أحاديث الإسراء والمعراج عرض وتحليل
نزار عبد القادر ريان *
كلية أصول الدين الجامعة الإسلامية – غزة
ص. ب. 108 غزة – فلسطين
ANALYSER OF ALISRA’ WAL MERAJ HADITHS
Abstract This study analysis texts of Isra’ and Me’raj in the Quran and Sunna . It illustrates the true walim only .
In his analysis of the texts and clarificationof their implications, the researcher wrsiders opinions of the learned ulama. Where ever he finds no explanation, especially in modern issues, he offers his own idea.
This study combines the diversity of hadith narratives, it there fare aspires to introduce along this method, which follows and clarifies an event rather than the diverse narration’s .
ملخص قام الباحث في هذه الدراسة ، بعرض نصوص الإسراء والمعراج من الكتاب والسنة ، حيث اعتمد على النص المقبول من الحديث النبوي الشريف ، ثم قام بتحليل النصوص ، وبيان مدلولاتها ، معتمداً في ذلك على ما أورده علماء الأمة من حكم وتحليلات وبيانات ، ثم يبني على ما يقولون ، إلا إن وقف على أ،مر لم يجد فيه لهم بياناً ، لا سيما في القضايا التي جدت بعد ، واشتملت على كثير من أحداث زماننا الحاضر .
وتعتبر هذه الدراسة من حيث الناحية الحديثية جمعاً لمفترق الروايات ، ولعله يستطيع أن يقدم مباحث كثيرة للسيرة النبوية بهذه الطريقة ، التي تتبع الحدث وتبينه أكثر من الروايات المتفرقات.
___________________________
* أستاذ مشارك بقسم الحديث الشريف .
المقدمة(1/1)
تكثر الكتابات في الإسراء والمعراج، وتكاد تختلط الأوراق فيها، فلا تقف على كتاب واحد يشترط على نفسه صحة الخبر، فكل ما تأتي به دور النشر حسب علم الباحث من كتيبات عن الإسراء والمعراج، لم تكن تشترط على نفسها صحة الخبر، بل تكاد تجد اختلاطًا عجبًا للصحيح والموضوع، بين دفتي الكتاب الواحد، ولا تبصر عينك فيه تخريجًا وتحقيقًا.
فلذلك كانت وجهة الباحث، لا سيما والناس تتعشق قراءة أخبار الإسراء والمعراج، وتنتشر بينهم روايات كثيرة ضعيفة وموضوعة، أو هي مما ورد في رؤى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأخرى، فأضيفت إلى أحاديث الإسراء والمعراج، وهي ليست منها.
وقد اشترط الباحث ألا يأتي بخبر دون أنْ يبين درجته، فلا يتجاوز سمت المحدثين وطريقتهم، فيعزو كل رواية للراوي الأعلى، حتى تستقل الروايات، ويسهل على القارئ أنْ يعود إليها في مظانها الأصيلة.
وحديث الإسراء ورد عن جماعة من الصحابة، بروايات متقاربة، يزيد بعضهم على بعض، فرواه عبد الله بن مسعود، ومالك بن صَعْصَعَة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وحذيفة بن اليَمَان، وأبو هريرة، وأبو ذر الغفاري، وجابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم.
وكانت كل رواية تأتي بطرفٍ من الخبر، فأراد الباحث أنْ يجمع الروايات، ثم يدع السقيم منها، ويقتصر على الصحيح والحسن.
وكان ذِكْرُ كل رواية حسب سياقتها الأصيلة في الكتب، يكثر التكرار، ويفوت على القارئ فائدة التتابع في الحدث، فرأى الباحث أن يوردها في سياق واحدٍ، كأنها متن مستقل بذاته، غير بعض الأحاديث التي عَسُرَ عليه أن يضمنها السياقَ الذي أورده، فأخرها مفردة مبوبة.
ويشير الباحث إلى مواطن الروايات، ويذكر الحكم عليها، معتمدًا على دراسته، ناقلاً أقوال أهل العلم في بعض الأحاديث، مقرًا لهم صنيعهم، بعد متابعتهم.
وقُسِمَتْ الدراسة إلى مبحثين:
المبحث الأول: عرض الآيات والأحاديث.
المبحث الثاني: تحليل النصوص.(1/2)
وَسُمِّيَت" نُصُوصُ الإسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّة، عَرْضٌ وَتَحْلِيْلٌ"
وقد عمد الباحث في تحليل النص وبيان مقاصده على عدم تخطي الرقاب، ففيما قاله كبار علماء الأمة خير عظيم، وللصف الأول فضله وسبقه، ولذلك كان يزين كلامه بكلامهم، ويشي تصوره باجتهادهم، وينزل نصوصهم منزلتها الكريمة.
هذا جهد المقل، فإنْ أحسن هذا العبد، فبتوفيق خالقه الكبير، وإنْ أساء، فمن نفسه والشيطان.
والله أسأل أنْ يرى المسجد الأقصى جندَ الله قريبًا، فقد اشتاقت لهم الأرض والسماء، والدين والدنيا معًا، عَجَّل الله إشراقة فجرهم الآتي.
الإسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ
المبحث الأول: عرض الآيات والأحاديث[i]
يقول الله تبارك وتعالى:
{(1/3)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى[ii] الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } [iii].(1/4)
ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين حَدَّثَ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ:"بَيْنَمَا أَنَا فِي الحَطِيمِ"[iv] وَرُبَّمَا قَالَ:" فِي الحِجْرِ"[v]"مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ"[vi]"مُضْطَجِعًا"[vii]" " بَيْنَ النَّائِمِ وَاليَقْظَانِ"[viii]" أُتِيتُ بِالبُرَاقِ"[ix]"مُلجَمًا مُسْرَجًا"[x]"وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَوْقَ الحِمَارِ وَدُونَ البَغْلِ"[xi]"طَوِيلَةُ الظَّهْرِ مَمْدُودَةٌ، خطْوُهُ مَدُّ بَصَرِهِ"[xii]" يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ[xiii]، فَرَكِبْتُهُ"[xiv]"فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ[xv] فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، قَالَ: فَارْفَضَّ عَرَقًا"[xvi]" حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ[xvii] فَرَبَطْتُهُ بِالحَلقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلتُ المَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ[xviii] فَجَاءنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ"[xix]"وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ"[xx]"فَقَالَ: اشْرَبْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ"[xxi]" " فَقَالَ جِبْرِيلُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْتَ الفِطْرَةَ"[xxii]"الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ"[xxiii]" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ"[xxiv]" أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ"[xxv]، "ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي"[xxvi]" إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ"[xxvii]" فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا"[xxviii]" ضَرَبَ بَابًا مِنْ أبْوَابِهَا"[xxix]"" فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ"[xxx]" قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ"[xxxi]" فَقِيلَ: مَنْ(1/5)
أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا"[xxxii] " فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ، عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ:" مَنْ هَذَا؟" قَال: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى"[xxxiii].
وفي رواية البخاري:" فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ"[xxxiv]" فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ"[xxxv].
" ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيْ الخَالَةِ؛ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ.(1/6)
ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ[xxxvi]، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } [xxxvii].
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.(1/7)
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ"[xxxviii] وفي رواية البخاري:" فقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى، فَقِيلَ: مَا أَبْكَاكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ هَذَا الغُلامُ الَّذِي بُعِثَ بَعْدِي، يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي!"[xxxix].
" ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى البَيْتِ المَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ.(1/8)
ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ المُنْتَهَى[xl] وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالقِلالِ"[xli]" نَبِقُهَا كَأَنَّهُ قِلالُ هَجَرَ[xlii] فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَأَلتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ: أَمَّا البَاطِنَانِ فَفِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: النِّيلُ وَالفُرَاتُ"[xliii]" فَإِذَا هُوَ فِي السَّماءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ، فَقَالَ: مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا"[xliv]" ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ[xlv] فَضَرَبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ[xlvi] قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ[xlvii] الَّذِي خَبَأَ لَكَ رَبُّكَ"[xlviii].(1/9)
" حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى"[xlix] " قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى؛ فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ"[l]" فَنَزَلتُ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلتُ: خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلهُ التَّخْفِيفَ"[li]" فَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ"[lii]" وَأَنَا أَعْلَمُ بِالنَّاسِ مِنْكَ! عَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ المُعَالَجَةِ"[liii]" فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ[liv] بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ"[lv]" فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلا بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ"[lvi].(1/10)
" قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي"[lvii]" يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ؛ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ، وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ، وَأَبْدَانُهُمْ، فَخَفِّفْ عَنَّا"[lviii]" فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلهُ التَّخْفِيفَ، قَالَ: فَلَمْ أَزَل أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام، حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
قَالَ: فَنَزَلتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ"[lix]" وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ" قَالَ: " فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي"[lx].(1/11)
" وَرَأَيْتُ الدَّجَّالَ"[lxi]" فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ، لَيْسَ رُؤْيَا مَنَامٍ، وَعِيسَى وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدَّجَّالِ فَقَالَ:"رَأَيْتُهُ فَيْلَمَانِيًّا[lxii] أَقْمَرَ هِجَانًا[lxiii] إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَةٌ، كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، كَأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ. وَرَأَيْتُ عِيسَى شَابًّا أَبْيَضَ جَعْدَ الرَّأْسِ، حَدِيدَ البَصَرِ، مُبَطَّنَ الخَلقِ"[lxiv]"رَجُلاً مَرْبُوعًا[lxv] مَرْبُوعَ الْخَلْقِ، إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبِطَ الرَّأْسِ"[lxvi]" كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ[lxvii]" وَرَأَيْتُ مُوسَى أَسْحَمَ آدَمَ[lxviii] كَثِيرَ الشَّعْرِ، شَدِيدَ الخَلقِ. وَنَظَرْتُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَلا أَنْظُرُ إِلَى إِرْبٍ مِنْ آرَابِهِ[lxix] إِلا نَظَرْتُ إِلَيْهِ مِنِّي، كَأَنَّهُ صَاحِبُكُمْ"[lxx]" فَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ"[lxxi]" فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام: سَلِّمْ عَلَى مَالِكٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ"[lxxii].
