بسم الله ا
الأحاديث الواردة في
أطفال المشركين
"رواية ورداية "
إعداد /
محمود محمد الشبلي
أبي عبد الباري الصومالي
مقدمة المؤلف
الحمد لله الكبير المتعال ، الذي بنعمته تصلح خواتيم الأعمال ، وبين مصير الخلق ما بين الكبار والأطفال، أرسل الرسل، وأنزل الكتب، والصلاة والسلام على النبي المختار، الهادي إلى طريق الأبرار، ونزل الأخيار، الذي بين حكم مصير الكبار والصغار، وعلى آله وصحبه الكرام، الذين ساروا على نهج الإسلام، ومن تبعهم بإحسان على مر الليالي والأيام أما بعد ،،،(1/1)
فإنه قد حدث في أوساط بعض الشباب التنازع على مصير الأطفال هل هم إلى الجنة أو إلى النار؟ على العموم أو على التفصيل ؟ أو التوقف من الحكم عليهم بشيء ؟ واستخرج كل من المختلفين جملة من الأدلة التي يقوي بها مذهبه ورأيه ، وتكلم على ما احتج به الآخر بما أورده عليه من المقال في الأسانيد أو في المتون أو ذكر لها من أنواع التأويل ما يضعف دلالتها لو صح ذلك التأويل وكان له وجه معتبر مقبول، كما أورد كل واحد أقوالا استدل بها على مذهبه ، وفي الأثر المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : " لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا أو كلمة تشبهه ، ما لم يتكلموا في الولدان والقدر " وفي رواية " حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر" (1).
قال المناوي في الفيض (2/431): يحتمل أنه أراد أولاد المشركين هل هم في النار مع آبائهم أو في الجنة" اهـ، وجزم بذلك ابن حبان في صحيحه.
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير (رقم 12764) والأوسط (رقم 4086) والبزار (رقم 2180زوائده ) وابن حبان في صحيحه (رقم 6724) والحاكم (1/33) وعبد الله بن أحمد في السنة (2/401 رقم 870) والمروزي في الرد على ابن قتيبة (أحكام أهل الذمة 2/102) واللالكائي في السنة (4/631 رقم 1127) وابن عبد البر في التمهيد (18/131) من طرق عن جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس به مرفوعا وموقوفا . وهذا إسناد صحيح ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي والألباني في الصحيحة (رقم 1515) وقال الهيثمي في المجمع (7/202) : رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط ورجال البزار رجال الصحيح أهـ .(1/2)
وقال ابن تيمية في درء التعارض (8/407) وهو يتكلم على هذا الأثر : ولهذا لما روى يحيى بن آدم لابن المباك هذا الأثر عن ابن عباس وهو قوله " إنه لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا شك الراوي حتى يتكلموا في الولدان والقدر ، وكأن قائل هذا يطلب من الناس أن يسكتوا مطلقا ، قال له ابن المبارك : أفيسكت الإنسان على الجهل ؟ وقد صدق ابن المبارك ، فقال له يحيى بن آدم : أفتأمر بالكلام ؟ فسكت ابن المبارك ، لأن أمره بالكلام مطلقا يتضمن الإذن بالكلام الذي وقع من الناس ، وفيه من الجهل والكذب ما ينهى عنه .
وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بينه الله ورسوله مأمور به ، وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه ، وأما الكلام بلا علم فيذم ، ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم ، وقد يتكلم بما يظنه علما : إما برأي رآه ، وإما بنقل بلغه ، ويكون كلاما بلا علم، وهذا قد يعذر صاحبه تارة وإن لم يتبع، وقد يذم صاحبه إذا ظلم غيره ورد الحق الذي معه بغيا اهـ .
وقال ابن القيم في طريق الهجرتين (ص 637) : وأما حديث أبي رجاء العطاردي ففي القلب من رفعه شيء وإن أخرجه ابن حبان في صحيحه ، وهو يدل على ذم من تكلم فيهم بغير علم ، أو ضرب النصوص بعضها ببعض فيهم ، كما ذم من تكلم في القدر بمثل ذلك ، وأما من تكلم بعلم وحق فلا أهـ .
وقال ابن كثير نحوا من هذا في تفسيره (3/32) فقال : ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة ، وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع كره جماعة من العلماء الكلام فيها اهـ .(1/3)
وروى المروزي في الرد على ابن قتيبة ثنا عمرو بن زرارة عن إسماعيل ابن علية عن ابن عون أنه كان عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال : ما ذا كان بين قتادة وبين حفص بن عمر في أولاد المشركين ؟ قال : أو تكلم ربيعة الرأي في ذلك ؟ فقال القاسم: إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا عنده، قال : فكأنما كانت نارا فأطفئت " أهـ (1).
فلما انتشر الخلاف ، وتناقضت الآراء وكان الأمر كما ذكرت، أردت أن أجمع ما ورد في المسألة من النصوص على العموم أو على الخصوص ، مع بيان ما في أسانيدها ومتونها من علل ومقال ، وأن أنقل أقوال العلماء الذين ألفوا في هذه المسألة كتبا مستقلة أو كتبوا عنها بحثا في سياق مسألة من كتبهم كابن عبد البر وابن تيمية وابن القيم و السبكي وابن الوزير وغيرهم من أهل العلم حسب التمكن والمعرفة والاطلاع، مع التحري والحرص على الإيجاز الذي لا يخل بالمقصود، وسميته (الأحاديث الواردة في
أطفال المشركين "رواية ورداية ") فما أصبت فيه الحق فمن توفيق الله تعالى وله الحمد والشكر على ذلك، وما جانبت الصواب وزل به القلم فمن نفسي ومن الشيطان وشريعة الرحمن منها بريئة، وأستغفر الله تعالى منه قبل وبعد، آملا من كل من وقف على خطأ وزلة في هذه الرسالة بيان وجه الحق بدليله والكشف عن الزلل وسببه، وله في ذلك مني جزيل الشكر، وإنني واثق أن الحق لا يضيع، فحسبي من التنبيه بذلك.
وقد رأيت بعد النظر في الأحاديث الواردة فيه تقسيم البحث إلى سبعة فصول وخاتمة .
الفصل الأول : القول في أطفال المسلمين
الفصل الثاني : القول بأن أطفال المشركين في الجنة وأدلته.
الفصل الثالث : القول بأن أطفال المشركين في النار وأدلته
الفصل الرابع : القول بأن أطفال المشركين يمتحنون يوم القيامة وأدلته
__________
(1) ذكره ابن تيمية في درء التعارض ( 8/ 402) وابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/102).(1/4)
الفصل الخامس: القول بالتوقف عن القطع لأطفال المشركين بالجنة أو النار وأدلته
الفصل السادس : مناقشة الأقوال والمذاهب على ضوء ما تقدم
الفصل السابع : الرأي الراجح وبيان وجه الترجيح
الخاتمة : نتائج البحث والدراسة .
وهي دراسة متواضعة جدا في هذا الموضوع الشائك الخطير الذي تباعدت أنظار الكبار ، والأئمة الأخيار في توجيه ما ورد فيه من الظواهر المختلفة من الجهتين الحديثية والفقيهية ، ولعل الله يقيض لها من يوفي لها حقها ، ويردّ الأمور إلى نصابها، وأسأله العناية والتوفيق في البداية والنهاية، والوقاية من الزلل في النقل والدراية، والهداية للصحيح في التوجيه والترجيح، إنه ولي ذلك والقار عليه.
تنبيه: في طريقة اختيار وتحديد الأقوال
بعد النظر في الأقوال والأدلة في مصير أطفال المشركين– على ما يأتي – تركت من الأقوال ما لم أجد له دليلا معتبرا وإن كان ذكرها غير واحد ممن تكلم على هذه المسألة كابن القيم رحمه الله تعالى، وهذه الأقوال التي تركتها هي:
- القول بأنهم في منزلة بين الجنة والنار ، وهو قول في غاية الضعف، لا يدل عليه دليل، وهو قول طائفة من المفسرين على ما قال ابن القيم في طريق الهجرتين(ص 647) وأحكام أهل الذمة (2/96)، وقال السبكي في رسالة الأطفال (ص 32-35): وأما القول بأنهم في الأعراف فلا أعرفه ولا أعلم حديثا ورد به، ولا قاله أحد من العلماء فيما علمت أهـ.
وضعفه ابن القيم فقال : والقائلون بهذا إن أرادوا أن هذا المنزل مستقرهم أبدا فباطل ، فإنه لا دار للقرار إلا الجنة أو النار ، وإن أرادوا أنهم يكونون فيه مدة ثم يصيرون إلى دار القرار فهذا ليس بممتنع أهـ .
قال أبو عبد الباري: هذا ليس بشيء، فإنهم إن قالوا بأنهم يصيرون إلى الجنة أو النار فقد آل أمر هذا القول إلى أحد القولين، وإن قالوا بالوقف أو الامتحان فقد آل إلى هذين القولين، وإن قالوا بغير ذلك فما هو؟ والله أعلم.(1/5)
ثم رأيت الحافظ ابن القيم قال في حاشيته على سنن أبي داود (12/323 عون المعبود): وهذا أيضا ليس بشيء، فإنه لا دار للقرار إلا الجنة والنار، وأما الأعراف فإن مآل أصحابها إلى الجنة كما قاله الصحابة اهـ.
- ما نقل عن عامر بن أشرس أنه ذهب إلى أن الأطفال يصيرون في يوم القيامة ترابا ، وهو قول في غاية الغرابة ، ولم أر له دليلا ، ولا ذكر له ابن القيم في طريق الهجرتين (ص 661) دليلا ، وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/102) : وهذا قول اخترعه من تلقاء نفسه ، فلا يعرف عن أحد من السلف ، وكأن قائله رأى انهم لا ثواب لهم ولا عقاب عليهم فألحقهم بالبهائم ، والأحاديث الصحاح والحسان وآثار الصحابة تكذب هذا القول وترد عليه قوله اهـ والله أعلم .
- القول بأنهم تبع لآبائهم فهو داخل تحت القول بأنهم في النار ، كما أن القول بالمشيئة المحضة - وقد نسبه ابن القيم إلى الجبرية وكثير من مثبتي القدر - يندرج تحت القول بالوقف ، فهما قول واحد ، وكما أن القول بأنهم خدم أهل الجنة ومماليكهم يندرج تحت القول بأنهم في الجنة، فإذا علم ذلك تبين أن الأقوال الرئيسة أربعة وهي: أنهم في الجنة، أو أنهم في النار، أو التوقف، أو القول بالامتحان، وبقية الثمانية: ثلاثة منها مندرجة تحت الأقوال الأربعة، وواحد منها مردود لا دليل عليه والله أعلم .
كتبه / أبو عبد الباري الصومالي
... ... محمود محمد الشبلي
الفصل الأول :
القول في أطفال المسلمين
القطع بأن مصير أطفال المسلمين في الجنة ، وأنه لا خلاف في ذلك بين المسلمين ، وإنما الخلاف المعروف في أطفال المشركين ، هو الذي درج عليه كثير من العلماء والمحققين ، ونقل الإجماع على ذلك غير واحد ، وهو الذي دلت النصوص الكثيرة التي لا تحصى عليه ، وتواترت به الأحاديث الصحاح .(1/6)
ومن العلماء من جعلها موضع خلاف ، فنقل عن بعض السلف التوقف عن الجزم لأطفال المسلمين بالجنة أو النار وفي السطور التالية نورد الأدلة المتكاثرة على أنهم في الجنة ، ثم نعرج على من قال بالوقف وما احتج به على فرض ثبوت الخلاف :
أولا : الأدلة على أن أطفال المسلمين في الجنة
جاءت في ذلك أدلة كثيرة كما قلنا ، وفيما يلي نذكر طرفا من الأحاديث الخاصة فنقول :
( 1 ) الحديث الأول : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما من مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " .
رواه البخاري (رقم 1248،1381) وابن ماجه (رقم 1605) والنسائي (4/24) وغيرهم من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس به.
ورواه ابن حبان ( رقم 2945) والنسائي (4/23-24) والبخاري في التاريخ الكبير (6/421) – معلقا - من طريق عمران بن نافع عن حفص بن عبيد الله عن أنس بلفظ " من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة " وسنده صحيح .
وجاء نحوه من حديث عبد الرحمن بن بشر الأنصاري وعبد الله بن مسعود وعتبة بن عبد السلمي ومعاذ بن أنس الجهني وأبي هريرة وغيرهم (1) .
__________
(1) حديث عبد الرحمن بن بشر الأنصاري / رواه الطبراني من طريق عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن بشر كما في الفتح ( 3/124 ) والإصابة ( 4/290 ) وقال المنذري في الترغيب ( 3/55 ) بسند لا بأس به وله شواهد كثيرة .
وحديث ابن مسعود / رواه ابن ماجه (رقم 1606) وأحمد (1/375) من طريق أبي عبيدة عن أبيه وهو منقطع ، ورواه الطبراي في الكبير (10/رقم 10414) وأبو يعلى ( رقم 5085 ) من طريق آخر عن أبي وائل عن ابن مسعود به .
وحديث عتبة السلمي / رواه أيضا ابن ماجه ( رقم 1604 ) وأحمد ( 4/183، 184 ) والطبراني في الشاميين ( رقم 1070 ) والكبير ( 17/رقم 294 ،309 ) من طريق حريز بن عثمان عن شرحبيل بن شفعة عن عتبة به ، وسنده حسن ، رجاله ثقات غير شرحبيل وهو كما في التقريب صدوق .
وحديث معاذ بن أنس رواه الطبراني كما في الفتح (3/124 ) .
وحديث أبي هريرة / رواه ابن عبد البر في التمهيد ( 18/113) من طريق عن روح بن عبادة والبيهقي في السنن ( 4/68 ) و الشعب ( رقم 9747 ) من طريق عثمان بن الهيثم كلاهما عن عوف الأعرابي عن ابن سيرين عن أبي هريرة به ، ورجاله ثقات .
ورواه اليخاري ( رقم 1251 ، 6656 ) ومسلم ( 2632 ) وغيرهما من طرق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به مختصرا .
وقد روي أيضا من حديث عقبة بن عامر عند أحمد (4/144) والطبراني في الكبير (17/رقم 829 ) من طريق عمرو بن الحارث وابن لهيعة عن أبي عشانة عن عقبة به .ورواته ثقات على ما قال المنذري في الترغيب ( 3/55 ) .
ومن حديث عمرو بن عبسة عند أحمد (4/386 ) وحسن المنذري سنده في الترغيب ،وفيه الفرج بن فصالة وهو ضعيف ، لكنه يتقوى بما سبق ويأتي ، وزاد الهيثمي في المجمع ( 3/5 ) عزوه للطبراني في الكبير على اختصار وقال : رجال الطبراني ثقات . ... ... ... ... ...
وعن حبيبة بنت أبي تجراة أيضا عند الطبراني في الكبير ( 24/ رقم 571 ) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني ( رقم 3304 ) من طريق أبان بن صعصعة عن ابن سيرين عن يزيد بن أبي بكرة عنها به . وليس عند ابن أبي عاصم ذكر يزيد ، وحسنه أيضا المنذري .
وسنده ضعيف من أجل يزيد بن أبي بكرة فهو مجهول كما قال الهيثمي في مجمعه ( 3/7 ) : رجاله رجال الصحيح خلا يزيد بن أبي بكرة ولم أجد من ترجه أهـ .
ورواه الطبراني ( 24/رقم 570 ) من طريق محمد بن صالح بن الوليد النرسي عن محمد بن المثنى وعمرو بن علي عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبان بن صعصعة عن ابن سيرين سمعت حبيبة به .
وهذا سند رجاله ثقات غير شيخ الطبراني فلم أجد ترجمته فلينظر من ترجم له ،
ومن حديث أبي ذر عند أحمد (5/153، 159، 164) والطبراني في الأوسط (رقم 962 ، 7182 ) والصغير ( رقم 895 ) وابن حبان ( رقم 2940) والبيهقي في الشعب (رقم 3345) والبخاري في الأدب المفرد ( رقم 150 ) من طريق الحسن عن صعصعة بن معاوية عن أبي ذر به .
وسنده صحيح ، وقد صرح الحسن من أبان بالسماع فزالت شبهة تدليسه ، وقد صححه الألباني في صحيحته ( رقم 2260 ) .
فهؤلاء عشرة من الصحابة ، فالحديث بهذا متواتر والله أعلم .(1/7)
( 2 ) الحديث الثاني : عن قرة بن إياس المزني رضي الله عنه أن رجلا كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بابن له فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - :" أتحبه ؟ فقال : يا رسول الله أحبك الله كما أحبه ، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما فعل فلان بن فلان ؟ قالوا: يا رسول الله مات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبيه: " أما تحب ألا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك ؟ قالوا يا رسول الله: أله وحده أو لكلنا ؟ فقال: بل لكلكم " .
رواه أحمد (3/436 ، 5/35 وهذا لفظه) والنسائي (4/22 ، 23، 118) والطيالسي (رقم 1075) والبزار في مسنده (رقم 3302) وابن حبان (رقم 2947) والحاكم ( 1/384 ) والطبراني في الكبير (19/رقم54، 66) والبيهقي في سننه (4/59-60) وشعب الإيمان (رقم 9753 ،9754) والروياني في مسنده (رقم 938) وابن عبد البر في التمهيد (18/113-114 ) من طريق شعبة وخالد بن ميسرة كلاهما عن معاوية بن قرة عن أبيه قرة بن إياس به .
وهذا سند صحيح ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي والألباني في أحكام الجنائز ( ص 162 ) والأرناؤط .
( 3 ) الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " صغارهم دعاميص الجنة ، يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه ، فيأخذ بثوبه كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا ، فلا ينتهي حتى يدخله الله وأبويه الجنة " .
رواه مسلم (رقم 2635) وأحمد (2/488 ، 509) والبخاري في الأدب المفرد (رقم 145) وإسحاق في مسنده (رقم 144) والبيهقي في السنن (4/67، 68) وغيرهم من طريق أبي السليل وسعيد الجريري عن أبي حسان خالد بن غلاق عن أبي هريرة به .
ومعنى قوله في الحديث (دعاميص الجنة) : أي صغار أهلها ، وأصل الدعموص: دويبة تكون في الماء لا تفارقه، أي أن الصغير في الجنة لا يفارقها قاله النووي في شرح مسلم (16/182).
((1/8)
4 ) الحديث الرابع : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للنساء يوم وعظهن : ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كانوا لها حجابا من النار " قالت امرأة : يا رسول الله واثنين ؟ فقال : واثنان " .
رواه البخاري (رقم 101) ومسلم (رقم 2634) وأحمد (3/72) وغيرهم ، وقد جاء نحوه من حديث ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وغيرهم (1) .
( 5 ) الحديث الخامس : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا : "ذراري المؤمنين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم " زاد في رواية " وسارة حتى يدفعوهم إلى آبائهم يوم القيامة " .
وله عن أبي هريرة طريقان :
الأول : عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة .
__________
(1) حديث ابن عباس رواه أحمد ( 1/235-236 ) وابن ماجه ( رقم 3670 ) والبخاري في الأدب المفرد ( رقم 77 ) والحاكم ( 4/178) وأبو يعلى ( رقم 2571 ) وابن حبان ( رقم 2945 ) وغيرهم وحسنه الألباني في الصحيحة ( رقم 2776 ) وكذا الأرناؤط في تحقيق الإحسان .
وحديث جابر رواه أحمد (3/306 ) والبخاري في الأدب المفرد ( رقم 146) وابن حبان ( رقم 2946 ) وقواه الأرناؤط فيه ، وذكره الألباني في صحيح الأدب وقال : حسن اهـ .
وحديث أبي هريرة رواه مسلم ( رقم 2636) والنسائي (4/26) والبخاري في الأدب المفرد (رقم 144 ) وغيرهم من طريق طلق بن معاوية عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة به .(1/9)
رواه أحمد (2/326) وابن أبي داود في البعث (رقم 16) والحاكم (2/370) وابن حبان في صحيحه (رقم 7446 ط. الأرناؤط) وابن عساكر في تاريخه (11/328) من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عطاء به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وقال الألباني في صحيحته (2/156رقم 603 و 3/ 452): إنما هو حسن فقط، وهو الصواب، وذلك من أجل ابن ثوبان ، قال الحافظ في ترجمته من التقريب : صدوق يخطئ ، وكذلك عطاء بن قرة صدوق ، فمثل هذا لا يكون صحيحا بل حسنا فقط ، وحسنه الأرناؤط أيضا في تحقيق الإحسان.
الثاني : عبد الرحمن بن الأصبهاني عن أبي حازم عن أبي هريرة .
رواه أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/263) وابن عساكر (19/219) والبيهقي في الشعب (رقم 210 ) والحاكم (1/384) والديلمي في مسند الفردوس (رقم 2976) من طريق مؤمل بن إسماعيل .
ورواه ابن أبي شيبة (3/379) من طريق وكيع بن الجراح ، وابن عساكر (19/219) من طريق يحيى القطان، ثلاثتهم عن الثوري عن ابن الأصبهاني به ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير (رقم4319 مع فيض القدير) وصححه الأرناؤط في تحقيق الإحسان (16/482) والألباني في صحيحته ( رقم 1467 ) .
وما في رواية وكيع والقطان عن الثوري من الوقف لا يعل الحديث لأنه لا يقال مثله من قبل الرأي و هو من المرفوع حكما كما لا يخفى ، بل هو يؤيد رواية مؤمل عن الثوري والطريق الأول في رفع الحديث فهو مرفوع من الوجهين ، والله أعلم .
( 6 ) الحديث السادس : عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا في حديث الرؤيا الطويل – وفيه - : " ثم انطلقنا فإذا نحن بغلمان وجوار يلعبون بين نهرين ، قلت : ما هؤلاء ؟ قال : ذرية المؤمنين ، وفي رواية " ذراري المؤمنين يحضنهم إبراهيم " .(1/10)
رواه الطبراني في الكبير (8/ رقم 7666و7667) وابن خزيمة (رقم 1986) وابن حبان (رقم 7491) والنسائي كما في تحفة الأشراف (4/166) من طريقين عن سليم بن عامر عن أبي أمامة به .
وهذا سند صحيح ، قال الهيثمي في المجمع (1/76-77) رجاله رجال الصحيح ، وقال الحافظ في الفتح (12/ 460) : سنده جيد ، ورواه الحاكم (1/430) والبيهقي (4/216)
مختصرا ليس فيه موضع الساهد، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ شعيب الأرناؤط في تحقيق الإحسان ، وصححه أيضا الأعظمي في تحقيق ابن خزيمة، وأقره الألباني ، والله أعلم .
( 7 ) الحديث السابع : عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : لما توفي إبراهيم عليه السلام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن له مرضعا في الجنة ".
رواه البخاري (رقم 1382 ، 3255 ، 6195) وأحمد ( 4/300، 302 ) وابن أبي شيبة ( 3/54 ) وابن حبان ( رقم 6949 ) وابن سعد ( 1/139 ) من طريق شعبة عن عدي بن ثابت أنه سمع البراء به .
تابعه مسعر عن عدي به. رواه ابن سعد (1/141) وتابعهما مسلم أبو الضحى رواه ابن سعد أيضا (1/141) والروياني في مسنده (رقم 417) وكذا الشعبي رواه ابن سعد (1/139) وابن أبي عاصم في الآحاد (رقم 3135) ويزيد بن البراء عن أبيه عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (رقم 3136)
والحديث روي من حديث أنس بن مالك ومحمود بن لبيد وابن عباس وأبي أمامة (1).
__________
(1) حديث أنس / رواه ابن سعد ( 1/140 ) وابن حبان ( رقم 6950 ) وسنده صحيح .
وحديث محمود بن لبيد / رواه ابن سعد ( 1/142-143 ) وابن أبي شيبة ( 7/19 ) وقد روي عنه عن جابر ، وحديث ابن عباس / رواه ابن ماجه ( رقم 1511 ) .
وحديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا : " ذراري المسلمين يوم القيامة تحت العرش ، شافع ومشفع ، من لم يبلغ اثني عشر سنة ، ومن بلغ ثلاث عشرة سنة فعليه وله ". ... ... ... ... ...
