أو يضيع مواضعها على طالبها.
ولا ينبغي الكتابة بين الأسطر وقد فعله بعضهم بين الأسطر المفرقة بالحمرة وغيرها وترك ذلك أولى مطلقًا.
العاشر:
لا بأس بكتابة الأبواب والتراجم والفصول بالحمرة فإنه أظهر في البيان وفي فواصل الكلام، وكذلك لا بأس به على أسماء ومذاهب أو أقوال أو طرق أو أنواع أو لغات أو أعداد ونحو ذلك, ومتى فعل ذلك بَيَّنَ اصطلاحه في فاتحة الكتاب ليفهم الخائض فيه معانيها وقد رمز بالأحمر جماعة من المحدثين والفقهاء والأصوليين وغيرهم لقصد الاختصار.
فإن لم يكن ما ذكرناه من الأبواب والفصول والتراجم بالحمرة أتى بما يميزه عن غيره من تغليظ القلم وطول المشق واتحاده في السطر ونحو ذلك ليسهل الوقوف عليه عند قصده.
وينبغي أن يفصل بين كل كلامين بدائرة أو ترجمة أو قلم غليظ ولا يوصل الكتابة كلها على طريق واحدة لما فيه من عسر استخراج المقصود يضيع الزمان فيه ولا يفعل ذلك إلا غبي جدًا.
الحادي عشر:
قالوا الضرب أولى من الحك، لاسيما في كتب الحديث لأن فيه تهمة وجهالة فيما كان أو كتب، ولأن زمانه أكثر فيضيع وفعله أخطر فربما ثقب الورقة وأفسد ما ينفذ إليه فأضعفها، فإن كان إزالة نقطة أو شكلة ونحو ذلك فالحك أولى.
(1/64)(1/65)
وإذا صحح الكتاب على الشيخ أو في المقابلة علم على وضع وقوفه بلغ أو بلغت أو بلغ العرض أو غير ذلك مما يفيد معناه، فإن كان ذلك في سماع الحديث كتب بلغ في الميعاد الأول أو الثاني إلى آخرها فيعين عدده، قال الخطيب: فيما إذا أصلح شيئًا ينشر المصلح بنحاتة الساج أو غيره من الخشب وينفي الشريب.
- - -
الباب الخامس في آداب سكنى المدارس
للمنتهي والطالب
الباب الخامس
في آداب سكنى المدارس للمنتهي والطالب
لأنها مساكنهم في الغالب
وهو أحد عشر نوعًا:
الأول:
أن ينتخب لنفسه من المدارس بقدر الإمكان ما كان واقفه أقرب إلى الورع وأبعد عن البدع، بحيث يغلب على ظنه أن المدرسة ووقفها من جهة حلال وأن معلومها إن تناوله من طيب المال لأن الحاجة إلى الاحتياط في المسكن كالحاجة إليه في المأكل والملبس وغيره.
ومهما أمكن التنزه عما أنشأه الملوك الذين لم يعلم حالهم في بنائها ووقفها فهو أولى وأما من علم حاله فالإنسان على بينة من أمره مع أنه قل أن يخلو جميع أعوانهم عن ظلم وعسف.
الثاني:
أن يكون المدرس بها ذا رياسة وفضل وديانة وعقل ومهابة وجلالة وناموس وعدالة ومحبة في الفضلاء وعطف على الضعفاء يقرب المحصلين ويرغب المشتغلين ويبعد اللغائين وينصف البحاثين حريصًا على النفع مواظبًا على الإفادة، وقد تقدم سائر آدابه.
فإن كان له معيد فليكن من صلحاء الفضلاء وفضلاء الصلحاء صبورًا على أخلاق الطلبة حريصًا على فائدتهم وانتفاعهم به قائمًا على وظيفة أشغالهم.
وينبغي للمدرس الساكن بالمدرسة أن لا يكثر البروز والخروج من غير حاجة؛ فإن كثرة ذلك يسقط حرمته من العيون، ويواظب على الصلاة في الجماعة فيها ليقتدي به أهلها ويتعودوا ذلك.
