التحقيق فيما نسب إلى آدم وحواء
في قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
[ الأعراف :189- 190]
إعداد
أحمد بن عبد العزيز القصيِّر
محاضر في كلية المعلمين في الرس
alqosaier@hotmail.com
إهداء من الباحث وفقه الله
لمكتبة شبكة التفسير والدراسات القرآنية
www.tafsir.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فهذا بحث في التحقيق فيما نسب إلى آدم وحواء - عليهما السلام - في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الأعراف :189- 190].
وقد تناولت فيه أقوال المفسرين في تأويل الآية ، والحديث الوارد في تفسيرها، وجعلته في أربعة مباحث :
المبحث الأول : ذكر الآية الواردة في المسألة .
المبحث الثاني : ذكر الحديث الوارد في تفسير الآية .
المبحث الثالث : ذكر مذاهب العلماء في تفسير الآية والحديث .
المبحث الرابع : الترجيح .
المبحث الأول : ذكر الآية الواردة في المسألة :(1/1)
قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الأعراف :189- 190].
المبحث الثاني : ذكر الحديث الوارد في تفسير الآية :
عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ، طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ : سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ (1)؛ فَإِنَّهُ يَعِيشُ؛ فَسَمَّوْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ ".(2)
__________
(1) الحارث هو اسم إبليس . انظر : المحرر الوجيز (2/486).
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/11) ، حديث (20129) ، وابن جرير في تفسيره (6/144) ، والترمذي في سننه ، في كتاب التفسير ، حديث (3077 ) ، والحاكم في المستدرك (2/594) ، والروياني في مسنده (2/52)، جميعهم من طريق: عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن عمر بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن الحسن البصري ، عن سمرة ، به. مرفوعاً.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1631) عن أبي زرعة الرازي ، عن هلال بن الفياض ، عن عمر بن إبراهيم ، به . مرفوعاً .
وأخرجه ابن مردويه [ كما في تفسير الحافظ ابن كثير (2/286)] ، والطبراني في الكبير (7/215) ، وابن عدي في الكامل (5/43) جميعهم من طريق شاذ بن فياض ، عن عمر بن إبراهيم ، عن قتادة ، به . مرفوعاً.
قال الحافظ ابن كثير ، في تفسيره (2/286):" وشاذ هو هلال ، وشاذ لقبه ".
والحديث صححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي :" حسن غريب ،لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عمر بن إبراهيم ، عن قتادة . ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه . عمر بن إبراهيم شيخ بصري ".أهـ
قلت : الحديث لا يصح مرفوعاً، وهو معلول من أوجه ، وهاك تفصيلها :
العلة الأولى : أنه من رواية " عمر بن إبراهيم " وهو : العبدي أبو حفص البصري ، صاحب الهروي ، وهو ضعيف في روايته عن قتادة .
قال الإمام أحمد : يروي عن قتادة أحاديث مناكير يخالف. وقال ابن عدي: يَروي عن قتادة أشياء لا يُوافق عليها ، وحديثه خاصةً عن قتادة مضطرب. وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال: يخطئ ويخالف ، وذكره في الضعفاء فقال: كان ممن يتفرد عن قتادة بما لا يشبه حديثه؛ فلا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد ، فأما فيما روى عن الثقات فإن اعتبر به معتبر لم أرَ بذلك بأساً . انظر : تهذيب التهذيب (7/373).
وقد تُوبِع عمرُ بنُ إبراهيم في روايته عن قتادة من طريقين ، غير أنهما لا يصح اعتبارهما:
الطريق الأول: أخرجه ابن مردويه [ كما في تفسير الحافظ ابن كثير (2/286)] من حديث المعتمر ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن سمرة ، به . مرفوعاً.
والمعتمر هو : ابن سليمان بن طرخان . والإسناد رجاله ثقات ؛ إلا أني لم أقف على الرواة بين ابن مردويه ، والمعتمر .
الطريق الثاني: أخرجه ابن عدي في الكامل (3/298) من طريق سليمان الشاذكوني ، عن غندر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، به . مرفوعاً .
قال ابن عدي :" وهذا من حديث شعبة، عن قتادة منكر، لا أعرفه إلا من حديث الشاذكوني، عن غندر، عنه، وإنما يروي هذا عن قتادة : عمر بن إبراهيم ".أهـ
والشاذكوني هو : سليمان بن داود المنقري - نسبة إلى منقر بن عبيد بن قيس بن غيلان - البصري، قال البخاري: فيه نظر. وكذبه ابن معين في حديث ذُكر له عنه، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة ، وقد ساق له ابن عدى أحاديث خُولف فيها ثم قال: وللشاذكونى حديث كثير مستقيم، وهو من الحفاظ المعدودين، وما أشبه أمره بما قال عبدان: ذهبت كتبه فكان يحدث حفظاً فيغلظ. انظر: لسان الميزان (3/84-85).