ولا يصح ، فقد رواه أبو نعيم في أخبار أصبهان ( 2/15) والديلمي في مسند الفردوس ( رقم 2977 ) وابن عساكر في تاريخه ( 6/139 ) من طريق ركن بن عبد الله أبي عبد الله الشامي عن مكحول عن أبي أمامة به .
وهذا سند تالف موضوع ، ركن هذا متروك ، بل قال الحاكم : " يروي عن مكحول أحاديث موضوعة " وكان ربيب مكحول ، ونقل الحافظ في اللسان
( 2/463 ) عن أبي أحمد الحاكم : أن ركنا يروي الموضوعات" وساق له الذهبي في ترجمته من الميزان مناكير هذا أحدها ( 2/54 ) ، ومع ذلك حسنه السيوطي في الجامع الصغير ( رقم 4317 ط. الفيض ) ، ورد عليه المناوي في الفيض (3/560) بما تقدم ، وقال الألباني في الضعيفة (رقم 1374 ): هو موضوع ، ونقل عن السيوطي في الجامع الكبير ( رقم 14132 ) : أن فيه ركنا الشامي وهومتروك ، والله أعلم .(1/11)
( 8 ) الحديث الثامن: عن مكحول الشامي مرسلا رحمه الله تعالى بلفظ: " ذراري المسلمين في عصافير خضر في شجر الجنة ، يكفلهم أبوهم إبراهيم ".
ذكره السيوطي في الجامع الصغير ( رقم 4318 مع الفيض ) و رمز لصحته ، ولعله لشواهده في الجملة ، وإلا فالسند ضعيف للإرسال ، وبه ضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير ( رقم 3040) ، إلا أنني لم أجد لجملة العصافير شاهدا فيما تقدم من الأحاديث ، والله أعلم .
وهذا القول حكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء ، منهم الإمام أحمد والحافظ ابن عبد البر ، و الإمام النووي .
نقل ابن القيم في طريق الهجرتين ( ص 634 ) عن الإمام أحمد : لا يختلف فيهم أحد يعني أنهم في الجنة أهـ .
وقال ابن عبد البر في التمهيد ( 6/348-349 ) : قد أجمع العلماء على ما قلنا من أن أطفال المسلمين في الجنة، فأغنى ذلك عن كثير من الاستدلال، ولا أعلم عن جماعتهم في ذلك خلافا إلا فرقة شذت من المجبرة فجعلتهم في المشيئة، وهو قول شاذ مهجور مردود بإجماع الجماعة وهم الحجة الذين لا يجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم الغلط في مثل هذا إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد والثقات .
وقال أيصا في التمهيد ( 18/90 ) : وأجمع المسلمون من أهل السنة وغيرهم - إلا المجبرة – أن أولاد المؤمنين في الجنة أهـ .
وقال النووي في شرح مسلم (16/207) : أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة، لأنه ليس مكلفا، وتوقف فيه بعض من لا يعتد به أهـ .
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 81) : وهذا القول في أطفال المسلمين هو المعروف من قواعد الشرع ، حتى إن الإمام أحمد أنكر الخلاف فيه ، وأثبت بعضهم الخلاف ، وقال : إنما الإجماع في أولاد الأنبياء خاصة اهـ .(1/12)
وقال القرطبي في التذكرة ( ص 599 ) : وقد أنكر بعض العلماء الخلاف فيهم ، وهذا فيما عدا أولاد الأنبياء عليهم السلام ، فإنه قد تقرر الإجماع على أنهم في الجنة ، حكاه أبو عبد الله المازري اهـ .
وقال ابن كثير في تفسيره (3/32 ) : وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين ، فأما ولدان المسلمين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه أبو يعلى ابن الفراء الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال : لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة ، وهذا هو المشهور بين الناس ، وهو الذي نقطع به إن شاء الله عز وجل .
ثانيا: هل نقل الخلاف صحيح ؟
يظهر مما تقدم من أقوال العلماء أن فرقة من الفرق المنتسبة إلى الإسلام وهم المجبرة على قول ابن عبد البر ، ومن لا يعتد به كما في قول النووي ، قالت بالتوقف ، وقد أشار لمثل هذا الخلاف ابن حزم في الفصل (2/380) فقال : اختلف الناس في حكم من مات من أطفال المسلمين والمشركين ذكورهم وإناثهم اهـ لكنه لم يسم أحدا ممن خالف في أطفال المسلمين.
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/76 ) ذهبت طائفة من أهل العلم إلى التوقف في جميع الأطفال سواء كان آباؤهم مسلمين أو كفارا ، وجعلوا بجملتهم في المشيئة اهـ .(1/13)
ومقتضى الجمع بين ما تقدم من الأقوال: أنه لا خلاف بين أهل السنة والجماعة في أن أطفال المسلمين في الجنة كما دلت عليه الأحاديث المذكورة ، لكن الحافظ ابن عبد البر نقل عن جماعة من أئمة السنة أنهم توقفوا عن الجزم لأطفال المسلمين بالجنة ، فقال في التمهيد (18/98) : باب ذكر الأخبار التي احتج بها من أوجب الوقوف عن الشهادة لأطفال المسلمين وغيرهم بجنة أو نار ، وجعل جميعهم في مشيئة الجبار ... ثم ذكر الأدلة الآتية ثم قال (18/111 ) : بهذه الآثار وما كان مثلها احتج من ذهب إلى الوقوف عن الشهادة لأطفال المسلمين أو المشركين بجنة أو نار ، وإليها ذهب جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه ، وهو يشبه ما رسمه مالك في أبواب القدر في موطئه ، وما أورد في ذلك من الأحاديث ، وعلى ذلك أكثر أصحابه ، وليس عن مالك فيه شيء منصوص ، إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار خاصة في المشيئة لآثار وردت في ذلك اهـ .
وأقره القرطبي في التذكرة ( ص 592 ) بعد نقله لكلام ابن عبد البر والحليمي في منهاجه .
وقال الحليمي في منهاجه: وقد توقف في ولدان المسلمين من توقف في ولدان المشركين وقال : إذا كان كل منهم يعامل بما علم الله تعالى منه أنه فاعله لو بلغه فكذلك ولدان المسلمين ... ثم ذكر أن هذا القائل احتج بحديث عائشة الآتي ثم قال : فهذا يدل على أنه لا يمكن أن يقطع في أطفال المسلمين بشيء (1) .
__________
(1) ذكره القرطبي في التذكرة ( ص 592 ) .(1/14)
والغريب في هذا الباب هو اضطراب الحافظ أبي عمر بن عبد البر في نقل المذاهب في المسألة ، فقد تقدم عنه أنه نقل الإجماع من أهل السنة على أنهم في الجنة ، ثم نقل بعد قليل عن هؤلاء الأئمة أنهم قالوا بالتوقف ، وبهذا الاضطراب انتقده ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/81 ) فقال : وأبو عمر اضطرب في النقل في هذا الباب ... ثم نقل أقواله المتضاربة ثم قال : فتأمل كيف ذكر الإجماع على أن أطفال المسلمين في الجنة ، وأنه لا يعلم في ذلك نزاعا ، وجعل القول بالمشيئة فيهم قولا شاذا مهجورا ، ونسبه في الباب الآخر إلى الحمادين وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأكثر أصحاب مالك ، وهذا من السهو الذي هو عرضة للإنسان ، ورب العالمين هو الذي لا يضل ولا ينسى اهـ .
وقال ابن كثير في تفسيره (3/32) : فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن بعض العلماء أنهم توقفوا في ذلك ، وأن الولدان كلهم تحت المشيئة ...ثم ذكر كلامه المتقدم فقال : وهو غريب جدا ، وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في كتاب التذكرة نحو ذلك أيضا والله أعلم اهـ (1) .
لكن قال البيهقي في الاعتقاد ( ص 195 ) وهو يشرح حديث الفطرة : وعلى مثل ذلك يدل حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في أطفال المسلمين ثم ورى الحديث فقال : فهذا الحديث يمنع قطع القول بكونهم في الجنة ، وحديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغلام الذي قتله الخضر "أنه طبع كافرا" يدل على ذلك فقد كان أبواه مؤمنيناهـ.
قال أبو عبد الباري : التحقيق : أن الخلاف ثابت عن بعض الفرق الشاذة ، وأما عن أهل السنة فالذي عليه الجماهير أنه لا خلاف بينهم في ذلك أي أنهم في الجنة ، وإنما حكى الخلاف الحافظ أبو عمر ابن عبد البر لكنه اضطرب فيه فنقل أيضا الإجماع، ولولا أنه اضطرب في النقل لكان حجة ، ولكن مع الاضطراب لا يثبت الخلاف والله أعلم .
__________
(1) ذكره القرطبي في التذكرة ( ص 592 ) .(1/15)
قال الهيتمي في الزواجر (1/42-43) بعدما ذكر حديث عائشة في الطفل الأنصاري: وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُقْطَعُ بِدُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ، وَاشْتَدَّ إنْكَارُ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنِيعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِقَوَاطِعِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَتَزْيِيفُهُمْ وَتَغْلِيطُهُمْ لِقَائِلِهَا، وَلَا مُتَمَسَّكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ إجْمَاعًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِأَنَّهُمْ يُقْطَعُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، فَحِينَئِذٍ كَانَ لَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجَزْمُ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا شَهِدَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ فَلَا إنْكَارَ عَلَى مَنْ جَزَمَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَطْفَالِ الْكُفَّارِ، وَالْأَصَحُّ مِنْهُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَيْضًا اهـ.
وقال عبيد الله المباركفوري في المرقاة (1/168) : قد أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو في الجنة ودل عليه الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة اهـ .
ثالثا : حجة من قال بالتوقف والجواب عنها
وأما ما احتج به من قال بالتوقف في أطفال المسلمين فهو قسمان:
الأول : عام يشمل أطفال المسلمين وغيرهم .
الثاني : خاص بأطفال المسلمين
أما القسم الأول فسيأتي في مناقشتها في الفصل السادس أنها لا تدل على التوقف على خلاف في تفسير المراد منها .
وأما القسم الثاني وهو الخاص بأطفال المسلمين ففي أحاديث هي:
((1/16)
9 ) – الحديث الأول: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أتي بصبي من صبيان الأنصار ليصلي عليه ، فقلت : طوبى له عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل سوء ولم يدركه ... ذنب قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أو غير ذلك يا عائشة ؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها ، وخلقهم في أصلاب آبائهم ، وخلق لها أهلها ، وخلقهم في أصلاب آبائهم " .
رواه مسلم في صحيحه ( رقم 2662) وابن عبد البر في التمهيد (18\104 ) من طريق فضيل بن عمرو وطلحة بن يحيى كلاهما عن عائشة بنت طلحة عن خالتها أم المؤمنين – أي عائشة – به .
وهذا يرد ما قاله الذهبي في الميزان (2/343) وتبعه ابن الوزير في العواصم ( 7/251) من تفرد طلحة به ، وقد أشار ابن عبد البر في التمهيد من قبل إلى مثل هذا القول ورده فقال : وزعم قوم أن طلحة بن يحيى انفرد بهذا الحديث ، وليس كما زعموا ثم ذكر رواية فضيل بن عمرو أهـ ، لكنه استضعفه في الاستذكار فقال ( 3/109 ) : وهو حديث رواه طلحة بن يحيى وفضيل بن عمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة ، وليس ممن يعتمد عليه عند بعض أهل الحديث اهـ.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عائشة عن القطع لهم بالجنة ، وأحال أمرهم على ما سبق من علم الله فيهم .
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة ( 2/77 ) : قالوا فهذا الحديث صحيح صريح في التوقف فيهم ، فإن الصبي كان من أولاد المسلمين ، ودعي النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه كما جاء ذلك منصوصا عليه اهـ .
وفيه إشارة إلى الحديث الذي بعد هذا وهو :
( 10 ) - الحديث الثاني : عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن أحدكم يجمع خلقه في بظن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ... الحديث .(1/17)
رواه البخاري ( رقم 3208 ، 3332 ، 6594، 7454) ومسلم (رقم 2643 ) ، وأحمد (1/382 ، 430 ) وأبو داود ( رقم 4708 ) و الترمذي ( رقم 2137 ) وابن ماجه ( رقم 76 ) وغيرهم .
وقد روي هذا المعنى عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم ، وفي هذا الحديث الذي لا مغمز فيه كفاية .
ووجه الاستدلال : هو ما تقدم من أن كل أحد قد كتب مصيره قبل ميلاده ، لا فرق في ذلك بين مسلم وكافر ، ولا بد من المصير إلى ما كتب ، ولا يعلم أحد ماذا كتب لهذا الطفل ، فيتوقف عن الجزم بذلك ، ويؤيده الحديث السابق في بقاء هذا العموم في جميع الأطفال ، لأنه ورد في طفل أنصاري .
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/77 ) : ووجه الدلالة من ذلك أن جميع من يولد من بني آدم إذا كتب السعداء منهم والأشقياء قبل أن يخلقوا وجب التوقف في جميعهم ، لأنا لا نعلم هذا الذي توفي منهم هل هو ممن كتب سعيدا في بظن أمه أو كتب شقيا اهـ
( 11 ) الحديث الثالث : عن ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا " .
رواه مسلم (رقم 2380) وأبو داود (رقم 4704) وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5/121) والنسائي في الكبرى (6/رقم11307) وابن حبان (رقم 6221) واللالكائي في الاعتقاد (رقم 1074-1075) والخطيب في تاريخه (9/94) والحاكم في علوم الحديث (ص 220) وابن بشكوال في غوامض الأسماء (2/654) وابن أبي عاصم في السنة (رقم 194) وغيرهم من طريق التيمي عن رقبة بن مصقلة .
ورواه الترمذي (رقم 3150) وابن جرير في تفسيره (16/3) وابن عبد البر في التمهيد (18/86) والإسماعيلي في معجم شيوخه (2/614) والأصبهاني في معجم الشيوخ ( ص 239 ) وغيرهم من طريق عبد الجبار بن العباس الهمداني .(1/18)
ورواه أبو داود (رقم 4706) والنسائي في الكبرى (3/رقم5844) وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5/118) وعبد بن حميد (رقم 169) وابن بشكوال في غوامض الأسماء (2/654) من طريق إسرائيل .
ورواه الطيالسي ( رقم 538 ) وعبد بن حميد ( رقم 168 ) وابن أبي عاصم في السنة ( رقم 195 ) من طريق محمد بن أبان أربعتهم عن أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به .
وعزاه ابن القيم للبخاري أيضا في طريق الهجرتين بهذا اللفظ ( ص 131 ) ولم أجد فيه مرفوعا بهذا اللفظ في البخاري ، وإنما هو من قراءة ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك ، وسيأتي البحث إن شاء الله تعالى .
ووجه الاستدلال :هو ما تقدم ذكره من أن هذا الولد كان من أبوين مؤمنين كما قال تعالى { وكان أبواه مؤمنين } ، ومع ذلك كان طبع على الكفر ، وهو على معنى حديث عائشة أن الله خلق للنار رجالا وهم في أصلاب آبائهم ، ومن كان كذلك فلا بد أن يدخلها ، والحديث صريح في أن من أولاد المسلمين من يطبع على الكفر ويمضي به القدر على ذلك ، فلا يجزم بأنهم في الجنة .
قال إسحاق كما في التمهيد ( 18/86 ) : فلو ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين ، لأنهم لا يدون ما جبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم ، فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الطفل في الدنيا فقال " أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " يقول : أنتم لا تعرفون ما طبع عليه في الفطرة الأولى ، ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه فاعرفوا ذلك بالأبوين ، فمن كان صغيرا بين أبوين كافرين ألحق بحكمهما ، وأما إيمان ذلك وكفره فعلم ذلك إلى الله ، وبعلم ذلك فضل الخضر موسى ، إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بالعلم اهـ .(1/19)
ثم قال أبو عمر : ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من أمته حكم الأطفال الذين يموتون صغارا بيانا يقطع حجة العذر ، بل اختلفت الآثار عنه بما سنورده بعد هذا إن شاء الله اهـ .
الجواب عن هذه الأدلة :
هذا أقوى ما احتج به من قال بالتوقف في أطفال المسلمين من النصوص ، وقد أجاب عنها من قال بأنهم في الجنة على سبيل الجزم والقطع من وجوه:
أما حديث عائشة وهو أقوى ما احتجوا به في التوقف فأجيب عنه من وجوه :
الوجه الأول : تضعيف الحديث
و هو مسلك الإمام أحمد والعقيلي ويحيى بن سعيد القطان وابن عبد البر والذهبي وابن الوزير .
أما الإمام أحمد فقد روى الخلال في جامعه ( أحكام أهل الذمة 2/78 ) أنه ذكر له حديث الأنصاري وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، فقال غير مرة : هذا حديث ضعيف ، وذكر رجلا ضعفه وهو طلحة ( أي ابن يحيى ) ، وقال : وأحد يشك أنهم في الجنة ؟ وقال أيضا : هو يرجى لأبوبه ، كيف يشك فيه ؟ " اهـ.
وقال العقيلي في الضعفاء ( 2/615-616 ترجمة طلحة بن يحيى ) وروى عن القطان أنه وصف طلحة بأنه يروي أحاديث مناكير ثم قال عنه: وطلحة حدث حديث عصفور من عصافير الجنة ، ثم روى الحديث من طريق طلحة فقال :آخر الحديث فيه رواية الناس بأسانيد جياد، وأوله لا يحفظ إلا من هذا الوجه اهـ.
وقال ابن عبد البر في التمهيد ( 6/ 351 ) : وهذا حديث ساقط ضعيف مردود بما ذكرنا من الأدلة والإجماع ، وطلحة بن يحيى ضعيف لا يحتج به ، وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه اهـ
وهذا الكلام من ابن عبد البر عجيب ، ويشير ما ذكره في التمهيد بعد ذلك رجوعا عن هذا التضعيف وقد تقدم ، لكنه استضعفه بعد ذلك أيضا في الاستذكار فقال ( 3/109 ) : وهو حديث رواه طلحة بن يحيى وفضيل بن عمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة ، وليس ممن يعتمد عليه عند بعض أهل الحديث اهـ.(1/20)
وقال الذهبي في السير ( 14/462 ) : رواه جماعة عن طلحة وهو مما ينكر من حديثه اهـ وهو أيضا مسلكه في الميزان وكأنه اعتمد على كلام العقيلي .
وقال ابن الوزير في العواصم ( 7/ 251-252 ) : ولعل مسلما إنما أخرج الحديث لثبوت الشواهد على آخره ، لكن في أوله زيادة مستقلة بحكم ، فلم يكن لمثل طلحة بن يحيى أن يستقل بمثلها ، ولا لنا أن نقبله في مثل ذلك اهـ .
وقال الإمام أحمد في العلل ومعرفة الرجال ( 2/11 ): حدثنا ابن فضيل عن العلاء أو حبيب بن أبي عمرة وما أراه سمعه إلا من طلحة بن يحيى يعني ابن فضيل (1).
قال أبو عبد الباري: هذا التعليل من الإمام أحمد لرواية ابن فضيل يرده أن ابن فضيل لم يتفرد به عن العلاء بل تابعه عليه جرير بن عبد الحميد عند إسحاق في مسنده (رقم 1016) وابن حبان (رقم 138) والمروزي (كما في التمهيد 18/105 ) من طريق جرير عن العلاء بن المسيب عن فضيل بن عمرو به.
ووجه التضعيف هنا ينصب على أمرين هما: تضعيف راويه طلحة بن يحيى، ونكارة متنه المعارض لصحيح الأخبار .
وأجيب عن هذا التضعيف على وجهيه :
أما تضعيفه بطلحة بن يحيى فليس بشيء، لأنه على فرض الطعن فيه لم يتفرد به بل تابعه عليه فضيل بن عمرو عند مسلم كما سبق، ولعله لهذه النكتة صدر مسلم برواية فضيل ثم أردفها برواية طلحة .
وأما تضعيفه للنكارة أي للمعارضة وهو ما يشير إليه كلام أحمد فيجاب عنه بإمكان الجمع بينه وبين الأحاديث المعارضة له ، على أن هذا الجواب لا يستقيم على مذهب من يقول بالوقف ، إذ لا بد له من صرف هذا الحديث عن ظاهره أوتلك عن ظاهرها ، وقضية التوقف لعدم العلم بوجه الجمع غير الوقف من أجل أن المصير غير معروف وهو قولهم كما سبق والله أعلم .
الوجه الثاني : تأويله بما يوافق الأحاديث الأخرى
__________
(1) . وذكره العقيلي في الضعفاء ( 2/615 ).(1/21)
وعلى تسليم صحة الحديث يجاب عنه بلزوم الجمع بينه وبين الأحاديث المتواترة التي تقدم جزء منها ، وقد قيل في كيفية الجمع وجوه :
أولها : أنه من باب النهي عن الخوض في الغيب
قال ابن حبان في صحيحه ( 1/348 ) : ذكر خبر قد أوهم من أغضى عن علم السنن واشتغل بضدها أنه يضاد الأخبار التي ذكرناها قبل ...ثم ذكر حديث عائشة هذا فقال : أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله هذا ترك التزكية لأحد مات على الإسلام ، ولئلا يشهد بالجنة لأحد وإن عرف منه إتيان الطاعات والانتهاء عن المزجورات ليكون القوم أحرص على الخير وأخوف من الرب، لأن الصبي العربي من المسلمين يخاف عليه النار اهـ .
وقال النووي في شرح مسلم (16/207 ): وأجاب العلماء بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله " أعطه إني لأراه مؤمنا ، قال " أو مسلما " اهـ (1) .
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/78-79 ): وأجاب طائفة أخرى بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رد على عائشة رضي الله عنها لكونها حكمت على غيب لم تعلمه كما فعل بأم العلاء إذ قالت حين مات عثمان بن مظعون : شهادتي عليك أن الله أكرمك، فأنكر عليها وقال لها : " وما يدريك أن الله أكرمه " ثم قال : " أما هو فقد جاءه اليقين وأنا أرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " (2)، وأنكر عليها جزمها وشهادتها على غيب لا تعلمه، وأخبر عن نفسه أنه يرجو له الخير .
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم " إن كان أحدكم مادحا فليقل أحسب فلانا إن كان يرى كذلك ، ولا أزكي على الله أحدا " (3).
__________
(1) رواه البخاري ( رقم 27، 1478 ) ومسلم ( رقم150 ) وغيرهما.
(2) رواه البخاري ( رقم 1243 ) وغيره
(3) رواه البخاري ( رقم 2662) ومسلم ( رقم 3000 ) وغيرهما.(1/22)
وقد يقال : من ذلك قوله في حديث لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين قال له : أعطيت فلانا وتركت فلانا وهو مؤمن، فقال " أو مسلما " فأنكر عليه الشهادة له بالإيمان لأنه غيب ، دون الإسلام فإنه ظاهر.
وإذا كان الأمر هكذا فيحمل قوله لعائشة رضي الله عنها " وما يدريك يا عائشة " على هذا المعنى ، كأنه يقول لها : إذا خلق الله للجنة أهلا وخلق للنار أهلا فما يدريك أن ذلك الصبي من هؤلاء أو من هؤلاء اهـ .
وقال المناوي في فيض القدير ( 1/358 ): وأما خبر مسلم عن عائشة ... فأجيب بأنه إنما نهاها عن التسارع إلى القطع بغير دليل أو أنه قبل علمه بأنهم في الجنة اهـ .
وقال أيضا فيه (2/236 ) في الجواب عن هذا الحديث : فنهى عن الحكم على معين بدخول الجنة، فلعله قبل علمه بأن أطفال المؤمنين في الجنة اهـ.