" فَمَا زَايَلا ظَهْرَ البُرَاقِ حَتَّى رَأَيَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَوَعْدَ الآخِرَةِ أَجْمَعَ، ثُمَّ رَجَعَا عَوْدَهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا"[lxxiii].(1/12)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى؛ وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يُنْتَهَ مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنْ الأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يُنْتَهَ مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ: { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [lxxiv] قَالَ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثًا؛ وَأُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا المُقْحِمَاتُ"[lxxv].
" ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ[lxxvi] ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ"[lxxvii].
إخبارُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَ مكةَ بحادثةِ الإسراءِ والمعراج وما رأى فيها.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ[lxxviii] بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ" فَقَعَدَ مُعْتَزِلاً حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نَعَمْ" قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ:" إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ" قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ:" إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ" قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا، قَالَ:" نَعَمْ".(1/13)
قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ.
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ، تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نَعَمْ" فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ، وَجَاءوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا.
قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ" قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ:" إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ" قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا. قَالَ:" نَعَمْ".
قَالَ:" فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا لِلْكَذِبِ زَعَمَ!
قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ[lxxix] لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ[lxxx] عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ، فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ، وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ، فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ"
قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ[lxxxi].(1/14)
وَعَنْه أيضًا قَالَ:" أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَحَدَّثَهُمْ بِمَسِيرِهِ، وَبِعَلامَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَبِعِيرِهِمْ، فَقَالَ نَاسٌ: نَحْنُ نُصَدِّقُ مُحَمَّدًا بِمَا يَقُولُ! فَارْتَدُّوا كُفَّارًا فَضَرَبَ اللَّهُ أَعْنَاقَهُمْ مَعَ أَبِي جَهْلٍ"[lxxxii].
وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ، قُمْتُ فِي الحِجْرِ، فَجَلا اللَّهُ[lxxxiii] لِي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ[lxxxiv] أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ"[lxxxv].(1/15)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِى الله عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الحِجْرِ، وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ[lxxxvi] كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءةَ[lxxxvii] وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلام قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ؛ يَعْنِي: نَفْسَهُ، فَحَانَتْ الصَّلاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ الصَّلاةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلامِ"[lxxxviii].
عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" عُرِضَ عَلَيَّ الأَنْبِيَاءُ، فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنْ الرِّجَالِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءةَ وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلام، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ[lxxxix] وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ، يَعْنِي: نَفْسَهُ، وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلام، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دَحْيَةُ"[xc].(1/16)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" أَتَيْتُ[xci] عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ[xcii]، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ"[xciii].
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ"[xciv].
المبحث الثاني: تحليل النصوص
1- كان الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسط شدة أذى قريش على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيذانًا ببلوغه عليه السلام تلك الدرجة العالية الرفيعة التي بلغها؛ وهي درجة العبودية:" أَسْرَى بِعَبْدِهِ" فكان الإسراء به والعروج إلى السماء، وبلوغ المنزلة العالية؛ { وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [xcv] كل ذلك كان؛ تأكيدًا لما يريده الله تعالى لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الارتقاء على طريق نوح عليه السلام وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم، ممن سما عليهم وارتقى، حتى بلغ ما ذكرت الآيات؛ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.(1/17)
وتأتي آيات الإسراء من سورة الإسراء؛ لتبين أن الله تعالى أراد أن يري نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآيات الكثيرة، في تلك الرحلة القصيرة { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [xcvi] وهي سُنَّة من سننه سبحانه مع أنبيائه ورسله { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [xcvii] فتكون المعجزات تسرية، يُري هذا الرسول" لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا" ويختار هذا أيضًا:" وَأَنَا اخْتَرْتُكَ" تطيبًا لخاطرهم، وتأنيسًا لنفوسهم، وإزالةً لوحشتهم، عليهم الصلاة والسلام.
والعبودية الواردة في هذا الموطن، هي عينها التي تحدثت عنها الآيات بعد قليل؛ عن عبودية نوح عليه السلام، وعبودية الفاتحين لبيت المقدس { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً } [xcviii].
فكأنها العبودية؛ يوم يسري الله بعبده، ويأتيه النبوة، ويفتح عليه فتوح العابدين، فيجوسون خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً، كأنها أسمى المنازل، وأرقى الدرجات.
" وتقرير صفة العبودية، وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر؛ وذلك كي لا تُنسى هذه الصفة، ولا يلتبس مقام العبودية، بمقام الألوهية، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام"[xcix].(1/18)
2- ووقعَ الإسْرَاءُ بالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" لَيْلاً" وَأَصْلُ السُّرَى، في لغةِ العربِ؛ السَّيرُ ليلاً؛[c] فالكلمةُ تحملُ معَهَا زَمَانَهَا، ولا تَحْتَاجُ إلى ذِكْرِهِ، ولكنَّ السياقَ يَنُصُّ عَلَى الليلِ" لَيْلاً" فيلقي ظلَ الليلِ الساكنِ، ويخيم جَوُّهُ السَّاجِي على النفسِ، وهي تَتَمَلَّى حركةَ الإسراءِ اللطيفةِ وتتابعُها"[ci] ويجيء الحديث فيضفي المعنى نفسه:" لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي" فيؤكدُ النَّصَّ القرآني" لَيْلاً" لتناسب الحركةَ الليلية، التي تتوافق مع ذكر العبد والعُبَّاد، إذ الليل ليل العابدين الذين { يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ } [cii].