(1/65)(1/66)
وينبغي أن يجلس كل يوم في وقت معين ليقابل معه الجماعة الذين يطالعون دروسه من كتبهم ويصححونها ويضبطون مشكلها ولغاتها واختلاف النسخ في بعض المواضع (وأولاها بالصحة ليكونوا في مطالعتها على يقين فلا يضيع فكرهم ويتعب) بالشك فيها سرهم.
وينبغي للمعيد بالمدرسة أن يقدم أشغال أهلها على غيرهم في الوقت المعتاد أو المشروط إن كان يتناول معلوم الإعادة لأنه معين عليه ما دام معيدًا، أو أشغال غيرهم نفل أو فرض كفاية وأن يعلم المدرس (أو الناظر بمن يرجى فلاحه ليزاد ما يستعين به ويشرح صدره وأن يطالبهم بعرض محفوظاتهم إن لم يعين لذلك غيره) ويعيد لهم ما توقف فهمه عليهم من دروس المدرس ولهذا يسمى معيدًا.
وإذا شرط الواقف استعراض المحفوظ كل شهر أو كل فصل على الجميع خفف قدر العرض على من له أهلية البحث والفكر والمطالعة والمناظرة لأن الحمود على النفس المسطور يشغل عن الفكر الذي هو أم التحصيل والتفقه.
وأما المبتدئون والمنتهون فيطالب كل منهم على ما يليق بحاله وذهنه وقد تقدم سائر آداب العالم مع الطلبة.
الثالث:
أن يتعرف بشروطها ليقوم بحقوقها ومهما أمكنه التنزه عن معلوم المدارس فهو أولى لاسيما في المدارس التي ضيق في شروطها وشدد في وظائفها كما قد بلي أكثر فقهاء الزمان به، نسأل الله تعالى القناعة بمنه وكرمه في خير وعافية، فإن كان تحصيله البلغة يضيع زمانه ويعطله عن تمام الأشغال أو لم يكن له حرفة أخرى. تحصل بلغته وبلغة عياله فلا بأس بالاستعانة بذلك بنية التفرغ لأخذ العلم ونفع الناس به ولكن يتحرى القيام بجميع شروطها.
ويحاسب نفسه على ذلك ولا يحل في نفسه إذا طلب منه أو وبخ عليه بل يعد ذلك نعمة من الله تعالى ويشكره عليه إذ وفق له من يكلفه القيام بما يخلصه من ربقة الحرام والإثم واللبيب من كان ذا همة عالية ونفس سامية.
الرابع:
إذا حصر الواقف سكنى المدرسة على المرتبين بها دون غيرهم لم يسكن فيها غيرهم.
(1/66)(1/67)
فإن فعل كان عاصيًا ظالمًا بذلك، وإن لم يحصر الواقف ذلك فلا بأس إذا كان الساكن أهلاً لها.
وإذا سكن في المدرسة غير مرتب بها فليكرم أهلها ويقدمهم على نفسه فيما يحتاجون إليه منها، ويحضر درسها لأنه أعظم الشعائر المقصودة ببنائها ووقفها لما فيه من القراءة والدعاء للواقف والاجتماع على مجلس الذكر وتذاكر العلم، فإذا ترك الساكن فيها ذلك فقد ترك المقصود ببناء مسكنه الذي هو فيه وذلك يخالف مقصود الواقف ظاهرًا.
فإن لم يحضر غاب عنها وقت الدرس لأن عدم مجالستهم مع حضوره من غير عذر إساءة أدب وترفع عليهم واستغناء عن فوائدهم واستهتار بجماعتهم.
وإن حضر فيها فلا يخرج في حال اجتماعهم من بيته إلا لضرورة ولا يتردد إليه مع حضورهم ولا يدعو إليه أحدًا أو يخرج منه أحدًا ولا يتمشى في المدرسة أو يرفع صوته بقراءة أو تكرار أو بحث رفعًا منكرًا أو يغلق بابه أو يفتحه بصوت ونحو ذلك لما في ذلك كله من إساءة الأدب على الحاضرين والحمق عليهم.