ثانيها : أن ذلك كان قبل نزول الوحي بأنهم في الجنة
قال البيهقي في الاعتقاد ( ص 199-201 ) : يحتمل أن يكون خبر عائشة رضي الله عنها في ولد الأنصاري قبل نزول الآية (1)، فجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأصل المعلوم في جريان القلم بسعادة كل نسمة أو شقاوتها ، فمنع من القطع بكونه في الجنة ، ثم أكرم الله تعالى أمته بإلحاق ذرية المؤمن به، وإن لم يعملوا عمله ، فجاءت أخبار بدخولهم الجنة ، فعلمنا بها جريان القلم بسعادتهم ... ثم ذكر بعض الأحاديث المتقدمة ثم قال: وكل ذلك فيمن وافى أبويه يوم القيامة مؤمنين أو أحدهما، فيلحق بالمؤمن ذريته كما جاء به الكتاب ، ويستفتح له كما جاءت به السنة ، ويحكم لها بأنها كانت ممن جرى له القلم بالسعادة .
__________
(1) أي قوله تعالى { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ... الآية ) وقد ذكرها البيهقي قبل كلامه المنقول هنا .(1/23)
قال : وقد ذكر الشافعي رحمه الله في كتاب المناسك ما دل على صحة هذه الطريقة في أولاد المسلمين ، فقال : إن الله عز وجل بفضل نعمته أثاب الناس على الأعمال أضعافها ، ومن على المؤمنين بأن ألحق بهم ذرياتهم ووفر عليهم أعمالهم فقال { ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } ، فلما من على الذراري بإدخالهم جنته بلا عمل كان أن من عليهم بأن يكتب لهم عمل البر في الحج ، وإن لم يجب عليهم من ذلك المعنى ، قال : وقد جاءت الأحاديث في أطفال المسلمين أنهم يدخلون الجنة (1).
ثم قال البيهقي : وهذه طريقة حسنة في جملة المؤمنين الذين يوافون القيامة مؤمنين ، وإلحاق ذريتهم بهم ، كما ورد به الكتاب ، وجاءت به الأحاديث ، إلا أن القطع به لواحد من المؤمنين بعينه غير ممكن لما يخشى من تغير حاله في العاقبة ، ورجوعه إلى ما كتب له من الشقاوة ، فكذلك قطع القول به في واحد من المولودين غير ممكن ، لعدم علمنا بما يؤول إليه حال متبوعه ، وبما جرى به القلم في الأزل من السعادة أو الشقاوة ، وكان إنكار النبي صلى الله عليه وسلم القطع به في حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها لهذا المعنى ، فنقول بما ورد به الكتاب والسنة في جملة المؤمنين وذرياتهم ، وفي هذا جمع بين جميع ما ورد في هذا الباب والله أعلم اهـ كلام البيهقي وهو كلام نفيس جدا .
__________
(1) انظر هذا الكلام للشافعي في الأم (2/111 ) .(1/24)
وقال ابن حزم في الفصل ( 2/ 385-386 ) بعد ذكر حديث عائشة وغيره : وهذان الحديثان لا حجة لهم في شيء منهما ، إلا أنهما إنما قالهما رسو الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أنهم في الجنة ، وقد قال تعالى آمرا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر (1) ، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن مطعون رضي الله عنه { والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي } (2) وكان هذا قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه لا يدخل النار من شهد بدرا (3) اهـ المراد منه
وقال النووي في شرح مسلم ( 16/207 ) : ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة ، فلما علم قال ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - " ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " وغير ذلك من الأحاديث اهـ .
وقال عبيد الله المباركفوري في المرقاة ( 1/168 ) : الصواب أن يقال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة اهـ المراد منه .
ثالثها : أن الإنكار إنما على القطع للمعين ، فهم في ذلك كالكبار بل هم تبع لهم ، فكما لا يقطع بالجنة لمعين بدون دليل فكذلك لا يقطع للصغير على وجه التعيين وإن كان يقطع على الإجمال والإطلاق أنهم في الجنة .
__________
(1) هذا فيه إشارة إلى أن هذه الآية في سورة الأحقاف وهي سورة مكية ، وسورة الفتح التي فيها المغفرة نزلت عام الحديبية كما في البخاري ( رقم 4833 ) وغيره .
(2) رواه البخاري ( رقم 1243 ) وغيره .
(3) يريد ما رواه البخاري ( رقم 3983 ) وغيره من حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة " أليس من أهل بدر ؟ فقال : لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم " .(1/25)
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/79 ) : وقد يقال : إن أطفال المؤمنين إنما حكم لهم بالجنة تبعا لآبائهم لا بطريق الاستقلال ، فإذا لم يقطع للمتبوع بالجنة كيف يقطع لتبعه بها ؟ .
يوضحه: أن الطفل غير مستقل بنفسه بل تابع لأبويه ، فإذا لم يقطع لأبوبه بالجنة لم يجز أن يقطع له بالجنة ، وهذا في حق المعين، فإذا نقطع للمؤمنين بالجنة عموما ولا نقطع للواحد منهم بكونه في الجنة ، فلهذا- والله أعلم – أنكر النبي على أم العلاء حكمها على عثمان بن مظعون بذلك اهـ .
وقال في طريق الهجرتين (ص 652) : فهذا الحديث يدل على أنه لا يشهد لكل طفل من أطفال المؤمنين بالجنة وإن أطلق على أطفال المؤمنين في الجملة أنهم في الجنة، لكن الشهادة للمعين ممتنعة، كما يشهد للمؤمنين مطلقا أنهم في الجنة، ولا يشهد لمعين بذلك إلا من شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا وجه الحديث الذي يشكل على كثير من الناس ورده الإمام أحمد وقال : لا يصح ومن يشك أن أولاد المسلمين في الجنة ؟وتأوله قوم تأويلات بعيدة اهـ.
ونقل المباركفوري في المرقاة (1/168 ) عن التوريشي أنه قال : فكأنه عليه السلام لم يرتض قولها لما فيه من الحكم بالغيب والقطع بإيمان أبوي الصبي أو أحدهما إذ هو تبع لهما اهـ .
وأما حديث ابن مسعود في كتابة الآجال وما في معناه من الأحاديث فأجيب بما يلي:(1/26)
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/77 ) : أما حديث ابن مسعود وأنس فإنما يدل على أن الله سبحانه كتب سعادة الأطفال وشقاوتهم في بطون أمهاتهم ، ولا ننفي أن تكون الشقاوة والسعادة بأشياء علمها سبحانه منهم وإنهم عاملوها تفضي بهم إلى ما كتبه وقدره ، إذ من الجائز أن يكتب سبحانه شقاوة من يشقيه منهم بأنه يدرك ويعقل ويكفر باختياره ، فمن يقول " أطفال المسلمين في الجنة " يقول : إنهم لم يكتبوا في بطون أمهاتهم أشقياء ، إذا لو كتبوا أشقياء لعاشوا حتى يدركوا زمن التكليف ويفعلوا الأسباب التي قدرت وصلة إلى الشقاوة التي تفضي بصاحبها إلى النار ، فإن النار لا تدخل إلا جزاء على الكفر والتكذيب الذي لا يمكن إلا من العاقل المدرك .
والدليل على ذلك قوله تعالى { فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى } ، وقوله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقوله { كلما القي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء } ، وقوله لإبليس { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } إلى غير ذلك من النصوص التي هي صريحة في أن النار جزاء الكافرين المكذبين اهـ .
وأما حديث ابن عباس في الولد الذي قتله الخضر فأجيب عنه من وجهين:
أولهما: الطعن فيه
وهذا الطعن في حديث ابن عباس وإن رواه مسلم بأمرين :
الأمر الأول : الإعلال بالوقف
قال ابن عبد البر في الاستذكار (3/110 ) : وهذا خبر لم يروه عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي مرفوعا إلا رقبة بن مصقلة وعبد الجبار بن عباس الهمداني، ولم يرفعه شعبة والثوري اهـ(1)
__________
(1) كذا قال ابن عبد البر وقد تقدم أنه تابعهما إسرائيل عن جده أبي إسحاق ومحمد بن أبان فلا معنى للتعليل بالوقف لا سيما وإسرائيل مقدم في جده على الثوري وشعبة في بعض الأحوال كما في حديث ( لا نكاح إلا بولي ) والله أعلم.(1/27)
الأمر الثاني : الإعلال بعنعنة السبيعي وهو مدلس
وهذه العلة أشار إليها الشيخ ناصر الدين الألباني في تخريج السنة تحت الحديث ( رقم 194 ) فقال : إسناده صحيح على شرط الشيخين مع ما في النفس من عنعنة أبي إسحاق وهو عمرو بن عبد الله السبيعي ، فإني لم أجد تصريحه بالسماع في شيء من الروايات عنه اهـ .
قال أبو عبد الباري: والأمر – فيما رأيت –كما قال الألباني من عنعنته في سائر الطرق عنه ، وأبو إسحاق مدلس معروف، وليست هذه من رواية شعبة عنه .
قال الحافظ في طبقات المدلسين (ص101): مشهور بالتدليس، وأورده في الطبقة الثالثة التي قال الحافظ فيها في طبقاته (ص 23): من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم من رد حديثهم مطلقا ومنهم قبلهم اهـ .
ومع ذلك فإن بعض المحدثين ذهبوا إلى أن السبيعي لا يصح له سماع من سعيد بن جبير كما قال البخاري فيما ذكره العلائي في جامع التحصيل (ص 976 ) : لا أعرف لأبي إسحاق سماعا من سعيد بن جبير اهـ وعزاه بشار عواد في تحقيق تهذيب الكمال ( 22/104 ) لترتيب علل الترمذي الكبير ( الورقة 75 )، وعليه فمرسل خفي .
كذا قيل عنه !!وهو غريب فقد روى البخاري في صحيحه (رقم 6299-6300) من طريق أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان مختونا يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم (1).
ثانيهما : تأويله بما يوافق النصوص الأخرى
وتلخيص ما قال العلماء في هذا الوجه هو حمله على أحد وجوه ، وقد يكون بمجموعها أو بعضها ، فقيل :
أنه في شريعة منسوخة .
أو أنه كان رجلا بالغا ولم يكن صبيا .
أو أنه كان مكلفا بتلك الشريعة بناء على صحة تكليف لمميز
__________
(1) على أن البخاري رواه في التاريخ الصغير ( 1/35 رقم 592 ) من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان ابن خمسة عشر سنة يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، وشعبة لم يرو عن أبي إسحاق شيئا مما دلسه كما هو معروف .(1/28)
أو أنه من باب ارتكاب أخف الضررين وليس فيه أنه يعذب في الآخرة ، وهو من باب قتل الصبي الكافر في ديننا إذا لم ينته ضرره إلا بالقتل وغير ذلك .
وهذه جملة من أقوال العلماء في ذلك :
- قال ابن عبد البر في التمهيد (18/89-90) : وأما الغلام الذي قتله الخضر فأبواه مؤمنان ، لا شك في ذلك ، فإن كان طفلا ولم يكن كما قال بعض أهل العلم رجلا قاطعا للسبيل (1)، فمعلوم أن شريعتنا وردت بأن كل أبوين مؤمنين لا يحكم لطفلهما الصغير بحال الكفر ، ولا يحل قتله بإجماع، وكفى بهذا حجة في تخصيص غلام الخضر اهـ .
- وقال ابن تيمية في درء التعارض (8/362-363 ): فقوله : طبع ، أي طبع في الكتاب ، أي قدر وقضي ، لا أنه كان كفره موجودا قبل أن يولد ، فهو مولود على الفطرة السليمة ، وعلى أنه بعد ذلك يتغير فيكفر ، كما طبع كتابه يوم طبع .
ومن ظن أن المراد به الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلوب الكفار، فهو غالط ، فإن ذلك لا يقال فيه : طبع يوم طبع ، إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره ، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حدث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى أنه قال :" خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا " ، وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية ، وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك اهـ المراد منه .
وقال فيه أيضا (8/427- 428) : وأما قوله " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا " فالمراد به : كتب وختم ، وهذا من طبع الكتاب ، وإلا فاستنطاقهم بقوله { ألست بربكم قالوا بلى } ليس هو طبعا لهم ، فإنه ليس بتقدير ولا خلق .
__________
(1) عزاه البغوي في تفسيره (3/174 ) إلى الكلبي والضحاك، وابن الجوزي في زاد المسير (5/179 ) إلى الربيع بن أنس أنه قال: كان الغلام على الطريق لا يمر به أحد إلا قتله أو غصبه فيدعو ذلك عليه وعلى أبويه.(1/29)
ولفظ ( الطبع ) لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجبلة والخليقة ظن الظان أن هذا مراد الحديث .
وهذا الغلام الذي قتله الخضر قد يقال فيه : إنه ليس في القرآن ما يبين أنه كان غير مكلف، بل ولا ما يبين أنه كان غير بالغ ، ولكن قال في الحديث الصحيح :" الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ، ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا " ، وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد ، فإن كان بالغا وقد كفر فقد صار كافرا بلا نزاع ، وإن كان مكلفا قبل الاحتلام في تلك الشريعة أو على قول من يقول : إن المميزين مكلفون بالإيمان قبل الاحتلام كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم أمكن أن يكون مكلفا بالإيمان قبل البلوغ ، ولم يكن مكلفا ، فكفر الصبي المميز صحيح عند أكثر العلماء ، فإذا ارتد الصبي المميز صار مرتدا ، وإن كان أبواه مؤمنين ، ويؤدب على ذلك باتفاق العلماء أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة ، لكن لا يقتل في شريعتنا حتى يبلغ .
فالغلام الذي قتله الخضر: إما أن يكون كافرا بالغا كفر بعد البلوغ فيجوز قتله ، وإما أن يكون كافرا قبل البلوغ وجاز قتله في تلك الشريعة ، وقتل لئلا يفتن أبويه عن دينهما كما يقتل الصبي الكافر في ديننا ، إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل اهـ .(1/30)
- وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/30) بعد كلامه على حديث الفطرة : ولا ينافي هذا قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما " إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق طغيانا وكفرا " فإن معناه أنه قضى عليه وقدر في أم الكتاب أنه يكون كافرا فهي حال مقدرة كقوله { ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها } وقوله { وبشرناه بإسحاق } ونظائر ذلك ، وليس المراد : أن كفره كان موجودا بالفعل معه حتى طبع ، كما يقال : ولد ملكا وولد عالما وولد جبارا ، ومن ظن "الطبع" المذكور في الحديث هو الطبع في قوله جل ذكره { طبع الله على قلوبهم } فقد غلط غلطا ظاهرا ، فإن ذلك لا يقال فيه : طبع يوم طبع ، فإن الطبع على القلب إنما يوجد بعد كفره اهـ .
وقال أيضا فيه ( 2/61 ) : وأما قوله " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا " فالمراد به : كتب وختم .
ولفظ ( الطبع ) لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجبلة والخليقة ظن الظان أن هذا مراد الحديث .
وهذا الغلام الذي قتله الخضر يحتمل أنه كان بالغا مطلقا وسمي (غلاما ) لقرب عهده بالبلوغ ، وعلى هذا فلا إشكال فيه ، ويحتمل أن يكون مميزا عاقلا وإن لم يكن بالغا وعليه يدل الحديث، وهو قوله "ولو أدرك لأرهق أبويه " وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون مكلفا في تلك الشريعة إذا اشتراط البلوغ في التكليف إنما علم بشريعتنا ، ولا يمتنع تكليف المراهق العاقل عقلا ، كيف وقد قال جماعة من العلماء : إن المميزين يكلفون بالإيمان قبل الاحتلام ؟ كما قالت طائفة من أصحاب أبي حنيفة وأحمد ، وهو اختيار أبي الخطاب ، وعليه جماعة من أهل الكلام ، وعلى هذا فيمكن أن يكون هذا الغلام مكلفا بالإيمان قبل البلوغ ولو لم يكن مكلفا بشرائعه فكفر الصبي المميز معتبر عند أكثر العلماء ، فإذا أرتد عندهم صار مرتدا له أحكام المرتدين ، وإن كان لا يقتل حتى يبلغ فيثبت عليه كفره .(1/31)
واتفقوا على أنه يضرب ويؤدب على كفره أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة ، فإن كان الغلام الذي قتله الخضر بالغا فلا إشكال ، وإن كان مراهقا غير بالغ فقتله جائز في تلك الشريعة لأنه قتله بأمر الله ، كيف وهو إنما قتله دفعا لصوله على أبويه في الدين ؟ كما قال تعالى { فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا } اهـ المراد منه .
الفصل الثاني :
القول بأن أطفال المشركين
في الجنة وأدلته
القول بأن أطفال المشركين الذين ماتوا صغارا من أهل الجنة هو الذي اختاره النووي وعزاه للمحققين في شرح مسلم (16/208) فقال : وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة اهـ ، والقرطبي في التذكرة (ص 598)، واختاره ابن السبكي في رسالته في الأطفال (ص 22-23 ) ، وعزاه ابن القيم في طريق الهجرتين ( ص 642 ) لطائفة من المفسرين والمتكلمين وغيرهم، وقال في أحكام أهل الذمة (2/108 ) في الوجه السادس : والقول بأنهم خدم أهل الجنة صح عن سلمان اهـ ، وقد بسط كثيرا من أدلته الحافظ ابن الوزير رحمه الله تعالى في العواصم والقواصم ، وهو اختيار ابن الجوزي كما قال ابن تيمية في الفتاوى (4/303 ) ودرء التعارض ( 8/435 ) ، واختيار أبي محمد بن جزم في الفصل (2/380 ) وقال : إنه مذهب الجمهور ، وهو أيضا اختيار البخاري في صحيحه كما قال في الفتح ( 3/290 ) .
واحتج من قال بهذا القول من العلماء بأدلة من العموم في الكتاب والسنة و الخصوص الوارد في السنة .
أما العموم من الكتاب ففي آيات منها :
قوله تعالى في سورة الإسراء ( آية 15): { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } .(1/32)
ووجه الاستدلال بالآية : أن الله تعالى قضى أنه لا يعذب أحدا بدون إقامة الحجة والبرهان عليه ، والطفل غير مكلف شرعا ولو كان من أبوين مسلمين ، وإن كان يصح منه الإسلام بعد التمييز على أصح الأقوال ، فإذا كان غير مكلف أصلا ، فلا يعاقب على ما لم يكلف به، والله يقول إنه لا يعذب أحدا من غير بلوغ الرسالة إليه وتكليفه بها .
قال النووي : ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يبلغ ، وهذا متفق عليه أهـ كلام النووي .
وقال ابن القيم في طريق الهجرتين ( ص 644 ) بعد ما ذكر عدة آيات منها هذه الآية : وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله بالرسل فلا يعذبهم أهـ المراد منه .
وقوله تعالى في أكثر من موضع: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وقوله { فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون }
ووجه الاستدلال بالآية هو : أن الله جل شأنه قد قضى وقضاؤه لا يرد أنه لا يعذب أحدا بذنب غيره ما لم يكن له فيه نصيب ومشاركة ، والطفل الذي لم يبلغ الحنث والتكليف لا وزر عليه يستحق به العقاب والعذاب بنفسه ، ولا مشاركة له في ذنب غيره بوجه من الوجوه ، فلا يعاقب لا بذنب اكتسبه ولا بآخر له فيه مشاركة ، وعليه فمقتضى الآية أن الأطفال في الجنة برحمة الله تعالى .
وأما العموم من السنة :
فما جاء عن غير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه .... " الحديث، وهو حديث رواه البخاري ( رقم 1292) ومسلم (رقم 2658 ) وغيرهما من حديث أبي هريرة (1) .
__________
(1) ورد حديث الفطرة هذا عن ابن عباس والأود بن سريع وجابر بن عبد الله وسمرة بن جندب وغيرهم(1/33)
ووجه الاستدلال بالحديث هو : أن الله فطر المولود أول ما يولد يكون على الفطرة ، وهي على الإسلام في قول ، وعلى السلامة والاستقامة في قول آخر ، وقد اختار كل قول جمع من أهل العلم المحققين ، وهو على كلا القولين دليل على أن أمر الطفل محمول على السلامة مما يستحق به العقاب، ولهذا قال ابن عبد البر في تمهيده ( 18/70-71 ) بعد اختياره القول بأن الفطرة في الحديث هي السلامة والاستقامة قال: " وذلك أن الفطرة : السلامة والاستقامة، بدليل حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء(1) – يعني على استقامة وسلامة ، والحنيف في كلام العرب المستقيم السالم ، وإنما قيل للأعرج أحنف على جهة الفأل كما قيل للقفر مفازة - فكأنه والله أعلم أراد الذين خلصوا من الآفات كلها والزيادات ، ومن المعاصي و الطاعات ، فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما ، ألا ترى إلى قول موسى في الغلام الذي قتله الخضر " أقتلت نفسا زكية " لما كان عنده ممن لم يبلغ العمل فيكسب الذنوب ، ومن الحجة أيضا في هذا قول الله عز وجل { إنما تجزون ما كنتم تعملون } { كل نفس بما كسبت رهينة } ، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرهن بشيء، وقال الله عز وجل { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ، ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا ، كانت الآخرة أولى بذلك والله أعلم أهـ كلام ابن عبد البر بحروفه .
وأما على القول بأن الفظرة هي الإسلام وهو المنسوب لجمهور السلف ، فيكون الاستدلال به أقوى ، ويكون معناه هنا " خلق الطفل سليما من الكفر ، مؤمنا مسلما على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى " قاله ابن عبد البر في تمهيده (18/77 ) .
__________
(1) رواه مسلم ( رقم 2865 ) .(1/34)
وقال ابن القيم في طريق الهرتين ( ص 645-646 ) : وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كل مولود يولد على الفطرة ، وإنما يهوده وينصره أبواه ، فإذا مات قبل التهويد والتنصير مات على الفطرة ، فكيف يستحق النار ؟ وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " وقال محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عائذ عن عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين ، وأعطاهم المال حلالا لا حراما " فزاد " مسلمين " أهـ كلام ابن القيم .(1)
وليس المقصود هنا الكلام على معنى الفطرة وأقوال الناس فيها وبيان الراجح منها ، وإنما المقصود من هذا النقل توجيه استدلال من استدل بحديث الفطرة على أن الأطفال على العموم في الجنة والله أعلم .
وسيأتي جواب من قال بأنهم في النار أو توقف عن هذا الاستدلال عند مناقشة الأقوال إن شاء الله تعالى .
وأما الخصوص من السنة :
__________
(1) هذه الرواية للطبراني في الكبير (17/رقم 997) من طريق البكائي ، وابن عبد البر في التمهيد ( 18/73) من طريق إبراهيم بن سعد ، والطحاوي في المشكل (رقم 3878) من طريق هارون بن أبي إسحاق ، وابن عساكر في تاريخه (9/988 ) من طريق سلمة بن الفضل ، أربعتهم عن محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد به .
وسنده حسن ، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع عند الطحاوي فهو حسن لذاته .
وتابعه على هذه الزيادة بكر بن مهاجر عن ثور بن يزيد به " مسلمين " ذكره ابن عبد البر في التمهيد معلقا ، وقواه حتى قال : لا وجه لإنكار من أنكر رواية من روى " حنفاء مسلمين " .... إلخ أهـ . والله أعلم .(1/35)
ففي أربعة عشر حديثا عن عشرة من الصحابة ، وهم أبو هريرة وابن عباس والأسود بن سريع وخنساء بنت معاوية عن عمها وكعب بن عجرة وأنس بن مالك وسمرة بن جندب وأبو أمامة و أبو مالك وعائشة و مكحول الشامي وهذه أحاديثهم :
( 12 ) الحديث الأول : عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا: " سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - من في الجنة ؟ فقال : النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والموءودة في الجنة ".
رواه البزار ( زوائده 2168 ) من طريق محمد بن معاوية بن مالج ثنا خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به .
وهذا سند ضعيف من أجل اختلاط خلف بن خليفة بأخرة ، قال أحمد بن حنبل: رأيت خلفا مفلوجا لا يفهم، فمن كتب عنه قديما فسماعه صحيح، أتيته فلم أفهم عنه فتركته ، وقال عثمان بن أبي شيبة : صدوق ثقة لكنه خرف واضطرب عليه حديثه ، وقال ابن سعد : أصابه الفالج قبل موته حتى ضعف وتغير واختلط ، وقال مسلمة الأندلسي : من سمع منه قبل الاختلاط فروايته صحيحة أهـ ، روى له أصحاب السنن ومسلم متابعة ، والراوي عنه محمد بن معاوية بن يزيد الأنماطي المعروف بابن مالج ثقة روى له النسائي فقط ولم يخرج له الشيخان شيئا ، انظر ترجمته في تهذيب التهذيب، ومع ذلك قال الهيثمي في المجمع (7/219): رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن معاوية بن مالج وهو ثقة أهـ فلم يصب .