" وقيل: إنَّ أسْرَى ليست من لفظة سَرَى يَسْري التي تعني السير ليلاً، وإنما هي من السَّرَاة، وهي الأرض الواسعة، وقوله: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى } [ciii] أي: ذهب به في سَرَاةٍ من الأرض، وسَرَاةُ كُلِّ شيء: أعلاه، ومنه السارية، السحابة التي تسري، والاسطوانة"[civ] وللكلام وجهة، وهي أنَّ الأرض المقدسة من حيث السعة أوسع من مكة المكرمة، كما كان الإسراء عُلوًا في المكان والمكانة، والله تعالى أعلم.
" وفضل السير بالليل على السير بالنهار معلوم، لما وقع من الإسراء بالليل، ولذلك كانت أكثر عبادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليلِ، وكان أكثر سفرهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليلِ"[cv].
3- " مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى" وقع الإسراءُ بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى، وكان بَدْؤه مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، مِنْ الحِجْرِ، وَانْتِهَاؤهُ بِبَيْتِ المَقْدِسِ.(1/19)
وكانت بلادنا المباركة وسائر بلاد الشام يومئذ؛ تقع تحت حكم روما[cvi] تستبد بالمقدسات، وتُصَيِّرها كَبَاءً للقاذورات[cvii]، وتعيشُ يهودُ في تلك المملكةِ حالةَ ضعفٍ واستكانةٍ، فلم تكن لهم صولةٌ ودولةٌ أوكيانٌ؛ قال هرقل:" إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلاَّ الْيَهُودُ، فَلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ"[cviii].
لكنَّا نجد القرآن الكريم، يقف طويلاً مع بني إسرائيل في رحلة الإسراء، فيذكر أنه وقع القضاء الرباني المحتم المفعول، أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ سَيُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، وَيَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا، وأنَّ الله سيبعثُ عَلَيْهِم عِبَادًا لَهُ، أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، فَيَجُوسُ العِبَادُ خِلاَلَ الدِّيَارِ، وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً، فيقف المسلمون عند هذه الآيات، يتأملونها، وينظرون في معانيها، ثم لا يجدون إلا أنْ يقولوا: { سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [cix].
فهاهم أوباش بني إسرائيل، في دولة لا ترى أنْ تسمي نفسها إلا" دولة إسرائيل" لتقابل النص القرآني { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ } [cx] يتخذون من الدول والقوى العالمية أولياء، فيؤكدوا النص القرآني { أَلاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً } [cxi].
ثم تتصدر دولتهم وبروتكولات جزاريهم، الإفساد في الأرض، فيوافقوا المعجزة القرآنية: { لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } [cxii] عبر أمر لم يكن معهودًا في سنن الكون، فأين هم من الناس، عَدَدًا، وعُدَدًا؟ لكن الله يقول { وَقَضَيْنَا } [cxiii].
وصار الإفساد { مَرَّتَيْنِ } [cxiv]:(1/20)
أُولاَهُمَا: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً } [cxv].
" فيعلون في الأرض المقدسة، ويصبح لهم فيها قوة وسلطان، فيفسدون فيها، فيبعث الله عليهم عبادًا له، أولي بأس شديد، يستبيحون الديار، ويجوسون خلالها؛ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً"[cxvi].
" ومعنى قوله: فَجَاسُوا أي: توسطوها وترددوا بينها، ويقارب ذلك جازوا وداسوا، وقيل: الجَوْسُ: طلب ذلك الشيء باستقصاء"[cxvii]
فأي شيء هذا الذي يطلبه العِبَادُ باستقصاء؟
إنه اليهود، أصحاب المخابئ والملاجئ، المولعون بالحصون المشيدة يحسبون { أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ } [cxviii] الذين لاَ يُقَاتِلُونَ { إِلاّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ } [cxix]، أصحاب خط بارليف، والحزام الأمني، والممر الآمن، والخط الأخضر، والأبواب متعددة المغاليق، للبيوت والمكاتب والمحال، وكل ما يتصل بهم.
أرأيت معنى: الجَوْسِ، ثم انظر إلى حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ترى ذلك بَيِّنًا واضحًا:" تُقَاتِلُكُمْ الْيَهُودُ، فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ"[cxx]"حَتَّى يَخْتَبِيَ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ[cxxi]" وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ[cxxii]": " يَا مُسْلِمُ"[cxxiii] يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ"[cxxiv]" إِلا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ"[cxxv] فكأنَّ هذا معنى الجوس والله تعالى أعلم.
