إتحاف الرفيق بما صح من روايات بسجود النبي بالنجم و دحض قصة الغرانيق
باسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه .
إخواني الأحبة هذا بحث أشار فيه علي بعض إخواني الأفاضل من المطلعين و المشتغلين أن أنشره بينكم حتى تعم الفائدة إن شاء الله .
و لما لم أكن أحسن التعامل جيدا مع هذا الجهاز فأستميح إخواني عذرا على عدم إرفاقه بصيغة " الوررد " ، و لعل أحد الأحبة يقوم به إن شاء الله .
" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه و نفثه و نفخه
باسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين
إن الحمد لله ، نحمده ، و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا من يهده الله ، فلا مضل له ، و من يضلل ، فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله .
يَأَيّهَا الّذِينَ( آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ (مّسْلِمُونَ
يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن( نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنّ اللّهَ (كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
يَا أيّهَا الذَيِنَ آمَنُوْا اتّقُوْا اللهَ وَ( قُولُوا قَوْلًا سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ (ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً
أما بعد :
فإن أحسن الكلام كلام الله ، و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم ، و شر الأمور محدثاثها ، و كل محدثة بدعة ، و كل بدعة ضلالة .(1/1)
فهذا بحث ينظر في مرويات قصة سجود النبي صلى الله عليه و سلم لما قرأ سورة النجم و سجد معه المسلمون و المشركون ، و يبين بإذنه تعالى الصحيح الثابت عن صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و يدحض في ضوئه الزيادات المنكرة الواردة في قصة الغرانيق الباطلة .
بين يدي البحث :
إن الباحث في مرويات حادثة سجود النبي صلى الله عليه و سلم بالنجم و سجود المسلمين و المشركين معه ، يجدها تنقسم إلى قسمين رئيسين :
الأول منهما : ما ثبت سندا و صح متنا ، و جاء عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم مما لا يمكن الطعن فيه بحال من الأحوال .
و كان من اللازم أن يكون نقد جميع المرويات في ضوء هذه الروايات الصحيحة .
وتنكُب هذا المسلك أوقع جمعا من أهل العلم في بعض الأوهام ، وصل بعضها إلى شناعة تصحيح زيادات منكرة جدا كقصة الغرانيق على اختلاف ألفاظها .
الثاني منهما : ما جاء في كتب التفسير والغرائب و الأفراد من روايات جلها مناكير من مقاطيع و معضلات و أحسنها حالا بعض المراسيل .
و لقد اختلف أهل العلم في هذه المرويات على أقسام :
- فمنهم من ردها جملة و تفصيلا دون نقد لآحادها و مفرداتها لنكارتها الظاهرة .
- و منهم من ردها ناقدا لمروياتها .
- و منهم من رد جملة منها و صحح بعض المراسيل الواردة في ذلك و صحح أصل القصة بالزيادات المنكرة ( قصة الغرانيق ) .
فكان إذن مدار البحث عند جملة المتأخرين على هذه المراسيل على اتفاقهم على تصحيح بعض مفرداتها :
- فمنهم من جعل للقصة أصلا ، بناءا على تعدد المراسيل الصحيحة .
- و منهم من رد القصة مع تصحيحه لبعض تلك المراسيل ، و لم ير حجة فيها لعدم اختلاف المخرج و غيره .
و حصل عندهم تصحيح أربع طرق :
- مرسل سعيد بن جبير ( و هو أقوى ما جاء من هذه المراسيل باعتراف الحافظ بن حجر ) .
- مرسل قتادة .
- مرسل أبي العالية .
- مرسل أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث .(1/2)
- حديث ابن عباس رضي الله عنهما ( و اعتمده السيوطي في الدر المنثور و قال رجاله ثقات ) .
و لقد انصب البحث على هذه الروايات ، دون الرجوع إلى أصل القصة الصحيحة الواردة عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم بالأسانيد الجياد في الصحاح و السنن و غيرها و التي كان لزاما على أي باحث أن يجعلها المرجع المحكم في الحكم على كل المرويات المتعلقة بهذه القصة .
و إغفال هذا الأمر شوش على بعض الأفاضل من أهل العلم المعاصرين مما حدا بهم نحو السير على خطى الحافظ ابن حجر فصحح القصة المنكرة ثم تأولها .
هذا ما جعلنا ننشط لكتابة هذه السطور ، مقتفين أثر الذين سبقونا في هذا الباب مع زيادة بيانٍ إن شاء الله تعالى ، مدلّلين على أن تلكم المراسيل منكرة سندا و متنا لا حجة فيها على الإطلاق صناعةً و أن الصحيح الذي لا ريب فيه في هذه القصة هو ما جاء في الروايات الموصولة الصحيحة و الله الموفق .
و سيهتم بحثنا في أول أمره على دحض ركيزتين للقصة المنكرة ( قصة الغرانيق ) و هما :
- الرواية الموصولة من مسند ابن عباس رضي الله عنهما : تضعيفا لأمرها و بيانا لمخالفتها الصحيح الوارد عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه القصة ، حيث لا وجود للزيادة المنكرة .
- مرسل سعيد بن جبير : بيانا لنكارتها ، لأن أصل الرواية يرجع من الطريق نفسها إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحاح ، و قد روى القصة دون الزيادة المنكرة .
ثم نزيد البحث بيانا بإذن الله فنورد حديثين آخرين من مسند أبي هريرة والمطلب بن أبي وداعة رضي الله عنهما ، مما يوافق كل الموافقة الروايات الصحيحة لأصل القصة دون ذكر لتلكم الزيادة المنكرة .