وقد اختلف على خلف في سند الحديث فروي عنه على ما تقدم .
ورواه البيهقي في الشعب ( رقم 9028 ) من طريق عيسى بن سليمان الحجازي عن خلف بن خليفة عن أبان المكتب عن أبي هاشم الرماني به .(1/36)
وهذا وجه آخر بسبب ضعف حفظ خلف واختلاطه ، وعيسى بن سليمان هذا هو أبو موسى الرعيني من الحفاظ المتقنين ، مترجم في تذكرة الحفاظ ( 4 / رقم 1154 ) ، ونسب للحجاز لأنه أقام بها نيفا وعشرين سنة كما في تذكرة الحفاظ ، وأبان المكتب هو ابن بشير ، له ترجمة في اللسان وفيه : قال ابن أبي حاتم : مجهول ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال البخاري : لا أدري سمع من أبي هاشم أم لا أهـ
وقال البيهقي عقيبه عن أبي علي النيسابوري : رواه غيره عن خلف بن خليفة ولم يذكر أبان المكتب ، إن كان حفظه فهو غريب جدا أهـ
والحديث يتقوى بشواهده الآتية من حديث الأسود وخنساء عن عمها وغيرهما ، فهو بها حسن لغيره والله أعلم .
( 13 ) الحديث الثاني : عن الأسود بن سريع رضي الله عنه: " سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - من في الجنة ؟ فقال : النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والموءودة في الجنة " .
رواه الطبراني في الكبير ( رقم 838 ) ثنا أحمد بن عمرو البزار ثنا محمد بن عقبة السدوسي ثنا سلام بن سليمان ثنا عمران القطان عن قتادة عن الحسن عن الأسود به .
وهذا إسناد ضعيف ، فيه محمد بن عقبة السدوسي ، ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي في الميزان ( 3/649 ): روى عمن لا يعرفون ، وفيه أيضا سلام بن سليمان وهو ابن سوار المدائني وهو ضعيف كما في الميزان ( 2/178) ، ولعله عنى بهما الهيثمي بقوله في المجمع ( 7/ 219): وفيه جماعة وثقهم ابن حبان وضعفهم غيره أهـ، وفيه أيضا عنعنة الحسن البصري وهو مدلس وإن كان بعض أهل العلم قد احتمل تدليسه، لكنه يتقوى بشواهده التي تقدمت الإشارة إليها .
وقد روي الحديث عن الحسن عن الأسود بن سريع بلفظ آخر هو : " كل مولود يولد على الفطرة .... الحديث " بسند صحيح إلى الحسن ، رواه البيهقي ( 6/ 203 ) من طريق يونس بن عبيد عن الحسن به ، والله أعلم .(1/37)
وروي عن الحسن مرسلا ، رواه ابن الجعد في مسنده ( رقم 3063 ) حدثنا يزيد بن إبراهيم قال : سمعت الحسن قال : قيل يا رسول الله من في الجنة ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " النبي في الجنة، والصديق في الجنة، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والموءودة في الجنة" .
( 14 ) الحديث الثالث : عن خنساء بنت معاوية عن عمها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا : " النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والموءودة في الجنة " وفي لفظ " والوئيد في الجنة ".
رواه أحمد (5/ 58 و409) وابن أبي شيبة (4/224) وأبو داود ( رقم 2521 ) والبيهقي ( 9/163 ) وأبو حيان في طبقات المحدثين بأصبهان ( 3/208 ) وابن سعد في الطبقات (7/ 84 ) وابن عبد البر في التمهيد ( 18/116 ) من طرق عن عوف – هو الأعرابي – عن خنساء به .
وهذا سند ضعيف من أجل خنساء بنت معاوية الصريمية، قال في التقريب: مقبولة ، وذكرها الذهبي في النساء المجهولات من الميزان، وبقية رجاله ثقات ، لكن الحديث يتقوى بما له من الشواهد التي مر ذكر بعضها فهو حسن لغيره ويصححه بعض أهل العلم .
قال الحافظ في الفتح ( 3/290 ) : إسناده حسن ،وهذا لا يتمشى مع قوله في خنساء: مقبولة، وقد ذكره الألباني في صحيح أبي داود (2/479 رقم 2200 ) وقال : صحيح أهـ ولعله من أجل شواهده وإلا فلا يكون حسنا ولا صحيحا بسنده ، والله أعلم .
( 15 ) الحديث الرابع : عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا :"النبي في الجنة، والصديق في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة... الخ .
رواه ابن عدي في الكامل ( 3 / 408 ) في ترجمة سعيد بن خثيم ، فقال حدثنا ابن أبي داود ثنا أحمد بن راشد ثناأبومعمر سعيد بن خثيم .(1/38)
والطبراني في الكبير ( 19/ رقم 307 ) والأوسط ( رقم 5644 ) من طريق الحسين بن يزيد الطحان السلولي وإسماعيل بن علي السدي ، ثلاثتهم عن أبي معمر سعيد بن خثيم حدثني محمد بن خالد الضبي عن الشعبي عن كعب بن عجرة به. ثم قال - وكان ذكر قبله أحاديث - : وقد روى سعيد غير ما ذكرت أحاديث ليست بمحفوظة من رواية أحمد بن راشد عنه ، وسعيد عم أحمد بن راشد أهـ .
وقال الطبراني عقيبه : تفرد به سعيد بن خثيم ، ولا يروى عن كعب إلا بهذا الإسناد اهـ .
قال أبو عبد الباري : سعيد بن خثيم صدوق له أغاليط كما في التقريب ، ولكن الراوي عنه متهم برواية الأباطيل عمدا ، وقد قال الذهبي في ترجمة أحمد بن راشد بعد ما ذكر خبرا باطلا رواه عن سعيد بن خثيم : فهو الذي اختلقه بجهل أهـ فالحمل عليه في هذا الحديث أولى من الحمل على سعيد بن خثيم رحمه الله تعالى , وللحديث شواهد تقدمت ، والله أعلم .
والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع ( رقم 2604 ) وأحال على الروض النصير له فلينظر فيه .
( 16 ) الحديث الخامس : عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا " أطفال المشركين خدم أهل الجنة "
وللحديث عن أنس طرق :
الطريق الأول : يزيد الرقاشي عن أنس به .
رواه أبو يعلى ( رقم 4090 ) وابن عبد البر في التمهيد (18/118 ) من طريق الأعمش ، ورواه الطيالسي ( رقم 2111 ) وأبو نعيم في الحلية ( 6/308 ) من طريق الربيع بن صبيح ، وابن الجوزي في العلل المتناهية ( 2/444 رقم 1544) من طريق أبي حازم كلهم عن يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس به.
وهذا سند ضعيف من أجل يزيد الرقاشي ، قال الحافظ في التقريب في ترجمته "زاهد ضعيف " وبه ضعفه الهيثمي في المجمع ( 7/219 ) .
الطريق الثاني : علي بن زيد بن جدعان عن أنس به .(1/39)
رواه البزار ( رقم 2170 زوائده ) والطبراني في الأوسط (رقم 5355) وابن أبي الدنيا في كتاب العيال (رقم 206 كما في تنبيه الهاجد للحويني رقم 478) من طريق الحجاج بن نصير والحر بن مالك العنبري كلاهما عن مبارك بن فضالة عن علي زيد به .
وهذا سند مسلسل بالعلل ، فالحجاج بن نصير وشيخه مبارك بن فضالة وشيخ شيخه علي بن زيد ثلاثتهم ضعفاء معروفون على نسق .
ورواه معلى بن عبد الرحمن عن مبارك به موقوفا . رواه البزار ( رقم 2171 زوائده ) وهذا سند تالف جدا ، والمعلى هذا متهم بالكذب ، قال الدارقطني : ضعيف كذاب، وقال أبو حاتم : متروك، وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث ، كما في ترجمته من الميزان ( 4/149 ) ، والطريق الأول على ضعفه أمثل منه.
الطريق الثالث: عبد الوارث عن أنس به بلفظ "المولود في الجنة، والموءودة في الجنة ..."الخ.
رواه البزار ( رقم 2169 زوائده ) من طريق محمد بن إسحاق عن مختار بن أبي مختار عن عبد الوارث عن أنس به .
وهذا أيضا سند ضعيف مسلسل بالعلل ، فابن إسحاق مدلس وقد عنعن ، ومختار مجهول كما في الميزان، وبه ضعفه الهيثمي في المجمع ( 7/219 )، وعبد الوارث فيه جهالة وقد ضعفه ابن معين والدارقطني والبخاري كما في ترجمته في الميزان (2/678) وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (6/74 ) : هو شيخ ، وهو مولى أنس على الراجح ، وليس بابن سعيد الثقة فإنه ليست له رواية عن أنس بل بواسطة عبد العزيز بن صهيب عنه ، وقد رد الألباني على الهيثمي ظنه عبد الوارث هذا أنه ابن سعيد كما تجده في الصحيحة ( 5/603-604 ) فالحديث بهذه الطرق الثلاثة وما يأتي من الشواهد لا ينزل عن درجة الحسن والله أعلم .
ورواه أيضا البزار ( رقم 2177 زوائده ) وأبو يعلى في مسنده (رقم 4224) من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الوارث عن أنس به بلفظ " يؤتى يوم القيامة بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة وبالشيخ الفاني كلهم يتكلم بحجته ... " الحديث.(1/40)
وهذا سند ضعيف ، فيه علل متعددة وهي :
أولا : ضعف عبد الوارث كما تقدم قريبا .
ثانيا : ضعف ليث بن أبي سليم، قال في التقريب : اختلط جدا، ولم يتميز حديثه فترك أهـ ، ونسبه الهيثمي في المجمع (7/216) للتدليس، ورد عليه الألباني في صحيحته ( 5/603 ) : بأنه لم يجد أحدا وصفه بالتدليس أهـ
ثالثا : المخالفة ، وهي ما تقدم من طريقي يزيد الرقاشي وعلي بن زيد بن جدعان ، ورواية مختار بن أبي مختار عن عبد الوارث، وهي مخالفة في المتن والإسناد ، فلا يصح من هذا الوجه ، وإن صححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في الصحيحة ( رقم 2468 ) وسيأتي ذكره في الفصل الثالث مع ذكر كلام ابن عبد البر رحمه الله تعالى .
الطريق الرابع : إبراهيم بن زياد القرشي عن أبي حازم عن أنس به بلفظ " ألا أخبركم برجالكم في الجنة ؟ قلنا بلى يا رسول الله ، قال : النبي في الجنة ، والصديق في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ... الحديث .
رواه الطبراني في الصغير ( 1/46 ) والأوسط ( رقم 1764 ) من طريق أحمد بن الجعد الوشاء عن محمد بن بكار بن الريان عن إبراهيم بن زياد به.
وقال : لو يروه عن أبي حازم إلا إبراهيم هذا ، ولا يروى عن أنس إلا من هذا الوجه اهـ .
وذكره الهيثمي في الزوائد ( 4/312 ) فقال : وفيه إبراهيم بن زياد القرشي ، قال البخاري : لا يصح حديثه ، فإن أراد تضعيفه فلا كلام ، وإن أراد حديثا مخصوصا فلم يذكره ، وأما بقية رجاله فهم رجال الصحيح اهـ .
كذا قال الهيثمي ، وظاهر العبارة يفيد تضعيف الراوي ، ثم شيخ الطبراني لم أجد ترجمته ، ولا أظنه أحمد بن محمد بن الجعد الوشاء، المترجم في تذكرة الحفاظ للذهبي ، لأن وفاته على في التذكرة متقدمة وهي 201هـ ، ولم يكن الطبراني ولد حينئذ ، فليحرر.
الطريق الخامس : قتادة عن أنس به .(1/41)
رواه الطبراني في الأوسط ( 2972 ) من طريق الحكم بن ميسرة عن مقاتل بن سليمان عن قتادة عن أنس به . ثم قال الطبراني : لم يروه عن قتادة إلا مقاتل أهـ وهذا سند واه جدا ، ومقاتل متهم بالكذب ، قال في التقريب : كذبوه وهجروه ورمي بالتجسيم أهـ والله أعلم .
( 17 ) الحديث السادس : عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا:" سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر فأعطانيها".
وللحديث عنه طريقان :
الطريق الأول : عن الزهري عن أنس به .
رواه الطبراني في الأوسط ( رقم 5957 ) وأبو يعلى في مسنده (رقم 3570) وابن عدي في الكامل ( 4/302 ) من طريق عبد الرحمن بن المتوكل عن فضيل بن سليمان النميري عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري به .
وهذا سند لا بأس به ، وفي فضيل كلام، وذكر في التقريب أنه صدوق كثير الخطأ، وعبد الرحمن بن إسحاق صدوق، وعبد الرحمن بن المتوكل ثقة كما قال الهيثمي في المجمع (7/21) وقال الحافظ في الفتح (3/290): إسناده حسن .
وخالفه عمرو بن مالك البصري – وهو الراسبي الضعيف – فقال عن فضيل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن أنس به .
رواه أبو يعلى في مسنده (رقم3636) وابن عدي في الكامل (5/150) وعلقه الضياء في المختارة ( 7/202) وهذا سند تالف ، فيه عمرو بن مالك الراسبي ، اتهمه ابن عدي بسرقة الحديث ، وتركه أبو زرعة ، كما في ترجمته من الميزان ( 3/285رقم 6435 ) .
الطريق الثاني : عن يزيد الرقاشي عن أنس به .
رواه أبو يعلى في مسنده (رقم 4101) وفي معجمه (رقم 205) وابن الجعد في مسنده (رقم 2906 ) وابن عبد البر في التمهيد ( 18 / 117 ) من طرق عن عبد العزيز الماجشون عن محمد بن المنكدر عن يزيد الرقاشي عنه به.
وهذا سند ضعيف من أجل الرقاشي وبقية رجاله ثقات ، وبانضمام الطريق الأول يصير حسنا لغيره .(1/42)
ورواه الضياء في المختارة ( 7/201-202 رقم 2639 ) من طريق يوسف بن خالد الثعلبي عن صفوان بن صالح عن الوليد عن عبد الرحمن بن حسان الكناني عن محمد بن المنكدر عن أنس به . وقال : رجاله ثقات لكنه معلول أهـ
قال أبو عبد الباري : عبد الرحمن بن حسان قال في التقريب : لا بأس به وهو قول الدارقطني فيه وذكره ابن حبان في الثقات أهـ وهو معلول بالرواية التي قبله وهي أصح ، والماجشون ثقة جليل ، والله أعلم .
والحديث حسنه الشيخ الألباني بمجموع الطرق فقال في صحيحته ( رقم 1881 ) : وجملة القول أن الحديث حسن عندي بمجموع طرقه والله أعلم أهـ .
فائدة : في تفسير اللاهين :
ورد في تفسير اللاهين حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض مغازيه فسأله رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في اللاهين ؟ قال : فسكت عنه فلم يرد عليه كلمة ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وطاف فإذا هو بغلام قد وقع وهو يعبث بالأرض فنادى مناديه : أين السائل عن اللاهين ؟ فأقبل الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهى رسو الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الأطفال ، ثم قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، هذا من اللاهين " رواه البزار (رقم 2173 زوائده) والطبراني في الكبير (رقم 11906) والأوسط ( رقم 2018 ) من طريق أبي عوانة عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس به .
قال الهيثمي في المجمع ( 7/ 217 ) : فيه هلال بن خباب وهو ثقة وفيه خلاف وبقية رجاله رجال الصحيح أهـ وقال الألباني في الصحيحة ( 4/ 504 ) : بسند حسن أهـ .
قال ابن عبد البر في التمهيد 18/117) : إنما قيل للأطفال اللاهين ، لأن أعمالهم كاللهو واللعب من غير عقد ولا عزم ، من قولهم : لهيت عن الشيء أي لم أعتمده ، كقوله " لاهية قلوبهم " أهـ والله أعلم .
((1/43)
18 ) الحديث السابع : عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: " سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين ؟ فقال : هم خدم أهل الجنة ".
رواه الطبراني في الكبير ( رقم 6993 ) والبزار ( رقم 2172 زوائده ) والبخاري في التاريخ الكبير ( 6/407 رقم الترجمة 2803 ) والروياني في مسنده ( رقم 838 ) والسيد أبو طالب من طريق ابن عدي في أماليه ( العواصم 7\246 ) كلهم من طريق عيسى بن شعيب البصري عن عباد بن منصور عن أبي رجاء عن سمرة به .
وهذا سند ضعيف من أجل عباد بن منصور لأنه ضعيف من قبل حفظه ، وفي التقريب : صدوق رمي بالقدر وكان يدلس وتغير بأخرة أهـ وقال الهيثمي في المجمع ( 7/219 ) : فيه عباد بن منصور وثقه يحيى القطان وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات أهـ وهو كما قال ، وعيسى بن شعيب توثيقه في التاريخ الكبير للبخاري وغيره ، وزاد الهيثمي عزوه للطبراني في الأوسط ، لكن عبادا صالح للاعتبار وهو كذلك هنا ، فقد تقدم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، وسيأتي من حديث أبي مالك ، والله أعلم .
( 19 ) الحديث الثامن : عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا في حديث الرؤيا الطويل – وفيه - : " والشيخ في أصل الشجرة ، والصبيان حوله أولاد الناس ، فقال بعض المسلمين : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال : وأولاد المشركين " .
رواه البخاري في صحيحه ( رقم 7047) والنسائي في الكبرى ( تحفة الأشراف 4/82) من طريق عوف – هو ابن أبي جميلة الأعرابي – عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة به، والله أعلم .
وجه الاستدلال بالحديث:(1/44)
قال ابن القيم في طريق الهجرتين (ص642) : فهذا الحديث الصحيح صريح في أنهم في الجنة ، ورؤيا الأنبياء وحي ، وفي مستخرج البرقاني على البخاري من حديث عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة عن البني صلى الله عليه وسلم قال " كل مولود يولد على الفطرة " فقال الناس : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ قال : " وأولاد المشركين " أهـ كلام ابن القيم .
( 20 ) الحديث التاسع : عن أبي مالك رضي الله عنه: " سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أطفال المشركين ؟ فقال : هم خدم أهل الجنة " .
رواه ابن منده في المعرفة (2/261 كما في الصحيحة 3/452) معلقا من طريق إبراهيم بن المختار عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أبي مالك به .
وهذا سند ضعيف مسلسل بالعلل ، فهو معلق أولا، وقد عنعنه ابن إسحاق وهو مدلس ثانيا ، والراوي عنه صدوق سيئ الحفظ ثالثا ، وبهذا ضعف الألباني هذا الإسناد ، لكنه صحح بشواهده من حديث أنس وسمرة بن جندب – وقد تقدمت كلها قريبا - ، وانظر كلام الشيح ناصر – رحمه الله – في الصحيحة ( رقم 1468 ) والله أعلم .
( 21 ) الحديث العاشر: عن عائشة رضي الله عنها: " سالت خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين ؟ فقال : هم مع آبائهم ، ثم سألته بعد ذلك فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) وقال : هم على الفطرة ، أو قال : في الجنة " .
رواه ابن عبد البر في التمهيد ( 18/ 117 ) من طريق عبد العزيز القرشي عن أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة به .(1/45)
وهذا سند ضعيف جدا ، أبو معاذ هو سليمان بن أرقم البصري ، وهو متروك ، قال أحمد : لا يروى عنه ، وقال ابن معين – في راية عباس وعثمان - : ليس بشيء ، وقال أبو داود والدارقطني : متروك ، وقال أبو زرعة : ذاهب الحديث ، وقال الجوزجاني : ساقط، وغير ذلك من الأقوال كما في الميزان ( 2/196 ) وقال: تركوه ، وعليه فليس قول الحافظ في التقريب أنه "ضعيف " فقط بصواب والله أعلم .
ثم رأيت الحافظ في الفتح ( 3/291 ) أورده من رواية عبد الرزاق عن أبي معاذ عن الزهري به، ثم قال: وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف، ولو صح هذا لكان قاطعا للنزاع رافعا لكثير من الإشكال المتقدم اهـ فلله الحمد والمنة على توفيقه.
والراوي عنه هو عبد العزيز بن بحر المروزي البغدادي الخلال ، ترجمته في تاريخ بغداد (10/448 ) وقال : سكن بغداد وحدث بها عن سليمان بن أرقم وإسماعيل بن عياش .... أهـ ، وذكره الذهبي في الميزان ( 2/ 623) وقال : عن إسماعيل بن عياش بخبر باطل ... ثم ذكره أهـ ، وأقره الحافظ في اللسان (4/25 ) ، وقال ابن عدي في الكامل ( 5/378 ) ليس بمعروف أهـ .وذكره سبط ابن العجمي فيمن رمي بوضع الحديث ، اعتمادا على قول الذهبي أنه أتى بخبر باطل والله أعلم.
قال ابن القيم في طريق الهجرتين ( 647 ) بعد ما سرد بعض ما تقدم وغيره من أدلة هذا القول : وهذه حجج كما ترى قوة وكثرة ولا سبيل إلى دفعها أهـ المراد منه .
الفصل الثالث :
القول بأن أطفال المشركين
في النار وأدلته(1/46)
قال ابن تيمية في الفتاوى ( 4/303 ) : وطائفة من أهل الحديث وغيرهم قالوا : إنهم كلهم في النار أهـ ، وقال ابن القيم في طريق الهجرتين (ص 637-638) : وهو قول جماعة من المتكلمين وأهل التفسير وأحد الوجهين لأصحاب أحمد ، وحكاه القاضي نصا عن أحمد أهـ ، لكن قال ابن تيمية: وهو غلط أهـ (1) ، ونسبه النووي للأكثرين في شرح مسلم ( 16/ 207 ) وقال السبكي في رسالته ( ص 24 ) : وفي هذه النسبة نظر اهـ .
وقريب من هذا القول – كما تقدم – قول من قال أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة (2) .
__________
(1) قال في درء التعارض ( 8/398 ) مبينا سبب الغلط : ولم ينقل أحد قط عن أحمد أنه قال : هم في النار ، ولكن طائفة من أتباعه كالقاضي أبي يعلى وغيره لما سمعوا جوابه بأنه قال " الله أعلم بما كانوا عاملين " ظنوا أن هذا من تمام حديث مروي عن خديجة رضي الله عنها أنها سالت النبي صلى الله عليه وسلم عن أولادها من غيره ؟ فقال " هم في النار " فقالت : بلا عمل ؟ فقال " الله أعلم بما كانوا عاملين " فظن هؤلاء أن أحمد أجاب بحديث خديجة ، وهذا غلط على أحمد ، فإن حديث خديجة هذا حديث موضوع كذب لا يحتج بمثله أقل من صحب أحمد ، فضلا عن الإمام أحمد أهـ .
(2) ذكر ابن القيم في طريق الهجرتين ( ص 649 ) فرقا بين هذين القولين فقال : والفرق بين هذا المذهب- أي مذهب التبعية للآباء - ومذهب من يقول هم في النار، أن صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعا لهم ، حتى لو أسلم الأبوان بعد موت = أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنار ، وصاحب القول الآخر يقول هم في النار لكونهم ليسوا بمسلمين ، لم يدخلوها تبعا أهـ .
قال أبو عبد الباري: الذي يعنينا هنا هو الحكم عليهم بالنار سواء على الإنفراد أو على التبعية لآبائهم ، وليس المقصود عندنا تحرير تفاصيل الأقوال ، بل المقصود عندي هو تحرير الحكم ومناقشة الدليل ، وعليه فهذان القولان يعتبران قولا واحدا في أن أطفال المشركين في النار ، لأن من أسلم – على المذهب الآخر – يصير أطفاله أطفال مسلم ، ومن مات على الكفر فأطفاله في النار ، بل قد يدخل فيمن مات طفله وهو على الإسلام ثم ارتد عن الإسلام ومات على الكفر ، فقياسه أن يحكموا لأطفاله بالنار والله أعلم .(1/47)
وجملة ما ورد من الأحاديث في هذه المسألة ستة أحاديث عن خمسة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم جميعا ، وهم عائشة وابن مسعود وسلمة بن يزيد الجعفي وخديجة وعلي بن أبي طالب وسهل بن أبي حثمة عن أبيه، وهذه أحاديثهم:
( 22 ) الحديث الأول: عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا : " لو شئت لأسمعتك تضاغيهم في النار – يعني الأطفال " .
