تحقيق وصية عمر – رضي الله عنه- في أمر
الخليفة من بعده
علاء شعبان
بسم الله الرحمن الرحيم
إن عمر – رضي الله عنه – استمر اهتمامه بوحدة الأمة ومستقبلها، حتى اللحظات الأخيرة من حياته، رغم كل ما يُعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره.(1)
وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد وكان دليلاً ملموسًا، ومعلمًا واضحًا على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية.
فكانت طريقة اختيار الخليفة الجديد تعتمد على جعل الشورى محصورة في ستة من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – هم:
(علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله – رضي الله عنهم -)
كما في حديث مقتل عمر الطويل وفيه " ... وَجَاءَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ وَالنِّسَاءُ تَسِيرُ مَعَهَا فَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قُمْنَا فَوَلَجَتْ عَلَيْهِ فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَالُ فَوَلَجَتْ دَاخِلًا لَهُمْ فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا مِنْ الدَّاخِلِ، فَقَالُوا:" أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اسْتَخْلِفْ" قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ، أَوْ الرَّهْطِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ فَسَمَّى عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَسَعْدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ:
__________
(1) الخليفة عمر بن الخطاب للعاني صـ 161، عن " سيرة أمير المؤمنين عمر " للصلابي صـ 510.(1/1)
"يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ فَإِنْ أَصَابَتْ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَقَالَ: أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَأَنْ يُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ رِدْءُ الْإِسْلَامِ وَجُبَاةُ الْمَالِ وَغَيْظُ الْعَدُوِّ وَأَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إِلَّا فَضْلُهُمْ عَنْ رِضَاهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالْأَعْرَابِ خَيْرًا فَإِنَّهُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ وَمَادَّةُ الْإِسْلَامِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ وَيُرَدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَلَا يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ".
.... فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ.
فَقَالَ الزُّبَيْرُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ. فَقَالَ طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ. وَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.(1/2)
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ.
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ وَاللَّهُ عَلَيَّ أَنْ لَا آلُ عَنْ أَفْضَلِكُمْ؟ قَالَا: نَعَمْ.
فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَقَالَ لَكَ: قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقَدَمُ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَاللَّهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ، ثُمَّ خَلَا بِالْآخَرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانُ فَبَايَعَهُ فَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ وَوَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ ".(1)
فهذا الحديث دلنا على أن الأمر كان أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا وفيهم عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – يحضرهم مشيرًا فقط، وليس له من الأمر شيء ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي كما عند ابن سعد(2): أن عمر - رضي الله عنه - قال لصهيب: "صل بالناس ثلاثًا وليخل هؤلاء الرهط في بيت فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا رأسه".
__________
(1) أخرجه البخاري في (3700) من حديث عمرو بن ميمون.
(2) "الطبقات" (3/342) قال: قال أخبرنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال:" شهدت عمر يوم طعن ... ثم ساق الحديث.(1/3)
فعمر – رضي الله عنه – أمر بقتل من يريد أن يُخالف هؤلاء الرهط ويشُق عصا المسلمين ويفرق بينهم، عملاً بقوله – صلى الله عليه وسلم -: [مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ].(1)
أما الروايات التي جاء فيها أنه – رضي الله عنه – حددّ لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم – أي من الرهط – على رجل وأبى أحدهم فليضرب رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعة وفرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، كما في رواية الطبري وسيأتي الكلام عليها تفصيلاً.
فهذه الروايات لا تصحُ سندًا فهي من الغرائب التس ساقها أبو مخنف مُخالفًا فيها النصوص الصحيحة، وما عُرفَ من سير الصحابة – رضي الله عنهم – ، ثم إن هذا قولٌ منكر إذ كيف يقول عمر – رضي الله عنه – هذا وهو يعلم أنهم هم الصفوة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم؟!!(2)
وقد ورد عند ابن سعد(3)رواية أخرى فيها : " أن عمر – رضي الله عنه – قال للأنصار: أدخلوهم بيتًا ثلاثة أيام فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم"، وهذه الرواية منقطعة، وفي إسنادها سماك بن حرب، وهو ضعيف وقد تغير بآخره.(4)
__________
(1) أخرجه مسلم في (1852) من حديث عفرجة بن شريح- رضي الله عنه -.
(2) "مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري" صـ 176.
(3) "الطبقات" (3/342) قال: قال أخبرنا عبد الله بن بكر السهمي قال أخبرنا حاتم بن أبي صفيرة عن سماك أن عمر بن الخطاب.
