بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده وصلى الله وسلم على رسله وأنبيائه وأخص بالذكر منهم نبينا محمداً الذي لا نبي من بعده، وبعد،
فهذا الكتيب حلقة من سلسلة أجمعها في باب الزهد والرقاق وتزكية النفوس وأعمال القلوب، وهو اختصار لكتاب الحافظ الكبير أبي بكر البيهقي (الزهد الكبير) مشيت فيه على طريقة التهذيب وحذف الاسانيد، وقد حذفت منه ما ورد فيه من أحاديث مرفوعة لأنه يكثر فيها ما لا يصح سنده، وما صح منها فهو في الغالب مشهور كثير التداول بين القراء، وكذلك حذفت منه ما رأيته يصعب فهمه أو يشكل معناه أو يغني عنه غيره، وحرصت على أن لا يفوتني شيء من نفائس هذا الكتاب وفوائده، وعلقت عليه أحياناً ما يوضح المعنى الغريب أو يفسر العبارة المشكلة، وصححت ما عثرت عليه من أخطاء الطبع والنسخ، وزدت فيه في مواضع يسيرة منه كلمات يقتضيها السياق أو يتطلبها الفهم الصحيح وجعلت تلك االزيادت بين حاصرتين هكذا [ ] تمييزاً لها عن أصلها وأداءً للأمانة كما هي؛ وأما العناوين فهي من اختياري إذ لم أعتمد ما ورد في الأصل لأني أرى أن هذا هو الأنسب في هذا المختصر، نفعني الله وإياك به وزادنا من فضله وأعاذنا من أن يكون ما نسمعه من العلم حجة علينا يوم نلقاه، وحسبنا الله وحده، لا إله سواه(1).
إيثار الآخرة على الدنيا
قال بلال بن سعد: عباد الرحمن أما ما وكلكم الله به فتضيعون؛ وأما ما تكفل الله لكم به فتطلبون؛ ما هكذا بعث الله عباده الموقنين! ذوو عقول في طلب الدنيا وبُلهٌ عما خلقتم له؟! فكما ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعة الله فكذلك أَشفقوا من عقاب الله بما تنتهكون من معاصي الله. ص63
__________
(1) تنبيه: كتبت بعد كل أثر موضع وروده في الأصل، واعتمدت على الطبعة التي حققها عامر أحمد حيدر ونشرتها مؤسسة الكتب الثقافية في بيروت سنة 1996.(1/1)
قال الحسن: قال عامر بن عبد قيس: العيش في أربع: اللباس والطعام والنوم والنساء؛ فأما النساء فوالله ما أبالي امرأة رأيت أو جداراً؛ وأما اللباس فوالله ما أبالي ما واريت به عورتي؛ وأما الطعام والنوم فقد غلباني، والله لأضارُّ بهما جهدي؛ قال الحسن: فأضَرَّ والله بهما. ص63
قال أسماء بن عبيد: قال عامر بن عبد قيس: والله لئن استطعت لأجعلن الهمَّ هماً واحداً؛ قال الحسن: ففعل ورب الكعبة. ص63
قال سلام بن مسكين: كان الحسن كثيراً ما يقول: يا معشر الشباب عليكم بالآخرة فاطلبوها، فكثيراً رأينا من طلبَ الآخرةَ فأدركها مع الدنيا، وما رأينا أحداً طلب الدنيا فأدرك الآخرة مع الدنيا. ص65
قال الحسن: رحم الله عبداً جعل العيش عيشاً واحداً فأكل كسرة ولبس خلقاً ولزق بالأرض واجتهد في العبادة وبكى على الخطيئة وهرب من العقوبة ابتغاء الرحمة، حتى يأتيه أجله وهو على ذلك. ص65
قال سفيان بن عيينة: سمعت أبا حازم يقول: أوحى الله عز وجل إلى الدنيا: من خدمك فأتعبيه ومن خدمني فاخدميه. ص65
قال أبو بكر بن عياش: من عظم صاحب دنيا فقد أحدث حدثاً في الإسلام. ص66
قال الحسن بن حماد: سمعت أبي - حماداً - يقول: دخلت البصرة فسألت مرحوم العطار: هل بقي من جلساء الحسن أحد؟ فقال: بقي شيخ فأتيته فقلت له: رحمك الله إن رأيت أن تحدثني بعض كلام الحسن فاتعظ به، فقال: كان الحسن كثيراً ما يقول في كلامه: يا ابن آدم نطفة بالأمس وجيفة غداً، والبلى فيما بين ذلك يمسح جنبيك، كأن الأمر يعنى به غيرك، إن الصحيح من لم تمرضه الذنوب، وإن الطاهر من لم تنجسه الخطايا؛ وإن أكثركم ذكراً للآخرة أنساكم للدنيا، وإن أنسى الناس للآخرة أكثركم ذكراً للدنيا، وإن أهل العبادة من أمسك نفسه عن الشر؛ وإن البصير من أبصر الحرام فلم يقربه؛ وإن العاقل من يذكر يوم القيامة ولم ينس الحساب. ص68
الزهد والورع(1/2)
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري أن عظني وأوجز، فكتب إليه الحسن: أما بعد فإن الدنيا مشغلة للقلب والبدن، وإن الزهد راحة للقلب والبدن، وإن الله سائلنا عن الذي نعِمنا في حلاله فكيف بما نعمنا في حرامه؟!. ص68
كتب عمر بن العزيز إلى الحسن: عظني وأوجز، فكتب إليه: ان رأس ما هو مصلحك ومصلح به على يديك: الزهد في الدنيا؛ وإنما الزهد باليقين، واليقين بالتفكر، والتفكر بالاعتبار؛ فإذا أنت فكرت في الدنيا لم تجدها أهلاً أن تبيع بها نفسك، ووجدت نفسك أهلاً أن تكرمها بهوان الدنيا، فإن الدنيا دار بلاء ومنزلة قلعة. ص68 و150.
قال الحسن: والله لقد أدركت أقواماً إن كان أحدهم لتكون به الحاجة الشديدة وإلى جنبه المال الحلال لا يأتيه فيأخذ منه، فيقال له: رحمك الله ألا تأتي هذا فتستعين به على ما أنت فيه؟! فيقول: لا والله! إني أخشى أن يكون فساد قلبي وعملي. ص69
قال سفيان بن عيينة: سمعت الزهري وقد سأله رجل فقال: يا أبا بكر من الزاهد؟ قال: الذي لا يغلب الحرامُ صبرَه، ولا يمنع الحلالَ شكرُه؛ وقال أيوب بن حسان: سمعت ابن عيينة يقول: ما سمعت في الزهد قط شيئاً أحسن من هذا. ص69
سئل الفضيل بن عياض عن الزهد فقال: طلب الحلال. ص69
قال أبو معاوية الأسود في قول الله عز وجل (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا) قال: لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها. ص71
قال أحمد بن أبي الحواري: من ترك لقاء الناس فهو للشهوات أترك. ص71-ص72
قال عبد العزيز بن أبان: سمعت سفيان يقول: الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا. ص72
قال أبو عمرو بن نجيد: من قدر على إسقاط جاهه عند الخلق سهل عليه الإعراض عن الدنيا وأهلها. ص72
قال مالك بن دينار: يقولون: مالك زاهد! أي زهد عند مالك وله جبة وكساء؟! إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرةً فاها(1) فتركها. ص72
__________
(1) أي فمها.(1/3)
قال إسحاق بن منصور السلولي: دخلت على داود الطائي أنا وصاحب لي وهو على التراب فقلت لصاحبي: هذا رجل زاهد، قال(1): إنما الزاهد من قدر فترك. ص72
دخل عمر بن عبد العزيز على فاطمة وهي امرأته فقال: يا فاطمة عندك درهم أشتري به عنباً؟ قالت: لا، قال: فعندك الفلوس [كذا] أشتري به عنباً؟ قالت: لا، وأقبلت عليه فقالت: أنت أمير المؤمنين لا تقدر على درهم تشتري به عنباً ولا على فلوس [كذا] تشتري به عنباً؟! فقال: هذا أهون علي من معالجة الأغلال غداً في جهنم. ص73
سئل أبو عمرو الدمشقي عن الزهد فقال: أن يزهد في ما لَهُ مخافة أن يهوى ما ليس له. ص73
قال يحيى بن معاذ: كيف يكون زاهداً من لا ورع له؟! تورع عما ليس لك ثم ازهد فيما لك. ص73-74
قال الفضيل بن عياض: رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله وزهده في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة. ص74
قال أبو سليمان الداراني: ليس الزاهد من ألقى غم الدنيا واستراح منها، إنما تلك راحة، وإنما الزاهد من ألقى غمها وتعب فيها لآخرته. ص74
قال ذو النون: ما رجع من رجع إلا من الطريق، ولو وصلوا إلى الله ما رجعوا! فازهد يا أخي في الدنيا ترَ(2) العجب. ص77
قال ذو النون: من علامات الحب(3) لله ترك كل ما شغل عن الله عز وجل حتى يكون الشغل كله بالله وحده. ص78
قال معاوية بن عبد الكريم: ذكر عند الحسن الزهد فقال بعضهم: اللباس، وقال بعضهم: المطعم، وقال بعضهم كذا؛ فقال الحسن: لستم في شيء، الزاهد الذي إذا رأى أحداً قال: هذا أفضل مني. ص80
الراحة
قال أبو سليمان الداراني: إنَّ قوماً طلبوا الغنى فحسبوا أنه في جمع المال، ألا وإنما الغنى في القناعة؛ وطلبوا الراحة في الكثرة، وإنما الراحة في القلة؛ وطلبوا الكرامة من الخلق، ألا وهي في التقوى؛ وطلبوا النعمة في اللباس الرقيق واللين وفي طعام طيب، والنعمة في الإسلام والستر والعافية. ص81
__________
(1) أي داود.
(2) في الأصل (ترى).
(3) في الأصل (المحب).(1/4)
قال إبراهيم بن أدهم: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش وقلة التعب. ص81
قال بشر بن الحارث: مساكين أهل الدنيا، هم والله موضوع رحمة. ص82
قال بشر بن الحارث: لو لم يكن لصاحب القنوع إلا التمتع بالعز لكفاه. ص82
قال الحسن: قال أبو الصهباء صلة بن الأشيم: طلبت الرزق مظانه فأعياني إلا رزق يوم بيوم فعلمت أنه خير لي، وإن امرءاً جُعل رزقه يوم بيوم فلم يعلم أنه خير له لعاجز الرأي. زاد بعض رواة هذا الأثر: قال أبو الصهباء فقلت لنفسي: أربعي(1) فربعت ولم تكد. ص83
قال الربيع الخولاني: قال لقمان لابنه: يا بني زاحم العلماء بركبتيك ولا تجادلهم فيمقتوك، وخذ من الدنيا بلاغاً، ولا تدخل فيها دخولاً يضر بآخرتك، ولا ترفضها فتصير عيالاً على الناس، وصم صوماً يقطع شهوتك، ولا تصم صوماً يمنعك عن الصلاة فإن الصلاة أحب إلى الله من الصيام. ص84
قال ذو النون: من وثق بالمقادير لم يغتم؛ وقال: من عرف الله رضي بالله وسُرَّ بما قضى الله. ص85
قال إبراهيم بن أدهم: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تكثر الغم والجزع. ص85
قال بنان الحمال: الحر عبد ما طمع، والعبد حر ما قنع. ص86
ذكر عبد الملك بن عمير أن سعد الخير كان يقول لابنه: أظهر اليأس فإنه غنى، وإياك وطلب ما عند الناس فإنه فقر حاضر، وإياك وما يعتذر منه وأسبغ الوضوء، وصل صلاة مودع عسى أن لا تصلي صلاة غيرها؛ وإن استطعت أن تكون اليوم خيراً منك أمس وغداً خيراً منك اليوم فافعل. ص86
قال عبد الله بن المبارك:
لا تضرعن لمخلوق على طمعٍ
فإن ذاك مضر منك بالدين
واسترزق الله مما في خزائنه
فإنما هو بين الكاف والنون
ألا ترى كل من ترجو وتأمله
من البرية مسكين بن مسكين
ص88
قال أبو عبد الله محمد بن عرفة النحوي:
إذا ما كساك الدهرُ ثوبَ مصحةٍ
__________
(1) اقتصري على هذا وارضي به.(1/5)
ولم تخْلُ من قوتٍ يحل [و]يعذب
فلا تغبطنَّ المترفينَ فإنه
على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب
ص89-90
قال الخليل بن أحمد:
حسبك من دهرك هذا القوت
ما أكثر القوت لمن يموت
ص90
قال منصور الفقيه:
إذا القوت تأتَّى لك والصحة والأمن
فأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن
ص90
أنشد المسعودي لبعضهم:
نفسك ثوب الغنى فصنها من لم يصن نفسه يهنها
إن عرضت حاجة فدعها يأسُك منها غناك عنها
ص90
قال منصور بن إسماعيل الفقيه: هذا زمان العزلة وقد قلت في ذلك:
الخير أجمع في السكوت وفي ملازمة البيوت
فإذا تأتَّى ذا وذلك فاقتنع بأقلِّ قوت
ص90-91
ولي يحيى بن أكثم القضاء فكتب إليه أخوه عبد الله ابن أكثم من مرو وكان من الزهاد:
ولقمة بجريشِ الملح تأكلها
ألذ من تمرة تحشى بزنبور
وأكلة قربت المهلك صاحبها
كحبة الفخ دقت عنق عصفور
ص91
قال أبو بكر الوراق: لو قيل للطمع: من أبوك؟ قال: الشك في المقدور! ولو قيل: ما حرفتك؟ قال: اكتساب الذل! ولو قيل: ما غايتك؟ قال: الحرمان. ص91
العزلة
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن في العزلة راحة من أخلاق السوء؛ أو قال: من أخلاط السوء. ص93
قال عدسة: مر بنا ابن مسعود فأهدي له طير فقال ابن مسعود: وددت أني حيث صِيدَ هذا الطير، لا يكلمني أحد ولا أكلمه. ص93
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خذوا نصيبكم من العزلة. ص94
قال الوليد بن المغيرة: قال لي سعيد بن المسيب: عليك بالعزلة فإنها عبادة. ص94
قال الربيع بن خثيم: تفقه ثم اعتزل. ص94
قال عبد الله بن داود: مجاورة الشاة أحب إلي من مجاورة الإنسي! فقيل: يا أبا عبد الرحمن لِمَ؟ قال: إن الإنسي يؤذي والشاة لا تؤذي. ص94
قال مكحول: إن كان في مخالطة الناس خير فإن في العزلة سلامة. ص94