ورأيت بعض العلماء القضاة لأعيان الصلحاء يشدد النكير على إنسان فقيه مر في المدرسة وقت الدرس مع أنه كان قيمًا بمريض في المدرسة قريب للمدرس وكان في حاجة له.
الخامس:
أن لا يشتغل فيها بالمعاشرة والصحبة ويرضى من سكنها بالسكة والخطبة بل يقبل على شأنه وتحصيله وما بنيت المدرسة له يقطع العشرة فيها جملة لأنها تفسد الحال وتضيع المآل كما تقدم.
واللبيب المحصل يجعل المدرسة منزلاً يقضي وطره منه ثم يرتحل عنه فإنْ صَاحَبَ من يعينه على تحصيل مقاصده ويساعده على تكميل فوائده وينشطه على زيادة الطلب ويخفض عنه ما يجد من الضجر والنصب ممن يوثق بدينه وأمانته ومكارم أخلاقه في مصاحبته فلا بأس بذلك بل هو حسن إذا كان ناصحًا له في الله غير لاعب ولا لاه.
(1/67)(1/68)
وليكن له أنفة من عدم ظهور الفضيلة مع طول المقام في المدارس ومصاحبة الفضلاء من أهلها وتكرر سماع الدروس فيها وتقدم غيره عليه بكثرة التحصيل وليطالب نفسه كل يوم باستفادة علم جديد ويحاسبها على ما حصله فيها ليأكل مقرره فيها حلالاً.
فإن المدارس وأوقافها لم تجعل لمجرد المقام والعشرة ولا لمجرد التعبد بالصلاة والصيام كالخوانك، بل لتكون معينة على تحصيل العلم والتفرغ له والتجرد عن الشواغل في أوطان الأهل والأقارب، والعاقل يعلم أن أبرك الأيام عليه يوم يزداد فيه فضيلة وعلمًا ويكسب عدوه من الجن والإنس كربًا وغمًا.
السادس:
أن يلزم أهل المدرسة التي يسكنها بإفشاء السلام وإظهار المودة والاحترام، ويرعى لهم حق الجيرة والصحبة والأخوة في الدين والحرفة لأنهم أهل العلم وحملته وطلابه.
ويتغافل عن تقصيرهم ويغفر زللهم ويستر عوراتهم ويشكر محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
فإن لم يستقر خاطره لسوء جيرتهم وخبث صفاتهم أو لغير ذلك فليرتحل عنها ساعيًا في جمع قلبه واستقرار خاطره، وإذا اجتمع قلبه فلا ينتقل من غير حاجة فإن ذلك مكروه للمبتدئين جدًا، وأشد منه كراهية تنقلهم من كتاب إلى كتاب كما تقدم، فإنه علامة على الضجر واللعب وعدم الفلاح.
السابع:
أن يختار لجواره إن أمكن أصلحهم حالاً وأكثرهم اشتغالاً وأجودهم طبعًا وأصونهم عرضًا؛ ليكون معينًا له على ما هو بصدده، ومن الأمثال الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق، والطباع سراقة، ومن دأب الجنس التشبه بجنسه.
والمساكن العالية لمن لا يضعف عن الصعود إليها أولى بالمشتغل وأجمع لخاطره إذا كان الجيران صالحين، وقد تقدم قول الخطيب: إن الغرف أولى بالحفظ.
وأما الضعيف والمتهم ومن يقصد الفتيا والاشتغال عليه فالمساكن السفلية أولى بهم.
والمراقي التي تقرب من الباب أو من الدهليز أولى بالموثوق بهم، والمراقي الداخلية التي يحتاج فيها إلى المرور بأرض المدرسة أولى بالمجهولين والمتهمين.