و لا ريب أنه لن تصفو بعد هذا ، روايةُ مرسلة بله معضلة تخالف تلكم الروايات الصحيحة ، فتتهافت المراسيل و المعضلات ، حتى لا يحتاج الباحث للنظر في مفرداتها ، لكن مع ذلك فقد أتممنا المسير و تكلمنا عليها بما تستحق من نقد .(1/3)
و اللهَ العليَّ أسأل أن يجعل بحثنا هذا خالصا لوجهه الكريم و لا يجعل لغيره فيه شيئا و أن يجعله ذخرا لنا " يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " :
نقد المرويات :
أ- الروايات الموصولة :
حديث ابن عباس رضي الله عنهما :
أخرج الطبراني في المعجم الكبير (12/53) و الضياء في المختارة (10/89) من طريق يوسف بن حماد المعنى ثنا أمية بن خالد ثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير لا أعلمه إلا عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فلما بلغ " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى" ألقى الشيطان على لسانه " تلك الغرانيق العلى وشفاعتهم ترتجى " ، فلما بلغ آخرها سجد وسجد المسلمون والمشركون فأنزل الله عز وجل وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إذا تمنى ألقى الشيطان إلى قوله عذاب يوم عقيم يوم بدر ) .
قال السيوطي في الدر المنثور : ( رجاله ثقات ) .
قلت : لكنه لا يصح بل هو منكر بهذه الزيادة لا شك فيه ( بغض الطرف عن الشك من أحد الرواة في وصله و إرساله ) ، لأن أمية بن خالد خالف في روايته من هو أثبت و أقوى منه في شعبة ، و هو محمد بن جعفر المعروف بغندر ، الذي لا يكاد يدانيه أحد في روايته عن شعبة .
فقد أخرج الطبري في تفسيره (17/188) : ( حدثنا ابن بشار قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال لما نزلت هذه الآية أفرأيتم اللات والعزى قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون إنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير فسجد المشركون معه فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إلى قوله عذاب يوم عقيم ) .(1/4)
و تابع محمد بن جعفر غندر ، عبد الصمد بن عبد الوارث : فيما أخرج الطبري في تفسيره (17/188) : ( حدثنا ابن المثنى قال ثني عبد الصمد قال ثنا شعبة قال ثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير قال لما نزلت أفرأيتم اللات والعزى ثم ذكر نحوه ) .
قلت : هكذا أخرج الطبري هذه الرواية من طريق غندر عن شعبة و هي أصح من رواية الطبراني و الضياء المقدسي من طريق خالد بن أمية عن شعبة ، و غندر رواه عن شعبة من رواية سعيد بن جبير مرسلا لا ذكر لابن عباس رضي الله عنهما مطلقا .
و مرسل سعيد ابن جبير هو أقوى ما تمسك به الذين صححوا القصة المنكرة على حد اعتراف أحد أكابرهم و هو الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى كما في الفتح .
و مع ذلك فإننا نقول إن هذه الرواية مرجوحة و الزيادة فيها منكرة جدا ، و أصح منها ما جاء من طريق غندر عن شعبة عن أبي إسحاق عن ابن مسعود موصولا دون ذكر لتلكم الزيادة و هو الصحيح و الصواب في هذه الروايات جميعا :
فقد أخرج الإمام البخاري في أصح كتاب بعد كتاب الله و هو صحيحه (1/363) : ( حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت الأسود عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا فرأيته بعد ذلك قتل كافرا ) .
و لم يتفرد به محمد بن بشار ، بل توبع على روايته الصحيحة عن غندر ، تابعه عليها بعض الثقات:
محمد بن المثنى : فيما أخرجها الإمام مسلم في صحيحه (1/405) : ( حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت الأسود يحدث عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا قال عبد الله لقد رأيته بعد قتل كافرا ) .(1/5)
فهل يبقى شك بعد ما اتفقا الشيخان على الرواية الصحيحة .
و نزيد فنقول إن محمد بن جعفر غندر لم يتفرد به عن شعبة بل تابعه جمع من الثقات منهم :
1- يحيى بن سعيد القطان ( ثقة ثبت ) : فيما أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/443) : ( ثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال حدثني أبو إسحاق عن الأسود عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فسجد فيها ومن معه إلا شيخ كبير أخذ كفا من حصى أو تراب قال فقال به هكذا وضعه على جبهته قال فلقد رأيته قتل كافرا ) .
2- حفص بن عمر ( ثقة ثبت ) : فيما أخرجه البخاري في صحيحه (1/364) : (حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد فأخذ رجل من القوم كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال يكفيني هذا فلقد رأيته بعد قتل كافرا ) .
3- سليمان بن حرب : فيما أخرجه البخاري في صحيحه (3/1399) : ( حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم فسجد فما بقي أحد إلا سجد إلا رجل رأيته أخذ كفا من حصا فرفعه فسجد عليه وقال هذا يكفيني فلقد رأيته بعد قتل كافرا بالله ) .
4- خالد بن الحارث ( ثقة ثبت ) : فيما أخرجه النسائي في المجتبى (2/160) : ( أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال حدثنا خالد قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فسجد فيها ) .
5- أبو الوليد الطيالسي ( ثقة ثبت ) : فيما أخرجه الدارمي في سننه (1/407) : ( أخبرنا أبو الوليد الطيالسي ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عبد الله بن مسعود ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فسجد فيها فلم يبق أحد إلا سجد إلا شيخ أخذ كفا من حصا فرفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا ) .(1/6)
6- عفان بن مسلم ( ثقة ثبت ) : فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/462) : ( ثنا عفان ثنا شعبة قال أبو إسحاق أنبأنا عن الأسود عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد وما بقى أحد من القوم الا سجد الا رجلا رفع كفا من حصى فوضعه على وجهه وقال يكفيني هذا قال عبد الله لقد رأيته بعد ذلك قتل كافرا ) .
7- يزيد بن هارون ( ثقة ثبت ) : فيما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/369) : ( حدثنا يزيد بن هارون عن شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عبد الله قال سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجم فما بقى أحد إلا سجد معه إلا شيخا أخذ كفا من تراب فرفعه إلى جبهته قال فلقد رأيته قتل كافرا ) .
8- محمد بن كثير العبدي ( ثقة ) : فيما أخرجه ابن حبان في صحيحه (6/469) : ( أخبرنا أبو خليفة قال أخبرنا محمد بن كثير عن شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد فما بقي أحد من القوم إلا سجد إلا رجل واحد أخذ كفا من حصى فوضعه على جبهته وقال يكفيني قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافرا ) .