قال وهيب بن الورد: كان يقال: الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت، والعاشر عزلة الناس؛ قال: فعالجت نفسي على الصمت فلم أجدني أضبط كما أريد، فرأيت أن خير هذه العشرة عاشرها، عزلة الناس. ص95(1/6)
قال أبو الدرداء: نعم صومعة الرجل المسلم بيته، يكف فيه نفسه وبصره وفرجه؛ وإياكم والمجالس في السوق فإنها تلغي وتلهي. ص95
قال الفضيل بن عياض: من خالط الناس لا ينجو من إحدى اثنتين: إما أن يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل، أو يسكت إن رأى منكراً، أو يسمع من جليسه شيئاً فيأثم فيه. ص96
قال وكيع: جاء إلى أبي سنان رجلان فقال لهما: ما لكما لم تفترقا فإنما إذا كنتما جميعاً تحدثتما وإذا تفرقتما ذكرتما الله عز وجل. ص96
قال الفضيل: رحم الله عبداً أخمل ذكره وبكى على خطيئته قبل أن يرتهن بعمله. ص96
قال ابن عون: ثلاث أحبهن لنفسي ولأصحابي، فذكر قراءة القرآن، والسنة، والثالثة: أقبل رجل على نفسه ولهى من الناس إلا من خير. ص96
قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته، فقيل: ألا تستوحش؟! فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ص96-97
قال أبو الحسن بن الخوارزمي: من استوحش من الوحدة وهو حافظ لكتاب الله عز وجل فإن تلك وحشة لا تزول أبداً. ص97
قال أبو العالية: كنا نحدث أنه سيأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأَمَةِ، أكيسهم في ذلك الزمان الذي يروغ بدينه روغان الثعلب. ص97
قال أبو العالية: كنا نحدث أنه سيأتي على الناس زمان خير أهله الذي يرى الحق فيجانبه قريباً. ص97
قال الشعبي: ما بكيت من زمان إلا بكيت عليه. ص97
قال الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب: والله إن أغبط الناس عندي لأعرابي في هذه البرية، تقي، غني، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، لم يدخل في شيء من هذه الأهواء. ص97
قال ذو النون: قال بعض العلماء: ما أخلص العبد لله إلا أحب أن يكون في جب لا يعرف. ص98
قال ذو النون: من صفة الحكيم حب خمول الذكر، ومنه ذهاب الوحشة وسقوط الأُنس بغير الله؛ فإذا أنس الحكيم بالوحدة فقد اعتقد الإخلاص؛ حينئذ تُحركه الحكمةُ للحق والصواب إن شاء الله. ص98(1/7)
قال ذو النون: إذا أحب القلب الخلوة فقد أوصله حب الخلوة إلى الأنس بالله؛ ومن أنس بالله استوحش من غير الله؛ فلله دَرُّ قلوب أنِستْ بجلال الله وارتعدت فرَقاً(1) لهيبته. ص98
قال شعبة: ربما ذهبت مع أيوب في الحاجة فأريد أن أمشي معه فلا يدعني، ويخرج فيأخذ ههنا وههنا، لئلا يُفطن له، قال شعبة: قال لي أيوب: ذُكرْتُ وما أحب أن أذكَر. ص98
قال سفيان الثوري: ما رأينا للإنسان خيراً له من أن يدخل في جحر. ص98
قال الثوري: إذا رأيت الرجل قد ذُكر في بلدة بالقراءة والنسك وعلا فيها بالإسم واضطرب به الصوت فلم يخرج منها فلا ترْجُ(2) خيرَه. ص99
ذكر السائب بن الأقرع قصة قتال النعمان بن مقرن وإخباره عمر بن الخطاب بمن قُتل معه وقول عمر: ثم من(3)؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين ثم لم يصب من المسلمين أحد تعرفه، قال: فقال: لا أمَّ لك وما يصنعون بمعرفة ابن أم عمر؟! لكن يعرفهم من هو خير لهم مني معرفة: من ساق إليهم الشهادة وأكرمهم بها. ص99
قال فضيل: إن قدرت أن لا تُعرفَ فافعل، وما عليك أن لا تعرف؟! وما عليك أن لا يثنَى عليك؟! وما عليك أن تكونَ مذموماً عند الناس إذا كنتَ محموداً عند الله عز وجل. ص100
دُقَّ على داود الطائي بابه فقال: ليس هذا زمان تلاقي، لم يبقَ من الدنيا إلا الهموم والأحزان! ودفع بابه. ص100
قال الفضيل: كامل المروءة من بر والديه وأصلح ماله وأنفق من ماله وحسن خلقه وأكرم إخوانه ولزم بيته. ص100
قال الفضيل: ما أجد لذة ولا راحة ولا قرة عين إلا حين أخلو في بيتي بربي، فإذا سمعت النداء قلتُ: إنا لله وإنا إليه راجعون! كراهية أن ألقى الناس فيشغلوني عن ربي تبارك وتعالى. ص100
قال الفضيل: إذا رأيت الأسد فلا يهولنك ؛وإذا رأيت ابن آدم فخذ ثوبك، ثم فر، ثم فر. ص100
__________
(1) أي خوفاً.
(2) في الأصل (ترجو) بإثبات الواو.
(3) تصحفت في الأصل إلى (مه).(1/8)
قال الفضيل: تباعد من القراء فإنهم إن أحبوك مدحوك بما ليس فيك؛ وإن غضبوا شهدوا عليك وقُبِلَ منهم. ص101
قال مالك بن دينار: منذ عرفت الناس ما أبالي من حمدني ولا من ذمني، لأني لا أرى إلا حامداً مُفْرِطاً، أو ذامًّا مفَرِّطاً. ص101
قال الفضيل: من عرف الناس(1) استراح. ص101
قال بشر [الحافي]: بي داء حتى أعالج نفسي فإذا عالجت نفسي تفرغت لغيري؛ ما أبصرني بموضع الداء وموضع الدواء إن أعانني منه بمعونة؛ ثم قال: أنتم الداء، أرى وجوه قوم لا يخافون، متهاونين بأمر الآخرة. ص102
قال بشر: قال سفيان:(2) ليس الزهد في لبس الخشن وأكل الجشب؛ إنما الزهد في قصر الأمل؛ ثم قال: ما أحسن ما قال أبو عبد الله؛ ثم قال: أنا أقول: إن الزهد في ترك معرفة الناس. ص102
قال زيد بن أسلم: سكن رجل المقابر فعوتب في ذلك فقال: جيران صدق ولي فيهم عبرة. ص103
كان خليد العصري يصلي الغداة في نادي قومه ثم يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم يرجع فيأمر ببيته فيُقَمُّ ويغلق بابه، ثم يقول: مرحباً بملائكة ربي، مرحبا؛ أما والله لأشهدنكم اليوم من نفسي خيراً، بسم الله، أو قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر؛ فلا يزال كذلك حتى تغلبه عيناه أو يخرج إلى الصلاة. ص103
قيل لداود بن نصير الطائي: لِمَ لا تسرح لحيتك؟ قال: الدنيا دار مأتم، قيل: لمَ لا تجالس الناس؟ فقال: اللهم غفراً، إما صغير لا يوقرك وإما كبير يحصي عليك عيوبك؛ قال: وجاء رجل من الأكابر يريد أن يلقاه فجعل لا يمكنه؛ كان يخرج متقنعاً بثوبه كأنه خائف، فإذا سلم الإمام جاء مسرعاً كأنه رجل هارب حتى يدخل بيته. ص103
__________
(1) أي طبائع الناس وحقائقهم ومقاصدهم.
(2) هو الثوري، بدليل ما يأتي من كنيته.(1/9)
كتب حفص بن حميد إلى أحمد بن حفص البخاري: إعلم أني جربت من الناس ما لم تجرب أنت فلم أجد أخاً ستر علي عورة ولا غفر لي ذنباً فيما بيني وبينه، ولا أمنته إذا غضب، ولا وصلني إذا جفوته؛ فالاشتغال بهؤلاء حمق كبير - ثلاث مرات. ص104
قال الشعبي: ما جلس ربيع بن خثيم على مجلس ولا على ظهر طريق كذا وكذا؛ قال: أخاف أن يظلم رجل فلا أنصره، وأن يفتري رجل على رجل فأكلف الشهادة، أو يسلم علي فلا أرد السلام، أو يقع عن حاملة حملها فلا أحمل عليها؛ قال: فأنشأ يذكر من هذا. ص104
قال مجاهد: سأل يحيى بن زكريا ربه عز وجل قال: رب اجعلني أسلم على ألسنة الناس ولا يقولون فيَّ إلا خيراً، قال: فأوحى الله عز وجل إليه: يا يحيى لم أجعل هذا لي فكيف أجعله لك. ص104
قال الثوري: رضا الناس غاية لا تدرك، وطلب الدنيا غاية لا تدرك. ص105
قال الثوري: رضا المتمني غاية لا تدرك. ص105
قيل للحسن البصري: إن الناس يأتون مجلسك ليأخذوا سقط كلامك فيجدون الوقيعة فيك؛ فقال: هون عليك، فإني أطمعتُ نفسي في جوار الله فطمعت، وأطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً؛ إني لما رأيت الناس لا يرضون عن خالقهم علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم. ص105
حكى يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي أن رجلين كانا يتعاتبان والشافعي يسمع كلامهما فقال لأحدهما: إنك لا تقدر ترضي الناس كلهم فأصلح ما بينك وبين الله عز وجل، فإذا أصلحتَ ما بينك وبين الله عز وجل فلا تبال بالناس. ص105
قال الشافعي: طبع ابن آدم على اللؤم، فمن شأنه أن يتقرب ممن يتباعد منه ويتباعد ممن يتقرب منه. ص106
قال إبراهيم بن بشار: أوصانا إبراهيم بن أدهم قال: أقلوا معرفتكم من الناس ولا تَعَرَّفوا إلى من لم تعرِفوه، وأنكروا من تعرفوه. ص106(1/10)
قال إبراهيم بن بشار: أوصانا إبراهيم بن أدهم قال: فروا من الناس كفراركم من السبع الضاري، ولا تَخَلَّفوا عن الجمعة والجماعة. ص106
قال أبو سليمان [الداراني]: كل ما شغلك عن الله عز وجل من أهل أو مال أو ولد فهو عليك مشؤوم. ص107
قال جعفر بن سليمان: قلت لمالك بن دينار حين ماتت أم يحيى: يا أبا يحيى لو تزوجت، قال: لو استطعت لطلقت نفسي. ص107
قال بشر بن الحارث: حب الدنيا حب لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. ص107
جاء رجل إلى زيارة أبي بكر الوراق فلما أراد أن يرجع قال له: أوصني، فقال: وجدت خير الدنيا والآخرة في الخلوة والعزلة، ووجدت شرهما في الكثرة والاختلاط. ص107
قال ذو النون المصري: من نظر في عيوب الناس عمي عن عيوب نفسه، ومن عُني بالنار والفردوس شغل عن القال والقيل، ومن هرب من الناس سلم من شرورهم، ومن شكر زيد. ص107-108
قال ذو النون: الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس. ص108
قال يحيى بن معاذ: الوحدة منية الصديقين والأنس بالناس وحشتهم. ص108
قال أبو يعقوب السوسي: الإنفراد لا يقوى عليه إلا الأقوياء من الرجال ولأمثالنا الاجتماع أنفع يعملون بعضهم على رؤية بعض. ص108
قال عبد الله [بن مسعود]: خالطوا الناس وزايلوهم وصافحوهم بما يشتهون ودينكم لا تكلمونه(1). ص109
قال ذو النون بن إبراهيم المصري: من عرف ربه وجد طعم العبودية ولذة الذكر والطاعة، فهو بين الخلق ببدنه، قد نأى عنهم بالهموم والخطرات. ص111
__________
(1) قال البيهقي عقب هذا الأثر وغيره: وكل ذلك في مسلم لا يمنعه مخالطة الناس ومعاشرتهم من عبادة الله تعالى وإخلاص العمل لله عز وجل، فإن كان ذلك يمنعه منه وإذا عزلهم اشتغل بالعبادة وتفرغ لها فاعتزالهم والاشتغال بالعبادة أولى، والله أعلم.(1/11)
قال سفيان بن عيينة: لما بلغت خمس عشرة سنة قال لي أبي: يا بني قد انقطعت عنك شرائع الصبى فاختلط بالخير تكن من أهله ولا تزايله فتبين منه؛ ولا يغرنك من مدحك بما تعلم أنت خلافه منك فإنه ما من أحد يقول في أحد من الخير ما لم يعلم منه إلا قال فيه عند سخطه عليه من الشر على قدر ما مدحه؛ واستأنس بالوحدة من جلساء السوء؛ ولا تنقل أحسن ظني بك إلى أسوأ ظني بمن هو دونك(1)؛ فاعلم أنه لن يسعد بالعلماء إلا من أطاعهم فأطعهم تسعد واخدمهم تقتبس من علمهم؛ قال سفيان: فجعلت وصية أبي هذه قبلة أميل إليها ولا أميل عنها ولا أعدل عنها. ص111
قال الأعمش عن أبي وائل قال: مثل قراء الزمان كمثل غنم ضوائن ذوات صوف عجاف أكلت من الحمض وشربت من الماء حتى انتفخت خواصرها فمرت برجل فأعجبته فقام إليها فمس شاة منها فإذا هي لا تنقي، ثم مس أخرى فإذا هي لا تنقي، ثم مس أخرى فإذا هي كذلك، قال: كلٌّ لا خير فيه. ص119
روى الأعمش عن شقيق أبي وائل أو غيره: ما شبهت أهل الزمان إلا بدرهم دلكته فبدت حمرته(2). ص119
قال أبو هريرة: ذهب الناس وبقي النسناس، قيل له: وما النسناس؟ قال: الذين يشبهون الناس وليسوا بالناس. ص121
قال أبو المهلول: الزمان وعاء، وإنما فسد أهله(3)؛ ثم أنشأ يقول:
أرى حللاً تُصان على أناس
وأعراضاً تدال(4) ولا تصان
يقولونَ: الزمان زمان سوء
وهم فسدوا وما فسد الزمان
ص123-124
أنشد أبو العباس محمد بن شادل الهاشمي:
يعيب الناس كلهم الزمانا
وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا
ولو نطق الزمان به رمانا
لبسنا للخداع مسوك ضان
فويل للمعير إذا أتانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب(5)
ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
ص124
قال العتابي: [ص125]
ألا قد نكس الدهر فأضحى حلوه مرا
__________
(1) أي كن عند أحسن ظني بك.
(2) أي تبين أنه زائف مغشوش.
(3) وأما الزمان نفسه فلا يفسد.
(4) كذا ولعل الصواب (تنال) أو (تداس) أو غير ذلك.