العلة الثانية : أن الحديث قد رُوي من قول سمرة - رضي الله عنه - موقوفاً عليه.
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/144) قال : حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر ، عن أبيه قال : حدثنا أبو العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير ، عن سمرة - رضي الله عنه - ، أنه حدث : أن آدم عليه السلام سمى ابنه عبد الحارث .
وأخرجه عن محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي العلاء ، عن سمرة - رضي الله عنه - قال : سمى آدم ابنه عبد الحارث .
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (4/83) قال : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ، ثنا أبو الجماهر، ثنا سعيد بن بشير، حدثني عمران ، عن عقبة ، عن قتادة ، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير ، عن سمرة - رضي الله عنه - قال: سمياه عبد الحارث ، في قوله: { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
والأثر صحيح من رواية ابن جرير .
العلة الثالثة : أن في سماع الحسن من سمرة خلاف مشهور بين علماء الحديث ، ثم هو مدلس ولم يصرح في هذا الحديث بسماعه من سمرة ، قال الذهبي في ميزان الاعتدال (2/281):" كان الحسن كثير التدليس ؛ فإذا قال في حديث ( عن فلان ) ضَعُف احتجاجه ".أهـ
العلة الرابعة : أن الحديث قد روي عن أُبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - من قوله ، وهذا يدل على أن أصله من الإسرائيليات المتلقفة عن مسلمة أهل الكتاب .
أخرج أثرَ أُبيٍّ : ابنُُُُ أبي حاتم في تفسيره (5/1633) قال : حدثنا أبى، ثنا أبو الجماهر، أنبا سعيد بن بشير، عن عقبة، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال:" لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال: أتطيعيني ويسلم لك ولدك؟ سميه عبد الحارث، فلم تفعل، فولدت فمات، ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل، ثم حملت الثالث فجاءها فقال: إن تطيعيني يسلم وإلا فإنه يكون بهيمة، فهيبهما فأطاعاه ".
والأثر في إسناده: " سعيد بن بشير الأزدي ، أبو عبد الرحمن " وهو ضعيف ، كما في التقريب (1/284).
العلة الخامسة : أن الحسن نفسه فسَّر الآية بغير هذا ، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعاً لما عدل عنه ، وقد فسر قوله تعالى: { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } فقال: كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم . وعنه قال : عني بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده . وعنه قال : هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصّروا .
ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/286) من طرق عنه ، ثم قال :" وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن - رضي الله عنه - أنه فسر الآية بذلك ، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حُمِلتْ عليه الآية ، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عدل عنه هو ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله وورعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم، مثل كعب أو وهب بن منبه، وغيرهما ".أهـ
النتيجة : أن الحديث لا يصح رفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ضعفه الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/286) ، والألباني في " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (1/516) ، حديث (342). وقد ذكرا بعضاً من العلل التي أوردتها ، فانظرها في كتابيهما المذكورين آنفاً .(1/2)
المبحث الثالث : ذكر مذاهب العلماء في تفسير الآية والحديث :
اتفق المفسرون على تنزيه مقام آدم - عليه السلام - من الشرك ، وأن ذلك لم يقع منه ، ولا من الأنبياء قط ، وقد عدّوا هذه الآية - والحديث الوارد في تفسيرها - من مشكلات التفسير، ولهم في تأويلهما أقوال خلاصتها راجعة إلى مذهبين :
الأول : مذهب قبول الحديث ، وإجراء الآية على ظاهرها في قصة آدم وحواء :
وهذا رأي الجمهور من المفسرين (1)، حيث ذهبوا إلى أن الآية معنيٌ بها آدم وحواء - عليهما السلام - حيث سميا ابنهما عبد الحارث .
رُوي ذلك عن : أبي بن كعب (2) ، وسمرة بن جندب (3) ، وابن عباس (4)
__________
(1) نسبه للجمهور ابن الجوزي في " زاد المسير " (3/231).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1633) ، وإسناده ضعيف .
(3) أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/144) ، والطبراني في مسند الشاميين (4/83) ، وإسناده صحيح .
(4) أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/144-145) ، من ثلاثة طرق :
الأول : قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن داود بن الحصين، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" كانت حواء تلد لآدم فتعبدهم لله وتسميه عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت ، فأتاها إبليسُ وآدمَ فقال: إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه لعاش، فولدت له رجلاً فسماه " عبد الحارث " ففيه أنزل الله تبارك وتعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ".
