إعداد الأستاذ/ الطالب أخيار بن أعمر سيدي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
لما كان القنوت دعاء، والدعاء هو العبادة و العبادة هي الغاية من خلق الجن والإنس (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ...) فإن الحديث عنه يكون ذا أهمية ، خصوصا في ظروف قد ضيق فيها الكافرون الخناق على المسلمين ، فلندْع الله ونقنت كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك وسيلتنا "الدنيا"في دفع شر الكافرين (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا).
لقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكافرين بالمال والنفس واللسان (وجاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم )(1)والدعاء جهاد باللسان ، فما بالنا نعجز حتى عن تحريك اللسان بالدعاء ، ألا نخاف من وعيد ربنا؟ (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )(2)
إن أهم دافع للكتابة في هذا الموضوع هو ما شاع في الآونة الأخيرة أن قنوت النوازل منسوخ ، وأن الدعاء على الكفار لا يجوز ، وأن لعنهم لا يحل ، لهذا أردت بيان الحق في المسألة بعدما جمعت الأدلة المتعلقة بالموضوع ، وأخضعتها لمسلك التقسيم والسبر ، مستعينا بالله أولا ، ثم بقواعد أصول الفقه ، متبعا الخطة التالية:
أولا: تحديد معنى القنوت
ثانيا: القنوت المطلق
ثالثا: القنوت في النوازل
رابعا: محل القنوت
خامسا: صيغته
سادسا: الجهر فيه والسر
خاتمة
أولا : تحديد معنى القنوت:
القنوت في اللغة : الدعاء والطاعة، يقال : قنت قنوتا: أطاع الله وخضع له، وأقر بالعبودية(3)، ومنه قول الله تعالى : (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين )(4)
وهو في عرف الشرع: الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام(5)
ثانيا: القنوت المطلق:
__________
(1) بلوغ المرام 266( )
(2) غافر 60( )
(3) المعجم الوسيط: مادة قنت 2/ 761،دار الفكر ( )
(4) آل عمران 43( )
(5) الفتح على البخاري 2/ 490، دار الفكر(1/1)
والمراد به القنوت الذي يكون في صلاة الصبح، فقد أثبته أكثر العلماء ونفاه ثلة منهم . وسنتعرض فيما يلي لكلا القولين ، ذاكرين أدلة كل فريق مع المناقشة والترجيح.
1-المثبتون وأدلتهم:
قال الحازمي رحمه الله: " اختلف الناس في القنوت في صلاة الصبح ، فذهب أكثر الناس من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من علماء الأمصار إلى إثبات القنوت ، ...فرويناه عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ...ورويناه عن عمار بن ياسر وأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عباس وأبي هريرة والبراء وأنس بن مالك ...ومن المخضرمين أبو رجاء العطاردي وسويد بن غفلة وأبو عثمان النهدي ...ومن التابعين سعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن ، وابن سيرين وخلق كثير منهم ...ومن الأئمة والفقهاء حماد ومالك بن أنس وأهل الحجاز والأوزاعي وأكثر أهل الشام والشافعي وأصحابه ...وغير هؤلاء خلق كثير"(1) .
وقال القاضي عبد الوهاب من المالكية : يقنت في صلاة الصبح(2)
وفي تبيين المسالك : يستحب القنوت في الركعة الثانية من الصبح(3)
وقال النووي : السنة في صلاة الصبح أن يقنت في الركعة الثانية(4)
وقال ابن حزم الظاهري: القنوت فعل حسن ، وهو بعد الرفع من الركوع في آخر ركعة من كل صلاة فرض ، الصبح وغير الصبح، وفي الوتر...(5)
وقد استدل هؤلاء بالأدلة التالية:
أ-ما في الصحيح عن أيوب عن محمد قال: سئل أنس: أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح ؟ فقال : نعم ..(6)
__________
(1) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ: 180 ـ 181/ الناشر مكتبة عاطف، تحقيق محمد أحمد عبد العزيز ( )
(2) الإشراف على مسائل الخلاف : 1/ 8، مطبعة الإدارة ( )
(3) تبيين المسالك لتدريب السالك شرح محمد الشيباني 1/ 385، ط1 1407دار الغرب الإسلامي ( )
(4) المجموع 3/ 492، دار الفكر( )
(5) المحلى 2/ 183، دار الفكر ( )
(6) البخاري مع الفتح 2/ 489، دار الفكر، تحقيق ابن باز ( )(1/2)
ب ـ وفي رواية أخري عنه : "فأما في الصبح فلم يزل : يقنت حتى فارق الدنيا" قال النووي حديث صحيح رواه جماعة من الحفاظ وصححوه(1)
ج ـ ما رواه البيهقي باسناد حسن عن العوام بن حمزة قال : سألت أبا عثمان عن القنوت في الصبح، قال: بعد الركوع ، قلت : عمن؟ قال: عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم(2)
د ـ وعن عبد الله بن معقل قال: " قنت علي رضي الله عنه في الفجر"(3)
هـ ـ عن البراء رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصبح والمغرب" رواه مسلم
النفاة وأدلتهم:
قال الحازمي : وخالفهم ـ يعنى المثبتين ـ في ذلك نفر من أهل العلم ومنعوا من شرعية القنوت في الصبح(4).