(5) في الأصل (بعض) بدل (ذئب).(1/12)
وقد جربت من فيه فلم أحمدهمُ طرا
فألزِمْ نفسَك اليأسَ من الناس تعش حرا
أنشد الحاكم أبو القاسم محمد بن الحسين الجمحي لنفسه:
قل لمن رام عزة وتوقَّى
ذلةً أو أحبَّ أن لا يهونا
جانب الناس واعتزل ما أحبوا
من حطام تعش عزيزاً مصونا
واتق الله واسألِ الفضل منه
فهو للخلق ضامنٌ أن يمونا
ص127
قال منصور الفقيه:
الناس بحر عميق والبعد عنهم سفينه
وقد نصحتك فانظر لنفسك المستكينه(1)
ص127
قال سفيان بن عيينة: إلزم الحق ولا تستوحش لقلة أهله. ص131
قال بشر: قال سفيان: اسلك طريق الحق ولا تستوحش منه وإن كان أهله قليلاً. ص131
قال الحسين بن زياد: إنما رضيت بكلمة سمعتها من الفضيل بن عياض، قال الفضيل: لا تستوحش طريق الهدى لقلة أهله، ولا تغتر بكثرة الناس. ص131
حب الدنيا، والاشتغال بها عن الآخرة
قال الفضيل: جعل الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا؛ وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. ص133
قال بشر بن الحارث: لا يجد من يحب الدنيا حلاوة العبادة؛ قال: وقال عيسى ابن مريم عليه السلام: رأس كل خطيئة حب الدنيا. ص134
قال سفيان بن سعيد [الثوري]: كان عيسى عليه السلام يقول: حب الدنيا أصل كل خطيئة، والمال فيه داء كثير؛ قالوا: وما داؤه؟ قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء؛ قالوا: فإن سلم، قال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله عز وجل. ص134
قال مالك بن دينار: بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرُّة من قلبك، وبقدر(2) ما تحزن للآخرة كذلك يخرج هم الدنيا من قلبك. ص134
قال أحمد بن أبي الحواري: من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب لها أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه. ص134-135
قال مالك بن دينار: إن البدن إذا سقم لم ينجع فيه طعام ولا شراب ولا نوم ولا راحة؛ كذلك القلب إذا علق حب الدنيا لم تنجع فيه المواعظ. ص135
__________
(1) يحتمل أنها مصحفة عن (المسكينة).
(2) في الأصل (فبقدر).(1/13)
قال مالك بن دينار: قال بعض أهل العلم: نظرت في أصل كل إثم فلم أجده - من(1) كثرة امتحاني له - إلا حب المال، فمن ألقى عنه حب المال فقد استراح. ص135
قال أبو سليمان الداراني: إذا سكنت الدنيا في القلب ترحلت منه الآخرة. ص135
قال فضيل بن عياض: حزن الدنيا للدنيا يذهَب بهمِّ الآخرة، وفرح الدنيا للدنيا يذهَب بحلاوة العبادة. ص135
قال مالك بن دينار: حزنك على الدنيا يخرج حزن الآخرة من قلبك، وفرحك بالدنيا يخرج حلاوة الآخرة من قلبك. ص136
قال أبو حازم: يسير الدنيا يشغل عن كثير من(2) الآخرة؛ وقال: إنك لتجد الرجل يهتم بهمِّ غيره حتى إنه أشد همّاً من صاحب الهم بهم نفسه؛ وقال: ما أحببتَ أن يكونَ معك في الآخرة فقدمه اليوم، وما كرهتَ أن يكون معك في الآخرة فاتركه اليوم؛ وقال: كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه ثم لا يضرك متى متَّ. ص136
قال مالك بن دينار: قلب ليس فيه حزن كبيت خرب ليس فيه شيء. (يريد حزن الآخرة). ص137
قال الحسن: لو لم تكن لنا ذنوب نخاف على أنفسنا منها إلا حبنا للدنيا لخشينا على أنفسنا، إن الله يقول: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة)؛ أريدوا ما أراد الله. ص137
قال بلال بن سعد في موعظته: عباد الرحمن لو سلمتم من الخطايا فلم تعملوا فيما بينكم وبين الله خطيئة، ولم تتركوا لله طاعة إلا أجهدتم أنفسكم في أدائها إلا حبكم الدنيا لوسعكم ذلك شراً إلا أن يتجاوز الله عز وجل ويعفو. ص137
كان ابن السماك يقول: من أذاقته الدنيا حلاوتها بميله إليها جرعته الآخرة مرارتها بمجانبته عنها. ص137
__________
(1) يحتمل أن (من) مصحفة عن (مع).
(2) في بعض الكتب كلمة (من) هذه محذوفة وهو الأقرب.(1/14)
وقف رجل على إبراهيم بن أدهم فقال: يا أبا إسحاق لم حُجبت القلوب عن الله؟ قال: لأنها أحبت ما أبغض الله، أحبت الدنيا ومالت إلى دار الغرور واللهو واللعب، وتركت العمل لدار فيها حياة الأبد في نعيم لا يزول ولا ينفد، خالد مخلد، في ملك سرمد لا نفاد له ولا انقطاع. ص138
قال إبراهيم بن أدهم: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك، ذَم مولانا الدنيا فمدحناها،، وأبغضها فأحببناها، وزهَّد فيها فآثرناها ورغِبْنا في طلبها، ووعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونهاكم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها؛ دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها ومنتكم فأقررتم خاضعين لأمانيها، تتمرغون في زهراتها وتتنعمون في لذاتها وتتقلبون في شهواتها وتلوثون بتبعاتها، تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها وتبنون بالغفلة في أماكنها وتحصنون بالجهل في مساكنها. ص138
قال إبراهيم بن أدهم: قد رضينا من أعمالنا بالمعاني، ومن طلب التوبة بالتواني، ومن العيش الباقي بالعيش الفاني. ص138
قال إبراهيم بن أدهم: ما بالنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ولا نطلب كشفه من ربنا، ثكلته أمه عبداً أحب عبداً لدنيا ونسي ما في خزائن مولاه. ص138
قال بلال بن سعد: والله لكفى به ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا ونحن نرْغَب فيها! فزاهدكم راغب وعابدكم مقصر وعالمكم جاهل. ص139
قال عيسى ابن مريم عليه السلام: الدنيا مزرعة إبليس وأنتم عمارها. ص139
قال يزيد بن ميسرة: كان أشياخنا يسمون الدنيا خنزيرة، ولو وجدوا لها إسماً شراً منها لسموها به؛ وكانوا إذا أقبلت إلى أحدهم دنيا قالوا: إليك عنا يا خنزيرة لا حاجة لنا فيك، إنا نعرف إلهنا. ص139(1/15)
قال لقمان لابنه: يا بني إن الدنيا بحر عميق هلك فيه عالم وخلق كثير، فاجعل سفينتك فيه الإيمان بالله واجعل حشوها تقوى الله وطاعته واجعل شراعها الذي به تجري توكلاً على الله، لعلك تنجو، ولعلك لا تنجو. ص139
قال الفضيل لأبي تراب: يا أبا تراب الدخول في الدنيا هين ولكن التخلص منها شديد. ص140
قال بشر بن الحارث: لو لم أبغض الدنيا إلا أن الله عز وجل يُعصى فيها كان ينبغي أن نبغضها. ص140
قال أبو سليمان الداراني: من صارع الدنيا صرعته. ص140
قال أحمد بن أبي الحواري: من عرف الدنيا زهد فيها، ومن عرف الآخرة رغب فيها ومن عرف الله آثر رضاه. ص140
قال إبراهيم بن أحمد الخواص في أضعاف كلام: ومن لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة إليه، والإنسان في خلقه أحسن منه في جديد غيره، والهالك حقاً من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل. ص141
قال أبو بكر الرازي: قال الكتاني: كن في الدنيا ببدنك وفي الآخرة بقلبك. ص141
قال جرير بن يزيد: قلت لمحمد بن علي بن حسين عظني! قال: يا جرير اجعل الدنيا مالاً أصبته في منامك ثم انتبهت وليس معك منه شيء. ص141
قال أبو إسحاق القرشي: كتب إلي أخي من مكة: يا أخي إن كنت تصدقت بما مضى من عمرك على الدنيا وهو الأكثر فتصدق بما بقي من عمرك على الآخرة وهو الأقل. ص141
قال ابن عاصم المتطبب: سمعت بشر بن الحارث يتمثل بهذين البيتين وهما بيتان لمحمود الوراق:
مكرم الدنيا مهان مستذَلٌّ في القيامه
والذي هانت عليه فله ثَمَّ كرامه
ص141
قال هشام بن حسان: سمعت الحسن يحلف بالله: ما أعز الدرهمَ أحدٌ إلا أذله الله عز وجل. ص141(1/16)
قال الفضيل: بلغني أن رجلاً كتب إلى داود الطائي أن عظني بموعظة، قال: فكتب إليه: أما بعد فاجعل الدنيا كيوم صمته عن شهوتك واجعل فطرك الموت فكأن قد، والسلام؛ قال: فكتب إليه: زدني؛ فكتب إليه: أما بعد فلا يراك الله عند ما نهاك عنه، ولا يفقدك عند ما أمرك به؛ قال: فكتب إليه: زدني، فكتب إليه: أما بعد فارض من الدنيا باليسير مع سلامة دينك كما رضي أقوام بالكثير مع ذهاب دينهم؛ والسلام. ص141
قال سفيان الثوري: فضول الدنيا رجس عند الله يوم القيامة فقال رجل: يا أبا عبد الله ما فضول الدنيا؟ قال: أن يكون عندك فضل رداء وأخوك عاري، ويكون عندك فضل حذاء وأخوك حافي. ص141
قال ثابت البناني: قيل لعيسى ابن مريم عليه السلام: لو اتخذت حماراً تركبه لحاجتك! قال: أنا أكرم على الله عز وجل من أن يجعل لي شيئاً يشغلني عنه(1). ص143
قال بشر بن الحارث: قد أجمع أهل العلم أن الخفة في القيامة خير. ص143
قال بشر بن الحارث: قال مالك بن دينار: أَدْعُو، وأمِّنوا على دعائي: اللهم لا تدخل بيت مالك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً، قولوا: آمين. ص143
قال ابن داود: قال سفيان: ما أنفقت في بناءٍ درهماً قط. ص143
قال الفضيل: إن أردت أن تستريح فلا تبالِ(2) من أكل الدنيا. ص144
قال رجل لذي النون: الدنيا لمن؟ قال: لمن تركها فقال: الآخرة لمن؟ قال: لمن طلبها. ص145
رأى سعيد بن جبير ناساً يتبعونه فنهاهم وقال: إن هذه مذلة للتابع فتنة للمتبوع. ص148
مشى ناس خلف الحسن فقال: رحمكم الله ما يُبقي هذا من مؤمن ضعيف؟! ص148
قال أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان: من أراد خفق النعال خلفه فقد أراد الدنيا بأسرها ومَن فيها، وكانت حقيقة أمره أن أعطوني دنياكم وخذوا ديني واخلعوا إليَّ دنياكم فقد خلعت لها ولكم ديني. ص148
قال مجاهد: من كثر خدمه كثرت شياطينه. ص149
__________
(1) هذا الأثر فيه معنى عظيم، فليتدبر الناس ما هم عليه.
(2) وردت هذه الكلمة في الأصل بإثبات اللام.(1/17)
أتي يوسف بن أسباط بباكورة ثمرة فقلبها ثم وضعها بين يديه وقال: إن الدنيا لم تخلق لننظر إليها، إنما خلقت لننظر بها إلى الآخرة. ص149
قال بشر بن الحارث: لا أعرف أحداً في هذه القرية يدفع الدنيا بالصحة، إنما يدفع لينال - أو ليأتيه - منها أكثر. ص149
قال الحارث المحاسبي: ترك الدنيا مع ذكرها صفة الزاهدين؛ وتركها مع نسيانها صفة العارفين. ص149
النفس والهوى
قال أبو عثمان الحيري: من أمَّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة؛ ومن أمَّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول: (وإن تطيعوه تهتدوا). ص151-152
سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: الهوى يُردي وخوف الله يَشفي؛ واعلم أن ما يزيل عن قلبك هواك: إذا خفت من تعلم أنه يراك. ص152
قال أبو علي الحسن بن علي: الخَلق مالك ومملوك، فالمالك الذي يملك هواه، والعبد الذي يملكه هواه. ص152
قال محمد بن الفضل: أنزل نفسك منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بد له منها، فإن من ملك نفسه عز ومن ملكته ذل. ص152
قال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت جدي أبا عمرو يقول: من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه. ص154
قال محمد بن الفضل: الراحة هي الخلاص من أماني النفس. ص155
قال أبو الدرداء: يا رُبَّ مكرم لنفسه وهو لها مهين، ويا رب شهوة ساعة قد أورثت صاحبها حزناً طويلاً. ص155
قال الفضيل: لا يكمل عبد حتى يؤثر اللهَ على شهوته. ص155
قال أبو مسلم الخولاني، وكان ذا أمثال: [أرأيتم] نفساً إذا أكرمتها وودعتها ونعمتها ذمتني عند الله غداً؟! وإن أنا أهنتها وأنصبتها وأعملتها مدحتني عند الله غداً؟! قالوا: فمن تيكَ يا أبا مسلم؟! قال: تيك والله نفسي. ص160(1/18)
قال خارجة: قلت لعبد الله بن عمرو: كيف تقول في الجهاد والغزو؟ قال: ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزُها، فإنك أن قُتلتَ فارّاً بعثك الله فاراً، وإن قتلت مرائيا بعثك الله مرائياً، وإنْ قُتلتَ صابراً محتسباً بعثك الله صابراً محتسبا(1)ً. ص163
قال الأعمش: سمعتهم يذكرون عن عبد الله(2): انكم في زمان الهوى فيه تابع للعمل، وإن من بعدكم زماناً العمل فيه تابع للهوى. ص165
قال الحسن بن أبي عمرطة: رأيتُ عمر بن عبد العزيز قبل أن يستخلف فكنتَ تعرف الخيرَ في وجهه، فلما استخلف رأيتُ الموت بين عينيه. ص166
قيل لبعض الحكماء: لِمَ صارت الملوك أقسى الناس قلوباً؟ قال: تباعدت منها(3) الفِكَرُ، وقربت منها الشهوات، وتمكنت من اللذات؛ فاسودت. ص166-167
قال بنان بن محمد: من كان يسرُّه ما يضره (4)متى يفلح؟! ص167
قال رجل من العرب لابنه: أي بني إنه من خاف الموت بادر الفوت، ومن لم يلجم نفسه عن الشهوات أسرعت به التبعات، والجنة والنار أمامك. ص167
قال علي بن عثام: يفرح الرجل بالدرهم يستفيده، ولا يعلم أنه يحاسب عليه. ص167
__________
(1) هذا كلام جليل، فلا خير في مجاهدة العدو لمن لم يجاهد نفسه ويبلغ بها منزلة الاخلاص والصبر ليكون ذلك حاله عند لقاء العدو.
(2) ابن مسعود.
(3) أي من قلوب الملوك.