وهذا الطريق : ضعيف ، فيه : " محمد بن حميد الرازي " ضعيف ، التقريب (2/165) ، وفيه " محمد بن إسحاق " مدلس ، التقريب (2/153) ، وفيه " داود بن الحصين " ثقة إلا في عكرمة فإن له عنه مناكير ، التقريب (1/227).
الطريق الثاني : قال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، .... فذكره بنحوه .
وهذا الطريق : ضعيف جداً ؛ فإنه مسلسل بالعوفيين ، وهي سلسلة واهية باتفاق النقاد من المحدثين .
الطريق الثالث : قال ابن جرير : حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما ، .... فذكره بنحوه .
وهذا الطريق : ضعيف أيضاً ، فيه : " الحسين بن داود " وهو سنيد ، ضعيف ، التقريب (1/323) ، وفيه " ابن جريج " ثقة إلا أنه يدلس ويرسل ، وقد أرسله عن ابن عباس ، التقريب (1/482).
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1634) ، وسعيد بن منصور في سننه (5/173)، كلاهما من طريق خصيف، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، به.
وخصيف : هو ابن عبد الرحمن الجزري ، صدوق سيئ الحفظ . التقريب (1/220).
النتيجة : أن الأثر حسن بمجموع طرقه ، والله تعالى أعلم .(1/3)
- رضي الله عنهم - ، وعن عكرمة (1)، ومجاهد (2) ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (3) ، وبكر بن عبد الله المزني (4) .
وهو اختيار جمع من المفسرين كما سيأتي ذكرهم .
واختلف هؤلاء في معنى الشرك المضاف إلى آدم وحواء - عليهما السلام - على أقوال :
القول الأول : أنه كان شركاً في التسمية ، ولم يكن شركاً في العبادة .
وهذا هو المروي عن : قتادة (5)، وسعيد بن جبير (6)، والسدي (7) .
واختيار : ابن جرير الطبري (8) ، وأبي المظفر السمعاني (9)، والبغوي ، وابن عطية (10)، وابن الجوزي (11)، والسيوطي (12)، والآلوسي (13)، والإمام محمد بن عبد الوهاب (14)، وعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (15).
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/145).
(2) أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/146).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1635).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1634).
(5) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/245) ، وابن جرير في تفسيره (6/145).
(6) أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/146).
(7) أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/146) ، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/1634).
(8) تفسير ابن جرير الطبري (6/147).
(9) تفسير السمعاني (2/239).
(10) المحرر الوجيز (2/487).
(11) زاد المسير (3/231).
(12) تفسير الجلالين (1/223) ، والإتقان (1/280).
(13) روح المعاني (9/189).
(14) فتح المجيد ، ص (434).
(15) فتح المجيد ، ص (434).(1/4)
قال البغوي :" جعلا له شريكاً إذ سمياه عبد الحارث، ولمن يكن هذا إشراكاً في العبادة، ولا أن الحارث ربهما؛ فإن آدم كان نبياً معصوماً من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمة، وقد يطلق اسم العبد على من يُراد به أنه معبود هذا، كالرجل إذا نزل به ضيف يُسمي نفسه عبد الضيف، على وجه الخضوع، لا على وجه أن الضيف ربَّه، ويقول للغير أنا عبدك، وقال يوسف - عليه السلام - لعزيز مصر: { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [ يوسف : 23 ] ولم يُرِدْ به أنه معبوده، كذلك هذا ".أهـ (1)
القول الثاني : أنه كان شركاً في الطاعة ، ولم يكن شركاً في العبادة .
وهذا هو المروي عن : ابن عباس رضي الله عنهما (2) ، وقتادة (3) .
القول الثالث : أن الإشراك وقع من حواء لا من آدم عليه السلام ، ولم يشرك آدم قط ، وأما قوله: { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } بصيغة التثنية فلا ينافي ذلك؛ لأنه قد يسند فعل الواحد إلى الاثنين ، بل إلى جماعة ، وهو شائع في كلام العرب .
وهذا قول القنوجي .(4) (5)
واعترض :
__________
(1) تفسير البغوي (2/221).
(2) أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/145).
(3) أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/145) ، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/1634).
(4) هو : محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي ، أبو الطيب ، ولد ونشأ في قنوج ( بالهند ) وتعلم في دهلي . وسافر إلى بهوبال طلباً للمعيشة ، ففاز بثروة وافرة ، وتزوج بملكة بهوبال ، ولقب بنواب عالي الجاه أمير الملك بهادر . له نيف وستون مصنفاً بالعربية والفارسية والهندية . منها بالعربية : ( أبجد العلوم ) و ( فتح البيان في مقاصد القرآن ) عشرة أجزاء ، في التفسير ، و ( نيل المرام من تفسير آيات الأحكام ) وغيرها . ( ت : 1307 هـ) . انظر : الأعلام ، للزركلي (6/167).
