بسم الله الرحمن الرحيم
القَوَاعِدُ الحِسَان
من كلام شيخ الإسلام
أحمد ابن تيمية
رحمه الله تعالى
جمعها ورتّبها واستخرج أمثلتها:
د. محمّد بن عبد العزيز المسند
موقع فضيلة الشيخ / محمد بن عبد العزيز المسند
http://islamlight.net/almesnad/index.php
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
المقدّمة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فإنّ منزلة شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لا تخفى على أحد ممن له أدنى أثارة من علم، كيف وقد أجمع المنصفون من أهل العلم على جلالة قدره، وعلوّ منزلته، وأنّ الأمّة لم تر مثله بعده، ولقد منّ الله عليّ بقراءة جلّ كتبه المطبوعة إبّان تحضيري لرسالة الدكتوراه في اختيارات الشيخ في التفسير، وقد لفت انتباهي حرص الشيخ ـ رحمه الله ـ على إيراد القواعد العامة في سائر الفنون، وردّ الجزئيات إليها، في مسلك علمي راق، وقد أبان عن ذلك بقوله: " لا بدّ أن يكون مع الإنسان أصول كليّة، تُردّ إليها الجزئيات، ليتكلّم بعلم وعدل "(1).
وقد كنت أحرص على تسجيل هذه القواعد والأصول، للانتفاع بها، فاجتمع لديّ عدد لا بأس به منها، ولمّا كانت حاجة العلماء وطلاب العلم إلى هذه القواعد جدّ ماسّة؛ رأيت إخراجها في هذا السَّفر ليعمّ الانتفاع بها، وقد قمت بتصنيفها إلى ما يلي:
? قواعد عقدية.
? قواعد تفسيريّة
? قواعد حديثية.
? قواعد لغوية.
? قواعد أصولية.
? قواعد فقهية.
? قواعد عامة.
أمّا منهجي في هذا الجمع؛ فإنّي أذكر القاعدة أوّلاً، ثمّ أذكر مثالاً عليها من كلام الشيخ ـ إمّا بنصّه، وإمّا بالمعنى ـ يبيّن سبب إيرادها.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 19/ 203.(1/1)
هذا، وأسأل المولى ـ عزّ وجلّ ـ التوفيق والسداد، والقبول، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول، وصلّى الله على نبيّنا محمّد.
أولاً: قواعد عقدية:
القاعدة الأولى: ( من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع؛ فهو كافر بعد قيام الحجّة عليه )(1).
هذه القاعدة أوردها الشيخ ـ رحمه الله ـ في جواب له عن سؤال حول إنكار شفاعة النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ والاستغاثة به، وقول السائل في ختام سؤاله: " وإذا قام الدليل من الكتاب والسنّة، فما يجب على من خالف ذلك؟ ".
وقد فصّل الشيخ في جوابه تفصيلاً جيّداً، أزال به الالتباس، وكشف به ما قد يخفى على كثير من الناس، فرحم الله الشيخ رحمة واسعة، وجمعنا وإياه مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين في دار كرامته.
القاعدة الثانية: ( لا يزول الإيمان المتعيّن بالشكّ، ولا يُباح الدم المعصوم بالشكّ )(2).
وقد ذكر الشيخ مثالاً على ذلك: من سبّ أبا هاشميّ أو جدّه، فلا يُجعل ذلك سبّاً للنبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فإنّ اللفظ ـ كما يقول الشيخ ـ ليس ظاهراً في ذلك؛ إذ الجدّ المطلق هو أبو الأب، وإذا سمّي العبد جدّاً فأجداده كثيرة، فلا يتعيّن واحد، وسبّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كفر يوجب القتل، فلا يزول الإيمان المتعيّن بالشكّ، ولا يّباح الدم المعصوم بالشكّ، لا سيّما والغالب من حال المسلم هو أن لا يقصد النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ، فلا لفظه ولا حاله يقتضي ذلك، ولا يُقبل عليه قول من ادّعى أنّه قصد الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بلا حجّة.
القاعدة الثالثة: ( الواحد المعيّن لا يكفر إلا بعد قيام الحجّة التي يكفر تاركها )(3).
__________
(1) ينظر: مجموع الفتاوى: 1/ 109.
(2) مجموع الفتاوى: 34/ 136.
(3) مجموع الفتاوى: 2/ 352.(1/2)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض ردّه على قول بعض المتصوفّة: "التوحيد لا يعرفه إلا الواحد، ولا تصحّ العبارة عن الواحد، وذلك أنّه لا يُعبّر عنه إلا بغيره، ومن أثبت غيراً فلا توحيد له "!.
فأجاب الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ: " وقوله: لا يُعبّر عنه إلا بغير.. يُقال له ( أوّلا): التعبير عن التوحيد يكون بالكلام، والله يعبّر عن توحيده بكلامه، فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته؛ لا يُطلق عليه عند السلف والأئمّة القول بأنّه الله، لأنّ لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره، وصفات الله لا تباينه. ويراد به ما لم يكن إيّاه، وصفه الله ليست إيّاه، ففي أحد الاصطلاحين يُقال إنّه غيره. وفي الاصطلاح الآخر لا يُقال إنّه غيره.
فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقروناً ببيان المراد، لئلا يقول المبتدع: إذا كانت صفة الله غيره؛ فكلّ ما كان غير الله فهو مخلوق. فيتوسّل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به، بل مخلوقة في غيره، فإنّ هذا فيه من تعطيل صفات الخالق، وجحد كماله، ما هو من أعظم الإلحاد، وهو قول الجهميّة الذين كفّرهم السلف والأئمّة تكفيراً مطلقاً، وإن كان الواحد المعيّن لا يكفر إلا بعد قيام الحجّة التي يكفر تاركها".
القاعدة الرابعة: ( لا يلزم إذا كان القول كفراً أن يكفر كلّ من قاله مع الجهل والتأويل )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ في معرض حديثه عن الردّ على أهل البدع، ووجوب سلوك سبيل الشفقة والرحمة في الردّ عليهم، وليس التشفّي والانتقام كما هو حال بعض إخواننا المنتسبين للسنّة ـ وفقنا الله وإيّاهم لما يحبّ ويرضى ـ.
__________
(1) منهاج السنّة النبويّة: 3/ 60.(1/3)
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: " وهكذا الردّ على أهل البدع من الرافضة وغيرهم، إن لم يقصد فيه بيان الحقّ، وهدى الخلق، ورحمتهم، والإحسان إليهم؛ لم يكن عمله صالحاً. وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية، كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها. وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيراً، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان، لا للتشفّي والانتقام، كما هجر النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أصحابه الثلاثة الذين خُلّفوا لمّا جاء المتخلّفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون. وهؤلاء الثلاثة صدقوا، وعوقبوا بالهجر، ثمّ تاب الله عليهم ببركة الصدق. وهذا مبنيّ على مسألتين:
? إحداهما: أنّ الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقوله الخوارج، بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه كما يقوله المعتزلة.(1/4)
? الثانية: أنّ المتأوّل الذي قصد متابعة الرسول، لا يكفر، ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ. وهذا مشهور عند الناس في المسائل العلميّة. وأمّا مسائل العقائد؛ فكثير من الناس كفّروا المخطئين فيها. وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يُعرف عن أحد من أئمّة المسلمين. وإنّما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة ويكفّرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهميّة. ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمّة، كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقد يسلكون في التكفير أبعد من ذلك، فمنهم من يكفّر أهل البدع مطلقاً، ثمّ يجعل كلّ من خرج عمّا هو عليه: من أهل البدع. وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة والجهميّة. وهذا القول أيضاً لا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمّة الأربعة، ولا غيرهم. وليس فيهم من كفّر كلّ مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد ينقل عن أحدهم أنّه كفّر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أنّ هذا القول كفر، ليُحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفراً؛ أن يكفر كلّ من قاله مع الجهل والتأويل، فإنّ ثبوت الكفر في حقّ الشخص المعيّن كثبوت الوعيد في الآخرة في حقّه، وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه ".
القاعدة الخامسة: ( التعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن، أولى من التعبير عنها بغيرها )(1).
__________
(1) النبوّات: ص333- 335 ( باختصار وتصرّف يسير ).(1/5)
وقد علّل الشيخ ذلك بقوله: " فإنّ ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها، وهي تنزيل من حكيم حميد، والأمّة متّفقة عليها، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم، وفيها من الحِكَم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه. والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع، ثمّ قد يجعل اللفظ حجّة بمجرّده، وليس هو قول الرسول الصادق المصدوق، وقد يضطرب في معناه، وهذا أمر يعرفه من جرّبه من كلام الناس.. ، ومتى ذُكِرَتْ ألفاظ القرآن والحديث، وبُيّن معناها بياناً شافياً؛ فإنّها تنظم جميع ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة، وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس، وهي محفوظة ممّا دخل في كلام الناس من الباطل كما قال: { إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون } [الحجر: 9 ]، وقال تعالى: { وإنّه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }[فصلت: 41، 42].. ".
وقد ذكر الشيخ مثالاً على ذلك: لفظ العصمة، قال: " ولفظ العصمة في القرآن جاء في قوله: { والله يعصمك من الناس }[المائدة: 67]، أي: من أذاهم، فمعنى هذا اللفظ في القرآن: هو الذي يحفظه الله عن الكذب: خطأ وعمداً.. وقد يكون معصوماً على لغة القرآن بمعنى أنّ الله عصمه من الشياطين؛ شياطين الإنس والجنّ، وأن يغيّروا ما بُعث به، أو يمنعوه عن تبليغه، فلا يكتم ولا يكذب، كما قال تعالى: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم وأحصى كلّ شيء عدداً }[الجنّ: 26- 28 ]، فهو يسلك الوحي من بين يدي الرسول ومن خلفه، وهذا في معنى عصمته من الناس، فهو المؤيّد المعصوم بما يحفظه الله من الإنس والجنّ حتّى يبلّغ رسالات ربّه كما أمر، فلا يكون فيها كذب ولا كتمان ".(1/6)
القاعدة السادسة: ( الألفاظ المجملة التي قد يفهم منها معنى فاسد، إذا لم يرد في كلام الشارع؛ لم نكن محتاجين إلى إطلاقها )(1).
وقد ضرب الشيخ لذلك مثلاً لفظ العشق..
قال ـ رحمه الله ـ: " وقد أطلق بعضهم على الله أنّه يَعشق ويُعشق، وأراد به أنّه يُحِبّ ويُحَبّ محبّة تامّة ... والمعنى فيه نزاع، كما يُفهم من العشق المحبّة الفاسدة، والتصوّر الفاسد، ونحو ذلك ممّا يجب تنزيه الله عنه، فإنّ الذين قالوا لا يجوز وصفه بأنّه يعشق منهم من قال: لأنّ العشق هو الإفراط في المحبة، والله تعالى لا إفراط في حبّه. ومنهم من قال: لأنّ العشق لا يكون إلا مع فساد التصوّر للمعشوق، وإلا فمع صحّة التصوّر لا يحصل إفراط في الحبّ، وهذا المعنى لا يُمدح فاعله، فإنّ من تصوّر في الله ما هو منزّه عنه فهو مذموم على تصوّره ولوازم تصوّره. ومنهم من قال: لأنّ الشرع لم يرد بهذا اللفظ، وفيه إبهام وإيهام، فلا يطلق، وهذا أقرب. وآخرون ينكرون محبّة الله وأن يُحِبّ ويُحَبّ، كالمعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الأشعريّة وغيرهم، فهؤلاء يكون الكلام معهم في كونه يُحِبّ ويُحَبّ كما نطق به الكتاب والسنّة في مثل قوله: { فسوف يأتي اللهُ بقومٍ يحبّهم ويحبّونه }[المائدة: 57 ]، لا في لفظ العشق ".
القاعدة السابعة: ( كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسّة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيّدت بمعنى من المعاني؛ دلّت على المقارنة في ذلك المعنى )(2).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض حديثه عن صفات الله ـ عزّ وجلّ ـ وكيف الجمع بين كون الله مستوياً على عرشه، بائناً من خلقه، وبين كونه معهم أينما كانوا..
__________
(1) النبوّات: 136.
(2) مجموع الفتاوى: 5/ 103.(1/7)
قال ـ رحمه الله ـ: " وجماع الأمر في ذلك: أنّ الكتاب والسنّة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبّر كتاب الله وسنّة نبيّه، وقصد اتّباع الحقّ، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته.
ولا يحسب الحاسب أنّ شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبتّة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنّة من أنّ الله فوق العرش، يخالفه الظاهر من قوله: { وهو معكم أينما كنتم }[الحديد: 4 ]، وقوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة؛ فإنّ الله قِبَل وجهه "(1)، ونحو ذلك، فإنّ هذا غلط، وذلك أنّ الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله: { هو الذي خلق السموات والأرض في ستّة أيّام ثمّ استوى
على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير }[الحديد: 4 ]، فأخبر أنّه فوق العرش يعلم كلّ شيء، وهو معنا أينما كنّا، كما قال النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في حديث الأوعال: " والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه "(2).
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في أبواب المساجد، باب حكّ البزاق باليد من المسجد: 1/ 159، رقم: 398، ومسلم في المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد: ص133، برقم: 50. وقد اقتصر الشيخ على جزء منه.
(2) أخرجه بتمامه: أحمد ( 1/ 206، 207 )، وأبو داود ( 4723 )، والترمذي ( 3320 )، وابن ماجه ( 193 ) وغيرهم. واختُلف في تصحيحه. انظر: الدر النضيد في تخريج كتاب التوحيد للعصيمي، وتخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للبهلال.(1/8)
وذلك أنّ كلمة ( مع ) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسّة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قُيّدت بمعنى من المعاني؛ دلّت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنّه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، أو النجم معنا. ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة.
ثمّ هذه المعيّة تختلف أحكامها بحسب الموارد؛ فلمّا قال: { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها }، إلى قوله: { وهو معكم أينما كنتم } دلّ ظاهر الخطاب على أنّ حكم هذه المعيّة ومقتضاها أنّه مطّلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم. وهذا معنى قول السلف: إنّه معهم بعلمه. وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. وكذلك في قوله: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم }، إلى قوله: { هو معهم أينما كانوا }[ المجادلة: 7]. ولمّا قال النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لصاحبه في الغار: " لا تحزن إنّ الله معنا " كان هذا أيضاً حقّاً على ظاهره، ودلّت الحال على أنّ حكم هذه المعيّة هنا: معيّة الاطلاع والنصر والتأييد.
وكذلك قوله تعالى: { إنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون }[النحل: 128]، وكذلك قوله لموسى وهارون: { إنّني معكما أسمع وأرى }[طه: 46 ]، هنا المعيّة على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن: النصر والتأييد.
وقد يدخل على صبيّ من يخيفه، فيبكي، فيشرف عليه أبوه من فوق السقف فيقول: لا تخف، أنا معك، أو أنا هنا، أو أنا حاضر، ونحو ذلك؛ ينبّهه على المعيّة الموجبة بحكم الحال دفع المكروه. ففرق بين معنى المعيّة وبين مقتضاها، وربّما صار مقتضاها من معناها، فيختلف باختلاف المواضع.(1/9)
فلفظ المعيّة قد استعمل في الكتاب والسنّة في مواضع، يقتضي في كلّ موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإمّا أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدلّ على قدر مشترك بين جميع مواردها ـ وإن امتاز كلّ موضع بخاصيّة ـ، فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الربّ ـ عزّ وجلّ ـ مختلطة بالخلق حتّى يقال قد صرفت عن ظاهرها ".
القاعدة الثامنة: ( الظواهر التي لا معارض لها، لا يجوز صرفها عن ظواهرها )(1).
ذكر الشيخ هذه القاعدة في معرض حديثه عن إثبات علوّ الله على خلقه، واستوائه على عرشه، ومباينته لخلقه..
قال ـ رحمه الله ـ بعد كلام طويل: " والمقصود هنا بيان أنّه مباين للعالم، خارج عنه، وهم [ أي نفاة العلوّ ] إنمّا ينفون ذلك بأنّه يستلزم أن يكون متحيّزاً: إمّا جسماً، وإمّا جوهراً منفرداً. وذلك أنّه إن كان ما يحاذي هذا الجانب من العرش غير ما يحاذي هذا الجانب؛ كان منقسماً، وكان جسماً. وإن لم يكن غيره؛ كان في الصغر بمنزلة الجوهر الفرد. وهذا لا يقوله عاقل.
فإذا قال لهم طوائف من المثبتة: يمكن أن يكون فوق العرش، ولا يقبل إثبات هذه المحاذاة ولا نفيها، لأنّ ذلك إنّما يكون أن لو كان متحيّزاً، فإذا لم يكن متحيّزاً؛ أمكن أن يكون فوق العالم، ولا يوصف بإثبات ذلك، ولا نفيه. وقالوا: إثبات العلوّ مع عدم المحاذاة والمسامتة غير معقول، أو معلوم الفساد.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 5/ 287.(1/10)
فيقال لهم: إثبات الوجود مع عدم المباينة والمحايثة، والدخول والخروج، أبعد عن العقل، وأبين فساداً في المعقول. وكلّ عاقل سليم الفطرة إذا عرضتَ عليه وجود موجود خارج العالم، غير محايث للعالم. ووجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه؛ تكون نفرة فطرته عن الثاني أعظم، وإن قدّر أن فطرته تقبل الثاني؛ فقبولها للأوّل أعظم، وحينئذ فما يذكره النفاة من إمكان وجود موجود لا داخل العالم ور خارجه، إمّا أن يكون مقبولاً، وإمّا أن لا يكون. فإن لم يكن مقبولاً؛ بطل أصل قولهم. وإن كان مقبولاً؛ فكلّما دلّ على ذلك؛ كانت دلالته على إمكان وجود موجود خارج العالم ليس بمتحيّز؛ أقوى وأظهر، فإنّه إذا ثبت أنّ هذا ممكن في العقل؛ فذاك أولى بالإمكان، وإذا كان ذلك ممكناً، لم يكن ما يذكرونه من الأدلّة على نفي التحيّز نافياً لعلوّه على العالم وارتفاعه على عرشه، فلا يكون لهم دليل على نفي ذلك، وهذا هو المطلوب.
فإذا بطل ما ينفون به ذلك؛ فمعلوم أنّ السمعيّات تدلّ على ذلك؛ إمّا دلالة قطعيّة، وإمّا ظاهرة، والظواهر التي لا معارض لها، لا يجوز صرفها عن ظواهرها، فكيف إذا قيل: إنّ العلوّ والمباينة معلوم بالفطرة والضرورة والأدلّة العقليّة النظريّة، كما هو مبسوط في موضعه..".
القاعدة التاسعة: ( لازم القول ليس بقول )(1).
ذكر الشيخ هذه القاعدة في معرض حديثه عن حديث النزول الإلهي إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، وحقيقة هذا النزول، والرد على من أنكر ذلك وتأوّله بحجّة أنّ ثلث الليل يختلف باختلاف البلاد.. الخ.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 5/ 477.(1/11)
قال ـ رحمه الله ـ: " فهؤلاء الذين يتخيّلون ما وصف رسول الله به ربّه أنّه مثل صفات أجسامهم؛ كلّهم ضالّون، ثمّ يصيرون قسمين: قسم علموا أنّذلك باطل، وظنّوا أنّ هذا ظاهر النصّ ومدلوله، وأنّ لا يُفهم منه معنى إلا ذلك، فصاروا إمّا أن يتأوّلوه تأويلاً يحرّفون به الكلم عن مواضعه. وإمّا أن يقولوا: لا يُفهم منه شيء، ويزعمون أنّ هذا مذهب السلف، ويقولون: إنّ قوله { وما يعلم تأويله إلا الله }[آل عمران: 7] يدلّ على أنّ معنى المتشابه لا يعلمه إلا الله، والحديث منه متشابه ـ كما في القرآن ـ وهذا من متشابه الحديث؛ فيلزمهم أن يكون الرسول الذي تكلّم بحديث النزول لم يدرِ هو ما يقول، ولا ما عني بكلامه، وهو المتكلّم به ابتداءً، فهل يجوز لعاقل أن يظنّ هذا بأحد عقلاء بني آدم، فضلاً عن الأنبياء، فضلاً عن أفضل الأوّلين والآخرين، وأعلم الخلق، وأفصح الخلق، وأنصح الخلق للخلق ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؟!! وهم مع ذلك يدّعون أنّهم أهل السنّة، وأنّ هذا القول الذي يصفون به الرسول وأمّته هو قول أهل السنّة.
ولا ريب أنّهم لم يتصوّروا حقيقة ما قالوه ولوازمه، ولو تصوّروا ذلك لعلموا أنّه يلزمهم ما هم من أقبح أقوال الكفّار غي الأنبياء، وهم لا يرتضون مقالة من ينتقص النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ولو تنقّصه أحد لاستحلّوا قتله، وهم مصيبون في استحلال قتل من يقدح في الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وقولهم يتضمّن أعظم القدح؛ لكن لم يعرفوا ذلك، ولازم القول ليس بقول، فإنّهم لو عرفوا هذا يلزمهم ما التزموه.." إلى آخر ما ذكر الشيخ.
القاعدة العاشرة: ( الاعتبار في الفضائل بكمال النهاية، لا بنقص البداية )(1).
__________
(1) منهاج السنّة النبويّة: 4/ 251. وانظر: مجموع الفتاوى: 15/ 55.(1/12)
هذه القاعدة أوردها الشيخ ـ رحمه الله ـ في معرض ردّه على الرافضي الطاعن في صدّيق الأمّة أبي بكر ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ، فكان ممّا ذكره: " وأيضاً فكان النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا استشار أصحابه أوّل من يتكلّم أبو بكر في الشورى، وربّما تكلّم غيره، وربّما لم يتكلّم غيره، فيعمل برأيه وحده. فإذا خالفه غيره؛ اتّبع رأيه دون رأي من يخالفه.."