(4) انظر: "مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري" صـ 176.(1/4)
أما رواية الإمام ابن جرير الطبري، فأوُرِدها كاملةً بالرغم من طولها، لأن كثير من الدعاة أخذ ينقل من كتب التاريخ المعاصرة التي حذف أصحابها الأسانيد وضم الروايات بعضها إلى بعض طلباً للاختصار فذكروا كثير مما في هذه الرواية، ثم جاء من بعدهم خصوصاً في هذا العصر من ينقل هذا الروايات وينسبها إلى كتب التاريخ من غير تفريق بين ما يرويه الثقات وبين ما يرويه أهل التشيع والرفض، فقال في " تاريخه " (5/580- 588):
حدثني عمر بن شبة، قال حدثنا علي بن محمد، عن وكيع، عن الأعمش(1)، عن إبراهيم، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة(2)، عن شهر بن حوشب(3)،
__________
(1) هو سليمان بن مهران الأسدي أبو محمد، وهو تابعي ثقة حافظ اتفق أئمة الجرح والتعديل على توثيقه، ولم يأخذوا عليه غير تدليسه، لكن تدليسه محتمل. ذكره العلائي وابن حجر كلاهما في المرتبة الثانية من المدلسين.
انظر: " الطبقات الكبرى "(6/342)، و"التاريخ الكبير" (2/2- 38)، و"الجرح" (2/1 – 146 )، و"تاريخ بغداد" (9/3)، و"وفيات الأعيان " (3/40)، و"جامع التحصيل" (228-230)، و"طبقات المدلسين" (صـ11)، نقلاً عن "فضائل الصحابة" للإمام أحمد(1/77) تحقيق وتخريج وصي الله بن محمد عباس.
(2) ثقة مدلس، كما وصفه أبو داود الطيالسي، وقال الذهبي: "حافظ ثقة ثبت لكنه مدلس، ومع هذا فقد احتج به أصحاب الصحاح لا سيما إذا قال حدثنا " اهـ ، وذكره الحافظ في المرتبة الثالثة من المدلسين.
انظر: " ابن سعد" (7/229)، و"التاريخ الكبير" (4/1/185)، و"الجرح"(3/2/133)، و"الميزان" (3/385)، و"التهذيب" (8/351).
(3) شهر بن حوشب مختلفٌ فيه، وثقه جماعة مطلقًا، وضعفه الآخرون مطلقًا، وقال الذهبي: "قد ذهب إلى الاحتجاج به جماعة" اهـ، وقال الحافظ: "صدوق كثير الإرسال والأوهام " اهـ.
انظر: "الميزان" (2/284)، و"التهذيب" (4/369).(1/5)
وابن مخنف(1)، عن يوسف بن يزيد، عن عباس بن سهل، ومبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، ويونس بن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي:
[
__________
(1) هو لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزدي "أبو مخنف" من أهل الكوفة، قال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم، توفي سنة (157هـ)، له تصانيف كثيرة منها: "الردة"، و"الجمل"، و"صفين" وغيرها.
(انظر: ميزان الاعتدال: 3/419-420، الأعلام للرزكلي 6/110-111).(1/6)
أن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ قال: من أستخلف؟! لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيًا استلخفته، فإن سألني ربي قلتُ: سمعت نبيك يقول إنه أمين هذه الأمة ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًا استخلفته فإن سألني ربي قلت سمعت نبيك يقول إن سالما شديد الحب لله فقال له رجل أدلك عليه عبد الله بن عمر فقال: قاتلك الله والله ما أردت الله بهذا ويحك كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته لا أرب لنا في أموركم ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي إن كان خيرا فقد أصبنا منه وإن كان شرا فشرعنا آل عمر بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي وإن نجوت كفافا لا وزر ولا أجر إني لسعيد وأنظر فإن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ولن يضيع الله دينه فخرجوا ثم راحوا فقالوا يا أمير المؤمنين لو عهدت عهدا فقال قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولي رجلا أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق وأشار إلى علي ورهقتني غشية فرأيت رجلا دخل جنة قد غرسها فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته فعلمت أن الله غالب أمره ومتوف عمر فما أريد أن أتحملها حيا وميتا عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله إنهم من أهل الجنة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل منهم ولست مدخله ولكن الستة علي وعثمان ابنا عبد مناف وعبدالرحمن وسعد خالا رسول الله والزبير بن العوام حواري رسول الله ابن عمته وطلحة الخير بن عبيد الله فليختاروا منهم رجلا فإذا ولوا واليا فأحسنوا مؤازرته وأعينوه إن ائتمن أحدا منكم فليؤد إليه أمانته وخرجوا.