(4) يعني المعصية.(1/19)
قال عيسى المرادي: قال عيسى بن مريم عليه السلام: إن كنتم أصحابي وإخواني فوطنوا أنفسكم على العداوة والبغضاء من الناس، فإنكم إن لم تفعلوا فلستم لي بإخوان؛ إني إنما أعلمكم لتعلموا لا لتعجبوا؛ إنكم لا تبلغون ما تأملون إلا بصبركم على ما تكرهون، ولا تنالون ما تريدون إلا بترككم ما تشتهون؛ إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب شهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة؛ طوبى لمن كان بصره من قلبه، ولم يكن قلبه في بصر عينه؛ ما أبعد ما فات، وما أدنى ما هو آت؛ ويل لصاحب الدنيا كيف يموت وتتركه ويثق بها وتغُرُّه ويأمنها وتمكر به؟! ويل للمغترين قد آزفهم(1) ما يكرهون، وجاءهم ما يوعدون، وفارقوا ما يحبون في طول الليل والنهار؛ وويل لمن كانت الدنيا همه والخطايا عمله، كيف يفتضح غداً بربه [كذا] ؛ ولا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم وإن كانت لينة فإن القلب القاسي بعيد من الله عز وجل ولكن لا تعلمون؛ لا تنظروا في ذنوب الناس كهيئة الأرباب، فانظروا في ذنوبكم كهيئة العبيد؛ إنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فاحمدوا الله على العافية وارحموا أهل البلاء، متى نزل الماء على جبل إلا يلين له، ومذ متى تدرسون الحكم ولا تلين لها قلوبكم؟! بقدر ما تواضعون كذلك تُرحمون، وبقدر ما تحرثون كذلك تحصدون؛ علماء السوء مثلهم كمثل الشجرة الدفلى تعجب من نظر إليها وتقتل من يأكلها؛ كلامكم شفاء يبرئ الداء، وأعمالكم داء لا يبرئه شفاء جعلتم المعلم تحت أقدامكم مثل عبيد السوء؛ بحق أقول لكم، وكيف أرجو أن تنتفعوا بما أقول وأنتم الحكمة تخرج من أفواهكم ولا تدخل آذانكم وإنما بينهما أربع أصابع، ولا تعيها قلوبكم؛ فلا أحرار كرام ولا عبيد أتقياء. ص167
__________
(1) أي اقترب منهم.(1/20)
قال جعفر بن برقان: بلغني عن وهب بن منبه أنه قال: إن من أعون الأخلاق على الدين: الزهادة في الدنيا، وأوشكها ردى: اتباع الهوى؛ ومن اتباع الهوى الرغبة في الدنيا؛ ومن الرغبة في الدنيا حب المال والشرف؛ ومن حب المال والشرف استحلال الحرام؛ ومن استحلال الحرام يغضب الله؛ وغضب الله عز وجل الداء الذي لا دواء له إلا رضوان الله عز وجل؛ ورضوان الله عز وجل الدواء الذي لا يضر معه داء؛ فمن يرد أن يرضي ربه يسخط نفسه، ومن لم يسخط نفسه لا يرضي ربه؛ إن كان كلما ثقل على الإنسان شيء من أمر دينه تركه أوشك أن لا يبقى معه منه شيء. ص169
قال شعيب بن حرب: دخل إبراهيم ابن أدهم على بعض هؤلاء الولاة فقال له: من أين معيشتك؟ قال إبراهيم:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
قال: فقال الوالي: أخرجوه فقد استثقل. ص170
قال بعض العابدين: مثلت في نفسي الجنة آكل ثمارها وأعانق أزواجها وألبس من حليها، ومثلت في نفسي النار آكل من زقومها وأشرب من حميمها وأعالج أغلالها؛ فقلت: يا نفس أي شيء تريدين الآن؟ فقالت: أن أُرَدَّ إلى الدنيا فأعمل، قلت: الآن أنت في الأمنية، فاعملي. ص171
قال إبراهيم التيمي: أي حسرة على امرئ أكبر من رجل(1) خوله الله عز وجل مالاً في الدنيا جاء يوم القيامة وزره عليه ومنفعته لغيره؟! وأي حسرة على امرئ أكبر من رجل خوله الله مملوكاً في الدنيا جاء المملوك يوم القيامة أفضل عند الله منزلة منه؟! وأي حسرة على امرئ أكبر من عبد جعل الله له جاراً ضرير البصر جاء الضرير يوم القيامة يبصر وجاء هو أعمى؟! إن من كان قبلكم كانت الدنيا عليهم مقبلة وهم يتباعدون منها، وإنكم تحرصون عليها وهي تتباعد منكم فما أبعد ما بينكم وبين القوم؟! ص171
__________
(1) التقدير (حسرة رجل).(1/21)
قال ابن عيينة: سمعت أبا حازم يقول: اشتدت مؤنة الدين والدنيا، قيل: كيف ذاك يا أبا حازم؟ قال: أما الدين فليس تجد عليه أعواناً؟ وأما الدنيا فليس تمد يدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليه. ص172
كان لمالك بن دينار جار كما شاء الله أن يكون، وكان إذا استقبله مالك يقول(1): يا أبا فلان إن كان المال الذي قد جمعته من حلال فقد آن لك أن تقتصر عليه، وإن كان من حرام فقد آن لك أن تردها على أربابها؛ فكان من جوابه لمالك: يا مالك إنا ندق الدنيا دقاً دقاً فقال مالك: إذاً والله يأتيك الموت فيدقك دقاً دقاً؛ فضرب الدهر ضرباته ما ضرب، فمرض ذلك الرجل فدخل عليه مالك بن دينار فقال له: كيف تجدك؟ قال: الرجل: بشرٍّ، فقال مالك: وكيف ذاك؟ قال الرجل: أتاني آت من ربي فقال: أبشر بشر. ص173
قال مالك بن دينار: قال لي عبد الله الداري(2) - وكان أحد معلميّ - يا مالك إن سرك أن تبلغ ذروة هذا الأمر فاجعل بينك وبين الشهوات حائطاً من حديد. ص174
قال محمد بن الفضل البلخي: الدنيا بطنك فبقدر زهدك في بطنك زهدك في الدنيا. ص175
قال بشر بن الحارث: لم أر شيئاً أفضح لهذا العبد من بطنه. ص175
قال إبراهيم بن أدهم: الجوع يرق القلب. ص175
قال أبو سليمان الداراني: إذا جاع القلب وعطش صفا ورق وإذا شبع وروي عمي. ص176
قال الفضيل: خصلتان تقسيان القلب كثرة النوم وكثرة الأكل. ص176
قال العتبي: كنا نجلس إلى شيخ لنا حكيم وكان يقول: مسكين ابن آدم مكتوم الأجل مكتوم العلل أسير الجوع صريع الشبع. ص176
__________
(1) أي مالك.
(2) لعل الصواب (الحداني)، فإن عبد الله بن غالب الحداني أحد شيوخ مالك.(1/22)
قال إبراهيم الخواص: قال بعض أهل المعرفة: لا يطمع أحد في السهر مع الشبع ولا يطمع في الحزن مع كثرة النوم ولا يطمع في صحة أمره مع مخالطة الظلمة ولا يطمع في لين القلب مع فضول الكلام ولا يطمع في حب الله مع حب المال والشرف ولا يطمع في الأنس بالله مع الأنس بالمخلوقين ولا يطمع في الروح مع الرغبة في الدنيا. ص177
قال ابراهيم الخواص: إن الله يحب ثلاثاً ويبغض ثلاثاً، فأما ما يحب: فقلة الكلام وقلة النوم وقلة الأكل، وأما ما يبغض: فكثرة الكلام وكثرة الأكل وكثرة النوم. ص177
قال أحمد بن أبي الحواري قال لي أبو سليمان الداراني: يا أحمد جوع قليل وذل قليل وعري قليل وفقر قليل وصبر قليل وقد انقضت عنك أيام الدنيا. ص179
قال الفضل بن ثور: قلت: يا أبا سعيد، يعني للحسن [البصري] رجلان، طلب أحدهما الدنيا بحلالها فأصاباها فوصل بها رحمه وقدم منها لنفسه ورجل رفض الدنيا؟ قال أحبهما إلي الذي رفض الدنيا. ص180
قال جعفر بن سليمان: اجتمع مالك بن دينار ومحمد بن واسع، فقال مالك: إني لأغبط رجلاً معه دينه له غداء وليس له عشاء راض عن ربه؛ فقال محمد بن واسع: إني لأغبط رجلاً معه دينه وليس معه شيء من الدنيا راض عن ربه؛ قال: فانصرف القوم يرون أن محمد بن واسع أقوى الرجلين. ص180
قال ابن شوذب: اجتمع محمد بن واسع ومالك بن دينار فتذاكروا العيش فقال مالك: ما شيء أفضل من أن يكون للرجل غلة يعيش منها؛ فقال محمد بن واسع: طوبى لمن وجد غداء ولم يجد عشاء ووجد عشاء ولم يجد غداء والله عنه راض. ص180
قال جعفر بن برقان: قال صالح بن مسمار: ما بارك الله لرجل في دنيا صار بعدها إلى النار؛ قلت: صدقتَ؛ قال: ولقد بارك الله لرجل في دنيا صار بعدها إلى الجنة؛ قلت: صدقت. ص182
قال جعفر بن برقان: سمعت صالح بن مسمار يقول: عجبت للناس، فقلت: وما لهم؟ قال: خرجوا من الدنيا مفاليس وتركوا خزائنهم. ص182(1/23)
قال صالح بن مسمار: نعمة الله علينا فيما زوى من الدنيا أعظم من نعمته علينا فيها بسط منها. ص182
مات صالح بن مسمار فترك درهماً وأربع دوانيق وقيل له عند موته: أوصِ بأمك وأختك(1) إلى من شئت، قال: إني لأستحي من الله أوصي بهما إلى غيره. ص182
أصاب محمد بن كعب القرظي مالاً فقيل له: ادخر لولدك من بعدك، قال: لا، ولكن ادخره لنفسي عند ربي وادخر ربي لولدي. ص182
قال معاذ بن جبل: إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم وستبتلون بفتنة السراء، قالوا: وما فتنة السراء؛ قال: إذا لبس النساء عصب اليمن ورياط الشام فأتعبن الغني وكلفن الفقير ما لا يجد. ص183
قال أبو حازم: اعلموا أنه ليس شيء من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلكم فآثر نفسك أيها المرء بالنصيحة على ولدك، واعلم أنك إنما تخلف مالك في يد رجلين: عامل فيه بمعصية الله فيشقى بما جمعت له، وعامل فيه بطاعة الله فيسعد بما شقيت له، فارج لمن قدمت منهم رحمة الله، وبقِّ لمن خلفت منهم رزق الله. ص183
قال معتمر بن سليمان: قال لي سفيان الثوري: يا معتمر صاحب العيال لا يكون رجلاً صالحاً، وما رأيت صاحب عيال إلا خلط ودخل فيما لايعنيه. ص184
قال سفيان بن عيينة: صاحب العيال لا يفلح، كانت لنا هرة لا تكشف القدور، فلما ولدت كشفت القدور. ص184
سئل الجنيد بن محمد عن الفقير والغني أيهما أفضل؟ فقال: أفضلهما أطوعهما لله عز وجل؛ قيل له: فإذا كانا جميعاً طائعين؟ فقال: كلاهما فعلان محمودان غير أن الذي اختاره الله عز وجل لنبيه عليه السلام أفضل، ولم أره اختار له الغنى، فمع حسن اختيار الله عز وجل لنبيه عليه السلام الفضل. ص186
__________
(1) في الأصل (أو أختك)، والذي أثبتُّه موافق لما يأتي من تثنية الضمير إن كانت التثنية محفوظة.(1/24)
قال ابن أبي الحواري : قلت لأبي صفوان الرعيني: أي شيء الدنيا التي ذمها الله في القرآن ينبغي للعامل أن يجتنبها؟ قال: كل ما عملت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكلما أصبت منها تريد به الآخرة فليس منها؛ فحدثت بها مروان فقال: الفقه على ما قال أبو صفوان. ص187
قال إبراهيم بن أدهم: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال لخالد بن صفوان: عظني وأوجز، قال: فقال خالد: يا أمير المؤمنين إن أقواماً غرهم ستر الله عز وجل وفتنهم حسن الثناء؛ فلا يغلبنَّ جهلُ غيرك بك علمَك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون بالستر مغرورين وبثناء الناس مسرورين، وعن ما افترض الله متخلفين مقصرين، وإلى الأهواء مائلين؛ قال: فبكى ثم قال: أعاذنا الله وإياك من اتباع الهوى. ص187
قال أحمد بن يونس: سمعت سفيان الثوري يقول ما لا أحصي: اللهم سلم سلم، اللهم سلمنا منها إلى خير، اللهم ارزقنا العافية في الدنيا. ص187
قصر الأمل والاستعداد للموت
خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالكوفة فقال: أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم طول الأمل واتباع الهوى فأما طول الأمل فينسي الآخرة وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق؛ ألا إن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة مقبلة، ولكل واحد منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل. ص193
قال سفيان: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباء. ص194
قال فضيل بن عياض: ما أطال رجل الأمل إلا أساء العمل. ص194
قال محمد بن غالب تمتام: كتب إبراهيم بن أدهم إلى سفيان الثوري: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، ومن أطلق لسانه قتل نفسه. ص194-195
قال معروف الكرخي: أعوذ بك من أمل يمنع العمل. ص195
قال مالك بن دينار: أربع من عَلَمِ الشقاء: قسوة القلب وجمود العين وطول الأمل والحرص على الدنيا. ص195(1/25)
قال وهيب بن الورد: ويل لمن كانت الدنيا أمله والخطايا عمله، عظيم بطشه قليل فطنته، عالم بأمر دنياه جاهل بأمر آخرته. ص195
قال يزيد بن معاوية: قال أبو الدرداء وكان من العلماء: تأملون وتجمعون فلا ما تأملون تدركون ولا ما تجمعون تأكلون. ص195
قال الشبلي: ليكن همك معك لا يتقدم ولا يتأخر. ص196
قال الفضيل: إنما أمس مثَل(1)، واليوم عمل وغداً أمل. ص196
قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: مضى أمسك، وعسى غداً لغيرك. ص196
قال الحسن: الدنيا ثلاثة أيام: أما أمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلك أن لا تدركه؛ فاليوم لك فاعمل فيه. ص196
قال عبد الله بن منازل: من اشتغل بالأوقات الماضية والآتية ذهب وقته بلا فائدة. ص196
قال شميط بن عجلان: إن المؤمن يقول لنفسه: إنما هي ثلاثة، فقد مضى أمس بما فيه، وغداً أمل لعلك لا تدركه؛ إنك إن كنت من أهل غد فإن غد يجيء برزق غد، إن دون غدٍ يوماً وليلة تخترم فيها أنفس كثيرة لعلك المخترم فيها؛ كفى كل يوم همه. ص196
قال بعضهم: الاشتغال بوقت ماض تضييع وقت ثان. ص197
قال الفضيل: تفكروا واعملوا من قبل أن تندموا ولا تغتروا بالدنيا فإن صحيحها يسقم وجديدها يبلى ونعيمها يفنى وشبابها يهرم. ص197
قال يحيى بن معاذ الرازي: من لم يترك الدنيا اختياراً تتركه الدنيا اضطراراً، ومن لم تزل عنه نعمته في حياته زال عنه نعمته بعد وفاته. ص197
قال إبراهيم بن بشار: كتب عمرو بن المنهال المقدسي إلى إبراهيم بن أدهم وهو بالرملة أن عظني بموعظة احفظها عنك؛ قال: فكتب إليه: أما بعد فإن الحزن على الدنيا طويل والموت من الإنسان قريب وينقص منه في كل وقت نصيب وللبلى في جسمه دبيب فبادر بالعمل قبل أن ينادى بالرحيل واجتهد في العمل في دار الجهاز قبل أن تدخل دار المقر. ص198
__________
(1) أي صورة أو خبر، لا غير ذلك.(1/26)
قال يحيى بن معاذ الرازي: المغبوط من الناس من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى ربه قبل أن يرضاه. ص198
عوتب عطاء السليمي في الرفق بنفسه فقال: أتأمروني بالتقصير والموت في عنقي والقبر بيتي وجهنم أمامي ولا أدري ما يصنع بي ربي عز وجل. ص198
قال ابن الفرجي: من لم يغتنم الفرصة في وقت الإمكان ورث الندم في وقت عدم الوجود. ص199
قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: هذه غنيمة باردة: أصلح ما بقي من عمرك يغفر لك ما مضى. ص199
قالت داية داود الطائي: قلت له يعني لداود: يا أبا سليمان أما تشتهي الخبز؟ قال: يا داية بين مضغ الخبز وشرب الفتيت خمسين آية. ص199
قال الجنيد بن محمد: سمعت السري يقول: اجعل قبرك خزانتك، احشُها(1) من كل عمل صالح يمكنك، فإن وردتَ على قبرك سرك ما ترى فيه. ص200 ونحوه في ص292.
