المقالات القصار فى
فتاوى الأحاديث والأخبار
(1) الدلائل الواضحة على صحَّة حديث البطاقة الراجحة
(2) قرة العين ببيان صحة الحديث القدسى (( أنا ثالث الشريكين ))
(3) الاسْتِقْصَا ببيان صحَّة حديث (( من أَهَلَّ بحجَّةٍ أو عُمْرَةٍ من المسجد الأَقْصَى ))
(4) فصل البيان بضعف أحاديث فضل مشاة الحجاج على الركبان
(5) الإيضاحُ والتنبيه بصحة حديث (( لا يأخُذْ أحدُكُم عصا أخيه ))
(6) طعنُ القَنَا فى صدر مفترى : يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْنَا
(7) حسان عبد المنان وصنيعه بكتاب (( رياض الصالحين ))
(8) إتحاف الأوَّاه بصحة حديث (( مَا مِنْ ثَلاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاةُ ))
(9) الجواب عمن شَرِبَ دمَ حِجَامةِ رَسُولِ اللهِ من الأصحاب
(10) فصل الخطاب ببيان بطلان أحاديث الأبدال والأقطاب
(11) البيان المأمول عن عِدَّة من وصفهم ابنُ حجر بقوله (( مقبول ))
(12) النبراس ببيان كذب التقاء النَّبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلياس
أبو محمد أحمد شحاته الألفى
السكندرى
الحمد لله بالعشى والإشراق . والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على من وقع على محبته الإتفاق . وطلعت شموس أنواره في غاية الإشراق . وتفرد فى ميدان الكمال بحسن الإستباق . الناصح الأمين الذي اهتدى الكون كله بعلمه وعمله . والقدوة المكين الذي اقتدي الفائزون بحاله وقوله . ناشر ألوية العلوم والمعارف . ومسدي الفضل للأسلاف والخوالف . الداعي على بصيرة إلى دار السلام . والسراج المنير والبشير النذير ، علم الأئمة الأعلام . الآخذ بحُجُزِ مُصَدِّقيِّه عن التهافت في مداحض الأقدام . والتتابع في مزلات الجرأة على العصيان والآثام .
وبعد ..(1/1)
فهذه أجوبة أسئلةٍ عن أحاديثَ مشتهرة ، وأخبارٍ منتشرة ، يعتمدها كثير من خطباء الوقت ودعاة العصر ، فى مجالس الترغيب والتحذير ، وعلى منابر الدعوة والتذكير . وقد أقمتُها إقامة السنان ، وأودعتها دقائق تحقيقات أهل هذا الشان ، وأسميتها عند الإتمام :
المقالات القصار فى فتاوى الأحاديث والأخبار
وجعلت بين يديها كالمقدمة لها ، هذا المبحث المهم :
بيان حكم ذكر الأحاديث الضعيفة فى الوعظ والتذكير
قال الإمام مسلم فى مقدمة (( صحيحه )) : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَسَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ : جَاءَ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ـ يَعْنِي بُشَيْرَ بْنَ كَعْبٍ ـ ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا ، فَعَادَ لَهُ ، ثُمَّ حَدَّثَهُ فَقَالَ لَهُ : عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا ، فَعَادَ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ : مَا أَدْرِي أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ ، وَأَنْكَرْتَ هَذَا ، أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ ، وَعَرَفْتَ هَذَا ؟ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : (( إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ ، تَرَكْنَا الْحَدِيثَ عَنْهُ )) .(1/2)
وقَالَ مسْلِمٌ : (( وَإِنَّمَا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمُ الْكَشْفَ عَنْ مَعَايِبِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ ، وَنَاقِلِي الأَخْبَارِ ، وَأَفْتَوْا بِذَلِكَ حِينَ سُئِلُوا ، لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْخَطَرِ ، إِذِ الأَخْبَارُ فِي أَمْرِ الدِّينِ ، إِنَّمَا تَأْتِي بِتَحْلِيلٍ ، أَوْ تَحْرِيمٍ ، أَوْ أَمْرٍ ، أَوْ نَهْيٍ ، أَوْ تَرْغِيبٍ ، أَوْ تَرْهِيبٍ . فَإِذَا كَانَ الرَّاوِي لَهَا لَيْسَ بِمَعْدِنٍ لِلصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ ، ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَنْ قَدْ عَرَفَهُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا فِيهِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ جَهِلَ مَعْرِفَتَهُ ، كَانَ آثِمًا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ ، غَاشًّا لِعَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ ، إِذْ لا يُؤْمَنُ عَلَى بَعْضِ مَنْ سَمِعَ تِلْكَ الأَخْبَارَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا ، أَوْ يَسْتَعْمِلَ بَعْضَهَا ، وَلَعَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا أَكَاذِيبُ ، لا أَصْلَ لَهَا ، مَعَ أَنَّ الأَخْبَارَ الصِّحَاحَ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ ، وَأَهْلِ الْقَنَاعَةِ ، أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى نَقْلِ مَنْ لَيْسَ بِثِقَةٍ ، وَلا مَقْنَعٍ . وَلا أَحْسِبُ كَثِيرًا مِمَّنْ يُعَرِّجُ مِنَ النَّاسِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الضِّعَافِ ، وَالأَسَانِيدِ الْمَجْهُولَةِ ، وَيَعْتَدُّ بِرِوَايَتِهَا ، بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِمَا فِيهَا مِنَ التَّوَهُّنِ وَالضَّعْفِ ، إِلا أَنَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى رِوَايَتِهَا ، وَالاعْتِدَادِ بِهَا إِرَادَةُ التَّكَثُّرِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْعَوَامِّ ، وَلأَنْ يُقَالَ : مَا أَكْثَرَ مَا جَمَعَ فُلانٌ مِنَ الْحَدِيثِ ، وَأَلَّفَ مِنَ الْعَدَدِ . وَمَنْ ذَهَبَ فِي الْعِلْمِ هَذَا الْمَذْهَبَ ، وَسَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ ، فَلا نَصِيبَ لَهُ فِيهِ ، وَكَانَ بِأَنْ يُسَمَّى جَاهِلاً أَوْلَى مَنْ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى عِلْمٍ(1/3)
)) .
ألا فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، ويكثرون من ذكر الأحاديث النبوية ، إعتماداً على كتب المواعظ والرقائق ، والزهد وفضائل الأعمال ، المشحونة بالمناكير والأباطيل والموضوعات قبل التفتيش عنها فى مظانها ، للاكتفاء بالصحيح منها ، ونبذ السقيم . ويعظم هذا التحذير فى حق من يتصدى للفتوى ، لئلا يقع فى ما نهى عنه من القول على الله بلا علم (( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون )) .
قال أبو حاتم بن حبان (( المجروحين ))(1/13) : (( فمن لم يحفظ سنن النبى صلى الله عليه وسلم ولم يحسن تميز صحيحها من سقيمها ، ولا عرف الثقات من المحدثين ولا الضعفاء والمتروكين ، ومن يجب قبول إنفراد خبره ممن لا يجب قبول زيادة الألفاظ فى روايته ، ولم يعرف معنى الأخبار والجمع بين تضادها فى الظواهر ، ولا عرف المفسًّر من المجمل ولا عرف الناسخ من المنسوخ ، ولا اللفظ الخاص الذى يراد به العام ، ولا اللفظ العام الذى يراد به الخاص ، ولا الأمر الذى هو فريضة ، ولا الأمر الذى هو فضيلة وإرشاد ، ولا النهى الذى هو حتم لا يجوز ارتكابه من النهى الذى هو ندب يباح استعماله : كيف يستحل أن يفتى ، أو كيف يسوغ لنفسه تحريم الحلال أو تحليل الحرام ، تقليداً منه لمن يخطئ ويصيب ، رافضاً قول من لا ينطق عن الهوى )) .
وقد ترخص جماعة من العلماء فى الرواية ، وفرقوا بين ما كان منها فى الأحكام فشددوا ، وما كان فى الرقائق وفضائل الأعمال فتساهلوا ، واحتجوا لذلك بما روى عن عبد الرحمن بن مهدى قال : (( إذا روينا عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الحلال والحرام والأحكام شددنا فى الأسانيد وانتقدنا الرجال ، وإذا روينا فى فضائل الأعمال والعقاب والدعوات تساهلنا فى الأسانيد )) .(1/4)
وأقول : هذا مذهب فى قبول الروايات قد أخطئ الكثيرون فهم دلالته ، ووسعوا دائرة العمل بمفهومه الخاطئ ، حتى ضربوا بقوله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط ، فخرج أكثرهم عن حد التساهل إلى التغافل ، وعن قيد التثبت والإحتياط إلى التقصير والإفراط ، ولم يفرقوا بين إسنادٍ يسيرٍ ضعفُه مجبورٍ كسرُه ، وإسناد ضعفه أكيد وكسره شديد ، فقبلوا روايات الكذابين والوضاعين ، وتوسعوا فى رواية كل ما يلقى قبولاً ورواجاً لدى عوام المسلمين .
والحق أن التساهل المذكور لا ينبغى أن يتطرق إلى الأسانيد الواهية والموضوعة والباطلة ، وإلا لتهدمت قواعد وشرائط أداء وتحمل الروايات ، وأهمها عدالة الرواة وضبطهم ، وهذا معلوم من مذهب الإمام ابن مهدى نفسه ، فقد كان شديد الإنتقاد للرواة ، واسع المعرفة بدقائق علل الأحاديث . وتحرير القول فى هذا المهيع الصعب ، ما قاله الإمام الجهبذ زين الدين العراقى فى (( التبصرة والتذكرة )) :
فإن يُقلْ يُحتجُّ بالضعيفِ فَقُل إذا كانَ من الموصوفِ
رواتُه بسوء حفظٍ يُجبرُ بكونه من غيرِ وجهٍ يُذكرُ
وإن يكنْ لكذبٍ أو شذَّا أو قَوِىَ الضُّعفُ فلم يُجبرْ ذَا
وهذا الذى حرَّره ـ رحمه الله ـ هو حد الحديث الحسن عند الإمام الترمذى كما سبق ذكره بعاليه . فهذا النوع من الحديث ـ يعنى الحسن عند الترمذى ـ ، أو الضعيف المنجبر عند العراقى ، هو الذى عناه الإمام عبد الرحمن بن مهدى ، وأحمد بن حنبل ، والترمذى ، والبيهقى ، والبغوى ، وغيرهم ممن تساهلوا فى أسانيد الرقائق والزهد والدعوات وفضائل الأعمال ، وقالوا بجواز العمل بالحديث الضعيف فيها .(1/5)
وعلى هذ العمل عند جماهير أهل العلم بالحديث ، كالعز بن عبد السلام ، وأبى عمرو بن الصلاح ، وتقى الدين بن دقيق العيد ، وتقى الدين على بن عبد الكافى السبكى ، وتقى الدين أحمد بن تيميه ، وشمس الدين بن القيم ، وعماد الدين أبى الفداء ابن كثير ، وزين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقى ، وشمس الدين الذهبى ، وابن حجر ، والسخاوى ، والسيوطى ، وجماعة ممن لا يحصون كثرة .
وقد حرَّر الحافظ ابن حجر العسقلانى هذا المعنى تحريراً بالغاً ، فيما ذكره عنه الحافظ السخاوى فى (( القول البديع ))(ص258) : (( سمعت شيخنا ـ يعنى ابن حجر ـ مراراً يقول ، وكتبه لى بخطه : إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة :
(1) أن يكون الضعف غير شديد ، فيخرج هذا القيد الكذَّابين ، والمتهمين بالكذب ، ومن فحش غلطه .
(2) أن يكون مندرجاً تحت أصل عام ، فيخرج ما يخترع ، بحيث لا يكون له أصلٌ أصلاً .
(3) ألا يعتقد عند العمل به بثبوته ، لئلا ينسب إلى النَّبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما لم يقله .
قال : والأخيران عن العز بن عبد السلام ، وابن دقيق العيد .
والأول نقل العلائى الاتفاق عليه )) اهـ .
وأقول : وعندى أن كلام الحافظ العراقى أوثق حجة وأمتن دلالة من كلام ابن حجر ، وذلك أن العراقى اشترط فى العمل بالحديث الضعيف أن يكون مروياً من وجهٍ آخر يقويه ويشد أزره ، فيرتقى بذلك من الضعيف إلى الحسن لغيره ، على مذهب أهل الحديث ، أو الصحيح على مذهب الفقهاء ، حيث أنهم يستعملون الأحاديث الحسان فى الفقهيات ويصححونها ، فقد قال :
رواتُه بسوء حفظٍ يُجبرُ بكونه من غيرِ وجهٍ يُذكرُ(1/6)
وأما ابن حجر فقد اشترط أن يكون الحديث مندرجاً تحت أصلٍ عام ، وهذا معنى غير دقيق التصور ، وصعب الادراك ، فإن إثبات توثق الحديث بالأصل ، واندراجه تحته أمر عسير ، لا يحققه إلا جهابذة الأصوليين ، كالعز بن عبد السلام ، وابن دقيق العيد ـ رحمهما الله ـ ، لذا لا يُستغرب اشتراطهما له . وبعد .. فإنى أرفع أكف الدعاء إلى مجيب دعوة المضطرين ، أن ينفع به كاتبه وقارئه وعموم المسلمين ، وأسأله العون على سهل الأمر وقويه ، وأعتصم بحبله ومحبة نبيه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الدلائل الواضحة على صحَّة حديث البطاقة الراجحة
الحمد لله الذى جعل التوحيدَ دليلاً على مرضاته . وحادياً إلى جناته . فأكرمْ به صاحباً للعبد من مولده إلى مماته . ومُنجياً له من عذاب القبر وظلماته . والصلاة والسلام الأكملان على محمَّدٍ خير خلق الله ودعاته . وبعد ..
قال الإمام أحمد (1/63) : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْخَفَّافُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ـ يعنى ابن أبى عروبة ـ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لا يَقُولُهَا عَبْدٌ حَقًّا مِنْ قَلْبِهِ ، إِلا حُرِّمَ عَلَى النَّارِ )) ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : أَنَا أُحَدِّثُكَ مَا هِيَ ؟ ، هِيَ كَلِمَةُ الإِخْلاصِ الَّتِي أَعَزَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ ، وَهِيَ كَلِمَةُ التَّقْوَى الَّتِي أَلاصَ عَلَيْهَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ عِنْدَ الْمَوْتِ : شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ .(1/7)
وقال (3/407) : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّورِىِّ عَنْ سَلَمَةَ ـ يعنى ابن كهيل ـ عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى : (( أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلامِ ، وَعَلَى كَلِمَةِ الإِخْلاصِ ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) .
وقال الإمام البخارى فى (( كتاب استتابة المرتدين ))(6938) : حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ ـ يعنى ابن المبارك ـ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا : ذَلِكَ مُنَافِقٌ ، لا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أَلا تَقُولُوهُ يَقُولُ : لا إِلَهَ إِلا اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ )) ، قَالَ : بَلَى ، قَالَ : (( فَإِنَّهُ لا يُوَافَى عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ )) .
كَلِمَةُ الإِخْلاصِ .. كَلِمَةُ التَّقْوَى .. الكلمة المنجية من النار .. الكلمة الموجبة للجنة .. كَلِمَةُ التوحيد هى : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، لا يوافى عبدٌ به الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا أكرمه وأجزل مثوبته ، وحرم عليه النار ، وأدخله الجنة .
يا سَائِلِى عَنْ لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ فَهِى سَبِيلُ الفَوْزِ والسَّعَادَةِ
مَنْ قالَها مُوْاطِئَاً معناهَا وكانَ عَامِلاً بِمُقْتَضَاهَا(1/8)
فى القولِ والفعلِ ومَاتَ مُؤمِنَا يُبْعَثُ يَومَ الحشرِ نَاجٍ آمِنَا
قال الإمام أبو القاسم حمزة بن محمد الكنانى المصرى فى (( جزء البطاقة ))(2) : أخبرنا عمران بن موسى بن حميد الطبيب ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حَدَّثَنَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ عَنْ عَامِرِ بْنِ يَحْيَى المعَافِرىِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلاً ، كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدَّ الْبَصَرِ ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى لَهُ : أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا ؟ ، فَيَقُولُ : لا يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ عزَّ وجلَّ : أَلَكَ عُذْرٌ أو حَسَنَةٌ ، فَيُهَابُ الرَّجُلُ ، فَيَقُولُ : لا يا رَبِّ ، فَيَقُولُ عزَّ وجلَّ : بَلَى ، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ وَإِنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ ، فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاتِ ؟ ، فَيَقُولُ عزَّ وجلَّ : إِنَّكَ لا تُظْلَمُ ، فَتُوضَعُ السِّجِلاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ ، فَطَاشَتِ السِّجِلاتُ ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ )) .
قال أبو القاسم حمزة بن محمد : ولا أعلمه روى هذا الحديث غير الليث بن سعد ، وهو من أحسن الحديث .
وقال الشيخ أبو الحسن ـ يعنى علي بن عمر بن محمد بن حمصة الحرانى(1) ـ : أنا حضرت رجلاً في المجلس ، وقد زعق عند هذا الحديث ، ومات ، وشهدتُ جنازته ، وصليتُ عليه .(1/9)
قلت : هو كما قاله الإمام الحجة أبو القاسم الكنانى ؛ من أحسن أحاديث المصريين وأصحِّها وأروعها ، والحديث لهم ، وسائر أهل الأمصار يروونه عنهم . وهو بهذا الإسناد من عَبْدِ اللهِ بْنَ عَمْرٍو إلي أبى القاسم الكنانى مصرى خالص ، رواته كلهم مصريون ثقات عدول ، وهو غريب لم يروه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ عَمْرٍو إلا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ ، تفرد به عنه عَامِرُ بْنُ يَحْيَى المعَافِرىُّ ورواه عَنْ عَامِرِ بْنِ يَحْيَى : اللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ ، وعبد الله بن لهيعة ، ولكنه عن الليث أشهر ، فقد أقام متنه ، وجوَّد ألفاظه ، وأتقن سياقته ، وأما ابن لهيعة ، ففى سياق حديثه ما يُنكر ، فكأنه
ــــــــ
(1) هو راوى (( جزء البطاقة )) تصنيف الإمام أبى القاسم حمزة بن محمد الكنانى المصرى .
كان يرويه بعد اختلاطه . والمعتمد فى صحة الحديث على الحُجَّة الثبت الثقة : الليث بن سعد .
وإن شئت ، فقارن بين روايته الآنفة الذكر ، وبين ما أخرجه الإمام أحمد (2/221) قال : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَامِرِ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ ، فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ ، فَيُوضَعُ مَا أُحْصِيَ عَلَيْهِ ، فَتَمَايَلَ بِهِ الْمِيزَانُ ، فَيُبْعَثُ بِهِ إِلَى النَّارِ ، قَالَ : فَإِذَا أُدْبِرَ بِهِ ، إِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ ، يَقُولُ : لا تَعْجَلُوا لا تَعْجَلُوا ، فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَهُ فَيُؤْتَى بِبِطَاقَةٍ فِيهَا : لا إِلَهَ إِلا اللهُ ، فَتُوضَعُ مَعَ الرَّجُلِ فِي كِفَّةٍ ، حَتَّى يَمِيلَ بِهِ الْمِيزَانُ )) .(1/10)
لا شك أنك واجدٌ بين الروايتين بوناً شاسعاً ، ينبئك عن إتقان وضبط وحفظ الليث بن سعد ، فقد جوَّده وضبطه وأتقن سياقته ، وأبدع ابن لهيعة شيئاً من وهمه الذى خانه بعد اختلاطه وسوء حفظه ، فجاء بهذه المعانى المنكرة (( يُوضَعُ الرجلُ فِي كِفَّةٍ )) و (( توضَعُ ـ يعنى البطاقة ـ مَعَ الرَّجُلِ فِي كِفَّةٍ )) و (( حَتَّى يَمِيلَ بِهِ الْمِيزَانُ )) !! ؛ على خلاف المحفوظ والثابت من معانى الحديث وألفاظه ، كما أتقنه إمامُ حفاظ أهل مصر : الليث بن سعد .
وقد رواه عن الليث بن سعد جماعة من أثبات أصحابه ، من أهل مصر وغيرهم من محدثى أمصار الإسلام : سعيد بن أبى مريم المصرى ، وسعيد بن عفير ، وعبد الله بن المبارك المروزى ، وقتيبة ابن سعيد القعنبى ، ويحيى بن عبد الله بن بكير المصرى .
ولا خلاف بينهم على روايته بهذا التمام كحديث يحيى بن بكير ، ويزيدون عليه (( أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ )) . وفى رواية ابن المبارك (( إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي )) ، وزاد بآخره (( فَلا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ )) .
فقد أخرجه كذلك ابن المبارك (( الزهد ))(371) ، وأحمد (2/213) ، والترمذى (2639) ، وابن ماجه (4300) ، والطبرانى (( الأوسط ))(4725) ، وابن حبان (225) ، والحاكم (1/710،46) ، والبيهقى (( شعب الإيمان ))(1/264/283) ، والخطيب (( موضح الأوهام ))(2/204) ، والمزى (( تهذيب الكمال ))(14/84) ، وأبو طاهر السلفي (( الأربعين البلدانية ))(19) ، والذهبى (( معجم المحدثين ))( ص48) ، ومحمد عبد الباقي الأيوبي (( المناهل السلسلة ))( ص284،283) ، والسيوطي (( جياد المسلسلات ))( الحديث الحادي والعشرون ) ، وعبد الباقي الحنبلي (( أربعين حديثاً من رياض آثار أهل السنة ))( ص21، 22) من طرق عن الليث بن سعد به .(1/11)
[ لطيفة إسنادية ] ومن لطائف رواية هذا الحديث ، أن الحافظ الجلال أبا بكرٍ السيوطى رواه بإسنادٍ رواته مصريون كلهم منه إلى عبد الله بن عمرو .
فقال فى (( تدريب الراوى ))(2/408) : قرئ على أم الفضل بنت محمد المصرية وأنا أسمع : شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني ومحمد ومريم ولدا أحمد بن إبراهيم سماعا قالوا كلهم : أنا أبو الفتح محمد بن محمد الميدومي أنا أبو عيسى بن علاق أنا أبو القاسم هبة الله بن علي البوصيري ثنا أبو صادق مرشد بن يحيى أنا أبو الحسن علي بن عمر الصواف ثنا أبو القاسم حمزة بن محمد الكنانى أنا عمران بن موسى بن حميد الطبيب ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني الليث ابن سعد عن عَامِرِ بْنِ يَحْيَى المعافري عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِوٍ يَقُولُ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فينشر له تسعة وتسعون سجلا ً ..... )) الحديث .
ثم قال الجلال السيوطى : (( ورجال هذا الإسناد الذي سقناه مني إلى عبد الله بن عمرو كلهم مصريون )) .
قلت : وهذه الطريق التى رواه بها السيوطى ، هى الطريق إلى رواية كتاب (( جزء البطاقة )) للإمام الحافظ أبى القاسم حمزة بن محمد بن على بن العباس الكنانى .
قرة العين ببيان صحة الحديث القدسى (( أنا ثالث الشريكين ))
الحمد لله الهادى من استهداه . والواقى من اتقاه . والصلاة والسلام على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم أفضلِ خلقِ الله . وبعد(1/12)
قال أبو داود (( السنن ))(3383) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمِصِّيصِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ : (( إِنَّ اللهَ يَقُولُ : أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا )) .
وأخرجه كذلك الدارقطنى (3/35/139) ، والحاكم (2/52) ، والبيهقى (6/78) ، والمزى (( تهذيب الكمال ))(10/401) من طريق محمد بن الزبرقان أبى همام عن أبى حيان التيمى عن أبيه عن أبى هريرة قال : قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : فذكره .
قلت : والحديث بهذا الإسناد يذكر فى الوحدان ، فليس فى (( الكتب الستة )) بهذا الإسناد غير هذا الحدبث ، تفرد بتخريجه أبو داود ، وليس لأبى حيان التيمى عن أبيه عن أبى هريرة غيره .
وقال الحاكم : (( صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه )) .
فتعقبه الشيخ الألبانى ـ طيَّب الله ثراه ـ فى (( إرواء الغليل ))(5/288/1468) بقوله :
(( وأقول : بل ضعيف الإسناد ، وفيه علتان :
( الأولى ) الجهالة ، فإن أبا حيان التيمى اسمه يحيى بن سعيد بن حيان . وأبوه سعيد ، أورده الذهبى فى (( الميزان )) وقال : (( لا يكاد يُعرف ، وللحديث علَّة )) . وأما الحافظ ، فقال فى (( التقريب )) : (( وثََّقه العجلى )) .
قلت : وهو من المعروفين بالتساهل فى التوثيق ، ولذلك لم يتبن الحافظ توثيقه ، وإلا لجزم به فقال : (( ثقة )) ؛ كما هى عادته فيمن يراه ثقة ، فأشار إلى هذا لأنه ليس كذلك عنده ، بأن حكى توثيق العجلى له .(1/13)
( الثانية ) الاختلاف فى وصله . فرواه ابن الزبرقان هكذا موصولاً ، وهو صدوق يهم كما قال الحافظ ، وخالفه جرير فقال (( عن أبى حيان التيمى عن أبيه قال قال رسول الله صلَّى الله علي وسلَّم : فذكره )) أخرجه هكذا الدارقطنى من طريق لوين محمد بن سليمان ، ثم قال : (( لم يسنده أحد إلا أبو همام وحده )) .
قلت : وأبو همام فيه ضعفٌ ، ولعل مخالفه جرير ، وهو ابن عبد الحميد الضبى خير منه ، فقد ترجمه الحافظ : (( ثقة صحيح الكتاب ، وقيل : كان فى آخر عمره يهم من حفظه )) . وجملة القول أن الحديث ضعيف ، للاختلاف فى وصله وإرساله ، ولجهالة راويه )) اهـ .
وأقول : والشيخ الألبانى ـ طيَّب الله ثراه ـ مسبوق بهذا التعليل والتضعيف ، بما ذكره العلامة أبو الحسن بن القطان فى كتاب (( الوهم والإيهام )) . ونص عبارة ابن القطان : (( وهو حديث يرويه أبو حيان التيمى عن أبيه عن أبى هريرة . وأبو حيان هو يحيى بن سعيد بن حيان أحد الثقات ، ولكن أبوه لا يُعرف حاله ، ولا يُعرف من روى عنه غير ابنه . ويرويه عن أبى حيان : أبو همام بن الزبرقان . وحكى الدارقطنى عن لُوين أنه قال : لم يسنده غير أبى همام ، ثم ساقه من رواية أبى ميسرة النهاوندى ثنا جرير عن أبى حيان عن أبيه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مرسل )) اهـ كما فى (( نصب الراية )) للحافظ الزيلعى .(1/14)
قلت : وهذا الذى ذكره أبو الحسن بن القطان فى إعلال الحديث مشهور مستفيض عنه ، نقله عنه الكثيرون من الحفاظ ، كالحافظ ابن الملقن (( خلاصة البدر المنير ))(2/93) ، والحافظ عمر بن على الوادياشى (( تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج ))(2/271) ، والحافظ ابن حجر فى (( تلخيص الحبير ))(3/49) ، والحافظ المناوى فى (( فيض القدير ))(2/308) ، والأمير الصنعانى فى (( سبل السلام ))(3/46) ، والقاضى الشوكانى فى (( نيل الأوطار ))(5/390) ، وشمس الحق العظيم آبادى فى (( عون المعبود ))(9/170) وغيرهم ، إلا أن الحافظ ابن الملقن الشافعى تعقبه بقوله : (( أعله ابن القطان بما بان أنه ليس بعلة )) .
وكذا قال الحافظ الوادياشى الأندلسى .
قلت : وهو كما قالا ، والحديث صحيح ولا عبرة فى تضعيفه للوجوه الآتية :
( أولاً ) سعيد بن حيان التيمى الكوفى ، والد يحيى بن حيان ، لا يتوجه القول بتضعيفه بمجرد القول : (( لا يكاد يُعرف )) ، فإنها ليست من عبارات التضعيف ، كما هو معروف فى (( قواعد الجرح والتعديل )) .
وإنما يخالف فى هذا المتأخرون الذين يضعفون المجاهيل بلا حجة . ومفهومها عند قائلها ، وهو الحافظ الذهبى ، ما بيَّنه فى خاتمة (( ديوان الضعفاء ))(ص374) : (( وأما المجهولون من الرواة ، فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقى بحسن الظن ، إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ )) . فلماذا تغاضى الشيخ الألبانى عن هذه القاعدة الذهبية المفسِّرة لقوله (( لا يكاد يُعرف )) ؟! .
علماً بأن سعيد بن حيان كما قال الحافظ فى (( التقريب ))(1/293) : (( من الثالثة )) يعنى من أوساط التابعين كالحسن البصرى وابن سيرين . وإنما نقول هذا رداً على من ضعَّفه ، وإلا فالرجل فى غنيةٍ عن هذا الدفاع ، فقد وثَّقه اثنان : العجلى فى (( معرفة الثقات ))(1/396) ، وابن حبان فى (( الثقات ))(4/280/2901) .(1/15)
وقال الحافظ (( تهذيب التهذيب ))(4/17/26) : (( لم يقف ابن القطان على توثيق العجلى ، فزعم أنه مجهول )) ، وأما اقتصاره فى (( التقريب )) على ذكر توثيق العجلى فلهذه العلَّة التى بيَّنها ، وليس كما زعم الألبانى أنه لم يتبين له توثيقه !! ، سيما وقد ذكر فى (( التهذيب )) أن العجلى وابن حبان وثَّقاه ، ولا يخفاك أن (( تقريب التهذيب )) اختصار للـ(( التهذيب )) . وأما الحافظ الذهبى الذى ذكر فى (( الميزان )) أنه (( لا يكاد يُعرف )) بناءً على قاعدته الآنفة فى (( ديوان الضعفاء )) ، فقد أعاد ذكره فى (( الكاشف ))(1/434/1871) فقال : (( ثقة )) فبان بهذا أن قوله عن الراوى (( لا يكاد يُعرف )) ؛ ليس تضعيفاً كما يتصوره الشيخ الألبانى .
وقد ذكر سعيداً هذا البخارى فى (( التاريخ ))(3/463/1539) ، وابن أبى حاتم فى (( الجرح والتعديل ))(4/12/44) ، فلم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً .
والخلاصة ، فإن سعيد بن حيان التيمى ، والد أبى حيان التيمى ، ثقة مرضىٌّ ، وإن تفرد عنه ابنه ، وحديثه متلقى بالقبول .
( ثانياً ) محمد بن الزبرقان أبو همام الأهوازى ، ثقة من رجال (( الصحيحين )) ، وثَّقه على بن المدينى ، والبخارى ، وابن حبان ، والدارقطنى . وقال أبو حاتم الرازى : صالح الحديث صدوق . وقال أبو زرعة : صالح وسط . وقال النسائى : ليس به بأس . وقال ابن حبان : ثقة ربما أخطأ .
ولأجل ذلك ، وتوفيقاً بين كلام الأئمة ، قال الحافظ ابن حجر (( التقريب )) (2/161) : (( صدوق ربما وهم )) . وفرقٌ بين هذا وبين ما نقله عنه الشيخ الألبانى بالمعنى بقوله (( صدوق يهم )) ، فإن الحكم الصحيح ينبؤ عن قلة وهمه أو ندرته ، بينما ينبؤ الثانى عن الكثرة واللزوم !! .
وعليه ، فالأهوازى ثقة ربما أخطأ كما يخطئ غيرُه من الثقات ، فمثله ما لم يخالفه من هو أوثق منه متلقى حديثه بالقبول والتصحيح ، وإن تفرد ، كما هو معلوم من (( قواعد علم المصطلح )) .(1/16)
فلننظر فى حديث جرير الذى ظنَّ الشيخ الألبانى ـ طيَّب الله ثراه ـ أنه يعارض حديث أبى همام الأهوازى الثقة الصدوق ، ولو أنَّه طالع (( سنن الدارقطنى )) ، ما خفى عليه ضعفه .
أخرجه الدارقطنى (3/35/140) قال : حدَّثنا هبيرة بن محمد بن أحمد الشيبانى نا أبو ميسرة النهاوندى نا جرير عن أبى حيان التيمى عن أبيه قال : قال رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( يَدُ الله عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فإذا خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ رَفَعَها عَنْهُمَا )) .
قلت : فمن أبو ميسرة هذا الذى أدخل هذا الحديث على جرير بن عبد الحميد ؟؟ ، وهل تقوى روايته المرسلة مع شدة ضعفه على معارضة رواية أبى همام الثقة الصدوق ؟! .