(1/68)(1/69)
والأولى أن لا يسكن المدرسة وسيم الوجه أو صبي ليس له فيها ولي فطن، وأن لا يسكنها نساء في أمكنة تمر الرجال على أبوابها، أو لها كوى تشرف على ساحة المدرسة.
وينبغي للفقيه أن لا يدخل إلى بَيْتِ مَنْ فيه ريبة أو شر أو قلة دين، ولا يدخل إليه من يكرهه أهلها أو من ينقل سيئات سكانها أو ينم عليهم أو يوقع بينهم أو يشغلهم عن تحصيلهم ولا يعاشر فيها غير أهلها.
الثامن:
إذا كان مسكنه في مسجد المدرسة أو في مكان الاجتماع ومروره على حصيره وفرشه فليتحفظ عند صعوده إليه من سقوط شيء من نعليه ولا يقابل بأسفلهما القبلة ولا وجوه الناس ولا ثيابه بل يجعل أسفل أحدهما إلى أسفل الأخرى بعد نفضهما، ولا يلقيهما إلى الأرض بعنف، ولا يتركهما في مظنة مجالس الناس والواردين إليها غالبًا كطرفي الصفة بل يتركهما إذا تركهما في أسفل الوسط ونحوه ولا يضعهما تحت الحصير في المسجد بحيث تنكسر.
وإذا سكن في البيوت العليا خفف المشي والاستلقاء عليها ووضع ما يثقل كيلا يؤذي من تحته.
وإذا اجتمع اثنان من سكان العلو أو غيرهم في أعلى الدرجة بدأ أصغرهما بالنزول قبل الكبير، والأدب للمتأخر أن يلبث ولا يسرع في النزول إلى أن ينتهي المتقدم إلى آخر الدرجة من أسفل ثم ينزل، فإن كان كبيرًا تأكد ذلك، وإن اجتمعا في أسفل الدرجة للطلوع تأخر أصغرهما ليصعد أكبرهما قبله.
التاسع:
أن لا يتخذ باب المدرسة مجلسًا بل لا يجلس إذا أمكن إلا لحاجة أو في ندرة لقبض أو ضيق صدر، ولا في دهليزها المهتوك إلى الطريق، فقد نهي عن الجلوس في الطرقات وهذا منها، أو في معناها، لاسيما إن كان ممن يستحيا منه أو ممن هو في محل تهمة أو لعب، ولأنها في مظنة دخول فقيه بطعامه وحاجته فربما استحيا من الجالس أو يكلف سلامه عليهم، وفي مظنة دخول نساء من يتعلق بالمدرسة ويشق عليه ذلك ويؤذيه ولأن في ذلك بطالة وتبذلاً.
(1/69)(1/70)
ولا يكثر التمشي في ساحة المدرسة بطالاً من غير حاجة إلى راحة أو رياضة أو انتظار أحد، ويقلل الدخول والخروج ما أمكنه، ويسلم على من بالباب إذا مر به.
ولا يدخل ميضأتها العامة عند الزحام من العامة إلا لضرورة لما فيه من التبذل، ويتأنى عنده، ويطرق الباب إن كان مردودًا طرقًا خفيفًا ثلاثًا ثم يفتحه بتأنٍ ولا يستجمر بالحائط فينجسه ولا يمسح يده المتنجسة بالحائط أيضًا.
العاشر:
أن لا ينظر في بيت أحد في مروره من شقوق الباب ونحوه، ولا يلتفت إليه إذا كان مفتوحًا، وإن سلم سلم وهو مار من غير التفات، ولا يكثر الإشارة إلى الطاقات لاسيما إن كان فيهن نساء.
ولا يرفع صوته جدًا في تكرار أو نداء أحد أو بحث كيلا يشوش على غيره بل يخفضه ما أمكنه مطلقًا لاسيما بحضور المصلين أو حضور أهل الدرس، ويتحفظ من شدة وقع القبقاب والعنف في إغلاق الباب، وإزعاج المشي في الدخول والخروج والصعود والنزول وطرق باب المدرسة بشدة لا يحتاج إليها ونداء من بأعلى المدرسة من أسفلها إلا أن يكون بصوت معتدل عند الحاجة.