فقال العباس لعلي: لا تدخل معهم.
قال: أكره الخلاف.(1/7)
قال: إذا ترى ما تكره.(1)
فلما أصبح عمر دعا عليًا وعثمان وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام فقال: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض إني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم ولكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذن منها فتشاوروا واختاروا رجلاً منكم، ثم قال: لا تدخلوا حجرة عائشة ولكن كونوًا قريبًا ووضع رأسه وقد نزفه الدم فدخلوا فتناجوا، ثم ارتفعت أصواتهم فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله إن أمير المؤمنين لم يمت بعد! فأسمعه فانتبه فقال:
ألا أعرضوا عن هذا أجمعون فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام وليصل بالناس صهيب ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم ويحضر عبد الله بن عمر مشيرًا ولا شيء له من الأمر وطلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم ومن لي بطلحة؟
__________
(1) قلتُ: وهكذا يبدأ أبو مخنف الرواية بامتعاض العباس من دخول علي ويحذره مما يكره إن قبل، وكأنه بذلك يصوّر العباس مدركاً لأمر غاب عن علي، وأن الأمر مبيت على غير ما يأملون؟!(1/8)
فقال سعد بن أبي وقاص: أنا لك به ولا يخالف - إن شاء الله - فقال عمر: أرجو ألا يخالف - إن شاء الله - وما أظن أن يلي إلا أحد هذين الرجلين علي أو عثمان؛ فإن ولي عثمان فرجل فيه لين وإن ولي علي ففيه دعابة وأحر به أن يحملهم على طريق الحق، وإن تولوا سعدًا فأهلها هو وإلا فليستعن به الوالي فإني لم أعزله عن خيانة ولا ضعف، ونِعْم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف مسددٌ رشيد له من الله حافظ فاسمعوا منه، وقال لأبي طلحة الأنصاري يا أبا طلحة إن الله عز وجل طالما أعز الإسلام بكم فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم وقال للمقداد بن الأسود إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم وقال لصهيب صل بالناس ثلاثة أيام وأدخل عليًا وعثمان والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه، أو اضرب رأسه بالسيف وإن اتفق أربعة فرضوا رجل منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس فخرجوا - فقال علي لقوم كانوا معه من بني هاشم إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدا وتلقاه العباس فقال عدلت عنا فقال وما علمك قال قرن بي عثمان – وقال: كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيوليها عبدالرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن فلو كان الآخران معي لم ينفعاني بله إني لا أرجو إلا أحدهما.(1/9)
فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخرا بما أكره أشرت عليك عند وفاة رسول الله أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت احفظ عني واحدة كلما عرض عليك القوم فقل لا إلا أن يولوك واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا وأيم الله لا يناله إلا بشر لا ينفع معه خير.
فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى ولئن مات ليتداولنها بينهم ولئن فعلوا ليجدني حيث يكرهون، ثم تمثل:
حلفتُ بربِ الراقصات عشيةً * عدون خفافًا فابتدرن المحصبا
ليختلين رهط ابن يعمر قارنا * نجيعًا بنو الشداخ وردًا مصلبا
والتفت فرأى أبا طلحة فكَرِهَ مكانه فقال أبو طلحة:" لم ترع أبا الحسن"، فلما مات عمر وأُخرجت جنازته تصدى علي وعثمان أيهما يصلي عليه فقال عبد الرحمن كلاكما يحب الإمرة لستما من هذا في شيء هذا إلى صهيب استخلفه عمر يصلي بالناس ثلاثا حتى يجتمع الناس على إمام فصلى عليه صهيب فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة ويقال في بيت المال ويقال في حجرة عائشة بإذنها، وهم خمسة معهم ابن عمر وطلحة غائب وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد وأقامهما.(1/10)
وقال تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام فقال أبو طلحة أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها لا والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون فقال عبد الرحمن أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم فلم يجبه أحد فقال فأنا أنخلع منها فقال عثمان أنا أول من رضي فإني سمعت رسول الله يقول: أمين في الأرض أمين في السماء فقال القوم قد رضينا وعلي ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن قال أعطني موثقا لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم ولا تألو الأمة فقال أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير وأن ترضوا من اخترت لكم علي ميثاق الله ألا أخص