قال إبراهيم السايح: قال لي إبراهيم بن أدهم: يا أبا إسحاق اعبد الله سراً حتى تخرج على الناس يوم القيامة كميناً. ص200
قال إبراهيم بن أدهم: لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يجوز ست عقبات، أوله: يغلق باب النعمة ويفتح باب الشدة، والثاني: يغلق باب العز ويفتح باب الذل، والثالث: يغلق باب الراحة ويفتح باب الجهد، والرابع: يغلق باب النوم ويفتح باب السهر، والخامس: يغلق باب الغنى ويفتح باب الفقر، والسادس: يغلق باب الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت. ص200
قال سلمة بن كهيل: لقي خيثمة محارباً [بن دثار] فقال: كيف حبك للموت؟ قال: ما أحبه، قال: إن ذلك بك لنقص كبير. ص200
قال الأوزاعي: مثل الموت مثل الولد في الرحم، لا يحب الخروج، فإذا خرج لم يحب أن يدخل، وكذلك المؤمن إذا خرج من الدنيا فعاين ثواب الله لم يحب أن يرجع إلى الدنيا. ص201
قال الحسن البصري ذات يوم لجلسائه: يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا بلغ؟ قالوا: الحصاد؛ قال: يا معشر الشباب إن الزرع قد تدركه العاهة قبل أن يبلغ. ص201
__________
(1) كانت (احشوها).(1/27)
ذكر مالك بن أنس أن لقمان قال لابنه: يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرة سراعاً يذهبون، وإنه قد استدبرت الدنيا لتذهب واستقبلت الآخرة، وإنَّ داراً تسير إليها أقرب اليك من دار تخرج منها. ص201
قال بلال بن سعد: عباد الرحمن يقال لأحدنا: تحب أن تموت؟ فيقول: لا، فيقال: لِمَ؟ فيقول: حتى أعمل، فيقال له: إعمل! فيقول: سوف؛ فلا يحب أن يموت ولا يحب أن يعمل؛ وأحب شيء إليه أن يؤخر عمل الله عز وجل، ولا يحب أن يؤخر عنه عرض دنياه. ص201
قال محمد بن إسحاق الثقفي: قال بعض الحكماء: عجبت ممن يحزن على نقصان ماله ولا يحزن من فناء عمره؛ وعجبت من الدنيا مولية عنه والآخرة مقبلة إليه يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة. ص202
قال الربيع بن برة: يا ابن آدم إنما أنت جيفة منتنة طُيِّبَتْ نسمتك بما قد ركب فيك من روح الحياة، لو قد نزعت منك روحك لبقيت جيفة ملقاة وجيفة منتنة وجسداً خاوياً، قد جِيفَ بعد طِيبِ ريحه، واستُوحش منه بعد الأنس بقربه؛ فأي الخليقة أجهل منك؟! فالعجب منك إذ كنت تعلم أن هذا مصيرك وإلى التراب مقيلك ثم أنت بعد هذا القول تقر بالدنيا عيناً. ص202
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: أما بعد إياك أن تدركك الصرعة عند الغرة فلا تقال العثرة ولا تمكن من الرجعة ولا يعذرك من تقدم عليه ولا يحمدك من خلفتَ له لما تركت له؛ والسلام. ص202
قال محمد بن واسع وهو في الموت: يا إخوتاه أتدرون أين يُذهبُ بي؟ يذهب بي والله الذي لا إله إلا هو إلى النار أو يعفو عني. ص204
قال أبو الدرداء: ابنَ آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عن قليل تكون قبرك؛ ابن آدم إنما أنت أيام، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك؛ ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمك. ص204
قال الحسن : ابن آدم إنك بين مطيتين يوضعانك، الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة فمن أعظم منك يا ابن آدم خطراً؟! ص204(1/28)
كتب الأوزاعي إلى أخ له: أما بعد فإنه قد أحيط بك من كل جانب واعلم أنه يسار بك(1) في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به والسلام. ص207
قال سهل بن عبد الله: الناس نيام فإذا انتبهوا ندموا، وإذا ندموا لم تنفعهم ندامتهم. ص207
قال أبو عبد الرحمن(2): قلت لإبراهيم بن ثابت الدعّاء لما أردت الخروج من بغداد: أوصني، فقال: دع ما تندم عليه(3). ص207
قال روح بن مدرك وهو على المنبر يخطب: الآن قبل أن تسقم فتضنى وتهرم فتفنى ثم تموت فتنسى ثم تقبر فتبلى ثم تبعث فتحيى ثم تحضر فتدعى ثم توقف فتجزى بما قدمت وأمضيت وأذهبت فأفنيت من موبقات سيئاتك ومتلفات شهواتك فالآن الآن وأنتم سالمون. ص208
قال علي بن حمشاذ: سمعت عقيل بن عمرو يقول في خطبته: إخواني لابد من الفناء فليت شعري أين الملتقى. ص208
مصائب الدنيا ونكدها
قيل لوهب بن منبه: بم زهدت في الدنيا؟ قال: بحرفين وجدتهما في التوراة: يا من لا يستتم سرور يوم ولا يأمن على روحه يوماً، الحذر الحذر. ص208
قال الشافعي: لما بنى هشام بن عبد الملك الرصافة قال: أحب أن أخلو يوماً لا يأتيني فيه خبرُ غمٍّ؛ فما انتصف النهار حتى أتته ريشة دم من بعض الثغور فأوصلت، قال: ولا يوماً واحداً؟! ص209
__________
(1) تصحفت جملة (يسار بك) فأصلحتها.
(2) هو السلمي شيخ البيهقي.
(3) ما أجمع هذه الوصية وأنفعها!(1/29)
قال منازل بن سعيد: صلينا خلف جنازة فيها داود الطائي وهو لا يراني خلفه فقال: أوه ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون، ثم قال لنفسه: يا داود من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله قصر عمله، وكل ما هو آت قريب، واعلم يا داود أن كل شيء يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤوم، واعلم يا داود أن أهل الدنيا جميعاً من أهل القبور إنما يندمون على ما يخلفون ويفرحون بما يقدمون؛ فما(1) عليه أهل القبور يندمون عليه أهل الدنيا يقتتلون، [و]فيه يتنافسون وعليه عند القضاء يختصمون؛ ثم نظر إلي فقال: لو علمت أنك خلفي لم أنطق بحرف. ص209
قال محمد بن أبي توبة: أقام معروف الصلاة ثم قال لي: تقدم، فقلت: إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرهافقال معروف: وأنت تحدث نفسك أن تصلي صلاة أخرى؟! نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل. ص210
قال حاتم الأصم: سمعت شقيقاً يقول: استعد إذا جاءك الموت أن لا تسأل الرجعة. ص211
قال الأصم: ما من صباح إلا والشيطان يقول لي(2): ما تأكل وما تلبس وأين تسكن؟! فأقول: آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر. ص211
قال الصلت بن مسعود: خرج الحسن بن صالح بن حي يوماً من بيتي فنظر إلى جراد يطير فقال: يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر، ثم خر مغشياً عليه. ص212
قال أيوب: إنه ليبلغني موت الرجل من إخواني وكأنه يسقط عضو من أعضائي. ص212
ذكر سفيان بن عيينة عن الربيع بن أبي راشد قال: لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد؛ ولولا أن أخالف من كان قبلي لسكنت الجبانة حتى أموت. ص212
قال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد يقول: أيها الناس إنكم لم تخلقوا للفناء وإنما خلقتم للبقاء وإنما تنقلون من دار إلى دار كما نقلتم من الأصلاب إلى الأرحام ومن الأرحام إلى الدنيا ومن الدنيا إلى القبور ومن القبور إلى الموقف ومن الموقف إلى جنة أو نار. ص213
__________
(1) كانت (فبما).
(2) أي من خلال حديث النفس.(1/30)
قال إبراهيم بن بشار: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول هذا كثيراً: دارنا أمامنا وحياتنا بعد موتنا إما إلى الجنة وإما إلى النار. ص213
قال إبراهيم بن أدهم لابراهيم بن بشار: يا ابن بشار مثِّل لبصر قلبك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك فانظر كيف تكون، ومثِّلْ له هول المطلع ومسائلة منكر ونكير(1) فانظر كيف تكون، ومثل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب والوقوف فانظر كيف تكون. ص213
قال إبراهيم بن أدهم: إن للموت كأساً لا يقوى على تجرعها إلا خائف وجل طائع كان يتوقعها؛ فمن كان مطيعا فله الحسنى والكرامة والنجاة من عذاب القيامة؛ ومن كان عاصياً نزل بين الحسرة والندامة يوم الصاخة والطامة. ص213
عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أنه جاءه رجل فقال: أوصني، قال: هيئ جهازك وقدم زادك وكن وصيَّ نفسِك. ص214
قال جابر بن عون الأسدي: أول كلام تكلم به سليمان بن عبد الملك أنه قال: الحمد لله الذي ما شاء صنع وما شاء رفع وما شاء وضع وما شاء أعطى وما شاء منع؛ إن الدنيا دار غرور ومنزل باطل وزينة وتقلب، تضحك باكياً وتُبكي ضاحكاً وتخيف آمناً وتؤمن خائفاً، تفقر مثريها(2) وتُثري فقيرها، ميالة لاعبة بأهلها؛ يا عباد الله اتخذوا كتاب الله إماما وارضوه حكماً، واجعلوه لكم قائداً، فإنه ناسخ لما كان قبله ولن ينسخه كتاب بعده؛ اعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان وصفاصفه، كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس إدبار الليل إذا عسعس. ص215
قال الحسن: حقيق على من كان الموت موعده والقبر مورده والحساب مشهده أن يطول بكاؤه وحزنه. ص215
قال الفضيل بن عياض: كفى بالله محباً، وبالقرآن مؤنساً، وبالموت واعظاً، وكفى بخشية الله علماً والاغترار بالله جهلاً. ص216
__________
(1) لا يثبت حديث مرفوع أو موقوف في تسمية الملكين بهذين الإسمين.