9- أبو داود الطيالسي ( ثقة ثبت ) : كما أخرج هو نفسه في مسنده (37) : ( حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت الأسود بن يزيد يحدث عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النجم بمكة وسجد فيها وسجد من كان معه غير شيخ أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا قال عبد الله فلقد رأيته قتل كافرا يوم بدر ) .
فهؤلاء جمع من الأكابر الثقات و جلهم من الأثبات المتقنين يتابعون غندر على روايته هذا الحديث و القصة واحدة ، عن شعبة ، متفقين على جعل الإسناد عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه ، و ليس في رواية أحد منهم هذه الزيادة المنكرة .
قلت : أما رواية عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة ففيها نظر كبير ، بل هي مردودة من وجوه :(1/7)
الأول : أن قول الطبري بعد أن ساق الإسناد " ثم ذكر نحوه " تحتمل ذكر أصل القصة دون زيادة الغرانيق و تحتمل أصلها مع الزيادة ، و هذا الأقرب حسب السياق ، لكن مع الاحتمال يبطل الاستدلال .
الثاني : و هو أقوى منه ، أن الإمام مسلما أخرج القصة في صحيحه ( و قد مضت قريبا ) من طريق محمد بن المثنى عن غندر دون ذكر للزيادة المنكرة ، لا عن عبد الصمد كما في رواية الطبري ، و رواية الصحيح أثبت و أولى ، و هي المحفوظة الموافقة لما أخرجه الثقات كما سبق بيانه .
الثالث : و هو الأقوى ، أنه تبين بما لا شك فيه أن المحفوظ في رواية غندر هو ما جاء في الصحيحين دون ذكر للزيادة المنكرة ، فلا أساس بعدئذ لمتابعة عبد الصمد بن عبد الوارث لرواية شاذة بل منكرة
ثم إنها مخالفة لما رواه الجمع الغفير من الثقات عن شعبة دون ذكر لقصة الغرانيق ، و هو الصواب .
و لا شك أن مثل عبد الصمد بن عبد الوارث لا يقوى على مخالفة أحد الثقات المذكورين ، فكيف بهم مجتمعين ؟
فهل بقي لمرسل سعيد بن جبير قوة يُتمسك بها ؟
و بعد هذا كله ، نقول إن شعبة رحمه الله لم يتفرد به ، بل تابعه على روايته عن أبي إسحاق السبيعي ، جمع من الثقات ، منهم :
سفيان الثوري رحمه الله ( أحد الجبال الأثبات ) : فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/388) :
( ثنا وكيع ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن بن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد المسلمون الا رجل من قريش أخذ كفا من تراب فرفعه إلى جبهته فسجد عليه قال عبد الله فرأيته بعد قتل كافرا ) .(1/8)
و إسرائيل بن يونس ( حفيد أبي إسحاق و من أثبت الناس فيه ) : فيما أخرجه البخاري في صحيحه (1/364) : ( حدثنا نصر بن علي أخبرني أبو أحمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم قال فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف ) .
قلت : هذا هو الصحيح و بهذا يعلم أن الذين تمسكوا بمرسل سعيد بن جبير لم يستقصوا كل الطرق فقالوا بصحة الطريق إلى سعيد بن جبير تماشيا مع ظاهر السند ، ثم بنوا على هذا الوهم وهما آخر و هو تقويته بمراسيل أخرى ، و لا تتقوى بحال ، فالرواية بالزيادة المذكورة منكرة عن سعيد بن جبير لا ريب في ذلك ، و المنكر أبدا منكر كما قال الإمام أحمد ، فأنى له القوة ؟ .
و يسقط أخيرا مرسل سعيد بن جبير فلا يمكنهم بعد هذا البيان بفضل الله ، أن يتمسكوا به و هو أقوى ما كان عندهم .
ثم إن الصحيح من روايات ابن عباس رضي الله عنهما هو ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (1/364) : ( حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا أيوب عن عكرمة عن بن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ) .
و أخرجه أيضا : الترمذي في الجامع (2/464) و ابن حبان في صحيحه (6/469) و الطبراني في المعجم الكبير (11/318) و الدارقطني في سننه (1/409) و البيهقي في السنن الكبرى (2/314)
و البغوي في معالم التنزيل (4/257) من الطريق الصحيحة نفسها .
قلت : هذا هو الصحيح ينطق علينا بالحق من روايات ابن عباس رضي الله عنهما فهل فيها من زيادة تُنكر و القصة واحدة و الحادثة نفسها ؟ كلا و الله .(1/9)
بل تأمل الرواية ، فإنها قوية البيان في سجود المسلمين و المشركين لما قرأ النبي صلى الله عليه و سلم بالنجم ثم سجد ، و لا غرابة في هذا ، إذ تواتر عن مشركي قريش شدة تأثرهم عند سماع القرآن حتى منع أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قراءته ، و قالوا " لاَ تَسمَعوُا لهَذا القُرآنِ و الغوا فِيه لعلكم تغلبون " .
و بعد شهادة صحابيين كبيرين ( ابن عباس و ابن مسعود رضي الله عنهما ) و هما أعلم الصحابة بكتاب الله ، نقول أن هنالك شاهدا آخر من صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو راوية الإسلام الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه :
أخرج الشافعي في مسنده (156) و الإمام أحمد في المسند (2/304) و البيهقي في السنن الكبرى (2/321) و في معرفة السنن و الآثار ( رقم 1201 ) و الطحاوي في شرح المعاني (1/353) و أبو القاسم البغوي في الجعديات (406) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بالنجم فسجد وسجد الناس معه إلا رجلين قال أرادا الشهرة " ) .
قلت : و سنده جيد رجاله ثقات .
و قد اختلفت الروايات عن أبي هريرة رضي الله عنه ، لكن الصحيح ما أثبتناه و بهذا جزم أحد أئمة العلل أبو حاتم الرازي فيما قاله ابنه عبد الرحمن في العلل (1/165) : ( سألت أبي عن حديث رواه أبو كريب عن وكيع عن ابن أبي ذئب عن خالد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال مرة عن ابن ابي ذئب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد في النجم .
ورواه الليث بن سعد عن ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .(1/10)
ورواه ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا رواه الوليد بن مسلم وعبد العزيز بن محمد عن ابن أبي ذئب . قال أبي : هذا الصحيح ) .