رواه أحمد ( 6/208 ) والطيالسي في مسنده ( رقم 1576 ) وابن عبد البر في التمهيد (18/122) وابن الجوزي في العلل المنتاهية (2/441-442 رقم 1541 ) من طريق حجاج بن إبراهيم عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن بهية عن عائشة به .
وهذا إسناد ضعيف جدا ، وفيه أبو عقيل يحيى بن المتوكل مولى بهية ، وهو متروك كما في ترجمته ، ولهذا قال الحافظ في الفتح ( 3/290 ) : وهو حديث ضعيف جدا أهـ ، قال ابن عبد البر في التمهيد : أبو عقيل هذا صاحب بهية لا يحتج به عند أهل العلم بالنقل أهـ ، و به ضعفه الهيثمي في المجمع ( 7/217 ) ، والألباني في ظلال الجنة ( 1/95) والأرناؤط في تحقيق العواصم لابن الوزير ( 7/248 ) وقال ابن الجوزي في العلل : لا يصح وأعله بما تقدم ، وقال ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود ( 12/316 عون المعبود ) بعد ذكره لحديث عائشة هذا : حديث واه يعرف به واه وهو أبو عقيل أهـ والله أعلم .
( 23 ) الحديث الثاني: عن سلمة بن يزيد الجعفي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا :"سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن امرأة ماتت في الجاهلية ووأدت بنتها ؟ فقال : الوائدة والموءودة في النار " .(1/48)
رواه أحمد ( 3/478 ) والنسائي في التفسير ( رقم 669 ) والبخاري في التاريخ الكبير ( 4/72 ) والطبراني في الكبير ( 7/ رقم 6319 )وابن عبد البر في التمهيد (18/119) والمزي في تهذيب الكمال (11/330-331) وعزاه لأبي داود في القدر، كلهم من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد به .
وهذا إسناد صحيح ورجاله ثقات، قال ابن عبد البر : وهو حديث صحيح من جهة الإسناد، وقال الهيثمي في المجمع (1/119): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح والطبراني بنحوه، وقال ابن القيم في طريق الهجرتين ( ص 639 ) : وهذا إسناد لا بأس به أهـ .
وتابعه جابر الجعفي عن الشعبي به ، رواه الطبراني في الكبير (7/رقم 6320 ) وجابر ضعيف جدا .
وخالفهما زكريا بن أبي زائدة فرواه عن الشعبي مرسلا، رواه أبو داود (رقم 2717) والبخاري في التاريخ الكبير (4/72و73) وابن حبان في صحيحه ( رقم 7480 ) ورجاله ثقات مع أنه معضل لسقوط اثنين من الإسناد كما دلت عليه الرواية المتقدمة ، لكن الحديث من الوجهين صحيح ، وقد صححه الألباني في المشكاة ( رقم 112 ) ويشهد له حديث ابن مسعود الذي بعده ، والله أعلم .
( 24 ) الحديث الثالث : عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا : " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن امرأة ماتت في الجاهلية ووأدت بنتها ؟ فقال : الوائدة والموءودة في النار " .
وللحديث طريقان عنه :
الطريق الأول : عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود به .
رواه الطبراني في الكبير (رقم 10236) من طريق يحيى الحماني عن محمد بن أبان عن عاصم به
و هذا سند ضعيف ، فيه علتان :
الأولى : يحيى الحماني وهو ابن عبد الحميد ، قال في التقريب : حافظ إلا أنهم اتهموه بسرقة الحديث أهـ .(1/49)
الثانية : شيخه محمد بن أبان هو ابن صالح القرشي ، مترجم في اللسان وأصله ، ضعفه النسائي وابن حبان والبخاري وأبو حاتم كما في اللسان (5/31) لكنه يتقوى بالطريق الثاني ، وبحديث سلمة بن يزيد المتقدم .
الطريق الثاني : أبو إسحاق السبيعي واختلف عليه على وجهين :
الأول : عن زكريا بن أبي زائدة عنه عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود به.
رواه أبو داود (عقب حديث رقم 4717) وابن حبان (عقب حديث رقم 7480)، وهذا سند ضعيف ، أبو إسحاق اختلط بأخرة ، وزكريا سمع منه بعد الاختلاط كما في الميزان (2\73).
الثاني : عن إسرائيل عنه عن علقمة وأبي الأحوص عن ابن مسعود به .
رواه ابن أبي حاتم ( تفسير ابن كثير 4\478 ) ، وإسرائيل صحيح السماع من جده بل قدمه شعبة والثوري على أنفسهما في أبي إسحاق ، واتكل عليه ابن مهدي بدل الثوري كما في ترجمته من تهذيب الكمال وتحقيقه لبشار عواد ( 2/523 ) وقد احتج الشيخان بروايته عن جده في صحيحيهما ، وما ذكره الذهبي من سماع إسرائيل عن جده بعد الاختلاط كما في الميزان (2\73 ) لا أعرف وجهه ، بل الأقوال ترده ، فالسند صحيح بذلك ، ويتقوى الحديث بالطريق الأول وبحديث سلمة الذي قبله.
( 25 ) الحديث الرابع : عن خديجة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا : " أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : أين أطفالي منك ؟ قال : في الجنة ، وسألته عن أولادها من أزواجها المشركين ؟ فقال : في النار ، قالت : بغير عمل ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين " .
رواه الطبراني في الكبير ( 23/ رقم27 ) وأبو يعلى في مسنده (رقم7077 و 1160زوائده ) من طريق عبد الله بن بريدة أو عبد الله بن الحارث بن نوفل عن خديجة به .(1/50)
وهذا إسناد ضعيف ، وهو منقطع بين خديجة والراوي عنها ، وأيهما كان فهو ثقة لكن لم يسمع واحد منهما عن خديجة ولا أدركها إلا صحابي ، وبهذا أعله الهيثمي في المجمع (7/217) وأقره ابن الوزير في العواصم (7/248 ) وكذا شعيب الأرناؤط في تحقيقه للعواصم، والألباني في ظلال الجنة ( 1/95 ) وقال ابن تيمية في درء التعارض (8/398 ) : حديث خديجة حديث موضوع كذب لا يحتج بمثله ، وقال ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود ( 12/322 ): حديث خديجة باطل لا يصح، وقال ابن جزم في الفصل (2/382) : ساقط مطرح لم يروه قط من فيه خير اهـ وهذا فيه مجازفة ظاهرة ، وإنما هو ضعيف ، و يشهد له حديث علي الآتي بعده ، والله أعلم .
( 26 ) الحديث الخامس : عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا : " أن خديجة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أولادها ؟ فقال : هم في النار ، فلما رأى ما في وجهها قال : لو رأيت مكانهم لأبغضتهم ، قالت : فأولادي منك ؟ قال : في الجنة ، والمشركون وأولادهم في النار ... " الحديث .
رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ( 1/134-135 ) وابن أبي عاصم في السنة ( رقم 213 ) من طريق محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي به .(1/51)
وهذا سند ضعيف من أجل جهالة محمد بن عثمان ، لا يدرى من هو كما قال الذهبي في الميزان (3/642) وقال: له خبر منكر ثم ساق له هذا الحديث اهـ، وقال ابن القيم في طريق الهجرتين (ص 639): هو مجهول، وبه ضعفه الهيثمي في المجمع (7/217 ) والأرناؤط وزملاؤه في تحقيق المسند ( 2/349 ) والألباني في ظلال الجنة ( 1/94-95 ) ومع هذا فقد حسنه أحمد شاكر في شرح المسند ( 2/ 259 )، و رد عليه الألباني ردا طويلا حاصله: جهالة محمد بن عثمان وتضعيف الأزدي له ، مع ما في متنه من النكارة في تعذيب عموم أطفال المشركين، ولكن يشهد لهذه الجهالة حديث خديجة المتقدم لو لا ما فيه من النكارة المذكورة، والله اعلم .
وأعله ابن القيم بعلة أخرى وهي الانقطاع بين زاذان وعلي، فقال: لم يدرك عليا كما في أحكام أهل الذمة ( 2/86 ) وطريق الهجرتين ( ص 639 ) اهـ ، كذا قال ، وفي الميزان : أنه يقال: إنه شهد خطبة عمر بالجابية ، وفيه عن ابن عدي أنه تاب على يدي ابن مسعود ، ومثل هذا لا يقال إنه لم يدرك عليا ، وعده الحافظ ابن حجر في الطبقة الثانية من كبار التابعين كابن المسيب كما في التقريب ، ولم أر أحدا فيمن خرّج الحديث وضعفه من تابع ابن القيم على هذا التعليل فالله أعلم .
( 27 ) الحديث السادس : عن الصعب بن حثامة رضي الله عنه قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم ؟ فقال " هم منهم " .
رواه البخاري (رقم 3012 ، 3013 ) ومسلم ( رقم 1745 ) .
والحديث ذكره ابن القيم من جملة ما استدل به من قال حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة كما في طريق الهجرتين ( ص 649 ) وأحكام أهل الذمة (2 /89 ) .
الفصل الرابع :
القول بأن أطفال المشركين يمتحنون
يوم القيامة وأدلته(1/52)
وهذا القول نسبه أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين (1/349-350 ) لأهل السنة فقال في جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة: وأن الأطفال أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد ...ثم قال : وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب اهـ .
وأقره ابن القيم عليه في طريق الهجرتين ( ص 657 ) وانتصر له فيه .
وهو اختيار ابن تيمية ، قال في الفتاوى ( 4/246-247 ) : ثم إنه قد جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم ويبعث إليهم رسولا في عرصة القيامة ، فمن أجابه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار " (1) فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه ويجزيهم على ما ظهر من العلم وهو إيمانهم وكفرهم ، لا على مجرد العلم ، وهذا أجود ما قيل في أطفال المشركين، وعليه تتنزل جميع الأحاديث أهـ.
__________
(1) هذا الحديث عن أبي هريرة : إن أراد ابن تيمية مارواه غير واحد، وذكره هو بطرقه في درء التعارض ( 8/401) فليس في شيء من طرقه ذكر الأطفال فيما أعلم، وإنما هو مثل حديث الأسود بن سريع فيه ذكر الأصم والأبكم والمعتوه ومن مات في الفترة والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا كما في راية الطبري ، وهو الغالب على طني ، فالاستدلال به من باب القياس كما سيأتي .
وإن أراد حديثا آخر عن أبي هريرة فيه ذكر الأطفال فلم أقف عليه فلينظر من رواه ؟ والله أعلم
ثم رأيت الألباني رحمه الله تعالى خرج حديث أبي هريرة في الصحيحة (رقم 1434) ليس فيه ذكر المولود ، وقال في صحيحته ( 5/605 ) : وأما حديث أبي هريرة والأسود فقد سبق تخريجهما برقم ( 1434 ) وليس فيهما ذكر المولود اهـ المراد منه .
تنبيه : حديث الأسود المشار إليه غير حديثه في أن المولود في الجنة المتقدم برقم (13) فراجعه .(1/53)
وقال أيضا – رحمه الله - في الصفدية ( 2/244-245 ) : ولهذا لما تنازع الناس في أطفال الكفار ، فطائفة جزمت بأنهم كلهم في النار ، وطائفة جزمت بأنهم كلهم في الجنة ، كان الصواب الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، وهو قول أهل السنة : أنه لا يحكم فيهم كلهم بجنة ولا نار ، بل يقال فيهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " قيل يا رسول الله : أفرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير ؟ فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، وكذلك ثبت هذا في الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء في آثار أخرى أنهم يمتحنون يوم القيامة ، وجاءت بذلك أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا كالمجنون والشيخ الكبير والأصم الذي أدركه الإسلام وهو أصم لا يسمع ما يقال ، ومن مات في الفترة ، وأن هؤلاء يؤمرون يوم القيامة ، فإن أطاعوا دخلوا الجنة وإلا استحقوا العذاب، وكان هذا تصديقا لعموم قوله تعالى ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا))، وبذلك استدل أبو هريرة على أن أطفال الكفار لا يعذبون حتى يمتحنوا في الآخرة . أهـ (1)
__________
(1) هذا النقل من ابن تيمية فيه أمران :
الأمر الأول : ليس صريحا في أنه يرى الامتحان ، بل هو في ظاهر كلامه كأنه يميل للقول بالوقف ، لكنه بضم أقواله الأخرى وما ذكره عقيبه يدل على أنه يرى الامتحان ، وقرينة أخرى هي : نسبته لأهل السنة ، وقد نقل في كلامه السابق من الفتاوى عن الأشعري أنه نسبه لأهل السنة _ أي الامتحان - ، والتوقف المذكور هنا يعني عدم الجزم بشيء من نار أو جنة ، بل تفويض ذلك لما يظهر بعد الامتحان .
ويؤيد هذا أن ابن تيمية ذكر قريبا من هذا الكلام في درء التعارض ( 8/402 ) فقال : فأما جواب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أجاب به أحمد آخرا ، هو قوله " الله أعلم بما كانوا عاملين " فإنه فصل الخطاب في هذا الباب ، وهذا العلم يظهر حكمه في الآخرة أهـ .
وقال في الموضع نفسه بعد ذكره لمرويات الامتحان : وهذا تفسير قوله " الله أعلم بما كانوا عاملين " ويأتي قريبا . ... ... ... ... ... ...
الأمر الثاني : في كلامه عن الأحاديث الواردة في امتحان الأطفال ما يدل على موافقته لابن عبد البر من أن ذكر الامتحان في الأحاديث الصحيحة ليس فيها ذكر الأطفال ، وإنما ذكر فيها أربعة هي المذكورة في كلامه ، وأن الاستدلال بها من باب قياس الطفل على من ذكر في الحديث
وقد ذكر في درء التعارض (8/399-402 ) كثيرا من ألفاظ الأحاديث الواردة في امتحان هؤلاء في الآخرة ، منها حديث أبي هريرة والأسود ، ليس في شيء منها ذكر المولود ، ثم قال : وقد جاءت عدة آثار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين بأنه في الآخرة يمتحن أطفال المشركين وغيرهم ممن لم تبلغهم الرسالة في الدنيا ، وهذا تفسير قوله " الله أعلم بما كانوا عاملين " أهـ والله أعلم .(1/54)
وقال في درء التعارض ( 8/401-402 ) : وهذا التفصيل يذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجله من كرهه ، فإن من قطع لهم بالنار كلهم جاءت نصوص تدفع قوله ، ومن قطع لهم بالجنة كلهم جاءت نصوص تدفع قوله ، ثم إذا قيل : هم مع آبائهم لزم تعذيب من لم يذنب ، وانفتح باب الخوض في الأمر والنهي والوعد والوعيد والقدر والشرع والمحبة والحكمة والرحمة، فلهذا كان أحمد يقول: هو أصل كل خصومة أهـ .
وقال فيه أيضا (8/437): والأكثرون يقولون : لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون ، فيمتحنهم يوم القيامة ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا ، فمن أطاع دخل الجنة ، ومن عصى دخل النار .
وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ، وقد روي في آثار متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم حسان يصدق بعضها بعضا ، وهو الذي حكاه الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث ، وذكر أنه يذهب إليه ، وعلى هذا القول تدل الأصول المعلومة بالكتاب والسنة ، كما قد بسط في غير هذا الموضع ، وبين لأن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا ا.هـ وغير ذلك من كلامه في كتبه .
واختاره أيضا ابن القيم في طريق الهجرتين ( ص 652) فقال : وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها ، وتتوافق الأحاديث، ويكون معلوم الله الذي أحال عليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول " الله أعلم بما كانوا عاملين " يظهر حينئذ ويقع الثواب والعقاب عليه حال كونه معلوما علما خارجيا لا علما مجردا ، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد رد جوابهم إلى علم الله فيهم ، والله يرد ثوابهم وعقابهم إلى معلومه منهم ، فالخبر عنهم مردود إلى علمه ومصيرهم مردود إلى معلومه، وقد جاءت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضا أهـ .(1/55)
قال البيهقي عقيب حديث أبي هريرة : فأما حكمهم في الآخرة فبيانه في آخر الحديث وهو قوله " الله أعلم بما كانوا عاملين " فحكمهم في الدنيا في النكاح والمواريث وسائر أحكام الدنيا حكم آبائهم حتى يعربوا عن أنفسهم بأحدهما ، وحكمهم في الآخرة موكول إلى علم الله عز وجل فيهم اهـ
ثم قال في تفسير التوقف في الاعتقاد ( 201 ) : ومن قال بالطريقة الأولى في التوقف في أمرهم جعل امتحانهم وامتحان أولاد المشركين في الآخرة محتجا بما .... ثم ذكر بعض الأحاديث الآتية، ثم قال: وهكذا ينبغي أن يقول من قال بالطريقة الثانية (1) في أولاد المسلمين، فمن لم يواف أحد أبويه القيامة مؤمنا يجعل امتحانه في الآخرة حيث لم يجد متبعا يلحق به في الجنة اهـ
وهو اختيار ابن كثير في تفسيره ( 3/30 ) قال : وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها ، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض أهـ .
قال أبو عبد الباري : قد استدل من ذهب إلى هذا القول بالنص والقياس والنظر :
أما النص ففي أحاديث :
وجملة ما احتجوا به من الأحاديث في خصوص هذه المسألة ثلاثة أحاديث عن ثلاثة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وهم أبو سعيد الخدري ومعاذ بن جبل وأنس بن مالك ، وهذه أحاديثهم :
(
__________
(1) يريد بالطريقة الثانية : القول في أولاد المسلمين وأنهم في الجنة تبعا لآبائهم كما تقدم النقل عنه في الفصل الأول .(1/56)
28 ) الحديث الأول : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا " يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود، فيقول الهالك في الفترة : لم يأتني كتاب ولا رسول ، ويقول المعتوه : أي رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ، ويقول المولود : لم أدرك العمل ، قال : فترفع لهم نار فيقال لهم : ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله سعيدا إن لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا إن لو أدرك العمل ، فيقول تبارك وتعالى : إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب ؟ " .
رواه البزار ( رقم 2176 زوائده ) والبغوي في الجعديات (رقم 2126 ) وابن جرير في تفسيره ( 16/238 ) وابن عبد البر في التمهيد (18/127 ) واللالكائي ( رقم 1076 ) من طرق عن فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري به .
وهذا سند ضعيف من أجل عطية العوفي وهو ضعيف مدلس شيعي ، و مع ضعفه فقد عنعنه ، و تفرد به كما قال البزار : لا نعلمه يروى عن أبي سعيد إلا من حديث فضيل أهـ .
وبهذا ضعفه الهيثمي في المجمع (7/216) والألباني في صحيحته (5/604) والأرناؤط في تحقيق الإحسان ( 16/358 ) وتحقيق العواصم لابن الوزير ( 7/253 ) .
وأعل أيضا بالوقف ، فقال المروزي في الرد على ابن قتيبة ( أحكام أهل الذمة 2/105 ) : ورواه أبو نعيم الملائي عن فضيل عن عطية عن أبي سعيد موقوفا ، وأخذه عنه ابن عبد البر فقال في التمهيد ( 18/128 ): من الناس من يوقف هذا الحديث على أبي سعيد ولا يرفعه ، منهم أبو نعيم الملائي أهـ والله أعلم .
والحديث قواه ابن القيم وأجاب عن هذه العلة بقوله في طريق الهجرتين (ص 657 ) : ورواه أبو نعيم عن فضيل بن مرزوق فوقفه ، فهذا وإن كان فيه عطية فهو ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به وإن لم يكن حجة ، وأما الوقف فقد تقدم نظيره من حديث أبي هريرة أهـ .(1/57)
قال أبو عبد الباري : لم أقف على رواية أبي نعيم الموقوفة ، وفي كلام ابن عبد البر ما يدل على أن غير أبي نعيم قد رواه موقوفا ، فلينظر في ذلك، وهو يدل على اضطراب عطية العوفي في الحديث.
( 29 ) الحديث الثاني : عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا: " يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا ، وبالهالك في الفترة ، وبالهالك صغيرا فيقول الممسوخ عقلا : يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني ، ويقول الهالك في الفترة : يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهده مني، ويقول الهالك صغيرا : لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد من عمره مني ، فيقول الرب تبارك وتعالى : إني آمركم بأمر فتطيعوني ؟ فيقولون: نعم وعزتك، فيقول : اذهبوا فادخلوا النار ، فلو دخلوها ما ضرتهم ، فيخرج عليهم قوابس يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء ، فيرجعون سراعا فيقولون : خرجنا يا رب نريد دخولها فخرجت علينا قوابس ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء ، فيأمرهم الثانية ، فيرجعون كذلك يقولون مثل قولهم ، فيقول الله تبارك وتعالى : قبل أن تخلقوا علمت ما أنتم عاملون وإلى علمي تصيرون، فتأخذهم النار ".
رواه الطبراني في الكبير ( 20/ رقم 158) والأوسط ( رقم 7951)ومسند الشاميين (رقم 2205) وأبو نعيم في الحلية (5/127) والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ص87) وابن عبد البر في التمهيد (18/129) وابن الجوزي في العلل (2/441 رقم 1540 ) من طريق عمرو بن واقد عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني عن معاذ به .(1/58)
وهذا سند واه جدا ، عمرو بن واقد متروك كما في ترجمته من التقريب ، وبه ضعفه ابن الجوزي فقال : هذا حديث لا يصح ، وفي إسناده عمرو بن واقد ، قال ابن مسهر : ليس بشيء ، وقال الدارقطني : متروك ، وقال ابن حبان : يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك أهـ ، ووافقه الهيثمي في المجمع ( 7/217 ) والألباني في صحيحته ( 5/605 ) ، وعليه فلا يصلح لتقوية حديث أبي سعيد الخدري ، ومن هذا تعرف ما في قول ابن القيم في طريق الهجرتين ( ص 655 ) : فهذا وإن كان عمرو بن واقد لا يحتج به فله أصل وشواهد، والأصول تشهد له أهـ والله أعلم.
( 30 ) الحديث الثالث : عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا : " يؤتى يوم القيامة بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الفاني كلهم يتكلم بحجته ، فيقوا الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم – أحسبه قال-: أبرزي، فيقول لهم : إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم ، فإني رسول نفسي إليكم ، ادخلوا هذه ، فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب ! أتدخلناها ومنها نفرق ؟ ، ومن كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها مسرعا ، قال : فيقول الله : قد عصيتموني ، وأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية ، قال : فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار " .
رواه البزار (رقم 2177 زوائده) وأبو يعلى في مسنده ( رقم 4224 ) وابن عبد البر في التمهيد (18/128) من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الوارث عن أنس به .
وهذا سند ضعيف، فيه علل متعددة وقد تقدم تخريج طرقه فيما سبق وهي:
أولا : ضعف عبد الوارث كما تقدم في الحديث السادس من الفصل الأول .
ثانيا : ضعف ليث بن أبي سليم ، قال في التقريب: اختلط جدا، ولم يتميز حديثه فترك أهـ، ونسبه الهيثمي في المجمع ( 7/216) للتدليس ، ورد عليه الألباني في صحيحته ( 5/ 603 ) : بأنه لم يجد أحدا وصفه بالتدليس أهـ(1/59)
ثالثا : المخالفة ، وهي ما تقدم في الحديث السادس من الفصل الأول من طريق يزيد الرقاشي وعلي بن زيد بن جدعان و قتادة ، ورواية مختار بن أبي مختار عن عبد الوارث ، وهي مخالفة في المتن والإسناد ، فلا يصح من هذا الوجه ، وإن صححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في الصحيحة ( رقم 2468 ) بل ولا يصلح للتقوية لما علم من أن الشاذ والمنكر في أحد قسميه لا يصلح للاعتبار ، كما قال العراقي في ألفيته :
وإن يكن لكذب أو شذا أو قوي الضعف قلم يجبر ذا
وخلاصة هذا الفصل أنه لم يصح فيه شيء مطلقا ، بل كل ما ورد فيه غير صالح للتقوية على آحاده إلا الحديث الأول عند بعض العلماء والله أعلم .