(2) في الأصل (مترثها).(1/31)
نظر الحسن إلى ميت يدفن فقال: والله إنَّ أمراً هذا أوله لحري أن يخافَ آخره، وإنَّ أمراً هذا آخره لحري أن يزهُدَ في أوله. ص216
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات(1) فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل، والسلام عليك. ص216
دخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبد العزيز فقال له: عظني، فقال: أنت أول خليفة يموت يا أمير المؤمنين، قال: زدني، قال: لم يبق أحد من آبائك من لدن آدم إلى أن بلغت النوبة إليك إلا وقد ذاق الموت، قال: زدني، قال: ليس بين الجنة والنار منزل والله إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم وأنت أبصر ببرك وفجورك؛ فبكى عمر حتى سقط عن سريره. ص216
دخل عنبسة على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين إنه كان من كان قبلك يعطينا عطايا منعتناها، وإن لي عيالاً وضيعة [و]قد أحببت أن أتعاهد ضيعتي وما يصلح عيالي، فقال عمر: أحبكم إلينا من فعل ذلك فلما ولَّى قال: أبا خالد أبا خالد أكثرْ ذكرَ الموت فإنك لا تذكره وأنت في ضيق من العيش إلا وسعه عليك ولا تذكره وأنت في سعة من العيش إلا ضيقه عليك. ص217
قال الحسن: إن هذا الموت فضح الدنيا ولم يدع لذي لب فرحاً، يا لها من موعظة لو وافقت من القلوب حياة. ص217
قال مطرف: أفسد الموت على أهل النعيم نعيمهم فاطلبوا نعيماً لا موت فيه. ص217
قال ثابت: أي عبد أعظم حالاً من عبد يأتيه ملك الموت وحده ويدخل قبره وحده ويوقف بين يدي الله وحده، ومع ذلك ذنوب كثيرة ونعم من الله كثيرة. ص218
كان ابن سيرين إذا ذكر الموت عنده مات كل عضو منه على حدته. ص218
قال بشر بن الحارث: يا ليت شعري كيف يخرج المذنبون غداً من قبورهم؟! وأين مفر الظالمين غداً من الله عز وجل؟! ص218
__________
(1) كان في هذه العبارة خلل فأصلحتها من كتب أخرى.(1/32)
قال قبيصة: ما جلست مع سفيان - يعني الثوري - مجلساً إلا ذكر فيه الموت، وما رأيت أحداً كان أكثر ذكراً للموت منه. ص219
قال محمد بن كثير الطرسوسي: حدثنا حماد بن سلمة قال: كان سفيان الثوري عندنا بالبصرة وكان كثيراً ما يقول: ليتني قد مت، ليتني قد استرحت، ليتني في قبري، فقال له حماد بن سلمة: يا أبا عبد الله ما كثرة تمنّيك الموت؟! والله لقد آتاك الله القرآن والعلم! فقال سفيان - يعني لحماد بن سلمة: يا أبا سلمة وما يدريني لعلي أدخل في بدعة، لعلي أدخل فيما لا يحل لي، لعلي أدخل في فتنة، أكون قدْ متُّ فسبقت هذا. ص219-220
قال مالك بن مغول: قيل لربيع بن أبي راشد: ألا تجلس فتحدث؟ قال: إن ذكر الموت إذا فارق قلبي ساعة فسد عليَّ قلبي، قال مالك: ولم أر رجلاً أظهر حزناً منه. ص220
قال عمران بن خالد الخزاعي: رأيت حسان بن أبي سنان وحوشب التقيا فقال حوشب لحسان: كيف أنت يا أبا عبد الله؟ كيف حالك؟ قال: ما حال من يموت ثم يبعث ثم يحاسب؟! ص220
قال هشام بن حسان: سمعت أبا الضريس عمارة بن حرب يقال له: كيف أصبحت يا أبا الضريس؟ فيقول: إن نجوت من النار فأنا بخير. ص220
قال عطاء الأزرق: قلت للحسن: كيف أصبحت يا أبا سعيد؟ كيف حالك؟ قال: بأشد حال، ما حال من أمسى وأصبح ينتظر الموت لا يدري ما يفعل الله به؟! ص221
قال يحيى بن معاذ: الدنيا دار أشغال والآخرة دار أهوال، ولا يزال العبد بين الأشغال والأهوال حتى يستقر به القرار إما إلى جنة وإما إلى نار. ص221
روى سلم بن بشير أن أبا هريرة بكى في مرضه فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: أبكي لبعد سفري وقلة زادي وأني أصبحت في صعود مهبطة إلى جنة أو نار فلا أدري إلى أيتهما يسلك بي. ص221(1/33)
قال عمر بن ذر: قيل للربيع بن خثيم: كيف أصبحت يا أبا يزيد؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا(1). ص221
قال رجل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين كيف أصبحتَ؟ قال: أصبحت بطياً بطيناً متلوثاً في الخطايا أتمنى على الله عز وجل الأمانيّ. ص222
قال جعفر بن سليمان: سمعت إبراهيم بن عيسى اليشكري: إذا قيل له: كيف أصبحتَ؟ قال: أصبحت في أجل منقوص وعمل محفوظ والموت في رقابنا والقيامة من ورائنا ولا ندري ما يفعل الله عز وجل بنا. ص222
قال هشام بن حسان: لقيت محمد بن واسع فقلت له: كيف أصبحت أو كيف أمسيتَ؟ فقال: أصبحت سيء عملي قريب أجلي بعيد أملي. ص223
قال عقبة الأصم: كنا عند أبي تميمة الهجيمي فجاءه بكر بن عبد الله فقال: يا أبا تميمة كيف أصبحت؟ قال: بين نعمتين أميل بينهما لا أدري أيتهما أفضل: ذنب ستره الله علي فلا يستطيع أحد أن يرميني به، ومحبة رزقنيها الله من عباده وعزته(2) ما بلغها عملي. ص223
قال ابن مسعود: ما أحد أصبح اليوم إلا وهو ضيف وماله عارية، والضيف مرتحِل، والعارية مؤداة. ص223
قال إبراهيم بن بشار: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: إخوتي عليكم بالمبادرة والجد والاجتهاد وسارعوا وسابقوا فإنَّ نعلاً فقدت أختها سريعة اللحاق بها. ص 224
__________
(1) عن سفيان الثوري عن أبيه قال: كان إذا قيل للربيع بن خثيم: كيف أصبحتم؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا. ص221-222
(2) في الأصل (وعرته).(1/34)
قال إبراهيم بن بشار: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: اذكر ما أنت صائر إليه حق ذكره، وتفكر فيما مضى من عمرك هل تثق به وترجو أنه منجاة من عذاب ربك؟! فإنك إذا كنت كذلك شغلك قلبك بالاهتمام بطريق النجاة عن(1) طريق الآمنين اللاهين المطمئنين الذين أتبعوا أنفسهم هواها فوقفهم(2) على طريق هلكاتهم لا جرم سوف يعلمون وسوف يتأسفون(3)، وسوف يندمون (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). ص224
قال إبراهيم بن بشار: مضيت مع إبراهيم بن أدهم في مدينة يقال لها أطرابلس، ومعي رغيفان(4) ما لنا شيء غيرهما، وإذا سائل يسأل، فقال لي: إدفع إليه ما معك، فلبثت فقال: ما لك؟! أعطه، قال: فأعطيته وأنا متعجب من فعله! فقال: يا أبا إسحاق إنك تلقى غداً ما لم تلقه قط، واعلم أنك تلقى ما أسلفت ولا تلقى ما خلفت، فمهد لنفسك فإنك لا تدري متى يفجؤك أمر ربك؛ قال: فأبكاني كلامه وهون علي الدنيا، قال: فلما نظر إلي أبكي قال: هكذا فكن. ص225
قال إبراهيم بن أدهم: مر عبد الله بن عمر على قوم مجتمعين وعليه بردة حسناء فقال رجل من القوم: إن أنا سلبته بردته فما لي عندكم؟ فجعلوا له شيئاً فأتاه فقال: يا أبا عبد الرحمن بردتك هذه هي لي! فقال: فإني اشتريتها بالأمس، قال: قد أعلمتك وأنت في حرج من لبسها، قال: فهتكها ليدفعها إليه، قال: فضحك القوم، فقال: ما لكم؟! فقالوا: هذا رجل بطال، قال: فالتفت إليه فقال: يا أخي أما علمت أن الموتَ أمامك لا تدري متى يأتيك صباحاً أو مساءً ليلاً أو نهاراً؟! ثم القبر وهول المطلع ومنكر نكير وبعد ذلك القيامة يوم يحشر فيه المبطلون؟! فأبكاهم ومضى. ص225
__________
(1) في الأصل (على) فجعلتها (عن).
(2) أي الهوى.
(3) في الأصل (ينافسون) والتصحيح من حلية الأولياء 8/18.
(4) في الأصل (رغيفين).(1/35)
قيل لذي النون بن إبراهيم: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت وبنا من نعم الله عز وجل ما لا يحصى مع كثير ما نعصي؛ فلا ندري على ما نشكر؟! على جميل ما نشر أم على قبيح ما ستر. ص225
قال هشام: قيل للحسن: لم لا تغسل قميصك؟! قال: الأمر أسرع من ذلك. ص226
قال بشر بن الحارث: أنظر لا يأخذك وأنت ذاهب في حاجة، يعني الموت. ص226
قال لقمان لابنه: يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة. ص227
قال جعفر بن عون: سمعت مسعر بن كدام يقول: كم من مستقبل يوماً ليس بمستكمله؟! ومنتظرٍ غداً وليس بمستدركه؟! ولولا الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره. ص227
قال عون بن عبد الله: كم من مستقبل يوماً لا يتمه ومنتظر غداً لا يبلغه؟! ولو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره. ص227
قال الأوزاعي: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير ومن عرف أن منطقه من عمله قل كلامه. ص227
قال عبد الرحمن بن مهدي: أدركت امرأة لا أقدم عليها رجلاً ولا امرأة ممن أدركت، كانت إذا أصبحت قالت: يا نفس هذا اليوم ساعديني يومي هذا فلعلك لا ترين بياض يوم أبداً، وإذا أمست قالت: يا نفس هذه الليلة ساعديني ليلتي هذه فلعلك لا ترين سواد ليلة أبداً؛ فما زالت تخدع وتدفع يومها بليلتها وليلتها بنهارها حتى ماتت على ذلك. ص228
قال [سفيان] بن عيينة: أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيخرج إلى دار همٍّ، وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيراناً لم ير مثلهم، ويوم يبعث فيشهد مشهداً لم ير مثله قط؛ قال الله تعالى ليحيى بن زكريا في هذه الثلاثة مواطن: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا). ص228
دفن النعمان بن سويد الزاهد وعلى شفير القبر سفيان بن سعيد فقال: قد كسرت معلته فصب في حجره. ص229
قال يحيى بن معاذ الرازي: لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه ويوم حشره ميزانه. ص229
قال مسعر بن كدام:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردى لك لازم
وتشغل فيما سوف تكره غبه(1/36)
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
وقال:
ومشيد داراً ليسكن داره
سكن القبور وداره لم يسكن
ص230
كان عمر بن عبد العزيز كثيرا ما يتمثل:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردى لك لازم
وتتعب فيما سوف تكره غبه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
ص230
قال علي بن عثام: قال مطرف بن عبد الله: هو الموت نخاوضه ولا بد منه؛ قيل(1): وما نخاوضه؟ قال: نروغ عنه - من الخيض. ص231
قال العباس بن حمزة: لو التفتَ طولُ أملي فعاينَ قربَ أجلي لاستحى طولُ أملي من قرب أجلي. ص231
قال إبراهيم بن أدهم: مررت في بعض جبال الشام فإذا حجر مكتوب عليه نقش بين بالعربية والحجر عظيم:
كل حي وإن بقي فمن العمرِ يستقي
فاعمل اليوم واجتهد واحذر الموتَ يا شقي
ص232
قال مصعب الزبيري: أشعر ما لأبي العتاهية عندي قوله:
تعلقتَ بآمال طوالٍ أيِّ آمال
وأقبلتَ على الدنيا ملحّاً أيَّ إقبال
فيا هذا تجهز لفراق الأهل والمال
فلا بد من الموت على حال من الحال
ص232
قال الحسن: كان آدم عليه السلام في الجنة وأمله وراء ظهره وأجله بين عينيه، فلما خرج من الجنة جعل أمله بين عينيه وأجله وراء ظهره. ص233
قال أبو الحسن المدائني: لبس سليمان بن عبد الملك ثياباً جميلة ثم نظر إلى وجهه في المرآة فقال: والله أنا الملك الشاب فأعجبته نفسه! قال: وجارية تصب على يديه فقالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى غير أن لا بقاء للإنسان
أنت خلو من العيوب ومما يكره الناس غير أنك فاني
قال: فصاح بها وقال للوليد:
قرب وضوءك يا وليد فإنما دنياك هذه بلغة ومتاع
فاعمل لنفسك في حياتك صالحاً فالدهر فيـه تفرق وجماع
ص233-234
أنشد الأصمعي:
الدهر أفناني وما أفنيته والدهر غيرني ولا يتغير
إنَّ امرءاً أمسى أبوه وأمه تحت التراب فحقه يتفكر
ص234
قال عبد الله بن المعتز:
الدهر يبلى وآمال الفتى جدد
تزيد آمالُـه والدهرُ يفنيها
ليلٌ وصبحٌ وآجالٌ مقدرةٌ
تمضي ونمضي وتطوينا ونطويها
__________
(1) في الأصل (قال) مكان (قيل).(1/37)
ص234
قال عبد الله بن محمد القرشي(1): أنشدني أبو عبد الله أحمد بن أيوب:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع
فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح رأيت من غير سقم
ذهبت نفسه الصحيحة فلته
ص 235
قال عبد الله بن محمد ابن أبي الدنيا: أنشدني محمود بن الحسن:
مضى أمسك الماضي شهيداً معدَّلاً(2)
وأعقبـه يوم عليك جديد
فإن كنت بالأمس اقترفتَ إساءةً
فثنِّ بإحسانٍ وأنت حميد
فيومك إن أعتبته عاد نفعه
عليك وماضي الأمس ليس يعود
ولا تُرْجِ فعلَ الخير يوماً إلى غدٍ
لعلَّ غداً يأتي وأنتَ فقيد
ص235
قال حميد عن أبي عثمان: بلغت نحواً من ثلاثين ومئة سنة وما مني شيء إلا قد عرفت النقص فيه إلا أملي فإني أرى أملي كما هو. ص235
قال مالك بن دينار: أتت على رجل ممن كان قبلكم خمس مئة [سنة] ثم أُتي بعدها فقيل له: أتحب الموت؟ فقال: واحزناه! من يحب أن يفارق هذا النسيم؟! ص235
قال الصلتان العبدي:
أشاب الصغيرَ وأفنى الكبيرَ
مَرُّ النهارِ وكَرُّ العَشِيّ
إذا ليلة هزمت يومها
أتى بعد ذلك يومٌ فتيّ
نروح ونغدو لحاجاتنا
وحاجةُ من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته
وتبقى له حاجة ما بقي
ص236
قال الربيع بن برة: إنما يحب البقاء من كان عمره له غنماً وزيادة في عمله؛ فأما من غُبنَ عمرَه واستزله هواه فلا خير له في طول الحياة. ص241
قال ابن عيينة: قال لي رجل لو قيل لي أي شيء أعجب إليك؟ لقلت: قلب من عرف ربه ثم عصاه؛ وقال ابن عيينة: كان يقال: إنما لك من عمرك ما أطعت الله فيه، فأما ما عصيتَه فلا تعده لك عمراً. ص241
أنشد أبو بكر بن أبي دارم:
أعيني هلا(3) تبكيان على عمري
تناثر عمري من يدي ولا أدري
إذا كنت قد جاوزت ستين حَجة
ولم أتأهب للمعاد فما عذري
ص242
قيل لعمر بن الخطاب: هذا غلام بني فلان الشاعر فقال له: كيف تقول؟ قال:
ودِّع سليمى إن تجهزت غادِياً
كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا
__________
(1) هو ابن أبي الدنيا.
(2) أي تقبل شهادنه.
