الأجوبة المستوعبة عن المسائل المستغربة من صحيح البخاري
تأليف الشيخ الإمام العالم الحافظ أبي عمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبد البر النمري المالكي"رحمه الله تعالى" كتب بها إلى الفقيه أبي القاسم المهلب بن أبي صفرة،جوابا لسؤاله "رحمة الله عليهم أجمعين" آمين .
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر
الحمدلله الكبير المتعال ، المنفرد بالعز والكمال ، خلق الخلق على غير مثال ، بعث الرسل السبل وختم أنبياءه بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أرسله بالحق والهدى ،كاشفا للحيرة والعمى، أنزل عليه كتابه الناطق بكلامه الصادق، ليبين للناس مايتقون ، ومالهم إليه الحاجة مما يعلم صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
رعاك الله وكلاك ، وزاد في توفيقك وتقواك ، فإنه ورد في كتابك الكريم تضمن عن النطق عن محبتك ، وجميل طويل ودك ، من حرصك على العلم والازدياد من الفهم ، وكريم العناية والاجتهاد والدراية ، والجري في ميدان الطلب إلى الغاية ، وسألت الله تعالى المزيد من آله عندك وإحسانه إليك وحسن عونه على مايرضاه ويزلف إليه ويقرب منه ، وإليه أبتهل لاشريك له في أن يهب لنا ولك علما نافعا وأن يجرنا من علم لاينفع ، ودعآ لايسمع ، وذكرت في كتابك أن علماء زمانك وفقهاء مصرك أغفلوا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ونبذوه وراءهم ظهريا ، وقرؤوا ظاهره ولم يعلموا باطنه ، وتركوا الأصول وعولوا على الفروع ، إلى ساير ما أوردته من الإطراء الذي نحن عنه في غنى ، وذكره عنى ، وذكرت أنه استعجم عليك من الجامع الصحيح للبخاري "رحمه الله تعالى" أحاديث استغلقت عليك معانيها ، ورجوتني لكشف المعمى عنك فيها ، وسألتني شرحها وبسطها بما حضرني .(1/1)
وألفاني كتابك عليل اللحم والقلب ، قليل النشاط مشغول الفكر ،ولكني مع ذلك لم أر أن أخليك من الجواب بما أمكن وحضر ، على أن الاختصار وترك التطويل وحذف الاحتجاج والدليل ، فذكرت أحاديثك في كتابي هذا على حسب ما كتبت به ، وجئت بلفظك في سؤالك على حسب ماأوردته وجاوبت عن ذلك بما حضرني حفظه ويسر لي ذكره ، مستجيرا بالله من الزلل في القول والعمل ومستصغرا لنفسي وباكيا عليها ، إذا الأيام أحوجت إليها ، ولعمري إنه لموضع البكاء لإغفال أهل الطلب ماكان عليه سلفهم من طلب السنن ومعانيها وجمع الأصول وحفظها والعناية بكتاب الله عز وجل والفهم والتفقه فيه وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإضرابهم عن ذلك كله إلى ما قد جلا على قلوبهم بما تحيلون به دنياهم ، وفقنا الله تعالى وإياهم لما يرضى به عنا ، وألهمنا الصبر وأعاننا عليه ، من الأيام القليلة المعدودة الفانيةوجعلنا من الطايفة الظاهرة بالحق التي لايضرها من ناوأها إلى أن تقوم الساعة .آمين ، برحمته .وهذا حين أصير إلى ذكر الأحاديث والقول فيها بعون الله تعالى ، وهو حسبي ونعم الوكيل .(1/2)
إذ قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة إيذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي ثم قال : " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولايعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا : إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغايب ". فقيل لأبي شريح : ماقال لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك ياأبا شريح ، إن الحرم لايعيذ عاصيا ولافارا بدم ولافارا بحرمة .فقلت : مامعنى قوله " ولم يحرمها الناس " وقوله "قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس" وهو صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل ابن خطل وقتل الفواسق .
وبالله العون : إن قوله "ولم يحرمها الناس" إخبار أن الله عز وجل حرمها ، قال الله عز وجل ( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها ) . فلا سبيل إلى استحلاله لمن اتقاه ، إلا بإذن من الله الذي له ملك السموات والأرض ، يمحوا مايشاء ويثبت ، ويحل ويحرم ، ويغني ويفقر ، ويحيي ويميت ، ابتلاء واختبارا(1/3)
لابداء ،كما قالت اليهود لعنها الله ، ولكن لمصالح العباد واختبارهم ، ليبلوهم أيهم أحسن عملا وأيهم ألزم لما أمر به ونهي عنه لتقع المجازاة على الأعمال، وقد أذن الله الذي حرم مكة "تبارك اسمه" لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أذن فيه من القتال ، ثم أخبر صلى الله عليه وسلم أنها عادت إلى حالها ، وبه عرفنا تحريمها أولا وآخرا ، ولاعلم في مثل هذا إلا ماقرع السمع ، لأنه لامدخل للعقل في الشرع . ولم تختلف فرق الإسلام – على اختلافها في كثير من الدين والأحكام – أن النسخ في مثل هذا من الأمر والنهي ، وأن البداء لايضيفه إلى الله وإلى رسوله إلا كافر ، وأغنى عن القول في ذلك . وقد روي عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث أبي شريح هذا " إن الله حرم مكة".
وقوله "لم تحل لأحد قبلي ولاتحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار " وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس "رضي الله عنهما" أيضا : "إن هذا بلد حرام حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لايحل القتال فيها لأحد قبلي ولاتحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار " والأحاديث في هذا كثيرة. وقد روى ابن وابن عباس وأبو بكرة وعمرو بن الأحوص وجابر وغيرهم "رضي الله عنهم" بأ لفاظ متقاربة ومعنى واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم في حجة الوداع وقال : "أليس هذا البلد الحرام ؟ "قالوا : نعم . "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" .وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح : "إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنها لم تحل لأحد قبلي ولاتحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة ، وذكر الحديث .(1/4)
وفي قوله "ولم يحرمها الناس"أيضا ، دليل واضح على أن قوله صلى الله عليه وسلم : "اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها " ليس على ظاهره ، وهو حديث رواه مالك عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس ، وعمرو بن أبي عمرو من شيوخ مالك وليس بذاك القوي عند بعضهم .