قال النووي: قال عبد الله بن مسعود وأصحابه وأبوحنيفة وأصحابه والثوري وأحمد : لا قنوت في الصبح(5) .
وقال ابن قدامة في المغنى: ولا يسن القنوت للصبح ولا في غيرها من الصلوات سوى الوتر(6) واستدل هذا الفريق بما يلي:
أ ـ عن سعد بن طارق قال قلت لأبي : يا أبي إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعثمان وعلي أكانوا يقنتون في الفجر ؟ فقال أي بني ، محدث ، رواه الترمذي وقال حسن صحيح وانظر (المجموع 3/ 504)
ب ـ عن ابن مسعود قال : ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من صلاته (المجموع 3/ 504)
ج ـ عن أبي مخلد قال :صليت مع ابن عمر الصبح فلم يقنت، فقلت له :لا أراك تقنت ، قال : ما أحفظ عن أحد من أصحابنا(7) .
د ـ عن ابن عباس : " القنوت في الصبح بدعة " رواه البيهقي.
هـ ـ عن أم سلمة قالت : " نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القنوت في الصبح"(8).
المناقشة والترجيح:
__________
(1) المجموع 3/ 405
(2) المجموع 3/ 505( )
(3) رواه البيهقي وقال: هذا عن علي صحيح مشهور المجموع 3/ 505( )
(4) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ181 ( )
(5) المجموع 3/ 504( )
(6) المغنى لابن قدامة 2/ 154 ط 1401
(7) النووي 3/ 504
(8) ابن ماجه1/ 394(1/3)
أما أدلة المثبتين فلم أجد من اعترض شيئا منها مما يدل على صحتها وقوة دلالتها على المطلوب ، أما أدلة النفاة للقنوت في الصبح فقد ورد عليها جملة من الاعتراضات نوردها كالآتي:
أما حديث طارق ـ وهو أصح ما استدلوا به كما بيناه آنفا ـ فيجاب عنه بأن الذين أثبتوا القنوت المطلق في الصبح معهم زيادة علم ، وهم أكثر ، فوجب تقديمهم.
أما حديث ابن مسعود فإنه ضعيف جدا لأنه من رواية محمد بن جابر السحمي وهو شديد الضعف متروك، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن في حديثه نفيا وفي حديث أنس إثباتا فقدم لزيادة العلم(1).
زد على ما تقدم أن هذا الحديث قد روي من طرق أخري كلها ضعيفة ، فقد روي من طريق أبي حمزة ميمون القصاب ، وكان ابن القطان وابن مهدي لا يحدثان عنه ، وقال أحمد: هو ضعيف متروك ، وقال ابن معين : كوفي ليس بشيء ، وقال البخاري : ليس بالقوي عندهم ، وقال السعدي : ذاهب ليس بشيء ... وقد روي هذا الحديث عن إبراهيم بن أبان ابن أبي عياش ، وقد قيل فيه أكثر مما قيل في أبي حمزة . لذا كانت طرقه كلها واهية لا يجوز الاحتجاج بها ، وما كان بهذه الصفة لا يمكن أن يجعل رافعا لحكم ثابت بطرق صحاح(2) .
وأما حديث ابن عمر فيجاب عنه بان عدم حفظه أو نسيانه لحديث ثبوت القنوت المطلق في الصبح ليس قادحا في حفظ من حفظه كأنس والبراء وغيرهما ، لأن (من حفظ حجة على من لم يحفظ )(3) .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنه روي من طرق ضعيفة فلا يجوز التمسك به لذلك ، من تلك الطرق طريق بشر بن حرب ، ويقال له أبو عمر مطعون فيه ، قال البخاري : رأيت علي بن المديني يضعفه
...وكان يحيى القطان لا يروي عنه(4) ، وقال أحمد : ليس هو بالقوي في الحديث ... وقال إسحاق : ضعيف متروك ليس بشيء(5) .