ثمّ ذكر مثالين لذلك، الأوّل: مشاورة النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أصحابه في أسرى بدر، واختلافهم في ذلك، فهوي النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قول أبي بكر دون غيره.
والثاني: يوم الحديبية لمّا شاورهم على أن يغير على ذريّة الذين أعانوا قريشاً ، أو يذهب إلى البيت فمن صدّه قاتله، فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم؛ يا نبيّ الله؛ إنّما جئنا معتمرين، ولم نجيء لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقبل النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مشورته.
ثمّ ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ موقف الصحابة الكرام من صلح الحديبية، وكراهيتهم له، حتّى إنّه لمّا أمرهم أن ينحروا ويحلقوا أو يقصّروا ويحلّوا إحرامهم؛ لم يفعلوا حتّى فعل هو عليه الصلاة والسلام، فلمّا رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتّى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً..(1/13)
ثمّ قال الشيخ: " ولا ريب أنّ الذي حملهم على ذلك: حبّ الله ورسوله، وبغض الكفّار، ومحبتُهم أن يظهر الإيمان على الكفر، وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر، ورأوا أنّ قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم، أحبّ إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها، لكن معلوم وجوب تقديم النصّ على الرأي. والشرع على الهوى. فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم تقديم نصوصهم على الآراء، وشرعهم على الأهواء. وأصل الشرّ من تقديم الرأي على النصّ، والهوى على الشرع. فمن نوّر الله قلبه رأى ما في النصّ والشرع من الصلاح والخير؛ وإلا فعليه الانقياد لنصّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وليس له معارضته برأيه وهواه، كما قال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " إنّي رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري "(1)، فبيّن أنّه رسول الله، يفعل ما أمره به مرسله، لا يفعل من تلقاء نفسه، وأخبر أنّه يطيعه ولا يعصيه كما يفعل المتّبع لرأيه وهواه، وأخبر أنّه ناصره، فهو على ثقة من نصر الله، فلا يضرّه ما حصل، فإنّ في ضمن ذلك من المصلحة وعلوّ الدين ما ظهر بعد ذلك، وكان هذا فتحاً مبيناً في الحقيقة، وإن كان فيه ما لم يعلم حسن ما فيه كثير من الناس، بل رأى ذلك عجزاً وغضاضة وضيماً، ولهذا تاب الذين عارضوا ذلك ـ رضي الله عنهم ـ كما في الحديث رجوع عمر، وكذلك في الحديث أنّ سهل بن حنيف اعترف بخطئه، حيث قال: الله ورسوله أعلم. وجعل رأيهم عبرة لمن بعدهم، فأمرهم أن يتّهموا رأيهم على دينهم، فإنّ الرأي يكون خطأ، كما كان رأيهم يوم الحديبية خطأ. وكذلك على الذي لم يفعل ما أمره به، والذين لم يفعلوا ما أُمروا به من الحلق والنحر حتّى فعل هو ذلك؛ قد تابوا من ذلك، والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات.
__________
(1) أخرجه البخاري ( 2581 ).(1/14)
والقصّة كانت عظيمة، بلغت منهم مبلغاً عظيماً لا تحتمله عامّة النفوس إلا من هم خير الخلق وأفضل الناس، وأعظمهم علماً وإيماناً، وهم الذين بايعوا تحت الشجرة، وقد رضي الله عنهم، وأثنى عليهم. وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، والاعتبار في الفضائل بكمال النهاية، لا بنقص البداية.." إلى آخر ما ذكره الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ.
القاعدة الحادية عشرة: ( الحسنات تعلّل بعلّتين، وكذلك السيّئات )(1).
هذه القاعدة نصّ عليها الشيخ ـ رحمه الله ـ فقال: " قاعدة: الحسنات تعلّل بعلّتين؛ إحداهما: ما تتضمنه من جلب المصلحة والمنفعة. والثانية: ما تتضمنه من دفع المفسدة والمضرّة.
وكذلك السيّئات تعلّل بعلّتين؛ إحداهما: ما تتضمنه من المفسدة والمضرّة. والثانية: ما تتضمنه من الصدّ عن المنفعة والمصلحة.
مثال ذلك: قوله تعالى: { إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر }[ العنكبوت: 45]، فبيّن الوجهين جميعاً، فقوله: { إنّ الصلاة تنهى
عن الفحشاء والمنكر } بيان لما تتضمنه من دفع المفاسد والمضارّ، فإنّ النفس إذا قام بها ذكر الله ودعاؤه ـ لا سيّما على وجه الخصوص ـ أكسبها ذلك صبغة صالحة تنهاها عن الفحشاء والمنكر، كما يحسّه الإنسان من نفسه، ولهذا قال تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة }[ البقرة: 45]، فإنّ القلب يحصل له من الفرح والسرور وقرّة العين ما يغنيه عن اللذات المكروهة، ويحصل له من الخشية والتعظيم لله والمهابة. وكلّ واحد من رجائه وخشيته ومحبته ناه ينهاه.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 20/ 191.(1/15)
وقوله: { ولذكر الله أكبر } بيان لما فيها من المنفعة والمصلحة، أي: ذكر الله الذي فيها أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر، فإنّ هذا هو المقصود لنفسه، كما قال: { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله }[ الجمعة: 9]، والأوّل تابع، فهذه المنفعة والمصلحة أعظم من دفع تلك المفسدة، ولهذا كان المؤمن الفاسق يؤول أمره إلى الرحمة. والمنافق المتعبّد أمره صائر إلى الشقاء، فإنّ الإيمان بالله ورسوله هو جماع السعادة وأصلها.
ومن ظنّ أنّ المعنى: ( ولذكر الله أكبر من الصلاة ) فقد أخطأ، فإنّ الصلاة أفضل من الذكر المجرّد بالنصّ والإجماع. والصلاة ذكر الله لكنّها ذكر على أكمل الوجوه، فكيف يفضل ذكر الله المطلق على أفضل أنواعه!. ومثال ذلك قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " عليكم بقيام الليل؛ فإنّه قربة إلى ربّكم، ودأب الصالحين قبلكم، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيّئات، ومطردة للداء عن الجسد "(1)، فبيّن ما فيه من المصلحة بالقرب إلى الله وموافقة الصالحين، ومن دفع المفسدة بالنهي عن المستقبل من السيّئات، والتكفير للماضي منها. وهو نظير الآية.
وكذلك قوله: { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إنّ الحسنات يذهبن السيّئات }[ هود: 114]، فهذا دفع المؤذي. ثمّ قال: { ذلك ذكرى للذاكرين }، فهذا مصلحة. وفضائل الأعمال وثوابها وفوائدها ومنافعها كثير في الكتاب والسنّة من هذا النمط، كقوله في الجهاد: { يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار }، إلى قوله: { وأخرى تحبّونها نصر من الله وفتح قريب }[ الصف: 12، 13 ]، فبيّن ما فيه من دفع مفسدة الذنوب، ومن حصول مصلحة الرحمة بالجنّة، فهذا في الآخرة. وفي الدنيا: النصر والفتح، وهما أيضاً دفع المضرّة وحصول المنفعة، ونظائره كثيرة.
__________
(1) أخرجه الترمذي ( 3558 )، وصحّحه الألباني في صحيح الجامع.(1/16)
وأمّا من السيّئات فكقوله: { إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة }[ المائدة: 91]، فبيّن فيه العلّتين؛ إحداهما: حصول مفسدة العداوة الظاهرة والبغضاء الباطنة.
والثانية: المنع من المصلحة التي هي رأس السعادة، وهي ذكر الله والصلاة، فيصدّ عن المأمور به إيجاباً واستحباباً.
وبهذا المعنى علّلوا كراهة أنواع الميسر من الشطرنج ونحوه، فإنّه يورث هذه المفسدة، ويصدّ عن المأمور به. وكذلك الغناء فإنّه يورث القلب نفاقاً، ويدعو إلى الزنى، ويصدّ القلب عن ما أمر به من العلم النافع والعمل الصالح، فيدعو إلى السيّئات، وينهى عن الحسنات، مع أنّه لا فائدة فيه، والمستثنى منه عارضه ما أزال مفسدته كنظائره.
وكذلك البدع الاعتقاديّة والعمليّة تتضمّن ترك الحقّ المشروع الذي يصدّ عنه من الكلم الطيّب والعمل الصالح، إمّا بالشغل عنه، وإمّا بالمناقضة، وتتضمّن أيضاً حصول ما فيها من مفسدة الباطل اعتقاداً وعملاً. وهذا باب واسع إذا تُؤمّل؛ انفتح به كثير من معاني الدين ".
القاعدة الثانية عشرة: ( الفعل الواحد في الظاهر؛ يثاب الإنسان على فعله مع النيّة الصالحة، ويعاقب على فعله مع النيّة الفاسدة )(1).
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ ممثّلاً لذلك: " فمن حجّ ماشياً لقوّته على المشي، وآثر بالنفقة؛ كان مأجوراً أجرين: أجر المشي، وأجر الإيثار. ومن حجّ ماشياً بخلاً بالمال، وإضراراً بنفسه؛ كان آثماً إثمين: إثم البخل، وإثم الإضرار. ومن حجّ راكباً لضعفه عن المشي، وللاستعانة بذلك على راحته ليتقوّى بذلك على العبادة؛ كان مأجوراً أجرين، ومن حجّ راكباً يظلم الجمال والحمّال؛ كان آثماً إثمين.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 22/ 138.(1/17)
وكذلك اللباس: فمن ترك جميل الثياب بخلاً بالمال؛ لم يكن له أجر. ومن تركه متعبّداً بتحريم المباحات كان آثماً. ومن ترك لبس جميل الثياب إظهاراً لنعمة الله، واستعانة على طاعة الله؛ كان مأجوراً. ومن لبسه فخراً وخيلاء؛ كان آثماً، فإنّ الله لا يجبّ كلّ مختال فخور.. ".
إلى أن قال: " فهذه المسائل ونحوها تتنوّع بتنوّع علمهم واعتقادهم، والعبد مأمور أن يقول في كلّ صلاة: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضالين }، والله سبحانه وتعالى أعلم ".
القاعدة الثالثة عشرة: ( من كان عازماً على الفعل عزماً جازماً، وفعل ما يقدر عليه منه؛ كان بمنزلة الفاعل )(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 23/ 236.(1/18)
هذه القاعدة نصّ عليها الشيخ ـ رحمه الله ـ، قال: " وهذه قاعدة الشريعة؛ أنّ من كان عازماً على الفعل عزماً جازماً، وفعل ما يقدر عليه منه؛ كان بمنزلة الفاعل. فهذا الذي كان له عمل في صحّته وإقامته عزمُه أن يفعله، وقد فعل في المرض والسفر ما أمكنه؛ فكان بمنزلة الفاعل، كما جاء في السنن فيمن تطهّر في بيته، ثمّ ذهب إلى المسجد يدرك الجماعة، فوجدها قد فاتت؛ أنّه يكتب له أجر صلاة الجماعة، وكما ثبت في الصحيح من قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " إنّ بالمدينة لرجالاً، ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم "، قالوا: وهم بالمدينة؟!. قال: " وهم بالمدينة، حبسهم العذر "(1)، وقد قال تعالى: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } الآية[النساء: 95]، فهذا ومثله يبيّن أنّ المعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح، إذا كانت نيّته أن يفعل، وقد عمل ما يقدر عليه، وذلك لا يقتضي أن يكون نفس عمله مثل عمل الصحيح، فليس في الحديث أنّ صلاة المريض نفسها في الأجر مثل صلاة الصحيح، ولا أنّ صلاة المنفرد المعذور في نفسها مثل صلاة الرجل في الجماعة، وإنّما فيه أن يكتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، كما يكتب له أجر صلاة الجماعة إذا فاتته مع قصده لها.
وأيضاً فليس كلّ معذور يكتب له مثل عمل الصحيح، وإنّما يكتب له إذا كان يقصد عمل الصحيح، ولكن عجز عنه، فالحديث يدلّ على أنّه من كان عادته الصلاة في جماعة، والصلاة قائماً، ثمّ ترك ذلك لمرضه؛ فإنّه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم. وكذلك من تطوّع على الراحلة في السفر، وقد كان يتطوّع في الحضر قائماً؛ يكتب له ما كان يعمل في الإقامة. فأمّا من لم تكن عادته الصلاة في جماعة، ولا الصلاة قائماً إذا مرض، فصلّى وحده، أو صلّى قاعداً؛ فهذا لا يكتب له مثل صلاة المقيم الصحيح.
__________
(1) أخرجه البخاري ( 4161 ).(1/19)
ومن حمل الحديث على غير المعذور، يلزمه أن يجعل صلاة هذا قاعداً، مثل صلاة القائم، وصلاته منفرداً مثل الصلاة في جماعة. وهذا قول باطل لم يدلّ عليه نصّ ولا قياس، ولا قاله أحد ".
القاعدة الرابعة عشرة: ( تفضيل الجملة على الجملة لا يقتضي تفضيل كلّ فرد على كلّ فرد )(1).
__________
(1) منهاج السنّة النبويّة: 2/ 260. وانظر: مجموع الفتاوى: 27/ 47.(1/20)
ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ هذه القاعدة في معرض ردّه على الرافضي الذي يرى بطلان صلاة من لم يصلّ على أئمّتهم، وقد أجاب الشيخ عن ذلك بما يشفي ويكفي، وذكر خلاف أهل السنّة والجماعة في حكم الصلاة على النبيّ وآله في الصلاة، ثمّ قال: " وإذا عُرف أنّ في هذه المسألة نزاعاًَ مشهوراً؛ فيقال: على تقدير وجوب الصلاة على آل محمّد، فهذه الصلاة لجميع آل محمّد، لا تخصّص بصالحهم فضلاً عن أن تخصّص بمن هو معصوم، بل تتناول كلّ من دخل في آل محمّد، كما أن الدعاء للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات يتناول كلّ من دخل في الإيمان والإسلام، ولا يلزم من الدعاء للمؤمنين عموماً، ولا لأهل البيت عموماً أن يكون كلّ منهم برّاً تقيّاً، بل الدعاء لهم طلباً لإحسان الله تعالى إليهم، وتفضّله عليهم، وفضل الله سبحانه وإحسانه يطلب لكن يقال إنّ هذا حقّ لآل محمّد أمر الله به، ولا ريب أنّ لآل محمّد ـ صلّى الله تعالى عليه وسلّم ـ حقّاً على الأمّة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقّون من زيادة المحبّة والموالاة ما لا يستحقّه سائر بطون قريش، كما أنّ قريشاً يستحقّون من المحبّة والموالاة ما لا يستحقّه غير قريش من القبائل، كما أنّ جنس العرب يستحقّ من المحبّة والموالاة ما لا يستحقّه سائر أجناس بني آدم، وهذا على مذهب الجمهور الذين يرون فضل العرب على غيرهم، وفضل قريش على سائر العرب، وفضل بني هاشم على سائر قريش. وهذا هو المنصوص عن الأئمّة كأحمد وغيره. وعلى هذا دلّت النصوص، كقوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الحديث الصحيح: " إنّ الله اصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم "(1).
__________
(1) أخرجه مسلم ( 2276 )، ولفظه: " إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة.. " إلى آخر الحديث.(1/21)
وكقوله في الحديث الصحيح: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة، خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا "(1)، وأمثال ذلك. وذهبت طائفة إلى عدم التفضيل بين هذه الأجناس. وهذا قول طائفة من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الطيّب وغيره، وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد، وهذا القول يقال له مذهب الشعوبيّة، وهو قول ضعيف من أقوال أهل البدع كما بسط في موضعه، وبيّنا أنّ تفضيل الجملة على الجملة، لا يقتضي تفضيل كلّ فرد على كلّ فرد، كما أنّ تفضيل القرن الأوّل على الثاني، والثاني على الثالث لا يقتضي ذلك، بل في القرن الثالث خير من كثير من القرن الثاني، وإنّما تنازع العلماء: هل في غير الصحابة من هو خير من بعضهم؛ على قولين ".
القاعدة الخامسة عشرة: ( الشيء إذا كان أفضل من حيث الجملة، لم يجب أن يكون أفضل في كلّ حال، ولا لكلّ أحد )(2).
هذه القاعدة فرع عن التي قبلها، وقد ذكرها الشيخ في معرض حديثه عن أفضل الذكر، فقال بعد أن ذكر التكبير والتهليل: " وأمّا حديث أبي ذرّ: "أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده "(3)؛ فيشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون هذا في الكلام الذي لا يسنّ فيه الجهر، كما في الركوع والسجود ونحوه، ولا يلزم أن يكون أفضل مطلقاً، بدليل أنّ قراءة القرآن أفضل من الذكر، وقد نهى النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عنها في الركوع والسجود، وقال: " إنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً؛ أمّا الركوع فعظّموا فيه الربّ، وأمّا السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم "(4).
__________
(1) أخرجه مسلم ( 2638 ).
(2) مجموع الفتاوى: 24/ 236. وانظر: 26/ 286.
(3) لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ.
(4) أخرجه مسلم ( 207 ). وقد ذكره الشيخ مختصراً.(1/22)
وهنا أصل ينبغي أن نعرفه، وهو أنّ الشيء إذا كان أفضل من حيث الجملة، لم يجب أن يكون أفضل في كلّ حال، ولا لكلّ أحد، بل المفضول في موضعه الذي شُرع فيه أفضل من الفاضل المطلق، كما أنّ التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن، ومن التهليل والتكبير. والتشهّد في آخر الصلاة والدعاء بعده، أفضل من قراءة القرآن. وهذا كما قال النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " يؤمّ القوم أقرؤوهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنّاً أو إسلاماً "، ثمّ أتبع ذلك بقوله: " ولا يؤمنّ الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه"(1). فذكر الأفضل فالأفضل في الإمامة، ثمّ بيّن أنّ صاحب المرتبة ذا السلطان، مثل الإمام الراتب كأمير الحرب في العهد القديم، وكأئمّة المساجد ونحوهم؛ مقدّمون على غيرهم، وإن كان غيرهم أفضل منهم. وهذا كما أنّ الذهب أفضل من الحديد والنَّورة، وقد تكون هذه المعادن مقدّمة على الذهب عند الحاجة إليها دونه، وهذا ظاهر.
__________
(1) أخرجه مسلم ( 672 ).(1/23)
وكذلك أيضاً، أكثر الناس يعجزون عن أفضل الأعمال، فلو أُمروا بها لفعلوها على وجه لا ينتفعون به، أو ينتفعون انتفاعاً مرجوحاً، فيكون في حقّ أحد هؤلاء العمل الذي يناسبه وينتفع به أفضل له ممّا ليس كذلك، ولهذا يكون الذكر لكثير من الناس أفضل من قراءة القرآن؛ لأنّ الذكر يورثه الإيمان، والقرآن يورثه العلم. والعلم بعد الإيمان، قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }[المجادلة: 11]، والقرآن يحتاج إلى فهم وتدبّر، وقد يكون عاجزاً عن ذلك، لكن هؤلاء يغلطون فيعتقد أنّ الذكر أفضل مطلقاً، وليس كذلك، بل قراءة القرآن في نفس الأمر أفضل من الذكر بإجماع المسلمين، قال النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهنّ من القرآن: سبحان الله، والحمد لله ، ولا إله إلا الله، والله أكبر " رواه مسلم، وقال له رجل: إنّي لا أستطيع أن أحمل من القرآن شيئاً، فعلّمني ما يجزئني في صلاتي، فقال: " قل: سبحان الله، والحمد لله ، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، ولهذا كان العلماء على أنّ الذكر في الصلاة بدل عن القراءة لا يجوز الانتقال إليه إلا عند العجز عن القراءة، بمنزلة التيمّم مع الوضوء، وبمنزلة صيام الشهرين مع العتق، والصيام مع الهدي. وفي الحديث الذي في الترمذي: " ما تقرّب العباد إلى بأفضل ممّا خرج منه "، يعني القرآن، وفي حديث ابن عبّاس الذي رواه أبو داود والترمذي وصحّحه، عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: " إنّ لله أهلين من الناس "، قيل: منهم يا رسول الله؟، قال: " أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته". وكان النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقدّم أهل القرآن في المواطن كما قدّمهم يوم أحد في القبور، فأذن لهم أن يدفنوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، وقال: " قدّموا إلى القبلة أكثرهم قرآناً "(1).
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند ( 16232 ). وقد ذكره الشيخ بالمعنى.(1/24)
فقول النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في حديث أبي ذرّ لمّا سئل: أيّ الكلام أفضل، فقال: " سبحان الله وبحمده "؛ هذا خرج على سؤال سائل، فربّما علم من حال السائل حالاً مخصوصة، كما أنّه لمّا قال: " أفضل ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله " إلى آخره. أراد بذلك من الذكر لا من القراءة، فإنّ قراءة القرآن أفضل من جنس الذكر من حيث الجملة، وإن كان هذا الكلام قد يكون أفضل من القراءة، كما أنّ الشهادتين في وقت الدخول في الإسلام، أو تجديده، أو عندما يقتضي ذكرهما مثل عقب الوضوء، ودبر الصلاة والأذان وغير ذلك؛ أفضل من القراءة. وكذلك في موافقة المؤذّن، فإنّه إذا كان يقرأ، وسمع المؤذّن، فإنّ موافقته في ذكر الأذان أفضل له حينئذ من القراءة حتّى يستحبّ له قطع القراءة لأجل ذلك، لأنّ هذا وقت هذه العبادة يفوت بفوتها، والقراءة لا تفوت ".
القاعدة السادسة عشرة: ( لا يلزم إذا كان الشيء أفضل على تقدير، أن يكون أفضل مطلقاً )(1).
هذا القاعدة قريبة من القاعدتين السابقتين، وقد مثّل لها الشيخ بقوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في حجّته: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت.. "(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 26/ 286.