ومعناه عندي – والله أعلم – أن إبراهيم "عليه السلام" أعلم بتحريم مكة ، وعلم أنها حرام بإخباره ، فكأنه حرمها، إذ لم يعرف تحريمها أولا في زمانه إلا على لسانه ، كما أضاف عز وجل توفي النفوس مرة إليه بقوله تعالى : (الله يتوفى الأنفس ) . ومرة إلى ملك الموت بقوله ( الذين تتوفاهم الملائكة ) . وجايز أن يضاف الشيء إلى من له فيه سبب في كلام العرب.ويحتمل أن يكون معناه أن إبراهيم منع من الصيد بمكة ، والقتال فيها ونحو ذلك ، وإني أمنع من مثل ذلك في المدينة ، والتحريم في كلام العرب المنع ، تقول العرب : حرمت عليك داري ، أي منعتك من دخولها ، وقال الله تعالى :"وحرمنا عليه المراضع من قبل " وموسى صغير لاتلحقه عبادة وإنما أراد : منعناه قبول المراضع ، وكما يدل أيضا أن الله حرم وليس إبراهيم الذي حرمها ، كما روى عمرو عن أنس قول عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" لعبدالله بن عياش ابن أبي ربيعة : أنت القايل لبلد خير منى من المدينة ؟ فقال له : هي حرم الله وأمنه وفيها نبيه . فقال عمر: لا أقول حرم الله شيئا . ولم يقل له : لا تقل حرم الله وحرم إبراهيم .
وفي حديث مالك وغيره عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم إن إبراهيم دعاك بمكة " . وهذا أولى من رواية من روى : "إن إيراهيم حرم مكة ".(1/5)
وقد ثبت بالآثار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، وأنها بلد حرام ، حرمه الله يوم خلق السموات والأرض . وهذا مشهور صحيح عند أهل الأثر وجماعة أهل السير فلا وجه لما خالفه من الرواية ، على أنها ليست بالقوية ، ولو صحت لكان معناها ماذكرنا ، والله أعلم .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس" تعظيم منه لحرمتها .
وفيه – والله أعلم – دليل على أن ماحرم الله في كتابه نصا متلوا ، أو خبرا عن الله صحيحا ، كان أقوى من تحريم الأنبياء "عليهم السلام" المأمور بطاعتهم والاقتداء بهم ، وهذا موضع اختلف فيه العلمآ قديما وحديثا :
فقوم ذهبوا إلى هذا وهو مذهب أصحابنا المالكيين . وقوم ذهبوا إلى أن ماحرم الرسول وحرم الله سواء ولكل واحد من الفريقين حجج يطول ذكرها . وقد أجمعوا أن صيد المدينة لاجزآ له ولافدية ، وهو تحريم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن صيد مكة لجزاء ، لأنه من نص كتاب الله عز وجل ، وهذا مما يحتج به لأصحابنا ، وبالله توفيقنا
وفيه أيضا دليل على أن الأنبياء لهم أن يحرموا بما أراهم الله وأذن لهم فيه ، والله أعلم .
وأما قولك : مامعنى قوله "عليه السلام" : "قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس" وهو عليه السلام قد أمر بقتل ابن خطل وقتل الفواسق ، فمعناه عندي – والله أعلم – أن ابن خطل لما وجب سفك دمه لما كان قد ارتكبه من الارتداد ، وقتل من قتل من المسلمين ، لم تنفعه مكة وحرمتها فيما قد لزمه ، وهو قول أكثر الفقهاء ، وسنذكر اختلافهم في ذلك عند تمام القول في هذا الباب – إن شاء الله تعالى- .
ويحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقتل ابن خطل وغيره ، إلا في الوقت الذي أحل له فيها القتال .(1/6)
وقال أهل العلم بالسير : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يعهد إلى أمرآيه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لايقاتلوا إلا من قاتلهم ، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أن نقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، منهم : عبدالله بن سعد بن أبي سرح العامري ، كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ارتد ولحق بمكة في قصة طويلة ، وعبدالله بن خطل رجل من بني تميم بن غالب ، كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا ، وبعث معه رجلا من الأنصار ، فقتل الأنصاري ، وارتد ولحق بمكة ، وكانت القينتان قرينتاه وصاحبتها تغنيان بهجآء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما معه ، فاستعاذ ابن خطل بالكعبة وتعلق بأستارها فلم ينفعه ذلك شيئا ، لما كان قد فسق فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتله في ذلك اليوم .