وَالآخِرَةُ: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا } [cxxvi].(1/21)
وتعود بنو إسرائيل اليوم لإفساد المرة الآخرة، في صورة دولة البغي والعصابات المارقة؛ " إسرائيل" التي جاءت بالقتل والسفك والإرهاب، تذل أنوفًا عزيزة، وتهدم بيوتًا كريمة، وتغتصب الأرض، وتلغي وجود العرب والمسلمين وتصادره، وتبدل الأسماء والأوصاف، وتنشر اليتم في كل البيوت الصابرة، هذه الدولة المُتَبَّرَةِ" وليسلطن الله عليهم من يسومهم سؤء العذاب، تصديقًا لوعد الله القاطع، وفاقًا لسنته التي لا تتخلف، وإنَّ غدًا لناظره قريب"[cxxvii].
وتعبير القرآن الكريم يدل على أنَّ إفساد بني إسرائيل سيقع مرتين اثنتين فحسب؛ ذلك أنه سبحانه يقول: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا } [cxxviii] عن الأولى، وأما الثانية فقال: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } [cxxix].
وتقتضي قواعدُ العربيةِ وأُسُّ بيانها، أنْ يقالَ: الأولى، والآخرة، للأمر الذي لا ثالث له، أمَّا حين يكون للأمر امتدادٌ لثالثٍ ورابعٍ، فيقال: الأولى، والثانية، والثالثة، والآخرة، إن لم يكن خامسة، وهكذا.
وهذا الأمر معروف معلوم، لكل مختص بالعربية وأساليب بيانها، فلذلك قال سبحانه: الأولى والآخرة، والله تعالى أعلم.
وفي دعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ؛ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ؛ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ"[cxxx] فلا شيء بعد الآخر.(1/22)
وَتُخْرَقُ لِوَعْدِ الآخِرَةِ السنن الكونية، والعادات البشرية، فيقوى الضعفاء فجأة، بقدر الله وقضائه المفعول { ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } [cxxxi] فَتَرَى لأوباشِ يهودِ قوةً وكَرَّةً، بعد أنْ نزعَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلاحَهُم، وجرَّدَهُم من الحَلْقَةِ، فركبوا براذعَ الحميرِ، وحُرِّمَتْ عليهم صَهْوَةُ الخَيْلِ أنْ يَمْتَطُوهَا، وَنَفَاهُم فَيْ الأرْضِ { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا } [cxxxii] وَ { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا } [cxxxiii] { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ } [cxxxiv].
وَجَاءَ" وَعْدُ الآخِرَةِ" فترى هجرتهم بالملايين { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } [cxxxv]" واللَّفِيْفُ: ما اجتمع من الناس من قبائل شتى"[cxxxvi] فتأمل اللغةَ وانظر النص القرآني، وتَبَصَّر في دولة إسرائيل، وقل: { سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [cxxxvii].
فكيف جاءوا من قبائل شتى" لَفِيفًا" من جميع أجناس الأرض، وبقاعها، وألوانها، إنه" وَعْدُ الآخِرَةِ"!!
وتمدهم الأمم والشعوب بالأموال مداً، لا عدًا يُعدُّ، ولا إحصاءً يحصى، فترى { وَقَضَيْنَا } [cxxxviii] وعدًا محققًا { وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [cxxxix].
ويكون المدد بالمال والرجال، عدة النفير، ويسمى جيشهم" الجيش الذي لا يقهر"[cxl] فصاروا { أَكْثَرَ نَفيرًا } [cxli] أكثر من كل الناس، في كل بقاع الأرض، مع قلة عددهم بالنسبة للأمم، وقصر عمرهم بالنظر إلى الدول.(1/23)
ثم يتركهم القدر الرباني والقضاء العدل لأنفسهم، { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [cxlii] فَتُحَرَّفُ التوراةُ، ويُسَبُّ اللهُ باقذعِ السُّبَابِ، { وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا } [cxliii] وتجري الربا في دمائهم، ويغيرون حكم الله في الزناة، فينشرون العهر والزنا والبغاء في أرجاء الأرض، ويوقدون الحروب ويستثمروها { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا } [cxliv] { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءوا السُّوءى } [cxlv].
{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا } [cxlvi] فكان وعدًا مع جند الله، بسَمْت جُنْدِه الأوئل وصِفَتِهم: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً } [cxlvii].
" لِيَسُوءوا وُجُوهَكُمْ" وهي الصورة التي يعرفها كل من رأي يهود في أعقاب سَرِيَّةٍ مقاتلةٍ يوفقها الله، فَتَرَى السُّوءَ والحَسْرَةَ والمَسْكَنَةَ على وجوه قادتهم وجندهم، بصورة تنطق بقوله تعالى: " لِيَسُوءوا وُجُوهَكُمْ".(1/24)
وتأتي البشارة المهمة في "وَعْدِ الآخِرَةِ"، فقد كانت بنو إسرائيل، ترغب أنْ يكون علوها الكبير بهدم المسجد الأقصى، فيأتي النص القرآني ليقول: { وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [cxlviii] على الكمال والتمام، وسلامة بيت الله من إيجافهم" كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ" بل وتبشر الآيات أنَّ الهدم والتدمير سيكون لدولة بني إسرائيل، لا للمسجد بفضل الله ومنته { وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا } [cxlix] " والتَّبْرُ: الكسر والإهلاك { إِنَّ هَؤُلاَءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ } [cl]" فتكسر الحصون المشيدة وتحطم، ويهلك المجرمون المفسدون في الأرض.