(5) نقله عنه المباركفوري ، في " تحفة الأحوذي " (8/367).(1/5)
بأن الله تعالى قال : { جَعَلاَ } حيث نسب الجعل إليهما ، والأصل حمل اللفظ على ظاهره ، وبأن آدم عليه السلام قد أقرَّ حواء على ذلك ، وبأن في حديث سمرة - رضي الله عنه - التصريح بأنهما سمياه بذلك معاً.(1)
أدلة هذا المذهب :
استدل القائلون بأن الآية معنيٌّ بها آدم وحواء - عليهما السلام - بأدلة منها :
الدليل الأول : حديث سمرة - رضي الله عنه - ، حيث أورده أصحاب هذا المذهب وجعلوه عمدة في تفسير الآية ، وقد صرح بعضهم بصحته، والبعض الآخر أورده وسكت عنه، وهو مشعر باعتماده له.
الدليل الثاني : أن هذا المذهب هو المروي عن سمرة ، وأبي بن كعب، وابن عباس - رضي الله عنهم - ، ومثل هذا لا يقال بالرأي ، فدل على أن للقصة أصل ؛ فيكون لها حكم الرفع .(2)
الدليل الثالث : إجماع الحجة من أهل التأويل على أن المعني بالآية آدم وحواء .
حكى الإجماع ابن جرير في تفسيره.(3)
الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب :
اعترض على هذا المذهب بقوله تعالى في آخر الآية : { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } بصيغة الجمع ، فلو كان المراد آدم وحواء - عليهما السلام - لقال : يشركان ، بصيغة التثنية ، وفي هذا دلالة واضحة بأن الآية معني بها الذرية لا آدم وحواء .
وقد أجاب بعض أصحاب هذا المذهب عن هذا الاعتراض : بأن آخر الآية معنيٌّ بها مشركو العرب من عبدة الأوثان، وأن الخبر عن آدم وحواء قد انقضى عند قوله: { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } .
__________
(1) انظر : روح المعاني (9/189).
(2) انظر : روح المعاني (9/189).
(3) انظر : تفسير ابن جرير الطبري (6/147).(1/6)
وهذا رأي ابن جرير الطبري (1) ، والسيوطي (2) ، وهو المروي عن السدي (3) ، وأبي مالك (4).
المذهب الثاني : مذهب تضعيف الحديث ، وتأويل الآية في غير آدم وحواء:
حيث ذهب آخرون إلى تضعيف حديث سمرة - رضي الله عنه - ، وأن الشرك - المذكور في الآية - معني به غير آدم وحواء عليهما السلام .
واختلف هؤلاء بالمعنيِّ به على أقوال :
القول الأول : أن الشرك نُسب إلى آدم وحواء ، والمعنيّ به أولادهما ، كاليهود والنصارى ، والمشركين . وآدم وحواء بريئان من الشرك ، والآية فيها انتقال من ذكر النوع إلى الجنس؛ فإن أول الكلام في آدم وحواء ، ثم انتقل الكلام إلى الجنس من أولادهما .
وقد اشتهر هذا القول عن الحسن البصري رحمه الله .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما - في إحدى الروايات عنه (5).
قال الحسن في تفسير الآية :" كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم ".(6)
وعنه قال :" عُنيَ بهذا ذرية آدم من أشرك منهم بعده ".(7)
وعنه قال :" هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهوَّدوا ونصَّروا ".(8)
واختار هذا القول جمع من المفسرين ، والمحققين ، منهم :
__________
(1) انظر : تفسير ابن جرير الطبري (6/147).
(2) انظر : الإتقان في علوم القرآن (1/281).
(3) قال السدي في تفسير قوله تعالى : { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } : " هذه فصلٌ من آية آدم ، خاصة في آلهة العرب ".
أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/147 ، 148) ، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/1634).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1635).
(5) عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في هذه الآية قال : " ما أشرك آدم ، إن أولها شكر ، وآخرها مثل ضربه الله لمن بعده ". أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1633).
(6) أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/147).
(7) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/245) ، وابن جرير في تفسيره (6/147).
(8) أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/147).(1/7)
الزمخشري ، وأبو عبد الله القرطبي(1)، والنسفي (2)، وابن جزي (3)، وابن القيم (4)، وابن كثير ، والثعالبي (5) ، وأبو السعود (6)، والمباركفوري (7)، والسعدي (8)، والشنقيطي (9).