قال ابن حبان فى (( المجروحين والمتروكين ))(1/144) : (( أحمد بن عبد الله بن ميسرة الحرانى أبو ميسرة النهاوندى . يأتى عن الثقات بما ليس من أحاديث الأثبات ، لا يحل الاحتجاج به )) ، وذكر له حديثين عن ابن عمر ، وقال : (( هذان خبران باطلان رفعهما )) .
وقال أبو أحمد بن عدى فى (( الكامل فى الضعفاء ))(1/176) : (( كان بهمدان . حدَّث عن الثقات بالمناكير، ويحدِّث عمن لا يعرف ويسرق حديث الناس )) .
قلت : فهذه رواية واهية بمرة ، لا يحل الاحتجاج بها لحال أبى ميسرة النهاوندى . والذى أعتقده أن الألبانى لم ينظر فى إسناد الدارقطنى ، ولو فعل فلم يكن ليخفى عليه شدة ضعف رواية أبى ميسرة ، وإنما قال ما قاله تحسيناً للظن بابن القطان ، وتقليداً له !! .
فإذ قد بان أن الحديث الموصول لا يعارض بهذه الرواية الواهية ، فقد ثبتت صحته ، ووجب الاحتجاج به .
وأختتم قائلاً (( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله )) ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الاسْتِقْصَا ببيان صحَّة حديث
(( من أَهَلَّ بحجَّةٍ أو عُمْرَةٍ من المسجد الأَقْصَى ))(1/17)
الحمد لله ناصر الحق ورافعِى لوائِه . والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أتقى خلقه وأوليائِه . وبعد ..
فهذا جوابٌ مقتضبٌ عن سؤالٍ عن حديث أم سلمة (( مَنْ أَهَلَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) .
فقد ذكره الشيخ الألبانى ـ طيَّب الله ثراه ـ فى (( السلسلة الضعيفة )) .
نقول والله المستعان . الحديث صحيح بلا شكٍ ولا ترددٍ .
أخرجه الإمام أحمد (6/299) : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ مَوْلَى آلِ حُنَيْنٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الأَخْنَسِيِّ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ حَكِيمٍ ابْنَةِ أُمَيَّةَ بْنِ الأَخْنَسِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( مَنْ أَهَلَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) . قَالَ : فَرَكِبَتْ أُمُّ حَكِيمٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى أَهَلَّتْ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ .
وأخرجه كذلك أبو يعلى (12/411/7009) ، وابن حبان كما فى (( الإحسان ))(3693) جميعاً من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق بإسناده ومتنه .
قلت : هذا إسناد رجاله كلهم موثقون ، غير أم حكيم بنت أميَّة بن الأخنس ، واسمها حُكيمة ـ بالتصغير ـ ، لم يذكرها أحد بجرح ، ولم يروى عنها إلا ابنها يحيى بن أبى سفيان الأخنسى ، وسليمان بن سحيم ـ إن كان محفوظاً ـ .
وقد ذكرها ابن حبان فى (( الثقات ))(4/195/2459) .
وقال الحافظ الذهبى (( الكاشف ))(2/506/6979) : (( حكيمة بنت أميَّة عن أم سلمة . وعنها يحيى بن أبى سفيان ، وسليمان . وثَّقت )) .(1/18)
وقال فى (( الميزان ))(7/465) : (( فصل فى النسوة المجهولات . وما علمت فى النساء من اتهمت ولا من تركوها )) ، وذكرها فى جملتهن (( الميزان ))(7/481/11061) .
قلت : وقد جوَّد إسنادَ هذا الحديث إبراهيمُ بن سعد الزهرى أبو إسحاق المدنى عن ابن إسحاق ، وصرَّح ابن إسحاق بالسماع ، فزالت تهمة تدليسه ، وأتقن متنه .
وتابعه عن ابن إسحاق على هذا الوجه : سلمة بن الفضل ، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى من رواية محمد بن يحيى القطعى ، وعياش بن الوليد عنه .
فقد أخرجه الدارقطنى (2/284/212) من طريق سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق عن سليمان بن سحيم عن يحيى بن أبى سفيان عن أمِّه أم حكيم به مثل حديث إبراهيم بن سعد ، إلا أنه قال (( بيت المقدس )) .
وأخرجه البيهقى (( شعب الإيمان ))(3/448/4026) عن عيَّاش بن الوليد الرقام نا عبد الأعلى نا محمد ابن إسحاق نا سليمان بن سحيم عن يحيى عن أم حكيم بنت أبي أمية عن أم سلمة أن رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : (( من أهلَّ بعمرةٍ أو حجةٍ من بيت المقدس غفر الله له )) .
وأخرجه الطبرانى (( الكبير ))(23/416/1006) ، والمقدسى (( فضائل بيت المقدس ))(58) والمزى (( تهذيب الكمال ))(31/360) جميعاً من طريق محمد بن يحيى القطعى عن عبد الأعلى به مثله .
وخالف جماعتهم : ابن أبى شيبة فأسقط من إسناده (( يحيى بن أبى سفيان )) ، وأحمد بن خالد الوهبى فأسقط منه (( سليمان بن سحيم )) .
فقد أخرجه ابن ماجه (3001 ) ، وأبو يعلى (12/327/6900) كلاهما عن ابن أبى شيبة عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق حدثنى سليمان بن سحيم عن أم حكيم به .
وأخرجه ابن ماجه (3002 ) عن أحمد بن خالد عن ابن إسحاق عن يحيى بن أبى سفيان عن أمه أم حكيم به .(1/19)
قلت : ولم يتفرد ابن إسحاق عن يحيى بن أبى سفيان ، بل تابعه عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنَّس الحجازى ، وهو ممن احتج بهم مسلم فى (( صحيحه )) ؛ روى له حديثاً فى فضل المدينة (( من أراد أهل هذه البلدة بسوء أذابه الله )) .
فقد أخرج البخارى (( التاريخ الكبير ))(1/161) ، وأبو داود (1741) ، والفاكهى (( أخبار مكَّة ))(1/411/885) ، وأبو يعلى (12/359/6923) ، والطبرانى (( الأوسط )) (6/319/6515) ، والدارقطنى ((2/283/210) ، والبيهقى (( الكبرى ))(5/30) و (( شعب الإيمان ))(3/448/4027) ، وابن عبد البر (( التمهيد ))(15/146) ، وأبو نصر ابن ماكولا (( تهذيب مستمر الأوهام ))(1/173) ، والمقدسى (( فضائل بيت المقدس ))(59) من طرق عن محمد بن إسماعيل بن أبى فديك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنَّس عن يحيى بن أبى سفيان عن جدته حكيمة عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : (( من أهلَّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، غفر له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر ، أو وجبت له الجنة )) ، شك عبد الله أيتهما قال .
وقال أبو داود : (( يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس يعني إلى مكة )) .
قلت : هكذا رواه جماعة أكثرهم ثقات أثبات : أحمد بن صالح الطبرى ، وأبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح ، وأبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصى ، وسعيد بن سليمان سعدويه ، وأبو الفضل صالح بن مسمار ، وعباد بن موسى الختلى ، وعلى بن محمد بن معاوية ، وهارون بن عبد الله الحمال ؛ جميعاً (( عن محمد بن إسماعيل بن أبى فديك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنَّس )) ، وخالف جماعتهم أبو يعلى محمد بن الصلت ، فقال (( محمد بن عبد الرحمن بن يحنَّس عن أبى سفيان الأخنسى )) ، وهو وهم .(1/20)
قال البخارى (( التاريخ الكبير ))(1/161/477) : (( محمد بن عبد الرحمن بن يحنَّس عن أبي سفيان الأخنسي عن جدته حكيمة بنت أمية عن أم سلمة سمعت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : (( من أهل بحجة أو عمرة من مسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه )) حدثناه أبو يعلى محمد بن الصلت عن ابن أبي فديك )) .
قلت : ولم يتفرد ابن أبى فديك عن ابن يحنََّس ، بل تابعه عبد العزيز بن محمد الدراوردى عنه ، إلا أنه قال (( عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عثمان )) ، وأراه خطأً من النسَّاخ ، كما سأبينه .
فقد أخرجه الطبرانى (( الكبير ))(23/361/849) ، ومن طريقه ابن عبد الغنى (( تكملة الإكمال ))(1/171) عن يحيى بن بكير ويحيى بن عبد الحميد الحمانى ، كلاهما عن الدراوردى عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عثمان عن يحيى بن أبى سفيان عن جدته حكيمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أهلَّ من بيت المقدس غفر له ما تقدم من ذنبه )) .
ولكن أخرجه المزى (( تهذيب الكمال ))(31/360) من طريق أبى بكر بن ريذة عن الطبرانى ، فقال (( عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنَّس )) ، وهو الصحيح كرواية ابن أبى فديك .
قلت : والخلاصة ، فالحديث ثابت صحيح ، وأمثل أسانيده (( ابن إسحاق ثنى سليمان بن سحيم عن يحيى بن أبى سفيان عن أمِّه حُكيمة عن أم سلمة )) ، كما رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان وصحَّحه .
وأما الشيخ الألبانى ـ طيَّب الله ثراه ـ ، فقد قال فى (( الضعيفة ))(1/248/211) : (( وعلته عندى حكيمة هذه ، فإنها ليست بالمشهورة ، ولم يوثقها غير ابن حبان ، وقد نبهنا مراراً على ما فى توثيقه من التساهل ، ولهذا لم يعتمده الحافظ ، فلم يوثقها ، وإنما قال فى (( التقريب )) : (( مقبولة )) يعنى عند المتابعة ، وليس لها متابع هاهنا ، فحديثها ضعيف غير مقبول ، وهذا وجه الضعف عندى )) اهـ .(1/21)
فقد بان أن الشيخ الألبانى ـ رحمه الله ـ احتج لقوله بتضعيف حديث حُكيمة بثلاثة أدلة :
( الأول ) أنها ليست مشهورة .
( الثانى ) أنه لم يوثقها غير ابن حبان .
( الثالث ) قول ابن حجر عنها (( مقبولة )) ، وأنها لم تتابع .
فإن كانت هذه الأدلة كافية فى الحكم على حديثٍ ما بالضعف ، فلماذا عكس الشيخ الألبانى الأمر ، فجعلها هى أدلة التصحيح لعددٍ لا يحصى من الأحاديث فى (( صحيحته )) ، وفى (( الإرواء )) ؟! .
ولنذكر على سبيل المثال ، أنه فى تقريره بطلان حديث (( نعم المذكر السبحة )) فى (( سلسلته الضعيفة ))(1/112) ، ذكر ما نصه : (( أنه مخالف لأمره صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حيث قال لبعض النسوة (( عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ ، وَلا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ التَّوْحِيدَ ، وَاعْقِدْنَ بِالأَنَامِلِ ، فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ )) . وهو حديث حسن ، أخرجه أبو داود وغيره ، وصحَّحه الحاكم والذهبى ، وحسَّنه النووى والعسقلانى )) اهـ .
وأقول : فالشيخ ـ طيَّب الله ثراه ـ هاهنا يعتمد تصحيح الحاكم والنووى والذهبى والعسقلانى ، وجميعهم معتمدون فى ذلك على تصحيح ابن حبان وحده ، الذى لا يعتمد الشيخ توثيقه ولا يرضاه ، ويقلده عليه أكثر فضلاء الوقت ورفعاؤه !! .
وذلك أن راوية الحديث : حميضة بنت ياسر مجهولة لم يرو عنها غير ابنها هانئ بن عثمان ، ولم يوثقها غير ابن حبان . وقال ابن حجر فى (( تقريب التهذيب ))(1/746/8570) : (( حميضة بنت ياسر . مقبولة من الرابعة )) .(1/22)
وقد أخرج حديثها ابن أبى شيبة (2/160/7656 و6/53/29414 و7/168/35038) وأحمد (6/370) ، وإسحاق بن راهويه (1/199:198) ، وابن سعد (( الطبقات )) (8/310) ، والدورى (( تاريخ يحيى بن معين ))(3/51) ، وعبد بن حميد (( المنتخب )) (1570) ، وأبو داود (1501) ، والترمذى (3583) ، وابن أبى عاصم (( الآحاد والمثانى )) (6/73/3285) ، وابن حبان كما فى (( موارد الظمآن ))(2333) ، والطبرانى (( الكبير )) (25/74/180) و (( الأوسط ))(5/182/5016) ، والحاكم (1/547) ، وأبو نعيم (( الحلية ))(2/68) ، والرافعى (( التدوين فى أخبار قزوين ))(3/52) ، والمزى (( تهذيب الكمال ))(30/141) جميعا من طريق هانئ بن عثمان عن أمه حميضة بنت ياسر عَنْ جَدَّتِهَا يُسَيْرَةَ وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ قَالَتْ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ ، عَلَيْكُنَّ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ ، وَلا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ ، وَاعْقِدْنَ بِالأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ )) .
والحديث صحَّحه ابن حبان والحاكم ، وأقرهما الذهبى والنووى وابن حجر ، كما أقره الألبانى .
قلت : وفى إسناده حميضة بنت ياسر ، إحدى المجهولات اللاتى تفرد ابن حبان بتوثيقهن ، وقال عنها ابن حجر : (( مقبولة )) ! . فسبيلها فى قبول حديثها كسبيل حُكيمة لا يفترقان فى شئٍ البتة ، كلتاهما تابعية لم يوثقها غير ابن حبان ، وقال عنهما ابن حجر : (( مقبولة )) ، فكيف فرَّق بينهما الشيخ الألبانى ، فحسَّن حديث حميضة وضعَّف حديث حُكيمة ؟! .
أليس هذا من الاعتداد بقول أئمة الجرح والتعديل ، ومنهم الإمام العلم أبى حاتم ابن حبان ، فى موضع ، ونقضه فى موضع آخر ؟! .(1/23)
على أن ثمَّة أمرٍ آخر زائدٍ فى حديث حميضة ، الذى تلقاه الألبانى بالقبول وحسَّنه ، أن فى إسناده هانئ بن عثمان الجهنى وقد تفرد عن أمِّه حميضة ، ولم يوثقه إلا الإمام العلم الجهبذ ابن حبان ، ولهذا قال ابن حجر فى (( التقريب )) عنه : (( مقبول )) ! . فلماذا اعتمده الألبانى ، وتناسى ما يكثر أن يعلل به تضعيف أحاديث المجاهيل بقوله : (( توثيق ابن حبان لا يعُتمد ، لأنه متساهل فى التوثيق )) ! .
وعندى أن الحكم على الحديثين ـ حديث حُكيمة وحديث حُميضة ـ واحد ، كلاهما صحيح ، ولا يضر راويتهما تفرد ابن حبان بتوثيقهما ، عملاً بالمذهب الراجح أن تزكية المزكى الواحد تكفى فى تعديل الراوى المجهول ، كما ذكره إمام المحدثين فى (( صحيحه ))(2/106. سندى ) : باب : إذا زكَّى رجلٌ رجلاً كفاه .
ولنذكر مثالاً آخر ، أنه قال فى (( صحيحته ))( رقم307) ما نصه :
(( حديث (( تنكح المرأة على أحدى خصال ثلاثة ، تنكح المرأة على مالها ، وتنكح المرأة على جمالها ، وتنكح المرأة على دينها . فخذ بذات الدين والخلق ، تربت يمينك )) .
أخرجه ابن حبان فى (( صحيحه ))(1231) ، والحاكم (2/161) ، وأحمد (3/80) من طريق سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته عن أبى سعيد الخدرى مرفوعاً به .
وقال الحاكم : (( صحيح الإسناد )) ووافقه الذهبى .
قلت : ورجاله ثقات معروفون ، غير عمة سعد ، واسمها زينب بنت كعب بن عجرة ، روى عنها ابنا أخويها : سعد بن إسحاق ، وسليمان بن محمد ابنا كعب بن عجرة . وذكرها ابن حبان فى (( الثقات )) . وهى زوجة أبى سعيد الخدرى ، وذكرها ابن الأثير ، وابن فتحون فى (( الصحابة )) . وقال ابن حزم : (( مجهولة )) ، كما فى (( الميزان )) للذهبى وأقرَّه ، ومع ذلك وافق الحاكم على تصحيحه )) اهـ .(1/24)
وأقول : فالألبانى هاهنا يعتمد تصحيح ابن حبان والحاكم ، على أن زينب بنت كعب بن عجرة لم يوثقها إلا ابن حبان وحده ! . فإن قيل : إنما وثقها الألبانى لكونها صحابية ، وشهرة الصحابيات واستفاضة الثقة بهن قاضية برفع الجهالة وإثبات توثيقهن ، فلا يحتاج عندئذ إلى توثيق ابن حبان أو غيره .
فأقول : لو كان هذا صحيحاً ، فلماذا ذكر توثيق ابن حبان إياها ، وذكر عقبه قول ابن حزم : مجهولة ؟ . وأجيب : ذلك لقوة الخلاف فى إثبات الصحبة لها ، فالأكثرون على أنها تابعية . والحافظ ابن حجر نفسه الذى اعتمد عليه الألبانى فيما نقله عن ابن عبد البر وابن فتحون من القول بصحبتها فى (( تهذيب التهذيب ))(12/451) ، قال فى (( تقريب التهذيب )) (2/600) : (( مقبولة من الثانية ويقال : لها صحبة )) .
فقوله (( مقبولة من الثانية )) يعنى جزمه بتابعيتها ، إذ لا يقال فى صحابية (( مقبولة )) ، والصحابة عند ابن حجر كلهم فى (( الطبقة الأولى )) ، وأما الثانية فهى طبقة كبار التابعين ، كابن المسيب ، وقيس بن أبى حازم ، وأبى عثمان النهدى ، وأبى وائل شقيق بن سلمة من الرجال ، وكخيرة أم الحسن البصرى ، وصفية بنت أبى عبيد ، وأم بلال بنت هلال من النساء .
وقال أبو زكريا النووى (( تهذيب الأسماء ))(2/613) : (( زينب بنت كعب بن عجرة . مذكورة فى باب المعتدة من (( المهذب )) . وهى تابعية . تروى عن الفريعة بنت مالك . يروى عنها : ابن أخيها سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة )) .
كما أشار الحافظ الذهبى إلى تابعيتها فى (( الكاشف ))(2/508) بقوله : (( وثقت )) ، فلو كانت صحابية ما قالها . ولهذا لما نقل قول ابن حزم (( مجهولة )) فى (( الميزان )) لم يتعقبه بشئٍ .(1/25)
والخلاصة ، فإن زينب بنت كعب بن عجرة تابعية على الأرجح ، وإنما اعتمد الحفاظ تصحيح حديثها لتوثيق ابن حبان إياها ، ولهذا ذكره الشيخ الألبانى فى معرض الاحتجاج لقبول حديثها دفعاً لتجهيل ابن حزم إياها ، وإنما منعه من التصريح بقبول توثيق ابن حبان تمسكه بقاعدته (( توثيق ابن حبان لا يُعتمد لتساهله فى توثيق المجاهيل )) ! .
وأما القول بتضعيف الحافظ ابن حجر لحكيمة أم حكيم ، لمقاله عنها (( مقبولة )) ، فهو خطأ صدر عن عدم معرفة دلالة هذا المصطلح لدى الحافظ ، والمدققين العارفين بمعانى مصطلحاته فى كتابه الفذ (( تقريب التهذيب )) ، سيما وقد وصف به جمع من الثقات الذين احتج بهم الشيخان فى (( الصحيحين )) ، وعدتهم مائة وخمسة من الرواة ، وقد بيَّنته بياناً شافياً فى كتابى (( المنهج المأمول ببيان معنى قول ابن حجر مقبول )) .
[ تنبيه واجب ] هذا المقال (( توثيق ابن حبان لا يُعتمد لتساهله فى توثيق المجاهيل )) ، صار كالقاعدة التى لا يجوز الخروج عليها عند أكثر فضلاء الوقت من أهل الحديث !! .
ولنا عليه تعقيبات وردود ومؤاخذات ، فيها تفصيل طويل وبيان واسع .
[ تنبيه ثان ] تأويل مصطلح الحافظ ابن حجر البديع المثال (( مقبول )) ، محمول عند أكثر فضلاء الوقت من أهل الحديث على معنى التضعيف ما لم يتابع الراوى ، كقولهم : وقوله (( مقبول )) يعنى عند المتابعة وإلا فلين الحديث ، ولا يُحمل عند أكثرهم على أنه أحد مراتب التوثيق مطلقاً عند الحافظ واضع هذا المصطلح ، وأعرف الناس بدلالته . ولنا فى هذا بيان واسع مذكور فى (( المنهج المأمول ببيان معنى قول ابن حجر مقبول )) .
وإذا وضحت الحجَّة على صحة هذا الحديث ، فاعلم أنَّه قد وقع الخلاف :
( أولاً ) على العمل بدلالة هذا الحديث فى الصدر الأول من الصحابة والتابعين .
( ثانياً ) على صحته فيما بعد بين الأئمة الأعلام ، ومحدثى أمَّة الإسلام .(1/26)
وقد ذكرت كلا الخلافين بإسهابٍ فى كتابى (( السعى المحمود بتخريج وإيضاح مناسك ابن الجارود )) ، وبإيجاز فى كتابى (( البشائر المأمولة فى آداب العمرة المقبولة )) .
[ فأما الأول ] وهو الخلاف على متنه ودلالته ، فلما اشتهر واستفاض من أحاديث توقيت المواقيت لأهل الأقطار وقُطَّان الأمصار ، وأوسعها شهرة حديثا (( الصحيحين )) عن ابن عباس : (( وَقَّتَ رسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ حَيْثُ أنشأ ، فكذاكَ حتى أهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا )) .
وعن ابن عمر أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ )) ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ )) .(1/27)
وأجمعوا بمقتضى هذين الحديثين : أنه لا يجوز لمن أراد حجاً أو عمرةً ألا يجاوز ميقاته الذى هو له ، أو الذى يمر به فى طريقه إلى مكة ، إلا محرماً . واختلفوا فيمن أحرم من وراء ميقاته ، من مصره أو دويرة أهله . فكره ذلك جماعة منهم : عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، والحسن البصرى ، وعطاء ، ومالك بن أنس ، وإسحاق بن راهويه . وأجازه ، بل وفعله : على بن أبى طالب ، وأبو موسى الأشعرى ، ومعاذ بن جبل ، وعمران بن حصين ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعثمان بن أبى العاص ، وعتبان بن مالك ، والحارث بن سويد ، وعمرو بن ميمون ، والأسود بن يزيد النخعى ، وعلقمة بن قيس ، وعبد الرحمن بن يزيد ، وخلائق لا يحصون كثرة . وهو قول : سفيان الثوري ، والحسن بن حي ، وأبى حنيفة ، والإمام الشافعي .
والآثار عن هؤلاء الصحابة والتابعين فى الإحرام من الأماكن البعيدة مبسوطة فى (( المصنف )) لابن أبى شيبة ، و (( المصنف )) لعبد الرزاق الصنعانى ، و (( شرح معانى الآثار )) لأبى جعفر الطحاوى المصرى .(1/28)
وقال حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر فى (( التمهيد )) بعد أن نقل مذهب المانعين : (( وهذا من هؤلاء المانعين والله أعلم ؛ كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه ، وأن يتعرض لما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه ، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ، لأنه زاد ولم ينقص . ويدلك على ما ذكرنا أن ابن عمر روى المواقيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أجاز الإحرام قبلها من موضع بعيد . وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والحسن بن حي : المواقيت رخصة وتوسعة يتمتع المرء بحله حتى يبلغها ، ولا يتجاوزها إلا محرماً ، والإحرام قبلها فيه فضل لمن فعله ، وقوي عليه ، ومن أحرم من منزله فهو حسن لا بأس به . وروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وجماعة من السلف أنهم قالوا : في قول الله عز وجل (( وأتموا الحج والعمرة لله )) ، قالوا : إتمامها أن تحرم من دويرة أهلك .
وأحرم ابن عمر وابن عباس من الشام ، وأحرم عمران بن حصين من البصرة ، وأحرم عبد الله ابن مسعود من القادسية . وكان الأسود ، وعلقمة ، وعبد الرحمن بن يزيد ، وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم )) اهـ .
وقال أبو بكر بن المنذر (( الأوسط )) : (( أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم ، ولكن الأفضل الإحرام من الميقات ويكره قبله )) .(1/29)
وشذَّ ابن حزم الظاهرى كعادته ، فأبطل حجَّ وعمرة من أحرم قبل ميقاته ، وشنَّع على من اقتدى بهؤلاء النفر من الصحابة الذين أحرموا من محالهم وبلدانهم ، وفيهم الفقهاء الرفعاء الكبراء الذين يقتدى بفعالهم ، ويؤتسى بأحوالهم ، فقال فى (( المحلى ))(7/70) : (( فإن أحرم قبل شئ من هذه المواقيت ، وهو يمر عليها ، فلا إحرام له ، ولا حج له ، ولا عمرة له ، إلا أن ينوي إذا صار في الميقات تجديد إحرام ، فذلك جائز ، وإحرامه حينئذ تام وحجه تام وعمرته تامة . ومن كان من أهل الشام أو مصر ، فما خلفهما ، فأخذ على طريق المدينة ، وهو يريد حجا أو عمرة ، فلا يحل له تأخير الإحرام من ذي الحليفة ليحرم من الجحفة ، فإن فعل فلا حج له ، ولا إحرام له ، ولا عمرة له ، إلا أن يرجع إلى ذي الحليفة ، فيجدد منها إحراما ، فيصح حينئذ إحرامه وحجه وعمرته )) !! . وعلامتى التعجب عقب ما ذكره علامَّة الأندلس تغنى عن تكلف الرد على هذا الشذوذ .
وأما إمام المحدثين ـ عليه سحائب الرحمة وشآبيب المغفرة ـ ، فقد أخذ بقول المانعين ، وليس يخفاه ما ورد عن على بن أبى طالبٍ ، وأبى موسى ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس وغيرهم ، من المجوزين .
وأما الإحرام من بيت المقدس خاصةً وما فيه من الفضل والثواب ، فقد فعله ابن عمر ، وعتبان ابن مالك ، وأما ابن عباس فمن الشام من موضعٍ قريبٍ منه .
قال ابن أبى شيبة (3/124/12674) : ثنا حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : أنه أحرم من بيت المقدس .
وقال إمام الأئمة أبو عبد الله الشافعى (( الأم ))(7/253) : (( الإهلال من دون الميقات . قال الربيع : سألت الشافعي عن الإهلال من دون الميقات ؟ ، فقال : حسن ، قلت له : وما الحجة فيه ؟ ، قال : أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه أهل من إيلياء ـ يعنى بيت المقدس ـ .(1/30)
وإذا كان ابن عمر روى عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم : أنه وقت المواقيت ، وأهلَّ من إيلياء ، وإنما روى عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما وقت المواقيت قال : يستمتع الرجل من أهله وثيابه حتى يأتي ميقاته . فدل هذا على أنه لم يحظر أن يحرم من ورائه ، ولكنه يؤمر أن لا يجاوزه حاجٌ ولا معتمرٌ إلا بإحرام )) اهـ .
[ وأما الثانى ] وهو قول الحافظ الزكى المنذرى ـ طيَّب الله ثراه ـ : (( اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافا كثيراً )) ، وقول الحافظ شمس الدين ابن القيم ـ قدَّس الله روحه ـ : (( اضطربوا في متنه وإسناده اضطرابا شديداً )) . فقد وقع الجواب عن هذا الاعتراض فى ثنايا البحث ، حيث قلت : (( وقد جوَّد إسنادَ هذا الحديث إبراهيمُ بن سعد الزهرى أبو إسحاق المدنى عن ابن إسحاق ، وصرَّح ابن إسحاق بالسماع ، فزالت تهمة تدليسه ، وأتقن متنه . وتابعه عن ابن إسحاق على هذا الوجه : سلمة بن الفضل ، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى من رواية محمد بن يحيى القطعى ، وعياش بن الوليد عنه )) . وقلت فى خاتمة التخريج : (( وأمثل أسانيده (( ابن إسحاق ثنى سليمان بن سحيم عن يحيى بن أبى سفيان عن أمِّه حُكيمة عن أم سلمة )) ، كما رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان وصحَّحه )) .
وبيان ذلك أن الاضطراب الذى يعلُّ الحديث ويُحكم معه على الحديث بالضعف ، هو الذى لا يمكن معه ترجيح إحدى وجوه الرواية ، أما إذا ترجحت إحدى الروايات كما هاهنا فالاضطراب منتف ، والحديث ثابت بالرواية الراجحة .
ألم بقل الإمام الجهبذ زين الدين العراقى فى (( الألفية )) الموسومة بـ (( التبصرة والتذكرة )) :
مُضْطَرِبُ الحَدِيثِ مَا قَدْ وَرَدَا مُخْتَلِفاً مِنْ وَاحَدٍ فَأزْيَدَا
في مَتْنٍ أوْ في سَنَدٍ إنِ اتَّضَحْ فِيْهِ تَسَاوِي الخُلْفِ أَمَّا إِنْ رَجَحْ
بَعْضُ الوُجُوْهِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرِبَا وَالحُكْمُ للرَّاجِحِ مِنْهَا وَجَبَا(1/31)
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
فصل البيان بضعف أحاديث فضل مشاة الحجاج على الركبان(1)
الحمد لله تعالى . والصلاة الزاكية على محمَّدٍ تتوالى .. وبعد .
فضيلة الدكتور .. رئيس تحرير الأزهر .
تحية تقدير واحترام . وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته .
وبعد .. فقد طالعتنا مجلتكم الزاهرة ، فى عددها ذى الحجة 1416هـ ، بمقالٍ للشيخ عبد الفتاح السيد جمعان ، بعنوان (( نظرات فى ألفاظ القرآن )) / مادة حجَّ . وقد استرعى انتباهنا أنَّ فضيلته تطرق إلى ذكر اختلاف العلماء فى أيهما أفضل : الحج ماشياً أم راكباً ؟ .
ورغم أنَّه ذكر أنَّ الجمهور على القول : بأن الحجَّ راكباً أفضل اقتداءاً برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، مع كمال قوته وقدرته على المشى ، إلا أنَّه ذكر احتجاج المخالفين بحديث ابن عبَّاسٍ مرفوعاً (( للماشى سبعمائة حسنة من حسنات الحرم )) ، ولم يعلِّق عليه بشئٍ !! .
وربما أوهم ذلك كثيراً من القرَّاء صحة الحديث ، فإن عزوه لمخرجيه مع السكوت عنه مشعرٌ بذلك . فرأيت أنَّ من الواجب التنبيه على ما بالحديث من ضعفٍ يوجب بطلان حجيته فى موطن الخلاف ، إذ الأحاديث الضعيفة لها عند معارضتها للصحاح حكم بخلاف حكمها إذا ما لم تُعارض بأصحِّ منها .
وإنما قال جماعة من المتأخرين بموجبه ؛ لعدم وقوفهم على ضعف الحديث وانتفاء حجيته ، وأكتفى هاهنا بذكر كلام الحافظ المناوى فى (( فيض القدير ))(2/497) ، فقد قال : (( وهذا كما ترى صريح في أن الحجَّ ماشياً أفضل . وبه أخذ جمع ، وهو وجه عند الشافعية ، وذلك لكثرة الأجر بكثرة الخطا . وعكس آخرون ؛ لكون الركوب أبعد عن الضجر وأقل للأذى ، وأقرب للسلامة ، وفي ذلك تمام حجه . وتوسط آخرون بحمل الأول على من سهل عليه المشي ، والثاني على خلافه . والمصحَّح عند الشافعية الثاني بإطلاقه )) .
ولما كان ذلك كذلك ، وجب التنبيه بهذا البيان :
ــــــــ(1/32)
(1) نُشرت هذه المقالة بمجلة الأزهر .
(( فصل البيان بضعف أحاديث فضل مشاة الحجاج على الركبان ))
احتج القائلون بأفضلية المشى فى الحج بثلاثة أحاديث ، فهاكها مع بيان تخريجاتها :
[ الحديث الأول ] (( من حج من مكَّة ماشياً حتى يرجع إلى مكَّة كتب الله له بكل خطوةٍ سبعمائة حسنة ، كلّ حسنة مثل حسنات الحرم . قيل : وما حسنات الحرم ؟ ، قال : لكل حسنة مائة ألف حسنة )) .
منكر . أخرجه ابن خزيمة (2791) ، والبزار كما فى (( كشف الأستار ))(2/25/1120) ، والدولابى (( الكنى ))(2/13) ، والطبرانى (( الكبير ))(12/105/12606) و (( الأوسط )) (3/122/2675) ، والحاكم (1/461) ، والبيهقى (( الكبرى ))(4/331) و (( شعب الإيمان ))(7/538/3695) جميعا من طريق عيسى بن سوادة عن إسماعيل بن أبى خالد عن زاذان عن ابن عباس مرفوعاً به .