__________
(1) المجموع : 3/ 505
(2) الناسخ والمنسوخ 183ـ 184
(3) المجموع 3/ 505
(4) المجموع: 3/ 505
(5) الناسخ والمنسوخ: 184ـ185(1/4)
أما حديث ابن عباس فضعيف جدا ـ كما قال النووي ـ قال : وقد رواه البيهقي من رواية أبي ليلى الكوفي ، وقال : هذا لا يصح وأبو ليلى متروك ، وقد روينا عن ابن عباس أنه قنت في الصبح(1).
أما حديث أم سلمة فضعيف لأنه من رواية محمد بن يعلى عن عنبسة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن أم سلمة ، قال الدارقطني: هؤلاء الثلاثة ضعفاء ، ولا يصح لنافع سماع من أم سلمة (2) .
مما سبق يظهر جليا رجحان مذهب المثبتين للقنوت المطلق في صلاة الصبح ، وأن حكمه باق لم ينسخ ، وهذا لما يلي:
ـ قوة أدلة المثبتين لعدم الوارد عليها.
ـ ضعف أدلة النفاة ضعفا لم تنهض معه للاحتجاج بها على المطلوب كما سبق بيانه .
ـ أن أنساً أكد الحكم بقوله " فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا " فدل على بقاء حكم القنوت المطلق في الصبح ، لأن الصحابي أعلم الناس بحال النبي صلى الله عليه وسلم لمعايشته له ومعاينته لجميع تصرفاته غالبا ، خصوصا إذا ما علمنا أن أنسا خدم النبي عشر سنين . والله أعلم
ثالثا : القنوت في النوازل :
والمراد به ما إذا وقع بالمسلمين أمر عظيم كعدوان من الكافرين كالذي وقع على القراء أيام النبي صلى الله عليه وسلم ، وكالذي حصل للمسلمين عند سقوط الخلافة العباسية بسبب التتار والمغول ، وكالذي يحصل في أيامنا هذه من بطش أمريكا بالمسلمين ...
ولا خلاف بين العلماء في أنه إذا نزلت بالمسلمين نازلة قنتوا ، وقد ثبت القول بقنوت النازلة عن مالك والشافعي ، قال ابن العربي المالكي : ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لأمر نزل بالمسلمين من خوف عدو وحدوث حادث ، وذكر أن الخلفاء قنتوا بعده ، واستقر ذلك بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم(3)
__________
(1) المجموع : 3/ 505( )
(2) المجموع 3/ 505 الناسخ والمنسوخ : 187 ( )
(3) عارضة الأحوذي 2/192(1/5)
وقال النووي : الصحيح في مذهبنا أنه إن نزلت بالمسلمين نازلة قنتنا في جميع الصلوات (1) وبه قال ابن حزم الظاهري (2) وفي المغني قال ابن قدامة : فإن نزلت بالمسلمين نازلة فللإمام أن يقنت في صلاة الصبح ، نص عليه أحمد ، قال الأثرم : سمعنا أبا عبد الله سئل عن القنوت في الفجر فقال : إذا نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام وأمن من خلفه . وبهذا قال أبو حنيفة والثوري ... (3) إلا أن العلماء اختلفوا هل هو ثابت في كل الصلوات أم في صلاة الصبح فقط ؟
المذهب الأول : المثبتون لقنوت النازلة في جميع الصلوات وأدلتهم :
احتج هؤلاء بأدلة نبينها كالآتي :
أ ـ عن أنس قال : " قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان " (4) ، ووجه الدليل منه أنه أطلق ولم يقيده بصلاة دون صلاة .
ب ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح " (5)
ج ـ عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها (6)
د ـ عن إبراهيم النخعي عن علقمة والأسود قالا : " ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الصلوات إلا إذا حارب ، فإنه كان يقنت في الصلوات كلهن ... ولا قنت علي رضي الله عنه حتى حارب أهل الشام فكان يقنت في الصلوات كلهن (7)
المذهب الثاني : المثبتون لقنوت النازلة في الصبح فقط وأدلتهم :
واستدل هؤلاء بأدلة نذكرها كالآتي :
__________
(1) المجموع 3/ 505 ـ 506 ( )
(2) المحلى 2/155ـ156( )
(3) المغني 2/ 155 ـ 156( )
(4) البخاري مع الفتح 2/ 490 ( )
(5) أبو داود: باب القنوت في الصلاة : 233 ، نيل الأوطار 2/ 400 ( )
(6) شرح معاني الآثار 1/ 242 / الدارمي 1/ 311 ، الترمذي 2/ 251 ( )
(7) المحلى 2/ 144 ـ 145 ( )(1/6)
أ ـ عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت إذا قال : سمع الله لمن حمده في الركعة الآخرة من الصبح فيدعو على حي من بني سليم (1)
ب ـ عن أنس قال : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر معونة ، فقال القوم : والله ما إياكم أردنا إنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا في صلاة الغداة ، فذلك بدء القنوت وما كنا نقنت (2)
ج ـ عن الزهري حدثني سالم عن أبيه " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر يقول : اللهم العن فلانا وفلانا بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فأنزل الله ( ليس لك من الأمر شيء )(3)
المناقشة والترجيح :
أما الدليل الثاني للمثبتين له في جميع الصلوات ، فإن في إسناده هلال بن خباب، وفيه مقال(4) واعترض الثالث بأنه مخصص بحديث أنس حين قال : أما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، فدل على أن سائر الصلوات لا يقنت فيها، فثبت في الصبح وترك في غيرها(5) ، ويجاب عن الرابع بمثل ما أجيب به عن الثالث.