قال ابن عبد البر في التمهيد ( 18/130 ) : روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة وثوبان بأسانيد صحيحة من أسانيد الشيوخ ، إلا ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفا ولم يرفعه ، بمثل ما ذكرنا سواء ، وليس في شيء منها ذكر المولود ، وإنما فيها ذكر أربعة كلهم يوم القيامة يدلي بحجته ، رجل أصم أبكم ، ورجل أحمق ، ورجل مات في الفترة ، ورجل هرم ، فلما لم يكن فيها ذكر المولود ، لم نذكرها في هذا الباب ... أهـ .
والعجيب : أن كثيرا ممن أورد أحاديث الامتحان في مسألتنا هذه لم ينتبه لهذه النكتة التي ذكرها ابن عبد البر من عدم ذكر المولود في هذه الأحاديث التي اعتبروها شواهد يقوي بعضها بعضا ، حتى فيمن جاء بعد ابن عبد البر ونقل في هذا الباب من كتابه هذا ، ومنهم الأئمة الحفاظ كابن القيم القائل في طريق الهجرتين ( ص 657 ) : فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا ، وتشهد لها أصول الشرع وقواعده أهـ . والله أعلم .
وأما القياس :(1/60)
فهو أنه ورد من طرق بعضها صحاح ، وبعضها حسان ، وبعضها ضعاف تعتضد بغيرها أن الله يمتحن يوم القيامة من لم تبلغه الدعوة ممن كان من أهل الفترة ، أو كان مجنونا لا يعقل ، أو شيخا كبيرا قد خرف ، أو كان أصم لا يسمع ، فهؤلاء المذكورون في صحاح السنن أنهم يمتحنون مع أن كل واحد منهم لم يكن مكلفا بالإيمان تكليفا يستحق به العقاب أو الثواب ، ولم يكن عندهم من العمل الصالح والإيمان الصحيح ما يدخلون به الجنة ،وكذلك لم يكن عندهم من مساوي الأعمال ما يعاقبون عليه لعدم قيام الحجة عليهم ، ولما كانوا كذلك أعذرهم الله تعالى فامتحنهم يوم القيامة ليتبين ما يصيرون إليه من عقاب أو ثواب ، ولا فرق في ذلك بين الطفل الصغير والمجنون والمعتوه والكبير الذي قد خرف ، فكلهم غير مكلف في حكم الشرع ، فيكون الصغير مثلهم ، ويأخذ حكمهم ، وما تقدم من الأحاديث وإن كان فيها مقال لكنها تعتضد بهذا الأصل (1) .
__________
(1) قال أبو عبد الباري : هذا الاستدلال لأصحاب هذا القول أخذناه من عدة أمور هي :
أولا: قول ابن القيم الهججرتين ( ص 657 ): فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا ، وتشهد لها أصول الشرع وقواعده أهـ
فقوله (( وتشهد لها أصول الشرع وقواعده )) يشير إلى ما قلناه والله اعلم ... ...
ثانيا : ما ذكره ابن تيمية في الصفدية ( 2/ 245 ) بعد سرده أحاديث الامتحان التي ليس في شيء منها ذكر المولود : وبذلك استدل أبو هريرة على أن أطفال الكفار لا يعذبون حتى يمتحنوا في الآخرة .
ثالثا : إيراد من اختار هذا القول أحاديث الامتحان والتزامهم لذلك مع عدم ورود المولود من وجه صحيح على ما تقدم .
رابعا : قول ابن كثير في البداية والنهاية (2/100 ) في يأجوج ومأجوج وكيف يعذبون ولم يبعث إليهم رسلا ؟ قال : الجواب : أنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة عليهم والإعذار إليهم ، فإن كان قد أتتهم رسل فقد قامت الحجة عليهم ، وإلا فهم في حكم أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة ... حتى آخر كلامه .
وموضع الشاهد هو : أنهم كمن لم تبلغه الدعوة فلا يعذبون بغير الامتحان قياسا على من ذكر في الأخبار .(1/61)
وأما النظر :
فقالوا : إن الجنة جزاء من عمل صالحا ، والنار جزاء من عمل سيئا ، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة بحيث لا يمكن حصر النصوص الواردة في ذلك ، فمن قال بأنهم يدخلون الجنة فقوله تدفعه هذه النصوص وبما ورد من أوجه صحيحة من أنهم في النار، وأما بقولنا فتجتمع النصوص ولا تتعارض ، ولهذا كان قول الكبار من أئمة السنة ، ولم يحك غيره الأشعري عن أهل السنة وذهب إليه (1) .
وقالوا : إن القول بتعذيبهم كلهم أو إمكان تعذيبهم كلهم مبني على المشيئة المرجحة بلا سبب ، ولا حكمة ، ولا رحمة ، والقول بأنهم في الجنة مع من آمن وعمل صالحا ، مبني على رحمة بلا حكمة، وكل ذلك باطل لا يصح كما عرف من موضعه (2) .
الفصل الخامس :
القول بالتوقف عن الحكم لهم بالجنة
أو النار وأدلته
هذا القول نقل عن غير واحد من أهل العلم ، وعزاه ابن عبد البر في الاستذكار للأكثرين ( 3/110 ) ، وقواه السبكي في رسالته ( ص 26 ) فقال بعد ذكر دليله : وهو دليل قوي .
لكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض (8/236) احتمالات ثلاثة في تفسير معنى الوقف المراد هنا فقال : لكن الوقف قد يفسر بثلاثة أمور :
أحدها : أنه لا يعلم حكمهم ، فلا يتكلم فيهم بشيء ، وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة، وقد يقال إن كلام أحمد يدل عليه .
والثاني : أنه يجوز أن يدخل جميعهم الجنة، ويجوز أن يدخل جميعهم النار ، وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أهل الكلام وغيرهم من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم .
والثالث : التفصيل ، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، فمن علم الله منه أنه إذا بلغ أطاع أدخله الجنة ، ومن علم منه أنه يعصي أدخله النار .
__________
(1) انظر : ردء التعارض ( 8/402 ) .
(2) انظر معنى ذلك في درء التعارض ( 8/406 )(1/62)
ثم من هؤلاء من يقول : يجزيهم بمجرد علمه فيهم كما يحكى عن أبي العلاء القشيري المالكي، والأكثرون يقولون : لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون فيمتحنهم يوم القيامة ا.هـ.
قال أبو عبد الباري : جملة ما احتج به أرباب هذا القول من الأحاديث أربعة أحاديث عن أربعة من الصحابة وهم أبو هريرة وابن عباس وعائشة وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم ، وهذه أحاديثهم :
( 31 ) الحديث الأول : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا : " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين " وفي رواية " أفرأيت من يموت منهم وهو صغير ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين " .
رواه مالك في الموطأ ( 2/239) وأحمد ( 2/244 و264 ) والبخاري في صحيحه ( رقم 1359، 1584 ، 1585، 4775 ) ومسلم في صحيحه ( رقم 2658) والحميدي في مسنده ( رقم 1113) وأبو داود ( رقم 4714 ) والنسائي ( 4/58 ) والطحاوي في المشكل ( رقم 1393 )وابن حبان في صحيحه (رقم 131، 133) والآجري في الشريعة (ص 194) والبيهقي في الاعتقاد (ص194، 195) وغيرهم من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به.
( 32 ) الحديث الثاني : عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ".
رواه أحمد (5/73 و 410) والبخاري (رقم 1383 و 6597) ومسلم ( رقم 2660 ) وأبو داود ( رقم 4711 ) والنسائي ( 4\ 59 ) والطيالسي في مسنده (رقم 537) وابن أبي عاصم في السنة ( رقم 214 ) والطبراني في الأوسط ( رقم 2018 ) وغيرهم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس به ، والله أعلم .
تنبيه :(1/63)
هذا الحديث في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس كما تقدم ، وقد جاء في بعض الطرق ما يدل على أن ابن عباس لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما سمعه من غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما رواه أحمد (5\73و410 ) وابن أبي عاصم في السنة ( رقم 214 ) من طريق حماد بن سلمة وخالد بن مهران الحذاء عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس :أتى علي زمان وأنا أقول : أطفال المشركين مع المشركين ، وأطفال المسلمين مع المسلمين ، حتى حدثني فلان عن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنهم فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين، فلقيت فلانا فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم فأمسكت".
وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم كما قال الألباني في ظلال الجنة (1\96)، وقال الهيثمي في المجمع (7\218): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وهو حسن عند الحافظ لسكوته عنه في الفتح (3\ 291) بل جزم فيه بمدلول هذه الرواية من عدم سماع ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه الطيالسي في مسنده ( رقم 573 ) عن حماد بن سلمة عن عمار عن أبي بن كعب عن ابن عباس به ، فزاد في الإسناد أبيا وهو وهم بدليل مخالفته لرواية عفان بن مسلم عند أحمد ، وهدبة بن خالد عند ابن أبي عاصم كلاهما عن حماد بدون ذكر أبي في الإسناد .
ويؤيد أنه وهم متابعة خالد الحذاء عن عمار بدون ذكر أبي في الإسناد ، كما يؤيد ذلك ما رواه يونس بن حبيب في زوائد مسند الطيالسي من طريق موسى بن عبد الرحمن عن روح عن عمار به بدون ذكر أبي بن كعب فيه كما ذكره الألباني في ظلال الجنة ، وقال : ولكن لم أعرف روحا أهـ .
((1/64)
33 ) الحديث الثالث : عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا : " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذراري المؤمنين ؟ فقال : هم من آبائهم ، فقيل له بلا عمل ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ، ثم سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين ؟ فقال : هم من آبائهم ، فقيل بلا عمل ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين " .
رواه أبو داود ( رقم 4712 ) وأحمد ( 6/84 ) والطبراني في مسند الشاميين ( رقم 843و1240و1576 ) والآجري في الشريعة ( ص 195 ) وابن الجوزي في العلل ( 2/443 رقم 1543) من طرق عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة به مطولا ومختصرا .
وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات ، وذكره الألباني في صحيح أبي داود (رقم 3943) ، وأما ابن الجوزي فضعفه إذ جهله فقال : عبد الله بن قيس ليس بذلك المعروف، يروي حديثه أبو المغيرة فيقول: عبد الله بن أبي قيس، ويروي راشد بن سعد فيقول : ابن قيس ، ويروي يزيد بن خمير فيقول : ابن أبي موسى فهو كالمجهول أهـ ، وتبعه ابن القيم في طريق الهجرتين (ص650 ) فقال في الجواب عن الحديث : وأما حديث عائشة فضعفه غير واحد ، قالوا : وعبد الله بن أبي قيس مولى غطيف راويه عنها ليس بالمعروف فيقبل حديثه أهـ .
قال أبو عبد الباري: كذا قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى! وفي التقريب : ثقة مخضرم ، ولهذا صحح سند الحديث غير واحد من المحققين .
ورواه الإمام البخاري في التاريخ الكبير( 4/319 ) وابن الجوزي في العلل ( 2/442-443 رقم 1542 ) من طريق عمر بن ذر عن يزيد بن أمية عن البراء عن عائشة به .
ورواه مسدد عن عبد الله بن داود عن عمر بن ذر عن يزيد بن أمية عن رجل عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم به . رواه البخاري وقال : والأول أصح أهـ .
وسنده على كل حال ضعيف من أجل يزيد بن أمية فهو مجهول كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في التقريب : شيخ لعمر بن ذر مجهول أهـ .
((1/65)
34 ) الحديث الرابع : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين " .
رواه عبد بن حميد ( رقم 950 من المنتخب ) من طريق الثوري عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري به .
وهذا سند تالف ، أبو هارون العبدي واسمه : عمارة بن جوين متروك الحديث ، ومنهم من كذبه كما في ترجمته من التقريب .
هذا جملة ما ورد في خصوص التوقف عن الجزم للأطفال بشيء من جنة أو نار ، وهو يتقوى بما تقدم في الفصل الأول من النصوص العامة التي احتج بها من قال بالتوقف عن القطع لأولاد المسلمين بالجنة ، فلا نطيل البحث بإعادتها فيراجعها من شاء .
الفصل السادس :
مناقشة الأقوال والمذاهب
على ضوء ما تقدم
لقد اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافا شديدا ، وتباينت آراؤهم بسبب ما ورد من الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف ، و تقدم ذكر ما وقفنا عليه من هذه الأحاديث والأقوال ، والآن نأتي لمناقشة ما استدل به كل فريق على الترتيب الذي تقدم ، وفي ختام هذا الفصل يتضح ما لكل قول من أدلة سليمة أو حتى قوية ، وما على استدلالات من ذهب إليه من ضعف وملاحظات ، فنقول :
أولا : مناقشة القول بأنهم في الجنة
وهو اختيار غير واحد من أهل العلم كالبخاري والقرطبي والنووي و السبكي وابن حزم وابن الجوزي وغيرهم ، وهو أيضا مذهب الجمهور على قول ابن حزم .
استدل من قال بذلك بأدلة من الكتاب والسنة العامة ، كما استدلوا بأدلة خاصة من السنة تقدم ذكرها ، وقد نوقشت من وجهين :
الوجه الأول : معارضتها بنصوص الوقف(1/66)
وهو جواب من اختار التوقف ، وذلك أن النصوص الواردة في التوقف عن القطع للأطفال بجنة أو نار إما على عموم الأطفال أو على خصوص أطفال المشركين صحيحة المخارج ، وتدل على أنهم يصيرون إلى علم الله فيهم ، وليس لأحد أن يعرف علم الله فيهم ، فيجب التوقف عن الجزم مع تعارض النصوص .
وأجيب عنه : بما تقدم في الفصل الأول من أن نصوص التوقف ليست صريحة في تعذيب الأطفال لا على العموم ولا على الخصوص ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجب بالتوقف ، وإنما ذكر أن الله أعلم بما كانوا عاملين أي لو أدركوا العمل ، ليس فيها أن الله يجازيهم بعلمه فيهم من غير أن يصدر منهم عمل .
أضف إلى ذلك أن النصوص الكثيرة المتقدمة تدل على أنهم في الجنة ، فتقدم على ما ذكرتم .
وهي أيضا متأخرة إلى زمن الفتح لحديث أنس في أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه اللاهين فأعطاهم وقد تقدم ، وسياق حديث ابن عباس يدل على أنه كان في غزوة الفتح ، لما فيه من أنه صلى الله عليه وسلم رأى طفلا بعد الطواف .
الوجه الثاني : معارضتها بنصوص الامتحان
وهو جواب من اختار ذلك من العلماء ، قالوا : والجمع بين النصوص المتعارضة واجب مهما أمكن ، ونصوص الامتحان ظاهرة ، فتكون هي الجامعة بين ظواهر النصوص المختلفة ، فما كان فيه أنهم في الجنة فهو من سيجتاز الامتحان ، وما فيه أنهم في النار فهو من يستحقها بعد الامتحان ، وما فيها توقف فهو ترك الإطلاق بأنهم في الجنة أو النار ، وأن منهم من سيكون من أهل الجنة ومنهم من سيكون من أهل النار بعد الامتحان ، ولا تجتمع النصوص إلا بهذا.
ويلزم من القطع لهم بالجنة ضرب النصوص بعضها ببعض ، أوترك العمل ببعضها والله أعلم.
وأجيب عنه من وجهين:
أولا: بأن هذا قوي لو صحت الأخبار الواردة فيه ، لكنه لم يصح منها شيء يعتمد عليه كما تقدم في تخريجها .(1/67)
وثانيا: لا تنحصر أوجه الجمع فيه، وفرق بين كونه أحسنها لو صح دليله، وبين انحصار أوجه الجمع فيه كما سيأتي في مناقشته ، والعبرة هنا بصحة الدليل ، فالتأويل فرع التصحيح ، ومادام لم تصح نصوص الامتحان فلا شك أن غيره مما صحت فيه الأخبار أولى منه ، وأخبار الجزم لهم بالجنة أصرحها وأصحها والله أعلم .
ثانيا : مناقشة القول بأنهم في النار
وهو قول طائفة من أهل الحديث وغيرهم كما قال ابن تيمية ، و قول جماعة من المتكلمين وأهل التفسير وأحد الوجهين لأصحاب أحمد كما قال ابن القيم.
قال أبو عبد الباري : جملة ما استدل به من ذهب هذا المذهب من الأحاديث ستة على ما تقدم ، وقد نوقش هذا الاستدلال من وجوه :
الوجه الأول : أن منها ما لا يصلح للاستدلال .
وذلك أن من هذه الأحاديث المذكورة التي احتج بها من ذهب هذا المذهب ما لا يصلح للاحتجاج إما لأنه لا يصح سندا ، وإما لأنه خارج عن محل النزاع ، وبيانه على التفصيل الآتي :
ما لا يصلح للاستدلال به لضعفه ونكارته.
وهي ثلاثة أحاديث :
حديث عائشة الذي فيه " لو شئت لأسمعتك تضاغيهم في النار " وهو حديث واه مداره على أبي عقيل مولى بهية .
حديث خديجة وهو منقطع بين خديجة والراوي عنها ، لا يقال يتقوى بحديث علي ، فإن قاعدة تقوية الأحاديث ليست على إطلاقها ، فما كان ضعيفا في سنده ، منكرا في متنه مخالفا للنصوص الصحيحة من السنة الخاصة لا يقبل التقوية ، كيف وقد يضعف حديث الثقة لمخالفته الصريحة للقرآن وصحيح السنة ما لم يمكن الجمع من غير تعسف ، فكيف بحديث منقطع لا يدرى من حدثه عن خديجة ؟! .
حديث علي والكلام فيه كالكلام على حديث خديجة من حيث ضعف سنده ، فإن مداره على رجل مجهول لا يدرى من هو ؟ مع نكارة متنه ، فلا تعارض الأحاديث الصحيحة بمثله .(1/68)
ومع ضعفهما – أي حديث خديجة وحديث علي – فيمكن أن يقال إنهما منسوخان بالأحاديث المتأخرة عنهما بيقين ، وذلك أن سؤال خديجة لا بد أن يكون قبل وفاتها ، وذلك يوجب تقدم خبرها عن الأخبار التي وردت في أنهم في الجنة كحديث سمرة في الرؤيا وغيره .
ما لا يصلح للاستدلال لكونه خارجا عن محل النزاع :
وهو حديث الصعب بن جثامة وما في معناه ، وذلك أن لفظ الحديث يدل على أنه في أحكام أطفال المشركين في الدنيا ، وأنهم تبع لآبائهم في أحكام الدنيا ، ولهذا جاء فيه أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عن الذراري عند تبييت الكفار ، وقد نقل غير واحد من العلماء أنه لا خلاف بين المسلمين في أن أطفال المشركين في أحكام الدنيا كحكم آبائهم (1) .
قال ابن عبد البر في الاستذكار ( 3/111 ) : وهذا عندي لا حجة فيه ، لأنه إنما ورد في أحكام الدنيا أنهم إن أصيبوا في التبييت والغارة فلا قود فيهم ولا دية ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان في دار الحرب اهـ (2).
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/89): ولا حجة لهم في هذا، فإنه إنما سئل عن أحكام الدنيا وبذلك أجاب، والمعنى : أنهم إن أصيبوا في التبييت والغارة فلا قود ولا دية على من أصابهم لكونهم أولاد من لا قود ولا دية لهم ، وعلى ذلك مخرج الحديث سؤالا وجوابا اهـ .
وقال أيضا في حاشية أبي داود (12/322) في سياق الجواب عن هذه الأحاديث : وأما حديث عائشة والأسود بن سريع فليس فيه أنهم في النار ، وإنما فيه " أنهم من آبائهم" تبع لهم، وأنهم إذا أصيبوا في البيات لم يضمنوا بدية ولا كفارة ، وهذا ظاهر في حديث الأسود اهـ المراد منه .
__________
(1) كقول ابن تيمية في درء التعارض (8/ 433): ولا نزاع بين المسلمين أن أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم اهـ .
(2) حديث النهي الذي أشار إليه ابن عبد البر رواه البخاري (رقم 2851) ومسلم( رقم 1744 ) من حديث ابن عمر .(1/69)
وقال الحافظ في الفتح ( 3/290 ) : وأما حديث " هم من آبائهم أو منهم " فذاك ورد في حكم الحربي اهـ .
وإذا كان كذلك فالحديث خارج عن محل النزاع ، لأن المسألة التي نبحثها هي حكمهم في الآخرة لا في الدنيا ، وهذا التخليط بين الحكمين هو الذي سبب الاشتباه لكثير من الناس كما قال ابن تيمية في درء التعارض (8/ 432) : ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة ، فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا ، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم ، وحضانة آبائهم لهم ، وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثة بينهم وبين آبائهم ، واسترقاقهم إذا كان آباؤهم محاربين وغير ذلك صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر ، كالذي تكلم بالكفر وعمل به اهـ المراد منه .
وخلاصة ذلك : أن حديث الصعب بن جثامة وما في معناه خارج عن محل النزاع والله أعلم.
ما يحتمل التأويل أو يمكن تأويله لمعارضته نصوصا أخرى عامة وخاصة .
بقي النظر في الأحاديث الثلاثة الأخرى ، وخلاصتها قصة المرأة التي وأدت بنتها في الجاهلية ، وهذه تحتمل أوجها بيانها في الوجه التالي :
الوجه الثاني : المعارضة بمثلها والجمع بينها
وهو أنه قد جاءت أحاديث صحيحة من أوجه متعددة أنهم في الجنة ، والأخذ بظاهر حديثي ابن مسعود وسلمة بن يزيد الجعفي يؤدي إلى ضرب تلك الأحاديث الكثيرة عرض الحائط ، وهو غير صحيح ، فكان لا بد من النظر في الجمع بينها ولو بنوع تكلف ، أو الترجيح ما لم يمكن الجمع (1) .
والجمع بين هذه الأحاديث المتعارضة يكون من وجوه :
__________
(1) تقدمت الأحاديث المعارضة لهذه في الفصل الثاني فلتراجع فيه .(1/70)
أولها : حمل حديث سلمة بن يزيد وابن مسعود " الوائد والموءودة في النار " على قصة خاصة وواقعة معينة ، وحمل الأحاديث الأخرى المصرحة بأن الموءودة في الجنة على العموم ، وهو أسهل وإن كان فيه نوع تكلف لكنه يرتكب أخف الأمرين .
قال ابن الوزير في العواصم والقواصم ( 7/249 ) بعد نقله تصحيح السبكي لحديث سلمة بن يزيد الجعفي : لكنه غير عام ، وإنما هو نص في موءودة بعينها ، فاحتمل التأويل ، وذلك أن سياق الحديث أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أخت لهم موءودة في الجاهلية لم تبلغ الحنث ، فقال " إنها في النار " اهـ .
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 95) : الجواب الصحيح عن هذا الحديث : أن قوله إن الوائدة والموءودة في النار جواب عن تينك الوائدة والموءودة ، اللتين سئل عنهما ، لا إخبار عن كل وائدة وموءودة ، فبعض هذا الجنس في النار، وقد يكون هذا الشخص من الجنس الذي في النار (1)
وأجيب عنه : بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم والعموم الذي جاء فيه ، لا في قول السائل.