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقيس بن صبابة لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطآ بعد أن أخبر ديته ، وعكرمة بن أبي جهل ، فقتل عبدالله بن خطل والحويرث ومقيس ، وهرب عكرمة إلى اليمن ، وفر العامري إلى عثمان ، وكان أخاه من الرضاعة ، واستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنه ، وقتلت إحدى القينتين وهربت الأخرى ، وهذا كله – والله أعلم – إنما كان في تلك الساعة التي أذن فيها بالقتال ، ولم تكن(1/7)
ساعة من ساعات النهار المعهودات الاثني عشر –والله أعلم –وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله "ساعة من نهار " – والله أعلم – التقليل من الوقت والزمن ، كما قال عز وجل ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لايؤده إليك ) . إنما أراد عز وجل : أن منهم من يؤمن على الكثير فيفي ويؤدي أمانته ، ومنهم من يؤمن على اليسير فلا يفي ولا يؤدي أمانته ، ولم يرد القنطار بعينه ، ولا الدينار بعينه ، وظاهر قوله عليه السلام "ساعة من نهار " يدل على أنه كان بعض النهار ، لم يكن يوما تاما – والله أعلم – لأن "من " أكثر ما تدخل للتبعيض في مثل هذا . وظاهر قوله "قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس" يدل على أن الساعة التي أحل فيها القتال ، لم تكن أكثر من يوم ، وليس في قتل ابن خطل وغيره ما يشكل ، ولا مايحتاج إلى القول لمن فهم ، لأن الوقت الذي أحلت له كان ذلك - والله أعلم – هذا ممكن لايدفع إمكانه ، أو يكون ابن خطل إنما أمر بقتله لما استوجبه من القتل ، فلا يكون ذلك داخلا في استحلال مكة والحرم ، لأن الحرم لايعيذ من وجب عليه القتل عند أكثر أهل العلم ، وأي الوجهين كان فليس في قتل ابن خطل وأصحابه مايدفع قوله " قد عادت حرمتها كما كانت ". فتدبر هذا تجده كذلك - إن شاء الله تعالى - .
ولخالد بن الوليد في فتح مكة ، وقتل قوم بها ، قصة قد ذكرها أهل السير ، وجآت بها الأحاديث ، ليس بنا حاجة إلى ذكرها .(1/8)
وهذا الحديث الذي سألت عنه ،ذكره البخاري عن قتيبة بن سعيد عن الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي شريح أنه قال لعمرو بن سعيد وذكر الحديث ، وعمرو بن سعيد هذا فيما أظن - والله أعلم - هو عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق . وقد روى هذا الحديث عبدالله بن هشام عن زياد البكائي عن ابن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الخزاعي قال : لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبدالله بن الزبير،جئته فقلت له : ما هذا ؟ وذكر الحديث بكماله ، فجعل مكان عمرو بن سعيد "عمرو بن الزبير" كما ترى ، ورواه يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق بإسناده فقال فيه : لما يعث عمرو بن سعيد البعث إلى ابن الزبير ، دخلت عليه ، وذكر الحديث ، فوافق الليث على قوله عمرو بن سعيد ، وهو الصواب – إن شاء الله تعالى - .
وأما قوله في الحديث "لايحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولايعضد بها شجرة" فمعناه – والله أعلم – أنه لايحل لأحد فيها قتال أحد بتأويل يخالفه فيه منازعه ، وعلى هذا كان مخرج الحديث من أبي شريح ، ومن شهد القصة والتنزيل كان أعلم بالتأويل .
واختلف أهل العلم في هذا المعنى ، فقال بعضهم : لايجوز قتل من خرج متأولا بمكة خاصة ، وقتاله في غيرها جايز ، إذا قام الدليل لمقاتله على بغيه ، فإن الباغي يقاتل حتى يفيء إلى أمر الله ، ولا يقاتل بمكة على حال إذا كان له وجه يحتمل التأويل ، قالوا : ومكة مخصوصة بهذا الحكم ، كما أنها خصت بأن لايعضد شجرها ولايستحل صيدها ولاتحل لقطتها إلا لمنشد ، وعلى ملتقط اللقطة منها إنشادها أبدا ، ليس للاقطها غير ذلك ، وفي ساير البلدان يجوز التصرف فيها بعد العام ، على حكم اللقطة ، قالوا : وقد خصت مكة أيضا بأن لايحمل فيها سلاح ، وذكروا حديث معقل بن عبيدالله عن أبي الزبير عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لايحل لأحد أن يحمل بمكة سلاحا " .(1/9)
وقال آخرون : مكة وغيرها سواء ، إلا في الصيد والشجر .
وقال آخرون : مكة وغيرها سواء ، إلا في الصيد والشجر واللقطة ، على ما وصفنا من حكمها .
وقال آخرون : مكة وغيرها سواء ، إلا في الصيد والشجر وبيوتها لاتكرى ، ولايجوز أخذ الكرا فيها .
ولكل واحد منهم آثار يحتجون ومعان يذهبون إليها يطول ذكرها ، ولو تعرضنا لذكرها لخرجنا عن حكم ما له قصدنا ، ومعلوم أن قوله عليه السلام "لايحل لأحد أن يسفك بها دما " أراد الدم الحرام
وليس هذا اللفظ على ظاهره ، لأن الدم الحرام لايحل بمكة ولابغيرها ، ولكنه من كلام العرب ، لأن من كلامهم أن المسكوت عنه في معنا المذكور ، ويكون بخلافه ، ألا ترى إلى قوله عز وجل ( ولاتقتلوا أولادكم خشية إملاق ) وكذلك قوله عز وجل (ولاتكونوا أول كافر به ) ولايحل الكفر بالقرآن على حال من الأحوال ، وكذلك قوله " لايحل لأحد أن يسفك بها دما حراما " وكذلك غيرها ، إذا كان الدم حراما . وقد أجمعوا أنه يجوز بها سفك دماء الدواجن كلها غير الصيد .
وأما اختلاف العلمآ فيمن وجب عليه جزاء قصاص ، فهرب إلى الحرم ودخله واستجار به ، فإن طائفة منهم قالت : من قتل في غير الحرم ، ثم جآ إلى الحرم ، ودخله لم يقم عليه الحد في الحرم ، لقول الله عز وجل ( ومن دخله كان آمنا ) . قالوا : ومن قتل في الحرم ، قتل في الحرم .
وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن طاوس قال : من أحدث في الحرم حدثا أقمت عليه حده ، ومن أحدث حدثا في غير الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم ودخله لم يتعرض ، ولكنه لايؤوى ولا يبايع ولايكلم حتى يخرج من الحرم ، فإذا خرج من الحرم ، أقيم عليه الحد لما أحدث . قال عطاء : قال ابن عمر : لو أوى قاتل عمر بن الخطاب في الحرم ما هجته . وقال مجاهد في قوله عز وجل ( ومن دخله كان آمنا ) قال : لايخاف من أحد دخله .(1/10)
وأما قتادة وغيره فقالوا : كان ذلك في الجاهلية ، فأما اليوم فلو سرق في الحرم قطع ، ولو قتل قتل ، ولو قدر فيه على المشركين قتلوا .