ذا رحم لرحمه ولا ألو المسلمين فأخذ منهم ميثاقا وأعطاهم مثله فقال لعلي إنك تقول إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر قال عثمان وخلا بعثمان فقال تقول شيخ من بني عبد مناف وصهر رسول الله وابن عمه لي سابقة وفضل لم تبعد فلن يصرف هذا الأمر عني ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط تراه أحق به قال علي ثم خلا بالزبير فكلمه بمثل ما كلم به عليا وعثمان فقال عثمان ثم خلا بسعد فكلمه فقال عثمان فلقي علي سعدا فقال واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا أسألك برحم ابني هذا من رسول الله وبرحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرًا عليَّ فإني أدلي بما لا يدلي به عثمان ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل فأيقظه فقال: ألا أراك نائمًا ولم أذق(1/11)
في هذه الليلة كثير غمض انطلق فادع الزبير وسعدًا فدعاهما فبدأ بالزبير في مؤخر المسجد في الصفة التي تلي دار مروان فقال له خل ابني عبد مناف وهذا الأمر قال نصيبي لعلي وقال لسعد أنا وأنت كلالة فاجعل نصيبك لي فأختار قال إن اخترت نفسك فنعم وإن اخترت عثمان فعلي أحب إلي أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا قال يا أبا إسحاق إني قد خلعت نفسي منها عليَّ أن أختار ولو لم أفعل وجعل الخيار إليَّ لم أردها إني أريت كروضة خضراء كثيرة العشب فدخل فحل فلم أر فحلا قط أكرم منه فمر كأنه سهم لا يلتفت إلى شيء مما في الروضة حتى قطعها لم يعرج ودخل بعير يتلوه فاتبع أثره حتى خرج من الروضة ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه يلتفت يمينا وشمالا ويمضي قصد الأولين حتى خرج ثم دخل بعير رابع فرتع في الروضة ولا والله لا أكون الرابع ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى الناس عنه قال سعد فإني أخاف أن يكون الضعف قد أدركك فامض لرأيك فقد عرفت عهد عمر وانصرف الزبير وسعد وأرسل المسور بن مخرمة إلى علي فناجاه طويلاً وهو لا يشك أنه صاحب الأمر، ثم نهض وأرسل المسور إلى عثمان فكان في نجيهما حتى فرق بينهما أذان الصبح.
فقال عمرو بن ميمون، قال لي عبد الله بن عمر: يا عمرو من أخبرك أنه يعلم ما كلم به عبد الرحمن بن عوف عليًا وعثمان فقد قال بغير علم فوقع قضاء ربك على عثمان فلما صلوا الصبح جمع الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار وإلى أمراء الأجناد فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله، فقال:
" أيها الناس إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم.
فقال سعيد بن زيد: إنا نراك لها أهلاً .
فقال: أشيروا علي بغير هذا.
فقال عمار: إن أردت ألا يختلف المسلمون فبايع عليًا.
فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار إن بايعت عليًا قلنا سمعنا وأطعنا.
قال ابن أبي سرح: إن أردت ألا تختلف قريش فبايع عثمان.(1/12)
فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدق إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا.
فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين، فتكلم بنو هاشم وبنو أمية.
فقال عمار: أيها الناس إن الله - عز وجل - أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت منكم؟!
فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها؟!
فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس.
فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً ودعا عليًا فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده.
قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له: مثل ما قال لعلي، قال: نعم فبايعه.
فقال علي: حبوته حبو دهر ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك والله كل يوم هو في شأن.(1)
فقال عبدالرحمن: يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان.
__________
(1) وهذا الجزء من الرواية لا يختلف في غرابته عما قبله، وقد كفانا الحافظ ابن كثير في " البداية والنهاية " (7/161) مؤنة الرد عليه، حيث أبان في تاريخه بكلام جزل تفرد الرواة الشيعة وغيرهم من القصاص برواية هذه الأخبار الساقطة حيث قال ما نصه:
" وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن علياً قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه ... إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قاليها وناقليها، والله أعلم.
والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها وسقيمها وميادها وقويمها والله الموفق للصواب" اهـ(1/13)
فخرج علي وهو يقول: "سيبلغ الكتاب أجله"، فقال المقداد: يا عبد الرحمن أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.