وإذا كانت المدرسة مكشوفة إلى الطريق السالك من باب أو شباك تحفظ فيها عن التجرد عن الثياب وكشف الرأس الطويل من غير حاجة. ويتجنب ما يعاب كالأكل ماشيًا وكلام الهزل غالبًا، والبسط بالنعل، وفرط التمطي، والتمايل على الجنب والقفا، والضحك الفاحش بالقهقهة، ولا يصعد إلى سطحها المشرف من غير حاجة أو ضرورة.
الحادي عشر:
أن يتقدم على المدرس في حضور موضع الدرس، ولا يتأخر إلى بعد جلوسه وجلوس الجماعة فيكلفهم المعتاد من القيام ورد السلام وربما فيهم معذور فيجد في نفسه منه ولا يعرف عذره.
(1/70)(1/71)
وقد قال السلف: من الأدب مع المدرس أن ينتظره الفقهاء ولا ينتظرهم، وينبغي أن يتأدب في حضور الدرس بأن يحضره على أحسن الهيئات وأكمل الطهارات، وكان الشيخ أبو عمرو يقطع من يحضر من الفقهاء الدرس محففًا بغير عمامة، أو مفكك إزاره الفرجية ويحسن جلوسه واستماعه وإيراده وجوابه وكلامه وخطابه.
(ولا يستفتح القراءة والتعوذ قبل المدرس)، وإذا دعا المدرس في أول الدرس للحاضرين على العادة أجابه الحاضرون بالدعاء له أيضًا، وكان بعض أكابر مشايخي الزهاد الأعلام يزجر تارك ذلك ويغلظ عليه.
ويتحفظ من النوم والنعاس والحديث (والضحك وغير ذلك مما تقدم في أدب المتعلم)، ولا يتكلم بين الدرسين إذا ختم المدرس الأول بقوله: والله أعلم، إلا بإذن منه.
ولا يتكلم في مسألة أخذ المدرس الكلام في غيرها، ولا يتكلم بشيء حتى ينظر فيه فائدة وموضعًا، ويحذر المماراة في البحث والمغالبة فيه فإن ثارت نفسه ألجمها بلجام الصمت والصبر والانقياد؛ لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتًا في أعلى الجنة، فإن ذلك أقطع لانتشار الغضب وأبعد عن منافرة القلوب، ويجتهد كل من الحاضرين على طهارة القلب لصاحبه وخلوه عن الحقد وأن لا يقوم وفي نفسه منه شيء، وإذا قام من الدرس فليقل ما جاء في الحديث: "سبحانك الله وبحمدك، ولا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فاغفر لي ذنبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
تم كتاب الآداب بحمد الله تعالى ومنه.
والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
- - -
الفهرس
الموضوع
الصفحة
مقدمة
مقدمة المصنف
الباب الأول: في فضل العلم والعلماء وفضل تعليمه وتعلمه
الباب الثاني: في أدب العالم في نفسه ومراعاة طالبه ودرسه
الفصل الأول: في آدابه في نفسه
الفصل الثاني: في آدابه في درسه
الفصل الثالث: في آدابه مع طلبته مطلقًا في حلقته
(1/71)(1/72)
الباب الثالث: في أدب المتعلم في نفسه ومع شيخه ورفقته ودرسه
الفصل الأول: في آدابه في نفسه
الفصل الثاني: في آدابه مع شيخه وقدوته، وما يجب عليه من عظيم حرمته
الفصل الثالث: في آدابه في دروسه وقراءته في الحلقة، وما يعتمده فيها مع الشيخ والرفقة
الباب الرابع: في الآداب مع الكتب وما يتعلق بها
الباب الخامس: في آداب سكنى المدارس للمنتهي والطالب
الفهرس
5
9
13
21
21
30
38
51
51
58
70
83
93
101
- - -
(1/72)(1/73)