ص -500- أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ثم بعثهم الله من بعد موتهم لعلهم يشكرون وكما أخبر عن المقتول الذي ضربوه بالبقرة فأحياه الله كما قال{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وكما أخبر عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وكما أخبر عن الذي {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وأخبر سبحانه بنظير ذلك في قصة إبراهيم حيث قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} واستدل سبحانه بما هو أعظم من ذلك وهو النشأة الأولى وخلق السموات والأرض كقوله{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وقال: {إ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ(7/50)
عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} إلى قوله: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} فاستدل سبحانه على إمكان الإحياء بابتداء خلق الحيوان وبخلق النبات وذكر(7/51)
ص -501- لك في القرآن في غير موضع وبسط هذا له موضع آخر والمقصود أن قول القائل هذا ممكن لا يحتاج إلى دليل لا يكفي في العلم بإمكانه عدم العلم بامتناعه والله سبحانه على كل شيء قدير والممتنع ليس بشيء باتفاق العقلاء وكل ما خلقه الله فلا بد أن يخلق لوازمه ويمتنع أضداده وإلا فيمتنع وجود الملزومدون اللازم ويمتنع اجتماع الضدين وليس للعباد اطلاع على لوازم كل مخلوق ولا أضداده المنافية لوجوده فالجزم بإمكان وجوده بدون العلم بلوازمه وإمكانها وأضدادها وانتفائها جهل والله سبحانه قادر على تغيير ما شاءه من العالم وهو يشق السموات ويسير الجبال ويبسها بسا فيجعلها هباء منبثا إلى أمثال ذلك مما أخبر الله به كما يخلق سائر ما يخلقه بما ييسره من الأسباب وهذا مبسوط في موضع آخر والمقصود هنا أن آيات الأنبياء ودلائل صدقهم متنوعة قبل المبعث وحين المبعث في حياتهم وبعد موتهم فقبل المبعث مثل إخبار من تقدم من الأنبياء به ومثل الإرهاصات الدالة عليه وأما حين المبعث فظاهر وأما في حياته فمثل نصره وإنجائه وإهلاك أعدائه وأما بعد موته فمثل نصر أتباعه وإهلاك أعدائه كما قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} وقال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} وقال للمسيح {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ(7/52)
وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}(7/53)
ص -502- محمد صلى الله عليه وسلم جعلت له الآيات البينات قبل مبعثه وحين مبعثه وفي حياته وبعد موته إلى الساعة وإلى قيام الساعة فإن ذكره وذكر كتابه والبشارة بذلك موجود في الكتب المتقدمة كما قد بسط في موضعه والخليل دعا به فقال في دعائه لذريته {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} ولما ولد اقترن بمولده من الآيات ما هو معروف وجرى ذلك العام قصة أصحاب الفيل المشهورة وكان يحصل له في مدة نشأته من الآيات والدلائل أمور كثيرة قد ذكر طرف منها في كتب دلائل النبوة والسيرة وغيرها مثل الآيات التي حصلت لمرضعته لما صار عندها ومثل ما شوهد من أحواله في صغره وأما انتصار الله له ولأتباعه وإعلاء ذكره ونشر لسان الصدق له وإهلاك أعدائه وإذلال من يحاده ويشاقه وإظهار دينه على كل دين باليد واللسان والدليل والبرهان فهذا مما يطول وصف تفصيله قال تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ(7/54)
ص -503- ِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}والأنبياء صلوات الله عليهم وأتباعهم المؤمنون وإن كانوا يبتلون في أول الأمر فالعاقبة لهم كما قال تعالى: لما قص قصة نوح {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}
وفي الحديث المتفق على صحته لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسولا إلى ملك الروم فطلب من يخبره بسيرته وكان المسؤولون حينئذ أعداءه لم يكونوا آمنوا به فقال كيف الحرب بينكم وبينه قالوا الحرب بيننا وبينه سجال يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى فقال كذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة فإنه كان يوم بدر نصر الله المؤمنين ثم يوم أحد ابتلى المؤمنين ثم لم ينصر الكفار بعدها حتى أظهر الله الإسلام
فإن قيل ففي الأنبياء من قد قتل كما أخبر الله أن بني إسرائيل يقتلون النبيين بغير حق وفي أهل الفجور من يؤتيه الله ملكا وسلطانا ويسلطه على مذنبين كما سلط بخت نصر على بني إسرائيل وكما يسلط كفار المشركين وأهل الكتاب أحيانا على المسلمين قيل أما من قتل من الأنبياء فهم كمن يقتل من المؤمنين في الجهاد شهيدا قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ(7/55)
رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا(7/56)
ص -504- َاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
ومعلوم أن من قتل من المؤمنين شهيدا في القتال كان حاله أكمل من حال من يموت حتف أنفه قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}ولهذا قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} أي إما النصر والظفر وأما الشهادة والجنة ثم الدين الذي قاتل عليه الشهداء ينتصر ويظهر فيكون لطائفته السعادة في الدنيا والآخرة من قتل منهم كان شهيدا ومن عاش منهم كان منصورا سعيدا وهذا غاية ما يكون من النصر إذ كان الموت لا بد منه فالموت على الوجه الذي يحصل به سعادة الدنيا والآخرة أكمل بخلاف من يهلك هو وطائفته فلا يفوز لا هو ولا هم بمطلوبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة والشهداء من المؤمنين قاتلوا باختيارهم وفعلوا الأسباب التي بها قتلوا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهم اختاروا هذا الموت إما أنهم قصدوا الشهادة وأما أنهم قصدوا ما به يصيرون شهداء عالمين بأن لهم السعادة في الآخرة وفي الدنيا بانتصار طائفتهم وببقاء لسان الصدق لهم ثناء ودعاء بخلاف من هلك من الكفار فإنهم هلكوا بغير اختيارهم هلاكا لا يرجون معه سعادة الآخرة ولم يحصل لهم ولا لطائفتهم شيء من سعادة الدنيا بل اتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين وقيل فيهم{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}
وقد أخبر سبحانه أن كثيرا من الأنبياء قتل معه ربيون كثير أي ألوف كثيرة وأنهم(7/57)
ص -505- ا ضعفوا ولا استكانوا لذلك بل استغفروا من ذنوبهم التي كانت سبب ظهور العدو وأن الله آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة فإذا كان هذا قتلى المؤمنين فما الظن بقتلى الأنبياء ففيه لهم ولأتباعهم من سعادة الدنيا والآخرة ما هو من أعظم الفلاح وظهور الكفار على المؤمنين أحيانا هو بسبب ذنوب المسلمين كيوم أحد فإن تابوا انتصروا على الكفار وكانت العاقبة لهم كما قد جرى مثل هذا للمسلمين في عامة ملاحمهم مع الكفار وهذا من آيات النبوة وأعلامها ودلائلها فإن النبي إذا قاموا بعهوده ووصاياه نصرهم الله وأظهرهم على المخالفين له فإذا ضيعوا عهوده ظهر أولئك عليهم فمدار النصر والظهور مع متابعة النبي وجودا وعدما من غير سبب يزاحم ذلك ودوران الحكم مع الوصف وجودا وعدما من غير مزاحمة وصف آخر موجب للعلم بأن المدار علة للدائر وقولنا من غير مزاحمة وصف آخر يزيل النقوض الواردة فهذا الاستقراء والتتبع يبين أن نصر الله وإظهاره هو بسبب اتباع النبي وانه سبحانه يريد إعلاء كلمته ونصره ونصر أتباعه على من خالفه وأن يجعل لهم السعادة ولمن خالفهم الشقاء وهذا يوجب العلم بنبوته وأن من اتبعه كان سعيدا ومن خالفه كان شقيا ومن هذا ظهور بخت نصر على بني إسرائيل فإنه من دلائل نبوة موسى إذ كان ظهور بخت نصر إنما كان لما غيروا عهود موسى وتركوا اتباعه فعوقبوا بذلك وكانوا إذ كانوا متبعين لعهود موسى منصورين مؤيدين كما كانوا في زمن داود وسليمان وغيرهما قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ(7/58)
أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}
فكان ظهور بني إسرائيل على عدوهم تارة وظهور عدوهم تارة من دلائل نبوة موسى صلى الله عليه وسلم وكذلك ظهور أمة محمد صلى الله عليه وسلم على عدوهم تارة وظهور عدوهم عليهم(7/59)
ص -506- ارة هو من دلائل رسالته محمد وأعلام نبوته وكان نصر الله لموسى وقومه على عدوهم في حياته وبعد موته كما جرى لهم مع يوشع وغيره من دلائل نبوة موسى وكذلك انتصار المؤمنين مع محمد صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته مع خلفائه من أعلام نبوته ودلائلها وهذا بخلاف الكفار الذين ينتصرون على أهل الكتاب أحيانا فإن أولئك لا يقول مطاعهم إني نبي ولا يقاتلون أتباع الأنبياء على دين ولا يطلبون من أولئك أن يتبعوهم على دينهم بل قد يصرحون بأنا إنما نصرنا عليكم بذنوبكم وأن لو اتبعتم دينكم لم ننصر عليكم وأيضا فلا عاقبة لهم بل الله يهلك الظالم بالظالم ثم يهلك الظالمين جميعا ولا قتيلهم يطلب بقتله سعادة بعد الموت ولا يختارون القتل ليسعدوا بعد الموت فهذا وأمثاله مما يظهر به الفرق بين انتصار الأنبياء وأتباعهم ويبن ظهور بعض الكفار على المؤمنين أو ظهور بعضهم على بعض وبين أن ظهور محمد وأمته على أهل الكتاب اليهود والنصارى هو من جنس ظهورهم على المشركين عباد الأوثان وذلك من أعلام نبوته ودلائل رسالته ليس هو كظهور بخت نصر على بني إسرائيل وظهور الكفار على المسلمين وهذه الآية مما أخبر بها موسى وبين أن الكذاب المدعي للنبوة لا يتم أمره وإنما يتم أمر الصادق فإن من أهل الكتاب من يقول محمد وأمته سلطوا علينا بذنوبنا مع صحة ديننا الذي نحن عليه كما سلط بخت نصر وغيره من الملوك وهذا قياس فاسد فإن بخت نصر لم يدع نبوة ولا قاتل على دين ولا طلب من بني إسرائيل أن ينتقلوا عن شريعة موسى إلى شريعته فلم يكن في ظهوره إتماما لما ادعاه من النبوة ودعا إليه من الدين بل كان بمنزلة المحاربين قطاع الطريق إذا ظهروا على القوافل بخلاف من ادعى نبوة ودينا دعا إليه ووعد أهله بسعادة الدنيا والآخرة وتوعد مخالفيه بشقاوة الدنيا والآخرة ثم نصره الله وأظهره وأتم دينه وأعلا كلمته وجعل له العاقبة وأذل مخالفيه فإن هذا من جنس خرق العادات(7/60)
المقترن بدعوى النبوة فإنه دليل عليها وذلك من جنس خرق العادات التي لم تقترن بدعوى النبوة فإنه ليس دليلا عليها وقد يغرق في البحر أمم كثيرة فلا يكون ذلك دليلا على نبوة نبي بخلاف غرق فرعون وقومه فإنه كان آية بينة لموسى وهذا موافق لما أخبر به موسى عليه الصلاة والسلام من أن الكذاب لا يتم أمره وذلك أن الله حكيم لا يليق به تأييد الكذاب على كذبه من غير(7/61)
ص -507- ن يتبين كذبه ولهذا أعظم الفتن فتنة الدجال الكذاب لما اقترن بدعواه الإلهية بعض الخوارق كان معها ما يدل عل كذبه من وجوه منها دعواه الإلهية وهو أعور والله ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ والله تعالى لا يراه أحد حتى يموت وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلامات الثلاث في الأحاديث الصحيحة فأما تأييد الكذاب ونصره وإظهار دعوته دائما فهذا لم يقع قط فمن يستدل على ما يفعله الرب سبحانه بالعادة والسنة فهذا هو الواقع ومن يستدل على ذلك بالحكمة فحكمته تناقض أن يفعل ذلك إذ الحكيم لا يفعل هذا وقد قال تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} فأخبر أن سنة الله التي لا تبديل لها نصر المؤمنين على الكافرين والإيمان المستلزم لذلك يتضمن طاعة الله ورسوله فإذا نقض الإيمان بالمعاصي كان الأمر بحسبه كما جرى يوم أحد وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}