قال أبو عمر : على هذا القول جماعة فقهاء الأمصار من أهل الرأي والأثر ، وهو الصحيح عندنا في النظر لأن الله تعالى قد أمرنا بالقصاص وإقامة الحدود أمرا مطلقا عاما ، لم يخص به موضعا من موضع ، ولاخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أجمعت الأمة على خصوصه ، ولا قامت بخصوصه حجة لامدفع لها .
وقد اختلف الفقهآ في تغليظ الدية على من قتل في الحرم :
فأكثرهم على أن القتل في الحل والحرم سوآ فيما يجب فيه من الدية والقود ، وإلى هذا ذهب مالك والعراقيون وهو أحد قولي الشافعي ، وقول الفقهاء السبعة حاشى القسم بن محمد فإنه روي عنه وعن سالم أنه من قتل خطأ في الحرم زيد عليه في الدية ثلث الدية ، وهو قول عثمان بن عفان ، وخالفه في ذلك علي ، وكان الشافعي يرى التغليظ في قتل الخطأ في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذي الرحم ، على حسب سنة دية العمد المغلظة ، وهذا أشهر عن الشافعي من القول الأول ، ومن الحجة على من ذهب هذا المذهب ، قوله عز وجل في قاتل الخطأ ( فدية مسلمة إلى أهله ) ولم يخص موضعا من موضع ، وفرض النبي صلى الله عليه وسلم الديات ، ولم يخص موضعا من موضع ، ولا فرق بين الحل والحرم – والله أعلم - .
الحديث الثاني : حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه .
تابعه معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عمرو : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم .
قلتَ : وأسنده الأوزاعي ، ولم يسنده معمر في متابعته ؛ لأنه لم يذكر جعفرا عن أبي سلمة وعن عمرو ابن أمية ، هكذا في كتابك .
فقلتَ : مامعنى إدخال البخاري هذه المتابعة وهي غير مسندة ؟(1/11)
أن إدخال البخاري متابعة معمر للأوزاعي ، إنما ذلك لأنه تابعه عن يحيى بن أبي كثير في هذا الحديث على ذكر المسح على العمامة فيه ، وإن كان معمر لم يذكر إسناد جعفر بن عمرو ، وذكره الأوزاعي. وقد روى هذا الحديث عبدالرزاق عن معمر بإسناده هذا عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عمرو بن أمية الضمري قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه . ولم يزد ، ولم يذكر العمامة . وعبدالرزاق من أثبت الناس في معمر ، وقد صنف كتابا جليلاً ذكر فيه باب المسح على العمامة ، والبخاري ، وإنما كان عنده حديث معمر من غير رواية عبدالرزاق ، أو حدثه عن عبدالرزاق بما ذكر من وثق به ممن لم يتفق ما جآ به ، وحسبك بما ذكره في مصنفه ، على أن المصنف عندهم لمعمر . وليس في حديث عمرو بن أمية المسح على العمامة ، والله المستعان .
ولم يراع البخاري في متابعة معمر الإسناد ، إنما راعى المسح على العمامة ، لأنه موضع الاختلاف فيما قد جعله بابا وأصلا في كتابه .
وأما قولك : ولم يسنده معمر . فقد أسنده ، وذكر فيه عن عمرو : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا في لفظ حديثه في كتابك ، والذي صنع معمر فيه ، إسقاط جعفر بن عمرو من إسناده ، وكذلك رواه جماعة لم يذكروا جعفر ، من رواة الأوزاعي وغيره ، فممن رواه عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عمرو بن أمية لم يذكروا جعفرا :
الوليد بن مسلم وأيوب بن سويد ومحمد بن كثير ، وذكروا فيه المسح على العمامة ، وكان الوليد بن مسلم ربما لم يذكر ذلك .
وقد روى هذا الحديث يونس بن يزيد عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين .لم يذكر العمامة ، ولاذكر جعفرا .
ولم يذكر في هذا الحديث "جعفر بن عمرو" من رواة الأوزاعي – فيما علمت – إلا أبو المغيرة وعبدالله بن دآود الحريبي ، وربما قصر الحريبي عن ذكر العمامة فيه .(1/12)
وروى هذا الحديث جماعة عن أبي سلمة عن يحيى بن أبي كثير ، ولم يذكروا المسح على العمامة ، وكذلك رواه جماعة عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه ، لم يذكروا فيه المسح على العمامة ،
في هذا الحديث عن جعفر بن عمرو عن أبيه على قوله .
وقد روي هذا الحديث عن أبي سلمة عن المغيرة ، وعن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وليس في واحد منهما ذكر المسح على العمامة ،وربما كان حديث أبي سلمة عن أبي هريرة حديثا آخر ، ولكن من علله جعله واحدا .
والاضطراب في حديث عمرو بن أمية في المسح على العمامة عظيم ، وهو حديث لايثبت عند أكثر أهل العلم بالحديث ، لم يخرجه أبو دآود ولا أحمد بن شعيب ، وقد ذكر النسائي في المسح على العمامة أبوابا من حديث المغيرة وبلال ، ولم يذكر حديث عمرو بن أمية . وأبو دآود فلم يصح عنده في المسح على العمامة شيء البتة . وللبخاري انفرادات في أحاديث يخرجها وأحاديث تركها لايتابعه أحد عليها ، والكمال لذي العزة والجلال .
الحديث الثالث : حديث الفأرة تقع في السمن ، ذكره في "باب النجاسات يقع في المآء والسمن" . وقولك : عرفني عن هذا الباب وغيره ، كيف أصل أهل المدينة في المآء ، ولخص لي فيه وجه الصواب ، فقد أشكل هذا الأصل .