أما أدلة المثبتين له في الصبح فقط فواضحة الدلالة على المطلوب ، ولم أقف على اعتراض لها لذا فإني أخلص إلى النتيجة التالية : أن كل واحد من القولين قوي في موضوعه.
__________
(1) أبو داود 1/ 233 ( )
(2) البخاري مع الفتح : باب : غزوة الرجيع 7/ 385 ، مسلم 2/ 36 ( )
(3) البخاري مع الفتح 7/ 365 ( )
(4) نيل الأوطار : 2/ 400
(5) المجموع : 3/ 505(1/7)
أما قوة الأول فتتجلى في أن اعتراض الدليل الثاني كان مدفوعا بأن هلال بن خباب وثقه أحمد وابن معين(1) ويدفع اعتراض الثالث والرابع بأن التنصيص على أحد أفراد العام الموافق لذلك العام لا يدل على أن باقي أفراده يخالف المنصوص عليه ، خصوصا إذا كان التنصيص سببه سؤال السائل كما ورد ذلك في بعض طرق حديث أنس الذي هو مستند المثبتين للقنوت في الصبح فقط ـ " سئل أنس : أقنت النبي في الصبح؟ الحديث"(2) لأن مطابقة الجواب للسؤال تقع من اعتبار مفهوم المخالفة(3) فلا يدل ذلك على أن سائر الصلوات لا قنوت فيها ، بل إن هذا المفهوم نطق بما يخالفه وهو ما ذكرناه عند حديثنا عن مذهب المثبتين له في جميع الصلوات ، فهذا كذلك مانع آخر يمنع من اعتبار مفهوم المخالفة(4).
أما المثبتون له في الصبح فقط فتتجلى قوة قولهم في التقييد والإطلاق إذا كان في الحكم واتحد الحكم والسبب فإنه يجب حمل المطلق على المقيد بلا خلاف يعتد به(5).
وهذا ما توافر في مسألتنا ، فالحكم هو مشروعية القنوت والسبب هو النازلة ، وقد ورد الحكم مطلقا في الأحاديث التي استدل بها مثبتو القنوت في جميع الصلوات ، وورد الحكم مقيدا في الأدلة التي احتج بها المثبتون له في الصبح فقط ، فوجب حمل المطلق على المقيد، فكان مقتضى ذلك أن يثبت حكم قنوت النازلة في الصبح دون غيرها . لذا فإني أميل إلى القول بالتخيير في هذه المسألة لقوة المسلكين الذين نبهت عليهما آنفا، فمن شاء قنت في جميع الصلوات عند النازلة ، ومن شاء قنت في الصبح فقط ، (كل من عند ربنا وما يذكر إلا ألوا الألباب ) ، والله أعلم.
__________
(1) نيل الأوطار 2/ 400
(2) البخاري مع الفتح 2/ 489
(3) نشر البنود 1/ 92، 1409
(4) الإحكام للآمدي 3/ 144
(5) إرشاد الفحول : 164ـ 165 ، دار الفكر(1/8)
أما من ادعى النسخ فإنه لا دليل على ما ادعاه ، لأن النسخ المزعوم لم يثبت ، ولم أجده منسوبا إلى أحد من الأئمة المشهورين أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وابن حزم الظاهري ، وإنما نسب القول بالنسخ إلى الطحاوي ، إذ قال به في صلاة الصبح في القنوت المطلق، وحتى هذا الذي نقل عنه في القنوت المطلق لم يكن نقلا صريحا ، بل قال به قياسا ، قال الزرقاني شارح الموطأ : وتمسك به الطحاوي في ترك القنوت في الصبح، قال : لأنهم أجمعوا على نسخه في المغرب فيكون الصبح كذلك(1) ، ولم ينقل عنه القول به في قنوت النازلة.