قلت : و هنالك شاهد آخر فيما أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/420) و اللفظ له و من طريقه النسائي في المجتبى (2/160) و في الكبرى (1/331) و الحاكم في المستدرك (3/734) و البيهقي في السنن الكبرى (2/314) من طريق إبراهيم بن خالد قال حدثنا رباح عن معمر عن بن طاوس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم فسجد وسجد من عنده فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ولم يكن أسلم يومئذ المطلب وكان بعد لا يسمع أحدا قرأها إلا سجد ) .
و توبع رباح عن معمر ، تابعه عبد الرزاق فيما أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد و المثاني (2/110)
و الطبراني في الكبير (20/288) .
قلت : هذا سنده جيد رجاله ثقات عدا جعفر بن المطلب :
ترجم له ابن أبي حاتم و البخاري في كتابيهما و لم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا .
و ذكره ابن حبان في الثقات .
و روى عنه جمع : عبد العزيز بن رفيع و سعيد بن كثير و عكرمة بن خالد .
و زاد ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار عنه : ( من متقني أهل مكة وكان فاضلا ) .
و روايته هنا عن والده ( صحابي أسلم عام الفتح رضي الله عنه ) و هو أعلم الناس به ، فهو من التابعين و لم يأت بما يستنكر ، بل يشهد له ما رواه الثقات في الصحاح و غيرها ، فمثله يحسن حديثه على أقل تقدير في هذا الخبر .(1/11)
قلت : و قد يتشبث بعضهم بما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق آخر فيما أخرجه الضياء في المختارة (10/234) : ( أخبرنا أبو القاسم بن أحمد بن أبي القاسم الخباز أن أبا الخير محمد بن رجاء بن ابراهيم أخبرهم ابنا أحمد بن عبد الرحمن ابنا أحمد بن موسى بن مردويه حدثني ابراهيم بن محمد حدثني أبو بكر محمد بن علي المقرىء البغدادي ثنا جعفر بن محمد الطيالسي ثنا ابراهيم بن محمد بن عرعرة ثنا أبو عاصم النبيل ثنا عثمان بن الأسود عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى و شفاعتهن ترتجا ففرح المشركون بذلك وقالوا قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل فقال اقرأ علي ما جئتك به قال فقرأ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتجا فقال ما أتيتك بهذا هذا عن الشيطان أو قال هذا من الشيطان لم آتك بها فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الى آخر الآية ) .
قلت : و هذا سند ضعيف بل منكر ، فقد تفرد به أبو بكر بن المقرئ ( و هو غير ابن المقرئ صاحب المعجم المطبوع ) ، فهو مع جهالة حاله لا يحتمل مثل هذه الرواية المخالفة كل المخالفة لرواية ابن عباس رضي الله عنهما التي جاءت في أصح كتاب بعد كتاب الله ( صحيح البخاري ) مما يزيدها وهنا على وهن لا سيما بالزيادة المنكرة .(1/12)
أو يتشبث بما أخرجه الطبري في تفسيره (17/189) : ( حدثني محمد بن سعد قال ثني أبي قال ثني عمي قال ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إلى قوله والله عليم حكيم وذلك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنوا منه فبينما هو يتلوها وهو يقول أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان إن تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فجعل يتلوها فنزل جبرائيل عليه السلام فنسخها ثم قال له وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إلى قوله والله عليم حكيم ) .
قلت : وهذا سند ضعيف جدا ، و هو حديث منكر .
و هذه نسخة لا يصلح منها شيء البتة مدارها على آل العوفي .
- محمد بن سعد هو العوفي لينه الخطيب ، و قال الدارقطني : لا بأس به .
- و والده سعد قال فيه الإمام أحمد فيما نقله عنه الخطيب في تاريخ بغداد : ( لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه ولا كان موضعا لذاك ) .
- و الحسين بن الحسن العوفي : قال فيه أبو حاتم الرازي : ( ضعيف الحديث ) ،
و قال ابن معين : ( ضعيف ) .
وقال ابن عدي : ( وللحسين بن الحسن أحاديث عن أبيه عن الأعمش وعن أبيه وعن غيرهما وأشياء مما لا يتابع عليه ) .
- و الحسن بن عطية العوفي : قال فيه أبو حاتم الرازي : ( ضعيف الحديث ) .
و قال البخاري في التاريخ الكبير : ( ليس بذاك ) .
و قال ابن حبان في المجروحين : ( منكر الحديث فلا أدري البلية في أحاديثه منه أو من أبيه أو منهما معا لأن أباه ليس بشيء في الحديث وأكثر روايته عن أبيه فمن هنا اشتبه أمره ووجب تركه ) .
- و عطية العوفي : و هو في غنى عن ذكر تضعيف النقاد له لشهرته .
بـ – الروايات المرسلة و المعضلة :
1- مرسل قتادة بل معضله :(1/13)
أخرج الطبري في تفسيره (17/191) : ( حدثنا ابن عبد الأعلى قال ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن لا يعيب الله آلهة المشركين فألقى الشيطان في أمنيته فقال إن الآلهة التي تدعي أن شفاعتها لترتجى وإنها للغرانيق العلى فنسخ الله ذلك وأحكم الله آياته أفرأيتم اللات و العزى حتى بلغ من سلطان قال قتادة لما ألقى الشيطان ما ألقى قال المشركون قد ذكر الله آلهتهم بخير ففرحوا بذلك فذكر قوله ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض .
حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة بنحوه ) .
قلت : و هذا مع إرساله بل إعضاله ضعيف منكر :
- و قولنا مرسل قتادة فيه شيء من التجوز لأن قتادة لم يرو إلا عن قلة من صحابة الرسول صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنهم ، بل إن الإمام أحمد قال كما في مراسيل ابن أبي حاتم (168) :
" ما أعلم قتادة روى عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن أنس رضي الله عنه
قيل : فابن سرجس ؟ فكأنه لم يره سماعا " .
و قال أبو حاتم الرازي كما في المراسيل لابنه (175) : ( لم يلق من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنسا و عبد الله بن سرجس ) .
فاحتمال الإعضال أكبر بكثير من الإرسال ، فأنى له الجبران .
