التوثيق الحديثي لغزوة بدر
د / مصطفى عمار منلا
باحث ورئيس قسم المخطوطات
في مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة
تعد العناية بأحاديث غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البداية التوثيقية الحديثية للسيرة النبوية حيث تعود إلى القرن الأول، عهد الصحابة والتابعين، الذين جمعوا رواياتها ومن ثم أفردوا لها كتباً مستقلة، وتذكر هذه الكتب أسماء عدد من التابعين كانوا من أبرز من اعتنى بأحاديث المغازي جمعاً ورواية، وأهم ثلاثة أئمة هم:
1. عروة بن الزبير :ت (94هـ)(1):
عالم المدينة ، أحد الفقهاء السبعة ، حدّث عن أبيه ، وعن خالته أم المؤمنين عائشة ، وأمه أسماء بنت أبي بكر ، وهو من رجال الكتب الستة وكان صاحب منهج علمي دقيق ، يعتمد على التوثيق والتدقيق .
فكان يكتب كل رواية يسمعها ، ثم يملي على تلامذته المرويات ، ثم يعارضها لهم بعد الكتابة على الأصل الذي نسخوا منه ، لذا أصبح قدوة يحتذى في كتابة السير ، فقلّده الزهري ، وابن إسحاق ، وموسى بن عقبة ، وهم أئمة هذا الفن .
ونحن اليوم لا نملك لعروة كتاباً مستقلاً في المغازي، لكننا نجد مادته مبثوثة في روايات كثيرة حوتها كتب الحديث، ويكفي أن ننظر مثالاً على ذلك مارواه الإمام البخاري في صحيحه عن عروة في كتاب المغازي الذي يضم تسعين باباً ، فقد روى في هذه الأبواب التسعين خمساً وأربعين حديثاً ويبدو أن عروة هو أول من جمع روايات عدة في المغازي ، وبين أسانيدها أولاً ، ثم مزج متونها ليؤلف منها حدثاً كاملاً .
__________
(1) انظر ترجمته في: ابن سعد 5/178 ، جمهرة نسب قريش ص262 ، المعرفة والتاريخ 1/364 .(1/1)
وقد أقرّته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على هذا المنهج، فقد روى هشام بن عروة عن أبيه قال : قالت لي عائشة رضي الله عنها : يا بني إنه يبلغني أنك تكتب عني الحديث ثم تعود فتكتبه ، فقلت لها : أسمعها منك على شيء، ثم أعود فأسمعه على غيره ، فقالت : هل تسمع في المعنى خلافاً ؟ قلت : لا . قالت : لا بأس بذلك .
2. موسى بن عقبة : ت(141هـ)(1):
التابعي الجليل مولى آل الزبير بن العوام ، كان بصيراً بالمغازي النبوية ، ألّفها في مجلد ، فكان أول من صنّف في ذلك .
حدث من صحف ابن عباس التي أودعها إياه كُرَيْب مولى ابن عباس. وأحاديثه في الكتب الستة ، قال عنه ابن حجر: ثقة فقيه إمام في المغازي.
كان مالك إذا قيل له : مغازي من نكتب ؟ قال : عليكم بمغازي موسى بن عقبة ، فإنه ثقة ، ويبدو أن (( مغازي موسى بن عقبة )) كان موجوداً إلى القرن الثامن ، وقد ذكر الذهبي أنه قرأه فقال : مغازي موسى بن عقبة في مجلد ليس بالكبير ، سمعناها ، وغالبها صحيح ، ومرسل جيد .
ولم تصلنا نسخة كاملة من أصل الكتاب ، وإنما وصلنا قطعة من تهذيب ابن قاضي شهبه (789هـ) واختصر الكتاب ابن عبد البر (463هـ) في كتاب الدرر في اختصار المغازي والسير ، وكذا اقتبس منه ابن سيد الناس نصوصاً في كتابه : عيون الأثر .
3. محمد بن إسحاق بن يسار(151هـ) (2)
العلامة الحافظ الإخباري ، صاحب السيرة النبوية ، قال ابن سعد : كان ابن إسحاق أول من جمع مغاري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ولعله يقصد على وجه الاستقصاء ) وإلا فقد سبقه عروة وموسى بن عقبة، روى البخاري لابن إسحق تعليقاً ، وروى له مسلم، وأصحاب السنن الأربعة، قال عنه الحافظ في التهذيب: إمام بالمغازي، صدوق يدلس.
__________
(1) انظر ترجمته في: طبقات خليفة ص267 ، تاريخ البخاري 7/292 .
(2) انظر ترجمته في : المعرفة والتاريخ 2/27 ، الجرح والتعديل 7/191 .(1/2)
وقال ابن عدي : وقد فتشت أحاديثه كثيراً ، فلم أجد من أحاديثه ما يتهيأ أن يُقطع عليه بالضعف ، وربما أخطأ ، أو يهم بالشيء بعد الشيء .
وإنما أخذ عليه المحدثون أمرين :
1- أنه كان يحدث عن الجماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا .
2- والأمر الثاني ذَكَره يحيى القطان فأشار إلى ما في سيرة ابن إسحاق من الواهي من الشعر ومن بعض الآثار المنقطعة المنكره فلو حذف منها ذلك لحسنت ، وثمّ أحاديثه جمة في الصحاح والمسانيد مما يتعلق بالمغازي ينبغي أن تضم إليها وترتب .