وإنما سمعنا بالقول بالنسخ بعد أحداث الحادي عشر سبتمبر من بعض فقهاء القرن الحادي والعشرين ، وأصح ما جرى على ألسنة هؤلاء ومن تبعهم ما يلي:
ـ حديث أنس رضي الله عنه قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر معونة ، فقال القوم : والله ما إياكم قصدنا إنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا في صلاة الغداة فذلك بدء القنوت وما كنا نقنت " البخاري.
ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه من الركوع في صلاة الفجر في الركعة الثانية بعد سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد يقول : اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قول الله تعالى : ( ليس لك من الأمر شيء ) متفق عليه.
وآن الأوان أن نبين أن لا حجة لهم فيما ذهبوا إليه من نسخ قنوت النازلة.
__________
(1) شرح الزرقاني على الموطأ : 1/ 32(1/9)
أما حديث أنس فلا دليل فيه على النسخ المزعوم ، بل إنه حجة عليهم لا لهم لأنه دل مطابقة على إثبات القنوت في النازلة لأنه رتب الحكم على سببه بقوله : ( فقتلوهم فدعا رسول الله شهرا فذلك بدء القنوت وما كنا نقنت ) ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنه لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الكفار بعد اعتدائهم على القراء فلأن يدعى عليهم وهم مستمرون في الاعتداء على المسلمين أحرى.
ووجه آخر أن المانعين القائلين بالنسخ نفاة، والمجيزين مثبتون ، والمثبت أولى من النافي ، لأن المثبت معه زيادة فكان قوله أولى من النافي ، أما حديث أبي هريرة فلا دليل فيه على نسخ قنوت النوازل ، بل إنه دل على أن حكمه باق وأنه دائر مع علته وجودا وعدما ، ذلك أن أبا هريرة بين أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمستضعفين ودعا على مضر ، فأما المستضعفين فأنجاهم الله من أيدي المشركين ، وأما مضر فمنهم من قتل ومنهم من مات ، ومنهم من أسلم .. عندها ترك النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لارتفاع موجبه ، وهذا أكده ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال حين ترك النبي الدعاء: ما لك لم تدع للنفر؟ قال : أو ما علمت أنهم قدموا ، وهذا فيه دلالة واضحة على أنه ترك الدعاء للمستضعفين لأن الله نجاهم ، وبقي الدعاء على الكفار على أصله ، وهذا يؤكد على أنه لم ينسخ، فتأمل قوله (مالك لم تدع للنفر؟ )هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن أبا هريرة ثبت عنه أنه قنت ، مما يؤكد أن قنوت النازلة لم ينسخ ، فعن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : " والله لأنا أقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من الصبح بعدما يقول : سمع الله لمن حمده ، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار " ، رواه البخاري.(1/10)
زد على السابق أنه -قوله في حديث أبي هريرة السابق " بلغنا أنه ترك ذلك " -إنما هو من قول الزهري فهو مدرج في الحديث ، قلت : وهذا يجعل القول بالنسخ ضعيفا ، وقد تبين أن لا مستند له يعول عليه(1) .
أما قوله في حديث أبي هريرة في آخره ( ليس لك من الأمر شيء ) إن سلمنا أن سبب نزولها هو دعاء النازلة ، فإنه لا دلالة في ذلك على النسخ ، بل إن فيها حثا للأمة على إخلاص التوحيد لله تعالى ، وأنه لا تأثير لأحد ـ ولو كان النبي ـ في إماتة ولا إحياء ولا إيمان ، بل إن الأمر كله لله ، وإليه تصير الأمور وإليه ترجع ، فهو منهج تربوي ، رباني أصيل لم يزل الوحي يكشف عنه حينا بعد حين ، وليس معنى ( ليس لك من الأمر شيء ): دع عنك يا محمد قنوت النازلة ، ويؤيد هذا ما ذكرناه آنفا من إجابات عن حديث أبي هريرة الذي كان متمسك مدعي النسخ لقنوت النازلة ، لكنا لا نسلم ـ قطعا ـ أن سبب نزول الآية قنوت النازلة ، بل ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، قال ابن حجر رحمه الله : " والصواب أنها نزلت يوم أحد حين شج النبي صلى الله عليه وسلم . . . وقال : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وأدموا وجهه ... قال ابن حجر ويؤيد ذلك ظاهر قوله في صدر الآية : ( ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم ) ثم قال : ( أو يتوب عليهم أو يعذبهم ) الفتح(2) وبهذا تصير الأدلة السابقة متفقة لا مختلفة إذ نزل كل واحد منها على ما يتنزل عليه ، والعمل بالدليلين أولى من إهمال احدهما ، والله أعلم.