(2) أخرجه البخاري ( 1568 ).(1/25)
قال ـ رحمه الله ـ : " وأمّا قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أفعل ذلك.. "، فهو حكم معلّق على شرط، والمعلّق على شرط عَدَمٌ عن عدمه، فما استقبل من أمره ما استدبره، وقد اختار الله تعالى له ما فعل، واختار له أنّه لم يستقبل ما استدبر، ولا يلزم إذا كان الشيء أفضل على تقدير، أن يكون أفضل مطلقاً. وهذا كقوله: " لو لم أُبعث فيكم لبُعث فيكم عمر "(1)، فهو لا يدلّ على أنّ عمر أفضلهم لو لم يبعث الرسول، ولا يدلّ على أنّه أفضل مع بعث الرسول، بل أبو بكر أفضل منه في هذه الحال..".
القاعدة السابعة عشرة: ( المفضول قد يختصّ بأمر، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل )(2).
ذكر الشيخ هذه القاعدة في معرض ردّه على الرافضي في احتجاجه بحديث الكساء(3)على عصمة آل البيت، ومن ثمّ أحقيّة عليّ ـ رضي الله عنه ـ بالإمامة..
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند ( 17373 )، والترمذي ( 3695 )، كلاهما بلفظ: " لو كان بعدي نبيّ، لكان عمر بن الخطّاب ". وحسّن إسناده الألبانيّ في صحيح الجامع.
(2) منهاج السنّة النبويّة: 4/ 22.
(3) حديث الكساء أخرجه مسلم وغيره عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: خرج النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ غداةً، وعليه مِرْط مُرَحَّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن عليّ، فأدخله. ثمّ جاء الحسين فدخل معه. ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها. ثمّ جاء عليّ فأدخله. ثمّ قال: " إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ".(1/26)
قال ـ رحمه الله ـ بعد كلام طويل: " ولهذا كان أفضل الخلق: أولياؤه المتّقون. وأمّا أقاربه؛ ففيهم المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر. فإن كان فاضل منهم كعليّ ـ رضي الله عنه ـ وجعفر والحسن والحسين، ففضلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار، لا بمجرّد النسب. فأولياؤه أعظم درجة من آله. وإن صُلّي على آله تبعاً؛ لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه الذين لم يُصَلّ عليهم. فإنّ الأنبياء والمرسلين هم من أوليائه، وهم أفضل من أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعاً، فالمفضول قد يختصّ بأمر، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل، ودليل ذلك: أنّ أزواجه هم ممّن يُصلّى عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين. وقد ثبت باتّفاق الناس كلّهم أنّ الأنبياء أفضل منهنّ كلّهنّ.. ".
القاعدة الثامنة عشرة: ( التقديم ليس لازماً للفضل )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض حديثه عن مسألة التفضيل بين الملائكة والناس، وقد ذكر حجج القائلين بتفضيل الملائكة، وأجاب عنها..
قال ـ رحمه الله تعالى ـ: " الحجّة الرابعة: قوله تعالى: { الله يصطفي
من الملائكة رسلاً ومن الناس }[الحجّ: 75 ]، فبدأ بهم، والابتداء إنّما يكون بالأفضل والأشرف، فالأفضل والأشرف، كما بدأ بذلك في قوله: { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين }[ النساء: 69]، فبدأ بالأكمل والأفضل.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 4/ 386.(1/27)
والجواب: أنّ الابتداء قد يكون كثيراً بغير الأفضل، بل يبتدىء بالشيء لأسباب متعدّدة، كما في قوله تعالى: { وإذ أخذنا من النبيّين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم }[ الأحزاب: 7]، ولم يدلّ ذلك على أنّ نوحاً أفضل من إبراهيم. والنبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أفضل. وكذلك قوله: {إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.. }[ الأحزاب: 35] لا يدلّ على أنّ المسلم أفضل من المؤمن، فلعلّه ـ والله أعلم ـ إنّما بدأ بهم لأنّ الملائكة أسبق خلقاً ورسالة، فإنّهم أرسلوا إلى الجنّ والإنس، فذكر الأوّل فالأوّل، في الخلق والرسالة، على ترتيبهم في الوجود.
وقال تعالى: { يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور }[ الشورى: 49 ]، والذكور أفضل من الإناث. وقال: { والتين والزيتون }، و{والشمس وضحاها }الآيات، و { فيهما فاكهة ونخل ورمّان }[ الرحمن: 68 ]، إلى غير ذلك، ولم يدلّ التقديم في شيء من هذه المواضع على فضل المبدوء به، فعُلم أنّ التقديم ليس لازماً للفضل ".
القاعدة التاسعة عشرة: ( ليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله على وفق مذهبه، إن لم يتبيّن من كلام الله ورسوله ما يدلّ على مراد الله ورسوله )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن حقيقة الإيمان والإسلام، واختلاف الناس في مسمّاهما، ونزاعهم واضطرابهم..
قال ـ رحمه الله تعالى ـ: " ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، مع ما يستفاد من كلام الله تعالى، فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله ورسوله، فإنّ هذا هو المقصود، فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء؛ بل نذكر من ذلك ـ في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله ورسوله ـ ما يبيّن أنّ ردّ موارد النزاع إلى الله وإلى الرسول خير وأحسن تأويلاً، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة..
__________
(1) مجموع الفتاوى: 7/ 35.(1/28)
إلى أن قال ـ رحمه الله ـ: " والمقصود هنا أنّه ينبغي للمسلم أن يَقْدُر قدر كلام الله ورسوله، بل ليس لأحد أن يحمل كلام أحد من الناس إلا على ما عرف أنّه أراده، لا على ما يحتمله ذلك اللفظ في كلام كلّ أحد، فإنّ كثيراً من الناس يتأوّل النصوص المخالفة لقوله؛ يسلك مسلك من يجعل التأويل كأنّه ذكر ما يحتمله اللفظ، وقصده به دفع ذلك المحتجّ عليه بذلك النصّ، وهذا خطأ، بل جميع ما قاله الله ورسوله يجب الإقرار به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض. وليس الاعتناء بمراده في أحد النصّين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النصّ وافقه يعتقد أنّه اتّبع فيه مراد الرسول؛ فكذلك النصّ الآخر الذي تأوّله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه..".
القاعدة العشرون: ( الواجب على من أراد أن يعرف مراد المتكلّم أن يرجع إلى لغته وعادته التي يخاطب بها )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ في معرض ردّه على بعض الطوائف القائلين في كلام الله وأفعاله بغير قول السلف..
قال: " وقد أخبر الله في غير موضع، أنّه خالق كلّ شيء، وأنّه ربّ كلّ شيء، وهذا يناقض قول من يقول: إنّه موجب بذاته لهذا العالم، وأنّه معلول له، فإنّ خلق الشيء يتضمّن إحداثه، ولم يقل أحد من أهل لغة العرب أنّ الشيء يكون محدَثاً، ويكون قديماً أزليّاً، وكونه مخلوقاً قديماً أزليّاً أبعد في لغتهم من ذلك، فإنّ الناس متّفقون على أنّ كلّ مخلوق حادث ومحدَث، وأنّه يسمّى في اللغة حادث ومحدَث، ومتنازعون في أنّ كلّ حادث ومحدَث هل يكون مخلوقاً ؟
__________
(1) الصفدية: 2/ 84.(1/29)
ولم أعلم أنّهم نقلوا أنّه يجب أن يسمّى في اللغة مخلوقاً، وإنّما النزاع بينهم في ذلك نزاع عقليّ، ومن هنا نشأ الاضطراب بين الناس في مسألة كلام الله ومسألة أفعال الله، فصاروا يحملون ما يسمعونه من الكلام على عرفهم، فغلط كثير منهم في فهم كلام السلف والأئمّة، بل وفي فهم كلام الله ورسوله، والواجب على من أراد أن يعرف مراد المتكلّم؛ أن يرجع إلى لغته وعادته التي يخاطب بها، لا نفسّر مراده بما اعتاده هو من الخطاب، فما أكثر ما دخل من الغلط في ذلك على من لا يكون خبيراً بمقصود المتكلّم ولغته ".
القاعدة الحادية والعشرون: ( القضايا الضرورية إذا كانت مستلزمة لأمور، دلّ ذلك على صحّة تلك اللوازم ).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض حديثه عن بعض الألفاظ الاصطلاحية التي يطلقها بعض المتكلمين في حقّ الله تعالى كلفظ ( الجسم )، و ( الحيّز )، و ( الجهة )، ولم ترد في الكتاب والسنّة نفياً ولا إثباتاً..
قال ـ رحمه الله ـ: " وبالجملة؛ فمعلوم أنّ الألفاظ نوعان: لفظ ورد في الكتاب والسنّة أو الإجماع؛ فهذا اللفظ يجب القول بموجبه، سواء فهمنا معناه أو لم نفهمه، لأنّ الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لا يقول إلا حقّاً، والأمّة لا تجتمع على ضلالة.
والثاني: لفظ لم يرد به دليل شرعي، كهذه الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام والفلسفة، هذا يقول: هو متحيّز. وهذا يقول: ليس بمتحيّز. وهذا يقول: هو في جهة. وهذا يقول: ليس هو في جهة. وهذا يقول: هو جسم أو جوهر. وهذا يقول: ليس بجسم ولا جوهر. فهذه الألفاظ ليس على أحد أن يقول فيها بنفي ولا إثبات، حتّى يستفسر المتكلّم بذلك، فإن بيّن أنّه أثبت حقّاً، أثبته. وإن أثبت باطلاً، ردّه. وإن نفى باطلاً، نفاه. وإن نفى حقّاً، لم ينفه. وكثير من هؤلاء يجمعون في هذه الأسماء بين الحقّ والباطل، في النفي والإثبات،(1/30)
فمن قال: إنّه في جهة، وأراد بذلك أنّه داخل محصور في شيء من المخلوقات ـ كائناً من كان ـ؛ لم يُسلّم إليه هذا الإثبات. وهذا قول الحلوليّة.
وإن قال: إنّه مباين للمخلوقات فوقها؛ لم يمانع في هذا الإثبات، بل هذا ضدّ قول الحلوليّة.
ومن قال: ليس في جهة، فإن أراد أنّه ليس مبايناً للعالم، ولا فوقه؛ لم يُسلّم له هذا النفي.
وكذلك لفظ المتحيّز، يراد به ما أحاط به شيء موجود، كقوله تعالى: { أو متحيّزاً إلى فئة }[ الأنفال: 16]، ويراد به ما انحاز عن غيره وباينه. فمن قال: إنّ الله متحيّز بالمعنى الأوّل؛ لم يُسلّم له. ومن أراد أنّه مباين للمخلوقات؛ سُلّم له المعنى، وإن لم يطلق اللفظ.
إذا تبيّن هذا؛ فإذا قال هذا القائل: هذا التقسيم معلوم بالاضطرار؛ قيل له: هذا إنّما يعقل في متحيّز أو ذي جهة، ولم يكن هذا قادحاً فيما علم بالاضطرار، بل يقال: إمّا أن يكون هذا لازماً، وإمّا أن لا يكون. فإن لم يكن لازماً بطل السؤال، وإن كان لازماً فلازم الضروري حقّ، فإنّ القضايا الضروريّة إذا كانت مستلزمة لأمور؛ دلّ ذلك على صحّة تلك اللوازم، ولم يكن الاستدلال على بطلانها بنفي تلك اللوازم، لأنّ نفيها نظريّ، والنظريّ لا يقدح في الضروريّ ".
القاعدة الثانية والعشرون: ( كلّ ما نفاه الله ورسوله من مسمّى أسماء الأمور الواجبة، فإنّما يكون لترك واجب من ذلك المسمّى )(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 7/ 37.(1/31)
وقد أتبع الشيخ هذه القاعدة بمثال، فقال: " ومن هذا: قوله تعالى: { فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً }[ النساء: 65 ] فلمّا نفى الإيمان حتّى توجد هذه الغاية؛ دلّ ذلك على أنّ هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد، ولم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنّة بلا عذاب، فإنّ الله إنّما وعد بذلك من فعل ما أمر به، وأمّا من فعل بعض الواجبات، وترك بعضها؛ فهو معرّض للوعيد. ومعلوم باتّفاق المسلمين أنّه يجب تحكيم الرسول في كلّ ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم، في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلّهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا حكم، ويسلّموا تسليماً. قال تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيداً * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدوداً }[ النساء: 60، 61 ]، وقوله ( إلى ما أنزل الله ) وقد أنزل الله الكتاب والحكمة وهي السنّة، قال تعالى: { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به }[ البقرة: 231]، وقال تعالى: { وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً }[المائدة: 113]، والدعاء إلى ما أنزل يستلزم الدعاء إلى الرسول. والدعاء إلى الرسول يستلزم الدعاء إلى ما أنزله الله، وهذا مثل طاعة الله والرسول، فإنّهما متلازمان، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن أطاع الله فقد أطاع الرسول "، إلى آخر ما ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ.
القاعدة الثالثة والعشرون: ( ما من شيء عُبّر عنه باسم، إلا والمراد بالاسم هو المسمّى )(1).
__________
(1) الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح: 4/ 346.(1/32)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ في ردّه على النصرانيّ القائل إنّ حلول كلمة الله ـ التي هي المسيح ـ في الناسوت؛ مثل كتابة الكلام في القرطاس، واحتجاجه بأنّ من المنتسبين إلى الإسلام من يقول مثل هذا في القرآن الذي هو كلام الله، وأنّه حالّ في الصدور والمصاحف من غير مفارقة..
قال الشيخ ـ بعد كلام طويل ـ: " وإذا كان معلوماً إنّما هو كلام الله، فقد تكلّم الله به سبحانه، لم يخلقه بائناً عنه، ولم يجز أن يقال لما هو كلامه إنّه مخلوق.
فإذا قيل عن ما يقرؤه المسلمون إنّه مخلوق، والمخلوق بائن عن الله، ليس هو كلامه؛ فقد جعل مخلوقاً ليس هو بكلام الله، فصار الأئمّة يقولون: هذا كلام الله، وهذا غير مخلوق، لا يشيرون بذلك إلى شيء من صفات المخلوق، بل إلى كلام الله الذي تكلّم به، وبلّغه عنه رسوله. والمبلّغ إنّما بلّغه بصفات نفسه. والإشارة في مثل هذا يراد بها الكلام المبلّغ، لا يراد بها ما به وقع التبليغ.
وقد يراد بهذا: الثاني، مع التقييد كما في مثل الاسم إذا قيل: ( عبدتُ الله)، و( دعوت الله )، فليس المراد أنّ المعبود المدعو، هو الاسم الذي هو اللفظ، بل المعبود المدعو هو المسمّى باللفظ، فصار بعضهم يقول: الاسم هو غير المسمّى، حتّى قيل لبعضهم: أقول دعوت الله؟ فقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: دعوت المسمّى بالله. وظنّ هذا الغالط أنّك إذا قلت ذلك، فالمراد: دعوت هذا اللفظ. ومثل هذا يرد عليه في اللفظ الثاني. فما من شيء عُبّر عنه باسم؛ إلا والمراد بالاسم هو المسمّى، فإنّ الأسماء لم تذكر إلا لبيان المسمّيات، لا أنّ الاسم نفسه هو ذات المسمّى ".
القاعدة الرابعة والعشرون: ( الاسم الواحد يُنفى ويُثبت بحسب الأحكام المتعلّقة به )(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 7/ 418.(1/33)
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ بعد كلام طويل له: " وجماع الأمر أنّ الاسم الواحد يُنفى ويُثبت بحسب الأحكام المتعلّقة به، فلا يجب إذا أُثبت أو نُفي في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام، وهذا في كلام العرب وسائر الأمم، لأنّ المعنى مفهوم. مثال ذلك: المنافقون، قد يجعلون من المؤمنين في موضع، وفي موضع آخر يقال: ما هم منهم، قال الله تعالى: {قد يعلم الله المعوّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً * أشحّة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحّة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً }[الأحزاب: 18، 19 ]، فهنالك جعل هؤلاء المنافقين الخائفين من العدوّ، الناكلين عن الجهاد، الناهين لغيرهم، الذامّين للمؤمنين: منهم. وقال في آية أخرى: { ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنّهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلاً لولّوا إليه وهم يجمحون }[التوبة: 56، 57]، وهؤلاء ذنبهم أخفّ، فإنّهم لم يؤذوا المؤمنين، لا بنهي، ولا سلق بألسنة حداد، ولكن حلفوا بالله إنّهم من المؤمنين في الباطن بقلوبهم، وإلا فقد علم المؤمنون أنّهم منهم في الظاهر، فكذّبهم الله وقال: ( وما هم منكم )، وهناك قال: ( قد يعلم الله المعوّقين منكم )، فالخطاب لمن كان في الظاهر مسلماً مؤمناً وليس مؤمناً، بأنّ منكم من هو بهذه الصفة، وليس مؤمناً، بل أحبط الله عمله، فهو منكم في الظاهر لا في الباطن.(1/34)
ولهذا لمّا استؤذن النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في قتل بعض المنافقين، قال: " لا يتحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه "(1)، فإنّهم من أصحابه في الظاهر عند من لا يعرف حقائق الأمور، وأصحابه الذين هم أصحابه ليس فيهم نفاق كالذين علّموا سنّته الناس، وبلّغوها إليهم، وقاتلوا المرتدّين بعد موته، والذين بايعوه تحت الشجرة، وأهل بدر، وغيرهم، بل الذين كانوا منافقين غمرتهم الناس ".
القاعدة الخامسة والعشرون: ( الاسم الواحد تختلف دلالته بالإفراد والاقتران )(2).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض حديثه عن الإيمان، وتنوّع دلالته بالإفراد والاقتران، وهل الأعمال داخلة فيه..
قال ـ رحمه الله ـ بعد كلام له طويل: " إذا عُرف أنّ أصل الإيمان في القلب؛ فاسم الإيمان تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبيّة والأعمال القلبيّة من التصديق والمحبّة والتعظيم ونحو ذلك، وتكون الأقوال الظاهرة والأعمال لوازمه وموجباته ودلائله. وتارة على ما في القلب والبدن جعلاً لموجب الإيمان ومقتضاه داخلاً في مسمّاه، وبهذا يتبيّن أنّ الأعمال الظاهرة تسمّى إسلاماً، وأنّها تدخل في مسمّى الإيمان تارة، ولا تدخل تارة.
وذلك أنّ الاسم الواحد تختلف دلالته بالإفراد والاقتران، فقد يكون عند الإفراد فيه عموم لمعنيين، وعند الاقتران لا يدلّ إلا على أحدهما، كلفظ الفقير والمسكين؛ إذا أُفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا جُمع بينهما كان لكلّ واحد مسمّى يخصّه.. " إلى آخر ما ذكر.
القاعدة السادسة والعشرون: ( ليس كلّ سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعاً، بل ولا مباحاً )(3).
__________
(1) أخرجه البخاري ( 3330 )، ومسلم ( 2584 ).
(2) مجموع الفتاوى: 7/ 551.
(3) مجموع الفتاوى: 27/ 177.(1/35)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في جواب سؤال ورد إليه عمّن يدعو أهل القبور، وقد تُقضى حاجته في بعض الأوقات! ... الخ، فأجاب الشيخ جواباً شافياً كافياً، إلى أن قال: ( وأمّا قول القائل: إنّ الحوائج تُقضى لهم بعض الأوقات، فهل يسوّغ ذلك لهم قصدها. فيقال: ليس ذلك مسوّغ قصدها لوجوه(1):
? أحدها: أنّ المشركين وأهل الكتاب، يُقضى كثير من حوائجهم بالدعاء عند الأصنام، وعند تماثيل القدّيسين، والأماكن التي يعظّمونها..
? الوجه الثاني: أنّ هذا الباب يكثر فيه الكذب جدّاً..
? الوجه الثالث: أنّه إذا قضيت حاجة مسلم، وكان قد دعا دعوة عند قبره، فمن أين له أنّ لذلك القبر تأثيراً في تلك الحاجة ؟..
? الوجه الرابع: أنّه إذا قُدّر أنّ للقبور نوع تأثير في ذلك، سواء كان بها كما يذكره المتفلسفة ومن سلك سبيلهم في ذلك بأنّ الروح المفارقة تتّصل بروح الداعي، فيقوى بذلك، كما يزعمه ابن سينا، وأبو حامد، وأمثالهما في زيارة القبور، أو كان بسبب آخر، فيقال: ليس كلّ سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعاً، بل ولا مباحاً، وإنّما يكون مشروعاً إذا غلبت مصلحته على مفسدته، أمّا إذا غلبت مفسدته، فإنّه لا يكون مشروعاً، بل محظوراً، وإن حصل به بعض الفائدة. ومن هذا الباب: تحريم السحر، مع ماله من التأثير، وقضاء بعض الحاجات، وما يدخل في ذلك من عبادة الكواكب ودعائها واستحضار الجنّ، وكذلك الكهانة، والاستقسام بالأزلام، وأنواع الأمور المحرّمة في الشريعة، مع تضمّنها أحياناً نوع كشف، أو نوع تأثير )..
القاعدة السابعة والعشرون: ( كلّ كمال ثبت للمخلوق؛ فالخالق أحقّ به. وكلّ نقص تنزّه عنه مخلوق؛ فالخالق أحقّ بتنزيهه عنه )(2).
__________
(1) ذكرت الوجوه مختصرة جدّاً، ومن أرادها بتمامها فليرجع للأصل.
(2) الصفديّة: 1/ 90. وانظر: مجموع الفتاوى: 3/ 30، و86، و 6/ 81، و537، والنبوّات: 343.(1/36)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض ردّه على الباطنيّة والمتفلسفة في نفيهم للصفات..