قال أبو بكر بن خزيمة : (( إن صحَّ الخبر ، فإن فى القلب من عيسى بن سوادة شيئاً )) . وقال أبو عبد الله الحاكم : (( صحيح الإسناد )) ، فتعقبه الحافظ الذهبى فى (( التلخيص )) بقوله : (( ليس بصحيح ، أخشى أن يكون كذباً ، وعيسى منكر الحديث )) .
قلت : هو كما قال ، منكر الإسناد والمتن . وآفته عيسى بن سوادة النخعى .(1/33)
قال ابن أبى حاتم (( الجرح والتعديل ))(6/277/1539) : (( عيسى بن سوادة بن الجعد النخعي . كوفى سكن الري . روى عن : ليث بن أبى سليم ، وعامر بن عبد الله بن الزبير ، وعمرو بن دينار ، والزهري ، وعبد الله بن الحسن ، ومحمد بن المنكدر ، وأبى حازم بن دينار وإسماعيل بن أبى خالد ، وجعفر بن سليمان الضبعي . روى عنه : هشام بن عبيد الله ، ومحمد ابن عبد الله بن أبى جعفر الرازي ، وزنيج ، وعمرو بن رافع ، ويوسف بن واقد ، وعلى بن سعيد سنان ، وأبو سعيد وعثمان . سمعت بعض ذلك من أبى ، وبعضه من قبلى . وسألت أبى عنه فقال : هو منكر الحديث ضعيف ، روى عن إسماعيل بن أبى خالد عن زاذان عن ابن عباس عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حديثاً منكراً )) .
وقال الحافظ الذهبى (( ميزان الاعتدال ))(5/377/6575) : (( عيسى بن سوادة النخعي عن الزهري . قال أبو حاتم منكر الحديث ، وعنه : زنيج ، وعمرو بن رافع ، وأهل الري . وقال ابن معين : كذاب رأيته )) .
ثم قال (5/377/6576) : (( عيسى بن سواء ـ هكذا بالهمزة المفردة ـ . عن إسماعيل بن أبي خالد ، وعنه محمد بن حميد . قال البخاري في (( الضعفاء الكبير )) : منكر الحديث . حدثني عبد الله حدثنا محمد بن حميد حدثنا عيسى بن سواء حدثنا إسماعيل بن أبي خالد البجلي عن زاذان قال : مرض ابن عباس فجمع أهله ، فقال : يا بني سمعت رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقول : (( من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إلى المنتهى ؛ كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم ، الحسنة بمائة ألف حسنة )) . قلت : هذا ليس بصحيح )) .
قلت : هكذا جعله الذهبى ترجمتين : ابن سوادة ، وابن سواء ، ونسب الحديث لابن سواء على ما ورد بـ (( الضعفاء الكبير )) ، والظاهر أنه ابن سوادة ، وإنما وقع هكذا فى رواية ابن حميد عند البخارى .
والخلاصة ، فالحديث منكر بهذا الإسناد ، ولا تنتهض الحجة بمثله .(1/34)
[ الحديث الثانى ] (( إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة ، وللماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم . قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم ؟ قال : الحسنة بمائة ألف حسنة )) .
ضعيف جداً . أخرجه الفاكهى (( أخبار مكَّة ))(1/392/832) ، وأبو الوليد الأزرقى (( أخبار مكَّة ))(2/7) ، وأبو نعيم (( أخبار أصبهان ))(2/354) ، والمقدسى (( الأحاديث المختارة ))(10/51/45) من طرق عن يحيى بن سُليم الطائفى عن محمد بن مسلم الطائفى عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن جبير قال قال ابن عبَّاس لبنيه : يا بني أخرجوا من مكة مشاةً حتى ترجعوا الى مكة مشاة ، فإني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : فذكره .
وتابعه عن محمد بن مسلم : عبد الله بن محمد بن ربيعة المصيصى ، وحجاج بن نصير ، وخالفاه على الإسناد والمتن .
أخرجه ابن عدى (( الكامل ))(4/258) ، وأبو القاسم الأصبهانى (( الترغيب والترهيب )) (2/7/1037) كلاهما عن عبد الله بن محمد بن ربيعة المصيصى عن محمد بن مسلم الطائفى عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما آسى على شيءٍ إلا على أني لم أحج ماشياً ، إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : (( من حج راكبا كان له بكل خطوة حسنة ، ومن حج ماشياً كان له بكل خطوة يخطوها سبعون حسنة من حسنات الحرم )) .
وأخرجه ابن الجوزى (( العلل المتناهية ))(2/567/932،931) من طريق حجاج بن نصير عن محمد بن مسلم عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( من حج من منى الى عرفة ماشيا ؛ كانت له مائة حسنة من حسنات الحرم . قالوا : يا رسول الله وما حسنات الحرم ؟ . قال : الحسنة بألف حسنة )) . قلت : وهذه إسانيد ضعاف كلها لا يصحُّ منها شئ ، ولها ثلاث آفات :(1/35)
[ الأولى ] ضعف الإسناد . يحيى بن سُليم ، وحجاج بن نصير ، وعبد الله بن محمد بن ربيعة المصيصى ثلاثتهم ضعاف كثيرو الوهم والخطأ ، وعامة أحاديثهم غير محفوظة . وأشدهم ضعفاً المصيصى . قال ابن حبان (( المجروحين ))(2/39) : (( كان تُقلب له الأخبار فيجيب فيها ، لا يحل ذكره فى الكتب إلا على سبيل الاعتبار . ولعله أُقلب له على مالك أكثر من مائةٍ وخمسين حديثاً فحدَّث بها كلها ، وعن إبراهيم بن سعد الشئ الكثير )) .
وقال الحافظ ابن حجر (( لسان الميزان ))(3/335) : (( وقال الحاكم والنقاش : روى عن مالك أحاديث موضوعة . وقال الخليلي : أخذ أحاديث الضعفاء من أصحاب الزهرى ، فرواها عن مالك . وقال السمعاني في (( الأنساب )) : كان يقلب الأخبار لا يحتج به . وقال أبو نعيم الأصبهاني : روى المناكير )) .
وأما محمد بن مسلم الطائفى ، فإنَّه وإن وثَّق ، واحتج به مسلم ، ففيه ضعف من قبل حفظه . قال عباس بن محمَّدٍ الدورى عن يحيى بن معين : ثقة لا بأس به وابن عيينة أثبت منه ، وكان إذا حدث من حفظه يخطىء ، وإذا حدث من كتابه فليس به بأس . وقال الميموني : ضعفه أحمد بن حنبل على كل حال من كتابٍ وغير كتابٍ . وقال ابن حبان لما ذكره في (( الثقات )) : يخطىء .
قلت : وإنما احتج به مسلم فى (( صحيحه )) فى المتابعات ، وليس له عنده سوى حديثاً واحداً . أخرجه فى (( الحيض )) ، قال : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ مَوْلَى آلِ السَّائِبِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَائِطِ ، فَلَمَّا جَاءَ قُدِّمَ لَهُ طَعَامٌ ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ أَلا تَوَضَّأُ ؟ ، قَالَ : (( لِمَ ؟ ، أَلِلصَّلاةِ )) .(1/36)
[ الثانية ] الاضطراب على متنه وإسناده . فأما المتن ، فظاهر من سياقة ألفاظه على الاختلاف بين روايات يحيى بن سليم ، وحجاج بن نصير ، وعبد الله بن ربيعة المصيصى . فمرة (( سبعمائة حسنة )) ، وثانية (( سبعون حسنة )) ، وثالثة (( مائة حسنة )) !! .
وأما الإسناد : فعلى أربعة ألوان :
الأول : (( عن إبراهيم بن ميسرة )) كما سلف .
الثانى : (( عن إسماعيل بن أميَّة )) بدل (( إبراهيم بن ميسرة )) . أخرجه هكذا الطبرانى (( الكبير ))(12/75/12522) ، والمقدسى (( الأحاديث المختارة ))(10/54/47) كلاهما من طريق إبراهيم بن زياد سبلان ثنا يحيى بن سليم عن محمد بن مسلم الطائفي عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً .
الثالث : (( عن إسماعيل بن إبراهيم )) بدل (( إسماعيل بن أمية )) . أخرجه هكذا البزار كما فى (( كشف الأستار ))(2/26/1121) .
الرابع : بإسقاط هؤلاء جميعاً ، وروايته (( عن محمد بن مسلم عن سعيد بن جبير )) بلا واسطة . ذكره هكذا ابن أبى حاتم (( علل الحديث ))(1/279/826) قال : (( سئل أبي عن حديث رواه يحيى بن سليم الطائفي عن محمد بن مسلم الطائفي عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن عباس قال : يا بني أخرجوا من مكَّة مشاة ؛ حتى ترجعوا مشاة حاجين ، فإنِّي سمعت رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : ... فذكر نحوه .
قال أبى : محمد بن مسلم عن سعيد بن جبير مرسل . وهذا حديث يروى عن رجل مجهول ، وليس هو بصحيح )) .(1/37)
[ الثالثة ] الاختلاف على رفعه ووقفه . فقد رواه موقوفاً أبو الوليد الأزرقى (( أخبار مكَّة ))(2/7) من طريق زيد الحوارى عن سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس أنَّه جمع بنيه عند موته ، فقال : يا بنى لست آسى على شئٍ كما آسى على أن لا أكون حججت ماشياً ، فحجُّوا مشاةً ، قالوا : ومن أين ؟ ، قال : من مكَّة حتى ترجعوا إليها ، فإن للراكب بكلِّ قدمٍ سبعين حسنة ، وللماشى بكلِّ قدمٍ سبعمائة حسنة من حسنات الحرم )) .
قلت : هكذا رواه موقوفاً ولم يرفعه . وفى إسناده زيد العمى ، وهو ضعيف . وللحديث عن ابن عباس موقوفاً طرق ، ذكرها الطبرى فى (( تفسيره )) ، وليس يصح منها شئ .
[ الحديث الثالث ] (( للماشى أجر سبعين حجَّة ، وللراكب أجر ثلاثين حجَّة )) .
موضوع . أخرجه الطبرانى (( الأوسط ))(7/134/7083) و(( مسند الشاميين )) (1/59/60) قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر السراج ثنا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني ثنا محمد بن محصن العكَّاشي ثنا إبراهيم بن أبي عبلة عن عبد الواحد بن قيس قال سمعت أبا هريرة يقول : قدم على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم جماعة من مزينة ، وجماعة من هذيل ، وجماعة من جهينة ، قالوا : يا رسول الله ! إنا خرجنا إلى مكَّة مشاة ، وقوم يخرجون ركباناً ، فقال النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم : (( للماشي أجر سبعين حجة ، وللراكب أجر ثلاثين حجة )) .
قلت : هذا إسناد واهٍ بمرة . محمد بن محصن هو محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن عكاشة بن محصن الأسدي ؛ مجمع على تركه ، لم يرضه أحد . قال يحيى بن معين وأبو حاتم : كذاب . وقال ابن عدى : أحاديثه كلها مناكير موضوعة . وقال ابن حبان : يضع الحديث على الثقات ، لا يحل ذكره إلا على سبيل القدح فيه . وقال الدارقطني : متروك يضع .
[ الحديث الرابع ] (( إن الملائكة لتصافح ركَّاب الحجاج ، وتعتنق المشاة )) .(1/38)
موضوع . أخرجه البيهقى (( شعب الإيمان ))(3/474/4099) من طريق أبى على حامد بن محمد الرفا وأبى الحسن أحمد بن إسحاق الطيبى ، كلاهما عن محمد بن يونس نا موسى بن هارون بن أبي الجراح بن خالد بن عثمة نا يحيى بن محمد المديني نا صفوان بن سُليم عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( إن الملائكة لتصافح ركاب الحجاج ، وتعتنق المشاة )) .
قال أبو بكر البيهقى : (( إسناده فيه ضعف )) .
وقال الحافظ المناوى (( فيض القدير ))(2/393) : (( وسبب ضعفه أن فيه محمد بن يونس . فإن كان الجمال فهو يسرق الحديث كما قال ابن عدي ، وإن كان المحاربي فمتروك الحديث كما قال الأزدي ، وإن كان القرشي فوضاع كذاب كما قال ابن حبان )) اهـ .
قلت : والحاصل أن راويه على كل احتمال مما يقضى على حديثه بالوضع ، وعلامات الوضع على هذا الحديث لائحة ، لا تخفى على من له بصيرة بعلم الحديث . وإن كنت أكاد أجزم بأنَّه محمد بن يونس القرشى الكديمى المتهم بالوضع ، وذلك لأن كلاً من : أبى على حامد ابن محمد الرفا ، وأبى الحسن أحمد بن إسحاق الطيبى من المعروفين بالرواية عنه . والله أعلم .
الإيضاحُ والتنبيه بصحة حديث (( لا يأخُذْ أحدُكُم عصا أخيه ))
الحمد لله الهادى من استهداه . والواقى من اتقاه . والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على محمد خير خلق الله . وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأكرمين ومن والاه . وبعد ..
فإن الْمُسْلِمَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنَ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَالْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْه . وإنه لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا ، جَادًّا أو لاعِبًا ، لما فى ذلك من إحلال الفزع محلَّ الأمان ، والتباغض والتنافر محل الوفاق والوئام .(1/39)
قال أبو الحسين مسلم بن الحجاج فى (( كتاب البر والصلة )) من (( صحيحه )) :
(4741) حدثني عمرو الناقد وابن أبي عمر ثنا سفيان بن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين سمعت أبا هريرة يقول : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ )) .
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا يزيد بن هارون عن ابن عون عن محمد عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثله .
(4742) حدثنا محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاحِ ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ )) .
وفى قوله (( لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا )) أحاديث بلغت حدَّ الاستفاضة ، وإن شئت قلتَ حدَّ التواتر ، وهذا بيانها :
[ الحديث الأول ] حديث السائب بن يزيد
قال أبو عيسى الترمذى (2086) : حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ثنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لاعِبًا أَوْ جَادًّا ، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ ، فَلْيَرُدَّهَا إِلَيْهِ )) .(1/40)
وأخرجه كذلك أحمد (4/221) عن معمر ويزيد بن هارون ، وعبد بن حميد (437) عن معمر والبخارى (( الأدب المفرد ))(241) ، والطبرانى (( الكبير ))(7/145/6641) ، وابن قانع (( معجم الصحابة )) ثلاثتهم عن عاصم بن على ، وأبو داود (4350) عن يحيى بن سعيد وشعيب بن إسحاق ، وابن أبى عاصم (( الآحاد والمثانى ))(5/325) عن الدراوردى ، والطحاوى (( شرح المعانى ))(4/243) ، والحاكم (3/739) ، والمزى (( تهذيب الكمال )) (14/557)) ثلاثتهم عن أسد بن موسى ، والبيهقى (( الكبرى ))(6/100،92) عن يزيد بن هارون وعلى بن نصر الجهضمى ، وفى (( شعب الإيمان ))(4/388/5494) عن سليمان بن بلال ، وابن عساكر (( تاريخ دمشق )) عن صفوان بن سُليم وأبى نُعيم ، أحد عشرهم ـ معمر ومتابعوه ـ عن ابن أبى ذئب ثنا عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده به .
وأخرجه الطيالسي (( المسند ))(1302) قال : حدثنا ابن أبي ذئب عن عبد الله بن السائب عن جده قال قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ ... )) الحديث .
قال أبو بشر يونس بن حبيب راوى (( المسند )) : هكذا هو في كتابي عن أبي داود ـ يعنى الطيالسى ـ ، والناس يقولون (( عن ابن أبى ذئب عن عَبْدِ اللهِ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ )) .
وكذلك أخرجه الطحاوى (( مشكل الآثار ))(2/168) قال : حدثنا يزيد بن سنان ثنا أبو بكر الحنفى ثنا ابن أبي ذئب عن عبد الله بن السائب عن جده أنه سمع رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثله .
قلت : والحديث محفوظ برواية جماعة من الرفعاء الكبراء كما بيَّناه من حديث الأبناء عن الآباء عن الأجداد ، والخطأ هاهنا من الطيالسى والحنفى ؛ إذ أسقطا من الإسناد (( أبيه )) ، والمحفوظ (( عَبْدُ اللهِ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ )) .(1/41)
وقَالَ أَبو عِيسَى : (( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، لا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ . وَالسَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لَهُ صُحْبَةٌ ، قَدْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ ، وَهُوَ غُلامٌ ، وَقُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ . وَوَالِدُهُ يَزِيدُ بْنُ السَّائِبِ لَهُ أَحَادِيثُ , وهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )) .
وقال : (( وَفِي الْبَاب عَنْ : ابْنِ عُمَرَ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ ، وَجَعْدَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ )) .
وقال أبو بكر الأثرم سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يُسئل عن حديث ابن أبي ذئب عن عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده (( لا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ )) ، تعرفه من غير حديث ابن أبي ذئب ؟ ، فقال : لا ، وهو ـ يعنى ابن السائب ـ ابن أخت نمر ، ولا أعرف له غيره ))
قلت : ورجال أسانيد هذا الحديث موثقون كلهم ، وإسناد الترمذى متصل صحبح ، رجاله كلهم ثقات ، بندار فما فوقه . فأما السائب بن يزيد ، وأبوه فصحابيان لهما سماع ورواية . وعبد الله بن السائب بن يزيد ، وإن تفرد عنه ابن أبى ذئبٍ ، فقد وثق . وثقه ابن سعد والنسائى وزاد ابن سعد : قليل الحديث . وذكره ابن حبان فى (( الثقات ))(5/32) . وأطلق الحافظ الذهبى القول بتوثيقه فى (( الكاشف ))(1/556) فقال : (( ثقة توفى سنة 126 )) .
فإن قيل : فالحديث قد تفرد به ابن أبى ذئب ، ولا متابع له ! .(1/42)
قلنا : ليس من شروط صحة الحديث أن يُتابع الراوي الثقة ، وهذه أفراد الثقات أمثال : الزهرى ، والأعمش ، ويحيى بن أبى كثير ، وشعبة ، ومن دونهم فى نباهة القدر وشيوع الذكر أمثال : شعيب بن أبى حمزة ، وعبد الرحمن بن أبى الموال ، مزبورة فى (( الصحاح )) ، ومحتج بها ، ولم نسمع من أحد قوله : كيف أودعها البخارى فى (( الصحيح )) ، وقد تفرد بها فلان أو فلان من هؤلاء الثقات ! .
وأعدل شاهدٍ على ما قررناه : حديث يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِي أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ )) الحديث . فهذا مما تفرد علقمة بن وقاص عن عمر به ، وتفرد محمد بن إبراهيم به عنه ، وتفرد يحيى بن سعيد الأنصارى به عنه .
ومن أعجب شواهده : ما أخرجه البخارى فى (( كتاب الأذان )(579 . فتح ) قال : حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ ، وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) .
فهذا مما تفرد ابن المنكدر عن جابر به ، وتفرد شعيب بن أبى حمزة الحمصى به عنه ، وتفرد على بن عياش الألهانى به عنه .(1/43)
وابن أبى ذئب بهذه السبيل ، فهو ثقة ثبت حجة فى روايته عن أهل المدينة إلا فى حديثه عن الزهرى خاصة ، وسبيل الاحتجاج بمفاريده وغرائبه بنحو سابقيه . ومما احتج به البخارى من مفاريده وغرائبه : ما أخرجه فى (( كتاب البيوع ))(2059) قال : حدثنا آدم ثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ثنا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ ، أَمِنَ الْحَلالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ )) .
ولو شئتُ أن استقصى مفاريد ابن أبى ذئبٍ وغرائبه ، مما صححه الأئمة ، لطال المقام .
وأما قول أبى عيسى الترمذى تعقيباً على الحديث : (( وَفِي الْبَاب عَنْ : ابْنِ عُمَرَ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ ، وَجَعْدَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ )) ، فإنَّ له تعلقاً وثيقاً بما بوَّب به على الحديث ، أعنى قوله : بَابُ مَا جَاءَ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا . فقد جاءت هذه الأحاديث متضمنة هذا المعنى ، وإن تباينت ألفاظها ، ولم يطابق ظاهرُها الحديث الآنف الذكر . وأكثر هذه الأحاديث مطابقة لهذا التبويب لفظاً ومعنىً ، وثانيها وثالثها لم يذكره الترمذى فى أحاديث الباب :
[ الحديث الثانى ] حديث أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/44)
قال الإمام أحمد (5/362) : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ ثنا الأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ حَدَّثَنَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى نبْلٍ مَعَهُ ، فَأَخَذَهَا ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ فَزِعَ ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ ، فَقَالَ : مَا يُضْحِكُكُمْ ؟ ، فَقَالُوا : لا ، إلا أَنَّا أَخَذْنَا نبْلَ هَذَا فَفَزِعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا )) .
وأخرجه كذلك أبو داود (4351) ، والقضاعى (( مسند الشهاب ))(878) ، والبيهقى (( الكبرى ))(10/249) جمبعاً من طريق ابن نمير عن الأعمش به نحوه ، إلا أنه وقع فى رواية أبى داود بلفظ (( حَبْلٍ )) بالحاء المهملة ؛ واحد الحبال ، ولعله تصحيف .
وتابعه أبو معاوية الضرير عن الأعمش .
أخرجه هناد (( الزهد ))(1345) قال : حدثنا أبو معاوية عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عن أشياخه قالوا : قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا )) .
قلت : وهذا إسناد رجاله ثقات كلهم ، إلا ما يخشى من تدليس الأعمش ، ولا تضره جهالة الصحابة أشياخ ابن أبى ليلى ، فكلهم ثقات رضى الله عنهم أجمعين .(1/45)
وعبد الرحمن بن أبى ليلى ثقة حجة تابعى كبير ، روى عن جمع من الصحابة : عمر ، وعثمان ، وعلى ، وأبي بن كعب ، وأسيد بن حضير ، وأنس بن مالك ، والبراء بن عازب ، وبلال بن رباح ، وثابت بن قيس ، وحذيفة بن اليمان ، وخوات بن جبير الأنصاري ، وزيد بن أرقم ، وسعد بن أبي وقاص ، وسمرة بن جندب ، وسهل بن حنيف ، وصهيب بن سنان ، وعبد الله بن عكيم ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الرحمن بن سمرة ، وعمرو بن أم مكتوم ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وكعب بن عجرة ، ومعاذ بن جبل ، والمقداد بن الأسود ، وأبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي ، وأبي أيوب الأنصاري ، وأبي الدرداء ، وأبي ذر الغفاري ، وأبي سعيد الخدري ، وأبيه أبي ليلى الأنصاري ، وأبي موسى الأشعري ، وأم هانئ بنت أبي طالب .
وقال عبد الملك بن عمير : لقد رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى في حلقة فيها نفر من أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يستمعون لحديثه ، وينصتون له ، فيهم البراء بن عازب .
[ إيقاظ ] هذا الحديث مخرَّج فى (( مشكل الآثار ))(2/168) لأبى جعفر الطحاوى بهذا الإسناد : حدثنا سليمان بن شعيب الكيسانى ثنا خالد بن عبد الرحمن الخراسانى ثنا فطر بن خليفة عن عبد الرحمن بن يسار الجهنى عن أبى ليلى الأنصارى قال : خرج رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بعض غزاته ، فأخذ بعض أصحابه كنانة رجلٍ ..... الحديث بنحوه .
وقد يقال (( عبد الرحمن بن يسار الجهنى )) هو ابن أبى ليلى ، فإن اسم أبيه يسار ، وروايته وسماعه من أبيه مجزوم بصحتهما ، ولكن يمنع منه أمران :
( الأول ) أنه ليس بجهنى ، بل أنصارى مدنى .
( الثانى ) ليس لفطر بن خليفة رواية عنه ، ولا إدراك ، فإن ابن أبى ليلى مات بوقعة الجماجم سنة ثلاث وثمانين .(1/46)
فإن امتنع هذا ، فالأصوب أن يقال (( عبد الرحمن )) مصحَّف عن (( عبد الله )) ، فهو (( عبد الله بن يسار الجهنى )) ، ولفطر رواية عنه ، وإنما يُتردد فى روايته عن أبى ليلى الأنصارى فإذا ثبتت روايته عنه ، فهذا إسناد صحيح رجاله ثقات كلهم .
[ الحديث الثالث ] حديث النعمان بن بشير الأنصارى
قال أبو القاسم الطبرانى (( الأوسط ))(1673) : حدثنا أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى الْقُوْمَسِيُّ حدثنا عَفَّانُ بْنُ سيَّارٍ البَاهِلِىّ حدثنا عَنْبَسَةُ بْنُ الأَزْهَرِ ثنا سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عن النعمان بن بشير قال : كنا مع رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسيرٍ ، فخفق رجلٌ على راحلته ، فأخذ رجلٌ سهماً من كنانته ، فانتبه الرجل ، ففزع ، فقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا )) .
وأخرجه كذلك السهمى (( تاريخ جرجان ))(ص395،280) ، وأبو الشيخ (( طبقات المحدثين بأصبهان ))(3/619) كلاهما من طريق القومسى بإسناده ومتنه سواء .
وقال أبو القاسم : (( لا يروى عن النعمان إلا بهذا الإسناد ، ولا نعلم رواه عن سماك إلا عنبسة ، ولم يحدث به إلا الحسين بن عيسى )) .
قلت : وإسناده لين . عَنْبَسَةُ بْنُ الأَزْهَرِ الشيبانى قاضي جرجان شيخ ليس له كبير رواية ، يخطئ ويغرب . قال ابن حبان فى (( الثقات ))(7/290) : (( كنيته أبو يحيى . يروى عن : محارب بن دثار ، وسماك بن حرب . روى عنه : السرى بن يحيى وأهل بلده كان يخطىء )) .
وقال أبو حاتم الرازى وأبو داود : لا بأس به . وزاد أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به .(1/47)
قلت : ليس له فى (( الكتب الستة )) إلا حديثاً واحداً فى النهى عن النفخ فى الصلاة . أخرجه النسائى (( الكبرى ))(1/196/548) قال : أخبرني الحسين بن عيسى القومسي البسطامي ثنا أحمد بن أبي طيبة وعفان بن سيار عن عنبسة بن الأزهر عن سلمة بن كهيل عن كريب عن أم سلمة قالت : مرَّ النَّبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغلامٍ لهم يقال له رباح ، وهو يصلي ، فنفخ في سجوده ، فقال له : (( يا رباح ! لا تنفُخْ ، إنَّ منْ نَفَخَ فقدْ تكلَّمَ )) .
[ الحديث الرابع ] حديث سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ الخزاعى
قال أبو القاسم الطبرانى (( الكبير ))(7/99/6487) : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عن إسماعيل بن مسلم عن شمر بن عطية عن سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ : أنَّ أَعْرَابِيًّا صَلَّى مع النَّبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ومعه قرنٌ ، فأخذَهَا بعضُ القومِ ، فلما سَلَّمَ النَّبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قال الأعرابي : فأينُ القرنُ ؟ ، فكأنَّ بعضَ القومِ ضَحِكَ ، فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، فلا يُروعنَّ مُسْلِمَاً )) .
قال الحافظ الهيثمى (( مجمع الزوائد ))(6/254) : (( وفيه إسماعيل بن مسلم ، فإن كان هو العبدي ، فهو من رجال الصحيح ، وإن كان هو المكي فهو ضعيف ، وبقيه رجاله ثقات )) .
قلت : بل هو العبدى الثقة المجمع على توثيقه وعدالته بلا شك ولا ارتياب ، فهو الذى يروى عنه ابن عيينة ، وله رواية عن شمر بن عطية الكاهلى الكوفى .
وجملة من يجيء في أسانيد الأحاديث إسماعيل بن مسلم خمسة :
( أولهم ) إسماعيل بن مسلم أبو محمد العبدي البصري ، سمع أبا المتوكل الناجى والحسن .
( الثانى ) إسماعيل بن مسلم مولى بني مخزوم ، روي عن سعيد بن جبير وأبى الطفيل .(1/48)
( الثالث ) إسماعيل بن مسلم بن أبي الفديك الديلى ، روى عن أبي الغيث وثور بن زيد .
( الرابع ) إسماعيل بن مسلم بن يسار مولى رفاعة الزرقي ، روي عن محمد بن كعب القرظى .
( الخامس ) إسماعيل بن مسلم المخزومي المكي أبو ربيعة ، روي عن الحسن وعمرو بن دينار وابن سيرين والزهري .
ولم نعلم في واحدٍ منهم طعناً ، إلا الأخير أبى ربيعة المكى ، وبقيتهم خيار عدول .
وأما إسماعيل بن مسلم العبدى ، فهو مجمع على توثيقه . قال أحمد وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي : ثقة ، وزاد أبو حاتم : صالح الحديث . وكان شعبة يوصى به ويوقره .
والحديث بهذا الإسناد حسن فى الشواهد ، رجاله ثقات خلا يعقوب بن حميد بن كاسب المدنى ، فهو صدوق يخطئ ويهم ، وربما أغرب عن إبراهيم بن سعد وابن عيينة وحاتم بن إسماعيل والمدنيين . قال ابن عدى : كان صاحب مسند كثير الحديث كثير الغرائب . وذكره ابن حبان فى (( الثقات )) وقال : كان يحفظ ممن جمع وصنف ، ربما أخطأ في الشيء بعد الشيء .
[ الحديث الخامس ] حديث أبى هريرة
أخرجه ابن عدى (( الكامل ))(7/204) من طريق عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الجون العنسي ، والقضاعى (( مسند الشهاب ))(877) من طريق نعيم بن حماد عن ابن المبارك ، كلاهما عن يحيى بن عبيد الله بن موهبٍ القرشى عن أبيه سمعت أبا هريرة يقول سمعت رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : (( لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا )) .(1/49)
قلت : والحديث منكر بهذين الإسنادين . يحيى بن عبيد الله بن موهبٍ التيمى ، متروك الحديث ذاهب الحديث . قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه : منكر الحديث ليس بثقة ، وقال مرة : أحاديثه مناكير ولا يعرف هو ولا أبوه . وقال أبو حاتم : كان ابن عيينة يضعفه . وقال البخاري : كان ابن عيينة يضعفه وتركه يحيى القطان . وقال ابن حبان : يروي عن أبيه ما لا أصل له ، وأبوه ثقة ، فلما كثر روايته عن أبيه ما ليس من حديثه سقط عن حد الاحتجاج به ، وكان سيء الصلاة ، وكان ابن عيينة شديد الحمل عليه .
وقال ابن عدى : يروى ما لا يتابع عليه .
[ الحديث السادس ] حديث عامر بن ربيعة
أخرجه البزار (9/271/3816) ، والعقيلى (( الضعفاء ))(2/183) كلاهما من طريق شعيب بن بيان الصفار نا شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه : أن رجلا أخذ نعل رجل ـ عند العقيلى ثوب رجل ـ ، فروَّعه ، فقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إنَّ رَوْعَةََ المُسْلِمَ ظُلُمٌ عَظِيمٌ )) .
وعزاه الحافظ الزكى المنذرى فى (( الترغيب والترهيب ))(3/318) كذلك للطبرانى ، وأبى الشيخ فى (( التوبيخ )) .
وقال أبو جعفر العقيلى : (( شعيب بن بيان يحدِّث عن الثقات بالمناكير ، وكاد أن يغلب على حديثه الوهم )) .
قلت : بل آفة الحديث عاصم بن عبيد الله العمرى ، كثير الوهم فاحش الخطأ ، تركوه لكثرة خطئه .(1/50)
( إيضاح ) الروعة : الواحدة من الرَّوْعِ ، وهو الفزع . وفى (( الصحيحين )) من حديث أنس قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ ، وَهُوَ يَقُولُ : (( لَنْ تُرَاعُوا .. لَنْ تُرَاعُوا )) ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ ، مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ ، فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ .
وصحَّ من حديث ابن عمر : (( لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ ؛ اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي ، وَآمِنْ رَوْعَاتِي ، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ ، وَمِنْ خَلْفِي ، وَعَنْ يَمِينِي ، وَعَنْ شِمَالِي ، وَمِنْ فَوْقِي ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي )) .