رابعا : محل القنوت:
سنتحدث في هذه النقطة عن موقع القنوت في الصلاة ، سواء كان قنوتا مطلقا أو قنوت نازلة.
والذي وصلت إليه من خلال ما اطلعت عليه أن القنوت لا يكون إلا في الركعة الأخيرة من الصلاة ، ولم أجد من خالف في هذا إلا أنهم اختلفوا هل يكون قبل الركوع أم بعده؟ على مذاهب:
المذهب الأول:
__________
(1) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ 189
(2) 7/ 366 ( )(1/11)
ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه قبل الركوع ، وهو مروي عن أبي وابن مسعود وأبي موسى والبراء وابن عباس وأنس وعمر بن عبد العزيز وعبيدة وعبد الرحمن بن أبي ليلى وحميد الطويل(1) ودليله ما صح عن عاصم قال : " سألت أنس بن مالك عن القنوت ، فقال : قد كان القنوت ، قلت : قبل الركوع أو بعده؟ قال : قبله قال: فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت : بعد الركوع ، فقال : كذب ، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا ، أراه كان بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله عهد فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم " (2)
المذهب الثاني:
ذهب الشافعي وأحمد وابن حزم الظاهري إلى أنه بعد الرفع من الركوع ، وهو مروي عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم(3) ودليله الآتي :
ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا بعد الركوع في الفجر يدعو على رعل وذكوان ويقول : عصية عصت الله ورسوله (4)
ـ حديث سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول : " اللهم العن فلانا وفلانا ... الحديث " (سبق تخريجه )
المذهب الثالث:
هو مذهب التخيير ، يقول أصحابه : إن شئت قنت قبل الركوع وإن شئت بعد الركوع ، وهو قول للمالكية ، وبه قال ابن أبي زيد القيرواني (5) ودليله أدلة الفريقين السابقين ، فرأى أن الأمر على التوسعة فمن شاء عمل بمقتضى الأحاديث الدالة على أنه قبل الركوع ، ومن شاء عمل بمقتضى الأحاديث الدالة على أنه بعد الركوع.
__________
(1) المغني 2/ 152 ، وتبيين المسالك : 1/ 385
(2) البخاري مع الفتح : 2/ 489 ـ 490
(3) المجموع 3/ 506 ، المحلى 2/ 138 ، تبيين المسالك 1/ 385
(4) مسلم 1/ 469( )
(5) تبيين المسالك 1/ 385( )(1/12)
ورجح البيهقي أن يكون بعد الركوع ، قال النووي نقلا عنه : " ورواة القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ فهو أولى ، وعلى هذا درج الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم في أشهر الروايات عنهم وأكثرها " (1)
والذي أميل إليه هو أن يكون قنوت النازلة بعد الركوع ، والقنوت المطلق قبل الركوع لما يلي:
حديث عاصم قال : " سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال : قد كان القنوت ، قلت قبل الركوع أو بعده؟ قال : قبله ، قال فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع ، فقال : كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا أره كان بعث قوما يقال لهم القراء ... الحديث " سبق تخريجه وروايته كاملا.
فيكون قوله في الحديث ( قال قبله) مرادا به القنوت المطلق ، وقوله ( أنما قنت رسول الله شهرا ... إلخ ) مرادا به قنوت النازلة ، فتكون هذه الرواية مفسرة لنص الروايات الدالة على أنه قبل الركوع ، وليص الرواية الدالة على أنه بعد الركوع ، ومعلوم عند الأصوليين أن المفسر مقدم على النص لقوة المفسر ، لأنه لا يحتمل تأويلا ولا تخصيصا ، والنص يحتملهما (2)
ـ هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن أكثر الروايات التي ورد فيها أنه بعد الركوع كانت فيها الإشارة إلى أنه قنوت النازلة لا القنوت الملق ، من ذلك قوله: " يدعو على رعل وذكوان " وقوله : " اللهم العن فلانا وفلانا ..، اللهم أنج الوليد بن الوليد .. " إلخ
ولما ذكره ابن حجر رحمه الله قال : " ومجموع ما جاء عن أنس أن القنوت للحاجة ( النازلة ) بعد الركوع لا خلاف في ذلك ، وأما لغير الحاجة ( المطلق ) فالصحيح عنه أ،ه قبل الركوع [ الفتح 2 / 491 ] والله أعلم
خامسا : صيغته:
__________
(1) المجموع 3/ 507 ( )
(2) أصول السرخسي 1/ 165( )(1/13)