قال ـ رحمه الله ـ بعد كلام له: " والإنسان قد يعتقد صحّة قضيّة من القضايا، وهي فاسدة، فيحتاج أن يعتقد لوازمها، فتكثر اعتقاداته الفاسدة. ومن هذا الباب دخلت القرامطة الباطنيّة والمتفلسفة ونحوهم على طوائف المسلمين، فإنّ هؤلاء قالوا للمعتزلة: ألستم قد وافقتمونا على نفي الصفات حذراً من التشبيه والتجسيم؟ قالوا: نعم. فقالوا: وهذا المحذور يلزمكم في إثبات أسماء الله تعالى له، فإذا قلتم: هو حيّ عليم قادر؛ كان في هذا تشبيه له بغيره ممّن هو حيّ عليم قادر. وكان في هذا من التجسيم كما في إثبات الحياة والعلم والقدرة له، لأنّه لا يعرف مسمّى موصوفاً بهذه الصفات إلا جسم. فأخذوا ينفون أسماء الله الحسنى، ويقولون: ليس بموجود ولا حيّ ولا عليم، ولا قدير.
ثمّ اقتصر بعضهم على نفي الإثبات، فقال لهم الصنف الآخر: إذا قلتم ليس بموجود ولا بحيّ ولا عليم ولا قدير؛ فقد شبّهتموه بالمعدوم، كما أنّ في الإثبات تشبيهاً بالموجود، فيجب أن يقال: ليس بموجود ولا معدوم، ولا حيّ ولا ميّت، ولا عالم ولا جاهل.
وهؤلاء يقولون في أنفسهم أنّهم من أذكى الناس وأفضلهم، وهم من أجهل الناس وأضلّهم وأكفرهم "..
وشبهتهم في نفي الصفة وما يقابلها قولهم إنّ هذا من باب تقابل العدم والمَلَكَة، لا تقابل السلب والإيجاب...
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: " وهذه الشبهة قد أضلّت خلقاً من أذكياء المتأخّرين حتّى الآمديّ وأمثاله، وهي باطلة من وجوه..".(1/37)
فذكر الوجه الأوّل، ثمّ قال: " الوجه الثاني: أن يقال: كلّ كمال ثبت للمخلوق؛ فالخالق أحقّ به، وكلّ نقص تنزّه عنه مخلوق؛ فالخالق أحقّ بتنزيهه عنه، لأنّ الموجود الواجب القديم أكمل من الموجود الممكن والمحدَث، ولأنّ كلّ كمال في المفعول المخلوق؛ هو من الفاعل الخالق. وهم يقولون: كمال المعلول من كمال العلّة، فيمتنع وجود كمال في المخلوق إلا من الخالق، فالخالق أحقّ بذلك الكمال ".
القاعدتان الثامنة والعشرون، والتاسعة والعشرون:
( القول في بعض الصفات كالقول في بعض ).
و( القول في الصفات كالقول في الذات )(1).
وسبب ذكر الشيخ لهاتين القاعدتين ما بيّنه ـ رحمه الله ـ بقوله ـ بعد حمد الله والثناء عليه ـ: " أمّا بعد، فقد سألني من تعيّنت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه منّي في بعض المجالس، من الكلام في التوحيد والصفات وفي الشرع والقدر لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين، وكثرة الاضطراب فيهما، فإنّهما مع حاجة كلّ أحد إليهما، ومع أنّ أهل النظر والعلم والإرادة والعُبّاد لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال، لا سيّما مع كثرة من خاض في ذلك بالحقّ تارة، وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات. فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات. والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة، الدائر بين الإرادة والمحبّة، وبين الكراهية والبغض، نفياً وإثباتاً.. ".
إلى أن قال: " وإذا كان كذلك؛ فلا بدّ للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه ممّا يضادّ هذه الحال.."
__________
(1) مجموع الفتاوى: 3/ 1- 18. وانظر: 3/ 167، ونقض المنطق: ص6.(1/38)
إلى أن قال: " فأمّا الأوّل ـ وهو التوحيد في الصفات ـ فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله؛ نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه. وقد عُلم أنّ طريقة سلف الأمّة وأئمّتها: إثبات ما أثبته من الصفات، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل... فطريقتهم تتضمّن إثبات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: { ليس كمثله شي ء وهو السميع البصير }[ الشورى: 11]. ففي قوله: (ليس كمثله شيء ): ردّ للتشبيه والتمثيل. وقوله: ( وهو السميع البصير ): ردّ للإلحاد والتعطيل.
إلى أن قال: " فلا بدّ من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته بخلقه. فمن قال: ليس لله علم، ولا قوّة، ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحبّ ولا يرضى، ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوي؛ كان معطّلاً جاحداً، ممثّلاً لله بالمعدومات والجمادات.
ومن قال: له علم كعلمي، أو قوّة كقوّتي، أو حبّ كحبّي، أو رضا كرضائي، أو يدان كيداي، أو استواء كاستوائي؛ كان مشبّهاً ممثّلاً لله بالحيوانات، بل لا بدّ من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. ويتبيّن هذا بأصلين شريفين.. "
قال: " فأمّا الأصلان، فأحدهما أن يقال: ( القول في بعض الصفات كالقول في بعض )، فإن كان المخاطب ممّن يقول بأنّ الله حيّ بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلّم بكلام، مريد بإرادة. ويجعل ذلك كلّه حقيقة وينازع في محبّته ورضاه، وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازاً، ويفسّره إمّا بالإرادة، وإمّا ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات.. فيقال له: لا فرق بين ما نفيته، وبين ما أثبتّه، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت: إنّ إرادته مثل إرادة المخلوقين؛ فكذلك محبّته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل.(1/39)
وإن قلت: إنّ له إرادة تليق به، كما إنّ للمخلوق إرادة تليق به؛ قيل لك: وكذلك له محبّة تليق به، وللمخلوق محبّة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به.
وإن قلت: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام؛ فيقال له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة، أو دفع مضرّة. فإن قلت: هذه إرادة المخلوق؛ قيل لك: وهذا غضب المخلوق.
وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفى عنه الغضب والمحبّة والرضا ونحو ذلك ممّا هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتفٍ عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات. وإن قال: إنّه لا حقيقة لهذا إلا ما يختصّ بالمخلوقين، فيجب نفيه عنه؛ قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.
فهذا المفرّق بين بعض الصفات وبعض يقال له فيما نفاه، كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته... " إلى آخر ما ذكر الشيخ.
ثمّ قال ـ رحمه الله ـ: " وهذا يتبيّن بالأصل الثاني، وهو أن يقال: القول في الصفات، كالقول في الذات، فإنّ الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات؛ فالذات متّصفة بصفات حقيقة لا تماثل سائر الصفات.
فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما ـ رضي الله عنهما ـ: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال هم الكيفية بدعة، لأنّه سؤال عمّا لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربّنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟، فإذا قال: لا أعلم كيفيته. قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته.. ".(1/40)
القاعدة الثلاثون: ( دلالة الأسماء والصفات في بعض المواضع على ذات الله، أو بعض صفات ذاته، لا يوجب أن يكون ذلك هو مدلول اللفظ حيث ورد، بل ينظر في كلّ آية وحديث بخصوصه وسياقه وما يبيّن معناه من القرآن والدلالات )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض ردّه على بعض المتكلّمين الذين لا يثبتون لله قرباً حقيقيّاً ـ يليق بجلاله سبحانه ـ، والذين يجعلون قرب عباده المقرّبين ليس إليه، وإنّما إلى ثوابه وإحسانه..
قال ـ رحمه الله ـ: " المسألة الثانية: في قربه الذي هو من لوزام ذاته، مثل العلم والقدرة، فلا ريب أنّه قريب بعلمه وقدرته وتدبيره من جميع خلقه، لم يزل بهم عالماً، ولم يزل عليهم قادراً. هذا مذهب جميع أهل السنّة وعامّة الطوائف، إلا من ينكر علمه القديم من القدرية والرافضة ونحوهم، أو ينكر قدرته على الشيء قبل كونه من الرافضة والمعتزلة وغيرهم.
وأمّا قربه بنفسه من مخلوقاته قرباً لازماً في وقت دون وقت، ولا يختصّ به شيء؛ فهذا فيه للناس قولان، فمن يقول: هو بذاته في كلّ مكان؛ يقول بهذا. ومن لا يقول بهذا، لهم أيضاً فيه قولان؛ أحدهما: إثبات هذا القرب، وهو قول طائفة من المتكلّمين والصوفيّة وغيرهم، يقولون: هو فوق العرش، ويثبتون هذا القرب.
وقوم يثبتون هذا القرب، دون كونه على العرش، وإذا كان قرب عباده من نفسه، وقربه منهم ليس ممتنعاً عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث والفقهاء، والصوفيّة وأهل الكلام؛ لم يجب أن يتأوّل كلّ نصّ فيه ذكر قربه من جهة امتناع القرب عليه، ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كلّ موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النصّ الوارد، فإنّ دلّ على هذا حمل عليه، وإن دلّ على هذا حمل عليه، كما تقدّم في لفظ الإتيان والمجيء.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 6/ 18.(1/41)
وإن كان في موضع قد دلّ عندهم على أنّه هو يأتي، ففي موضع آخر دلّ على أنّه يأتي بعذابه، كما في قوله تعالى: { فأتى الله بنيانهم من القواعد } [النحل: 26]، وقوله تعالى: { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا }[الحشر: 2].
فتدبّر هذا، فإنّه كثيراً ما يغلط الناس في هذا الموضع، إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة، ودلالة نصّ عليها، يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ حيث ورد دالاً على الصفة، وظاهراً فيها. ثمّ يقول النافي: وهناك لم تدلّ على الصفة، فلا تدلّ هنا.
وقد يقول بعض المثبتة: دلّت هنا على الصفة، فتكون دالّة هناك. بل لمّا رأوا بعض النصوص تدلّ على الصفة؛ جعلوا كلّ آية فيها ما يتوهّمون أنّه يضاف إلى الله تعالى إضافة صفة؛ من آيات الصفات، كقوله تعالى: {فرّطت في جنب الله }[الزمر: 56]. وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة، وهذا من أكبر الغلط، فإنّ الدلالة في كلّ موضع بحسب سياقه، وما يحفّ به من القرائن اللفظيّة والحاليّة، وهذا موجود في أمر المخلوقين، يراد بألفاظ الصفات منهم في مواضع كثيرة غير الصفات..".
إلى أن قال: " فمن تدبّر ما ورد في باب أسماء الله تعالى وصفاته، وأنّ دلالة ذلك في بعض المواضع على ذات الله أو بعض صفات ذاته، لا يوجب أن يكون ذلك هو مدلول اللفظ حيث ورد حتّى يكون ذلك طرداً للمثبت، ونقضاً للنافي؛ بل ينظر في كلّ آية وحديث بخصوصه وسياقه وما يبيّن معناه من القرآن والدلالات، فهذا أصل عظيم مهمّ نافع في باب فهم الكتاب والسنّة، والاستدلال بهما مطلقاً، ونافع في معرفة الاستدلال والاعتراض والجواب، فهو نافع في كلّ علم خبريّ أو إنشائيّ، وفي كلّ استدلال أو معارضة من الكتاب والسنّة وفي سائر أدلّة الخلق.."(1).
القاعدة الحادية والثلاثون: ( الحلف بصفات الله ـ سبحانه ـ، كالحلف بالله )(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 6/ 12- 19، باختصار وتصرّف يسير.
(2) القواعد النورانيّة الفقهيّة: ص 246.(1/42)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن الحلف بالطلاق أو العتاق، وهل يكون يميناً مكفّرة، أو يقعا، فذكر الخلاف في ذلك، ثمّ رجّح الأوّل، واحتجّ ـ رحمه الله ـ بقوله تعالى: { يا أيّها النبيّ لمَ تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم }[التحريم: 1، 2]..
قال ـ رحمه الله ـ: " فوجه الدلالة: أنّ الله قال: { قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم }، وهذا نصّ عامّ في كلّ يمين يحلف بها المسلمون؛ أنّ الله قد فرض لهم تحلّتها، وقد ذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمّة، بعد تقدّم الخطاب بصيغة الإفراد للنبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، مع علمه سبحانه بأنّ الأمّة يحلفون بأيمان شتّى، فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلّة؛ لكان مخالفاً للآية، كيف وهذا عامّ لا يخصّ منه صورة واحدة، لا بنصّ، ولا بإجماع، بل هو عامّ عموماً معنويّاً مع عمومه اللفظي، فإنّ اليمين معقودة، فوجب منع المكلّف من الفعل، فشرْعُ التحلّة لهذا العقد مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة، وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب.. ".
إلى أن قال ـ رحمه الله ـ: " وأيضاً؛ فإنّ الصحابة فهمت العموم، وكذلك العلماء عامّتهم حملوا الآية على اليمين بالله وغيرها.
وأيضاً؛ فنقول: سلّمنا أنّ اليمين المذكورة في الآية المراد بها اليمين بالله، وأنّ ما سوى اليمين بالله لا يلزم بها حكم؛ فمعلوم أنّ الحلف بصفات الله سبحانه، كالحلف به، كما لو قال: وعزّة الله، أو لعمر الله، أو والقرآن العظيم، فإنّه قد ثبت جواز الحلف بهذه الصفات ونحوها عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ والصحابة، ولأنّ الحلف بصفاته، كالاستعاذة بها.."(1).
__________
(1) القواعد النورانيّة الفقهيّة: ص234- 246، باختصار.(1/43)
القاعدة الثانية والثلاثون: ( إثبات الشيء، نفي لضدّه، ولما يستلزم ضدّه)(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في مبحث الصفات وطرق إثباتها، فإنّه قال:
( فصل: وأمّا في طرق الإثبات؛ فمعلوم أيضًا أنّ المثبت لا يكفي في إثباته مجرّد نفي التشبيه، إذ لو كفى في إثباته مجرّد نفي التشبيه، لجاز أن يوصف سبحانه من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى ممّا هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفى التشبيه، كما لو وصفه مفتر عليه بالبكاء، والحزن، والجوع، والعطش، مع نفي التشبيه! ).
إلى أن قال ـ رجمه الله ـ: ( وبالجملة؛ فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكلّ ما ضادّ ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفؤ، فإنّ إثبات الشيء نفي لضدّه، ولما يستلزم ضدّه، والعقل يعرف نفي ذلك، كما يعرف إثبات ضدّه. فإثبات أحد الضدّين، نفي للآخر، ولما يستلزمه ).
ثانيًا: قواعد في التفسير:
القاعدة الأولى: ( ألفاظ الكتاب والسنّة إذا عُرف تفسيرها من جهة النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ؛ لم يُحتج إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة، ولا غيرهم )(2).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ في معرض حديثه عن حقيقة الإيمان والإسلام ونزاع الناس واضطرابهم فيها.. فكان ممّا قاله:
__________
(1) مجموع الفتاوى: 3/ 84.
(2) مجموع الفتاوى: 7/ 286.(1/44)
" وممّا ينبغي أن يعلم أنّ الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث، إذا عُرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؛ لم في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة، ولا غيرهم، ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع: نوع يُعرف حدّه بالشرع، كالصلاة والزكاة. ونوع يُعرف باللغة كالشمس والقمر. ونوع يُرف حدّه بالعرف، كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله: { وعاشروهنّ بالمعروف }[ النساء: 19]، ونحو ذلك. وروي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنّه قال: ’’تفسير القرآن على أربعة أوجه؛ تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء،وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادّعى علمه فهو كاذب‘‘.
فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحجّ ونحو ذلك، قد بيّن الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ما يراد بها في كلام الله ورسوله، وكذلك لفظ الخمر وغيرها، ومن هناك يُعرف معناها، فلو أراد أحد أن يفسّرها بغير ما بيّنه النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ؛ لم يُقبل منه. وأمّا الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها؛ فذاك من جنس علم البيان. وتعليل الأحكام هو زيادة في العلم، وبيان حكمة ألفاظ القرآن، لكن معرفة المراد بها لا يتوقّف على هذا، واسم الإيمان والإسلام، والنفاق والكفر، هي أعظم من هذا كلّه، فالنبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قد بيّن المراد بهذه الألفاظ بياناً لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك، فلهذا يجب الرجوع في مسمّيات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله، فإنّه شافٍ كافٍ.." إلى آخر ما ذكر.
القاعدة الثانية: ( من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسَّر من الأسماء أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك ثبوت بقيّة الصفات للمسمّى، بل قد يكونان متلازمين، ولا دخول لبقيّة الأنواع فيه )(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 6/ 390.(1/45)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض ردّه على بعض المئوّولة القائلين إنّ اسمه ( النور ) سبحانه يجب تأويله قطعاً بالهادي ونحوه، كما قال ذلك بعض المفسّرين..
قال الشيخ بعد كلام له: " ثمّ نقول: هذا الذي قاله بعض المفسّرين في قوله: { الله نور السماوات والأرض }[النور: 35] أي: هادي أهل السماوات والأرض؛ لا يضرّنا، ولا يخالف ما قلناه، فإنّهم قالوه في تفسير الآية التي ذُكر النور فيها مضافاً؛ لم يذكروه في تفسير مطلق النور كما ادّعيت أنت من ورود الحديث به، فأين هذا من هذا ؟!.
ثمّ قول من قال من السلف: هادي أهل السماوات والأرض. لا يمنع أن يكون في نفسه نوراً، فإنّ من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسَّر من الأسماء، أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك ثبوت بقيّة الصفات للمسمّى، بل قد يكونان متلازمين، ولا دخول لبقيّة الأنواع فيه.
وهذا قد قرّرناه غير مرّة في القواعد المتقدّمة، ومن تدبّر علم أنّ أكثر أقوال السلف في التفسير متّفقة غير مختلفة. مثال ذلك: قول بعضهم في الصراط المستقيم إنّه الإسلام. وقول آخر: إنّه القرآن. وقول آخر: إنّه السنّة والجماعة. وقول آخر: إنّه طريق العبوديّة. فهذه كلّها صفات له متلازمة لا متباينة. وتسميته بهذه الأسماء بمنزلة تسمية القرآن والرسول بأسمائه، بل بمنزلة أسماء الله الحسنى ".
القاعدة الثالثة إلى الخامسة:
? ( ما دلّ عليه السياق هو ظاهر الخطاب؛ فلا يكون من موارد النزاع ).
? ( الصريح يقضي على الظاهر، ويبيّن معناه ).
? ( يجوز أن تفسَّر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى، ويُصرف الكلام عن ظاهره،وإن سُمّي تأويلاً وصرفاً عن الظاهر،وذلك لدلالة القرآن عليه.. ).(1/46)
هذه القواعد الثلاث ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ في موضع واحد، وذلك عند حديثه عن قرب الله ـ عزّ وجلّ ـ من عباده كما في قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }[ق: 16]، وهل هو قرب ذاتي لازم، أم يمكن تأويله بالعلم كما دلّ على ذلك سياق الآية ؟
قال ـ رحمه الله ـ: " وفيه القولان:
? أحدهما: إثبات ذلك، وهو قول طائفة من المتكلّمين والصوفيّة.
? والثاني: أنّ القرب هنا بعلمه، لأنّه قد قال: { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }، فذكر لفظ العلم هنا دلّ على القرب بالعلم. ومثل هذه الآية: حديث أبي موسى: ( إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إنّما تدعون سميعاً قريباً. إنّ الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته )(1)، فالآية لا تحتاج إلى تأويل القرب في الله تعالى إلا على هذا القول، وحينئذٍ فالسياق دلّ عليه، وما دلّ عليه السياق هو ظاهر الخطاب، فلا يكون من موارد النزاع. وقد تقدّم أنّا لا نذمّ كلّ ما يسمّى تأويلاً ممّا فيه كفاية، وإنّما نذمّ تحريف الكلم عن مواضعه، ومخالفة الكتاب والسنّة، والقول في القرآن بالرأي ".
__________
(1) أخرجه البخاري مختصراً ( 3968 )، ومسلم كذلك ( 2704 ).(1/47)
ثمّ قال ـ رحمه الله ـ: " وتحقيق الجواب هو أن يُقال: إمّا أن يكون قربه بنفسه القرب اللازم ممكناً، أو لا يكون. فإن كان ممكناً لم تحتج الآية إلى تأويل. وإن لم يكن ممكناً؛ حُملت الآية على ما دلّ عليه سياقها، وهو قربه بعلمه. وعلى هذا القول؛ فإمّا أن يكون هذا هو ظاهر الخطاب، فلا كلام‘ إذ لا تأويل حينئذٍ. وإن لم يكن ظاهر الخطاب، فإنّما حُمل على ذلك لأنّ الله تعالى قد بيّن في غير موضع من كتابه أنّه على العرش، وأنّه فوق، فكان ما ذكره في كتابه في غير موضع أنّه فوق العرش، مع ما قرنه بهذه الآية من العلم، دليلاً على أنّه أراد قرب العلم، إذ مقتضى تلك الآيات ينافي ظاهر هذه الآية على هذا التقدير، والصريح يقضي على الظاهر، ويبيّن معناه.
ويجوز ـ باتّفاق المسلمين ـ أن تُفسَّر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى، ويُصرف الكلام عن ظاهره، إذ لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السنّة، وإن سُمّي تأويلاً وصرفاً عن الظاهر، فذلك لدلالة القرآن عليه، ولموافقة السنّة والسلف عليه، لأنّه تفسير للقرآن بالقرآن، ليس تفسيراً له بالرأي. والمحذور إنّما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين كما تقدّم "(1).
القاعدة السادسة: ( استعمال القرآن لفظاً في معنى؛ لا يقتضي أنّ ذلك اللفظ لا يحتمل غير ذلك المعنى )(2).
وقد ضرب الشيخ لذلك مثلاً: لفظ السراح والفراق، وذكر قول من قال: إنّ هذين اللفظين صريحان في الطلاق، لأنّ القرآن ورد بذلك، وما ورد صريحاً في القرآن فلا يستعمل إلا فيه. ثم ذكر ـ رحمه الله ـ أنّ هذا القول "ضعيف لوجهين:
__________
(1) مجموع الفتاوى: 6/ 20، 21.