فالجواب : أن حديث الفأرة التي وقعت في السمن الجامد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خذوها وما حولها فألقوه " . إلى ههنا انتهى حديث أكثر أصحاب ابن شهاب الذين رووه عنه عن عبدالله عن ابن عباس عن ميمونة .
وقد رواه معمر بهذا الإسناد ، ورواه أيضا بإسناد آخر عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة . فعند معمر فيه عن الزهري حديثان :
أحدهما : حديث عبدالله عن ابن عباس .
والآخر : حديث سعيد عن أبي هريرة .(1/13)
وفي حديث أبي هريرة : " إن كان جامدا فخذوها وماحولها وألقوه ، وإن كان مايعا فلا تقربوه ". هذه رواية عبدالرزاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه عبدالواحد ابن زياد عن معمر بهذا الإسناد ، وقال فيه : "وإن كان مايعا فاستصبحوا به ".
واختلف العلمآ في الاستصباح بالزيت ، والمايع تقع فيه الميتة ، وفي بيعه . ولم يختلفوا في كل ماوقعت فيه الميتة من المايعات غير المآء ، وشرب ذلك ، أنه لايجوز إلا من شذ عنهم . وقد ذكرنا حكم الزيت يقع فيه الميتة ، وما في ذلك للعلمآء من الأقوال والآثار في كتاب التمهيد .
وأما الذي سألت عنه : كيف أصل أهل المدينة ؟ وأحببت تلخيص ذلك ، وإظهار وجه الصواب فيه .
فالجواب عن ذلك : أن أصل أهل المدينة في الماء كتاب الله عز وجل ،وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما الكتاب فقول الله تبارك وتعالى اسمه ( وأنزلنا من السماء مآ طهورا ) فسمى الله المآ طهورا ، والطهور هو المطهر لغيره ، مثل الضروب والقتول ، وهو الذي يكثر الضرب والقتل ،وقد يكون أيضا بمعنى طاهر ، مثل صابر وشاكر ، وصبور وشكور ، وضارب وقاتل ، والمعنيان جميعا في الماء صحيحان .
والمآ القراح الصافي كماء السمآء ومآء البحار والأنهار والعيون والآبار ، إذا لم يخالطه شيء فهو طاهر مطهر ، وهذا مالاخلاف فيه بين المسلمين . والماء الذي وصفنا طاهر مطهر بإجماع ، فلا وجه للإكثار فيه ، قال الله عز وجل ( وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه في الأرض ). وقد تقدم أن المآء النازل من السمآ طهور ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المآ لاينجسه شيء".
وأجمعوا أن الماء الطاهر كثيرا كان أو قليلا ، إذا خالطته النجاسة فغلبت عليه أو ظهرت فيه بريح أو لون أو طعم ، أنها قد أفسدته ، وأنه قد حرم كما حرمت النجاسة ، وخرج من حكم الطهارة .(1/14)
وكذلك أجمعوا أن المآء المستبحر الكثير إذا دخلت فيه النجاسة ، فلم تظهر فيه بلون ولاطعم ولاريح ولاأثر ، أن ذلك المآ الطاهر مطهر كما كان سوا في ذلكم طهارته .
فإن كان المآ قليلا ، أو كان غير مستبحر ، وحلت فيه النجاسة ، فلم يظهر فيها لون ولاطعم ولاريح ، فهذا موضع كثر فيه النزاع والاختلاف قديما وحديثا ، واختلفت فيه الآثار أيضا :
وأصل أهل المدينة فيه ، وهو أيضا مذهب أهل البصرة ، وإليه ذهب أكثر أهل النظر ، وهو الذي اختاره أكثر أصحابنا المالكيون، من البغداديين ، أن ذلك المآ طاهر مطهر قليلا كان أو كثيرا ، لأن الما لاينجسه شيء إلا ما غلب عليه ، ولو نجسه غير ما يغلب عليه المآ صحت به طهارته لأحد أبدا ،ولو كان القليل فيه نسبة قليل النجاسة ، ماصح الاستنجآ بالمآء لأحد ، والحجة في هذا المذهب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صبه على بول الأعرابي ذنوبا من مآء حين بال في المسجد عنده ، وهو أصح الأحاديث كلها ، المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المآء من جهة الإسناد والمعنى .(1/15)
وفيه دليل واضح على أن كل المآء من النجاسات ، والحكم للمآء لاللنجاسة ، ولا مراعاة لما خالطه ومازجه إذا كان الماء غالبا ، لأن هذا حكم ما جعله الله طهورا مطهرا لغيره ، ومعلوم أن البول إذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصب عليه قد مازج ، ولكن لما كان الما غالبا كان مطهرا للبول ، وكان الحكم له ، ولم يكن للبول المستهلك فيه حكم ، لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولافرق عندنا بين حلول المآ على النجاسة وبين حلولها عليه ، ولم أر للذين فرقوا بينهما من الشافعيين حجة يعجز الخصم عن معارضتها ، وليس شيء من المايعات يحل هذا المحل غير الماء فاعلمه . والماء عندنا لايفسده إلا ما غلب عليه من النجاسات المحرمات ، أو ظهر فيه منها ، وهذا مذهب مالك بن أنس وأهل المدينة وأكثرهم ، وهي رواية المدنيين من أصحاب مالك عن مالك ، وكذلك حكاه أبو المصعب عن مالك وأهل المدينة ، وأما المصريون من أصحاب مالك يفسده عندهم قليل النجاسة ، وإن كثر لايفسده إلا ماغلب عليه من النجاسة أو ظهرت فيه بطعم أو ريح أو لون ، ولم يحدوا بين القليل والكثير حدا ، وهذا مذهب الشافعي سوآ ، إلا إن وجد في ذلك جدا لحديث القلتين .