فهل يملك نص من النصوص، أن يصور هذه المعجزة كما جاءت في نص الإسراء هنا؟ إنها معجزة القرآن؛ واضحة بَيِّنة، أكثر من أي معجزة مضت، فمن أين كان يقع في تصور العرب والمسلمين، أن شذاذ الآفاق، وقطاع الطريق، سيصير لهم دولة ونفير، وجيش وتقتيل، يفسد في الأرض، من أين كان يقع هذا في خيال الناس؟
فإن كان قد وقع، على قدر الله وقضائه كما وصفت الآيات، فإن بقية الخبر واقعة، لكن للمعجزة جند ورجال، اختصهم الله بالعبودية لنفسه { عِبَادًا لَنَا } [cli] فلا تكن كالذين قالوا: { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [clii]
4- وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مُضْطَجِعًا بَيْنَ النَّائِمِ وَاليَقْظَانِ" بَيَّنَتْهُ روايةُ البخاريِّ الأخرى" وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ" " فقلبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم واليقظة سواءٌ، وعينه أيضًا لم يكن النوم يتمكن منها"[cliii] فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"بَيْنَ النَّائِمِ وَاليَقْظَانِ" محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق استمر في يقظته"[cliv]صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/25)
وقد كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِى الله عَنْه يَقُولُ: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [clv] قَالَ: شَيْءٌ أُرِيَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَةِ، رَآهُ بِعَيْنِهِ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ"[clvi].
5- وكان الإسراء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على الهدي الذي كان عليه الأنبياء من قبل " أُتِيتُ بِالبُرَاقِ"" وهو مشتق من البريق، فقد جاء في لونه أنه أبيض، أو من البَرْقِ، لأنه وصفه بسرعة السير"[clvii]" مُلجَمًا مُسْرَجًا، فَرَكِبْتُهُ، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، قَالَ: فَارْفَضَّ عَرَقًا، حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالحَلقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِياءُ" فقد كان"البُرَاقُ مُعَدًّا لركوبِ الأنبياءِ"[clviii].
"وكانتْ القدرةُ الربانيةُ صالحةً لأن يصعد بنفسه من غير بُراق، ولكن ركوب البُرَاقِ كان زيادة في تشريفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماشٍ، والراكب أعز من الماشي وأكرم، والحكمة في الإسراء به راكبا مع القدرة على طَي الأرض له، إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسًا له بالعادة في مقام خرق العادة، لأنَّ العادة جَرَتْ بأنَّ المَلِكَ إذا استدعى مَنْ يَخْتَصُّ به، يبعث إليه بما يَرْكَبُه، وترك تسمية سير البُرَاقِ طيرانًا، لأن الله أكرم عبده بتسهيل الطريق له، حتى قطع المسافة الطويلة في الزمن اليسير، دون أن يخرج بذلك عن اسم السفر"[clix].(1/26)
ولعل اسْتِصْعَابَ البُرَاقِ ركوبَ النبي محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه؛ شبيه رجفة الجبل؛ يومَ صَعِدَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ:" اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ[clx]"فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب[clxi] ولا أدل على ذلك من حُبِّ أحُدٍ نبيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلكَ رَجَفَ به، فكم قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أحد:"هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ!"[clxii] والله تعالى أعلم.
6- " فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى، فَقِيلَ: مَا أَبْكَاكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ هَذَا الغُلامُ الَّذِي بُعِثَ بَعْدِي، يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي!".
" إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل الرحمة في قلوب غيرهم، لذلك بكى رحمة لأمته، وقال العلماء: لم يكن بكاء موسى حسدًا، معاذ الله، فإنَّ الحسدَ في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى ، بل كان أسفًا على ما فاته من الأجر الذي ترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره، لأنَّ لكل نبيٍّ مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد دون من اتبع نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة"[clxiii] "إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل الرحمة في قلوب غيرهم , لذلك بكى رحمة لأمته"[clxiv].
7- " ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِالنَّاسِ مِنْكَ! عَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ المُعَالَجَةِ".(1/27)
" وقع من موسى عليه السلام من العناية بهذه الأمة من أمر الصلاة ما لم يقع لغيره، ولعل الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر الصلاة، لكون أمة موسى كُلِّفَتْ من الصلواتِ بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد من مثل ذلك"[clxv].
ودلالة الخبر على الاستفادة من تجارب الأمم واضحة، فإنَّ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يترك رأي موسى عليه السلام، وإنما رجع لقوله، مستشيرًا جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"" فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلا بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ".
" وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها وإن لم يستشر الناصح في ذلك دين، والتجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه عالج الناس قبله وجربهم"[clxvi].
وقبول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استشارة موسى عليه السلام، دليل على فضل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنه رجع لقوله وهو دونه في الفضل.
8- " ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ المُنْتَهَى، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَأَلتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ: أَمَّا البَاطِنَانِ فَفِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: النِّيلُ وَالفُرَاتُ"" فَإِذَا هُوَ فِي السَّماءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ، فَقَالَ: مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا".(1/28)
قال النووي: في هذا الحديث أن أصل النِّيْل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد"[clxvii] فالأمر دين، والتسليم للخبر خير من إعمال العقل فيه، ويشهد لكلام النووي رحمه الله تعالى قوله في الحديث:" عُنْصُرُهُمَا" أي: أصل النهرين من الجنة"والعُنْصُرُ: الأصل"[clxviii] والله تعالى أعلم.
9- "فَجَاءنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ""وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ""فَقَالَ: اشْرَبْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ"" فَقَالَ جِبْرِيلُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْتَ الفِطْرَةَ""الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ"" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ"" أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ".
" الفِطْرَةُ: دين الإسلام، وأصل الفطر: الشَّقُ { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [clxix] أي: ما رَكَزَ فيه من قوته على معرفة الإيمان" ويحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة، لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه[clxx]" ويحتمل من قولهم: فطرت الشاة، أي: حلبتها بأُصبعين"[clxxi] والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره، لكونه كان مألوفا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة[clxxii] والصواب أن يقال: ذلك توفيق الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/29)
وقوله:" أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ"" من الغواية المترتبة على شربها، بناء على أنه لو شربها لأحل للأمة شربها؛ فوقعوا في ضررها وشرها، وفيه إيماء إلى أن استقامة المقتدي من النبي والعالم والسلطان ونحوهم، سبب لاستقامة أتباعهم، لأنهم بمنزلة القلب للأعضاء"[clxxiii].
10- " فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ". " فيه استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء"[clxxiv]"فكأنهم كانوا أعلموا أنه سيعرج به فكانوا مترقبين لذلك[clxxv].
11- " فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ، عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، وَالأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى".
هذا دليل" شفقة الوالد على ولده، وسروره بحسن حاله، وحزنه وبكائه لسوء حاله"[clxxvi]وَالأَسْوِدَةُ: جمع قلة لسواد، وهو الشخص، لأنه يُرى من بعيد أسود"[clxxvii].(1/30)
وكان نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يشتد عليه الحزن والألم، حتى آنسه الله بقولهِ: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [clxxviii]" وبَخْعُ النفسِ" قتلها غَمًّا، فالآية حث على ترك التأسف"[clxxix]على الكفار أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" وهذا يصور مدى ما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعاني من تكذيبهم، وهو يوقن بما ينتظرهم بعد التكذيب، فتذوب نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم، وهم أهله وعشيرته، ويضيق صدره، فربه سبحانه يرأف به ويهون الأمر عليه"[clxxx] { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [clxxxi]" فالله يعزي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسليه، بتقرير هذه الحقيقة له، حتى يستقر قلبه الكبير الرحيم المشفق على قومه مما يراه من ضلالهم، ومصيرهم المحتوم بعد هذا الضلال، وحتى يدع ما يجيش في قلبه البشري من حرص على هداهم"[clxxxii]فذلك بكاء آدم عليه السلام ونحيبه.(1/31)
12- " فَحَانَتْ الصَّلاةُ فأَمَمْتُهُمْ". { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } [clxxxiii] وغيره الكفر المردود، مهما كانت التسميات؛ دل على هذا قول الله تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [clxxxiv] وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } [clxxxv] وهو ما قرره القرآن الكريم بقوله: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } [clxxxvi] وهي وصية إبراهيم عليه السلام لبنيه { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [clxxxvii] ويعيد القرآن المشهد نفسه مع يعقوب: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [clxxxviii] فكانت وصية يعقوب آخر الكلمات ليوسف عليه السلام، يدعو بها ربه سبحانه: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [clxxxix]وجاءت شهادةُ عيسى على الحواريين تهتف بنفس الكلمات: { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا(1/32)
مُسْلِمُونَ } [cxc].
" والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، رحلة مختارة من اللطيف الخبير، تربط عقيدة التوحيد الكبرى، من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين، وتربط الأماكن المقدسة لدين التوحيد برباط واحد، وكأنما أريد بهذه الرحلة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعًا، فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتشمل آمادًا وآفاقًا أوسع من الزمان والمكان؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى"[cxci].
" وفي علو منزلة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتفاعه فوق منازل سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وبلوغه حيث بلغ من ملكوت السموات دليل على علو درجته وإبانة فضله"[cxcii].
13- " لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ"" فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ".(1/33)
فَكُرِبْتُ كُرْبَةً: هو الغَمُّ أو الهَمُّ أو الشَّيء، قال الجوهري: الكُرْبَةُ: الغَمُّ الذي يأخذ بالنفس، وكذلك الكَرْبُ، وكَرَبَهُ الغَمُّ إذا اشتَدَ عليه"[cxciii] وهو أمر يصيب الناس في مواقف الشَّدَّةِ، وقد وقع لسيدنا موسى عليه السلام شيء من هذا حين تحدى فرعون بما آتاه الله من آيات، وقد قَصَّ القرآن الكريم طرفًا من ذلك، قال: { قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى } [cxciv]، فهذا الذي وقع لموسى عليه السلام، هو عينه الذي وقع لسيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكما قال الله تعالى لموسى عليه السلام:" قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى" جَلا لمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ المَقْدِسِ وَكَشَفَهُ وَأَظْهَرَهُ [cxcv]" فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ".