قال الزمخشري - في قوله تعالى : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } -: " أي جعل أولادهما له شركاء ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذلك فيما آتاهما ، أي آتى أولادهما ، ....وآدم وحواء بريئان من الشرك ، ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله : تسميتهم أولادهم بعبد العزى ، وعبد مناة ، وعبد شمس ، وما أشبه ذلك ، مكان عبد الله ، وعبد الرحمن ، وعبد الرحيم ".أهـ (10)
__________
(1) تفسير القرطبي (7/215).
(2) تفسير النسفي (2/130).
(3) التسهيل لعلوم التنزيل (1/316).
(4) روضة المحبين (1/289) ، والتبيان في أقسام القرآن (1/165).
(5) تفسير الثعالبي (2/74).
(6) تفسير أبي السعود (3/304).
(7) تحفة الأحوذي (8/367).
(8) تفسير السعدي ، ص (489).
(9) أضواء البيان (2/340).
(10) الكشاف (2/180).(1/8)
وقال الحافظ ابن كثير :" وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري - رحمه الله - في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ، .... فذِكْرُ آدم وحواء أولاً كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين (1)، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس ؛ كما في قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } [ المؤمنون : 12-13 ]، وقال تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] ، ومعلوم أن المصابيح - وهي النجوم التي زُيِّنت بها السماء - ليست هي التي يُرمى بها ، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها ، ولهذا نظائر في القرآن ، والله أعلم ".أهـ (2)
واعترض على هذا القول :
بأن فيه تشتيت للضمائر ، والأصل اتساق الضمائر وعودها لمذكور واحد .(3)
القول الثاني : أن الآية معنيٌّ بها المشركون من بني آدم عموماً ، وليس فيها تعرض لآدم وحواء بوجه من الوجوه .
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : الأولاد .
(2) تفسير ابن كثير (2/287) ، والبداية والنهاية (1/89).
(3) انظر : القول المفيد (3/63).(1/9)
وهذا اختيار : النحاس (1)، والقفال (2)، وابن حزم (3)، وابن العربي (4)، والرازي (5)، وابن المنيِّر (6) (7)، والقاسمي (8)، وابن عثيمين (9) .
__________
(1) معاني القرآن (3/116).
(2) هو : محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي ، القفال ، أبو بكر : من أكابر علماء عصره بالفقه والحديث واللغة والأدب . من أهل ما وراء النهر . عنه انتشر مذهب ( الشافعي ) في بلاده . مولده ووفاته في الشاش ( وراء نهر سيحون ) رحل إلى خراسان والعراق والحجاز والشام . من كتبه ( أصول الفقه ) و ( محاسن الشريعة ) و ( شرح رسالة الشافعي ) ، وغيرها ( ت : 365 هـ ) . انظر : الأعلام ، للزركلي (6/274).
(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/288).
(4) أحكام القرآن ، لابن العربي (2/355).
(5) مفاتيح الغيب (15/71).
(6) هو : أحمد بن محمد بن منصور : من علماء الإسكندرية وأدبائها . ولي قضاءها وخطابتها مرتين . له تصانيف ، منها : ( الانتصاف من الكشاف ) ، وغيرها ( ت : 683 هـ ) . انظر : الأعلام ، للزركلي (1/220).
(7) الانتصاف (2/180).
(8) محاسن التأويل (5/235-236).
(9) القول المفيد (3/62 ، 68).(1/10)
قال القفال :" ذكر الله تعالى هذه القصة على تمثيل ضرب المثل ، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم ، وقولهم بالشرك ، وتقرير هذا الكلام ، كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة ، وجعل من جنسها زوجها ، إنساناً يساويه في الإنسانية ، فلما تغشى الزوج زوجته ، وظهر الحمل ؛ دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك ؛ فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ؛ لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع ، كما هو قول الطبائعيين ، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين ، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام ، ثم قال تعالى : { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنزه الله عن ذلك الشرك ".أهـ (1)
واعترض هذا القول :
1- بأن قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } لا يصح حمله على غير آدم وحواء - عليهما السلام .
2- وبقوله : { دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا } فإن كل مولود يولد بين الجنسين لا يكون منهما عند مقاربة وضعه هذا الدعاء .(2)
__________
(1) نقله عنه الرازي في تفسيره (15/71).
(2) انظر : فتح القدير ، للشوكاني (2/401).(1/11)
القول الثالث : أن المشركين كانوا يقولون: إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ، فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام وحكى عنهما أنهما قالا: { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النعمة ، ثم قال: { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } فقوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد والتقرير ، والمعنى :أجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال : { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام.