وروى ابن القسم عن مالك في الجنب يغتسل في الحوض الذي يسقى منه الدواب ، ولم يكن غسل مابه من الأذى ، فقال : قد أفسد المآء ونجسه . وسئل عن الحياض التي تكون بين مكة والمدينة – وهي حياض كبار يغتسل فيها الجنب – ولم يغسل مابه من الأذى ،فقال : أكره للجنب أن يغتسل في المآ الدائم ، ولايضر المآء ذلك إذا كان كثيرا . فقد تبين بما ذكره ابن القسم عنه ما أضفنا فيه عنهم .(1/16)
وقد سئل ابن القسم عن إنآء الوضوء يسقط فيه مثل رؤوس الإبر من البول ، فأجاب : فإنه قد نجس . وإلى هذا ذهب جماعة أصحاب مالك من أهل المغرب ومصر إلا عبدالله بن وهب فإنه قال – فيما روى المدنيون عن مالك – : إن المآء قليله وكثيره لاينجس إلا بما غلب عليه ، أو ظهر فيه . على حسب ما وصفنا .
وقد روي عن أصحابنا في البئر يقع فيه النجاسة الميتة روايات مضطربة ، أكثرها على أن البئر يفسد ماؤها بالميتة تقع فيها . وكان إسماعيل بن إسحاق يقول : إن كلما روي عن ابن القاسم وغيره عن مثل تلك الروايات فإنما هي على طريق التنزه والاستحباب ، وأما الأصل في المآء عندنا كما ذكرنا ، ولقد
سأل أحمد بن المعذل عند الملك عن البئر تقع فيه الميتة فقال : ينزح منها عشرون ، ثلاثون ، أربعون دلوا. قال أحمد : ثم قال : أفلا سألتني عن قولي هذا ؟ فقلت : لقد هممت أن أسألك حتى بدا شيء ، فقال : إنما قلت هذا لك لئلا تظن أن في ذلك حدا ، أو شيئا واجبا ، وإنما هو لتطييب النفس عليه ، والمآ على طهارته حتى يتيقن فيه النجاسة . وهذا قول صحيح في النظر والأثر . وقد أتينا على هذا المعنى وتقصي القول فيه بالآثار المرفوعة وغيرها عن علمآ المدينة وسلفهم وبالحجج الواضحة في كتاب التمهيد وبالله التوفيق .
حدثني محمد بن قال حدثنا محمد بن معاوية أثنا عبدالله بن محمد قال ثنا حمزة بن محمد قالا جميعا أثنا أحمد بن شعيب قال ثنا قتيبة بن سعيد قال نا حماد عن ثابت عن أنس أن أعرابيا بال في المسجد فقام إليه بعض القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوه ". فلما فرغ ، دعا بدلو فصبه عليه .(1/17)
وهذا حديث ثابت صحيح ، وقال يحيى بن معين : أثبت الناس في أنس ثابت البناني ، وأثبت الناس في ثابت حماد بن سلمة ، وقد روي أيضا من وجوه كثيرة ، من حديث أنس وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن ادعى أن طهارة الأرض لها حكم منفرد فعليه إقامة الدليل ، ولن يجد إلى ذلك سبيلا .
الحديث الرابع : حديث أم عطية قالت : كنا لانعد الصفرة و الكدرة شيئا .
وثبت أن مالكا يقول –ولم يختلف قوله ذلك – أن الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض ، وفي غير أيامه
عن ذلك أن مالكا –رحمه الله – لم يختلف قوله أن الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض وبأثره . واختلف قوله في ذلك في غير أيام الحيض . والقول الأول أشهر عنه . وأما حديث أم عطية فحديث انفرد به أهل البصرة أن الأحاديث عنده الحديث لم يلزمه عمل ، لأن العمل إنما يلزم المقبول من الشهادات والأخبار ، على أن خبر أم عطية لازم العمل به على كل حال ، لأنها لم تضف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولاأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استفتي عن ذلك فأجاب بما قالته ، ولا فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمها ذلك ، وقد خالفتها عايشة أم المؤمنين وأسماء "رضي الله عنهن" ، فكانتا لاتصليان حتى تريان البياض . والنظر يشهد لهذا القول ، لأن المرأة إذا كانت حايضا بيقين ثم انقطع عنها الدم ، وبقيت الصفرة والكدرة - ومعلوم أنها من بقايا الدم – فالواجب ألا يخرج من حكم الحيض المتيقن إلا بيقين الطهارة ، ولايقين إلا بالنقا ، وكل دم يظهر من الرحم فالواجب أن تترك له الصلاة . ومن أنصف بان له أن الصفرة والكدرة من الدم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة " . وقد يجوز أن يكون أمامها صفرة وغير صفرة . وابتدآ الحيض ضعيف ثم يقوى بعد ، وهذا عند النسآء معروف ، والكلام في هذا واضح ، فلا وجه فيه للإطالة .(1/18)
وقال عبدالله بن غانم : قلت لمالك : إنا لم نكد نرى الصفرة والكدرة شيئا ، ولا نرى ذلك إلا في الدم العبيط ، فقال مالك : وهل الصفرة والكدرة إلا دم ؟ ثم قال : إن هذا البلد إنما كان العمل فيه بالنبوة وإن غيرهم إنما العمل فيهم بأمر الملوك .
وقد اختلف العلماء في الصفرة والكدرة ، قديما وحديثا اختلافا كثيرا ، والصواب ماقلت لك – إن شاء الله تعالى – وعليه أكثر الفقهاء بالحجاز والعراق ، وبالله العصمة والتوفيق .
الحديث الخامس : حديث عايشة "رضي الله عنها" أنها استعارت من أسماء قلادة ، فهلكت ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فوجدها ، فأدركتهما الصلاة وليس معهم مآ فصلوا وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله آية التيمم .
هكذا ذكرت الحديث في كتابك ، فقلت :فكأن البخاري رحمه الله جوز الصلاة عند العذر وامتناع التيمم بغير تيمم .