فأخبر أن الكفار لا ينظرون إلا سنة الأولين ولا يوجد لسنة الله تبديل تستبدل بغيرها ولا تتحول فكيف النصر للكفار على المؤمنين الذين يستحقون هذا الاسم وكذلك قال في المنافقين وهم الكفار في الباطن دون الظاهر ومن فيه شعبة نفاق {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي(7/62)
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي(7/63)
ص -508- الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}
والسنة: هي العادة فهذه عادة الله المعلومة فإذا نصر من ادعى النبوة واتباعه على من خالفه وأما ظاهرا وباطنا وأما باطنا نصرا مستقرا كان ذلك دليلا على انه نبي صادق إذ كانت سنة الله وعادته نصر المؤمنين بالأنبياء الصادقين على الكافرين والمنافقين كما أن سنته تأييدهم بالآيات البينات وهذه منها ومن ادعى النبوة وهو كاذب فهو من أكفر الكفار وأظلم الظالمين قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ}وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
ومن كان كذلك كان الله يمقته ويبغضه ويعاقبه ولا يدوم أمره بل هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: "إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
وقال أيضا في الحديث الصحيح عن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تقومها تارة وتمليها أخرى ومثل المنافق مثل شجرة الأرز لا تزال ثابتة على أصلها(7/64)
ص -509- تى يكون انجعافها مرة واحدة" فالكاذب الفاجر وإن أعطي دولة فلا بد من زوالها بالكلية وبقاء ذمه ولسان السوء له في العالم وهو يظهر سريعا ويزول سريعا كدولة الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب والحارث الدمشقي وبابا الرومي ونحوهم وأما الأنبياء فإنهم يبتلون كثيرا ليمحصوا بالبلاء فإن الله إنما يمكن العبد إذا ابتلاه ويظهر أمرهم شيئا فشيئا كالزرع قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ولهذا كان أول ما يتبعهم ضعفاء الناس فاعتبار هذه الأمور وسنة الله في أوليائه وأنبيائه الصادقين وفي أعداء الله والمتنبئين الكذابين مما يوجب الفرق بين النوعين وبين دلائل النبي الصادق ودلائل المتنبيء الكذاب وقد ذكر ابتلاء النبي والمؤمنين ثم كون العاقبة لهم في غير موضع كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ(7/65)
قَرِيبٌ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ(7/66)
ص -510- َأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(7/67)
ص -511- فصل
ومما ينبغي أن يعرف أن الأدلة نوعان نوع يدل على مجرد العلم بالمدلول عليه ونوع يحض مع ذلك على الرغبة فيه أو الرهبة منه فالأول من جنس الخير المجرد والثاني من جنس الحث والطلب والإرادة والأمر بالشيء والنهي عنه وذلك كمن علم أن في المكان الفلاني جمادات أو حيوانات أو نبات ليس له فيها غرض لا حب ولا بغض فليس هو بمنزلة من علم أن في المكان الفلاني صديقه وولده ومحبوبه وماله وأهله وأهل دينه وفي المكان الفلاني عدوه ومبغضه ومن يقطع عليه الطريق ويقتله ويأخذ ماله فكذلك دلائل النبوة هي كلها تدل على صدق النبي ثم يعلم ما يخبر به النبي من الأمر والنهي والوعد والوعيد لأنه أخبر عن الله بذلك وهو صادق فيما يخبر به فهذا طريق صحيح عام وأما إثبات نبوة الأنبياء بما فعله بهم وبأتباعهم من النجاة والسعادة والنصرة وحسن العاقبة وما جعله لهم من لسان الصدق وما فعله بمكذبيه ومخالفيه من الهلاك والعذاب وسوء العاقبة وإتباعهم اللعنة في الدنيا مع عذاب الآخرة فهذا يدل مع صدق الأنبياء على الرغبة في اتباعهم والرهبة من مخالفتهم ففيه العلم بصدقهم والموعظة والوعظ هو أمر ونهي بترغيب وترهيب قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} أي يؤمرون به وقال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي ينهاكم الله أن تعودوا لمثله وهذه الطريق أكمل وأبلغ في حصول المقصود فإنها تفيد العلم بصدقهم والرغبة في اتباعهم والرهبة من خلافهم وتفيد صحة الدين الذي دعوا إليه وسعادة أهله وفساد الدين المخالف لدينهم وشقاوة أهله ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة العيد بـ ( قاف )(7/68)
ص -512- اقتربت الساعة لما فيهما من بيان ذلك وسورة قاف كان يقرأ بها في الجمعة فإنها جامعة لإثبات النبوات والمعاد وبيان حال متبعي الأنبياء ومخالفيهم في الدنيا كما قال تعالى: فيها {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}(7/69)
ص -513- فصل
ومما ينبغي ان يعلم أن الله إذا أرسل نبيا وأتى بآية دالة على صدقه قامت بها الحجة وظهرت بها المحجة فمن طالبهم بآية ثانية لم تجب إجابته إلى ذلك بل وقد لا ينبغي ذلك لأنه إذا جاء بآية ثانية طولب بثالثة وإذا جاء بثالثة طولب برابعة وطلب المتعنتين لا أمد له ومعلوم أنه قامت عليه حجة في مسألة علم أو حق من حقوق العباد التي يتخاصمون فيها وقال أنا لا أقبل حتى تقوم عليه حجة ثانية وثالثة كان ظالما متعديا ولم يجب إجابته إلى ذلك ولا يمكن الحكام الخصوم من ذلك بل إذا قامت البينة بحق المدعي حكم له بذلك ولو قال المطلوب أريد بينة ثانية وثالثة ورابعة لم يجب إلى ذلك فحق الله الذي اوجبه على عباده من توحيده والإيمان به وبرسله أولى إذا أقام بينة أوجبت على الخلق الإيمان برسله أن لا يجب إجابة الطالب إلى ثانية وثالثة ثم قد يكون في تتابع الآيات حكمة فيتابع تعالى بين الآيات كما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بآيات متعددة لعموم دعوته وشمولها فإن الأدلة كلما كثرت وتواردت على مدلول واحد كان أوكد وأظهر وأيسر لمعرفة الحق فقد يعرف دلالة أحد الأدلة من لا يعرف الآخر وقد يبلغ هذا ما لم يبلغ هذا وقد يرسل الأنبياء بآيات متتابعة وتقسى قلوب الكفار عن الإيمان لتتابع الآيات اية بعد آية لينتشر ذلك ويظهر ويبلغ ذلك قوما آخرين فيكون ذلك سببا لإيمانهم كما فعل بآيات موسى وآيات محمد كما ذكر في التوراة أنه يقسي قلب فرعون لتظهر عجائبه وآياته وكما صد المكذبين عن الإيمان بمحمد حتى يمانعوه ويسعوا في معارضته والقدح في آياته فيظهر بذلك عجزهم عن معارضة القرآن وغيره من آياته فيكون ذلك من تمام ظهور آياته وبراهينه بخلاف ما لو اتبع ابتداء بدون ذلك فإنه قد كان يظن أنهم قادرون على معارضته وكذلك أيضا يكون في ذلك على يقينه وصبره وجهاده ويقين من آمن به وصبرهم وجهادهم ما ينالون به عظيم الدرجات في الدنيا والآخرة(7/70)
ص -514- وقد تقتضي الحكمة أن لا يرسل بالآيات التي توجب عذاب الاستئصال كما ذكره الله في كتابه من أن الكفار كانوا يقترحون على الأنبياء آيات غير الآيات التي جاؤوا بها فتارة يجيبهم الله إلى ذك لما فيه من الحكمة والمصلحة وتارة لا يجيبهم لما فيه في ذلك من المضرة والمفسدة عند جمهور أهل الملل من المسلمين وغيرهم الذين يقولون إنه يفعل للحكمة ومن لم يعلل أفعاله يرد ذلك إلى محض المشيئة ويقول اقترن بالمراد والمفسدة عادة وسنة من الله وإن لم يفعل هذا لهذا وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ربما طلب تلك الآيات رغبة منه في إيمانهم بها فيجاب بأن الآيات لا تستلزم الهدى بل تستلزم إقامة الحجة وتوجب عذاب الاستئصال لمن كذب بها والله تعالى قد يظهر الآيات الكثيرة مع طبعه على قلب الكافر كما فعل بفرعون وأبي لهب وغيرهما لما في ذلك من الحكمة العظيمة كما دل على ذلك القرآن والتوراة وغيرهما وقد بين أنه لا يظهرها لانتفاء الحكمة فيها أو لوجود المفسدة قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً}
بين سبحانه أنما منعه أن يرسل(7/71)
بالآيات إلا تكذيب الأولين بها الذي استحقوا بها الهلاك فإذا كذب بها هؤلاء استحقوا ما استحقه أولئك من عذاب الاستئصال وهذا المعنى مذكور في عامة كتب التفسير والحديث وغيرها من كتب المسلمين وهو معروف بالأسانيد الثابتة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان فقد ذكر المفسرون ما رواه أهل التفسير والحديث والمسند وغيرهم من حديث الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير(7/72)
ص -515- عن ابن عباس قال سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال حتى يزرعوا قال فقيل له إن شئت تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم قال: "لا بل أستأني بهم" فأنزل الله هذه الآية {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ}
وروى ابن أبي حاتم وغيره عن مالك بن دينار قال سمعت الحسن البصري في قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} قال رحمة لكم ايتها الأمة أنا لو أرسلنا بالآيات فكذبتم بها أصابكم ما أصاب من قبلكم وفي الإنجيل أن اليهود طلبوا من المسيح آية من السماء فقال لهم المسيح الأمة الفاجرة تطلب آية ولا تعطى إلا مثل أية نونان
وقد كانت الآيات يأتي بها محمد صلى الله عليه وسلم أية بعد آية فلا يؤمنون بها قال تعالى:(7/73)
ص -516- {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
أخبر سبحانه بأن الآيات تأتيهم وما تأتيهم من آية إلا أعرضوا عنها وأنهم بتكذيبهم الحق سوف يرون صدق ما جاء به الرسول كما أهلك من قبلهم بذنوبهم التي هي تكذيب الرسول فإن الله يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} وأخبر بشدة كفرهم بأنه لو أنزل عليهم كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وبين سبحانه أنه لو جعل الرسول ملكا لجعله على صورة الرجل إذ كانوا لا يطيقون أن يروا الملائكة في صورهم وحينئذ فكان(7/74)
اللبس يقع لظنهم أن الرسول بشر لا ملك
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ(7/75)
ص -517- حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً}
وهذه الآيات التي اقترحوها لو أجيبوا بها ولم يؤمنوا أتاهم عذاب الاستئصال كما تقدم وأيضا فهي مما لا يصلح الإتيان بها فإن قولهم حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا يقتضي تفجير الينبوع بأرض مكة فيصير واديا ذا زرع والله من حكمته جعل بيته بواد غير ذي زرع لئلا يكون عنده ما ترغب النفوس فيه من الدنيا فيكون حجهم للدنيا لا لله وإذا كان له جنة من نخيل وأعناب يفجر الأنهار خلالها تفجيرا كان في هذا من التوسع في الدنيا ما يقتضي نقص درجته وانخفاض منزلته وكذلك إذا كان له بيت من زخرف والزخرف الذهب وأما إسقاط السماء كسفا فهذا لا يكون إلى يوم القيامة وهو لم يخبرهم أن هذا لا يكون إلا يوم القيامة فقولهم كما زعمت كذب عليه إلا أن يريدوا التمثيل فيكون القياس فاسدا وأما الإتيان بالله والملائكة قبيلا فهذا لما سأل قوم موسى ما هو دونه أخذتهم الصاعقة قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وأما إنزال الكتاب فقد قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ(7/76)
فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً(7/77)
ص -518- عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} سورة النساء.