ولله تعالى سنة مع رسله والدعاة لدينه { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } [cxcvi].
لكنها الجاهليةُ، مواقفها مُعَدَّة قبل السماع" عَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ" فلم يكونوا ليصدقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا لأنه يكذب عليهم حاشاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد عرفوا صدقه، وجاء بعلامات بيت المقدس على الوجه الذي يعرفون، ولكن لأنها الجاهلية، لا تريد الحق، ولا ترغب به.
قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فَذَهبْتُ أَنْعَتُ"(1/34)
فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ، وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ.
إذًا؛ فلماذا التكذيب؟ وَلِمَ يبلغُ الأذى هذا الحَدَّ؟" فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا لِلْكَذِبِ، زَعَمَ!".
ويقول بعض من آمن من قبل:" نَحْنُ نُصَدِّقُ مُحَمَّدًا بِمَا يَقُولُ! فَارْتَدُّوا كُفَّارًا فَضَرَبَ اللَّهُ أَعْنَاقَهُمْ مَعَ أَبِي جَهْلٍ".
وقد يبدو للجاهلية أنْ تسمع، وأنْ تطلب الأدلة، نعم قد تفعل هذا، فيظن الكرام أنها على الجادة فيما تقول: فيذهب في القول، ويطيل في التفصيل، ويأتي بالأدلة، ثم يجد فجأة جوابًا واحدًا، لدى الجاهلية في كل زمان، يتصدر وسائل الإعلام، وطرائق البث، في كل الأوقات:" نَحْنُ نُصَدِّقُ مُحَمَّدًا بِمَا يَقُولُ!!".
وفي هؤلاء المكذبين ممن ارتدوا عن دينهم تكذيبًا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَنْ كان على شركه فازداد تكذيبًا، نزل قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [cxcvii] فما جعلنا رؤياك التي أريناك ليلة أسرينا بك من مكة إلى بيت المقدس، إلا فتنة للناس الذين ارتدوا عن الإسلام، لما اخبروا بالرؤيا التي رآها عليه الصلاة والسلام، وللمشركين من أهل مكة الذين ازدادوا بسماعهم ذلك من رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تماديًا في غيهم وكفرًا إلى كفرهم"[cxcviii].
14- وكان الإسراء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بروحه وجسده.(1/35)
" وهذا ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من الإسراء بجسده وروحه، يقظة إلى بيت المقدس ثم السماوات، وهو الحق والصواب، لا يجوز العدول عنه، ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة، ولا مقتضى لذلك إلا مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة، عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء، ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط، وأن رؤيا الأنبياء حق، لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند إخباره لهم بذلك، حتى ارتد من ارتد ممن لم يشرح بالإيمان صدرًا، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد، ولا ينكر ذلك أحد"[cxcix].
الخاتمة
أَحْمَدُكَ رَبِّي" لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"[cc]" اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ"[cci].
" اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"[ccii] أمَّا بعد.
فقد كانت الدراسة في باب عزيز على كل مسلم، باب إعطاء نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أعطي الأنبياء من قبل وزيادة.
ومما يزيد البحث تشويقًا، تحدثه عن المسجد الأقصى، في لحظة تكاد تكون من أكثر لحظات ليل أمتنا عَتَمَةً، فهل يكون البحث تحريضًا على الجهاد لتخليص المسجد المقدس من أيدي أكثر أهل الأرض خبثًا ومكرًا؟ آمل ذلك وأدعو الله أن يحققه.
وقد يعد من نتائج هذه الدراسة، تأكيد قول ابن المبارك" في صحيح الحديث شغل عن سقيمه"[cciii] فهذا خبر الإسراء والمعراج، بصورته التامة، بعيدًا عن الضعيف والموضوع، وفيه غنية لكل طالب.(1/36)
ولم يوفق الباحث للوقوف على خبر يذكر تأريخًا معتمدًا مرضيًا حسب قواعد أهل الحديث يؤرخ للإسراء والمعراج، فلذلك أعرض عن كل ما ورد، والعبرة لا تعتمد في الخبر على تأريخه.
ومن التوصيات التي يوصي بها الباحث:
1. ضرورة اعتماد منهج المحدثين في السيرة النبوية، ف" إنَّ تنقية أخبار السيرة النبوية من الأقوال التالفة، والروايات المنكرة، أمر واجب لم يتحقق حصوله على الوجه التام المطلوب بعد"[cciv].
2. اعتماد طريقة رواية أحاديث السيرة النبوية في متن واحد، مع مراعاة قواعد أهل الحديث، فتخرج الروايات، وتعزى إلى مصادرها الأصيلة، ورواتها من الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم.
3. عدم الإفراط في التحليل والاستنباط، ويكفي ما أورده السابقون، مع البناء عليه، فإنَّ تحميل النص فوق ما تحتمله ألفاظه وكلماته لا يصح ولا يليق.
وفي الختام أسأله سبحانه أن يتقبله في ميزان الحسنات، وصَلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/37)