ثم على فرض التسليم بالارسال ، فإن النقاد لم يعدوا مراسيله شيئا :
- قال ابن أبي حاتم الرازي في المراسيل (3) : ( حدثنا أحمد بن سنان قال : كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري و قتادة شيئا ؛ و يقول هو بمنزلة الريح ؛ و يقول هؤلاء قوم حفاظ إذا سمعوا الشيئ علقوه ) .
- ثم إن رواية معمر عن قتادة مما تكلم فيها النقاد :
قال الدارقطني كما في شرح العلل لابن رجب : ( معمر سيئ الحفظ لحديث قتادة و الأعمش ) .
و في الجملة فحديث معمر عن البصريين فيه اضطراب كما جزم به النقاد يراجع شرح العلل لابن رجب و غيره .(1/14)
قال الإمام أحمد : ( حديث عبد الرزاق عن معمر أحب إلي من حديث هؤلاء البصريين وكان معمر يتعاهد كتبه وينظر فيها يعني باليمن وكان يحدثهم حفظاً بالبصرة ) . كما في بحر الدم (269) و تهذيب الكمال (18/57) .
- ثم و هو الأقوى ، ماذا يزن هذا المعضل أمام تلك الروايات الصحيحة عن الجمع من الصحابة رضوان الله عليهم ؟
2- مرسل أبي العالية :
أخرج الطبري في تفسيره (17/188) : ( حدثنا ابن عبد الأعلى قال ثنا المعتمر قال سمعت داود عن أبي العالية قال قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جلساؤك عبد بني فلان ومولى بني فلان فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك فإنه يأتيك أشراف العرب فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فيك قال فألقى الشيطان في أمنيته فنزلت هذه الآية أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى قال فأجرى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترجى مثلهن لا ينسى قال فسجد النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأها وسجد معه المسلمون والمشركون فلما علم الذي أجري على لسانه كبر ذلك عليه فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إلى قوله والله عليم حكيم .(1/15)
حدثنا ابن المثنى قال ثنا أبو الوليد قال ثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن أبي العالية قال قالت قريش يا محمد إنما يجالسك الفقراء والمساكين وضعفاء الناس فلو ذكرت آلهتنا بخير لجالسناك فإن الناس يأتونك من الآفاق فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم فلما انتهى على هذه الآية أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فألقى الشيطان على لسانه وهي الغرانقة العلى وشفاعتهن ترتجى . فلما فرغ منها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون والمشركون إلا أبا أحيحة سعيد بن العاص أخذ كفا من تراب وسجد عليه وقال قد آن لابن أبي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير حتى بلغ الذين بالحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن قريشا قد أسلمت فاشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألقى الشيطان على لسانه فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلى آخر الآية ) .
قلت : و هذا مرسل . و مراسيل أبي العالية الرياحي كالريح كما قال النقاد ، ليست بشيء ، فلا حجة فيها .
و كيف يقابل مثل هذا المرسل ( و هو من أقسام الضعيف ) مع هذه النكارة الظاهرة ، بالروايات الصحيحة الموصولة عن ذلكم الجمع من الصحابة رضوان الله عليهم .
3- مرسل أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث :(1/16)
أخرج الطبري في تفسيره (17/189) : ( حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب أنه سئل عن قوله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآية قال ابن شهاب ثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم والنجم إذا هوى فلما بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى قال إن شفاعتهن ترتجى وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا بذلك فقال لهم إنما ذلك من الشيطان فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي حتى بلغ فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) .
قلت : ظاهر السند صحيح إلى أبي بكر بن عبد الرحمن لكنه مع إرساله منكر .
ذلك أن ابن إسحاق أخرج في المغازي ( مع سيرة ابن هشام ) من طريق الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن أم سلمة رضي الله عنها ( هكذا بسند موصول صحيح ) قصة خروج المسلمين إلى الحبشة و لم يذكر فيها تلكم الرواية المنكرة .
و هي أطول رواية وردت في خروج المسلمين إلى الحبشة ، فلم يرد في شيء منها قصة الغرانيق تلك.
و هو مع ذلك موافق لما أخرجه الزهري عن عروة عن أم سلمة رضي الله عنها .
راجع القصة بطولها في السيرة لابن هشام (2/177) و دلائل النبوة للبيهقي (2/301) و دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (247) من طريق ابن إسحاق و السند صحيح بحمد الله تعالى .
قلت : راجعني بعض إخواني الأفاضل من المشتغلين في رد رواية أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المرسلة برواية أم سلمة الموصولة التي رواها ابن إسحاق بالسند الصحيح لقصة خروج المسلمين إلى الحبشة ، ذلكم أن الحادثتين متغايرتين .
و هذا إيراد وجيه عند أول اعتبار ، و لا شك أن له وجها من النظر ، لكن عند التأمل نجد أن استدلالنا لا يخلو من وجاهة أيضا و ذلك لجملة أمور مجتمعة :(1/17)
الأول : القول أن الحادثتين متغايرتين فيه نظر ، بل المسألتين مرتبطتين بأمرين مجتمعين :
1/ إن أصحاب القول بالرواية المنكرة ( قصة الغرانيق ) ذكروها كسبب لرجوع مهاجرة الحبشة إلى مكة .
2/ استدلالنا برواية أم سلمة رضي الله عنها الموصولة لإعلال الرواية المرسلة يقوم على :
أن الرواية الموصولة أطول رواية صحيحة وردت في قصة الهجرة إلى الحبشة .
أن الرواية الموصولة الصحيحة جاءت من طريق الزهري عن أب بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن أم سلمة رضي الله عنها ، و لو كان لمرسل عبد الرحمن بن الحارث من طريق الزهري أصلا لما أغفلته رواية أم سلمة الطويلة الواردة من طريقهما ، و أن الداعي لذكر سبب الرجوع وارد ، لا سيما و أن الرواية الموصولة ذكرت تفاصيل كثيرة دون سبب الرجوع في الأهمية بكثير .
3/ فنحن إذن أمام روايتين من طريق الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث في مسألة واحدة :
الأولى : مرسلة و فيها قصة منكرة ( قصة الغرانيق ) تخالف ما ورد في الصحيح .