بين سبحانه أن المشركين سألوه إنزال كتاب وأن أهل الكتاب سألوه ذلك وبين سبحانه أن الطائفتين لا تؤمن إذا جاءهم ذلك وإنما سألوه تعنتا فقال عن المشركين {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} وذكر عن أهل الكتاب أنهم سألوا موسى أكبر من ذلك وهو رؤية الله جهرة فقال: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً}
فهم مع هذا نقضوا الميثاق وكفروا بآيات الله وقتلوا النبيين بغير حق(7/78)
إلى أمثال ذلك وأنه سبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله حرم عليهم طيبات أحلت لهم فكان في(7/79)
ص -519- هذا من الاعتبار لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة المكذبة بك الذين لا يهتدون إذا جاءتهم الآيات المقترحة التي اقترحوها لم يك في مجيئها منفعة لهم بل فيها ما يوجب استحقاقهم عقوبة الاستئصال إذا جاءتهم فلم يؤمنوا بها وتغليظ الأمر عليهم فكان أن لا ينزل مثل هذه الآيات الموجبة لعذاب الاستئصال أعظم رحمة وحكمة وقد عرض الله على محمد صلى الله عليه وسلم أن يهلك قومه لما كذبوه فقال: "بل استأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا"
كما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد فقال: "لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذا عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما اردت فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلنني فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي وقال إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعثني إليك لتأمرني بما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا" أخرجاه
ولما طلب من المسيح المائدة كانت من الآيات الموجبة لمن كفر بها عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين قال تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ(7/80)
ص -520- يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال عذابا عاجلا يهلك الله به جميع المكذبين كما أهلك قوم نوح وكما أهلك عادا وثمود وأهل مدين وقوم لوط وكما أهلك قوم فرعون وأظهر آيات كثيرة لما أرسل موسى ليبقى ذكرها وخبرها في الأرض إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال بل قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} بل كان بنو إسرائيل لما يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم ويبقى بعضهم إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية قال تعالى: لما ذكر بني إسرائيل {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقد قال تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ(7/81)
الصَّالِحِينَ}
وكان من حكمته ورحمته سبحانه وتعالى لما أرسل محمدا أن لايهلك قومه بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كما عذب طوائف ممن كذبه بأنواع من العذاب كالمستزئين الذين قال الله فيهم {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
فعذب الله كل واحد بعذاب معروف وكالذي دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلط عليه كلبا من كلابه فكان يحترس بقومه(7/82)
ص -521- جاءه الأسد وأخذه من بينهم فقتله وأمثال ذلك وقد تقدم ذلك وقال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}
فأخبر أنه يعذب الكفار تارة بأيدي عباده المؤمنين بالجهاد وإقامة الحدود وتارة بعذاب غير ذلك فكان يعذبهم بمثل هذه الأسباب مما يوجب إيمان أكثرهم كما جرى لقريش وغيرهم فإنهم لما كذبوه لو أهلكهم كما أهلك قوم فرعون ومن قبلهم لبادتا وانقطعت المنفعة به عنهم ولم يبق لهم ذرية تؤمن به بخلاف ما إذا عذب بعضهم بأنواع من العذاب ولو بالهزيمة والأسر وقتل بعضهم كما عذبوا يوم بدر فإن في هذا من إذلالهم وقهرهم ما يوجب عجزهم مع بقائهم والنفوس إذا كانت قادرة على كمال أغراضها فلا تكاد تنصرف عنها بخلاف ما إذا عجزت عن كمال أغراضها فإن ذلك مما يدعوها إلى التوبة كما يقال من العصمة أن لا تقدر فكان ما وقع بهم تعجيزا وزاجرا وداعيا إلى التوبة ولهذا آمن عامتهم بعد ذلك لم يقتل منهم إلا قليل وهم صناديد الكفر الذين كان أحدهم في هذه الأمة كفرعون في تلك الأمة كما روى أن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال عن أبي جهل: "هذا فرعون هذه الأمة" وقد ذكر الله لموسى في التوراة إني أقسي قلب فرعون فلا يؤمن بك لتظهر آياتي وعجائبي
بين أن في ذلك من الحكمة انتشار آياته الدالة على صدق أنبيائه في الأرض إذ كان موسى قد أخبر بتكليم الله له وبكتابة التوراة له فأظهر الله من الآيات ما يبقي ذكرها في الأرض وكان في ضمن ذلك من تقسيته قلب فرعون ما أوجب أن أهلكه وقومه أجمعين وفرعون كان جاحدا للصانع منكرا لربوبيته لا يقر به فلذلك أتى من الآيات بما يناسب حاله(7/83)
ص -522- وأما بنو إسرائيل مع المسيح فكانوا مقرين بالكتاب الأول فلم يحتاجوا إلى مثل ما احتاج إليه موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن محتاجا إلى تقرير جنس النبوة إذ كانت الرسل قبله جاءت بما ثبت ذلك وقومه كانوا مقرين بالصانع وإنما كانت الحاجة داعية إلى تثبيت نبوته ومع هذا فأظهر الله على يديه من الآيات مثل آيات من قبله وأعظم ومع هذا فلم يأت بآيات الاستئصال التي يستحق مكذبها العذاب العام العاجل كما استحقه قوم فرعون وهود وصالح وشعيب وغيرهم فلهذا يبين الله في القرآن أن هذه الآيات إذا جاءت لا تنفعهم إذ كانوا لا يؤمنون بها ولكن تضرهم إذ كانوا يستحقون عذاب الاستئصال إذا كذبوا حينئذ ومع وجود المانع وعدم المقتضي لا يصلح الفعل على قول الجمهور القائلين بالحكمة ومن لم يعلل فلا يطلب سببا ولا حكمة بل يرد الأمر إلى محض المشيئة قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} وهو يعلم أن قلوب هؤلاء كقلوب أولئك الأولين فيكذبون بها فيستحقون بها ما استحقه أولئك كقوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وقال تعالى: عن أهل الكتاب {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}وقال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بل بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}(7/84)
ص -523- ذكر هذا في سورة اقتربت التي ذكر فيها انشقاق القمر وإعراضهم عن الآيات وقولهم هذا سحر مستمر وتكذيبهم واتباعهم أهوائهم فقال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} ثم قال: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي من أنباء الغيب وما أخبر به ما فيه مزدجر أي ما يزجرهم عن الكفر إذ كان في تلك الإنباءات بيان صدق الرسول والإنذار لمن كذبه بالعذاب كما عذب المتقدمون ولهذا يقول عقيب القصة {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي كيف كان عذابي لمن كذب رسلي وإنذاري بذلك قبل مجيئه يبين صدق قوله الذي أخبرت به الرسل وعقوبته لمن كذبهم ثم ذكر قصة المكذبين كنوح وهود وصالح ولوط إلى قوله: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} فإن قوم فرعون كذبوا بجميع آيات موسى وجميع آيات الأنبياء قبله وكذبوا بالآيات الدالة على وجود الرب وقدرته ومشيئته إذ كانوا جاحدين للخالق منكرين له فكذبوا بآياته كلها ثم قال أكفاركم أيتها الأمة التي أرسل محمد إليها خير من أولائكم الذين كذبوا نوحا وهودا وصالحا ولوطا وموسى {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}
وذلك أن كونكم لا تعذبون مثل ما عذبوا إذا كذبتم إما أن يكون لكونكم خيرا منهم فلا تستحقون مثل ما استحقوا أو لكون الله أخبر أنه لا يعذبكم فتكون لكم براءة في الزبر فتعلمون ذلك بخبره فإن ما يفعله الله تارة يعلم بخبره وتارة يعلم بسنته وحكمته وعدله فأما أن تكونوا علمتم هذا من هذا الوجه أو من هذا الوجه هذا إن نظر إلى ما فعل الله الذي لا طاقة للبشر به وإن نظر إلى قوة الرسول وأتباعه فيقولون {نَحْنُ(7/85)
جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}(7/86)
ص -524- فإنهم أكثر وأقوى كما قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} أي اموالا ومنظرا فقال تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}أخبر بهزيمتهم وهو بمكة في قلة من الأتباع وضعف منهم ولا يظن أحد بالعادة المعروفة أن أمره يظهر ويعلو قبل أن يهاجر إلى المدينة وقبل أن يقاتلهم وكان كما أخبر فإنهم يوم بدر وغيرها هزم جمعهم وولوا الأدبار وتلك سنة الله في المؤمنين والكافرين قال تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} وحيث ظهر الكفار فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله كما قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} فإذا كان من تمام الحكمة والرحمة أن لا يهلكهم هلاك استئصال كما أهلك المكذبين وكانت الآيات التي اقترحوها موجبة لعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم كما قال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ}
كان أن لا يأتي بموجب عذاب الاستئصال مع إتيانه سبحانه بما يقيم الحجة ويوضح المحجة أكمل في الحكمة والرحمة إذ كان ما أتى به من الآيات حصل به كمال الخير والمنفعة والهدى والبيان والحجة على من كفر وما امتنع منه دفع من عذاب الاستئصال والهلاك والعذاب العام ما أوجب بقاء جمهور الأمة حتى يتوبوا ويؤمنوا ويهتدوا وكان في إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الرسل من(7/87)
الحكمة البالغة والمنن(7/88)
ص -525- السابغة ما لم يكن في رسالة رسول غيره صلوات الله عليهم أجمعين(7/89)
ص -526- فصل
جماع الكلام في النبوة متصل بالكلام في جنس الخبر فإن قول القائل إني رسول الله إليكم خبر من الأخبار وكذلك وصول كلامه وأفعاله وآياته إلينا هو بالأخبار والخبر تارة يكون مطابقا لمخبره كالصدق المعلوم أنه صدق وتارة لا يكون مطابقا لمخبره كالكذب المعلوم أنه كذب وغير المطابق مع التعمد كذب ومع اعتقاد أنه صدق إن لم يكن معذورا كالمفتي بلا اجتهاد يسوغ والمحدث بلا علم يسمى كاذبا أيضا كقوله صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل بن بعكك"
وقوله لمن قال بطل عمل عامر بن الأكوع لما قتل نفسه خطأ: "كذب من قال ذلك إنه لجاهد مجاهد" وقد تكون المطابقة في عناية المتكلم وقد يكون في إفهام المخاطب إذا كان اللفظ مطابقا لما عناه المتكلم ولم يطابق إفهام المخاطب فهذا أيضا قد يسمى كذبا وقد لا يسمى ومنه المعاريض لكن يباح للحاجة وإن لم يحصل به المقصود بل يكون مأمورا(7/90)