(2) مجموع الفتاوى: 15/ 450.(1/48)
? أحدهما: أنّ هذا الأصل لا دليل عليه، بل هو فاسد، فإنّ الواقع أنّ الناس ينطقون بلغاتهم التي توافق لغة العرب أو تخالفها من عربية أخرى، عرباً مقرّرة أو مغيّرة لفظاً أو معنى، أو من عربيّة مولّدة، أو عربيّة معرّبة تُلقّيت عن العجم، أو من عجميّة، فإنّ الطلاق ونحوه يثبت بجميع هذه الأنواع من اللغات، إذ المدار على المعنى، ولم يحرَّم ذلك عليهم، أو حُرّم عليهم فلم يلتزموه، فإنّ ذلك لا يوجب وقوع ما لم يوقعوه. وأيضاً فاستعمال القرآن لفظاً في معنى؛ لا يقتضي أنّ ذلك اللفظ لا يحتمل غير ذلك المعنى.
? الوجه الثاني ـ وهو القاصم ـ: أنّ هذه الألفاظ أكثر ما جاءت في القرآن في غير الطلاق، مثل قوله: {.. إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها فمتعوهنّ وسرّحوهنّ..}[الأحزاب: 49]، فهذا بعد التطليق البائن الذي لا عدّة فيه؛ أمر بتسريحهنّ مع التمتيع، ولم يرد به إيقاع طلاق ثانٍ، فإنّه لا يقع، ولا يؤمر به وفاقاً، وإنّما أراد التخلية بالفعل، وهو رفع الحبس عنها، حيث كان النكاح فيه الجمع ملكاً وحكماً، والجمع حسّاً وفعلاً بالحبس، وكلاهما موجبه، وهما متلازمان، فإذا زال الملك؛ أمر بإزالة اليد، كما يقال في الأموال: الملك والحيازة. فالقبض في الموضعين تابع للعقد.. " إلى آخر ما ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ.
القاعدة السابعة: ( زيادة اللفظ في القرآن لزيادة المعنى، وقوّة اللفظ لقوّة المعنى )(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 16/ 537. وانظر: النبوّات: ص 381.(1/49)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ عند حديثه عن وجه التكرار في سورة الكافرون، فذكر أنّ في ذلك قولين مشهورين، ثمّ قال بعد أن ذكرهما: " فإنّ القرآن له شأن اختصّ به، لا يشبهه كلام البشر ـ لا كلام نبيّ ولا غيره ـ وإن كان نزل بلغة العرب، فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة، ولا ببعض سورة مثله. فليس في القرآن تكرار للفظ بعينه عقب الأوّل قطّ، وإنّما في سورة الرحمن خطابه بذلك بعد كلّ آية، لم يذكر متوالياً. وهذا النمط أرفع من الأوّل. وكذلك قصص القرآن ليس فيها تكراراً كما يظنّه بعضهم.. "
" وكذلك ما يقوله بعضهم إنّه قد يعطف الشيء لمجرّد تغاير اللفظ، كقوله:
فألفى قولها كذباً وميناً
فليس في القرآن من هذا شيء، ولا يذكر فيه لفظاً زائداً إلا لمعنى زائد، وإن كان في ضمن ذلك التوكيد. وما يجيء من زيادة اللفظ مثل قوله: {فبما رحمة من الله لنت لهم }[آل عمران: 159]، وقوله: { عمّا قليل ليصبحنّ نادمين }[المؤمنون: 40]، وقوله: { قليلاً ما تذكّرون } [النمل: 62]؛ فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه، فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوّة اللفظ لقوّة المعنى، والضمّ أقوى من الكسر، والكسر أقوى من الفتح ... "(1).
القاعدة الثامنة: ( الكلام إذا اجتمع فيه شرط وقسم، وقُدّم القسم؛ سدّ جواب القسم مسدّ جواب الشرط )(2).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ في معرض ردّه على النصارى المنكرين لرسالة نبيّنا محمّد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وقد جاء ذكره لهذه القاعدة عرضياً، استطراداً منه رحمه الله، فإنّه لما ذكر قوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق النبييّن لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه }[ آل عمران: 81] قال:
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى: 534- 538.
(2) الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح: 2/ 120.(1/50)
" وهذه اللام الأولى تسمّى: اللام الموطّئة للقسم. واللام الثانية تسمّى: لام جواب القسم. والكلام إذا اجتمع فيه شرط وقسم، وقُدّم القسم؛ سدّ جواب القسم مسدّ جواب الشرط والقسم، كقوله تعالى: { لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولنّ الأدبار ثمّ لا يُنصرون }[الحشر: 12].. " وذكر آيات كثيرة من هذا النوع، ثمّ قال:
" ومثل هذا كثير، وحيث لم يُذكر القسم فهو محذوفٌ مرادٌ، تقدير الكلام: ( والله لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ووالله لئن قوتلوا لا ينصرونهم.. )، ومن محاسن لغة العرب أنّها تحذف من الكلام ما يدلّ المذكور عليه، اختصاراً وإيجازاً، لا سيما فيما يكثر استعماله، كالقسم..".
القاعدة التاسعة: ( الأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه، لا تغيير ترتيبه )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ عند تفسيره لأوّل سورة الغاشية: { هل أتاك حديث الغاشية * وجوه يومئذٍ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى ناراً حامية * تسقى من عين آنية }[الغاشية: 1- 5]، فإنّه قال:
" فيها قولان، أحدهما: أنّ المعنى: وجوه في الدنيا خاشعة، عاملة، ناصبة، تصلى يوم القيامة ناراً حامية. ويعنى بها: عبّاد الكفار كالرهبان، وعبّاد اليهود، وربّما تؤوّلت في أهل البدع كالخوارج.
والقول الثاني أنّ المعنى: أنّها يوم القيامة، تخشع أي: تذلّ وتعمل وتنصب.. "
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: " قلت: هذا هو الحقّ لوجوه:
__________
(1) مجموع الفتاوى: 16/ 218.(1/51)
? أحدها: أنّه على هذا التقدير يتعلّق الظرف بما يليه، أي: وجوه يوم الغاشية خاشعة عاملة ناصبة صالية. وعلى الأوّل لا يتعلّق إلا بقوله (تصلى )، ويكون قوله ( خاشعة ) صفة للوجوه، قد فصل بين الصفة والموصوف بأجنبيّ متعلّق بصفة أخرى متأخرة، والتقدير: ( وجوه خاشعة عاملة ناصبة يومئذٍ تصلى ناراً حامية )، والتقديم والتأخير على خلاف الأصل، فالأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه، لا تغيير ترتيبه. ثمّ إنّما يجوز فيه التقديم والتأخير مع القرينة، أمّا مع اللبس فلا يجوز، لأنّه يلتبس على المخاطب، ومعلوم أنّه ليس هنا قرينة تدلّ على التقديم والتأخير، بل القرينة تدلّ على خلاف ذلك، فإرادة التقديم والتأخير بمثل هذا الخطاب خلاف البيان، وأمر المخاطب بفهمه تكليف لما لا يطاق..." إلى آخر ما ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ.
القاعدة العاشرة: ( " أَنْ " المفسّرة التي تأتي بعد فعل؛ من معنى القول، لا من لفظه)(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند قوله تعالى: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.. }[الشورى: 13]، قال ـ رحمه الله ـ:
( ثمّ قال: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ..}[الشورى: 13]، وهذا تفسير الوصيّة.
و" أَنْ " المفسّرة التي تأتي بعد فعل؛ من معنى القول، لا من لفظه، كما في قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ..}[النحل: 123]، { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ..}[النساء:131]، والمعنى: قلنا لهم: اتّقوا الله. فكذلك قوله: ( أن أقيموا الدين )، في معنى: قال لكم: من الدين ما وصى به رسلاً، قلنا: أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. فالمشروع لنا هو الموصى به، والموحى، وهو أقيموا الدين. فأقيموا الدين مفسّر للمشروع لنا الموصى به الرسل، والموحى إلى محمّد.. ).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 1/ 12.(1/52)
القاعدة الحادية عشرة: ( حذف المضاف إليه يقارنه قرائن، فلا بدّ أن يكون مع الكلام قرينة تبيّن ذلك )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند قوله تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ }[الملك:27]، فذكر أنّ ( الضمير المفعول في ( رأوه ) عائد إلى الوعد، والمراد به الموعود، أي: فلمّا رأوا وُعدوا؛ سيئت وجوه الذين كفروا ).
ثمّ قال: ( ومن قال: إن الضمير عائد هنا إلى الله. فقوله ضعيف، وفساد قول الذين يجعلون المراد لقاء الجزاء دون لقاء الله معلوم بالاضطرار بعد تدبّر الكتاب والسنّة؛ يظهر فساده من وجوه:
o أحدها: أنّه خلاف التفاسير المأثورة عن الصحابة والتابعين.
o الثاني: أنّ حذف المضاف إليه يقارنه قرائن، فلا بدّ أن يكون مع الكلام قرينة تبيّن ذلك، كما قيل في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا.. }[يوسف:82]، ولو قال قائل: رأيت زيدًا، أو لقيته مطلقًا، وأراد بذلك: لقاء أبيه، أو غلامه؛ لم يجز ذلك في لغة العرب بلا نزاع. ولقاء الله قد ذُكر في كتاب الله وسنّة رسوله في مواضع كثيرة مطلقًا، غير مقترن بما يدلّ على أنّه أريد بلقاء الله لقاء بعض مخلوقاته من جزاء أو غيره ).
القاعدة الثانية عشرة: ( القراءة الشاذّة تجري مجرى خبر الواحد )(2).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عَرَضًا في موضوع قضاء رمضان، وهل يستحبّ التتابع في القضاء، فذكر الأثر المرويّ عن حميد بن قيس أنّه كان يطوف مع مجاهد، فجاءه إنسان يسأله عن صيام من أفطر في رمضان، أيتابع؟ فقال: لا. قال: فضرب مجاهد في صدري، ثمّ قال: إنّها قراءة أبيّ بن كعب: { متتابعات }.
لكن رجّح الشيخ أنّ هذا الحرف منسوخ تلاوته وحكمه.. وذكر الأدلّة على ذلك ...
__________
(1) مجموع الفتاوى: 6/ 471.
(2) كتاب الصيام من شرح العمدة: 1/ 343.(1/53)
القاعدة الثالثة عشرة: ( العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، مع اشتراكهما في الحكم الذي ذُكر لهما )(1).
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ:
( فصل: وعطف الشيء على الشيء في القرآن وسائر الكلام، يقتضي مغايرةً بين المعطوف والمعطوف عليه، مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم الذي ذُكر لهما. والمغايرة على مراتب، أعلاها: أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزأه، ولا يعرف لزومه له، كقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ..}[الفرقان:59] ونحو ذلك، وقوله: { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ.. }[البقرة:98]، وقوله: { وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ . مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ.. }[آل عمران: 3،4]، وهذا هو الغالب. ويليه: أن يكون بينهما لزوم، كقوله: { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ.. }[البقرة:42]، وقوله: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ..}[النساء:115]، وقوله: { وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ..}[النساء:136]، فإنّ من كفر بالله، فقد كفر بهذا كلّه، فالمعطوف لازم للمعطوف عليه. وفي الآية التي قبلها المعطوف عليه لازم، فإنّه من يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى، فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين. وفي الثاني نزاع. وقوله: { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ.. }[البقرة:42] هما متلازمان، فإنّ من لبس الحق بالباطل، فجعله ملبوسًا به؛ خفي من الحقّ بقدر ما ظهر من الباطل، فصار ملبوسًا، ومن كتم الحقّ، احتاج أن يقيم موضعه باطلاً، فيلبس الحقّ بالباطل، ولهذا كان كلّ من كتم من أهل الكتاب ما أنزل الله، فلا بدّ أن يُظهر باطلاً ).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 7/ 172. وانظر: 16/ 127.(1/54)
القاعدة الرابعة عشرة: ( العطف تارة يكون لتغاير الذوات، وتارة لتغاير الصفات )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض ردّه على النصارى المحتجّين بما ورد في السفر الثاني من التوراة، أنّ الله كلّم موسى قائلاً: ( أنا إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب )، قالوا: وتكرار ( إله ) لتحقّق مسألة الثلاث أقانيم في لاهوته..
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: ( والجواب: أنّ الاحتجاج بهذا على الأقانيم الثلاثة، من أفسد الأشياء، وذلك يظهر من وجوه.. ).
فذكر الوجهين الأوّلين، ثمّ قال:
(
__________
(1) الجواب الصحيح: 3/ 459.(1/55)
الوجه الثالث: أنّ العطف يكون تارة لتغاير الذوات، وتارة لتغاير الصفات، كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى.وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى.وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى.فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى }[الأعلى: 1- 5]، وكذلك قوله: {إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ..}[البقرة: 133]، وهو هو سبحانه. وقال إبراهيم الخليل ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:75- 82]، والذي خلقه هو الذي يطعمه ويسقيه، وهو الذي يميته ثمّ يحييه. فقوله في التوراة: ( إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب ) هو من هذا الباب، ولا يختصّ هذا بثلاثة، بل يقال في الاثنين، والأربعة، والخمسة، بحسب ما يقصد المتكلّم ذكره من الصفات، وفي هذا من الفائدة ما ليس في قوله: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فإنّه لو قيل ذلك، لم يفد إلا أنّه معبود الثلاثة، لا يدلّ على أنّهم عبدوه مستقلّين، كلّ منهم عبده عبادة اختصّ بها، لم تكن هي نفس عبادة الأوّل ).
القاعدة الخامسة عشرة: ( المعطوف إذا تقدّم اسمًا، كان عطفه على القريب أولى، كما أنّ عود الضمير إلى الأقرب أولى، إلا إذا كان هناك دليل يقتضي العطف على البعيد )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند تفسير سورة الناس، فإنّه ذكر قول الزجّاج في قوله تعالى: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ } إلى آخر السورة، أنّ المعنى: من شرّ الوسواس الذي هو الجِنّة، ومن شرّ الناس. فضعّف الشيخ هذا القول لوجهين:
__________
(1) مجموع الفتاوى: 17/ 512.(1/56)
? أحدهما: أنّ الوسواس الخنّاس إن لم يكن إلا من الجِنّة فلا حاجة إلى قوله: من الجِنّة ومن الناس، فلماذا يخصّ الاستعاذة من وسواس الجِنّة دون وسواس الناس؟.
? الثاني: أنّه إذا تقدّم المعطوف اسمًا، كان عطفه على القريب أولى، كما أنّ عود الضمير إلى الأقرب أولى، إلا إذا كان هناك دليل يقتضي العطف على البعيد، فعطف الناس هنا على الجِنّة المقرون به، أولى من عطفه على الوسواس ).
القاعدة السادسة عشرة: ( الضمير يعود إلى القريب إذا لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند قوله تعالى: {.. اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ }[يوسف:42]، قال ـ رحمه الله ـ:
( قيل: أُنسي يوسف ذكر ربّه لمّا قال: ( اذكرني عند ربّك ).
وقيل: بل الشيطان أنسى الذي نجا منهما ذكر ربّه. وهذا هو الصواب، فأنّه مطابق لقوله: ( اذكرني عند ربّك )، قال تعالى: ( فأنساه الشيطان ذكر ربّه )، والضمير يعود إلى القريب إذا لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك، ولأنّ يوسف لم ينس ذكر ربّه، بل كان ذاكرًا لربّه... )(2).
القاعدة السابعة عشرة: ( الضمير يجب عوده إلى جميع ما تقدّم ذكره، فإن تعذّر عوده إلى الجميع؛ أُعيد إلى أقرب المذكورين، أو إلى ما يدلّ دليل على تعيينه )(3).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 15/ 112.
(2) الراجح ـ والله تعالى أعلم ـ أنّ الآية محتملة للقولين جميعاً، وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه، وقد فصّلت القول في ذلك في رسالتي للدكتوراه: ( اختيارات ابن تيمية وترجيحاته في التفسير/ جمعًا ودراسة.. ) فلتراجع.
(3) مجموع الفتاوى: 31/ 147.(1/57)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في باب الوقف، ولم يذكر لها مثالاً من القرآن الكريم، ولعلّ أوضح مثال لها، قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }النور: 4، 5]، /
ثالثًا: قواعد في الحديث:
القاعدة الأولى: ( إذا أخبر في أحد الحديثين بشيء، وأخبر في الآخر بزيادة أخرى لا تنافيها؛ كانت تلك الزيادة بمنزلة خبر مستقلّ )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ عند حديثه عما ورد في بعض الأحاديث والآثار من رؤية المؤمنين ربّهم في الجنّة في مثل يوم الجمعة من أيّام الدنيا، وفي صحيح مسلم لم يرد ذكر الرؤية، وإنّما فيه أنّهم يأتون سوقاً في الجنّة يوم الجمعة فتهبّ ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسناً وجمالاً.. الحديث(2).
قال ـ رحمه الله ـ: " وأصل حديث سوق الجنّة قد رواه مسلم في صحيحه ولم يذكر فيه الرؤية..".
ثمّ قال: " وهذه الأحاديث [ يريد التي في غير مسلم ] عامّتها إذا جُرّد إسناد الواحد منها، لم يخلُ من مقال قريب أو شديد، لكن تعدّد طرقها يغلب على الظنّ ثبوتها في نفس الأمر، بل قد يقتضي القطع بها، وأيضاً فقد رُوي عن الصحابة والتابعين ما يوافق ذلك، ومثل هذا لا يُقال بالرأي، وإنّما يُقال بالتوقيف "(3).
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى: 6/ 407.
(2) أخرجه مسلم ( 2833 ).
(3) مجموع الفتاوى: 6/ 403.(1/58)
ثمّ ذكر الشيخ أنّ الواجب في مثل هذه الزيادات أن يُقال: " ما في تلك الأحاديث من الزيادات لا ينافي هذا [ أي الذي في صحيح مسلم ].. فإنّ الترجيح إنّما يكون عند التنافي. وأمّا إذا أخبر في أحد الحديثين بشيء، وأخبر في الآخر بزيادة أخرى لا تنافيها، كانت تلك الزيادة بمنزلة خبر مستقلّ، فها هو الصواب ".
القاعدة الثانية: ( النصّ الصحيح عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مقدّم على تأويل من تأوّله من أصحابه وغيرهم ).
هذا الأصل ذكره الشيخ في معرض حديثه عن عذاب القبر، وهل هو على النفس والبدن، أو على النفس دون البدن؟ وقد ذكر حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما الذي في الصحيحين وغيرهما أنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وقف على قليب بدر، فقال: " هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً ؟ "، وقال: " إنّهم ليسمعون الآن ما أقول ". فذكر ذلك لعائشة ـ رضي الله عنها ـ، فقالت: وهم ابن عمر، إنّما قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " إنّهم ليعلمون الآن أنّ الذي قلت لهم هو الحقّ " ثمّ قرأت قوله تعالى: { إنّك لا تسمع الموتى } حتّى قرأت الآية.
وقد روى أنس ـ رضي الله عنه مثل الذي روى ابن عمر..
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: " وأهل العلم بالحديث والسنّة اتّفقوا على صحّة ما رواه أنس وابن عمر.. ".
ثمّ قال: " وعائشة تأوّلت فيما ذكرته، كما تأوّلت أمثال ذلك، والنصّ الصحيح عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مقدّم على تأويل من تأوّل من أصحابه وغيره(1)، وليس في القرآن ما ينفي ذلك، فإنّ قوله: { إنّك لا تسمع الموتى } إنّما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه... " إلى آخر ما ذكر.
ومراد الشيخ ـ رحمه الله ـ بهذا الأصل كما يظهر: ما اختلف في تأويله الأصحاب ـ رضي الله عنهم ـ، أمّا ما اتّفقوا على تأويله فليس فيه إشكال أصلاً.
__________
(1) هكذا في الفتاوى ( وغيره )، ولعلّ الصحيح: ( وغيرهم ).(1/59)
وقوله: ( النصّ الصحيح ) أي: الواضح البيّن الذي لا يحتمل التأويل، والله تعالى أعلم.
القاعدة الثالثة: ( الاعتبار بما رواه الصحابيّ، لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدلّ على ما فهمه بل على خلافه )(1).
هذه القاعدة في معنى التي قبلها، فإنّ الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ مع جلالة قدرهم، وعلوّ مرتبتهم، ليسوا بمعصومين عن الخطأ، كما أنّ أفهامهم ليست متساوية، فإذا روى أحدهم حديثاً، وتأوّله على غير ما تأوّله غيره من الصحابة الذين هم أكثر منه عدداً، وأوفر علماً، لم يكن فهمه حجّة يُحتجّ بها..
وقد ذكر الشيخ هذه القاعدة عند ذكره حديث الأعمى الذي جاء إلى النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقال: ادعُ الله أن يعافيني، فقال: " إن شئت أخّرت ذلك، فهو خير لك، وإن شئت دعوت "، قال: فادعه. فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ويصلّي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه، اللهمّ فشفّعه فيّ، وشفّعني فيه ..
وراوي هذا الحديث هو الصحابي الجليل عثمان ابن حنيف ـ وهو عمّ الصحابي الجليل سهل بن حنيف ـ وقد روي أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفّان ـ رضي الله عنه في زمن خلافته في حاجة له، وكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي هذا الرجل عثمان بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ فشكا إليه ذلك، فأخبره بحديث الأعمى، وأمره أن يفعل مثل ما فعل، ويدعو ببعض ذلك الدعاء، فقضيت حاجته..
وقد أطال الشيخ ـ رحمه الله ـ في الكلام عن هذا الحديث، وهذه القصّة، وما فيها من الزيادات المنكرة..
__________
(1) مجموع الفتاوى: 1/ 278.(1/60)
إلى أن قال: " وبالجملة، فهذه الزيادة لو كانت ثابتة؛ لم يكن فيها حجّة، وإنّما غايتها أن يكون عثمان بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ ظنّ أنّ الدعاء يُدعى ببعضه دون بعض، فإنّه لم يأمره بالدعاء المشروع، بل ببعضه، وظنّ أنّ هذا مشروع بعد موته ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ولفظ الحديث يناقض ذلك.. "(1).