فالجواب : إن هذا الباب قد اختلف فيه العلمآء قديما ، وتنازع فيه فقها الأمصار ، فذهب منهم قوم إلى أن المحبوسين في المصر والمهدم عليهم والمصلوبين ، وكل من لايقدر على الوضوء بالمآء وعلى التيمم بالأرض أو التراب ، أنه لايصلي حتى يمكنه الوضوء أو التيمم ، ولو أقام ماشا الله أن يقيم ، فإذا انطلق صلى كل صلاة لم يكن صلاها من أجل ذلك . وحجة من ذهب هذا المذهب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لايقبل الله صلاة بغير طهور" فمن لم يمكنه الطهور ولم يكن له إلى الصلاة سبيل.
وممن ذهب إلى هذا من أصحابنا أشهب ، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي والثوري وزفر ، وهو أحد قولي الشافعي .(1/19)
وذهب منهم آخرون إلى أن من كانت حاله ماوصفنا ، صلى كيف أمكنه بغير طهور ، إذا لم يمكنه الطهور ، وأعاد بعد ذلك إذا قدر الطهور بالمآء أوالتيمم عند عدم المآء ، وممن ذهب إلى هذا أيضا من أصحابنا عبدالرحمن بن القسم وهو قول أبي يوسف ومحمد والليث بن سعد وهو أحد قولي الشافعي أيضا، وكل هؤلاء قال : إن من كانت حاله ما وصفنا ، وصلى على ذلك ، لم يكن له بد من الإعادة إذا قدر على الطهور .
وليس في حديث عآيشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإعادة عند وجود المآء . وقد زعم بعض العلمآء أن الانفصال من ذلك ، بأن التيمم لم يكن مشروعا حينئذ ، لأنه نزل لغد ، وهذا عندي لاوجه له ، لأنهم كانت طهارتهم طهارة واحدة حينئذ ، فصلوا دونها ، وكذلك من عدم الطهارة بالمآء وعدم البدل منها ، وهي الطهارة بالصعيد ، ولم يقدر على شيء من ذلك كله ، كان حكمه كذلك والله أعلم .
وقد ذهب بعض المتأخرين من الفقهآ ، أن من كانت حاله تلك على ظاهر حديث عايشة هذا ، والفقهآ على خلافه كلهم ، وفي المسألة نظر ، لأنه يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم : " لايقبل الله صلاة بغير طهور " لمن قدر على الطهور ، كما أنه لايقبل صلاة عريان ، وهو قادر على ثوب يستره ، فتركه عامدا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لايقبل الله صلاة حايض حتى تختمر " .
والمسألة إذا تعادلت فيها الأدلة واستوت فيها الحجج ، فالوجه في هذا للعلمآء التخيير بالفتوى ، ولكل من
الاحتياط ، والاحتياط في هذه المسئلة ، أن يصلي ثم يعيد به إذا قدر على ذلك الطهارة ، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب ، ليؤدي فرضه بيقين ، ويخرج من الاختلاف ، ويدع مايريبه إلى مالايريبه ، ومن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، كما قال صلى الله عليه وسلم .(1/20)
وقد روى ابن دينار عن معن عن مالك فيمن كتفه الوالي وحبسه فمنعه من الصلاة حتى خرج الوقت : ليس عليه إعادة . وهذه رواية منكرة ، وقياسه على المغمى عليه لاوجه له .
وروى ابن القسم عن مالك في هذا وفي المهدم عليه البيت : أنهم يعيدون إذا خرجوا ، لأنهم كانت معهم عقولهم ، وهذا هو الصحيح عندنا ، وعليه القياس .
الحديث السادس : حديث عايشة رضي الله عنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر .
فالجواب : أن الكلام في هذا الحديث يطول ، وقد ذكرنا في كتابنا التمهيد وفي الاستذكار ، ولكنا نذكر منه ههنا جملا كافية - إن شآ الله تعالى- فنقول : إن هذا الحديث ليس على ظاهره ، إن صح مجيئه ، لأن هناك آثارا كثيرة تدفعه ، فأما إسناده وصحته من جهة النقل فلا مقال فيه لأحد . فمما يوهن هذا الحديث ، أن ظاهره يوجب قصر الصلاة فرضا ، وعايشة التي جآت به رضي الله عنها عملت بخلافه ، وعملها بخلافه مشهور عنها ، تعمل بخلافه إلا لأنه عندها وهم رجعت عنه ، أو لمعنى يزيله عن ظاهره ، لأنه خبر لايجوز فيه النسخ ، لاستحالة نسخ الأخبار ، وإنما ينسخ الأمر والنهي الرجوع عنه إقرار بالوهم والنسيان ، فمن ههنا دفع العلمآ جواز النسخ على ماكان مخرجه مخرج الخبر في الكتاب والسنة ، فقف على هذا الأصل .
ذكر عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عايشة : أنها كانت تتم في السفر .
فإن قال قائل : إن عايشة "رضي الله عنها" إنما أتمت في السفر لأنها أم المؤمنين ، فحيث نزلت فهي عند بيتها ، وكأنه منزلها .(1/21)
قيل له : هذا تأويل فاسد لاوجه له ، ولايجوز مثله أن يتأول على عايشة "رضي الله عنها" لما فيه من خلاف السنة والإجماع ، لأنه لو كان نزولها حيث نزلت منزلا لها لأنهم بنوها لما جاز لها القصر أصلا ، لأنها في منزلها ، وقد أجمع المسلمون أن القصر كان لها مباحا في سفرها . وأكثرهم يقول : لاينبغي ترك القصر . ولو كان ذلك كذلك ما قصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أبو المؤمنين وبه صارت عايشة أم المؤمنين ، ألا ترى إلى قرآة أبي بن كعب "رحمه الله" ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ) . وقد كان للمؤمنين أمهات عدة يسافرون في الحج والعمرة وغيرهما ، فما بلغنا عن واحدة منهن أنها تأولت هذا التأويل .