والمراد بها الألفاظ التي تستخدم وتذكر حين القنوت ، سواء كان قنوت نازلة أو قنوتا مطلقا . قال النووي : " حكى القاضي عياض اتفاقهم على أنه لا يتعين في القنوت دعاء إلا ما روي عن بعض أهل الحديث أنه يتعين قنوت مصحف أبي رضي الله عنه ( اللهم إنا نستعينك .. ) إلى آخره ، ويأتي بكماله بعد حين إن شاء الله ، قال بل إن القول بالتعيين مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقول : " اللهم أنج الوليد بن الوليد وفلانا وفلانا ، اللهم ألعن فلانا وفلانا " وعد القول بالتعيين غلطا [ المجموع 3 / 497 ]
وإذا ثبت أنه لا يتعين له لفظ فإن فيه بعض الألفاظ التي استحب العلماء القنوت بها ، نذكر منها:
ـ عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضي عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت " رواه الترمذي
ـ عن عمر رضي الله عنه أنه قنت في صلاة الفجر فقال : بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله ولا نكفرك بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلى ونسجد وإليك نسعى ونحفد ، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك [ المصنف 3 / 110 ]
ومنها صيغ أخرى وردت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم تم الحديث عن أكثرها في ثنايا البحث عند الحديث عن الستدلالات للمذهب في القنوت ، كقوله : " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجلها عليهم سنين كسني يوسف ، اللهم العن فلانا وفلانا ... ، اللهم أنج الوليد بن الوليد ... ، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار" إلخ
سادسا : الجهر فيه والسر:(1/14)
أما قنوت النازلة فقد اتفقوا على أنه يجهر به ، قال ابن حجر في الفتح : " وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أن السجود مظنة الإجابة كما ثبت " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " ، ثبوت الأمر بالدعاء فيه أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأ/وم الإمام في الدعاء ولو بالتأمين ، ومن ثم اتفقوا على أنه يجهر به [ الفتح 2 / 491 ] .ودل على ذلك أحاديث كثيرة:
ـ حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع ، فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد : اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، يجهر بذلك ... الحديث [ البخاري مع الفتح 8 / 226]
ـ حديث ابن عباس " أنه قنت شهرا متتابعا يدعو على ذكوان وعصية ويؤمن من خلفه " [ نيل الأوطار 2/ 400 ] قلت : ووجه الاستدلال منه أن تأمينهم ندل على سماعهم لما يقول، إذ لا يصح التأمين على ما لا يسمع ، وهو ظاهر جدا ، والله أعلم.
ـ عن الزهري : حدثني سالم عن أبيه " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر يقول : اللهم العن فلانا وفلانا .. الحديث " (سبق تخرجه) ، وهذه الرواية تفسر التي قبلها ، إذ أنه صرح فيها بسماع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم . فانقطع الاحتمال ، وكذا في التي قبلها في حديث أبي هريرة إذ كان أصرح حين قال " يجهر بذلك " والله أعلم.
أما القنوت المطلق ففيه روايتان بالجهر والسر ، قال ابن حجر بخلاف القنوت في الصبح ـ يعني القنوت المطلق ـ فاختلف في محله ، وفي الجهر به [ الفتح 2 / 491 ](1/15)
والذي يترجح عندي ـ والله أعلم ـ رواية الجهر لأن رواية السر سكتت عن البيان ورواية الجهر ناطقة به ، والناطق أولى بالبيان من الساكت ، فكانت رواية الجهر لها شاهدا ، وما شهد له أصل يعتبر أرجح مما ليس كذلك ، وشاهد رواية الجهر ما نقلناه آنفا من الاتفاق على أن قنوت النازلة يجهر به
خاتمة:
وفي نهاية هذا البحث نؤكد ما يلى:
ـ أن القنوت المطلق الذي يكون في صلاة الصبح ثابت ، والقول به هو القول الراجح ، لأن أكثر العلماء قال به ، كما بينا آنفا ، ولأن المخالف فيه لم يصل خلافه إلى درجة يعتد به فيها ، ذلك أن المثبتين استدلوا بأدلة كثيرة لا مطعن فيها ، والنفاة استدلوا بأدلة طعن فيها بنسبة تسعة وتسعين من المائة ، ولهذا كان من الخلاف الذي لا يعتد به.
ـ أن قنوت النازلة إنما اختلف في كونه في جميع الصلوات أو في صلاة الصبح فقط ، وهذا يدل على أنه لا خلاف كونه في الصبح.
ـ أن الصحيح الراجح من خلال ما استعرضناه من أدلة أن القنوت المطلق ـ وهو الذي يكون في الصبح على الدوام ـ محله قبل الركوع ، وقنوت النازلة بعد الركوع.