فقال: يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين.
قال إن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين، فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلاً ما أقول إن أحدًا أعلم ولا أقضى منه بالعدل أما والله لو أجد عليه أعوانًا، فقال عبدالرحمن: يا مقداد اتق الله فإني خائف عليك الفتنة!!
فقال رجل للمقداد: رحمك الله من أهل هذا البيت ومن هذا الرجل قال أهل البيت بنو عبد المطلب، والرجل علي بن أبي طالب.
فقال علي: إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: ( إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدًا وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم ).
وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان، فقيل له: بايع عثمان فقال: أكل قريش راض به؟
قال: نعم. فأتى عثمان فقال له : عثمان أنت على رأس أمرك إن أبيت رددتها، قال: أتردها؟
قال: نعم. قال: أكلُ الناسِ بايعوك؟ قال: نعم. قال: قد رضيت لا أغرب عما قد أجمعوا عليه وبايعه.
وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد قد أصبت إذا بايعت عثمان، وقال لعثمان: لو بايع عبد الرحمن غيرك ما رضينا.
فقال عبد الرحمن: كذبت يا أعور لو بايعت غيره لبايعته ولقلت هذه المقالة.
وقال الفرزدق:
صلى صهيب ثلاث *** ثم أرسلها على ابن عفان ملكًا غير مقصور
خلافة من أبي بكر لصاحبه *** كانوا أخلاء مهدي ومأمور
وكان المسور بن مخرمة يقول: "ما رأيت رجلاً بذ قومًا فيما دخلوا فيه بأشد مما بذهم عبد الرحمن بن عوف".(1/14)
قال أبو جعفر:(1)
وأما المسور بن مخرمة فإن الرواية عندنا عنه ما حدثني سلم بن جنادة أبو السائب، قال حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال حدثنا أبي عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه عن المسور بن مخرمة ... قال:
ونزل في قبره يعني في قبر عمر الخمسة يعني أهل الشورى، قال: ثم خرجوا يريدون بيوتهم، فناداهم عبد الرحمن: إلى أين؟ هلموا.
__________
(1) هذه الرواية عند ابن جرير عن عبد العزيز بن أبي ثابت، قال فيه الذهبي في الميزان:" قال البخاري: لا يكتب حديثه " وقال النسائي وغيره:" متروك " وقال عثمان بن سعيد:" قلت ليحي: فإن أبي ثابت عبد العزيز بن عمران ما حاله قال: ليس بثقة إنما كان صاحب شعر وهو من ولد عبد الرحمن بن عوف " اهـ.
وذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب وقال فيه الحسيني بن حبان عن يحيى:" قد رأيته ببغداد كان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم ليس حديثه بشيء " اهـ.
قلت: وقد ذكر ابن جرير عن عبد العزيز هذا بعد أن ساق الرواية السابقة طامة أخرى وهي أنه فسر قول علي رضي الله عنه في الرواية السابقة الذكر خدعة أيما خدعة، أي أنها خدعة من عمرو بن العاص وذكر وجه الخدعة بما عدلنا عن ذكره لبشاعته.. والله المستعان.
فهذه الروايات وما شابهها غالبها من دس الرافضة على التاريخ وأحببنا التنبيه عليها لأن كثيراً يكتب التاريخ في هذا العصر قد اغتر بها وذكرها من دون تحقيق، انظر: " ما أدخلته الشيعة في التاريخ الإسلامي" للـ أ.د/ صالح بن عبد الله المحيسن.(1/15)
فتبعوه، وخرج حتى دخل بيت فاطمة ابنة قيس الفهرية - أخت الضحاك بن قيس الفهري - قال بعض أهل العلم بل كانت زوجته وكانت نجودًا ( يريد ذات رأي) - قال: فبدأ عبد الرحمن بالكلام فقال: " يا هؤلاء إن عندي رأيًا وإن لكم نظرًا فاسمعوا تعلموا، وأجيبوا تفقهوا، فإن حابيًا خير من زاهق وإن جرعة من شروب بارد أنفع من عذب موب أنتم أئمة يهتدى بكم وعلماء يصدر إليكم فلا تفلوا المدى بالاختلاف بينكم ولا تغمدوا السيوف عن أعدائكم فتوتروا ثأركم وتؤلتوا أعمالكم لكل أجل كتاب ولكل بيت إمام بأمره يقومون وبنهيه يرعون قلدوا أمركم واحدا منكم تمشوا الهوينى وتلحقوا الطلب لولا فتنة عمياء وضلالة حيراء يقول أهلها ما يرون وتحلهم الحبوكرى ما عدت نياتكم معرفتكم ولا أعمالكم نياتكم احذروا نصيحة الهوى ولسان الفرقة فإن الحيلة في المنطق أبلغ من السيوف في الكلم علقوا أمركم رحب الذراع فيما حل مأمون الغيب فيما نزل رضا منكم وكلكم رضا ومقترعًا منكم وكلكم منتهى لا تطيعوا مفسدًا ينتصح ولا تخالفوا مرشدًا ينتصر أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ".