ثمّ أكّد ذلك بقوله: " فهذه الزيادة فيها عدّة علل: انفراد هذا بها عم من هو أكبر وأحفظ منه، وإعراض أهل السنن عنها، واضطراب لفظها، وأنّ راويها [ قبل الصحابي ] عُرف له.. أحاديث منكرة.. ".
قال الشيخ: " ومثل هذا يقتضي حصول الريب والشك في كونها ثابتة، فلا حجّة فيها، إذ الاعتبار بما رواه الصحابي، لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدلّ على ما فهمه، بل على خلافه ".
إلى أن قال ـ رحمه الله ـ: " ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما يثبت عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يخلفه لا يوافقه؛ لم يكن فعله سنّة يجب على المسلمين اتّباعها، بل غايته أن يكون ممّا يسوغ فيه الاجتهاد، وممّا تنازعت فيه الأمّة، فيجب ردّه إلى الله والرسول.. "(2).
القاعدة الرابعة: ( ما كان مشهوراً في الأمّة عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ولم ينكره أحد من علمائها؛ كانت الأمّة متّفقة على نقله، كنقلهم للقرآن والشرائع الظاهرة المشهورة )(3).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 1/ 275.
(2) مجموع الفتاوى: 1/ 278، 279.
(3) الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح: 6/ 357.(1/61)
هذه القاعدة الجليلة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ في معرض حديثه عن إثبات نبوّة محمّد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ردّاً على النصارى المنكرين لها.. وقد ذكر الشيخ ستّ طرق كبرى للقطع بنبوّته عليه الصلاة والسلام، من هذه الطرق: ما حصل بمحضر من الخلق الكثير، كتكثير الطعام يوم الخندق، وكان بمحضر الألوف من الرجال والنساء، وكذلك نبع الماء من بين أصابعه، وفيضان البئر بالماء يوم الحديبيّة، وكانوا يومئذٍ ألفاً وخمسمائة.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: " فنحن نعلم أنّهم لم يكونوا يقرّون من يعلمون أنّه يكذب عليه، ومن أخبر عنه بما كانوا مشاهدين له، وكذب عليه، فقد علموا أنّه كذب عليه، فلمّا اتّفقوا على الإقرار على ذلك وعلى تناقله بينهم من غير إنكار أحد منهم لذلك؛ عُلم قطعاً أنّ القوم كانوا متّفقين على نقل ذلك، كما هم متّفقون على نقل القرآن والشريعة المتواترة..
وكذلك ما نقلوه من شرائعه ومن آياته وبراهينه، يبيّن ذلك: أنّ ما أنكره بعضهم، ردّه على الآخر ولم يوافقه، وإن كانوا متأخرين عن زمن الصحابة، فكيف بالمتقدّمين..
فعلم بذلك أنّ ما كان مشهوراً في الأمّة عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ولم ينكره أحد من علمائها؛ كانت الأمّة متّفقة على نقله، كنقلهم للقرآن وللشرائع الظاهرة المشهورة، وأنّ نقل ذلك أعظم من نقل سائر أخبار الأنبياء والعلماء والملوك والزهّاد "(1).
القاعدة الخامسة: ( العدم لا يُحتجّ به في الأخبار بإجماع العقلاء )(2).
__________
(1) الجواب الصحيح: 6/ 355- 358 ( باختصار يسير ).
(2) مجموع الفتاوى: 6/ 446.(1/62)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ في معرض حديثه عن رؤية المؤمنين ربّهم في الجنّة، وقد ذكر الشيخ قول من قال: إنّ أهل الجنة لا يرون ربّهم إلا في موطنين؛ أحدهما يوم الجمعة، لحديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: " سارعوا إلى الجمعة، فإنّ الله يبرز لأهل الجنّة في كلّ جمعة.. "(1)والثاني: ما جاء في حديث جرير البجليّ ـ رضي الله عنه ـ عنه صلّى الله عليه وسلّم ـ أنّه نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: " إنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته.. "(2).
قال ـ رحمه الله ـ: " فإن قيل: لا رؤية لأهل الجنّة إلا في هذين الموطنين.
قيل: ما الذي دلّ على هذا ؟.
فإن قيل: لأنّ الأصل عدم ما سوى ذلك.
قيل: العدم لا يُحتجّ به في الأخبار بإجماع العقلاء. بل من أخبر به كان قائلاً ما لا علم له به، ولو قيل للرجل: هل في البلد الفلاني كذا، وفي المسجد الفلانيّ كذا ؟ فقال: لا، لأنّ الأصل عدمه، كان نافياً ما ليس له به علم باتّفاق العقلاء ".
القاعدة السادسة: ( المرسَل إذا أُرسل من جهةٍ أخرى، أو عضده ظاهر القرآن أو السنّة؛ صار حجّة وفاقاً ).
القاعدة السابعة: ( إذا كان الجارح والمعدّل من الأئمّة؛ لم يُقبل الجرح إلا مفسّراً، فيكون التعديل مقدّماً على الجرح المطلق )(3).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ عند حديثه عن زيارة النساء للقبور، فقد احتج على المنع بحجج منها حديث: " لعن الله زائرات القبور.. " فذكر أنّه قد جاء من طريقين، أحدهما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصحّحه. والآخر عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أخرجه أحمد وأبو داود والنسائيّ والترمذي وحسّنه، وفي بعض النسخ تصحيحه..
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ: عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنّة ( 476 ).
(2) أخرجه البخاري ( 529 )، ومسلم ( 633 ).
(3) مجموع الفتاوى: 24/ 351.(1/63)
قال ـ رحمه الله ـ: " فإن قيل: الحديث الأوّل رواه عمر بن أبي سلمة، وقد قال فيه عليّ بن المدينيّ: تركه شعبة، وليس بذاك. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس يحتجّ بحديثه. وقال السعديّ والنسائيّ: ليس بقويّ الحديث. والثاني فيه أبو صالح باذام، مولى أمّ هانىء، وقد ضعفّوه.. ".
قال الشيخ: " قلت: الجواب عن هذا من وجوه:
o أحدها: أن يقال: كلٌ من الرجلين قد عدّله طائفة من العلماء، كما جرّحه آخرون. أمّا عمر فقد قال فيه أحمد بن عبد الله العجليّ: ليس به بأس. وكذلك قال يحيى بن معين: ليس به بأس. وابن معين وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية...
وأمّا أبو صالح؛ فقد قال يحيى بن سعيد القطّان: لم أر أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أمّ هانىء، وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً، ولم يتركه شعبة ولا زائدة. فهذه رواية شعبة عنه تعديل له كما عرف من عادة شعبة. وترك ابن مهدي له لا يعارض ذلك؛ فإنّ يحيى بن سعيد أعلم بالعلل والرجال من ابن مهدي، فإنّ أهل الحديث متّفقون على أنّ شعبة ويحيى بن سعيد أعلم بالرجال من ابن مهدي وأمثاله..".
إلى أن قال ـ رحمه الله ـ: " وإذا كان كذلك؛ فيقال: إذا كان الجارح والمعدّل من الأئمّة؛ لم يقبل الجرح إلا مفسَّراً، فيكون التعديل مقدّماً على الجرح المطلق ".
ثمّ ذكر الوجه الثاني ...
القاعدة الثامنة: ( من أثبت شيئاً وذكره، حجّة على من لم يثبته )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في سياق ذكره الأدلّة من السنّة على وجوب قتل سابّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، قال ـ رحمه الله ـ:
(
__________
(1) الصارم المسلول: ص 137.(1/64)
السنّة الثانية عشرة: أنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمر بقتل جماعة لأجل سبّه. وقتل جماعة لأجل ذلك مع كفّه وإمساكه عمّن هو بمنِزلتهم في كونه كافراً حربياً، فمن ذلك: ما قدّمناه عن سعيد بن المسيّب، أنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمر يوم الفتح بقتل ابن الزبعرى. وسعيد بن المسيّب هو الغاية في جودة المراسيل، ولا يضرّه أن لا يذكره بعض أهل المغازي، فإنّهم مختلفون في عدد من استثني من الأمان، وكلٌ أخبر بما علم، ومن أثبت الشيء وذكره؛ حجّة على من لم يثبته ).
رابعاً: قواعد في اللغة:
القاعدة الأولى: ( الاسم المجموع المعرّف بالألف واللام يوجب استيعاب الجنس )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عند المسألة المشهورة، وهي: المفاضلة بين الملائكة والناس، وقد ذكر قول من قال: إنّ الملائكة الذين سجدوا لآدم ملائكة في الأرض فقط؛ لا ملائكة السموات. ومن قال: ملائكة السموات دون الكروبيين. ورووا في ذلك: " إنّ من خلق الله خلق لا يدرون أخلق آدم أم لا "..
ثمّ قال الشيخ ـ رحمه الله ـ في ردّ هذه القول: ".. فاعلم أنّ هذه المقالة أوّلاً ليس معها ما يوجب قبولها؛ لا مسموع ولا معقول، إلا خواطر وسوانح ووساوس مادتها من عرش إبليس، يستفزّهم بصوته ليردّ عنهم النعمة التي حرص على ردّها عن أبيهم قديماً، أو مقالة قد قالها من يقول الحقّ والباطل، لكن معنا ما يوجب ردّها من وجوه:
o أحدها: أنّه خلاف ما عليه العامّة من أهل العلم بالكتاب والسنّة، وإذا كان لا بدّ من التقليد؛ فتقليدهم أولى.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 4/ 362.(1/65)
o وثانيها: أنّه خلاف ظاهر الكتاب العزيز، وخلاف نصّه، فإنّ الاسم المجموع المعرّف بالألف واللام يوجب استيعاب الجنس، قال تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ .. }[البقرة:34]، فسجود الملائكة يقتضي جميع الملائكة، هذا مقتضى اللسان الذي نزل به القرآن، فالعدول عن موجب القول العامّ إلى الخصوص لا بدّ له من دليل يصلح له، وهو معدوم.
o وثالثها: أنّه قال: { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ }[ص:73]، فلو لم يكن الاسم الأوّل يقتضي الاستيعاب والاستغراق؛ لكان توكيده بصيغة ( كلّ ) موجبة لذلك، ومقتضية له، ثمّ لو لم يفد تلك الإفادة؛ لكان قوله ( أجمعون ) توكيداً وتحقيقاً بعد توكيد وتحقيق، ومن نازع في موجب الأسماء العامّة، فإنّه لا ينازع فيها بعد توكيدها بما يفيد العموم، بل إنّما يُجاء بصيغة التوكيد قطعاً لاحتمال الخصوص وأشباهه " إلى آخر ما ذكر..
القاعدة الثانية: ( جوازم الفعل المضارع، ونواصبه؛ تخلّصه للاستقبال )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ في معرض ردّه على بعض الفرق النافين لصفات الله الاختيارية، وهي التي يتصف بها الربّ ـ عزّ وجلّ ـ فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته، مثل كلامه وسمعه وبصره وإرادته ومحبّته.. ونحو ذلك ممّا نطق به الكتاب العزيز، مثل قوله سبحانه: { إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون }[يس: 82]، وقوله: { ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعل ذلك غداً * إلا أن يشاء الله.. }[الكهف: 23، 24]، وقوله: { لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله.. }[الفتح: 27]، وقوله: {وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له.. }[الرعد: 11]، وأمثال ذلك في القرآن..
__________
(1) مجموع الفتاوى: 6/ 225.(1/66)
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ بعد ذكره لهذه الآيات وغيرها: " فإنّ جوازم الفعل المضارع، ونواصبه، تخلّصه للاستقبال، مثل: ( إن )، و ( أن )، وكذلك ( إذا ) ظرف لما يُستقبل من الزمان، فقوله: ( إذا أراد )، و( إن شاء الله ) ونحو ذلك، يقتضي حصول إرادة مستقبلة، ومشيئة مستقبلة ".
القاعدة الثالثة: ( حرف الاستفهام إذا دخل على حرف النفي؛ كان ذلك تقريراً )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن معرفة الربّ سبحانه، وأنّ كلّ إنسان في قلبه هذه المعرفة، وأنّ الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يُفسد فطرته حتّى يحتاج إلى نظر تحصل به المعرفة.. خلافاً لمن قال من أهل الكلام أنّ اعتراف النفس بالخالق وإثباتها له لا يحصل إلا بالنظر.
وقد ذكر الشيخ قصّة فرعون، وقوله لموسى ـ عليه السلام ـ: ( وما ربّ العالمين ؟)، وبيّن أنّ الاستفهام هنا استفهام إنكار وجحد، لا سؤال عن ماهية الربّ.. ".
إلى أن قال: " وكذلك قول الرسل: ( أفي الله شكّ ) هو نفي، إي: ليس في الله شكّ، وهو استفهام تقرير يتضمّن تقرير الأمم على ما هم مقرّون به من أنّه ليس في الله شكّ، فهذا استفهام تقرير، فإنّ حرف الاستفهام إذا دخل على حرف النفي كان تقريراً، كقوله: { ألم نشرح لك صدرك }[الشرح: 1]، { ألم نجعل له عينين }[البلد: 8]، { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم.. } [التوبة:70] ، ومثله كثير. بخلاف استفهام فرعون؛ فإنّه استفهام إنكار لا تقرير، إذ ليس هناك إلا أداة الاستفهام فقط، ودلّ سياق الكلام على أنّه إنكار ".
القاعدة الرابعة: ( حرف "في" التي يسمّيها النحاة ظرفاً؛ يستعمل في كلّ موضع بالمعنى المناسب لذلك الموضع )(2).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض ردّه على النصارى في تشبيههم حلول كلمة الله في الناسوت بالكتابة في القرطاس..
__________
(1) مجموع الفتاوى: 16/ 340.
(2) انظر: الجواب الصحيح: 4/ 330.(1/67)
قال الشيخ جواباً على هذا التشبيه: " فيقال: هذا التمثيل حجّة عليكم، وعلى فساد قولكم، لا حجّة لكم، وذلك يظهر بوجوه.. ".
فذكر ستّة أوجه، إلى أن قال: " السابع: أنّ حرف "في" التي يسمّيها النحاة ظرفاً؛ يستعمل في كلّ موضع بالمعنى المناسب لذلك الموضع، فإذا قيل إنّ الطعم واللون والريح حالّ في الفاكهة. أو العلم والقدرة والكلام جالّ في المتكلّم، فهذا معنى معقول. وإذا قيل إنّ هذا حالّ في داره، أو أنّ الماء جالّ في الظرف، فهذا معنى آخر. فإنّ ذاك حلول صفة في موصوفها، وهذا حلول عين قائمة تسمّى جسماً وجوهراً في محلّها، ومنه يقال لمكان القوم: المحلّة. ويقال فلان حلّ في المكان الفلاني. وإذا قيل: الشمس والقمر في الماء، أو في المرآة، أو كلام فلان في هذا القرطاس؛ فهذا له معنى يفهمه الناس، يعلمون أنّه قد ظهرت الشمس والقمر والوجه في المرآة، ورؤيت فيها، وأنّه لم يحلّ بها ذات ذلك. وكذلك الكلام إذا كُتب في القرطاس؛ فالناس يعلمون أنّه مكتوب فيه، ومقروء فيه، ومنظور فيه، ويقولون: نظرت في كلام فلان وقرأته وتدبّرته وفهمته ورأيته ونحو ذلك، كما يقولون: رأيت وجهه في المرآة وتأمّلته ونحو ذلك، وهم في ذلك كلّه صادقون، يعلمون ما يقولون.." إلى آخر ما ذكر.
القاعدة الخامسة: ( الواو كما أنّها لا تقتضي الترتيب؛ فهي لا تنفيه، فإن كان في الكلام قرينة تدلّ عليه؛ وجب رعايتها )(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 31/ 146.(1/68)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في مسألة من مسائل الوقف الشائكة، ويمكن التمثيل لها بآية الوضوء التي في سورة المائدة، فقد رجّح الشيخ وجوب الترتيب في الوضوء على ما ذُكر في الآية خلافاً للحنفية القائلين بعدم الوجوب، وحجّة الشيخ أنّ الله ـ سبحانه ـ أدخل ممسوحاً بين مغسولين، وقطع النظير عن نظيره.. والكلام العربيّ الجزل لا يُقطع فيه النظير عن نظيره، ويُفصل بين الأمثال بأجنبيّ إلا لفائدة، ولا فائدة هنا إلا الترتيب..."(1).
القاعدة السادسة: ( كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت، فليس ظاهرها إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسّة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيّدت بمعنى من المعاني، دلّت على المقارنة في ذلك المعنى )(2).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن معيّة الله، والردّ على نفاة الصفات، قال ـ رحمه الله ـ:
(
__________
(1) شرح العمدة، كتاب الطهارة: 1/ 203 ، ( باختصار ).
(2) مجموع الفتاوى: 5/ 103.(1/69)
وذلك أنّ كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت، فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسّة، أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قُيّدت بمعنى من المعاني، دلّت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنّه يقال: ما زلنا نسير، والقمر معنا، أو والنجم معنا. ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وان كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة. ثمّ هذه المعيّة تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلمّا قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا.. } إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ..}[الحديد:4] دلّ ظاهر الخطاب على أنّ حكم هذه المعيّة ومقتضاها أنّه مطّلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنّه معهم بعلمه. وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. وكذلك في قوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ.. }إلى قوله: { هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }الآية[المجادلة:7]. ولمّا قال النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لصاحبه في الغار: لا تحزن إنّ الله معنا، كان هذا أيضًا حقًا على ظاهره، ودلّت الحال على أنّ حكم هذه المعيّة هنا معيّة الاطلاع والنصر والتأييد. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }[النحل:128]، وكذلك قوله لموسى وهارون: {.. إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }[طه:46]، هنا المعيّة على ظاهرها. وحكمها في هذه المواطن: النصر والتأييد. وقد يدخل على صبيّ من يخيفه، فيبكي، فيشرف عليه أبوه من فوق السقف، فيقول: لا تخف، أنا معك. أو أنا هنا. أو أنا حاضر. ونحو ذلك، ينبّهه على المعيّة الموجبة بحكم الحال دفع المكروه. ففرق بين معنى المعيّة، وبين مقتضاها. وربّما صار مقتضاها من معناها، فيختلف باختلاف المواضع.(1/70)
فلفظ المعيّة قد استعمل في الكتاب والسنّة في مواضع يقتضي في كلّ موضع أمورًا لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإمّا أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدلّ على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كلّ موضع بخاصيّة. فعلى التقديرين، ليس مقتضاها أن تكون ذات الربّ ـ عزّ وجلّ ـ مختلطة بالخلق حتّى يقال: قد صرفت عن ظاهرها ).
القاعدة السابعة: ( الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أنّ الاسم العامّ إذا كان له نوعان؛ خصّتْ أحد النوعين باسم، وأبقت الاسم العامّ مختصّاً بالنوع )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض ردّه على النصارى القائلين بأنّ المسيح ـ عليه السلام ـ نفس كلمة الله، قال الشيخ ـ رحمه الله ـ مفنّداً هذه الشبهة:
(
__________
(1) الجواب الصحيح: 3/ 317. وانظر: مجموع الفتاوى: 22/ 260.(1/71)
لو كان المسيح نفس كلمة الله، فكلمة الله ليست هي الإله الخالق للسماوات والأرض، ولا هي تغفر الذنوب وتجزي الناس بأعمالهم، سواء كانت كلمته صفة له أو مخلوقة له كسائر صفاته ومخلوقاته، فإنّ علم الله وقدرته وحياته لم تخلق العالم، ولا يقول أحد: يا علم الله اغفر لي، ويا قدرة الله توبي عليّ، ويا كلام الله ارحمني. ولا يقول: يا توراة الله، أو يا إنجيله، أو يا قرآنه اغفر لي وارحمني، وإنّما يدعو الله سبحانه، وهو سبحانه متّصف بصفات الكمال. فكيف والمسيح ليس هو نفس الكلام! فإنّ المسيح جوهر قائم بنفسه، والكلام صفة قائمة بالمتكلّم، وليس هو نفس الربّ المتكلّم، فإنّ الربّ المتكلّم هو الذي يسمّونه الأب. والمسيح ليس هو الأب عندهم، بل الابن، فضلّوا في قولهم من جهات، منها: جعل الأقانيم ثلاثة، وصفات الله لا تختصّ بثلاثة. ومنها: جعل الصفة خالقة! والصفة لا تخلق. ومنها: جعلهم المسيح نفس الكلمة، والمسيح خُلق بالكلمة، فقيل له: كن فكان كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفسير ذلك، وإنّما خُصّ المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر لأنّ سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات، يخلق الواحد من ذرية آدم، من نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة، ثمّ ينفخ فيه الروح، وخُلقوا من ماء الأبوين الأب والأم. والمسيح ـ عليه السلام ـ لم يخلق من ماء رجل، بل لما نَفخ روح القدس في أمّه، حبلت به، وقال الله: كن، فكان.(1/72)
ولهذا شبّهه الله بآدم في قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[آل عمران:59]، فإنّ آدم ـ عليه السلام ـ خُلق من تراب وماء فصار طيناً، ثمّ أيبس الطين، ثمّ قال له: كن فكان، وهو حين نُفخ الروح فيه صار بشراً تامّاً لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح، فإنّ الجنين بعد نفخ الروح يكمل خلق جسده في بطن أمّه، فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر، ثمّ يخرج طفلاً يرتضع، ثم يكبر شيئاً بعد شيء. وآدم ـ عليه السلام ـ حين خُلق جسده قيل له: كن، فكان بشراً تامّاً بنفخ الروح فيه، ولكن لم يُسمَّ كلمة الله: لأنّ جسده خُلق من التراب والماء، وبقي مدّة طويلة، يقال أربعين سنة، فلم يكن خلق جسده إبداعياً في وقت واحد، بل خُلق شيئاً فشيئاً، وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة. وأمّا المسيح ـ عليه السلام ـ فخلق جسده خلقاً إبداعياً بنفس نفخ روح القدس في أمّه، قيل له: كن فكان. فكان له من الاختصاص بكونه خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر، ومن الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أنّ الاسم العامّ إذا كان له نوعان، خصّت أحد النوعين باسم، وأبقت الاسم العامّ مختصاً بالنوع، كلفظ الدابّة، والحيوان، فإنّه عامّ في كلّ ما يدبّ، وكلّ حيوان، ثمّ لمّا كان للآدميّ اسم يخصّه، بقي لفظ الحيوان يختصّ به البهيم، ولفظ الدابّة يختصّ به الخيل، أو هي والبغال والحمير ونحو ذلك، وكذلك لفظ الجائز، والممكن، وذوي الأرحام، وأمثال ذلك، فلمّا كان لغير المسيح ما يختصّ به، أبقي اسم الكلمة العامّة مختصّاً بالمسيح ).