ص -527- بالسكوت عنه إلا مع البينة فقد يسمى كاذبا لقوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} والمقصود هنا أن الخبر قد يعلم أنه صدق وقد يعلم أنه كذب وقد لا يعلم واحد منهما والعلم بأنه صدق له معنيان
أحدهما: أن يعلم أنه مطابق لمخبره من غير جهة المخبر كمن أخبرنا بأمور يعلم أنها حق بدون خبره والثاني: أن يعلم أن المخبر به صادق فيه وقد يجتمع الأمران بأن يعلم ثبوت ما أخبر به ويعلم أنه صادق فيه وقول محمد إني رسول الله هو من هذا الباب كما سنبينه إن شاء الله وكذلك كونه كذبا قد يراد به أنه على خلاف مخبره وإن كان صاحبه لم يتعمد الكذب وقد يعنى به أن قائله يتعمد الكذب ولهذا كانت الأحاديث المعلوم بطلانها على نوعين تارة يعلم أن صاحبها تعمد الكذب وتارة يكون قد غلط والصحابة لم يعرف فيهم من يتعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك جمهور التابعين لم يعرف فيهم من يتعمد الكذب ولكن طائفة قليلة من الشيعة عرف أنه كان فيها من يتعمد الكذب بخلاف غيرهم من أهل الأهواء كالخوارج فإنه لم يكن فيهم من يعرف بالكذب بل يقال هم من أصدق الناس حديثا والرجل الفاسق المعروف أنه يكذب لا بد أن يصدق في بعض الأخبار فلا يكون في الناس من لا يخبر إلا بكذب ولهذا قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}
وفي القراءة الأخرى "فتثبتوا" فأمر بالتبين والتثبت إذا أخبر الفاسق بخبر ولم يأمر بتكذيبه بمجرد إخباره لأنه قد يصدق أحيانا
فلما أمر سبحانه بالتبين والتثبت في خبر الفاسق دل ذلك على أنه لا يجوز تصديقه بمجرد إخباره إذ كان فاسقا قد يكذب ولايجوز أيضا تكذيبه قبل(7/91)
ص -528- أن يعرف أنه قد كذب وإن كان فاسقا لأن الفاسق قد يصدق وهذا كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} وفي القراءة الأخرى "فتثبتوا" {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} فأمرهم بالتبين والتثبت في الجهاد وأن لا يقولوا للمجهول حاله لست مؤمنا يبتغون عرض الحياة الدنيا فيكون إخبارهم عن كونه ليس مؤمنا خبرا بلا دليل بل لهوى أنفسهم ليأخذوا ماله وإن كان ذلك في دار الحرب إذا ألقى السلم وفي القراءة الأخرى السلام فقد يكون مؤمنا يكتم إيمانه كما كنتم أنتم من قبل مؤمنين تكتمون إيمانكم فإذا ألقى المسلم السلام فذكر أنه مسالم لكم لا محارب فتثبتوا وتبينوا لا تقتلوه ولا تأخذوا ماله حتى تكشفوا أمره هل هو صادق أو كاذب
وهذا خبر يتضمن دعوى له فإن المدعي مخبر والمنكر مخبر والشاهد مخبر والمقر مخبر وكما نهاهم عن تكذيب المدعي بلا علم نهاهم عن تصديق المنكر المتهم ورمي البريء بلا حجة وتبرئته وتزكيته بلا علم فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ(7/92)
يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً(7/93)
ص -529- وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}
وكذلك نهاهم عن تصديق القاذف الرامي لمن عرف منه الخبر فقال: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}إلى قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} وقد قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وهذا نهي عن التكلم بلا علم وهو عام في جميع أنواع الأخبار وقد يتناول ما اخبر به الإنسان وما قد يعتقده بغير الأخبار من الدلائل والآيات والعلامات ليس له أن يتكلم بلا علم فلا ينفي شيئا إلا بعلم ولا يثبته إلا بعلم ولهذا كان عامة العلماء على أن النافي للشيء عليه الدليل على ما ينفيه كما أن المثبت للشيء عليه الدليل على ثبوته وحكي عن بعض الناس أنه قال النافي ليس عليه دليل وفرق بعضهم بين العقليات والشرعيات فأوجبه في العقليات دون الشرعيات وهؤلاء اشتبه عليهم النافي بالمانع المطالب فإن من أثبت شيئا فقال له آخر أنا لا أعلم هذا ولا أوافقك عليه ولا(7/94)
أسلمه لك حتى تأتي بالدليل كان هذا مصيبا ولم يكن على هذا المانع المطالب بالدليل دليل وإنما الدليل على المثبت بخلاف من نفى ما أثبته غيره فقال له قولك خطأ والصواب في نقيض قولك ولم يكن هذا كذا فإن هذا عليه الدليل على نفيه كما على ذلك المثبت الدليل على إثباته وإذا لم يأت واحد منهما بدليل كان كلاهما بلا حجة(7/95)
ص -530- ولهذا كان من أثبت شيئا أو نفاه وطلب منه الحجة فلم يأت بها كان منقطعا في المناظرة وإذا اعترض المعترض عليه بممانعة أو معارضة فأجاب عنها انقطع المعترض عليه وثبت قول الأول وإن لم يجب عن المعارضة انقطع المستدل إذ كان الدليل الذي يجب اتباعه هو الدليل السالم عن المعارض المقاوم ولو أقام دليلا قطعيا فعورض بما لا يفيد القطع كان له أن يقول ما ذكرته يفيد العلم والعلم لا يعارضه الظن والبينات لا تعارض بالشبهات التي هي من جنس كلام السوفسطائية فهو سبحانه نهى عن الكلام بلا علممطلقا وخص الكلام على الله بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ونهى عن اتباع خطوات الشيطان وأخبر أنه يأمر بالقول على الله بلا علم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}
وكذلك ذم من يجادل ويحاج بلا علم بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}(7/96)
ص -531- وقال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} يتناول خبر كل فاسق وإن كان كافرا لا يجوز تكذيبه إلا ببينة كما لا يجوز تصديقه إلا ببينة وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فأما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وأما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وقولوا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}"
وهذا الذي دل عليه الكتاب والسنة من إمساك الإنسان عما لا يعلم انتفاؤه وثبوته هو مأثور عن غيره من الأنبياء كما جاء عن المسيح عليه السلام أنه قال الأمور ثلاثة أمر تبين رشده فاتبعوه وأمر تبين فيه فاجتنبوه وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه وعامة عقلاء بني آدم على هذا ولهذا لا يجوز أن يصدق بخبر منقول عن الرسول أو غيره إلا بدلالة تدل على صدقه ولا يجوز أن يكذبه إلا بدلالة تدل على كذبه وعلى هذا العلم والدين وقد تكلم العلماء وصنفوا كتبا كثيرة في الجرح والتعديل في الرجال والأحاديث فمن الناس من يعرف بالصدق والضبط فهذا هو العدل المقبول خبره ومنهم من يكون صدوقا لكنه قد لا يحفظ ولا يضبط فيقولون في مثل هذا هو صدوق تكلم فيه من قبل حفظه ومنهم من عرف بالكذب وإذا روى الحديث من هو سيء الحفظ أو من قد يكذب لم يحكموا بذلك الحديث ولم يثبتوه(7/97)
ص -532- ثم تارة يقوم الدليل على كذبه وتارة يتوقفون فيه لا يعلمون أصدق هو أم كذب ومثل هذا لا يعتقد ولا يثبت ولا يحتج به كالشاهد الذي شهد للمدعي وليس بعدل مرضي أو هو خصم أو متهم ظنين فهذا إذا أردت شهادته ولم تقبل لم يكن معنى ذلك الحكم بكذبه أو خطئه بل معنى ذلك أنه لا تقوم به حجة ولا يحكم به لعدم العلم بصدقه لا للعلم بكذبه والمدعى عليه إذا كان صحاب يد أو ذمته بريئة فهو حجة ترجح جانبه وقد ضم إليها الشارع اليمين
كما في صحيح البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" فإذا لم يكن مع المدعي إلا مجرد دعواه فجانب المنكر أقوى من جانبه لأن معه أن الأصل في الأيدي أنها محقة والأصل براءة الذمة ولكن قد يكون المدعي صادقا ولا يكون له حجة وهذا كثير جدا فلا يدفع بمجرد الأصل بل يحلف المنكر فيكون يمينه مع الأصل بحجة فيكون إنكار هذا مقابلا لدعوى هذا كلاهما خبر لم يعلم صدقه فتعارضا وترجح المنكر بالأصل فيبقى على ما كان لا يسلم بحجة للمدعى ما ادعاه بمجرد دعواه ولا تنقطع مطالبته للمدعى عليه لأنه لم يأت حجة تدفعه فإذا حلف المنكر كانت يمينه حجة فصلت الخصومة وقطعت الدعوى
وإذا لم يأت المنكر باليمين بل نكل عنها ولا أتى المدعى بحجة وقف للأمر عند أكثر العلماء وعند بعضهم يقضي على المنكر بالنكول فيجعل نكوله إما بدلا لما طلب وأما إقرارا به والأكثرون يقولون بل ترد اليمين على المدعى الطالب الذي يقول إنه يعلم صدق نفسه فيما ادعاه وأنه عالم بما ادعاه فيقال له احلف وخذ فإن حلف أخذ وإلا دفعا(7/98)
ص -533- ثم من العلماء من يرد اليمين في عامة الدعاوي ومنهم من يحكم بالنكول وإن كان المنكر يقول لا أعلم ما ادعى به وكل من الطائفتين يذكر آثارا عن الصحابة والمنقول عن الصحابة يدل على التفصيل وهو أظهر الأقاويل وهو أنه إن كان المنكر هو العالم دون المدعي كما إذا ظهر في المبيع عيب وقد بيع بالبراءة فقال المشتري أنا لم أعلم به فإنه هنا يقال له كما قال عثمان بن عفان لابن عمر رضي الله عنهما احلف أنك بعته وما به داء تعلمه فإن حلف وإلا قضي عليه بالنكول كما قضى عثمان على ابن عمر بالنكولوإن كان المدعي يقول إنه يعلم ما ادعى به كمن ادعى على آخر دينا أو عينا فقال أنا لا أعلم ما ادعيته احلف وخذ فإن لم يحلف لم يعط شيئا والبينة في الدعاوي عند أكثر العلماء هي ما يبين الحق ويظهره ويوضحه كالدليل والآية والعلامة فمتى ترجح جانب احدهما حلف مثل أن يقيم المدعي شاهدا فإنه يحلف مع شاهده ويقضي به بشاهد ويمين كما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم(7/99)
ص -534- وهذا قول أكثر العلماء ومنهم من يقول اليمين دائما فيجانب المدعى عليه وكذلك لو كان في دعوى القتل لوث ولطخ وشبهة وهو علامات ترجح جانب المدعي فإن أولياء المقتول يحلفون خمسين يمينا ويقضي لهم بذلك عند أكثر العلماء كما مضت بذلك السنة وكذلك في اللعان إذا حلف الزوج وشهد أربع شهادات الله إنه لمن الصادقين ووكدها بالخامسة فقد أقام بينة على دعواه فإن التعنت المرأة وشهدت أربع شهادات مؤكدة بالخامسة أنه كاذبتعارضت البينتان والشهادتان فلم يحكم بقول واحد منهما لا يحكم بأنه قاذف ولا يحكم بأنها زانية وإن نكلت فلم تحلف فأكثر العلماء يقولون يحكم بأنها زانية وتعذب على ذلك كما دل عليه القرآن لأنه اجتمع شهادة الزوج ونكولها عن المعارضة كما اجتمع في القسامة العلامة والأيمان وكما اجتمع الشاهد واليمين وكما اجتمع في جانب المنكر الأصل واليمين فهذا ونحوه مما جاءت به الشريعة وبسطه له موضع آخر
والمقصود هنا أن الخبر إن قام دليل على صدقه أو كذبه وإلا بقي مما لم يصدقه ولم(7/100)
ص -535- يكذبه وأهل العلم بالحديث إذا قالوا هذا الحديث رواه فلان وهو مجروح أو ضعيف أو سيء الحفظ أو ممن لم تقبل روايته ونحو ذلك فهو كقول القائل هذا الشاهد مجروح أو سيء الحفظ أو ممن لا تقبل شهادته وهذا يفيد أنه لا يحكم به لا يفيد الحكم بأنه كاذب بل قد يمكن أنه صادق فلا يقال إنه كاذب إلا بحجة