__________
(1) قال أبو عبد الباري : هذا الجواب من ابن القيم هو بناء على مذهبه في امتحان الأطفال يوم القيامة ، وقد قال قبل هذا في الكتاب : " إن الله لم يخبر أن الموءودة في النار بلا ذنب ، فهذا لا يفعله الله قطعا ، وإنما يدخلها النار بحجته التي يقيمها يوم القيامة إذا ركب في الأطفال العقل وامتحنهم وأخرجت المحنة منهم ما يستحقون به النار " وقد ذكر نحوه في مواضع متعددة من كتبه، مثل طريق الهجرتين ( ص 650 ) لكنه لا يستقيم على مذهب من يقول بأنهم في الجنة إلا من جهة الاتفاق على حمل الحديث على الخصوص ، سواء على تلك المرأة بخصوصها ، أو على من اتضح عند الامتحان استحقاقه للنار ، فهذا مشترك بين الفريقين والله أعلم .(1/71)
و يمكن أن يجاب عنه : بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ما لم تكن هناك قرينة تقتضي حمله على الخصوص ، فإذا وجدت قرينة تقتضي حمله على الخصوص فلا ينكر ذلك ، ويتقوى في هذه الحالة بما قيل في القواعد الفقهية من أن السؤال معاد في الجواب ، وله نظائر كثيرة منها حمل حديث " ليس من البر الصيام في السفر " (1) على من يضره الصيام كحال ذلك الرجل الذي ورد فيه الحديث ، وهو تخصيص للفظ العام بسببه أو من وجد فيه سببه لمعارضة العموم الوارد فيه لكثير من الأحاديث التي دلت على جواز الصيام في السفر كما بسط في موضعه .
ثانيها : أن هذه الموءودة كانت قد بلغت الحنث ، ولا عبرة بقول الراوي إنها لم تبلغ ، والنبي صلى الله عليه وسلم أجاب على ما هو الواقع ، ولم يلتفت إلى قول السائل إنها لم تبلغ ، ثم ذكر هذه اللفظة ليس موضع اتفاق بين رواة الحديث، بل لم ترد في رواية ابن مسعود رضي الله عنه للحديث.
__________
(1) رواه البخاري ( رقم 1946 ) وقال الحافظ في الفتح (4/216 ) : أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب الحديث ما ذكره من المشقة ، وأن من روى الحديث مجردا فقد اختصر القصة ، وبما أشار إليه من شدة المشقة يجمع بين حديث الباب والذي قبله اهـ بتصرف يسير .(1/72)
قال ابن حزم في الفصل (2/382 ) : هذه اللفظة وهي قوله " لم تبلغ الحنث " ليست من كلام رسول الله بلا شك ، ولكنها من كلام سلمة بن يزيد الجعفي وأخيه اللذين سألا رسول الله ، فلما أخبر أن الموءودة في النار كان ذلك إنكارا وإبطالا لقولهما " لم تبلغ الحنث " ، وتصحيحا لأنها كانت قد بلغت الحنث بوحي من الله إليه بخلاف ظنهما ، لا يجوز إلا هذا القول ، لأن كلامه لا يتناقض ولا يتكاذب ، ولا يخالف كلام ربه ، بل كلامه يصدق بعضه بعضا ، ويوافق ما أخبر به عن ربه عز وجل ، ومعاذ الله من غير ذلك ، وقد صح إخبار النبي بأن أطفال المشركين في الجنة ، وقال تعالى (( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت )) فنص تعالى على أنه لا ذنب للموءودة ، فكان هذا مبينا لأن إخبار النبي بأن تلك الموءودة في النار إخبار عن أنها كانت قد بلغت الحنث ، بخلاف ظن إخوتها اهـ المراد منه .
وقال السبكي في رسالته ( ص 25 ) : وقد قيل : لعله صلى الله عليه وسلم اطلع على أن تلك الموءودة بلغت سن التكليف وكفرت ، ولم يلتفت إلى قول السائل " لم تبلغ الحنث " لجهله ، ويكون التكليف فيه منوطا بالتمييز ، والسائل يجهله ، وليس ذلك من الأمور المحتاج إليها حتى يبينها له اهـ .
وقال ابن الوزير في العواصم (7/250) بعد نقله كلام السبكي : وهذا الجواب مثل جواب المعتزلة في تأويلهم الأطفال بمن قد بلغ ، لكنه أقوى لاختصاصه بشخص معين اهـ .
وأضاف ابن حزم لذلك : أن هذه اللفظة لم يذكرها غير المعتمر بن سليمان ، فقال : وقد روى هذا الحديث عن داود بن أبي هند محمد بن أبي عدي وليس هو دون المعتمر ولم يذكر فيه " لم تبلغ الحنث " .
ورواه أيضا عن داود عبيدة بن حميد فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر ... وساق الحديثين اهـ .(1/73)
وأجيب عن ذلك : بأن هذا كلام ضعيف لا حجة فيه ، كما قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 94 ) : قلت وهذا الجواب في غاية الضعف ، ولا يجوز أن ينسب إلى رسو الله أنه سئل عن موءودة لم تبلغ الحنث ، فأجاب عمن بلغت الحنث ، بل إنما خرج سؤاله لنفس ما سئل عنه ، فكيف ينسب إليه أنه ترك الجواب عما سئل عنه ، وأجاب عما لم يسأل عنه موهما أنه المسئول عنه ، ولم ينبه السائل ، هذا لا يظن برسول الله أصلا اهـ .
ثم أجاب عن تفرد المعتمر بهذه اللفظة فقال : وأما قوله إن هذا الحديث قد روي بدون هذه اللفظة فلا يضره ذلك ، لأن الذي زادها ثقة ثبت لا مطعن فيه وهو المعتمر بن سليمان ، كيف وقد صرح بالسماع من داود بن أبي هند ، واختصار ابن أبي عدي وعبيدة بن حميد لها لا يكون قادحا في رواية من زادها
وأيضا لو لم تذكر في السؤال لكان جواب النبي شاملا لها بعمومه، كيف وإنما كانت عادتهم وأد الصغار لا الكبار ، ولا يضره إرسال الشعبي له اهـ .
ثالثها: ما قاله ابن القيم في طريق الهجرتين (ص 650-651) : وأحسن من هذا أن يقال : هي في النار ما لم يوجد سبب يمنع من دخولها النار كما سنذكره إن شاء الله ، ففرق بين أن تكون جهة كونها موءودة هي التي استحقت بها دخول النار، وبين كونها غير مانعة من دخول النار .
رابعها : تضعيف الحديث
وهذا قول ابن الوزير رحمه الله تعالى في العواصم والقواصم ( 7/250 ) : وقد بالغت بالبحث عن صحة هذا الحديث حتى وجدت ما يمنع القطع بصحته ، فسقط الاحتجاج به ولله الحمد .
وذلك ما ذكره ابن الجوزي في مسند سلمة بن يزيد من جامع المسانيد ، فإنه قال بعد واية الحديث هذا : إن محمد بن سعد ذكر في الطبقات أن سلمة بن يزيد هذا الراوي ارتد عن إسلامه هو وأخوه لأمه قيس بن سلمة بن شراحيل ، وهما ابنا مليكة بنت الحلوى ، قال ابن الجوزي : فظاهر هذا كفرهما ، ثم قال : وظاهر ما روينا أنهما عادا إلى الدين ورويا الحديث .(1/74)
قلت – أي ابن الوزير- : الحديث ما رواه إلا سلمة، وما علمت لأخيه رواية أصل ، وقوله : أن الظاهر رجوعهما عن الردة ، واستدلاله على ذلك بمجرد رواية الحديث عن سلمة من غير نقل صحيح ، بل ولا ضعيف ، لا يفيد شيئا ، ومثل هذا لا يثبت معه حديث ، مع أن في إسناده داود بن أبي هند، وقد تجنب البخاري إخراج حديثه في الصحيح، قال الذهبي : داود حجة ، ما أدري لم لم يخرج له البخاري ، فثبت أنه ليس في تعذيب الأطفال حديث صحيح صريح اهـ !
قال أبو عبد الباري: هذا كلام ضعيف ، لا ينبغي أن يصدر مثله من مثل الحافظ ابن الوزير ، ولكن كما قيل " لكل جواد كبوة "، وهذه منه هفوة عظيمة في حق الصحابي الجليل سلمة بن يزيد الجعفي رضي الله تعالى عنه، وما نقله ابن الجوزي عن ابن سعد في الطبقات واعتمد عليه كلام ساقط.
بيانه : أن ابن سعد ذكره في الطبقات ( 1/ 324 ) من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه عن أبي بكر بن قيس الجعفي ...، وهذا سند تالف موضوع، الكلبي هالك، قال أحمد: إنما كان صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحدا يحدث عنه ، وقال ابن عساكر : رافضي ليس بثقة، وقال الذهبي: هشام لا يوثق به. كذا في ميزان الاعتدال ( 4/304-305 ) .
وأبوه محمد بن السائب الكلبي متهم بالكذب ، ترجمته في الميزان (3/558-559 ) : قال الجوزجاني وغيره : كذاب ، وقال الدارقطني وجماعة : متروك ، وقال ابن معين : ليس بثقة ، وقيل لأحمد : يحل النظر في تفسير الكلبي ؟ قال : لا ، وقال ابن حبان : مذهبه في الدين ووضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه .. لا يحل ذكره في الكتب ، فكيف الاحتجاج به اهـ.
ومن كان كذلك فلا تحل رواية خبره في أبسط الأمور الدينية ، فكيف في الحكم على صحابي بأنه كفر ، وهذا واضح لا يخفى ، والله يغفر لنا وللحافظ ابن الوزير آمين .(1/75)
وأما دعوى ابن الوزير أن الحديث لم يروه غير سلمة بن يزيد فغير صحيح، وقد تقدم بسند صحيح من حديث ابن مسعود بلفظ " الوائدة والموءودة في النار " دون ذكر السؤال ، ولو تفرد به ما ضره ، ولكن الواقع ما ذكرنا .
وأما الغمز في داود بن أبي هند وتجنب البخاري روايته ، فليس بعلة ، وقد ترك البخاري ومسلم الرواية عمن لا يشك في جلالته وإمامته كالشافعي رحمه الله تعالى ، ومتى كان ترك البخاري الرواية عن رجل من الثقات قدحا ترد به الأحاديث ؟!!، ومن نظر بعين الإنصاف علم يقينا أن الحافظ ابن الوزير لم ينصف لداود بن أبي هند الإمام الثقة ، وهي فلتة لسان ، وزلة قلم ، لا يجوز لأحد أن يتابعه عليه ، والله يعفو ويصفح .
والخلاصة في هذا الوجه : أن التعارض قائم ، وأن الوجه الأول والثالث في الجمع أقوى ما قيل على ضعف فيه والله أعلم
الوجه الثالث: النظر
وهو أن الله تعالى ذكر في كتابه أنه لا يعذب حتى يبعث رسولا ، وحتى تقوم الحجة على الناس ولذلك أرسل الرسل كما قال (( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) ، وصح في السنة أنه يمتحن يوم القيامة من لم تبلغه الدعوة والرسالة ، إما لعدم أهليته لفهمها كالمجنون والمعتوه والشيخ الكبير الخرف ، وإما لعدم سماعه الرسالة كحال أهل الفترة ، ثم يكون منهم من يطيع فيدخل الجنة لطاعته ، ومنهم من يعصيه فيدخل النار بعصيانه .
وإذا كان لا يعذب من لم تبلغه الدعوة مع تمام عقله وكامل قوته ، فما بال الصغير يعذب وهو مثله بل هو أقرب إلى الاعذار منه ؟؟ هذا ممتنع .
يؤيد ذلك قوله تعالى (( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء )) ، فهذا دليل على أن كل فوج يلقى في النار لا بد وأن يكونوا قد جاءهم النذير وكذبوه ، وهذا ممتنع في حق الأطفال كما قال ابن القيم في حاشيته على أبي داود ( 12/322 ) .(1/76)
وقالوا : فالله لا يعذب أحدا إلا بذنبه ، فالنار دار عدله ، لا يدخلها أحد إلا بعمل ، وأما الجنة فدار فضله يدخلها بغير عمل ، ولهذا ينشئ للفضل الذي يبقى فيها أقواما يسكنونها قاله ابن القيم رحمه الله تعالى في حاشية سنن أبي داود 12/322 ) .
ثالثا : منا قشة القول بأنهم يمتحنون يوم القيامة
هذا القول هو اختيار جمع من العلماء المحققين كابن تيمية وابن القيم وابن كثير ، وعزاه الأشعري لأهل السنة والجماعة ، وقد نوقش هذا القول من وجوه :
الوجه الأول : تضعيف الأدلة
وهو أقوى الوجوه ، وذلك أن عدم صحة الأدلة التي اعتمدوا عليها في خصوص مسالة الأطفال يهدم الاستدلال من أصله ، وتوضيح هذا الوجه هو :
أن الأدلة التي استدل بها هذا الفريق من العلماء لا يصح منها شيء وبيان ذلك:
أولا : أن الأحاديث التي وردت بامتحان أهل الفترة ومن ذكر معهم يوم القيامة منها صحاح، ومنها حسان ، ومنها ضعاف ، لكنه لم يرد في شيء من الأحاديث الصحيحة ذكر المولود ، وما ورد من ذلك في حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك ، فلا يصلح شيء من ذلك للاستدلال :
أما حديث أنس فلضعف ليث بن أبي سليم ، وجهالة عبد الوارث راويه عن أنس ، والمخالفة في المتن والإسناد التي تجعله منكرا، وقد تقدم أنه مع ذلك لايصلح للتقوية .
وأما حديث معاذ بن جبل ففيه عمرو بن واقد وهو متروك ، وقد تقرر في مصطلح الحديث أن من كان كذلك لا يصلح حديثه للمتابعات والشواهد .
وأما حديث أبي سعيد الخدري ففيه عطية العوفي، ضعيف مدلس ، وقد عنعنه وهما علتان ، ومع ذلك فيصلح للتقوية عند بعض العلماء ، لكنه ليس له في الباب ما يصلح لتقويته .
ولهذا قال أبو عمر ابن عبد البر في الاستذكار ( 3/ 114 ) : وهي كلها أسانيد ليست بالقوية ، ولا تقوم بها حجة ، وقد ذكرنا أسانيدها في التمهيد اهـ.(1/77)
وقال ابن حزم في الفصل ( 2/386 ) : وأما من قال إنه توقد لهم نار فباطل، لأن الأثر الذي فيه هذه القصة إنما جاء في المجانين ، وفي من لم يبلغه ذكر الإسلام من البالغين اهـ .
ثانيا: وأما القياس على من ورد فيهم النص وأنهم يمتحنون ففاسد الاعتبار، لأنه مصادم للنصوص الخاصة في أطفال المشركين ، سواء قلنا إنهم في النار أو قلنا إنهم في الجنة ، ولا تعارض هذه النصوص الصحيحة بقياس التمثيل.
ثالثا :وأما النظر فضعيف لأمور :
الأمر الأول : أن قولكم : إن الجنة لمن عمل صالحا ...إلى آخره منقوض بأطفال المسلمين الذين لم يعملوا ، وحالهم في العمل كحال أطفال المشركين ، فإذا تقرر ما تقدم من الإجماع دخولهم الجنة ، فكذلك هنا ، وما كان جوابكم عن أطفال المسلمين هو جوابنا عن أطفال المشركين فيما يتعلق بالجنة واستحقاقها بالعمل كما قلتم .
الأمر الثاني : أنه قد جاء في الصحيح أن الله عز وجل يخلق للجنة خلقا ولفظه عند البخاري ( رقم4850 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا " وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا " ، وهذا يدل على أن الجنة يدخلها من لم يعمل صالحا، ويضعف القول باستحقاق الجنة بالعمل فقط.
الأمر الثالث : أما القول بأن النصوص لا تجتمع إلا عليه فغير صحيح ، حيث إن أوجه الجمع لا تنحصر في هذا الوجه ، وإن كان أقرب إلى الجمع من غيره لو صحت فيه الأخبار ، ولكن فيه فرق بين كونه أقرب الأوجه للجمع وبين كون أوجه الجمع تنحصر فيه ، على أنه ضعيف من جهة عدم صحة ما يدل عليه ، وقد تقدم الكلام على طرق الأحاديث الواردة فيه وأنها لا تصلح للتقوية بحال .(1/78)
فإذا كان كذلك فقد جمع من جزم لهم بالجنة بأن أحاديث الوقف وتفويض علمها إلى الله لا تعارض الأحاديث المصرحة لهم بالجنة ، وذلك إما بحمل أحاديث التفويض على النهي عن الخوض فيها كما قيل في حديث عائشة عند مسلم الوارد في الطفل الأنصاري عند فريق من العلماء أو حملها على عدم الجزم للمعين وإن كان يقال بأنهم في الجنة على العموم كما قال بعضهم في حديث عائشة المتقدم ، وإما بحمل هذه الأحاديث بأنها متقدمة ، وأحاديث دخولهم الجنة متأخرة وتلمس القرائن في ذلك .
وكذلك بحمل الأحاديث المصرحة بدخول أفراد منهم على الخصوص ، وقد علم أن الخاص لا يعارض العام ، والمقصود هنا هو بيان أن أوجه الجمع بين النصوص لا تنحصر في هذا القول كما يوهم قول من اختاره ورجحه لذلك والله أعلم .
الوجه الثاني : المعارضة بالأحاديث الأخرى
وهو أن هذه الأحاديث مع ضعفها – كما تقدم – معارضة بالأدلة القرآنية ، والأحاديث الصحيحة ، ولا سبيل لتأويل ظواهر الأدلة الكثيرة المذكورة ، لأن التأويل فرع التصحيح ، ولم تصح أحاديث امتحان الأطفال كما تقدم ، فالتمسك بظواهر النصوص التي ليس لها معارض صحيح متعين ، ومن تأولها من العلماء فإنما تأول لظنه صحة شيء منها ، وليس الأمر كذلك ، وإذا كان الأمر كذلك فالأحاديث الضعيفة في الامتحان تزداد بالمخالفة ضعفا على ضعف .
الوجه الثالث : المعارضة بالنظر
بيانه: أن بعض العلماء اعترضوا على القول بالامتحان في الآخرة: أن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل وابتلاء ، قال الحليمي : إن دار الاخرة ليست بدار امتحان ، فإن المعرفة بالله تعالى فيها تكون ضرورة ، ولا محنة مع الضرورة، ولأن الأطفال هناك لا يخلوا من أن يكونوا عقلاء أو غير عقلاء، فإن كانوا مضطرين إلى المعرفة فلا يليق بأحوالهم المحنة، وإن كانوا غير عقلاء فهم من المحنة أبعد (1).
__________
(1) انظر : التذكرة للقرطبي ( 514 ) العواصم لابن الوزير (7/257) طريق الهجرتين (ص 658 ).(1/79)
قال أبو عبد الباري : وهذا الوجه ضعيف ، وقد ناقشه ابن القيم من وجوه في طريق الهجرتين ، ولا يعني عدم صحة الأحاديث الواردة في امتحان الأطفال أنه لا يكون فيه امتحان مطلقا ، بل ما صح من الأحاديث المشار إليها في امتحان من مات في الفترة ومن ذكر معه يدل على حصول الابتلاء في القيامة قبل استقرار الناس إما في الجنة وإما في النار ، وعلى هذا يبقى الوجه الأول والثاني بمكان من القوة دون الوجه الثالث والله أعلم .
الوجه الرابع : هل أهل السنة أجمعوا على الامتحان ؟
فإن قيل ذكر ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/103 ) أن هذا مذهب أهل السنة ، وأنهم متفقون عليه فقال: وهذا قول جميع أهل السنة والحديث اهـ.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 2/100 ) : وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري إجماعا عن أهل السنة والجماعة ؟.
قلنا : الجواب عليه من وجوه :
الوجه الأول : أنه تقدم أن القول بأنهم في الجنة صح عن سلمان وذكر عنه ابن عبد البر في الاستذكار (3/112 ) ، ورواه المروزي في الرد على ابن قتيبة ( أحكام أهل الذمة 2/99 ) من طريق سعيد بن أبي عروبة وأبي عوانه كلاهما عن قتادة عن أبي مراية العجلي عن سلمان أنه قال : ذراري المشركين خدم أهل الجنة ، وفي لفظ : أطفال المشركين (1) واختاره البخاري ، و ابن عبد البر في التمهيد ، وعزاه في الاستذكار ( 3/110 ) للأكثر ، كما عزاه ابن حزم للجمهور ، فلا يكون لأهل السنة في المسألة إجماع ، يؤيده الوجه الثاني :
__________
(1) هذا سند رجاله ثقات غير أبي مراية العجلي واسمه عبد الله بن عمرو ، روى عنه أسلم العجلي وقتادة ، له ترجمة في التاريخ الكبير (5/154) والجرح والتعديل (5/118) والكنى والأسماء لمسلم (1/ ترجمة 3342 ) والمقنتى في سرد الكنى للذهبي ( 2/68 ) وغيرهم لم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، وقال ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/236): كان قليل الحديث .(1/80)
الوجه الثاني : أنه أيضا قد تقدم أن القول بأنهم في النار قاله طائفة من أهل الحديث كما قال ابن تيمية في الفتاوى (4/303) وهذه لفظة تدل على أن جمعا من أهل السنة قالوا بذلك ، فلا يكون لهم اتفاق على الامتحان ، يؤيده أيضا :
الوجه الثالث: أنه اختلف في مراد من وقف عن الحكم كالحمادين ومن ذكر معهم، فقيل في تفسير قولهم أن الأطفال تحت المشيئة، فقيل : مرادهم هو :" أن أولاد الناس كلهم إذا ماتوا صغارا لم يبلغوا في مشيئة الله عز وجل يصيرهم إلى ما شاء من رحمة أو عذاب ، وذلك كله عدل منه وهو أعلم بما كانوا عاملين " قاله ابن عبد البر في الاستذكار (3/108 ) يؤيده أيضا :
الوجه الرابع : أن بعض أهل السنة نقل عنهم الامساك عن الكلام في المسألة والخوض فيها ، واعتبر مذهبا مستقلا كما صنع الحافظ ابن القيم في أحكام أهل الذمة ( 2/ 102 ) فقال : المذهب التاسع : مذهب الإمساك ، وهو ترك الكلام في المسألة نفيا وإثباتا بالكلية ، وجعلها مما استأثر الله بعلمه وطوى معرفته عن الخلق ثم ذكر عن ابن عباس بسند صحيح تقدم في أول الكتاب ، فكيف يقال مع ذلك إنهم أجمعوا على قول واحد هو الامتحان .
الوجه الخامس : أن في نقل الأشعري مذهب أهل السنة والحديث في مسألة الأطفال نوع اضطراب ، وبيانه :
أنه قال في المقالات ( 1/349 ) وهو ينقل قول أهل السنة والحديث : وأن الأطفال أمرهم إلى الله : إن شاء عذبهم ، وإن شاء فعل بهم ما أراد اهـ ، وهذا يدل على أن مذهبهم فيما حكاه الأشعري هو المشيئة ، وهو يوافق تفسير ابن عبد البر المتقدم في الوجه الثالث .(1/81)
وقال في الإبانة ( ص 63 ) : وقولنا في أطفال المشركين : أن الله يؤجج لهم في الآخرة نارا، ثم يقول لهم اقتحموها كما جاءت بذلك الرواية اهـ. وهذا صريح في الامتحان ومخالف لما نقله في المقالات ، وقد لاحظ هذا الاضطراب ابن القيم فقال في أحكام أهل الذمة (2/107) في الوجه الخامس : أن القول بموجبها هو قول أهل السنة والحديث كما حكاه الأشعري عنهم في المقالات ، وحكى اتفاقهم عليه وإن كان قد اختار هو فيها أنهم مردودون إلى المشيئة ، وهذا لا ينافى القول بامتحانهم ، فإن ذلك هو موجب المشيئة اهـ .
قال أبو عبد الباري: الذي نقله الأشعري في المقالات هو الرد إلى المشيئة ، وأنه يفعل بهم ما أراد ، ليس فيه ذكر الامتحان ألبتة ، وفرق بين كون الرد إلى المشيئة لا ينافي القول بالامتحان وبين كونهما قولا واحدا ، وقد تقدم أن من العلماء من يفسر المشيئة بغير الامتحان ، فلا يجزم مع ذلك أن أهل السنة اتفقوا على هذا التفسير ، كيف وقد ذكر ابن القيم نفسه في الوجه السادس الذي يلي الخامس : أنه صح عن سلمان خلافه ، وفي الوجه السابع أقر ما قاله ابن عبد البر من أن العلماء أنكروا أحاديث الامتحان ونازعه في التعميم وقال بل الأكثر قالوا بموجبها ، وفي ذلك إقرار بأن بعض ما ذكره ابن عبد البر صحيح.