الثانية : موصولة و سندها صحيح و هي أطول ما جاء في قصة مهاجرة الحبشة و لم يأتي فيها تلكم الرواية المنكرة و لم تتطرق لسجود النبي صلى الله عليه و سلم بالنجم كسبب لرجوعهم .
فأما الذي يوافق منهج الأئمة النقاد هو القول بنكارة الرواية المرسلة ، و لا يستبعد أن السند مركب ، و الصحيح من رواية الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، هو ما رواه ابن إسحاق عنه من مسند أم سلمة رضي الله عنها و لا ذكر للقصة المنكرة البتة و للحمد و المنة .
و لهذا المسلك من الإعلال نظائر عند النقاد أحيل على كتاب العلل لابن أبي حاتم حتى يرى طالب العلم كيف يعل الأئمة النقاد الأحاديث المركبة و التي دخل فيها حديث في حديث و غير ذلك ، بأمور تبدو أولا بعيدة و لكنها عند التأمل وجيهة . و الله تعالى أعلم .
4- مرسل الزهري :(1/18)
قال السيوطي في الدر المنثور (6/67) : ( وأخرج ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال لما أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقرنناه وأصحابه ولكن لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنته ضلالتهم فكان يتمنى كف أذاهم فلما أنزل الله سورة النجم قال : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى القى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت فقال وانهن لهن الغرانيق العلى وان شفاعتهن لهي التي ترتجى فكان ذلك من سجع الشيطان وفتنه فوقعت هاتان الكلمتان في قلب مشرك بمكة وذلقت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا ان محمد قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم للمسلمين واشتدوا عليه ) .
ثم قال السيوطي : ( وأخرجه البيهقي في الدلائل عن موسى بن عقبة ولم يذكر ابن شهاب ) .
قلت : و هو كما قال ، فلقد أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/285) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة في كتاب المغازي قال : ( ثم إن قريشا ... ) هكذا دون ذكر للزهري و ساق قصة طويلة .
و حسب هذا نكارة أنه مع إرساله بل إعضاله ، مناف لما ثبت عن الزهري نفسه عن عروة و أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن أم سلمة رضي الله عنها في قصة طويلة صحيحة السند عن ذهابهم إلى الحبشة لم يذكر فيها رجوعهم بسبب هذه القصة المنكرة فليتنبه .
ثم إننا سبق أن نقلنا قول يحيى القطان في مراسيل قتادو و الزهري و أنها شبه الريح .(1/19)
و هذا يحيى بن معين يقول : ( مراسيل الزهري ليست بشيئ ) كما في المراسيل لابن أبي حاتم (3) .
5- مرسل عروة بن الزبير :
أخرج الطبراني في المعجم الكبير (9/35) : ( حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني ثنا أبي ثنا بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال وتسمية الذين خرجوا إلى أرض الحبشة المرة الأولى قبل خروج جعفر وأصحابه عثمان بن مظعون وعثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو و ولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة و الزبير بن العوام ومصعب بن عمير أخو بني عبد الدار وعامر بن ربيعة وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة وأبو سبرة بن أبي رهم ومعه أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو وسهيل بن بيضاء قال ثم رجع هؤلاء الذين ذهبوا المرة الأولى قبل جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين أنزل الله عز وجل السورة التي يذكر فيها والنجم إذا هوى وقال المشركون من قريش لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه فإنه لا يذكر أحدا ممن خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر فلما أنزل الله عز وجل السورة التي يذكر فيها والنجم وقرأ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان فيها عند ذلك ذكر الطواغيت فقال وإنهن لمن الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى وذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك وذلت بها السنتهم واستبشروا بها وقالوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة التي فيها النجم سجد وسجد معه كل من حضر من مسلم ومشرك غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع على كفه ترابا فسجد عليه فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما(1/20)
المسلمون فعجبوا من سجود المشركين على غير إيمان ولا يقين ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما سمعوا الذي ألقى الشيطان في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم وحدثهم الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السجدة فسجدوا لتعظيم آلهتهم ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت الحبشة فلما سمع عثمان بن مظعون وعبد الله بن مسعود ومن كان معهم من أهل مكة أن الناس قد أسلموا وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفيه أقبلوا سراعا وكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فشكا إليه فأمره فقرأ عليه فلما بلغها تبرأ منها جبريل عليه السلام وقال معاذ الله من هاتين ما أنزلهما ربي ولا أمرني بهما ربك فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليه وقال أطعت الشيطان وتكلمت بكلامه وشركني في أمر الله فنسخ الله عز وجل ما ألقى الشيطان وأنزل عليه وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد فلما برأه الله من سجع الشيطان وفتنته إنقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم وبلغ المسلمين ممن كان بأرض الحبشة وقد شارفوا مكة فلم يستطيعوا الرجوع من شدة البلاء الذي أصابهم والجوع والخوف خافوا أن يدخلوا مكة فيبطش بهم فلم يدخل رجل منهم إلا بجوار وأجار الوليد بن المغيرة عثمان بن مظعون فلما أبصر عثمان بن مظعون الذي لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البلاء وعذبت طائفة منهم بالنار وبالسياط وعثمان معافى لا يعرض له رجع إلى نفسه فاستحب البلاء على العافية وقال(1/21)
أما من كان في عهد الله وذمته وذمة رسوله الذي اختار لأوليائه من أهل الإسلام ومن دخل فيه فهو خائف مبتلى بالشدة والكرب عمد إلى الوليد بن المغيرة فقال يا بن عم قد أجرتني فأحسنت جواري وإني أحب أن تخرجني إلى عشيرتك فتبرأ مني بين أظهرهم فقال له الوليد بن أخي لعل أحدا آذاك وشتمك وأنت في ذمتي فأنت تريد من هو أمنع لك مني فأكفيك ذلك قال لا والله ما بي ذلك وما اعترض لي من أحد فلما أبى عثمان إلا أن يتبرأ منه الوليد أخرجه إلى المسجد وقريش فيه كأحفل ما كانوا ولبيد بن ربيعة الشاعر ينشدهم فأخذ الوليد بيد عثمان فأتى به قريشا فقال إن هذا غلبني وحملني على أن أبرأ إليه من جواري أشهدكم أني منه بريء فجلسا مع القوم وأخذ لبيد ينشدهم فقال ألا كل شيء ما خلا الله باطل فقال عثمان صدقت ثم إن لبيد أنشدهم تمام البيت وكل نعيم لا محالة زائل فقال كذبت فاسكت القوم ولم يدروا ما أراد بكلمته ثم أعادها الثانية وأمر بذلك فلما قالها قال مثل كلمته الأولى والآخرة صدقه مرة وكذبه مرة وإنما يصدقه إذا ذكر كل شيء يفنى وأذا قال كل نعيم ذاهب كذبه عند ذلك إن نعيم أهل الجنة لا يزول نزع عند ذلك رجل من قريش فلطم عين عثمان بن مظعون فاخضرت مكانها فقال الوليد بن المغيرة وأصحابه قد كنت في ذمة مانعة ممنوعة فخرجت منها إلى هذا وكنت عما لقيت غنيا ثم ضحكوا فقال عثمان بل كنت إلى هذا الذي لقيت منكم فقيرا وعيني التي لم تلطم إلى مثل هذا الذي لقيت صاحبتها فقيرة لي فيمن هو أحب إلي منكم أسوة فقال له الوليد إن شئت أجرتك الثانية فقال لا أرب لي في جوارك ) .