وقال عروة بن حزام العذرى :
وإنِّي لتَعْرُوني لذكراكَ روعةٌ لها بين جلدي والعظامِ دبيبُ
وما هو إلا أن أراها فجاءةً وابْهَتُ حتَّى ما أكادُ أجيبُ
وأصرف عن رأيي الذي كنتُ أرتئي وأنسى الذي أعددتُ حين تغيبُ
طعنُ القَنَا فى صدر مفترى : يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْنَا
الحمد لله ناصر الحق ورافعِى لوائِه . والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أتقى خلقه وأوليائِه . وبعد ..(1/51)
أورد الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقى فى ثنايا تفسير قَوْلِ اللهِ تَعَالَى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) من (( تفسيره )) (1/448) : (( روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم ابن أبي سكينة قال أملي عليَّ عبدُ الله بنُ المبارك هذه الأبياتَ بطرطوس ، وودعتُه للخروج وأنشدها معي إلى الفضل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة :
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْنا لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه فنحورنُا بدمائِنا تَتَخْضَبُ
أوكان يتعبُ خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتانا من مقالِ نبيِنا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا يستوي غبارُ أهلِ الله في أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا كتابُ الله ينطقُ بيننا ليسَ الشهيدُ بميتٍ لا يكذبُ
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه ، وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ ، قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليَّ الفضيل بن عياض قال حدثنا منصور عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله ؟ ، فقال : (( هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر ؟ )) فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت ثواب المجاهدين في سبيل الله ، أمَا علمت أن المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات )) اهـ .(1/52)
هكذا أورد هذه الحكاية برمتها الحافظ أبو الفداء ، ولم يعلِّق عليها بشئٍ ! ، فأوهم صنيعُه ذا جماهرَ من الوعاظ والخطباء ، ممن يعتمدون على (( تفسيره )) ، ويحتجون بأقواله ، أوهمهم صدقَ هذه الحكاية ! ، فتناقلوها فى مجالس الترغيب والترهيب ، وعلى منابر الوعظ والتذكير ، وفى أهازيجهم وأناشيدهم ، ترغيباً فى الجهاد والمرابطة ، ولعلَّ أكثرهم لم ينظر ، ولو لمرة واحدة ، فى مصدر الحكاية ومخرجها ، اعتماداً على نقل الحافظ إيَّاها ، وسكوته عنها ، ولم تتمعر وجوهُهُم غيرةً على مقامات الرفعة ومراتب الإحسان ، وأفضلها ملازمة الحرمين الشريفين : مكة وطيبة ، زادهما الله تشريفاً وتكريماً ومهابةً وعزاً .
وكذلك أوردها بعض من ترجم للإمام الحجة الفقيه المجاهد عبد الله بن المبارك المروزى ، ومنهم الحافظ الذهبى فى (( سير أعلام النبلاء ))(8/412) ، والإمام أبو القاسم الرافعى القزوينى فى (( التدوين فى أخبار قزوين ))(3/236) .
ولا يُحصى من استروح إلى هذه الحكاية ، فأودعها عن رضاً واقتناعً كتابَه ، أو صدَّر بها مصنفَه وجميعهم ، لعله لم يتسائل ما إسنادها ، وما صحتُه ، وما صحتُها ؟! ، ومشَّاها على ما بها من وهنٍ واقتراء وتجنىً على الإمامين السيدين : الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر الإمام القدوة الثبت أبو علي التميمي اليربوعي الخراساني المجاور بحرم الله المعظَّم ، وعبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلى المروزى علم المجاهدين شيخ الإسلام .
فما دلائل وهن هذه الحكاية ، وهل يجوز الجزم بنسبة هذه الأبيات المفتريات إلى الإمام السيد الجليل ابن المبارك ، وما حكاية هذه الأشعار التى حُشى بها ديوان الشعر المنسوب إليه ، وما موقف أهل التحقيق من هذا الديوان ؟ . هذا ما نرجو إيضاحه فى هذا البيان :
(( طعنُ القَنَا فى صدر مفترى : يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْنَا ))(1/53)
أقول والله المستعان : أخرج الحافظ أبو القاسم بنُ عساكر فى (( تاريخ دمشق ))(32/449) من طريقين عن أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني قال أملى علينا عبد الله بن محمد بن سعيد بن يحيى الكريزى القاضي قال أملاه علىَّ محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال أملى عليَّ عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس ، وودعته للخروج ، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، أو سنة سبع وسبعين ومائة :
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْنا لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه فنحورنُا بدمائِنا تَتَخْضَبُ
أوكان يتعبُ خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتانا من مقالِ نبيِنا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا يستوي غبارُ أهلِ الله في أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا كتابُ الله ينطقُ بيننا ليسَ الشهيدُ بميتٍ لا يكذبُ
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه ، وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ ، قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليَّ الفضيل بن عياض قال حدثنا منصور عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله ؟ ، فقال : (( هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر ؟ )) فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت ثواب المجاهدين في سبيل الله ، أمَا علمت أن المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات )) .
قلت : وهذا إسناد واهٍ بمرة . والمتهم به واحد من اثنين :(1/54)
[ الأول ] محمد ـ وقد يقال أحمد ـ ابن إبراهيم بن أبي سكينة ، لا يشبه حديثه حديث أثبات أصحاب عبد الله بن المبارك .
قال الأمير أبو نصر بن ماكولا (( الإكمال ))(4/317) : (( محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة أبو عبد الله . روى عن : فضيل بن عياض ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، ومحمد بن سلمة الحراني روى عنه : يحيى بن علي بن محمد بن هاشم ، وعبد الله بن سعيد الكريزي الرقي ، والفضل بن محمد العطار الأنطاكي )) .
قلت : وكذلك روى عن : هشيم ، وأبى يوسف القاضى ، وعيسى بن يونس ، وعلى بن ظبيان الكوفى ، وغيرهم . وفى روايته عن مالك بن أنسٍ نظر .
قال الحافظ العسقلانى (( لسان الميزان ))(5/20/79) : (( محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة . يروي عن : هشيم ، وأبي يوسف . عنه : عمر بن سنان ، وابن ابنته يحيى بن علي بن هاشم . ربما أخطأ ، ذكره ابن حبان في (( الثقات )) . قلت : وروى أيضا عن مالك . روى عنه : محمد بن مبارك الصوري . وقد تقدمت الإشارة الى ذلك في من اسمه أحمد )) اهـ .
وقوله (( وقد تقدمت الإشارة الى ذلك في من اسمه أحمد )) : يعنى قوله تعقيباً على مقال الحافظ الذهبى فى (( الميزان ))(1/210/279) : (( أحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة الحلبى ، وبعضهم يسميه محمداً . قاله الخطيب . يروي عن مالك . قلت : ما رأيت لهم فيه كلاما )) . فقال متعقباً فى (( لسان الميزان ))(1/131/405) : (( ثم أعاده ولم يسم بجده ، فقال : أحمد بن إبراهيم الحلبى . عن : علي بن عاصم ، وقبيصة . قال أبو حاتم : أحاديثه باطلة تدل على كذبه . قلت : هو ابن أبي سكينة الذى تقدم . وقال في (( المغني )) : أحمد بن إبراهيم الحلبى عن قتيبة وطبقته كذاب انتهى .(1/55)
فهذا من العجب يقول : ما رأيت لهم فيه كلاما ، ثم يجزم بأنه الذي قال فيه أبو حاتم ما قال ، ولفظ ابن أبي حاتم : أحمد بن إبراهيم الحلبى . روى عن : علي بن عاصم ، والهيثم بن جميل ، وقبيصة ، والنفيلي . روى عنه : أحمد بن شيبان الرملي . سألت أبي عنه وعرضت عليه حديثه ، فقال : لا أعرفه وأحاديثه باطلة كلها ليس لها أصل ، فدل على أنه كذاب . والذي يروي عن مالك أقدم من الذي يروي عن طبقة قتيبة ، فلعلهما اثنان والله أعلم . وذكر الدارقطني والخطيب أن محمد بن المبارك الصوري روى عن أحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة ، ولم يذكرا له شيئا منكراً )) اهـ .
فإن قيل : فما تقولون فى هذا المذكور عن الخطيب ، والدارقطنى أنهما (( لم يذكرا له شيئا منكراً )) .
قلنا : إنما ذكره أبو بكر الخطيب عرضاً فى ترجمة محمد بن المبارك الصورى ، ولم يذكره بترجمة مستقلة ، فقال فى (( تاريخ بغداد ))(3/303) : (( محمد بن المبارك الصورى . حدثنا عبد الغفار بن محمد بن جعفر المؤدب ثنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي ثنا محمد بن جعفر بن محمد البغدادي ثنا محمد بن المبارك الصورى حدثنا أحمد بن إبراهيم بن أبى سكينة ثنا مالك بن أنس عن الزهرى عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يغلق الرهن )) اهـ .
وسياق هذه الترجمة لا يدل دلالةً ما على ما ذكره الحافظ أنه لا يروى المنكر ، بل إن هذا الحديث المذكور منكر بهذا الإسناد الموصول المرفوع عن مالك ، فإن أثبات أصحاب مالكٍ إنما يروونه مرسلاً ، وإنما يثبت رفعه من غير طريق مالك بن أنس .
قال يحيى بن يحيى (( الموطأ )) : حدثنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ )) .(1/56)
وقال أبو الحسن الدارقطنى فى (( العلل ))(9/168) بعد ذكره للاختلاف على روايات الحديث عن مالك : (( وأما أصحاب الموطأ ، فرووه عن مالك عن الزهري عن سعيد مرسلا ، وهو الصواب عن مالك )) .
وقد سبرت بعض أحاديث ابن أبي سكينة ، فوجدتها كما قال أبو حاتم الرازى باطلة ليس لها أصل . ولتجتزئ منها :
(1) ما أخرجه البيهقى (( شعب الإيمان ))(5/68/5803) من طريق عبد الله بن سعيد بن يحيى القاضي ثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة ثنا الفضيل بن عياض ثنا هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين قال : (( نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين )) .
(2) ما أخرجه ابن عدى (( الكامل ))(7/73) قال : ثنا يحيى بن علي بن هاشم الخفاف بحلب ثنا جدي محمد بن إبراهيم بن أبى سكينة ثنا الوليد بن محمد الموقرى ثنا الزهري أخبرنا سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أربع مدائن من مدائن الجنة في الدنيا : مكة ، والمدينة ، وبيت المقدس ، ودمشق . وأربع مدائن من مدائن النار في الدنيا : القسطنطينية ، والطوانة ، وإنطاكية المحترقة ، وصنعاء )) .
وأخرجه من طريق ابن عدى : ابن الجوزى (( الموضوعات ))(2/51) ، وجزم ببطلانه ووضعه .
وقال أبو أحمد بن عدى : (( هذا منكر لا يرويه عن الزهرى غير الموقرى )) .
قلت : ولا يرويه عن الموقرى بهذا الإسناد غير ابن أبى سكينة ، وغيره يرويه عن الموقرى (( عن الزهرى عن ابن المسيب عن أبى هريرة )) ، ولا يذكر سليمان بن يسار .
والخلاصة ، فإن محمد بن إبراهيم بن أبى سكينة راوى هذه الحكاية ليس ممن يوثق بروايته عن ابن المبارك ، لشدة وهنه وروايته ما ليس له أصل ، وروايته ما لم يروه أثبات أصحاب ابن المبارك .
[ الثاني ] محمد بن عبد الله بن المطلب أبو المفضل الشيباني الكوفى نزيل بغداد ، كذاب دجال ، كذَّبه أبو الحسن الدارقطنى ، وأبو القاسم الأزهرى .(1/57)
قال الخطيب (( تاريخ بغداد ))(5/466) : ((كان يروي غرائب الحديث ، وسؤالات الشيوخ فكتب الناس عنه بانتخاب الدارقطني ، ثم بأن كذبه ، فمزقوا حديثه وأبطلوا روايته ، وكان بعد يضع الأحاديث للرافضة ويملي في مسجد الشرقية )) .
وقال أبو بكر الخطيب : (( سمعت الأزهري ذكر أبا المفضل فأساء ذكره ثم قال : وقد كان يحفظ وقال أبو الحسن الدارقطني : أبو المفضل يشبه الشيوخ حدثني القاضي أبو العلاء الواسطي قال : كان أبو المفضل حسن الهيئة جميل الظاهر نظيف اللبسة ، وسمعت الدارقطني سئل عنه فقال : يشبه الشيوخ سألت حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق عن أبي المفضل فقال : كان يضع الحديث وقد كتبت عنه ، وكان له سمت ووقار . أخبرنا أبو الفتح محمد بن الحسين العطار قطيط حدثنا محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى بن العراد الكبير حدثنا محمد بن الحسن بن شمون البصري حدثنا أبو شعيب حميد بن شعيب حدثني أبو جميلة عن أبان بن تغلب عن محمد بن علي أبي جعفر عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( قال الله تعالى : ما تحبب إلىَّ عبدي بأحب إلي من أداء ما افترضت عليه ... )) وذكر الحديث ، سمعت من يذكر أن أبا المفضل لما حدث عن ابن العراد قيل له : من أيهما سمعت الأكبر أو الأصغر وكانا أخوين ؟ ، قال : فسئل عن السنة التي سمع منه فيها ، فذكر وقتا مات ابن العراد قبله بمدة ، فكذبه الدارقطني فى ذلك وأسقط حديثه .
وقال لي الأزهري : كان أبو المفضل دجالا كذابا ، ما رأينا له أصلا قط ، وكان معه فروع فوائد قد خرجها في مائة جزء ، فيها سؤالات كل شيخ ، ولما حدث عن أبي عيسى بن العراد كذبه الدارقطني في روايته عنه ، لأنه زعم أنه سمع منه في سنة عشر وثلاثمائة ، وكانت وفاته سنة خمس وثلاثمائة )) .(1/58)
وقال الحافظ الذهبى (( الميزان ))(6/215/7808) : (( محمد بن عبد الله أبو المفضل الشيباني الكوفي . عن البغوي وابن جرير وخلائق . وله رحلة إلى مصر والشام . قال الخطيب : كتبوا عنه بانتخاب الدارقطني ثم بان كذبه فمزقوا حديثه وكان بعد يضع الأحاديث للرافضة . مات سنة سبع وثمانين وثلثمائة وله تسعون سنة . فمن موضوعاته بإسناد له : أن نبياً شكا إلى الله جبن قومه فقال له : (( مرهم أن يستقوا الحرمل ، فإنه يذهب الجبن )) اهـ .
ونقل الحافظ ابن حجر عُظم ما ذكره الخطيب فى ترجمته فى (( لسان الميزان ))(5/231/811) وزاد عليه : (( وقال أبو ذر الهروي :كتبت عنه في المعجم للمعرفة ، ولم أخرج عنه في تصانيفي شيئا ، وتركت الرواية عنه لأني سمعت الدارقطني يقول : كنت أتوهمه من رهبان هذه الأمة ، وسألته الدعاء لي فتعوذ بالله من الحور بعد الكور . وقال أبو ذر : سبب ذلك أنه قعد للرافضة ، وأملى عليهم أحاديث ذكر فيها مثالب الصحابة ، وكانوا يتهمونه بالقلب والوضع ، وحدَّث بحديث كان الإمام ابن خزيمة تفرد به ، فقيل له : لو أخرجت أصولك بهذا ، فإن هذا حديث ابن خزيمة ، فكان جوابه للذي قال له ذلك : أنت تنتسب إلى قيس بن سعد بن عبادة ، وهو عقيم !! )) .
قلت : ولا أستبعد أن يكون أبو المفضل الشيبانى الرافضى هو واضع هذه الحكاية كيداً للإمامين المتحابين المتصافيين : ابن المبارك ، والفضيل بن عياض . ولا يتصور فى حق ابن المبارك أن تصدر عنه أمثال هذه المجازفات ، سيما قوله (( فى العبادة تلعب )) ، ففيه من الاستخفاف بشأن العبادة والمجاورة بالحرم ما لا يخفى على من علم تحرى ابن المبارك فى أقواله وأحكامه ، فضلاً عن محبته الصادقة الناصحة لأصحابه : الفضيل بن عياض ، وإسماعيل بن علية ، والثورى ، وابن عيينة ، ومحمد بن السماك ، وغيرهم من أفاضل عبَّاد زمانهم .(1/59)
ومع ثبوت بطلان هذه الحكاية ، فإن الترغيب فى المرابطة بثغور المسلمين لحماية بيضة الإسلام ، وقيام الحجة بالضرورة المعلومة لدى جماهير أهل الإيمان أن الجهاد هو ذروة سنام الإيمان ، أشهر من أن يستدل عليهما بهذه الحكايات ، التى أراد واضعوها التنقيص من مقامات العبودية ، والطعن والكيد لأئمة السنة ، وكبراء أهل العلم والورع والتقوى .
حسان عبد المنان وصنيعه بكتاب (( رياض الصالحين ))
الحمد لله العزيز الغفار ، الذى نصب فى كلّ جيلٍ طائفةً ليتفقهوا فى الدين ويستقرئوا سالف الآثار ، وهيأهم لإدراك الصحيح والضعيف من السنن والأخبار ، أولئك الذين تنجلى بهم الظلم ، وتنكشف بهم الغمم ، ويُهتدَى بهم على كرِّ الدهور والأعصار .
أحمده وهباته تنزل تترى على توالى الليل والنهار ، وأرجوه وأخافه وبيده مقاليد الأمور ويعلم كمائن الأسرار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادةً دلائلها مشرقة الأنوار ، ونتيجة اعتقادها مباينة أهل العناد من المشركين والكفار ، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه المجتبى ونبيُّه المختار . وبعد .
فإننى أكاد أجزم فى نفسى ، من خلال نظرةٍ فاحصةٍ لواقع اليوم ، أن الأغلب الأعم من طلبة علم الحديث النبوى ، بل وكثير من فضلاء وقتنا ، وعلماء زماننا ، يبادرون إلى أحكامٍ جائرة على الأحاديث المصطفوية ، عملاً بظاهر كلام أئمة الجرح وأحكامهم ، من غير سبر للروايات ، والوقوف على ما يحتف بها من قرائن مؤثرة فى الحكم عليها .(1/60)
فما أيسره عملاً ، وأسهله منهجاً ، أن يعمد أحدهم إلى الحديث وقد اطَّلع على بعض مصادره ، فيتعرف على رجال إسناده ، ثم يقابلهم بما اختصره الحافظ المزى أو الذهبى أو العسقلانى من مراتبهم فى الجرح والتعديل ، ويحكم بمقتضى ذلك على الحديث بالضعف أو الصحة ، كنحو قوله (( هذا حديث ضعيف ، لأن راويه ضعيف )) ، و (( هذا حديث منكر ، لأن راويه يروى المناكير )) ، و (( هذا حديث موضوع ، لأن راويه كذاب أو وضاع )) .
وقد أفرزت هذه السطحية والظاهرية كماً هائلاً من الأحكام الخاطئة على الأحاديث النبوية ، والآثار المصطفوية ، حتى تطرق ذلك إلى أحاديث (( الصحيحين )) ، و (( السنن الأربعة )) ، وصحيحى ابن خزيمة وابن حبان ، والكثير من الأحاديث التى احتج بها أكثر أهل العلم من المحدثين والفقهاء والأصوليين . ومن محدثات الأمور فى ذلك أن حُملتْ أحكام أئمة الجرح والتعديل على غير محاملها ، وصُرفتْ إلى غير معانيها ، وحُرفتْ عن مواضعها ، فضلاً عن الآراء المنحرفة فى حقِّ الكثير من رفعاء الأئمة ، وعلماء الأمة .(1/61)
ومما يحسُن نقله هاهنا ، قول الإمام أبى الحسين مسلم بن الحجاج فى مقدمة (( الصحيح )) حيث قال : (( وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ مُنْتَحِلِي الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا فِي تَصْحِيحِ الأَسَانِيدِ وَتَسْقِيمِهَا بِقَوْلٍ لَوْ ضَرَبْنَا عَنْ حِكَايَتِهِ وَذِكْرِ فَسَادِهِ صَفْحًا ، لَكَانَ رَأْيًا مَتِينًا وَمَذْهَبًا صَحِيحًا ، إِذِ الإِعْرَاضُ عَنِ الْقَوْلِ الْمُطَّرَحِ أَحْرَى لإِمَاتَتِهِ ، وَإِخْمَالِ ذِكْرِ قَائِلِهِ ، وَأَجْدَرُ أَنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْجُهَّالِ عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّا لَمَّا تَخَوَّفْنَا مِنْ شُرُورِ الْعَوَاقِبِ ، وَاغْتِرَارِ الْجَهَلَةِ بِمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ ، وَإِسْرَاعِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ خَطَإِ الْمُخْطِئِينَ ، وَالأَقْوَالِ السَّاقِطَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، رَأَيْنَا الْكَشْفَ عَنْ فَسَادِ قَوْلِهِ ، وَرَدَّ مَقَالَتِهِ بِقَدْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الرَّدِّ أَجْدَى عَلَى الأَنَامِ وَأَحْمَدَ لِلْعَاقِبَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ )) .
فما أشبه الليلة بالبارحة ، فقد نشأ كثير من منتحلى علم الحديث من أبناء جلدتنا ، وأهل زماننا ، على الاغترار بما علموا من محدثات الأمور ، والأقوال الزائفة عند العلماء ، فأسرعوا إلى هذه الأحكام الجائرة على جملة من الأخبار التى تلقتها الأمة بالقبول ، وأودعها أئمة هذا الشأن كتبهم ، سيما إماما المحدثين : البخارى ومسلم .
وقد يبهتك ، إن كنت غيوراً على تراث هذه الأمة المتمثل فى كتب علمائها ، هذا التشويه المتعمد أو الخاطئ لهذه الذخائر ، بزعم التصفية مما حوته من ضعافٍ وأباطيل ومناكير .(1/62)
ووسط خِضَمٍ طافحٍ بالكيد لمشاهير هذه الكتب والذخائر ، انبرى ناشئ من هؤلاء ، يدعى حسان عبد المنان ، فسطا على كتاب (( رياض الصالحين )) ، لشيخ الإسلام أبى زكريا يحيى بن شرف النووى ، فمسخه مسخاً ـ ولا أدرى من سمح له أو لغيره بمثل هذا التلاعب فى كتب التراث ؟!! ـ ، ثم شطره قسمين ، فى نشرة طبعتها المكتبة الإسلامية بالأردن :
[ القسم الأول ] الأصل المهذََّب ، وأسمَّاه (( تهذيب الكتاب )) . وقال بلفظه : (( تهذيب الكتاب بصورة لا تخل بالمقصود ، بل تزيده دقة وفائدة ، ويسهل تناوله أكثر بين الناس دون إنقاص فائدة من فوائده ، لكى يقرأ الكتاب دون ملل فى وقت قصير )) . ثم ذكر صنيعه لتحقيق هذه المقاصد :
1ـ (( حذف الآيات المتكررة المعنى واللفظ )) .
2ـ (( حذف المكرر من الحديث فى الباب الواحد والاكتفاء منها بالأتم الأوفى )) .
3ـ (( حذف المكرر من روايات الحديث الواحد إذا استوفت إحداها المعنى بتمامه )) .
4ـ (( حذف الأحاديث الضعيفة من الكتاب كله )) .
5ـ (( حذف أحاديث الباب بكاملها ، إذا كان الباب مكرَّراً فى معناه فى الكتاب )) .
6ـ (( حذف تخريجات الإمام النووى ، والاكتفاء برموز ـ ذكرها ـ للرواة ، لأنى التزمت أن أحذف الأحاديث الضعيفة كلها من الكتاب )) .
7ـ (( حذف شرح الإمام النووى عقب الحديث ، أو تغيير عباراته إن كان فيها غموض بعبارات أحسن وأوضح وأتمَّ )) .(1/63)
وهذه البنود المذكورة كلها بلفظ المدعو حسان ـ سامحه الله ـ وعباراته : حذف .. حذف .. حذف .. حذف .. ، ويبدو أن حساناً هذا مغرم بالحذف والشطب والكشط والمحو ، ولو كان ذلك تشويها لتراث الأمة ، ومسخاً لأصولها . وأنا ، والذى أخافه وأخشاه ولا أعبد إلا إيَّاه ، لا أظلمه ولا أحاكمه ، والكتاب مطبوع ومتداول بأيدى طلبة العلم والعوام ، وإنما أترك الأمر لأساتذة تحقيق كتب التراث ، ومصنفات الأئمة الأفذاذ ، ووالله إننى لفى حاجة ماسة إلى مطالعة تعليقاتهم على هذا الصنيع ، وأسائلهم : هل تقبلون هذا وترضونه ؟ .
[ القسم الثانى ] ذيل الكتاب : (( بيان الأحاديث الضعيفة والباطلة من الكتاب الأصل )) .
وفى هذا القسم ما فيه من الجرأة ، والإقدام ، وسلوك أوعر الطرق فى الحكم على الأحاديث المصطفوية ، والأخبار النبوية .
هل تطمسون من السماء نجومَها بأكفِكُم أو تسترون هلالَها
أو تجحدون مقالةً من ربكم جبريلُ بلَّغها النبىَّ فقالَها
حفظ الأوائلُ للشريعة قدرَها وأتيتُمُ فأردتُمُ إبطالَها
ومما محاه من أصل (( كتاب رياض الصالحين )) وحذفه ، وأودعه ذيل هاتيك النسخة الممسوخة له ، زاعماً ضعفه وعدم حجية العمل به ، هذا الحديث الصحيح الذى زيَّن به شيخ الإسلام أبو زكريا النووى كتابه البديع فى :
183 : باب الحث على سور وآيات مخصوصة(1/64)
(1018) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله قَالَ : وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، وَقُلْتُ : وَاللهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ ، وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ ، قَالَ : فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ! مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ ؟ )) ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً ، فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ ، قَالَ : (( أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ ، وَسَيَعُودُ )) ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهُ سَيَعُودُ ، فَرَصَدْتُهُ ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، فَقُلْتُ : لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ ، لا أَعُودُ ! ، فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ ، فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ! مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ ؟ )) ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً ، فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ : (( أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ )) ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، فَقُلْتُ : لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاثِ مَرَّاتٍ : أَنَّكَ تَزْعُمُ لا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ ، قَالَ : دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا ، قُلْتُ : مَا(1/65)
هُوَ ؟ ، قَالَ : إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ (( اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )) حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ ، وَلا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ ، فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ ؟ )) ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ ، قَالَ : مَا هِيَ ؟ , قُلْتُ : قَالَ لِي : إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ (( اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )) ، وَقَالَ لِي : لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ ، وَلا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ )) ، قَالَ : لا ، قَالَ : (( ذَاكَ شَيْطَانٌ )) . رواه البخارى .
ضعَّف هذا الحديث المدعو حسان ، وقال : (( ولعل تعليق البخارى له بسبب ضعف عثمان بن الهيثم )) . وزعم أن : (( البخارى يتساهل أحياناً فى (( صحيحه )) فى ذكر أشياء فى الترغيب والترهيب فيها كلام )) .
وأقول : هكذا زعم ، وأعظم الفرية فى حق أصحِّ كتب الحديث وأدقها ! .
والقصد الآن : بيان الرد على تضعيف حدبث أبى هريرة المذكور ، والذى علَّقه إمام المحدثين فى (( صحيحه )) . فقد أخرجه البخارى فى (( كتاب الوكالة )) :
بَاب إِذَا وَكَّلَ رَجُلا فَتَرَكَ الْوَكِيلُ شَيْئًا فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ فَهُوَ جَائِزٌ(1/66)
وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو عَمْرٍو ثنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه قَالَ : وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فذكره بهذا السياق .
وأعاد ذكره معلَّقا فى موضعين من (( فضائل القرآن )) ، و(( بدء الخلق )) .
قلت : وهذا إسناد معلَّق صحيح ، وعثمان بن الهيثم العبدى أبو عمرو المؤذن البصرى من قدامى شيوخ البخارى ، ومن طريقه وصله ابن خزيمة فى (( صحيحه ))(2424) قال : حدثنا هلال بن بشر البصري بخبر غريب غريب حدثنا عثمان بن الهيثم مؤذن مسجد الجامع حدثنا عوف به مثله .
وأخرجه كذلك النسائى (( الكبرى ))(6/238/10795) و(( عمل اليوم والليلة ))(959) عن إبراهيم بن يعقوب ، والدارقطنى (( مجلس إملاء فى رؤية الله تبارك وتعالى ))(548) عن إسحاق بن الحسن الحربى ، والبيهقى (( شعب الإيمان ))(2/456/2388) و(( دلائل النبوة )) عن السرى بن خزيمة ، جميعاً عن عثمان بن الهيثم به .
وهذا الحديث أحد تعاليق البخارى عن مشايخه ، ولم يوصله لإحدى ثلاثة أسباب :
( أولها ) إما أنه لم يسمعه من شيخه ، وإنما حمله عن أحد شيوخه الثقات عنه .
( ثانيها ) وإما أنه سمعه منه فى المذاكرة ، ولم يرى أن يسوقه مساق الأصول .
( ثالثها ) وإما أنه سمعه منه وشكَّ وتردد فى سماعه ، فعلَّقه عنه ولم يسنده .
فإن يكن الأول ، فأقرب من رواه منهم بالبخارى : هلال بن بشر البصرى ، وهو ثقة متقن ، ولم يروى عنه فى (( الصحيح )) ، وإنما روى عنه فى (( التاريخ الكبير )) .(1/67)
قال الحافظ ابن حجر (( تغليق التعليق ))(3/295) :(( هذا الحديث قد ذكره ـ يعنى البخارى ـ في مواضع من كتابه مطولا ومختصرا ، ولم يصرح في موضع منها بسماعه إياه من عثمان ابن الهيثم . وقد وصله أبو ذر الهروى فقال : حدثنا أبو إسحاق المستملي ثنا محمد بن عقيل ثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب قال ثنا عثمان بن الهيثم بهذا الحديث بتمامه .
وأخبرني به أبو بكر بن إبراهيم بن محمد بن أبي عمر بقراءتي عليه أخبركم أبو نصر بن جميل في كتابه عن أبي القاسم بن أبي الفرج أن يحيى بن ثابت بن بندار أخبره أنا أبي أنا الحافظ أبو بكر بن غالب أنا الحافظ أبو بكر الإسماعيلي ثنا عبيد الله بن محمد بن النضر اللؤلؤي ثنا الحارث بن محمد ثنا عثمان بن الهيثم المؤذن ح قال الإسماعيلي وأخبرني الحسن بن سفيان حدثني عبد العزيز بن سلام سمعت عثمان بن الهيثم ثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخبرنا به عاليا عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبيد الله عن زينب بنت الكمال أن يوسف بن خليل الحافظ كتب إليهم أنا أبو جعفر محمد ابن إسماعيل الطرسوسي عن أبي علي الحداد أنا أبو نعيم ثنا محمد بن الحسن ثنا محمد بن غالب بن حرب ثنا عثمان بن الهيثم فذكره بطوله.
ورواه ابن خزيمة عن هلال بن بشر الصواف ، والنسائي عن إبراهيم بن يعقوب كلاهما عن عثمان بن الهيثم به ، فوقع لنا بدلا عاليا )) اهـ .
قلت : فهؤلاء ثمانية من الأثبات الرفعاء أسندوه عن عثمان : هلال بن بشر البصرى ، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجانى ، وإسحاق بن الحسن الحربى ، والسرى بن خزيمة ، وعبد العزيز بن المنيب ، وعبد العزيز بن سلام ، والحارث بن محمد بن أبى أسامة ، ومحمد ابن غالب تمتام .(1/68)
ورجال هذا الإسناد ثقات مشاهير ، خلا عثمان بن الهيثم بن جهم بن عيسى بن حسان بن المنذر بن عائذ العبدى العصرى ، أبو عمرو البصرى المؤذن ، فإنه ثقة يخطئ وربما خالف ، قال أبو حاتم : كان بأخرة يُلَقَّن . وقال الدارقطني : صدوق كثير الخطأ .
وذكره ابن حبان فى (( ثقاته ))(8/453/14393) ، واحتج به هو وشيخه أبو بكر بن خزيمة فى (( صحيحهما )) ، وسبقهما إلى ذلك إمام المحدثين أبى عبد الله البخارى .
فقد أخرج له البخارى فى (( صحيحه )) خمسة أحاديث مسندة موصولة ، هاك بيانها :
( الأول ) قال البخارى فى (( كتاب الحج )) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ (( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ )) فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ .
( الثانى ) وقال فى (( كتاب اللباس )) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ سَمِعَ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمَ يُخْبِرَانِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ بِذَرِيرَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالإِحْرَامِ .(1/69)
( الثالث ) وقال فى (( كتاب الأيمان والنذور )) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : كُنْتُ أَحْسِبُ يَا رَسُولَ اللهِ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا لِهَؤلاء الثَّلاث ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( افْعَلْ وَلا حَرَجَ )) لَهُنَّ كُلِّهِنَّ يَوْمَئِذٍ ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلا قَالَ : (( افْعَلْ وَلا حَرَجَ )) .
( الرابع ) وقال (( كتاب المغازى )) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ : لَقَدْ نَفَعَنِي اللهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْجَمَلِ ، بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ ، قَالَ : لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ : (( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً )) .