ذكر هذا التأويل : الفخر الرازي في تفسيره.(1)
ويرده : أن الآية وردت بصيغة الخبر ، وحملها على معنى الاستفهام يفتقر إلى دليل ، وليس ثمة دليل .
القول الرابع : أن الخطاب لقريشٍ الذين كانوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم آل قصي ، والمراد من قوله: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة } قصي ، وجعل من جنسها زوجها ، عربية قرشية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما ، حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد قصي ، وعبد اللات ، وجعل الضمير في { يُشْرِكُونَ } لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك .
ذكر هذا التأويل: الزمخشري واستحسنه (2)، واختاره البيضاوي (3)، وأشار إليه الفخر الرازي في تفسيره. (4)
الإيرادات والاعتراضات على هذا القول :
__________
(1) مفاتيح الغيب (15/71).
(2) الكشاف (2/180-181).
(3) تفسير البيضاوي (3/83).
(4) مفاتيح الغيب (15/71).(1/12)
قال ابن جزي :" وهذا القول بعيد لوجهين : أحدهما : أن الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش ، والظاهر أن الخطاب عام لبني آدم . والآخر : أن قوله : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ، فإن هذا يصح في حواء ؛لأنها خُلِقتْ من ضلع آدم ، ولا يصح في زوجة قصي ".أهـ (1)
القول الخامس : أن الضمير في قوله : { جَعَلاَ } راجع إلى الولد الصالح ، والمعنى جعل ذلك الولد الصالح - الذي رزقهما الله إياه - جعل لله شركاء ، وإنما قال: { جَعَلاَ } ؛ لأن حواء كانت تلد في كل بطنٍ ذكراً وأنثى .
ذكر هذا التأويل : الجصاص (2) ، وابن الجوزي (3).
أدلة هذا المذهب :
استدل القائلون بأن الآية معني بها غير آدم وحواء - عليهما السلام - بأدلة منها :
الدليل الأول : قوله تعالى في آخر الآية : { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وهذا يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة ، ولو كان المراد آدم وحواء - عليهما السلام - لعبَّرَ عنهما بصيغة التثنية .(4)
الدليل الثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } ، وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى ، وليس المراد بها آدم وحواء - عليهما السلام .(5)
__________
(1) التسهيل لعلوم التنزيل (1/316).
(2) أحكام القرآن ، للجصاص (3/49).
(3) زاد المسير (3/231).
(4) انظر : معاني القرآن ، للنحاس (3/116) ، والكشاف (2/180) ، ومفاتيح الغيب (15/70 ، 73) ، وتفسير القرطبي (7/215) ، وتفسير النسفي (2/130) ، والتسهيل لعلوم التنزيل (1/316) ، وأضواء البيان (2/343) ، والقول المفيد على كتاب التوحيد (3/68).
(5) انظر : مفاتيح الغيب (15/70).(1/13)
الدليل الثالث : لو كان المراد إبليس لقال :أيشركون " من " لا يخلق شيئاً ، ولم يقل " ما " ؛ لأن العاقل إنما يُذكر بصيغة " من " لا بصيغة " ما ".(1)
الدليل الرابع : أن هذا القول فيه تنزيه لمقام آدم - عليه السلام - من الشرك ، والقول الذي فيه تنزيه لمقام الأنبياء وإجلال لمقامهم ، مقدم في التفسير على القول الذي فيه قدح بعصمتهم ، وحط من منزلتهم.(2)
الدليل الخامس : أن المروي عن سمرة - رضي الله عنه - في تفسير الآية لم يثبت بسند صحيح ، وعليه فلا يصح حمل الآية على أمور مغيبة لم يثبت فيها دليل من كتاب أو سنة .(3)
الدليل السادس : أنه لو كانت هذه القصة في أدم وحواء ، لكان حالهما إما أن يتوبا من ذلك الشرك أو يموتا عليه ، فإن قلنا : ماتا عليه ، كان هذا القول فيه فرية عظيمة ؛ لأنه لا يجوز موت أحد من الأنبياء على الشرك ، وإن كان تابا من الشرك ، فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أن يذكر خطأهما ولا يذكر توبتهما منه ، فيمتنع غاية الامتناع أن يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء وقد تابا ، ثم لا يذكر توبتهما ، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم منها ، كما في قصة آدم نفسه حين أكل من الشجرة هو وزوجه وتابا من ذلك .(4)
__________
(1) انظر : مفاتيح الغيب (15/70).
(2) انظر : أحكام القرآن ، لابن العربي (2/355) ، ومفاتيح الغيب (15/71) ، والتسهيل لعلوم التنزيل (1/316) ، والقول المفيد على كتاب التوحيد (3/67).