قال أبو عبد الباري : أبو الحسن الأشعري لا يلتزم في نقله اتفاق أهل السنة والحديث وإن كانت عباراته توهم ذلك ، وقد اتضح ذلك من خلال تتبع نقولاته لا سيما في المقالات.
قال شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (7/35 ):(1/82)
ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية، وغيرهم ، وقد شاركهم في بعض أصولها ، ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة : كمسألة القرآن ، والرؤية ، فإنه قد اشتهر عند العامة ، والخاصة أن مذهب السلف ، وأهل السنة ، والحديث: أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأن الله يرى في الآخرة ، فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة ، والحديث ، وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية التي ظنها صحيحة ، ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ، ومعانيه ، والحديث، وأقوال الصحابة ما لأئمة السنة، والحديث ، فذهب مذهبا مركبا من هذا ، وهذا ، وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض وهذه طريقة الأشعري، وأئمة أتباعه كالقاضي أبي بكر ، وأبي إسحاق الإسفراييني ، وأمثالهما ، ولهذا تجد أفضل هؤلاء كالأشعري يذكر مذهب أهل السنة ، والحديث على وجه الإجمال ، ويحكيه بحسب ما يظنه لازما ، ويقول: إنه يقول بكل ما قالوه ، وإذا ذكر مقالات أهل الكلام من المعتزلة ، وغيرهم حكاها حكاية خبير بها عالم بتفصيلها ، وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة ، وغيرهم، ومعرفة فساد أقوالهم .
وأما في معرفة ما جاء به الرسول ، وما كان عليه الصحابة ، والتابعون ، فمعرفتهم بذلك قاصرة ، و إلا فمن كان عالما بالآثار ، وما جاء عن الرسول ، وعن الصحابة ، والتابعين من غير حسن ظن بما يناقض ذلك لم يدخل مع هؤلاء ، إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعا ، وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال ، كأكثر أهل الحديث ، أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك .. الخ(1/83)
وقال أيضا (7/462): وكان الأشعري أعظم مباينة لهم في ذلك من الضرارية حتى مال إلى قول جهم في ذلك لكنه كان عنده من الانتساب إلى السنة والحديث وأئمة السنة كالإمام أحمد وغيره ، ونصر ما ظهر من أقوال هؤلاء ما ليس عند أولئك الطوائف، ولهذا كان هو وأمثاله يعدون من متكلمة أهل الحديث، وكانوا هم خير هذه الطوائف ، وأقربها إلى الكتاب والسنة ، ولكن خبرته بالحديث ، والسنة كانت مجملة ، وخبرته بالكلام كانت مفصلة .فلهذا بقي عليه بقايا من أصول المعتزلة ، ودخل معه في تلك البقايا ، وغيرها طوائف من المنتسبين إلى السنة ، والحديث من اتباع الأئمة من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد
وكذا أشار شيخ الإسلام أن عنده بقايا من الاعتزال في 2/99و7/99
ولنضرب لذلك مثالين فقط إذ ليس هنا مو ضع بسط ذلك:
قال في المقالات (1/347) في حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة : ويقولون : أسماء الله هي الله اهـ ، وأما في الإبانة فقال ( ص 54 ) : وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا اهـ .
وهذا الذي نقله في المقالات هو أحد طرفي المسألة ، وذلك أن من قال : أسماء الله غير الله هكذا بالاطلاق فهو مبتدع وهذا صحيح وهو ما قاله في الإبانة، ولكن يبقى ما هو مذهب أهل السنة ؟ هناك قولان أحدهما ما حكاه عن أهل السنة في المقالات ولم يذكر غيره ، والثاني: أسماء الله : لله ، لا يقال هي الله ولا غير الله ، فأيهما قول أهل السنة ؟
القول الأول الذي حكاه عنهم الأشعري هو قول طائفة من أهل السنة، وهو مذهب اللالكائي والبغوي في آخرين و القرطبي وأبي عبيدة معمر بن المثنى وهو أحد قولي الأشاعرة واختاره ابن فورك (1) .
__________
(1) انظر ذلك في : الاعتقاد للالكائي (2/204) ومجاز القرآن لأبي عبيدة (1/16) وتفسير القرطبي (1/101) ومجموع الفتاوى لابن تيمية (6/52 - 55 ، 188 ) وغيرها .(1/84)
والقول الثاني هو الذي عليه جماهير أهل السنة وفي مقدمتهم الإمام أحمد وابن جرير الطبري، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم وهو الصواب (1)، وليس هنا موضع تفصيلها فراجع المصادر المشار إليها في الهامش .
فأنت ترى أن الأشعري هنا لم يذكر عن أهل السنة إلا أضعف القولين ، وأقلهما أنصارا عند أهل السنة .
وقال فيه ( 1/349 ): ويصدقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر كافر كما قال الله تعالى ... اهـ وأما في الإبانة فلم يذكر كفر الساحر فقال ( ص 62 ) : ونؤمن بأن في الدنيا سحرا وسحرة ، وأن السحر كائن موجود في الدنيا اهـ .
كذا قال ، وقضية الكلام اتفاق أهل السنة والحديث على كفر الساحر ، و ليس كذلك وإن كان أكثر العلماء على كفر الساحر كما قال ابن تيمية في الفتاوى ( 29/384 ) ، لكنه ليس موضع اتفاق على هذا الاطلاق ، فقد ذهب الشافعي في آخرين : أن الساحر لا يقتل ما لم يكن سحره عند الوصف شركا ، حكاه البيهقي في معرفة السنن والآثار ( 6/276 ) : قال الشافعي في الكتاب بعد ما بسط الكلام في أنواع السحر وأمر عمر أن يقتل السحار - والله أعلم -: إن كان السحر كما وصفنا شركا اهـ.
ونقله غير واحد من الحنابلة رواية عن الإمام أحمد في أنه لا يقتل الساحر المسلم ، وهو قول ابن المنذر كما في المغني لابن قدامة ( 10/115 مع الشرح الكبير ) ، وقد قيل إن عدم تكفير الساحر المترتب على عدم قتله مذهب عثمان وعائشة كما حكاه ابن حزم بأسانيده في المحلى ( 11/395-398 ) والبيهقي في بعض ذلك في المعرفة ( 6/276 ) ، ولعله لهذه النكتة لم يذكر الأشعري كفر الساحر في الإبانة وهو متأخر عن المقالات والله أعلم .
__________
(1) انظر ذلك في : طبقات الحنابلة لأبي يعلى (2/270) وصريح السنة للطبري
( ص 25-26 ، 27 ) ومجموع الفتاوى ( 6/206-207 ) ودرء التعارض (8/530 ) وبدائع الفوائد لابن القيم (1/16 ) وشفاء العليل لابن القيم ( ص 277 ) .(1/85)
وهناك أمثلة أخرى غير ما ذكرت لا نطيل بها المقام ، والخلاصة : أن الأشعري لا يلتزم في نقله لمذاهب أهل السنة اتفاقهم على ما ذكره عنهم ، فلا يدل على إجماعهم على الامتحان .
رابعا : مناقشة القول بالتوقف وعدم الحكم لهم بشيء .
هذا القول نقل عن غير واحد من أهل العلم ، و في معناه أو المراد منه أقوال كما تقدم ، وعليه :
فإن قيل : المراد منه الامتحان يوم القيامة ، وترك أمرهم لما يظهر منهم من طاعة أو عصيان فقد تقدمت مناقشته قريبا .
وإن قيل: المراد منه أنه يجوز أن يدخل جميعهم الجنة، ويجوز أن يدخل جميعهم النار، كما هو قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أهل الكلام وغيرهم من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم.
أو قيل المراد منه : أنه لا يعلم حكمهم ، فلا يتكلم فيهم بشيء ، كما هو أيضا قول طائفة أخرى من المنتسبين إلى السنة .
فمنقوض من وجوه :
الوجه الأول : أن هذه الأحاديث لا تدل على الوقف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجب بالوقف ، وإنما وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله ، والمعنى : الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا ، قاله ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/82) وزاد : فهو سبحانه يعلم القابل منهم للهدى العامل به لو عاش ، والقابل منهم للكفر المؤثر له لو عاش ، ولكن لا يدل هذا على أنه سبحانه يجزيهم بمجرد علمه فيهم بلا عمل يعملونه ، وإنما يدل هذا على أنه يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر بتقدير الحياة ، وأما المجازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه صلى الله عليه وسلم اهـ ونحوه في طريق الهجرتين ( ص 635 ) .(1/86)
وقال ابن حزم في الفصل (2/385 ) بعد كلام : فصح أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " الله أعلم بما كانوا عاملين" ليس فيه أنهم كفار، ولا أنهم في النار ، ولا أنهم مؤاخذون بما لو عاشوا لكانوا عاملين به مما لم يعملوه بعد ، قال : وفي هذا اختلفنا لا فيما عداه ، وإنما فيه أن الله تعالى يعلم ما لم يكن وما لا يكون لو كان كيف يكون فقط ، وهذا حق لا يشك فيه مسلم ، فبطل أن يكون لأهل التوقف حجة في شيء من هذين الخبرين إذ صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بيان اهـ. يؤيده الوجه الثاني :
الوجه الثاني : أنه جاء في بعض الطرق لحديث ابن عباس ما يكشف لك المعنى الذي قلناه ، وهو ما رواه الاسفرائيني عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان النبي صلى الله عليه وسلم ..... فنهى عن قتل الأطفال وقال " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، فقوله هذا عقيب نهيه عن قتلهم يوضح المعنى ويبين أن الله سبحانه يعلم لو أدركوا ما كانوا يعملون ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، فلعل أحدهم إذا أدرك يعمل بطاعة الله ويكون مسلما (1) .
__________
(1) ذكر ذلك ابن القيم في أحكام أهل الذمة ( 2/83 ) والحديث هنا تقدم في الفصل الثاني ، عند تفسير اللاهين فراجعه .(1/87)
الوجه الثالث : أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم خرج جوابا لهم حين أخبرهم " أنهم من آباءهم " فقالوا : بلا عمل ؟ فقال :" الله أعلم بما كانوا عاملين " قاله ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/83 ) ثم ذكر حديث عائشة المتقدم فقال : ففي هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوا به ، فهؤلاء مع آبائهم اهـ (1) .
وقال أيضا في طريق الهجرتين (ص 637) : ويجاب عن هذا بأن الحديث (أي حديث عائشة) إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه في الدنيا ، وهو الذي فهمته عائشة ، ولا ينفي هذا أن يلحقوا بهم إن شاء الله ... الخ كلامه .
الوجه الرابع : أن هذا القول إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم أنهم في الجنة بوحي من الله تعالى .
__________
(1) وهذا الجواب لا يستقيم على مذهب من يقول بأنهم في الجنة على العموم ، إلا أن يقال : إن حكمهم على العموم والإطلاق لا على التعيين ، فإنه لا يجزم لمعين بجنة ما لم يرد فيه دليل خاص ، لا فرق في ذلك بين الكبار والصغار والله أعلم .(1/88)
قال ابن حزم في الفصل ( 2/ 385-386 ) بعد ذكر حديث عائشة وغيره : وهذان الحديثان لا حجة لهم في شيء منهما ، إلا أنهما إنما قالهما رسو الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أنهم في الجنة ، وقد قال تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول » وما أدري ما يفعل بي ولا بكم« (1) قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن مطعون رضي الله عنه » والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي « (2) وكان هذا قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه لا يدخل النار من شهد بدرا (3) اهـ المراد منه .
الفصل السابع :
الرأي الراجح وبيان وجه الترجيح
هذا الفصل هو الأخير من هذه الرسالة ، وهو الذي يتضمن الخلاصة من كل ما قيل في الفصول السابقة، لكنه لا يغني عنها لمن أراد الوقوف على تفصيل الحجج والمناقشات المفصلة.
والذي يترجح بعد ما تقدم من البحث والنقاش – في نظري – هو القول بأن أطفال المشركين الذين ماتوا صغارا أنهم في الجنة من غير اختبار يجرى لهم يوم القيامة ، وذلك لصحة ووضوح الأدلة المتكاثرة فيه ، وعدم مقاومة أدلة الأقوال الأخرى ، وبيانه باختصار كالآتي :
__________
(1) هذا فيه إشارة إلى أن هذه الآية في سورة الأحقاف وهي سورة مكية ، وسورة الفتح التي فيها المغفرة نزلت عام الحديبية كما في البخاري ( رقم 4833 ) وغيره .
(2) رواه البخاري ( رقم 1243 ) وغيره .
(3) يريد ما رواه البخاري ( رقم 3983 ) وغيره من حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة " أليس من أهل بدر ؟ فقال : لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم " .(1/89)
*- أما القول بالاختبار والامتحان يوم القيامة فلم يصح فيه شيء مطلقا وإن قاله بعض كبار المحققين ، لكن العبرة بالحجة والدليل ، حيث ورد فيه حديث معاذ بن جبل لكنه لا يصلح للتقوية ، وحديث أنس مثله حيث اجتمعت فيه علل متعددة من جهالة عبد الوارث راويه عن أنس ، وضعف ليث بن أبي سليم ، ومخالفته لروايات الآخرين كما تقدم التفصيل ، وحديث أبي سعيد الخدري فيه عطية العوفي ضعيف مدلس شيعي وقد عنعنه فيصلح للاعتبار عند بعض العلماء لكنه لا عاضد له ، وهي مع ذلك مخالفة للروايات الصحيحة الصريحة بأنهم في الجنة ، وعليه: فهذا القول ضعيف في ميزان النقد والتمحيص، ولا يقوم على دليل صحيح، وأما ما قيل من إجماع أهل السنة عليه فقد قدمنا بطلانه ، وأشبعنا القول في نقول أبي الحسن الشعري في المقالات في الفصل السادس بما أغنى عن الإعادة والله اعلم.
*- وأما القول بالتوقف فليس عليه دليل صريح ، وقد اختلف في المراد من التوقف أهو الرد إلى المشيئة المجردة ، أو الرد إلى الاختبار ؟ فإن كان الثاني فقد تقدم قريبا ، وإن كان الأول فليس فيما احتجوا به ما يدل على ذلك ، وغاية ما فيه قوله صلى الله عليه وسلم " الله اعلم بما كانوا عاملين " ، وقد تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يكشف المعنى وأنه قاله لهم جوابا لما سألوا عن معنى قوله " هم من آبائهم" على أن الحديث فسر بتفسيرات غيرها محتملة يسقط معها الاستدلال ، والنصوص الصريحة في أنهم في الجنة لا تعارض بحديث محتمل لأكثر من معنى وقد تقدم تفصيل المناقشة .(1/90)
*- وأما القول بأنهم في النار مع آبائهم ، فهو وإن كان أقوى من القولين السابقين من حيث الدليل إلا أنه ليس بالدرجة التي تعارض النصوص الواردة بأنهم في الجنة على العموم والجملة ، وما ورد في ذلك منه ما لا يصح وهو حديثا خديجة وعلي رضي الله عنهما ، ومنه ما هو خارج عن محل النزاع وهو حديث الصعب بن جثامة ، ومنه ما هو قابل للتأويل وهو حديث سلمة بن يزيد وابن مسعود في الوائدة والمؤودة ، والجمع ممكن بحمل هذا الحديث على واقعة معينة وقصة خاصة ورد فيها الخبر تستثنى من الحكم العام ، ولا يعارض ذلك قاعدة " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " لأن ذلك ما لم تكن هناك قرينة تؤيد حمل اللفظ العام على سببه الخاص كما قيل في حديث " ليس من البر الصوم في السفر " وهو هنا كذلك للأحاديث الكثيرة المعارضة لهذا الحديث وفيها ما هو صحيح كما تقدم البيان.
ثم لو لم يمكن الجمع فالترجيح ممكن بأن النصوص الكثيرة أرجح من حديث بطريقين، كما أن موافقة الأحاديث الكثيرة للقواعد المتيقنة وظواهر القرآن ترجح هذه الكثرة، فكيف إذا اجتمع هذان الوجهان ؟ وقد تقدم تفصيل أكثر من هذا في الفصل السادس أثناء مناقشة هذا القول فليراجع .
*- وبكل ما تقدم يتضح – في نظري والعلم عند الله – أن أقوى الأقوال ، وأجراها على القواعد ، وأصحها أدلة هو القول بأنهم في الجنة على العموم ، وقد تقدم التفصيل لمن رامه في مواضعه .
والله تعالى ولي التوفيق والهداية، ونسأله المغفرة في الزلل والخطأ ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على نبي الهدى والرحمة ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
الخاتمة:
في حديث لم أجد من ذكره من الحجج(1/91)
في ختام هذه الرسالة المباركة إن شاء الله تعال أورد حديثا لم أجد فيما اطلعت عليه من المصادر من ذكره في جملة الحجج ، وقد يكون كذلك خارجا عن محل الدلالة ، وقد يكون فيه نوع دلالة للقائلين بأن الأطفال – أطفال المشركين مع آبائهم – في النار ، وهو التالي :
عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا- عند ما قال له عقبة بن أبي معيط-" من للصبية يا محمد ؟ قال : النار ، وفي رواية " النار لهم ولأبيهم " .
رواه أبو داود ( رقم 2686 ) والشاشي في مسنده ( رقم 409 ) والبزار ( رقم 1936 ) والحاكم (2/135 وعنه البيهقي في السنن 9\65 ودلائل النبوة ) وغيرهم من طريق عبد الله بن جعفر الرقي، والطبراني في الأوسط (رقم 2973) من طريق صالح بن مالك كلاهما عن عبيد الله بن جعفر عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن مسروق عن ابن مسعود به.
وهذا سند صحيح ورجاله ثقات، وقال الهيثمي في المجمع (6/89) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح أهـ ، وحسنه أكرم العمري في السيرة الصحيحة ( 2/ 371 ) وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود ( 2/511 رقم 2336 ) : حسن صحيح أهـ ، والله أعلم .
وقال البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد اهـ. وصححه الحاكم على شرط الشيخين.
وله شاهد من حديث سهل بن أبي حثمة بنحوه، رواه البيهقي في سننه (9\64-65 ).(1/92)
فهذا الحديث لم أر من ذكره فيما احتج به القائلون بأنهم في النار، ولعلهم يكونون فهموه على معنى آخر ، ومعلوم أن بعض أولاد عقبة بن أبي معيط اسلموا بل كان الوليد بن عقبة رجلا كبيرا قد أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأرسله ألى بني المصطلق مصدقا وكان ما كان من أمره حتى نزلت آية الحجرات، فعلى هذا فقد يكون معنى الحديث على تقدير محذوف ، أي لهم النار إن بقوا على الكفر وماتوا عليه ، وهذا أقرب من تقدير كونهم في النار لو ماتوا صغارا ، هذا قلته بحثا فلينظر فيه . والله اعلم
... كتبه / أبو عبد الباري
... ... ... محمود محمد الشبلي
كان الانتهاء منه مساء الخميس
30/شوال 1423هـ الموافق 02/يناير/2003م
الفهرس
الموضوع ... ص
مقدمة المؤلف
تنبيه: طريقة حصر الأقوال واختيارها ... 6
الفصل الأول: القول في أطفال المسلمين ... 9-45
الأدلة على أن أطفال المسلمين في الجنة
حديث أنس بن مالك
حديث قرة بن إياس
حديث ابي هريرة
حديث أبي سعيد الخدري
حديث أبي هريرة
حديث أبي أمامة
البراء بن عازب
مرسل مكحول الشامي
أقوال العماء في أنهم في الجنة
هل نقل الخلاف عن العلماء صحيح؟
التحقيق ثبوت إجماع أهل السنة والخلاف عن بعض الفرق
ما احتج به من خالف أهل السنة والجماعة والجواب عليه
الجواب على حديث عائشة( عصفور من عصافير الجنة ) ... 27
الوجه الأول: تعليل الحديث بالضعف والنكارة ... 29
الجواب عن تعليل الحديث بطلحة بن يحيى أو النكارة ... 31
الوجه الثاني: تأويله بما يوافق الأحاديث الأخرى ... 32
الجواب عن حديث ابن مسعود في كتابة الآجال ... 38
الجواب عن حديث ابن عباس الخصر والغلام من وجهين: ... 39
أولهما: الطعن فيه من وجهين:
الوجه الأول: الإعلال بالوقف ... 39
الوجه الثاني: الإعلال بعنعنة أبي إسحاق السبيعي ... 39
ثانيهما: تأويله بما يوافق النصوص ... 40
الفصل الثاني: القول بأن أطفال المشركين في الجنة وأدلته ... 46-66
ذكر من قال ذلك ... 47
الدليل من الكتاب ... 47
الدليل من عموم السنة ... 48(1/93)
الدليل من خصوص السنة في أحاديث: ... 51
حديث ابن عباس وتحسينه ... 52
حديث الأسود بن سريع وتقويته بشواهده ... 53
حديث خنساء بنت معاوية عن عمها وتقويته ... 54
حديث كعب بن عجرة وتحسينه ... 55
حديث أنس بن مالك وتحسين ما يوافق هذه الروايات منه ... 56
حديث آخر لأنس بن مالك في اللاهين ... 60
حديث سمرة بن جندب وتقويته ... 63
حديث آخر لسمرة بن جندب في البخاري ... 63
حديث أبي مالك وبيان قوته ... 64
حديث عائشة في أولاد خديجة وبيان ضعفه ... 65
الفصل الثالث: القول بأن أطفال المشركين في النار وأدلته ... 67-75
ذكر من قال ذلك ... 68
ما استدل به من قال ذلك ... 69
حديث سلمة بن يزيد الجعفي والرد على من طعن فيه
حديث ابن مسعود في الوائدة والموؤودة
حديث خدية في أولادها وبيان وهائه
حديث علي بن أبي طالب في أولاد خديجة وبيان وهائه
حديث الصعب بن جثامة
الفصل الرابع: القول بأن أطفال المشركين يمتحنون ... -90
ذكر من قال ذلك وتقرير قولهم
استدلالهم بالأحاديث:
حديث أبي سعيد الخدري وبيان ضعفه
حديث معاذ بن جبل وبيان ضعفه وعدم صلاحيته للتقوية
حديث أنس بن مالك وبيان نكارته وعد صلاحيته للتقوية
استلالهم بالقياس
استلالهم بالنظر
الفضل الخامس: القول بالتوقف عن الحكم لهم بجنة أو نار ... -97
ذكر من نقل عنه ذلك ونسب إليه
ما احتج به أصحاب هذا القول
حديث أبي هريرة " الله أعلم بما كانوا به عاملين "
حديث ابن عباس " الله أعلم بما كانوا به عاملين "
حديث عائشة " الله أعلم بما كانوا به عاملين "
حديث أبي سعيد الخدري " الله أعلم بما كانوا به عاملين "
الفصل السادس: مناقشة الأقوال والمذاهب ... -126
أولا: مناقشة القائلين بأنهم في الجنة من وجهين:
الوجه الأول: معارضتهم ينصوص الوقف
الوجه الثاني: معارضتهم بنصوص الامتحان
ثانيا: مناقشة القائلين بأنهم في النار من وجوه:
الوجه الأول: منها ما لا يصلح للاستدلال
الوجه الثاني: معارضتهم بأحاديث الجنة والجمع بينها بوجوه
الوجه الثالث: النظر من الكليات الشرعية(1/94)
ثالثا: مناقشة القائلين بالامتحان من وجوه:
الوجه الأول: تضعيف ما احتجوا به
الوجه الثاني: معارضتهم بالنصوص الصحيحة
الوجه الثالث: المعارضة بالنظر
لم يجمع أهل السنة على الامتحان كما توهم البعض
الوجه الرابع: منهج الأشعري في نقل الأقوال والمذاهب
رابعا: مناقشة القائلين بالتوقف من وجوه:
الوجه الأول: عدم دلالة الأحاديث على الوقف
الوجه الثاني: في حديث ابن عباس ما يدل على ما قلنا
الوجه الثالث: الحديث خرج مخرج الجواب على حال خاص
الوجه الرابع: أن النبي قاله قبل أن يوحى إليه أنهم في الجنة
الفصل السابع: الراجح وبيان سبب الترجيح
الخاتمة
الفهرس(1/95)