ثم تكلم عثمان بن عفان، فقال: " الحمد لله الذي اتخذ محمدًا نبيًا وبعثه رسولاً صدقه وعده ووهب له نصره على كل من بعد نسبًا أو قرب رحمًا جعلنا الله له تابعين وبأمره مهتدين فهو لنا نور ونحن بأمره نقوم عند تفرق الأهواء ومجادلة الأعداء جعلنا الله بفضله أئمة وبطاعته أمراء لا يخرج أمرنا منا ولا يدخل علينا غيرنا إلا من سفه الحق ونكل عن القصد وأحربها يا بن عوف أن تترك وأحذر بها أن تكون إن خولف أمرك وترك دعاؤك فأنا أول مجيب لك وداع إليك وكفيل بما أقول زعيم وأستغفر الله لي ولكم ".(1/16)
ثم تكلم الزبير بن العوام بعده فقال: " أما بعد فإن داعي الله لا يجهل ومجيبه لا يخذل عند تفرق الأهواء ولي الأعناق ولن يقصر عما قلت إلا غوي ولن يترك ما دعوت إليه إلا شقي لولا حدود لله فرضت وفرائض لله حدت تراح على أهلها وتحيا لا تموت لكان الموت من الإمارة نجاة والفرار من الولاية عصمة ولكن لله علينا إجابة الدعوة وإظهار السنة لئلا نموت ميتة عمية ولا نعمى عمى جاهلية فأنا مجيبك إلى ما دعوت ومعينك على ما أمرت ولا حول ولا قوة إلا بالله وأستغفر الله لي ولكم ".
ثم تكلم سعد بن أبي وقاص فقال: " الحمد لله بديئا كان وآخرا يعود أحمده لما نجاني من الضلالة وبصرني من الغواية فبهدي الله فاز من نجا وبرحمته أفلح من زكا وبمحمد بن عبد الله أنارت الطرق واستقامت السبل وظهر كل حق ومات كل باطل إياكم أيها النفر وقول الزور وأمنية أهل الغرور فقد سلبت الأماني قوما قبلكم ورثوا ما ورثتم ونالوا ما نلتم فاتخذهم الله عدوًا ولعنهم لعنًا كبيرًا قال الله - عز وجل – ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) إني نكبت قرني فأخذت سهمي الفالج وأخذت لطلحة بن عبيد الله ما ارتضيت لنفسي فأنا به كفيل وبما أعطيت عنه زعيم والأمر إليك يابن عوف بجهد النفس وقصد النصح وعلى الله قصد السبيل وإليه الرجوع، وأستغفر الله لي ولكم وأعوذ بالله من مخالفتكم ".(1/17)
ثم تكلم علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه – فقال: " الحمد لله الذي بعث محمدًا منا نبيًا وبعثه إلينا رسولا فنحن بيت النبوة ومعدن الحكمة وأمان أهل الأرض ونجاة لمن طلب لنا حق إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل ولو طال السرى لو عهد إلينا رسول الله عهدًا لأنفذنا عهده ولو قال لنا قولاً لجادلنا عليه حتى نموت لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق وصلة رحم ولا حول ولا قوة إلا بالله اسمعوا كلامي وعوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا المجمع تنتضى فيه السيوف وتخان فيه العهود حتى تكونوا جماعة ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة، ثم أنشأ يقول:
فإن تكُ جاسمٌ هلكت فإني ... بما فعلت بنو عبد بن ضخم
مطيعُ في الهواجرِ كل عي ... بصير بالنوى من كل نجم
فقال عبد الرحمن: أيكم يطيب نفسًا أن يُخرج نفسه من هذا الأمر ويوليه غيره؟
قال: فأمسكوا عنه.