(3) انظر : التسهيل لعلوم التنزيل (1/316) ، والقول المفيد على كتاب التوحيد (3/67).
(4) انظر : القول المفيد على كتاب التوحيد (3/67).(1/14)
الدليل السابع : أنه ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة ، فيعتذر بأكله من الشجرة (1) - التي عصى الله تعالى بالأكل منها في الجنة - فلو كان وقع منه الشرك ، لكان اعتذاره منه أقوى وأولى وأحرى .(2)
__________
(1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - :" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً ثُمَّ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنْ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ ، فَيَقُولُ النَّاسُ : أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ ؟أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ : عَلَيْكُمْ بِآدَمَ ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ....".
أخرجه البخاري في صحيحه ، في كتاب التفسير ، حديث (3340) ، ومسلم في صحيحه ، في كتاب الإيمان ، حديث (194).
(2) انظر : القول المفيد على كتاب التوحيد (3/67).(1/15)
الدليل الثامن : أن الله تعالى أسند فعل الذرية إلى آدم وحواء ؛لأنهما أصل لذريتهما ، كما في قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [ الأعراف : 11] أي بتصويرنا لأبيكم آدم ؛ لأنه أصلهم، بدليل قوله بعده : { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } .(1)
الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب وأدلته :
1- اعترض القاضي ابن عطية على الاستدلال بقوله تعالى : { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وأن المراد بها مشركو العرب ، اعترض قائلاً : " وهذا تحكم لا يساعده اللفظ ، ويتجه أن يُقال : تعالى الله عن ذلك اليسير المتوهم من الشرك في عبودية الاسم، ويبقى الكلام في جهة أبوينا آدم وحواء - عليهما السلام - وجاء الضمير في " يشركون " ضمير جمع؛ لأن إبليس مدبر معهما تسمية الولد عبد الحارث ".أهـ (2)
2- واعتُرِضَ أيضاً : بأن هذا المذهب يرده قوله تعالى : { جَعَلاَ } بصيغة التثنية ، فلو كان المراد المشركين من ذرية آدم - عليه السلام - لورد اللفظ بصيغة الجمع .
وقد أجاب الفخر الرازي عن هذا الاعتراض فقال : " فإن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله : { جَعَلاَ } ؟ قلنا :لأن ولده قسمان : ذكر وأنثى ؛ فقوله : { جَعَلاَ } المراد منه الذكر والأنثى ، مرة عبر عنهما بلفظ التثنية ؛ لكونهما صنفين ونوعين ، ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع ، وهو قوله تعالى : { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ".أهـ (3)
المبحث الرابع : الترجيح
__________
(1) انظر : أضواء البيان (2/341).
(2) المحرر الوجيز (2/487).
(3) مفاتيح الغيب (15/72).(1/16)
الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن الآية ليست في آدم وحواء - عليهما السلام - وإنما هي خطاب للمشركين من قريش وغيرهم ، والمقصود بها ضرب المثل ، وأن هذه هي حالة المشركين ، فهو سبحانه يذكر أنه خلق كل واحد منهم من نفس واحدة ، وجعل من جنسها زوجها ، ولما كان من طبيعة البشر حب الولد ذكر الله تعالى أن هذين الزوجين كانا حريصين على أن يرزقا بولد صالح لينتفعا به ، وأنهما قد عاهدا الله لأن آتاهما صالحاً ليكونن من الشاكرين ، فلما آتاهما صالحاً جعلا لله شركاء فيما آتاهما ، حيث نسبا هذه النعمة لغير الله ؛ وعبدا أولادهما لغير الله، ثم أخبر سبحانه أنه بريء مما يشرك به هؤلاء، وغيرهم ؛ فقال : { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
والآية مراد بها ذكر الجنس لا النوع ؛ فقوله تعالى : { خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي من جنس واحدة ، وقوله : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي وجعل من هذا الجنس زوجةً هي على شاكلته ، ولم يجعلها من جنس آخر ، ولفظ النفس قد يطلق ويراد به الجنس ، كما في قوله تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ } [ آل عمران : 164 ] أي من جنسهم .(1)
أدلة هذا الاختيار :
ذكرت فيما سبق ثمانية أدلة تؤيد هذا الاختيار (2)، وهي أدلة قوية ، ويمكن أن يضاف إليها أدلة أخرى ، منها :
__________
(1) انظر : القول المفيد على كتاب التوحيد (3/57).