القاعدة الثامنة: ( أنّ من لغة العرب، أنّهم يضعون اسم الجمع، موضع التثنية، إذا أُمن اللبس )(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 6/ 370.(1/73)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في الفرق بين قوله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.. }[سورة ص:75]، وقوله: { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا.. }[يس:71]، فذكر أنّ الفرق من وجهين، قال:
( أحدهما: أنّه هنا أضاف الفعل إليه، وبيّن أنّه خلقه بيديه. وهناك أضاف الفعل إلى الأيدي.
الثاني: أنّ من لغة العرب، أنّهم يضعون اسم الجمع، موضع التثنية، إذا أُمن اللبس، كقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا.. } [المائدة:38]، أي: يديهما. وقوله: { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا..}[التحريم:4]، أي: قلباكما. فكذلك قوله: { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا.. }[يس:71].
وأمّا السنّة؛ فكثيرة جدًا، مثل قوله: (( المقسطون عند الله، على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا )) رواه مسلم، وقوله: (( يمين الله ملآى، لا يغيظها نفقة، سحّاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟، فإنّه لم يغض ما في يمينه. والقسط بيده الأخرى، يرفع ويخفض، إلى يوم القيامة )) رواه مسلم في صحيحه، والبخاري فيما أظنّ(1). وفى الصحيح أيضًا، عن أبي سعيد الخدريّ ـ رضي الله عنه ـ، عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: (( تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يتكفّؤها الجبّار بيده، كما يتكفّأ أحدكم بيده خبزته في السفر ))(2).. ) إلى آخر ما ذكر الشيخ رحمه الله.
خامسًا: قواعد في أصول الفقه:
القاعدة الأولى: ( الواجبات كلّها تسقط بالعذر )(3).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن مسألة تقدم المأمومين على الإمام في الصلاة، فذكر فيها ثلاثة أقوال: الصحّة مطلقاً، وعدم الصحّة مطلقاً، والصحّة مع العذر دون غيره..
__________
(1) أخرجه البخاري ( 6983 )، ومسلم ( 993 ).
(2) أخرجه البخاري ( 6155 )، ومسلم ( 2792 ).
(3) المسائل الماردينية في فقه الكتاب والسنة..: ص83.(1/74)
قال ـ رحمه الله ـ: " مثل ما إذا كانت زحمة، فلم يمكنه أن يصلّي الجمعة، أو الجنازة، إلا قُدّام الإمام، فتكون صلاته قُدّام الإمام خيراً له من تركه للصلاة. وهذا قول طائفة من العلماء، وهو قولٌ في مذهب أحمد وغيره، وهو أعدل الأقوال وأرجحها، وذلك لأنّ ترك التقدّم على الإمام غايته أن يكون واجباً من واجبات الصلاة في الجماعة، والواجبات كلّها تسقط بالعذر ... " إلى آخر ما ذكر.
القاعدة الثانية: ( إذا تعذّر جمع الواجبين، قُدّم أرجحهما، وسقط الآخر بالوجه الشرعي )(1).
هذه القاعدة ضرب لها الشيخ مثلاً بصلاة المأمومين جلوساً خلف الإمام الراتب إذا صلّى جالساً، فهنا تعارض واجبان، أحدهما: القيام في الصلاة، والثاني: الاقتداء بالإمام، فسقط أحدهما وهو القيام لما فيه من مفسدة مخالفة الإمام، والتشبّه بالأعاجم في القيام له، ولهذا قال النبيّ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ: (( وإذا صلّى جالساً، فصلّوا جلوساً أجمعون ))(2)..
القاعدة الثالثة: ( ما كان واجباً، قد يباح فيه ما لا يباح في غير الواجب)(3).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في معرض ردّه على سؤال ورده عن حكم التداوي بالخمر، فأجاب الشيخ بتحريم ذلك، ثم ذكر ـ رحمه الله ـ أنّ الذين جوّزوا التداوي بالمحرّم كالخمر قاسوا ذلك على إباحة المحرّمات كالميتة والدم للمضطر، قال: "وهذا ضعيف لوجوه..".
فذكر وجوهاً ثلاثة، الشاهد منها هو الثالث، وهو: "أنّ أكل الميتة للمضطر واجب عليه في ظاهر مذهب الأئمّة وغيرهم، كما قال مسروق: من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات؛ دخل النار. وأمّا التداوي فليس بواجب عند جماهير الأئمّة..".
__________
(1) مجموع الفتاوى: 23/ 250، والقواعد النورانية الفقهية: ص 79.
(2) أخرجه مسلم ( 414 ).
(3) مجموع الفتاوى: 24/ 269.(1/75)
إلى أن قال: "وإذا كان أكل الميتة واجباً، والتداوي ليس بواجب؛ لم يجز قياس أحدهما على الآخر، فإنّ ما كان واجباً، قد يباح فيه ما لا يباح في غير الواجب، لكون مصلحة أداء الواجب تغمر مفسدة المحرّم، والشارع يعتبر المفاسد والمصالح، فإذا اجتمعا؛ قدّم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة..".
القاعدة الرابعة: ( ما لا يتمّ الواجب إلا به، فهو واجب )(1).
هذه القاعدة المشهورة ذكرها الشيخ في مواضع عدّة من كتبه، ولها عنده أمثلة كثيرة، فمنها: أنّه يجب الإمساك قبل طلوع الفجر، لأنّه لا يتمّ صوم جميع النهار إلا بصوم آخر جزء من الليل، ولهذا يجب غسل جزء من الرأس ليستوعب الوجه، وغسل رأس العضد ليستوعب المرفق، وأمّا إذا شكّ في طلوع الفجر، فيجوز له الأكل، لقوله: { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ..}، والشاكّ لم يتبيّن له شيء..(2).
ومن الأمثلة التي ذكرها الشيخ على هذه القاعدة: من لم يمكنه فهم كلام الرسول إلا بتعلّم اللغة التي أُرسل بها، فإنّه يجب عليه ذلك..(3).
وقد أضاف الشيخ في موضع آخر المستحبّ، فقال: " ما لا يتمّ الواجب أو المستحبّ إلا به، فهو واجب أو مستحب "(4)..
ثمّ نبّه الشيخ إلى مسألة مهمة، وهي أنّ ما لا يتمّ الوجوب إلا به، فإنّه ليس بواجب.. لأنّ الله ـ عزّ وجل ـ لا يكلّف نفساً إلا وسعها، وما ليس مقدوراً عليه لا يكلّف به العباد.
القاعدة الخامسة: ( عدم الإيجاب ليس نفياً للإيجاب )(5).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 28/ 180، 29/ 376، 30/ 12، 31/ 87، 31/ 321، 35/ 29، وكتاب الصيام من شرح العمدة: 1/ 533، والجواب الصحيح: 2/ 53، و105.
(2) كتاب الصيام من شرح العمدة: 1/ 533.
(3) الجواب الصحيح: 2/ 53.
(4) مجموع الفتاوى: 35/ 29.
(5) مجموع الفتاوى: 29/ 148، والفتاوى الكبرى: 3/ 482، والقواعد النورانيّة: ص 198.(1/76)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن العقود والشروط فيها، فيما يحلّ منها وما يحرم، وما يصحّ وما يفسد، فذكر ممّا يمكن ضبطه في ذلك قولين، أحدهما: أنّ الأصل في العقود والشروط فيها: الحظر، إلا ما ورد الشرع بإجازته.
والثاني: أنّ الأصل فيها: الجواز والصحّة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دلّ الشرع على تحريمه وإبطاله، نصّاً أو قياساً..
ثمّ رجّح الثاني، وذكر الأحاديث الواردة في ذلك، منها حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عند أبي داود والدار قطني، أنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: (( الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً، والمسلمون على شروطهم ))، زاد الترمذي والبزّار: (( إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً )). وحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عند البزّار، أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: (( الناس على شروطهم ما وافقت الحقّ ))..
ثمّ قال ـ رحمه الله ـ: ( وهذه الأسانيد، وإن كان الواحد منها ضعيفاً، فاجتماعها من طرق يشدّ بعضها بعضاً، وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنّة، وهو حقيقة المذهب، فإنّ المشترط ليس له أن يبيح ما حرّمه الله، ولا يحرّم ما أباحه الله. فإنّ شرطه حينئذ يكون مبطلاً لحكم الله، وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله، وإنّما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجباً بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجباً ولا حراماً، وعدم الإيجاب ليس نفياً للإيجاب حتّى يكون المشترط مناقضاً للشرع... ) إلى آخر ما ذكر.
القاعدة السادسة: ( الوجوب والتحريم إنّما يلزم العبد إذا قصده، أو قصد سببه )(1).
__________
(1) القواعد النورانيّة: ص 259.(1/77)
هذه القاعدة من القواعد المهمّة، وقد ذكرها الشيخ في مسألة يكثر الوقوع فيها والسؤال عنها، وهي مسألة الحلف بالطلاق ونحوه، وهل يقع به الطلاق، أم هو في حكم اليمين ؟ قال الشيخ ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر الخلاف في هذه المسألة: ( و هذه العقود من النذر والطلاق والعتاق تقتضي وجوب أشياء على العبد أو تحريم أشياء عليه، والوجوب والتحريم إنما يلزم العبد إذ قصده أو قصد سببه، فإنه لو جرى على لسانه هذا الكلام بغير قصد لم يلزمه شيء بالاتفاق، ولو تكلّم بهذه الكلمات مكرهاً لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور، كما دلّت عليه السنّة وآثار الصحابة، لأنّ مقصوده إنّما هو دفع المكروه عنه، لم يقصد حكمها ولا قصد التكلّم بها ابتداءً، فكذلك الحالف إذا قال: إن لم أفعل كذا فعليّ الحجّ، أو الطلاق، ليس قصده التزام حجّ ولا طلاق، ولا تكلّم بما يوجبه ابتداءً، وإنّما قصده الحضّ على ذلك الفعل، أو منع نفسه منه، كما أنّ قصد المكره دفع المكروه عنه، ثم قال على طريق المبالغة في الحضّ والمنع: إن فعلت كذا فهذا لي لازم، أو هذا عليّ حرام، لشدّة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم علّق ذلك به، فقصده منعهما جميعا، لا ثبوت أحدهما، ولا ثبوت سببه، وإذا لم يكن قاصداً للحكم ولا لسببه، وإنّما قصده عدم الحكم؛ لم يجب أن يلزمه الحكم. وأيضاً فإنّ اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة، لم يبلغني أنّه كان يحلف به على عهد قدماء الصحابة، ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتّبها الحجّاج بن يوسف، وهي تشتمل على اليمين بالله، وصدقة المال، والطلاق والعتاق، وإنّي لم أقف إلى الساعة على كلام لأحد من الصحابة في الحلف بالطلاق، وإنّما الذي بلغنا عنهم الجواب في الحلف بالعتق كما تقدم.(1/78)
ثمّ هذه البدعة قد شاعت في الأمّة وانتشرت انتشاراً عظيما، ثمّ لما اعتقد من اعتقد أنّ الطلاق يقع بها لا محالة؛ صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمّة ما هو شبيه بالأغلال التي كانت على بني إسرائيل، ونشأ عن ذلك خمسة أنواع من المفاسد والحيل في الأيمان حتى اتخذوا آيات الله هزواً، وذلك أنّهم يحلفون بالطلاق على ترك أمور لا بدّ لهم من فعلها، إمّا شرعاً، وإمّا طبعاً. وغالب ما يحلفون بذلك في حال اللجاج والغضب، ثمّ فراق الأهل فيه من الضرر في الدين والدنيا ما يزيد على كثير من أغلال اليهود، وقد قيل: إنّ الله إنّما حرّم المطلّقة ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره لئلا يتسارع الناس إلى الطلاق لما فيه من المفسدة، فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة وهم محتاجون إلى فعل تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل؛ فقد قدحت الأفكار لهم أربعة أنواع من الحيل أخذت عن الكوفيين و غيرهم )، ثم أفاض في ذكر هذه الحيل.
القاعدة السابعة: ( الشارع لا يذمّ إلا على ترك واجب، أو فعل محرّم )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن وجوب الطمأنينة في الصلاة، فإنّه قال في هذا سياق بعد كلام طويل:
(
__________
(1) القواعد النورانية: ص 41.(1/79)
وأيضاً؛ فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ ذمّ عموم الإنسان، واستثنى المصلّين، الذين هم على صلاتهم دائمون، قال تعالى: { إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً . إِلا الْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ }[المعارج: 19- 23]، والسلف من الصحابة و من بعدهم قد فسّروا الدائم على الصلاة بالمحافظ على أوقاتها، وبالدائم على أفعالها، بالإقبال عليها، والآية تعمّ هذا و هذا، فإنّه قال: { على صلاتهم دائمون }، والدائم على الفعل هو المديم له، الذي يفعله دائماً، فإذا كان هذا فيما يُفعل في الأوقات المتفرّقة: هو أن يفعله كلّ يوم، بحيث لا يفعله تارة و يتركه أخرى، وسُمّي ذلك دواماً عليه، فالدوام على الفعل الواحد المتّصل أولى أن يكون دواماً، وأن تتناول الآية ذلك. وذلك يدلّ على وجوب إدامة أفعالها، لأنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ ذمّ عموم الإنسان، واستثنى المداوم على هذه الصفة، فتارك إدامة أفعالها يكون مذموماً من الشارع، والشارع لا يذمّ إلا على ترك واجب، أو فعل محرّم. وأيضاً فإنّه سبحانه و تعالى قال: { إلا المصلّين . الذين هم على صلاتهم دائمون }، فدلّ ذلك على أنّ المصلّي قد يكون دائماً على صلاته، وقد لا يكون دائماً عليها، وأنّ المصلّي الذي ليس بدائم، مذموم، وهذا يوجب ذمّ من لا يديم أفعاله المتّصلة والمنفصلة، وإذا وجب دوام أفعالها، فذلك هو نفس الطمأنينة، فإنّه يدلّ على وجوب إدامة الركوع و السجود وغيرهما، ولو كان المجزئ أقلّ ممّا ذُكر من الخفض، وهو نقر الغراب؛ لم يكن ذلك دواماً، ولم يجب الدوام على الركوع والسجود، وهما أصل أفعال الصلاة، فعُلم أنّه كما تجب الصلاة، يجب الدوام عليها المتضمّن للطمأنينة والسكينة في أفعالها ).
القاعدة الثامنة: ( ما لم يتمّ الجائز إلا به، فهو جائز ).(1/80)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن مسألة استئجار الأرض التي فيها شجر، فذكر ثلاثة أقوال، أحدها: أنّ ذلك لا يجوز. والثاني: يجوز إذا كان الشجر قليلاً، وكان البياض الثلثين أو أكثر.. والثالث: يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر. ودخول الشجر في الإجارة مطلقاً.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: ( وهذا قول ابن عقيل، وإليه مال حرب الكرماني. وهذا القول كالإجماع من السلف، وإن كان المشهور عن الأئمّة المتبوعين خلافه، فقد روى سعيد بن منصور، ورواه عنه حرب الكرماني في مسائله، قال: حدّثنا عبّاد بن عبّاد عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنّ أسيد ابن حضير ـ رضي الله عنه ـ توفي وعليه ستّة آلاف درهم، فدعا عمرُ غرماءه، فقبّلهم أرضه سنين، وفيها النخل والشجر. وأيضا فإنّ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ضرب الخراج على أرض السواد و غيرها، فأقرّ الأرض التي فيها النخل والعنب في أيدي أهل الأرض، وجعل على كل جريب من جرب الأرض السواد والبيضاء خراجاً مقدّراً، والمشهور أنّه جعل على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، و على جريب الرطبة ستّة دراهم، وعلى جريب الزرع درهماً وقفيزاً من طعام. والمشهور عند مالك والشافعي وأحمد أنّ هذه المخارجة تجري مجرى المؤاجرة، وإنّما لم يؤقته لعموم المصلحة، وأنّ الخراج أجرة الأرض. فهذا بعينه إجارة الأرض السوداء التي فيها شجر، وهو ممّا أجمع عليه عمر، والمسلمون في زمانه وبعده، ولهذا تعجّب أبو عبيد في كتاب الأموال من هذا، فرأى أنّ هذه المفاصلة تخالف ما علمه من مذاهب الفقهاء. و حجّة ابن عقيل أنّ إجارة الأرض جائزة، والحاجة إليها داعية، ولا يمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر، وما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز، لأنّ المستأجر لا يتبرع بسقي الشجر، وقد لا يساقي عليها.. ).(1/81)
وهذه القاعدة عبّر عنها الشيخ في موضع آخر بقوله: ( ما لا يتمّ المباح إلا به، فهو مباح )(1).
القاعدة التاسعة: ( إذا كان في فعل مستحبّ مفسدة راجحة؛ لم يصر مستحبّاً )(2).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند مسألة ذكر الصلاة على غير النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ واحتجاج الرافضي بترك أهل السنّة لها ومنع ذلك لمّا اتّخذت الرافضة ذلك في أئمّتهم، وأنّ ذلك قول بعض أئمّة الحنفية..
__________
(1) القواعد النورانية: ص 147.
(2) منهاج السنّة: 2/ 147.(1/82)
قال الشيخ بعد كلام طويل: "وكذلك أبو حنيفة مذهبه أنّه يجوّز الصلاة على غير النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وهذا هو المنصوص عن أحمد في رواية غير واحد من أصحابه، واستدلّ بما نقله عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال لعمر ـ رضي الله عنه ـ صلّى الله عليك، وهو اختيار أكثر أصحابه، كالقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وأبي محمّد عبد القادر الجيلي وغيرهم، ولكن نقل عن مالك والشافعي المنع من ذلك، وهو اختيار بعض أصحاب أحمد لما روى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّه قال لا تصلح الصلاة من أحد على أحد على غير النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهذا الذي قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قاله والله أعلم لمّا صارت الشيعة تخصّ بالصلاة علياً دون غيره، ويجعلون ذلك كأنّه مأمور به في حقّه بخصوصه دون غيره، وهذا خطأ بالاتفاق فإنّ الله تعالى أمر بالصلاة على نبيّه ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وقد فسّر النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ذلك بالصلاة عليه وعلى آله، فيُصلّي على جميع آله تبعاً له. وآل محمّد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عند الشافعي وأحمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة. وذهبت طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما إلى أنّهم أمّة محمّد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وقالت طائفة من الصوفية إنّهم الأولياء من أمّته، وهم المؤمنون المتّقون. ورُوي في ذلك حديث ضعيف لا يثبت. فالذي قالته الحنفية وغيرهم أنّه إذا كان عند قوم لا يصلّون إلا على عليّ دون الصحابة، فإذا صلّى على عليّ ظنّ أنّه منهم، فيكره لئلا يظنّ به أنّه رافضيّ، فأمّا إذا عُلم أنّه صلّى على عليّ وعلى سائر الصحابة؛لم يكره ذلك.(1/83)
وهذا القول يقوله سائر الأئمّة، فإنّه إذا كان في فعلِ مستحبٍّ مفسدة راجحة؛ لم يصر مستحبّاً، ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات إذا صارت شعاراً لهم فلا يتميّز السنيّ من الرافضيّ، ومصلحة التميّز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم، أعظم من مصلحة هذا المستحبّ، وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إليه في بعض المواضع إذا كان في الاختلاط والاشتباه مفسدة راجحة على مصلحة فعل ذلك المستحبّ، لكنّ هذا أمر عارض، لا يقتضي أن يجعل المشروع ليس بمشروع دائماً.. ".
القاعدة العاشرة: ( ما لا يتمّ اجتناب المحظور إلا باجتنابه، فهو محظور )(1).
ذكر الشيخ هذه القاعدة في معرض سؤال وجه إليه عن مُلْكٍ مشترك بين مسلم وذمّي، فهدماه إلى آخره، فهل يجوز تعليته على ملك جارهما المسلم أم لا ؟.
فأجاب الشيخ: "الحمد لله، ليس لهما تعليته على ملك المسلم، فإنّ تعلية الذمّي على المسلم محظورة، وما لا يتمّ المحظور إلا باجتنابه، فهو محظور، كما في مسائل اختلاط الحلال بالحرام، كما لو اختلط بالماء والمائعات نجاسة ظاهرة، وكالمتولّد بين مأكول وغير مأكول، كالسمع والعسار والبغل. وكما في مسائل الاشتباه أيضاً، مثل أن تشتبه أخته بأجنبيّة، والمذكّى بالميّت، فإنّه لمّا لم يمكن اجتناب المحظورات إلا باجتناب المباح في الأصل، وجب اجتنابهما جميعاً، كما أنّ ما لا يتمّ الواجب إلا بفعله ففعله واجب ".
القاعدة الحادية عشرة: ( عدم التحريم ليس تحليلاً، وإنّما هو بقاء للأمر على ما كان )(2).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن الأطعمة، وما يحلّ منها وما يحرم، فذكر أنّ أهل الحديث أخذوا بقول أهل الكوفة الذين يرون أنّ التحريم ليس مقتصراً على ما ورد في القرآن، خلافاً لمن قال ذلك من أهل العلم، قال ـ رحمه الله ـ:
(
__________
(1) مجموع الفتاوى: 30/ 12.