( الخامس ) وقال (( كتاب النكاح )) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ )) .(1/70)
فهذه جملة أحاديث عثمان بن الهيثم البصرى المسندة الموصولة فى (( الجامع الصحيح )) ، وكلها قد توبع عليها ولم يتفرد ، مما يدل على :
( أولاً ) ضبطه وحفظه ، وموافقته فى الأغلب للحفاظ من أصحاب : ابن جريج ، وعوف الأعرابى .
( ثانياً ) انتقاء إمام المحدثين لأحاديثه التى أتقنها وضبطها ولم يُخالفْ عليها ، ومجانبته أوهامه ، وما أخطأ فيه ، وخالف سائر الحفاظ الأثبات .
وبهذين الاعتبارين ، جزم إمام المحدثين بصحة تعليق حديثه عن أبى هريرة السالف ، سيما وقد توبع عليه ، كما سيأتى بيانه .
وأما قول أبى حاتم عنه : صدوق كان يتلقن بآخرة ، وقول الدارقطني : كان صدوقا كثير الخطأ ، فأعدل وأحكم دلالة لمعناهما أنه ينبغى تمييز صحيح حديثه من سقيمه ، وأعرف الناس بذلك البخارى ، فهو من قدماء شيوخه ، وقد سبر أحوالهم ، وعرف أقدارهم ، وميز أحاديثهم فحمل منها أصحها ، وجانب ضعافها وما يُنكر منها .
ونزيدك بياناً وإيضاحاً لهذه الدلالة ، بذكر أربعة أحاديث مما أنكروا على عثمان بن الهيثم البصرى ، فجانبها إمام المحدثين :
( الأول ) أخرج الطبرانى (( الكبير ))(7/225/6937) قال : حدثنا علي بن عبد العزيز والفضل بن الحباب قالا ثنا عثمان بن الهيثم المؤذن ثنا هشام بن حسان القردوسي عن الحسن عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه )) .
وأخرجه الحاكم (4/408) من طريق محمد بن يحيى بن المنذر ومحمد بن غالب بن حرب قالا ثنا عثمان بن الهيثم المؤذن ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه )) .
قلت : وهذا منكر من حديث أبى هريرة ، ومحفوظ من حديث سمرة ، وكأن عثمان بن الهيثم كان يخطئ فيه أحياناً .(1/71)
( الثانى ) أخرج البيهقى (( شعب الإيمان ))(2/118/1345) من طريق السري بن خزيمة نا عثمان بن الهيثم ثنا عوف عن محمد عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بلال ، وعنده صبرة من تمر ، فقال : (( ما هذا يا بلال )) ، قال : تمر ادخرته ، قال : (( أما تخشى يا بلال أن يكون له بخار في نار جهنم ، أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا )) .
قال أبو بكر : (( خالفه روح بن عبادة ، فرواه عن عوف عن محمد قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بلال فوجد تمرا ادَّخره ... فذكره مرسلاً )) اهـ .
( الثالث ) أخرجته بيبى بنت عبد الصمد الهرثمية (( جزء بيبى ))(111) من طريق عباد بن الوليد بن يزيد الغبري حدثنا عثمان بن الهيثم المؤذن ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( سبعة في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله : رجل ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه ، ورجل يحب عبدا لله لا يحبه إلا لله عزَّ وجلَّ ، ورجل قلبه معلق بالمساجد من شدة حبه إيَّاها ، ورجل يعطي الصدقة بيمينه يكاد أن يخفيها من شماله ، وإمام مقسط في رعيته ، ورجل عرضت امرأة نفسها عليه ذات جمال ومنصب فتركها لجلال الله عز وجل ، ورجل كان في سرية قوم فالتقوا العدو فانكشفوا فحمى أدبارهم حتى نجا ونجوا واستشهد )) .
قلت : وهذا منكر إسناداً ومتناً ، وفى ألفاظه غرابة ، والمحفوظ حديث خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبى هريرة ، ومن هذه الطريق رواه الشيخان .
( الرابع ) أخرجه أبو بكر القطيعى (( جزء الألف دينار ))(210) قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عامر بن قيس بن عاصم المنقري البصري حدثنا عثمان بن الهيثم المؤذن حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن عن جابر بن سمرة قال : رأيت رسول الله ليلة إضحيان وعليه حلة حمراء ، وكنت أنظر إليه وإلى القمر ، فكان في عيني أزين من القمر .(1/72)
قلت : وخالفه أشعث بن سوار ، فرواه عن أبى إسحاق السبيعى عن جابر بن سمرة ، وهو المحفوظ .
وقد أردنا مما ذكرناه من أوهام عثمان بن الهيثم التوثق لصنيع البخارى فى انتقائه لأحاديث شيوخه الصحاح ، ومجانبة ضعاف أحاديثهم ، ومن جملة هؤلاء عنده عثمان بن الهيثم .
ومما يليق ذكره بهذا المقام ، ما قاله الحافظ ابن حجر عن عبد الله بن صالح كاتب الليث فى (( مقدمة الفتح ))(1/414) : (( ما يجئ من روايته عن أهل الحذق كيحيى بن معين ، والبخارى ، وأبى زرعة ، وأبى حاتم فهو من صحيح حديثه ، وما يجئ من رواية الشيوخ عنه فيتوقف فيه )) اهـ .
وهذا التعليل الفائق الصحة مستغنٍ بوضوحه عن بيان دلالته عند من له إلمام ولو يسير بمعارف أهل الجرح والتعديل ، ومن خالف وجه دلالته فليس له معرفة بأصول هذا العلم الدقيق من علوم الشريعة .
ومن نوافل الإفادة أن نوقفك على بعض دلالات هذا التعليل ، بذكر راوٍ ممن أخرج له البخارى فى (( صحيحه )) حديثاً واحداً على وجه الإنتقاء والاحتجاج ، مع الجزم بضعفه وشدة وهيه وتدليسه الفاحش ؛ أعنى الحسن بن ذكوان وهو صاحب أوابد كما قال يحيى بن معين ، وقال الأثرم : (( قلت لأبى عبد الله أحمد بن حنبل : ما تقول فى الحسن بن ذكوان ؟ ، قال : أحاديثه أباطيل ! يروى عن حبيب بن أبى ثابت ولم يسمع من حبيب ، إنما هذه أحاديث عمرو بن خالد الواسطى )) ، ونقلوا عن يحيى القطان قوله عنه : يحدث عندنا بعجائب ! . فإذا كان هذا حال الحسن بن ذكوان عند هؤلاء سيما يحيى القطان إمام النقاد ورأس طائفة الجرح والتعديل ، فما تأويل قول ابن عدى فى (( كامله ))(2/317) : (( أن يحيى القطان حدَّث عنه بأحرفٍ ، ولم يكن عنده بالقوى )) ؟ .
وإذا كان الحسن بن ذكوان موسوماً بالتدليس مشهوراً به ، وقد أورد له أبو أحمد بن عدى فى (( كامله ))(5/125) أربعة أحاديث دلسها عن عمرو بن خالد الواسطى الكذاب الوضاع :(1/73)
[ أولها ] الحسن عن حبيب بن أبى ثابت عن عاصم بن ضمرة عن على عن النَّبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم : (( من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضخ جهنم ، قال : وما ظهر غنى ؟ ، قال : عشاء ليلة )) .
قال أبو أحمد : (( قال لنا ابن صاعد : وهذا الحديث رواه الحسن بن ذكوان عن عمرو بن خالد عن حبيب بن أبي ثابت بهذا الإسناد )) يعنى أنه دلَّسه ، فأسقط منه عمرو ليوهم حمله وروايته عن حبيب ! .
[ ثانيها ] بهذا الإسناد قال : (( نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم عن كل سبع ذي ناب ، وكل ذي مخلب من الطير ، وعن ثمن الميتة ، وعن لحوم الحمر الأهلية ، وعن كسب البغي وعسب الفحل )) ، وفى رواية (( وعن المياثر الأرجوان )) ، وفى أخرى (( وثمن الخمرة )) .
قال أبو أحمد : (( وهذا الحديث يرويه الحسن بن ذكوان عن عمرو بن خالد ، وعمرو متروك الحديث ، ويسقطه الحسن من الإسناد لضعفه )) .
[ ثالثها ] الحسن عن حبيب بن أبى ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : (( أنَّ النَّبىَّ صلَّى الله عليه وسلَّم نهى أن ينتفض فى برازٍ حتى يتنحنح )) .
[ رابعها ] بهذا الإسناد والسياق وبزيادة (( ونهى أن يمشى فى خفٍ واحدٍ أو فى نعلٍ واحدٍ ، وأن ينام على طريق ، وأن يلقى عدواً له وحده إلا ان يضطر ، فيدفع عن نفسه )) .
وقال أبو أحمد : (( وهذه الأحاديث التي يرويها الحسن بن ذكوان عن حبيب بن أبي ثابت نفسه ، بينهما عمرو بن خالد ، فلا يسميه لضعفه )) .
فإذا كان ذلك كذلك ، فما وجه رواية إمام النقاد يحيى القطان عن الحسن بن ذكوان هذا الحديث الواحد الذى انتقاه إمام المحدثين أبى عبد الله ، وأودعه (( كتاب الرقاق )) من (( صحيحه ))(4/139. سندى ) فقال :(1/74)
حَدَّثنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى ـ يعنى القطان ـ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ حَدَّثنَا أَبُو رَجَاءٍ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ )) .
ربما يكتفى بعضهم بما ذكره الحافظ ابن حجر فى (( هدى السارى )) بقوله : (( والحسن بن ذكوان تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما ، وليس له فى البخارى سوى هذا الحديث برواية القطان عنه مع تعنته فى الرجال ، ومع ذلك فهو متابعة )) ! .
وأقول : وتمام هذا التوجيه وكماله أن نقول :
(1) أن الحسن بن ذكوان قد صرَّح فى الحديث بالسماع ، فانتفت تهمة تدليسه .
(2) أن كون الحديث من رواية يحيى القطان عنه ، وهو أعرف الناس بما يصح من حديثه ، وما ينكر ، فهو من صحاح حديثه .
ومما يفيده هذا التوجيه : أن انتقاء الصحيح من أحاديث الضعفاء والمجروحين هو مما توافرت عليه همم الجهابذة النقاد أمثال : يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدى ، ويحيى بن معين ، والبخارى ، وأبى حاتم وغيرهم من أئمة هذا الشأن . ومن لم يقف على مثل هذه المعرفة الدقيقة الواعية ، فليس ممن مارس هذا العلم ، فضلاً عن إتقانه ، بله الولوج فى معترك المناظرة مع هؤلاء الفحول الجهابذة فيما ذهبوا إليه من تصحيح الأخبار المصطفوية .
والخلاصة ، فإن حديث عثمان بن الهيثم الذى علَّقه إمام المحدثين ، واحتج به فى (( صحيحه )) ، هو من الصحيح المنتقى من أحاديث عثمان بن الهيثم ، وعليه علامة تصحيح إمام المحدثين وأستاذ العارفين أبى عبد الله البخارى .
إتحاف الأوَّاه بصحة حديث (( مَا مِنْ ثَلاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاةُ ))(1/75)
الحمد لله الهادى من استهداه سبل الخيرات . والواقى من اتقاه الخطايا والزلات . والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على محمد خير خلق الله وسائر المخلوقات . وبعد ..…
فقد ذكر شيخ الإسلام أبو زكريا النووى فى :
باب فضل صلاة الجماعة
من كتابه البديع المثال ، البعيد المنال (( رياض الصالحين ))
(1068) عن أبى الدرداء رضى الله عنه قال : سَمعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( مَا مِنْ ثَلاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ ، وَلا بَدْوٍ ، لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاةُ ، إِلا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنْ الغَنَمِ الْقَاصِيَةَ )) .
وقال : رواه أبو داود بإسنادٍ حسن .
فعمد المدعو حسان عبد المنان فى نسخته الممسوخة لهذا السفر العظيم ، الذائع الصيت بين جماهير أهل الإيمان ، فمحاه من الأصل وحذفه زاعماً ضعفه وعدم حجية العمل به ، وأودعه ذيل هاتيك النسخة الممسوخة له ، والتى نشرتها المكتبة الإسلامية بالأردن .
وقال : (( فيه السائب بن حبيش فيه جهالة . قال الدارقطنى : لا أعلم حدث عنه غير زائدة . وزاد المزى : وحفص بن عمر بن رواحة . وسئل أحمد عن توثيقه ، فقال : لا أدرى )) اهـ .
قال أبو محمد الألفى :
والحديث كما أخرجه أبو داود (547) قال : حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة حدثنا السائب بن حبيش عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن أبي الدرداء قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( مَا مِنْ ثَلاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلا بَدْوٍ ، لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاةُ ، إِلا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ )) . قَالَ زَائِدَةُ قَالَ السَّائِبُ : يَعْنِي بِالْجَمَاعَةِ الصَّلاةَ فِي الْجَمَاعَةِ .(1/76)
وأخرجه كذلك ابن المبارك (( الزهد ))(1306) ، وأحمد (5/196 و6/446) ، والنسائى (( الكبرى ))(1/296/920) و(( المجتبى ))(2/106) ، وابن خزيمة (1486) ، وابن حبان (2101) ، والحاكم (1/330 و2/524) ، والبيهقى (( الكبرى ))(3/54) و (( شعب الإيمان ))(3/57/2859) ، وابن عبد البر (( التمهيد ))(13/281 و18/337) ، وابن عساكر (( تاريخ دمشق ))(20/98،97) ، والمزى (( تهذيب الكمال ))(10/183) من طرق عن زائدة بن قدامة حدثنا السائب بن حبيش الكلاعى عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال : قال لي أبو الدرداء : أين مسكنك ؟ ، قلت : بقرية دون حمص ، قال أبو الدرداء : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : فذكره .
ورواه عن زائدة جماعة من الرفعاء الكبراء : عبد الله بن المبارك ، وحماد بن أسامة ، ومروان بن معاوية الفزارى ، وعبد الصمد بن عبد الوارث ، وعبد الرحمن بن مهدى ، ووكيع بن الجراح ، ومعاوية بن عمرو الأزدى ، وأبو سعيد عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد مولى بنى هاشم ، وأحمد ابن عبد الله بن يونس اليربوعى ، ويحيى بن أبى بكير .
وتابع زائدة عن السائب : حفص بن عمر بن رواحة الأنصارى .
فقد أخرجه ابن عساكر (20/98) من طريق أبى سعيد بن حفص بن رواحة عن أبيه ثنا السائب بن حبيش بإسناده ومتنه سواء .
وقال أبو عبد الله الحاكم : (( هذا حديث صحيح الإسناد ، متفق على الاحتجاج برواته إلا السائب بن حبيش ، وقد عرف من مذهب زائدة أنه لا يحدث إلا عن الثقات )) .
قلت : هو كما قال ، رجاله ثقات كلهم مشاهير غير السائب بن حبيش الكلاعى الشامى ، وهو صدوق صالح الحديث ، ليس له فى (( الكتب الستة )) إلا هذا الحديث .(1/77)
وذكره العجلى فى (( معرفة الثقات ))(1/384/547) ، وابن حبان فى (( الثقات )) (6/413/8347) . وفى (( تاريخ دمشق ))(20/98) عن أبى بكر البرقانى قال : وسألت الدارقطني عن السائب بن حبيش ، فقال : من أهل الشام صالح الحديث ، حدث عنه زائدة ، لا أعلم حدث عنه غيره . وفى (( الكاشف ))(1/424) : (( صدوق )) .
ومن لم يعرف حاله سكت عنه ولم يذكره بجرحة ، كما فعل البخارى فى (( التاريخ الكبير )) (4/153/2296) . ولهذا لما سأل عبد الله بن أحمد أباه عنه : أثقة هو ؟ ، قال : لا أدرى .
وأما وصفه بالجهالة ، فقد علمت أنه لم يتفرد بالرواية عنه زائدة كما انتهى إليه علم الإمام الحجة أبى الحسن الدارقطنى ، بل روى عنه كذلك حفص بن عمر بن رواحة الأنصارى ، وقد قال ابن حبان : روى عنه زائدة بن قدامة وأهل الكوفة . وبذلك انتفت جهالة عينه ، كما انتفت من قبل جهالة حاله بتوثيق هؤلاء المزكين إيَّاه ، وفيهم الدارقطنى ، مع أنه لم يعلم له راوياً غير زائدة بن قدامة .
وأما قول الحاكم عن زائدة : (( وقد عرف من مذهب زائدة أنه لا يحدث إلا عن الثقات )) ، فما أشبهه بما قال ، فقد كان زائدة ذا بصر بالرجال والرواية عنهم لا يأخذ إلا ممن هو ثقة عنده كما كان لا يحدث إلا من شهد له عدلان أنه من أهل السنة .
فقد قال أحمد بن صالح العجلى (( معرفة الثقات ))(1/367) : (( زائدة بن قدامة ثقفى ، كنيته أبو الصلت . كوفى ثقة ، لا يحدث أحداً حتى يسأل عنه ، فإن كان صاحب سنة حدثه ، وإلا لم يحدثه ، وكان قد عرض حديثه على سفيان الثوري ، وروى عنه الثوري )) .
وقال ابن حبان (( مشاهير علماء الأمصار ))(1/171) : (( كان من الحفاظ المتقنين ، وكان لا يعد السماع حتى يسمعه ثلاث مرات ، وكان لا يحدَّث أحدا حتى يشهد له عدلان أنه من أهل السنة )) .(1/78)
فإذا ثبتت عدالة السائب بن حبيش ، فقد وجب قبول روايته والاحتجاج بحديثه ، ولهذا صحَّح حديثه أبو بكر بن خزيمة ، وأبو حاتم بن حبان ، وأبو عبد الله الحاكم وغيرهم .
الجواب عمن شَرِبَ دمَ حِجَامةِ رَسُولِ اللهِ من الأصحاب
الحمد لله الذى جعل الدعائم للإسلام أركانا ، ومحبة الرسول على الإيمان دليلاً وبرهانا ، فأما الذين اهتدوا فزادهم هدىً وعرفانا ، وأذاق من طغى وتكبر من العذاب صنوفاً وألوانا ، وتوعده فى الآخرة ذلاً وخزياً وهوانا . فلله كم فى الإيمان بالله من زاكيات الثَّمَرْ ، وفى محبة رسول الرحمن من زاهيات الزَّهَرْ ، فأهله فى الدنيا مُنَعَّمون وفى الآخرة فى جناتٍ ونَهَرْ ، والصلاة والسلام الأتمان على المبعوث رحمةً وهدايةً للبشرْ ، ما تعاقب الليل والنهار ، ودار فى فلكيهما الشمس والقمرْ .
وبعد ...
فإنى بعد فراغى من كتابى (( طوق الحمامة فى التداوى بالحجامة )) ، وصلتنى أسئلة كثيرة تتعلق ببعض الأمور التى أجملتُ ذكرها ، ولم أرد الإسهاب فى بيانها . فكان من ألطف الأسئلة الواردة : هل شرب أحد من الصحابة دم حجامة النَّبىِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ .
فأقول ، والله المستعان . فيه ثلاثة أحاديث :
( الأول ) حديث عبد الله بن الزبير ، وهو أصحها :(1/79)
قال أبو بكر بن أبى عاصمٍ فى (( الآحاد والمثانى ))(1/414/578) : حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا موسى بن إسماعيل نا هنيد بن القاسم سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير أن أباه ـ يعنى عبد الله بن الزبير ـ حدَّثه : أنه أتي النَّبىَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وهو يحتجم ، فلما فرغ ، قال : (( يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه ، حيث لا يراه أحد )) ، فلما برز عن النَّبىِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمد إلى الدم فشربه ، فقال : يا عبد الله ما صنعت ؟ ، قال : جعلته في أخفى مكانٍ ظننت أنه يخفى على الناس ، قال : (( لعلك شربته )) ، قال : نعم ، قال : (( وَلِمَ شَرِبْتَ الدَّمَ ! ، وَيْلٌ للنَّاسِ مِنْكَ ، وَوَيْلٌ لكَ مِنْ النَّاسِ )) .
قال أبو سلمة موسى بن إسماعيل : فيرون أن القوة التي كانت في ابن الزبير من قوة دمِ النَّبىِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وأخرجه كذلك البزار (6/169/2210) ، وأبو نعيم (( الحلية ))(1/330) ، والحاكم (3/638) ، والبيهقى (( الكبرى ))(7/67) ، وابن عساكر (( تاريخ دمشق )) (28/164،163) ، والضياء (( المختارة ))(9/309:307/267،266) جميعاً من طريق موسى بن إسماعيل ثنا هنيد بن القاسم بن عبد الرحمن بن ماعز قال سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يحدث أن أباه حدثه أنه أتى النَّبىَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يحتجم فذكره .
قلت : هذا الإسناد رجاله ثقات مشاهير رجال الصحيحين ، خلا هنيد بن القاسم بن عبد الرحمن بن ماعز ليس بالمشهور ، تفرد عنه أبو سلمة البصرى .
وذكره ابن حبان فى (( الثقات ))(5/515/6010) .
وقال البخارى فى (( التاريخ الكبير ))(8/249/2892) : (( هنيد بن القاسم بن عبد الرحمن ابن ماعز . رأى العداء بن خالد ، وعامر بن عبد الله بن الزبير ، والقاسم بن عبد الرحمن ، والقاسم بن عبد الله . روى عنه : موسى بن إسماعيل )) ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً .(1/80)
وكذلك ذكره ابن أبى حاتم (( الجرح والتعديل ))(9/121/509) ، فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً . وقال الحافظ الهيثمى (( مجمع الزوائد ))(8/270) : (( هنيد بن القاسم ثقة )) .
وقد توبع على حديثه ، ولم يتفرد ..
فقد أخرج أبو أحمد الغطريفى (( جزء ابن الغطريف ))(65) ، وأبو نعيم (( الحلية )) (1/330) ، وابن عساكر (( التاريخ ))(20/233و28/168) من طرق عن سعد أبي عاصم مولى سليمان بن علي عن كيسان مولى عبد الله بن الزبير أخبرني سلمان الفارسي : أنه دخل على رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وإذا عبد الله بن الزبير معه طست يشرب ما فيه ، فقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ما شأنك يا ابن أخي ؟ ، قال : إني أحببت أن يكون من دم رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جوفي ، فقال : (( ويلٌ لكَ مِنْ النَّاسِ ، وويلٌ للنَّاسِ مِنْكَ ، لا تمسَّكَ النَّارُ إلا قَسَمَ الْيَمِينِ )) .
قلت : وهذا إسناد صالح فى المتابعات . سعد بن زياد أبو عاصم مولى سليمان بن على ، ذكره ابن حبان فى (( الثقات ))(6/378) .
وقال ابن أبى حاتم (( الجرح والتعديل ))(4/83) : (( سعد بن زياد أبو عاصم مولى سليمان بن على . روى عن : سالم ، وعمرة أخت نافع ، ونافع مولى حمنة ، وعمر بن مصعب ، وكيسان مولى عبد الله بن الزبير . روى عنه : موسى بن إسماعيل ، وعبد الرحمن بن المبارك ، وعبيد الله ابن عمر القواريرى ، ومحمد بن أبى بكر المقدمي ، وعبد الله بن حميد بن الأسود . سمعت أبى يقول : يكتب حديثه وليس بالمتين )) . يعنى : صالح الحديث ، يكتب حديثه للاعتبار .
فقد قالها أبو حاتم الرازى كما فى (( الجرح والتعديل ))(2/426) فى بريد بن عبد الله بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعري ، وهو ثقة ممن احتج به الشيخان فى (( الصحيحين )) ، فأكثرا له ، حتى روى له البخارى : اثنين وأربعين حديثاً .(1/81)
وأخرج الدارقطنى (1/228/3) قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز نا محمد بن حميد الرازى ثنا علي بن مجاهد ثنا رباح النوبي أبو محمد مولى آل الزبير قال : سمعت أسماء بنت أبي بكر تقول للحجاج : إن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ، فدفع دمه إلى ابني ، فشربه ، فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره ، فقال : ما صنعت ؟ ، قال : كرهت أن أصب دمك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تمسَّكَ النَّارُ )) ، ومسح على رأسه ، وقال : (( وَيْلٌ للنَّاسِ مِنْكَ ، وَوَيْلٌ لَكَ مِنْ النَّاسِ )) .
قلت : وهذا الإسناد مما لا تقام به الحجة ، لحال ابن حميد الرازى ، وفيما سبقه غنية للاعتبار والاستشهاد .
( الثانى ) حديث سفينة مولى أم سلمة :
قال الطبرانى (( الكبير ))(7/81/6434) : حَدَّثَنَا علي بن عبد العزيز ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري ح وحَدَّثَنَا إسماعيل بن الحسن الخفاف المصري ثنا أحمد بن صالح أنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن بُرَيْهُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَفِينَةَ مولى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبيه عن جده قال : احتجم رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : خُذْ هذا الدَّمَ ، فَادْفِنْهُ من الدواب والطير والنَّاس ، فتغيَّبْتُ ، فشَرِبْتُه ، ثم ذكرتُ ذلك له ، فضَحِكَ .
وأخرجه كذلك البخارى (( التاريخ الكبير ))(4/209/2524) ، والمحاملى (( الأمالى )) (526) ، وابن حبان (( المجروحين ))(1/111) ، وابن عدى (( الكامل ))(2/64 و5/53) ، والبيهقى (( الكبرى ))(7/67) و (( شعب الإيمان ))(5/233/6489) من طرق عن ابن أبى فديك عن برية بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده به .
قلت : وهذا إسناد ضعيف جداً . وبرية لقب إبراهيم بن عمر بن سفينة ، منكر الحديث . قال ابن حبان : (( يخالف الثقات في الروايات ، ويروى عن أبيه ما لا يُتابع عليه من رواية الاثبات ، فلا يحل الاحتجاج بخبره بحالٍ )) .(1/82)
( الثالث ) حديث غلامٍ حجَّامٍ لبعض قريش :
قال أبو حاتم بن حبان (( المجروحين ))(3/59) : أخبرنا عمران بن موسى السختياني حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا نافع أبو هرمز عن عطاء عن ابن عباس قال : حجم رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلامٌ لبعض قريشٍ ، فلما فرغ من حجامته ، أخذ الدم فذهب به إلى ما وراء الحائط ، فنظر يميناً وشمالاً ، فلما لم ير أحد تحسَّى دمَه حتى فرغ ، ثم أقبل ، فنظر رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجهه ، فقال : (( ويحكَ ما صَنَعَتَ بالدمِ )) ، قال : غيَّبتُه من وراء الحائط ، قال : (( أين غيَّبتَه ؟ )) ، قال : يا رسول الله نفست على دمك أن أهرقه في الأرض ، فهو في بطني ، قال : (( اذهبْ ، قد أحرزتَ نَفْسَكَ من النَّار ))
قلت : والحديث موضوع بهذا الإسناد ، وإسناده تالف ليس مما تقام به الحجة . قال أبو حاتم : (( نافع أبو هرمز الجمال مولى بني سليمان . كان ممن يروي عن أنس ما ليس من حديثه كأنه أنس آخر ، ولا أعلم له سماعاً ، لا يجوز الاحتجاج به ولا كتابة حديثه إلا على سبيل الاعتبار ، روى عن عطاء عن ابن عباس وعائشة نسخة موضوعة )) .
قلت : ومن بواطيله وموضوعاته ، ما رواه شيبان بن فروخ ثنا نافع أبو هرمز عن عطاء عن ابن عباس يرفعه قال : (( إن لإبليس مردة من الشياطين ، يقول لهم : عليكم بالحجاج والمجاهدين ، فأضلوهم عن السبيل )) .
أخرجه هكذا الطبرانى (( الكبير ))(11/163/11368) قال : حدثنا يحيى بن محمد الحنائي ثنا شيبان بن فروخ به .
والخلاصة ، فأمثل أحاديث شرب دم حجامة النبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حديث ابن الزبير .
وقد يقال : وفيه حديث رابع ، وهو حديث أبى سعيدٍ الخدرى ؟ .(1/83)
فأقول : لكنه فى مصِّ دم النَّبىِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شجةٍ بوجهه يوم أحد ، وليس بدم حجامة ، ولا بأس بذكره ، على أنى أقطع بأن هناك بوناً شاسعاً بين نوعى الدم من الناحية الطبية التحليلية ، كما أثبتته التحاليل المعملية .
فقد أخرجه الطبرانى (( الأوسط ))(9098) قال : حدثنا مسعدة بن سعد ثنا إبراهيم بن المنذر ثنا عباس بن أبي شملة عن موسى بن يعقوب عن ابن الأسقع عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن جده : أن أباه مالك بن سنان لما أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه يوم أحد ، مص دم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وازدرده ، فقيل له : أتشرب الدم ؟ قال : نعم ، أشرب دم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( خالطَ دمي بدمه ، لا تمسّه النَّارُ )) .
فصل الخطاب ببيان بطلان أحاديث الأبدال والأقطاب
الحمد لله المعز لأوليائه . المذل لأعدائه . حمداً يوجب رضوانه . ويستوهب إحسانه . والصلاة والسلام على موضح آياته . ومبلِّغ كلماته . وبعد ...
فإن من موجبات الرحمة والغفران . كشف أباطيل أهل الزيغ والبهتان . وبيان أكاذيبهم على رسولنا الكريم . وما حرفوه من أصول وفروع شرعنا القويم . إعلاءاً لكلمة الحق . وتصديقاً بوعد الصدق . (( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ )) .
قال الحافظ الجهبذ ابن القيم فى فصل عقده لأحاديث مشهورة باطلة من (( نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول ))(ص127) : (( ومن ذلك أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقرب ما فيها حديث (( لا تسبوا أهل الشام ، فإن فيهم البدلاء ، كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر )) ذكره أحمد ، ولا يصح أيضا فإنه : منقطع )) اهـ .(1/84)
وأما قول الحافظ الجلال السيوطي ـ طيَّب الله ثراه ـ في (( النكت )) : (( خبر الأبدال صحيح فضلا عما دون ذلك ، وإن شئت قلت متواتر . وقد أفردته بتأليف استوعبت فيه طرق الأحاديث الواردة في ذلك )) فمن مراكب الإعتساف ، والمباعدة عن مواقع الإنصاف ، إذ ليس فيما ذكره حديثا واحداً تنتهض به الحجة لما ادَّعاه .
وأنا ذاكر بعون الله وتوفيقه جملة من الأحاديث التى ذكرَها ، ومبين آفاتِها وعللَها :
( الأول ) حديث عوف بن مالك
أخرجه الطبرانى (( الكبير ))(18/65/120) ، وابن عساكر (( التاريخ ))(1/290) كلاهما من طريق عمرو بن واقد نا يزيد بن أبى مالك عن شهر بن حوشب قال : لما فتحت مصر سبوا أهل الشام ، فأخرج عوف بن مالك رأسه من برنسه ، ثم قال : يا أهل مصر ، أنا عوف بن مالك لا تسبوا أهل الشام ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( فيهم الأبدال ، وبهم تنصرون ، وبهم ترزقون )).
هذا الحديث كذب كأنه موضوع ، وإنما يعرف بعمرو بن واقد أبى حفص الدمشقى ؛ مولى بنى أمية ، وهو هالك تالف . قال أبو مسهر على بن مسهر : ليس بشيء كان يكذب . وقال البخارى والترمذى : منكر الحديث . وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث منكر الحديث . وقال يعقوب بن سفيان عن دحيم : لم يكن شيوخنا يحدثون عنه . قال : وكأنه لم يشك أنه كان يكذب . وقال الدارقطني والنسائى والبرقانى : متروك الحديث . وقال ابن حبان : يقلب الأسانيد ويروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك .
ومن مناكيره ، بل أباطيله وموضوعاته ، ما أخرجه الطبرانى (( الكبير ))(20/35/162) ، وابن عدى ( 5/118) والبيهقى (( شعب الإيمان ))(6/479/8974) جميعا عن عمرو بن واقد عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن معاذ بن جبل عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال : (( من أطعم مؤمنا حتى يشبعه من سغب أدخله الله بابا من أبواب الجنة ، لا يدخله إلا من كان مثله )) .(1/85)
قال ابن أبى حاتم (( علل الحديث ))(2/179/2031) : (( سألت أبي عن حديث رواه هشام بن عمار عن عمرو بن واقد ثنا يونس بن ميسرة بن حليس عن أبي ادريس عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أشبع جائعا )) الحديث بنحوه . قال أبي : هذا حديث كأنه موضوع . ولا أعلم روى أبو إدريس عن معاذ إلا حديثا واحدا ، وعمرو ضعيف الحديث )) اهـ .