وقد فعل غالب هذا الإمام البيهقي (458هـ) في كتابه دلائل النبوة ، فكان بحق جامعاً للسيرة والمغازي وفق منهج المحدثين وأهل السير .
وفي منتصف القرن الثاني الهجري بدأت تظهر الكتب الجامعة كالموطآت ، ثم تلتها الصحاح والسنن والمصنفات ، وهي التي استوعبت معظم أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فضمت أبواباً كاملة عن مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لكن انتقى كل إمام من المصنفين ما ناسب شرطه في التأليف ، ولن أدخل في تفاصيل شروطهم فهذا يحتاج إلى وقفات طويلة .
وأهم هذه الكتب هي الكتب الستة: صحيح البخاري ،ومسلم ، والسنن الأربعة : أبو داوود ، الترمذي ، ابن ماجة ، النسائي .
وهذه الكتب الستة لم تغادر من الأحاديث الصحيحة إلا النزر اليسير ، لذا قال الإمام النووي : لم يفت الأصول الخمسة ـ استثنى ابن ماجة ـ إلا اليسير .
وقال أيضاً : لا يخرج عن الكتب الخمسة التي هي أصول الإسلام من الصحيح إلا اليسير .
وكتطبيق عملي على التوثيق الحديثي لغزوة بدر قمت بدراسة لأحاديث غزوة بدر في الكتب الستة ، ثم قارنتها مع كتاب دلائل النبوة للبيهقي الذي جمع فيه بين منهجي أهل الحديث والسير.
ذكرت الكتب الستة الموضوعات التالية :
- تسمية من سمّي من أهل بدر في الجامع (أي صحيح البخاري ) .
- المشاورات قبل المعركة مع الأنصار والمهاجرين (مسلم ، أبو داود) .(1/3)
- مطاردة قافلة أبي سفيان (مسلم) .
- رواية جامعة لأهم أحداث المعركة وفيها : عدد الفريقين،الاستعداد، دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة الأسرى وفداؤهم . (مسلم ، الترمذي) .
- بأس المسلمين في المعركة ووصف طريقة قتالهم . (البخاري) .
- دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وحاله قبل المعركة على وجه التفصيل في عدة روايات (البخاري، أبو داود ، الترمذي) .
- بعض أسماء من استبعد من المعركة لصغر سنه . (البخاري) .
- خطة بداية المعركة . (البخاري . أبو داود ) .
- وصف حال المشركين وخوفهم من لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - (أمية بن خلف نموذجاً)(البخاري).
- وصف شدة القتال في المعركة وبأس المسلمين فيها ، وبيان حال قتلى المشركين (البخاري).
- حادثة قتل أبي جهل على وجه التفصيل (البخاري . مسلم ) .
- من قتل أبا جهل . (البخاري ، مسلم ، أبو داود ) .
- الحوار بين أبي جهل وهو صريع مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (البخاري .أبو داود ) .
- وصف المبارزة قبل المعركة . (أبو داود) .
- دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - بإخباره عن أماكن مصارع المشركين قبل المعركة . (مسلم .النسائي ) .
- بعض أسماء قتلى بدر من المشركين وخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بعد الدفن .(مسلم) .
- أسرى بدر . (البخاري . أبو داود . الترمذي ) .
(الفداء ، القتل ، نزول آيات من سورة الأنفال ، المن عليهم ) .
- تفاصيل قصة الفداء . (الترمذي) .
- الغنائم . (الترمذي) .
- حال أسرى المشركين . (أبو داود) .
- مقدار الفداء . (أبو داود) . ...
- ذكر بعض منازل جيش المسلمين في الطريق إلى بدر . (مسلم . الترمذي . أبو داود . ) .(1/4)
وعندما قارنت هذه الروايات جميعها وجدت البيهقي قد جمعها وأثبتها جميعاً في كتابه دلائل النبوة ، ثم أضاف إليها ما يكمل الحدث ، من سيرة ابن إسحاق ، ثم أفرد باباً أورد فيه سياق قصة بدر من مغازي موسى بن عقبة ووضع عنواناً لذلك قال فيه : فإنها فيما قال أهل العلم أصح المغازي ، ولنأت على ما سقط من تلك القصة عما ذكرنا منها في الأخبار المتفرقة .
فجاء وصف غزوة بدر في كتابه جامعاً بين منهجي أهل الحديث وأهل السير , لذلك أقول: إن مصنفي الحديث النبوي وثقوا قدراً مهماً من غزو بدر، غير أنهم عرضوها وفق مناهجهم في سرد الأحاديث وأسانيدها، ولم يعرضوها قصة متسلسلة الأحداث على نحو ما فعله مصنفو السيرة، وقد اعتمد مصنفو السيرة على تلك الأحاديث واستوعبوها في مؤلفاتهم.
وفي خاتمة ورقتي هذه :
أدعو إلى إنشاء قاعدة بيانات تجمع بين ما ورد في كتب الحديث والمغازي على وجه الاستقصاء التام ، فقد يسر الله لنا في هذا العصر مصادر ووسائط لم تكن متاحة لأسلافنا ، ووضع هذه القاعدة بعد ذلك على الشبكة العالمية لتمكين الباحثين للاستفادة منها في أي وقت ومكان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(1/5)