قال: فإني أخرج نفسي وابن عمي فقلده القوم الأمر وأحلفهم عند المنبر فحلفوا ليبايعن من بايع وإن بايع بإحدى يديه الأخرى فأقام ثلاثًا في داره التي عند المسجد التي يقال لها اليوم رحبة القضاء، وبذلك سميت رحبة القضاء فأقام ثلاثًا يصلي بالناس صهيب.
قال: وبعث عبد الرحمن إلى علي فقال له: إن لم أبايعك فأشر علي؟ فقال: عثمان، ثم بعث إلى عثمان فقال: إن لم أبايعك فمن تشير عليَّ؟ قال: علي.
ثم قال لهما: انصرفا فدعا الزبير، فقال: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: عثمان.
ثم دعا سعدًا فقال: من تشير عليَّ؟ فأما أنا وأنت فلا نريدها فمن تشير عليَّ؟
قال عثمان: فلما كانت الليلة الثالثة قال: يا مسور؟ قلت: لبيك قال: إنك لنائم والله ما اكتحلتُ بِغماض منذ ثلاث اذهب فادع لي عليًا وعثمان.
قال: قلت: يا خال بايهما أبدأ؟
قال: بأيهما شئت.(1/18)
قال: فخرجتُ فأتيت عليًا وكان هواي فيه فقلت أجب خالي؛ فقال: بعثك معي إلى غيري؟ قلت: نعم. قال: إلى من؟ قلت: إلى عثمان. قال: فأينا أمرك أن تبدأ به؟ قلت: قد سألته فقال بأيهما شئت فبدأت بك وكان هواي فيك.
قال: فخرج معي حتى أتينا المقاعد فجلس عليها علي ودخلت على عثمان فوجدته يوتر مع الفجر، فقلت: أجب خالي. فقال: بعثك معي إلى غيري قلتُ: نعم إلى علي.
قال: بأيُّنا أمرك أن تبدأ؟ قلت: سألته فقال بأيهما شئت، وهذا علي على المقاعد فخرج معي حتى دخلنا جميعًا على خالي وهو في القبلة قائم يصلي، فانصرف لما رآنا، ثم التفتَ إلى علي وعثمان فقال: إني قد سألت عنكما وعن غيركما فلم أجد الناس يعدلون بكما هل أنت يا علي مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟
فقال: اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي.
فالتفت إلى عثمان فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟
قال: اللهم نعم.
فأشار بيده إلى كتفيه، وقال: إذًا شئتما، فنهضنا حتى دخلنا المسجد وصاح صائح الصلاة جامعة قال عثمان: فتأخرتُ والله حياء لما رأيت من إسراعه إلى علي فكنت في آخر المسجد، قال: وخرج عبد الرحمن بن عوف وعليه عمامته التي عممه بها رسول الله متقلدًا سيفه حتى ركب المنبر فوقف وقوفًا طويلاً ثم دعا بما لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال:
" أيها الناس إني قد سألتكم سرًا وجهرًا عن إمامكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي وإما عثمان فقم إلي يا علي فقام إليه علي فوق تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟
قال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي.
قال: فأرسل يده، ثم نادى قم إلي يا عثمان، فأخذ بيده، وهو في موقف علي الذي كان فيه، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟
قال: اللهم نعم.(1/19)
قال فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، ثم قال: [ اللهم اسمع واشهد اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان ]
قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه عند المنبر، فقعد عبد الرحمن مقعد النبي من المنبر وأقعد عثمان على الدرجة الثانية فجعل الناس يبايعونه، وتلكأ علي فقال عبد الرحمن: ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد الله عليه فسيؤتيه أجرًا عظيمًا ).
فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: خدعة وأيما خدعة، قال عبد العزيز: وإنما سبب قول علي خدعة أن عمرو بن العاص كان قد لقي عليًا في ليالي الشورى فقال إن عبد الرحمن رجل مجتهد وإنه متى أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك ولكن الجهد والطاقة فإنه أرغب له فيك قال ثم لقي عثمان فقال إن عبد الرحمن رجل مجتهد وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة فاقبل فلذلك قال علي: خدعة.
قال: ثم انصرف بعثمان إلى بيت فاطمة ابنة قيس فجلس والناس معه فقام المغيرة بن شعبة خطيبًا فقال: يا أبا محمد الحمد لله الذي وفقك والله ما كان لها غير عثمان وعلي جالس.
فقال عبد الرحمن: يابن الدباغ ما أنت وذاك والله ما كنت أبايع أحدًا إلا قلت فيه هذه المقالة.