(2) مجموع الفتاوى: 12/ 8، والقواعد النورانية: ص 4.(1/84)
وأخذوا في الأطعمة بقول أهل الكوفة لصحّة السنن عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بتحريم كلّ ذي ناب من السباع، وكلّ ذي مخلب من الطير، وتحريم لحوم الحمر، لأنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أنكر على من تمسك في هذا الباب بعدم وجود نصّ التحريم في القرآن حيث قال: ((لا ألفينّ أحدكم متّكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه، ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، وإنّ ما حرّم رسول الله كما حرّم الله تعالى ))(1)، وهذا المعنى محفوظ عن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من غير وجه، وعلموا أنّ ما حرّمه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إنّما هو زيادة تحريم، ليس نسخاً للقرآن، لأنّ القرآن إنّما دلّ على أنّ الله لم يحرّم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير، وعدم التحريم ليس تحليلاً، وإنّما هو بقاء للأمر على ما كان، وهذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكيّة باتّفاق العلماء، ليس كما ظنّه أصحاب مالك والشافعيّ أنّها من آخر القرآن نزولاً، وإنّما سورة المائدة هي المتأخرة، وقد قال الله فيها: ( أُحلّ لكم الطيبات )، فعلم أنّ عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلاً، وإنّما هو عفو، فتحريم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ رافع للعفو، ليس نسخاً للقرآن، لكن لم يوافق أهل الحديث الكوفيين على جميع ما حرّموه بل أحلّوا الخيل لصحّة السنن عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بتحليلها يوم خيبر، وبأنّهم ذبحوا على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فرساً وأكلوا لحمه.
__________
(1) أخرجه أبو داود ( 4604 ) والترمذي ( 2663 )، وابن ماجه ( 13 )، والحاكم في المستدرك ( 368 )، والبيهقي ( 13219 )(1/85)
وأحلّوا الضبّ لصحّة السنن عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بأنّه قال: (( لا أحرّمه ))، وبأنّه أُكل على مائدته وهو ينظر. ولم ينكر على من أكله. وغير ذلك ممّا جاءت فيه الرخصة.. ) إلى آخر ما ذكر ـ رحمه الله ـ.
القاعدة الثانية عشرة: ( كلّ ما احتاج الناس إليه في معاشهم، ولم يكن سببه معصية، لم يحرّم عليهم )(1).
وفي موضع آخر قال: ( كلّ ما لا يتمّ المعاش إلا به فتحريمه حرج، وهو منتفٍ شرعاً ).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ في مسألة سبقت قريباً، وهي مسألة استئجار الأرض التي فيها شجر، وقد ذكر فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّ ذلك لا يجوز.
والثاني: يجوز إذا كان الشجر قليلاً، وكان البياض الثلثين أو أكثر..
والثالث: الجواز مطلقاً.
ثمّ ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ أنّ الذين ذهبوا إلى عدم الجواز إمّا أن يلجئوا إلى الحيلة. وإمّا أن يتركوا ذلك فيدخل عليهم من الضرر ما لا تأتي الشريعة بمثله..
__________
(1) القواعد النورانية: ص 145.(1/86)
قال ـ رحمه الله ـ: ( والذين لا يحتالون، أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة؛ بين أمرين، إمّا أن يفعلوا ذلك للحاجة ويعتقدوا أنّهم فاعلون للمحرّم، كما رأينا عليه أكثر الناس. وإمّا أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة، فيدخل عليهم من الضرر والإضرار ما لا يعلمه إلا الله.(1/87)
وإن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان، فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال الذي لا تأتي به شريعة قطّ، فضلا عن شريعة قال الله فيها: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }[الحج:78]، وقال تعالى: { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، وقال تعالى: { يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ }[النساء:28]، وفي الصحيحين: ((إنّما بعثتم ميسّرين ))، و (( يسّروا ولا تعسّروا )) (( ليعلم اليهود أنّ في ديننا سعة ))، فكلّ ما لا يتمّ المعاش إلا به فتحريمه حرج، وهو منتف شرعاً، والغرض من هذا أنّ تحريم مثل هذا ممّا لا يمكن الأمّة التزامه قطّ لما فيه من الفساد الذي لا يطاق، فعُلم أنّه ليس بحرام، بل هو أشدّ من الأغلال والآصار التي كانت على بني إسرائيل ووضعها الله عنّا على لسان محمّد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنيّة على قوله تعالى: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة:173]، وقوله: { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }[المائدة:3]، فكلّ ما احتاج الناس إليه في معاشهم، ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم، لم يحرم عليهم، لأنّهم في معنى المضطرّ الذي ليس بباغ و لا عاد، وإن كان سببه معصية كالمسافر سفر معصية اضطر فيه إلى الميتة والمنفق للمال في المعاصي حتى لزمته الديون؛ فإنّه يؤمر بالتوبة، و يباح له ما يزيل ضرورته، فيباح له الميتة ويقضى عنه دينه من الزكاة، وإن لم يتب فهو الظالم لنفسه، المحتال، وحاله كحال الذين قال الله فيهم: { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }[الأعراف:163]، وقوله: {فَبِظُلْمٍ(1/88)
مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ }[النساء:160]، وهذه قاعدة عظيمة ربّما ننبّه إن شاء الله عليها ).
القاعدة الثالثة عشرة: ( الأصل أنّه لا يَحْرُم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دلّ الكتاب والسنّة على تحريمه. كما لا يُشرع لهم من العبادات التي يتقرّبون بها إلى الله إلا ما دلّ الكتاب والسنّة على شرعه )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ ضمن رسالته المشهورة، الموسومة بـ (السياسة الشرعية )، عند حديثه عن الأموال وما تنازع الناس فيه من المعاملات، فذكر هذا الأصل العظيم..
__________
(1) مجموع الفتاوى: 28/ 386.(1/89)
قال ـ رحمه الله ـ: ( وأمّا الأموال فيجب الحكم بين الناس فيها بالعدل كما أمر الله ورسوله، مثل قَسْم المواريث بين الورثة على ما جاء به الكتاب والسنّة. وقد تنازع المسلمون في مسائل من ذلك، وكذلك في المعاملات من المبايعات والإجارات والوكالات والمشاركات والهبات والوقوف والوصايا ونحو ذلك من المعاملات المتعلّقة بالعقود والقبوض، فإنّ العدل فيها هو قوام العالمين، لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به، فمن العدل فيها ما هو ظاهر يعرفه كلّ أحد بعقله، كوجوب تسليم الثمن على المشتري، وتسليم المبيع على البائع للمشتري، وتحريم تطفيف المكيال والميزان، ووجوب الصدق والبيان، وتحريم الكذب والخيانة والغش، وأنّ جزاء القرض الوفاء والحمد. ومنه ما هو خفيّ جاءت به الشرائع، أو شريعتنا أهل الإسلام، فإنّ عامّة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل، والنهي عن الظلم دقّه وجلّه، مثل أكل المال بالباطل، وجنسه من الربا والميسر وأنواع الربا والميسر التي نهى عنها النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مثل بيع الغرر وبيع حَبَل الحَبَلة، وبيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، والبيع إلى أجل غير مسمّى، وبيع المُصرّاة، وبيع المدلس، والملامسة، والمنابذة، والمزابنة، والمحاقلة، والنجش، وبيع الثمر قبل بدوّ صلاحه، وما نهى عنه من أنواع المشاركات الفاسدة كالمخابرة بزرعِ بقعة بعينها من الأرض.(1/90)
ومن ذلك ما قد تنازع فيه المسلمون لخفائه واشتباهه، فقد يرى هذا العقد والقبض صحيحاً عدلاً وإن كان غيره يرى فيه جوراً يوجب فساده، وقد قال الله تعالى: { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }[النساء:59]، والأصل في هذا أنّه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دلّ الكتاب والسنّة على تحريمه، كما لا يُشرع لهم من العبادات التي يتقرّبون بها إلى الله إلا ما دلّ الكتاب والسنّة على شرعه، إذ الدين ما شرعه الله، والحرام ما حرّمه الله، بخلاف الذين ذمّهم الله حيث حرّموا من دين الله ما لم يحرّمه الله، وأشركوا به ما لم ينَزّل به سلطاناً، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. اللهمّ وفّقنا لأن نجعل الحلال ما حلّلته، والحرام ما حرّمته والدين ما شرعته ).
القاعدة الرابعة عشرة: ( التحريم في حقّ الآدميين إذا كان في أحد الجانبين، لم يثبت في الجانب الآخر )(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 29/ 258.(1/91)
وقد ضرب الشيخ لذلك عدّة أمثله، فقال: ( ألا ترى أنّ المدلّس والغاشّ و نحوهما إذا باعوا غيرهم شيئاً مدلّساً، لم يكن ما يشتريه المشتري حراماً عليه، لأنّه أُخذ منه أكثر ممّا يجب عليه، وإن كانت الزيادة التي أخذها الغاشّ حراماً عليه. وأمثال هذا كثير في الشريعة، فإنّ التحريم في حقّ الآدميين إذا كان من أحد الجانبين، لم يثبت في الجانب الآخر، كما لو اشترى الرجل ملكه المغصوب، من الغاصب، فإنّ البائع يحرم عليه أخذ الثمن، والمشتري لا يحرم عليه أخذ ملكه، ولا بذل ما بذله من الثمن، ولهذا قال العلماء: يجوز رشوة العامل لدفع الظلم، لا لمنع الحقّ، وإرشاؤه حرام فيهما، وكذلك الأسير والعبد المعتَق إذا أنكر سيده عتقه له أن يفتدي نفسه بمال يبذله يجوز له بذله، وإن لم يجز للمستولي عليه بغير حق أخذه، وكذلك المرأة المطلّقة ثلاثاً إذا جحد الزوج طلاقها، فافتدت منه بطريق الخلع في الظاهر كان حراماً عليه ما بذلته، ويخلّصها من رقّ استيلائه. ولهذا قال النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: (( إنّي لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتلظّاها ناراً )) قالوا: يا رسول الله فلمَ تعطيهم ؟! قال: (( يأبون إلا أن يسألونى ويأبى الله لي البخل ))(1). ومن ذلك قوله: (( ما وقى به المرء عرضه فهو صدقة ))(2)، فلو أعطى الرجل شاعراً أو غير شاعر لئلا يكذب عليه بهجو أو غيره، أو لئلا يقول في عرضه ما يحرم عليه قوله؛ كان بذله لذلك جائزاً وكان ما أخذه ذلك لئلا يظلمه حراماً عليه، لأنّه يجب عليه ترك ظلمه والكذب عليه بالهجو من جنس تسمية العامة ( قطع مصانعه ) وهو الذي يتعرّض للناس وإن لم يعطوه، اعتدى عليهم بأن يكون عوناً عليهم في الإثم والعدوان، أو بأن يكذب عليهم وأمثال ذلك.
__________
(1) صحيح الترغيب والترهيب للألباني: 1/ 337، بلفظ مقارب.
(2) أخرجه ابن عديّ: 2/ 249، والدار قطنيّ: ص300، والحاكم: 2/ 50، وضعّفه الألبانيّ كما في الضعيفة برقم 898.(1/92)
فكلّ من أخذ المال لئلا يكذب على الناس، أو لئلا يظلمهم؛ كان ذلك خبيثاً سحتاً، لأنّ الظلم والكذب حرام عليه، فعليه أن يتركه بلا عوض يأخذه من المظلوم، فإذا لم يتركه إلا بالعوض كان سحتاً ).
القاعدة الخامسة عشرة : ( انتفاء دليل التحريم، دليل على عدم التحريم)(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن العقود والشروط، وأنّ الأصل فيها عدم التحريم، فذكر الأدلّة على ذلك من الكتاب والسنّة، ثمّ قال:
( وأمّا الاعتبار: فمن وجوه، أحدها: أنّ العقود والشروط من باب الأفعال العاديّة، والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتّى يدلّ ذلك على التحريم، كما أنّ الأعيان الأصل فيها عدم التحريم، وقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ }[الأنعام:119] عام في الأعيان والأفعال، وإذا لم تكن حراماً، لم تكن فاسدة، وكانت صحيحة ).
القاعدة السادسة عشرة: ( من فرّق بين الحلال والحرام بفرق غير معلوم، لم يكن قوله صحيحاً )(2).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن مسألة تغيّر الماء بالطاهرات مع بقاء اسم الماء، فذكر في هذه المسألة قولين، أحدهما: أنّه لا يجوز التطهّر به. والثاني: الجواز. وصوّبه.
وقد احتجّ الشيخ لهذا القول بأدلّة، منها أنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ توضّأ من قصعة فيها أثر العجين، قال ـ رحمه الله ـ:
(
__________
(1) القواعد النورانية: ص 200.
(2) مجموع الفتاوى: 21/ 27، والمسائل الماردينية: ص 7.(1/93)
وأيضاً فإنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ توضأ من قصعة فيها أثر العجين، ومن المعلوم أنّه لابدّ في العادة من تغيّر الماء بذلك، لا سيّما في آخر الأمر إذا قلّ الماء، وانحلّ العجين. فإن قيل: ذلك التغيّر كان يسيراً. قيل: وهذا أيضاً دليل في المسألة، فإنّه إن سوى بين التغيّر اليسير والكثير مطلقاً كان مخالفاً للنصّ. وإن فرّق بينهما لم يكن للفرق بينهما حدّ منضبط، لا بلغة ولا شرع ولا عقل ولا عرف، ومن فرّق بين الحلال والحرام بفرق غير معلوم، لم يكن قوله صحيحاً. وأيضاً فإنّ المانعين مضطربون اضطراباً يدلّ على فساد أصل قولهم، فمنهم من يفرّق بين الكافور والدهن وغيره ويقول إنّ هذا التغيّر عن مجاورة لا عن مخالطة. ومنهم من يقول: بل نحن نجد في الماء أثر ذلك. ومنهم من يفرّق بين الورق الربيعيّ والخريفيّ. ومنهم من يسوّي بينهما. ومنهم من يسوّي بين الملحين الجبليّ والمائيّ. ومنهم من يفرّق بينهما. وليس على شيء من هذه الأقوال دليل يعتمد عليه، لا من نصّ ولا قياس ولا إجماع، إذ لم يكن الأصل الذي تفرّعت عليه مأخوذاً من جهة الشرع، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[النساء:82]، وهذا بخلاف ما جاء من عند الله، فإنّ ما جاء من عند الله فإنّه محفوظ كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر:9]، فدلّ ذلك على ضعف هذا القول ).
القاعدة السابعة عشرة: ( الشارع لا يفصل بين الحلال والحرام إلا بفصل مبين لا اشتباه فيه )(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 21/ 517، والمسائل الماردينيّة: ص 32.(1/94)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن المائعات كالزيت والسمن وغيرهما إذا وقعت فيه نجاسة، مثل الفأرة الميتة ونحوها من النجاسات، فذكر قولين للعلماء، أحدهما: أنّ حكم ذلك حكم الماء. والثاني: أنّها تنجس بوقوع النجاسة فيها، بخلاف الماء فإنّه يُفرّق بين قليله وكثيره. ثمّ ذكر قولاً ثالثاً: وهو الفرق بين المائعات المائية وغيرها. ورجّح القول الأوّل، ثمّ أجاب عن قول من فرّق بين الجامد وغيره بقوله: ( وأيضاً فالجمود والميعان أمر لا ينضبط، بل يقع الاشتباه في كثير من الأطعمة: هل تلحق بالجامد أو المائع! والشارع لا يفصل بين الحلال والحرام إلا بفصل مبين لا اشتباه فيه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}[التوبة:115]، والمحرّمات ممّا يتّقون، فلا بدّ أن يبيّن لهم المحرّمات بياناً فاصلاً بينها وبين الحلال، وقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}[الأنعام:119] ).
القاعدة الثامنة عشرة: ( يجوز فعل المكروه لمصلحة راجحة )(1).
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن القصر في السفر، وسبب إتمام عثمان للصلاة بمنى، وقد اختار الشيخ ـ بعد استطراد ـ كراهية التربيع للمسافر، وذكر أنّ هذا هو أعدل الأقوال، وقد ضرب الشيخ لهذه القاعدة مثلاً بالمسافر يصلّي أربعاً خلف الإمام إذا ربّع، قال: ( فإنّ المتابعة واجبة، ويجوز فعل المكروه لمصلحة راجحة ).
القاعدة التاسعة عشرة: ( كلّ ما كُره استعماله مع الجواز، فإنّه بالحاجة إليه لا يبقى مكروهاً )(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى: 24/ 92.
(2) مجموع الفتاوى: 21/ 312.(1/95)
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عند حديثه عن حكم بناء الحمّامات العامّة كالتي في بلاد الشام، فذكر كراهية أحمد لبنائها وبيعها وكرائها لما تشتمل عليه ـ غالباً ـ من أمور محرّمة، ثمّ بيّن الشيخ أنّه لا بدّ من تقييد ذلك بما إذا لم يُحتج إليها، وذكر أنّ الأقسام أربعة:
o أن يُحتاج إليها من غير محظور.
o أن لا يُحتاج إليها ولا محظور.
o أن يُحتاج إليها مع المحظور.
o أن يكون هناك محظور من غير حاجة.
فذكر أنّ الأوّل لا ريب في جوازه، والثاني لا يحرم لكن يُكره لاشتماله غالباً على مباح ومحظور. والثالث لا تُطلق كراهة بنائها وبيعها، ثمّ قال تقريراً لذلك: ( ومن المعلوم أنّّ من الأغسال ما هو واجب كغسل الجنابة والحيض والنفاس. ومنها ما هو مؤكّد قد تنوزع في وجوبه كغسل الجمعة. ومنها ما هو مستحبّ. وهذه الأغسال لا تمكن في البلاد الباردة إلا في حمّام، وإن اغتسل في غير حمّام خيف عليه الموت أو المرض، فلا يجوز الاغتسال في غير حمّام حينئذ. ولا يجوز الانتقال إلى التيمّم مع القدرة على الاغتسال بالماء في الحمّام، ولو قدّر أنّ في ذلك كراهة مثل كون الماء مسخّناً بالنجاسة عند من يكرهه مطلقاً، أو عند من يكرهه إذا لم يكن بين الماء والدخان حاجز حصين، كما قد تنازع في ذلك أصحاب أحمد وغيرهم على القول بكراهة المسخّن بالنجاسة، فإنّه بكلّ حال يجب استعماله إذا لم يمكن استعمال غيره، لأنّ التطهّر من الجنابة بالماء واجب مع القدرة، وإن اشتمل على وصف مكروه، فإنّه في هذه الحال لا يبقى مكروهاً، وكذلك كلّ ما كره استعماله مع الجواز فإنّه بالحاجة إليه لطهارة واجبة أو شرب واجب لا يبقى مكروهاً، ولكن هل يبقى مكروهاً عند الحاجة إلى استعماله في طهارة مستحبّة؟ هذا محلّ تردّد لتعارض مفسدة الكراهة ومصلحة الاستحباب. والتحقيق ترجيح هذا تارة، وهذا تارة، بحسب رجحان المصلحة تارة والمفسدة أخرى ).
ثمّ ذكر أنّ الرابع هو محلّ نصّ أحمد، وتجنّب ابن عمر.(1/96)
القاعدة العشرون: ( الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلّم بكلام، وأراد به خلاف ظاهره، وضدّ حقيقته، فلا بدّ أن يبيّن للأمّة أنّه لم يرد حقيقته، وأنّه أراد مجازه)(1).
قال الشيخ في توضيح هذه القاعدة:
( إذا وصف الله نفسه بصفة، أو وصفه بها رسوله، أو وصفه بها المؤمنون الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، فصَرْفُها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه وحقيقتها المفهومة منها، إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافي الحقيقة، لا بدّ فيه من أربعة أشياء.. ).
فذكر الثلاثة الأُوَل، ثمّ قال:
(
__________
(1) مجموع الفتاوى: 6/ 361.(1/97)
الرابع: أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم بكلام، وأراد به خلاف ظاهره، وضدّ حقيقته، فلا بدّ أن يبيّن للأمّة أنّه لم يرد حقيقته، وأنّه أراد مجازه، سواء عيّنه، أو لم يعيّنه، لا سيّما في الخطاب العلميّ الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنّه ـ سبحانه وتعالى ـ جعل القرآن نورًا وهدىً وبيانًا للناس، وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبيّن للناس ما نُزّل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل. ثمّ هذا الرسول الأميّ العربيّ بُعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات، ثمّ الأمّة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علمًا، وأنصحهم للأمّة، وأبينهم للسنّة، فلا يجوز أن يتكلّم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره إلا وقد نصب دليلاً يمنع من حمله على ظاهره، إمّا أن يكون عقليّاً ظاهرًا، مثل قوله: { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ..}[النمل: 23]، فإنّ كلّ أحد يعلم بعقله أنّ المراد: أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها. وكذلك: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ..}[الأنعام: 102]، يعلم المستمع أنّ الخالق لا يدخل في هذا العموم. أو سمعيًا ظاهرًا، مثل الدلالات في الكتاب والسنّة التي تصرف بعض الظواهر.(1/98)
ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفيّ لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعيًا، أو عقليًا، لأنّه إذا تكلّم بالكلام الذي يفهم منه معنى، وأعاده مرّات كثيرة، وخاطب به الخلق كلّهم، وفيهم الذكيّ والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبّروا ذلك الخطاب ويعقلوه، ويتفكروا فيه ويعتقدوا موجبه، ثمّ أوجب أن لا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئًا من ظاهره، لأنّ هناك دليلاً خفيًا يستنبطه أفراد الناس يدلّ على أنّه لم يرد ظاهره؛ كان هذا تدليسًا وتلبيسًا، وكان نقيض البيان، وضدّ الهدى، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان، فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره أقوى بدرجات كثيرة، من دلالة ذلك الدليل الخفيّ على أنّ الظاهر غير مراد ؟ أم كيف إذا كان ذلك الخفيّ شبهة ليس لها حقيقة ؟! ).
الكتاب لم يكتمل ..(1/99)