(2) انظرها في أدلة القائلين بأن الآية معني بها غير آدم وحواء - عليهما السلام ، في المذهب الثاني من المسألة .(1/17)
1- أن الله تعالى قال في هذه الآية: { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ، وقال في سورة النساء : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } (1) [ النساء : 1 ] وآية النساء معني بها آدم وحواء باتفاق ، وعبر بقوله : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ؛ لأن حواء مخلوقة من نفس آدم ، وأما في آية الأعراف فقال : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ؛ لأن المراد ذكر الجنس، لا ذكر النوع وهو آدم ، والفرق بين الخلق والجعل : أن الخلق هو ابتداء الشي من غير مثال سابق ، وأما الجعل فهو إيجاد شيء من شيء وتكوينه منه (2)، وهذا هو حال كل فرد من بني آدم ؛ فإنهم يتناسلون ويتوالدون من بعضهم البعض ، وأما حواء فإنها خُلِقَتْ ابتداء من آدم من غير أمٍّ ولا أبٍ .
وقد وردت عدة آيات تدل على أنه إذا ورد لفظ " جعل " فالمراد به الجنس ، منها : قوله تعالى : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } [ النحل:72] ، وقال تعالى : { خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ } [ الزمر:6] ، وقال تعالى : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [ الشورى:11]
__________
(1) نص الآية كاملة: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء } .
(2) انظر : مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب ، ص (196 ، 296).(1/18)
2- ومما يؤكد أن الآية معنيٌّ بها المشركون على وجه العموم : أنه لم يصرح بذكر آدم وحواء - عليهما السلام - في الآية ، والمتأمل في قصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم يلاحظ التصريح بذكر أسمائهم ، ومن هؤلاء آدم عليه السلام ؛ فإنه إذا ذكرت قصته يذكر باسمه الصريح غالباً .
3- ويدل على أن الآية في المشركين عامة : الاستطراد في الآيات التي بعد هذه الآية في وصف حال مشركي العرب ، وهي صريحة بأنهم هم المرادون بهذا الشرك ، لا آدم وحواء - عليهما السلام .
قال تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الأعراف : 191-194] .
4- أنه لم يثبت دليل على أن الآية معني بها آدم وحواء - عليهما السلام - إلا ما روي من حديث سمرة - رضي الله عنه - ، وهو ضعيف كما تقدم ، وما روي عن ابن عباس في الآية يعد من الإسرائيليات المتلقفة عن مسلمة أهل الكتاب ، وإنما التبس على كثير من المفسرين الأمر ، وظنوا أنها في آدم وحواء ، بسبب هذه الروايات ، وهذه آفة من آفات الإسرائيليات والتي تعتبر من الدخيل السيئ في التفسير .(1/19)
قال الحافظ ابن كثير - بعد أن أورد أثر ابن عباس رضي الله عنهما في الآية -:" وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه ، كمجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومن الطبقة الثانية : قتادة ، والسدي ، وغير واحد من السلف، وجماعة من الخلف ، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة ، وكأنه - والله أعلم - أصله مأخوذ من أهل الكتاب ؛ فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب ....، وهذه الآثار يظهر عليها - والله أعلم - أنها من آثار أهل الكتاب ".أهـ (1)
الإيرادات والاعتراضات على هذا الاختيار وأدلته:
اعترض على هذا الاختيار بأن ابن جرير الطبري حكى الإجماع على أن الآية معني بها آدم وحواء - عليهما السلام - وعليه فلا يجوز القول بأن الآية معني بها المشركون ؛ لأن في هذا مخالفة للإجماع .
والجواب :
أن لابن جرير رأي آخر في معنى الإجماع ، فهو يرى أن الإجماع ينعقد بقول الأكثرين ، ولا يعتد بمخالفة الواحد والاثنين ، ويعده شذوذاً .(2)
وأما الجمهور من العلماء فإن الإجماع لا ينعقد عندهم إذا كان في المسألة قولٌ آخرَ ، ولو كان القائل به واحداً .(3)
وبهذا تعرف أن ما يحكيه ابن جرير من الإجماع إنما يعني به قول الجمهور في الغالب ، وعليه فلا يصح دعوى الإجماع في تأويل هذه الآية ، والله تعالى أعلم .
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/286).
(2) نقل هذا المذهب عن ابن جرير : أبو إسحاق الشيرازي في " اللمع " (2/704) ، وإمام الحرمين في " البرهان " (1/721) ، وأبو يعلى في " العدة " (4/1119) ، وابن قدامة في " روضة الناظر" (2/473).
وقد وافق ابنَ جريرٍ في ذلك : أبو بكر الرازي ، الجصاص . انظر كتابه : الفصول في الأصول (3/299).
(3) انظر مذهب الجمهور في : شرح اللمع (2/704) ، وكشف الأسرار (3/245) ، والإحكام للآمدي (1/235)، والتمهيد ، لأبي الخطاب (3/260-261).(1/20)