(3) كانت هكذا (هل لا).(1/38)
فقال عمر: صدقت. ص246-247
أنشد أبو عمر هلال بن العلاء:
يا خاضبَ الشيبِ بالحناء تستره
سل المليكَ له ستراً من النارِ
لنْ يرحلَ الشيبُ عن دارٍ أقامَ بها
حتى يرحل عنها صاحب الدار
ص248
قال الأصمعي: وعظ أعرابي رجلاً فقال: إن يسار النفس أفضل من يسار المال، فمن لم يرزق غِنى فلا يحرم تقوى، فرب شبعان من النعم غرثان من الدين والكرم؛ وإن المؤمن على خير حتى ترحب به الأرض وتستبشر به السماء، ولن يساء إليه في بطنها وقد أحسن على ظهرها، وإن الموت ليتقحم على الشيخ كتقحم الشيب على الشباب، فمن عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء ولم يجزع فيها على بلوى. ص248
أنشد للبحتري:
وإذا مضى للمرء من أعوامِه
خمسون وهو عن الصبا لم يجنح
عكفت عليه المخزيات وقلن
قد أضحكتَنا وسررْتَنا لا تبرح
وإذا رأى إبليس غرة وجهه
حيّا وقالَ: فديتُ من لم يفلح
ص248-249
أنشد أبو بكر بن أبي الدنيا:
إذا مضى القرنُ الذي أنت منهم
وخُلفْتَ في قرن فأنت غريب
وإنَّ امرءاً قد سار خمسين حجة
إلى منهل من ورده قريب
ص249
قال حفص بن غياث: قيل للأعمش: مات مسلم النحات، فقال: إذا مات أقران الرجل فقد مات. ص249
قال أبو يوسف القاضي: ما هدني شيء مثل ما هدني موت الأقران. ص250
قال أيوب: ما نعي إلي أحد من إخواني إلا خُيِّل إليَّ أن عضواً من أعضائي سقط. ص250
كان معاوية يقول: أنا والله من زرع قد استحصد؛ ونعي له عبد الله بن عامر بن كريز والوليد بن عقبة وكان أحدهما أكبر منه والآخر دونه فقال:
إذا سار مَنْ خلْفَ امرئٍ وأمامَه
وأُفرِدَ من أصحابه فهو سائر
ص250(1/39)
قال أبو مسهر الدمشقي: حضر غداء عبد الملك بن مروان يوماً فقال لآذنه: خالد بن عبد الله بن أسيد(1)، قال: مات يا أمير المؤمنين! قال: فأمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، قال: مات يا أمير المؤمنين! قال: خالد بن يزيد بن معاوية، قال: مات يا أمير المؤمنين! قال: ففلان، قال: مات يا أمير المؤمنين! قال: وكان عبد الملك قد علم أنهم قد ماتوا فقال: إرفع يا غلام، وقال:
ذهبتْ لِداتي(2) وانقضت آجالهم
وغبرت بعدهم ولست بغابر
ص250
قال محمد بن أعين: كان عندنا فتى قلَّ ما ينام بالليل، يصلي ويقرأ ويسبح؛ فإذا كان من آخر الليل يبكي ويقول:
تفكرت طولَ الليل فيما جنيته
وذكَّرتُ نفسي كلَّ ذنبٍ أتيتُه
وأنكرت منها ما تعاطيتُ في الصبا
كأنَّ شبابي كان سهماً رميتُه
وسوَّدَ صحفي بالذنوب أوانه
وولّى سريعاً مثلَ حلم رأيته
ص252
قال الحسن بن عبد الله الأديب: أنشدني بعض أهل الأدب:
ألم أقل للشبابِ: في كنف الله
وفي حفظهِ، غداةَ تولّى
زائرٌ لم يزَلْ مقيماً إلى أن
سوَّدَ الصحف بالذنوب وولى
ص252
قال أبو رهم السدوسي:
من كان يبكي الشبابَ مِن أسفٍ
فلستُ أبكي عليه وأأْسف
كيف وشرخ الشباب عرضني
يوم حسابي لموقف التلف
ص252
قال محمد بن يحيى: سمعت أبا مسهر ينشد:
هَبْكَ عُمِّرتَ مثلَ ما عاش نوح
ثم لاقيت كلَّ ذاكَ(3) يسارا
هل من الموت لا أبا لك بدٌّ؟!
أيُّ حي إلى سوى الموت صارا؟!
ص255
قال: وسمعت أبا مسهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له
من الله في دار المقام نصيبُ
فإنْ تُعْجِبِ الدنيا رجالاً فإنه
متاعٌ قليلٌ والزوال قريبُ
ص255
قال محمود الوراق:
يبكي على ميتٍ ويغفلُ نفسَه
كأنَّ بكفيهِ أماناً(4) من الردى(5)
وما الميتُ المقبور في صدرِ يومِه
__________
(1) أي إئذن له.
(2) لدات الرجال أقرانه الذين يلدون معه في أوقات متقاربة، ومثله أتراب المرأة.
(3) في الأصل (ذلك) ولا يستقيم معها وزن البيت.
(4) في الأصل (أمان).
(5) أي الموت.(1/40)
أحقّ بأن يبكيه من ميتٍ غدا
ص257
قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: قلت لعابد: يرحمك الله أخبرني ما دليل الخوف(1)؟ قال: الحذر؛ قلت: فما دليل الشوق؟ قال: الطلب؛ قلت: فما دليل الرجاء: قال العمل؛ قلت: رحمك الله فمن أين جاء ضعفنا؟! قال: لأنكم وثقتم حلم الله عنكم وستر الله عليكم على معصيته؛ ثم أنشأ يقول:
إن كنت تفهم ما أقول وتعقلُ
فارحل بنفسك قبلَ أنْ بكَ يُرْحَلُ
وذر(2) التشاغلَ بالذنوبِ وخلِّها
حتى متى وإلى متى تتعلل؟!
ص260
قال بهلول:
يا من تَمتَّعُ(3) بالدنيا وبهجتِها
ولا تنامُ عن اللذات عيناه
أفنيتَ عمرَك فيما لستَ تدركُه
تقول لله ماذا حين تلقاه؟!
ص261
قال الحسين بن الحسن: أنشدنا أبو هفان الشاعر وقد مررنا بمقبرة بسامرة:
ألا يا عسكر الأحيا(4) هذا عسكر الموتى
أجابوا الدعوةَ الصغرى وهم منتظرو الكبرى
يحثون على الزاد وما زادٌ سوى التقوى
يقولون لكم: جُدّوا فهذا(5) غاية الدنيا
ص268
سئل بعض الحكماء فقيل له: من أنعم الناس عيشاً؟ قال: بدن في التراب قد أمن العقاب ينتظر الثواب. ص268
قال قتادة: مكتوب في التوراة: ابن آدم أرزقك وتعبد غيري؟! ابن آدم تعمل بعمل الفجار وتبتغي ثواب الأبرار؟! ابن آدم تجتني من الشوك العنب؟! كما تدين تدان، كما تزرع تحصد، ابن آدم كما ترحم ترحم، ابن آدم كيف ترجو رحمة الله وأنت لا ترحم عباده؟! ابن آدم تدعو إليَّ وتفرُّ مني(6)؟! ص275-276
فضائل وعواقب الطاعات
وشرور وعواقب المعاصي
__________
(1) أي الدليل على وجود الخوف من الله تعالى وعلى أنه خوف حقيقي ليس مدخولاً وليس شيئاً آخر يشبه الخوف.
(2) أي واترك.
(3) أصلها (تتمتع) فحذف التاء تخفيفاً أو لأجل الوزن.
(4) في الأصل (الأحيا) ولعل ما كتبته هو الأقرب من حيث القوانين الشعرية.
(5) أي الموت والبلى.
(6) ليتأمل الدعاة أو من تشبه بهم هذه الكلمة الأخيرة تأملاً طويلاً وعميقاً، وإن كانت ظاهرة المعنى واضحة المقصد.(1/41)
قال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك؛ ولكن الخير أن يكثر عملك وأن يعظم حلمك وأن تبادر في عبادة ربك؛ ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتدارك ذنوبه بالتوبة، أو يسارع في دار الآخرة ولا يُقِلُّ التقوى، وكيف يُقِلُّ ما يُتَقَبل. ص276
قال الأعمش: قال لي أبو وائل: نعم الرب ربنا، لو أطعناه ما عصانا(1). ص281
قال مالك بن دينار: قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ طاعة الله تجارةً تأتيك(2) الأرباح من غير بضاعة. ص281
قال حذيفة: من أراد أنساً بلا جماعة وعزاً بلا عشيرة فليتخذ طاعة الله بضاعة. ص281
قال أحمد بن حنبل: الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، فمن لم يعمل هنا ندم هناك. ص281
قال أبو سليمان الداراني: من أحسن في نهاره كوفي في ليله، ومن أحسن في ليله كوفي في نهاره، ومن صدق في ترك شهوة ذهب الله بها من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له(3). ص283
قال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت جدي أبا عمرو يقول: من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه. ص284
قال الأصمعي: وعظ أعرابي قوماً فقال: رحم الله امرءاً كان قوياً فاستعمل قوتَه في طاعة الله، وكان ضعيفاً فعجز عن معاصي الله. ص284
__________
(1) أي لو أطعناه لتفضل علينا بإجابة الدعاء وتحقيق الرجاء ولعمنا برحمته ومنته وجنبنا كل ما يضرنا، واستعمال لفظ (عصانا) هنا لا بد أن يحمل على وجه صحيح، فإنه ورد على لسان هذا التابعي الجليل تلميذ الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه، ورواه الحافظ الكبير والمقرئ الشهير الأعمش رحمه الله.
(2) كذا ورد هذا الفعل مرفوعاً وهو جائز كجواز الجزم.
(3) هذه حكمة عظيمة مهمة ومعرفة عالية نافعة.(1/42)
كان سفيان الثوري يكتب إلى إخوانه بأربعة أحرف: ذُلَّ(1) عندَ الطاعةِ، واستعْصِ(2) عندَ المعصيةِ، وجالس الناسَ على قدر تقواهم، ولا تَصلحُ القراءة(3) إلا بالزهد. ص284
قال زيد بن أسلم: بلغنا أن لقمان قال لابنهِ: يا بني إذا فعلت الخير فارْجُ الخيرَ، وإذا فعلتَ الشرَّ فلا تشكَّ أن يفعلَ بك الشرُّ. ص284
قال الهيثم بن عمران: سمعت كلثوم بن عياض القشيري وهو على منبر دمشق ليالي هشام وهو يقول: من آثرَ اللهَ آثره اللهُ، فرحم الله عبداً استعان بنعمته على طاعته ولم يستعن بنعمته على معصيته، فإنه لا يأتي على صاحب الجنة ساعة إلا وهو مزاد صنفاً من النعيم لم يكن يعرفه، ولا يأتي على صاحب العذاب ساعة إلا وهو مستنكر لشيء من العذاب لم يكن يعرفه. ص285
قال حاتم الأصم: الجهاد ثلاثة: جهاد في سرك مع الشيطان حتى تكسرَه، وجهاد في العلانية في أداء الفرائض حتى تؤديها كما أمر الله، وجهاد مع أعداء الله في عز الإسلام. ص286
قال ذو النون: من صحَّحَ(4) استراح، ومن تقربَ(5) قُرِّب، ومن صفّى(6) صُفِّي له، ومن توكل وثق، ومن تكلف ما لا يعنيه ضيع ما يعنيه. ص286
سئل سهل(7): متى يكون العبد عبداً؟ قال: إذا رضي بالله وباختياره له. ص287
قال الجنيد بن محمد: سرعة الغضب واحتقار الفقر وحب المنزلة، كل ذلك من حب النفس، وهو خلع العبودية ومنازعة الربوبية. ص287
قال بعضهم: التهاون بالأمر من قلة المعرفة بالآمر(8). ص289
__________
(1) أي لأمر الله وأمر كل من يدعوك إلى طاعة.
(2) أي على النفس والشيطان وكل من يأمرك بمعصية أو يدعوك إليها.
(3) أي التعلم.
(4) أي أعماله وأقواله، القلبية والبدنية.
(5) أي عمل بأسباب القرب من الله.
(6) في الأصل (صفا) وله وجه صحيح بتخفيف الفاء.
(7) هو سهل بن عبد الله التُّستري.
(8) هذا كقول التابعي الجليل بلال بن سعد رحمه الله: لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.(1/43)
قال الجنيد لرجل وهو يعظه: جماع الخير كله في ثلاثة أشياء: إن لم تُمْضِ نهارك بما هو لك فلا تمضِه بما هو عليك؛ وإنْ لم تصحب الأخيار فلا تصحب الأشرار؛ وإن لم تنفق مالك فيما لله فيه رضا فلا تنفقه فيما لله فيه سخط. ص291
قال الفضيل لرجل: ممن أنت؟ فقال: مهلبي، قال: إن كنتَ رجلاً صالحاً فأنت الشريف كل الشريف، وإنْ كنتَ رجلَ سوء فأنت الوضيع كل الوضيع. ص291
قيل لسلمان(1) ما حسَبك؟ قال: كرم ديني، وحسبي التراب، ومن التراب خلقت، وإلى التراب أصير، ثم أبعث وأصير إلى الموازين، فإن ثقلت موازيني فما أكرم حسبي وما أكرمني على ربي، يدخلني الجنة؛ وإن خفت موازيني فما ألأم حسبي وما أهونني على ربي، ويعذبني إلا أن يجود بالمغفرة والرحمة على ذنوبي. ص291
عن أبي هريرة قال: إذا كان يوم القيامة قال الله: أيها الناس إني جعلت سبباً ونسباً، وجعلتم سبباً ونسباً، جعلت أكرمكم أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان كان أكرم من فلان؛ وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم، أين المتقون؟! ص292
عن سعيد عن قتادة (تماماً على الذي أحسن) قال: من أطاع الله في الدنيا خلصت له كرامة الله في الآخرة. ص292
قال الحسن بن عمرو: قال بشر بن الحارث: يا حبذا لعمل الصالح ما أحسنَه خلْفَ ذاك اللِّبْن(2)؛ قال: وسمعت بشراً يقول: ذهب أهل الخير بالدنيا والآخرة. ص292-293
قال الجنيد: فتح كل باب شريف بذل المجهود. ص293
قال هرم بن حيان: لو قيل لي: إنك من أهل النار لم أترك العمل لئلا تلومني نفسي. ص293
__________
(1) الفارسي رضي الله عنه.
(2) يعني لبن القبر.(1/44)
قال ثابت: كان صلة بن أشيم يخرج إلى مسجد له في الجبان فيمر على شباب على لهو لهم فيقول: أي قوم أخبروني عن قومٍ أرادوا سفراً فحادوا(1) بالنهار عن الطريق، وناموا الليل متى يقطعون سفرهم؟! فانتبه منهم شاب فقال: إن هذا الشيخ إنما يعينكم بقوله! إذا كنتم بالنهار في لهوكم وبالليل تنامون متى تريدون أن تقطعوا سفركم؟! قال: ولزم الشاب صلة فتعبد معه حتى مات. ص293-294
قال عبد الله بن مسعود: إني لأبغض الرجل أراه فارغاً لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته. ص294
قال أبو العباس الدينوري: ليس في الدنيا والآخرة أعز وألطف من الوقت والقلب، وأنت مضيع للوقت والقلب. ص294
قال معتمر بن سليمان: قال عيسى عليه السلام: كانت الدنيا قبل أن أكون فيها وهي كائنة بعدي وإنما لي منها أيام معدودة، فإذا لم أسعدْ في أيامي فمتى أسعد؟! ص294
قال بعضهم: ابكوا قبل أن تتمنوا أن تبكوا فلا تقدروا عليه، ابكوا على ثروتكم وشبابكم ثم اغتنموا بقية أعماركم، فقد قال الصادق علي بن أبي طالب: بقية عمر الرجل لا ثمنَ له(2). ص295
قال مالك بن دينار: كان عيسى عليه السلام يقول: إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما؛ وكان يقول: اعملوا لليل(3) لما خلق له واعملوا للنهار لما خلق له. ص295
قال عاصم قال فضيل الرقاشي وأنا أسائله: يا هذا لا يشغلنك كثرة الناس عن نفسك فإن الأمر يخلص إليك دونهم، ولا تقل: أذهب ها هنا وها هنا ليذهب عليَّ النهار، فإنه محفوظ عليك؛ ولم نر شيئاً قط أحسن طلباً ولا أسرع إدراكاً من حسنة حديثة لذنب قديم. ص295
روى أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: لم أر شيئاً أحسن إداركاً ولا أسرع طلباً من حسنة حديثة لذنب قديم، ثم قرأ ابن عباس: (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين). ص296
__________
(1) في الأصل (فجازوا) وأصلحتها موافقة لما في حلية الأولياء 2/238.