وإن قالوا عن الحديث إنه ضعيف فهذا مرادهم أي أنه لم يثبت ولا يحتج به ولا يجوز الحكم بصدقه ليس مرادهم أنه بمجرد ذلك يحكم بكذب الناقل وينفي ما نقله ويقول إن هذا لم يكن من غير علم منا بهذا النفي بل إن قام دليل على انتفاء ما أخبر به حكمنا بذلك وإلا سكتنا لم ننفه ولم نثبته فهذا أصل يجب معرفته فإن كثيرا من الناس لا يميز بين ما ينفيه لقيام الدليل على نفيه وبين ما لم يثبته لعدم دليل إثباته بل تراهم ما لم يعلموا إثباته فيكونون قد قفوا ما ليس لهم به علم وقالوا بأفواههم ما ليس لهم به علم وهذا كثير من أهل الاستدلال والنظر وأهل الإسناد والخبر فمن الأولين طوائف يطلبون الدليل على ثبوت الشيء فإذا لم يجدوه نفوه ومعلوم أن عدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود إلا إذا كان الطالب ممن يمكنه ذلك إما بعلم او ظن غالب فمن هؤلاء من يقول في صفات الله ما لم يقم دليل قطعي على إثباته وإلا وجب القطع بنفيه لأن صفات الله لا تثبت إلا بالقطع وخالفهم في ذلك جمهور الناس وقالوا كما لا يجوز القطع في الإثبات إلا بدليل قطعي فلا يجوز القطع في النفي إلا بدليل قطعي على النفي فلما لم يجز أن نثبت إلا بعلم فلا ننفي إلا بعلم والنافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل قال هؤلاء هذه المسائل مبناها على القطع فإنه لا يجوز لنا التكلم فيها بالظن فإذا لم يقم القاطع قطعنا بالنفي فقيل لهم هذا حجة عليكم فإنكم إذا نفيتم ما لم تعلموا نفيه تكلمتم بالظن وإذا قطعتم من غير قاطع(7/101)
ص -536- كنتم قد تكلمتم في القطعيات بلا قاطع نفيا كان الكلام أو إثباتا وليس يعلم في الأدلة الشرعية أو العقلية أن كل ما لم يقم دليل سمعي أو عقلي على إثباته فإنه يجب عليكم نفيه والقطع بنفيه بل تكلمكم بهذا تكلم بلا علم ومن هنا أخطأ كثير من النظار في نفي كثير من صفات الرب وأحكامه وأفعاله حيث لم يعلموا دليلا قطعيا يثبتها فنفوها وكانت ثاتبة في نفس الأمر وقد يكون عند غيرهم دليل قطعي يثبتها ولو قدر عدم علم الناس كلهم بها فلله علم لم يعلمه العباد ولله اسماء استأثر بها في علم الغيب عنده لم يعلمها الناس وليس إذا لم يعلم ثبوت الصفة يجب أن يعلم انتفاؤها بل قد يظن ثبوتها أو انتفاؤها وقد يشكفي ذلك فلا يعلم ولا يظن واحد منهما والواجب على الإنسان أن يقول لما يعلمه أعلمه ولما يظنه أظنه ولما يشك فيه أشك فيه والله تعالى لم يوجب على الإنسان أن يقطع بانتفاء شيء إن لم يعلم أنه منتف فمن قال وجب علينا القطع بانتفاء فقد غلط وهذا بخلاف ما يناقض صفات الإثبات فإن هذا يجب نفيه عن الله فقد علم بالأدلة القطعية أن الله موصوف بصفات الكمال المناقضة للنقص مثل إنه حي قيوم بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه غني عن كل ما سواه بكل وجه فكل من قال قولا يناقض هذا علم أنه باطل كالذين قالوا إن له شريكا أو ولدا أو أنه يشفع عنده الشفعاء بغير إذنه ونحو ذلك مما يناقض الكمال المعلوم له وما كان من الأمور مستلزما لوازم لو كان موجودا فإنه يستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم كالأمور التي لو كانت موجودة لوجب أن تنقل نقلا متواترا شائعا فإنه يستدل(7/102)
ص -537- بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم كما لو قال قائل إنه بني بين العراق والشام أو بين الحجاز والشام مدينة أعظم من بغداد والموصل وأصبهان ومصر دورها ثلاثة أيام ونحو ذلك فإنه يعلم كذبه فإن هذا مما تتوفر همم الناس على نقله لو كان موجودا فإذا لم يستفض هذا وينتشر علم أن المخبر به كاذب وكذا لو ادعى مدع أنه يوم الجمعة أو العيد قتل الخطيب ولم يصل الناس يوم الجمعة ولم يستفض هذا وينتشر أو ادعى أنه قتل بعض ملوك الناس ولم يستفض هذا ولم ينتشر أو ادعى أنه بعث نبي بين المسيح ومحمد صلى الله عليه وسلم أو بعد محمد جاء بكتاب مثل القرآن أو الإنجيل واتبعه خلق كثير وكذبه خلق كثير فإنه يعلم كذب هذا إذ مثل هذا لا بد أن يستفيض وينتشر وكذلك لو ادعى أن قريشا أو غيرهم عارضوا القرآن وجاؤا بكتاب يماثل القرآن وأنهم أظهروا ذلك وأبطلوا به حجة محمد صلى الله عليه وسلم فهذا مما يقطع بكذبه لأن مثل ذلك لو وقع لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله وكذلك لو ادعى أن محمدا أمر بحج بيت غير البيت العتيق أو أوجب صوم شهر غير شهر رمضان أو أوجب صلاة سادسة وقت الضحى أو أمر بالآذن والإقامة لغير الصلوات الخمس أو أنه قال علانية بين الناس لأبي بكر أو العباس أو علي أو غيرهم هذا هو الخليفة من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا أو أن عليا دعا إلى نفسه في خلافة الثلاثة وأمثال هذه الأمور التي لو وقعت لكان لها لوازم يستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزم ثم هذه اللوازم منها جلي ومنها خفي يعرفه الخاصة فلهذا كان أهل العلم بأحوال الرسول يقطعون بكذب أحاديث لا يقطع غيرهم(7/103)
ص -538- بكذبها لعلمهم بلوازم تلك الأحاديث وانتفاء لوازمها كما يقطع من يعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يقاتل في غزوة تبوك وأن غزوات القتال إنما كانت تسعة مغازي وأنه لم يغز بنفسه إلى اليمن ولا العراق ولا جاوز تبوك بعد النبوة وأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع ولم يصم إلا تسع رمضانات وهكذا يعلمون أن فلانا أخطأ في هذا الحديث على فلان لأنهم قد علموا من وجوه ثابتة أن ذلك الحديث إنما رواه على صورة معينة فإذا روى غير الثقة ما يناقض ذلك علموا بطلان ذلك وأنه أخطأ أو تعمد الكذب مثل ما يعلمون كذب من زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل" فزاد بعض الناس فيه "أو جناح" لما رأى بعض الأمراء عنده حمام فعلموا أنه كذب تقربا إلى ذلك الأمير وكما يعلمون كذب من روى أن مسيلمة وقومه كانوا مؤمنين بالله ورسوله وإنما قاتلهم الصديق لكونهم لم يعطوا الزكاة فإنهم قد علموا بالتواتر أن مسيلمة ادعى النبوة واتبعه قومه على ذلك وأنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته يقول من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب"(7/104)
ص -539- ويعلمون أنه كان له مخاريق وأنه ظهر كذبه من وجوه متعددة وأن أبا بكر الصديق والصحابة قاتلوه على كذبه في دعوى النبوة وقاتلوا قومه على ردتهم عن الإسلام واتباعهم نبيا كاذبا لم يقاتلوهم على كونهم لم يؤدوا الزكاة لأبي بكر وكذلك الأسود العنسي الذي ادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقتل في حياته كل منهما عرف كذبه بتكذيب النبي الصادق والمصدوق لهما ومما ظهر من دلائل كذبهما مثل الأخبار الكاذبة التي تناقض النبوة ومثل الإتيان بقرآن مختلق يعلم من سمعه أنه لم يتكلم الله به وإنما هو تصنيف الآدميين كما قال أبو بكر الصديق لهم لما تابوا من الردة وعادوا إلى الإسلام أسمعوني قرآن مسيلمة فلما أسمعوه إياه قال ويحكم أين يذهب بعقولكم إن هذا كلام لم يخرج من إل أي لم يخرج من رب ومثل ما كان يفعله ويأمر به من الفجور والكذب ومثل اطلاع أخص الناس به على أنه كان يكذب ويستعين بمن يختلق له الكذب ومثل أنه كان يعدهم بأن جبريل أخبره أنه سينصر فلما حقت الحقائق قال لهم إنه لا جبريل لكم فقاتلوا عن أحسابكم إلى أمثال(7/105)
ص -540- هذه الأمور التي تدل على كذب الكاذب فالصدق له دلائل مستلزمة له تدل على الصدق والكذب له دلائل مستلزمة تدل على الكذب ولا يجوز الحكم بصدق مخبر ولا بكذب مخبر إلا بدليل وما لم يعلم صدقه ولا كذبه ولا ثبوته ولا انتفاؤه فإنه يجب الإمساك عنه ويقول القائل هذا لم أعلمه ولم يثبت عندي ولا أجزم به ولا أحكم به ولا أستدل به ولا احتج به ولا أبني عليه مذهبي واعتقادي وعملي ونحو ذلك لا يقول هذا أقطع بكذبه وانتفائه وإن كنت أقطع أن من أثبته تكلم بلا علم فالقطع بجهل مثبته المعتقد له غير القطع بانتفائه فمن قطع فيه بلا دليل يوجب القطع قطعنا بجهله وضلاله وخطئه وإن لم يقطع بانتفاء ما أثبته في نفس الأمر كمن حكم بشهادة مجروح فاسق أمر الله بالتثبت في خبره فمن حكم وقطع بخبره من غير دليل يدل على صدقه حكمنا بأن هذا متكلم حاكم بلا علم وإن لم يحكم بكذب الشاهد المخبر لكن لا يجوز للإنسان أن ينفي علم غيره وقطع غيره من غير علم منه بالأسباب التي بها يعلم ويخبر فإنه كثيرا ما يكون للإنسان دلائل كثيرة تدل على صدق شخص معين وثبوت أمر معين وإن كان غيره لا يعرف شيئا من تلك الدلائل وهذا أيضا مما يغلط فيه كثير من الناس ينظرون في أنفسهم ومبلغ علمهم فإذا لم يجدوا عندهم ما يوجب العلم بذلك الأمر جعلوا غيرهم كذلك من غير علم منهم بانتفاء أسباب العلم عند ذلك الغير وقد يقيمون حججا ضعيفة على أنه غيرهم لا يعلم ذلك مثل ما يفعله كثير من الناس بالنظر والاستدلال والاعتبار ومن لم يساوهم في نظرهم وأدلتهم وقوة أذهانهم لا يعلم ما علموه وكثير من الناس يعلم بالأخبار والنقل والاستدلال بذلك أمورا كثيرة ومن لم يشاركهم فيما سمعوه وفيما عرفوه من أحوال المخبرين والمخبر وكمال معرفتهم بذلك لا يعلم ما علموه فلهذا كان لأهل النظر العقلي طرق لا يعرفها أهل الأخبار ولأهل الأخبار السمعية(7/106)
ص -541- طرق لا تعرف بمجرد العقول ولهذا كان لهؤلاء من الطرق الدالة على صدق الرسول ونبوته والاستدلال على ذلك أمور كثيرة لا يعرفها أهل الحديث والأخبار وعند هؤلاء من الأحاديث المتواترة عندهم والآيات المستفيضة عندهم ما يعلمون بها صدق الرسول وإن كان أولئك لا يعرفونها بل طرق معرفة الصانع وتصديق رسوله قد يكون لكل قوم منها طريق أو طرق لا يعلمها آخرون وهم مشتركون في الإقرار بالله وبرسوله ولكل قوم طرق وأدلة غير طرق الآخرين وأدلتهم بل ما تواتر عندهم من أحوال الرسول قد يكون المخبرون لهؤلاء الذين تواتر عندهم ما أخبروهم به من آياته وشرائعه غير المخبرين لأولئك كما كان الصحابة المخبرون لأهل الشام بآيات الرسول وبالقرآن وشرائع الإسلام غير الصحابة المخبرين لأهل العراق ولكن خبر هؤلاء يصد خبر هؤلاء وإن كان كل من الطائفتين لا يعلم أعيان أولئك الذين أخبروا أولئك وهكذا سائر العلوم قد يكون الذي علم هؤلاء الفقه أو النظر أو النحو أو الطب غير الذي علم هؤلاء وإن اشترك الجميع في جنس الفقه والنظر والنحو والطب وعلم ما علمه هؤلاء من الأعيان والأنواع مع أن طريق هؤلاء ليس طريق أولئك وإن اشتركوا في النوع وعامة ما يعلمه الناس بالحس هو من هذا الباب فإن الإنسان يحس بأحوال نفسه من جوعه وعطشه وشبعه وريه وحبه وبغضه وشهوته ونفرته وألمه ولذته بل يحس بأعضائه كبطنه وفرجه ولا يحس بأحوال غيره ولكن يشتركان في الجنس العام فيشتركون في جنس الإحساس بجوعهم وشبعهم وقد يشتركون في غير ما يحسونه كاشتراكهم في رؤية الشمس والقمر والهلال والكواكب