ـ أن من المتفق عليه أنه لا يتعين في القنوت دعاء بذاته ـ بل يدعو بالمأثور وبغيره مما يناسب المقام.
ـ أنه لا خلاف بين العلماء في أن قنوت النازلة يجهر به.
ـ أن لعن الكفار مشروع وغير منسوخ ، لأنه ثابت في الأحاديث التي دلت على أن قنوت النازلة غير منسوخ ، والفرع تابع لأصله.(1/16)
ليس صحيحا ما جرى على ألسنة البعض من أن الديانة الوحيدة التي تلعن الكافر هي الإسلام ، بل إنهم لعنوا على لسان الديانة اليهودية والمسيحية ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) [ المائدة 80 ] فداود رمز الديانة النهودية ، بل إن عهده كان العصر الذبي لبني إسرائيل ، كما أن عيسى بن مريم علم على الديانة المسيحية ، فها هي ذي الديانة اليهودية تلعن الكفار، وها هي ذي الديانة المسيحية تلعنهم كذلك . ( ومن يهن الله فما له من مكرم)
ـ أنه لا التفات إلى قول من قال : إن دعاءنا على الكفار يشرسهم علينا ويزيد من عدواتهم لنا ، أقول لمثل هؤلاء : إن عدواة الكفار بلغت ذروتها يتمثل ... ذلك في تقتيلهم الدائم للمسلمين ، وتهديدهم المستمر، ( والفتنة أشد من القتل ) [ البقرة 191] فعلينا معشر المسلمين أن نتخلى عن خلق الاستسلام والتصبيط ، لأن ذلك لن يزيد عدونا إلا طغيانا وإرهابا إلى إرهابه.
ـ كما أنه لا يلتفت إلى قول القائل : إنه لا يجوز الدعاء على الكفار دعاء استئصال ، لأن ذلك من شرع من قبلنا وهو ليس شرعا لنا كما زعم القائل ، أقول لمثل هذا : إن شرع من قبلنا شرع لنا ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام 91 ] وقد دعا نوح على الكافرين دعاء استئصال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) نوح 28(1/17)
ولقائل أن يقول : إن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا ، فيجاب هذا بأن ششرع من قبلنا إن قررنا عليه من قبل شرعنا كان شرعا لنا اتفاقا ، وهذا ما توفر في مسألتنا ، فقد ثبت في الصحيح أن خبيبا الأنصاري رضي الله عنه قال : " اللهم أحصهم عددا واعتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا " [ البخاري مع الفتح 7 / 379 ـ 383 ] ، فعلينا معشر المسلمين ـ وأخص بالذكر علماءنا وفقهاءنا والمنتسبين منا إلى العلم ـ أن نحذر من غضب الله وتحريف الكلم عن مواضعه وكتمان الحق ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فؤلئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ) قال في الآية الكريمة (بينوا) : فصلوا وما أجملوا ، فمنا من ينخاف من لعن الكفار ويبرر عدم جوازه بأي مبرر ولا يخاف من لعن الله ، ولعن اللاعنين حين يكتم الحق ويلبس الحق بالباطل.
فعلى العالم أن يصدع بالحق ، فتلك وظيفته وذلك الذي يرضى الله عنه ، وإذا رضي الله فليسخط الناس ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : " من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس "
ـ ثم إنه إذا تواطأ الناس على ترك المباح بالجزء أو المندوب بالجزء فإن ذلك يصيرهما واجبين بالكل ، وعليه فإنه إذا قرر الحاكم على ألسنة الفقهاء المنع من قنوت النازلة في المساجد فإنه ينتقل بذلك إلى واجب بالكل ، يقول الشاطبي ـ رحمه الله ـ مبينا هذا المعنى : "فإذا فرضنا ترك الناس كلهم ذلك ـ يعني المباح بالجزء ـ لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها ، فكان الدخول فيها واجبا بالكل ... " ثم يمضي قائلا : إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل كالأذان في المساجد وصلاة الجماعة .. لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين " الموافقات : 1 / 93 ـ94(1/18)
وعليه فلا يجوز لحاكم ولا لفقيه أن يمنع أئمة المساجد من قنوت النازلة ، لأن ذلك يعد مخالفة لصريح المنصوص وصحيحها ، كما يعد مخالفة لمقاصد الشريعة الغراء .فالحذر الحذر من العمل على مناقضة شريعة الله ، وإلا فإن العاقبة ستكون وخيمة ( فليخدر الذين يخالفون عن أمره أ، تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)
والله الموفق(1/19)