(2) أي ليس يعادله ثمن.
(3) كذا وردت هذه الجملة وما بعدها.(1/45)
قال بعضهم: العمر قصير والوقت ضيق والأيام تقضى وليس في الوقت فضل. ص297
قال عبد الرحمن بن مهدي: كنا مع سفيان الثوري جلوساً بمكة فوثب وقال: النهار يعمل عمله. ص297
قال بعضهم: إن الليل والنهار رأس مال المؤمن، ربحها(1) الجنة وخسرانها النار. ص297
قال مطر الوراق: إن المؤمن يصبح تائباً ويمسي تائباً، عاتباً(2) على نفسه، مزري عليها في كثير، ولا يسعه إلا ذلك. ص297
قال مطر الوراق: تنجزوا موعود الله بطاعة الله فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين. ص297
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: أنشدني عامر بن العباس الهمداني الزاهد:
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق
والليالي متجر الإنسان والأيام سوق
ص298
قال ابن المبارك: قلت لهشيم: من منصور بن زاذان؟ قال: كان يصلي الغداة ولا يكلم أحداً حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام فصلى إلى نحو الزوال، ويدخل منزله ثم يخرج إلى الظهر ويصلي ما بين الظهر إلى العصر، ثم يصلي العصر ويسلم علينا فيقول هل من مريض؟ هل من جنازة؟ فإن كان(3) قام فتبع أو عاد، ثم صلى المغرب، فصلى ما بين المغرب والعشاء، ثم صلى العشاء ثم يدخل منزله؛ قلت: كم كان هذا حاله؟ قال: أربعين سنة---. ص298
كتب أبو الدرداء إلى مسلمة بن مخلد: سلام عليك، أما بعد فإن العبد إذا عمل بطاعة الله أحبه الله، فإذا أحبه الله حببه إلى عباده، وإن العبد إذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، فإذا أبغضه الله بغَّضه إلى عباده. ص299
قال محمد بن واسع: إذا أقبل العبد بقلبه إلى الله تبارك وتعالى أقبل الله إليه بقلوب المؤمنين. ص299
كان هرم بن حيان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. ص299-300
قال قتادة في قوله (سيجعل لهم الرحمن وداً) قال: إي والله، وداً في قلوب أهل الإيمان. ص300
__________
(1) أي ربح المتاجرة بهما.
(2) يحتمل أنها (عائباً).
(3) أي فإن كان مرض أو جنازة.(1/46)
قال ابن عباس: (سيجعل لهم الرحمن وداً) قال: يحبهم ويحببهم. ص304
الورع
قال وهيب بن الورد: إذا أردت البناء فأسسه على ثلاث: على الزهد والورع والنية؛ فإنك إن أسسته على غير هؤلاء إنهدم البناء. ص310
قال وهيب بن الورد: من لم يكن فيه ثلاث فلا يعتد بعمله شيئاً: ورع يحجزه عما حرم الله، وحلم يكف به السفيه، وخلق يداري به الناس. ص310
قال أبو وائل: سمعت ابن مسعود يقول: ينتهي الإيمان إلى الورع ومن أفضل الدين أن لا يزال باله غير خال من ذكر الله؛ ومن رضي بما أنزل الله من السماء إلى الأرض دخل الجنة إن شاء الله؛ ومن أراد الجنة لا شك فيها فلا يخاف في الله لومة لائم. ص311
قال طاوس: مثل الإسلام كمثل شجرة فأصلها الشهادة وساقها كذا - شيئاً سماه - وثمرها الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع له(1). ص311
قال قتادة: قال عبد الله بن مطرف: إنك لتلقى الرجلين أحدهما أكثر صوماً وصلاة والآخر أكرمهما على الله، بوناً بعيداً! قلت: كيف ذاك يا أبا جزي؟ قال: يكون أورعهما في محارمه. ص311
قال رجل لسعيد بن المسيب: يا أبا محمد لا نقوى على ما يقوى عليه هؤلاء! قال: وما يقوى عليه هؤلاء؟ قال: يواظبون على الصلاة ما بين الظهر إلى العصر، فقال: إنما العبادة التفكر في أمر الله والورع في دينه. ص312
قال الضحاك: لقد أدركت أصحابي وما يتعلمون إلا الورع. ص312
قال أبو العباس بن عطاء: تولد ورع المتورعين من ذكر الذر والخردلة وإن رباً يحاسب على اللحظة والهمزة واللمزة لمستقصي في المحاسبة، وأشد منه أن يحاسبه على مقادير الذرة وأوزان الخردلة، ومن يكن هكذا حسابه لحري أن يتقى. ص315
__________
(1) ورد هذا الأثر في جامع معمر 11/161 ومن طريقه أورده المصنف.(1/47)
قال يونس بن عبيد: عجبت من كلمات ثلاث: عجبت من كلمة مورق العجلي: ما قلت في الغضب شيئاً فندمت عليه في الرضا؛ وعجبت من كلمة محمد بن سيرين: ما حسدت أحداً على شيء من الدنيا، إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى الجنة؟! وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو صائر إلى النار؟! وعجبت من كلمة حسان بن أبي سنان: ما شيء أهون عندي من الورع: إذا رابني شيء تركته! ص315
قال سفيان الثوري: عليك بالزهد يبصرك الله عورات الدنيا وعليك بالورع يخفف الله حسابك ثم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك. ص316
قال يحيى بن معاذ: الورع اجتناب كل ريبة وترك كل شبهة، والوقوف مع الله على حد العلم من غير تأويل. ص316
قال شاه الكرماني: علامة التقوى الورع وعلامة الورع الوقوف عند الشبهات. ص316
كتب بعض إخوان الضحاك بن مزاحم إليه: اكتب إليَّ كتاباً تجمع فيه الأمر وما يلزم العبد فكتب إليه الضحاك: أما بعد فإن الله الواحد القهار مختار من الأعمال أخيارها، وهي الفرائض التي افترض على عباده، وهو سائلهم عن وفائها؛ ومن تطوع بخير فإن الله شاكر عليم؛ وإن الله جل ثناؤه حلل حلالاً بيناً وحرم حراماً بيناً، وبين ذلك شبهات، وهي حزازات الصدور، فمهما حز في صدرك فدعه وعليك بحلال الله، وإياك وحرامه؛ جعلنا الله وإياك من المتقين. ص317
قال إسحاق بن خلف: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة؛ والزهد في الرئاسة أشد منه في الذهب والفضة؛ لأنه يبذلهما في طلب الرئاسة. ص319
روى أبو قلابة أن عمر بن الخطاب قال: لا تنظروا إلى صيام أحد ولا صلاته ولكن انظروا إلى صدق حديثه إذا حدث وأمانته إذا ائتمن وورعه إذا أشفى. ص322(1/48)
قال إبراهيم التيمي: لقد أدركت ستين من أصحاب عبد الله في مسجدنا هذا وأصغرهم الحارث بن سويد وسمعته وهو يقرأ: (إذا زلزلت) حتى بلغ (فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) ثم بكى ثم قال: إن هذا الإحصاء شديد. ص324
قال أبو الدرداء: قال لولا ثلاث خلال لأحببت أن لا أبقى في الدنيا، فقلت: وما هن؟ فقال: لولا وضوع وجهي للسجود لخالقي في اختلاف الليل والنهار أقدمه لحياتي، وظمأ الهواجر، ومقاعدة أقوام ينتقون الكلام كما تنتقى الفاكهة؛ وتمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه في مثقال ذرة، حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً، يكون حاجزاً بينه وبين الحرام؛ إن الله تبارك وتعالى اسمه قد بين للعباد الذي هو يصيرهم إليه، قال الله عز وجل: (فمن يعمل مثال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) فلا تحقرن شيئاً من الشر أن تتقيه، ولا شيئاً من الخير أن تفعله. ص324-325
قال شريح لرجل: يا عبد الله دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فوالله لا تدع من ذلك شيئاً فتجد فقده. ص325
قال شريح: لا يدع عبد شيئاً تحرجاً(1) فيجد فقده. ص 328
كتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: أوصيك بتقوى الله فإنك إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئاً، فعليك بتقوى الله عز وجل. ص331
قال توبة العنبري: وفدني صالح بن عبد الرحمن إلى سليمان بن عبد الملك فخرجت من عند سليمان فدخلت على عمر بن عبد العزيز فقلت له: لك إلى صالح حاجة؟ قال: قل له: عليك بالذي يبقى لك عند الله فإن ما بقي لك عند الله لم يبق لك عند الناس. ص333
كتب ابن الإفريقي إلى سفيان الثوري: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل وشغل عظيم الآخرة عن شغل صغير الدنيا. والسلام. ص334
قال أبو الحسين الزنجاني: من كان رأس ماله التقوى كلت الألسن عن وصف ربحه. ص335
__________
(1) أي خوف الوقوع في الإثم.(1/49)
قال بعضهم: الدنيا بحر والآخرة ساحل والمركب التقوى والناس سفر. ص335
قال سفيان قال لقمان لابنه: يا بني إن الدنيا بحر عميق غرق فيها ناس كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وزيادتها الإيمان بالله ومشرعها التوكل على الله لعلك تنجو، وما أراك ناجياً. ص335
قال بعضهم: قسمت الدنيا على البلوى(1) وقسمت الجنة على التقوى. ص336
قال داود الطائي: ما أخرج الله عبداً من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه بلا مال وأعزه بلا عشيرة وآنسه بلا أنيس. ص336
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ما ترك أحدٌ منكم لله شيئاً إلا أتاه الله ما هو خير له منه من حيث لا يحتسب؛ ولا تهاون به وأخذه من حيث لا يعلم به إلا أتاه الله بما هو أشد عليه من حيث لا يحتسب. ص338
قال يونس بن عبيد: ليس شيء أعز من شيئين: درهم طيب ورجل يعمل على سنة. ص338
قال يونس بن عبيد: إنما هما درهمان: درهم أمسكت عنه حتى طاب لك ودرهم وجب لله عليك حق فأديته. ص338
قال الحسن البصري: لو علمت موضع درهم من حلال لركبت إليه حتى آخذه، واشتريت به دقيقاً، فعجنته ثم خبزته ثم دققته فأنعمتُ دقه، فإذا دخلت على مريض سقيته حتى يشفى. ص338
قال عباس الدوري: سمعت بشر بن الحارث يقول: ينبغي للرجل ينظر خبزه من أين هو؟ ومسكنه الذي يسكنه أهله من أي شيء هو؟ ثم يتكلم. ص339
قال رياح بن عبيدة: أُخْرِجَ مسك من الخزائن فوضع بين يدي عمر بن عبد العزيز فأمسكَ أنفَه مخافة أن يجدَ ريحَه! فقال له رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين ما ضرك إن وجدتَ ريحه؟! قال: وهل ينتفع من هذا إلا بريحه؟! ص339
قال بشر بن الحارث: قال عمر: المؤمن وقاف يمضي عند الخير ويقف عند الشر. ص339
__________
(1) أي الابتلاء، فحكمة تقسيم الحظوظ فيها واقعة بإرادة الله تعالى وموافقة لمقصود الابتلاء ومعناه.(1/50)
قال يوسف بن أسباط: إذا تعبد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعم سوء قال: دعوه لا تشتغلوا به، دعوه يجتهد وينصب فقد كفاكم نفسه. ص342-343
قال سهل بن عبد الله: من نظر في مطعمه دخل الزهد عليه من غير دعوى؛ ولا يشم طريق الصدق عبد داهن نفسه أو داهن غيره. ص343
قال شعيب بن حرب: قال سفيان الثوري: انظر درهمك من أين هو وصلِّ في الصف الأخير. ص343
نظر حذيفة المرعشي إلى الناس يتبادرون إلى الصف الأول فقال: ينبغي أن يتبادروا إلى أكل خبز الحلال ولا يتبادروا إلى الصف الأول. ص343
قال الفضيل: تخسير الميزان سواد الوجه غداً في القيامة. ص343
قال سليمان بن حرب: ومن كان أزهد من الأسود بن شيبان؟! حج على ناقة له فشرب من لبنها وركب ظهرها حتى رجع! لم يأكل في خروجه غير لبنها!. قال: وكان في دار ليست له، وكان فيها بيت(1) غير مسطَّح في دار قوراء(2). ص344
قال وهيب بن الورد لابن المبارك: غلامك يتجر ببغداد؟ قال: لا، يبايعهم، قال: أليس هو ثمة؟ فقال ابن المبارك: فكيف يصنع بمصر وهي أحواز؟ قال: فوالله لا أذوق من طعام مصر أبداً، فلم يذق منه حتى مات كان يتعلل بتمر ونحوه. ص345
قال محمد بن سيرين: كان يقال: المسلم المسلم عند الدرهم. ص346
ذكر هشام بن حسان أن ابن سيرين اشترى بيعاً وأشرف فيه على ربح ثمانين ألفاً، فعرض في قلبه منه شيء فتركه؛ قال هشام: ووالله ما هو بربا. ص346
التقوى
قال قتادة: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم اتق الله ثم نم حيث شئت، فإنك إن اتقيت الله كانت معك من الله صحبة وحافظ(3) من كل شيء، ثم قال: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون). ص350
__________
(1) الدار والبيت في اللغة الفصيحة يقابلان البيت والغرفة في لهجتنا.
(2) أي واسعة.
(3) كانت (وحافظاً).(1/51)
قال رجل لأبي هريرة: ما التقوى؟ قال: أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيتُ الشوكَ عدلتُ عنه أو جاوزته أو قصرت عنه(1)؛ قال: ذاك التقوى. ص351
كان عمر بن عبد العزيز يقول: ليس تقوى الله بصيام الدهر ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك؛ ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله؛ فمن رُزق بعد ذلك خيراً(2) فهو خير إلى خير. ص351
قال عاصم الأحول: وقعت الفتنة فقال طلق بن حبيب: اتقوا الفتنة بالتقوى، فقال بكر بن عبد الله: أجمل لنا التقوى في يسير، فقال: التقوى العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله، والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله مخافة عذاب الله. ص351
قال ابن المبارك: قال داود لابنه سليمان عليهما السلام: يا بني إنما يستدل على تقوى الرجل بثلاثة أشياء: بحسن توكله على الله فيما نابه، وبحسن رضاه فيما آتاه، وبحسن صبره فيما ابتلاه. ص351
قال زكريا بن عدي: قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين ارضوا بدنيء الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين مع سلامة الدنيا(3). ص368
انتهى تحريره بتوفيق الله وحمده
في العاشر من رجب من سنة 1424 هـ
__________
(1) يريد أنه يمر بجانبه أو يضع رجله في المشي بعده أو قبله.
(2) أي وفق إلى طاعات أخرى غير المفترضة.
(3) هذا الأثر مما استدركه محقق الأصل على مخطوطته.(1/52)