وقد غلط في مثل هذا طائفة من المتكلمين في المنطق اليوناني فزعموا أن العلوم التجريبية والتواترية والحدسية إن جعلوها قسماغير التجريبية فإن فيهم من يجعل الحدسية نوعا من التجريبية ومنهم من يجعلها جنسا آخر فزعم هؤلاء أن هذه العلوم(7/107)
ص -542- مختصة لا تقوم بها الحجة على من لم يعلمها دون الحسيات والوجديات والعقليات وليس كذلك بل كما أن هذه تكون مشتركة تارة ومختصة أخرى فكذلك الحسيات فإن كل أهل زمان ومكان يعلمون بالحس من أحوال ذلك المكان والزمان وأحوال أهله ما لا يشركهم فيه غيرهم وكذلك الوجديات فإن من ابتلى بالغرائب في الأمور السياسية والبدنية يعلم منها ما لا يشركه فيه غيره وكذلك العقليات فإن من الناس من يكون له أصل يقيس به الفرع فيعلم القدر المشترك الذي هو الحد الأوسط ويعلم من تعلق الحكم به ما لم يعلمه غيره فأجناس العلوم وطرقها منها ما هو مختص ومنها ما هو مشترك والمشترك منه ما يشترك فيه جنس بني آدم ومنه ما يشترك فيه نوع منهم وطائفة فهذا أصل جامع ينبغي معرفته لمن تكلم في هذا الباب(7/108)
ص -543- فصل
وإذا كان جنس من يخبر قد يكون كاذبا وقد يكون صادقا فقد علم أنه ليس كل واحد أخبر بخبر يصدق مطلقا ولا يكذب مطلقا فلم يقل أحد من العقلاء إن كل خبر واحد أو خبر كل واحد يكون صدقا أو يفيد العلم ولا أنه يكون كذبا بل الناس يعلمون أن خبر الواحد قد يقوم دليل على صدقه فيعلم أنه صدق وإن كان خبر واحد وقد يقوم الدليل على كذبه فيعلم أنه كذب وإن أخبر به الوف إذا كان خبرهم على غير علم منهم بما أخبروا به أو عن توائ منهم على الكذب مثل إخبار أهل الإعتقادات الباطلة بالباطل الذي يعتقدونه وأما إذا أخبروا عن علم منهم بما أخبروا به فهؤلاء صادقون في نفس الأمر ويعلم صدقهم تارة بتوافق أخبارهم من غير مواطأة ولو كانا اثنين فإن الاثنين إذا أخبرا بخبر طويل أسنداه إلى علم وقد ما لم يقطع بثبوته ولا انتفائه قد يتفق في العادة تماثلهما فيه في الكذب أو الغلط علم أنه صدق وقد يعلم صدق الخبر الواحد بأنواع من الدلائل تدل على صدقه ويعلم صدق خبر الواحد بقرائن تقترن بخبره يعلم بها صدقه وتلك الدلائل والقرائن قد تكون صفات في المخبر من علمه ودينه وتحريه الصدق بحيث يعلم قطعا أنه لا يتعمد الكذب كما يعلم علماء أهل الحديث قطعا أن ابن عمر وعائشة وأبا سعيد وجابر بن عبد الله وأمثالهم لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأمثالهم بل يعلمون علما يقينيا أن الثوري ومالكا وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن(7/109)
ص -544- حنبل والبخاري وأبا زرعة وأبا داود وأمثالهم لا يتعمدون الكذب في الحديث وقد تكون الدلائل صفات في المخبر به مختصة بذلك الخبر أو بنوعه يعلم بها أن ذلك المخبر لا يكذب مثل ذلك الخبر كحاجب الأمير إذا قال بحضرته لعسكره أن الأمير قد أذن لكم في الانصراف أو أمركم أن تركبوا إذا غدا أو أمر عليكم فلانا ونحو ذلك فإنهم يعلمون أنه لا يتعمد الكذب في مثل هذا وإن لم يكن بحضرته فكيف إذا كان بحضرته وإن كانوا قد يكذبونه في غير هذا وقد تكون الدلائل سماع من شاركه في العلم بذلك الخبر وإقراره عليه فإن العادة كما قد تمنع التواطؤ على الكذب فإنها قد تمنع التواطؤ على الكتمان وإقرار الكذب والسكوت وعن إنكاره فما توافرت الهمم والدواعي على ذكره والخبر به يمتنع أن يتواطأ أهل التواتر على كتمانه كما يمتنع في العادة أن تحدث حادثة عظيمة تتوفر الهمم والدواعي على نقلها في الحج أو الجامع أو العسكر وحيث توجب العادة نقل الحاضرين لما عاينوه ثم لا ينقل ذلك أحد
وإقرار الكذب والسكوت على رده أعظم امتناعا في العادة من الكتمان فإن الإنسان في العادة قد تدعوه نفسه إلى أن يسكت على ما رآه وسمعه فلا يخبر به ولا تدعوه نفسه إلى أن يكذب عليه ويخبر عنه بما يعلم أنه كذب عليه فيقره ولا ينكره إذ كانت عادة الناس إلى تكذيب مثل هذا أبلغ من عادتهم بالإخبار به وكذلك إذا كذب في قصة وبلغ ذلك من شاهدها فتوفر الهمم على تكذيب هذا أعظم من توفرها على إخبارهم بما وقع ابتداء فإذا كانت من القضايا التي يمتنع السكوت عن إظهارها فالسكوت عن تكذيب الكاذب فيها أشد امتناعا(7/110)
ص -545- وقد تكون الدلائل صفات فيه تقترن بخبره فإن الإنسان قد يرى حمرة وجهه فيميز بين حمرته من الخجل والحياء وبين حمرته من الحمى وزيادة الدم وبين حمرته من الحمام وبين حمرته من الغضب وكذلك يميز بين صفرته من الفزع والوجل وبين صفرته من الحزن والخوف وبين صفرته من المرض فكما أن سحنته ووجهه يعرف بها أحوال بدنه الطبيعية من أمراضه المختلفة حتى أن الأطباء الحذاق يعلمون حال المريض من سحنته فلا يحتاجون مع ذلك إلى نبض وقارورة وكذلك تعرف أحواله النفسانية هل هو فرح مسرور أو محزون مكروب ويعلم هل هو محب صديق مريد للخبرأو هو مبغض عدو مريد للشر كما قيل:
تحدثني العينان ما القلب كاتم .........................
والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها
وكما قيل:
........................ ولا خير في الشحناء والنظر الشزر
ثم إذا تكلم مع ذلك دل كلامه على أبلغ مما يدل عليه سيما وجهه كما قال تعالى: عن المنافقين {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(7/111)
ص -546- فأخبر أنه لا بد أن يعرف المنافقين في لحن القول وأن معرفتهم بالسيما معلقة بالمشيئة والمنافق الكاذب يقول بلسانه ما ليس في قلبه فبين أنه في لحن قوله يعلم أنه كاذب وقال في حق المؤمنين {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} وقال في حق الكافر {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} أي له زنمة من الشر أي علامة يعرف بهاوقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه وقد بسطنا الكلام على هذه في مسألة الإيمان وبينا أن ما يقوم بالقلب من تصديق وحب الله ورسوله وتعظيم لا بد أن يظهر على الجوارح وكذلك بالعكس ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن
كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إلا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا(7/112)
ص -547- فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن رآه يعبث في الصلاة: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ومن هذا الباب قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} وقوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}فإن الإرادة التي في القلب مع القدرة توجب فعل المراد والسفر في غزوة بعيدة لا يكون إلا بعده ومن هذا الباب أن عثمان قال لعمر لما شاوره في المرأة التي أقرت بالزنا إني أراها تستهل به استهلال من لا يعرف أنه حرام فإنه لما رآها تجهر بما فعلته وتحكيه من غير اكتراث تبين له أنها لم تعتقد تحريمه وأنه يذم وتعاقب عليه ووافقه عمر وعلي وغيرهما على ذلك والرجل الصادق البار يظهر على وجهه من نور صدقه وبهجة وجهه سيما يعرف بها وكذلك الكاذب الفاجر وكلما طال عمر الإنسان ظهر هذا الأثر فيه حتى إن الرجل يكون في صغره جميل الوجه فإذا كان من أهل الفجور مصرا على ذلك يظهر عليه في آخر عمره من قبح الوجه ما أثره باطنه وبالعكس
وقد روى عن ابن عباس أنه قال إن للحسنة لنورا في القلب وضياء في الوجه وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لظلمة في القلب وسوادا في الوجه ووهنا في البدن وبغضة(7/113)
ص -549- الكذب والبغض والفجور وغير ذلك والإنسان يرافق في سفره من لم يره قط إلا تلك الساعة فلا يلبث إذا رآه حدة وسمع كلامه أن يعرف هل هو مأمون يطمئن إليه أو ليس كذلك وقد يشتبه عليه في أول الأمر وربما غلط لكن العادة الغالبة أنه يتبين ذلك بعد لعامة الناس وكذلك الجار يعرف جاره والمعامل يعرف معامله ولهذا لما شهد عند عمر بن الخاطب رجل فزكاه آخر قال هل أنت جاره الأدنى تعرف مساءه وصباحه قال لا قال هل عاملته في الدرهم والدينار الذين تمتحن بهما أمانات الناس قال لا قال هل رافقته في السفر الذي ينكشف فيه أخلاق الناس قال لا قال فلست تعرفه وروي أنه قال لعلك رأيته يركع ركعات في المسجد وذلك أن المنافق قد يظهر الصلاة فمن لم يخبره لا يعرف باطن أمره كما قيل:
ذئب تراه مصليا فإذا مررت به ركع
يدعو وجل دعائه ما للفريسة لا تقع
وإذا الفريسة خليت ذهب التنسك والورع
فإذا كان كذلك فمن نبأه واصطفاه للرسالة كان قلبه من أفضل القلوب صدقا وبرا ومن افترى على الله الكذب كان قلبه من شر القلوب كذبا وفجورا كما قال عبد الله بن مسعود إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه(7/114)
ص -550- لرسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاتخذهم لصحبة نبيه وإقامة دينه فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون سيئا فهو عند الله سيىء وقال عبد الله بن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وإذا كان من أعظم بل أعظم أهل زمانه صدقا وبر فإنه لا بد أن يظهر على فلتات لسانه وصفحات وجهه ما يناسب ذلك كما أن الكاذب الكافر لا بد أن يظهر على وجهه وفلتان لسانه ما يناسب ذلك وهذا يكون تارة حين إخباره بما يخبر به وتارة موجودا في غير تلك الحال فإن الرجل إذا جاء وقال إن السلطان أو الأمير أو الحاكم أو الشيخ أو فلانا أرسلني إليكم بكذا فإنه قد يقترن بنفس إخباره من كيفيته وحاله ما يعلم به أنه صادق أو كاذب وإن كان معروفا قبل ذلك بالصدق أو الكذب كان ذلك دلالة أخرى وقد يكون ممن يكذب ولكن يعرف أنه صادق في ذلك الخبر دع من يستمر على خبر واحد بضعا وعشرين سنة مع أصناف الناس واختلاف أحوالهم ومما ينبغي أن يعلم أن الناس تختلف أحوالهم في المعرفة والخبرة والنظر والاستدلال في جميع المعارف فقد يتفطن الإنسان لدلالة لا يتفطن لها غيره وقد يتبين له ما يخفى على غيره حتى الأنبياء يتفاضلون كما قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}(7/115)