قلت : هذا مرسل ضعيف منكر ، عبد الله بن لهيعة ضعيف مطلقا .
ثم إنه اضطرب فيه فجعله تارة من مرسل عروة و تارة يرفعه فيجعله من طريق عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة عن أبيه ، في سياق مغاير ، يراجع عند البيهقي في معرفة السنن و الآثار
( رقم 5686) .(1/22)
6- مرسل محمد بن فضالة الظفري و المطلب بن عبد الله بن حنطب :
أخرج ابن سعد في الطبقات (1/205) : ( أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني يونس بن محمد بن فضالة الظفري عن أبيه قال وحدثني كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قالا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه كفا عنه فجلس خاليا فتمنى فقال ليته لا ينزل علي شيء ينفرهم عني وقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ودنا منهم ودنوا منه فجلس يوما مجلسا في ناد من تلك الأندية حول الكعبة فقرأ عليهم والنجم إذا هوى حتى إذا بلغ أرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان كلمتين على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما ثم مضى فقرأ السورة كلها وسجد وسجد القوم جميعا ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود ويقال إن أبا أحيحة سعيد بن العاص أخذ ترابا فسجد عليه رفعه إلى جبهته وكان شيخا كبيرا فبعض الناس يقول إنما الذي رفع التراب الوليد وبعضهم يقول أبو أحيحة وبعضهم يقول كلاهما جميعا فعل ذلك فرضوا بما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده وأما إذ جعلت لها نصيبا فنحن معك فكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم حتى جلس في البيت فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة فقال جبريل جئتك بهاتين الكلمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه صلى الله عليه وسلم فقال القوم فمن بقي بمكة إذا أسلم هؤلاء وقالوا عشائرنا أحب إلينا فخرجوا راجعين حتى غذا كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبا من كنانة فسألوهم عن قريش وعن حالهم فقال الركب ذكر محمد وآلهتهم بخير فتابعه الملأ ثم ارتد عنها فعاد لشتم آلهتهم وعادوا له بالشر فتركناهم على ذلك(1/23)
فأتمر القوم في الرجوع الىأرض الحبشة ثم قالوا قد بلغنا ندخل فننظر ما فيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله ثم يرجع ) .
قلت : سنده ضعيف جدا من أجل الواقدي و الكلام في ضعفه الشديد مشهور تغني شهرته عن ذكره في هذا المقام .
7- مرسل محمد بن كعب القرظي :
أخرج الطبري في تاريخه (1/550) : ( حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد المدني عن محمد بن كعب القرظي قال لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه وكان يسره مع حبه قومه وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم حتى حدث بذلك نفسه وتمناه وأحبه فأنزل الله عز وجل والنجم إذ هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى فلما انتهى إلى قوله أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به نفسه ويتمنى أن يأتي به قومه تلك الغرانيق العلا وإن لترتجى فلما سمعت ذلك قريش فرحوا وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم فأصاخوا له والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم ولا يتهمونه على خطإ ولا وهم ولا زلل فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقا لما جاء به واتباعا لأمره وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر آلهتهم فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة فإنه كان شيخا كبيرا فلم يستطع السجود فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها ثم تفرق الناس من المسجد وخرجت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم يقولون قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر قد زعم فيما يتلو أنها الغرانيق العلا وأن شفاعتهن ترتضى وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل أسلمت قريش فنهض منهم رجال وتخلف آخرون(1/24)
وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد ماذا صنعت لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل وقلت ما لم يقل لك فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا فأنزل الله عز وجل وكان به رحيما يعزيه ويخفض عليه الأمر ويخبره أنه لم يك قبله نبي ولا رسول تمنى كما تمنى ولا أحب كما أحب إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته كما ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته أي فإنما أنت كبعض الأنبياء والرسل فأنزل الله عز وجل : " وما أرسلنا من قبلك من رسولا ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم " فأذهب الله عز وجل عن نبيه الحزن و آمنه من الذي كان يخاف ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم أنها الغرانيق العلا وأن شفاعتهن ترتضى بقول الله عز وجل حين ذكر اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى أي عوجاء إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم إلى قوله لمن يشاء ويرضى أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده فلما جاء من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه قالت قريش ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند الله فغير ذلك وجاء بغيره وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم وأقبل أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا من أرض الحبشة لما بلغهم من إسلام أهل مكة حين سجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيا فكان ممن قدم مكة منهم فأقام بها حتى هاجر إلى(1/25)
المدينة فشهد معه بدرا من بني عبد شمس بن عبد مناف بن قصي عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس معه امرأته سهلة بن سهيل وجماعة أخر معهم عددهم ثلاثة وثلاثون رجلا ) .
قلت : هذا سند ضعيف جدا من أجل محمد بن حميد شيخ الطبري .