قال: ثم جلس عثمان في جانب المسجد ودعا بعبيد الله بن عمر وكان محبوسًا في دار سعد بن أبي وقاص وهو الذي نزع السيف من يده بعد قتله جفينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة وكان يقول والله لأقتلن رجالا ممن شرك في دم أبي يعرض بالمهاجرين والأنصار فقام إليه سعد فنزع السيف من يده وجذب شعره حتى أضجعه إلى الأرض وحبسه في داره حتى أخرجه عثمان إليه فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار:
" أشيروا عليَّ في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق؟ فقال علي: أرى أن تقتله.
فقال بعض المهاجرين: قتل عمر أمس، ويقتل ابنه اليوم؟!(1/20)
فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك.
قال عثمان: أنا وليهم وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي قال وكان رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر قال:
ألا يا عبيد الله مالك مهرب ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر أصبت دمًا والله في غير حله حرامًا وقتل الهرمزان له خطر على غير شيء غير أن قال قائل أتتهمون الهرمزان على عمر فقال سفيه والحوادث جمة نعم اتهمه قد أشار وقد أمر وكان سلاح العبد في جوف بيته يقلبها والأمر بالأمر يعتبر قال فشكا عبيدالله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه قال فأنشأ:
أبا عمرو عبيد اللّه رهن *** فلا تشكك بقتل الهرمزان
فإنك إن غفرت الجرم عنه *** وأسباب الخطا فرسا رهان
اتعفو اذ عفوت بغير حق *** فما لك بالذي تحكي يدان
فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه .... اهـ.
وفي نهاية المقام لا يفوتني أن أقول: إن ابن جرير إذا روى عن بعض المشهورين بالتشيع، فلا ملام عليه في هذا، إذ أنه ذكر سنده في الرواية ليحيل العهدة على الرواة، وترك للقارئ الحاذق نقدها وتمحيصها فقد قال - رحمه الله - في مقدمة تاريخه :
"وليعلم الناظر في كتابنا هذا إن اعتقادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت إني أرسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى روايتها فيه ... - إلى أن قال - رحمه الله -:
" فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه ويستبشعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من بعض ناقليه إلينا، ونحن إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا..." اهـ.(1/21)
ولكن جاء من بعد ابن جرير من حذف هذه الأسانيد وضم الروايات بعضها إلى بعض طلباً للاختصار، ثم جاء من بعدهم خصوصاً في هذا العصر من ينقل هذا الروايات وينسبها إلى كتب التاريخ من غير تفريق بين ما يرويه الثقات وبين ما يرويه أهل التشيع والرفض ولا بين ما ظاهره الصحة مما تظاهرت فيه أخبار الثقات العدول من جهات متعددة، وبين ما ظاهره البطلان مما يروى في مثالب الصحابة وما جرى بينهم من الفتن مما يجمع على بطلانه عامة أهل العلم بالحديث من أهل السنة.
وزاد الطين بلة في العصور المتأخرة أنه ظهر سابئة جديدة بثوب جديد وهؤلاء ما يسمون بالمستشرقين من اليهود والنصارى وهؤلاء وجدوا في روايات الرافضة المدسوسة في التاريخ مرتعاً خصباً لتشويه التاريخ الإسلامي المجيد.
وهؤلاء يموهون على الناس أنهم من أهل التحقيق العلمي الدقيق وفي الحقيقة أنهم من أهل التزوير والتلفيق فغاية ما عندهم من التحقيق أن يعمد أحدهم إلى بعض روايات الرافضة يصوغها بصورة بشعة ويزيد فيها وينقص حسب ما يخدم غرضه الخبيث ثم في الأخير يقول لك مثلاً: انظر ابن جرير الطبري، أو ابن الأثير.
هذا وقد اغتر بتمويههم وتزويرهم كثير من الكتاب وأساتذة التاريخ في هذا العصر، وفي الحقيقة إنه لمن الخيانة لهذا الدين أن يؤخذ تاريخه من أعدائه من اليهود والصليبيين وهم ما يسمون بالمستشرقين.(1)
وفي النهاية أسأل الله - تعالى – أن يجعلنا ممن يحبُ أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ويدافعُ عنهم، ويُثني عليهم، ويتبعُ منهجهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم؛
__________
(1) انظر رسالة " ما أدخلته الشيعة في التاريخ الإسلامي" لـ أ.د/ صالح بن عبد الله المحيسن.(1/22)