ص -551- والمقصود أن العلم بصدق الصادق وكذب الكاذب كغيرهما من المعلومات قد يكون ضروريا وقد يكون نظريا وهو ليس من الضروريات الكلية الأولية كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين بل من العلم بالأمور المعينة كالعلم بحمرة الخجل وصفرة الوجل وعدل العادل وظلم الظالم ونحو ذلك مما يعرفه الخبير بذلك علما ضروريا وإذا كان استدلاليا فالمعرفة بالعلم لا تحصل بمجرد وجود الدليل في نفسه بل لا بد من معرفة القلب به والناس متفاوتون في ذلك والدليل أبدا هو ما استلزم المدلول فكل ما كان مستلزما للشيء كان دليلا عليه لكن لا بد من معرفته ومعرفة أنه مستلزم ثم إذا حصل العلم صار ضروريا وقد يكون ضروريا بلا واسطة دليل معين وليس العلم بالمعينات كالعلم بصدق هذا وكذب هذا مما يحتاج فيه إلى القياس الشمولي فإن ذلك إنما يفيد بتوسط قضية كلية والمعينات قد لا يحتاج فيها إلى ذلك وإن كان لا بد فيها من خبرة بحال ذلك المعين وإذا كان القائل إني رسول الله إما أن يكون من خيار الناس وأصدقهم وأبرهم وأفضلهم وأما أن يكون من شرار الناس وأكذبهم وأفجرهم والفرق بين هذين يكون من وجوه كثيرة لا تكاد تنضبط كل منها يعرف به صدق هذا وكذب هذا وكانت المعرفة بذلك قد تحصل عند سماع خبر هذا وخبر هذا رؤية وجهه وسماع كلامه وما يلزم ذلك ويقترن به من بهجة الصدق ونوره ومن ظلمة الكذب وسواده وقبحه يتبين بذلك أن كثيرا من الناس يحصل لهم علم ضروري بأن هذا النبي صادق وهذا المتنبي كاذب بمثل ذلك من قبل أن يروا خارقا للعادة وقول بعض المتكلمين ما لم يكن خارقا للعادة لا اختصاص للنبي به فلا يدل فيقال له لفظ خرق العادة لفظ مجمل وإن تعين دعوى النبوة صدقا وكذبا ليس هو أمرا(7/116)
ص -552- معتادا ولم يقع هذا إلا في أفراد من العالم وهو أقل بكثير من الأخبار بالمغيبات فإن هذا أكثر في الوجود من دعوى النبوة إذ كل نبي يخبر بالمغيبات وليس كل من أخبر بها كان نبيا وهؤلاء الذين يقولون هذا يقول أكثرهم أو كثير منهم إن دعوى النبوة والتحدي والمعجز مجموعها هو المختص بالنبي وإلا فهم يقولون إن ما كان معجزة لنبي جاز أن يظهر على يدي ولي أو ساحر وإنما يفرق بينهما التحدي وعدم المعارضة ومنهم من ينكر خرق العادة أن يظهر على يد غير نبي ومنهم من لا يفرق بين الولي والساحر إلا ببر هذا وفجور هذا ومنهم من يطرد ذلك في النبي لا سيما متفلسفة اليونان فإنهم من أجهل الناس بأمر النبوة إذ كانوا لم يأخذوها من العلم بصدق الأنبياء وبما جاؤوا به من الآيات والبراهين والعلم بصفاتهم وإنما أخذوها من القياس على المنامات فجوزا فيها مثل ما يجوز على النائم من الأحلام والتخيل وما يصيب أهل المرة السوداء مما يشبه ذلك وهذا هو الموجود في عامة أتباع أرسطو ولكن متأخروهم كابن سينا ضم إلى ذلك تصرفه في هيولي العالم لما بلغه من خوارقهم الفعلية التي لم يكن يعرفها أولئك إذ كان علم أرسطو هو ما كان يعلمه قومه من اليونان وهم أمة أولاد يافث لم يكن فيهم(7/117)
ص -553- ما في أولاد سام كهود وصالح وغيرهما ثم أولاد إبراهيم الخليل الذي وعده الله أن يجعل في ذريته النبوة والكتاب حتى يكون علم النبوة مشهورا فيهم وقد جعل الله تعالى من زمن الخليل في ذريته النبوة والكتاب كما أخبر بذلك في القرآن وهم لم يكونوا من ذريته ولا كانوا خبيرين بأحوال ذريته وقد ذكر طائفة منهم كمحمد بن يوسف العامري وصاعد بن صاعد الأندلسي أن أساطينهم خمسة ثم أربعة ابندقلس ثم فيثاغورس ثم سقراط ثم أفلاطن قدموا الشام واستفادوا من بني إسرائيل ولهذا لم يكن من هؤلاء من قال بقدم العالم بخلاف أرسطو قالوا فإنه لم يقدم الشام وذكر هؤلاء كمحمد بن يوسف العامري وغيره أن أول من لقب بالحكمة لقمان وأن ابندقلس استفاد منه ومن أتباع داود عليه السلام فإنه كان في زمن داود وإذا(7/118)
ص -554- كان هذا قول هؤلاء النظار وأهل الكلام والفلسفة فمجرد خارق العادة عندهم ليس وحده مستلزما للنبوة حتى يكون وحده دليلا بل لا بد أن ينضم إلى ذلك التحدي وعدم المعارضة ولهذا لما اختلف قول طائفة منهم كأبي الحسن وأتباعه هل يجوز ظهور الخارق على يدالكاذب فقيل لا يجوز لأنه يعلم النبوة فيمتنع أن يتخلف عنه مدلوله كسائر الأدلة وقيل بل يجوز ولكن الله لا يفعله ثم قيل لأنه يستلزم عجزه عن تصديق الرسول إذ لا طريق إليه إلا المعجز عندهم وقيل بل هو مقدور ممكن ولكن نحن نعلم اضطرارا أنه لا يفعله مثل كثير مما يمكن في العادة ونعلم أن الله لا يفعله وجميع من جمع بين القولين وقال مجموع ما يدل على النبوة وهو الخارق السالم عن المعارض يمتنع أن يكون لغير نبي بخلاف جنس الخارق فقيل له هذا الامتناع إما أن يكون عاديا وأما أن يكون لاستلزامه العجز عن تصديق النبي وذلك ممتنع فإذا كا ممتنعا لاستلزامه العجز عن تصديق النبي وذلك ممتنع فإذا كان ممتنعا لاستلزامه أمرا ممتنعا وإذا كان انفلاتالعادة ليس عندك ممتنعا فلا بد لك من ذلك الجواب وهو القول بأنا نعلم ضرورة أن ذلك لم يكن ثم إذا علمت أن هذا علم ضروري وأن العلم بدلالتها على الصدق أمر ضروري كالمثل الذي ضربته في إرسال الملك رسولا وقول رسوله إن كنت صادقا فغير عادتك بقيامك ثم قعودك ففعل ذلك عقب سؤال الرسول فإن ذلك يوجب العلم الضروري بصدق الرسول وقيل لك الملك تعلم عادته ويعلم أنه فعل ذلك للتصديق والرب عندك لم يخلق شيئا لشيء فقلت بل يخلق شيئا مقارنا لشيء كالعاديات وهذا منها فقيل لك العادات قد تكررت فقلت قد نعلم ذلك بلا تكرر وجعلت ذلك من باب الدلالة الوضعية كدلالة اللفظ على قصد المتكلم وقلت قد نعلم قصده اضطرار من غير سبق مواضعة وهذه العلوم الضرورية التي ذكرت أنه يعلم بها صدق الرسول وإن كانت حقا فجمهور الناس يقولون إنك لم تقر بلوازمها من كونه يفعل لأجل كذا(7/119)
ويقولون: القول(7/120)
ص -555- بأنه خلق المعجزة لقصد التصديق مع القول بأنه لا يخلق شيئا لأجل شيء تناقضا فقلت لا يشترط في العلم الضروري العلم بأنه يفعل كذا لأجل كذا فقيل لك هب أنه كذلك لكن لا يحصل العلم الضروري مع العلم بما يناقضه والمقصود أن ما يذكره هؤلاء وأمثالهم من النظار بل وعامة الناس هم فيما يثبتونه من العلم والحقائق المعلومة أسد منهم وأصوب فيما ينفونه فإن الإنسان لما يثبته أعلم منه بما ينفيه وشهادته على الإثبات أقوى من شهادته على النفي وإن كان النفي قد يكون معلوما لكن غلط الناس فيما ينفونه ويكذبون به أكثر من غلطهم فيما يثبتونه ويصدقون به ولهذا قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} ولهذا تجد من سلك طريقا من الطرق إما في إثبات العلم بالصانع وأما في العلم بالنبوة أو العلم بالمعاد أو غير ذلك واحد يقول لا طريق إلا هذا الطريق يخطئ في النفي اكثر من خطئه في الإثبات ومنهم هؤلاء فإنهم قد ينفون من العلم والطرق ما يعلمه غيرهم بالاضطرار ويثبتون ما يقولون أنه معلوم بالاضطرار وقد يكون غيرهم أصوب فيما يثبته منهم فيما ينفونه بل وفيما يثبتونه ولهذا الذين اتفقوا على أنه لا طريق إلا المعجزات تنوعوا في وجه دلالتها فيثبت هؤلاء وجها يستدلون به وينفون طريق غيرهم وبالعكس فإذا قالوا ما سوى الخارق للعادة ليس يختص بالنبي فلا يدل على نبوته قيل لهم الدليل هو الذي يكون مستلزما للمدلول يلزم من تحققه تحقق المدلول ولفظ الخارق للعادة فيه إجمال كما تقدم وحينئذ فنفس إنباء الله للنبي واصطفائه لرسالته وإقداره على التلقي من الملك هو من خوارق العادات وذلك من المعجزات التي أعجز الله الخلق أن يفعلوه وهو مختص بالأنبياء وهذا الوصف أجل وأعظم قدرا من غيره من الخوارق والمستلزم لهذا الخارق لا يكون إلا خارقا وهو الدليل إذ يلزم من ثبوت الملزوم ثبوت اللازم ومن انتفاء اللازم انتفاء(7/121)
الملزوم والمعتاد(7/122)
ص -556- الذي يوجد بدون النبوة لا يكون دليلا وأما ما لا يوجد إلا وجدت النبوة فهو دليل فقد تبين أن كل ما يدل على صدق الرسول وهو خارق للعادة يكون آية ونبوة على صدقه وأما ما كان خارقا للعادة ولا يستلزم النبوة فليس يكون دليلا وقد يكون الشيء معتادا بدون النبوة ومع النبوة يكون خرقا للعادة بحيث يكون وجوده مع النبوة خرق للعادة بخلاف وجوده مجردا عنها لأن النبوة خرق للعادة فلا يكون مستلزما لها إلا خارق للعادة فقول القائل لا يعلم صدقه إلا بالمعجزة وهو الخارق للعادة إن أراد به المعنى العام وهو ما يستلزم صدقه بطل تخصيصه ذلك بما يخلقه منفصلا عنه من الآيات وإن أراد بذلك نوعا مخصوصا مع اشتراك الجميع في الدلالة ظهر بطلان نفيه وأما ما يوجد بدونها كنا يوجد معها كالأمور التي تكون للصادق في دعوى النبوة والكاذب في دعوى النبوة فهذه لا تدل وما يظهره الله على يد النبي من الأنواع التي بها يعرف صدقه ليس فيها شيء يكون للكاذب بل الكاذب لا يكون له من الأدلة إلا ما يستلزم كذبه فكل ما يدل على كذب الكاذب لا يدل على صدق الصادق وبالعكس فإن دليل الكذب مستلزم له ودليل الصدق مستلزم له وهما ضدان يمتنع ان يكون مدعي النبوة نبيا صادقا ومتنبئا كاذبا والضدان لا يجتمعان فيمتنع أن يكون شيء واحد يدل على الضدين وهذه القاعدة ينتفع بها في مواضع
منها أن كثيرا من الناس إذا رأوا الكاذب وسمعوا كلامه تبين لهم كذبه تارة بعلم ضروري وتارة بعلم استدلالي وتارة بظن قوي وكذلك النبي الصادق إذا رأوه وسمعوا كلامه فقد تبين لهم صدقه بعلم ضروري أو نظري وقد يكون أولا بظن قوي(7/123)
ص -557- ثم يقوى الظن حتى يصير يقينيا كما في العلوم بالأخبار المتواترة والتجارب فإن خبر الأول يفيد نوعا من الظن ثم يقوى بخبر الثاني والثالث حتى يصير يقينا وهذا الطريق سلكها طوائف من الناس وممن نبه على ذلك القاضي عياض قال القاضي عياض إذا تأمل المتأمل المنصف ما قدمنا من جميل أثره وحميد سيره وبراعة علمه ورجاحة عقله وحلمه وجملة كماله وجميع خصاله وشاهد حاله وصواب مقاله لم يمتر في صحة نبوته وصدق دعوته قال وقد كفى هذا غير واحد في إسلامه والإيمان به فروينا عن الترمذي وابن قانع وغيرهما بأسانيدهم أن عبد الله بن سلام قال لمل قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جئته لأنظر إليه فلما استبنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب رواه غير واحد كعبد الوهاب الثقفي ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي ويحيى بن سعيد(7/124)
ص -558- عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي عن زرارة بن أوفى عن عبد الله بن سلام وعن أبي رمثة البلوي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي لي ابن لي فأريته فلما رأيته قلت هذا نبي الله وروى مسلم في صحيحه وغيره عن ابن عباس أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنؤة وكان يرقى من هذا الريح فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون فقال لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي قال فلقيه فقال يا محمد إني ارقي من هذه الريح وإن الله يشفي على يدي من شاء الله فهل لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد" فقال أعد علي كلماتك هؤلاء فأعادهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء(7/125)