( الثانى ) حديث عبادة بن الصامت ، وله طريقان :
[ الطريق الأولى ] أخرجها أحمد (5/322) قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء أنا الحسن بن ذكوان عن عبد الواحد بن قيس عن عبادة بن الصامت عن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( الأَبْدَالُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ ثَلاثُونَ ، مِثْلُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلاً )) .
قال عبد الله بن أحمد : (( قَالَ أَبِي رَحِمَه الله : حَدِيثَ عَبْدِ الْوَهَّابِ هَذَا مُنْكَرٌ )) .
وأخرجه كذلك الهيثم بن كليب (( المسند )) ، والخلال (( كرامات الأولياء ))(2) ، وأبو نعيم (( أخبار أصبهان ))(1/180) والخطيب (( تالى تلخيص المتشابه ))(1/248) ، وابن عساكر (1/292) جميعا من طريق الحسن بن ذكوان به .
قلت : وهذا حديث منكر كما قال الإمام أحمد ، وله ثلاث آفات :
( الأولى ) عبد الواحد بن قيس ، وإن وثقه ابن معين والعجلى وأبو زرعة الدمشقى ، لكنه لا يُعتبر برواية الضعفاء عنه . قال أبو حاتم : يكتب حديثه وليس بالقوى . قال البخارى : عبد الواحد بن قيس قال يحيى القطان : كان الحسن بن ذكوان يحدث عنه بعجائب .
وقال ابن حبان فى (( المجروحين )) : عبد الواحد بن قيس شيخ يروي عن نافع روى عنه الأوزاعي والحسن بن ذكوان ، ممن ينفرد بالمناكير عن المشاهير ، فلا يجوز الاحتجاج بما خالف الثقات ، فإن اعتبر معتبر بحديثه الذي لم يخالف الأثبات فيه فحسن .(1/86)
وقال فى (( الثقات )) : لا يعتبر بمقاطيعه ولا بمراسيله ولا برواية الضعفاء عنه ، وهو الذي يروي عن أبي هريرة ولم يره .
( الثانية ) الانقطاع ، فإن عبد الواحد بن قيس إنما أدرك عروة ونافع ، وروايته عن أبى هريرة مرسلة ، كما قال البخارى وابن حبان . فعلى هذا فهو لم يدرك عبادة بن الصامت ولم يره .
( الثالثة ) الحسن بن ذكوان يحدث عن عبد الواحد بن قيس بعجائب ، كما قال يحيى القطان وعلى بن المدينى والبخارى . وقال ابن معين : كان صاحب أوابد . وقال الأثرم : (( قلت لأبى عبد الله أحمد بن حنبل : ما تقول فى الحسن بن ذكوان ؟ ، قال : أحاديثه أباطيل ! يروى عن حبيب بن أبى ثابت ولم يسمع من حبيب ، إنما هذه أحاديث عمرو بن خالد الواسطى )) .
ولما كان الحسن بن ذكوان موسوماً بالتدليس مشهوراً به ، فقد أورد له ابن عدى فى (( كامله )) (5/125) أربعة أحاديث دلَّسها عن عمرو بن خالد الواسطى الكذاب الوضاع .
وواحدة من هذا العلل الثلاث تكفى فى الحكم على حديث عبادة بنفى ثبوته فضلا عن صحته ، ومنه تعلم أن قول الحافظ الهيثمى (( مجمع الزوائد ))(10/62) : (( رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الواحد بن قيس ، وقد وثقه العجلي وأبو زرعة وضعفه غيرهما )) ، وأقره السيوطى والمناوى وغيرهما ، أبعد شئٍ عن الصواب !! ، وذلك لما ذكرناه آنفاً .
وأما قوله الحسن بن ذكوان من رجال الصحيح ، فالجواب عنه ما وصفه به الإمام أحمد من التدليس عن الكذابين ورواية الأباطيل . فإن قيل : قد أخرج البخارى له فى (( كتاب المناقب )) من (( صحيحه ))(4/139. سندى ) قال : حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الحسن بن ذكوان حدثنا أبو رجاء حدثنا عمران بن حصين عن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ )) .(1/87)
فربما يكتفى بعضهم بما ذكره الحافظ ابن حجر فى (( هدى السارى )) بقوله : (( والحسن بن ذكوان تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما ، وليس له فى البخارى سوى هذا الحديث برواية القطان عنه مع تعنته فى الرجال ، ومع ذلك فهو متابعة )) ! .
وأقول : وتمام هذا التوجيه وكماله أن نقول : أن الحسن بن ذكوان قد صرَّح فى الحديث بالسماع ، فانتفت تهمة تدليسه .
(2) أن كون الحديث من رواية يحيى القطان عنه ، وهو أعرف الناس بما يصح من حديثه ، وما ينكر ، فهو من صحاح حديثه . وقد قال أبو أحمد بن عدى : (( أن يحيى القطان حدَّث عنه بأحرفٍ ، ولم يكن عنده بالقوى )) .
ومما يفيده هذا التوجيه : أن انتقاء الصحيح من أحاديث الضعفاء والمجروحين هو مما توافرت عليه همم الجهابذة النقاد أمثال : يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدى ، ويحيى بن معين ، والبخارى ، وأبى حاتم وغيرهم من أئمة هذا الشأن .
[ الطريق الثانية ] أوردها ابن كثير (( التفسير ))(1/304) من طريق ابن مردويه قال : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن جرير بن يزيد حدثنا أبو معاذ نهار بن عثمان الليثي أخبرنا زيد بن الحباب أخبرني عمرو البزار عن عنبسة الخواص عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الأبدال في أمتي ثلاثون ، بهم ترزقون ، وبهم تمطرون ، وبهم تنصرون )) ، قال قتادة : إني لأرجو أن يكون الحسن منهم .
قال الحافظ الهيثمى (( مجمع الزوائد ))(10/63) : (( رواه الطبرانى من طريق عمرو البزار عن عنبسة الخواص ، وكلاهما لم أعرفه ، وبقية رجاله رجال الصحيح )) .
قلت : ومع جهالة رواته عن قتادة ، فقد خولفوا على رفعه . رواه عبد الوهاب بن عطاء الخفاف نا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة قال : لن تخلو الأرض من أربعين ، بهم يغاث الناس ، وبهم تنصرون ، كلما مات منهم أحد أبدل الله مكانه رجلاً .(1/88)
أخرجه هكذا ابن عساكر (( التاريخ ))(1/298) من طريق عمران بن محمد الخيزرانى عنه .
( الثالث ) حديث أنس بن مالك ، وله أربع طرق :
[ الطريق الأولى ] أخرجها ابن عدى (5/220) حدثنا محمد بن زهير بن الفضل الأبلي ثنا عمر بن يحيى الأبلي ثنا العلاء بن زيدل عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( البدلاء أربعون اثنان وعشرون بالشام ، وثمانية عشر بالعراق ، كلما مات منهم واحد بدل الله مكانه آخر ، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم ، فعند ذلك تقوم الساعة )) .
وأخرجه كذلك ابن عساكر (( التاريخ ))(1/291) ، وابن الجوزى (( الموضوعات )) (3/151) كلاهما من طريق ابن عدى به .
قلت : هذا إسناد مظلم وحديث موضوع ، لا يحل ذكره إلا تعجباً ولا كتابته إلا تحذيراً .
قال الحافظ الذهبى (( الميزان ))(5/123) : (( العلاء بن زيدل الثقفي بصري روى عن أنس بن مالك كنيته أبو محمد تالف . قال ابن المديني : كان يضع الحديث . وقال أبو حاتم والدارقطني : متروك الحديث . وقال البخاري وغيره : منكر الحديث . وقال ابن حبان : يروي عن أنس بن مالك بنسخة موضوعة لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل التعجب )) . وذكر هذا الحديث من مناكيره ، وقال : (( وهذا باطل )) .
[ الطريق الثانية ] أخرجها ابن عدى (6/289) من طريق محمد بن عبد العزيز الدينوري ثنا عثمان بن الهيثم ثنا عوف عن الحسن عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بكثرة صلاة ولا صيام ، ولكن بسخاء الأنفس وسلامة الصدور )) .
قال أبو أحمد : (( وهذا الحديث بهذا الإسناد ليس يعرف إلا بابن عبد العزيز الدينوري ، وهو من الأحاديث التي أنكرت عليه )) .(1/89)
قلت : والدينورى ليس بثقة ولا مأمون ، ينفرد عن الثقات بالمقلوبات ، ويأتى بالبلايا والطامات ، كأنه المتعمد لها . وهذا الحديث رواه جماعة من الضعفاء عن الحسن البصرى ، واختلفوا عليه ، فمرة عن أنس ، وثانية عن أبى سعيد الخدرى ، وثالثة عن الحسن مرسلاً ، ولا يصح منها كبير شئٍ .
[ الطريق الثالثة ] أخرجها الخلال (( كرامات الأولياء )) ، وابن الجوزى (( الموضوعات )) (3/152) من طريق أبى عمر الغدانى عن أبى سلمة الحرانى عن عطاء عن أنس قال قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( الأبدال أربعون رجلاً وأربعون امرأة ، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً ، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة )) .
قال أبو الفرج : (( وفى إسناده مجاهيل )) يعنى أبا سلمة وأبا عمر لا يعرفان !! .
[ الطريق الرابعة ] أخرجها ابن عساكر (( التاريخ ))(1/292) من طريق نوح بن قيس الحدانى عن عبد الله بن معقل عن يزيد بن أبان الرقاشى عن أنس عن النبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال : (( دعائم أمتى عصائب اليمن ، وأربعون رجلاً من الأبدال بالشام . كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً ، أما إنهم لم يبلغوا ذلك بكثرة صلاةٍ ، ولا صيامٍ ، ولكن بسخاوة الأنفس ، وسلامة الصدور ، والنصيحة للمسلمين )) .
قلت : هذا إسناد واهٍ بمرة . قال الحافظ الذهبى (( الميزان ))(4/204) : (( عبد الله بن معقل بصري عن يزيد الرقاشي . لا يدرى من ذا ؟! . روى عنه نوح بن قيس فقط )) . وأما يزيد بن أبان الرقاشى فمتروك الحديث ذاهب الحديث . قال ابن حبان : (( كان يقلب كلام الحسن فيجعله عن أنس عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو لا يعلم ، فلما كثر في روايته ما ليس من حديث أنس وغيره من الثقات بطل الاحتجاج به ، فلا تحل الرواية عنه إلا على سبيل التعجب ، وكان قاصا يقص بالبصرة ، ويبكي الناس ، وكان شعبة يتكلم فيه بالعظائم )) .
( الرابع ) حديث عبد الله بن عمر(1/90)
أخرجه أبو نعيم (( الحلية ))(1/8) ، وابن عساكر(( تاريخ دمشق ))(1/303،302) ، وابن الجوزى (( الموضوعات ))(3/151) سعيد بن أبي زيدون ثنا عبد الله بن هارون الصوري ثنا الأوزاعي عن الزهري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( خيار أمتي في كل قرن خمسمائة ، والأبدال أربعون فلا الخمسمائة ينقصون ، ولا الأربعون ، كلما مات رجل أبدل الله من الخمسمائة مكانه ، وأدخل من الأربعين مكانهم )) ، قالوا : يا رسول الله دلنا على أعمالهم ؟ ، قال : (( يعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساءهم ، ويتواسون فيما آتاهم الله )) .
قال أبو الفرج : (( موضوع ، وفيه مجاهيل )) ، يعنى الصورى ، وابن أبى زيدون لا يعرفان .
وقال الحافظ الذهبى (( الميزان ))(4/217) : (( عبد الله بن هارون الصوري عن الأوزاعي . لا يعرف . والخبر كذب في أخلاق الأبدال )) ، وأقرَّه ابن حجر فى (( لسان الميزان ))(3/369) .
( الخامس ) حديث أبى هريرة
أخرجه ابن حبان (( المجروحين ))(2/61) ، وابن الجوزى (( الموضوعات ))(3/151) من طريق عبد الرحمن بن مرزوق الطرسوسى عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لن تخلو الأرض من ثلاثين مثل إبراهيم خليل الرحمن ، بهم تغاثون ، وبهم ترزقون ، وبهم تمطرون )) .
قال أبو حاتم بن حبان : (( هذا كذب . عبد الرحمن بن مرزوق بن عوف أبو عوف ؛ شيخ كان بطرسوس يضع الحديث لا يحل ذكره إلا علي سبيل القدح فيه )) .
( السادس ) حديث أبى سعيد الخدرى(1/91)
أخرجه البيهقى (( شعب الإيمان ))(7/439/10893) من طريق محمد بن عمران بن أبي ليلى أنا سلمه بن رجاء عن صالح المري عن الحسن عن أبي سعيد الخدري أو غيره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أبدال أمتي لم يدخلوا الجنة بالأعمال ، ولكن إنما دخلوها برحمة الله ، وسخاوة الأنفس وسلامة لجميع المسلمين )) .
قلت : وهذا حديث منكر ، وله ثلاث آفات :
( الأولى ) صالح بن بشيرٍ المرى القاص ، منكر الحديث جداً يحدث عن قوم ثقات أحاديث مناكير . قال أحمد : كان صاحب قصص يقص ليس هو صاحب آثار وحديث ولا يعرف الحديث . وقال عمرو بن علي الفلاس : هو رجل صالح منكر الحديث جداً ، يحدث عن الثقات بالأباطيل والمنكرات . وقال البخاري : منكر الحديث ذاهب الحديث . وقال السعدي : واهي الحديث . وقال النسائي : متروك الحديث .
( الثانية ) الانقطاع ، فإن الحسن البصرى لم يسمع أبا سعيد الخدرى . قال الحافظ أبو سعيد العلائى (( جامع التحصيل ))(1/163) : (( قال علي بن المديني : رأى الحسن أم سلمة ، ولم يسمع منها ، ولا من أبي موسى الأشعري ، ولا من الأسود بن سريع ، ولا من الضحاك بن سفيان ، ولا من جابر ، ولا من أبي سعيد الخدري ، ولا من ابن عباس ، ولا من عبد الله بن عمر ، ولا من عمرو بن تغلب ، ولم يسمع من أبي برزة الأسلمي ، ولا من عمران بن حصين ، ولا من النعمان بن بشير ، ولم يسمع من أسامة بن زيد شيئا ، ولا من عقبة بن عامر ، ولا من أبي ثعلبة الخشني )) .(1/92)
قلت : وهذا كما قال ؛ إلا سماعه من عمرو بن تغلب . ففى (( كتاب الجهاد )) من (( صحيح البخارى ))(2/157. سندى ) : حدثنا أبو النعمان حدثنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول حدثنا عمرو بن تغلب قال : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ )) .
( الثالثة ) المخالفة ، فقد رواه جماعة عن صالح المرى عن الحسن مرسلا ، وسلمة بن رجاء التيمي الكوفي صدوق يغرب ، ويتفرد بما لا يتابع عليه .
فقد أخرجه البيهقى (( شعب الإيمان ))(7/439) من طريق يحيى بن يحيى أنا صالح المري عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن بدلاء أمتي .. )) بنحوه ، هكذا مرسلاً .
( السابع ) حديث عبد الله بن مسعود(1/93)
أخرجه أبو نعيم (( الحلية ))(1/8) ، ومن طريقه ابن الجوزى (( الموضوعات ))(3/150) من طريق محمد بن السرى القنطري ثنا قيس بن إبراهيم بن قيس السامري ثنا عبد الرحمن بن يحيى الأرمني ثنا عثمان بن عمارة ثنا المعافى بن عمران عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( إن لله عزَّ وجلَّ في الخلق ثلاثمائة ، قلوبهم على قلب آدم عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق أربعون ، قلوبهم على قلب موسى عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق سبعة ، قلوبهم على قلب ابراهيم عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق خمسة ، قلوبهم على قلب جبريل عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق ثلاثة ، قلوبهم على قلب ميكائيل عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق واحد ، قلبه على قلب إسرافيل عليه السلام ، فاذا مات الواحد أبدل الله عز وجل مكانه من الثلاثة ، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله تعالى مكانه من الخمسة ، وإذا مات من الخمسة أبدل الله تعالى مكانه من السبعة ، وإذا مات من السبعة أبدل الله تعالى مكانه من الأربعين ، وإذا مات من الأربعين أبدل الله تعالى مكانه من الثلاثمائة ، وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله تعالى مكانه من العامة ، فبهم يحيي ويميت ، ويمطر وينبت ، ويدفع البلاء )) ، قيل لعبد الله بن مسعود : كيف بهم يحيي ويميت ؟ ، قال : (( لأنهم يسألون الله عز وجل إكثار الأمم فيكثرون ، ويدعون على الجبابرة فيقصمون ، ويستسقون فيسقون ، ويسألون فتنبت لهم الأرض ، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء )) .
قال أبو الفرج : (( إسناده مظلم ، كثير من رجاله مجاهيل ليس فيهم معروف )) .
( الثامن ) حديث على بن أبى طالب(1/94)
أخرجه الإمام أحمد (1/112) قال : حدثنا أبو المغيرة ثنا صفوان حدثني شريح يعني ابن عبيد قال ذكر أهل الشام عند علي بن أبي طالب وهو بالعراق فقالوا : العنهم يا أمير المؤمنين ، قَالَ : لا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( الأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلاً ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ رَجُلاً ، يُسْقَى بِهِمُ الْغَيْثُ وَيُنْتَصَرُ بِهِمْ عَلَى الأَعْدَاءِ ، وَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمُ الْعَذَابُ )) .
أخرجه كذلك أحمد فى (( فضائل الصحابة ))(1727) ، وابن عساكر (1/289) ، والمقدسى (( المختارة ))(2/110/484) جميعا بهذا الإسناد مثله .
قلت : وهذا الإسناد منقطع ، فإن شريح بن عبيد الشامى لم يسمع من على بن أبى طالب .
وقد روى بإسنادين آخرين مرفوعا :
( الأول ) أخرجه ابن أبى الدنيا (( الأولياء ))(8) : نا أبو الحسين الواسطي خلف بن عيسى نا يعقوب بن محمد الزهري نا مجاشع بن عمرو عن ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن عبد الله بن زرير عن علي قال : سألت رسول الله عن الأبدال ، قال : (( هم ستون رجلا )) ، قلت : يا رسول الله جلهم لي ؟ ، قال : (( ليسوا بالمتنطعين ، ولا بالمبتدعين ، ولا بالمتعمقين ، لم ينالوا ما نالوا بكثرة صيام ، ولا صلاة ، ولا صدقة ، ولكن بسخاء النفس وسلامة القلوب والنصيحه لأئمتهم ، إنهم يا علي من أمتي أقل من الكبريت الاحمر )) .
قلت : وهذا حديث كذب من وضع مجاشع بن عمرو ، فإنه أحد الكذابين . قال ابن حبان : كان ممن يضع الحديث على الثقات ويروي الموضوعات عن أقوام ثقات لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار للخواص .(1/95)
( الثانى ) أخرجه الطبرانى (( الأوسط ))(4/176/3905) ، وابن عساكر (1/334) من طريقين عن الوليد بن مسلم وزيد بن أبى الزرقاء عن ابن لهيعة نا عياش بن عباس القتبانى عن عبد الله بن زرير الغافقي عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال : (( يكون في آخر الزمان فتنة يحصَّل فيها الناس كما يحصَّل الذهب في المعدن ، فلا تسبوا أهل الشام ولكن سبُّوا شرارهم ، فان فيهم الأبدال ، يوشك أن يُرسل على أهل الشام سيب من السماء ، فيغرق جماعتهم ، حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم ، فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات ، المكثر يقول هم خمسة عشر ألفاً ، والمقل يقول هم اثنا عشر ألفاً ، أمارتهم : أمت أمت ، يلقون سبع رايات ، تحت كل راية منها رجل يطلب الملك ، فيقتلهم الله جميعا ، ويرد الله الى المسلمين ألفتهم ونعمتهم وقاصيهم ودانيهم )) .
قلت : وهذا وهم وخطأ ، إذ رواه ابن لهيعة حال اضطرابه واختلاطه ، فخالف الثقات الأثبات . فقد رواه الحارث بن يزيد الحضرمى ـ أحد أثبات ثقات المصريين ـ عن عبد الله بن زرير عن على موقوفا ، ولم يرفعه .
أخرجه ابن عساكر (1/335) من طريق أحمد بن منصور الرمادى نا عبد الله بن صالح حدثنى أبو شريح عبد الرحمن بن شريح المعافرى أنه سمع الحارث بن يزيد ثنى عبد الله بن زرير أنه سمع على بن أبى طالب يقول : لا تسبوا أهل الشام ، فإن فيهم الأبدال .
وما صحَّ من أسانيده موقوفا على على بن أبى طالب ، ليس فيه ذكر عددهم ولا أوصافهم ، وهو بها أثبت وأصحَّ منه مرفوعا .
فقد أخرج ابن المبارك (( الجهاد ))(192) عن معمر عن الزهري قال أخبرني صفوان بن عبد الله بن صفوان أن رجلا قال يوم صفين : اللهم العن أهل الشام ، فقال علي : لا تسبوا أهل الشام جما غفيرا ، فإن فيهم قوما كارهون لما ترون ، وإن فيهم الأبدال .(1/96)
وأخرجه الضياء (( المختارة ))(2/112) من طريق صالح بن كيسان عن الزهرى حدثني صفوان بن عبد الله بن صفوان أن عليا قام بصفين وأهل العراق يسبون أهل الشام فقال : فذكر نحوه .
والحديث يروى من غير وجهٍ عن على موقوفاً ، والحديث موقوفا عن على بن أبى طالب أصح وأشهر .
قلت : وبقية أحاديث الأبدال مراسيل لا تنتهض بمثلها الحجة ، كيف وقد بان أن المرفوعات كلها واهية بمرة .
بيان وإيضاح
اعلم أحسن الله مثوبتك . وتولى رعايتك . وايَّدك بالحق . وأيَّد الحقَّ بك :
أنَّ الذى ندين الله به ، ونعتقده واجباً لازما ، بعد قيام الدلالة بمقتضى ما بيناه من بطلان الأحاديث الآنفة الذكر ، أن هذه الألفاظ (( الأبدال )) و (( الأوتاد )) و (( الأقطاب )) و (( الغوث الفرد )) ، وغيرها مما تتهوعها قلوب المؤمنين الموقنين ، لم تكن تدور قطعاً على ألسنة الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولم ترد بها أحاديث صحاح تؤكد صحة مدلولاتها ، على مقتضى كلام مَنْ أكثرَ استعمالها ، ولهجَ بذكرِها ، وأجراها على وفق قوانين وقواعد مبتدعة ، ضاهت عند بعضهم الشرك الأكبر ، وأكثرُهم من المنتمين إلى الشيعة ، والرافضة ، والصوفية .
وما اُستعمل منها على ألسنة أكابر أئمة السنة والجماعة ، كالإمام ابن المبارك والأوزاعى والشافعى وأحمد وابن معين والبخارى وغيرهم من رفعاء أهل السنة ، وخاصةً لفظ (( الأبدال )) فمحمول على معانٍ محمودة ، ومدائح جائزة . وربما وقع الاشتباه فى دلالات هذه الألفاظ ، من جهة المعهود الذهنى لمعانيها عند المخالفين من أهل الطوائف المبتدعة ، كالشيعة الباطنية ، والصوفية الإتحادية . وأما مع المجانبة والحذر من مشابهتهم ، فلا مشاحة فى استعمال هذه الألفاظ حبنئذٍ ، على المعانى الجائزة مما تبيحه أدلة الكتاب والسنة .(1/97)
فلا يظن أحدٌ أن قول الإمام الحجة أبى عبد الله الشافعى عن شيخه يحيى بن سليم الطائفى : كنا نعده من الأبدال ، أنَّه يعنى أن شيخه الطائفى أحد الأربعين أشباه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ ، الذين كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلاً ، ولا يعنى أن شيخه أحد من يستغاث بهم ، ويستنزل بهم القطر والرزق . وهذا مما لا ينبغى الإسهاب فى بيان بطلان اعتقاده ، وحمل كلام أئمتنا عليه .
ألا تراهم يقولون فى المديح ما لا يسعهم فعله ، فضلاً عن اعتقاده ، كقولهم (( فلان كعبة المحتاج لا كعبة الحُجَّاج ، ومَشْعَر الكرم لا مشعر الحَرَم ، ومِنَى الضيف لا مِنَى الخَيْف ، وقِبْلَة الصِّلاتِ لا قِبْلَة الصَّلاة )) ، وهذا كثير دائر على ألسنة الأدباء الأبيناء البلغاء من أهل السنة . وعليه فقولهم عن رجل (( فلان من الأبدال )) ، محمول على معانٍ من الثناء والمديح والمحامد الجائزة ، مما لا مساس معها بالمحظورات العقائدية . وما كان منها على خلاف هذه الدلالة ، فمردود على قائله أو متأوله ، فمن ذلك قول شهاب بن معمر البلخى عن الإمام حماد بن سلمة : كان يُعد من الأبدال ، تزوج سبعين امرأة فلم يولد له . ألا ترى أن مسحة الصوفية قد أذهبت رونق المدح والثناء ، فأحالت المدح قدحاُ ، والثناء هجاءاً . وقارن ذلك بقول ابن المبارك عنه : ما رأيت أحداً أشبه بمسالك الأوائل من حماد بن سلمة ، تجد بينهما بوناً شاسعاً ، تستلطف معه كلام ابن المبارك ، وتلقى إليه سمعك ، بينما تستغرب ما صدر عن البلخى .
فإذا وضحت هذه اللمعة ، فلنذكر طرفاً من الاستعمالات الجائرة لهذه الألفاظ عند الصوفية .(1/98)
فهذا الشيخ عبد الرؤوف المناوى يوضح حقيقة البَدَل على اعتقادهم ، فيقول فى (( فيض القدير )) : (( وإذا رحل البدلُ عن موضعٍ ترك بدله فيه حقيقة روحانية ؛ يجتمع إليها أرواح أهل ذلك الموطن الذي رحل عنه هذا الولي ، فإن ظهر شوقٌ من أناس ذلك الموطن شديد لهذا الشخص ، تجسدت لهم تلك الحقيقة الروحانية التي تركها بدلُه ، فكلمتهم ، وكلموها ، وهو غائب عنهم ، وقد يكون هذا من غير البدل ، لكن الفرق بينهما أن البدل يرحلُ ويعلمُ أنه ترك غيره ، وغيرُ البدل لا يعرفُ ذلك وإن تركه )) .
ولا أظنك وأنت تقرأ هذا الغثاء ، إلا تعوذت بالله من هذه الأباطيل ، وقلت مسارعاً (( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً )) ، ودعوت عائذاً (( رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ . وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ )) .(1/99)
وها هو يقول ما تقشعر منه الجلود ، وتشمئز منه الأفئدة : (( الأَبدال ـ بفتح الهمزة ـ جمع بَدَل بفتحتين ، خصهم الله تعالى بصفات : منها أنهم ساكنون إلى الله بلا حركة ، ومنها حسن أخلاقهم في هذه الأمة ، ( ثلاثون رجلا ) قيل سموا أبدالا ، لأنهم إذا غابوا تبدل في محلهم صور روحانية تخلفهم ، ( قلوبهم على قلب إبراهيم ) خليل الرحمن عليه السلام ، أي انفتح لهم طريق إلى الله تعالى على طريق إبراهيم عليه السلام ، وفي رواية ( قلوبهم على قلب رجل واحد ) قال الحكيم الترمذى : إنما صارت هكذا ، لأن القلوب لهت عن كل شيء سواه ، فتعلقت بتعلق واحد ، فهي كقلب واحد . قال في (( الفتوحات )) : قوله هنا ( على قلب إبراهيم ) ، وقوله في خبر آخر ( على قلب آدم ) ، وكذا قوله ( على قلب شخص من أكابر البشر أو من الملائكة ) معناه : أنهم يتقلبون في المعارف الإلهية بقلب ذلك الشخص ، إذ كانت واردات العلوم الإلهية إنما ترد على القلوب ، فكل علم يرد على قلب ذلك الكبير من ملك أو رسول ، يرد على هذه القلوب التي هي على قلبه ، وربما يقول بعضهم : فلان على قدم فلان ، ومعناه ما ذكر . وقال القيصري الرومي عن العارف ابن عربي : إنما قال ( على قلب إبراهيم عليه السلام ) لأن الولاية مطلقة ومقيدة ، والمطلقة هي الولاية الكلية التي جميع الولايات الجزئية أفرادها ، والمقيدة تلك الأفراد ، وكل من الجزئية والكلية تطلب ظهورها ، والأنبياء قد ظهر في هذه الأمة جميع ولاياتهم على سبيل الإرث منهم ، فلهذا قال هنا ( على قلب إبراهيم عليه السلام ) ، وفي حديث آخر ( على قلب موسى عليه السلام ) ، وفلان ، وفلان ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الولاية الكلية من حيث أنه صاحب دائرة الولاية الكلية ، لأن باطن تلك النبوية الكلية الولاية المطلقة الكلية ، ولما كان لولاية كل من الأنبياء في هذه الأمة مظهراً ، كان من ظرائف الأنبياء أن يكون في هذه الأمة من هو على قلب(1/100)
واحد من الأنبياء . ( كلما مات رجل ) منهم ، ( أبدل الله مكانه رجلا ) فلذلك سموا أبدالا ، أو لأنهم أبدلوا أخلاقهم السيئة وراضوا أنفسهم حتى صارت محاسن أخلاقهم حلية أعمالهم .
وظاهر كلام أهل الحقيقة ؛ أن الثلاثين مراتبهم مختلفة . قال العارف المرسي : جُلْتُ في الملكوت فرأيت أبا مدين معلقا بساق العرش ، رجل أشقر أزرق العين ، فقلت له : ما علومك ومقامك ؟ قال : علومي أحد وسبعين علما ، ومقامي رابع الخلفاء ، ورأس الأبدال السبعة ، قلت : فالشاذلي ! ، قال : ذاك بحر لا يحاط به . قال العارف المرسي : كنت جالسا بين يدي أستاذي الشاذلي ، فدخل عليه جماعة ، فقال : هؤلاء أبدال ، فنظرت ببصيرتي ، فلم أرهم أبدال ، فتحيرت ، فقال الشيخ : من بدلت سيئاته حسنات ، فهو بدل ، فعلمت أنه أول مراتب البدلية . وأخرج ابن عساكر أن ابن المثنى سأل أحمد بن حنبل : ما تقول في بشر الحافي بن الحارث ؟ ، قال : رابع سبعة من الأبدال )) اهـ بنصه من غير تحريف ولا تصرف .
وألقِ سمعك هذه الخرافة المأثورة عن شيخِهم الأكْبر ، ذى المآثر التى تخبلُ العقول وتَبْهَر ـ أعنى ابن عربى الحاتمى ـ حيث يقول عن نفسه (( الأوتاد الذين يحفظ الله بهم العالم أربعة فقط ، وهم أخص من الأبدال ، والإمامان أخص منهم ، والقطب أخص الجماعة . ولكل وتد من الأوتاد الأربعة ركن من أركان البيت ، ويكون على قلب نبي من الأنبياء ، فالذى على قلب عيسى له اليماني ، والذي على قلب آدم له الركن الشامي ، والذي على قلب إبراهيم له العراقي ، والذي على قلب محمد له ركن الحجر الأسود ، وهو لنا ـ يعنى نفسه ـ )) كذا حكاه المناوى
وكتب القوم طافحة بهذه التعبيرات الجائرة عن طريق الاستقامة ، أعاذنا الله من الزيغ بعد الهداية . والحمد لله أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً .
البيان المأمول عن عِدَّة من وصفهم ابنُ حجر بقوله (( مقبول ))(1/101)
الحمد لله المتعزِّز فى عليائه ، المتوحِّد فى عظمته وكبريائه ، النافذ أمرُه فى أرضه وسمائه ، حمدا يكافئ المزيد من أفضاله ونعمائه ، ويكون ذخراً لقائله عند ربه يوم لقائه . والصلاة والسلام الدائمان على المصطفى من رسل الله وأنبيائه ، ورضى الله عن آله وصحبه وأصفيائه . وبعد ...
فقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلانى فى كتابه (( تقريب التهذيب )) فى مرتبة (( مقبول )) جماعة من الثقات ، ممن احتجَّ بهم الشيخان فى (( الصحيحين )) ، وخرَّج أئمة الصحاح أحاديثهم وتمام هذا النمط من الثقات فى (( التقريب )) : أربع ومائة ( 104 ) راوياً .
ولا يغيبنَّ عنك ـ بادئ ذى بدء ـ أن طبقات الرواة كما فصَّلها الحافظ فى مقدمة (( التقريب )) منحصرة فى اثنتى عشرة طبقة ، وأن أول هذه الطبقات الصحابة على اختلاف مراتبهم ، وآخرها صغار الآخذين عن تبع الأتباع أمثال : الحافظين عبد الله بن أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نصر المروزى .