8- مرسل محمد بن كعب القرظي و محمد بن قيس :
أخرج الطبري في تاريخه (1/552) : ( حدثني القاسم بن الحسن قال حدثنا الحسين بن داود قال حدثني حجاج عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس قالا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه فأنزل الله عز وجل والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان عليه كلمتين تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترجى فتكلم بهما ثم مضى فقرأ السورة كلها فسجد في آخر السورة وسجد القوم معه جميعا ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود فرضوا بما تكلم به وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإذا جعلت لها نصيبا فنحن معك قالا فلما أمسى أتاه جبرئيل عليه السلام فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال ما جئتك بهاتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره إلى قوله ثم لا تجد لك علينا نصيرا فما زال مغموما مهموما حتى نزلت وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلى قوله والله عليم حكيم(1/26)
قال فسمع من كان بأرض الحبشة من المهاجرين أن أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا هم أحب إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان ) .
قلت : و هذا سند ضعيف منكر ، من أجل حال أبي معشر و لمخالفته للرواية الصحيحة عند الثقات
9- مرسل أبي صالح :
أورده السيوطي في الدر المنثور (1/274) و قال : ( وأخرج عبد بن حميد من طريق السدي عن أبي صالح قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون ان ذكر آلهتنا بخير ذكرنا آلهته بخير ف ألقى الشيطان في أمنيته أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى إنهن لفي الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى قال فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا اذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) .
قلت : و هذا سند مرسل ضعيف منكر .
و لعل أصله ما روي من وجوه أخرى من طريق الكلبي المتهم موصولا إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، و يكفي وجود الكلبي في السند لتهافته و سقوطه بمرة .
10- معضل الضحاك بن مزاحم :
أخرج الطبري في تفسيره (17/189) : ( حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآية أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنزل الله عليه في آلهة العرب فجعل يتلو اللات والعزى ويكثر ترديدها فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم ففرحوا بذلك ودنوا يستمعون فألقى الشيطان في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأنزل الله عليه وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى والله عليم حكيم ) .
قلت : و هذا معضل ضعيف لانقطاعه الظاهر ، لا يصلح بحال من الأحوال للاعتبار اتفاقا .(1/27)
و الضحاك بن مزاحم لم يثبت عنه أنه سمع من أحد من الصحابة ، وجل روايته في التفسير عن سعيد بن جبير ، كما ترى ذلك في كتب الرجال و قد لخصها الحافظ العلائي في جامع التحصيل (199) فانظرها هناك غير مأمور .
خلاصة البحث :
و نخلص مما سبق أن سجود النبي صلى الله عليه و سلم لما قرأ سورة النجم و سجود المسلمين و المشركين معه ، له أصل أصيل من الروايات الصحيحة ، و لا ذكر فيها للزيادة المنكرة المعروفة بقصة الغرانيق ، التي لا نشك في بطلانها سندا و متنا .
فقد صح أصل القصة من رواية أربعة من الصحابة رضوان الله عليهم الواردة في الصحاح و السنن :
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
عبد الله بن عباس رضي الله عنه .
أبو هريرة رضي الله عنه .
المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه .
أما الروايات التي اعتمدها من صحح القصة بالزيادة المنكرة ، التي جاءت في كتب التفسير و الغرائب و الأفراد ، فلا حجة فيها البتة ، مع مخالفتها للرواية الصحيحة عن الجمع من الصحابة رضوان الله عليهم :
- أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي وثق رجاله السيوطي ، فمنكر .
أصله مرسل سعيد بن جبير و لا يصح عنه و إن كان ظاهره الصحة ، لأنه ورد من رواية غندر عن شعبة ، و الصحيح من روايتهما هو ما جاء من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، و قد توبع غندر كما توبع شعبة على هذه الرواية الواردة في الصحيح ، فتكون بذلك رواية سعيد بن جبير التي جعلها الحافظ ابن حجر أقوى ما ورد ، مع إرسالها منكرة .
أما الروايات الأخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما بزيادة قصة الغرانيق ، فمنكرة باطلة ، فهي مع ضعف السند ، مخالفة لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما في صحيح البخاري و غيره دون ذكر لتلكم القصة المنكرة كما سبق بيانه في البحث .
- و أما مرسل أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث فمرده إلى حديث أم سلمة رضي الله عنها ، و لا حجة فيه البتة .
- و أما مرسل قتادة بل معضله فضعيف منكر .(1/28)
- و أما مرسل أبي العالية فرياح .
- أما باقي المرويات فقد بيّنا تهافتها و سقوطها و لا تحتاج إلى مزيد بيان .
و بعد هذا نزيد فنقول : إن الروايات المرسلة لقتادة و أبي العالية حتى على التسليم باختلاف المخرج بل و مع مرسل سعيد بن جبير و أبي بكر بن عبد الرحمن لن تقوى ، صناعةً و لا درايةً ،
بحال من الأحوال على مقابلة الروايات الصحيحة عن الجمع من الصحابة : ابن عباس و ابن مسعود و أبي هريرة و ابن أبي وداعة رضوان الله عليم ، و قد صحت عنهم جميعهم ، على اختلاف المخارج ، الروايةُ دون الزيادة المنكرة .
فما بالنا إذا أسقطنا مرسل ابن جبير و أبي بكر بن عبد الرحمن و قتادة .
و ما بالنا إذا أوردنا عليهم مسألة عدم اختلاف المخرج .
إننا نجزم بعد هذا البحث أن قصة الغرانيق قصة باطلة بمرة ، لا شبهة عند من تمسك ببعض تلكم المرويات الساقطة و لا تحتاج إلى تأويل و لا توجيه .
فالواجب على طالب العلم أن يكون على حذر من أمره و أن يكون نقده لمثل هذه المرويات في ضوء المحكم الصحيح حتى لا ينجر إلى مسائل جانبية تنسيه الأصل المتين ، فيكون الزلل و العياذ بالله .
هذا ما تيسر الآن ، و الله أعلى و أعلم و له الحمد أولا و آخرا " .
انتهى البحث .
و السلام عليكم و رحمة الله .
أخوكم : أبو حاتم المقري .(1/29)