ص -559- ولقد بلغن قاموس البحر هات يدك أبايعك على الإسلام فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعلى قومك قال وعلي قومي" الحديث
وقال جامع بن شداد كان منا رجل يقال له طارق فأخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال هل معكم شيء تبيعونه قلنا هذا البعير قال بكم قلنا بكذا وكذا وسقا من تمر فأخذ بخطامه وسار إلى المدينة فقلنا بعنا رجل لا ندري من هو ومعنا ظعينة فقالت أنا ضامنة لثمن البعير رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة البدر لا يخيس بكم فأصبحنا فجاء رجل بتمر فقال انا رسول رسول الله إليكم يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر وتكتالوا حتى تستوفوا ففعلناوفي خبر الجلندي ملك غسان لما بلغه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام فقال الجلندي والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له وأنه يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر ويفي بالعهد وينجز بالموعود وأشهد أنه نبي(7/126)
ص -560- وقال نفطويه في قوله تعالى:{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} هو مثل ضربه الله لنبيه يقول يكاد منظره يدل على نبوته وإن لم يتل قرآنا كما قال ابن رواحة
لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تنبيك بالخبر
قلت وإيمان خديجة وأبو بكر وغيرهما من السابقين الاولين كان قبل انشقاق القمر وقبل إخباره بالغيوب وقبل تحديه بالقرآن لكن كان بعد سماعهم القرآن الذي هو نفسه آية مستلزمة لصدقه ونفس كلامه وإخباره بأني رسول الله مع ما يعرف من أحواله مستلزم لصدقه إلى غير ذلك من آيات الصدق وبراهينه بل خديجة قالت له كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فكانت عارفة بأحواله التي تستلزم نفي كذبه وفجوره وتلاعب الشيطان به وأبو بكر كان من أعقل الناس وأخيرهم وكان معظما في قريش لعلمه وإحسانه وعقله فلما تبين له حاله علم علما ضروريا أنه نبي صادق وكان أكمل أهل الأرض يقينا:(7/127)
ص -561- علما وحالا وكذلك هرقل ملك النصارى لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام سأل عن عشرة خصال
كما في الصحيحين عن ابن عباس قال حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه إلى في قال انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله علي وسلم قال فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل قال: وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل: هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قالوا نعم قال: فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قال: أبو سفيان فقلت: أنا فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي فدعا بترجمانه فقال: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه قال فقال ابو سفيان: وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت عليه ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم قال قلت: هو فينا ذو حسب قال: فهل كان من آبائه ملك قلت: لا قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت: لا قال: ومن اتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم قلت: بل ضعفاؤهم قال: أيزيدون أم ينقصون قلت لا بل يزيدون(7/128)
ص -562- قال: فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له قال قلت: لا قال: فهل قاتلتموه قلت: نعم قال: فكيف كان قتالكم إياه قال قلت: يكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه قال: فهل يغدر قلت: لا ونحن منه على مدة ما ندري ما هو صانع فيها قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه قال: فهل قال هذا القول أحد قبله قال قلت: لا قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب وكذا الرسل تبعث في أحساب قومها وسألتك هل كان من آبائه من ملك فزعمت أن لا فقلت لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم فقلت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ويكذب على الله وسألتك هل يرتد احد منهم عن دينه بعد ان يدخل فيه سخطة له فزعمت أن لا فكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب وسألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم وسألتك هل قاتلتموه فزعمت أنكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله فزعمت أن لا فقلت لو قال هذا القول أحد قبله قلت رجل أئتم بقول قيل قبله(7/129)
ص -563- ثم قال: بم يأمركم قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف قال إن يكن ما تقول فيه حقا إنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني ادعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
وفي رواية: فماذا يأمركم به قال يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وقال فهذه صفة نبي وما استدل به ملك النصارى هرقل من العلم بصفاته هو استدلال على عينه فإن الناس في النبوة على درجات منهم من يحتاج إلى أن يعلم جنس النبوة فيصدق بجنس الرسل من البشر لا يكذب بالجنس كما كذب بذلك من كذب من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم
ولهذا يقول تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} لأن تكذيبهم لم يكن لشخص واحد بل كانوا مكذبين لجنس الرسل وهؤلاء(7/130)
ص -564- يخاطبهم الله في السور المكية كقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} فاحتج بإنزال كتاب موسى لما تواتر في خبره من الآيات الباهرات الدالة على صدقه والإنجيل تبع للتوراة في الكتاب للتوراه ثم قال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}لما قام من الآيات الدالة على نزوله ولهذا يذكر سبحانه في السور المكية من تثبيت أمر الرسل وآياتهم وبراهينهم وحسن عاقبتهم ومن ضلال مخالفيهم وجهلهم وغيهم وخذلانهم وسوء عاقبتهم ما فيه عبرة ومن الناس من يقر بالرسل في الجملة لكن لا يؤمن بما يجب من حقيقة إرسالهم كالملاحدة وأهل البدع الذين يعظمون الأنبياء مع اعتقادهم في الباطن ما يناقض بعض ما جاءوا به لشبهات انعقدت في قلوبهم ظنوها علوما عقلية وهي مناقضة لما أخبرت به الرسل فيحتاجون إلى ان يوفقوا بينهما وهؤلاء يشبهون الذين قال الله فيهم: } سورة النساء الآيات{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً(7/131)
بَلِيغاً}
وقد اخبر الله أنه جعل للأنبياء من يعاديهم من الإنس والجن فقال تعالى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}سورة الأنعام(7/132)
ص -565- وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} وهؤلاء الذين عندهم ما يناقض بعض ما أخبرت به الرسل هم ثلاثة اصناف أهل الخييل من الملاحدة المتفلسفة والباطنية الذين يقولون إن الرسل أخبروا من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر بما يخالف الحق في نفس الأمر ليخيلوا إلى الجمهور ما ينتفعون به ويعدون هذا من فضائل الرسل وقد بسط الرد على هؤلاء في غير موضع وأهل التحريف والتأويل الذين يؤلون كلامهم على ما يخالف مرادهم ويزعمون أنهم أرادوا ذلك المعنى مع انه ليس في كلامهم ما يدل على إرادة ذلك المعنى بل كلامهم يدل على إرادة خلافه وأهل التجهيل الذين يقولون ذلك الكلام ليس له معنى يعلمه الرسل ولا غيره وإنما يعلمه الله وحده وهذان القولان يقول بكل منها طوائف معظمين للرسل وقد تبين فسادهما في غير هذا الموضع وأما من قال إن الرسل وغيرهم يعلمون المعنى الذي بينه الله لهم بكلامه ولكن استأثر الله بعلم امر آخر لا يعلمونه كما استأثر بعلم غيب الساعة فهذا قول السلف والأئمة وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الكلام في النبوات تارة في جنسها وتارة في شخص النبي المعين وهرقل ملك الروم لم يكن محتاجا إلى الإيمان بجنس النبوات فإنه كان من أهل الكتاب وأهل الكتاب يقرون بجنس النبوة فإنهم يقرون نبوة نوح والخليل وموسى وأنبياء بني إسرائيل والنصارى تقر مع ذلك بالمسيح والإنجيل والذين يحتاجون إلى معرفة النبي المعين نوعان نوع عرفوا أنه يبعث نبي وقد يعرفون بعض نعوته فيحتاجون أن يعرفوا عينه وهرقل وأمثاله من أهل الكتاب كانوا من هذا النوع وكانوا يعلمون أن نبيا سيبعث وإنما كانت حاجتهم أن يعرفوا هل هو هذا النبي المذكور ام غيره فيكون ما يحتاجون إليه من(7/133)
ص -566- دلائل صدقه أيسر ما يحتاج إليه من لا يؤمن بالرسل او لا يعرف أن نبيا سيبعث ومن كان يعلم جنس الرسل ولا يدري هل يبعث نبي أم لا يحتاج إلى تعلم أن هذا المعين هل هو من جنس الأنبياء الصادقين أو من جنس المتنبئين الكاذبين وهذا يعرف بما يخصه من آيات صدقه وباعتبار ما جاء به الأنبياء قبله فإن أصول ذلك مما لا يمكن اختلاف الأنبياء فيه وهي الأمور التي لا تقبل النسخ كالإخبار عن الله وملائكته وكتبه ولرسله واليوم الآخر فهذا مما لا يمكن اختلاف الأنبياء فيه إذ كان كل ما يخبر به النبي فهو صدق والأخبار الصادقة لا تتناقض ولا تقبل النسخ ولكن قد يكون بعض الأنبياء أعلم ببعض ذلك من بعض وفي كلام بعضهم من الأخبار ببعض ذلك ما ليس في كلام بعض وما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم هو أكمل وأكثر مما أخبر به موسى والمسيح صلوات الله وسلامه عليهم وقد يظن بعض الغالطين تناقض بعض أخبار الأنبياء كما يظن بعض الغالطين معارضة العقل لما أخبروا به وهذا ممتنع بل لا بد أن يكون المعارض العقلي خطأ ليس بمعقول صحيح أو السمعي لم يثبت عنهم لفظه أو دلالته وكذلك الأخبار لا بد أن يكون أحد الخبرين كذبا أو غير دال على مناقضة الخبر الآخر وأما الأصول الجامعة كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وبر الوالدين والصدق والعدل وتحريم الأجناس الأربعة وهي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق والإشراك بالله وأن يقال عليه غير الحق وذلك مثل ما ذكره في سورة الأنعام والأعراف وبني إسرائيل وقد تنازع الناس في مثل هذا هل يمكن نسخه وتنوع الشرائع به على قولين فمن جوز أن يأمر الله بكل شيء وينهى عن كل شيء رد ذلك إلى محض المشيئة لا إلى صفات تقتضي الأمر بهذا دون هذا فإنهم جوزوا دخول النسخ في هذا وتنوع الشرائع فيه(7/134)
ص -567- كما يقوله جهم بن صفوان والأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وإن كانوا يقولون إنه لم يقع فيه نسخ وأما جمهور الناس من السلف والخلف فإنهم لا يجوزون دخول النسخ في هذا ولا تنوع الشرائع فيه ولهذا كان دين الأنبياء واحدا كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد" وهذا مبسوط في موضع آخر.(7/135)