وهؤلاء المقبولين من رجال الصحيحين موزعون على هذه الطبقات المتفاوتة ، وهاك بيانهم ، مبتدئاً بمن خرَّجا له ، وإليه الإشارة بعلامة [ خ م ] ، ثم بمن تفرد عنه البخارى ، وإليه الإشارة بعلامة [ خ ] ، ثم بمن تفرد عنه مسلم ، وإليه الإشارة بعلامة [ م ] :
[ الطبقة الثانية ] 3 رواة ، وبيانهم :
(1) مالك بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو المدلجى . [ خ ]
(2) خالد بن عمير العدوى البصرى . [ م ]
(3) طلق بن معاوية النخعى أبو غياث الكوفى . [ م ]
[ الطبقة الثالثة ] 30 راوياً ، وبيانهم :
(1) رافع المدنى بواب مروان بن الحكم . [ خ م ]
(2) عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر التيمى المدنى . [ خ م ]
(3) عمر بن عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث الزهرى المدنى . [ خ م ]
(4) معبد بن كعب بن مالك الأنصارى السلمى المدنى . [ خ م ]
(5) إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومى المدنى . [ خ ]
(6) عبيد بن أبى مريم المكى . [ خ ](1/102)
(7) عوف بن الحارث بن الطفيل بن سخبرة بن جرثومة الأزدى . [ خ ]
(8 ) نبهان القرشى الجمحى أبو صالح المدنى والد صالح مولى التوأمة . [ خ ]
(9) يزيد بن أبى كبشة السكسكى الشامى الدمشقى . [ خ ]
(10) أبو بكر بن عبيد الله بن أبى مليكة التيمى المكى . [ خ ]
(11) جعفر بن أبى ثور عكرمة السوائى أبو ثور الكوفى . [ م ]
(12) جعفر بن عمرو بن حريث القرشى المخزومى الكوفى . [ م ]
(13) حبيب الأعور المدنى ، مولى عروة بن الزبير . [ م ]
(14) خالد بن غلاق القيسى أبو حسان البصرى . [ م ]
(15) عامر بن سعد البجلى الكوفى . [ م ]
(16) عبد الله بن شهاب الخولانى أبو الجزل الكوفى . [ م ]
(17) عبد الله بن محمد بن معن المدنى . [ م ]
(18 ) عبد الرحمن بن بشر بن مسعود أبو بشر المدنى الأزرق . [ م ]
(19) عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة بن نوفل الزهرى أبو المسور المدنى . [ م ]
(20) عبد الرحمن بن مهران المدنى أبو محمد مولى الأزد . [ م ]
(21) مسلم بن قرظة الأشجعى الشامى . [ م ]
(22) مصدع أبو يحيى الأعرج المعرقب ، مولى معاذ بن عفراء . [ م ]
(23) المنذر بن جرير بن عبد الله البجلى الكوفى . [ م ]
(24) وهب بن ربيعة الكوفى . [ م ]
(25) يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفى الطائفى . [ م ]
(26) أبو بكر بن عمارة بن رويبة الثقفى الكوفى . [ م ]
(27) أبو سعيد مولى المهرى . [ م ]
(28 ) أبو شعبة الكوفى مولى سويد بن مقرن المزنى . [ م ]
(29) أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود الأسدى . [ م ]
(30) أبو عبيدة بن عقبة بن نافع الفهرى المصرى . [ م ]
[ الطبقة الرابعة ] 16 رواة ، وبيانهم :
(1) القاسم بن عاصم التميمى الليثى البصرى . [ خ م ]
(2) عطاء أبو الحسن السوائى الكوفى . [ خ ]
(3) أبو يزيد المدينى البصرى . [ خ ]
(4) سالم بن أبى سالم الجيشانى المصرى . [ م ]
(5) صهيب أبو الصهباء البكرى البصرى . [ م ](1/103)
(6) عبد الله بن عمرو بن عبدٍ القارى ، ابن أخى عبد الرحمن بن عبدٍ القارى . [ م ]
(7) عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوى المدنى . [ م ]
(8 ) عبد الرحمن بن عبد الله المازنى أبو حمزة البصرى ، جار شعبة . [ م ]
(9) مسلم بن هيصم العبدى . [ م ]
(10) مسلم بن يسار المصرى أبو عثمان الطنبذى ، جليس أبى هريرة . [ م ]
(11) موسى بن سعد بن زيد بن ثابت الأنصارى المدنى .
(12) أبو سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز الخزاعى .
(13) أبو شمر الضبعى البصرى .
(14) أبو عيسى الأسوارى البصرى .
(15) أبو يحيى مولى آل جعدة بن هبيرة المخزومى .
(16) أبو الوليد المكى ، يقال أنه : سعيد بن ميناء . [ م ]
[ الطبقة الخامسة ] 4 رواة ، وبيانهم :
(1) عمر بن عبد الرحمن بن محيصن السهمى أبو حفص المكى . [ م ]
(2) يحيى بن يزيد الهنائى أبو نصر البصرى . [ م ]
(3) يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمى . [ م ]
(4) أبو عصام البصرى . [ م ]
[ الطبقة السادسة ] 19راوياً ، وبيانهم :
(1) عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدى المدنى . [ خ م ]
(2) محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب المطلبى . [ خ م ]
(3) معن بن محمد بن معن بن نضلة بن عمرو الغفارى . [ خ م ]
(4) أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف الأنصارى الأوسى المدنى . [ خ م ]
(5) معمر بن يحيى بن سام بن موسى الضبى الكوفى . [ خ ]
(6) أمية بن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحى . [ م ]
(7) بكير بن عبد الله الطائى الكوفى ، المعروف بالضخم . [ م ]
(7) خالد بن عبد الله بن حرملة المدلجى . [ م ]
(8 ) عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس الحجازى . [ م ]
(9) عبد الله بن عبيد الله بن أبى رافع المدنى . [ م ]
(10) عبد الله بن كثير بن المطلب بن أبى وداعة السهمى المكى . [ م ]
(11) عبد الله بن هانىء بن عبد الله بن الشخير العامرى الحرشى . [ م ](1/104)
(12) عبد الرحمن بن أبى الشعثاء المحاربى الكوفى ، أخو أشعث . [ م ]
(13) عبيد الله بن عبد الله بن الأصم العامرى . [ م ]
(14) عمر بن إسحاق المدنى مولى زائدة . [ م ]
(15) مختار بن صيفى الكوفى . [ م ]
(16) مسعود بن مالك بن معبد الأسدى الكوفى . [ م ]
(17) الوليد بن حرب الأشعرى الكوفى . [ م ]
(18 ) الوليد بن عطاء بن خباب الحجازى . [ م ]
(19) يزيد بن أبى سعيد المدنى مولى المهرى . [ م ]
[ الطبقة السابعة ] 9 رواة ، وبيانهم :
(1) عبيد الله بن محرز الكوفى . [ خ ]
(2) عمر بن العلاء بن عمار المازنى ، أخو أبى عمرو بن العلاء . [ خ ]
(3) محمد بن عبد الله بن أبى عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر التيمى المدنى . [ خ ]
(4) سعيد بن عبد الرحمن بن أبى سعيد الخدرى ، الأنصارى ، المدنى . [ م ]
(5) شعيب بن صفوان بن الربيع بن الركين الثقفى ، أبو يحيى الكوفى . [ م ]
(6) عقبة بن التوأم . [ م ]
(7) محمد بن شيبة بن نعامة الضبى الكوفى . [ م ]
(8 ) محمد بن عبد الرحمن بن عنج نزيل مصر . [ م ]
(9) مهاجر بن مسمار الزهرى المدنى ، أخو بكير بن مسمار . [ م ]
[ الطبقة الثامنة ] راويان ، وبيانهم :
(1) جابر بن إسماعيل الحضرمى أبو عباد المصرى . [ م ]
(2) هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص المخزومى المكى . [ م ]
[ الطبقة العاشرة ] 8 رواة ، وبيانهم :
(1) بور بن أصرم أبو بكر المروزى . [ خ ]
(2) عبد العزيز بن عثمان بن جبلة بن أبى رواد أبو الفضل المروزى . [ خ ]
(3) على بن حفص المروزى أبو الحسن العسقلانى . [ خ ]
(4) يحيى بن قزعة المكى المؤذن . [ خ ]
(5) رفاعة بن الهيثم بن الحكم أبو سعيد الواسطى . [ م ]
(6) عيسى بن المنذر السلمى أبو موسى الحمصى . [ م ]
(7) موسى بن خالد أبو الوليد الشامى ختن الفريابى . [ م ]
(8 ) يحيى بن أبى عمر ، والد محمد بن يحيى بن أبى عمر العدنى . [ م ]
[ الطبقة الحادية عشرة ] 10 رواة ، وبيانهم :(1/105)
(1) شجاع بن الوليد أبو الليث البخارى . [ خ ]
(2) على بن عبد الله بن إبراهيم البغدادى . [ خ ]
(3) على بن الهيثم البغدادى صاحب الطعام . [ خ ]
(4) محمد بن جعفر بن أبى مواتية ، أبو جعفر العلاف ، المعروف بالفيدى . [ خ ]
(5) أحمد بن جعفر المعقرى أبو الحسن البزاز المكى . [ م ]
(6) عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر بن عبد الرحمن بن وابصة الأسدى . [ م ]
(7) عبيد الله بن محمد بن يزيد بن خنيس المخزومى أبو يحيى المكى . [ م ]
(8 ) محمد بن قدامة بن إسماعيل السلمى أبو عبد الله البخارى . [ م ]
(9) موسى بن قريش بن نافع التميمى البخارى . [ م ]
(10) يحيى بن محمد بن معاوية المروزى ، أبو زكريا اللؤلؤى . [ م ]
[ الطبقة الثانية عشرة ] 3 رواة ، وبيانهم :
(1) الحسين بن يحيى بن جعفر بن أعين البارقى البخارى البيكندى . [ خ ]
(2) حماد بن حميد الخراسانى ، قال البخارى : صاحب لنا . [ خ ]
(3) محمد بن النضر بن عبد الوهاب النيسابورى . [ خ ]
فهذا تمام عدَّة الثقات المحتجِّ بهم فى (( الصحيحين )) ، والموسومين بـ (( مقبول )) عند الحافظ ابن حجر .
[ بيان أول ] عرَّف الحافظ (( المقبول )) بقوله : (( من ليس له من الحديث إلا القليل ، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله )) .
وقال الشيخ وليد بن حسن العانى ـ طيَّب الله ثراه ـ فى كتابه القيم (( منهج دراسة الأسانيد ))(ص52) : (( لقد تتبعت الكثير من هؤلاء المقبولين ، فرأيت غالبهم ممن له الحديث الواحد ، أو الحديثان ، وقلَّ منهم من يتناول الثلاثة ، أما فوقها فهو نادر . وأكثر راوٍ أدخله ابن حجر فى هذه المرتبة راوياً عنده ستة أحاديث )) اهـ .(1/106)
قلت : بل أكثر راوٍ فى المقبولين من له ستة وعشرون حديثاً ، وهو يحيى بن قزعة المؤذن المكى شيخ البخارى ، فله عنه من روايته عن إبراهيم بن سعد الزهرى : إحدى عشر حديثاً ، ومن روايته عن مالك بن أنس : خمسة عشر حديثاً ، فتمام أحاديثه فى (( صحيح البخارى )) ستة وعشرون حديثاً ، ولا أعلم أحداً من المقبولين له هذا العدد من الأحاديث . وقد استقصيت أحاديثه فى (( المنهج المأمول ببيان معنى قول ابن حجر مقبول )) ، ومن لطائف أحاديثه :
(1) قال البخارى ( 4286 . فتح ) : حدثنا يحيى بن قزعة ثنا مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ : (( اقْتُلْهُ )) . قَالَ مَالِكٌ : وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نُرَى وَاللهُ أَعْلَمُ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا .
(2) قال البخارى ( 4412 . فتح ) : حدثنا يحيى بن قزعة ثنا مالك عن ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس أخبره : أَنَّهُ أَقْبَلَ يَسِيرُ عَلَى حِمَارٍ ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَسَارَ الْحِمَارُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ ، فَصَفَّ مَعَ النَّاسِ .
(3) قال البخارى (5353 . فتح ) : حدثنا يحيى بن قزعة ثنا مالك عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أَوِ الْقَائِمِ اللَّيْلَ ، الصَّائِمِ النَّهَارَ )) .(1/107)
(4) قال البخارى (3689 . فتح ) : حدثنا يحيى بن قزعة ثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ ، فَإِنَّهُ عُمَرُ )) .
[ بيان ثانٍ ] تمام عدَّة المقبولين فى (( التقريب )) من الرجال : ألف وخمسمائة وخمسة وثلاثون ( 1535 ) راوياً ، موزعون على الطبقات المتفاوتة ، وأكثرهم عدداً رجال الطبقة الثالثة ، فهم يبلغون أربعمائة ( 400 ) راوٍ ، وأقلهم رجال الطبقة الثانية عشر ، إذ يبلغون ستة وعشرين راوياً فقط . وأما النساء ، فعدَّتهن : خمس وستون ( 65 ) امرأةً ، موزعات على الطبقات من الثانية حتى السابعة ، وأكثرهن عدداً نساء الطبقة الثالثة ، فهن يبلغن أربعين امرأةً ، وأقلهن عدداً فى الطبقة السابعة ، ففيها امرأة واحدة ، هى غبطة بنت عمرو أم عمرو البصرية .
النبراس ببيان كذب التقاء النَّبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلياس
الحمد لله الذى إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ . والصلاة والسلام على المخصوص بالسيادة والشرف المصون . والمنزل عليه وحياً فى الكتاب المكنون . (( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ )) . وعلى آله وصحبه المصدقين له والمؤمنين به وبالآخرة هم يوقنون . (( أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) . وبعد ..
فقد يلهج كثير من الخطباء والوعاظ ، بذكر هذه القصص الواهية ، التى ابتدعها الوضَّاعون من القصاص ، وجهلة الزهَّاد والعبَّاد ، سيما قصص الأنبياء من بنى إسرائيل .(1/108)
ولا يغيبن عنك أن تاريخ أنبياء بنى إسرائيل مفعم بالأمور العجائب ، والأقاصيص الغرائب ، مما جعله مرتعاً خصباً لاختلاق الأحاديث وتلفيقها ، ونسبة هذا الغثاء إلى الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى .
يقول محقق (( موضوعات ابن الجوزى ))(1/10) : (( لم تكن حركة وضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حركة ارتجالية عفوية في كل الأحيان ، إنما تطورت إلى حركة مدروسة هادفة ، وخطة شاملة ، لها خطرها وآثارها . كان من نتائجها المباشرة على العديد من أجيال المسلمين في العديد من أقطارهم ، شيوع ما لا يحصى من الآراء الغريبة ، والقواعد الفقهية الشاذة ، والعقائد الزائفة ، والافتراضات النظرية المضحكة ، التى أيدتها ، وتعاملت بها ، وروجت لها ، فرق وطوائف معينة ، لبست مسوح الدروشة والتصوف حينا ، والفلسفة حينا ، والعباد والزهاد أحيانا . وجافت في غالب أحوالها السلوك السوى ، والفكر والعقل السليم ، فضلا عن مجافاتها الصارخة لكتاب الله العظيم ، وهدى نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام )) اهـ .
ومما أوردوا من الواهيات الموضوعات : قصة التقاء النَّبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلياس عليه السلام ، وذكروا حديثين :
[ الأول ] حديث أنس بن مالك(1/109)
قال ابن أبى الدنيا (( الهواتف ))(102) : حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنِ يَزِيدَ الموصلى التيمى مولى لهم حدثنا أبو إسحاق الجُرَشِىّ عن الأوزاعي عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال : (( غزونا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حتَّى إذا كنا بفج الناقة عند الحجر ، إذا نحن بصوتٍ يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة ، المغفورة لها ، المتاب عليها ، المستجاب لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : يا أنس انظر ما هذا الصوت ؟! ، فدخلت الجبل ، فإذا أنا برجلٍ أبيض الرأس واللحية ، عليه ثيابٌ بيضٌ ، طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فلما نظر إلىَّ قال : أنت رَسُولُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ، قلت : نعم ، قال : ارجع إليه فأقرئه منى السلام ، وقل له : هذا أخوك إلياس يريد يلقاك ، فجاء النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا معه ، حتى إذا كنا قريبا منه ، تقدَّم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأخرت فتحدثا طويلا ، فنزل عليهما من السماء شِبْهُ السُّفْرَةَ ، فدعواني ، فأكلت معهما ، فإذا فيه كمأة ورمان وكرفس ، فلما أكلت ، قمت فتنحيت ، وجاءت سحابة ، فاحتملته ، أنظر إلى بياض ثيابه فيها ، تهوى به قِبَلَ الشام ، فقلت للنبى صلى الله عليه وسلم : بأبى أنت وأمى ، هذا الطعام الذى أكلنا من السماء نزل عليك ؟ ، فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سألته عنه ، فقال : أتانى به جبريل في كل أربعين يوماً أكلة ، وفى كل حولٍ شربة من ماء زمزم ، وربما رأيته على الجب يمد بالدلو ، فيشرب ، وربما سقاني )) .
وأخرجه كذلك ابن الجوزى (( الموضوعات ))(1/200) من طريق ابن أبى الدنيا بسنده ومتنه سواء .(1/110)
وأخرجه أبو الشيخ بن حيَّان (( العظمة ))(5/1530) قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن داود ثنا أحمد بن هاشم ثنا يزيد أبو خالد البلوي ثنا أبو إسحاق الجُرَشِيّ به نحوه .
وتابعهما عن يزيد بن يزيد : أحمد بن عبد الله البرقى ، إلا أنه خالفهما على سنده ، فقال (( أبو إسحاق الفزارى )) ، وأتى بمعانٍ مغايرة فى وقت فطره ، ووصف المائدة ، ولم يذكر شربه من زمزم مرة كل عامٍ .
فقد أخرجه الحاكم (2/674) قال : حدثني أبو العباس أحمد بن سعيد المعداني ببخارا أنا عبد الله بن محمود نا عبدان بن سيَّار حدثني أحمد بن عبد الله البرقي ثنا يزيد بن يزيد البلوي ثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي عن مكحول عن أنس بن مالك قال : (( كنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر ، فنزلنا منزلا ، فإذا رجل في الوادي يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة ، المغفورة المتاب عليها ، قال : فأشرفت على الوادي ، فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فقال لي : من أنت ؟ ، قلت : أنا أنس بن مالك خادم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قال : فأين هو ؟ ، قلت : هو ذا يسمع كلامك ، قال : فائته فاقرئه السلام ، وقل له : أخوك إلياس يقرئك السلام ، قال : فأتيت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فأخبرته ، فجاء حتى لقيه فعانقه وسلَّم ، ثم قعدا يتحدثان ، فقال له : يا رسول الله إني ما آكل في السنة إلا يوما ، وهذا يوم فطري ، فآكل أنا وأنت ، قال : فنزلت عليهما مائدة من السماء ، عليها خبز وحوت وكرفس ، فأكلا وأطعماني ، وصلينا العصر ، ثم ودَّعه ، فرأيته مرَّ في السحاب نحو السماء )) .
وأخرجه البيهقى (( دلائل النبوة ))(5/422:421) قال : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ بسنده ومتنه سواء .
وأخرجه ابن عساكر (( تاريخ دمشق ))(9/212) من طريق البيهقى به مثله .
وقال أبو عبد الله الحاكم : (( صحيح الإسناد ولم يخرجاه )) .(1/111)
وقال أبو بكر البيهقي : (( إسناد هذا الحديث ضعيف بمرة )) .
وتعقبه الحافظ الذهبى بقوله : (( هذا موضوع ، قبَّح الله من وضعه . وهذا مما افتراه يزيد البلوي )) .
وقال أبو الفرج بن الجوزى : (( هذا حديث موضوع لا أصل له . ويزيد الموصلي ، وأبو إسحاق الجُرَشِيّ لا يعرفان . وقد روى أبو بكر النقاش أن محمد بن إسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإلياس هل هما في الاحياء ؟ ، فقال : كيف يكون هذا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على ظهر الأرض أحد )) .
قلت : وهو كما قال الحافظان ابن الجوزى والذهبى ، وقد افتضح واضع هذا الحديث بالجهل والسذاجة . فأمارات الوضع لائحة عليه ، لا تخفى على من له أدنى معرفة بحقائق الشريعة ، ومن الدلائل على وضعه :
[ أولاً ] قوله (( طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع )) ، فهذا من أسمج الكلام وأبعده عن حقيقة خلق بنى آدم ، بله وخلق أبيهم آدم عليه السلام ، فإنه لم يزد على ستين ذراعاً . ففى (( كتاب الأنبياء )) من (( صحيح البخارى ))(3079) قال : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( خَلَقَ اللهُ آدَمَ ، وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ، ثُمَّ قَالَ : اذْهَبْ ، فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْمَلائِكَةِ ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ : تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ ، فَقَالَ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ ، فَقَالُوا : السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللهِ ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ )) .
فهذا بيِّن أن طول إلياس عليه السلام دون الستين ذراعاً (( فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ )).(1/112)
[ ثانياً ] أنه لو كان إلياس عليه السلام حيَّاً زمن بعثة النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ ما وسعه أن يجوب الفلوات ، ويسكن الكهوف والمغارات ، ويأوى مجاهل الشام ، ولا يأتى بين يدى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليؤمن به ويؤازره وينصره ، ويندرج فى جملة أصحابه وأتباعه ، تصديقاً لقول الله تعالى (( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )) .
وقد قال الإمام أحمد (3/387) : حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ ثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ ، أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ ، فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَغَضِبَ ، فَقَالَ : (( أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً ، لا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ ، فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا ، مَا وَسِعَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي )) .(1/113)
ولو كان باقياً بعد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كما يدعيه غلاة الصوفية ، لكان تبليغه للبراهين القرآنية ، والأخبار المصطفوية ، وقتاله مع المسلمين فى الغزوات ، وشهوده للجمع والجماعات ، ومؤازرته للعلماء والحكام ، وبيانه لأصول وفروع الأحكام ، وإحياءه للسنة النبوية ، وإماتته للمذاهب البدعية ، أزكى وأنفع وأفضل له ولأمة محمَّدٍ من كمونه بالمغارات ، وجوبه الصحارى والفلوات !! . وهذا من أوضح الأدلة وأنصعها على كذب من ادَّعى حياته ، والتقاءه بسيد المرسلين ، واجتماعه بالخضر كل عام فى الحج ، فيحلق كل واحدٍ منهما رأس صاحبه ، ويشربان من زمزم شربةً تكفيهما إلى العام المقبل .
[ ثالثاً ] هذا الاضطراب فى وقت أكله وإفطاره ، ففى رواية الجوهرى (( في كل أربعين يوما أكلة )) ، وفى رواية البرقى (( ما آكل في السنة إلا يوماً )) !! ، وقد ذكروا عن وهب بن منبه : أنه لما دعا إلياس ربَّه أن يقبضه إليه ، جعل له ريشاً ، وألبسه النور ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب ، وصار ملكياً بشرياً ، سماوياً أرضياً . وهذا من تناقض من يثبت وجودَه وحياتَه وبقائَه فهذه أوصاف متعارضة متضاربة ، ينقض بعضها بعضاً ، ولا يصح منها شئ البتة ! .
[ رابعاً ] قوله عن جبريل عليه السلام (( وربما رأيته على الجبِّ يمدّ بالدلو ، فيشربُ ، وربما سقاني )) ، من الكذب المحال ، أيصدق مؤمن عاقل أن سيد الملائكة وأعظمهم ، الموكِّل بالوحى إلى رسل الله ، يقوم على بئر زمزم ، لينزع دلواً ، فيشرب منها ؟! . أما علم هذا الوضَّاع المتهوِّك أن الملائكة لا يأكلون ولا بشربون ، غذاؤهم التسبيح والتقديس والتهليل ، ولا يفترون عن ذكر الله طرفة عين ، يلهمون الذكر كما يلهم أحدنا النفسَ والطرفَ .(1/114)
[ خامساً ] إن قول الله تعالى لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ )) ، مما دلَّ على أن إلياس عليه السلام ليس بحىٍّ إلى الآن ، ولا إلى زمن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لأنه من جملة البشر ، يدركه الموت كما أدركهم ، فليس لواحدٍ من البشر خلوداً فى الدنيا ، (( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ )) . ولله در الإمام الشافعى ، فقد كان يكثرُ يتمثلُ بهذين البيتين لطرفة بن العبد :
تمنى رجالٌ أن أموتَ وإن أمتْ فتلكَ سبيلٌ لستُ فيها بأوحَدِ
فقلْ للذي يبغى خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلِها بالحقِّ قَدِ
[ الثانى ] حديث واثلة بن الأسقع ، وسياقه أطول ، وكله غرائب وعجائب ومنكرات(1/115)
قال ابن عساكر (( التاريخ ))(9/213) : أنبأناه أبو الكرم المبارك بن الحسن بن أحمد بن علي الشهروزي أنا عمي أبو البركات عبد الملك بن أحمد بن علي الشهرزوي سنة سبع وستين وأربعمائة أنا عبيد الله بن عمر بن أحمد الواعظ حدثني أبي حدثنا أحمد بن عبد العزيز بن منير الحراني بمصر ثنا أبو الطاهر خير بن عرفة الأنصاري ثنا هانيء بن المتوكل ثنا بقية عن الأوزاعي عن مكحول سمعت واثلة بن الأسقع قال : (( غزونا مع رسول الله غزوة تبوك ، حتى إذا كنا في بلاد جذام في أرض لهم يقال لها الحوزة ، وقد كان أصابنا عطش شديد ، فإذا بين أيدينا آثار غيث ، فسرنا مليا ، فإذا بغدير ، وإذا فيه جيفتان ، وإذا السباع قد وردت الماء ، فأكلت من الجيفتين ، وشربت من الماء ، قال : فقلت : يا رسول الله هذه جيفتان ، وآثار السباع قد أكلت منها ، فقال النبي : نعم هما طهوران ، اجتمعا من السماء والأرض ، لا ينجسهما شيء ، وللسباع ما شربت في بطنها ، ولنا ما بقي ، حتى إذا ذهب ثلث الليل ، إذا نحن بمنادي ينادي بصوت حزين : اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة ، المغفور لها ، المستجاب لها ، المبارك عليها فقال رسول الله : يا حذيفة ويا أنس ادخلا إلى هذا الشعب ، فانظرا ما هذا الصوت ، قال : فدخلنا ، فإذا نحن برجل عليه ثياب بياض أشد بياضاً من الثلج ، وإذا وجهه ولحيته كذلك ، ما أدري أيهما أشد ضوءا : ثيابه أو وجهه ؟ ، فإذا هو أعلى جسما منا بذراعين أو ثلاثة ، قال : فسلمنا عليه ، فرد علينا السلام ، ثم قال : مرحبا أنتما رسولا رسول الله ، قالا : فقلنا : نعم ، قالا : فقلنا : من أنت رحمك الله ؟ ، قال : أنا إلياس النبي ، خرجت أريد مكة ، فرأيت عسكركم ، فقال لي جند من الملائكة على مقدمتهم جبريل وعلى ساقتهم ميكائيل : هذا أخوك رسول الله ، فسلم عليه وألقه ، ارجعا فاقرئاه السلام ، وقولا له : لم يمنعني من الدخول إلى عسكركم إلا أني أتخوف أن تذعر الإبل ، ويفزع(1/116)
المسلمون من طولي ، فإن خلقي ليس كخلقكم ، قولا له : يأتيني ، قال حذيفة وأنس : فصافحناه ، فقال لأنس خادم رسول الله : من هذا ؟ ، قال : حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله ، قال : فرحب به ، ثم قال : والله إنه لفي السماء أشهر منه في الأرض ، يسميه أهل السماء صاحب رسول الله ، قال حذيفة : هل تلقى الملائكة ؟ ، قال : ما من يوم إلا وأنا ألقاهم ، ويسلمون عليَّ ، وأسلم عليهم ، قالا : فأتينا النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فخرج النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنا ، حتى أتينا الشعب ، وهو يتلألأ وجهه نوراً ، وإذا ضوء وجه إلياس وثيابه كالشمس ، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : على رسلكما ، فتقدمنا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدر خمسين ذراعا ، وعانقه ملياً ، ثم قعدا ، قالا : فرأينا شيئا كهيئة الطير العظام بمنزلة الإبل ، قد أحدقت به ، وهي بيض ، وقد نثرت أجنحتها ، فحالت بيننا وبينهما ، ثم صرخ بنا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقال : يا حذيفة ، ويا أنس تقدما ، فتقدمنا ، فإذا بين أيديهم مائدة خضراء لم أر شيئا قط أحسن منها ، قد غلب خضرتها لبياضها ، فتقدمنا ، فإذا بين أيديهم مائدة خضراء ، وإذا عليها خبز ورمان وموز وعنب ورطب وبقل ما خلا الكراث ، قال النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كلوا بسم الله ، فقلنا : يا رسول الله أمن طعام الدنيا هذا ؟ ، قال : لا ، هذا رزقي ، ولي في كل أربعين يوما وأربعين ليلة أكلة ، تأتيني بها الملائكة ، وهذا تمام الأربعين يوما والليالي ، وهو شيء يقول الله عز وجل له كن فيكون ، قال : فقلنا : من أين وجهك ؟ ، قال : وجهي من خلف رومية ، كنت في جيش من الملائكة مع جيش من المسلمين غزوا أمة من الكفار ، قال فقلنا : فكم يسار من ذلك الموضع الذي كنت فيه ؟ ، قال : أربعة أشهر ، وفارقته أنا منذ عشرة أيام ، وأنا أريد إلى(1/117)
مكة أشرب بها في كل سنة شربة ، وهي ريي وعصمتي إلى تمام الموسم من قابل ، قال : فقلنا : فأي المواطن أكبر معارك ؟ ، قال : الشام وبيت المقدس والمغرب واليمن ، وليس في مسجد من مساجد محمَّد إلا وأنا أدخله صغيراً كان أو كبيراً ، قال : الخضر متى عهدك به ؟ ، قال : منذ سنة ، كنت قد التقيت أنا وهو بالموسم ، وقد كان قال : إنك ستلقى محمَّداً قبلي ، فاقرئه مني السلام ، وعانقه وبكى ، قال : ثم صافحناه وعانقناه ، وبكى وبكينا ، فنظرنا إليه حتى هوى في السماء ، كأنه يحمل حملاً ، فقلنا : يا رسول الله لقد رأينا عجباً إذ هوى إلى السماء ، فقال : إنه يكون بين جناحي ملك حتى ينتهي به حيث أراد )) .
وقال أبو القاسم : (( هذا حديث منكر ، وإسناده ليس بالقوي )) .
قلت : بل هو أشد سماجةً وبرودةً من سابقه ، فعلامات الكذب لائحة على كل فقرة من فقراته ولستُ بحانثٍ لو أقسمتُ أنه : لم يروه واثلة ، ولا مكحول ، ولا الأوزاعى . وإنما هو أفك تولى كبره دجَّال من هؤلاء الدجاجلة . والمتهم به بهذا السند : بقية بن الوليد الشامى ، فقد سمعه من أحد الكذَّابين ، ثم دلَّسه عن الأوزاعى . وقد قال أبو مسهر الدمشقى : أحاديث بقية ليست نقية فكن منها علي تقية . وفى سياق هذه القصة المكذوبة ما ينبئك بشناعة الكذب على أنبياء الله ورسله :
[ أولاً ] أفلو كان نبى الله إلياس حياً زمن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أكان يتخلف عن المثول بين يديه إلى أن يلتقى به فى غزوة تبوك من العام التاسع ، بعيداً عن مهبط الوحى ومتنزل الملائكة ! .
[ ثانياً ] وأعجب لهذا العذر المانع من إتيانه لإمام المرسلين ، وقائد الغر المحجلين : إنه التخوف من ذعر الإبل ، وفزع المسلمين من رؤية نبى الله إلياس عليه السلام .
فأين هذا مما ذكره هذا الوضَّاع المتهوِّك بعد ذلك بقوله (( يتلألأ وجهه نوراً ، وإذا ضوء وجهه وثيابه كالشمس )) ! .(1/118)
[ ثالثاً ] وإن تعجب ، فعجبٌ زعم هذا المتهوِّك أن إلياس والخضر يلتقيان بالموسم كل عام ! . فإن كانا كذلك ، فأين هما من حجَّة الوداع ، وكيف لم يلتقيا برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أعظم حجَّةٍ ، وأكرمها على الله ؟! ، بل أين هما من غزوات رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومشاهده ومواقفه ، سيما التى تنزلت لها الملائكة كغزوة بدرٍ ؟! . سبحان الله (( إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ )) .