وقد تأولت طآيفة على عايشة "رحمها الله" تأويلا أضعف من هذا ، لايليق منا قبوله ولاذكره ، ولايليق بنا مثله .
والذي يجوز أن يتأول عليها ، ماقد وافقها فيه غيرها ، فقد أتم الصلاة في السفر جماعة من السلف الصالح. منهم : عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وغيرهما ، وقد تأول على عثمان تأويلات ، لم يرو شيء منها عنه ، وإنما هي ظنون وتوجيهات ، والله أعلم .
وقد عاب ابن مسعود على عثمان بالإتمام في سفره ، ثم أدام عثمان الصلاة ، وفي ذلك الوقت يصلي ابن مسعود خلفه ، وأتم معه ، فقيل له : أنت تعيبه بالإتمام وتتم معه ؟ فقال : الخلاف شر .
فلو كان القصر عند ابن مسعود فرضا ، لم يتم معه ولم يصل خلفه ، ولكنه كان عنده - والله أعلم – سنة ورخصة ، فكره خلاف إمامه فيما قد أبيح له .(1/22)
ومثل قصة ابن مسعود هذه ، حديث سلمان ، ذكر عبدالرزاق عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ابن أبي ليلى الكندي عن سلمان : أنه كان مع قوم في السفر ، فحضرت الصلاة فقالوا له : صل ، فقال : إنا لانؤمكم ، ولاننكح نساءكم ، وأبى . فتقدم رجل من القوم ، فصلى أربع ركعات ، فلما سلم . قال سلمان : مالنا وللمربعة ؟ إنما كان يكفينا نصف المربعة ، ونحن إلى الرخصة أحوج . فلم يعد سلمان الصلاة ، وأخبر أن القصر رخصة فتدبر .
ولا مما يقدح في حديث عايشة إتمامها في السفر ، ومثله أيضا إجماع الفقهآ على أن المسافر إذا صلى خلف المقيم ، وأدرك معه ركعة تامة أنه يصلي أربعا ، ولو كان فرض المسافر ركعتين لم ينتقل إلى أربع مع إمامه. كما أن المقيم إذا صلى به المسافر ، لاينتقل فرضه للإنمام بإمامه ، بل يتم صلاته بعد سلام إمامه المسافر ، كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بعده حيث قالا بمكة _ كل واحد منهما في وقته لمن صلى معهما من المقيمين ، وهما مسافران - : "أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر". ولم يبلغنا أن أحدا من علمآء المسلمين المسافر إذا أقيمت عليه في الحضر الصلاة في المسجد من الدخول معهم ، وهذا كله يدلك على أن القصر ليس بفرض عندهم ، وإنما هو سنة وإباحة .
وحدثت عايشة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمنها :
حديث عمر بن الخطاب أن يعلى بن أمية قال له : ما لنا نقصر الصلاة في السفر ونحن آمنون ، وقد قال الله ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ) ونحن نجد أمنا ، فقال عمر : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " . وهذا يدل على أن القصر رحمة وتوسعة ، وسنة مسنونة .
ومنها : حديث المغيرة عن عطآ عن عآيشة أن رسول الله صلى الله صام في السفر وأفطر ، وأتم الصلاة وقصر .(1/23)
وحديث طلحة وعمرو عن عطآء عن عايشة قالت : كلا الأمرين قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صام وأفطر وأتم وقصر في السفر .
ومنها أيضا : حديث أنس بن مالك الأنصاري أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نسافر ، فيتم بعضنا ويقصر بعضنا و يصوم بعضنا ويفطر بعضنا ، فلا يعيب أحد منا على صاحبه .
وقد ذكرنا هذه الآثار وغيرها في كتاب التمهيد ، في باب ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد ، فاقتصرنا هاهنا على المتون دون الأسانيد ، بشرط الاختصار والفرار من الإكثار .
ومنها أيضا : حديث عمرو بن أمية الضمري وحديث الحرشي .
ومنها حديث أنس بن مالك القشيري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة " .
وظاهر قوله " وضع " فيما قبل كان وجب ، فوضع منه أو فيه ، هذا التأويل دليل على أن الصلاة لم تفرض ركعتين ركعتين كما قالت عآيشة ، وقد قال بأن الصلاة فرضت أربعا أربعا حين فرضت ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ركعتين جماعة من العلمآء ، منهم : ابن عباس ونافع بن جبير بن مطعم والحسن البصري ، كلهم يزعم أن الصلاة أول ما فرضت أربعا ، وذلك اليوم الذي أصبح فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ليلة أسري به ، أتاه جبريل فصلى به عند البيت الصلوات بدأ بالظهر وختم بالصبح في يومين ، أربع ركعات أربع ركعات إلا المغرب والصبح .
ولايختلف أهل السير بالأثر أن الصلاة لم تفرض إلا بالإسرآ ، وأن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة تلك الليلة ، وقت الظهر ، فصلى به على هيئة صلاتنا اليوم ، وهذا كله من قولهم يدفع حديث عايشة أو يصرفه عن ظاهره . وقد ذكرنا ما للعلمآء في هذا الباب من الآثار والأقوال مستقصى في كتاب التمهيد .(1/24)
وهذا الذي ذكرت لك مذهب مالك بن أنس وأكثر أصحابه وأهل المدينة . حكى أبو الفرج القاضي عن أبي المصعب الزهري عن مالك قال : القصر في السفر للنساء والرجال سنة ، ثم قال أبو الفرج : فلا معنى للاشتغال بالاستدلال على مذهب مالك مع ما ذكره أبو المصعب عنه أن القصر سنة لافرض .
ومما يدل على ذلك من مذهبه ، أنه لايرى الإعادة على من أتم في السفر إلا في .
قال أبو عمر : أصل القصر في السفر مع الخوف ، خرج مخرج الإباحة والرخصة ، لقوله عز وجل ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) ثم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم القصر في السفر أمنا ، فهو على ذلك الأصل ، والله أعلم .(1/25)