[ رابعاً ] وعجبٌ قوله على لسان نبى الله إلياس (( وليس في مسجد من مساجد محمَّد إلا وأنا أدخله صغيراً كان أو كبيراً )) . أفلا يستحيى هذا الوضَّاع من الله وأنبيائه ، أم كان يجهل (( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا )) !! .
وفى ثنايا القصة كثير مما يستنكر ، ولا يخفى مثله على من له أدنى معرفة بحقائق الشريعة .
وشبيه بهذا ، ما يفترونه من سماع النبى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخضر ، وبعثه أنس يسأله أن يدعو له ولأمته . وهذا من أبشع الكذب والافتراء والجهل بمقام سيد المرسلين صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ومما أوردوا فيه من الواهيات الموضوعات حديثين :
[ الأول ] حديث أنس بن مالك ، وله ثلاث طرق(1/119)
[ الطريق الأولى ] قال أبو الحسين بن المنادي كما فى (( الزهر النضر فى نبأ الخضر )) ( ص40) : أخبرني أبو جعفر أحمد بن النضر العسكري أن محمد بن سلام المنبجي حدثهم قال حدثنا وضاح بن عباد الكوفي حدثنا عاصم بن سليمان الأحول حدثني أنس بن مالك قال : (( خرجت ليلة من الليالي ، أحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم الطهور ، فسمع مناديا ينادي ، فقال لي : يا أنس صه ، قال : فسكت ، فاستمع ، فإذا هو يقول : اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني منه ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قال أختها معها ، فكأن الرجل لقن ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أنس ضع الطهور ، وائت هذا المنادي ، فقل له : ادع لرسول الله أن يعينه الله على ما ابتعثه به ، وادع لأمته أن يأخذوا ما أتاهم به نبيهم بالحق ، قال : فأتيته ، فقلت : رحمك الله ! اِدْعُ الله لِرَسُولِ الله أن يُعِيْنَهُ على مَا اِبْتَعَثَهُ بِهِ ، واِدْعُ لأمَّتِهِ أن يَأْخُذُوا مَا أَتَاهُمْ به نَبِيُّهُمْ بالحقِّ ، فقال لي : ومَنْ أرسلكَ ؟ ، فكرهتُ أن أخبره ولم استأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : رحمك الله ! ما يضرك من أرسلني ، ادع بما قلت لك ، فقال : لا أو تخبرني بمن أرسلك ، قال : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : يا رسول الله ! أبى أن يدعو لك بما قلت له حتى أخبره بمن أرسلنى ، فقال : ارجع إليه ، فقل له : أنا رسول رسول الله ، فرجعت إليه ، فقلت له ، فقال لي : مرحبا برسول الله رسول الله ، أنا كنت أحق ان آتيه ، اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام ، وقال له : يا رسول الله الخضر يقرأ عليك السلام ورحمة الله ، ويقول لك : يا رسول الله إن الله فضَّلك على النبيِّين كما فضَّل شهر رمضان على سائر الشهور ، وفضَّل أمَّتك على الأمم كما(1/120)
فضَّل يوم الجمعة على سائر الأيام ، قال : فلما وليت سمعته يقول : اللهمَّ اجعلني من هذه الأمَّة المرشدة المرحومة ، المتوب عليها )) .
وأخرجه ابن الجوزى (( الموضوعات ))(1/194) تعليقاً عن ابن المنادى به مثله .
وأخرجه الطبراني (( الأوسط ))(3071) عن بشر بن علي بن بشر العجلى ، وابن عساكر (( تاريخ دمشق ))(16/423:422) عن محمد بن الفضل بن جابر ، كلاهما عن محمد بن سلام المنبجى بنحو حديث ابن النضر العسكرى .
وقال أبو القاسم : (( لم يروه عن أنس إلا عاصم ، ولا عنه إلا وضاح ، تفرد به محمد بن سلام )) .
وقال أبو الحسين بن المنادى : (( هذا حديث واهٍ بالوضاح وغيره ، وهو منكر الإسناد سقيم المتن ، ولم يراسل الخضر نبَّينا صلى الله عليه وسلم ، ولم يلقه )) .
قلت : صدق أبو الحسين . ما أسمجَه وأبردَه من خبرٍ ! ، كيف جهل واضعُه مقامَ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرامتَه على ربِّه ، ولم يستحيى منه حتى تجرأ عليه ، فوضع على لسانه هذا المقال (( اِدْعُ الله لِرَسُولِ الله أن يُعِيْنَهُ على مَا اِبْتَعَثَهُ بِهِ ، واِدْعُ لأمَّتِهِ أن يَأْخُذُوا مَا أَتَاهُمْ به نَبِيُّهُمْ بالحقِّ )) !! .
وقد قال إمام المحدثين (( كتاب العلم ))(106) : حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بن الأَكْوَعِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ )) .
ولا يستحل مثل هذا الإدعاء ، أعنى طلب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخضر أن يدعو له ولأمَّتِه ، إلا الزنادقة الذين يزعمون كذباً وافتراءاً ؛ أن مقام الولاية أعلى من النُّبوة والرسالة !! .
فقد تزندق قائلهم ، وأعظم على الله الفرية حين قال :
مقامُ النُّبُّوةِ في بَرْزَخٍ فُوَيْقَ الرسُولِ وَدُونَ الوليْ(1/121)
[ الطريق الثانية ] قال ابن عساكر (( التاريخ ))(16/424:423) : أخبرناه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم في كتابه أنا القاضي أبو الحسن علي بن عبيد الله بن محمد الهمداني بمصر أنا أبو الحسن علي بن محمد بن موسى التمار الحافظ نا أحمد بن محمد بن سعيد نا الحسين بن ربيع نا الحسين بن يزيد السلولي نا إسحاق بن منصور نا أبو خالد مؤذن بني مسلمة نا أبو داود عن أنس بن مالك قال : (( كان رسول الله يتوضأ من الليل إلى الليل ، فخرجت معه ذات ليلة في بعض طرق المدينة ، ومعي الطهور ، فسمع صوت رجل يدعو : اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني ، ...... )) فذكره بنحو حديث الوضاح السالف .
قلت : والمتهم بهذا الحديث أبو داود ، وهو نفيع بن الحارث الهمدانى الكوفى القاص الأعمى ، مجمع على تركه ، وكذبه قتادة .
وقال ابن حبان : كان ممن يروي عن الثقات الأشياء الموضوعات توهماً ، لا يجوز الاحتجاج به ، ولا الرواية عنه إلا على جهة الاعتبار .(1/122)
[ الطريق الثالثة ] قال أبو حفص بن شاهين كما فى (( الزهر النضر فى نبأ الخضر ))( ص42) : حدثنا موسى بن أنس بن خالد بن عبد الله بن أبي طلحة بن موسى بن أنس بن مالك ثنا أبي ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ثنا حاتم بن أبي رواد عن معاذ بن عبيد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أنس قال : (( خرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة لحاجةٍ ، فخرجت خلفه ، فسمعنا قائلاً يقول : اللهم إني أسألك شوق الصادقين إلى ما شوقتهم إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا لها دعوة لو أضاف إليها أختها ، فسمعنا القائل وهو يقول : اللهم إني أسألك أن تعينني بما ينجيني مما خوفتني منه ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وجبت ورب الكعبة ، يا أنس ! ائت الرجل ، فاسأله أن يدعو لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرزقه الله القبول من أمَّته ، والمعونة على ما جاء به من الحق والتصديق ، قال أنس : فأتيت الرجل ، فقلت : يا عبد الله ادع لرسول الله ، فقال لي : ومن أنت ، فكرهت أن أخبره ولم أستأذن ، وأبى أن يدعو حتى أخبره ، فرجعت إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فأخبرته ، فقال لي : أخبره ، فرجعت ، فقلت له : أنا رسول الله إليك ، فقال مرحبا برسول الله وبرسول رسول الله ، فدعا له ، وقال : اقرأه مني السلام ، وقل له : أنا أخوك الخضر ، وأنا كنت أحق أن آتيك ، قال : فلما وليت سمعته يقول : اللهم اجعلني من هذه الأمَّة المرحومة المتاب عليها )) .
وأخرجه كذلك الدارقطنى (( الأفراد )) من طريق أنس بن خالد عن محمد بن عبد الله الأنصارى بمثله .
وقال الحافظ ابن حجر : (( ومحمد بن عبد الله الأنصارى ، هو أبو سلمة البصرى ، وهو واهى الحديث جداً ، وليس هو شيخ البخارى قاضى البصرة ، ذاك ثقة ، وهو أقدم من أبى سلمة )) .(1/123)
قلت : أبو سلمة هذا ممن يسرق الأحاديث ويركبه على أسانيد أهل البصرة ، ترجمه أبو جعفر العقيلى (( الضعفاء ))(4/95) قال : (( محمد بن عبد الله أبو سلمة الأنصاري عن مالك بن دينار منكر الحديث . حدثنا محمد بن موسى بن حماد البربري ثنا محمد بن صالح بن النطاح ثنا أبو سلمة محمد بن عبد الله الأنصاري ثنا مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال : (( كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من جبال مكة ، إذ أقبل شيخ متوكئا على عكازه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مشية جني ونغمته ، فقال : أجل ، فقال : من أي الجن أنت ؟ ، قال : أنا هامة بن الهيم بن لاقيس بن إبليس .... )) فذكر حديثاً طويلاً باطلاً ، لا يتابعه عليه إلا مثله أو أكذب منه .
[ الثانى ] حديث عمرو بن عوف المزنى
أخرجه ابن عدى (( الكامل ))(6/62) ، ومن طريقه البيهقى (( دلائل النبوة ))(5/423) ، وابن الجوزى (( الموضوعات ))(1/193) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده : (( أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في المسجد ، فسمع كلاما من ورائه ، فإذا هو بقائل يقول : اللهمَّ أعني على ما ينجيني مما خوفتني ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سمع ذلك : ألا تضم إليها أختها ، فقال الرجل : اللهم ارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك : اذهب يا أنس إليه ، فقل له : يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم تستغفر لي ، فجاءه أنس ، فبلَّغه ، فقال الرجل : يا أنس أنت رسول رسول الله إليَّ ، فارجع فاستثبته ، فقال النَّبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قل له : نعم ، فقال له : اذهب فقل له : إن الله فضَّلك على الأنبياء مثل ما فضَّل به رمضان على الشهور ، وفضَّل أمتك على الأمم مثل ما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام ، فذهب ينظر إليه ، فإذا هو الخضر )) .(1/124)
قلت : والمتهم بهذا كثير بن عبد الله بن عمرو المزنى ، ركن من أركان الكذب ، قاله الإمام الشافعى . وقال ابن حبان : منكر الحديث جداً ، يروى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة ، لا يحل ذكرها فى الكتب ، ولا الرواية عنه .
وهذه المناكير والموضوعات مما يحتج بها غلاة الصوفية والشيعة على حياة إلياس والخضر ، وأنهما أعطيا الخلد فى الدنيا إلى الصيحة الأولى ، وأنهما يجتمعان كل عامٍ بالموسم ، ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل ، وأن إلياس موكل بالفيافى ، والخضر موكل بالبحر . ولله درُّ من قال : ما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان !(1) .
وفى (( المنار المنيف ))(1/67) للحافظ الجهبذ ابن القيم : (( فصل : من الأحاديث الموضوعة أحاديث حياة الخضر عليه السلام ، وكلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد :
كحديث (( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد ، فسمع كلاما من ورائه فذهبوا ينظرون ، فإذا هو الخضر )) .
وحديث (( يلتقي الخضر وإلياس كل عام )) .
وحديث (( يجتمع بعرفة جبريل وميكائيل والخضر )) الحديث المفترى الطويل .
سئل إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر ، وأنه باق ؟ ، فقال : من أحال على غائبٍ لم ينتصف منه ، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان )) .
ـــــــ
(1) بسطت القول ببيان زيف هذه المعتقدات الباطلة فى الجزء الثانى من هذا الكتاب .
مصنفات الشيخ أبى محمد الألفى السكندرى
مصنفات علل الحديث :
(1) إرشاد السالك إلى علل أحاديث أنس بن مالك .
(2) كشف الباس عن علل أحاديث ابن عباس .
(3) كشف النقاب عن علل أحاديث عبد الله بن عمر بن الخطاب .
(4) كشف السر عن علل أحاديث أبى هر .
(5) الكوكب الدرى ببيان علل أحاديث أبى سعيد الخدرى .
(6) اللطائف الوثيقة ببيان علل أحاديث عائشة الصديقة
(7) قرة العين ببيان علل أحاديث عمران بن حصين .
(8) الوافى بالعهود ببيان علل أحاديث ابن مسعود .
(9) هداية السارى ببيان علل أحاديث جابر الأنصارى .(1/125)
(10) إمتاع الألحاظ ببيان أوهام الحفاظ .
(11) تفصيل المقال بأن أكثر وهم شعبة فى أسماء الرجال .
(12) التعقب الحثيث ببيان أقسام علل الحديث .
(13) ترجمان الأفذاذ ببيان الأحاديث الشواذ
مصنفات الأحاديث المتواترة :
(1) إتحاف الأفئدة بفضل من بنى لله مسجدا .
(2) إتحاف القائم الأوَّاه بطرق حديث إن الله زادكم صلاة .
(3) إعلام المؤمن المودود بطرق حديث الحوض المورود .
(4) إيضاح الحُجَّة بأن عمرة رمضان تعدل حجَّة .
(5) التعليق المأمول على كتاب النزول .
تحقيق وإيضاح (( كتاب النزول )) للإمام الحافظ أبى الحسن الدارقطنى .
(6) بسط القول فى الزجر عن ترك الاستبراء من البول .
(7) دقائق النظر فيما تواتر من حديث المهدى المنتظر.
(8) قلائد العقيق فى النهى عن صيام أيام التشريق .
(9) إعلام اللبيب بحكم خليط التمر والزبيب .
دقائق الفكر فى علوم الأثر :
(1) إعلام الخريج بدقائق علم التخريج .
(2) المنهج المأمول ببيان معنى قول ابن حجر مقبول .
(3) الإكليل ببيان احتجاج الأئمة بروايات المجاهيل .
(4) التعقب المتوانى على السلسلة الضعيفة للألبانى .
(5) مشارق الأنوار وخزائن الأسرار فى كلام الترمذى على مراتب الأخبار .
(6) الكوكب السارى فى وحدان البخارى .
(7) إرشاد المحتذى إلى وحدان الترمذى .
(8) الطارف التليد بترتيب جامع الترمذى على المسانيد .
(9) التصريح بضعف أحاديث صلاة التسابيح .
(10) إعلام أهل العصر بما فى الكتب الستة من أسانيد أهل مصر .
(11) المقالات القصار فى فتاوى الأحاديث والأخبار .
مصنفات فقهية ومتنوعة :
(1) البشائر المأمولة فى آداب العمرة المقبولة .
(2) النبذة اللطيفة فى فضائل المدينة الشريفة .
(3) السعى المحمود بتخريج وإيضاح مناسك ابن الجارود .
(4) منتهى الغايات فيما يجوز وما لا يجوز من المسابقات .
(5) طوق الحمامة فى التداوى بالحجامة .
مصنفات أدبية :
(1) مقامات السكندرى .(1/126)
(2) تلقيح الألباب بغرر مراثى الأحباب .
(3) إنباء الضنين بغرر مراثى البنين .
فهرس الموضوعات
فهرس الموضوعات
الموضوع
الصفحة
المقدمة
بيان حكم ذكر الأحاديث الضعيفة فى الوعظ والتذكير ..........................
الذى حرَّره الحافظ العراقى من شروط العمل بالحديث الضعيف هو حد الحديث الحسن عند الإمام الترمذى ....................................................
شرائط العمل بالحديث ضعيف ثلاثة عند الحافظ ابن حجر وبيانها ................
اشتراط كون الحديث مندرجاً تحت أصلٍ عام معنىً غير دقيق التصور ، وصعب الادراك ، لا يحققه إلا جهابذة الأصوليين ......................................
( المقالة الأولى ) الدلائل الواضحة على صحَّة حديث البطاقة الراجحة .........
حديث البطاقة من أحسن أحاديث المصريين وأصحِّها وأروعها ، والحديث لهم ، وسائر أهل الأمصار يروونه عنهم ..............................................
المعتمد فى صحة حديث البطاقة على الحُجَّة الثبت الثقة : الليث بن سعد المصرى
روى ابن لهيعة الحديث من وهمه الذى خانه بعد اختلاطه وسوء حفظه ، فجاء بمعانٍ منكرة ، على خلاف المحفوظ والثابت من معانى الحديث وألفاظه .................
رواية الحافظ السيوطى الحديث بإسنادٍ رواته مصريون كلهم .....................
( المقالة الثانية ) قرة العين ببيان صحة الحديث القدسى (( أنا ثالث الشريكين ))
تضعيف الألبانى للحديث فى (( إرواء الغليل )) بعلتين غير مؤثرتين عند التحقيق
إعلال أبى الحسن بن القطان الحديث ، وتعقب الحافظ ابن الملقن الشافعى إيَّاه بقوله : (( أعله ابن القطان بما بان أنه ليس بعلة )) ..............................
الحديث صحيح ولا عبرة فى تضعيفه وبيان أدلة صحته ..........................
قول الحافظ الذهبى فى (( الميزان )) عن راوٍ (( لا يكاد يُعرف )) وبيان دلالته ....(1/127)
محمد بن الزبرقان أبو همام الأهوازى ثقة ربما أخطأ ، فمثله ما لم يخالفه من هو أوثق منه متلقى حديثه بالقبول والتصحيح ، وإن تفرد ......................
لو طالع الشيخ الألبانى إسناد الدارقطنى ، ما خفى عليه ضعف حديث النهاوندى
( المقالة الثالثة ) الاسْتِقْصَا ببيان صحَّة حديث (( من أَهَلَّ بحجَّةٍ أو عُمْرَةٍ من المسجد الأَقْصَى )) ............................................................
ذكرُ الحافظ الذهبى فى (( الميزان )) لنسوةٍ مجهولاتٍ ، وقوله عنهن : (( وما علمت فى النساء من اتهمت ولا من تركوها )) ، منهن أم حكيم بنت أميَّة بن الأخنس
جوَّد إسنادَ هذا الحديث إبراهيمُ بن سعد الزهرى عن ابن إسحاق ، وبيَّن سماعه فزالت تهمة تدليسه ، وأتقن متنه .............................................
بيان أنه لم يتفرد محمد بن إسحاق عن يحيى بن أبى سفيان ، بل تابعه عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنَّس الحجازى ، وهو ممن احتج بهم مسلم فى (( صحيحه )) .....
تضعيف الألبانى للحديث فى (( الضعيفة )) بثلاث علل ، هى بذاتها أدلة التصحيح لعددٍ لا يحصى من الأحاديث فى (( صحيحته )) ................
تصحيح ا؟لألبانى حديث (( يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ ، عَلَيْكُنَّ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ )) ، وفى سنده إحدى المجهولات اللاتى تفرد ابن حبان بتوثيقهن .......
تصحيح ا؟لألبانى حديث (( تنكح المرأة على أحدى خصال ثلاثة ... )) وفى سنده أحدى المجهولات اللاتى ذكرهن الذهبى فى (( الميزان )) .........................
قولهم (( توثيق ابن حبان لا يُعتمد لتساهله فى توثيق المجاهيل )) ، صار كالقاعدة التى لا يجوز الخروج عليها عند أكثر فضلاء الوقت ، وهو متعقب وعليه مؤاخذات
تأويل مصطلح الحافظ ابن حجر (( مقبول )) ، محمول عند أكثر فضلاء الوقت على معنى التضعيف ما لم يتابع الراوى ، وهو خلاف الصحيح الثابت عنه ......(1/128)
الخلاف على العمل بدلالة هذا الحديث فى الصدر الأول من الصحابة والتابعين ، وعلى صحته فيما بعد بين الأئمة الأعلام ، ومحدثى أمَّة الإسلام ..................
ذكر من كره للمحرم أن يحرم من وراء ميقاته ، من مصره أو دويرة أهله .........
ذكر من أجاز ذلك ، ومن فعله من الصحابة والتابعين ........................... نقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم ، ولكن الأفضل الإحرام من الميقات ....................................................
شذوذ ابن حزم الظاهرى فى قوله ببطلان حجَّ وعمرة من أحرم قبل ميقاته ......
إحرام عبد الله بن عمر وعتبان بن مالك من بيت المقدس ، وعبد الله بن عباس من الشام من موضعٍ قريبٍ منه ....................................................
نفى الاضطراب عن الحديث وبيان معنى المضطرب ..............................
( المقالة الرابعة ) فصل البيان بضعف أحاديث فضل مشاة الحجاج على الركبان
جمهور العلماء على القول بأن الحجَّ راكباً أفضل اقتداءاً برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع كمال قوته وقدرته على المشى ........................................
الحديث الأول (( من حج من مكَّة ماشياً حتى يرجع إلى مكَّة كتب الله له بكل خطوةٍ سبعمائة حسنة )) وبيان نكارته ..........................................
الحديث الثانى (( إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة ، وللماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم )) وبيان ضعفه
الحديث الثالث (( للماشى أجر سبعين حجَّة ، وللراكب أجر ثلاثين حجَّة )) ، وبيان أنه موضوع .............................................................
الحديث الرابع (( إن الملائكة لتصافح ركَّاب الحجاج ، وتعتنق المشاة )) ، وبيان أنه موضوع ...................................................................(1/129)
( المقالة الخامسة ) الإيضاحُ والتنبيه بصحة حديث (( لا يأخُذْ أحدُكُم عصا أخيه )) .......................................................................
فى قوله (( لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا )) أحاديث بلغت حدَّ الاستفاضة .....
الحديث الأول (( لا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لاعِبًا أَوْ جَادًّا ، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا إِلَيْهِ )) ، وبيان صحته عن عَبْدُ اللهِ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
بيان أنه ليس من شروط صحة الحديث أن يُتابع الراوي الثقة ..................
الحديث الثانى (( لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا )) ، وبيان صحته ..............
الحديث الثالث بهذا اللفظ عن النعمان بن بشير ، وبيان أن إسناده لين ...........
الحديث الرابع (( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، فلا يُروعنَّ مُسْلِمَاً )) ، وبيان صحته ، وأن راويه إسماعيل بن مسلم أبو محمد العبدي البصري الثقة .......
الحديث الخامس والسادس وبيان نكارتهما ......................................
( المقالة السادسة ) طعنُ القَنَا فى صدر مفترى : يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْنَا
تناقل الوعاظ والخطباء ما أورده الحافظ ابن كثير من هذه الحكاية فى مجالس الترغيب والترهيب وعلى منابر الوعظ والتذكير من غير أن ينظروا فى سندها ...
لا يُحصى من استروح إلى هذه الحكاية فأودعها عن رضاً واقتناعً كتابَه أو صدَّر بها مصنفَه وفى أهازيجهم وأناشيدهم وفيها إفتراء وتقول على أئمة السنة ........
بيان أن إسناد الحكاية واهٍ بمرَّة ولا تنتهض به حجة على ثبوتها ...................
محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة لا يشبه حديثه حديث أثبات أصحاب عبد الله بن المبارك ويروى أحاديث باطلة تدل على كذبه كما قال أبو حاتم الرازى ..........(1/130)
بيان بعض مناكير وبواطيل محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة .......................
محمد بن عبد الله بن المطلب أبو المفضل الشيباني كذاب دجال ، كذَّبه أبو الحسن الدارقطنى والأزهرى ، رافضى خبيث يضع الأحاديث للرافضة ..................
أبو المفضل الشيبانى الرافضى هو واضع هذه الحكاية كيداً للإمامين المتحابين المتصافيين : ابن المبارك والفضيل بن عياض .....................................
( المقالة السابعة ) حسان عبد المنان وصنيعه بكتاب (( رياض الصالحين )) ......
الكثير من طلبة العلم يبادرون إلى أحكامٍ جائرة على الأحاديث المصطفوية عملاً بظاهر كلام أئمة الجرح وأحكامهم من غير سبر للروايات .......................
أفرزت هذه السطحية والظاهرية كماً هائلاً من الأحكام الخاطئة على أحاديث (( الصحيحين )) و (( السنن الأربعة )) وصحيحى ابن خزيمة وابن حبان وغيرها .
التشويه المتعمد أو الخاطئ لذخائر التراث بزعم التصفية مما حوته من ضعافٍ وأباطيل ومناكير ...............................................................
حسان عبد المنان يسطو على كتاب (( رياض الصالحين )) لشيخ الإسلام أبى زكريا يحيى بن شرف النووى فيمسخه مسخاً ويحذف ما شاء ويضيف ما شاء .........
ذيل الكتاب الممسوخ فيه ما فيه من الجرأة والإقدام وسلوك أوعر الطرق فى الحكم على الأحاديث ........................................................
مما أودعه ذيل هاتيك النسخة الممسوخة له زاعماً ضعفه وعدم حجية العمل به حديث (( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ ؟ )) الذى علقه البخارى ..........
زعمه أن البخارى يتساهل أحياناً فى (( صحيحه )) فى ذكر أشياء فى الترغيب والترهيب فيها كلام ، هكذا أعظم الفرية فى حق أصحِّ كتب الحديث .........
ثلاثة أسباب لتعليق البخارى لأحاديث مشايخه وعدم وصلها فى (( الصحيح )) ...(1/131)
ثمانية من الأثبات الرفعاء أسندوا الحديث عن عثمان بن الهيثم شيخ البخارى .....
بيان الأحاديث التى أسندها البخارى عن عثمان بن الهيثم فى (( صحيحه )) .....
البخارى من أعرف الناس بشيوخه ، فقد سبر أحوالهم وعرف أقدارهم وميز أحاديثهم ، فحمل منها أصحها وجانب ضعافها وما يُنكر منها .................
حديث عثمان بن الهيثم الذى علَّقه إمام المحدثين واحتج به فى (( صحيحه )) هو من الصحيح المنتقى من أحاديث عثمان بن الهيثم ...........................
( المقالة الثامنة ) إتحاف الأوَّاه بصحة حديث (( مَا مِنْ ثَلاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاةُ إِلا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ )) ..................
حذف حسان عبد المنان الحديث من كتاب (( رياض الصالحين )) زاعماً ضعفه وعدم حجية العمل به ، وأودعه ذيل هاتيك النسخة الممسوخة له ..............
بيان حال السائب بن حبيش الكلاعى الشامى ، وهو صدوق صالح الحديث ....
قول الحاكم عن زائدة : وقد عرف من مذهب زائدة أنه لا يحدث إلا عن الثقات يدل على توثيق السائب بن حبيش وقبول رواياته ..............................
تصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم للحديث ........................
( المقالة التاسعة ) الجواب عمن شَرِبَ دمَ حِجَامةِ رَسُولِ اللهِ من الأصحاب
من ألطف الأسئلة التى وصلتنى بعد فراغى من كتابى (( طوق الحمامة فى التداوى بالحجامة )) : هل شرب أحد من الصحابة دم حجامة النَّبىِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
الحديث الأول حديث عبد الله بن الزبير ، وهو أصحها ((ولم شربت الدم ! ، ويل للناس منك وويل لك من الناس )) ........................................
بيان حال هنيد بن القاسم وبيان من تابعه .......................................
الحديث الثانى حديث سفينة مولى أم سلمة وبيان ضعفه ........................(1/132)
الحديث الثالث حديث غلامٍ حجَّامٍ لبعض قريش وبيان وضعه ....................
حديث فى مصِّ دم النَّبىِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شجةٍ بوجهه يوم أحد ..........
( المقالة العاشرة ) فصل الخطاب ببيان بطلان أحاديث الأبدال والأقطاب ........
ذكر الحافظ ابن القيم فى كتابه (( نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول )) أن أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة
قول الحافظ السيوطي : خبر الأبدال صحيح بل متواتر ؛ من مراكب الإعتساف والمباعدة عن مواقع الإنصاف ، إذ ليس فيه حديثاً واحداً تنتهض به الحجة لما ادَّعاه
الحديث الأول حديث عوف بن مالك وبيان أنه موضوع ........................
الحديث الثانى حديث عبادة بن الصامت وبيان نكارته من كلا طريقيه ...........
الحديث الثالث حديث أنس وبيان ضعفه من طرقه الأربع ......................
الحديث الرابع حديث ابن عمر وبيان وضعه ...................................
الحديث الخامس حديث أبى هريرة وبيان أنه كذب موضوع ....................
الحديث السادس حديث أبى سعيد الخدرى وبيان نكارته .....................
الحديث السابع حديث عبد الله بن مسعود إسناده مطلم واهٍ بمرَّة ...............
الحديث الثامن حديث على بن أبى طالب وبيان وقفه وانقطاعه .................
روايته بإسنادين مرفوعين أحدهما باطل والآخر منكر ............................
إيضاح وبيان : هذه الألفاظ الأبدال والأوتاد والأقطاب والغوث الفرد مما تتهوعها قلوب المؤمنين ، ولم تكن تدور قطعاً على ألسنة الصحابة والتابعين لهم بإحسان ...
وربما وقع الاشتباه فى دلالات هذه الألفاظ من جهة المعهود الذهنى لمعانيها عند المخالفين من أهل الطوائف المبتدعة كالشيعة الباطنية والصوفية الإتحادية ..........
بيان حقيقة البَدَل على اعتقاد المبتدعة ..........................................(1/133)
إدعاءهم بالباطل أن الأوتاد الذين يحفظ الله بهم العالم أربعة فقط ، وهم أخص من الأبدال ، والإمامان أخص منهم ، والقطب أخص الجماعة .......................
كتب القوم طافحة بهذه التعبيرات الجائرة عن طريق الاستقامة .................
( المقالة الحادية عشرة ) البيان المأمول عن عِدَّة من وصفهم ابنُ حجر بقوله (( مقبول )) ..................................................................
ذكر الحافظ ابن حجر فى (( تقريب التهذيب )) فى مرتبة (( مقبول )) جماعة من الثقات ، ممن احتجَّ بهم الشيخان فى (( الصحيحين )) عدتهم 104 راوياً .........
هؤلاء المقبولين من رجال الصحيحين موزعون على هذه الطبقات المتفاوتة ........
عرَّف الحافظ (( المقبول )) بقوله : (( من ليس له من الحديث إلا القليل ، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله )) .................................................
يحيى بن قزعة المؤذن المكى شيخ البخارى أكثر راوٍ فى المقبولين حديثاً .............
ذكر شئٍ من لطائف أحاديثه فى (( صحيح البخارى )) ، واستقصاء باقى أحاديثه فى كتابنا(( المنهج المأمول ببيان معنى قول ابن حجر مقبول )) ...................
تمام عدَّة المقبولين فى (( التقريب )) من الرجال : 1535راوياً ، ومن النساء 400 راوٍ ، وبيان عددهم على طبقات التقريب ......................................
( المقالة الثانية عشرة ) النبراس ببيان كذب التقاء النَّبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلياس
يلهج كثير من الخطباء والوعاظ بذكر القصص الواهية عن أنبياء بنى إسرائيل ....
حركة وضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تكن حركة ارتجالية عفوية ، بل حركة مدروسة هادفة لها خطرها وآثارها المدمرة .............(1/134)
مما أوردوا من الواهيات الموضوعات : قصة التقاء النَّبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلياس عليه السلام ، وذكروا حديثين موضوعين .......................................
أمارات الوضع لائحة علي الحديثين لا تخفى على من له أدنى معرفة بحقائق الشريعة
مصنفات الشيخ أبى محمد الألفى السكندرى ....................................
مصنفات علل الحديث .........................................................
مصنفات الأحاديث المتواترة ...................................................
دقائق الفكر فى علوم الأثر .....................................................
مصنفات فقهية ومتنوعة .......................................................
مصنفات أدبية ................................................................
5
5
7
8
8
9
10
11
11
11
13
13
14
14
15
16
16
17
17
18
18
20
21
22
23
23
24
24
24
25
25
25
27
28
28
29
30
33
33
34
34
35
36
37
39
40
41
43
44
44
45
46
47
48
49
50
50
50
51
51
52
53
53
54
55
55
57
60
61
61
62
62
63
64
64
64
65
66
67
67
69
69
69
69
70
70
74
75
75
76
77
77
78
79
80
81
81
82
82
82
87
87
87
88
89
89
89
89
91
101
101
101
102
102
102
??
??
??
??
المقالات القصار فى فتاوى الأحاديث والأخبار
المقالات القصار فى فتاوى الأحاديث والأخبار
20
19(1/135)